الفاظ أجزاء الإنسان فی نهج البلاغة: دراسة فی الحقول الدلالیة

اشارة

بسم الله الرحمن الرحیم ألفاظ أجزاء الإنسان في نهج البلاغة دراسة فی الحقول الدلالیة

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 2873 لسنة 2017 مصدر الفهرسة: IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف: LC BP38.09.A4 K5 2017 المؤلف الشخصی: الکنانی، مخلص عبد الزهره.

العنوان: الفاظ أجزاء الإنسان فی نهج البلاغة: دراسة فی الحقول الدلالیة / بيانات المسؤولیة: تألیف مخلص عبد الزهرة الکنانی، تقدیم السید نبیل قدوری الحسنی.

بيانات الطبعة: الطبعة الأولى.

بيانات النشر: كربلاء، العراق: العتبة الحسينية المقدسة - مؤسسة علوم نهج البلاغة. 1438 ه = 2017 م.

الوصف المادي: 288 صفحة.

سلسلة النشر: سلسلة الرسائل الجامعیة - العراق (24)؛ مؤسسة علوم نهج البلاغة.

تبصرة ببیلوغرافية: يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 277 - 287).

تبصرة محتویات:

موضوع شخصي: الشريف الرضي، محمد بن الحسين بن موسی، 359 - 406 هجریا - نهج البلاغة.

موضوع شخصي: علي بن أبي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة - 40 هجریا - أحاديث.

مصطلح موضوعي: اللغة العربیة - ألفاظ.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربیة - لغة الجسد.

مؤلف إضافی: الحسنی، نبیل قدوری، 1965 -، مقدم.

عنوان إضافی: نهج البلاغة - شرح.

تمت الفهرسة قبل النشر في مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

الفاظ أجزاء الإنسان

فی نهج البلاغة

دراسة فی الحقول الدلالیة

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - العراق وحدة علوم اللغة العربية (24)

ألفاظ أجزاء الإنسان

في نهج البلاغة

دراسة فی الحقول الدلالیة

تألیف م. م. مخلص عبدالزهرة الکنانی

إصدار مؤسسة علوم نهج البلاغة

في العتبة الحسینیة المقدسة

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة

للعتبة الحسينية المقدسة

الطبعة الأولى 1438 ه - 2017 م

العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام

مؤسسة علوم نهج البلاغة

هاتف: 07728243600 - 07815016633

الموقع: www.inahj.org

Email: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء الورادة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها، ولا تعبر بالضرورة

عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ»

صدق الله العلي العظيم

(التين: 4 - 6)

ص: 5

ص: 6

الإهداء

إلى صاحب النهج القويم، والصراط المستقيم،

والحق المبين سيدي أمير المؤمنين علیه السلام

ثباتاً وولاءً

إلى مَنْ تحمّلا من أجلي

الكثير من العناء و علّماني الحبَّ و الوفاء

أبي وأمي

إلى فلذة كبدي يوسف وأمه حبّاً

ص: 7

ص: 8

مقدمة المؤسسة

ص: 9

ص: 10

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدّم من عموم نعم أبداها وسبوغ آلاء أسداها والصلاة والسلام على خير النِّعم وأفضلها محمد وآله الأطهار الأخيار.

أما بعد:

إنّ مما ترشد إليه هذه الدراسة العلمية الجامعية التي أعدّت لنيل شهادة الماجستير، هي إظهار الملازمة المعرفية بين القرآن الكريم والإمام علي عليه السلام فكم من علم وعلم قد تواشجت جذوره ونمت أغصانه في القران وحديث الإمام علي عليه السلام، ومن بينها هذا العلم موضع الدراسة وموضوع البحث فهو من جهة خاص باللغة ومكنونها المعرفي، ومن جهة أخرى بالعلوم النفسية والسلوكية كلغة الجسد وإيحاءاته، وبالعلوم الحكمية ودلالاتها في هذه الأجزاء والألفاظ الخاصة بجسم الإنسان من جهة ثالثة، وغير ذلك من الحقول المعرفية التي أحفت بهذا الكائن الذي اختاره الله تعالى على الملائكة والجن فجعله خليفة في أرضه، فبدى لغزاً محيراً منذ أن عرفت البشرية معنى المعرفة وكيفية تحصيلها وفهم مكنونات العلوم وتفسيرها.

وكفى بقول أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام كاشفاً عن مكنون الإنسان

ص: 11

الذي كرّمه الله تعالى وفضّله على كثير من خلقه فتواشج مع البيان القرآني كما في قوله عز وجل:

«وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا»(1).

فلازمه قول علي عليه السلام في هذا البيان والتفضيل وسره قائلاً.

وتزعمُ أنك جرمٌ صغير *** وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ

وأنت الكتاب المبين الذي *** بأحرفه يظهر المضمر(2)

ومن ثمّ كيف لا يكون هذا التكريم والتفضيل خالٍ من البيان في دلالات ألفاظ أجزاء الإنسان في القرآن أو السنّة أو نهج البلاغة، فجزى الله الباحث في كتابه هذا فقد بذل فيه جهده وعلى الله أجره.

السيد نبيل قدوري الحسني

رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 12


1- سورة الإسراء: الآية 70
2- الوافي للفيض الكاشاني، جواهر المطالب للباعوني الدمشقي، ج 2، ص 136

المقدمة

ص: 13

ص: 14

المقدِّمة

الحمدُ لله كما افتتحَ كتابَهُ الكريم وفرقانَهُ العظيم، النّاشر في الخلقِ فَضْله، الباسِط بالجود يده، الذي أكرمنا بأفصح البيان، فبالحمدِ للهِ والثناء عليه نفتتحُ كُلَّ الأعمال، ونبتدئ كُلَّ مقالِ، وصلَّی الله على أطيب خلقه فرعاً وأصلاً، محمَّد الأمين وعلى آله الطيبين الطاهرين.

وبعد...

فإنَّ خلق الإنسان وأحواله وأعضائه من الموضوعات التي عني بها العرب القدامى؛ فألّفوا فيها كتباً كاملةً، ومنهم الأصمعيّ (ت 216 ه)، وثابت بن أبي ثابت من علماء القرن الثالث الهجري، وأبي إسحاق إبراهيم الزجّاج (ت 311 ه)، ومنهم من أفرد بابًا من كتابه لهذا الموضوع كأبي منصور الثعالبي (ت 430 ه)، وابن سيده (ت 457 ه) وغيرهم، لكنهَّم لم يدرسوا الألفاظ في سياق كلاميٍّ معين، بل استشهدوا بما كان يناسب المعنى المراد من الموروث اللغوي، وعلى الرّغم من وفرة الدراسات التي تناولت خلق الإنسان بعد ذلك، لكنيّ لم أجد مَن خصّها بدراسة بالاعتماد على نص متين سوى القرآن الكريم، وبحثنا هذا سيدرس ذلك في كتاب نهج البلاغة، ذلك الكتاب الخالد بعد القرآن الكريم، وما جاء في السُنةّ النبوية الشريفة، فهو يتلوهما في المنزلة سواء أكان في عمق محتواه ومضامينه، أم في روعة نهجه وأدبه وأسلوبه، لما فيه من النفحة القرآنية والموروث المحمدي،

ص: 15

وهذا ما يجعل البحثَ أرصنَ وأصون؛ فكلام الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام جدير بالاستشهاد، وقد آثرت أن يكونَ بحثي في نهج البلاغة، فهذا ما كنتُ أتمنى أن أكتب فيه شيئاً - ولو كان يسيراً - حينما كنت أتردَّد إلى مكتبة الروضة الحيدرية في السنة التحضيرية؛ ذلك أن هذا الكتاب يُستعان به على فهم القرآن، وعلى فهم أساليب الكلام، وكان لاقتراح الدكتور الفاضل سيروان الجنابي من جامعة الكوفة بالبحث في دلالة حركات جسم الإنسان في نهج البلاغة صدىً رحبٌ في نفسي من ناحيتي الموضوع والميدان، وذلك لأن البحث في الدلالة يستوعب موضوعات اللغة جميعاً ويتصل بها، بل هو محور اللغة، وقد أضاف أستاذي المشرف بصماته على الموضوع، فاقترح توسيع مجال البحث، ليكون العنوان (ألفاظ أجزاء الإنسان في نهج البلاغة دراسة في الحقول الدلالية)، فكان نهج البلاغة منهلاً ثرَّاً لها؛ إذ زادت شواهد الموضوع على ألف ومائة وخمسين شاهدٍ، ولا يخفى أنَّ في الإنسان رغبة لمعرفة أسرار جسمه وما يتعلق به من دلالات في كلامٍ وُصِف بأنَّه دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوقين، فكان كل هذا من أسباب اختيار الموضوع.

بعد ذلك شرعتُ في الغور بمضامين النصوص؛ لاستخراج دلالات ألفاظ الأجزاء البالغ عددها قرابة المائة جزءٍ، فتلمست أثرها في إيصال المعنى وفي التأثير في المتلقي، فكان البحث عن دلالة هذه الأجزاء وحركاتها هو هدف الدراسة.

ولابدَّ من الإشارة إلى أنّ ثمّة دراسات لغوية عنيت بدراسة جسم الإنسان، كان منها ما هو قريب من دراستنا، وكان بعض منها بعيداً، غير أنَّا تختلف عنها في ميدان الدراسة، ومنها رسالة الباحث أسامة جميل عبد الغني ربايعة (سنة 2010 م) الموسومة ب (لغة الجسد في القرآن الكريم)، ورسالة سلام محمد ياسين الحيحي (سنة 2011 م) الموسومة ب (الإنسان: الكليات والجزئيات في القرآن الكريم دراسة دلالية)، وقد اطَّلع الباحث على هذه الدراسات، وأفاد منها إذ

ص: 16

كانت تمثل جهداً طيباً، فقد اختصَّت الأولى بحركات الجسم وأعضائه الرئيسة، ولم تزد على عشرة أجزاء، وفي الثانية فصلٌ مختصٌ بأجزاء الإنسان المادية وغير المادية، وكان مما أحصيته من ألفاظ مادية في النهج يفوق كثيراً ما ورد في الذكر الحكيم بحسب الدراستين المذكورتين؛ فكان هذا مما زاد في رغبتي في إكمال مشروع بحثي، فضلاً عن اختلاف سياقات النهج وتغايُر المنهج والهدف، وما اقترب منها من دراستي حاولت الانطلاق منه إلى فهم ما تعلق بالقرآن عن طريق استنباط مقاصد الإمام في كلامه.

أمَّا عن طبيعة الموضوع، فقد اقتضت الدراسةُ تقسيمَه على ثلاثة فصول رُتِّبت مباحثها على الترتيب المنطقي لجسم الإنسان، تسبقها مقدمة، وتقفوها خاتمة بيّنت خلاصة البحث، وأهم النتائج التي توصّل إليها الباحث.

أمَّا الفصل الأول، فقد ضمّ دراسة الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به، فوقع ذلك في ستة مباحث، وهي على التوالي: والألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به، والألفاظ الدالة على الوجه وما يلحق به، والألفاظ الدالة على العين وما يلحق بها، الألفاظ الدالة على الأُذُن وما يلحق بها، والألفاظ الدالة على الأنف وما يلحق به، والألفاظ الدالة على الفم وما يلحق به.

واختصَّ الفصل الثاني بدراسة الألفاظ الدالة على جذع الإنسان وما يلحق به، أي ألفاظ الأجزاء الظاهرة والباطنة من الظهر والبطن، وقد قسَّمتها على ستة مباحث، وهي على التوالي: الألفاظ الدالة على العنق وما يلحق به، والألفاظ الدالة على الصدر وما يلحق به، والألفاظ الدالة على القلب وما يلحق به، الألفاظ الدالة على البطن وما يلحق به، والألفاظ الدالة على الجنب وما يلحق بها، والألفاظ الدالة على الظهر وما يلحق به.

وعُني الفصل الثالث بالألفاظ الدالة على الأطراف وما يلحق بها، فكان على

ص: 17

مبحثين، وهي على التوالي: الألفاظ الدالة على اليد وما يلحق بها، والألفاظ الدالة على الرِّجل وما يلحق بها.

ثم أفضى البحث بعد ذلك إلى الخاتمة بأهمّ النتائج التي توصّل إليها الباحث، ثم قائمة بمظان البحث.

أمَّا نسخة نهج البلاغة المعتمدة في نقل الشواهد، فهي نسخة تكاد تكون فريدة؛ لأنها غير متوافرة في المكتبات العامة وأسواق بيع الكتب، وهي بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وشرحه، ومكوَّنة من جزأين، حصلت على الجزء الأول منها من أستاذي المشرف، والثاني حصلت عليه بعد عناء بمساعدة أحد الزملاء من مدينة بغداد، وقد استعنت ببعض النسخ المحققة أيضاً، وقابلت أغلب نصوصها مع هذه النسخة، وأشرت إلى مواضع الاختلاف إن وجدت في الشاهد المدروس، وقد أشار أستاذي المشرف إلى نسخة قد حُقِّقت مؤخراً على أربع نسخ قديمة، وكانت الدراسة قد شارفت على الانتهاء، فقابلتها أيضاً، وهي نسخة السيد هاشم الميلاني.

واعتمدتُ في الدراسة على مصادر ومراجع متنوعة، أفادت البحث أخصُّ بالذكر مصادر المعجمات، وأكثرها استعانة العين للخليل (ت 175 ه)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395 ه)، ولسان العرب لابن منظور (ت 711 ه)؛ لكثرة ما وجدت فيه من استشهاد بكلام الإمام علیه السلام، وكتب خلق الإنسان ومنها (كتاب خلق الإنسان ضمن الكنز اللغوي في اللَّسِن العربي) للأصمعي، و (كتاب خلق الإنسان) لثابت بن أبي ثابت، و (كتاب خلق الإنسان) لأبي إسحاق إبراهيم الزّجاج، أمَّا شروح نهج البلاغة، فكان منها (شرح نهج البلاغة) لابن أبي الحديد (ت 656 ه)، و (شرح نهج البلاغة) لابن ميثم البحراني (ت 679 ه)، و (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) لحبيب الله الخوئي (ت 1324 ه)، وقد اختصرت بعض أسماء هذه الكتب في الهامش لشهرتها، ولا أنسى بعض الرسائل والأطاريح

ص: 18

الجامعية التي اهتمت بدراسة عن نهج البلاغة، واستعنت ببعض الدراسات القرآنية، ومصادر ومراجع متنوعة أُخر منها اللغوية، والأدبية، والبلاغية، التي لا يسع المقام لذكرها كلها.

واعتمدت في دراستي لهذه الموضوعات على المنهج الوصفي التحليلي؛ إذ بنيت الدراسة على ما ورد من ألفاظ في نهج البلاغة بعد إحصائها وتقسيمها على مجموعات وحقول، واستخراج دلالتها المعجمية، والتماس الشاهد واستقرائه وتحليله دلالياً، لاستنباط الدلالة وبيان التطوّر الذي لحق بها إن وجد، ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الإحصاء الذي سيذكر لنصوص الألفاظ في الهوامش لابد أن يجمع معه هامش النصوص المذكورة حتى يكون مطابقاً للعدد المذكور مع كل لفظ.

وبعد، فإن القلم كاد أنْ يضلَّ في سيره لولا رعاية الله وتوجيهات أستاذي المشرف الدكتور علي فرحان جواد الذي كان اسماً على مسمى، عليّاً بأخلاقه وعلمه، فإليه تحية التلميذ البار.

وأخيراً فكلي أملٌ أن أكُون قَد وُفِّقت في هذا العمل، غير باخل بالجهد والوقت، فإن أصبتُ فذلك من فضل الله ربي وإِنْ كانت الأخرى فحسبي شرف المحاولة والحمد لله أولاً وآخراً.

ص: 19

ص: 20

الفصل الأول الألفاظ الدالة على الرأس

اشارة

المبحث الأول الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الوجه وما يلحق به المبحث الثالث الألفاظ الدالة على العين وما يلحق بها المبحث الرابع الألفاظ الدالة على الأذن وما يلحق بها المبحث الخامس الألفاظ الدالة على الأنف وما يلحق به المبحث السادس الألفاظ الدالة على الفم وما يلحق به

ص: 21

ص: 22

المبحث الأول الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به

مما لا شكّ فيه أنّ تتبّع الكلمة في أساليب نهج البلاغة، والوقوف عند استعمالاتها، وتأمّل السياق والنظم الذي نسجت فيه، يكشف عن كثير من الأسرار والمزايا، ويجلّی جانباً من جوانب الدلالة في هذا السفر الخالد، وهذا المبحث يختصّ بدراسة الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به من الشعر، ويتتبع استعمالاتها في كلام أمير المؤمنين علیه السلام؛ ليظهر ما وراء تلك الاستعمالات، ويجلي ما يكمن وراء هذا النظم الذي سلكت فيه، من معانٍ، ومزايا، وأسرار دقيقة... ونحو ذلك(1).

وبعد قراءة نصوص نهج البلاغة، لم يجد الباحث ألفاظاً دالة على الشعر في جسم الإنسان سوى ما أُشير به إلى الشعر النابت في رأسه، وذلك بألفاظ دالة على مظهر الشعر، وطوله، وهيأته، ومكانه في الرأس، وهو من الأجزاء الظاهرة في رأس الإنسان، ومنه ما صغر ومنه ما كبر(2)؛ لذا سندرس ألفاظ الشعر ضمن الأجزاء الملحقة بالرأس، ومن ألفاظه التي وردت في النهج هي: (الناصية، القنزعة، الذؤابة، القتير، الشيب)(3)، واللفظان (ذؤابة، وقنزعة) لم يختصا بالإنسان، بل

ص: 23


1- ينظر: الإعجاز البلاغي للقران الكريم، بسيوني عبد الفتاح فيود: 41
2- ينظر: فقه اللغة وسر العربية: أبو منصور الثعالبي (ت 430 ه): 83
3- ورد الشيب في موضعين من نهج البلاغة في عبارات تُنبئ عن توجيه السؤال للإمام علیه السلام، الأول: السؤال عن قول النبَّيّ صلَّ اللهُ عَلَيْهِ وَآله: «غَيِّرُوا الشَّيْبَ، وَلا تَشَبَّهُوا باِلْيَهُودِ»، والأخر: عندما قيل له: «لو غيَّتَ شيبك يا أمير المؤمنين! فقال: الْخِضَابُ زِينَةٌ، وَنَحْنُ قَوْمٌ فِی مُصِيبَة... »، (نهج البلاغة: 2 / 310، ح 18، 2 / 413 ، ح 481)

وردا على سبيل الاستعارة لغيره(1)؛ لذا سنعرض عن دراستهما، أما ما استعمل في نهج البلاغة من ألفاظ مكونات الرأس الأخُر فهي الأجزاء الآتية: (الجمجمة، الهامة، اليافوخ)، وستُدرس الألفاظ المذكورة في كلام الإمام بطريقة أكثر تجميعاً ضمن حقل دلالي، بوصفها منهجية ووسيلة توصل إلى نتيجة معيّنة، فتكتسب الكلمة معناها في علاقاتها بالكلمات الأُخر، لأنَّ الكلمة لا معنى لها بمفردها، بل إنَّ معناها يتحدّد ببحثها مع أقرب الكلمات إليها في مجموعة واحدة(2)، وستكون دراسة هذه الألفاظ على مجموعتين، الأولى: تتضمن الألفاظ التي تشير إلى رأس الإنسان كما وردت في نصوص نهج البلاغة، والأخرى: تشير إلى شعره.

المجموعة الأولى:

تتضمن ألفاظ (الرأس، الجمجمة، الهامة، اليافوخ)، ومن شواهدها:

- الرأس: استعمل عشر مرات(3)، منها قول الإمام علیه السلام في كتاب إلى مالك الأشتر عندما ولاه على مصر:

«وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ، لاَ يَقْهَرُهُ كَبِيرُهَا، وَلاَ يَتَشَتَّتُ

ص: 24


1- ورد لفظ القنزعة في موضع واحد من نهج البلاغة في وصف خلقة الطاووس من قول الإمام: «وَلَهُ فِی مَوْضِعِ الْعُرْفِ قُنْزُعَةٌ خَضْرَاءُ مُوَشَّاةٌ»، (نهج البلاغة: 1 / 393، خ 166). أما لفظ الذؤابة فقد ورد في في ذكر الإمام للنبي في قوله «اخْتَارَهُ مِنْ شَجَرَةِ الأنْبِيَاءِ، وَمِشْكَاةِ الضِّيَاء، وَذُؤَابَةِ، الْعَلْيَاءِ، وَسُرَّةِ الْبَطْحَاء»، (نهج البلاغة: 1 / 242، خ 107)
2- ينظر: أصول تراثية في علم اللغة، كريم زكي حسام الدين: 294
3- ينظر: نهج البلاغة، وهو ما جمعه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، تحقيق وشرح: محمد أبي الفضل إبراهيم: 1 / 93، خ 34، 1 / 319، خ 138، 1 / 415، خ 176، 1 / 458، خ 190، 2 / 94، خ 238، 2 / 249، ك 53، 2 / 272، ك 58، 2 / 323، ح 79

عَلَيْهِ كَثِيرُهَا»(1).

وقوله علیه السلام ذاكراً أصحابه الخلُّص ممن مضوا على الحق:

«أَیْنَ إِخْوَانِیَ الَّذِینَ رَکِبُوا الطَّرِیقَ، وَ مَضَوْا عَلَی الْحَقِّ... الَّذِینَ تَعَاقَدُوا عَلَی الْمَنِیَّهِ، وأُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَهِ»(2).

- الجمجمة: ذكرها الإمام علیه السلام مرة واحدة بقوله لابنه محمّد بن الحنفية، لمّا أعطاه الراية يوم الجمل:

«تزُولُ الْجِبَالُ وَلا تَزُلْ عَضَّ عَلَی نَاجِذِکَ، أَعِرِ اللّهَ جُمْجُمَتَکَ، تد فی الأرْضِ قَدَمَکَ... واعلمْ أَنَّ النَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اللّهِ سُبْحَانَهُ»(3).

- الهامة: ذُكرت سبع مرات في نهج البلاغة(4)، ومنها قول الإمام علیه السلام عن أحوال قوم من جند الكوفة، همّوا باللحاق بالخوارج:

«أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ اَلْأَسِنَّهُ إِلَیْهِمْ وَ صُبَّتِ اَلسُّیُوفُ عَلَی هَامَاتِهِمْ لَقَدْ نَدِمُوا عَلَی مَا کَانَ مِنْهُمْ، إِنَّ اَلشَّیْطَانَ اَلْیَوْمَ قَدِ اِسْتَفَلَّهُمْ، وَ هُوَ غَداً مُتَبَرِّئٌ مِنْهُمْ...»(5).

وقال علیه السلام عن نفسه:

«...فَأَمَّا أَنَا فَوَ اللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِیَ ذَلِکَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیَّةِ تَطِیرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَ تَطِیحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ»(6).

ص: 25


1- المصدر نفسه: 2 / 255، ك 53
2- المصدر نفسه: 1 / 436، خ 183
3- المصدر نفسه: 1 / 46، خ 11
4- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 97، خ 36، 1 / 132، خ 65، 1 / 278، خ 124 1 / 289، خ 124، 2 / 35، خ، 216
5- المصدر نفسه: 1 / 428، خ 182
6- المصدر نفسه: 1 / 93، خ 34

- اليافوخ: ورد ذكره مرة واحدة في خُطْبَة للإمام علیه السلام في بعض أيام صفين يخاطب أصحابه:

«وَقَدْ رَأَیْتُ جَوْلَتَکُمْ، وَانْحِیَازَکُمْ عَنْ صُفُوفِکُمْ... وَأَنْتُمْ لَهَامِیمُ الْعَرَبِ، وَیآفِیخُ الشَّرَفِ، وَالأَنْفُ الْمُقَدَّمُ، وَالسَّنَامُ الأعْظَمُ»(1).

ويمكن تلخيص المعنى اللغوي لهذه الألفاظ بالآتي:

الرأس من الجذر (ر أ س) وهو «أصلٌ يدل على تجمُّعٍ وارتفاع»(2)، وقد ذكر الخليل الأصل الثاني للرأس بقوله: «رأس كل شيء: أعلاه... وفحل أرأس: وهو الضخم الرأس، وأنا رأسهم ورئيسهم»(3) وفي خلق الإنسان لثابت قال: «فأعلى الرجل رأسه، وهو قلّتُه، وعِلاوته...وفي الرأس الفروة، وهي جلدة الرأس»(4)، وجمع الرأس: رؤوس(5)، ودلالة الاجتماع التي أشار إليها ابن فارس هي المشترك بين الرأس والجمجمة، ولكن الارتفاع غير مأخوذ به في أصلها، فالجمجمة عند الخليل «القحف وما تعلق به من العظام»(6)، وجاء في الصحاح أنَّ الجُمْجُمَةَ «بالضم: عظم الرأس المشتمل على الدماغ»(7)، وربما سميت عظمًا: لأن ما نعرفه اليوم عن الجمجمة يكاد أن يكون مختصراً على أنّا تتألّف من عدد من العظام المعقدة، وعددها اثنان

ص: 26


1- نهج البلاغة: 1 / 241، خ 106
2- المصدر نفسه: 3 / 471
3- كتاب العين، أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه): 7 / 294
4- كتاب خلق الإنسان: أبو محمد ثابت بن ثابت، 44. وينظر: كتاب خلق الإنسان، أبو إسحاق إبراهيم بن السري (ت 311 ه) الزجاج: 24
5- ينظر: المفردات في غريب القرآن، أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502 ه): 1 / 207
6- العين: 6 / 28
7- الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية، الصحاح،: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 396 ه): 4 / 1891، وينظر: خلق الإنسان، الزجاج (311 ه): 25

وعشرون عظماً، قسم منها مسطحة وغير منتظمة، وهي تمثل عظام الرأس مع الفك وهو العظم الوحيد المتحرك في الجمجمة...(1)، أما الُأخر فعُرفت بثبات عظامها، والجمع جماجم، وجمجمات، وجُمْجُم(2)، وهي تقع ضمن الأصل الأول الذي وضعه ابن فارس للجذر (ج م م)، إذ ذكر «له أصلان الأوّل كثرةُ الشيء واجتماعه، والثاني عَدَم السِّلاح... فالجُمجمة: جُجُمَة الإنسان؛ لأنها تجمع قبائلَ الرأس...»(3)، ومن مشتركات الأصل اللغوي الأخُر مع الرأس أصل لفظ الهامة، وهي من الجذر (ه ا م) و «يدلُّ على عُلُوٍّ في بعض الأعضاء، ثم يستعار، فالهامة: الرَّأْس، والجمع هامٌ وهامات»(4)، فهذا الأصل يشترك مع الرأس في الارتفاع ويفترق عنه في التجمّع، لكن ابن فارس لم يفرق بين الرأس والهامة كما نرى، أما في خلق الإنسان فقد قال ثابت: «وفي الرأس الهامَةُ، وهي وسَط عظم الرأس ومعظمه»(5)، ويظهر أن ثابت كان دقيقاً في تحديد المعنى، كما يتبيّن من (الشكل 1)، (الشكل 1)

ص: 27


1- ينظر: علم التشريح، د. قيس إبراهيم الدوري: 28
2- ينظر: كتاب المخصص، أبو الحسن علي بن إسماعيل المعروف بابن سيده (ت 457 ه): 1 / 55
3- معجم مقاييس اللغة، أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 359 ه): 1 / 419
4- مقاييس اللغة: 6 / 27
5- خلق الإنسان: ثابت، 44. وينظر: المخصص: 1 / 54

الذي يوضح سمة التجمع للرأس والجمجمة أيضاً، ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الهامة لم ترد في معجمي العين والجيم بمعنى هامة الإنسان(1).

أمَّا اليافوخ من الرأس فقد ورد في أَفَخَ، ويَفَخَ من المعجم(2)، قال الخليل: «من همزَ اليأْفُوخ فهو على تقدير يَفْعُول، ومن لم يهمزْ فهو على تقدير فاعُول، من اليَفْخ والهمز أَحسن... ورجل مأْفوخ: شُجَّ في يأْفوخه وهي اليآفِيخُ»(3)، واليأفوخ «يكون لَيِّناً من الصبي قبل أَن يتلاقى العظمان السَّمَّاعةُ والرَّمَّاعةُ والنَّمَغَةَ»(4)، وقيل في خلق الإنسان: «هو الموضع الذي لا يلتئم من الصبي إلّا بعد سنتين أو نحو ذلك، وهو حيث التقى عظم مقدم الرأس ومؤخره»(5)، كما يتضح من (الشكل 1)(6)، والمسمى يافوخ الهامة، وبعض العرب يسميه النَّمَغة، وتسمى من الصبي الرّماعة(7).

مما سبق يتضح أن المتربع على عرش العلاقات المتحصلة من هذه الأجزاء هو الرأس؛ فهو يتميز بسمة التجمع والارتفاع؛ وافتقدت الجمجمة سمة الارتفاع،

ص: 28


1- كان الشائع في استعمال الهامة بأنها: رأس كل شيء من الروحانيين، وهي من طير الليل، وأمَّا الهامَة في الطَّير فليست في الحقيقة طيراً، إنما هو شيءٌ كما كانت العرب تقوله، كانوا يقولون: إنَّ رُوحَ القَتيل الذي لا يُدرَك بثأره تَصِيرُ هامةً فتَزْقُو تقول: اسقوني، اسقُوني، فإذا أُدْرِكَ بثأره طارت، (ينظر: مقاييس اللغة: 6 / 27)
2- ينظر: على سبيل المثال: العين: 4 / 311. ولسان العرب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (ت 711 ه): 3 / 5، 67، ولم نجد له أصلا في المقاييس
3- العين: 4 / 311. وينظر: المخصص: 1 / 55
4- لسان العرب: 3 / 5
5- كتاب خلق الإنسان: أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي (ت 216 ه): 166
6- أطلس جسم الإنسان على الشبكة العنكبوتية، وكان اختيار هذا الشكل التوضيحي لجمجمة طفل صغير لتوضيح تكوّن اليافوخ أولاً؛ وتوضيح الأجزاء الأخرى المكوّنة للجمجمة بأدق صورة ممكنة ثانياً
7- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 46

وفقد كل من الهامة واليافوخ(1) سمة التجمع، وبذلك تكون هذه الأجزاء تابعة للرأس ليس في سماتها التركيبة، فحسب، بل الدلالية أيضاً، أما العلاقة التي تربط اليافوخ الهامة فهي الاستعلاء والاحتواء.

وإذا ما تأمّلنا لفظ الرأس في نصوص نهج البلاغة، نجد اختلاف دلالته كما أنَّه قد اختلفت دلالته من سياق إلى آخر في كلام أمير المؤمنين علیه السلام، ومن ذلك قوله:

«وَاجْعَلْ لِرَأْسِ كُلِّ أَمْر مِنْ أُمُورِكَ رَأْساً مِنْهُمْ».

والناظر للنص يجد أن بناء التركيب له أثر كبير في دلالة لفظ الرأس وتحوّل المعنى بتغيير عناصر التركيب المحيطة باللفظين، فالسياق هو الذي حدَّد معنى كلٍّ من الكلمتين وليس الشكل الصوتي للدال(2)، إذ استعير الرأس في المرة الأولى بإضافته إلى شيء معنوي وهو الأمر، ومدلوله أعلاه أو قمته، أمَّا في المرة الثانية، فقد جاء مخصَّصاً للإنسان بقرينة حرف الجر والضمير العائد إلى العاقل، ومدلوله الرئيس، وعلى الرغم من اختلاف الدلالة، فإنَّ وجه المناسبة بين الاستعمالين هو

ص: 29


1- كان الشك يراود الباحث في مفهوم اليافوخ بعد اطلاعه على بعض كتب علم التشريح والرسوم التوضيحية وتركيز أهل اللغة على ذكر يافوخ أعلى الرأس فقط، فحاولت أن ألتقي بأحد الأطباء المتخصصين في طب الأطفال في عيادته الخاصة بقضاء المناذرة، وهو الدكتور علي حسين الفيداوي تدريسي في كلية الطب في جامعة الكوفة، بتاريخ 19 / 2 / 215 م، الساعة (6:13) من مساء يوم الخميس، فسألته عن حقيقة اليافوخ، فأجاب مشكوراً بأن: هذه المنطقة اللينة في رأس الطفل هي في الواقع ليست بفتحة واحدة، ولكن أبرزها فتحتان، واحدة تقع في الجزء الأمامي من الرأس، والأخرى وراءها في الجزء الخلفي، وهما فجوتان بين عظام الجمجمة، لهما دورٌ مهم في أثناء الولادة، وبعد أن يولد الطفل تبقى الجمجمة مفتوحة وتبدو هشة لإتاحة المجال لنمو دماغ الطفل وسوف يغلق اليافوخ الخلفي أولاً ما بين عمر الشهرين والأربعة أشهر، أما الأمامي فسوف تبقى فتحته وتلتحم تدريجياً قبل أن يبلغ الطفل عامه الثاني، فتيقنت أن التسمية التصقت بآخرها التحاماً وهو يافوخ الهامة في (الشكل 5)
2- ينظر: علم الدلالة، بييرجيرو: 193

مبدأ الأهمية والاختصاص في الإدارة والحكم(1)؛ لذا نقل الإمام اللفظ في المرة الأولى من موضع استعماله الأصل إلى غيره، لغرض الإبانة والتأكيد(2)، فمن دواعي الدلالة لاستعمال لفظة (رأساً) ولم يقل (شخصاً منهم)؛ أنه علیه السلام أراد العلو فينبغي على الأشتر أن يكلف لكل أمر شخصاً عالي المرتبة صدراً لقومه، فهو الذي يعوّل عليه، فضلاً عن أن الرأس يضم العقل ومن يدير الأمر ينبغي أن يكون حكيماً عاقلاً يحسن التدبير والتفكير، وهذا المدلول هو ما كشفت عنه القرائن في السياق، وبذلك يكون كلامه علیه السلام أشبه ما يكون بالحكمة.

ومن الاستعمالات الأخُر للفظ الرأس قوله علیه السلام:

«أَیْنَ إِخْوَانِیَ الَّذِینَ... أُبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَهِ»(3).

فبعد التقديم بالثناء للأصحاب الوارد في السياق، يأتي قول الإمام، أُبْرِدَ بِرُؤوسِهِمْ إِلَی الْفَجَرَةِ، ليكون كناية عن القتل؛ لأن ذلك يعني أنَّ رؤوسهم أُرسلت بالبريد إلى الفسَقة للبشارة والتشفي بها(4)، وذكر زوال الرأس عن مقامه من جسد الإنسان، وانتقاله ليكون في متناول الأعداء، هو من دواعي شحذ الهمم ورسم الصورة التي أراد الإمام إيقاظها في نفس المتلقي؛ لتهيئته للجهاد المصرَّح به في الخطاب نفسه(5)؛ لأنه علیه السلام وظّف علاقة الانعكاس الدلالي للرأس لخدمة ذلك الغرض، وبيان أهمية هذه الرؤوس وما تحمل من يقين ديني يفتقر إليه الخصم، فقد عبر الإمام عن الشخص برأسه للدلالة على قيمته وعلو شأنه.

ص: 30


1- ينظر: دراسات في نهج البلاغة، محمد مهدي شمس الدين: 80
2- ينظر: كتاب الصناعتين، أبو هلال العسكري ت (395 ه): 268
3- نهج البلاغة: 1 / 436، خ 183
4- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة، صفوة شروح نهج البلاغة، جمع وضبط أركان التميمي: 435
5- ينظر: سياق الخطبة في نهج البلاغة: 1 / 436

ويظهر من استقراء النصوص(1) أنَّ المعاني التي استعملها الإمام للرأس لا تحيد عن دلالة التقدم والصدارة وعلو الشأن والشرف، وما يرتبط بها من علاقات دلالية، وتوظيفها في مقامات تجلي جانباً من جوانب هذه الدلالة.

أمّا لفظ الجمجمة الوارد في قول الإمام علیه السلام في الشاهد، فيلحظ أنّه قد سُبق في سياق النص بعبارة «تزول الجبال ولا تزلْ»، وهو خبر في معنى الشرط، أريد به المبالغة، أي لو زالت الجبال عن مواضعها لا تزل، وهو نهي عن الزوال مطلقاً، فالإمام يأمر ولده محمّد بن الحنفية أو يشترط عليه الثبات في الحرب وعدم الزوال تأكيداً وحرصاً منه على هذا الفعل(2)، ومن مكملات هذا الثبات في الحرب قوله:

«أَعِر اللهَ جُجُمَتَكَ»؛ إذ أمره أن يحسبَ جمجمته مُعارة للهِ تعالى؛ لأنَّ المعارَ يردُ إلى صاحبه عند الله بأحسن منه(3)، والمراد لا تخف على رأسك من السيوف وابذله في سبيل اللهِ فهو لا يعدو أن يكون مجموعة عظام صغيرة لا قيمة لها أمام خالقها، ويتضح أنّ دلالة الاستعمال للجمجمة في النص هي التصغير، ومما يفيد هذه الدلالة قوله علیه السلام «عَضَّ عَلَی نَاجِذِكَ»؛ لأِنَّهُ أَنْبَى لِلْسُّيُوفِ عَن عظام الجمجمة كما بين ذلك الإمام(4)، وهذا المغزى لا يؤديه لفظ الرأس، ولا يتحقق معه، لو أُبْدل بالجمجمة؛ لأنَّ الرأس إذا ما قورن بأعضاء الجسد الأخُر، فهو أشرف الأعضاء فائدة؛ إذ إنَّ فيه العقل المدرك المدبّر، واللسان الناطق المعبّر، والعين الناظرة، والأذن الواعية(5)،

ص: 31


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 93، خ 34، 1 / 415، خ 176، 2 / 249، ك 53، 1 / 319، خ 138
2- ينظر: جهود حبيب الله الخوئي النحوية في شرح نهج البلاغة: ظافر عبيس عناد، (رسالة ماجستير)، 180
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، الحائري: 1 / 231
4- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 132، خ 65
5- ينظر: الإعجاز البلاغي للقران الكريم: 41

وما سمي الرأس رأساً إلّا لعلوه وارتفاعه.

أمّا لفظ الهامة فقد استعمله الإمام في نهج البلاغة بالجمعين المذكورين في التقديم اللغوي من دون المفرد، وهذا يدلُّ على تصرُّف الإمام في الصيغ والمباني، ومن ذلك قول الإمام علیه السلام:

«أَمَا لَوْ أُشْرِعَتِ اَلْأَسِنَّهُ إِلَیْهِمْ وَ صُبَّتِ اَلسُّیُوفُ عَلَی هَامَاتِهِمْ».

والكلام هنا على أحوال قوم من جند الكوفة، همّوا باللحاق بالخوارج، وما يلحظ في النص أن الإمام استعار لفظ الصّب المستعمل في صبّ الماء، أو في قوله تعالى:

«فَصَبَّ عَلَيهِمۡ رَبُّكَ سَوۡطَ عَذَابٍ»(1).

لوصف كثرة وقع السيوف على الهامات(2)، وأكد ذلك بتوظيف جمع الكثرة للسيوف، واستعمل الإمام الهامة للوعيد للدلالة على شدة غضبه من القوم المنشقين إلى الحد الذي يريد أن يفلق هاماتهم؛ فهي أول جزء مرتفع من الرأس يطؤُهُ السيف عند الضرب عليه، وهدفٌ أسمى للمقاتل في غمار الحرب والفوز فيها(3)؛ لأن السياق سياق تنكيل وإهانه وغضب.

وأمَّا النص الثاني المذكور في استعمال هذا الجزء من الرأس، فيتحدث فيه الإمام علیه السلام عن نفسه إذ يقول:

«فَأَمَّا أَنَا فَوَ اللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِيَ بِيَدِي ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِيِّةِ تَطِيرُ لَهُ فِرَاشُ الْهَامِ».

وهذا كلام من خطبة في ذمّ أصحابه(4)، لكنه علیه السلام ينأى بنفسه عن حالهم فيتكلم عن نفسه في هذا النص؛ ليرتفع شأناً فيضع نفسه في مقام التهديد والوعيد بقوة

ص: 32


1- الفجر:. 13
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، حبيب الله الهاشمي الخوئي: 10 / 290
3- ينظر: الإنسان في الشعر الجاهلي: عبد الغني أحمد زيتوني، 214
4- ينظر: قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة، عبد الرحمن بن عبد الله الجميعان: 60

سيفه الذي يضرب به الخصوم، وقد بدأ بذكر الهامة قائلاً: «تَطيِرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ»؛ لأنها أعلى الرؤوس، ويستشهد صاحب اللسان بهذا القول لإثبات معنى فراش الهام، فيقول: «هي العِظامُ التي تخرج من رأْس الإِنسان إذِا شُجّ وكُسِر، يقال:

ضرَبه فأَطارَ فَراشَ رأْسه. وذلك إذِا طارت العظام رِقاقاً من رأْسه، وكل رقيق من عظم... فهو فَراشةٌ، وفي حديث علي (كرم اللَّهَّ وجهه) ضَرْبٌ يَطِير منه فَراشُ الهامِ.

الفَراشُ عظام رقاق تلي قِحْف الرأْس»(1)، فصورة التطاير لأجزاء الهام تكونت نتيجة لقوة الضرب الذي بيّن الإمام أداته وفعله في السياق؛ ليقضي عليهم بسرعة وبطريقة مرعبة، وفي التركيب الجملي قد استعمل الإمام صيغتين لجمع التكسير، وهما (فراش جمع فراشة، وهام جمع هامة)؛ لتناسب كثرة من ينالهم سيفه(2)، وقد وردت لفظة الهامة في نصوص أُخر من النهج(3)، لا يسع الباحث ذكرها هنا؛ إلتزاماً بمنهجية البحث، وعلى الرغم من اختلاف المصاحبات اللغوية للفظ، فإنه يوحي بأصل في الاستعمال لايخرج في سياقاته عن الاستعلاء، ويُعزى ذلك إلى شغلها موقع القمة من الرأس، فهي كالقمة من الجبل.

وربّما كانت هذه القمة غير مكتملة الأجزاء في بداية التكوين لوجود جزء فيها متأخر اللحام، وهو اليافوخ، وقد جاء استعماله في قول أمير المؤمنين علیه السلام يخاطب أصحابه:

«أَنْتُمْ لَهَامِیمُ اَلْعَرَبِ، ویَآفیخُ الشَّرَفِ، وَالأَنفُ المُقَدَّمُ».

واليآفيخ في النص جمع يافوخ، ومعناه أعلى الرأس(4)، ويتضح في النص أنّه علیه السلام

ص: 33


1- لسان العرب: 6 / 326
2- ينظر: التحليل اللغوي في ضوء علم اللغة الحديث: محمود عكاشة، 93
3- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 289، خ 124، 1 / 132، خ 65 ، 1 / 278، خ 124
4- ينظر: نهج البلاغة، تقديم وشرح محمد عبدة: 198

وظِّفه مع مجموعة من المصاحبات اللغوية لغرض المدح، يقول صاحب اللسان:

«وفي حديث عليّ (رضي الله عنه) وأَنتم لَهامِيمُ العرب ويآفيخُ الشرف. استعار للشرف رؤُوساً وجعلهم وسطها وأَعلاها»(1)، ويمكن تعليل هذا الاستعمال بأنّه علیه السلام لما أراد المبالغة في المدح وظّف موقع اليافوخ في وسط الهامة التي هي في وسَط عظم الرأس، وهذه المزية لا تكون إلاّ لليافوخ، فاستعاره للشرف ثم أسند التركيب لمن يخاطب، وبذلك يكون الإمام قد قرر أصلاً للاستعمال دلالته الشرف والسيادة.

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ البنية الصرفية التي استعملها علیه السلام لليأفوخ هي (يفعول) وهي لغة الهمز، وجمعها يَآفِيخ على (يفاعيل) على أن الياء زائدة، ويضع أحد الباحثين هذا المبنى من جملة ما بُني من ألفاظ اللغة على لسان الإمام علیه السلام في لسان العرب(2)، لأنّه جُمع (يوافيخ) ووزنه (مفاعيل) على أَنَّ ياءه أَصل(3)، كجمع مفاتيح.

ومما سبق يُلحظ أنّ ما تميز به لفظ الرأس وملحقاته من استعمال عند الإمام، هو وجوده ضمن عبارات تقترب من الحكمة تارة، ومن المثل تارة أخرى، في نصوص دلّت في جلّها على الشرف والصدارة، ويتضح لمتدبر النصوص أثر المرجعية اللغوية في بعض موارد كلامه علیه السلام من الحديث الشريف مثل قوله:

«أَنَّ اَلصَّبْرَ مِنَ اَلْإِیمَانِ کَالرَّأْسِ مِنَ اَلْجَسَدِ»(4).

ص: 34


1- لسان العرب: 3 / 5
2- ينظر: ما بني من ألفاظ اللغة على أقوال الإمام علي في لسان العرب: رائد عبدالله احمد زيد، (رسالة ماجستير)، 153
3- ينظر: لسان العرب: 3 / 5
4- نهج البلاغة: 2 / 323، ح 79، ومسند الإمام أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 241 ه)،: 37 / 517، رقم (22877)، وسنن النبي، العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي: 108

ولا يفوتنا أنْ نذكر أنّ النهج الاستعمالي للجمجمة والهامة واليافوخ في خطب الإمام علیه السلام قد ظهر في إطار الحرب والقتال حصراً، فاستعملت الهامة للإهانة وشدة الغضب، واليافوخ لعلو الشأن والشرف لعلاقة العموم والخصوص بينه وبين الرأس.

المجموعة الثانية:

تتضمن ألفاظ (الشعر، الناصية، القتير)، ومن شواهدها:

- الشَّعر: ورد ذكره مرتين بصيغة الجمع فقط، وهما قول الإمام علیه السلام في حجّاج بيت الله:

«يُهَلّلُونَ لِلّهِ حَولَهُ، وَ يَرمُلُونَ عَلَي أَقدَامِهِم شُعثاً غُبراً... وَ شَوّهُوا بِإِعفَاءِ الشّعُورِ مَحَاسِنَ خَلقِهِمُ...»(1).

وقوله علیه السلام يصف جانباً من عدالة حكمه وعدم ظلمه للعباد:

«وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ عَقِيلاً وَقَدْ أَمْلَقَ حَتَّى اسْتَمَاحَنِي مِنْ بُرِّكُمْ صَاعاً، وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأْلْوَانِ، مِنْ فَقْرِهِمْ»(2).

- الناصية: جاء ذكرها أربع مرات في كلام الإمام علیه السلام(3)، منها قوله في الحثّ على التقوى:

«فَاتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِی أَنْتُمْ بِعَیْنِهِ، وَ نَوَاصِیکُمْ بِیَدِهِ، وَ تَقَلُّبُکُمْ فِی قَبْضَتِهِ»(4).

وقوله علیه السلام يحمد الله ويعظِّمه:

«فَلَسْنا نَعْلَمُ کُنْهَ عَظَمَتِکَ الَّا انّا نَعْلَمُ انَّكَ: حَیٌّ قَیُّوْم... أَحْصَيْتَ الأعْمَالَ،

ص: 35


1- نهج البلاغة: 2 / 101، خ 238
2- المصدر نفسه: 2 / 48، خ 219
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 253، خ 108، 2/ 169، ك 27
4- المصدر نفسه: 1 / 439، خ 184

وَأَخَذْتَ باِلنوَّاصِی وَالأقْدَامِ»(1).

- القتير: ورد مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام يحثُّ الناس على التوبة:

«أَیُّهَا اَلْیَفَنُ اَلْکَبِیرُ، اَلَّذِی قَدْ لَهَزَهُ اَلْقَتِیرُ، کَیْفَ أَنْتَ إِذَا اِلْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ اَلنِّارِ بِعِظَامِ اَلْأَعْنَاقِ، وَ نَشِبَتِ اَلْجَوَامِعُ حَتَّی أَکَلَتْ لُحُومَ اَلسَّوَاعِدِ؟»(2).

ويمكن تلخيص المعنى اللغوي للألفاظ بالآتي:

الشَّعر: وهو من الجذر (ش ع ر) وله «أصلان معروفان، يدلُّ أحدهما على ثَباتٍ، والآخر على عِلْمٍ وعَلَم، فالأوّل الشَّعر، معروف... والشِّعار: ما وَلِیَ الجسدَ من الثِّياب؛ لأنّه يَمُسُّ الشَّعر الذي على البشَرة، والباب الآخر: الشِّعار: الذي يتنادَى به القومُ في الحرب ليَعرِف بعضُهم بعضاً، والأصلُ الثاني قولُم شَعَرتُ بالشّء، إذا علمتَه... ومَشَاعِرُ الحجّ: مواضِع المَناسك، سمِّيت بذلك لأنَّها مَعالم الحجّ، والشعِيرة: واحدة الشَّعائر، وهي أعلامُ الحجّ وأعمالُه»(3)، والشّعر في الأصل الأول هو «نِبْتَة الجِسم مما ليس بصُوف ولا وبَر، الواحدة شَعْرة...

جمع الشَّعَر أشْعار، وشُعُور... رجل أشْعَرُ وشَعِرٌ وشَعْرانيٌ، كثير الشعر في رأسه وجسمه والأنثى شَعْراءُ... وقالوا الشَّعْرةُ يُعْنىَ بها الجميع كما قالوا الشَّيْبة يَعْنون بها الشَّيْب»(4)، ومن الشعَر أخذ المشْعَر وهو محلّ الشعور أي: الإحساس، وهو الحاسّة وجمعه مشاعر(5)، وهو مستعمل عند الإمام في نهج البلاغة ثلاث مرات(6)،

ص: 36


1- نهج البلاغة: 1 / 373، خ 161
2- المصدر نفسه: 1 / 441، خ 184
3- مقاييس اللغة: 3 / 193
4- المخصص: 1 / 38، وينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 172
5- ينظر: لسان العرب: 6 / 49
6- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 349، خ 152، 2 / 64، خ 231، 2 / 69، خ 232

ويرتبط اللفظ الثاني (الناصية) بالشعر بعلاقة جزئية تبيّن حد من حدوده كما يظهر في أصل الجذر (ن ص ا) عند ابن فارس(1)، فله «أصلٌ يدلُّ على تَخَيٍرُّ وخَطَر في الشَّء وعُلوّ، ومنه... هذه نَصِيَّتي: خِيرَتي، ومنه الناَّصية: سمِّيت لارتفاع مَنبْتها، والناصيةُ: قُصَاص الشَّعْر»(2)، وقد وافق الراغب هذا المعنى، ثم أشار إلى أحد هذه الأصول بقوله: «وفلان ناصية قومه... كقولهم: رأسهم وعينهم، وانتصى الشعر:

طال، والنصي: مرعى من أفضل المراعي، وفلان نصية قوم، أي: خيارهم تشبيهاً بذلك المرعى»(3)، أما عن تحديد الناصية فهي «شعر مقدم الرأس... والغُسُن شعر الناصية»(4).

أمّا القتير فقد ورد في المعجم بمعنى الشيب، فقد قيل: أنَّ «القَتيِرُ: الشَّيْبُ»(5)، لكنَّ الأصل مختلف، فالقتير من الجذر (ق ت ر) وله «أصلٌ صحيح يدلُّ على تجميعٍ وتضييقٍ... ومن الباب القتير»(6)، ونجد ابن منظور (ت 711 ه) يصرح بأصل التسمية قائلاً: «وأَصلُ القَتيِر رؤوسُ مسامير حَلَق الدروع تلوح فيها، شُبّه بها الشيب إذِا نَقَبَ في سواد الشعر الجوهر، والقَتيِرُ رؤوس المسامير في الدرع»(7)، وبذلك يتجلّی الفرق بين صفتي الشيب والقتير للشعر؛ إذ إنَّ الثانية تكون محددة بمرحلة معينة، وأمَّا الأولى فمطلقة، ويمثل الشعر الوحدة الجامعة لهذه الألفاظ.

ص: 37


1- يقول ابن فارس: (وهذا المعتلّ أكثرُه واو)، وفي العين والأساس من (ن ص و)، وقيل (ن ص ي) أيضاً
2- مقاييس اللغة: 5 / 433
3- المفردات في غريب القرآن: 2 / 434
4- فقه اللغة، الثعالبي: 83. وينظر: المخصص: 1 / 68
5- العين: 5 / 124. وينظر: المخصص: 1 / 77
6- ينظر: مقاييس اللغة: 5 / 55
7- لسان العرب: 5 / 73

أما عن استعمال لفظ الشّعر في نهج البلاغة، فقد جاء ذكره في الشاهد الأول من قوله علیه السلام عن حجاج بيت الله:

«شُعْثا غُبْراً... شَوَّهُوا بإِعْفَاءِ الشُّعُورِ مَحَاسِنَ خَلْقِهِمُ».

وفي النص بيان لجانب من جوانب تأدية الفرائض في الحج(1)، وما خصّ الشّعر من ذلك، لفظ الشعور، وهو جمع شعْر، والشَّعِثُ وهو «المُغْبرُّ الرأْسِ المُنْتَتِفُ الشَّعَرِ الحافُّ الذي لم يَدَّهِنْ، والتَّشَعُّثُ التَّفَرُّقُ والتَّنكُّثُ كما يَتَشَعَّثُ رأْسُ المِسْواك وتَشْعِيثُ الشيءِ تفريقهُ... والشَّعَثَةُ موضعُ الشعر الشَّعِثِ»(2)، أمَّا إعفاء الشعور، فهو ترك ما فضل من شعورهم أو ما نبت في الأعضاء التي جرت العادة بإزالتها؛ فتغيّرت أحوالهم ومحاسن صورهم(3)؛ لأنَّ الحاج يترك شعره في بعض الأيام من دون قصّ أو حلق فيجعل لنفسه شعاراً أي علامة(4)؛ ليبعث خطاباً عبر ممارسة جسدية تتلاءم مع اختبار العباد وإثابة المجيب، وتبقى بعض المصاحبات اللغوية للشعر ملازمة له في النص الثاني للشعر في قوله علیه السلام:

«وَرَأَيْتُ صِبْيَانَهُ شُعْثَ الشُّعُورِ، غُبْرَ الأْلْوَانِ، مِنْ فَقْرِهِمْ».

فذكر الشعور في هذا النص والنص السابق قد اقترن بإحدى المصاحبات المعجمية وهي (شعث)، وأخرى سياقية وهي (غبر) غير أن السياق هنا لا يرتبط بممارسة دينية والتعليل مختلف أيضاً؛ لأنَّ في ذكر وصف الشعر دلالة إشارية تفصح عن فقرهم وتؤكده، والتصاحب اللغوي لألفاظ (الشعر والشعث والغبر)

ص: 38


1- ينظر: الحج في نهج البلاغة، فارس الحسون: 10
2- ينظر: لسان العرب: 2 / 160
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد (ت 656 ه): 13 / 159
4- ينظر: المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنية السامية، الأب. أ. س. مرمرجي الدومنكي: 192

قد أنتج صورة إرهاق وتعب، وقد يكون هذا بدنياً كما في عبادة الحج، وقد يكون معنوياً بسبب ضنك العيشكما تبين في النص الثاني على أولاد عقيل، ومن المناسب هنا ذكر شيء قد إلتفتت إليه المعجمية العربية حديثاً وهو الاتساق المعجمي في ضوء الألسنية الثنائية، والذي تحقّق في لفظتي (شعر، وشعث) عند الإمام، إذ إنَّ أصلهما الثنائي هو (شع) الدال على البروز والانتثار، والتفرق والانتشار، وفي كلّها معنى الحركة، ويتحقق ذلك في الكلمات التابعة:

شَعَّ: فرّق القوم: انتشروا شُعٌّ: سفا السنبل وشوكه، وضوء الشمس المنتشر أي الشعاع.

أشَعَّ: الزرع أخرج شعاعه، والشعاع: المفترق من كل شيء.

فإذا اتضح ذلك، فإنَّ (شعر) بمعانيه المختلفة صادر عن (شع) بزيادة الراء في آخره، من حيث نشوء هذه المادة وخروجها من الجسد، وارتباطه بخاصية التلبد والالتصاق(1)، وهذه الطريقة توصل إلى معنى اللفظين وتثبت الاتساق، وتزيل التنافر في النصوص، أمَّا دلالة جزء الشعر في النصين عند الإمام علیه السلام فقد استعمله علامة ظاهرة، يُستدل بها على حال صاحبه بانسجام واضح مع الأصل اللغوي.

وفي اللفظ الآخر من الأجزاء الدالة على الشعر وهو الناصية فإنه علیه السلام يستعمله في بنية واحدة جمعت معرّفة في نصوصها لما يخص الإنسان، أمّا مقام استعمال اللفظ، فمنه ما يتعلق بالدنيا، وشاهده قوله علیه السلام في النص الأول: «فَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِعَيْنِهِ، وَنَوَاصِيكُمْ بِيَدِهِ»، ويلحظ في سياق النص أنّ المصاحبات المنسوبة للفظ الجلالة قد أحاطت باللفظ؛ لأن فحوى خطاب الإمام أن الله متمكن منكم قادر عليكم، فأنتم في قبضته أي تصرفكم تحت حكمه لو شاء أن يمنعكم منعكم، كالإنسان القابض على ناصية غيره، إن شاء دام القبض عليه وإن شاء تركه وفق

ص: 39


1- ينظر: المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنية السامية: 190 - 192

مسلمة السيطرة والتمكن في علاقة العبد والمعبود أو الخالق والمخلوق...الخ(1)، ويظهر أن الناصية المقصودة في النص، ليست ظاهر الناصية المشار إليها في المعنى اللغوي، أمَّا الاستعمال الآخر للفظ الناصية، فيتعلق بمقام الآخرة وهو قوله علیه السلام عن الحَيّ القَيُّوم:

«أَحْصَيْتَ الأعْمَالَ، وَأخَذْتَ باِلنوَّاصِ وَالأقْدَامِ».

وفي هذا الكلام اقتباسٌ قرآنيٌّ من قوله تعالى:

«يعُرَفُ المُجرِمُونَ بِسِيمَهُٰم فَيُؤخَذُ باِلنَّوَصِی وَالأقدَامِ»(2).

ويمكن أن يكون القاسم المشترك بينهما نوعاً من العذاب الواقع على الأجساد في الآخرة حذر الإمام منه في النص المذكور، إذ يؤخذ بالنواصي والأقدام من المجرمين فيلقون في النار(3)، أو تُأمر بذلك، ويأتي توظيفه علیه السلام للناصية لدلالتها على الانقياد، وارتباطها بمفهوم الذّل عند الإنسان، فهي علامة لقهره؛ لتقدمها وعلوها على سائر أعضاء الجسد من واجهة الإنسان(4).

ويعد استعمال لفظ الناصية غنياً بالأثر القرآني في اقتباسه لفظياً ومعنوياً في نهج البلاغة(5)، ويلحظ أن الإمام قد استعمله في النصين المذكورين ونصوص أُخر(6) لمعانٍ وعظية وإرشادية في سياق تحذير الذات الإنسانية من الخطر المحدق بها في

ص: 40


1- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 10 / 120، وينظر: المفردات في غريب القرآن: 2 / 434
2- الرحمن: 41
3- ينظر: الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي: 19 / 58
4- ينظر: الإنسان الكليات والجزئيات في القرآن الكريم دراسة دلالية، سلام محمد ياسين الحيحي، (رسالة ماجستير): 142
5- ومن ذلك قوله تعالى: «مَّا مِن دَآبَّةٍ إلِا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا» هود: من الآية: 56، وقول الامام علیه السلام: «بِيَدِكَ نَاصِيَةُ كُلِّ دَابَّة»
6- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 253، خ 108. و 2 / 169، ك 27

الدنيا والآخرة؛ لأن هذا الموضع يخشى عليه الإنسان؛ لارتباطه بمفهوم العزة والشرف، واشتراكه بأصل الارتفاع مع الرأس ظاهراً، ومركز التخيّر باطناً.

وبعد الاطلاع على النصوص التي ورد فيها جزء الناصية في النهج وكذلك ما ورد في القرآن الكريم لم يرَ الباحث ما يؤيد المعنى اللغوي للناصية على أنّها (قصاص الشعر) الذي وجده فيما وقع بيده من المعجمات والكتب اللغوية، وربما وجد ضالته في إشارات وجدت في لسان العرب، إذ قيل إنّ: «الناصِية عند العرب مَنْبِتُ الشعر في مقدَّم الرأْس لا الشعَرُ الذي تسميه العامة الناصية وسمي الشعر ناصية لنباته من ذلك الموضع»(1)، وكذلك قول الفيومي (ت 770 ه): «وتسميتهم كل موضع باسم يخصه كالصريح في أن الناصية مقدم الرأس... ومن كلامهم: جزّ ناصيته وأخذ بناصيته، ومعلوم أنه لا يتقدر»(2)، إذن الضابط فيها المشاهدة؛ لذا فإن الباحث يُرجّح أنَّ الناصية أوسع من أن تحدّ بقصاص الشعر أو مقدمته، وإلاّ كيف تحدّ عند غير المشعر، وكيف يؤخذ بالنواصي، وكيف تكون كَاذِبَة خَاطِئَة في قوله تعالى:

«كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ»(3).

ولكن لو أخذنا التوسع ودققنا في دواعي الاستعمال على قصدية الظاهر والباطن لكان فهم النصوص يسيراً؛ إذ إنَّ الناصية هي الجهة العليا للوجه ظاهراً، أمّا باطناً فإن مركز التعقل والإدراك في باطنها، كما يتضح من (الشكل 2)، وبذلك تكون وسيلة التفكر، فكأنَّا دلَّت على حقيقة الإنسان(4)، وهذا لا

ص: 41


1- لسان العرب: 15 / 327
2- المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ (ت 770 ه): 233
3- العلق: 15، 16
4- ينظر: التحقيق في كلمات القرآن، حسن مصطفوي: 12 / 165

يتعارض مع الأصل، ففي المثال الأول والثاني للإمام المشفوع بالاقتباس القرآني يمكن أن يكون الأخذ مادياً أو معنوياً في كلا النصين(1).

(الشكل 2) يوضح موقع الناصية وقد أثبتت بعض بحوث الإعجاز العلمي صحة هذا الرأي، إذ ذُكر أنّ قشرة الفص الجبهي للدماغ أو الناصية هي المختصة بالتحكم في القيام بعمل ما، وهي التي تتحكم بسلوك الإنسان(2)؛ إذ أثبت عدد من العلماء في جامعة بنسلفانيا بالمسح المغناطيسي الوظيفي للدماغ أن المنطقة الأمامية من الدماغ أو منطقة الناصية هي المسؤولة عن الكذب والصدق في الدماغ أيضاً(3)، و (الشكل 2)(4) يبيّن موقع الناصية بوضوح.

أما لفظ القتير فقد وظّفه الإمام علیه السلام في قوله:

ص: 42


1- ينظر: لسان العرب: 3 / 470
2- ينظر: الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ، دراسة إعجازية لسورة العلق، د. محمد يوسف سكر، بحث منشور بموقع الهيأة العالمية للإعجاز العلمي .www.eajaz.org
3- ينظر: ناصيتي بيدك: عبد الدائم الكحيل، بحث منشور في موقعه .www.kaheel.com
4- موقع عبد الدائم الكحيل، على الشبكة العنكبوتية .www.kaheel.com

«أَیُّهَا اَلْیَفَنُ اَلْکَبِیرُ، اَلَّذِی قَدْ لَهَزَهُ اَلْقَتِیرُ».

لتوجيه السؤال إلى من وصل إلى مرحلة الشيخوخة وبانت علاماتها عليه في سياق الترهيب من نار جهنم، واللّهْز: الضّْرب، ويقولون: لهَزَهُ القَتيِر: فَشَا فيِه(1)، ولتأكيد ذلك استعمل علیه السلام الحرف (قد) للتحقيق، وكأنّه يخبر بأنَّ الشيب متحقق بعد ذلك وواقع، وسياق الكلام يدل على ذلك؛ إذ ورد اللفظ في سياق يشير إلى تغيير لون الشعر من السواد إلى البياض إيذاناً بضيق الوقت والتقدم في العمر؛ لإظهار الضعف عند بلوغ هذه المرحلة، ويمكن ترجمة ذلك على أنَّه لغة إشارية تداولية الغرض منها التذكير والموعظة، فقد قيل: «يشيب ابن آدم ويشبُّ فيه خصلتان: الحرص وطول الأمل»(2)، وقد يسأل سائل: لَم يستعمل لفظ الشيب بدلاً عن القتير؟ ويمكن الإجابة عن ذلك بأنّه علیه السلام لو فعل ذلك لانتفى المغزى من الاستعمال، ذلك أنَّ القَتِيرُ أَوّل مظهر من الشَّيْبُ يخالط سواد الشعر(3)، و «المشيبُ:

دخولُ الرَّجُل في حدِّ الشِّيبِ من الرِّجال ذوي الكِبَر والشَّيب»(4)، وبذلك لا تتحقق الفائدة من وعضه ونصحه، فالشيب أحد نعوت الشعر وقد يسمى به، والإمام أراد الدلالة الزمنية لبدء الشيخوخة ببزوغ الشيب في الشخص بأكمله بدلالة الفعل (لهزّ)، وهذا لا يتحقق مع غلبة الشيب ونعت الشعر به.

ويظهر من دراسة لفظ الشعر وما يلحق به من الألفاظ عند الإنسان أنها قد وضعت في نمط للاستعمال استوعب دلالة الاستعلام وما يتعلق به، فالشعر علامة على الحج بإعفائه وعلامة على الفقر بشعثه، والقتير علامة على الكبر وبلوغ الشيب

ص: 43


1- ينظر: مقاييس اللغة: 5 / 216. والعين: 4 / 14
2- بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار، العلّامة محمد باقر المجلسي: 70 / 22
3- ينظر: لسان العرب: 5 / 73
4- مقاييس اللغة: 3 / 232، وينظر: المفردات في غريب القران: 1 / 560

بدايةً، والناصية علامة على السيطرة وتسليم الآخر لله وحده، أما السياقات التي وظّفت فيها هذه الألفاظ فهي دينية بحتة، وقد تميز فيها استعمال لفظ الناصية بالأثر القرآني مطلقاً، سواء أكان لفظياً أم معنوياً.

ص: 44

المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الوجه وما يلحق به

يعدّ وجه الإنسان مرآته وهويته وعنوانه، إذ يرسم صورة كاملة عما يفكر ويشعر به، وقد أثبتت الدراسات أنه يرسم صورة كاملة عما نفكر ونشعر به في داخلنا، وهو وسيلة مهمة لإيحاء بعض الرسائل، كالثقة بالنفس، والتأثير على الآخرين، والتعبير عن إرادة الاتصال...الخ(1)، ونظراً لما ينماز به الوجه من أهمية، ولكثرة شواهده في نهج البلاغة؛ فقد وجد الباحث ضرورة لدراسته بمبحث منفصل يضمّ ألفاظاً لأجزاء من قرص الوجه استعملها الإمام علیه السلام في كلامه وهي (الجبهة، الخد، صفحة الوجه(2)، الوجه)، وسوف يكون وَكد البحث الكشف عن دلالات هذه الألفاظ ومزايا الاستعمال لهذه الأجزاء، ومن شواهدها التي خصَّ بها الإنسان مايأتي:

- الوجه: ذكره الإمام علیه السلام ثمان وأربعين مرة(3)، انفرد بنصفها الإنسان، منها

ص: 45


1- ينظر: أسرار لغة الجسد، ليلى شحرور: 224
2- الصفحة لا تكون جزءاً من الوجه إلا بكونها مضافة له، وقد ذُكرت مرة في شاهد مع اللفظ الدال على الوجه، وأخرى مطلقة في نهج البلاغة
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 180، خ 88، 1 / 281، خ 120، 1 / 299، خ 128، 1 / 329، خ 144، 1 / 351، خ 108، 1 / 354، خ 153، 1 / 408، خ 173، 1 / 425، خ 180، 1 / 425، خ 180، 1 / 263، خ 112، 1 / 458، خ 190، 2 / 103، خ 238، 2 / 167، ك 27، 2 / 167، ك 27، 2 / 289، ك 97 ، 2 / 352 ، ح 196 ، 2 / 38، خ 216، 2 / 383، ح 339، 2 / 385، ح 352، 2 / 48، خ 219، 2 / 50، خ 220، 2 / 68، ك 231، 2 / 96، خ 238

قوله يحذر من الدنيا:

«مَا بَالُکُمْ... یُقْلِقُکُمُ اَلْیَسِیرُ مِنَ اَلدُّنْیَا یَفُوتُکُمْ؛ حَتَّی یَتَبَیَّنَ ذَلِکَ فِی وُجُوهِکُمْ...»(1).

وقوله علیه السلام في حكمة له:

«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِی فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ»(2).

- الجبهة: ذُكرت أربع مرات في كلام الإمام علیه السلام(3)، منها قوله قاصداً به أهل الكوفة بكتابه:

«مِنْ عَبْدِاللّهِ عَلِیٍّ أَمِیرِالْمُؤْمِنِینَ إِلَی أَهْلِ الْکُوفَهِ، جَبْهَهِ الْأَنْصَارِ وَسَنَامِ الْعَرَبِ...»(4).

وقوله علیه السلام يحمد الله:

«الْحَمْدُ لله خَالِقِ الْعِبَادِ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ... هُوَ الاَوَّلُ لَمْ يَزَلْ، وَالْبَاقي بِلا أَجَلٍ، خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ، حَدَّ الأشْيَاءَ عِنْدَ خَلْقِهِ لَهَا إبَانَةً لَهُ مِنْ شَبَهِهَا...»(5).

- الخد: ورد ذكره ثمان مرات(6)، منها قول الإمام علیه السلام في عهد له کتبه للأشتر النَّخَعي (رحمه الله) لمّا ولاه على مصر وأعمالها:

ص: 46


1- المصدر نفسه: 1 / 263، خ 112
2- المصدر نفسه: 2 / 312، ح 26
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 218، خ 96، 1 / 445، خ 186
4- المصدر نفسه: 2 / 127، ك 1
5- نهج البلاغة: 1 / 385، 164
6- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 136، خ 68، 1 / 163، خ 82، 2 / 88، خ 237، 2 / 68، خ 231، 2 / 96، خ 238، 1 / 136، خ 68

«فَلاَ تُشْخِصْ هَمَّكَ عَنْهُمْ، وَ لاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ، وَ تَفَقَّدْ أُمُورَ مَنْ لاَ یَصِلُ إِلَیْكَ مِنْهُمْ...»(1).

وقوله علیه السلام في أصحاب رسول الله:

«لَقَدْ رَأَیْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ (صلی الله علیه)، فَمَا أَرَی أَحَداً یُشْبِهُهُمْ مِنْکُمْ، لَقَدْ کَانُوا یُصْبِحُونَ شُعْثاً غُبْراً؛ وَ قَدْ بَاتُوا سُجَّداً وَ قِیَاماً، یُرَاوِحُونَ بَیْنَ جِبَاهِهِمْ وَ خُدُودِهِمْ، وَ یَقِفُونَ عَلَی مِثْلِ اَلْجَمْرِ مِنْ ذِکْرِ مَعَادِهِمْ...»(2).

ولمعرفة دلالات هذه الألفاظ لابد من تقصي المعنى اللغوي لها، فالوجه منها من الجذر (و ج ه) وله «أصلٌ واحد يدلُّ على مقابلةٍ لشيء، والوجه مستقبِلٌ لكلِّ شيء، يقال وَجْه الرّجلِ وغَيره، وربَّما عُبِّر عن الذات بالوَجْه»(3)، وفي خلق الإنسان للأصمعي جاء «الوجه يقال لجماعته المُحيّا يقال فلان جميل المُحيّا، فأعلاه قصاص الشعر وهو منتهى منبت الشعر من مقدم الرأس ومن مؤخره»(4)، وعلى ذلك فهو مشتمل على أجزاء كثيرة ووظائف أكثر استمد منها الإنسان الأول أكثر من ألفاظ لغته المنطوقة والصامتة التي نقف عند بعضها اليوم عاكفين على دراستها.

أمّا الجبهة فقد حددها الخليل ب «مستوى ما بين الحاجبين إلى الناصية...»(5)، وهي من الجذر (ج ب ه) عبّر عنه ابن فارس بأنه «كلمةٌ واحدة، ثمَّ يشبَّه بها، فالجبهة: الخيلُ. والجَبْهَة من الناس: الجماعةُ، والجَبهة: كوكبٌ... ومن الباب قولهم جَبَهْنا الماء إذا وَرَدْناه وليست عليه قامةٌ ولا أداة، وهذا من الباب؛ لأنّم

ص: 47


1- المصدر نفسه: 2 / 275، ك 53
2- المصدر نفسه: 1 / 218، خ 96
3- مقاييس اللغة: 6 / 88
4- خلق الإنسان: الاصمعي، 187. وخلق الإنسان: ثابث، 98، وخلق الإنسان: الزجاج، 44
5- العين: 3 / 395

قابَلُوه...»(1)، وقال ثابت الجبهة من الإنسان «موضع السجود، وإذا رأيت في الجبهة كسوراً فتلك غضونها، وهي أسِرَّتُها، فإذا ضخمت جبهة الرجل قيل: رجلٌ أجبهُ، والجبهة يكتنفها الجبينان(2) من جانبيها»(3)، وما يلحظ أن ابن فارس لم يذكر الجبهة بالمعنى الذي ذكره الخليل أو ما زيد على ذلك في خلق الإنسان، على الرغم من ورودها بحقيقة اللفظ في قوله تعالى:

«يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(4).

فالجبة أول جزء من الإنسان يعلو وجهه، ويتلو ذكره في نهج البلاغة الخدّ.

وقد حدده الخليل «من لدن المحجر إلى اللحى من الجانبين»(5)، وأصله من الجذر (خ د د) وله «أصلٌ واحدٌ، وهو تأسُّلُ الشَّءِ وامتدادُه إلى السُّفل، فمن ذلك الْخَدّ خدّ الإنسان، وبه سُمِّيت المِخَدّة... والتخدُّد: تخدُّد اللَّحم من الهُزال»(6)، وقيل «الخدان جانبا الوجه، وهما ما جاور مؤَخَّر العين إلى منتهى الشدق»(7)، وهو من أكبر أجزاء الوجه الظاهرة المكونة لقرصه، ويرتبط كل من الجبهة والخدّ مع الوجه بعلاقة الجزء من الكل.

وكانت طبيعة الاستعمال للفظ الوجه مختلفة عند الإمام، فهي تدور في بعضها

ص: 48


1- مقاييس اللغة: 1 / 503
2- ذكر الرضي في نهج البلاغة وصف جبين الإمام مرة واحدة في تقديمه لخطبة رقم (183) بحسب تسلسل محمد أبي الفضل
3- ينظر: خلق الإنسان: ثابت، 100 - 99
4- التوبة: من الآية 35
5- العين: 4 / 138
6- مقاييس اللغة: 2 / 149
7- ينظر: المخصص: 1 / 90، والمفردات في غريب القران: 1 / 138

على ما ينتابه وما يبدو عليه من أحوال يمكن معرفتها من باب مقابلة وجه الإنسان ومن أمثلتها: الوجه الفَرِح(1)، والوجه الودود(2)، والوجه المتقلب(3)، والوجه الكريم(4)، والوجه العابس(5)، والوجه الذليل(6)، والوجه المتلون(7)... ونحو ذلك، فهذا اللوح الحساس الذي تنطبع عليه مشاعر الإنسان وأحاسيسه وتترجم على شكل علامات تبعث برسائل كاشفة عن باطن المرء(8)، وهذا ما يدرج تحت مسمى لغة الجسد، أو اللغة الصامتة اليوم، وهي من الدراسات الحديثة في عصرنا، لكننا وجدنا أمير المؤمنين علیه السلام قد ساق لها كثيراً من الشواهد في نهج البلاغة قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة، فاستعمل علیه السلام الوجه من بين الأجزاء الأخُر كمرآة تعرض هذه اللغة، فهو القائل في النص الأول للوجه: «حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذلِكَ فِی وُجُوهِكُمْ»، وكلام الإمام فيه تصريح لا تلميح بأن الوجه تظهر عليه سيماء ما يدور في خلجات النفس الإنسانية، فتعبيرات الوجه أحياناً تغني عن الكلام(9)، إذ إنّ أعضاءه تكون نظاماً متكاملاً يُسهم كل منها في تكوين المظهر الكلي للوجه الذي تؤدي تعابيره دوراً مهماً بوصفها مصدراً للبيانات المتعلقة بالحالات الانفعالية للإنسان، كالفرح والحزن والخوف والغضب... ونحو ذلك(10)، فالصورة تصبح أكثر فعالية عندما

ص: 49


1- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 383، ح 339
2- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 167، ك 27
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 354، خ 153
4- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 50، خ 220، 2 / 385، ح 352
5- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 38، خ 216
6- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 425، خ 180
7- ينظر: ن المصدر نفسه هج البلاغة: 2 / 48، خ 219، 1 / 281، خ 120
8- ينظر: أسرار لغة الجسد: 224
9- ينظر: لغة الجسد في القران الكريم، أسامة جميل عبد الغني ربايعة، (رسالة ماجستير): 20
10- ينظر: المصدر نفسه: 46

نأخذ الوجه بكامله؛ إذ تٌمْزج كل الإشارات معاً لتحديد مواقف الآخرين وأفكارهم وما يجول في خاطرهم عند مراقبة الجزء الذي يقوم بهذه الإيماءات(1)، مثل الوجه في النص أعلاه، قال تعالى:

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(2).

وما جاء في الآية الكريمة يؤيد بيان علامات ما يخفي الإنسان على الوجه سواء أكان ذلك بأثر ظاهر أم باطن.

أما النص الآخر فيتجلى فيه استعمال الوجه بوصفه وسيلةَ تخاطُبٍ في فكر الإمام إذ يقول علیه السلام:

«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِی فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ».

وصفحات جمع صفحة(3)، و «صَحِيفة الوجه، بَشرَته وما أقْبَل عليك منه»(4)، وجاء استعمالها متعلّقاً بالإضمار في النص، والذي دلّ على الصراع القائم في نفس الإنسان بين اللغة المنطوقة وغير المنطوقة؛ لذا يستعمل بعض الناس الوجه في مثل هذه الأحوال بوصفه قناعاً اجتماعياً لإخفاء بعض العواطف أو حينما يجدون

ص: 50


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 19
2- الفتح: من الآية 29
3- استعمل الأمام صيغة أخرى لجمع صفحة في قوله «يَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد، قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ»
4- المخصص: 1 / 89، وينظر: لسان العرب: 2 / 512

أنفسهم في حالة اجتماعية مربكة أو غير ملائمة(1)، وفي مثل هذه الأحوال يجب أن يُستلهم معنى الخطاب من الخارج ليكتسب قيمة رمزية تنبع من التجارب الفردية والإيحاء ما يتطلب حضور أطراف الخطاب حضوراً عينياً(2)؛ لأن حضور طرفيه أصل فيه، فقد قيل إنّ للحقائق ثقلاً يقع عبؤها على القلوب، وكلّما كان السرّ أستر كان على القلب أثقل، فيضيق ويضغط حتّى يتخللّ روح الإنسان، فيظهر على صفحة الوجه نتيجة الوجدان الباطني الّذي هو من أثر الأسرار الكامنة في القلب(3)، إذ إنّ معظم عضلات الوجه تقوم بوظيفة إظهار الانفعالات التي تظهر على الوجه؛ لذا فعند تلف التجهيز العصبي لهذه العضلات من جرّاء الأمراض يفقد الوجه قابلية التعبير عن الانفعالات التي تظهر عليه(4)، وعلم الفراسة اختص بلغة الجسد إذ يقوم بالانتباه على الملامح المرئية للوجه فقد قال أحد الباحثين: «لم تعط الطبيعة الإنسان الصوت واللسان فحسب ليستخدمها وسيلة للتعبير عن أفكاره ومشاعره ومكنونات نفسه، بل استنطقت حتى جبهته وعينه لكي تكذباه إذا حاول الغش بصوته ولسانه»(5)، فصفحات وجه الإنسان هي الواجهة التي تفصح عن نواياه الأكثر سراً(6)، وقد أثبتت الدراسات المعمقة في لغة الجسد أنّ هناك عضلات معينة في الوجه يصعب التحكم بها وهذه العضلات هي المسؤولة عن كشف الكذب والخداع، فتعابير الوجه تُحرّك لا إرادياً تبعاً لغرائز الإنسان(7)،

ص: 51


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 225
2- ينظر: استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية، عبد الهادي بن ظافر الشهري: 25
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 43
4- ينظر: علم التشريح: 233
5- ينظر: علم الفراسة (قراءة الوجه والأفكار والحاسة السادسة): خليل حنا تادرس: 9، 93
6- ينظر: السيميائيات مفاهيمها وتجلياتها، سعيد بنكراد: 191
7- ينظر: أسرار لغة الجسد: 179 - 180

لذا يمثل استعمال الوجه وصفحته في قول الإمام المذكور أعلاه حكمة يستنار بها في الدراسات اللسانية، ووسيلة دالة للكشف عن الصدق والكذب بوساطة اللغة الصامتة والمنطوقة، والعلاقة بينهما؛ لأنّ الخطاب قد ينتج بعلامات غير لغوية ما يفترض معرفة شروط إنتاجه وظروفه(1)، إذن توظيف صفحة الوجه في قول الإمام أُريد منه الدلالة على ظهور المعنى على صفحة الوجه، وبعد هذا لم يبق لنا إلا أن نكرر قول ابن فارس بأن لصفحة الوجه «أصلٌ يدلُّ على عَرْض وعِرَض»(2)؛ فقد استعملها الإمام علیه السلام على أنها مرآة عرض؛ لما يظهر عليها من العلامات غير اللغوية؛ لاشتمالها على أغلب أجزاء الوجه، ولابد من الإشارة هنا إلى أن الإمام استعمل الوجه لدلالات أُخر متعلقة بما يواجه به أو يواجهه وإن الفروع الدلالية المذكورة في النهج كلها نابعة عن هذا الأصل وترتبط به بعلاقات متباينة ذُكر بعضها وهناك أُخر في نصوص كثيرة(3) لا يسعنا ذكرها هنا.

وقد كان توظيف الجبهة في نهج البلاغة باستعمالين مختلفين، الأول منها جاء في الشاهد الأول، وهو قوله علیه السلام:

«جَبْهَة الأنْصَارِ وَسَنَامِ الْعَرَب».

وقد قصد الإمام بها أهل الكوفة بكتاب له، فكلمة الجبهة في النص أراد بها علیه السلام سادة القوم وأعيانهم، وهذا يوافق ما ذكره ابن فارس في تسمية أعيان الناس

ص: 52


1- ينظر: استراتيجيات الخطاب: 39
2- مقاييس اللغة، 3 / 293
3- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 351، خ 108، 1 / 458، خ 190، 2 / 289، ك 97، 1 / 299، خ 128، 2 / 352، ح 196، 1 / 425، خ 180، 2 / 383، ح 339، 2 / 167، ك 27، 1 / 354، خ 153، 2 / 50، خ 220، 2 / 385، ح 352، 2 / 38، خ 216، 1 / 425، خ 180، 2 / 48، خ 219، 1 / 281، خ 120

بالجبهة وتسميتهم بذلك كتسميتهم بالوجوه(1)، لعلو شأنهم، وجاء في لسان العرب ما يؤيد ذلك إذ قيل أن الجَبْهة: هم الرجال الذين يَسْعَون في حَالةٍ أَو مَغْرَم أَو جَبْر فقير فلا يأْتون أَحداً إِلا استحيا من رَدّهم، وقيل لا يكاد أَحدٌ يَرُدُّهم، فتقول العرب في الرجل الذي يُعْطِي في مثل هذه الحقوق: رحم الله فلاناً فقد كان يُعْطي في الجَبْهة(2)، وهذا الاستعمال من باب التوسُّع في دلالة اللفظ؛ إذ لم يظهر في معجمات عصر التدوين.

أما الاستعمال الآخر لجبهة الإنسان فتنضوي تحته حركات ثلاث هي (افتراش الجباه على الأرض، وسجودها، وسقوطها لله)، والحركة الأولى والثانية لها لواحق جسدية نذكرها في مواضع أخرى من البحث، وأمّا الثالثة فشاهدها قول الإمام علیه السلام:

«خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ، وَوَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ».

فالجباه جمع للجبهة(3)، وخَرَّتْ الجباه أي جباه بني آدم سقطت ساجدة له(4)، وللفعل خرّ أصلٌ واحدٌ وهو اضطرابٌ وسُقوطٌ مع صوتٍ(5)، فاستعمال الفعل خرّ مع الجباه لا يخلو من أمرين هما: السقوط، وصدور الصوت منهم بالتوحيد، فالجبهة تمثل إحدى سمات الاستعلاء عند الإنسان؛ لأنها قمة الوجه الظاهرة، وأقرب جزء علوي من الوجه إلى قصاص الشعر، والجبهة موضع السجود الذي ترتبط به ممارسة دينية صوتية مصاحبة لفعله، أكدها ذكر توحيد الشفاه لله بعد عبارة (خَرَّتْ لَهُ الْجِبَاهُ)، فضلاً عن التمهيد لذلك بالحمد والثناء لله قبلها كي

ص: 53


1- ينظر: مقاييس اللغة: 1 / 503
2- ينظر: لسان العرب: 13 / 484
3- ينظر: المخصص: 1 / 76
4- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 22
5- ينظر: مقاييس اللغة: 2 / 149

يتحقق الاضطراب، ونجد في القرآن الكريم أصلاً لهذا المنوال في قوله تعالى:

«إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ»(1).

فقد أراد علیه السلام من استعمال هذه الهيأة الجسدية دلالة العبودية المرافقة لفعل السجود لله الذي يقصده صاحب الحركة لا غير، ويلحظ في استعمال الإمام لهذا الجزء من الوجه في الشواهد الأخُر(2) ارتباطه بحركة الإنسان وحال من أحواله يدلّ على العبادة والتقديس من جهة أو الخوف والذل من جهة أخرى؛ لأن هذه الحركة تارة تكون تعبدية وتارة أخرى خدمية؛ لارتباطها بمقدمة أعلى وجه الإنسان وشرفها.

ويبدو أن الجبهة ليست هي الوحيدة التي استعملها الإمام لأغراض عبادية، فإذا ما توجهنا بالنظر إلى أسفل الجبهة نجد جزءاً ارتبطت به نظارة الإنسان وهو الخد، وقد جاء في كلام أمير المؤمنين علیه السلام بمفرده ومثناه وجمعه، ومن المفرد قوله علیه السلام في النص الأول للخدّ:

«وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لَهُمْ».

وهذه العبارة من عهد له كتبه للأشتر النَّخَعي (رحمه الله) لمّا ولاه على مصر وأعمالها ومن دون شك فإنّ لعبارة (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) وقعاً بالغ التأثير في نفس المتلقي؛ لما فيها من مفهوم قرآني يرتبط بقوله تعالى:

«وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ»(3).

فتصعّر الخد في النهج يعدّ اقتباساً قرآنياً لفظياً، وأصل هذا من الصّعر وهو داء

ص: 54


1- السجدة: 15
2- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 218، خ 96. و 1 / 445، خ 186
3- لقمان: من الآية 18

يأخذ الإبل تلوي منها أعناقها فقيل هكذا للمتكبر من باب الكناية؛ لأنه يلوي عنقه تكبراً ولا داء به(1)، وهو في الإنسان ميل في العنق، وانقلاب في الوجه إلى أحد الشقين، مع إمالة الخد عند النظر إلى الناس تهاوناً من كبر وعظمة، وإعراضاً عن الناس(2)، إذن فالإمام قصد من الخد جهته وشيئاً معنوياً موصوفاً به وهو اللين وامتيازه به؛ لذلك يقال: خد أسيل: سهل لين(3).

أما من جهة استعمال الخدّ للعبادة فيوضحه الشاهد الثاني، ومنه نقرأ قوله علیه السلام:

«قَدْ باَتوُا سُجّدا وَقِيَاما،ً يُرَاوِحُونَ بَيْنَ جِبَاهِهِمْ وَخُدُودِهِمْ».

وفي هذا الكلام يوظّف الإمام حالاً من أحوال الخد في ممارسة عبادية، فالمُرَاوحة بين العملين: أن يعمل هذا مرة، وهذا مرة، وبين جباههم وخدودهم أن يضعوا الخدود على الأرض بعد الصلاة مرة ويسجدون على الجباه أخرى دلالة على الخضوع والتذلل لله سبحانه(4)، ويأتي ارتباط الخد بهذه الدلالة؛ ليمثل عظمة إنسانية فذة نابعة من أنبل عواطف الإنسانية القادرة على إنتاج أقوى الروابط الدينية بين الرسول وأصحابه على الإطلاق(5)؛ إذ يبدو أنّ الإمام علیه السلام قد استعمل مزيتي الخد المكانية وثنائيته في الوجه لتحديد دلالاته(6)، فهو يمثل عارضة لوجه الإنسان بجانبيه؛ لذا ارتبط بدلالة الإمالة، وعلاقتها بمفاهيم الخضوع والخشوع... ونحو ذلك.

ص: 55


1- ينظر: معاني القرآن الكريم، أبو جعفر النحاس (ت 338 ه)، 5 / 287
2- ينظر: العين: 1 / 298
3- ينظر: المصدر نفسه: 7 / 301
4- ينظر: نهج البلاغة: تح: فارس الحسون، 186، والزاهر في معاني كلمات الناس، أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت 328 ه): 2 / 116
5- ينظر: في رحاب نهج البلاغة، مرتضى المطهري: 144
6- ينظر: على سبيل المثال لا الحصر: نهج البلاغة: 1 / 136، خ 68، 1 / 163، خ 82، 2 / 88، خ 237، 2 / 68، خ 231 68/2 ، خ 231

وبعد بيان ما تيسر من لغة الجسد لبعض أجزاء الوجه في فكر الإمام، والدلالات الأخُر المتعلقة به، يبدو للباحث أنّ الوجه بكامل أجزائه به حاجة إلى دراسة مستقلة؛ لما يحمله من غوامض سيميائية وأبعاد دلالية في كلام الإمام علیه السلام، وقد جاءت أغلب شواهد الألفاظ الدالة على وجه الإنسان وأجزائه في سياقات الوعظ والعبادة، وورد لفظ الوجه بما يمثل دلالة مايجول في خاطر الإنسان ويعبر عن هويته الداخلية في بعض الشواهد، وارتبطت بعض أجزائه بحركات أو أحوال لها دلالات تعبدية مثل الجبهة، وارتبط الخدّ بدلالة الخضوع والخشوع؛ لما يصاحب هذا الجزء من حركات وإشارات مرمزة في وجه الإنسان نتيجة علاقاته بأجزاء الجسم الأخُر.

ص: 56

المبحث الثالث الألفاظ الدالة على العين وما يلحق بها

العين نافذة الإنسان على ما يحيط به؛ إذ إنَّ الاتصال بالعين يزوده بمعلومات عدّة منها ما كان معرفياً أو عاطفياً... الخ؛ لأنَّ إشارة العين جزء مهم وحيوي في قراءة تصرفات الشخص وأفكاره على أساس النظر بالعين؛ لارتباط حركة العين بالتفكير الشخصي، وقد انشغل القدماء عبر التاريخ بأسرار الأعين وتأثيرها في تصرفات الإنسان، فيصف ابن حزم (ت 654 ه) الثراء الدلالي للعين بقوله:

«فالإشارة بمؤخر العین الواحدة نهی عن الأمر وتفتیرها إعلام بالقبول، وإدامة نظرها دلیل علی التوجع والأسف، وکسر نظرها آیة الفرج، والإشارة إلی إطباقها دلیل علی التهدید، وقلب الحدقة إلی جهة ما ثم صرفها بسرعة تنبیه علی مشار إلیه، والإشارة بمؤخر العینین سؤال، وقلب الحدقة من وسط العین إلی المآقی بسرعة، شاهد المنع، وترعید الحدقتین من من وسط العین نهی عام...»(1)، وإذا دققنا النظر في المتن المدروس (نهج البلاغة) لاحظنا عناية الإمام بالعين وألفاظها على الرغم من قدم هذه المدونة، وظهر ذلك في اشتمالها على عدد كبير من الألفاظ الدالة على العين وأجزاء كثيرة منها، وهي: (الجفن، الطرف، اللحاظ(2)، المقلة، الحدقة،

ص: 57


1- طوق الحمامة فی الألفة والآلاف، محمد بن علی بن حزم الأندلسی: (ت 456 ه): 29
2- لم يذكر الإمام هذا الجزء بالبنية المذكورة، ولكن من مصاديق اهتمام الإمام علیه السلام بهذا اللفظ ذكره بمشتقات من لفظ اللّحاظ، دالة عليه وعلى فعله، ومن ذلك (اللحظة، ولاَحِظاً) في قوله علیه السلام عن خلق الإنسان: «ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافظِاً، وَلسِاناً لافَظِاً، وَبَصَراً لاَحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً...»1، ( / 161، خ 82)، إذ يأتي لفظ (لاَحِظاً) صفة للبصر ضمن سلسلة من النعم التي أعطاها الله للإنسان إذ أعطاه عقلاً ونطقاً ونظراً، وفي نص آخر يدعو الله بالغفران للفعل من اللَّحْظ بقوله علیه السلام: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِی رَمَزَاتِ الألْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الألْفَاظِ، وَسهَوَاتِ الْجَناَنِ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ)، (1 / 146، خ 77)، واللَّحْظ هو النظر بشِقِّ العين الذي يلي الصدغ والألحاظ جمع لحْظ العين، وهذا ما ورد في جل الشروح، وفي المعجم لم يعرف له جمعٌ إلا (لُحُظ) بضمتين

الناظر، الأبصار، الدمع(1)، الشؤون)(2)، فضلًا عن كثرة استعمال النظر ومشتقاته، والبصر ومشتقاته؛ لذا سيكون هدف البحث الكشف عن الدلالات الكامنة وراء استعمال هذه الألفاظ بتوفيقه تعالى، أما عن طبيعة دراسة هذه الألفاظ فستكون على شكل ثلاث مجموعات خُصّ بها الإنسان، هي:

المجموعة الأولى:

تتضمن الألفاظ الدالة على العين وملحقاتها الظاهرة، وهي (العين، الجفن، والطّرْف)، ومن شواهدها:

ص: 58


1- ورد لفظ الدمع أربع مرات في كلام الإمام علیه السلام، ومنها كلامه عن المنافقين: «... لَهُمْ بِکُلِّ طَرِیقٍ صَرِیعٌ، وَ إِلَی کُلِّ قَلْبٍ شَفِیعٌ، وَ لِکُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ»، (1 / 450، خ 187)، وقوله علیه السلام: «وَبَقِيَ رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِكْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ»، (1 / 88، خ 32)، إلاّ أنه ليس من ملحقات العين الثابتة، فهو كالعرق الخارج من جسم الإنسان يخرج في أوقات محددة، فهو اسم للسائل من العين، حتى أن الإمام استعمل الدمع لدلالاتٍ ارتبطت بأسباب خروجه لا بمعنى الدمع في اللغة، وكان لابدَّ لهذا الماء من طالب، وهي الشؤون
2- ورد هذا اللفظ مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام عندما كان يَتولى غسل رسول الله وتجهيزه: «وَلَوْلَا أَنَّكَ أَمَرْتَ بِالصَّبْرِ، وَنَهَيْتَ عَنِ الْجَزَعِ، لَأَنْفَدْنَا عَلَيْكَ مَاءَ الشُّؤُونِ، وَلَكَانَ الدَّاءُ مُمَاطِلاً، وَالْكَمَدُ مُحَالِفاً...»، (2 / 93، خ 230) والشؤون هي مَا بينَ قبائل الرأس، الواحد شأن، وإِنَّما سمِّيتْ بذلك لأنَّها مَجارِي الدَّمع، كأنَّ الدَّمعَ يطلبُها ويجعلُها لنفسه مَسِيلاً» (مقاييس اللغة: 3 / 238)، ودلالتها ارتبطت بالدمع، كارتباط عملها؛ لذا سنعرض عن تحليل شواهدهما، كونهما ليس من ثوابت الجسم

- العَين: وردت اثنتين وستين مرةً(1)، ومنها قول الإمام علیه السلام في الحديث عن خلق الله:

«أَحْصَى آثَارَهُمْ وَأَعْمَالَهُمْ، وَعَدَدَ أنْفاسَهُمْ، وَخَائِنَةَ أعْيُنِهِمْ، وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ مِنَ الضَّمِيرِ، وَمُسْتَقَرَّهُمْ وَمُسْتَوْدَعَهُمْ مِنَ الأرْحَامِ وَالظُّهُورِ، إِلَى أَنْ تَتَنَاهَى بِهِمُ الْغَايَاتُ»(2).

وقوله علیه السلام في ذكر أصحاب النبي:

«لَقَد رَأَيتُ أَصحَابَ مُحَمّدٍ صلی الله علیه، فَمَا أَرَي أَحَداً يُشبِهُهُم مِنكُم... يُرَاوِحُونَ بَينَ جِبَاهِهِم وَ خُدُودِهِم، وَ يَقِفُونَ عَلَي مِثلِ الجَمرِ مِن ذِكرِ مَعَادِهِم؛ كَأَنّ بَينَ أَعيُنِهِم رُكَبَ المِعزَي مِن طُولِ سُجُودِهِم؛ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ هَمَلَت أَعيُنُهُم حَتّي تَبُلّ جُيُوبَهُم...»(3).

ص: 59


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 19، خ 1، 1 / 368، خ 158، 1 / 34، خ 3، 1 / 432، خ 183، 1 / 253، خ 238، 2 / 97، خ 238، 1 / 42، خ 7، 1 / 183، خ 180، 1 / 441، خ 184، 2 / 70، خ 232، 2 / 228. ك 45، 2 / 348، ح 171، 2 / 46، خ 281، 1 / 320، خ 138، 1 / 375، خ 161، 1 / 445، خ 186، 2 / 308، ح 7، 1 / 377، خ 161، 1 / 444، خ 186، 2 / 89، خ 32، 1 / 425، خ 180، 1 / 66، خ 192، 1 / 446، خ 186، 1 / 117، خ 52، 1 / 92، خ 34، 1 / 444، خ 186، 2 / 372، خ 282، 1 / 183، خ 89، 1 / 306، خ 132، 2 / 82، خ 236، 1 / 30، خ 3، 1 / 247، خ 108، 1 / 249، خ 108، 1 / 249، خ 108، 2 / 39 خ، 216 ، 2 / 44، خ 217، 1 / 113، خ 49، 2 / 92، خ 238، 1 / 452، خ 188، 1 / 359، خ 155، 1 / 247، خ 108، 1 / 281، خ 120، 1 / 137، خ 69، 1 / 377، خ 161، 2 / 25، خ 210، 2 / 222، ك 45، 2 / 143، ك 11، 2 / 204، ك 33، 2 / 252، ك 53، 2 / 252، ك 53، 2 / 275، ك 53، 2 / 249، ك 53، 2 / 277، ك 45، 2 / 263، ك 53، 2 / 373، ح 287، 2 / 359، ح 233، 2 / 375، ح 295، 2 / 375، ح 295، 2 / 375، ح 295، 2 / 389، ح 373
2- المصدر نفسه: 1 / 306، خ 132
3- المصدر نفسه: 1 / 218، خ 96

- الجفْن: جاء ذكره مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام عن قدرة الله:

«عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ... وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الجُفُونِ، وَ مَا ضَمِنَتهُ أَكنَانُ القُلُوبِ، وَ غَيَابَاتُ الغُيُوبِ...»(1).

- الطرْف: ورد ذكره سبع مرات(2)، ومنها قول الإمام علیه السلام يخاطب العباد ويصف حالهم في الدنيا:

«اضْرِبْ بِطَرْفِکَ حَیْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ، فَهَلْ تُبْصِرُ إِلاَّ فَقِیراً یُکَابِدُ فَقْراً، أَوْ غَنِیّاً بَدَّلَ نِعْمَهَ اللَّهِ کُفْراً»(3).

وقوله علیه السلام عن الإنسان عند الموت:

«فَصَارَ بَيْنَ أَهْلِهِ لاَ يَنْطِقُ بِلِسَانِهِ، وَلاَ يَسْمَعُ بِسَمْعِهِ يُرَدِّدُ طَرْفَهُ بِالنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ، يَرَى حَرَكَاتِ أَلْسِنَتِهِمْ، وَلاَ يَسْمَعُ رَجْعَ كَلاَمِهِمْ»(4).

أما معنى هذه الألفاظ في اللغة، فإنّ العين منها هي «العَيْن الناّظرة لكلّ ذي بصر»(5)، وهي للإنسان وغيره، والأصل اللغوي لها يشير إلى «أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على عُضوٍ به يُبْصَ ويُنظَر، ثم يشتقُّ منه، والأصلُ في جميعه ما ذكرنا»(6)، والجمع عيون وأَعْيان وأَعْيُن وأَعْيُنات والأخَيرة جمع الجمع والكثير عُيون(7)، أمّا الجفن فهو مشتق من الجذر (ج ف ن) وله «أصلٌ واحد، وهو شيءٌ يُطِيفُ

ص: 60


1- المصدر نفسه: 1 / 203، خ 90
2- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 374، خ 162، 1 / 235، خ 104، 1 / 444، خ 186، 1 / 423، خ 179، 2 / 46، خ 218
3- المصدر نفسه: 1 / 301، خ 129
4- نهج البلاغة: 1 / 251، خ 108
5- العين: 2 / 254، وينظر: خلق الإنسان: ثابت، 106
6- مقاييس اللغة: 4 / 199
7- ينظر: لسان العرب: 13 / 298

بشيءٍ ويَحْوِيه، فالجَفنُ جَفْنُ العين»(1)، الذي هو غطاءُ العين من أَعلى وأَسفل، والجمع أَجْفُنٌ وأَجفان وجُفونٌ(2)، وفي خلق الإنسان قيل أنَّه: «غطاء المقلة من أعلى وأسفل، والواحد جفن، وجماع لحم الأجفان يقال له اللخص»(3)، ومن ألفاظ ما تعلّق بحدود العين الطرْف، وهو من الجذر (ط ر ف) وله «أصلان: فالأوَّل يدلُّ على حدِّ الشيء وحَرفهِ، والثاني يدلُّ على حركةٍ في بعض الأعضاء، فالأوَّل طَرَفُ الشيء... ومن الباب: الطَّوَارِف من الخِباء، وهي ما رفعتَ من جوانبه لتنظُر...

وأمَّا الأصل الآخر فالطَّرْف، وهو تَحريك الجفون في النَّظَر. هذا هو الأصل ثم يسمُّون العينَ الطَّرْفَ مجازاً»(4)، ويعلل الراغب هذه التسمية بقوله «وطرْف العين:

جفنه، والطرْف: تحريك الجفن، وعبّر به عن النظر إذا كان تحريك الجفن لازمه النظر»(5)، وهذا لا يبتعد عن قول ثابت في خلق الإنسان: «وفي العين الطَّرْف، وهي تحرك الأشفار، يقال طرفتْ عينه تطرف طرفاً، والواحدة طَرْفَة»(6)، وقد ذكرها الإمام علیه السلام في النهج بقوله:

«لَوْلاَ الأجَلُ الَّذِی کَتَبَ اللّهُ عَلَیْهِمْ لَمْ تَسْتَقِرَّ أَرْوَاحُهُمْ فِی أَجْسَادِهِمْ طَرْفَهَ عَیْن»(7).

ويبدو أن تقارب طرف العين مع الجفن هو في معنى الإحاطة لكنه يفترق معه في الغاية من حركته.

ص: 61


1- مقاييس اللغة: 1 / 465
2- ينظر: لسان العرب: 13 / 89
3- خلق الإنسان، الأصمعي: 80
4- مقاييس اللغة: 3 / 447
5- المفردات في غريب القران: 2 / 23
6- خلق الإنسان، ثابت: 113
7- نهج البلاغة: 1 / 444، خ 186

وما ذكره الإمام في هذه المجموعة من الأجزاء كله يقع تحت الاسم الجامع (العين)، والتي تكرر ذكرها في نهج البلاغة خمساً وتسعين مرة، خصّ الإنسان منها باثنين وستين مرةً، منها قول الإمام في الشاهد الأول للفظ العين:

«أَحْصَی آثَارَهُمْ وَ أَعْمَالَهُمْ، وَ عَدَدَ أَنْفَاسِهِمْ، وَ خَائِنَهَ أَعْیُنِهِمْ».

وكلامه علیه السلام في النص يوضح علم الله جل جلاله بأدق الأشياء وأصغرها، ومن ذلك خيانة العين(1)، وقد ورد هذا المفهوم في القرآن الكريم من قوله تعالى:

«يَعلَمُ خَآئِنَةَ الأعيُنِ وَمَا تُخفِي الصُّدُورُ»(2).

ويكشف كلام الإمام بوضوح لا لبس فيه قرآنية النهج؛ لأن القرآن هو مصدر ثقافته الأول، وعلى الرغم من الفارق في التعبير والسياق بين النص والآية، فقد أُشير إلى ما تختلسه الأعين من نظرات، وما يضمره الإنسان في نفسه من خير أو شر، فجاءت خيانة العين مقترنة بما تخفي الصدور في النصين؛ لأن الإنسان إذا كفَّ لسانه وأشار بعينه فقد خان، فإذا كان ظهور تلك الحال من العين سُمِّيت خائنة العين، وليس المراد بخائنة الأعين كل معصية من معاصيها بل المعاصي التي لا تظهر للغير كمسارقة النظر بدليل ذكرها مع ما تخفي الصدور، أو ما تسره النفس وتستره من وجوه النفاق وهيآت المعاصي(3)، وقد أُخرج المصدر على (فاعلة) كقوله تعالى:

«لَّا تسَمَعُ فيِهَا لَغِٰيَةٗ»(4).

ص: 62


1- ورد هذا الاقتباس أيضا في نص آخر وهو قوله علیه السلام «نَحْمَدُهُ عَلَی مَا أَخَذَ وَ أَعْطَی، وَ عَلَی مَا أَبْلَی وَ اِبْتَلَی، اَلْبَاطِنُ لِکُلِّ خَفِیَّهٍ، وَ اَلْحَاضِرُ لِکُلِّ سَرِیرَهٍ، اَلْعَالِمُ بِمَا تُکِنُّ اَلصُّدُورُ، وَ مَا تَخُونُ اَلْعُیُونُ» 1 / 117، خ 52
2- غافر: 19
3- ينظر: الميزان في تفسير القرآن، محمد حسين الطباطبائي: 17 / 165
4- الغاشية:. 11

أَي لَغْواً ومثله سمعتُ راغِيَةَ الإِبل، أَي رُغاؤها، وكل ذلك من كلام العرب(1)، وقد جاءت خائنة على زنة (فاعلة)؛ للدلالة على اسم الآلة، وكأن العين آلة للخيانة أحياناً، فخيانة الأعين هي استراق النظر مع طأطأة الرأس، مما يوحي لمن يشاهد أنَّ هذا الشخص قصد إخفاء محاولته النظرَ إلى مالا يريد أن يعلمه من يشاهده أنه ينظر إليه، وهذه الحركة للجارحة هدفها التستر، وقد جاء التعبير عنها بالخيانة؛ حتى يوصل للسامع والمتابع شناعة الفعل فيبتعد عنه(2)، وفي النص الآخر يذكر الإمام علیه السلام الأعين مجموعة مرتين بقوله:

«کَأَنَّ بَیْنَ أَعْیُنِهِمْ رُکَبَ اَلْمِعْزَی مِنْ طُولِ سُجُودِهِمْ؛ إِذَا ذُکِرَ اَللَّهُ هَمَلَتْ أَعْیُنُهُمْ».

ودلالة الأولى مكانية لا تخصّ سمات العين ووظائفها؛ فقد جاء استعمالها لتحديد علامة تميز بها المتقون من غيرهم، ويبدو ذلك من قرينة الظرف والسياق، ويمكن أن يكون ذلك مستوحى من قوله تعالى:

«مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا»(3).

وأما الثانية فقد جاءت لتوضيح فعل ارتبط بالأعين لكن الإمام عبَّر عنه بالفعل همل وذلك من باب الكثرة والخشوع، ويمكن أن يكون ذلك مستوحى

ص: 63


1- ينظر: لسان العرب: 13 / 144
2- ينظر: لغة الجسد في القرآن الكريم: 33
3- الفتح: من الآية 29

من قوله تعالى:

«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ»(1).

قال ابن أبي الحديد «وهملت أعينهم سالت تهمل وتهمل، ويروى حتى تبل جباههم أي يبل موضع السجود فتبتل الجبهة بملاقاته...إما خوفاً من العقاب أو رجاء للثواب»(2)، وهذه حال معروفة في النفس البشرية حين يبلغ بها التأثر درجة أعلى من أن يفي بها القول فيفيض الدمع؛ ليؤدي ما لا يؤديه القول وليطلق الشحنة الحبيسة من التأثر العميق، ولا شك في أنّ للبكاء تأثيراً ما يفوق أي كلام يمكن أن يقال، وحال خروج الدمع من العين هذه قد أفادت دلالة الصدق والإخلاص بموازاة حركات جسدية تعبدية أُخر رافقت صدور الدمع(3)، في صورة معبرة للدموع وانسيابها من العين، ولذلك لم يقل الإمام: بكَتْ أَعْيُنُهُمْ، كقوله في موضع آخر:

«أُسَارَي ذِلّةٍ لِعَظَمَتِهِ، جَرَحَ طُولُ الأَسَي قُلُوبَهُم، وَ طُولُ البُكَاءِ عُيُونَهُم»(4).

ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ أكثر ما استعمل علیه السلام لفظ العين في الخطب، وللعين ببُناها المختلفة معانٍ ودلالات مختلفة استعمل الإمام أكثرها في نصوص نهج البلاغة الأخُر، فمنها ما دلّ على الجاسوس(5)، ومنها ما دلّ على الرؤية(6)، ومنها ما دلّ على

ص: 64


1- الأنفال: 2
2- شرح نهج البلاغة:ابن ابي الحديد، 7 / 78
3- ينظر: لغة الجسد في القرآن الكريم: 30 - 31
4- نهج البلاغة: 2 / 44، خ 217
5- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 368، خ 158، 2 / 143، ك 11، 2 / 204، ك 33، 2 / 252، ك 53، 2 / 252، ك 53، 2 / 275، ك 53، 2 / 263، ك 53، 2 / 373، ح 287
6- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 34، خ 3، 1 / 432، خ 183، 1 / 253، خ 238، 2 / 97، خ 238

النظر بالعين(1)، ومنها ما دلّ على امتناع النظر(2)، ومنها ما دلّ على قلته(3)، ومنها ما دلّ على النظر بكِبر(4)، ومنها ما دلّ على النظر باستصغار(5)، ومنها ما دلّ على الإدراك(6)، ومنها ما دلّ على قرة العين العين(7)، وحركتها(8)، وخيانتها(9)، وبكائها(10)، ومرضها(11)، وعماها(12)... وجُلّ المعاني يمكن إرجاعها بالمناسبة إلى ما يصدر من العين من أفعال النظر، والبصر، أو غير ذلك.

ويتجلى معنى الإحاطة في توظيف الإمام علیه السلام للفظ الجفن في نهجه، فقد ذكره بقوله عن قدرة الله:

«عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ... وَ مَسَارِقِ إِيمَاضِ الجُفُونِ».

وعبارة (مسارق إيماض الجفون) تعنى خفيات إشارة الجفون، أو المراد بالجفون

ص: 65


1- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 42، خ 7، 1 / 183، خ 180، 1 / 306، خ 132، 1 / 441، خ 184، 2 / 70، خ 232، 2 / 228. ك 45، 2 / 348، ح 171
2- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 46، خ 281
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 320، خ 138
4- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 375، خ 161، 1 / 445، خ 186، 2308، ح 7، 2 / 375، ح 295، 2 / 389، ح 373
5- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 377، خ 161، 1 / 444، خ 186، 2 / 89، خ 32، 2 / 222، ك 45، 2 / 359، ح 233، 2 / 375، ح 295
6- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 425، خ 180
7- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 66، خ 192، 1 / 446، خ 186، 2 / 249، ك 53، 2 / 277، ك 45
8- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 117، خ 52، 1 / 92، خ 34، 1 / 444، خ 186، 2 / 372، خ 282
9- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 183، خ 89، 1 / 306، خ 132
10- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 218، خ 96، 2 / 82، خ 236
11- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 30، خ 3، 1 / 247، خ 108، 1 / 249، خ 108، 1 / 249، خ 108، 2 / 39 خ، 216، 2 / 44، خ 217
12- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 113، خ 49، 2 / 92، خ 238

العيون مجازاً وبالمسارق النظرات الخفية للعيون(1)، والباحث يميل للرأي الثاني؛ لأن حركات الأعين أكثر خفاءً، وملائمة مع فعل الاستراق والوميض وسرعة النظر المقصود، وهذا لا يعني إغفال دور الوحدة الدلالية النواة في العبارة(2)، فقد استعمل علیه السلام الجفون لمعنى التحديد والإحاطة وهو أصل فيه؛ لأنه أراد علم الله بحدود تلك النّظرات الخفيّة للأعين حين تومض أي تلمع لمعاً خفيفاً فيبرز لمعانها تارة ويختفي أخرى عند فتح الجفون وطبقها كوميض البرق(3)، فكان معنى التحديد للنظرات والإحاطة بها مقتصراً على الله تعالى، وقد فضّل الإمام ذكر الجفون على ذكر العيون؛ لأن السياق يتكلم عن علم الله تعالى بكل مخفي كما يتضح من القرائن (عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ، وَ نَجوَي المُتَخَافِتِينَ، وَ خَوَاطِرِ رَجمِ الظّنُونِ، وَ مَا ضَمِنَتهُ أَكنَانُ القُلُوبِ، وَ غَيَابَاتُ الغُيُوبِ)، فلو قال: مَسَارِقِ إِيمَاضِ الْعيُونِ؛ لخرجت عن جنس ما قبلها؛ لأن العين جزء ظاهر، فعبر علیه السلام عن خفائها بالجفون.

ويذكر الإمام علیه السلام الجفن بغير لفظه في قوله عن رب العزة والجلال:

«اَلْخَالِقِ لاَ بِمَعْنَی حَرَکَهٍ وَ نَصْبٍ، وَ اَلسَّمِیعِ لاَ بِأَدَاهٍ، وَ اَلْبَصِیرِ لاَ بِتَفْرِیقِ آلَهٍ، وَ اَلشَّاهِدِ لاَ بِمُمَاسَّهٍ، وَ اَلْبَائِنِ لاَ بِتَرَاخِی مَسَافَهٍ، وَ اَلظَّاهِرِ لاَ بِرُؤْیَهٍ..»(4).

ويستوقفنا من النص في هذا المقام جملة (الْبَصِيرُ لا بِتَفْرِيقِ آلَة) وَالْبَصِيرُ معروف من أَسماء الله تعالى «وهو الذي يشاهد الأشَياء كلها ظاهرها وخافيها بغير جارحة، والبَصَرُ عبارة في حقه عن الصفة التي ينكشف بها كمالُ نعوت المُبْصَراتِ»(5)، أما

ص: 66


1- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7 / 53
2- ينظر: السياق والتأويل، بحث: أحمد حساني: 66
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 7 / 53
4- نهج البلاغة: 1 / 349، خ 152
5- لسان العرب، 4 / 64

نفي فعل التفريق عن الله فيستدعي استحضار ما يحيط بعضو الإبصار، وما يدور حوله في ذهن المتلقي، وهو جفن العين في الخلقة، وبتفريق الجفنين يحدث الإبصار وبإطباقهما يذهب، قال الإمام في صفة الخفافيش:

«... أَطْبَقَتِ الأجْفَانَ(1) عَلَیَ مَآقيِهَا»(2).

إذن فالآلة تقابل الجفنين في النص، وهذه من الصور الحسية الظاهرة استعملها الإمام؛ لتقريب معنى سرعة البصر ودوامه.

أما الطّرْف فقد ذُكر في نهج البلاغة كثيراً، وقد توخى الباحث في اختيار الشواهد لهذا اللفظ ما يعبر عن عضو الإبصار لا فعله، وما يخصّ الإنسان لا غيره، فوقع ذلك في سبعة نصوص منها قول الإمام علیه السلام المذكور آنفاً:

«اضرِب بِطَرفِكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ النّاسِ، فَهَل تُبصِرُ إِلّا فَقِيراً...».

والمقصود بِطَرْفِكَ أي: انظر بقدر ما ترى من أطراف الأرض(3)، والمراد اضرب بنظرك؛ لأن الضرب يكون بالنظر لا بالعين بدليل قوله علیه السلام: حَيْثُ شِئْتَ مِنَ النَّاسِ فَهَلْ تُبْصِرُ؟، فلو قيل: اضرب بعينك، لما تحققت هذه الدلالة، وما يؤكد هذا المعنى ما أورده ابن منظور إنّ الطرْفُ: هو تحريك الجُفُون في النظر؛ لذلك سميت الأعين بالطَّوارِفُ(4)، فضلًا عن أنّ النظر سابق للبصر إذ يحدث النظر أولًا ثم يليه البصر، وهذا التسلسل المنطقي العلمي عبر عنه الإمام بالنظر بحركة الطْرف وحدّ البصر.

وفي شاهد لفظ الطرْف الثاني يُلاحظ أنّ للطرْف حركة جسدية ذات دلالة مخصوصة، كما في قوله علیه السلام:

ص: 67


1- وهذه صيغة أخرى لجمع الجفن استعملها الإمام في النهج
2- نهج البلاغة: 1 / 360، خ 155
3- ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة، محمد تقي التستري: 8 / 173
4- ينظر: لسان العرب: 9 / 213

«يُرَدِّدُ طَرْفَهُ باِلنَّظَرِ في وجُوهِهِمْ».

والكلام هنا عن الإنسان عند الموت فحركة تردد الطرف في النص تبعث برسائل صامتة توحي بدلائل العجز التام عن مخاطبة الإنسان من حوله، مثل تَحیّر العينُ، وكَثْرة تحريك الجَفْنين نحو ما يحيط بها فقط(1)؛ لذا لم يستعمل علیه السلام لفظ الجفن في هذا المقام لما أراد محدودية النظر، ويتكرر لفظ الطرْف في شواهد أُخر أيضاً(2)، لا تخرج دلالاتها عن النظر بطرف العين ومدته.

المجموعة الثانية:

تتضمن ألفاظ داخل العين ومنها (المقلة، الحدقة)، ومن شواهدها:

- المقْلَة: وردت مرتين في نهج البلاغة، في كلام الإمام علیه السلام عن رفضه للحياة الدنيا:

«لأرُوضَنَّ نَفْسِی رِيَاضَةً تَهشُّ مَعَها إِلَی الْقُرْصِ إِذَا قَدَرتْ عَلَيْهِ مَطْعُوماً، وَتَقْنَعُ بِالْمِلْحِ مَأدُوماً؛ وَلأدَعَنَّ مُقْلَتِ كَعَيْنِ مَاء، نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا»(3).

وكلامه علیه السلام يحمد الله ويثني عليه:

«الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَ جَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُيُونِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ...»(4).

- الحدَقة: ورد ذكرها مرة واحدة للإنسان في قول الإمام علیه السلام في الخالق:

«لاَ یَشْغَلُهُ شَأْنٌ، وَ لاَ یُغَیِّرُهُ زَمَانٌ، وَ لاَ یَحْوِیهِ مَکَانٌ، وَ لاَ یَصِفُهُ لِسَانٌ... یَعْلَمُ

ص: 68


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 251، خ 108
2- ينظر: المصدر نفسه، على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 374، خ 162، 2 / 46، خ 218، 1 / 235، خ 104
3- المصدر نفسه: 2 / 227، ك 45
4- المصدر نفسه: 1 / 452، خ 188

مَسَاقِطَ اَلْأَوْرَاقِ وَ خَفِیَّ طَرْفِ اَلْأَحْدَاقِ»(1).

أما المعنى اللغوي لهذه الألفاظ فإنَّ مقلة العين منها «سوادها وبياضها الذي يدور في العين كله»(2)، وترجع إلى الجذر (م ق ل) وفيه «ثلاثُ كلماتٍ غيِر مُنقاسة، قالوا:

مُقْلة العَين، وهي ناظِرُها، ومَقَلْتُه: نظرتُ إليه، والكلمة الأُخْرى المَقْلة: الحصاة تُلقِيها في الماء تعرِف قَدْرَه... والكلمة الأخرى المُقْل: حَمْل الدَّوْم»(3)، وقيل المُقْلة هي العين(4)، ومن أكبر أجزاء العين المُقلة وفيها مركز النظر، وربما سميت العين باسمها تبعاً لذلك، والباحث يميل إلى رأي الخليل، فقد كشف العلم الحديث كما اتضح في (الشكل 3)(5) دقة هذا الرأي؛ إذ إنّ المقلة تمثل الجزء المتحرك من العين، والحدقة هي من متضمنات سواد المقلة لاغير، ويؤصل ابن فارس للحدقة بالجذر (ح د ق)، وله «أصلٌ واحدٌ، هو الشيء يحيط بشيء. يقال حَدَقَ القومُ بالرّجُل وأحدقوا به...

وهي السَّواد... والتّحديق: شِدّة النّظر، والحديقة: الأرضُ ذاتُ الشجَر، والحِنْدِيقة:

الحَدَقَة»(6)، وجاء في المخصص «وفي المُقْلة الحَدَقة، وهي السَّواد الذي في وَسَط البياض»(7)، إذن فهي «في الظاهر سواد العين وفي الباطن خرزَتها»(8)، والجمع حدَقٌ وأحْداق وحِدَاق(9). ويلحظ أن هذا اللفظ يشترك في سمة الإحاطة مع العين، لكن

ص: 69


1- المصدر نفسه: 1 / 423، خ 179
2- العين: 5 / 175
3- مقاييس اللغة: 5 / 341
4- ينظر: لسان العرب: 11 / 627
5- أطلس جسم الإنسان على الشبكة العنكبوتية. .www.google.iq
6- مقاييس اللغة: 2 / 33
7- المخصص: 1 / 94
8- لسان العرب: 10 / 38، وينظر: العين 3 / 41
9- ينظر: المخصص: 1 / 94

هنا بعدسة العين كما يتضح في (الشكل 3).

(شكل 3) يوضح أجزاء العين وفي استعمال ألفاظ هذه المجموعة جاء الشاهد الأول للمقلة في سياق يُنبئ بالرياضة النفسية، وذلك في قوله علیه السلام:

«وَلأدَعَنَّ مُقْلَتِی كَعَيْنِ مَاء، نَضَبَ مَعِينُهَا، مُسْتَفْرِغَةً دُمُوعَهَا».

لذا أنكر على نفسه ملاذ الدنيا ومشابهة البهائم في سياق النصّ، أما لفظ المقلة فقد جاء مشبهاً بعين الماء، وهو تشبيه صورة بصورة لما بينها من صلة من حيث المعنى(1)؛ فشبه المقلة بعين غار ماؤها، واستعمل الإمام المعين لأنَّه الماء الجاري الذي تراه العيون(2)، والمراد: لأتركن عيني كعين ماء نفذ ماؤها الجاري، فاستفرغ دموعي وأريقها جميعاً(3)، ودلالة ذلك كثرة البكاء، وقد عبّر الإمام عن مراده بالمقلة بدل العين؛ لأن مجاورة لفظ (مقلتي) للفظ (عين ماء) له أثر في الركاكة في التعبير، الذي هو بعيد كل البعد عن أسلوب الإمام كما تبيّن، فضلاً عن أنّ ذلك جاء للتقارب في الشكل والنتيجة؛ لأن المقلة هي الجزء الغالب من العين الذي يحيط به ماؤها، فضلاً عن ذلك فإنّ لفظ العين يذهب بالذهن إلى

ص: 70


1- ينظر: البلاغة العربية: طالب الزوبعي، وناصر حلاوي: 100
2- ينظر: منهاج البراعة، قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي: 3 / 155
3- ينظر: نهج السعادة، محمد باقر المحمودي: 4 / 39

صورة العين بأجزائها عامة لا حدود المقلة التي تُغرورق بالدمع بداعي الأحوال التي تعتري الإنسان.

أمّا الشاهد الثاني الذي ورد فيه لفظ المقلة، فهو قوله علیه السلام:

«الَّذِي أَظْهَرَ مِنْ آثَارِ سُلْطَانِهِ، وَ جَلاَلِ كِبْرِيَائِهِ، مَا حَيَّرَ مُقَلَ الْعُيُونِ مِنْ عَجَائِبِ قُدْرَتِهِ».

وهذا الكلام عن الله تعالى وعجائب خلقه، وفي هذا النص قد أضاف الإمام لفظ المقلة إلى العقول؛ لأن ما أريد به غير المعنى الموضوع له في أصل اللغة(1)، وهذا النمط المجازي ليس بغريب عند الإمام؛ فطالما يستعمل جزءاً من جسم الإنسان لغيره في نصوص كثيرة سوف يأتي بيان بعضها في البحث، فتصبح جزءاً لايتجزأ من نسيج لغة النص وإدراكها، ولابد في ذلك من علاقة معروفة فكأن هناك عنصرين: الحقيقة الموضوعة بذاتها من جهة، ومحاولة توصيلها واستعمال آليات المجاز في التوصيل من جهة أخرى(2)، والعلاقة يمكن أن تكون في معنى العلم والتبصر؛ لأنه مجاز عقلي، وعلى ذلك فإن المراد نفاذ البصائر(3)، الذي شابه نفاذ البصر؛ لأن الإبصار يكون بجزء من هذه المقلة، وهو ناظرها، وذلك بتسلط الإشعاعات الضوئية التي تتسلط على الشيء المرئي ونفاذها إليه، ثم تتحول إلى أعصاب النظر التي بدورها تنقل الصورة والمعلومات إلى الدماغ، فتحدث الرؤية(4)، والمقلة جاءت أداة للتعبير عن ذلك لتضمّنها معنى البصر، ومركز وجودها في العين، فضلاً عن أنّها قد جاءت لدلالة أبعد فوظفت المقلة كأداة

ص: 71


1- ينظر: دلالة الألفاظ، إبراهيم أنيس: 127
2- اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود، عبد الوهاب المسيري: 12 - 13
3- ينظر: نهج البلاغة: تح: محمد أبو الفضل، 1 / 425، وصفوة شروح نهج البلاغة: 501
4- ينظر: أسرار لغة الجسد: 77

لعلاقاتها الباطنة في مقاصده علیه السلام.

وينماز لفظ الحدقة بتنوع الاستعمال للمخلوقات، وقد جاء اللفظ فيما يخص الإنسان في قوله علیه السلام:

«يَعْلَمُ مَسَاقِطَ الأوْرَاقِ، وَخَفِیَّ طَرْفِ الأحْدَاقِ».

والنص جاء في مقام بيان قدرة الله من تقديم لخطبة في أول خلافته علیه السلام، وعبارة (خفي طرْف الأحداق)، جاءت لتدل على عموم علم الله، فأراد علیه السلام بالطَّرْف انطباق أحد الجفنين على الآخر، وهو من تَحريك الجفون للنَّظَر، والخالق يعلم ما خفى، ويخفى من ذلك على الناّس(1)، ويرى الباحث أن تفسيَر النص هذا لا يناسب الرؤية الإلهية وعلمه €عزوجل بما ورد في السياق، ولا يستقيم معناه مع جزء الحدقة، فقد تقدم في البحث اللغوي أنَّ للحدقة أصلاً يدل على شيء يحيط بشيء، ثم قيل إنها سواد العين الذي يحيطُه بياضُها، وتحيط هي بإنسان العين أيضاً، وقد أثبت العلم حديثاً أن هناك ثقباً في مركز سواد العين يدعى الحدقة تتقلص وتتمدد حسب درجة التحديق وشدة الضوء الذي يسقط عليها بفضل عضلتين متعاكستين(2)، تعملان كعمل الأشفار، فيمكن أن يكون تحريكها هو المقصود بطرف الأحداق، وبذلك تكون الحدقة في النص دالَّةً على شدة الخفاء، ويكون المراد أن خالقها محيطٌ بما خفي على النّاس حتى حدود نظر إنسانها تأكيداً على دقة علمه، وجاء استعمال الحدقة من دون غيرها من أجزاء العين في النص؛ لأن دلالات النظر هذه تبقی عصیة علی ﺍلإنسان، ولا يمكن للإنسان إدراكها ﺇلا بالمشاهدة ﻭالمعاينة، وهذا ما يناسب رؤية الخالق وعلمه بما یمور ﻓﻲ ذهن الإنسان ووجدانه(3)؛ إذ يعلم ما يرى

ص: 72


1- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 252
2- ينظر: أسرار لغة الجسد: 74، 81
3- ينظر: لغة الجسد في القرآن الكريم: عمر عتيق، بحث منشور على الشبكة العنكبوتية على الرابط التالي: http://www.qou.edu/arabic/researchProgram/researchersPages/ omarAteeq/search_7.pdf

الإنسان ويخزن في ذهنه وما لايراه، ويبدو أن الإمام قد أراد من هذا الاستعمال الدلالة النفسية أيضاً؛ لعلمه تعالى ببواعث الدلالتين.

المجموعة الثالثة:

وتتضمن لفظَي (الناظر، البصر)، ومن شواهدها:

- النّاظرِ: جاء ذكره أربع مرات(1)، ومنها قول الإمام علیه السلام في إحدى حكمه يصف الحياة الدنيا:

«یَا أیُّها النَّاسُ، مَتَاعُ الدُّنْیَا حُطَامٌ... مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ نَاظِرَیْهِ کَمَهاً، وَ مَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلَأَتْ ضَمِیرَهُ أَشْجَاناً»(2).

وقوله علیه السلام يحمد الله:

«الْحَمْدُ للّهِ الَّذِی لَاتُدْرِکُهُ الشَّوَاهِدُ... وَلَا تَرَاهُ النَّوَاظِرُ، وَلَا تَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ، الدَّالِّ عَلَی قِدَمِهِ بِحُدُوثِ خَلْقِهِ...»(3).

- البصَر: ورد ذكر البصَ ستاً وعشرين مرة(4)، منها قول الإمام علیه السلام في حال من أحوال الموتى:

ص: 73


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 187، خ 87، 2 / 46، خ 218
2- المصدر نفسه: 2 / 389، ح 373
3- المصدر نفسه: 2 / 64، خ 231
4- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 377، خ 161، 1 / 372، خ 160، 1 / 161، خ 82، 1 / 250، خ 108، 1 / 217، خ 96، 1287، خ 124، 1 / 235، خ 104، 1 / 163، خ 82، 1 / 167، خ 84، 1 / 329، خ 144، 1 / 156، خ 82، 1 / 460، خ 191، 1 / 280، خ 162، 1 / 88، خ 32، 1 / 373، خ 161، 1 / 444، خ 186، 2 / 90، خ 238، 2 / 98، خ 238، 2 / 149، ك 15، 2 / 201، ك 31، 2 / 192، ك 31، 2 / 204، ك 33، 2 / 286، ك 65، 2 / 401، ح 428

«فَلَو مَثّلتَهُم بِعَقلِكَ، أَو كُشِفَ عَنهُم مَحجُوبُ الغِطَاءِ لَكَ، وَ قَدِ ارتَسَخَت أَسمَاعُهُم بِالهَوَامّ فَاستَكّت، وَ اكتَحَلَت أَبصَارُهُم بِالتّرَاب فَخَسَفَت»(1).

وقوله علیه السلام في الحثّ على التقوى:

«أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِتَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا الزِّمَامُ وَ الْقِوَامُ، فَتَمَسَّكُوا بِوَثَائِقِهَا، وَ اعْتَصِمُوا بِحَقَائِقِهَا، تَؤُلُ بِكُمْ إِلَى أَكْنَانِ الدَّعَةِ، وَ أَوْطَانِ السَّعَةِ، وَ مَعَاقِلِ الْحِرْزِ، وَ مَنَازِلِ الْعِزِّ، فِي يَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ، وَ تُظْلِمُ لَهُ الْأَقْطَارُ، وَ تُعَطَّلُ فِيهِ صُرُومُ الْعِشَارِ، وَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ...»(2).

وللكشف عن دلالات استعمال هذه الألفاظ لابد من معرفة معانيها في اللغة أولاً، فأمّا الناظر فهو «النقطة السوداء الخالصة في جوف سواد العين»(3)، أو حدقتها كما تبين من (الشكل 3) سابقاً، وبها يرى الناظر ما يرى(4)، وفضلًا عن ذلك فابن فارس يرى أنّ الجذر (ن ظ ر) له «أصل صحيح ترجع فروعُه إلى معنى واحد وهو تأمُّلُ الشّیءِ ومعاينتُه»(5)، وهذا لا يتحصل بمجمل المقلة بل بناظرها؛ لأنّ العين «كالمِرْآة إذا استقبلها شيء رأت شَخْصَه فيها لشدّة صفاء الناظِرِ... وهو موضِعُ البصر منها الذي تراه كأنَّهُ صورة»(6).

أمّا البصر، فهو اسم اقترن به فعل العين، لكنَّ البحث باللفظ هنا ليس بصدد فعل الإبصار، بل بصدد عضو الإبصار، والأصل اللغوي من ذلك (ب ص ر) وله

ص: 74


1- المصدر نفسه: 2 / 38، خ 216
2- المصدر نفسه: 1 / 454، خ 188
3- العين: 8 / 155
4- ينظر: المصدر نفسه: 8 / 155
5- مقاييس اللغة: 5 / 444
6- المخصص: 1 / 94

«أصلان: أحدهما العِلْمُ بالشيء؛ يقال هو بَصِيرٌ به، ومن هذه البَصيرةُ... وأصل ذلك كلِّه وُضُوحُ الشيء... وأمّا الأصل الآخَر فبُصْر الشَّیْءِ غلَظُه، ومنه البَصْرُ، هو أن يضمَّ أدِيمٌ إلى أديم، يخاطانِ كما تُخاطُ حاشِيَةُ الثّوبِ»(1)، ويذكر الراغب الأصل الأول بقوله: «البصر يقال للجارحة الناظرة... وللقوة التي فيها ويقال لقوة القلب المدركة بصيرة وبصر... وجمع البصر أبصار، وجمع البصيرة بصائر»(2)، ويقال للبصر حسّ العين(3)، وعلى هذا يمثل البصر لفظاً مشتركاً لجارحة العين ووظيفتها بأجزائها المختلفة.

ولنظر العين ومشتقاته استعمالات عدّة في نهج البلاغة، تربو على الستين استعمالاً، وليس من وكد البحث هنا دراسة المادة اللغوية (نظر)، أو ما وصف به النظر من أحوال، بل تقصّ ما دل منها على آلة النظر، وقد ظهر ذلك في بنى محددة هي (ناظر، وناظرين، ونواظر)، وفي أربع شواهد من النهج، دلّت على توجيه العين نحو الشيء وليس إدراكه، منها قوله الإمام في الشاهد الأول للناظر:

«مَتَاعُ الدُّنْيَا حُطَامٌ... مَنْ رَاقَهُ زِبْرِجُهَا أَعْقَبَتْ ناَظِرَيْهِ كَمَهاَ».

وذكر أَهلُ اللغة أَن الكَمَهَ يكون خِلْقةً ويكون حادِثاً بعد بَصَرٍ، والكمه قد استُعمل مجازاً، لأَنّ العينَ بالكَمَهِ يُسْلَبُ نُورُها(4)، والمراد أورثت عينيه أبلغ العمى عن الحق(5)، فلما أراد الإمام المبالغة استعمل الناظرين ولم يستعمل لفظ العينين؛ لأنهما مرتبطان بالدماغ الذي يتأثر بما يثيرهما من معطيات اتضحت في مساق

ص: 75


1- مقاييس اللغة: 1 / 253
2- المفردات في غريب القران: 1 / 49
3- ينظر: المخصص: 1 / 113
4- لسان العرب: 13 / 536
5- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 9 / 287

النص(1)، أمّا دلالة الاستعمال في الشاهد الثاني للناظر في قوله علیه السلام:

«الحَمْدُ لله الَّذِي... لاترَاهُ النَّوَاظِرُ».

فلا يخفى أن اللفظ قد جاء بصيغة الجمع مع متواليات مماثلة في النص فأضاف بعداً دلالياً من المبالغة في نفي الرؤية، على الرغم من وجود ممكناتها في النص كقوله علیه السلام:

«لا تحجبه السّواتر»، ويأتي تخصيص النواظر بالذكر من دون الأبصار؛ لأن النظر مجرد تقليب الحدقة باتجاه الشيء إلتماساً لرؤيته من دون إدراكه، قال تعالى:

«وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ»(2).

فكأنه علیه السلام أراد القول بأن المرحلة الأولى من الرؤية لايمكن تحققها فكيف تتحقق مرحلة التشخيص بالأبصار، إذن فالأبصار من المحال أن تدرك الخالق أو تراه؛ لأنها تدلّ على إدراك الشيء عياناً، وهذا ما ينفي «وقوع الشبهة في أذهان أكثر الجاهلين في جواز إدراكه تعالى بها كما هو مذهب المجّسمة والمشبّهة والأشاعرة المجوّزين للرّؤية»(3)؛ إذ يتميز النظر عن البصر بمعنى الإقبال على المرئي، وبناءً على ذلك يبدو أنّ توظيف الإمام لجزء الناظر من العين في هذه النصوص ونصوص أُخر(4)، لوحظ فيه معنى الإقبال والتماس الرؤية إلى الشيء المنظور في النصوص؛

ص: 76


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 76، والقوى العقلية الحواس الخمس، مايكل هاينز، ترجمة: عبد الرحمن الطيب: 293
2- الأعراف: من الآية 143
3- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 9
4- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 355، خ 154، 2 / 46، خ 218

لأن الرؤية - في الغالب - ناشئة عن النظر بالعين، وبذلك يفترق عن الإبصار في المعنى والاستعمال كما تبين آنفاً.

ويمثل البصر الأساس الوظيفي للعين بكلّ أنسجتها وأجزائها، وهو من أهم وظائفها؛ لذا سُمّيت العين حاسة البصر(1)، وتكرر لفظ البصر والإبصار ستاً وستين مرة في نهج البلاغة، وبتتبع نصوص النهج ظهر أنّ ما قصد به عضو الإبصار هو ست وعشرون مرة، من ذلك قول الإمام علیه السلام في شاهد لفظ البصر الأول:

«اكتَحَلَت أَبصَارُهُم بِالتّرَاب فَخَسَفَت».

والخَسْفُ «غُؤُورُ العينِ، وخُسوفُ العينِ ذَهابُا في الرأْس... وعين خاسِفةٌ وهي التي فُقِئَتْ حتى غابت حَدَقَتاها في الرأْس، وعينٌ خاسِفٌ إذا غارَتْ وقد خَسَفَتِ العينُ تَخْسِفُ خُسُوفاً»(2)، فقوله علیه السلام عن الموتى واكتحلت أبصارهم بالتراب فخسفت، أي غارت وذهبت في الرأس(3)، ويتضح من هذا التصوير في النصّ دلالة اللفظ على عضو الإبصار، وقد عبّر الإمام عن مراده بهذا اللفظ؛ لأنّه أراد ذهاب قوة الإبصار بذهاب مركزها؛ إذ اختار علیه السلام (الأبصار) من دون (العيون) بلحاظ قوته وعمله، فبعد أن كان هذا العضو أداة للبصر وإذا به بعد الممات يكتحل بالتراب فيذهب جماله؛ لخسوفها في الرأس، فلو قال العيون بدل الأيصار لما كان هناك إشارة لعمل هذا العضو، أما ما يتعلق بعضو الإبصار هذا من حركة وفعل فهنالك شواهد كُثر نقرأ منها قوله علیه السلام في النصّ الثاني للفظ البصر:

«فِی یَوْمٍ تَشْخَصُ فِیهِ اَلْأَبْصَارُ، وَ تُظْلِمُ لَهُ اَلْأَقْطَارُ، وَ یُعَطَّلُ فِیهِ صُرُومُ اَلْعِشَارِ، وَ یُنْفَخُ فِی اَلصُّورِ».

ص: 77


1- ينظر: القوى العقلية الحواس الخمس، 291 - 292
2- لسان العرب: 9 / 67، وينظر: الغريب المصنف، أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه): 387
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 11 / 163

ويستوقف المتأمل في سياق النص ثلاثة اقتباسات قرآنية(1)، وهي على التوالي قوله تعالى:

«وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ»(2)، وقوله:

«وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ»(3)، وقوله:

«وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ»(4).

وهذا ما يكشف ثراء النهج بالمفاهيم القرآنية، وتمكن الإمام من إذابتها في كلامه؛ إذ مثل حضور النصّ الآخر انسيابية في التلقي، وما يخصّ الأبصار من ذلك قول الإمام في الآية الكريمة الأولى، يقال: «شَخَصَ الرجل بِبَصَرِه یَشْخَصُ شُخُوصاً رَفَعَه فلم یَطْرِفْ، و شَخَصَ بَصَرُ فلانٍ فهو شاخصٌ إِذا فَتَحَ عَیْنَیْه و جَعَلَ لا یَطْرِف، شُخُوصُ البَصَرِ ارتفاعُ الأَجفانِ إِلی فَوْقُ و تَحْدیدُ النظَر و انْزِعاجُه»(5)، فمقلة العين كروية الشكل وتمتاز بأنها مرنة الحركة في الاتجاهات كافة، وذات مساحة بيضاء تساعد على تحديد اتجاه النظرات التي تدل على حالات ومواقف معينة(6)، وغالباً ما يحدث ذلك حين يرى الإنسان شيئاً لا يتوقعه فينظر مندهشاً لا يستطيع أن يرمش أو يطرف أو يُنزل جفنه متأثراً من دون شعور(7)، وهذا الوصف

ص: 78


1- ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة، عباس علي حسين الفحام: 162
2- الأنبياء: 97
3- التكوير: 4
4- الزمر: 68
5- لسان العرب، 7 / 45
6- ينظر: القوى العقلية الحواس الخمس: 292
7- ينظر: لغة الجسد في القران الكريم: 38

للإنسان عامةً وللأبصار خاصةً، دلالته شدة الخوف والهلع من فضيع ما يشاهده الناس من هول الموقف يوم الحساب، وقد استعمل الإمام لفظ الأبصار من دون العيون؛ لأنه إذا عبر بالعيون فإن ذلك يدلّ على اتصال عملها وذهاب البصر، لكن استعمال الأبصار دلّ أنّ عملها لازال مستمراً لكنه جامد على اتجاه واحد، وهذا ما يمنه الاستبدال بين اللفظين في النص.

ومن متابعة النصوص الوارد فيها لفظ هذا الجزء من الإنسان(1) يتبين أن الإمام استعمل اللفظ في سياقات تدل على الجارحة وقوة البصر أو ضعفه وأشار إلى ما تعلق بهما من حركات إرادية أو لا إرادية سواء أكان ذلك على سبيل الحقيقة أم المجاز؛ لأن الإنسان غالباً ما يستطيع أن يتحكم ببصره بجفن عينه، وذلك من مصاديق العلم به.

ومن دراسة الألفاظ التي تشير إلى العين وأجزائها يتبين أنّ الإمام قد استعمل ثلاثة أنواع من ملحقات العين، ويمكن عن طريقها تحديد العلاقات الدلالية للعين وملحقاتها وضوابط الاستعمال، فلفظ العين جمع لكل ما يحيط بمقلتها كأجزاء مادية تابعة لها تقع ضمن مجموعة دلالية واحدة، وترتبط بعلاقات مختلفة، فمنها ما مثَّل الأداة، وهي ألفاظ (المقلة، والحدقة، والناظر)، وهي من أجزائها الداخلية، ومنها ما مثَّل القوة، متمثلة في لفظ (البصر)، وهو من أجزائها الحسية، ومنها ما مثَّل الوسيلة، وهما لفاظا (الطرف، والجفن)، وهما من أجزائها الخارجية، ويُلحظ أنّ نسبة ارتفاع شيوع لفظتي العين والبصر في النهج قد فاقت بكثير الأجزاء الأخرى، وقد كَثر في استعمال العين الاقتباس القرآني، واقترنت بها ضمائر كثيرة ومصاحبات

ص: 79


1- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: نهج البلاغة: 1 / 19، خ 1، 1 / 88، خ 32، 1 / 217، خ 96، 1 / 287، خ 124، 2 / 17، خ 206، 2 / 192، ك 31، 2 / 204، ك 33، 2 / 286، ك 65، 2 / 401، ح 428

لغوية، فأصبحت لها دلالات مختلفة مثل الجاسوس وغيرها، ولما كان اهتمام الإمام بإدراك الحقائق أكثر، فقد جاء ذكر البصر بالمرتبة الثانية، ولكن أهم ما ميَّز استعمال العين عند الإمام أنها عبَّرت عن الرؤية المادية، والرؤية المعنوية، وبذلك تكون جامعة لسمة البصر بالقوة الباصرة فيها، وسمة النظر وهي التحديق والتقليب في حدقة العين لرؤية الصُّور، أمّا لفظ الجفن عند الإمام فقد جاء مراداً به نظر العين، فكأن الجفن لم يكن عنده علیه السلام أداة للإحاطة والحماية بقدر ما كان أداة للرؤية، وقد قام مقامه الطرْف ولكن مقيداً بالنظر.

ص: 80

المبحث الرابع الألفاظ الدالة على الأذن وما يلحق بها

عُرف عن الأذن أنَّها الأداة المسؤولة عن السمع في جسم الإنسان، وقد صورها الله بإبداع وحكمة لا تتجلى إلا له سبحانه، وقديماً حاول أصحاب المعجمات وكتب خلق الإنسان اكتشاف أسرار هذه الأذن وما فيها لكنهم لم يتعدوا الوصف الظاهري لها، وفاتهم أنّ أمير المؤمنين قد جاء بسبق علمي في زمانه عندما عبّر عن الأذن بغير لفظها بقوله علیه السلام:

«اِعْجَبُوا لِهَذَا اَلْإِنْسَانِ یَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَ یَتَکَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَ یَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَ یَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْم»(1).

فقد أثبت العلم حديثاً أنّ السماع يكون بحركة أصغر العظيمات في ثقب الأذن التي تسمى (المطرقة، والسندان، والركاب)، فهي تنقل الاهتزازات الصوتية النافذة من الطبل المهتزّ إلى مراكز السمع العليا في المخّ عبر العصب السمعي ليقوم بتفسيرها إلى مدلولات لغوية(2).

أما ما ذكره الإمام في نهج البلاغة من ألفاظ دالة على الأذن ماثلت معجمية اللغويين، فهي ألفاظ (الأذن، الصماخ، والسّمع)، وتُعدُّ الأذن من أهم أدوات

ص: 81


1- نهج البلاغة: 2 / 309، ح 8
2- ينظر: أطلس جسم الإنسان، الدكتور أحمد الخزاعي: 40 - 42

التواصل؛ إذ إنّها أول عضو من مداخل الحسّ يؤدي وظيفته في الدنيا(1)، ومن شواهد هذه الألفاظ التي خُصّ بها الإنسان ما يأتي:

-الأذُن: ورد استعمال الأذن للإنسان إحدى عشرة مرة في نهج البلاغة(2)، ومنها قول الإمام علیه السلام في ذكر النبي:

«طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ، وَ أَمْضی مَوَاسِمَهُ، یَضَعُ ذَلِکَ حَیْثُ اَلْحَاجَهُ إِلَیْهِ؛ مِنْ قُلُوبٍ عُمْیٍ، وَ آذَانٍ صُمٍّ، وَ أَلْسِنَهٍ بُکْمٍ؛ وَ یَتَتَبَّعُ بِدَوَائِهِ مَوَاضِعَ اَلْغَفْلَهِ، وَ مَوَاطِنَ اَلْحَیْرَهِ»(3).

وقال علیه السلام في حديثه عن الهجرة:

«لَایَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَهِ عَلَی أَحَدٍ بِمَعْرِفَهِ الْحُجَّهِ فِی الْأَرْضِ، فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ... وَ لَا یَقَعُ اسْمُ الاسْتِضْعَافِ عَلَی مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّهُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ»(4).

- الصِّماخُ: استعمل اللفظ مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام يصف قدرة الخالق وعلمه:

«عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ،... وَ غَيَابَاتُ الغُيُوبِ، وَ مَا أَصغَت لِاستِرَاقِهِ مَصَائِخُ الأَسمَاعِ، وَ مَصَايِفُ الذّرّ، وَ مشَاَتيِ الهَوَامّ...»(5).

ص: 82


1- ينظر: القوى العقلية الحواس الخمس: 309
2- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 249، خ 108، 1 / 250، خ 108، 1 / 262، خ 112، 1 / 301، خ 129، 1 / 310، خ 133، 1 / 415، خ 176، 1 / 445، خ 186، 2 / 173، ك 27، 2 / 389، خ 373
3- المصدر نفسه: 1 / 243، خ 107
4- المصدر نفسه: 2 / 79، خ 235
5- نهج البلاغة: 2 / 203، خ 90، وقد ورد شاهدا بالحديث في: النهاية في غريب الأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606 ه): 3 / 98، ولسان العرب: 3 / 34، هكذا (أصْغَتْ لاسْتراقِه صمائخُ الأسْماع)

-السّمع: وأمّا السمْع، فقد جاء ما يدل منه على آلة السمع عند الإنسان في واحد وثلاثين نصاً(1)، منها قول الإمام علیه السلام في الحثّ على التقوى ونبذ الدنيا:

«...فَیَالَهَا أَمْثَالاً صَائِبَهً، وَ مَوَاعِظَ شَافِیَهً، لَوْ صَادَفَتْ قُلُوبا زَاکِیَهً، وَ أَسْمَاعا وَاعِیَهً، وَ آرَاءً عَازِمَهً، وَ أَلْبَابا حَازِمَهً! فَاتَّقُوا اللَّهَ تَقِیَّهَ مَنْ سَمِعَ فَخَشَعَ»(2).

وقال علیه السلام عن يوم النُّشُور:

«...وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ مُهَیْنَمَهً، وَأَلْجَمَ الْعَرَقُ، وَعَظُمَ الشَّفَقُ، وَأُرْعِدَتِ الْأَسْمَاعُ لِزَبْرَهِ الدَّاعِی إِلَی فَصْلِ الْخِطَابِ، وَمُقَایَضَهِ الْجَزَاءِ»(3).

وقبل دراسة هذه الألفاظ دلالياً لابدّ من معرفة المعنى اللغوي لها، فالأذن من الجذر (أ ذ ن)، وله «أصلان متقارِبان في المعنى، متباعدان في اللفظ، أحدهما أُذُنُ كلِّ ذي أُذُن، والآخَر العِلْم؛ وعنهما يتفرّع البابُ كلُّه. فأمّا التقارب فبالأُذُن يقع علم كلِّ مسموعٍ. وأمّا تفرُّع الباب فالأذُن معروفة مؤنثة... والأصل الآخر العِلْم والإعلام. تقول العرب قد أذِنْتُ بهذا الأمر أي عَلِمْت، وآذَنَني فُلانٌ أعلَمَني، والمصدر الأَذْن والإيذان»(4)، وفي كتب خلق الإنسان نجد تفصيلًا أكثر للأصل الأول ومن ذلك قول الأصمعي: «وفي الرأس الأذنان، وفي الأذنين الغُرضوف وبعض العرب يقول

ص: 83


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 37، خ 4، 1 / 155، خ 82، 1 / 178، خ 87، 1 / 181، خ 88، 1 / 181، خ 88، 1 / 192، خ 90، 1 / 235، خ 104، 1 / 251، خ 108، 1 / 443، خ 150، 1 / 363، خ 156، 1 / 363، خ 157، 1 / 734، خ 161، 1 / 380، خ 162، 1 / 390، خ 166، 1 / 444، خ 186، 1 / 444، خ 186، 1 / 445، خ 186، 1 / 458، خ 190، 2 / 13، خ 203، 2 / 38، خ 216، 2 / 42، خ 217، 2 / 48، خ 219، 2 / 81، خ 236، 2 / 86، خ 237، 2 / 96، خ 238، 2 / 140، ك 10، 2 / 204، ك 33، 2 / 285، ك 65، 2 / 269، ح 272
2- المصدر نفسه: 1 / 156، خ 82
3- المصدر نفسه: 1 / 154، خ 82
4- مقاييس اللغة: 1 / 76

الغُضروف... وهو معلق الشنوف منها، وحتارها كفاف حروف غراضيفها، وفيه الشحمة وهو ما لان من أسفلها، وفي الشحمة معلق القرط، وفيه الوتد وهي الهنية الناشزة في مقدمها تلي أعلى العارض من اللحية، وفيها محارتها وهي صدفتها، وفي الأذن الصماخ وهو الخرق الباطن الذي يفضي إلى الرأس...»(1)، والُأذن بالضم لغة الجارحة، أمّا بالكسر فهي رفع المنع وإيتاء المكنة، وقد شبه بها من حيث الخلقة عروة الكوز(2)، وهذا الوصف لما يعرف اليوم بالأذن الخارجية.

أمّا ما وقع من الأجزاء داخل الأذن فهو الصِّماخُ، وقد جاء لفظ الصِّماخ في المعجمات بلغة أخرى، وهي السِّماخ، وقد ذكرها الخليل بقوله عن الصِّماخ:

«والسِّماخُ: لغةٌ فيه، والصّادُ تَيميّةٌ، وصَمَخني الصَّوت»(3)، وحرفا السين والصاد من الحروف الرخوة المهموسة، وقد صُنفِّا في علم الأصوات من أحرف الصفير؛ لسماع صوت يشبه صوت الصفير عند إخراجهما من مواضعها؛ إذ يضيق مجرى هذه الأصوات جدا عند مخرجها(4)، وهذان الحرفان أحدهما أبين من الآخر في صفيرها، فالصاد أقواها؛ للإطباق والاستعلاء اللذين فيها، أما السين فهي أخفّ للهمس الذي فيها(5)، ويرد ابن فارس الصّماخ إلى الجذر (ص م خ)، وله «أصلٌ واحدٌ وكلمةٌ واحدةٌ، وهو الصِّماخُ: خَرْق الأُذُن»(6)، أمّا في خلق الإنسان، فقد

ص: 84


1- خلق الإنسان، الأصمعي: 170، وينظر: مقالة في أسماء أعضاء الإنسان، أحمد بن فارس (ت 395 ه): 18
2- ينظر: التوقيف على مهمات التعاريف، محمد عبد الرؤوف المناوي: 47
3- العين: 4 / 192
4- ينظر: الأصوات اللغوية، إبراهيم أنيس: 73، ودراسة الصوت اللغوي، أحمد مختار عمر: 118
5- ينظر: دراسة مخارج أصوات العربية وصفاتها عند القدماء والمحدثين، أحمد جاسم النجفي: 149 - 150
6- مقاييس اللغة: 4 / 192

قال ثابث: «وفي الأُذُن الصماخ، وهو سمُّها، يقال في جمعه أصْمِخَة وصُمَخٌ، وهو الخرق الباطن الذي يُفضي إلى الرأس، وهو المِسْمَع الذي يسمع به»(1)، وقيل: «هو الخرق الذي يفضي إلى الدماغ»(2).

وللأذن أسماء أُخر مشتقة من الفعل (سمع)، فقد قال الخليل: «السامِعَة والمِسْمَع والمَسْمَع الأذن، وقيل: المَسْمَع خرقُها... والسَّمْع ما وقَرَّ فيها والسَّمَاع، ما الْتذَّت به من غِناَءٍ وغيرِه»(3)، وهذه الألفاظ مأخوذٌة من الجذر (س م ع)، وله «أصلٌ واحدٌ، وهو إيناسُ الشيء بالأُذُن، من الناّس وكلِّ ذي أُذُن. تقول: سَمِعْت الشيء سَمْعاً»(4)، و «يقال للمَسَامع أيضاً السَّمْع... وقد قالوا الأسْماع»(5)، وبعد هذا يصبح لدينا ثلاثة معانٍ الأذُن وهي المسْمَعة، والمَسْمَعُ: خرقها، والسَمْع: وهو ما وقر فيها من شيء تسمعه، وهو أيضاً اسم ذلك الفعل، ويطلق تارة على الأذن وتارة على الفعل، وعلى ذلك يكون معنى الأذن آلة السمع الخارجية، والمسمْع ما يعبر عنه بالأذن الوسطى اليوم، والصماخ خرقها الباطن الذي يبدأ بطبلة الأذن وما بعدها كما يتضح في (الشكل 4)(6)، وما قول الخليل «صَمَخْت فلاناً: عَقَرْتُ صِماخ أُذُنه بعودٍ أو نحوه»(7)، إلا تعبير عن طبلة الأذن وما يلحق بها.

أمّا الدلالة الاستعمالية لهذه الألفاظ عند الإمام علیه السلام، فتتجه بلفظ الأذن إلى

ص: 85


1- خلق الإنسان: ثابت، 91
2- غريب الحديث، أبو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 ه): 2 / 6
3- المخصص: 1 / 83
4- مقاييس اللغة: 3 / 102
5- المخصص: 1 / 83. وينظر: خلق الإنسان، ثابت: 91. ولسان العرب: 6 / 363
6- أطلس جسم الإنسان، على الشبكة العنكبوتية: https://www.google.iq/?gws_rd=ssl
7- العين: 4 / 192

استعماله للدلالة على السماح للسمع وقبوله من عدمه، وذلك بمقيدات ذكرت في مواضعها مستلزمة لحضور هيأَة هذا الجزء أو لفظه، ففي الشاهد الأول للفظ الأذن قال علیه السلام:

«طَبِیبٌ دَوَّارٌ بِطِبِّهِ، قَدْ أَحْکَمَ مَرَاهِمَهُ، وَ أَمْضَی مَوَاسِمَهُ، یَضَعُ ذَلِکَ حَیْثُ اَلْحَاجَهُ إِلَیْهِ، مِنْ قُلُوبٍ عُمْیٍ، وَ آذَانٍ صُمٍّ، وَ أَلْسِنَهٍ بُکْمٍ...».

فقد شبّه علیه السلام النبي بالطبيب، فحذف المشبه واستعار له لفظ الطبيب، ثم قرنه بما يلائم من وظائفه، ومنها ما تعلّق بالأذن في عبارة (وآذان صمّ) التي يتعلق فهمها بوظيفة الأذن ومعنى الصَّمَمُ، وهو «ذهاب سمعها، وفي القناة: اكتناز جوفها...»(1)، فالجذر (ص م م) يدل على «تصامّ الشيء... ومن ذلك صِمام القارورة لأنه يسدّ الفرجة»(2)، ولما أصبحت الآذان متصامّة عن الحق غير سامحة بسماعه جعلها علیه السلام بمنزلة التي لا تسمع، فوصفها بأنّها صُمٌّ، لأنّ أصحابها لايسمعون مايسوؤهم، فجاء الرسول؛ ليشفي صممها ويفتحه بإعدادها لقبول النّصائح والمواعظ(3)؛ لأن الصمم قد يُطلق مجازاً على الابتعاد عن الفهم والاستجابة، ومناسبة ذلك سد فرجة الأذن عن العلم الذي يقع بها، وقد ذُكر الصمم في قول الله جل جلاله في صفة الكافرين:

«وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ»(4).

ويتجلى لقارئ نص الإمام أنّه عمد إلى إظهار أعضاء أخرى للإنسان في

ص: 86


1- العين: 7 / 91
2- مقاييس اللغة: 2 / 278
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي: 7 / 285
4- البقرة:. 171

التصوير بموازاة الأذن؛ لأنّها من الحواس المهمة للإنسان العاقل المسؤول أمام الله عزّ وجلّ، وبذلك تكون من وسائل إدراك الصورة ومعرفة العلم، فهي تكون بمثابة الناقل الحقيقي لهذه الصورة وتلقي الرسالة بنوع من التأثير والإيحاء.

ويذكر الإمام في النص الثاني الأذن السامعة في حديثه عن الهجرة:

«لَایَقَعُ اسْمُ الْهِجْرَهِ عَلَی أَحَدٍ بِمَعْرِفَهِ الْحُجَّهِ فِی الْأَرْضِ، فَمَنْ عَرَفَهَا وَ أَقَرَّ بِهَا فَهُوَ مُهَاجِرٌ... وَ لَا یَقَعُ اسْمُ الاسْتِضْعَافِ عَلَی مَنْ بَلَغَتْهُ الْحُجَّهُ فَسَمِعَتْهَا أُذُنُهُ وَ وَعَاهَا قَلْبُهُ».

وفي هذا القول للإمام مصطلح متعلق بالعلم يراد نفيه عن طائفة معينة، ومراده علیه السلام أنّ الاستضعاف لا يصدق على من عرف الإمام وسمع مقالته ووعاها قلبه، فهذا ليس بمستضعَف(1)، ولا يقع عليه حكمه كما صدق على المذكورين بقوله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا»(2).

لأن مفهوم الإمام للاستضعاف في النص خلاف مفهومه في القرآن الكريم، فعند الإمام إنّ من سمع الحجة لا يُعدّ مستضعفاً، والضابط في هذا الحكم سماع الأذن لدعوة الإسلام، فحكم الهجرة لم يزل سارياً على من بلغته الحجة مع قدرته على ذلك، أما إذا لم تبلغه الحجة لسبب من الأسباب فهو المستضعف المعذور(3)،

ص: 87


1- ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 397
2- النساء: من الآية 97 - 98
3- ينظر: بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار: 66 / 231

وقد وظّف الإمام الأذن لتكون من أدوات العلم، وجعل من القلب وعاءه؛ إذ لا قيمة للعلم عند الإنسان ما لم تكن هناك آذان تسمع وقلوب تعي؛ فالأذُن إحدى آلات العلم التي ذكر علیه السلام معها فعلها؛ لأنّه أوضح من الوصف بكلمة الأذن وحدها، فكل سامع لهذا الوصف يدرك دلالة اطّلاعهم، ونفوذ العلم المقصود الذي كان عليه هؤلاء ضمن ثلاث مراحل من العلم ذكرها علیه السلام حتّى يمكن شمول العفو عنهم(1)، ويلاحظ في النصين المذكورين ونصوص أخرى(2)، أنّ الإمام يذكر الأذن في أحوال مستلزمة لحضور هيأتها؛ ما يمنع الاستبدال مع أجزائها الأُخر، وبذلك تتضح دلالتها الخاصة؛ فتظهر الأذن مقترنة بالسمع ومشتقاته في أغلب السياقات، تأكيداً لارتباطها بمصطلح حاسة السمع؛ لأن خلاصة القول عنده علیه السلام أنّ هناك أذناً سامعة وأخرى صماء، سواء أكان ذلك على الحقيقة أم المجاز.

وأمّا استعمال الصّماخ في نهج البلاغة، فقد تميّز عند الإمام بقوله:

«وَمَا أَصْغَتْ لاسْتِرَاقِهِ مَصَائِخُ الأسْمَاعِ».

بمظهرين، الأول: معجمي؛ لأنه قد اختار لغة الصماخ وهي لغة تميم؛ فعند النطق بالصاد يتخذ اللسان وضعاً مخالفاً لوضعه مع السين مع الرجوع قليلاً(3)؛ لأنّ العلاقة الصوتية بين الصاد والخاء أقوى من السين وأقرب(4)، لذلك قيل أن لغة «الصَّادُ أَفْصَحُ وَأَشْهَرُ»(5)، بل أنكر بعض العرب لغة السين فقد قال ابْنُ السِّكِّيتِ (ت 244 ه) وَابْنُ قُتَيْبَةَ (ت 276 ه): «أَنَّهُ لَا يَجُوزُ باِلسِّينِ»(6)، وأمّا

ص: 88


1- ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 397
2- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 301، خ 129
3- ينظر: الأصوات اللغوية: 75
4- ينظر: دراسة مخارج أصوات العربية وصفاتها عند القدماء والمحدثين: 112
5- المجموع من شرح المهذب، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 ه): 1 / 412
6- المخصص: 1 / 83

في جمعه فقد ذُكر أنّ مصائخ هو جمع مصاخ(1)، على الرغم من أنّ الصِّمَخ جمعه أَصْمِخَة وصُمُخ(2)، وإذا كان كذلك فإنّ الإمام هو صاحب هذه البنية في الجمع؛ لأنها لم ترد عند أصحاب المعجمات حتى القرن الرابع الهجري، أو من نقل عنهم فيما تيسر للباحث(3)، والمظهر الآخر: دلالي، يتبين من قوله علیه السلام:

«ومَا أصْغَتْ لاِسْتِراقِهِ مَصَائِخُ الأسْمَاعِ».

أي: وما مالت بسمعه من نحو الاستماع في خفية من خروق الآذان الّتي يستمع بها، قال تعالى:

«إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18)»(4).

ويلحظ أن القرآن الكريم قد استعمل الاستراق للسمع، في حين أن الإمام استعمله للمصائخ، ومصائخ الأسماع خروقها التي يصيخ بها أي يتسمع(5)، فهي منافذ دخول الصوت إلى أجزاء الأذن الداخلية التي تحوّل الموجات الصوتية إلى إشارات وترسلها إلى الدماغ(6)، لذا كانت دقة اختيار هذا الجزء من الأذن متناسبة مع دلالة الخفاء المتعلقة بوظيفته وفعل الاستراق، وينسجم مع المعنى العام في السياق، ويظهر أن الإمام لما أراد نسب السمع إلى الإنسان أضاف للسمع لفظ المصائخ؛ احترازاً للمعنى الذي يحمله فعل الاستراق عن المخلوقات الأخُر كما جاء

ص: 89


1- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 228
2- ينظر: لسان العرب: 3 / 34
3- ينظر: على سبيل المثال: العين: 4 / 192، والجيم: 2 / 176، وتهذيب اللغة، أبو منصور محمد بنأحمد الأزهري (ت 370 ه): 7 / 157، وجمهرة اللغة، ابو بكر محمد الحسن بن دريد (ت 320 ه): 2 / 277، 3 / 379
4- الحِجر:. 18
5- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 7 / 26
6- ينظر: القوى العقلية الحواس الخمس: 314

في الآية الكريمة، لأن أذن الإنسان تسمع موجات صوتية ولا تسمع أُخر، والإمام أراد الدلالة على جزء من موجات أُخر، فاحترز لذلك بعبارة (ما أصغت).

أمّا ما يخص دلالة لفظ السمْع(1)، فقد ورد اللفظ أكثر من الأذن وملحقاتها الأخُر؛ وذلك لاختلاف استعماله عند الإمام علیه السلام؛ فيصفه بالوعي في عبارة «وَأَسْمَعاً وَاعِيَةً» في الشاهد المذكور، وهو من وعى يعي وعياً، أي: حفظ حديثاً ونحوه(2)، والمراد في النص تعي وتدرك(3)، وقد وصف علیه السلام السمع بالوعي؛ لأن مداخل الحس ومنها الأسماع ما هي إلّا أجزاء وفروع تتشعب من الدماغ وتنتهي إليه عن طريق ما يعرف بالأعصاب، وفي سياق الكلام ما يشير إلى ذلك؛ لأنَّ الخطاب متوجّه به إلى العقل، والنص يعطي صورة واضحة عن حقيقة حصول السمع لتضمّنه معنى الدخول في خرم الأذًن، دلّ على ذلك القرائن والصفة المصاحبة لأداء الوظيفة؛ لأنها تُوجب وجود آلته، فمعنى (الأسماع) في النص يحتمل المجاز ومخاطبة العقل، وبذلك تكون للأسماع صفة خصوصية دلالية تفترق عن دلالة الأذن بصورة عامة، أو ما ورد في قوله تعالى:

«لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)»(4).

لأن الأمر مرهون بالقرينة وظروف التداول كما أسلفنا.

وفي قول الإمام علیه السلام: «وَأرْعِدَت الأسْمَاعُ» في الشاهد الثاني للفظ السمع، تظهر حال أخرى مختصة بيوم موعود في كلام الإمام جعلت للأسماع حركة وتقهقراً على الرغم من أنّها من ثوابت الإنسان، وقد جاء ذكرها مجازاً لتقريب

ص: 90


1- تتمتع مشتقات مادة (سمع) بكثرة عددها في نصوص نهج البلاغة إذ وردت (164) مرة
2- ينظر: العين: 2 / 272
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 155
4- الحاقة:. 12

الصورة، والرعدة: رجرجة تأخذ الإنسان من فزع أو داء(1)، وأرعدت الأسماع أي: عرتها الرعدة، وزبرة الداعي صوته ولا يقال للصوت زبرة إلّا إذا خالطه زجر، وإنّما خُصّت الأسماع بالرعدة؛ لأنّها تحدث من صوت الملَك الذي يدعو الناس إلى المحاسبة(2)، وحركة الارتعاد والاضطراب هذه(3) دلالتها ارتعاد الأنفس عن طريق السماع للصوت المخيف النافذ إلى الأسماع؛ ذلك أن الأسماع لا ترعد ولا تخاف لأنها جوامد. أما الأنفس فهي التي تخاف ولا يمكن أن نقول (أرعدت الآذان)؛ لأن الأذن لا ترعد أو تخاف، وإنما يكون الخوف من سماع الصوت المخيف، فكأنه علیه السلام عبر بالسبب وأراد المسبب له فعبر بالأسماع لأنها سبب الرعب بدليل أن السمع يحدث في باطن الأذن؛ فالعصبة المنبسطة في السطح الباطن من صماخ الأذن هي المسؤولة عن السمع(4)، و «الآذان مجرد أدوات لتجميع الأصوات، وحتى لو قطعت الأذنين فلن تتوقف حاسة السمع، ويسمع الإنسان عن طريق الأعصاب السمعية»(5)، ويمكن أن يكون الإمام قد خصّ الأسماع بالذكر من دون الآذان؛ لأنها هنا قد دلّت على ما استقر في الأذن، أي ما سُمع، فالإمام قصد ارتعاد النفس بواسطة ما تسمع به، إذ مثلت الأسماع في النص واسطة فعبر بالواسطة عن الأنفس، فلولا أن الأصوات جاءت عن طريق الأسماع لما ارتعدت النفس، وبذلك تكون واسطة لوصول الصوت للنفس فترعد النفس، ومثال ذلك قول كاتب ما: أكلتُ بقلمي، فلما كان القلم هو الذي استحصل به الأجر بسب كتابته كان أكله بواسطة قلمه.

ص: 91


1- ينظر: العين: 2 / 33
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 6 / 252
3- ينظر: مقاييس اللغة: 3 / 374
4- ينظر: الكليات، أبو البقاء الكفوي (ت 1094 ه): 1 / 780
5- القوى العقلية الحواس الخمس: 312

ويتحدث الإمام عن أحوال كثيرة للسمع في النصوص الأخُر التي ورد فيها اللفظ(1)، ولكن على الرغم من اختلاف الكيفيات التي يحصل بها السمع عند الإنسان، فإنّها تستند إلى أصل دلالي هو الاستقبال وإدراك المسموع، وقد عبّر الإمام عن مراده في كلامه بالسمع ولم يعبّر عنه بالأذن؛ لأنّ المسامع «من شأنها أن تدرك الصوت المحرك للهواء الراكد في مقعر صماخ الأذن عند وصوله إليه بسبب ما، والسمع قوة واحدة ولها فعل واحد ولهذا لا يضبط الإنسان في زمان واحد كلامين، والأذن محله ولا اختيار لها فيه...»(2)؛ لذا فإن من يطّلع على استعمال الإمام للفظ الأذن ولفظ السمع يميز أنّ الإمام اتّجه بلفظ الأذن نحو الحياة الدنيا التي يغلب عليها استحضار الجانب المادي الجسماني، وهو ما يستلزم صحة عضو السمع وسلامته، أمّا السمع، فكان يمتاز بتنوّع الاستعمال في حياة الإنسان ومماته وآخرته، فدلالته أوسع من دلالة الأذن، فهو ينتقل بين العوالم؛ لأن السمع الحقيقي متعلق بالروح والقوى التي ينماز بها الإنسان، لقوله علیه السلام:

«فَلَم يَزَلِ المَوتُ يُبَالِغُ فِي جَسَدِهِ حَتّي خَالَطَ لِسَانُهُ سَمعَهُ، فَصَارَ بَينَ أَهلِهِ لَا يَنطِقُ بِلِسَانِهِ، وَ لَا يَسمَعُ بِسَمعِهِ، يُرَدّدُ طَرفَهُ بِالنّظَرِ فِي وُجُوهِهِم، يَرَي حَرَكَاتِ أَلسِنَتِهِم، وَ لَا يَسمَعُ رَجعَ كَلَامِهِم، ثُمّ ازدَادَ المَوتُ التِيَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ كَمَا قُبِضَ سَمعُهُ، وَ خَرَجَتِ الرّوحُ مِن جَسَدِهِ»(3).

يظهر مما سبق دقة الاختيار في توظيف اللفظ لتحصيل الدلالة المتوخاة منه في السياق، وتميز الاستعمال بالمحافظة على علاقة الاشتمال بين الأذن

ص: 92


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 181، خ 88، 1 / 235، خ 104، 2 / 38، خ 216، 2 / 269، ح 272
2- الكليات: 1 / 780
3- نهج البلاغة: 1 / 251، خ 108

وملحقاتها؛ إذ استعملت الأذن للمعاني الخاصة باستحضار الهيأة فكانت خاصة للحياة الدنيا ودلّت على العضو المادي المعروف، والسمع للتعبير عن معاني الاستقبال وما يرتبط به من علاقات شمل الدنيا والآخرة، والصّماخ لمعنى الخفاء من الأصوات التي يعسر سمعها، فكان علیه السلام في هذا الحقل مراعياً للترتيب الفسلجي في إنتاج الدلالة.

ص: 93

ص: 94

المبحث الخامس الألفاظ الدالة على الأنف وما يلحق به

عُرف الأنف بأنّه عضو التنفس وحاسة الشم في جسم الإنسان، ويؤدي هذه الوظائف بأجزاء تقع تحت مسمّاه، ذُكرت في كتب عنت بخلق الإنسان مرّ ذكرها، ومما تجدر الإشارة إليه أن الإمام علیه السلام قد عبّر عن عضو التنفس هذا بلفظ آخر، في قوله:

«اعْجَبُوا لِهذَا الْإِنْسَانِ یَنْظُرُ بِشَحْمٍ، وَیَتَکَلَّمُ بِلَحْمٍ، وَیَسْمَعُ بِعَظْمٍ، وَیَتَنَفَّسُ مِنْ خَرْمٍ(1)»(2).

والإمام بهذا الاستعمال قد حوّل كلمات عامة إلى ألفاظ محددة الدلالة في بيئة النص؛ لأنّ الكلمة الصامتة صورة صوتية مفردة في ذهن المجتمع أو صورة كتابية بين جلدتي المعجم، فحين يلتقطها المُرسِل يحولها من الصورة إلى الحقيقة الحسية في السياق الاستعمالي(3)، فظهرت النكرات في النص بإطار جديد تفيض بالحيوية وتفقد وضعيتها الجامدة، مع عناصر أُخر مرتبطة بهذا الاستعمال وتابعة له(4).

ص: 95


1- الخرم إذا انشقت الوترة بين المنخرين، أي غضروف منخريه، وهو ضرب من الاقتطاع. يقال خَرَمْتُ الشَّیءَ. واختَرمَهُم الدَّهر. وخُرِم الرجُل، إذا قُطِعَتْ وتَرَةُ أنفِه. (ينظر: والعين: 4 / 529، وخلق الإنسان، ثابت:، وكتاب في ذكر شيء من الحلي، ابن جعفر التميمي (ت 412 ه): 13
2- نهج البلاغة: 2 / 309، ح 8
3- ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها، تمام حسان: 317
4- ينظر: التداولية عند العلماء العرب، مسعود صحراوي: 22 - 23

أما ما استُعمل في نهج البلاغة من ألفاظ تخصّ الأنف وتقع تحت مسماه فهي:

(والعرنين(1)، والمنخر، الخيشوم)، غير أنّ الأخير لم يُقصد به أنف الإنسان؛ فأعرضنا عن دراسته، فضلاً عن قلة شواهده(2)، ويسعى البحث هنا للكشف عن دلالات استعمال هذه الألفاظ للإنسان في المتن المدروس وأثر دلالاتها في عملية التواصل، ولا يخفى أن هنالك مجتمعاتٍ بشريةً توظّف الأنف في عملية التواصل؛ لارتباطه بدلالات العزة والشرف والتكبر في إجراء واقعي اجتماعي يقوم على العلاقة بين طرفين أو أكثر، ومن شواهد هذه الألفاظ في النهج ما يأتي:

-الأنف: ذكر ثلاث عشرة مرة وقد خُصّ الإنسان منها بأربع مرّات(3)، منها قول الإمام علیه السلام في عهد كتبه للأشتر النَّخَعي:

«املِك حَمِيّةَ أَنفِكَ، وَ سَورَةَ حَدّكَ وَ سَطوَةَ يَدِكَ... حَتّي يَسكُنَ غَضَبُكَ فَتَملِكَ الِاختِيَارَ»(4).

وقوله علیه السلام في حكمة له:

«فَمَنْ أَمَرَ بِالْمَعْرُوفِ شَدَّ ظُهُورَ الْمُؤْمِنِینَ، وَ مَنْ نَهَی عَنِ الْمُنْکَرِ أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُنَافِقِین...»(5).

-المنخر: ذكره الإمام علیه السلام مرتين للإنسان، بقوله عن الماضين:

«وَضَعْضَعَتْهُمْ بِالنَّوَائِبِ، وَعَفَّرَتْهُم ْلِلْمَنَاخِرَ، وَوَطِئَتْهُمْ بَالْمَنَاسِمِ، وَأَعَانَتْ

ص: 96


1- قال الزجاج: «ومعظم الأنف يقال له العرنين»، (خلق الإنسان: 52. وينظر: مقالة في أسماء أعضاء الإنسان: 16)
2- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 198، خ 90
3- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 94، خ 238، 1 / 141، خ 72
4- المصدر نفسه: 2 / 264، ك 53
5- المصدر نفسه: 2 / 313، ح 31

عَليْهِمْ رَيْبَ الْمَنُونِ»(1).

وقوله علیه السلام عن الشيطان:

«دَلَفَ بِجُنُودِهِ نَحوَكُم، فَأَقحَمُوكُم وَلَجَاتِ الذّلّ، وَ أَحَلّوكُم وَرَطَاتِ القَتل،ِ وَ أَوطَئُوكُم إِثخَانَ الجِرَاحَةِ، طَعناً فِي عُيُونِكُم، وَ حَزّاً فِي حُلُوقِكُم، وَ دَقّاً لِمَنَاخِرِكُم، وَ قَصداً لِمَقَاتِلِكُم، وَ سَوقاً بِخَزَائِمِ القَهرِ إِلَي النّارِ المُعَدّةِ لَكُم»(2).

-الخيشوم: ورد ذكره للإنسان مرة واحدة في حكمة للإمام علیه السلام بقوله:

«لَوْ ضَرَبْتُ خَیْشُومَ اَلْمُؤْمِنِ بِسَیْفِی هَذَا عَلَی أَنْ یُبْغِضَنِی مَا أَبْغَضَنِی، وَ لَوْ صَبَبْتُ اَلدُّنْیَا بِجَمَّاتِهَا عَلَی اَلْمُنَافِقِ عَلَی أَنْ یُحِبَّنِی مَا أَحَبَّنِی»(3).

وأما ما يخص المعنى اللغوي، فالأنف من الجذر (أ ن ف) وله «أصلان منهما يتفرَّع مسائلُ الباب كلّها: أحدهما أخْذ الشيءِ من أوّلهِ، والثاني أَنْف كلِّ ذي أنْف، وقياسه التحديد. فأمّا الأصل الأوّل فقال الخليل: استأنفت كذا، أي رجعتُ إلى أوّله،...ومؤْتَنفَ الأَمْر: ما يُبْتَدَأُ فيه... والأصل الثاني الأنف، معروف»(4)، وقال الراغب الأصفهاني: «أصل الأنف الجارحة ثم يسمى به طرف الشيء وأشرفه، فيقال أنف الجبل وأنف اللحية ونسب الحميّة والغضب والعزة والذلة إلى الأنف... قيل:

شمخ فلان بأنفه للمتكبر، وترب أنفه للذليل، وأنفَ فلان من كذا بمعنى استنكف وأنفته أصبت أنفه، وحتى قيل الأنفة الحميّة واستأنفت الشيء أخذت أنفه أي مبدأه»(5)، والأنف جميعُ المَنْخَر سُمّي بذلك لتَقَدُّمه، وجمعه آنُفٌ وأُنُوف وآنَاف(6)،

ص: 97


1- المصدر نفسه: 1 / 259، خ 110
2- المصدر نفسه: 2 / 93. خ 238
3- المصدر نفسه: 2 / 317، ح 43
4- مقاييس اللغة: 1 / 146. وينظر: العين: 8 / 377
5- المفردات في غريب القرآن: 1 / 28
6- ينظر: المخصص: 1 / 128. ومقالة في أسماء أعضاء الإنسان: 16

والأنف على ذلك تكون علاقته بالمنخر اشتمالية، وهو من الأجزاء الظاهرة من الأنف، فهو خرق الأنف كما يتبين من كلام ابن فارس عن أصل الجذر (ن خ ر)، إذ ذكر له «أصلٌ صحيح يدلُّ على صوتٍ من الأصوات ثم يفرَّع منه، والنخير:

صوتٌ يخرج من المَنْخِرين، وسُمِّي المَنخِران من جهة النخَّير الخارجِ منهما، وفُرِّع منه فقيل لخرَقَي الأنف النخُّرتان... ويقولون: النُّخْرة: الأنف نفسُه»(1)، وبعض العرب يقول: «المَنْخِرُ، والمَنْخَرُ، والمِنْخِرُ والمُنْخُرُ، والمُنخْورُ الأنَف... والمَنْخِرُ ثُقْبُ الأَنْفِ وقد تكسر الميم إتِباعاً لكسرة الخاء... لأن مِفْعِلاً ليس من الأبَنية... وكان القياس مَنْخِراً ولكن أَرادوا مِنْخِيراً»(2)، وفي كتب خلق الإنسان قيل أن المنخران:

هما الخرقان اللذان يخرج منهما النفَّس، وهما حرفا المنخرين من يمين وشمال من عرض الأنف، وفيه الوترة وهو الحاجز الذي يحجز بين المنخرين(3).

أمّا الخيشوم، فذكر ابن فارس انّه من الجذر (خ ش م) وله «أصلٌ واحد يدلُّ على ارتفاعٍ، فالخَيْشوم: الأنف، والخَشَم: داءٌ يعتَرِيه، والرجل الغليظُ الأنْفِ خُشَام، والمُخَشَّم: الذي ثار الشَّرابُ في خَيشومه فسَكِر، وخياشيم الجِبال:

أنوفُها»(4)، وهذه الدلالة مبنية على الظاهر كما يبدو، لأنّ للخيشوم امتداداً داخليّاً تحت الأنف(5)؛ إذ إن «منفذ الأنف إلى الدماغ وفيه غضاريف وقيل عروق تسمى

ص: 98


1- مقاييس اللغة: 5 / 405
2- لسان العرب: 5 / 197
3- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 146، وخلق الإنسان، الزجاج: 52
4- مقاييس اللغة: 2 / 184. و ينظر: كتاب الجراثيم، أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 ه): 177
5- قال الإمام علیه السلام في سياق الحديث عن خلق الأرض «فَسَكَنَتْ مِنَ الْمَيَدَانِ بِرُسُوبِ الْجِبَالِ فِی قِطَعِ أَدِيمِهَا، وَتَغَلْغُلِهَا مُتَسَرِّبَةً في جَوْبَاتِ خَيَاشِيمِهَا، وَرُكُوبِهَا أَعْنَاقَ سُهُولِ الارَضِينَ...»، وبالاستفادة من المعنى اللغوي فإن الخَيْشوم، هو منفذ الأنف إلى الرأس، واقترانه بالجوبة وهي الحفرة، قد مكن الإمام من اظهار المبالغة في التغلغل والدخول للجبال في الأرض على الرغم من امتيازها بصفة الخيشوم وهي استعلاؤها على سهولها، ووجود متنفسات الهواء فيها، وبعد ذلك فإن هذا النص يؤيد رأي الباحث

الخياشيم، وقيل أنها عظام رقاق في بطن الأنف»(1)، وقيل: «خَيْشُوم الَأنْف ما فوقَ نُخْرته من قَصَبة أنفه وما تَحْتها من خَشَارِمِ رَأْسه»(2)، وبعيداٌ عن الظن يوضح علم التشريح موقع الخياشيم، فيتبيّن من (الشكل 5) أنّ الأنف مسمى للكل، وهو الشكل الظاهري البارز من الوجه، ويقع في تجويفه الخيشوم المسمى التجويف الأنفي في (الشكل 5)، والخيشوم في (الشكل 6)، وينماز بعمقه واحتوائه على الجيوب الأنفية المسماة الخياشم عند أهل اللغة(3).

(الشكل 5)(4) يوضح أجزاء الأنف (الشكل 6)(5) يوضح موقع الخيشوم

ص: 99


1- خلق الإنسان، ثابت: 147
2- المخصص: 1 / 131
3- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 147
4- اطلس جسم الإنسان، على الشبكة العنكبوتية: .www.google.iq
5- المصدر نفسه

وتضمن استعمال الإمام للأنف الأصلين اللذين ذكرهما ابن فارس بغلبة الأول منهما، وهو غير معني بالبحث، أمّا الأصل الثاني وهو ما خُصّ به الإنسان، فمنه قول الإمام علیه السلام في الشاهد الأول للأنف:

«وَمَنْ نَهَی عَنِ الْمُنْكَرِ أَرْغَمَ أُنوُفَ الْمُنَافِقِينَ».

وأَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُناَفِقِينَ، من رَغِمَ أنْفُه أي لصق بالرَّغام وهو التراب، كما يقال شمَخ بأَنْفه، يريد رفع رأسه كِبْراً(1)؛ لذا استُعْمِلَ الأنف في الدلالة على الذُّل والعَجْز والانقياد إذا كان على كُرْهٍ وغضب ومساءَة(2)، وهو تعبير مجازي من شأنه أن يزيد من مقدرة النص التأثيرية(3)، وهو من أكثر الأساليب تحريكاً للتأمل العقلي وإبراز المعاني في السياق واستنطاق صوره الموحية(4)، فقد استعملت العبارة في سياق تقابل دلالي مع سابقتها، فقوله علیه السلام شدّ ظهور المؤمنين بمعنى أوقفها فكانوا شامخي الأنوف؛ لأن استقامة الظهر تكون بشد عضلها ويترتب على ذلك أن تكون أنوفهم عالية دالة على العزة والأنفة، على حين قال بالمقابل (أَرْغَمَ أُنُوفَ الْمُناَفِقِينَ) أي جعل وجوههم بالتراب مجازاً فهي ذليلة وظهورهم منحنية نحو الأرض غير مشدودة، وهذا تعبير عن الذّل.

أمّا في الشاهد الثاني فقد ورد لفظ الأنف في جملة طلبية هي «امْلِكْ حَمِيَّةَ أَنْفِكَ» ويجانب الأنف طرفي الإضافة المنفصلة في (حَمِيَّةَ أَنْفِ)، والمتصلة في (أَنْفِكَ)، وبذلك فإنَّ فعل الأمر يتعلق بشيء متعلق بالأنف لا بذاته، أي حمية الإنسان التي بإمكانه تملكها، وأسلوب الأمر هذا قد عمد إليه الإمام في أغلب نص العهد؛ ليمثل

ص: 100


1- ينظر: مقاييس اللغة: 1 / 146
2- ينظر: الزاهر في معاني كلمات الناس: 1 / 229، وغريب الحديث، أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي: 3 / 1076
3- ينظر: اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود: 12 - 13
4- ينظر: الأداء البياني في لغة القرآن الكريم: صباح عباس عنوز، 55

الصورة التي يريدها الإمام فصيغ الأمر تلتقي مع بعضها في الدلالة بإحالات مختلفة؛ لذا استعمل علیه السلام من وسائل الربط مع هذا الفعل الفاعلية والمفعولية في النص؛ لتبيّن مع القرائن الدلالة المطلوبة(1)، يقال: «غَضِبَ الرجل... أي صار حْمَى قلبه إلى جِلْدة رأسه كما قيل أَنِفَ، أي حَمِيَ أنْفُه غَضَباً»(2)، فحميّة الأنف في النص كناية عن الغضب والغيض بدلالة المصاحبات اللغوية في السياق، يقال: «ورجل حمي الأنف. إذا كان أنفاً يأنف أن يضام»(3)، أَي: أَنَفاً وغَيْظاً لا يْحَتَمِل الضَّيْم(4)، وفي النصين المذكورين ونصوص أُخر(5)، يستعمل علیه السلام الأنف للدلالة على الكبر وما يتعلق بها؛ لأنّ الأنف مسمى يقع على أشرف الشيء وطرفه لظاهر الأنف، وهو أول ما يُرَى من الوجه فأشرف عليه؛ لذا جعل منه الأمام مكاناً، لظهور أثر الغضب والحمية والذلة والإعراض ابتداءً، وهذه السمات لا تتمتع بها الأجزاء الأُخر الملحقة بالأنف.

ومن ذكر الإمام علیه السلام للفظ المنخر في نهج البلاغة في النصين المذكورين آنفاً يستشف الاستعمال المجازي لهذا الجزء، إذ قال في أولهما عن الماضين: «وَعَفَّرَتْهُمْ للْمَنَاخِر»، وكل الأفعال الماضية المذكورة في النص فاعلها مؤنث محذوف تقديره (هي)، أي: الدنيا، «وَعَفَّرَتْهُمْ للْمَناَخِرَ» أي ألصقت مناخر أنوفهم التي يخرج منها النفس بالعَفر وهو التراب حتى أُدخل فيه؛ لأنه قال وَعَفَّرَتْهُمْ للْمَناَخِرَ، فلا يقال:

وَعَفَّرَتْهُمْ للأنوف؛ لأن المراد ليس مس التراب ظاهر الأنوف بل دخوله إلى داخل

ص: 101


1- ينظر: عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر دراسة تحليلية في ضوء علم النص، عبد الكاظم محسن الياسري: 74 - 75
2- المخصص: 1 / 57
3- العين: 8 / 378
4- ينظر: لسان العرب، 9 / 12
5- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 2 / 94، خ 238، 1 / 141، خ 72

الأنف، واللام لا ترد مع الأنف وتحقق هذا المعنى وهذه لغة جسدية تشير إلى المبالغة في شدة تمريغ الأنوف بالتراب ذلا وخضوعاً لأصحابها(1)، ولذلك خصّت المناخر هنا من دون غيرها، فالإمام لم يقصد الفعل والمناخر وإنّما قصد النتائج وأصحابها(2).

وكان ثاني النصين كلامه علیه السلام عن الشيطان:

«طَعْنا فِي عُيُونِكُم، وَحَزّا فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّاً لِمَناخِرِكُمْ».

والكلام هنا عن إيطاء الشيطان ببني آدم وإلقائه إياهم وتوريطهم وحمله لهم على تلك الأفعال، فذكر علیه السلام أصنافاً من جراحة الأعضاء التي ارتبطت بما قبلها من النتائج في النص فالجراحة ناسبت العيون، وذكر الحزّ وهو الذبح ناسب الحلوق، وذكر الدّق وهو كسرُ الشيء بأَيِّ وَجْهٍ ناسب المناخر(3)، لطبيعة تكوينها الغضروفي(4)، وارتباطها بمعنى الذل، فضلًا عن أنّ للفعل دقّ «أصلٌ واحد يدلُّ على صِغَر وحَقارة، فالدَّقيق: خِلافُ الجَليل»(5)، فدقّ المنخر كناية عن شدة الذّل والانتهاء؛ لما يصيب الناس من أبناء جلدتهم التي منشأها جميعاً هو إغواء إبليس وجنوده، فكان استعمال المنخر من دون غيره - وهو مدخل النفس الذي لا يُرى - مناسباً مع المعنى المراد؛ ذلك بأن مدخل النفس إذا دُقّ مات صاحبه، فضلاً عن أن الإمام استعمل كل الأحداث في السياق على سبيل ظاهر الجسد فالطعن للظاهر من العين وليس لأجزائها الداخلية، والحزّ لظاهر الحلقوم... الخ، وبذلك ناسب أن يكون الدقّ للظاهر من بداية الأنف الداخلية الظاهرة للعيان كحال العين

ص: 102


1- ينظر: لسان العرب: 4 / 583
2- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبي الفضل: 1 / 259، خ 110
3- ينظر: نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 13 / 144
4- ينظر: اطلس جسم الإنسان: 39
5- مقاييس اللغة: 2 / 258

والحلقوم، ولفظ المناخر في النصين كليهما قد استُعمل مجازاً لا يقصد به ظاهره، لكنه يشعر بالانتماء الدلالي إلى المعنى اللغوي.

ويرتبط استعمال الخيشوم عند الإمام بدلالة مختلفة عن الأنف في الشاهد المتعلق بالخيشوم فقوله علیه السلام:

«لَوْ ضَرَبْتُ خَيْشُومَ الْمُؤْمِنِ بِسَيْفِي هذَا».

يظهر فيه أنّ فعل الضرب ليس بحادث في الحقيقة؛ لأنّه تعليق نفي على نفي؛ لأنّ (لو) قد جاءت شرطية أداة امتناع لامتناع، وهذا الأسلوب اللغوي متعلق بشخصية المتكلم والسامع وتكوينهما الثقافي(1)، فيعمد المتكلم في خطابه إلى مراعاة الظروف الخارجية التي تحيط بالخطاب(2)، وقد استعمل علیه السلام فعل الضرب مع الخيشوم لأنّه جزء من الأنف ارتبط باستمرار الحياة؛ فهو علیه السلام قد أراد الضربة المؤثرة النافذة التي تصل إلى منفذ الهواء من جسم الإنسان بضرب السيف؛ لذا ارتبطت به حياة الإنسان وموته، ويمكن أن يكون ذكره للخيشوم احترازاً، فلو قال: لو ضربت أنف المؤمن أو منخره، لكان ذلك أهون من ضربة الذل ومفارقة الحياة معاً، وهذا ما يتناسب مع أهمية ما أراد الإمام تقريره من كلام جاء عَلَی لِسَانِ النَّبِيِّ إذ قال: علیه السلام «وذلك أنّه قُضي فانقضى على لسان النبيّ الأمُّي صلی علیه وآله وسلم أنّه قال: يا عليّ، لا يبغضك مؤمن، ولا يحبّك منافق»(3)، فجعل النّبيُّ بغض علّي علیه السلام وحبّه مقياساً لتشخيص الإيمان والنّفاق(4)، أمّا غرض الإمام من كلامه أن عداوة الباطل

ص: 103


1- ينظر:نظرية النحو العربي، نهاد الموسى: 85
2- ينظر: لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري، أحمد مدارس: 166
3- موسوعة الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ، محمد الريشهري: حديث رقم. (6047): 14 / 34
4- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 84

للحق ذاتية، وما بالذات لا يتغير إلا إذا كان التغير ذاتاً للشيء وطبيعةً(1).

مما سبق يظهر أنّ ما يطلق عليه تسمية الأنف لا يؤلف إلا جزءاً من الأنف الحقيقي، لأنّ الذي لا يبدو منه جزء أكبر يسمى الخيشوم، وعلى الرغم من هذه الجزئية فإنّ الأنف مثل اللفظ المحوري في العديد منها، ويلاحظ في هذه النصوص خلو الأنف في الاستعمال من وظائفه كالتنفس والمساعدة في التصويت إلاّ في إشارات غير مباشرة، وعلى الرغم من التقارب الدلالي بين الألفاظ واشتراكها في بعض السمات، فإنه عند الموازنة يمتنع الاستبدال بين ألفاظ الأنف وملحقاته كما تبين في تحليل النصوص، ما يثبت دقة التعبير عند الإمام علیه السلام وتفريقها عن بعضها، أما الدلالة الاستعمالية لألفاظ الأنف فقد ارتبطت بالعزة والشموخ وانعكاسها بصورة عامة، وانمازت الأجزاء الداخلية منه بدلالات انتهاء حياة الإنسان في بعض النصوص.

ص: 104


1- ينظر: في ظلال نهج البلاغة، محمد جواد مغنية: 3 / 156

المبحث السادس الألفاظ الدالة على الفم وما يلحق به

يمثل الفم البوابة الرئيسة لما يعرف اليوم بالجهاز الهضمي؛ إذ إنّه يقوم بوظائف عدّة منها ما يتعلق بمضغ الطعام، ومنها ما يتعلق بحاسة الذوق، ومنها ما يتعلق بإنتاج الأصوات... الخ، وتنتمي أجزاء عدّة للفم ذكرت في نهج البلاغة هي:

(الشفة، الثغر، اللهاة، الريق، اللسان، الحلق، البلعوم)، ألزمتنا أن نضعها ضمن حقل دلالي واحد وصولاً إلى دلالاتها؛ لاتصالها اتصالاً مباشراً بحياة الإنسان وتواصله في مناحيها المختلفة التي تتوقف أحيانا في أكثر الأمور على دلالة الألفاظ وفهمها فهماً صحيحاً في ميادين مختلفة من الحياة مثل الحقوق والفقه وغيرها(1)، وقد مثّلت الأسنان مجموعة دلالية فرعية في نهج البلاغة أشارت إلى ما بداخل الفم من أسنان من دون ذكر الوحدة الجامعة لها، وهي السّنّ(2)، ومما تجدر الإشارة

ص: 105


1- ينظر: نظرية الحقول الدلالية في كتاب المخصص لابن سيدة، جعفر عبد الحسين الزيرجاوي، (رسالة ماجستير): 80
2- السن: عظمة بيضاء نابتة في الفم تتكوّن من مادة صلبة هي المينا، تليها مادة أقل صلابة هي العاج ثم لب السن، وجمعه أسنان، ويستعملها الإنسان لقطع ما يأكله كما تستعمل في المضغ والتصويت (أطلس جسم الإنسان: 61)، والسن من الجذر (س ن ن)، وله: «أصلٌ واحد مطرد، وهو جريَان الشيء وإطرادُهُ في سهولة، والأصل قولهم سَنَنْتُ الماءَ على وجهي أَسُنُّهُ سَنَّاًّ، إذا أرسلتَه إرسالاَ، ثمَّ اشتُقَّ منه... والسِّنان للرُّمح من هذا؛ لأنّه مسنون، أي ممطول محدّد. وكذلك السَّناسِنُ، وهي أطراف فَقار الظهرِ، كأنَّها سُنتّ سَنّاً، ومن الباب: سِنُّ الإنسانِ وغيره مشبّه بسنان الرّمح والسَّنون: ما يُسْتاك به؛ لأنَّه يُسَنُّ به الأسنان سَناًّ... ويَرجِعُ إلى الأصل الذي أصّلناه، (مقاييس اللغة: 1 / 63)

إليه أنّ إظهار الأسنان قد ساعد القدماء كثيراً على تمييز ما إذا كان الغريب صديقاً أم عدواً، غاضباً أم ضاحكاً(1)، فهي غالباً ما تكون استجابة تداولية في الكلام ينضوي ورائها قصد معين(2) وفي هذا الحقل الدلالي سندرس الألفاظ التي تشير إلى أسنان الإنسان كما وردت في نصوص نهج البلاغة، وهي: (ضرس، ناب، ناجذ، سنخ(3))، وستدرس ألفاظ هذا المبحث على ثلاث مجموعات، الأولى: تمثل مسميات الفم، والثانية: تمثل ما يلحق به من أسنان، والثالثة: تمثل ما يحتويه الفم من الأجزاء الأخُر.

المجموعة الأولى:

تتضمن الألفاظ الدالة على تسمية الفم، وما يحيط به وهي (الفم، الشفة، الثغر)، ومن شواهدها:

- الفم: ورد ذكره خمس مرات لإنسان في كلام الإمام علیه السلام(4)، منها قوله إلى عبدالله بن زمعة:

«إِنَّ هذَا الْمَالَ لَيْسَ لِي وَلاَ لَكَ، وَإِنَّمَا هُوَ فَيْءٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَجَلْبُ أسْیَافِهِمْ، فَإِنْ شَرِکْتَهُمْ فِي حَرْبِهِمْ كَانَ لَكَ مِثْلُ حَظِّهِمْ، وَإلِاَّ فَجَنَاةُ أَیْدِیهِمْ لاَ تَکُونُ لِغَیْرِ أَفْوَاهِهِمْ...»(5).

ص: 106


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 138
2- ينظر: استراتيجيات الخطاب: 141
3- جاء ذكر (السنخ) مرة واحدة في النهج لغير الإنسان في قوله علیه السلام: «لَايْهَلِكُ عَلَی التَّقْوَى سِنْخُأَصْل، وَلا يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْم». لذلك سوف نعرض عن دراسته، والسنخ: أصل كل شيء، فالسِّنخْ: الأصل، وأَسْناَخُ الثنايا: أصولُا، كما جاء في العين: 4 / 200
4- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 39، خ 216، 2 / 31، ك 47، 2 / 316، ح 40
5- المصدر نفسه: 2 / 60، خ 227

وقوله علیه السلام في أصناف الناس:

«وبقي رِجَالٌ غَضَّ أَبْصَارَهُمْ ذِکْرُ الْمَرْجِعِ، وَأَرَاقَ دُمُوعَهُمْ خَوْفُ الْمَحْشَرِ، فَهُمْ بَیْنَ شَرِید ناَدٍّ، وَخَائفِ مَقْمُوع، وَسَاكتِ مَكْعُوم، وَدَاع مُخْلِص، وَثَكْلانَ مُوجَع، قَدْ وَعَظُوا حَتَّی مَلُّوا، وَقُهِرُوا حَتَّی ذَلُّوا»(1).

- الشّفة: ذكرها الإمام علیه السلام خمس مرات(2)، ومنها قوله في بيان قدرة الخالق:

«وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَيْهِ أَطْبَاقُ الدَّیَاجِیرِ، وَسُبُحَاتُ النُّور، وَأَثَرِ کُلِّ خَطْوَة وَحِسِّ کُلِّ حَرَکَة، وَرَجْعِ کُلِّ کَلِمَة، وَتَحْرِیكِ کُلِّ شَفَة، وَمُسْتَقَرِّ کُلِّ نَسَمَة»(3).

وقوله علیه السلام في وصف المتَّقين:

«مُرْهُ الْعُيُونِ مِنَ الْبُكَاءِ، خُمْصُ الْبُطُونِ مِنَ الصِّيَامِ، ذُبُلُ الشِّفَاه مِنَ الدُّعَاءِ، صُفْرُ الألْوَانِ مِنَ السَّهَرِ، عَلَی وَجُوهِهمْ غَبَرَةُ الْخَاشِعیِنَ، أُولئِكَ إِخْوَاني»(4).

- الثّغر: ورد ذكره مرة واحدة لما يخص الإنسان، وهي قول الإمام علیه السلام إلى بعض عمّاله:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّینِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأثِیمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ عَلَی مَا أَهَمَّكَ، وَاخْلِطِ الشِّدَّةَ بِضِغْث مِنَ اللِّینِ...»(5).

ويمكن تلخيص معاني هذه الألفاظ في اللغة بالآتي:

ص: 107


1- المصدر نفسه: 1 / 88، خ 32
2- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 385، خ 164، 2 / 228، ك 45، 1 / 302، خ 129
3- المصدر نفسه: 1 / 250، خ 90
4- المصدر نفسه: 1 / 281، خ 120
5- المصدر نفسه: 2 / 229، ك 46

والفم منها قد ذكر له ابن فارس أصلين لغويين، الأول (فم) وعقب بأنَّ «الفاء والميم ليس فيه غير الفم، وليس هذا موضعه، لكن حكي فمٌّ بالضمّ والتشديد»(1)، والآخر (ف و ه) وله «أصلٌ صحيح يدلُّ على تفتُّحٍ في شيء، من ذلك الفَوَه: سَعة الفم... ويقول أهلُ العربية: إنَّ أصلَ الفم فَوَهٌ، ولذلك قالوا: رجلٌ أفْوَه... وزعم ناسٌ أن الفَوَه أيضاً: خُروج الثَّنايا العُلْيا وطُولُا... والفُوه: واحد أفواه الطِّيب... كأنَّه لما فاحت رائحتُه فاه بها، أي نطق»(2)، وفي خلق الإنسان الفم: اسم جامع لجملة الشفتين والأسنان وما فيه من الأحناك واللسان(3)، والمثنى فَمَوَان، والجمع أفواه، والفعل فاهَ يَفُوهُ(4)، وكان لفتحة الفم في خلقها ما يشرف عليها، وهي الشَّفَة: ولها أصل «يدل على الإشراف على الشيء... وشَفَى كلِّ شيء: حَرْفه... وأما الشَّفَة فقد قيل فيها إن الناقص منها واوٌ، يقال ثلاث شَفَوات، ويقال رجلٌ أشْفَى، إذا كان لا ينضمّ شفتاه، كالأرْوَق، وقال قوم: الشَّفَة حذفت منها الهاء، وتصغيرها شُفَيْهة، والمشافهة بالكلام:

مواجهةٌ من فيك إلى فيه، ورجل شُفاهِيٌّ: عظيم الشفتين، والقولان محتملان، إلا أنَّ الأول أجود لمقاربة القياس الذي ذكرناه، لأنَّ الشفتين تُشفِيان على الفم»(5)، ويذكر ابن فارس الشفة مع الجذر (ش ف ي)، والرأي الثاني نجده عند ثابت في خلق الإنسان ويجعل من قول الأصمعي دليلاً على ذلك فقد قال الأصمعي:

«في الفم الشفتان، والواحدة شَفَةٌ - منقوصة لام الفعل - وكان ينبغي أن تكون شفهةً... ويدلُّك على ذلك أنهم صغّروها، فقالوا: شُفيْهَةٌ، فيردوها إلى أصلها،

ص: 108


1- مقاييس اللغة: 4 / 462
2- المصدر نفسه: 4 / 462
3- ينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 56، وخلق الإنسان، الأصمعي: 191
4- ينظر: العين: 1 / 50
5- ينظر: المصدر نفسه: 6 / 388

ويجمعون فيقولون: شفاهٌ كثيرةٌ، فالهاء من شفاه هي الأصلية»(1)، ويبدو أنّ ابن فارس قد اعتمد دلالة التعميم؛ لأنه لم يجعل أصل الشفة (شفه) من حافتي الفم، والباحث يميل إلى الرأي الثاني؛ لأنَّه مأخوذ فيه معنى الكلام، وهذا ما يطابق الاستعمال في النهج، فضلاً عن قلة استعمال صيغة الجمع شفوات؛ فمن «المعروف في جمع شَفةٍ شِفاهٌ مكَسَّراً غيرَ مُسَلَّم، ولامه هاء عند جميع البصريين، ولهذا قالوا الحروف الشَّفَهِيَّةُ ولم يقولوا الشَّفَوِيَّة، وحكى الكسائي إِنَّه لغَلِيظُ الشِّفاهِ كأَنه جعَل كلَّ جزءٍ من الشَّفة شَفةً ثم جمَع على هذا... قال الليث: إذا ثَلَّثُوا الشَّفةَ قالوا شَفَهات وشَفَوات والهاء أَقْيَسُ والواو أَعمُّ لأنَهم شَبَّهوا بالسَّنَواتِ، ونُقْصانُا حَذْفُ هائِها»(2)، وبالرجوع إلى معنى الشفة فإنَّ الشَّفتين هما طبقا الفم(3)، وهما ما يغطيان فتحته، ولهما دور كبير في عملية التصويت.

وأمّا الثغر فيرجع إلى الجذر (ث غ ر) وله «أصلٌ واحدٌ يدلُّ على تفتُّحٍ وانفراج... وثُغْرَة النَّحْر الهَزْمة التي في اللَّبَّة، والجمع ثُغَر... والثغر ثَغر الإنسان»(4)، ويقال:

«انثغر الصبي: سقط بعض ثغره، وانثغر الثغر أي انثلم»(5)، ومما سبق يلاحظ اشتراك هذه الألفاظ الثلاثة المذكورة بسمة التفتح بغض النظر عن شكلها.

أما لفظ الفم الذي استعمله علیه السلام في نهج البلاغة لما يخص الإنسان، فطالما كان أصله اللغوي دافعاً له نحو الحاجة في الاستعمال، ومن ذلك قوله إلى عبد الله بن زمعة:

«وَإلِا فَجَنَاةُ أَيْدِيهِمْ لا تَكُونُ لِغَيْرِ أَفْوَاهِهِم»(6).

ص: 109


1- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 152
2- ينظر: لسان العرب: 13 / 506
3- ينظر: المخصص: 1 / 138
4- مقاييس اللغة: 1 / 379
5- العين: 4 / 400
6- نهج البلاغة: 2 / 60 ، خ 227

وعبد الله من شيعته علیه السلام وقد قَدِمَ عليه في خلافته يطلب منه مالاً من فَيْء الْمُسْلِمِينَ، فقال له الإمام هذا الكلام، ويلحظ في النص أنَّ الإمام لمّا عبّر عمّا يْجْنى وهو مرتبط بقطف الثمار ناسب أن يوضع معه لفظ الأفواه لدلالة تفتُّحها، وأكثر ما يستعمل الجنى فيما كان غضّاً(1)، قال تعالى:

«مُتَّكِٔینَ عَلَیٰ فُرُشِۢ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍۚ وَجَنَی ٱلْجَنَّتَیْنِ دَانٍ»(2).

فعبّر الإمام بالأفواه عن حاجة أصحابها؛ وذلك التماساً لأيسر السبل في الخطاب؛ لأنَّ الناس في حياتهم العامة يقنعون في فهم الدلالات بالقدر التقريبي الذي يحقق هدفهم(3)، وفي الشاهد الثاني للفم يذكر الإمام علیه السلام علاقة الانعكاس لإحدى وظائف الفم وهي الكلام في قوله: «رِجَالٌ... أَفْوَاهُهُمْ ضَامِزَةٌ، وَقُلُوبُهُمْ قَرِحَةٌ»، وضَمَزَ، أي: سكت ولم يتكلم، ويقال للرجل إذِا جَمَع شِدْقيه فلم يتكلم قد ضَمَزَ(4)، قال ابن منظور «وفي حديث علّي كرم الله تعالى وجهه «أَفواههم ضامِزَةٌ وقلوبهم قَرِحَةٌ» الضامِزُ المُمْسِك»(5)، وهذا معاكس لدلالة أصل الفم إذ قالوا: فاهَ الرّجلُ بالكلام يَفُوهُ به، إذا لفَظَ به، والمُفَوَّه: القادر على الكلام(6)، وهذا الانعكاس في العلاقة الدلالية لابد له من مسوّغ، وهو في النصّ علة لا تتعلق باللسان ذكرت قبل التركيب فإمساك الأفواه عن أداء وظيفتها الكلامية هو إشارة إلى الخوف والفزع الذي أصاب أصحابها، وقد استعمل الإمام في النصّ لفظ الفم

ص: 110


1- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 101
2- الرحمن: من الآية 54
3- ينظر: دلالة الالفاظ، إبراهيم أنيس: 155
4- ينظر: لسان العرب: 5 / 365
5- لسان العرب: 5 / 365
6- ينظر: مقاييس اللغة: 4 / 462

لدلالة السكوت؛ ذلك أن الفعل (ضمز) يدلُّ على إمساكٍ في كلام(1)، وفي النصّ أُريد به التعبير عن شدَّة السكوت لتجسيد الخوف عند صنف من الرجال يسكتون خشية من الله أن يقولوا ما لايُرضيه ذكرهم أمير المؤمنين في السياق وهم المتقون، وبذلك فإن النهج الاستعمالي للفظ الفم، في هذه النصوص ونصوص أُخر(2)، قد تعلق بالكلام ودلالاته، والتعبير عن الحاجة؛ لأنه اسم جامع لوظائف أجزاء التصويت والمضغ.

ومن الأجزاء الخارجية للفم التي استعملها الإمام: الشفتان، وقد ارتبطت دلالات هذا الجزء من الإنسان بما يعتريه من الحركات كلياً، ومن ذلك ما جاء في بيان قدرة الخالق بقول الإمام علیه السلام في الشاهد المذكور آنفاً للفظ:

«وَمَا اعْتَقَبَتْ عَلَیْهِ أَطْبَاقُ الدَّیَا جِیرِ... وَرَجْعِ کُلِّ کَلِمَة، وَتَحْرِیكِ کُلِّ شَفَة».

وقد جاء لفظ الشفة في سياق حشد نوعي للأصوات، فكانت حركة الشفة مما لا صوت من الصدر ولا جهارَة في المنطق فهي من الأصوات الخفية على الإنسان الظاهرة عند ربه(3)، لأنَّ الله خلق له لساناً يترجم به ما يريد قوله، وشفتين يستعين بهما على النطق، وقد جُمع اللسان والشفة في إحدى آيات الذكر الحكيم بقوله تعالى:

«أَلَمْ نَجْعَل لَّهُۥ عَیْنَیْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَیْنِ»(4).

ومن قراءة السياق واستحضار الوظيفة لهذا الجزء من الفم، يبدو أنَّ حركة الشفة المقصودة هي الحركة المنافسة للقول أو ما تنضوي تحت غرض خطابي، أما في النص الآخر فيصف الإمام الشفاه بالذبول في قوله: «ذُبُلُ الشِّفَاه مِنَ الدُّعَاءِ»،

ص: 111


1- ينظر: المصدر نفسه: 3 / 371
2- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 39، خ 216، 2 / 31، ك 47
3- ينظر: لسان العرب: 6 / 250
4- البلد: 8، .9

وقد مثَّل هذا التركيب البؤرة الحاملة للمعلومة التي يتقاسم معرفتها المتكلم والمخاطب(1)؛ إذ جاء هذا الكلام في وصف المتقين، وذبول شفاههم لجَفافها ويَباسَ رِيقُها وتهدُّلها(2)؛ نتيجة المواظبة في الذكر، فالشفتان في النص تُظهران كثرة خروج الكلام غير المسموع من الجهاز اللغوي عند الإنسان، ولم يبتعد علیه السلام في جميع ما ذكره عن الأداء الصوتي الخفي لهذا الإطار الفموي، أي التمتمة في نصوص أُخر ذُكر فيها اللفظ(3)، ولم يستعمل اللسان مثلًا، وقد اقترنت أحوال هذا النوع من الكلام بالشفة؛ لأنَّ الشفتين تُشفِيان على الفم(4)، فهي بمثابة صمام أمان له.

أمَّا استعمال الثغر عند الإمام، فكان مرتين، اقترن بجزء من الفم في واحدة، والأخرى مطلقة(5)، والأولى وردت في قوله علیه السلام إلى بعض عمّله:

«أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَی إِقَامَةِ الدِّینِ، وَأَقْمَعُ بِهِ نَخْوَةَ الأثِیمِ، وَأَسُدُّ بِهِ لَهَاةَ الثَّغْرِ الْمَخُوفِ».

ويلحظ اقتران لفظ اللهاة بالثغر في النص، واللهاة: قطعة لحم مدلاةّ في سقف الفم على باب الحلق، قرنها بالثغر تشبيهاً له بفم الإنسان وانفراجه(6)، وهذا ما يسِّوغ نسب الثغر إلى الإنسان على الرغم من اختلاف السياق، فلا شك

ص: 112


1- ينظر: اللسانيات الوظيفية، أحمد المتوكل: 154
2- ينظر: لسان العرب: 11 / 255
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 385، خ 164، 2 / 228، ك 45، 1 / 302، خ 129
4- ينظر: مقاييس اللغة: 3 / 199
5- وردت في كتاب له علیه السلام إلى المنذر بن الجارود العَبْدي وقد خان في بعض ما ولّاه من أعماله «لَئِنْ كَانَ مَا بَلَغَنِي عَنْكَ حَقّاً، لَجَمَلُ أَهْلِكَ وَشِسْعُ نَعْلِكَ خَيْرٌ مِنْكَ، وَمَنْ كَانَ بِصِفَتِكَ فَلَيْسَ بِأَهْل أَنْ يُسَدَّ بِهِ ثَغْرٌ، أَوْ يُنْفَذَ بِهِ أَمْرٌ، أَوْ يُعْلَ لَهُ قَدْرٌ، أَوْ يُشْرَكَ فِي أَمَانَة، أَوْ يُؤْمَنَ عَلَ خِيَانَة» (نهج البلاغة: 2 / 296، ك 71)
6- ينظر: نهج البلاغة: تح: فارس الحسون: 687

أنَّ في المصاحبات اللغوية في سياق النص للفظ الثغر لا تجعل قارئها يظن - ولو وهلةً - أنَّ المقصود بالثغر غير ثغر الإنسان، لكن الثغر في عرف الإدارة والحكم هو الفرجة التي يُخشى طروقُ الأعداء أو دخولهم منها في النص، والثَّغْر الفَرْج من فُروج البُلْدان، وثغر العدو: ما يلي دار الحرب(1)، وهذا الاستعمال لا يبتعد عن المعنى اللغوي المذكور آنفاً؛ إذ استعمل علیه السلام لفظ (الثغر) من دون (الفم)؛ لأن الأصل اللغوي للثغر يدلّ على الانفتاح والانفراج، وهو ما يعالج بالسدّ المنصوص عليه بالفعل (أسدّ) في السياق.

المجموعة الثانية:

تتضمن الألفاظ الدالة ما يلحق بالفم من الأسنان، وهي(الضرس، الناب، الناجذ)، ومن شواهدها:

- الضرس: ورد الضرس مرتين، ومنها قول الإمام علیه السلام في أبغض الخلائق عند الله:

«جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهالات، عَش رَكَّبُ عَشَوَات، لَمْ يَعَضَّ عَلَی العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع، يذُريِ الرِّوَاياَتِ إذْراءَ الرِّيحِ الهَشِيمَ...»(2).

وقوله علیه السلام يحضّ أصحابه على القتال:

«فَقَدِّمُوا الدَّارِعَ، وَأَخِّرُوا الْحَاسِرَ، وَعَضُّوا عَلَی الأضْرَاسِ فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَالْتَوُوا فِي أَطْرَافِ الرِّمَاحِ فَإِنَّهُ أَمْوَرُ للِأسِنَّةِ وَغُضُّوا الأبْصَارَ فَإِنَّهُ أَرْبَطُ لَلْجَأْشِ وَأسْکَنُ لِلْقُلُوبِ»(3).

أ - النّاب: جاء ذكره فيما يخص الإنسان مرتين، منهاقول الإمام علیه السلام لأهل الكوفة:

«لَکَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَی ضِلِّیل قَدْ نَعَقَ بِالشَّامِ، وَفَحَصَ بِرَایَاتِه فِي ضَوَاحِي کُوفَانَ فإذَا

ص: 113


1- العين: 4 / 400
2- نهج البلاغة: 1 / 56، خ 17
3- المصدر نفسه: 1 / 287، خ 124

فَغَرَتْ فَاغِرَتُهُ... عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْیَابِهَا، وَمَاجَتِ الْحَرْبُ بِأَمْوَاجِهَا...»(1).

وقوله علیه السلام في كلام يحثّ به الناس على ترك الدنيا:

«یَا أَسْرَی الرَّغْبَةِ أقْصِرُوا فَإِنَّ الْمُعَرِّجَ عَلَی الدُّنْیَا لاَ یَروُعُهُ مِنْهَا إِلاَّ صَرِیفُ أَنْیَابِ الْحِدْثَانِ»(2).

- الناجذ: ذُكر الناجذ ثلاث مرات(3)، منها قول الإمام علیه السلام لأصحابه قبل مواجهة الخوارج وهم مقيمون على إنكار الحكومة:

«هذَا أَمْرٌ ظَاهِرُهُ إِیمَانٌ، وَبَاطِنُهُ عُدْوَانٌ... الْزمُوا طَرِیقَتَکُمْ، وَعَضُّوا عَلَی الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِکُمْ، وَلاَ تَلْتَفِتُوا إلی نَاعِق نَعَقَ»(4).

وقوله علیه السلام في تعليم الحرب والمقاتلة في بعض أيام صفين:

«مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِینَ: اسْتَشْعِرُوا الْخَشْیَةَ، وَتَجَلْبَبُوا السَّکِینَةَ، وَعَضُّوا عَلَی النَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلْسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ، وَأَکْمِلُوا اللاَّمَةَ، وَقَلْقِلُوا السُّیُوفَ فِي أَغْمَادِهَا قَبْلَ سَلِّهَا...».

ويمكن أن نلخص الفارق اللغوي بين تلك الألفاظ، بأنّ الضرس من الجذر (ض ر س)، وله «أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على قوّةٍ وخشونة وقد يشِذُّ عنه ما يخالفه؛ فالضِّرْس من الأسنان، سمِّي بذلك لقوّته على سائر الأسنان، ويقال ضَرَسَه

ص: 114


1- المصدر نفسه: 1 / 226، خ 100
2- المصدر نفسه: 2 / 388، ح 365
3- المصدر نفسه: 1 / 283، خ 121
4- المصدر نفسه: 1 / 132، خ 65

يَضْرُسُهُ، إذا تناوله بضِرْسِه...»(1)، ويجمع الضرس على ضروس(2)، وأضراس(3).

وهناك نوع آخر للأسنان يسمى النّاب، قال الخليل عنه: «الناب: السِّنّ الذيخلف الرباعية، وهو الناب مذكر»(4)، أمّا في (خلق الإنسان)، فيقول ثابت: «ثم يلي الرَّباعِياتِ الأنيابُ وهي أربعة نابانِ من فوق ونابانِ من أسْفل ثم يَلِي الأنيابَ الضَّوَاحِكَ وهي أربعُ أَضْاس إلى كل ناب من أسفَل الفم وأعلاه ضاحك»(5)، وجمع ناب: أنْيابٌ، وأنايِيبُ جَمْعُ الجمع كأبْيات وأبايِيت، وقيل: نُيُوب(6)، ومن أشكال الأسنان التي اختلف في موقعها الناجذ، وهو من الجذر (ن ج ذ) عبّر عنه ابن فارس بأنّه «كلمةٌ واحدة. والنّاجِذ: السِّنُّ بين الناب والأضراس، ثم يستعار فيقال للرّجُل: المنجَّذ، وهو المجرَّب... ويقولون: إنَّ الأضراس كلَّها نواجذ... لأنَّهم يقولون: ضَحِكَ حتَّى بدا ناجذُه، فلو كان السِّنَّ الذي بين النّاب والأضراس لم يُقَلْ فيه هذا؛ لأنّ ذاك بادٍ من أدنى ضَحِك»(7)، وفي خلق الإنسان يخالف ثابت هذا الرأي بقوله: «النواجِذ أربع أضراس، وهي آخر الأضراس نباتاً والواحد ناجذ»(8)، ووافق ابن فارس في الرأي أبو حاتم السجستاني (ت 255 ه)(9) بقوله: «النواجِذ: الأضراس

ص: 115


1- مقاييس اللغة: 3 / 395. وينظر:خلق الإنسان، الأصمعي: 191، وخلق الإنسان، الزجاج: 56
2- ينظر: العين: 7 / 19
3- ينظر:المخصص: 1 / 146
4- العين: 8 / 381
5- خلق الإنسان، ثابت: 166
6- ينظر: المخصص: 146
7- مقاييس اللغة: 5 / 392
8- خلق الإنسان، ثابت: 166
9- وهو من علماء البصرة في القرن الثالث الهجري، اسمه سهل بن محمد بن عثمان، وأبو حاتم كنية له، وله كتاب في خلق الأنسان، لكنه مفقود، ونقل عنه أكثير أئمة اللغة. (ينظر: بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحويين، السيوطي: 1 / 607، والفهرست، ابن النديم: 93)

كلها»(1)، وعلى ذلك فالنواجذ أقصى الأضراس في أقصى الأسنان، وتسمى ضرس الحلم، وهذا الرأي هو الراجح عند الباحث هذا الرأي؛ لأن ضرس الحلم ينبت بعد البلوغ وكمال العقل فيكون آخرها(2)، و(الشكل 8)(3) يبين هذه الأجزاء بصورة أكثر وضوحاً، أما تسمية الأضراس بالضواحك؛ فلأنّا تكون واضحة للعيان عندما يضحك الإنسان، وموقعها في الفك بين الأنياب والأضراس المسماة بالطواحن في الشكل التوضيحي على الرأي الأول الذي ذكره ابن فارس.

ومن تأمّل للنصوص المذكورة آنفاً، يتبيّن أنّ لفظ الضرس قد ارتبط بفعل للإنسان في الاستعمال، وهو الفعل (عضّ)، فقوله علیه السلام: « لَمْ يَعَضَّ عَلَی العِلْمِ بِضِرْس قَاطِع»، يُلحظ فيه استعمال الضرس مع العلم في النص مجازاً؛ لأنَّ الإمام أراد قوة الضرس لا الضرس نفسه، فجعل من العلم شيئاً مادياً، فقوله لم يعض يريد أنّه «لم يتقن ولم يحكم على الأمور»(4) بقوة امساكه لها، وقد اختار الإمام الضرس من دون غيره؛ لأنّ من سماته القوة على سائر الأسنان فيكون الإمساك بها أنسب للشيء المعنوي.

(شكل 8) يوضح أنواع الأسنان

ص: 116


1- المخصص: 1 / 147
2- ينظر: لسان العرب: 3 / 513
3- أطلس جسم الإنسان، على الشبكة العنكبوتية
4- نهج البلاغة: ابن ابي الحديد، 1 / 286

وإذا نظرنا إلى النص الثاني وقرأنا منه عبارة «وَعَضُّوا عَلَ الأضْرَاسِ»، نجد أنّا وردت في سياق حضّ أصحابه على القتال ضمن جملة نصائح يوجه الإمام إلى الالتزام بها، ومنها العضّ على الأضراس، ويعلّل علیه السلام بأنّه أنْبَى، وهي صيغة أفعل التفضيل من (نَبَا السيف) إذا دَفَعَتْهُ الصلابة من موقع فلم يَقْطَعْ، وذلك من شأنه أن يصّلب الأعصاب والعضلات المتصلة بالدماغ فتخشن(1)، وقديمًا قالوا: إنّ العاضّ على نواجذه ينبو السيف عن دماغه؛ لأنّ عظام الرأس تشتد وتصلب، فلا يبلغ السيف منه مبلغه فيما لو صادفه رخواً(2)، والسياق يسعف هذه الدلالة؛ لأنّ الإمام قد نصح أصحابه بحركات جسدية تقيهم بعض الضّرر وتدفع ضعف العزيمة، فذكر في السياق نفسه ما معناه انْعَطِفوا وأميلوا جانبكم لِتَزْلَقَ الرماح ولا تنفذ فيكم أسنّتها(3)، وهذا ما يناسب الدلالة المذكورة للنص، ويلحظ أن الإمام في كلا النصين أراد في استعماله للأضراس القوة المتحصلة من انطباقها المحكم مقارنة بالأسنان الأخُر، وما يعزّز هذه الدلالة استعمال الفعل عضّ بمعنى الشّدُّ بالأَسنان على الشيء مصاحباً للفظ في النصين كليهما.

وبالانتقال إلى شواهد لفظ الناب، فإنه علیه السلام لم يستعمل الناب بدلالته الحقيقية للإنسان، لكنّه ورد فيما يخصه، وأمّا الصيغة التي تم تداولها فهي الجمع على صيغة (أفعال) فقط؛ إشارة إلى قلة هذا النوع من الأسنان، ويلحظ انتقال سمة تعلقت بالأضراس قد أصبحت عنصراً مشتركاً بين الناب والضرس في قول الإمام علیه السلام:

«عَضَّتِ الْفِتْنَةُ أَبْنَاءَهَا بِأَنْیَابِهَا».

ففي هذه العبارة إذ استعير الناب وفعله المصاحب للفتنة، فكأن أهوالها ناب

ص: 117


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 237
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 8 / 4
3- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 237

يعض من تربى على أُكُلها وكان أحد أقطابها(1)، ويرجع سبب توظيف اللفظ هنا إلى حدة هذا النوع من الأسنان وشكله المخروطي، وشهرتها بأسبقية القطع والتمزيق، وهذا ما يلائم الوعد والوعيد في النص؛ فقد أراد علیه السلام شدة تأثيرها.

وفي الشاهد الآخر استعار الأمام صوت الأنياب بقوله:

«لاَ يرَوُعُهُ مِنْهَا إلِاَّ صَرِيفُ أَنْیَابِ الْحِدْثَانِ».

فالصَريف في الأصل صوت الأسنان عند الاصطكاك من رعدة(2)، والحدثان:

النوائب، والنائبة «النازلة، يقال: ناب هذا الأمر نوبة، أي: نزل، ونابتهم نوائب الدهر»(3)، وفي النص قصد به الإمام موت الإنسان، وهذا التعبير يقال عند كل خطب وداهية؛ لأن في مثل هذه الحالات يصدر الصريف(4)، ويتبين من غرض الحكمة والمصاحبات اللغوية أنّ الإمام أراد فزع الإنسان إذا تناوبته المنية، أمّا مايميّز استعمال الأنياب هنا من دون الأسنان الأُخر فهو طولها وشكلها المشبه بسنان الرمح المتميز عن سائر الأسنان، ما يجعلها الوحيدة التي تصدر صوتاً عند رعدة برد أو رعدة خوف، ولا يظهر صوت سائر الأسنان الأخر؛ لأنها أقصر منه، ويبدو أنّ الناب استُعمل مع الفتنة والدنيا وكأنه علیه السلام يريد أن يلفت النظر إلى فعل الفتنة والدنيا وأثرها في تمزيق من تقع عليه، أو يغتر بالدنيا؛ لشهرة الأنياب بوظيفتي القطع والتمزيق، فهي أول الأسنان حدة في التأثير على الإنسان.

أمّا النواجذ فقد لازم استعمالها فعل إنساني حركي في جميع السياقات التي ورد

ص: 118


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: هاشم الميلاني: 185
2- ينظر: نهج البلاغة: تح: محمد أبو الفضل: 2 / 388
3- ينظر: نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه، اعداد دار التعارف للمطبوعات: 405
4- ينظر: شرح حكم أمير المؤمنين، عباس القمي: 179

فيها اللفظ أيضاً، وهو فعل العضّ، ومثال ذلك قوله علیه السلام في الشاهد الأول للفظ:

«وَعَضُّوا عَلَی الْجِهَادِ بِنَوَاجِذِکُمْ».

فهو كناية عن المبالغة في والحرص على الجهاد وقوة التمسك به(1)؛ لأنّ النَّجْذُ: شِدَّة العَضِّ(2)، والجهاد شيء معنوي لا يتفق وفعل العض، لكنّه جاء في السياق لازمة من لوازم إدامة الانتصار على الخصم؛ فهناك طرف آخر يحاول الإضلال، وهو المعبر عنه بالناعق في السياق اللغوي، وقد عمد الإمام إلى الأسلوب الكنائي؛ لأنّ «الصورة الكنائية تولد إقناعاً أكبر بالمعنى الذي تشير إليه، بتوكيده وتقريره في نفس السامع، لأن النفس يكون تقبلها للمعاني أسرع وآكد إذا كانت مشفوعة بالشاهد والدليل »(3)؛ لذا فالإمام قد سبق اللفظ بخطاب العقل في سياق النص.

أمّا في النص الأخير، فقد جاء قوله:

«وَعَضُّوا عَلَی النَّوَاجِذِ، فَإِنَّهُ أَنْبَی لِلْسُّیُوفِ عَنِ الْهَامِ».

في سياق تعليم الحرب والمقاتلة في بعض أيام صفين، والمراد من عضّ الرَّجل على أسنانه(4) اشتداد أعصاب رأسه وعظامه، لذا يوصى به عند الشدّة؛ ليُترجم إلى لغة القوة والحمية والصبر في المعركة؛ فمن عادة الإنسان إذا حمي واشتد غيضه على عدوه أن يعضّ على أسنانه، وبطبيعة الحال فإنّ الإمام في هذا السياق أراد التركيز على القيمة الدلالية للفظ وهي القوة والصلابة المنبثقة عن الناجذ وفعله على الرغم من المعاني المتنوعة التي يمكن أن يدل عليها اللفظ وهذا ما يخلق له قيمة حضورية

ص: 119


1- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة، الخوئي: 8 / 145
2- العين: 6 / 95
3- دلائل الإعجاز، أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (ت 471 ه): 57
4- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 60

عن طريق الاستعمال(1)، والملاحظ أنّه علیه السلام وظّف الناجذ في سياقات الحرب في كلا النصين؛ لأَن المقاتل يبدي قوته وغضبة بإظهار النواجذ تشبيها بالأسد أو الذئب عندما يهجم على فريسته، فضلاً عن أنّ الناجذ فهو دال على القوة بنفسه وارتباط الفعل عضّ به ألزم لأنّ النجْذ: شدة العض، ويبدو أنّ التقارب الدلالي واضح في استعمال الضرس والناجذ؛ إذ استعمل اللفظين المصاحبة اللغوية (عضّ) نفسها في الشاهدين، لكنّ استعمالها بمصاحبات (العلم، والجهاد) كان لدلالة الامساك والتمسك على التوالي، واستعمالها في العضّ عليها ذاتها كان لدلالة شد العزيمة مع الأضراس؛ لأن التعبير بالأضراس يدل على الضغط على الأسنان عامة، وتقوية الرأس ووقاية صاحبه مع النواجذ؛ لأن التعبير بالعضّ بالنواجذ فيه دلالة القوة والشدة، فالعضّ بالنواجذ يفسر به دلالة الإمساك المحكم بالأسنان عامة؛ لأنها آخر الفك(2)، فانطباق آخرها يعني انطباقها كلها، وهذا ما يتناسب مع قوة البأس التي أرادها الإمام لمواجهة من أحدث الفتنة في سياق الحديث عن حرب صفّين ومحاربة الخوارج ممن كانوا مسلمين؛ لأن هؤلاء أشد وقعاً على الإسلام، فتطلب الحال استعمال أقصى درجات الشدّة.

وبعد دراسة الألفاظ التي تشير إلى الفم وما يلحق به، يلاحظ ارتفاع نسبة شيوع لفظ اللسان مقارنة بما ينتمي إليه وهو الفم الذي ورد أربع مرات فقط لما يخص الإنسان، وتميز الفم بعلاقة العموم لألفاظ الحقل الأخرى، فجاء بدلالات جامعة لما يقع ضمنه من أجزاء بالتعبير عن حاجة الإنسان من المأكل والمشرب والكلام.

وقد اقترنت أحوال الكلام بالشفة، فهي بمثابة صمام أمان له، وهذا ما أتاح

ص: 120


1- ينظر: علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي، هادي نهر: 264
2- ينظر: لسان العرب: 3/ 513

للإمام تجسيد رؤاه في منظور ديني واجتماعي، فاستعمل الشفتين للدلالة على الكلام الخفي، واقترنت أحوال النطق باللهاة وذلك بنفي النطق عن العلي القدير.

أمّا النصوص التي وظّف فيها الإمام لفظ الحلق، فإنّ استعماله فيها قد ارتبط في الأصل بدلالة الجارحة التي قال بها الراغب، وإن ارتبطت بعلاقات معينة مع دلالة التنحية للحزن والرأس في الأصل الأول الذي قال به ابن فارس(1).

ويظهر من قراءة النصوص الوارد فيها لفظ الريق أن دلالة استعماله قد ارتبطت بالأذى من الصبر والموت، وذلك بذكر حركات الريق في الفم، التي قد تكون إرادية أو غير إرادية كما يلحظ اختصاص لفظ الحلق بالتعبير عن الحزن ومفارقة الحياة، وانماز كل من لفظي البلعوم والثغر بعلاقة عكسية مع الأصل اللغوي في التعبير عن الدلالة المذكورة في تحليل النصوص.

أمَّا اللسان فعلى الرغم من اقترانه بإحدى حواس الإنسان وهي حاسة التذوق، وكثرة تداوله في النهج، لكننا لم نجد للذوق أدنى توظيف يذكر، إذ يلحظ أن الإمام علیه السلام لم يستعمله إلاّ بوصفه آلة الكلام مرة وبوصفه الكلام أو اللغة مرة أخرى، وأبرز دلالاته تكاد أن تكون محصورة في الكلام وأنواعه وكيفياته ونسبتهِ...، ولا غرابة في ذلك فالمعاني السياقيّة للكلمة الواحدة تتعدّدُ بتعدّدِ السياقات التي تَرِدُ فيها، والدلالة من خصائص الجملة، والجملة لا تتوافر إلا بتوافر التركيب(2)، وما أكثر التراكيب التي ورد فيها لفظ اللسان في نهج البلاغة.

ويظهر في استعمال ألفاظ الأسنان أن للفعل عضّ دوراً هاماً في تجهيز الدلالة للألفاظ المصاحبة له، أمّا إذا نظرنا إلى استعمال ألفاظ الأسنان المذكورة فيمكن الخروج بحصيلة دلالية استعمالية وظفت في مجال الموت والقتال والعلم بنسبة أقل،

ص: 121


1- ينظر: مقاييس اللغة: 2 / 98، والمفردات في غريب القرآن: 1 / 258
2- ينظر: السياق والنص الشعري من البنية الى القراءة، علي آيتا وشان: 45

فالإمام قد استعمل الناب في سياق مملوء بالخوف، واستعمل النواجذ في سياقات بثّ الهمة في النفس ورباطة الجأش وقوة التحمل وهو ما أفاد دلالة التشجيع والتصعيد المعنوي، واستعمل الضرس لهذه الدلالة مرة، ولدلالة التوبيخ والذم في أخرى، ولا ننسى أن أغلب النصوص التي ذكرت فيها هذه الألفاظ، قد جاءت لأغراض تصوير القوة والشدة التي تميزت بها هذه الأجزاء من الإنسان.

المجموعة الثالثة:

تتضمن الألفاظ الملحقة بالفم، وهي (اللسان، الرّيق، اللهاة، الحلق، البلعوم)، ومن شواهدها:

- اللّسان: ورد تسعاً وستين مرة لما يخصّ الإنسان(1)، ومنها قول الإمام علیه السلام في حقيقة خلق الإنسان:

«أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَشُغُفِ الأسْتَارِ، نُطْفَةً دِفاقاً، وَعَلَقَةً

ص: 122


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 143، ك 74، 1 / 146، خ 77، 1 / 159، خ 82، 1 / 159، خ 82، 1 / 175، خ 86، 1 / 195، خ 90، 1 / 213، خ 28، 1 / 215، خ 95، 1 / 225، خ 100، 1 / 243، خ 107، 1 / 243، خ 107، 1 / 251، خ 108، 1 / 263، خ 112، 1 / 279، خ 119، 1 / 306، خ 132، 1 / 309، خ 133، 1 / 328، خ 144، 1 / 354، خ 153، 1 / 400، خ 168، 1 / 409، خ 173، 419، خ 177، 1 / 419، خ 177، 1 / 419، خ 177، 1 / 419، خ 177، 1 / 42، خ 7، 1 / 423، خ 179، 1 / 448، خ 186، 1 / 456، خ 189، 2 / 123، خ 243، 2 / 154، ك 18، 2 / 217، ح 42، 2 / 219، ح 58، 2 / 232، ك 47، 2 / 240، ك 53، 2 / 289، ك 67، 2 / 289، ك 67، 2 / 312، ح 26، 2 / 316، ح 40، 2 / 316، ح 40، 2 / 316، ح 41، 2 / 317، ح 112، 2 / 321، ح 71، 2 / 325، ح 88، 2 / 334، ح 118، 2 / 342، ح 144، 2 / 342، ح 144، 2 / 342، ح 223، 2 / 356، ح 223، 2 / 378، ح 315، 2 / 39، خ 216، 2 / 392، ح 379، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 381، 2 / 395، ح 398، 2 / 41، خ 216، 2 / 41، خ 216، 2 / 61، خ 228، 2 / 61، خ 228، 2 / 62، خ 229، 2 / 67، خ 23، 2 / 67، خ 231، 2 / 83، خ 236، 2 / 83، خ 36، 2 / 96، خ 238، 2 / 96، خ 238

مِحَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِداً وَيَافِعاً، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِساناً لاَفِظاً، وَبَصَا لاَحِظا،ً لِیَفْهَمَ مُعْتَبِراً...»(1).

وقوله علیه السلام عن الرسول:

«... كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ»(2).

- الرّيق: ورد مرتين، وهما قول الإمام علیه السلام يشكو لله قريشاً:

«فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَیْسَ لِي رَافِدٌ، وَلاَ ذَابٌّ وَلاَ مُسَاعِدٌ، إِلاَّ أَهْلَ بَیْتِي، فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ الْمَنِیَّةِ، فَأَغْضَیْتُ عَلَی الْقَذی، وَجَرِعْتُ رِیقِي عَلَی الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ کَظْمِ الغَیْظِ...»(3)، وقوله علیه السلام في الظلم:

«لَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ یَفُوتُ أَخْذُهُ، وَهُوَ لَهُ بَالمِرْصَادِ عَلَی مَجَازِ طَرِیقِهِ، وَبِمَوْضعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِیقِهِ»(4).

- اللّهاة: ذُكر هذا اللفظ ثلاث مرات(5)، إحداها في قولٍ له علیه السلام يحمد الله وينفي وصفه:

«الْحَمْدُ لله الْکَائِنِ قَبْلَ أَنْ یَکُونَ کُرْسِيٌ أَوْ عَرْشٌ، أَوْ سَمَاءٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ جَانٌّ أَوْ إنْسٌ، لاَ یُدْرَكُ بِوَهْم وَلاَ یُقَدَّرُ بِفَهْم... الَّذِي کَلَّمَ مُوسی تَکْلِیماً، وَأَرَاهُ مِنْ آیَاتِهِ عَظیماً، بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَات، وَلاَ نُطْق وَلاَ لَهَوَات...»(6).

وقوله علیه السلام عن الخالق:

ص: 123


1- نهج البلاغة: 1 / 160، خ 82
2- المصدر نفسه: 1 / 215، خ 95
3- المصدر نفسه: 1 / 216، خ 96
4- المصدر نفسه: 2 / 29، خ 211
5- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 229، ك 46
6- المصدر نفسه: 1 / 432، خ 183

«یُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهوَات، وَیَسْمَعُ لاَ بِخُروُق وَأَدَوَات، یَقُولُ وَلاَ یَلْفِظُ، وَیَحْفَظُ وَلاَ یَتَحَفَّظ»(1).

- الحلق: وظّفه الإمام علیه السلام مرتين، وهما قوله في خطبته الشقشقية عن الخلافة:

«فَرَأَیْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَی هَاتَا أَحْجَی،فَصَبَرتُ وَفي الْعَیْنِ قَذیً، وَفي الحَلْقِ شَجاً، أری تُرَاثي نَهْباً...»(2).

وقوله علیه السلام عن الشيطان وجنوده:

«وَأَحَلُّوکم وَرَطَاتِ الْقَتْلِ، وَأَوْطَأُوکُمْ إِثْخَانَ الْجِرَاحَةِ، طَعْناً فِي عُیُونِکُم، وَحَزّاً فِي حُلُوقِکُمْ، وَدَقّاً لِمَناخِرِکُمْ، وَقَصْداً لِمَقَاتِلِکُمْ، وَسوقاً بِخَزَائِم الْقَهْرِ إِلَی النَّارِ المُعَدَّةِ لَکُمْ...»(3).

- البلعوم: جاء ذكره في نهج البلاغة مرة واحدة، في قول الإمام علیه السلام لأصحابه:

«أما إنِّهُ سِيَظْهَرُ عَلَيْكُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، يَأْکُلُ مَا یَجِدُ، وَیَطْلُبُ مَا لاَ یَجِدُ، وَلَنْ تَقْتُلُوهُ. أَلاَ وَإِنَّهُ سَیَأْمُرُکُمْ بِسَبِّي وَالْبَرَاءَةِ مِنَّي...»(4).

أمَّا معنى هذه الألفاظ لغوياً فاللّسان من الجذر (ل س ن) وله «أصلٌ صحيح واحد، يدلُّ على طول لطيفٍ غير بائن، في عضوٍ أو غيره، من ذلك اللِّسان، معروف، وهو مذكّر والجمع أَلْسُنٌ، فإذا كثر فهي الألسنة»(5)، وقد عُرّف بأنَّه:

«الجارحة، وفيه عذبته وهي طرفه تقول العرب إذا نَعتتْ خفة اللسان: ما أرق

ص: 124


1- المصدر نفسه: 2 / 72، خ 232
2- المصدر نفسه: 1 / 30، خ 1
3- المصدر نفسه: 2 / 93، خ 238
4- نهج البلاغة: 1 / 121، خ 56
5- مقاييس اللغة: 5 / 246

عذبة لسانه، وفيه العكدة والعكرة وهما أصل اللسان ومعظمه، وفيه الصردان وهما عرقان يستبطنان اللسان»(1)، واللسان في الكلام يذكر ويؤنث(2)، قال الإمام علي علیه السلام عن اللسان:

لاَ إِنَّ اللِّسَانَ بَضْعَةٌ مِنَ الإنْسَانِ، فَلاَ يُسْعِدُهُ الْقَوْلُ إِذَا امْتَنَعَ، وَلاَ يُمْهِلُهُ النُّطْقُ إِذَا اتَّسَعَ، وَإِنَّا لَأمَرَاءُ الْکَلاَمِ، وَفِینَا تَنَشَّبَتْعُرُوقُهُ، وَعَلَیْنَا تَهَدَّلَتْ غُصوُنُهُ»(3).

ومن مكمّلات وظائفه اللسان الذي يساعد على بلع الطعام وغيره الرَّيْقُ، ويعني في اللغة: «تَرَدُّدُ الماءِ على وَجْه الأرض... والرَّيِّقُ من كلِّ شيءٍ أفضَلُه... والرِّيقُ: ماءُ الفَمِ»(4)، وهو من الجذر (ر ي ق) وله «أصلٌ واحد يدلُّ على تردُّد شيءٍ مائعٍ، كالماء وغيرِه، ثم يشتقّ من ذلك... ومن الباب رِيق الإنسانِ وغيرِه، والاستعارة من هذه الكلمة... وحكى اللِّحيانيّ: هو يَرِيق بنفسه رُيوقاً، أي یَجُبود بها، وهذا من الكلمة الأولى؛ لأنَّ نَفَسه عند ذلك تتردَّد في صدره»(5).

ويقابل اللسان في الفم من الحنك الأعلى واللهاة، والأخيرة يرجع أصلها اللغوي إلى الجذر: (ل ه و) وله «أصلانِ صحيحان: أحدهما يدلُّ على شُغْل عن شَيءٍ بشيء، والآخر على نَبْذِ شيءٍ من اليد، فالأوَّل اللَّهْو... وأمَّا الأصل الآخر فاللُّهْوة، وهو ما يَطرحه الطّاحِن في ثُقْبَة الرَّحَى بيده، والجمع لُهى، وبذلك سمِّي العَطاء لُهْوَة فقيل:

هو كثير اللُّهَى. فأمَّا اللّهاة فهي أقصى الفمِ، كأنَّا شُبِّهَتْ بثُقْبةِ الرَّحَى، وسمِّيت لهاةً

ص: 125


1- خلق الإنسان: الأصمعي، 197، وينظر:العين: 7 / 256، ولسان العرب: 13 / 385
2- ينظر: لسان العرب: 13 / 385
3- نهج البلاغة: 2 / 61، خ 228
4- العين: 5 / 259
5- مقاييس اللغة: 2 / 468

لما يُلقَى فيها من الطَّعام»(1)، وفي خلق الإنسان ذكر الأصمعي أنَّ اللَّهَاة: اللَّحْمة المُسْترخِيَة على الحَلْق، فيما ذكر أبو حاتم: هي ما بين مُنْقَطَع أصْل اللسان إلى مُنْقَطَع القَلْب من أعْلَ الفَمِ(2)، ويقال: لكلّ ذي حلق لهاة، والجمع: لهاً ولهوات(3)، ولَهَیَات(4)، وذكر ثابت لِهيٌّ(5)، أمّا الحلْق فهو «مساغ الطعام والشراب، ومخرج النفس من الحلقوم»(6)، ويجمع على حلوق(7)، وجذره (ح ل ق)، وله «أصول ثلاثة: فالأوّل تنحية الشعْر عن الرأس، ثم يحمل عليه غيره، والثاني يدلُّ على شيءٍ من الآلات مستديرة، والثالث يدلُّ على العلوّ، فالأوّل حَلقْتُ رأسِ أحلِقُه حَلْقاً...

والأصل الثاني الحَلْقة حلْقة الحديد... والأصل الثالث حالِقٌ: مكانٌ مُشْرِف»(8)، ونجد توضيحاً لهذه العلاقات عند الراغب إذ يقول: «الحلْق: العضو المعروف، وحلَقه: قطع حلْقه، ثم جعل الحلق لقطع الشعر وجزّه... والحلْقة سُمّيت تشبيهاً بالحلْق في الهيأة... واعتبر في الحلقة معنى الدوران، فقيل: حلقة القوم (بفتح اللام وتسكينها)، وقيل: حلّق الطائر: إذا ارتفع ودار في طيرانه»(9)، إذن فالأصل في الحلق الجارحة كما يرى الراغب، و «فيه اللغاديد، وهي كالزوائد من لحم تكون في باطن الأذنين من داخل... والغلصمة مُتّصل الحلقوم بالحلق»(10)، والحلقوم اسم

ص: 126


1- مقاييس اللغة: 5 / 213
2- ينظر: المخصص: 1 / 157
3- ينظر: تهذيب اللغة: 6 / 430
4- ينظر: المخصص: 1 / 157
5- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 164
6- العين: 3 / 48
7- ينظر: العين: 3 / 48
8- مقاييس اللغة: 2 / 98
9- المفردات في غريب القران: 1 / 258
10- خلق الإنسان: ثابت: 190، وينظر: الأصمعي: 192

للبلعوم ويتصل بالحلق من الأعلى الفم كما يتضح من (الشكل 7)(1)، والبلعُوم يعني: «مَجْرَى الطّعامِ في الحَلْق، وقد يحذف فيقال بُلْعُم، وغير مُشْكلٍ أنَّ هذا مأخوذٌ من بَلِعَ، إلاّ أنّه زِيدَ عليه ما زيِدَ لجنسٍ من المبالغة في معناه»(2)، وهو من الجذر (ب ل ع) وله «أصلٌ واحد، وهو إزدراد الشيء. تقول: بلِعْتُ الشيءَ أبْلَعُه»(3)، وقيل:

أنَّه مجرى النفس إلى الرئة وفيه المريء وهو مجرى الطعام والشراب إلى المعدة(4)، كما يتبين في الشكل التوضيحي ويسمى الحلقوم أيضاً(5)، ودلالة الازدراد التي قال بها ابن فارس هي ناتجة عن أهم وظيفة يقوم بها؛ لأنَّه ممرٌّ للهواء والغذاء وتتصل به أجزاء عدّة؛ لأداء ذلك.

(شكل 7) يوضح الحلق وما يتصل به ويتبين من التقديم اللغوي للألفاظ الدالة على الفم وملحقاته وضوح الاشتراك في بعض السمات وهذا متعلق بالوظيفة التي يمارسها الجزء أو هيأته أو تركيبه، أمَّا عن الوظيفة الدلالية التي تؤديها هذه الأجزاء من الفم في تراكيب نهج البلاغة،

ص: 127


1- أطلس جسم الإنسان على الشبكة العنكبوتية
2- مقاييس اللغة: 1 / 329
3- المصدر نفسه: 1 / 301
4- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 192
5- ينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 195

فيمكن معرفتها من دراسة ألفاظ هذه الأجزاء في سياقها.

أمّا في استعمال لفظ اللسان فقد ظهر تكراره بأبنيته المتعددة في نهج البلاغة ثلاثاً وتسعين مرة، استعير بعضها لمخلوقات أُخر، وخُصّ الإنسان بتسعة وستين شاهداً، منها قوله علیه السلام في صفة خلق الإنسان:

«أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ... ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِسَاناً لاَفِظاً».

ويذكر الإمام اللسان ممنوحاً للإنسان في هذا النص بعد ذكر تمام الخلقة، ليكون شاكراً؛ فتلفظ بفضل الله سبحانه دائماً على الرغم من تمام خلقه، فقد ذكر الإمام اللسان؛ بوصفه وسيلة أو آلة للنطق في النص، لكن الصفة التي غلبت على استعمال اللسان في النهج هي استعماله بوصفه اللغة أو الكلام.

ويظهر ذلك في الشاهد الثاني في قوله عن الرسول:

«كَلاَمُهُ بَيَانٌ، وَصَمْتُهُ لِسَانٌ».

إذ قيل في النص وجهان: أحدهما: أنّه كان يسكت عمّا لا ينبغي من الكلام، فيعلّم الناس السكوت عمّ لا يعنيهم، وثانيهما: إنّ سكوته عن بعض الأفعال من دون ان ينهى كان تقريراً لها، ودليلاً على الإباحة(1)، ولا ضير في الجمع بين الوجهين، والصمت ضد الكلام وإطلاق حركة اللسان وأداء وظيفته بأحسن وجه(2)، واللسان هنا لا يعني ظاهر الجارحة نفسها، بل الرسالة الصادرة عن توقفه عن الأداء الكلامي؛ لأنّ حركة اللسان تمثل لولب عملية التصويت، والمعنى كأن صمته كلام.

وفي الحديث لما أَنشد العباس ابن مِرْداسٍ أَبياته العينية أمام النبي قال: اقْطَعُوا

ص: 128


1- ينظر: شرح نهج البلاغة المقتطف من بحار: 1/ 326
2- ينظر: جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع، أحمد الهاشمي: 321

عني لِسانه، أَي أَعْطُوه وأَرْضُوه حتى يسكت، فكنى باللسانِ عن الكلامِ(1)، وعلى هذا المنوال جاءت نصوص أُخر ورد فيها لفظ اللسان(2)، اختلف معناها باختلاف مساقها، مثل دلالات خلق اللسان للإنسان(3)، ودلالات اختلاف حركته(4)، التي وِصفت بالقوة مرة(5)، وبالضعف مرة(6)، ودلالات التعبير عن القوم أو المتكلم نفسه مجازا(7)، والتعبير عن الرسالة التي يطلقها فهو يبعث برسائل قد صالحة(8)، وقد تكون طالحة(9)، وقد تكون مرهونة بظروف التداول اللساني(10)، ولم يكتف الإمام بذلك، بل رسم دورة حياة للسان تنتهي بمنازعة الإنسان للموت(11)،

ص: 129


1- ينظر: لسان العرب: 8 / 379
2- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 456، خ 189، 1 / 213، خ 28، 1 / 175، خ 119، 1 / 159، خ 82، 1 / 328، خ 144، 1 / 400، خ 168، 2 / 356، ح 223، 1 / 309، خ 133، 2 / 83، خ 236، 2 / 96، خ 238، 2 / 342، ح 144، 1 / 419، خ 177، 2 / 289، ك 67، 2 / 316، ح 40
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 160، خ 82
4- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 251، خ 108
5- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 456، خ 189، 1 / 213، خ 28
6- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 61، خ 228
7- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 175، خ 86
8- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: المصدر نفسه: 1 / 279، خ 119، 1 / 159، خ 82، 1 / 328، خ 144، 1 / 400، خ 168، 2 / 356، ح 223
9- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: المصدر نفسه: 1 / 354، خ 153، 1 / 146، خ 77، 1 / 243، خ 107، 1 / 309، خ 133، 2 / 83، خ 236، 2 / 96، خ 238
10- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: المصدر نفسه: 2 / 342، ح 144، 1 / 419، خ 177، 2 / 289، ك 67، 2 / 316، ح 40
11- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 41، خ 216، 1 / 251، خ 108

ووصف حال ألسنة الموتى(1)....

أمّا لفظ الرِّيق، فيشترك مع لفظ آخر في التعبير عن الحزن وهو الحلق، وقد تردد في نهج البلاغة ذكر الرِّيق مرتين بلفظه، وأخرى بغيره(2)، ومن الأول قول الإمام علیه السلام: «وَجَرِعْتُ رِيقِي عَلَی الشَّجَا، وَصَبَرْتُ مِنْ كَظْمِ الغَيْظِ»، وهذا من كلام له علیه السلام يستدعي الله فيه على قريش، ويريد بجَرِعْتُ رِيقِي التعبير عن غُصَّة الحزن(3)، فمن سمات الريق أنّه مستساغ متردد في الفم، لكن الإمام استعمله وسيلة للتعبير عن الحزن؛ لما ينتابه في بعض المواقف من صعوبة التردد في الفم، فواقعة الدلالة تُفهم في ضوء التعرف إلى قصد المتكلم(4)؛ لأنه مسوّغ فعلياً في السياق بذكر مصاحبات لغوية ساندة لمعنى الصبر على الأذى مثل الفعل (جرعت) و(صَبَرْتُ) و(كَظْمِ الغَيْظِ)، أمَّا قوله الآخر في الشاهد الثاني للرّيق:

«لَئِنْ أَمْهَلَ اللهُ الظَّالِمَ فَلَنْ یَفُوتَ أَخْذُهُ، وَهُوَ... بِمَوْضعِ الشَّجَا مِنْ مَسَاغِ رِیقِهِ».

فموضع الشّجا هو الحلق، ويستعمل علیه السلام الريق على المجاز مضافاً إلى موضع الإساغة، أي: ممرّه من الحلق(5)، وهذا الكلام من باب التوسّع؛ لأنَّ الله تعالى لا يجوز عليه الحصول في الجهات(6)، وهو €عزوجل القائل:

ص: 130


1- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 39، خ 216
2- ذكر الإمام علیه السلام الريق بلفظ الجريض في قوله «فَهَلْ يَنْتَظِرُ... أَهْلُ مُدَّةِ الْبَقَاءِ إلِا آوِنَةَ الْفَناَءِ؟ مَعَ قُرْبِ الزِّيَالِ، وَأُزُوفِ الانتِقَالِ، وَعَلَزِ الْقَلَقِ، وَأَلَمِ الْمَضَضِ، وَغُصَصِ الْجَرَضِ، وَتَلَفُّتِ الاِسْتغَاثَةِ بِنُصْرَةِ الْحَفَدَةِ وَالأقْرِبَاءِ...». نهج البلاغة: 1 / 157، خ 28
3- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 37
4- ينظر: الظاهراتية وفلسفة اللغة، عز العرب حكيم بناني: 158
5- ينظر: تصنيف نهج البلاغة، لبيب بيضون: 99
6- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7 / 72

«هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(1).

و«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ»(2).

وفي قول الإمام تنبيه على قدرة الله على أخذه من ذلك الموضع من الإنسان، وقد استعمله الإمام لدلالة القتل أيضاً في الشاهد الثاني للفظ الحلق، وقد يكون كلام الإمام يشير إلى تعثّر حركة الريق وتردده في أثناء بلعه ومن ثَمّ تعرّض الإنسان إلى خطر محدق به قد يودي بحياته في أي وقت يشاؤه الله، والدليل قوله علیه السلام:

«مِسْكِينٌ ابْنُ آدَمَ: مَكْتُومُ الأجَلِ، مَكْنُونُ الْعِلَلِ، مَحْفُوظُ الْعَمَلِ، تَؤْلِمُهُ الْبَقَّةُ، وَتَقْتُلُهُ الشَّرْقَةُ، وَتُنْتِنُهُ الْعَرْقَةُ»(3).

ويظهر من قراءة النصوص الوارد فيها اللفظ أنّ دلالة استعماله قد ارتبطت بذكر حركات للرّيق قد تكون إرادية أو غير إرادية، حقيقية أو مجازية، وهنا لابد من القول إنّ عملية القراءة لها تتعدد بتعدد القرّاء وتعدد مرجعيات التفسير والتقويم(4).

ومن الأجزاء المساعدة للسان في التصويت وإنتاج الكلام ما في أعلى الفم، ويُسمّى اللهاة، وكان استعمالها في الشاهدين اللذين ذُكرا مع اللفظ آنفاً يصبُّ في سياق نفي نسبة هذا الجزء من الفم إلى الله جل جلاله، ومنه قول الإمام علیه السلام:

ص: 131


1- الحديد: من الآية.4
2- ق: من الآية.16
3- نهج البلاغة: 2 / 401، ح 427
4- ينظر: النص والسلطة والحقيقة، نصر حامد أبو زيد: 112

«الَّذِي كَلَّمَ مُوسى تَكْلِيماً، وَأَرَاهُ مِنْ آیَاتِهِ عَظیماً، بِلاَ جَوَارِحَ وَلاَ أَدَوَات، وَلاَ نُطْق وَلاَ لَهَوَات».

واللهوات في النص هي اللّحمات في سقف أقصى الفم، وورد ذكر اللهاة في النص لبيان أنّ الله متكلّم لا كتكلّم المخلوقين، وإليه أشار بقوله (الّذي كلّم موسى)، وقد أتى ب(تكليماً) تأكيداً ودفعاً لتوهم السامع التجوّز في كلامه سبحانه، وكونه متكلّماً (بلا جوارح ولا أدوات ولا نطق ولا لهوات) هو من الآيات الظاهرة، والمراد به أنّ كلامه مع موسى ليس ككلام البشر صادراً عن الحنجرة واللسان واللهوات وعن مخارج الحروف وغيرها، بل تكلّم معه بأن أوجد الكلام في الشجرة كما في القصة(1)، وفي كلام الإمام علیه السلام نهي عن وصف الله بالنطق، وإخراج الحروف من المخارج، ولعلّ السّر فيه أيضاً اعتماد اللفظ على مقطع الفم واستلزامه للأدوات بخلاف الكلام(2).

ويمكن الاستفادة من النص الآخر الذي ذكرت فيه اللهاة بصيغة الجمع دلالة على منع جواز وصف الله باللّفظ ووصفه بالقول إذ قال علیه السلام:

«یُخْبِرُ لاَ بِلِسَان وَلَهَوات، وَیَسْمَعُ لاَ بِخُروُق وَأَدَوَات، یَقُولُ وَلاَ یَلْفِظُ، وَیَحْفَظُ وَلاَ یَتَحَفَّظ».

ويبدو أنّ الإمام في هذا النص قد ذكر ما هو شائع من الأجزاء في الإخبار والسمع؛ لتقوية نفي المعنى، وربما يكون ذلك احترازاً عن أجزاء المخلوقات الأخُر، ولكن دلالة اللهاة في كلّ الأحوال لا تبتعد عن دلالة النطق لقوله علیه السلام:

«يَقُولُ وَلاَ يَلْفِظُ».

ص: 132


1- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 321 - 322
2- ينظر: المصدر نفسه: 322

ومن اللافت للنظر في النصين كليهما أنّ اللهاة قد جاءت بصيغة الجمع مع اقترانها بألفاظ مفردة دالة على التلفظ كالنطق واللسان، ويمكن تعليل ذلك بما يفهم من شرح حبيب الله الخوئي بأن ذلك من تحرّك لسانه في لهواته لإنتاج اللفظ، وليس المقصود بجمع اللهاة سقف الفم وحده، بل كل جزء من الفم يساعد في إنتاج الأصوات، وبذلك تكون اللهوات من متممات مفرد ما ذُكر، ويبدو أن استعمال اللفظ عند الإمام قد ارتبط بدلالة النطق في النصين، وبدلالة الأصل في النص الآخر(1)، الذي اقترن لفظه بالثغر، وقد تقدم بيانه.

واستعمل الإمام لفظ الحلق في النهج مرتين، وبمواضع ودلالات تتناسب مع موضعه من الفم وسماته فيقول في الشاهد الأول: «فَصَبَرتُ وَفي الْعَيْنِ قَذىً، وَفي الحَلْقِ شَجاً»، والشّجَا: ما اعترض في الحلق من عظم ونحوه(2)؛ لأنَّه مساغ الطعام والشراب ومخرج النفس منه، لكن سياق الكلام يرتبط بعلاقة معنوية مع النَفَس وخروجه، وهذا ما يعني خروج الشقّ الأول (الطعام والشراب) وتحدّد الثاني (النَفَس)؛ إذ لا يُعينُ المعنى المعجمي على تحديد البُعد الدَلالي للفظة(3)؛ لأن المعنىً تَحكُمُه عَلاقة اللفظة بكلِّ ما يُحيط بها من عَناصر لغويّة في النص(4)؛ فالمراد من كلامه (وَفي الحَلْقِ شَجاً) غصة الحزن(5)، وهذا المعنى هو الذي مثّل القيمة الحضوريّة للكلمة في سياقها وهو معنى لا تؤديه كلمات أخرى ضمن الحقل الدلالي نفسه.

ص: 133


1- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 229، ك 46
2- ينظر: المصدر نفسه: 14 / 422
3- ينظر: اللغة العربية معناها ومبناها: 325
4- ينظر: علم الدلالة، كلود جرمان وريمون لوبلون: 35 - 36، ومنهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث، علي زوين: 94
5- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 37

أما قوله علیه السلام في الشاهد الثاني:

«طَعْنا فِي عُيُونِكُم، وَحَزّا فِي حُلُوقِكُمْ، وَدَقّا لِمَناخِرِكُمْ».

فإن حزّ الحلْق: قطه وهو مصدر فعله محذوف، جاء لمعنى مجازي؛ لأنَّ الفاعل جنود الشياطين، وقد مثّل جزءاً يستقطب الإجراء التأويلي في ضوء علاقة النص بالسياق(1)، ففعل القراءة لا يقتصر على مفهوم النص اللغوي بل يمتَّد به نحو تأويله(2)، فيكون ذكر العيون والحلوق والمناخر من باب التمثيل، والمراد بذلك ما يصيبهم من أبناء نوعهم بسبب القتل والقتال، ولما كان منشؤها جميعاً هو إغواء إبليس وجنوده نسبها إليهم لإحاطتهم بالأعضاء جميعها(3)، وإنَّما ذكر الحلْق مع الحز؛ّ لأنَّه» موضع المذبح من الحلق»(4)، واستعمال الإمام هذا يؤيده قول الراغب في التقديم اللغوي عن أصل الحق(5).

وأمّا استعمال لفظ البلعوم فقد جاء في كلام للإمام علیه السلام مع أصحابه في قوله:

«أما إنِّهُ سِیَظْهَرُ عَلَیْکُمْ بَعْدِي رَجُلٌ رَحْبُ الْبُلْعُومِ، مُنْدَحِقُ الْبَطْنِ، یَأْکُلُ مَا یَجِدُ، وَیَطْلُبُ مَا لاَ یَجِدُ».

ورَحْبُ الْبُلْعُومِ أي ضَخْم البُلْعُوم، لكن الإمام لم يقصد هذا المعنى الظاهري، بل جاء التركيب في النص كناية عن كثرة التَّبْذير والإسراف في الأمْوال والدِّماء فوصفه بسَعة المَدْخَل وتمدده، يتبين ذلك من تحليل الشعور القصدي للمرسل

ص: 134


1- ينظر: السياق والتأويل، احمد حساني، بحث منشور في مجلة )الموقف العربي(: 63 - 66
2- ينظر: إشكاليات القراءة وآليات التأويل، نصر حامد أبو زيد: 101
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 289
4- العين: 3 / 48
5- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 258

والماهيات القائمة داخل النص وارتباطها بالسياق(1)، ونظير هذا الحديث: «لايذهب أَمر هذه الأمُة إلِا على رجل واسع السُّرْم ضخم البُلُعومِ»(2) على اعتبار أن السُرْمُ الدُبرُ، والبُلعُومُ الحلق(3)؛ لذلك فإنَّ الوصول إلى سَعة المَدْخَل وتمدده يقتضي بالضرورة استعمال لفظ البلعوم مجرى الطعام والشراب إلى البطن.

ص: 135


1- ينظر: الفينومينولوجيا عند هوسرل، سماح رافع محمد: 197
2- النهاية في غريب الحديث والأثر، أبو السعادات المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606 ه): 1 / 402
3- ينظر:: لسان العرب: 12 / 55، 286

ص: 136

الفصل الثاني الألفاظ الدالة على جذع الإنسان وما يلحق به

اشارة

المبحث الأول الألفاظ الدالة على العنق وما يلحق به المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الصدر وما يلحق به المبحث الثالث الألفاظ الدالة على القلب وما يلحق به المبحث الرابع الألفاظ الدالة على البطن وما يلحق به المبحث الخامسالألفاظ الدالة على الجنب وما يلحق بها المبحث السادس الألفاظ الدالة على الظهر وما يلحق به

ص: 137

ص: 138

المبحث الأول الألفاظ الدالة على العنق وما يلحق به

إنَّ اللغة بطبيعتها مكوَّنة من مجموعة من الكلمات هي في الواقع حقول دلالية لتركيزها على دراسة ما يطرأ على الكلمات من تغيير تبعاً لتغير وجهات النظر وارتباط معنى الكلمة وقيمتها بمجموعة الألفاظ المرتبطة بها دلالياً وتفسير ذلك(1)؛ لأنَّ المعاني الأخُرى يحددها السياق وتنوعه أولا وقبل كل شيء، وفي هذا الحقل الخاص بالألفاظ الدالة على العنق وملحقاته وجِد لفظان ينتميان له في نهج البلاغة، وهما:

(العنق، والرقبة)، وستكون دراسة هذه الألفاظ معجمياً في الحقل الذي تنتمي إليه، أمَّا في النهج، فلا يمكن دراسة المفردات مستقلة عن تركيبها السياقي(2)، وعلاقات الاستبدال وغيرها ضمن الحقل الدلالي حتى تكون الدراسة ذات نتائج مثمرة، ومن شواهد هذه الألفاظ:

- العنق: وقد خص به الإنسان عشر مرات(3)، منها قول الإمام علیه السلام في كتاب له إلى الأشعث بن قيس:

«وَأِنَّ عَمَلَكَ لَیْسَ لَكَ بِطُعْمَة، وَلکِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ، وَأَنْتَ مُسْتَرْعی لِمَنْ

ص: 139


1- ينظر: علم الدلالة، أحمد مختار عمر: 110
2- ينظر: المصدر نفسه: 80
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 9 ، خ 37، 1 / 253، خ 108، 1 / 399، خ 166، 1 / 399، خ 167، 1 / 440، خ 184، 2 / 31، خ 213، 2 / 94 خ، 238، 2 / 98، خ 238

فَوْقَكَ»(1).

وقوله علیه السلام في دعاء له كان يدعو به إذا لقي العدوّ محارباً:

«اللَّهُمَّ إِلَیْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ، وَمُدَّتِ الأعْنَاقُ، وَشَخَصَتِ الأبْصَارُ، وَنُقِلَتِ الأقْدَامُ، وَأُنْضِیَتِ الأبْدَانُ»(2).

الرَّقبة: استعمل الإمام علیه السلام هذا اللفظ للإنسان ست مرات، منها قوله في وعظ الناس:

«اللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ! وَأَنْتُمْ سَالِمُونَ فِي الصِّحَّةِ قَبْلَ السُّقْمِ، وَفِي الْفُسْحَةِ قَبْلَ الضِّیقِ، فَاسْعَوْا فِي فَکَاكِ رِقَابِکُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا»(3).

وقال الإمام علیه السلام عن الرسول:

«فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ، وَأَشَرْتُمْ إِلَیْهِ بِأَصَابِعِکُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ، فَلَبِثْتُمْ بَعْدَهُ مَا شَاءَ اللهُ»(4).

وعند الوقوف عند معانى هذه الألفاظ في اللغة نجد للعُنْق «أصلٌ واحد صحيح يدلُّ على امتدادٍ في شيء، إمَّا في ارتفاعٍ وإمَّا في انسياح، فالأوَّل العنقُ»(5)، وهو من الجذر (ع ن ق) وقيل هو مخفف من عُنقُ والجمع فيهما أَعناق(6)، وفي العنق الدأي وهو فقار العنق والواحد دأية، وفيه النخاع، والجيد اسم يقع على طول العنق يقال

ص: 140


1- المصدر نفسه: 2 / 133، ك 5
2- المصدر نفسه: 2 / 149، ك 15
3- المصدر نفسه: 1 / 440، خ 184
4- نهج البلاغة: 1 / 224 ، خ 99
5- مقاييس اللغة: 4 / 159
6- لسان العرب: 10 / 271

رجل أجيد وامرأة جيداء(1)، والعنق مذكّر ومؤنَّث وقيل مذكر والحجاز تُؤنِّث(2)، أمّا الرّقبة فقد قال الخليل أنّا: «أصل مؤخر العُنقُ»(3)، وهي من الجذر (ر ق ب) وله «أصلٌ واحدٌ مطّرد، يدلّ على انتصابٍ لمراعاةِ شيءٍ، من ذلك الرَّقِيب... ومن ذلك اشتقاق الرَّقَبةِ، لأنَّا منتَصِبة، ولأنّ الناّظرَ لابد أن ينتصب عند نظره»(4)، وقد ذُكرت الرقبة في بعض كتب خلق الإنسان أنَّها العنق(5)، لكنَّ ثابتاً قد فرّق بين العنق والرقبة، إذ ذكر أنَّ الرقبة هي أصل العنق(6)، وبذلك يمكن التفريق بين ثلاثة معانٍ هي العنق، والرقبة، والجيد. فالأول: اسم لما بين الرأس، والجسد.

والثاني: اسم لأصل مؤخر العنق. والثالث: اسم لطوله.

أمّا عن استعمال الألفاظ المذكورة في نهج البلاغة، فاستعمال الإمام علیه السلام للعنق لم يبتعد عن مفاهيم أصيلة كان يتمتع بها العربي، ومن ذلك الشاهد الأول للفظ في كتاب الإمام علیه السلام إلى الأشعث بن قيس، إذ قال:

«وَإِنَّ عَمَلَكَ لَیْسَ لَكَ بِطُعْمَة، وَلکِنَّهُ فِي عُنُقِكَ أَمَانةٌ».

فمن عادة العرب الالتزام بالعهد والوفاء بالأمانة، فذكر علیه السلم هذا الجانب، فاستعار لذلك العنق من أجزاء الإنسان؛ لشبه التعلّق فكأن هذا الشيء معلق في عنق من تعهد به(7)، كالقلادة لكنّه في النصّ متعلق بالإنسان نفسه، لأنَّه يعني كل

ص: 141


1- ينظر: خلق الإنسان: الأصمعي، 198 ، وخلق الإنسان، الزجاج: 68
2- ينظر: المعجم المبتكر: 241
3- مقاييس اللغة: 2 / 427
4- ينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 198، وخلق الإنسان، الزجاج: 66
5- ينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 198، وخلق الإنسان، الزجاج: 66
6- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 200
7- ينظر: لسان العرب: 10 \ 231، 432، وأساس البلاغة، أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري (ت 538 ه): 182

ما يلتزم به الفرد من قول أو عمل، وخاصة فيما يتعلق بالحلف، والعهد، والميثاق، ووفاء الذمة(1). قال الإمام عن نفسه:

«فَنَظَرْتُ في أَمْرِي، فَإِذَا طَاعَتِي قَدْ سَبَقَتْ بَیْعَتِي، وَإِذَا المیِثَاقُ في عُنُقِي لِغَیْرِي»(2).

واستعمال العنق هنا إشارة إلى تمام التعلق والاستقرار، فضلاً عن تضمن معنى اختصاص ذلك في العنق.

ولما كان هذا الجزء من الإنسان يتصف بمرونة الحركة، ومزية الارتفاع، فقد ارتبط بمعنى التعبير عن الرغبة به، فقد جاء من كلام أمير المؤمنين لذلك أربعة شواهد في النهج كلّها بصيغة الجمع، منها دعاء له:

«اللَّهُمَّ إِلَیْكَ أَفْضَتِ الْقُلُوبُ، وَمُدَّتِ الأعْنَاقُ».

ويبدو أن حركة مدّ الأعناق قد جاءت لتكمل مشهد التضرع لله بحقيقة إيمانية مفصحة عن حال صاحبها؛ إذ إنَّ هذه الحركة تدل على الرغبة والأمل؛ فالعنق مظهر من مظاهر التجبُّ إذا علا وارتفع، وقد استُعمل هنا ولم تستعمل الرقبة؛ لأنَّا لولب الحركة والامتداد ليس من السمات الدلالية لها، بل من السمات الأساسية للعنق، أمَّا في نصوص أُخر(3) وباختلاف المصاحبات اللغوية مثل: الأعناق خاضعة، خلق التكبر من أعناقكم، وغل الأيدي إلى الأعناق...، فإنَّ الدلالة الاستعمالية لا تبتعد عن مزية الالتزام وعلاقات الارتفاع والامتداد عند الإمام.

أمّ استعمال لفظ الرقية فمنه قول الإمام علیه السلام:

ص: 142


1- ينظر: الإنسان في الشعر الجاهلي: 307
2- نهج البلاغة: 1 / 99، خ 37
3- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال:، 1\ 99، خ 37، 1 / 253، خ 108، 1 / 399، خ 167، 1 / 440، خ 184

«اللهَ اللهَ مَعْشَرَ الْعِبَادِ... فَاسْعَوْا فِي فَکَكِ رِقَابِکُمْ مُنْ قَبْلِ أَنْ تُغْلَقَ رَهَائِنُهَا».

وفكّ رقَبة أطلقَها من أسرِها ومنه الفكّ في العنق وفكَكْت الأسير أفُكّه فكّاً(1)، فكأنَّ العبد خُلِّيَ فذهب وإنَّما قيل: فَكَّ رقبة أي إنسان فخُصَّت الرقبَة من دون غيرها؛ لأنَّ مِلك السيّد لعبده كالحبْل في الرقبة وكالغُلِّ هو به محتبس كما تُحبَس الدابة بحبل في عنقُها فإذا أُعتق، فكأنَّه أطلِقَ من ذلك(2)، وقد سُمِّیت الجملة باسمِ العُضْوِ لشرفِها(3)، تسمِيةَ للشيء ببعضِه فجعِلت كنايةً عن الإنسانِ المملوك(4)، ومن ذلك قوله تعالى:

«لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»(5).

وعلى ذلك تكون الرقبة مظهر من مظاهر النظر إلى الإنسان بأحد أجزائه، فكأن شخوصه وحياته يكون بانتصاب رقبته.

أما الشاهد الثاني للفظ الرقبة فقد جاء في سياق قوله عن الرسول:

«فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ».

ص: 143


1- ينظر:المخصص: 5/ 126
2- ينظر: غريب الحديث، أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224 ه): 1 / 292، وغريب الحديث، ابن قتيبة: 1225
3- ينظر: لسان العرب: 1 / 424
4- ينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 2 / 609
5- المائدة: من الآية: 89

ومعنى قوله ألنتم له رقابكم: أطعتموه(1)، فدلالة الخضوع جلية في النص لارتباطها بسمة ثانوية للرقبة وهي اللين أسهمت هذه اللفظة في تكوين الدلالة؛ لأن الرقبة هي الموصّل ما بين جذع الإنسان ورأسه الذي يعد مجمع القوى والحواس الإنسانية، وهي محور حركته لمراعاة تشخيص الصالح، والطالح، وإدامة الحياة.

ومما يلحظ في نصوص أُخر ذكرت فيها الرّقبة(2)، أنّ كلامه علیه السلام عن معنى الخضوع فيه ما هو قسر أو بإرادة؛ فاللفظ قد جاء في سياق دلالي لفكّ الرقبة وتحْريرها، يدل على ذلك السياق العام والمصاحبات اللغوية جاءت في بعض النصوص مثل: ملوك على رقاب العالمين(3)، حكام على رقاب الناس(4)، فكاك رقابهم(5).

أمَّا عن استعمال جزئي الرقبة والعنق في نهج البلاغة فهناك فروق أُخر تتجلى من قراءة النصوص التي ورد فيها اللفظان نذكر منها:

- ذكر لين الرقبة لدلالة الطاعة، مقابل ذكر مدّ العنق للرغبة في الثواب.

- عبَّر الإمام عن الإنسان وتملكه كلاً واحداً بالرقبة، ولم نجد ذلك في استعمال العنق.

- ذكر الأغلال والعذاب مع الأعناق من دون الرقبة، لطولها ودلالتها على الكبر.

- ارتبطت حياة الإنسان وموته في رقبته، وارتبطت عزته وعبوديته بعنقه.

ص: 144


1- نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 7 / 95
2- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 107، خ 203، 2 / 12، خ 203، 1 / 445، خ 186، 2 / 225، ك 45
3- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 107، خ 238
4- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 12، خ 203
5- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 445، خ 186

- التعبير عن صورة الموت بضرب الرقاب، وفي إدامة الحياة بتحريرها وفكها.

وبعد دراسة ألفاظ هذا المبحث فإنَّ الباحث مع الرأي القائل بجزئية الرقبة من العنق، فعلاقة العنق بالرقبة هي علاقة اشتمال لا أكثر وقد بدا ذلك واضحاً في دراسة هذه الألفاظ.

ص: 145

ص: 146

المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الصّدر وما يلحق به

الصَّدْر جزءٌ في جسم الإنسان مثّل مركزاً لمِستقرّ الشعور في أغلب نصوص نهج البلاغة؛ فهو يحتضن القلب ويحافظ عليه بأجزائه من الأضلاع والترائب، يقول الله عزوجلفي كتابه العزيز:

«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»(1).

ويتضمَّن هذا المبحث ألفاظاً عديدة تلحق بالصدر، وقد ظهر في أثناء البحث بصورة عامة وتحديداً في الوحدات الدلالية الرئيسة المتضمنة لألفاظ فرعية تنتمي إليها علاقة الاشتمال(2)، وفي هذا المبحث يمثل الصّدر المصطلح العلوي، أمَّا الفرع السّفلي فيتضمَّن الألفاظ الملحقة به الواردة في نهج البلاغة، وسوف تكون دراسة هذه الألفاظ على مجموعتين، الأولى ألفاظ: (الصّدر، النحّر، الضّلع، الجانحة)، والثانية ألفاظ: (الحجر، والحضن، الثّدي، اللّبن).

ص: 147


1- الحج:. 46
2- ينظر: علم الدّلالة، أف.آر. بالمر: 118

المجموعة الأولى:

تتضمن لفظ الصدر ومكوناته، وهي (النحّر، الضّلع، الجانحة)، ومن شواهدها:

- الصّدر: ذُكر ثماني وثلاثين مرة للإنسان(1)، من ذلك قول الإمام علیه السلام في بعض أيام صفين:

«... وَلَقَدْ شَفَی وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَیْتُکُمْ بِأَخَرَة، تَحُوزُونَهُمْ کَمَا حَازُوکُمْ، ...»(2).

وقوله علیه السلام في أحد الخوارج:

«وَأَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَةِ(3) فَقَدْ کُفِیتُهُ بِصَعْقَة سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ وَرَجَّةَ صَدْرِهِ، وَبَقِیَتْ بَقِیَّةٌ مِنْ أَهْلِ الْبَغْيِ...»(4).

- النّحر: ورد في شاهدين خصّ بهما الإنسان في نهج البلاغة، ههما قول

ص: 148


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 143، خ 74، 1 / 160، خ 82، 1 / 162، خ 82، 1 / 183، خ 89، 1 / 241، خ 106، 1 / 256، خ 109، 1 / 300، خ 128، 1 / 306، خ 132، 1 / 349، ح 178، 1 / 361، خ 156، 1 / 361، خ 156، 1 / 42، خ 7، 1 / 458، خ 190، 1 / 460، خ 191، 1 / 470، خ 195، 1 / 79، خ 27، 1 / 93، خ 34، 1 / 962، خ 82، 2 / 102، خ 238، 2 / 105، خ 238، 2 / 112، خ 238، 2 / 123، خ 243، 2 / 216، ك 41، 2 / 246، ك 53، 2 / 249، ك 53، 2 / 258، ك، 53، 2 / 285، ك 65، 2 / 308، ح 6، 2 / 323، ح 77، 2 / 349، ح 180، 2 / 383، ح 339، 2 / 39، خ 216، 2 / 59، خ 226، 2 / 79، خ 235، 2 / 80، خ، 235، 2 / 95، خ 238
2- المصدر نفسه: 1 / 241، خ 106
3- الرَدْهة - بالفتح النُقْرَة في الجبل، وشيطان الرَدْهة: ذو الثَدِيّة، من رؤساء الخوارج وُجد مقتولًا في ردهة
4- نهج البلاغة: 2 / 112، خ 238

الإمام علیه السلام يناجي رسول الله:

«فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَیْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ»(1)، وقوله علیه السلام عن معاوية:

«أَلاَ وَإِنَّ مُعَاوِیَةَ قَادَ مِنَ الْغُوَاةِ وَعَمَّسَ عَلَیْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّی جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِیَّةِ»(2).

- الضّلع: ورد هذا اللفظ مرتين، وهما قول الإمام علیه السلام في طاعة الله:

«فَاجْعَلوُا طَاعَةَ الله شِعَارا دُونَ دِثاَرِكُمْ، وَدَخِيلا دُونَ شِعَارِكُمْ، وَلَطِيفا بَيْنَ أَضْلاَعِکُمْ، وَأَمِیراً فَوْقَ أُمُورِکُمْ...»(3).

وقوله علیه السلام في ذكر الموت وما يتعلق به:

«... مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الأرْمَاسِ، وَشِدَّة الإِبْلاَسِ، وَهَوْلِ الْمُطَّلَعِ، وَرَوْعَاتِ الْفَزَعِ، وَاخْتلاَفِ الأضْلاَعِ، وَاسْتِكَاكِ الأسْمَاعِ...»(4).

- الجّانحة: ذكرها الإمام فيما يخص الإنسان مرتين، هما قوله علیه السلام في حثّ الناس على جهاد أهل الشام:

«وَاللهِ إِنَّ امْرَأً یُمَکِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ یَعْرُقُ لَحْمَهُ، وَیَهْشِمُ عَظْمَهُ، وَیَفْرِي جِلْدَهُ، لَعَظِیمٌ عَجْزُهُ، ضَعِیفٌ ما ضُمَّتْ عَلَیْهِ جَوَانِحُ صَدْرِه»(5).

وقوله علیه السلام في علمه:

«...وَمَا سِوَی ذلِكش فَعِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِیَّهُ صلی الله علیه فَعَلَّمَنِیهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ

ص: 149


1- المصدر نفسه: 1 / 470، خ 195
2- المصدر نفسه: 1 / 115، خ 51
3- المصدر نفسه: 1 / 461، خ 191
4- المصدر نفسه: 2 / 81، خ 236
5- المصدر نفسه: 1 / 93، خ 34

يَعِيَهُ صَدْريِ، وَتَضْطَمَّ عَلَيْهِ جَوَانِحِي»(1).

ويمكن تلخيص المعنى اللغوي للألفاظ المذكورة بالآتي:

فالصّدر من الجذر (ص د ر) وله أصلان «أحدُهما يدلُّ على خلاف الوِرْد، والآخر صَدْر الإنسان وغيره، فالأوّلُ قولُم: صَدَرَ عن الماءِ، وصَدَرَ عن البلِاد، إذا كان وَرَدَها ثمَّ شَخَصَ عنها... وأمَّا الآخر فالصَّدر للإنسان، والجمع صُدور»(2)، والصَّدر أعلى مُقدِّم كلّ شيء وأوّله(3)، والصَّدْر من جسم الإنسان أوله النحر(4)، وهو ما انطبق عليه الكتفان(5)، وهو من الأصل (ن ح ر) عبرّ عنه ابن فارس بأنَّه «كلمة واحدة يتفرّعُ منها كلماتُ الباب هي النَّحْر للإنسانِ وغيره، والجمع نُحور»(6)، ومن الباب قول الخليل «هذه الدار تنحر تلك الدار، إذا استقبلتها»(7)، ويأتي الكلام عنه في باب الصدر وما احتزم به عند ثابت إذ يقول عنه: «وفيه النحر، وهو موضع القلادة، وفيه اللبة وهو موضع المنحر، والثغرة ثغْرةُ النحر وهي الهزمة التي بين الترقوتين»(8)، أمَّا ما تعلق بتكوين الصدر فهو يتكون من مجموعة من العظام تسمى الأضلاع تكوِّن ما نعرفه اليوم بالقفص الصدري، ويذكر الخليل أنَّ مفرد الأضلاع: «الضِّلَع والضِّلْع، وهما لغتان، والعرب تقول هذه ضِلَعٌ وثلاث أضلُع»(9)، وهي من الجذر (ض ل ع) وله

ص: 150


1- المصدر نفسه: 1 / 300، خ 128
2- مقاييس اللغة: 3 / 337
3- ينظر: العين: 7 / 94، ولسان العرب: 4 / 445
4- ينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 81
5- ينظر: المخصص: 1 / 153
6- مقاييس اللغة: 5 / 400، وينظر: المفردات في غريب القران: 485
7- العين: 3 / 310
8- خلق الإنسان، ثابت: 244
9- تهذيب اللغة: 1 / 477

«أصلٌ واحدٌ صحيح مطّرد، يدلُّ على ميل واعوجاج، فالضِّلَع: ضِلَعَ الإِنسان وغيرِهِ، سمِّيت بذلك للاعوجاج الذي فيها»(1)، و «ضلوع كل إنسان أربع وعشرون ضِلعاً، وللصَّدر منها اثنتا عشرة ضِلعاً تلتقي أطرافها في الصدر، وتتصل أطراف بعضها ببعض وتسمى الجوانح،... واثنتا عشرة ضلعاً أسفل منها في الجنبين، البطنُ بينهما، لا تلتقي أطرافها»(2)، وتنماز بأناَّ عظام ليّنة وعددها اثنتا عشرة ضلعاً في كل شقّ(3).

أمّا جوانح الصدر فهي: «الأضلاع المتصلة رؤوسها في وسط الزور، الواحدة جانحة»(4)، وهي من الجذر (ج ن ح) وله «أصلٌ واحدٌ يدلُّ على المَيْلِ والعُدْوان...

والجوانح: الأضلاع: لأنها مائلة»(5)، وقيل: الجَوانح أَوائل الضُّلُوع تحت الترائب مما يلي الصدر(6) كالضلوع مما يلي الظهر سميت بذلك لجنوحها على القلب في الصدر، وهي من مقدمة الصدر الضلوع الصغار التي تلي الفؤاد(7)، فالجوانح هي إحدى مكونات الصّدر، ويبدو في هذه المجموعة أنَّ بقية الألفاظ تمثَّل وحدات بناء جزئية للصدر وإن اقتربت في الأصل اللغوي كالجانحة والضلع.

أمَّا عن سياقات الاستعمال في النهج، فإنّ استعمال الصدر قد اشتمل أصلي الجذر (ص د ر) عند ابن فارس، فمن الأول قوله للدنيا: «وَحَاشَ لله أَنْ تَلِيَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدِي صَدْراً أَوْ وِرْداً...»(8)، أمَّا الأصل الثاني فقد وردَ في نهج البلاغة

ص: 151


1- مقاييس اللغة: 3 / 368
2- تهذيب اللغة: 1 / 477
3- ينظر: خلق الإنسان، ثابث: 253، 254
4- العين: 3 / 84، وينظر: تهذيب اللغة: 1 / 477
5- مقاييس اللغة: 1 / 484
6- ينظر: لسان العرب: 2 / 428
7- ينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 216
8- نهج البلاغة: 2 / 287، ك 65

بسياقات مختلفة ذكرنا منها في الشواهد قوله علیه السلام في صفين:

«وَلَقَدْ شَفَی وَحَاوِحَ صَدْرِي أَنْ رَأَیْتُکُمْ بِأَخَرَة، تَحُوزُونُهُمْ کَمَا حَازُوکُمْ».

والوَحَاوِح: جمع وَحْوَحة وهو صوت الصدر إذا كان متألماً وهو صوت معه بحح(1)، والمراد حُرْقة الغيظ(2)، الناتجة عن الهم والحزن، ويرتبط لفظ الصدر بالهموم والمعاناة؛ لأنَّ بعض الجوارح في جسم الإنسان هي مركز للانفعالات النفسية والمشاعر، والصدر مستودع الهموم والآلام، لذا وظّف الإمام هذا الجزء لهذا الغرض، فكنى بهذا التعبير عن شدة الغيظ، وهو ما يحتاج إلى شفاء معنوي أي ليس شفاءً حسياً؛ لقوله تعالى:

«قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ»(3).

وتأييداً لذلك يذكر الإمام الصدر في نصوص أُخر تشير إلى اللين والتسامح والسعة ورحابة الصدر وسلامته وهي من الدلالات المشهورة حتى في كلامنا اليوم.

ومن بديع الاستعمال لجزء الصدر من الإنسان في كلام الإمام علیه السلام لغة الجسد التي ظهرت في قوله:

«وَأَمَّا شَیْطَانُ الرَّدْهَةِ فَقَدْ کُفِیتُهُ بِصَعْقَة سَمِعْتُ لَهَا وَجْبَةَ قَلْبِهِ وَرَجَّةَ صَدْرِهِ».

فرجة الصدر اهتزازه وارتعاده(4)، وهي حركة لا إرادية للصدر تدل على خوف شديد وهلع، ويمكن أن يكون هذا المعنى ومعنى الضيق والسعة الذي

ص: 152


1- ينظر: نهج البلاغة، تعليق: محمد الحسيني الشيرازي: 200
2- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 264
3- التوبة:. 14
4- نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: 359

ورد في النص السابق قد ارتبطا بالصدر؛ لأنَّه موطن القلب وموضع الانقباض والانبساط.

وإذا ما تدبَّرنا النصوص الأخُر الوارد فيها لفظ الصدر يتبيّ أنّ للصدر حضوراً واسعاً ودلالات عدّة في نصوص نهج البلاغة(1)، منها الدلالة المكانية(2)، إذ نجد أحداثاً متنوعة تجري في مسرح هذا الجزء من الإنسان، إذ يختفي خلف أستاره ممثل الحياة ومختزن الأسرار وسائر القوى من الشهوة والهوى والغضب ونحوها، وهو القلب، وهذا وما سبق يعطي أهمية كبرى لهذا الجزء في التكوين اللغوي وهو ما يروم البحث إثباته.

أمَّا في استعمال لفظ النّحر فيبدو أنَّ ما دلَّنا عليه ثابت من تحديد لموضع النحر قد استعمله علیه السلام في كلام له يناجي به رسول الله:

«فَلَقَدْ وَسَّدْتُكَ فِي مَلْحُودَةِ قَبْرِكَ، وَفَاضَتْ بَیْنَ نَحْرِي وَصَدْرِي نَفْسُكَ».

وهذا النص من النصوص التي مثّلت عمق الصلة والقرابة والمنزلة من رسول الله، في صورة قابلة للتأثير في النواحي النفسية والاجتماعية للمتلقي؛ لأنَّ الفن الخطابيّ يعتمد أساساً على قوة الخطيب الحجاجية من جهة، وعلى سيرته الأخلاقيّة اجتماعياً من جهة أخرى، وهي سمات حاضرة تطبيقياً في النص من شأنها أن تمثلرسالة إيجابية تخلق دلالة معبرة عن منقبة اختصاص الإمام برسول الله في ذهن المستمع المقصود(3)، ويمثل النص الثاني الرأي الأول الذي ذكره ابن فارس في

ص: 153


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 361، خ 156، 1 / 300، خ 128، 1 / 93، خ 34، و 1 / 470، خ 195، 2 / 113، خ 115، 1 / 458، خ 190، 2 / 349، ح 180، 1 / 162، خ 82، 2 / 123، خ 243، 2 / 246، ك 53
2- ينظر: المصدر نفسه، على سبيل المثال: 2 / 323، ح 77، 1 / 183، خ 89، 1 / 256، خ 109، 2 / 349، ح 178
3- ينظر: سيرة الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة، هاشم الميلاني: 20

قول الإمام عن الغواة مع معاوية:

«عَمَّسَ عَلَیْهِمُ الْخَبَرَ، حَتَّی جَعَلُوا نُحُورَهُمْ أَغْرَاضَ الْمَنِیَّةِ».

فقد أراد الإمام بالنحر في هذا السياق عن أغراض المنية أي: أهدافها(1)، بذبح أو طعن، وحين ندقق النظر ونتأمَّل دلالات الحدث الكلاميّ، آخذين في الحسبان سياق النص وأثره في توجيه المعنى، نجد أن لفظ النحر قد استعمله الإمام رمزاً للدلالة على إنهاء حياة من ظللهم معاوية.

أمَّا التكوين البايلوجي للصدر، فهو قائم على عظام لينة تنماز بالميل والاعوجاج تسمى الأضلاع، وبين هذه الأضلاع يضع الإمام علیه السلام مكاناً للطاعة في قوله:

«فَاجْعَلوُا طَاعَةَ الله شِعَارا دُونَ دِثاَرِكُمْ، وَدَخِيلا دُونَ شِعَارِكُمْ، وَلَطِيفاً بَيْنَ ضْلاَعِكُمْ».

إذ أمر بأنَّ يجعل الطاعة من السرائر ومكنونات الإنسان، وقد أراد غاية إدخالها الباطن وجعلها متمكّنة في القلوب(2)، فأكَّد الدلالة باستعارة الشعار والدخيل واللطيف للطاعة، وقد عبَّر عن المطلوبة بأنَّا لطيف بين الأضلاع؛ لأن ذلك أمسّ بالإنسان من الشعار والدخيل فقد يكون الدخيل في الجسد ولم يخامر القلب(3)، لذا لم يكتفِ علیه السلام بجعلها دخيلاً في البدن كالروح(4)، وقد عمد علیه السلام إلى هذا الأسلوب التصوري للقلب؛ لأنَّه ذكر في السياق ثلاث مراحل للطاعة آخرها الاستقرار فللتعبير يستدعي المحافظة على هذه المرتبة، فوظّفت سمة الأضلاع لذلك لعلاقة المجاورة وكان ذلك سائغاً باستعمال الظرف (بين) وملائماً للدلالة.

ص: 154


1- نهج البلاغة، تعليق صبحي الصالح: 581
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 21 / 277
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، 10 / 191
4- ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 12 / 526

أمَّا الشاهد الآخر للفظ الأضلاع، فقد جاء في سياق ذكر الموت وما يتعلق به إذ قال علیه السلام:

«مَا تَعْلَمُونَ مِنْ ضِيقِ الأرْمَاسِ، وَشِدَّة الإبْلاَسِ، وَهَوْلِ الْمُطَّلَعِ، وَرَوْعَاتِ الْفَزَعِ، وَاخْتلاَفِ الأضْلاَعِ».

واختلاف الأضلاع يعني اشتباكها ودخول بعضها في بعض ومجيء ضلع موضع ضلع آخر من شدة الضغط في القبر(1)، وهذا ما يوحي للسامع بانهيار جدار القوة لما يحرص عليه الإنسان، إذ يجعل الإمام من هذه الأضلاع محلاً لضغطة القبر بخروجها عن هيأتها، ويلاحظ أنَّ الإمام قد وظَّف هذه العظام الصغيرة المنحنية مرتين في النهج؛ لغرض الوعظ والإرشاد، وربَّما قربها من مركز العاطفة إذ أعطاها دلالة أقوى في الاستعمال.

أمّا لفظ الجوانح فقد وظّف بصيغة الجمع حصراً في سياقين، الأول قوله علیه السلام في الشاهد الأول:

«وَاللهِ إِنَّ یُمَکِّنُ عَدُوَّهُ مِنْ نَفْسِهِ... ضَعِیفٌ ما ضُمَّتْ عَلَیْهِ جَوَانِحُ صَدْرِه».

وهذا النص جاء للحثّ على الجهاد؛ ولأهمية هذا الأمر فقد قدَّم نفسه الشريفة برفضه لمن يسلِّط العدو على نفسه ليصنع به ما تقدم ذكره في السياق، ووصفه الإمام بأنَّه عاجز عظيم العجز؛ لأنَّ خلاصة تلك الوجوه انفصال شيء من دون رجوع عمد إليها الإمام حتى تكون صورة مؤثرة؛ لأنَّ متلقي الخطاب ضعيف القلب(2)، فالذي ضُمّت عليه الجوانح هو القلب وما يتبعه، وتأتي الكناية عنه بجَوَانِحُ الصَدْرِ

ص: 155


1- ينظر: نهج البلاغة، تعليق، محمد الحسيني الشيرازي: 383
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، الحائري: 2 / 248، والإمام علي علیه السلام في ملاحم نهج البلاغة، علي عزيز الإبراهيم: 369

في الخطاب العلوي؛ لأنَّا الأضلاع التي تحميه، وهذا ما يتناسب مع الضعف؛ فلكونه ضعيفاً ضمت عليه الجوانحو ولو كان قوياً لظهر، وفي الشاهد الآخر كانت الجوانح أشد التصاقاً بالقلب في حديثه علیه السلام عن علمه:

«عِلْمٌ عَلَّمَهُ اللهُ نَبِیَّهُ صلی الله علیه فَعَلَّمَنِیهِ، وَدَعَا لِي بِأَنْ یَعِیَهُ صَدْرِي، وَتَضْطَمَّ عَلَیْهِ جَوَانِحِي».

ويوضح الإمام في السياق أنَّ هذا التعليم ليس بعلم الغيب، بل حصل بإذن من اللهّ قبل كل شيء، أمَّا دعاء الرسول علیه السلام فكان ذا هدفين الأول: أن يسعه صدره، والآخر: أن يضبطه قلبه ويشتمل عليه ويحفظه، وكنّى بالجوانح عن القلب لاشتمالها عليه(1)؛ لأنَّ فعل الضّم، يدل على اشتمالها للقلب، أي وتنضمُّ عليه جوانحي(2)، ويستفاد من علاقة التلازم بين الصدر والجوانح في التركيز على رسم صورة منسجمة تدل على السعة والحفظ، ويُلحظ أنَّ الإمام علیه السلام قد استعمل قوة وميلان الجوانح في كلا الشاهدين لغرض المحافظة على ما حفظه الإمام، فهي تدلّ على شدّة الحرص على ما تعلّم إلى الحدّ الذي تقفل عليه جوانحه صيانةً له من الضياع، وبذلك يكون معنى الجوانح عند الإمام الأضلاع التي تحمي القلب لا الأضلاع عامة كما ذكرنا في التقديم اللغوي.

المجموعة الثانية:

تتضمن الألفاظ الظاهرة التابعة للصدر، وهي (الحِجْر، الحِضْن، الثدي، اللبن)، وستكون دراستها على وفق للشواهد الآتية:

- الحِجْر: جاء اللفظ مرة واحدة في كلام يصف به الإمام علیه السلام قرابته من رسول الله:

ص: 156


1- منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 213
2- ينظر: دراسات في نهج البلاغة، محمد مهدي شمس الدين: 169

«... وَضَعَنِي فِي حِجْرِهِ وَأَنَا ولیدٌ یَضُمُّنِي إِلَی صَدْرِهِ، وَیَکْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ»(1).

- الحِضْن: ورد هذا اللفظ مرة واحدة في كلام الإمام علیه السلام عن عثمان بن عفان:

«إِلَی أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَیْهِ بَیْنَ نَثِیلهِ وَمُعْتَلَفِهِ، وَقَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِیهِ یَخْضَمُونَ مَالَ اللهِ خَضْمَ الإبِل نِبْتَةَ الرَّبِیعِ،...»(2).

- الثّدي: استعمل هذا اللفظ مرتين، وهما قول الإمام علیه السلام مخاطباً الإنسان:

«... فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ»!(3).

وقوله علیه السلام يصف شجاعته:

«وَاللهِ لاَبْنُ أَبي طَالِب آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ...»(4).

- اللّبن: استعمله الإمام علیه السلام مرة واحدة في كتابه إلى معاوية جواباً على كتاب منه:

«... وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِیدُ فَإِنَّهَا خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ اللَّبَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ»(5).

وقبل تحليل هذه الشواهد لابد من معرفة المعنى اللغوي لها، فالحجر منها يرجع إلى الجذر (ح ج ر)، وله «أصل واحد مطَّرد، وهو المنعْ والإحاطة على الشيء، فالحَجْر حَجْر الإنسان، وقد تكسر حاؤه، ويقال: حَجَر الحاكمُ على السَّفيه حَجْراً؛ وذلك منْعُه إيَّاه من التصرُّف في ماله»(6)، ويذكر ابن سيده حجر الإنسان بقوله:

«وحِجْرُ الإنسان وحَجْرُهُ: ما بين يديه... ونشأ فلان في حَجْرِ فلان وحِجْرِهِ، أي

ص: 157


1- نهج البلاغة: 2 / 113، خ 239
2- المصدر نفسه: 1 / 33 خ 3
3- نهج البلاغة: 1 / 387، خ 164
4- المصدر نفسه: 1 / 40، خ 5
5- المصدر نفسه: 2 / 284، ك 64
6- مقاييس اللغة: 2 / 138، وينظر: لسان العرب: 4 / 165

حِفظِه وسِترِه»(1)، وجمعه: حجور(2)، أمَّا الحضن، فهو من الجذر (ح ض ن) وله «أصلٌ واحد يقاس، وهو حِفْظ الشيء وصِيانته... ومصدره الحَضْنُ والحَضانة»(3)، ولم يحضَ جزء الحضن بتحديد واضح في كتب خلق الإنسان المتقدمة ولم تسعفنا في تحديد هذا الجزء من الجسم إلا معجمات الألفاظ وعلى وجه الدقة معجم الخليل بقوله: «الحضن: ما دون الإبط إلى الكشح، ومنه احتضانك الشيء... في حضنك كما تحتضن المرأة ولدها فتحمله في أحد شقيها»(4)، وتوسَّع الَأزهري (ت 370 ه) قليلاً فقال: «حِضْنا الجبل ناحيتاه، وحضْنا الرجل جَنبْاه»(5)، ويتسع المعنى عند ابن منظور أيضاً ويجعل من قول الإمام علیه السلام في غير نهج البلاغة شاهداً بقوله: «وحِضْنا الشيء جانباه ونواحي كل شيء أَحْضانُه وفي حديث علي (كرم الله وجهه) عَلَيْكُم بالحِضْنَيْنِ، يريد بجَنْبَتَي العَسْكَر»(6)، ونجد ذلك المعنى وارد بلفظ الحجر عند الخليل بقوله: «وحجرتا العسكر جانباه من الميمنة والميسرة»(7)، ويبدو من هذا أنَّ الحضن من الألفاظ التي تتمتع بقرابة دلالية مع الحجر في استعمال العرب، لذلك قيل: أنَّ الحِجْر والحَجْر لغتان للحضنين(8)، لكن الحجر أوسع على مايبدو، وربما جاء هذا التقارب من باب اشتراكهما بالإحاطة والحفظ في الجذور اللغوية على الرغم من اختلافها.

ص: 158


1- المحكم والمحيط الأعظم، أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدة المرسي (ت 458 ه): 3 / 68، وينظر: خلق الإنسان، الأصمعي: 217
2- ينظر: المفردات في غريب القران: 1 / 214
3- العين: 3 / 105
4- العين: 3 / 105
5- تهذيب اللغة: 2 / 3
6- لسان العرب: 3 / 122
7- العين: 3 / 75
8- ينظر: المصدر نفسه: 3 / 75

وتتخذ هذه الرعاية أشكالاً مختلفة عند الرجل والمرأة، ومن الألفاظ الأُخر التي مثَّلت ذلك أيضاً الثدي وهو من الأجزاء البارزة على الصدر، وذهب بعض اللغويين إلى أنَّه يُذكَّر ويُؤنَّث والأشهر تذكيره(1)، وهو من الجذر (ث د ي) عبر عنه ابن فارس بأنَّه «كلمةٌ واحدة، وهي ثدي المرأة، والجمع أَثْدٍ، والثدياء: الكبيرة الثَّدْي، ثم فرّق بينه وبين الذي للرّجُل، فقيل في الرّجل الثُّنْدُؤَة بالضّم والهمزة، والثَّنْدُوَة بالفتح غير مهموز»(2)، وقيل: الثدي للرّجل والمرأة، وعلى قول ابن فارس فإن الثدي يستعار للرجل(3)، ويبدو أنَّ ذلك بفعل اختصاص المرأة بوظائف إضافية للثدي عندها ومنها الرضاعة وغيرها، فهو من لوازم الرعاية عندها، وأمَّا اللّبن، فهو من متعلقات الثدي المشار إليه آنفاً، وهو «خلاص الجسد، ومستخلصه من بين الفرث والدم... واللّبان: الصدر، واللّبنة: واحدة اللّبن»(4)، ويرجع إلى الجذر (ل ب ن)، وله «أصلٌ صحيح يتفرَّع منه كلمات، وهو اللّبن المشروب، يقال:... هو أخوه بِلِبَان أمِّه، ولا يقال بلَبَن أمّه»(5)، ومعروف أنَّ سبيله للخروج هو الثدي.

ومن استعمالات هذه الألفاظ في نهج البلاغة، فإنّ ما تعلق باستعمال لفظ الحِجْر عند الإمام، فقد وظّفه في حديثه عن قرابته من رسول الله: «وَضَعَنيِ فِي حِجْرِهِ وَأَنَا وليدٌ يَضُمُّنيِ إِلَی صَدْرِهِ، وَيَكْنُفُنِي فِي فِرَاشِهِ»، ومعنى (فِي حِجْرِهِ) في كنفه وحمايته، وهو من المعاني الشائعة في العربية، لكن الغرض من استعمال لفظ الحِجْر في هذا النص الدلالة على أن الرسول يمنعه من أي زلل أو خطأ ويحافظ عليه ويصونه من

ص: 159


1- ينظر: المعجم المبتكر في بيان ما يتعلق بالمؤنث والمذكر: 90
2- مقاييس اللغة: 1 / 373
3- ينظر: المعجم المبتكر في بيان ما يتعلق بالمؤنث والمذكر: 91
4- العين: 8 / 326 - 327
5- مقاييس اللغة: 5 / 231

أية هفوة في تربيته إياه، أما فرادته فيمكن تأويله بشدّة اختصاص الإمام برسول الله ودلالة قربه منه - كما يتضح من المصاحبات اللغوية - ؛ إذ إنَّه علیه السلام تربى في حجره، وحفظه، ورعايته(1)، ويظهر أنَّ الإمام قد فضّل في استعمال هذا الجزء من الإنسان لغة الكسر (حِجْر).

أمَّا عن استعمال لفظ الحضن في النهج، فقد استعير للدنيا مرة واحده(2)، وأخرى للإنسان في قوله علیه السلام في شاهد اللفظ: «إِلَی أَنْ قَامَ ثَالِثُ القَوْمِ، نَافِجَاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلهِ وَمُعْتَلَفِهِ»، وهنا يصف الإمام حال عثمان بن عفان، فبعد أنْ استقرت الخلافة له وهو ثالث القوم، ولمّا بايعه الناس ورأى تلك العزّة غلب عليه الكِبَر والغرور، ف» يقال للمتكبر جاء نافجاً حضنيه، ويقال لمن امتلأ بطنه طعاماً جاء نافجاً حضنيه، ومراده علیه السلام هذا الثاني والنثيل الروث والمعتلف موضع العلف، يريد أن همَّه الأكل والرجيع، وهذا من ممض الذم»(3)، فكان عثمان لا يبالي بأمور المسلمين، ولا يعنى بمصالحهم، بل كان همُّه إشباع بطنه، وفرجه، وشهوته، وشبقه، وجعل أقاربه أمراء على الناس، وأركبهم على رقاب المسلمين يفعلون ما يشاؤون(4)، فالإمام استعمل الحضن بدلالة الكِبر وإن اختلف سببه، لأنَّ كلَّ شيء ارتفع فقد انتفج(5)، وعثمان قد امتنع من المحافظة على أمور المسلمين، وهذا المعنى مثّل انعكاساً في العلاقة الدلالية مع الأصل اللغوي بالمناسبة، ونجد في النصّ دليلاً لغوياً على أنَّ الحضن هو ما ذهب إليه الخليل، فالإمام علیه السلام استعمله بصيغة التثنية مع قرينة النوافج وهي »مؤخرات الضلوع،

ص: 160


1- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 13 / 252
2- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 82، خ 236
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، الحائري: 1 / 185
4- ينظر: شرح نهج البلاغة، الحائري: 1 / 185
5- ينظر: العين: 6 / 145

الواحد نافج ونافجة»(1)، فيقال: نافج حضنيه كأنه قد نفخ جانبيه ورفعهما، ويظهر في استعمال أمير المؤمنين للفظ الحضن ابتعاده عن وظيفة الشهرة، في حين أن بقية ألفاظ هذه المجموعة يلحظ في استعمالها بعداً وظيفياً ففي استعمال لفظ الثدي في الشاهد المذكور آنفاً قال علیه السلام فَمَنْ هَدَاكَ لاِجْتِرَارِ الْغِذَاءِ مِنْ ثَدْيِ أُمِّكَ وَعَرَّفَكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ مَوَاضِعَ طَلَبِكَ وَإِرَادَتِكَ»، ويلحظ اختلاف التصورات التي أفرزها النص، فقد تركزت في الجانبين (الإمتاعي، والإقناعيّ)، الإمتاع بوصفه إجراءات أسلوبيّة تخاطب في المقام الأوّل أحاسيس المتلقي، وتسعى إلى تحريك عواطفه، متوخية التأثير الفاعل في تبنّي مواقف مؤيدة لهدف النص؛ لقبول قضية أراد تقريرها المخاطِب في مسار استدلاليّ مُنظّم، محتمل للمعقول والمقبول من الرأي المخالف(2)، فالخطاب موجه للإنسان في سياق تذكيره بمراحل خلقه، والعناية الإلهية التي توجهه نحو ثدي أمه، فقد مَنَّ الله عليه بوجود مادة كيميائية خاصة تجذب الطفل نحو حلمة الثدي، وحينها تلعب الأعصاب دورها في جمع الحليب ودفعه نحو فم الرضيع، ولولا تلك المحفزات والمحركات الهرمونية والعضلية عند الأم والطفل، لما حصلت الرضاعة وعُرفت حاجة الرضيع إلى حليب أمه(3)، وقد استعمل علیه السلام الثدي لدلالة تمخضت عن سبب وظيفي فحواها عجز الإنسان عن معرفة حتى حاجته؛ لذا فهو عاجز عن معرفة خالقه(4).

أمَّا الشاهد الآخر الذي ورد فيه لفظ الثدي فكان في مقام ضرب المثل بقول الإمام: «وَالله لابنُ أَبي طَالبِ آنَسُ بالمَوْتِ مِنَ الطِّفْلِ بِثَدْي أُمِّهِ»، فقد أقسم علیه السلام باللهّ

ص: 161


1- المصدر نفسه: 6 / 145
2- ينظر: الحجاج وبناء الخطاب في أضواء البلاغة الجديدة، أمينة الدهري: 8
3- ينظر: نهج البلاغة والطب الحديث، الدكتور صادق عبد الرضا علي: 49 - 50
4- ينظر: سياق الخطبة في نهج البلاغة: 1 / 387، خ 164

تعالى أنَّه أشدُّ أُنسٍ بالموت من الطفل بثدي أمِّه؛ لأنَّ محبة الطفل وميله إلى ثدي أمه أمرٌ طبيعي، لكنه في معرض الزوال، فإذا كبر الطفل وتجاوز سن الرضاع يزول ذلك الأنس، لكن أنس علي علیه السلام بالموت لا يزول مهما عاش؛ لأنَّه أكَّد ذلك باستعمال اسم التفضيل (آنَسُ)، ونجد تعليلاً مناسباً عند سعيد بنكراد لاستعمال اللفظ من دون غيره، وهو أنَّ الثدي في أغلب الاستعمالات مرتبط بوظيفة الرضاعة (حليب الأم) ومن خصائصه الذاتية أنَّه لا يضمن حضور الرائي الذي يرى ويبصر ويتأمل، في حين نجد ذلك في تسميات له لصيقة بجوانب أُخر من الاستعمال(1)، ويبدو أنَّ الاستعمال في النصين يتسم بطابع مرحلي وظيفي بحت في السياق؛ لأنّ المصاحبات التي تركب معها اللفظ تخصّ مرحلة الرضاعة لا غير.

أمّا لفظ اللَّبن الذي جاء فيما يخص الإنسان على سبيل التمثيل بقوله علیه السلام:

«وَأَمَّا تِلْكَ الَّتِي تُرِیدُ خُدْعَةُ الصَّبِيِّ عَنِ فِي أَوَّلِ الْفِصَالِ».

وهذا النص مقتطع من كتاب أجاب به الإمام عن كتاب من معاوية، ويمثل علیه السلام ما يريده الطرف الآخر بأنَّه خُدْعَة، وهو ما تصرِف به الصبي عن طلب اللبن أول فطامه، والمقصود هنا ما تصرف به عدوّك عن قصدك به في الحروب ونحوها(2)، ومن قراءة فاحصة للنص كاملًا تتضح افتراضات سابقة في الذهن يتحدث الإمام عنها بهذه اللغة الرمزيّة؛ فلكل خطابٍ رصيدٌ من الافتراضات السابقة، يضمّ معلومات مستمدة من المعرفة العامة، وسياق الحال، والجزء المكتمل من الخطاب نفسه، فعند كلِّ طرفٍ من أطراف الخطاب رصيدٌ منها يساعده على فهم المقصود وإن حذفت بعض المعلومات الخطابية في المقام(3)،

ص: 162


1- ينظر: السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها، سعيد بنكراد: 201
2- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 610
3- ينظر: المقاربة التداولية، ارمينكو فرانسواز: 52

ومنها قضية تسليم قتلة عثمان، وقضية البيعة، والتعويض عنها بغيرها(1)، ونرى أنَّ مسوغ الاستعمال للتمثيل باللفظ هو أنّ معاوية يبتغي خدع الإمام وتلهيته عن أمور من أجل أن يحقق معاوية مآربه.

ويتبين من دراسة المجموعتين السابقتين وفهم المعاني اللغوية لها، أنَّ الصدر قد تصدَّر ألفاظ الحقل بحضوره في نصوص نهج البلاغة، ولايُفى تمتُّع هذه الألفاظ بالثراء الدلالي نتيجة تنوع السياقات التي جاءت فيها، وكان للقلب أثرٌ معنويٌّ في تجهيز الدلالة على الرغم من تفاوت المشركات الأساسية بينه وبين الألفاظ كالصدر والأضلاع والجوانح، وهامشيته كالحجر، ومن اللافت للنظر في دراسة هذه الألفاظ أنَّ بعض الألفاظ مثل الحضن والحجر التي قال اللغويون بترادفها، قد استعملها الإمام بدلالات متباعدة، ومن قراءة لنصوص هذه الألفاظ بشكل عام، يظهر أنَّ أغلب هذه النصوص وظِّفت لأغراض وعظية إنمازت بحسن التصوير.

ص: 163


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 2 / 284

ص: 164

المبحث الثالث الألفاظ الدالة على القلب وما يلحق به

يجتنُّ في صدر الإنسان جزء من جسمه له منزلة عظيمة هو القلب، فيه يقوم الجسد كله؛ لأنه منبع ينقبض ليعطي، ومصفاة تنبسط لتتلقى، حركتان تتناوبان أخذاً وعطاءً، فتستمر بهما الحياة عبر الدورة الدموية الدائبة، بجولة في باطن الشرايين والأوردة؛ لتغذية الجسم وبنائه حيناً والدفاع عنه حيناً آخر، فإذا كفَّ القلب عن إشرافه عليها كفّت الحياة أنسامها؛ فهو وعاء تعبئة الحياة بسماته الخفية(1)، إذن فنحن هنا أمام مهمة سبر غور باطن النصوص لرؤية القلب بظواهر إبداع إيجاده ومتغيراته الحيّة عبر وسائل معرفية من فهم لغوي، وتصوري، ورمزي، ونحو ذلك، وكان ظهور القلب في المتن المدروس بلفظه تارة، وبألفاظ ملحقاته تارة أخرى وهي: (فؤاد، جَنان، سويداء القلب، شغاف، الأبهر، نياط)، وستكون طبيعة الدراسة لهذه الألفاظ بثلاث مجموعات، الأولى: تمثل القلب وما فيه، والثانية: تمثل ما يحيط بالقلب، والثالثة: تضمّ جملة من الألفاظ التي تشير إلى ما يلحق بالقلب من أجزاء.

المجموعة الأولى:

تتضمن الألفاظ الآتية: (القلب، الْجَنَانِ، سويداء القلب) ومن شواهدها:

ص: 165


1- ينظر: الإنسان والتاريخ في شعر أبي تمام، أسعد أحمد علي: 44 - 45

- القلب: وهو من أكثر أجزاء الجسم التي ورد ذكرها في نهج البلاغة؛ إذ وردت مائة واثنتين وستين مرة(1)، قد خُضّ بها الإنسان، منها قول الإمام علیه السلام في

ص: 166


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 43، خ 8، 1 / 76، خ 27، 1 / 77، خ 27، 1 / 84، خ 29، 1 / 104، خ 41، 1 / 109، خ 45، 1 / 113، خ 49، 1 / 113،.خ 49، 1 / 146، خ 77، 1 / 158، خ 82، 1 / 173، خ 86، 1 / 174، خ 86، 1 / 178، خ 87، 1 / 189، خ 90، 1 / 225، خ 100، 1 / 249، خ 108، 1 / 306، خ 132، 1 / 307، خ 132، 1 / 310، خ 133، 1 / 356، خ 154، 1 / 374، خ 161، 1 / 377، خ 161، 1 / 395، خ 166، 1 / 396، خ 166، 1 / 419، خ 177، 1 / 419، خ 177، 1 / 420، خ 177، 1 / 439، خ 186، 1 / 447، خ 186، 1 / 450، خ 187، 1 / 71، خ 25، 1 / 88، خ 32، 1 / 92، خ 32، 1 / 117، خ 52، 1 / 139، خ 71، 1 / 139، خ 71، 1 / 155، خ 82، 1 / 156، خ 82، 1 / 158، خ 82، 1 / 167، خ 84، 1 / 167، خ 84، 1 / 187، خ 90، 1 / 193، خ 90، 1 / 194، خ 90، 1 / 195، خ 90، 1 / 196، خ 90، 1 / 202، خ 90، 1 / 206، خ 91، 1 / 242، خ 107، 1 / 243، خ 107، 1 / 244، خ 107، 1 / 246، خ 107، 1 / 256، خ 110، 1 / 262، خ 112، 1 / 263، خ 112، 1 / 265 خ، 113، 1 / 277 خ، 118، 1 / 287، خ 124، 1 / 304، خ 131، 1 / 329، خ 144، 1 / 346، خ 151، 1/ 369، خ 169، 1 / 411، خ 173، 1 / 411، خ 173، 1 / 422، خ 178، 1 / 424 خ، 179، 1 / 444، خ 186، 1 / 445، خ 186، 1 / 450، خ 187، 1 / 460 خ، 191، 1 / 465، خ 191، 2 / 86، خ 238، 2 / 89، خ 238، 2 / 93، خ 238، 2 / 98، خ 238، 2 / 102، خ 38، 2 / 102، خ 238، 2 / 102، خ 238، 2 / 103، خ 138، 2 / 105، خ 238، 2 / 106، خ 238، 2 / 115، خ 238، 2 / 20، خ 207، 2 / 26، خ 210، 2 / 29، خ 211، 2 / 23، خ 214، 2 / 46، خ 218، 2 / 53، خ 222، 2 / 58، خ 225، 2 / 62 خ، 229، 2 / 80، خ 235، 2 / 94، 238، 2 / 112، خ 238، 2 / 3، خ 196، 2 / 519، خ 198، 2 / 39، خ 216، 2 / 39، خ 216، 2 / 39، خ 216، 2 / 42، خ 217، 2 / 44، خ 217، 2 / 53، خ 222، 2 / 58، خ 255، 2 / 59، خ 226، 2 / 65، خ 231، 2 / 76، خ 233، 2 / 76، خ 235، 2 / 79، خ 235، 2 / 141، ك 10، 2 / 185، ك 31، 2 / 181، ك 31، 2 / 181، ك 31، 2 / 183 ك 31، 2 / 183، ك 31، 186، ك 31، 2 / 240، ك 53، 2 / 241، ك 53، 2 / 242، ك 53، 2 / 272، ك 58، 2 / 283، ك 64، 2 / 49، ك 15، 2 / 153، ك 18، 2 / 173، ك 28، 2 / 204، ك 33، 2 / 249، ك 53، 2 / 318، ح 48، 2 / 325، ح 89، 2 / 339، ح 143، 2 / 340، ح 143، 2 / 342، ح 143، 2 / 351، ح 189، 2 / 351، ح 193، 2 / 179، ح 318، 2 / 380، ح 323، 2 / 392، ح 381، 2 / 316، ح 40، 2 / 329، ح 99، 2 / 341، ح 143، 2 / 351، ح 189، 2 / 356، ح 223، 2 / 357، ح 224، 2 / 365، ح 262، 2 / 383، ح 339، 2 / 386، ح 355، 2 / 389، ح 373، 2 / 392، ح 379، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 380، 2 / 392، ح 380، 2 / 395، ح 395، 2 / 399، ح 417

إحدى حكمه:

«لَقَدْ عُلِّقَ بِنِیَاط هذَا الإنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِیهِ وَذلِكَ الْقَلْبُ، وَلَهُ مَوَادّ مِنَ الْحِکْمَةِ وَأَضْدَادٌ مِنْ خِلاَفِهَا»(1).

وقوله علیه السلام في ذات الله:

«بَصِیرٌ لاَ یُوصَفُ بِالْحَاسَّةِ، رَحِیمٌ لاَ یُوصَفُ بِالرِّقَّةِ، تَعْنُو الْوُجُوهُ لِعَظَمَتِهِ، وَتَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ»(2).

- الجَنان: ورد أربع مرات(3)، منها قول الإمام علیه السلام من كلمات كان يدعو بها:

«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الألْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الألْفَاظِ، وسهَوَاتِ الْجَنَانِ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ»(4).

وقوله علیه السلام من كلام يعظ الناس ويهديهم عن الضلال في الخطبة العجماء:

«... کَیْفَ یُرَاعِي النَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ الصَّیْحَةُ. رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ یُفَارِقْهُ الخَفَقَانُ»(5).

- سويداء القلب: وردت مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام يصف الحياة الدنيا:

ص: 167


1- نهج البلاغة: 2 / 330، ح 105
2- المصدر نفسه: 1 / 425، خ 180
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 146، خ 77، 2 / 62، خ 229
4- المصدر نفسه: 1 / 146، خ 77، وقد ورد في نسخ أخرى محققة (وَشهَوَاتِ الْجَناَنِ)، مثل نسخة فارس الحسون ونسخة هاشم الميلاني وغيرها
5- نهج البلاغة: 1 / 37، خ 4

«یَا أیُّها النَّاسُ، مَتَاعُ الدُّنْیَا حُطَامٌ... وَمَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلأتْ ضَمِیرَهُ أَشْجاناً، لَهُنَّ رَقْصٌ عَلی سُوَیْدَاءِ قَلْبِهِ، هَمٌّ یَشْغَلُهُ، وَغَمٌّ یَحْزُنُهُ...»(1).

وللتميز بين هذه الألفاظ وأصولها اللغوية، لابدَّ من الإحاطة بما تيسَّر من معانيها اللغوية، فالقلب، من الجذر (ق ل ب)، وله «أصلانِ صحيحان: أحدهما يدلّ على خالِصِ شَيءٍ وشَريفِه، والآخَرُ على رَدِّ شيءٍ من جهةٍ إلى جهة. فالأوَّل القَلْبُ: قلب الإنسان وغيره، سمِّي لأنَّه أخْلصُ شيء فيه وأرفَعُه، وخالِصُ كلِّ شيءٍ وأشرفُه قَلْبُه... والأصل الآخر قَلَبْتُ الثَّوبَ قَلْباً، والقَلَب: انقلابُ الشَّفَة، وهي قَلْباءُ وصاحبُها أَقْلَب، وقَلَبْتُ الشَّيء: كبَبتُه، وقلَّبته بيديَّ تقليباً»(2)، أمَّا في خلق الإنسان فقد جاء بأنَّ القلب: مضغة من الفؤاد معلّقة بالنياط، وقيل:

الفؤاد غشاءُ القلب، والقلب حبته وسويداؤه(3)، وفي القلب أذناه وهما كالأذنين فيه(4)، وهو مقلوب الخلقة والوضع كما يشهد بذلك علم التشريح(5)، ويبدو أنّ ذلك من أسباب تسمية القلب، فضلاً عن تقلّب أحواله.

أمّا الجَنان: فهو من أسماء القلب، يقال: ما يستقر جنانه من الفزع(6)، وهو من الجذر (ج ن ن)، وله «أصل واحد، وهو السَّتْر والتستُّر... والجنين: الولد في بطن أُمّه، والجنين: المقبور، والجَناَن: القَلْب» (7)، وسمي الَجنَان جَناناً لأنَّه اجتنَّ في

ص: 168


1- المصدر نفسه: 2 / 389، ح 373
2- مقاييس اللغة: 5 / 17
3- ينظر: خلق الإنسان في اللغة: 240، وينظر: العين: 1 / 810
4- ينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 84
5- ينظر: الكليات: 1112
6- ينظر: العين: 6 / 21
7- مقاييس اللغة: 1 / 421

الصدر وأصله من الستر(1)، أي: ستر الشيء عن الحاسة(2)، وهذه التسمية يختلف أساسها عن تسمية القلب، ويمكن أن يكون الجنان الجزء الخفي من القلب، فهو أخص منه وجزء منه، والرابط بينهما علاقة اشتمال، ويجتنّ في القلب من أجزائه سويداؤه، يرجعها ابن فارس إلى الجذر (س و د) وله «أصلٌ واحد، وهو خلاف البياضِ في اللّونِ، ثم يحمل عليه ويشتقّ منه، فالسَّواد في اللّون معروف... وسوادُ كلِّ شيء: شخصه... وقالوا: سَوَاد القَلب وسُوَيداؤُه، وهي حَبّته»(3)، وتكون «علقة سوداء في جوف القلب إذا انشقت بدت كأنها قطعة كبد، يقال للرجل إذا أوصيَ بشيء اجعله في سويداء قلبك»(4)، وبهذا يكون معنى السويداء مشروطاً بالتلازم اللفظي مع القلب، أما وظيفتها فهي تنظيم دقات القلب كما هو معلوم.

أما في نهج البلاغة فقد استعمل الإمام القلب في الشاهد الأول بقوله:

«لَقَدْ عُلِّقَ بِنِیَاط هذَا الإنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِیهِ وَذلِكَ الْقَلْبُ، وَلَهُ مَوَادّ مِنَ الْحِکْمَةِ وَأَضْدَادٌ مِنْ خِلاَفِهَا».

للتعبير عن تقلّبه بالخواطر وارتباطه بمعاني الروح والعلم والعقل والقوة(5)، فقد ذكر صاحب المفردات أنَّ القلب لم يكن متقلباً إلاَّ لتمكُّنه(6)، إذ سُميّت المضغة الصنوبرية قلباً لكونه يتميز بسرعة التلون في الأحوال(7)، وهذا مصداق قول النبي

ص: 169


1- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 7، ومقاييس اللغة: 1 / 378
2- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 128
3- مقاييس اللغة: 3 / 114
4- خلق الإنسان، الأصمعي: 218، وخلق الإنسان، ثابت: 259، و خلق الإنسان، الزجاج: 84
5- ينظر: المفردات في غريب القرآن 411:
6- ينظر: التبيان في تفسير غريب القرآن، شهاب الدين احمد بن محمد المعروف بابن الهائم (ت 815 ه): / 55
7- ينظر: الكليات: 1112

محمد وهو: «ألا وإنّ في الجسد مضغة إذا صَلُحَتْ صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب»(1)، وتقع أكثر الأنواع والأحوال القلوب التي ذكرها أمير المؤمنين علیه السلام عموماً على النوعين الواردين في الحديث الشريف، وكان من أكثرها حضوراً في نهج البلاغة القلب الصالح، فيُصوِّر علیه السلام بدء المعركة ونشوب الصراع بين نفس الإنسان الراغبة في الحياة وبين روح الالتزام بالفرائض، وشدّ أحزمة العزم لاستحصال مراتب الإيمان وحضور القلب، وتوجهه في السعي لمعالجة النفس(2)، ووفقاً لهذا المعنى قيل: أن »للقلب سبع طبقات، الصدر وهو محل الإسلام ومحل الوسواس، ثم القلب وهو محل الإيمان»(3)، ويظهر أنَّ الإمام علیه السلام قد جعل من هذه اللحمة الصنوبرية الشكل أداة دالة على الأمور التي لايدركها بصر العين فوظّفها للحكمة؛ لاشتراكهما في التعلق بالروح الإنسانية، أما حركته الدؤوبة فلم يستثنها الإمام علیه السلام فقد ذكرت في ثلاثة نصوص(4)، ومنها ما جاء في سياق الحديث عن ذات الله بقوله:

«تَجِبُ الْقُلُوبُ مِنْ مَخَافَتِهِ».

ويلحظ في سياق النص ارتباطاً بين أعضاء معينة من الجسم والحالات العاطفية والنفسية ومن هذه الأعضاء القلب؛ لأن ما فيه من مشاعر يبدو أثره على ظاهر الإنسان، ويمكن أن نجعل من قول الإمام علیه السلام في مستدرك نهج البلاغة دليلاً على هذه العلاقة، وهو إنَّ «العقول أئمّة الأفكار، والأفكار أئمّة القلوب،

ص: 170


1- السنن الكبرى، أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه)، حديث رقم(10703): 5 / 264
2- ينظر: حياة القلوب في نهج البلاغة، مركز نون للتأليف والترجمة: 107
3- الكليات: 113
4- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 112، خ 115، 2 / 39 ، خ 216

والقلوب أئمّة الحواسّ، والحواسّ أئمّة الأعضاء »(1)، ووجبة القلب المذكورة في الشاهد هي حركة غير اعتيادية تعتور القلب لظرف معين يواجهه الإنسان، وأصله من وجب الحائط سقط، يقال: وجبَ القلْبُ وجْباً ووجيباً ووجَباناً، أي خَفَقَ(2)، وهنا يتبين نوع من الربط الشعوري أو الذاتي لما يشعر به الإنسان مثل الحب، أو الغضب أو الخوف وازدياد ضربات القلب(3)التي يمكن عدّها لغة إشارية بين الأعضاء ومركز الذات فهي استجابات غريزية فعالة مرتبطة بالخوف مسؤولة عنها منطقة خاصة في الدماغ(4)، وهي من العلاقات الطبيعية لما يعرف اليوم بالجملة العصبية، ويمكن تخريج المعنى في النص بالشكل الآتي:

وهو أن القلوب ترجف وتضطرب من هيبة الله عند إدراكها لعظمة سلطانه وعلوّ شأنه(5)، وهذا المعنى قريب من قوله تعالى:

«قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8)»(6).

فالقلب مصدر للخوف فهو يضطرب باضطرابين (الوجب، الوجف)، لكن السياق مختلف فالوصف بالوجف أعمق دلالة من الوجب على الرغم من التقارب الدلالي بينهما وحصول الاضطراب؛ لأن سياق الآية الكريمة يتحدث عن يوم القيامة، ومما سوَّغ ذكر القلب في استعمال الإمام وظيفته الحركية والشعورية وارتباطهما بدلالة الخوف.

ص: 171


1- مستدرك نهج البلاغة، وهو مجموع مختار من كلام مولانا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) علیه السلام مروي في غير النهج، الهادي كاشف الغطاء: 176
2- ينظر: القاموس المحيط، مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه): 1 / 129
3- ينظر: العقل والقلب في الرؤية القرآنية، بحث: علي كاظم الفتال: 352 - 353
4- ينظر: نهج البلاغة والطب الحديث: 114
5- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 10 / 263
6- النازعات:. 8

أما استعمال لفظ الجَنَان فمنه قوله علیه السلام:

«اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي رَمَزَاتِ الألْحَاظِ، وَسَقَطَاتِ الألْفَاظِ، وَسهَوَاتِ الْجَنَانِ، وَهَفَوَاتِ اللِّسَانِ».

للاستغفار لحالة تعتري القلب وهي الغفلة(1)، وهذه إشارة إلى ما خفي من الذنوب التي قد تكون من أخطر الذنوب والمعاصي(2)؛ فيسهو الإنسان عن ذكر الله ويُلحظ في النص أن الإمام يستغفر لثلاثة أفعال كلامية متفاوتة القوة وهي لغو الكلام وغفلاته وزلاته، وكان السهو قد توسطها ومركزه الجَنان، وقد جاء توظيف لفظ الجنان في النص لمناسبة معنى الخفاء؛ لأنّه مشتق من الستر فناسب ذلك أن يكون فيه سهو والسهو مستور غير بادٍ لايلتفت له الإنسان؛ لهذا طلب الإمام المغفرة لمن يسهو من دون من يدري، والسهو هنا الالتهاء عن ذكر الله، وهذا مناسب مع قرينة (سقطات الألفاظ)؛ لأن اللفظ يسقط دون أن يعلم المتكلّم بذلك أو يكون متقصّداً له.

وفي الشاهد الثاني جاء لفظ الجَنان في سياق موعظة الناس بقوله علیه السلام:

«رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ الخَفَقَانُ».

يقال: ربطَ جأشهُ رباطةً، أي اشتدَّ قلبه ومثله رباطة الجَنان، وهذا دعاء للقلوب الخائفة الوجلة الّتي لا تزال تخفق من خشية اللهّ ملازم لها حال الاضطراب والرهبة بأن تسكن وتثبت(3)، فالجنان يعني القلب، والخفقان حركة لها دلالة الانفعال من خوف، أو حب، أو جزع. وإذا أردنا فهم العبارة تداولياً فإنه علیه السلام أراد اجتنان خوف من يخشى الله من المهتدين في توظيفه للفظ الجنان؛ لأنَّ رابط الجَنَان لا

ص: 172


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 1 / 146
2- ينظر: نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة، ناصر مكارم الشيرازي: 3 / 157
3- ينظر: نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: 44، وصفوة شروح نهج البلاغة: 52

يتهَيَّب والجَبان إذا تكلّم جَفَ ريقُه في فيه وهم يمدحون بكثْرة الرِّيق عند المقامات والخُطَب وفي الحرب ويوم اللِّقاء لأنَّه دَليلٌ على ثَبات القَلْب وقوّة النّفْس(1).

أما سويداء القلب فقد استعملها الإمام مرة واحدة لما يخص الإنسان، فيرد لفظ السويداء في قوله علیه السلام عن مَتَاع الدُّنْيَا:

«وَمَنِ اسْتَشْعَرَ الشَّغَفَ بِهَا مَلأتْ ضَمِیرَهُ أَشْجاناً، لَهُنَّ رَقْصٌ عَلی سُوَیْدَاءِ قَلْبِهِ».

وسويداء القلب هنا جاءت في تركيب يشبه به الأعلام المفردة في دلالتها على ما تطلق عليه في الوضع والاصطلاح(2)، والمعنى إنَّ للأحزان أثراً في نواة القلب وحركته فتؤثر به(3)، وذكرها هنا يتناسب مع معنى السيادة على القلب والشغف بالدنيا؛ لأنَّ دلالة الشغف اختراق حجاب القلب والنفاذ إلى أعماقه والرقص على مسرح سويدائه.

وإذا نظرنا إلى ألفاظ هذه المجموعة نجد تداولها في سياقات مختلفة، وفي مقدمتها ما خصّ القلب، إذ تكرر ذكره في النهج مائة وثمان وسبعون مرة خصّ الإنسان بمائةٍ واثنين وستين مرة منها، وتمَّ الإشارة فيها إلى أشهر القوى التي عرفها الإنسان قديماً قبل بزوغ المفاهيم القرآنية وانتشارها وهي قوّتا الحب، والحزن، وقد ذكرت للقلب أحوال كثيرة منها: القلب المريض(4)، والقلب المرتاب(5)، والقلب

ص: 173


1- غريب الحديث، ابن قتيبة: 1 / 495
2- ينظر: التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة: 187
3- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 842
4- ينظر: نهج البلاغة: على سبيل المثال لا الحصر: 2 / 46، خ 218، 2 / 65، خ 231، 2 / 395، ح 395...
5- ينظر: المصدر نفسه: على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 189، خ 90، 2 / 341، ح 143...

القاسي(1)، والقلب المتكبر(2)، والقلب المنكر(3)، والقلب الجازع(4)، والقلب الغاضب(5)، والقلب الزائغ(6)، والقلب الفاسد(7)، والقلب الأغلف(8)، والقلب المختوم(9)، وفي سلسلة من متناقضات القلوب يذكر أمير المؤمنين علي علیه السلام القلب الصُلب(10)، والقلب الخائف(11)، وحياة القلوب وموتها(12).

أمَّا اللفظ الآخر الدال على القلب فهو الجنان، والجامع بينهما علاقة الجزء بالكل تحكمها سمات محددة، فهو الجزء الداخلي المستتر في القلب على ما يبدو، وقد خُصص في سياق ما يحرص الإنسان على خفائه، وهو ما يناسب استعمال تسمية الجَنان بدلاً من القلب؛ إذ سمي كذلك من باب استتاره في صدر الإنسان، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذه التسمية للقلب لم نجد لها حضوراً في كتاب الله العزيز، وتميزت بعض هذه الألفاظ بمصاحبات لغوية كان لها أثر في تقديم الدلالة، ومنها الجَنان فقد اقترنت به كلمة اللِّسَانِ أو ما يشير إليها وهذا ما ينبهنا على استعمال الإمام لما يخفى من الكلام، فكانت القرائن من دواعي الاستعمال في النصوص التي

ص: 174


1- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 158، خ 82، 2 / 318، ح 48
2- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 102، 95، خ 238
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 113، خ 49، 2 / 392، ح 379، 380
4- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 39، خ 216، 2 / 325، ح 89
5- ينظر: المصدر نفسه: على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 79، خ 27، 2 / 94، 93، خ 238...
6- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 346، خ 151
7- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 242، ك 53
8- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 283، ك 64
9- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 76، خ 27، 2 / 141، ك 2، 2 / 272، ك 58
10- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 141، ك 10
11- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 153، ك 18
12- ينظر: المصدر نفسه:.

ورد فيها اللفظ.

المجموعة الثانية:

تضمُّ الألفاظ الدالة على ما يحيط بالقلب وهي (الشغاف، الفؤاد)، ومن شواهدها:

- الشّغاف: جاء اللفظ مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام في صفة خلق الإنسان:

«أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَشُغُفِ الأسْتَارِ، نُطْفَةً دِفاقاً، وَعَلَقَةً مِحَاقاً...»(1).

- الفؤاد: ورد تسع مرات(2)، منها قول الإمام علیه السلام في وصف الناس عند مبعث الرسول:

«وَیَمُوجُونُ فِي حَیْرَة، قَدْ قَادَتْهُمْ أَزِمَّةُ الْحَیْنِ، وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ»(3).

وقوله علیه السلام من كلام للخوارج وقد خرج إلى معسكرهم:

«... وَنَادَی النَّاسَ، فَقَالَ: أَمْسِکُوا عَنِ الْکَلاَمِ، وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِکُمْ إِلَيَّ...»(4).

ولبيان المعنى السياقي لهذه الألفاظ لابدَّ من الاطلاع على المعاني اللغوية لها، فالشّغاف: يرجع إلى الجذر (ش غ ف)، ذكر ابن فارس أنَّه «كلمةٌ واحدة، وهي

ص: 175


1- المصدر نفسه: 1 / 160، خ 82
2- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 215، خ 95، 2 / 107، خ 238، 1 / 154، خ 82، 2 / 42، خ 217، 2 / 18، خ 207، 1 / 46، خ 191، 1 / 181، خ 88
3- المصدر نفسه: 2 / 85، خ 237
4- المصدر نفسه: 1 / 283، خ 121

الشَّغَاف، وهو غِلاف القلب»(1)، ويسمى الخِلْبُ، و «هي جُليدة لاصقة بالقلب ومنه قيل خَلبَه إذا بلغ شَغافَ قلبِه»(2)، وفي خلق الإنسان قال ثابت: «وفي القلب الشغاف، وهو حجاب القلب، وإذا وصل الحب إلى الشغاف ودخل تحته كان أغلب على القلب وكذلك الخوف»(3)، وفي جلّ المعجمات نجد نفحة قرآنية في تحديد معنى الشغاف، ومن فرائد التعبير القرآني استعمال هذه الكلمة لمرة واحدة فقط في قوله تعالى:

«وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)»(4).

وشغفها حباً أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه، وقيل وسطه، وهما يتقاربان(5)، وقال الفراء شغفها حُبّاً أَي خَرَقَ شَغافَ قلبها ووصل إليه(6)، والباحث يؤيد هذا الرأي الأخير.

أمَّا الفؤاد فقد عُرف بقربه من معنى القلب أو أنّهما مترادفان؛ إذ يقول أبو هلال العسكري: «لم يُفرِّق بينهما أهل اللغة، بل عرفوا كلاًّ منهما بالآخر»(7)، أمّا أصل لفظ الفؤاد كما يرى ابن فارس فمن (ف أ د)، وهو «أصلٌ صحيح يدلُّ على حُمَّى وشِدّةِ حرارة. من ذلك: فأَدْتُ اللَّحمَ: شويته، وهذا فَئِيدٌ، أي مشويّ، والمِفْأد:

السَّفُود، والمُفتأَد: الموضِع يُشوَى فيه... ومما هو مِن قياس الباب عندنا: الفُؤاد،

ص: 176


1- مقاييس اللغة: 3 / 195
2- لسان العرب: 9 / 178
3- خلق الإنسان، ثابت: 261
4- يوسف:. 30
5- ينظر: المفردات غريب القرآن: 263
6- ينظر: لسان العرب: 9 / 178
7- معجم الفروق اللغوية، تنظيم بيت الله بيات: 433

والفأد: مصدر فأدتُه، إذا أصبتَ فؤاده»(1)، وسُمِّيَ الفُؤاد لتفَؤُّده أي لتوقُّده(2)، وفي الفؤاد غشاوة وهي غلافه(3)، فالفؤاد غشاؤه الخلْب(4)، والقلب غشاؤه الشغاف على مايبدو، وبذلك يكون القلب داخل الفؤاد، والفؤاد داخل الخلب، وهذا ما يميل إليه الباحث، بدليل قول الرسول:

«أَتَاکُمْ أَهْلُ الْیَمَنِ هُمْ أَلْیَنُ قُلُوبًا وَأَرَقُّ أَفْئِدَةً»(5).

فالأفئدة وصفت بالرّقة؛ لأنَّ الفؤاد غشاوة القلب والقلوب وصفتْ باللين(6)؛ لأنَّ اللّين يكون للأشياء الصلبة أو السميكة وهذا الوصف ما يناسب اللفظين.

ومن الفرائد في نهج البلاغة أيضاً استعمال الشّغاف مستعاراً لجزء آخر من الإنسان في صفة خلقه بقوله علیه السلام:

«أَمْ هذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَشُغُفِ الأسْتَارِ، نُطْفَةً دِفاقاً...».

وشُغُف جمع شَغاف وهو في الأصل غِلاف القلب، فاستعار الإمام علیه السلام الشُّغُفَ وهو جمع شَغاف القلب لموضع الولد(7)، حتى تكون الدلالة شاملة للرعاية والمحبة الآليه لهذا المخلوق وبحجبه عما سواه؛ فالمفردة ارتبط معناها بذلك لكنها في النص بمعنى الأغلفة المتعددة، واللفظ جاء في النص للدلالة على الغلاف الذي يحفظ الطفل في بطن أمه؛ لأنَّ اللهّ سبحانه وبقدرته يعدُّ الجنين من ماء الرجل الذي يفتقر إلى الصورة والشكل بعد أنّ يتكامل فيكون محاطاً في الظلمات بالمشيمة والرحم

ص: 177


1- مقاييس اللغة: 4 / 469
2- ينظر: العين: 8 / 79
3- ينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 84
4- ينظر: مقالة في أسماء أعضاء الإنسان: 20
5- مسند الإمام أحمد: الحديث (7432): 12 / 402
6- ينظر: معجم الفروق اللغوية: 433
7- ينظر: لسان العرب: 9 / 178

وبطن الأم(1)، وإنَّما سمي الجنين جنيناً؛ لأنه اجتنَّ أي أكتنّ مستوراً في بطن أمه(2).

أمَّا استعمال الفؤاد، فقد اختلفت دلالاته باختلاف مساقاته، ويتضح ذلك من الاطلاع على النصوص الوارد فيها اللفظ، ومنها قوله علیه السلام في وصف الناس عند مبعث الرسول:

«وَیَمُوجُونُ فِي حَیْرَة... وَاسْتَغْلَقَتْ عَلَی أَفْئِدَتِهِمْ أَقْفَالُ الرَّیْنِ».

وأقفال الرّين حجاب الضلال(3)، الناتج عن الذنب على الذنب(4)، وقد استعمل الإمام الأفئدة للإغلاق؛ لأنَّها السبيل إلى القلوب وحجابها؛ فالفؤاد غشاء القلب والقلب حبته، وهو رقيق مما يسرع إمالته(5)؛ لذا كانت النار أحق بالابتداء به في قوله تعالى:

«نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7)»(6).

وفي الشاهد الثاني للفؤاد يوظِّف الإمام إحدى سمات الفؤاد في قوله: «وَأَنْصِتُوا لِقَوْلِي، وَأَقْبِلُوا بِأَفْئِدَتِكُمْ إِلَيَّ»، وهي الاكتساب للأفكار سواء أكانت صالحة أم فاسدة؛ لذا كانت جلُّ خطابات الإمام في ذكر الفؤاد نابعة من هذا الاتجاه؛ لقوله تعالى:

«وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)»(7).

ص: 178


1- ينظر: نفحات الولاية في شرح نهج البلاغة: 254 - 255
2- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 7
3- ينظر: نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: 340
4- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبي الفضل: 2 / 85
5- ينظر: الكليات: 1104
6- الهُمَزة: 6، . 7
7- الإسراء:. 36

ذلك أنَّ الفؤاد هو القلب وما سكن فيه وجال فإذ رقَّ نفذ القول فيه وخلص إلى ما وراءه، وإذا غلظ تعذر وصوله إلى داخله(1)، فالإمام أراد استمالة الناس بخطابات تدق أبواب الأفئدة؛ بوصفها حجاب القلب.

المجموعة الثالثة:

تضمُّ الألفاظ الدالة على ما يلحق بالقلب وهي (النّياط، الأبهر)، ومن شواهدها:

- النّياط: ذُكر مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام في صفة القلب:

«لَقَدْ عُلِّقَ بِنِیَاطِ هذَا الإنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِیه وهو الْقَلْبُ، وَذلِكَ أنّ لَهُ مَوَادّ مِنَ الْحِکْمَةِ وَأَضْدَادٌ مِنْ خِلاَفِهَا»(2).

- الأَبْهَر: ورد مرة واحدة في كلام الإمام علیه السلام فيمن شغله حب الدنيا:

«... هَمٌّ یَشْغَلُهُ، وَغَمٌّ یَحْزُنُهُ، کَذلِكَ حَتَّی یُؤْخَذَ بِکَظَمِهِ فَیُلْقَی بِالْفَضاءِ، مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ، هَیَّناً عَلی اللهِ فَناؤُهُ، وَعَلَی الأخْوَانِ إِلْقَاؤهُ»(3).

أمَّا المعاني اللغوية لهذه الألفاظ، فلفظ النياط، أصله من الجذر (ن و ط) وله «أصلٌ صحيح يدلُّ على تعليق شيءٍ بشيء، ونُطْتُه به: علَّقته به، والنَّوْط: ما يَتعلَّق به أيضاً، والجمع أنواط... والنِّيَاط: عِرقٌ علّق به القلب، والجمع أنْوطَة»(4)، وقد ذُكر أنَّ نِياطَ القَلْب عَلاّقتُه التي يتعلَّق بها فإذا طُعِن في ذلك المكان مات(5)، فنياط

ص: 179


1- ينظر: معجم الفروق اللغوية: 433
2- نهج البلاغة: 2 / 330، ح 105
3- المصدر نفسه: 2 / 389، ح 373
4- مقاييس اللغة: 5 / 370
5- ينظر: غريب الحديث، ابن قتيبة: 2 / 132

القلب هي رباطه(1)، أمَّا الأبهر: فهو أكبر عروق القلب، وهو من الجذر (ب ه ر)، وله «أصلان: أحدهما الغَلَبة والعُلوّ، والآخر وَسَط الشيء. فأمّا الأوّل فقال أهلُ اللغة: البَهْر الغَلَبة، يقال ضوءٌ باهر، ومن ذلك قولهم في الشتم: بَهْراً، أي غَلَبَةً... وأما الأصل الآخَر فقولهم لوسَط الوادي ووَسَطِ كلِّ شيءٍ بُهْرَةٌ، ويقال أبهَارَّ الليلُ، إذا انَتصَفَ»(2)، وجاء في التهذيب بأنَّ «الأبَهْر: عِرْقٌ مُسْتبطِنُ الصُّلْبِ، والقَلْبُ مُتَّصلُ به، فإذا انقطع لم يكن معه حياة»(3)، وقيل: إنَّ الأبَهْر «هو عرقُ مُسْتَبْطِنُ القلب فإذا انقطع لم تبقَ معه حياة، وقيل الأبْهَرُ عرق منشؤه الرأس ويمتدُّ إلى القدم وله شرايينُ تَتَّصِلُ بأكثر الأطراف والبدن فالذي في الرأس منه يسمى النّأمَةَ ومنه قولهم: أسكَتَ اللهّ نأمته أي أماته ويمتدّ إلى الحلق فيسمى فيه الوريد ويمتدُّ إلى الصدر فيسمَّى الأبْهَرَ ويمتدُّ إلى الظهر فيسمَّى الوَتِينَ والفُؤَادُ معلَّقٌ به...»(4)، ويبدو من ذلك أنّ الأبهر اسم لأحد العروق المختلف في مكانه، ويبدو أن ألفاظ هذه المجموعة تمثل مصاحبات معجمية تلازم القلب، وقد إنمازت بتداولها بين العامة لشهرة معانيها اللغوية.

وفي نهج البلاغة جاء لفظ النياط بمصاحبة لفظ القلب، في قول الإمام علیه السلام:

«لَقَدْ عُلِّقَ بِنِیَاطِ هذَا الإنْسَانِ بَضْعَةٌ هِيَ أَعْجَبُ مَا فِیه وهو الْقَلْبُ».

فالنياط جاءت في النص مجموعة «والقياس النوط لأَنه من ناط ينوط إِذا عُلِّق غير أَن الواو تعاقب الياء في حروف كثيرة، فقيل النَّيْطُ نياط القلب وهو العِرْق الذي القلب متعلِّق به»(5)، فالنياط في النص قد جاءت بمعنى العِرْق، وهذا معنى النياط في

ص: 180


1- ينظر: غريب الحديث، الخطابي: 1 / 234
2- مقاييس اللغة: 1 / 308
3- تهذيب اللغة: 2 / 329، وينظر: اللسان: 4 / 81
4- النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 18
5- لسان العرب: 7 / 421

النص كما يبدو؛ لأنها جاءت مع القلب لوصف خلقه واختصاص بعض العروق به.

وقد جاء لفظ الأبهر في سياق الحديث عن حب الدنيا، بقوله علیه السلام:

«هَمٌّ یَشْغَلُهُ، وَغَمٌّ یَحْزُنُهُ، کَذلِكَ حَتَّی یُؤْخَذَ بِکَظَمِهِ فَیُلْقَی بِالْفَضاءِ، مُنْقَطِعاً أَبْهَرَاهُ، هَیِّناً عَلی اللهِ فَناؤُهُ، وَعَلَی الإخْوَانِ إِلْقَاؤهُ».

ويقال: أَخذت بكَظَمه أي بمَخْرجَ نَفَسه، والكَظَم بالتحريك مخرج النفَس من الحلق(1)، ولا يخفى أنَّ دلالة لفظ الأبهرين هنا قد ارتبطت بالموت وانقطاع الحياة؛ لأنَّ الأَبْهَرين عِرْقان في العنق متصلان بالقلب إذا انقطعا مات صاحبُهما؛ فيقال للميت: قد انقطع أبهراه(2)، وقد يكون هذا الانقطاع مقصوداً به توقُّف هذين العرقين عن دفع الدم إلى أجزاء الجسم للكناية عن الهلاك؛ لأنَّ استعمال هذه الكناية قد أبقى للنص حيويته بتتابع المقاطع الصوتية وانسجام سجعاتها.

ومن دراسة لألفاظ القلب وملحقاته يظهر أنّها إنمازت بدقة الدلالات التي اختارها الإمام في نصوص نهج البلاغة كلّ حسب دلالته، فضلاً عن تمتُّع القلب بعلاقات دلالية مع العقل والحواس الأخرى؛ لأنه يستعمل لمعانٍ إنفعالية عديدة بوصفه مركز التأثير(3)، فهو رئيس في مملكة الجسد، ولا شيء من أعضائه يكون في تقلّبٍ بالأصالة مثله(4).

أمَّا لفظ الفؤاد فلم نجده إلاّ مجموعاً مُعرّفاً في جميع مواضع ذكره، ويمكن أن يكون ذلك لأنَّه مفهوم قرآني أراد الإمام الارتفاع بشأنه وتفريقه عمّ في داخله، لقوله تعالى:

ص: 181


1- ينظر: لسان العرب: 12 / 519
2- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبي القضل: 2 / 389، وينظر: النهاية في غريب الحديث والأثر: 1 / 18
3- ينظر: العقل والقلب في الرؤية القرآنية: 354 - 359
4- ينظر: التحقيق في كلمات القران الكريم: 9 / 338

«وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)»(1).

ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الفؤاد لم يُعرّف بدقة من أصحاب المعجمات، فلم نجد بصوره واضحة في العين والمقاييس حتى ابن منظور في لسانه سوى تعليل التسمية؛ إذ ذُكر أنّ الفؤاد القلب وقيل باطن القلب، وقيل غير ذلك(2)، ولنا بكلام أبي هلال العسكري دليل واضح على الاختلاف في معناه؛ إذ يقول: «لم يُفرِّق بينهما أهل اللغة، بل عرفوا كلاًّ منهما بالآخر»(3)، ولابدَّ من الإشارة إلى أنَّه ليس في استعمال الإمام للفؤاد ما يدل على أنَّه خاص بمعنى توقد القلب.

وكان للسياق دور في تخصيص الفؤاد بالذكر من دون القلب في بعض نصوص نهج البلاغة؛ ذلك أنَّه علیه السلام لم يستعمله بمواضع تقلب الأحوال والصفات، بل في خطابات التكليف والمسؤولية كالحج مثلاً(4)، وهذا ما يفسر قلة الاستعمال مقارنة بالقلب الذي يستعمل في موارد متعددة فيتوجه النظر إليه(5).

أمَّا العلاقات الدلالية بين أجزاء هذه المجموعة فيمكن توضيحها بالآتي:

أن الجنان والسويداء يكونان بداخل القلب، والشغاف خارجه، والفؤاد مايحيط به، والنياط ملحق به، أما ما وقع بين القلب والفؤاد والجنان منها فقد كان في تسمية هذا الجزء من جسم الإنسان وقد حاولنا التفريق بينها من جهتي اللغة والاستعمال، وأمّا ألفاظ السويداء والشغاف والنياط، فقد ارتبطت بالقلب في

ص: 182


1- القصص:. 10
2- ينظر: لسان العرب: 3 / 329، وينظر: الكليات: 1104
3- معجم الفروق اللغوية: 433
4- نهج البلاغة: 2 / 100، خ 238
5- ينظر: التحقيق في كلمات القران الكريم: 9 / 338

علاقة الكل والجزء، والسويداء لفظ ورد في نهج البلاغة مرتين فقط، منها مرة لغير الإنسان إذ استعير للملائكة، وأخرى له جاءت في سياق حب الدنيا، أما الشغاف فهو من الفرائد في القرآن ونهج البلاغة أيضاً، استعارها علیه السلام لجزء آخر من الإنسان مرة واحدة، فقد استعملت بمعنى الأغلفة المحيطة بالجنين، وأما لفظ الأبهر فقد جاء في سياق التعبير عن منتهى الحياة الدنيا للإنسان، وأمّا النياط فقد استعمل مع القلب بعلاقة وظيفية مرة واحدة أيضاً.

ص: 183

ص: 184

المبحث الرابع الألفاظ الدالة على البطن وما يلحق به

تمثل هذه الألفاظ أكثر السمات المحتملة للعلاقات اللفظية في نهج البلاغة، ولكن ليس بشكل ضروري أو تلقائي(1)، وتعدّ دراسة هذه المفردات في بعض جوانبها محاولة لتفسير حياة مجتمع ما، ويمكن أيضاً التعرف إلى علم الألفاظ بوصفه نظاماً من الدراسات الاجتماعية يستعمل الكلمات في النصوص التي وردت فيها؛ إذ تُظهر في لحظة خاصة أنَّ لبعض هذه الكلمات أهمية أساسية وأخرى هامشية(2)، ويتميز كتاب نهج البلاغة بغنى في المفردات الخاصة بخلق الإنسان وما يصاحبها من كلمات ساندة، ومنها المجموعة التي تضم الألفاظ الدالة على البطن وهي:

(صفاق، وأحشاء، وكبد، ورحم)، ويُلحظ في بعضها وجود معانٍ مولدة تتناسب مع مفاهيم دلالية جديدة، كما يتضح من الشواهد الآتية:

- البطن: ورد لفظ البطن خمس عشرة مرة فيما يخصّ الإنسان في نهج البلاغة(3)، ومنها قول الإمام علیه السلام في النبي الأكرم:

ص: 185


1- ينظر: علم الدلالة، بيير جيرو: 156
2- ينظر: المصدر نفسه: 141
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 103، خ 104، 1 / 375، خ 161، 1 / 441، خ 184، 1 / 281، خ 120، 1 / 121، خ 56، 1 / 329، خ 144، 1 / 452، خ 188، 1 / 431، خ 183، 1 / 261، خ 111، 1 / 348، خ 151، 1 / 387، خ 164، 2 / 375، ح 295، 2 / 389، ح 373

«وَأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللهِ الْمُتَأَسِّي بِنَبِیِّهِ، وَالْمُقْتَصُّ لأثَرِهِ، قَضَمَ الدُّنْیَا قَضْماً، وَلَمْ یُعِرْهَا طَرْفاً، أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْیَا کَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْیَا بَطْناً...»(1).

وقوله علیه السلام في اختيار حجج الله على خلقه:

«إِنَّ الأئِمَّةَ مِنْ قُرَیش غُرِسُوا فِي هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِم، لاَ تَصْلُحُ عَلَی سِوَاهُمْ، وَلاَ تَصْلُحُ الْوُلاَةُ مِنْ غَیْرِهمْ»(2).

- الصفاق: جاء مرة واحدة في نهج البلاغة بقول الإمام عیه السلام يصف مُوسى كَلِيِمِ اللهِ:

«... کَانَ یَأْکُلُ بَقْلَةَ الأرْضِ، وَلَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ»(3).

- الحَشا: ذكره الإمام علیه السلام مرة واحدة في وصف ملك الموت وتوفيه الأنفس:

«هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلاً، أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّی أَحَداً! بَلْ کَیْفَ یَتَوَفَّی الْجَنِینَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ! أَیَلِجُ عَلَیْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا، أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا، أَمْ هُوَ سَاکِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا!...»(4).

- الكبد: ذكره الإمام علیه السلام مرتين، في قوله عن نفسه:

«هَیْهَاتَ أَنْ یَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَیَقُودَنِي جَشَعِي إِلَی تَخَیُّرِ الأطْعِمَةِ... أَوْ أَبِیتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَی، وَأَکْبَادٌ حَرَّی، أَوْ أَکُونَ کَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ عاراً أَنْ تبِیتَ بِبِطْنةٍ٭٭٭وَحَوْلَكَ أَکْبَادٌ تَحِنُّ إِلَی الْقِدِّ»(5).

ص: 186


1- المصدر نفسه: 1 / 376، خ 161
2- المصدر نفسه: 1 / 329، خ 144
3- المصدر نفسه: 1 / 375، خ 161
4- نهج البلاغة: 1 / 261، خ 111
5- المصدر نفسه: 2 / 422 ,ك 54 , وبيت الشعر يروى في نسخ محققة مثل نسخة فارس الحسون ونسخة هاشم الميلاني هكذا: وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِیتَ بِبِطْنَة٭٭٭وَحَوْلَكَ أَکْبَادٌ تَحِنُّ إِلَی الْقِدِّ

الرّحم: تكرر ذكره سبعاً وعشرين مرة(1)، منها كلام الإمام علیه السلام عن علم الغيب واختصاص الله به:

«... فَیَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الأرْحَامِ مِنْ ذَکَر أَوْ أُنْثَی، وَقَبِیح أَوْ جَمِیل، َسَخِيً أَوْ بَخِیل، وَشَقيّ أَوْ سَعِید، وَمَنْ یَکُونُ فِي الْجِنَانِ لِلنَّبِیِّینَ مُرَافِقاً»(2).

وقوله علیه السلام ينادي الإنسان:

«أَیُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ، فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَمَضَاعَفَاتِ الأسْتَارِ، بُدِئْتَ مِنْ سُلاَلَة مِنْ طِین، وَوُضِعْتَ فِي قَرَار مَکِین»(3).

أمّا ما يتعلّق بالمعنى اللغوي لهذه الألفاظ، فللبطن منها: «أصلٌ واحدٌ لا يكاد يُخْلِف، وهو إنْسِيُّ الشيءِ والمقُبْلِ مِنه، فالبطن خِلافُ الظهر، تقول بَطَنْتُ الرّجلَ إذا ضربْتَ بَطنهَ... والبَطِين: الرّجُل العظيم البَطْن، والمَبْطُون العَليل البَطْن، والِمبْطان:

الكثيرُ الأكْل، والمُبْطِن الخمَيصُ البَطْن»(4)، هذا الأصل الذي وضعه ابن فارس للجذر (ب ط ن)، ويذكر الراغب الأصفهاني دلالة الأصل، إذ يقول: «أصل البطن الجارحة وجمعه بطون...والأبطنان عرقان يمرّان على البطن...»(5)، وبذلك

ص: 187


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 160، خ 82، 1 / 183، خ 89، 1 / 212، خ 93، 1 / 247، خ 108، 1 / 255، خ 109، 1 / 299، خ 128، 1 / 300، خ 128، 1 / 344، خ 150، 1 / 347، خ 151، 1 / 387، خ 164، 1 / 388، خ 165، 1 / 408، خ 173، 1 / 73، خ 26، 2 / 10، خ 202، 2 / 109، خ 238، 2 / 154، ك 18، 2 / 174، ك 28، 2 / 175، ك 28، 2 / 210، ك 36، 2 / 29، خ 211، 2 / 328، ح 98، 2 / 360، ح 244، 2 / 361، ح 249، 2 / 375، ح 297، 2 / 59، خ 226
2- المصدر نفسه: 1 / 300، خ 128
3- المصدر نفسه: 1 / 387، خ 164
4- مقاييس اللغة: 1 / 244
5- المفردات في غريب القران: 1 / 52 - 53. وينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 85

يكون أصل البطن للإنسان ثم يُستعار لغيره، ويغطي أجزاء البطن غشاء يسمى الصِّفاق: وهو «جلد البطن كله»(1)، والصفاق مشتق من الجذر (ص ف ق) وله أصلٌ «يدلُّ على ملاقاةِ شيءٍ ذي صَفْحةٍ لشيءٍ مثله بقُوَّة. من ذلك صَفَقْتُ الشَّيءَ بيدي، إِذا ضربتَه بباطن يدكِ بقُوّة... وقيل لكلِّ منبسطٍ صَفقٌ وإن لم يُضربْ به على شيء؛ فيقال لجانِبَي العُنُق صفقانِ، ولكلِّ ناحيةٍ صَفْق وصُفْق، ويقال للجِلدِ الذي يلي سوادَ البطنِ صُفْق»(2)، وقد قال عنه ثابت هو «جلد البطن الأسفل اللاصق قبل أن يُشق... وإذا انشق الصفاق كان منه الفتق»(3)، وإذا كان البطن المقبل من الإنسان ظاهراً فإنَّه وعاء الأحشاء باطناً، والأحشاء: يرجعها ابن فارس إلى جذر معتل هو (ح ش و) ثم يقول: «الحاء والشين وما بعدها معتلٌ أصلٌ واحد، وربما هُمِزَ فيكون المعنيان متقاربين أيضاً، وهو أن يُودَع الشيءُ وعاءً باستقصاء.

يقال حشوتُه أحشوه حَشْواً، وَحِشْوَة الإنسان والدابة: أمعاؤه... والحشا: حشا الإنسان، والجمع أحشاء»(4)، والحشا «ما دون الحجاب مما في البطن كله من الكبد والطحال والكرش وما تبع ذلك... والحشي ظاهر البطن وهو الحضن»(5)، وفي خلق الإنسان، قال ثابت: «وفي البطن الأحشاء، الواحدة حَشًى، وهي ما بين ضلوع الخلف التي في آخر الجنب إلى الورك »(6)، أمّا ما وقع في جوف البطن من الأجزاء موضع البحث فهو الكَبِد: ويرجع أصله إلى الجذر (ك ب د) وله «أصلٌ

ص: 188


1- المفردات في غريب القران: 5 / 67
2- مقاييس اللغة: 3 / 290
3- خلق الإنسان، ثابت: 267
4- مقاييس اللغة: 2 / 64
5- المحكم والمحيط الأعظم: 415، وينظر المصباح المنير، أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ (ت 770 ه): 52
6- خلق الإنسان، ثابت: 262

صحيح يدلُّ على شِدّة في شيء وقُوّة، ومن الباب الكَبِد، وهي معروفة، سمِّيت كَبِداً لتكبُّدِها، والأكبد: الذي نَهَدَ موضعُ كَبِده، وكَبَدْتُ الرّجُل: أصبتُ كَبِدَه، وكَبِدُ القوسِ: مستعارٌ من كَبِد الإنسان، وهو مَقْبِضُها... ومن ذلك الكَبَد، وهي المشقّة. يقال: لَقِيَ فلانٌ من هذا الأمر كَبَداً، أي مشَقة»(1)، ومكان الكبْد الجوف من الإنسان وفيه القصب وهي شعبه، وفيها الزائدة وهي قطيعة معلق فيها الكبْد وفيها عمودها وهو المشرف في وسطها(2)، والجمع منها أكباد، وكبود قليلًا والأشهر فيها التأنيث وقيل: تُذكر وتؤنث(3).

وفي آخر الحشا يقع الرَّحِم: وهو من الأجزاء الخاصة بالأنثى ويرجع إلى الجذر (ر ح م) وله «أصلٌ واحدٌ يدلُّ على الرّقّة والعطف والرأفة. يقال من ذلك رَحِمَه يَرْحَمُه، إذا رَقَّ له وتعطَّفَ عليه... والرَّحِم: عَلاقة القرابة، ثم سمِّيت رَحِمُ الأنثى رَحِماً من هذا، لأنّ منها ما يكون ما يُرْحَمُ وَيُرَقّ له مِن ولد»(4)، هذا هو الأصل، وقد تسكن الحاء(5)، أمَّا معناه فهو «بيت منبت الولد ووعاؤه في البطن... وجمعه الأرحام»(6).

وقد استعمل الإمام في نهج البلاغة هذه الألفاظ بنسب متفاوتة تبعاً للغرض الذي سيقت من أجله؛ ومن ذلك استعمال البطن منها الذي غلب فيه ذكر الإمام خُمص البطن أو مرادفه ثمان مرات(7)من مجموع خمس عشرة مرة ورد فيها اللفظ

ص: 189


1- مقاييس اللغة: 5 / 153، وينظر: الجيم: 3 / 147
2- ينظر: خلق الانسان: ثابت، 262، وخلق الانسان، الزجاج: 85
3- ينظر: المعجم المبتكر فيما يتعلق بالمؤنث والمذكر: 265
4- مقاييس اللغة: 2 / 498
5- ينظر: المخصص: 2 / 39
6- العين: 3 / 224، وينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 95 المخصص: 2 / 39
7- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 103، خ 104، 1 / 375، خ 161، 1 / 441، خ 184، 1 / 281 ، خ 120، 2 / 375، 2 / 389، ح 373. / 376، خ 161

مخصوصاً به الإنسان في نهج البلاغة، ومنها قول الإمام في صفة رسول الله: «أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْيَا كَشْحاً، وَأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْيَا بَطْناً»، والمَخْمَصَة شدة الجوع نتيجة خَلاء البطن من الطعام جوعاً، وفلان خَمِيصُ البطنِ عن أَموال الناس أَي عَفِيفٌ عنها(1)، ولذلك ذكر الإمام الأنبياء والمؤمنين بهذه الهيأة كي يكونوا أسوة لغيرهم؛ ف»البطنة:

امتلاء البطن من الطعام، وهي الأشر من كثرة المال أيضاً»(2)، وكثرةَ الَأكل وعِظَمَ البطنِ مَعِيبٌ(3)، ومّما يحرص الإنسان على بطانتها؛ لذا نفى علیه السلام هذه الصفة عن النبي الأكرم؛ لأنَّه عفيف عن ذلك، ولعله أراد أن النبي خرج من الدنيا الدنية وليس له منها شيء، فجاء استعمال لفظ البطن في هذا النص حتى يَكون معبِّراً عن العفة بشقيها المذكورين، وبعد تتبع السياقات والقرائن اللفظية في النصوص الأُخر الدالة على خمص البطن تبين أنَّ تلك الاستعمالات تصبُّ في معنى الدعوة إلى التعفف والزهد.

أما الشاهد الثاني للفظ البطن وهو قوله علیه السلام:

«إِنَّ الأئِمَّةَ مِنْ قُرَیش غُرِسُوا فِي هذَا الْبَطْنِ مِنْ هَاشِم».

فقد نسبت البطن في النص إلى مجموعة بشرية وليس إلى جسم إنساني، وهذا ما أحدث انزياحاً في المعنى نحو قوم يداخلهم ويداخلونه اجتماعياً، فتبلورت دلالة للفظ البطن تتناسب مع مفاهيم دلالية جديدة تُظهر تقسيمات قبلية، أشار إليها أمير المؤمنين في موقف ما باستعمال أساسي للفظ، والبَطْن ما دون القبيلة(4)، وقيل:

ص: 190


1- أساس البلاغة: 1 / 267
2- العين: 7 / 440
3- ينظر: لسان العرب: 7 / 29
4- ينظر: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: القلقشندي، 2 / 277

هو دون الفَخِذِ وفوق العِمارة، والجمع أَبْطُنٌ وبُطُونٌ(1)، والرأي الأول أدق؛ لأن ابن منظور يسوق لهذه الدلالة شاهداً من كلام الإمام علي علیه السلام فيقول: «وفي حديث علي علیه السلام: كَتَب على كلِّ بطْنٍ عُقولَه؛ قال: البَطْنُ ما دون القبيلة وفوق الفخِذ، أَي كَتَب عليهم ما تَغْرَمُه العاقلة من الدِّيات فبَيَّن ما على كل قوم منها»(2)، فالبطن في كلام الإمام إحدى مراتب تقسيم القبيلة التي أخذت تسميتها عن جسم الإنسان بعلاقة وقوع البطن داخلها، ومما تجدر الإشارة إليه أن أمير المؤمنين استعمل لفظ البطن في نصوص أخرى للإنسان(3)وغيره(4)، وُظِّفت أكثرها في سياق الموعظة والنصح.

أمّا صّفاق البطن فيذكره الإمام علیه السلام في حديثه عن مُوسى علیه السلام كَلِيمِ اللهِ إذ قال:

«لَقَدْ کَانَتْ خُضْرَةُ الْبَقْلِ تُرَی مِنْ شَفِیفِ صِفَاقِ بَطْنِهِ، لِهُزَالِهِ وَتَشَذُّبِ لَحْمِهِ».

وصِفَاقِ البطن الجلد الذي يغطي أحشاء البطن، وهو «جليدة البطن التي تلي الجلدة الظاهرة»(5)، وشفيف الجلد رقيقه، والكلام جاء في سياق ذَمِّ الدُّنْيَا وَعَيْبِهَا، وَكَثْرَةِ مَخَازِيهَا وَمَسَاوِيهَا، وقد ذكر الإمام الأنبياء أسوة ودليلاً على ذلك، فبعد ذكر الرسول يذكر موسى علیه السلام بكلام مفاده أنّ خضرة البقل كانت ترى في بطنه من الهزال وإنه ما سأل الله إلا أكلة من الخبز(6)، فالإمام استعمل الجلد الباطن وهو الصفاق

ص: 191


1- ينظر: لسان العرب: 13 / 53
2- لسان العرب: 13 / 53
3- ينظر: نهج البلاغة: على سبيل المثال: 1 / 431، خ 183، 1 / 261، خ 111، 1 / 348، خ 151 ، 1 / 387، خ 164...
4- مثل بطن الأرض وبطون البرزخ وبطون القبور وبطون الأودية وهي دلالات مكانية من الأرض وما سفُل منها
5- مقالة في أسماء أعضاء الإنسان: 20
6- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 9 / 231

وقد وصفه بأنه شفيف أي رقيق، يُسْتَشَفّ ما وراءه للمبالغة في استقصاء المعنى، وقد انماز هذا الاستعمال برسم صورة دالة على تَعلّم الجوع وذم الدنيا بتوظيف لفظ غطاء البطن الذي عبر به عن مستقر الطعام والشراب، وكشفت الصورة أيضاً أن هذا الغطاء يتكون من جلد ظاهر وجلد باطن(1)، والجلدتان مخترقتان بالنظر؛ لأنَّ خضرة البقل كانت ترى في بطنه بسبب الهزال وتفرّق اللحم(2)، فهذه الصورة الكنائية هي رسالة غير لفظية إلى عامة الناس أُريد منها التأسي بفقر كليم الله علیه السلام وزهده واقتفاء خطاه في ترك طلبه للدنيا(3).

وبعد أن ذكر الإمام البطن وغشاءها ذكر أحشاءها في خطبة له علیه السلام وصف فيها ملك الموت وتوفيه الأنفس فقال:

«کَیْفَ یَتَوَفَّی الْجَنِینَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ! أَيَلِجُ عَلَیْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا، أَمِ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بَإِذْنِ رَبِّهَا، أَمْ هُوَ سَاکِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا!».

ويأتي اللفظ ضمن سلسة تساؤلات أراد منها علیه السلام إثبات عجز الإنسان عن وصف مخلوق مثله ومن ثم عجزه عن وصف خالقه، وفي هذا النص يستعمل الإمام لفظ الأحشاء مع لفظ الجنين الساكن في بطن أمه؛ لأنَّ الاثنين تضمّنا معنى الإيداع بدقة، وهو ما أراده الإمام، وفسّر ابن أبي الحديد هذا النص تفسيراً مناسباً بقوله: «والتقسيم الذي قسَّمه في وفاة الجنين حاصر؛ لأنه مع فرضنا إياه جسماً يقبض الأرواح التي في الأجسام إما أن يكون مع الجنين في جوف أمه فيقبض روحه عند حضور أجله... أو أن يلج جوف أمه لقبض روحه فيقبضها...أو أن يقبضها من غير حاجة إلى الولوج إلى جوفها وذلك بأن تطيعه الروح وتكون مسخرة فإذا أراد قبضها امتدت إليه،

ص: 192


1- ينظر: نفحات الولاية شرح عصري جامع لنهج البلاغة، مكارم الشيرازي: 346
2- ينظر: شرح ابن أبي الحديد: 9 / 232
3- ينظر: الدنيا في نهج البلاغة، مكتبة الروضة الحيدرية:. 63

وهذه القسمة لا يمكن الزيادة عليها، ولو قسمها واضع المنطق لما زاد»(1)، ويمكن الاستعانة بقول الإمام في موضع آخر دليلاً على الرأي الأخير لابن أبي الحديد وهو: «ثُمَّ ازْدَادَ الْمَوْتُ الْتِیَاطاً بِهِ، فَقُبِضَ بَصَرُهُ کَمَا قُبِضَ سَمْعُهُ، وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ»(2)، لأن الجنين وديعة في الجسد والروح هي التي تخرج منه، ولمناسبة دلالة الاستقصاء في الحفظ استعمل علیه السلام خفاء الأحشاء وكثرة حجبها في تقوية المعنى وإثبات القدرة؛ لذا لم يستعمل الرحم في مثل هذا الغرض.

أمّا لفظ الكبد فقد وردت في نهج البلاغة مرة مستعارة للأرض(3)، ومرتين خُصّ بهما الإنسان في قوله علیه السلام في الشاهد المذكور:

«هَیْهَاتَ أَنْ یَغْلِبَنِي هَوَايَ... أَوْ أَبِیتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَی، وَأَکْبَادٌ حَرَّی، أَوْ أَکُونَ کَمَا قَالَ الْقَائِلُ:

وَحَسْبُكَ عاراً أَنْ تبِیتَ بِبِطْنةٍ ٭٭٭ وَحَوْلَكَ أَکْبَادٌ تَحِنُّ إِلَی الْقِدَّ» والسیاق العام یجري باتجاه الإحساس بآلام الآخرین، ممن لا أحد یتعهدهم بالرعایة(4)، وَقوله علیه السلام:

«أَکْبَادٌ حَرَّی».

يراد منه المبالغة في الإشارة إلى منازعة شدة العطش لتأمين حاجات الجسم فكأنها قد يبست، وهو ما يعني المشقة والمكابدة بالرجوع إلى أصل المادة، قال تعالى:

«لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4)»(5).

ص: 193


1- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد: 7 / 238
2- نهج البلاغة: 1 / 251
3- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 319، خ 138
4- ينظر: الإنسان الكامل في الإسلام، عبد الرحمن بدوي: 69
5- لبلد:. 4

فضلاً عن أنّ الإمام استعمل الكبد لدلالة العطش؛ لأنَّه مفهوم إلتصق بها قديماً عند العرب، فالإمام قد استقى موارده من مصدرين في هذا النص، أحدهما:

من البيئة الشعرية القديمة وهو بيت الشعر تضمنه النص باقتباس نصي، والآخر:

حديث لرَسُول اللهَّ وهو قوله:

«فِي کُلِّ ذَاتِ كَبدٍ حَرَّى أَجْرٌ»(1).

تضمنه النص باقتباس معنوي، ولا يتحرَّج الباحث من تسميته أداءً تطبيقياً؛ لأنَّ الإمام اقتبس الحديث بتطبيقه لأمر الله على لسان رسوله؛ فينفي التقصير عن نفسه ويقول:

«هَیْهَاتَ أَنْ یَغْلِبَنِي هَوَايَ، وَیَقُودَنِي جَشَعِي إِلَی تَخَیُّرِ الأطْعِمَةِ...».

ويستفاد من هذا الاقتباس أنه دليل نقلي على تأنيث الكبد من ثلاثة مصادر يعتدُّ بها؛ إذ أُنثَت في الشعر ووصفت بأنها (حرّى) مؤنث (حرّان) وفي الحديث الشريف وكلام الإمام.

أمّا لفظ الرحم فقد وظّفه الإمام في أغراض أُخر من نسج الحقيقة القطعية للرحم، وسنكتفي بإيراد شاهدين للدلالة الحقيقية(2)، أحدهما قوله علیه السلام:

«أَیُّهَا الْمَخْلُوقُ السَّوِيُّ، وَالْمُنْشَأُ الْمَرْعِيُّ، فِي ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الأسْتَارِ، بُدِئْتَ مِنْ سَلاَلَة مِنْ طِین، وَوُضِعْتَ فِي قَرَار مَکِین». وفي هذا النص يخاطب الإمام الإنسان ليلفت انتباهه إلى الرعاية الإلهية التي جعلته في أحسن تقويم، متكامل الخلقة والصفات، والمراد أن الجنين حينما ينمو ويكبر ويتحرك في بطن أمه يكون محمياً ومحجوباً بأستار وظلمات تقيه شرّ الأذى،

ص: 194


1- مسند احمد: حديث رقم (7075): 11 / 647
2- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 300، خ 128، 1 / 183، خ 89، 1 / 212، خ 93....

وفي النص يحدد الإمام مكان هذا الإنسان في ظُلُمَاتِ الأرْحَامِ، وَمُضَاعَفَاتِ الأسْتَارِ، والظلمات ثلاث وهي: ظلمة البطن، وظلمة الرحم، وظلمة المشيمة والسائل المحيط بالجنين(1)، ومن اللافت للنظر أنّ الإمام استعمل لرحم المرأة لفظاً مركباً آخر يلائم المرحلة، مقتبساً ذلك من القرآن الكريم وهو تركيب (القرار المكين)(2)، وكان مسوغ ذلك الاستعمال الإشارة إلى رعاية الله للجنين من ناحية وضعه في مكان حصين؛ لأنه في خلقه مهيأ لاحتضان البيضة الملقَّحة من خلال الهرمونات والغدد والمشيمة وغشاء الرحم، ومن لطف الله وعنايته أن خلق للجنين سائلاً خاصاً يسمى السائل الأمينوسي؛ ليسمح له بالحركة ويقيه من المؤثرات والأخطار، أما خارج نطاق الرحم فهناك الأربطة المتعددة التي تمدد من أجزاء الرحم لترتبط مع عضلات وعظام الحوض؛ لحمل الرحم والمحافظة عليه ومنعه من الإنقلاب، ولا يمكن إغفال أثر عظام الحوض وعضلاته التي تحيط بالرحم؛ لتشكل درعاً قوياً يحمي الرحم ومحتوياته، بهذا التركيبة الهندسية الإلهية المحكمة صار الجنين يتمتع بالحماية الكافية التي تستحق تسمية القرار المكين؛ وقد جاء هذا الوصف في كلام الإمام لتنبيه الإنسان إلى الأسباب والمتطلبات التي تديم الحياة وتبعد الأضرار والمضاعفات عنه؛ حتى يخرج سوياً مستوفياً جميع ما فيه(3)، أمّا في الشاهد الثاني فيقول: علیه السلام « فَيَعْلَمُ سُبْحَانَهُ مَا فِي الأرْحَامِ مِنْ ذَكَر أَوْ أُنْثَى، وَقَبِيِح أَوْ جَمِيِل...»، ويأتي توظيف الرحم في هذا السياق والسياقات الأُخر المماثلة له لغرضين على ما يبدو: الأول يُتصور في القدرة الربانية وبداعة الخلقة والتصوير، والآخر: تعريف الإنسان بصغر شأنه أمام خالقه وبيان محدودية اختياره وضعفه

ص: 195


1- ينظر: نهج البلاغة والطب والحديث: 44
2- ورد ذكر القرار المكين في القرآن الكريم مرتين، في قوله تعالى: (ڱ ں ں ڻ ڻ ڻ ڻ) (المؤمنون: 13)، وقوله: (پ پ پ ڀ ڀ) (المرسلات: 21)
3- ينظر: نهج البلاغة والطب والحديث: 43 - 46

في عالَمي التكوين والآخرة.

ومما تجدر الإشارة إليه أنّ الإمام علي علیه السلام قد أولى اهتماماً بدلالة مجازية للرّحم وهي وصل الرّحم وقطعه؛ إذ ظهرت في طيات نهج البلاغة قرابة العشرين مرة من أصل سبع وعشرين مرة ذُكر فيها لفظ الرّحم، أمّا الأخرى فكانت من الدلالة الحقيقة له(1)، وسنكتفي بذكر شاهدين فقط لصلة الرحم(2)، وقطعه(3)، توخياً للإيجاز واستيعاباً للمفاهيم في إشارة إلى أهمية هذا المجاز عند الإمام، ومن شواهد صلة الرحم قوله علیه السلام:

«... وَصِلَةُ الرَّحِمِ فَإِنَّهَا مَثْرَاةٌ فِي الْمَالِ وَمَنْسَأَةٌ في الأجَلِ»(4).

وقد استعار الإمام مفهوم الصِلَةُ من الرَّحِمِ وعبّر عن الأقارب به «لكونهم خارجين من رحم واحدة»(5)، فالولد أقرب الناس إلى رحم أمه وعلاقته بالرحم هي علاقة تعلّق، لذا كان هو المثل الأعلى في التشبيه به عن قوة الترابط الاجتماعي، والمراد أن تحقق الوصل بما يتعلق من أبناء جلدته يؤخر أجل الإنسان لما له من عظيم الشأن عند الرحمن الرحيم (6)؛ إذ إنّ صلة الرّحم توجب الزّيادة في العمر والقطيعة توجب النّقصان، وكذلك البرّ والعقوق وهكذا.

ص: 196


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 300، خ 128، 1 / 183، خ 89، 1 / 212، خ 93، 1 / 387، خ 164...
2- ينظر: المصدر نفسه، على سبيل المثال لا الحصر: 2 / 154، ك 18، 2 / 328، ح 98، 2 / 361، ح 249...
3- ينظر: المصدر نفسه، على سبيل المثال لا الحصر: 1 / 408، خ 173، 2 / 29، خ 211، 2 / 210، ك 36...
4- المصدر نفسه: 1 / 255، خ 109
5- المفردات في غريب القران: 1 / 391
6- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 3 / 343

أما معنى قطع الرحم فمنه قوله علیه السلام:

«وَأَنْتُمْ مَعْشَرَ العَرَبِ عَلَی شَرَّ دِيِن، وَفِي شَرِّ دَار، تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ، وَتَقْطَعُونَ أرْحَامَكُمْ...»(1).

والإمام هنا يُذّكر العرب في عصرِها قبل الإسلام بما كانوا عليه، فقطع الرّحم مما نهى عنه الإسلام وأعظم جرمه؛ وهو تعبير مجازي يعبّر به عن انقطاع الروابط الاجتماعية أو اختلالها؛ لذلك ورد في الحديث عن رسول الله أن الله عَزَّوَجَلَّ هو القائل:

«أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي فمن وصلها وصلته ومن قطعها بتته»(2)، ويبدو أنَّ خوفاً في قلب إمامنا على العباد، ورحمة بيّنة منه قد ظهرت في كثافة استعمال لفظ الرحم والتحذير من قطعه ووجوب وصله.

ويتبين مما سبق أنّ الألفاظ الدالة على البطن وملحقاتها قد استُعمل كل منها في سياقه فاستعمال هذه الأجزاء جاء لمقاصد متعلقة بمعان لصيقة بوظائف تلك الأجزاء أو هيأتها أو غير ذلك مما يخص هذا الجزء أو ذاك، فاستعمال الإمام لهذه الألفاظ لم يسمح لعلاقات الاستبدال بين هذه الألفاظ أن تكون لها ثغرة في نصوص تلك الألفاظ، على الرغم من التقارب الدلالي في استعمال بعض الألفاظ مثل (الأحشاء، والكبد)، وقد ظهر في استعمال لفظ البطن غلبة ارتباطها بمصاحبة لغوية معينة مثل كلمة الخمص، وفي نصوص أُخر لم يخص بها الإنسان مثلت دلالاتها العلاقة الانعكاسية مع لفظ الظهر والظاهر أحياناً، وقد تميز الاستعمال في هذا اللفظ بطابع الوعظ، ورافق ذلك تقسيمات قبلية اشتقت من جسم الإنسان أقرّها علیه السلام.

وتبلور من البحث تنوع الموارد التي استقى منها الإمام لغته وأولها القرآن

ص: 197


1- نهج البلاغة: 1 / 73، خ 26
2- السنن الكبرى: 7 / 26

الكريم، وثانيها حديث رَسُولُ الله، والبيئة الشعرية القديمة، ويكشف استعمال جزء الكبد عن العلاقة بين الإمام ورعيته، ويكشف وصف جزء آخر من جسم الإنسان عن التعفف بأقوى صوره وهو الصّفاق، وتبرز هيمنة القدرة الإلهية في بعض الألفاظ لإثبات قوة الخالق وضعف المخلوق مثل الأحشاء والرّحم، وأخيراً لابدَّ من ذكر السياقات التي صورت المعاناة في الحياة الدنيا من قطع الرحم والإلحاح على صلته كما دلّت على ذلك المصاحبة اللغوية.

ص: 198

المبحث الخامس الألفاظ الدالة على الجنب وما يلحق بها

لا يخفى أنَّ الجسم الإنساني مصدر لعدد كبير من التسميات، والتسمية تقوم على العلّة في كل الحالات، وترتبط بمعانٍ وإيحاءاتٍ وإشاراتٍ خاصة بأجزاء من الجسم(1)، ومنها الجنب وملحقاته، فقد مثلت ثراءً دلالياً يُزاد إلى الذخيرة اللغوية العربية، ووقع بعضها في القرآن ومن ذلك قوله تعالى:

«تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16)»(2).

وكان في المتن المدروس (نهج البلاغة) عدد من النصوص التي ورد فيها لفظ الجنب وملحقاته التي تمثل مجموعة دلالية ذات سمات مشتركة لها أهمية كبرى تواصلياً، وهذه الألفاظ تضمّ (الجنب، الخاصرة، الكشح، العِطْف)، ومن شواهدها:

- الجَنْب(3): كان حضور اللفظ للإنسان في تسعة نصوص(4)، ومنها قول

ص: 199


1- ينظر: علم الدلالة، بيير جيرو: 101
2- السجدة:. 16
3- مما اقترب في النهج من معنى الجنب لفظ (أحناء) في قول أمير المؤمنين علیه السلام: «... لَا بَصِيَرةَ لَهُ فيِ أَحْنَائِهِ، يَنْقَدِحُ الشَّكُّ فِي قَلْبِهِ لأوَّلِ عَارِض مِنْ شُبْهَة»، (نهج البلاغة: 2 / 341، ح 143)؛ لأنه يشترك في المعنى مع جانب الإنسان
4- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 251، خ 108، 2 / 96 ، خ 238، 2 / 167، ك 27، 2 / 230، ك 46

الإمام علیه السلام لأصحابه عند الحرب:

«لاَ تَشْتَدُّنَّ عَلَیْکُمْ فَرَّهً بَعْدَهَا کَرَّهٌ، وَ لاَ جَوْلَهً بَعْدَهَا حَمْلَةٌ، وَ أَعْطُوا اَلسُّیُوفَ حُقُوقَهَا، وَ وَطِّنوا(1) لِلجُنُوبِ مَصَارِعَهَا...»(2).

وقوله علیه السلام في كتاب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري:

«طُوبَی لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَ عَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا، وَ هَجَرَتْ فِی اَللَّیْلِ غُمْضَهَا»(3).

- العِطْف(4): جاء اللفظ في نصين من كلام الإمام علیه السلام وهما قوله في وصف مبايعة الناس له:

«فَمَا رَاعَنِی إِلاَّ وَ النَّاسُ إِلَیَّ کَعُرْفِ الضَّبُعِ، یَنْثَالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جَانِبٍ، حَتَّی لَقَدْ وُطِیءَ اَلْحَسَنَانِ، وَ شُقَّ عِطْفَایَ، عِطَافِی، مُجْتَمِعِینَ حَوْلِی کَرَبِیضَةِ الْغَنَمِ»(5).

وقوله علیه السلام عن بيت الله الحرام:

«ثُمّ أَمَرَ آدَمَ وَوَلَدَهُ أَن يَثنُوا أَعطَافَهُم نَحوَهُ، فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنتَجَعِ أَسفَارِهِم، وَ غَايَةً لِمُلقَي رِحَالِهِم»(6).

- الكشح: استعمل في نصين، وهما قول الإمام علیه السلام عن الخلافة:

ص: 200


1- في بعض النسخ (وطِّئُوا)، مثل نسخة هاشم الميلاني (ص: 378)، وفارس الحسون (ص: 491)، وغيرها
2- نهج البلاغة: 2 / 150، ك 16
3- المصدر نفسه: 2 / 227، ك 45
4- ورد اللفظ في النهج أيضاً بقول للرضي من دون نص الكتاب، ذكر فيه أميرالمؤمنين المنذر، بقوله: إنه لنظّارٌ في عِطْفَيْهِ، (ينظر: نهج البلاغة: 2 / 296، ك 71)
5- المصدر نفسه: 1 / 34، خ 3
6- نهج البلاغة: 2 / 100، خ 238

«فَسَدَلْتُ دُونَها ثَوْباً، وَطَوَیْتُ عَنْها کَشْحاً، وَطَفِقْتُ أَرْتَئِی بَیْنَ أَنْ أَصُولَ بِیَدٍ جَذّاءَ، أَوْ أَصْبِرَ عَلَی طَخْیَهٍ عَمْیاءَ»(1).

وقوله علیه السلام عن النبي:

«وأَحَبُّ الْعِبَادِ إِلَی اللهِ الْمُتَأَسِّی بِنَبِیِّهِ... أَهْضَمُ أَهْلِ الدُّنْیَا کَشْحاً، وأَخْمَصُهُمْ مِنَ الدُّنْیَا بَطْناً»(2).

- الخاصرة: استعملت الخاصرة مرة واحدة فقط في كلام للإمام علیه السلام يحثّ فيه أصحابه على الجهاد:

«فَشدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ، وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِر، وَلاَ تَجْتَمِعُ عَزِیمَهٌ وَوَلِیمَه»(3).

ويمكن تلخيص المعنى اللغوي لهذه الألفاظ بالآتي: فالجنبْ «مجتمع الأضلاع وأسفل الضلوع»(4)، كما ذكر ابن فارس، وهو من الجذر (ج ن ب)، وله «أصلان متقاربان أحدهما: الناّحية، والآخر البُعْد... ومن الباب الجَنْبُ للإنسان وغيره...

والمَجْنَبُ: الخير الكثير، كأنه إلى جَنبْ الإنسان، وجَنَبْتُ الدابّةَ إذا قُدْتَها إلى جنبك، وكَذلك جَنَبْتُ الأسير، وسُمِّي التُّرْسُ مِنْبَاً لأنه إلى جَنبْ الإنسان، وأمَّا البُعْد، فالجَناَبة؛ لأنه يبعدُ عما يقرُب منه غيرُه، من الصَّلاةِ والمسجد وغير ذلك...»(5)، لكن الراغب يجعل الجارحة أصلاً للجنب، ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادة العرب في استعارة سائر الجوارح لذلك مثل اليمين والشمال(6)، قال الله عزوجل:

ص: 201


1- المصدر نفسه: 1 / 30، خ 3
2- المصدر نفسه: 1 / 376، خ 161
3- المصدر نفسه: 2 / 32، خ 215
4- مقالة في أسماء أعضاء جسم الإنسان: 20
5- مقاييس اللغة: 1 / 483
6- ينظر: المفردات في غريب القران: 129

«يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ»(1).

أمّا في خلق الإنسان، فقد قال الأصمعي عن الجنبين: «وهما الملاطان وهما الدفان والكشحان، والقربان، والواحد كشح وقرب، والجماع الكشوح والأقراب، وفي الجنب الفريصتان... وفي الجنب الحصير وهو الذي إذا رأيت الرجل يعمل رأيت له إطاراً بين الشاكلة وبين الجنب... والقرب والكشح والحشى والصقل والإطل والخصر واحد»(2)، وعلى ذلك يكون الجنبان مكتنفين للصلب مكونين جانبيه(3)، أمّا العِطْف، فقد قال عنه الخليل: «وعطفا كل شيء جانباه وعطفا الإنسان من لدن رأسه إلى وركه»(4)، وهو من الجذر (ع ط ف) وله أصلٌ واحدٌ «يدلُّ على انثناء وعِياجٍ، يقال: عَطَفْتُ الشّیء، إذا أمَلْتَه، وانعَطَف، إذا انعاج... ويقال للجانبَين العِطفانِ، سمِّيا بذلك لأنَّ الإنسان يَميل عليهما. ألا ترى أنَّهم يقولون: ثنىَ عِطْفَه، إذا أعْرضَ عنك وجَفَاك... وفلانٌ يَتَعَاطَفُ في مِشيته، إذا تمايَلَ، والإنسان يتعطَّف بثوبه، وهو شبه التوشُّح. والرِّداء نفسُه عِطَافٌ، لأنّه يُعْطَفُ، ثم يتَّسعون في ذلك»(5)، وهذا الجزء من الإنسان مختُلف في تحديد مكانه من جسم الإنسان، فقد قيل: هو المنكب عينه، وقيل الإبط... وقيل هو جانب الإنسان(6)، ويذكر الرأي الأخير صاحب المفردات أيضاً(7)، وهو ما يؤيده الباحث.

ص: 202


1- التوبة:. 35
2- خلق الإنسان: الأصمعي، 213
3- ينظر: خلق الإنسان: الزجاج، 79
4- العين: 2 / 17
5- مقاييس اللغة: 4 / 351
6- ينظر: المخصص: 1 / 96، ولسان العرب: 9 / 249
7- ينظر: المفردات في غريب القران: 2 / 440

وهناك رأي يقول بأنّ الكشح والخاصرة واحد من هذه الألفاظ، ومنهم ابن فارس، إذ قال أنّ للجذر (ك ش ح): «أصلٌ صحيح، وهو بَعْضُ خَلْقِ الحيوان، فالكَشْح: الخصر»(1)، لكن الخليل يحدد الكشح «من لدن السرة إلى المتن ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهو موضع موقع السيف إلى المتقلد»(2)، ويتوسع ثابت فيقول: «هو ما بين الوركين إلى حيال الإبط من المنكب...»(3)، وقيل الكَشْح:

ما بين الجنب والخاصرة(4)، ويمكن التعويل على رأي الخليل في أخذ معنى الكشح؛ لأنه أكثر دقة في التحديد، ويجعل من الكشح جزءاً من الجنب الظاهر أوسع من الخاصرة سواء أكانت نهايته إلى المتن، أم إلى الإبط، والخاصرة حددها الخليل بقوله: «والخاصرتان: ما بين الحرقفة والقصيرى»(5)، وهي مشتقة من الجذر (خ ص ر)، وله في اللغة «أصلان: أحدهما البَرْد، والآخر وسَط الشَّیء، فالأوّل قولُم خَصِر الإنسانُ يَخْصَر خَصَراً، إذا آلَمَهُ البَد في أطرافه، وخَصِر يومنا خَصراً، أي اشتدَّ برْدُه، وأمَّا الآخَر فالخَصْر خَصْرِ الإنسانِ وغيره، وهو وَسَطُه المستدِقُّ فوق الورِكين»(6)، وقيل: إنها آخر منقطع الأضلاع وهي طفطفة الجنب التي تتصل بأطراف الأضلاع(7)، وهو رأي يجعل من الخاصرة جزءاً مكمّلًا للجنب، فجنب الإنسان تحت الإبط إلى الخصر، والخصر هو وسط الإنسان، وهذا يتفق وما نفعله اليوم في حال التخصّر وهو وضع اليدين على الخصر.

ص: 203


1- مقاييس اللغة: 5 / 183
2- العين: 3 / 57
3- خلق الإنسان: 258، وينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 79
4- ينظر: خلق الإنسان في اللغة، البغدادي: 57
5- العين: 4 / 182
6- مقاييس اللغة: 2 / 188
7- ينظر: خلق الإنسان، الزجاج: 80

أمّا استعمال الألفاظ المذكورة، فمنه استعمال الإمام علیه السلام للجنب في الشاهد الأول:

«أَعْطُوا السُّيُوفَ حُقُوقَهَا، وَوَطِّنوا لِلْجُنُوبِ مَصَارِعَهَا».

والجُنوب، جمع جَنبْ، ويأتي توظيف اللفظ في سياق كلام للإمام إلى أصحابه عند الحرب، فيوصيهم علیه السلام بأن تكون ضرباتهم للعدو محكمة؛ فيمهّدوا للجُنوب مَصارِعها، أي أماكن سقوطها، كأنهم مهدوا للمضروب مصرعه(1)، وهي كناية في غاية الروعة وتصوير في غاية الابداع، فاستعمل علیه السلام الجنب للدلالة على مصرع صاحبه في النص، وقد ألقت هذه الدلالة بظلالها على هذا اللفظ؛ لأن هذا يلائم أوضاع الحرب، فسقوط القتلى غالباً على جوانبهم واستقرار أحوالهم يكون عليها.

أما الشاهد الثاني فهو قوله علیه السلام في كتاب إلى عثمان بن حنيف الأنصاري:

«طُوبَی لِنَفْسٍ أَدَّتْ إِلَی رَبِّهَا فَرْضَهَا، وَ عَرَکَتْ بِجَنْبِهَا بُؤْسَهَا».

وكان الإمام قد بعث بهذا الكتاب إليه لما كان واليه على البصرة، وحضر مأدبة قوم من أهلها عائلهم مجفو وغنيّهم مدعو، فعاتبه الإمام على ذلك(2)، ثم قال هذا الكلام، وعرك البؤس بالجنب، أي الصبر عليه كأنه شوك فيسحقه بجنبه(3)، وقيل:

البؤس هو الضرّ، فيقال: عرك فلان بجنبه الأذى أي أغضى عنه وصبر عليه، وقد ورد اللفظ بتعبير مجازي في سلسلة من المتواليات الكلامية الهادفة إلى توخي التصبُّر على الشدائد والمكاره التي ترِدُ على هذه النفس، لتصبح في زمرة أولياء الله الذين تنزهوا عن ملاذ الدنيا والمشقة الناتجة عن ذلك(4)، وإنَّما جاز المجاز في قول الإمام؛ لأنَّ الإنسان من ناحية جانبه يمكن أن يجانب الأذى، أي يبتعد عنه فيصبر عليه.

ص: 204


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 2 / 150، ونهج البلاغة، تح: هاشم الميلاني: 425
2- ينظر: أعلام نهج البلاغة، هاشم مرتضى: 164
3- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 558
4- ينظر: شرح كتاب أمير المؤمنين علیه السلام إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، هاشم الميلاني: 69

ولابدَّ من الإشارة إلى أنّ الإمام قد طوَّع لفظ الجنب واستعماله باشتقاقات متعددة، ومن ذلك استعمال منفرد جعل من الجسد مركزاً للاتجاهات بصورة عامة، والجنب بصورة خاصة، في قوله عن حال الميت:

«...وَخَرَجَتِ الرُّوحُ مِنْ جَسَدِهِ، فَصَارَ جِيفَةً بَيْنَ أَهْلِهِ، قَدْ أوْ حَشُوا مِنْ جَانِبِهِ، وَ تَبَاعَدُوا مِنْ قُرْبِهِ»(1).

والمعنى أي جعلوا مستوحشين، والمستوحش المهموم الفَزِع، ويروى أوحشوا من جانبه أي خلوا منه وأقفروا تقول: قد أوحش المنزل من أهله أي أقفر(2)، فدلالة الجانب في النص مكانيّةَ عن نواحي الجسد، فكأنهم جعلوا الشيء وانصرفوا عن جنبه، وقد أظهر استعمال هذه الدلالة للجنب دقة التصوير الملائمة للسنن الاجتماعية المتعلقة بمرحلة من مراحل الموت ومراعاتها، وممّا يُلحظ في سياقات هذا اللفظ الأخرى بأبنيته كافة(3) أنَّ الإمام وظّفه لأغراض فحواها يتأرجح بين النصح والتوبيخ جاءت أكثرها في كتبه وعهوده وقلَّت في الخطب واختفت في الحكم.

أمّا العطف في استعمال أمير المؤمنين علیه السلام، فقد كان شاهداً على مبايعة الناس له في قوله:

«یَنْثالُونَ عَلَیَّ مِنْ کُلِّ جانِبٍ، حَتَّی لَقَدْ وُطِیَء الْحَسَنانِ، وَشُقَّ عِطْفایَ».

وشُقّ عطفاه: خُدِشَ جانباه، دلالة على شدّة الاصطكاك والزحام لأجل البيعة على الخلافة(4)، وقد شبه علیه السلام ذلك الزحام بعُرْفُ الضّبُع في السياق؛ لكثرة الشعر

ص: 205


1- نهج البلاغة: 1 / 251، 108
2- ينظر: نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7 / 210
3- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 2 / 167، ك 27، 2 / 230، ك 46، 2 / 276، ك 61، 2 / 150، ك 16، 2 / 96، خ 238، 2 / 228، ك 45
4- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 34، ونهج البلاغة، محمد عبدة: 42

على عنقها، فيُضرب به المثل في الكثرة والازدحام فبعد تلك السنوات العجاف تطلع الناس إلى من ينجيهم جراء خلافة المتقدمين، فاتجهوا يتتابعون مزدحمين إلى الإمام لوعي ديني لا بعنوان الإمامة الإلهية بل أرادوا بيعته بعنوان الخليفة، والحقيقة أن الناظر للسياق يجد بأنّ هذه البيعة لأنفسهم وصلاح أمرهم(1)؛ لذلك قال علیه السلام:

«لَمْ تَکُنْ بَیْعَتُکُمْ إِیَّایَ فَلْتَه، وَلَیْسَ أَمْرِی وَأَمْرُکُمْ وَاحِداً، إِنِّی أُرِیدُکُمْ للهِ وَأَنْتُمْ تُرِیدُونَنِی لاِنْفُسِکُمْ»(2).

ويمكن أن يكون استعمال العطْف هنا لتضمنه معنى التمايل فالعْطف من الأجزاء التي تَظهر فيها هذه المعاني، وفي الشاهد الثاني كانت نسبته إلى حجاج بيت الله الحرام بقوله علیه السلام:

«ثُمَّ أَمَرَ آدَمَ وَوُلْدَهُ أَنْ یَثْنُوا أَعْطَافَهُمْ نَحْوَهُ».

وعِطْفا الرجل: جانباه عن يمين وشمال وهو الموضع الذي يعطفه الإنسان أي يلويه ويميله(3)، وقيل: إنّ معنى ثاني عِطْفه، لاوي عنقه(4)، ويمكن الإفادة من الرأيين مجتمعين لاستخراج الدلالة، ففي النص معنى يَثْنوُا أَعْطَافَهُمْ، أي مالوا عمّا كانوا عليه وتوجهوا إليه ليقصدوه ويحجوه(5)، وهذا ما يناسب مقام التكليف والتوجه المعنوي وشوق الخلق إليه؛ لأنّه قدوم إلى بيت الله طلباً لفضله وثوابه، ليتزودوا من العرفان لربهم(6).

ص: 206


1- ينظر: سيرة الإمام أمير المؤمنين علیه السلام في نهج البلاغة، هاشم الميلاني: 72 - 75
2- نهج البلاغة: 1 / 314، خ 136
3- ينظر: معالم التنزيل، أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي: 5 / 368
4- ينظر: جامع البيان في تأويل القرآن، محمد بن جرير بن يزيد أبو جعفر الطبري ت 310 ه: 18 / 573
5- ينظر: نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 13 / 159
6- ينظر: الحج في نهج البلاغة، فارس الحسون: 23 - 24

ويصاحب الفعل (طوى) لفظ الكشح للتعبير عن زوائد الإنسان، ففي شاهد اللفظ الأول عن الخلافة قال علیه السلام:

«فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْبا،ً وَطَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاَ».

ويتضح من المصاحبات اللغوية في الشاهد أنه أراد الدلالة المجازية؛ لأنَّه أراد بصورة طي الكشح إظهار دلالة تحمّل الجوع بالإعراض عمّا يسدُّ ذلك الجوعو أو يفضل عن سدّ الحاجة، ولكنه عَنى الخلافة هنا فشبهها بشيء مأكول، قال ابن أبي الحديد: «إنّ مَن أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل وشبع فقد ملأ كشحه، فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها ولم ألقمها»(1)، وقيل: طويت عنها كشحاً أي قطعتها وصرمتها؛ لأنَّ من كان إلى جانبك الأيمن ماثلاً فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه(2)، ويبدو أنَّ الرأي الثاني هو أقرب للمعنى؛ لأنَّ الكاشِح في النص الذي يَطْوِي عن الخلافة كَشْحَه، يقال: طويتُ كَشْحِي على الأمر، إذا أضمرتَه وستَرته، وهناك ثمة فرق بين (طويت عليها) و (طويت عنها) فحرف الجر (عن) قرينة ترجح كون الطوي لمعنى الإمالة؛ لذا يقال للذاهب كَشَحَ؛ لأنَّه يَمضِ مبدياً كَشْحَه إعراضاً عن المذهوب عنه(3)، وقد جسَّد الإمام معنى الإعراض عن الدنيا والخلافة في استعمال هذا الجزء من البدن؛ لما يلتصق به من معنى الزيادة في بدن الإنسان؛ لذلك وظّفه الإمام أيضاً في وصف النبي فقال:

«اَهْضَمُ اَهلِ الدّنیا کَشْحاً، وَاَخْمَصُهُم مِنَ الدّنیا بَطْناً».

وهذا النص يبين بعض صفات النبي علیه السلام المتعلقة بتعففه ولطافة جسمه الطاهر، وخلوه من الزوائد(4)، يقال «رجلٌ أَهْضَمُ الكَشْحَيِنْ، أي مُنْضَمُّهُما... ولُطْفُ

ص: 207


1- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 1 / 152
2- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 43
3- ينظر: مقاييس اللغة: 5 / 183
4- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 375

الكَشْحِ والهَضَمُ في الإنسان قلة انْجِفارِ الجَنْبَين ولَطافَتُهما، ورجل أَهْضَمُ بيِّن الهَضَم وامرأَة هَضْماءُ وهَضِيمٌ»(1)، والمراد من استعمال الكشح قلة الأكل؛ لأن الكشح مأخوذ فيه معنى الإمالة والإعراض.

وأمَّا الخاصرة، فقد جاء استعمالها في سياق حثّ أصحاب الإمام على الجهاد وترك الشهوات في قوله:

«فَشدُّوا عُقَدَ الْمَآزِرِ، وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِر، وَلاَ تَجْتَمِعُ عَزِیمَهٌ وَوَلِیمَهٌ».

وفي معنى (اطووا فُضول الخواصر» رأيان الأول: أي ما فضل من مآزركم يلتفّ على أقدامكم، فاطووه حتّى تَخِفّوا في العمل ولا يعوقكم شيء عن الإسراع في عملكم(2)، والثاني: كناية عن النهي عن كثرة الأكل؛ لأنّ كثير الأكل لا تطوى فضول خواصره لامتلائها، والبطنة تذهب الفطنة وتمنع عن الحملة وكانت العرب عند الحرب تمسك عن الأكل والشبع فكانوا يحمدون قلّة الأكل(3)، ويظهر أنَّ من ذهب إلى الرأي الأول قد فسّر القول بقرينة ما قبله على الرغم من استيفاء الغاية بشدّ المآزر، وأمَّا من ذهب إلى الثاني فقد فسّر القول بقرينة ما بعده، والباحث يميل إلى الرأي الثاني؛ لأنَّ المأزر ليس جزءاً من الخاصرة أو ما يفضل منها، فضلاً عن أن ذلك لا يناسب قرينة (لا تجتمع عزيمة ووليمة) في النص، وهي من متممات ما يمنع من إمضاء العزائم ونقص الهمم؛ إذ لا يجتمع طلب المعالي مع الركون إلى اللذائذ، فلا تقتنى الفضائل النفيسة إلاّ بالكفّ عن اللّذائذ النفسيّة ولا تنال درجات الكمال إلا بمُقاساة الشدائد وركوب الأهوال(4)، وقد استعمل علیه السلام جزء

ص: 208


1- لسان العرب: 12 / 613
2- ينظر: نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: 424، وشرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 11 / 143
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 16 / 192
4- ينظر: المصدر نفسه: 16 / 193

الخاصرة من الجسم للتعبير عن هذا المعنى؛ لتوسطها جذع الإنسان، فتكون محور دوران المقاتل باتجاهات مختلفة، ولو عبَّر بالبطن مثلاً أو غيرها لانصرف الذهن باتجاهها إلى غير ما أراد علیه السلام من معنى المرونة والحركة.

ومن تحليل نصوص ألفاظ المجموعة الدالة على جنب الإنسان وملحقاته يُلحظ شيوع لفظ الجنب كثيراً مقارنة بما لحق به، وقد ظهرت علاقة الترادف بين الجنب وبعض هذه الملحقات في التقديم اللغوي مثل الكشح، والخاصرة، والعِطف، ولكن الاستعمال بيّن علاقة العموم والخصوص بينها، فجاء الجنب بمعنى يدلّ على شق الإنسان، والكشح بمعنى يدلّ على جنب الإنسان من سرته إلى وسط الظهر، والخصر بمعنى يدلّ على وسط الإنسان... أمّا سياقات الألفاظ فكانت هي الأخرى مختلفة، فالجنب قد وظّف في سياقات النصح والتوبيخ تارة، وسياقات ظرفية مكانية تارة أخرى، واستعملت الخاصرة في سياقات القتال واستلزام الحركة، أمّا الكشح، فقد جاء في سياقات مثلت زوائد البدن ناسبت فيها الأصل اللغوي الذي اشتُق منه اللفظ، وظهر من استعمال الكشح عند الإمام اشتراكه مع الجنب بسمات رئيسة أكثر من بقية الأجزاء الأخُر.

ص: 209

ص: 210

المبحث السادس الألفاظ الدالة على الظهر وما يلحق به

تتضمَّن بعض الكلمات في النص معنى أساسياً وآخر سياقياً، وتنهل معناها من السياق الذي ترتبط به، فتقرير معنى لفظ ما في فلسفة اللغة يعني عادة مجموع الموضوعات التي يحيل عليها هذا اللفظ، أو حالة من حالاته، فعندما يجد اللغوي نفسه أمام كلمة (ظَهْر) مثلاً، فسوف يكون اهتمامه بكيفية معرفة إحالة هذه الكلمة على موضوع محدد، وهذا ما يمكن معرفته بالاستعمالات الخاصة باللسان، لكن هذا لا يمكن أن يتجاهل أنَّ كلمة الظهر تحيل على مصدر مولد مذكر بالمعنى البيولوجي الصرف للكلمة، فهي تحيل أيضاً على سلسلة أخرى من الكيانات التي توحي بها الكلمة، انطلاقاً من أنّ هذا الموضوع يعود إلى التداوليات بوصفه الاستعمال الفعلي للسان من لدن مستعمليه(1)، ولا يغفل أثر المجاز من ذلك في تجديد حياة الألفاظ؛ لأنَّه وسيلة اتساع للدلالة من حيث استعمال الألفاظ استعمالا جديداً على وفق علاقات استعارية، أو تشبيهية أو حالية أو سببية، ما يجعل المجاز ينزل منزلة الحقيقة أو دون هذه المنزلة(2)، وقد إنماز الظهر وبعض الألفاظ الملحقة به بتعبيرات مجازية وأنماط استعارية واسعة الانتشار في نهج البلاغة كسعته من جسم

ص: 211


1- ينظر: العلامة تحليل المفهوم وتاريخه: 139 - 140
2- ينظر: علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي: 627

الإنسان؛ فقد مثّل محوراً لمعانٍ متنوعة كمعنى الظهور، والوضوح، ونحو ذلك من المعاني التي يجليها البحث في النصوص الوارد فيها لفظ الظهر، والألفاظ التي تلحق به، وستكون دراسة الألفاظ في هذا المبحث على مجموعتين، الأولى تتضمَّن الألفاظ: (ظهر، صلب، فقرة)، والمجموعة الأخرى تتضمن الألفاظ: (عاتق، ثبج، كاهل، منكب، كتف، متن، حدبة)، غير أنَّ بعض ألفاظ هذه المجموعة الثانية انفردتْ باستعمالها لغير الإنسان في نهج البلاغة فضلاً عن قلة شواهدها(1)، ومنها (الثبج(2)، الكاهل(3)، الكتف(4)، الحدبة(5))؛ لذلك سوف نُعرض عن دراستها.

المجموعة الأولى:

تتضمن ألفاظ جزء الظهر ومكوناته (ظهر، صلب، فقرة)، ومن شواهدها:

- الظَّهر: جاء استعمال هذا اللفظ للإنسان ست عشرة مرة(6)، منها قول الإمام علیه السلام في ذم البصرة وأهلها بعد واقعة الجمل:

«کُنْتُمْ جُنْدَ الْمَرْأَهِ، وَأَتْبَاعَ الْبَهِیمَهِ، رَغَا فَأَجَبْتُمْ، وَعُقِرَ فَهَرَبْتُمْ... الْمُقِیمُ بَیْنَ

ص: 212


1- ينظر: نهج البلاغة: 19 / 1، خ 1، 1 / 196، خ 90، 1 / 398، خ 167
2- جاء في خلق الإنسان أن الثبج هو من ملحقات الظهر، قيل: «أنه موصِل الظهر في العنق»، (خلق الإنسان: ثابت، 235، وينظر: خلق الإنسان في اللغة: 46، والمخصص: 2 / 15)
3- الكاهل: وهو من (كهل) وله «أصلٌ يدلُّ على قُوَّة في الشَّیء أو اجتماع جِبِلَّة. من ذلك الكَاهل: ما بين الكتفِين: سمِّي بذلك لقُوّته.». (مقاييس اللغة: 5 / 144. وينظر: العين، 3 / 378)
4- الكتف: وهي العظم بما فيه، وفي ظهر الكتف لوحها، وهي مطبقة على الظهر. (ينظر: خلق الإنسان: ثابت 211 - 213)
5- الحدبة: وهي من (حدب) وله «أصلٌ واحد، وهو ارتفاع الشيء... والحَدَب في الظَّهر؛ يقال حَدِب واحدَوْدَب...». (مقاييس اللغة: 2 / 36)
6- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 183، خ 89، 1 / 251، خ 108، 1 / 28، خ 2، 1 / 308، خ 133، 2 / 43، خ 217، 2 / 58، خ 225، 2 / 100، خ 238، 2 / 145، ك 12، 2 / 156، ك 20، 2 / 188، ك 31، 2 / 210، ك 36، 2 / 313، ح 31، 2 / 333، ح 116، 2 / 400، ح 424

أَظْهُرِکُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ، وَالشّاخِصُ عَنْکُمْ مُتَدارَک بِرَحْمَهٍ مِنْ رَبِّهِ»(1).

وقوله علیه السلام في المتخاذلين عن نصرة الحق:

«أَیُّهَا اَلنَّاسُ... لَیُضَعَّفَنَّ لَکُمُ اَلتِّیهُ مِنْ بَعْدِی أَضْعَافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ اَلْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ، وَ قَطَعْتُمُ اَلْأَدْنَی وَ وَصَلْتُمُ اَلْأَبْعَدَ»(2).

- الصُّلْب: استعمله الإمام علیه السلام ست مرات(3)، منها قوله في الأنبياء علیهم السلام:

«فَاسْتَوْدَعَهُمْ فِی أَفْضَلِ مُسْتَوْدَعٍ، وَ أَقَرَّهُمْ فِی خَیْرِ مُسْتَقَرٍّ، تَنَاسَخَتْهُمْ کَرَائِمُ اَلْأَصْلاَبِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ اَلْأَرْحَامِ، کُلَّمَا مَضَی مِنْهُمْ سَلَفٌ، قَامَ مِنْهُمْ بِدِینِ اَللَّهِ خَلَفٌ»(4)، وقوله علیه السلام يصف عظمة الخالق:

«عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ، وَ نَجوَي المُتَخَافِتِينَ... وَ مَحَطّ الأَمشَاجِ مِن مَسَارِبِ الأَصلَابِ»(5).

- الفِقْرَة: استعمل الإمام علیه السلام الفقرة مرة واحدة في سياق ذكر الأمم الماضية:

«وَاجتَنِبوا کُلَّ أمرٍ کَسَرَ فِقرَتَهُم، وَأوهَنَ مُنَّتَهُم مِن تَضاغُنِ القُلوبِ، وَتَشاحُنِ الصُّدورِ، وَتَدابُرِ النُّفوسِ، وَتَخاذُلِ الأیدی...»(6).

أمَّا المعنى اللغوي للألفاظ، فيمكن توضيحه بالآتي:

الظهر: وهو من الجذر (ظ ه ر) ولَه «أصلٌ صحيحٌ واحدٌ يدلُّ على قوّةٍ وبروز...

ص: 213


1- المصدر نفسه: 1 / 48، خ 13
2- المصدر نفسه: 1 / 499، خ 167
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 47، خ 12، 1 / 181، خ 88، 1 / 124، خ 59، 1 / 148، 108
4- المصدر نفسه: 1 / 212، خ 93
5- المصدر نفسه: 1 / 204، خ 90
6- المصدر نفسه: 2 / 105، خ 238

والأصل فيه كلّه ظهر الإنسان، وهو خلافُ بطنه، وهو يجمع البُروزَ والقوّة»(1)، ويحدد الظَّهْر «من لَدُنْ مُؤَخَّر الكاهل إلى أدْنَى العَجُز عند آخِره»(2)، وهو «حَبْل المَتْن من عَصَب أو عَقَب أو لحم»(3)، والظَّهْر مذكر لاغير(4)، والجمع أَظْهُرٌ وظُهور وظُهْرانٌ(5).

وفي الظهر الصُّلب، وهو «هو عظم الفقار المتصل في وسط الظهر»(6)، وأصله من الجذر (ص ل ب) وله «أصلان: أحدهما يدلُّ على الشدّة والقوّة، والآخر جنس من الوَدَك، فالأوَّل الصُّلب، وهو الشيء الشَّديد، وكذلك سُمِّيَ الظَّهر صُلْباً لقوّته... وأما الأصل الآخر فالصَّليب، وهو وَدَك العَظْم. يقال اصطَلَبَ الرجُل، إذِا جَمَع العظامَ فاستخرج وَدَكها ليأْتدِم به»(7)، أمَّا الصُّلب والاصطلاب فهو استخراج الودك من العظم، والصَّلب هو تعليق الإنسان للقتل، وقيل هو من شدّ صلبه على خشب، وقيل إنما هو من صلب الودك(8)، وسمِّيَ المصلوبُ بذلك كأنَّ السِّمَن يجري على وجهه، ثمَّ سمِّي الشيء الذي يُصلَب عليه صَليباً على المجاورة(9)، ومن الصور القرآنية لذلك قوله تعالى:

«يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ

ص: 214


1- مقاييس اللغة: 3 / 471
2- المخصص: 2 / 15
3- المصدر نفسه: 2 / 15
4- ينظر: المعجم المبتكر في بيان ما يتعلق بالمذكر والمؤنث: 224
5- ينظر: لسان العرب: 4 / 520
6- العين: 7 / 127
7- مقاييس اللغة: 3 / 301
8- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 284
9- ينظر: مقاييس اللغة: 3 / 301

فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)»(1).

ومن كتب خلق الإنسان نذكر قول الأصمعي: «وفي الصلب النخاع وهو الذي يأخذ من الهامة ثم ينقاد في فقار الصلب حتى يبلغ عجب الذنب»(2)، وللصلب الأثر الرئيس في قوام الإنسان؛ لما يتسم به من القوة التي عرف بها.

أمَّا الفِقْرَةُ فهي الوحدة الأساس في بناء العمود الفقري، وهي من الجذر (ف ق ر)، و «يدلُّ على انفراجٍ في شيء من عضوٍ أو غير ذلك. من ذلك: الفَقَار للظَّهر، الواحدة فَقَارةٌ، سمِّيت للحُزُوز والفُصول التي بينها»(3)، قال أَبو زيد (ت 215 ه)(4): «الفِقَر هي المفاصل أيضاً في الصُلْب كل مَفْصِل فقِارة ومحالة والفقّار والسناَسِنُ رُؤوس الفِقَر والواحدة: سِنْسِنَة وفَقارة»(5)، وفي خلق الإنسان قال الأصمعي: «وفي الصّلب الفقار والواحدة فقارة وفقرة وهي ما بين كل مفصلين، والدأي فقار الظهر والعنق والواحدة دأية، وهي الطبق والواحدة طبقة وكل فقرة طبقة»(6)، والفِقْرَةُ والفَقَارَةُ لُغَتَانِ، فقد جاء في غريب الحديث:

«والفَقار خَرَز الظَهر واحدِتها فَقَارة وهي الفِقْر أيضاً والواحدة فِقْرة»(7).

ص: 215


1- يوسف:. 41
2- خلق الإنسان، الأصمعي، 1 / 211
3- مقاييس اللغة: 4 / 443
4- له كتاب في خلق الإنسان مفقود، وهو من الثقاة نقل عنه الكثير من اللغويين، واسمه سعيد بن أوس، كنيته المعروف بها أبو زيد الأنصاري الخزرجي، وهو إمام نحوي صاحب تصانيف أدبية ولغوية، (ينظر: بغية الوعاة: 1 / 582، ومعجم المتفق والمفترق في ألقاب أئمة اللغة والنحو وكناهم وأنسابهم، محمد كشاش: 97)
5- غريب الحديث، ابن قتيبة: 2 / 277
6- خلق الإنسان، الأصمعي: 210
7- غريب الحديث، ابن قتيبة: 2 / 277

ممَّا سبق تتضح العلاقات بصورة جلية بين الظهر وبقية الألفاظ بوصفه الوحدة الجامعة بعلاقة الاحتواء؛ لأنَّ الفقرة كما أوضحنا هي المكوِّن الأساس للصلب الذي ينتمي إلى الظهر الذي يتكون من العصب والعظم واللحم، وهذا أحد الفروق الأساسية بين الظهر والصلب، فضلاً عن ذلك فإن الظهر يتحدد من الأعلى بأصل العنق، بامتداده إلى الجمجمة في الصلب، وإذا أردنا مقاربة أصل الفقرة مع أصل الصلب والظهر فإنَّها تكون من باب وجود الفواصل فيها؛ لأنَّ هذه الفواصل من شأنها أن تعمل على تقوية الصلب بتقليل الثقل على أجسام الفقرات كما تكسبه قابلية الانثناء والحركة.

أمّا عن استعمال الألفاظ في نهج البلاغة، فالظهر قد إنماز باستيفاء صيغ الجمع الثلاث له عند الإمام، فمن (ظُهْران) ما جاء في قوله علیه السلام في صفة الزّهاد:

«کَانُوا قَوْماً مِنْ أَهْلِ الدُّنْیَا وَلَیْسُوا مِنْ أَهْلِهَا... تَقَلَّبُ أَبْدَانُهُمْ بَیْنَ ظَهْرَانَیْ أَهْلِ الآخِرَهِ»(1).

ومن (أَظْهُر) قول الإمام علیه السلام في الشاهد الأول للفظ الظهر في سياق ذم البصرة وأهلها بعد واقعة الجمل؛ إذ قال:

«المُقِيمُ بَينَ أَظهُرِكُم مُرتَهَنٌ بِذَنبِهِ، وَ الشّاخِصُ عَنكُم مُتَدَارَكٌ بِرَحمَةٍ مِن رَبّه».

ودلالة الاستعمال هو بادٍ وظاهر في وسطهم؛ بدليل ما ورد في لسان العرب أنّ: «معناه أَن ظَهْراً منهم قدّامه وظهراً وراءه فهو مَكْنوُف من جانبيه ومن جوانبه إِذا قيل بين أَظْهُرِهم ثم كثر حتى استعمل في الإِقامة بين القوم مطلقاً... وكل ما كان في وسط شيء ومُعْظَمِه فهو بين ظَهْرَيْه وظَهْرانَيْه»(2)، ويمكن إلتماس الفارق

ص: 216


1- نهج البلاغة: 2 / 58، خ 225
2- لسان العرب: 4 / 523

الدلالي بين صيغتا الجمع والصيغة الأخرى للجمع ظُهور بأن ظَهْرَان وأظَهْر قد استعملا في سياقات عبر في الإمام عن الإنسان كاملاً بهذه الألفاظ أمّا صيغة ظُهور فقد استعملت في سياقات متنوعة فكانت الأكثر حظاً في الاستعمال، ومن ذلك قول الإمام علیه السلام في الشاهد الثاني:

«لَیُضَعَّفَنَّ لَکُمُ اَلتِّیهُ مِنْ بَعْدِی أَضْعَافاً بِمَا خَلَّفْتُمُ اَلْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِکُمْ».

وعبارة: «خَلَّفْتُمُ الْحَقَّ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ»، أي: أعرضتم عنه، فكأنَّهم استهانوا به وخلفوه وراء ظهورهم ولم يلتفتوا إليه(1)، ومنه قوله تعالى:

«وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِیثَقَ الَّذِینَ أُوتُواْ الْکِتَبَ لَتُبَیِّنُنَّهُو لِلنَّاسِ وَلاَ تَکْتُمُونَهُو فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْاْ بِهِی ثَمَنًا قَلِیلاً فَبِئْسَ مَا یَشْتَرُونَ»(2).

والظِّهريُّ: كلُّ شيءٍ تجعله بظَهْرٍ، أي: تنساه، كأَنَّكَ قد جعلتَه خلف ظهرِكَ، إعِراضاً عنه وتركاً له، إذا لم تُقْبل عليه(3)، ويمكن أن يكون مسوغ استعمال الظهر هنا لأنهم سوف يحملون الذنوب لتركهم الحق، والحمل إنما يكون على الظهر فكان ذلك من مصاديق استعماله.

وقد استعمل الإمام الظهر ست عشرة مرة للإنسان من أصل ست وعشرين مرة ذكر فيها اللفظ في النهج، أمَّا الموارد العشرة الأخرى، فكانت لغيره(4)، وفيما خُصّ به الإنسان من استعمال، فقد تواترت الدلالات على ثقل الظهر تارة،(5) وخفته أخرى(6)، قال ابن سيده: «رجل خفيف الظَّهْرِ: قليل العيال، وثقيل الظَّهرِ:

ص: 217


1- ينظر: المحكم والمحيط الأعظم: 4 / 285
2- آل عمران: من الآية:. 187
3- ينظر: مقاييس اللغة: 3 / 471
4- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 138، خ 89، 2 / 100، خ 238، 2 / 333، ح 116
5- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 251، خ 108، 2 / 43، خ 108، 2 / 156، ك 20
6- ينظر: المصدر نفسه: 2 / 188، ك 31، 2 / 400، ح 424

كثير العيال، وكلاهما على المثل»(1)، وهذا التضاد في توظيف المفردة يعدّ من أروع وسائل بيان الدلالة وجلاء المعنى، الذي يرفد اللغة بتعبيرات تجعل من المفردة مطواعة بيد صاحبها، ومن أمثلة ذلك التوظيف أيضاً ما جاء من نصوص تشير إلى قوة الظهر(2)، ولينه(3).

وكان خير ما يُستشهد به لاستعمال لفظ الصلب حديث الإمام عن الأنبياء علیهم السلام، إذ يقول:

«تَنَاسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأصْلاَبِ إِلَی مُطَهَّرَاتِ الأرْحَامِ».

وتَناَسَخَتْهُمْ كَرَائِمُ الأصْلاَبِ أي: تناقلتهم والتناسخ في الميراث أن يموت ورثة بعد ورثة وأصل الميراث قائم لم يقسم كأنَّ ذلك تناقل من واحد إلى آخر ومنه نسخت الكتاب وانتسخته واستنسخته أي نقلت ما فيه، ويروى تناسلتهم(4)، وما يلحظ في النص أنَّ الإمام لم يجعل الأصلاب والأرحام مطلقة، بل جاءت مضافة وما يتلاءم مع سلسلة الهداية الربانية للبشرية، وهي إضافة الكرامة للصلب والطهارة للرحم وهما معنويتان في كليهما؛ لدلالتهما على التوحيد والصلاح من دون الضلالة والانحراف، وهذا من شأنه أن يستدعي صورة تتكون في ذهن المتلقي لتجسّد المعرفة المنطقية(5)، وقد قيل في تفسير قوله تعالى:

«وَتَقَلُّبَكَ فِی ٱلسَّٰجِدِينَ»(6).

معناه وتقلبك في الساجدين الموحدين من نبي لنبي حتى أخرجك نبيّاً من

ص: 218


1- المحكم والمحيط الأعظم: 4 / 285
2- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 313، ح 31
3- ينظر: المصدر نفسه: 1 / 28، خ 2، 2 / 210، ك 36
4- ينظر: نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 7 / 63 - 64
5- ينظر: علم الدلالة: بيير جيرو، 58
6- الشعراء:. 219

صلب أبيه عن نكاح غير سفاح من لدن آدم(1)، والتفسير يؤيد المعنى في قول الإمام علیه السلام؛ لأن الله تعالى قد وعد آباءَه الموحدين بوراثة الأرض في الكتب السماوية المتقدمة(2)، وقد وصفهم الإمام بكرائم الأصلاب في النص؛ إشارةً إلى التوحيد وتسلسل الطهارة من نبيِّ لآخر.

أمَّا الشاهد الثاني للفظ الصلب فقد جاء تقريراً لعظمة الخالق وهو قول الإمام: علیه السلام «عَالِمُ السّرّ مِن ضَمَائِرِ المُضمِرِينَ... وَمَحَطِّ الْأَمْشَاجِ مِنْ مَسَارِبِ الْأَصْلاَب».

ففيه إشارة إلى تولد ماء الرجل يذكر علیه السلام مَسَارب الأصلاب وهي جمع مَسْرَب، والتي يسيل المنيّ فيها عند نزوله من الصلب أو عند التكوّن(3)، ويأتي استعمال اللفظ في سياق سرد ما يُخفى على الإنسان إدراكه لإثبات علم الله بأدق الأشياء، أمّا في النصوص الأخرى فإنَّ أمير المؤمنين علیه السلام لم يخرج استعماله للصلْب عن معنى التناسل للمرات الست التي ورد اللفظ فيها، بغض النظر عن الظروف الزمانية والمكانية التي تكتنف التعبير في بعض النصوص، ويلاحظ لزوم صيغة الجمع من دون المفرد في استعمال هذا اللفظ(4).

أمَّا استعمال لفظ الفقرة عند الإمام فقد ظهر فيه ترجيحه للغة الفقرة على فقارة في قوله علیه السلام عن الأمم الماضية:

«وَاجتَنِبوا کُلَّ أمرٍ کَسَرَ فِقرَتَهُم».

ص: 219


1- ينظر: الميزان: 15 / 240
2- ينظر: وراثة الأرض في القرآن الكريم والكتب السماوية، نور مهدي الساعدي، (رسالة ماجستير): 94
3- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 229
4- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 47، خ 12، 1 / 181، خ 88

وكسر فقرتهم: كسر ظهورهم، ذكر الجزء وأراد الكل للمبالغة في الدلالة؛ لأنَّ الفقار في ظهر الإنسان يقوم عليها كيانه فإذا كسرت عجز عن الوقوف والعمل(1)، يقال: فقْرَتْه الفاقرة، وهي الدَّاهية، كأنها كاسرةٌ لفَقار الظهر(2)، أي أصابته مصيبة شديدة قد كسرت فقرته(3)، وهو تعبير مجازي ناتج عمّا فصَّله الإمام بعد هذه العبارة في السياق من أمور معنوية لغرض الاعتبار والوعظ، بدليل أنَّه يقال للفقير: مكسور فَقَارِ الظَّهر كأنَّه مكسورُ فَقَار الظَّهر، من ذِلَّتِهِ ومَسْكَنتِه(4)، ويعبّر عن ذلك بالفقرة لا بالظهر؛ لأنَّها ينظر إليها على أنَّها عظام ضعيفة؛ لوجود انفراج فيها، أمَّا قوتها فتكمن في اجتماعها لا تفرقها.

ومن دراسة النصوص الوارد فيها استعمال الظهر، يتضح أنّ هذا الجزء قد إنماز بتعبيرات مجازية مشهورة الاستعمال حتى في وقتنا الحاضر، ويرجِّح الباحث أنَّ الظهر من أهم ألفاظ أجزاء الإنسان التي استقى الإنسان العربي المعاني من؛ لأنّه من مصادر قوة الإنسان وما يفخر بمدلولاته على أرومته، أما سياقياً فقد جاء الصلب في سياق التذكير بنسب الإنسان والفقرة في سياق مثلت فيه نواة بناء عظام الظهر؛ فبدت علاقة العموم والخصوص بين الظهر وهذه الألفاظ واضحة المعالم.

المجموعة الثانية:

تتضمن ألفاظ مكملات الظهر أو ما يلحق به، وهي (العاتق، المنكب، المتن)، ومن شواهدها:

- العاتق: استعمل مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام للخوارج:

ص: 220


1- ينظر: دراسات في نهج البلاغة: 118
2- ينظر: مقاييس اللغة: 4 / 355
3- ينظر: نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 13 / 168
4- ينظر: مقاييس اللغة: 4 / 355، والمخصص: 2 / 14

«... فَلِمَ تُضَلّلُونَ عَامّةَ أُمّةِ مُحَمّدٍ صلی الله علیه بضِلَاَليِ، وَ تَأخُذُونَهُم بخِطَئَيِ، وَ تُكَفّرُونَهُم بذِنُوُبيِ! سُيُوفُكُم عَلَي عَوَاتِقِكُم تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البُرءِ وَ السّقمِ، وَ تَخلِطُونَ مَن أَذنَبَ بِمَن لَم يُذنِب»(1).

- المَنْكِبُ: جاء المنكب لإنسان في أربعة شواهد(2)، منها قول الإمام علیه السلام في واقعة الشجرة:

«وألْقَتْ بِغُصنَها الأعْلَی عَلَی رسول الله صلی الله علیه و آله وَبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلَی مَنْکبِی، وَکنْتُ عَنْ یمینِه»(3).

وقوله علیه السلام يصف بيت الله الحرام:

«... فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ، وَ غَایَةً لِمُلْقَی رِحَالِهِمْ،... حَتَّی یَهُزُّوا مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلاً یُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ، وَ یَرْمُلُونَ عَلَی أَقْدَامِهِمْ شُعْثاً غُبْراً»(4).

- المتن: استعمل مرة واحدة للإنسان في قول الإمام علیه السلام في المؤمنين:

«حَرَسَ اَللَّهُ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِینَ بِالصَّلَوَاتِ وَ اَلزَّکَوَاتِ، وَ مُجَاهَدَهِ اَلصِّیَامِ فِی اَلْأَیَّامِ اَلْمَفْرُوضَاتِ... لِمَا فِی ذَلِکَ مِنْ... اِلْتِصَاقِ کَرَائِمِ اَلْجَوَارِحِ بِالْأَرْضِ تَصَاغُراً، وَ لُحُوقِ اَلْبُطُونِ بِالْمُتُونِ مِنَ اَلصِّیَامِ تَذَلُّلا»(5).

وقبل دراسة هذه الشواهد لا بد من المرور على المعنى اللغوي للألفاظ موضع البحث، فالعاتق من الجذر (ع ت ق) وله أصل «يجمع معنى الكرم خِلْقةً وخُلُقاً، ومعنى القِدَم... ومما شذَّ عن هذا الأصل: عاتقا الإنسان، وهما ما بين المَنكِبَين

ص: 221


1- نهج البلاغة: 1 / 295، خ 127
2- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 307، خ 132، 2 / 276، ك 61
3- المصدر نفسه: 2 / 115، خ 238
4- المصدر نفسه: 2 / 100، خ 238
5- المصدر نفسه: 2 / 103، خ 238

والعُنق، والجمع العواتق، ويقال العاتق يذكَّر ويؤنَّث»(1)، وقال أبو حاتم: الجمع عُتْق وعواتقِ(2)، وفي خلق الإنسان قال الأصمعي: «هو ما بين المنكب وصفح العنق من موضع الرداء من الجانبين جميعاً يقال له العاتق»(3)، وقال ثابت: «...

ومن المنكبين إلى أصل العنق العاتقان وحبل العاتق العصبة الممتدة من العنق إلى المنكب يقال ضربه على حبل عاتقه إذ ضربه على حبل ذلك الموضع»(4)، والباحث يميل إلى هذا التحديد لمقاربته الأصل، وهو أول أجزاء الظهر تقدّماً على غيره ويتلوه بالذكر في نهج البلاغة المَنْکِبُ، وهو من الجذر (ن ك ب) وله أصلٌ «يدلُّ على مَيْل أو مَيَلٍ في الشَّیء... والأنكَب: الذي كأنَّه يمشي في شِقّ، والمَنْکِبُ: مُجتَمَع ما بين العَضُد والكَتفِ، وهما مَنكِبان، لأنَّهما في الجانبين»(5)، والمنكب مما يتقوى به الإنسان؛ لأنَّه مجمع رأس العضد والكتف وطرف الترقوة، والحيد المشرف من المنكب يقال له: المشاشة، وكل عظم لا مخّ فيه فهو مشاش، أمَّا باطن المنكب، فيقال له الإبط(6).

أمّا المتن فهو «مَتنتانِ، لَحْمتانِ معصوبتانِ بينهما صُلْبُ الظَّهْر مَعْلوتانِ بعَقَبٍ والجميع المُتونُ»(7)، و «المَتنُ والمَتْنةُ لغتان، يُذكَّر ويُؤنَّث»(8)، وهو من الجذر (م ت ن) وله «أصلٌ صحيح واحد يدلُّ على صلابةٍ في الشيء مع امتدادٍ وطول. منه

ص: 222


1- مقاييس اللغة: 4 / 219 - 222
2- ينظر: المخصص: 1 / 159
3- خلق الإنسان، الأصمعي: 204
4- خلق الإنسان، ثابت: 211
5- مقاييس اللغة: 5 / 474
6- ينظر: خلق الإنسان: الأصمعي: 204، وخلق الإنسان، ثابت: 214
7- العين: 8 / 121
8- المصدر نفسه: 8 / 121

المَتْن: ما صَلُبَ من الأرض وارتفعَ وانقاد، والجمع مِتانٌ، ورأيته بذلك المَتْن، ومنه شبِّه المتنانِ من الإنسان: مُكتنفِا الصُّلْب من عصَبٍ ولحم»(1)، وفي خلق الإنسان قال ثابت: بأنَّ المتنين يكتنفان الصلب من الكاهل إلى الورك، والسلائل، لحم المتن والواحدة سليلة(2). ويظهر في هذه الألفاظ وضوح المعنى اللغوي من دون إلتباس، وفضلاً عن ذلك فقد تميزت بثنائية الخلق في ظهر الإنسان.

وفي الاستعمال فشاهد لفظ العاتق، قد ورد في كلام له علیه السلام للخوارج:

«سُيُوفُكُمْ عَلَی عَوَاتِقِكُمْ تَضَعُونَهَا مَوَاضِعَ البَراءة وَالسُّقْمِ».

وهذا الكلام ذو مضمون اجتماعي صيغ في أسلوب لغويّ يرمي إلى صناعة أفعال ومواقف اجتماعيّة بالكلمات، والتأثير في المخاطَب بحمله على فعلٍ أو تركه، أو تقرير حكم من الأحكام، ودلالة وضع السيف على العاتق في الأصل هي الاستعداد والمُواظبة على دوام القتال(3)، لكنَّه علیه السلام هنا قصد التوبيخ منها؛ إذ تحوّل المعنى في بيئة النص بسبب اختلاف ظروف الخطاب إلى كناية عن ترك الحرب، وذلك لتقديمهم السيوف لِضرب رقاب الناس ولسَفك دمائهم، ونذكر للمعنى الأول ما يماثله من حديث النبي إذ قال: «استقيموا لقريش ما استقاموا لكم فإن لم يفعلوا فضعوا سيوفكم على عواتقكم فأبيدوا خضراءهم»(4).

وجاء استعمال جزء المنكب فيما يخص الإنسان بأربعة نصوص(5)، ومنها قوله علیه السلام عن حادثة الشجرة:

ص: 223


1- مقاييس اللغة: 5 / 294
2- ينظر: المخصص: 2 / 17
3- ينظر: لسان العرب: 12 / 496
4- السنن الكبرى: حديث رقم (17257): 8 / 192، وينظر: مسند أحمد بن حنبل حديث رقم (10337): 2 / 448، وغريب الحديث للخطابي: 1 / 361
5- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 307، خ 132، 2 / 276، ك 61، 2 / 115، خ 238، 2 / 100، خ 238

«وألْقَتْ بِغُصنَها الأعْلَی عَلَی رسول الله صلی الله علیه و آله، وَبِبَعْضِ أغْصَانِهَا عَلَی مَنْکبِی، وَکنْتُ عَنْ یمینِه...».

وقد وقعت هذه الحادثة عند سؤال الملأ من قريش الرسولَ أن يدعو شجرة حتى تنقلع بعروقها وتقف بين يديه كي يؤمنوا، فدلالة المنكب المنسوب إلى الإمام هي حقيقية مكانية من جسمه الشريف لا غير، لأنَّ المنكب هو مركز لميلان جذع الإنسان وتغيير صورته العرضية، وربَّما أُريد منها الدلالة العاطفية؛ لبيان قربه من الرسول، وإثبات حضوره ويقال إنّ ذلك كان شاهد إمامته، كما كان شاهداً لنبوّة نبياً كما جاء في أحاديث نبوية كثيرة(1)، وتظهر دلالة أخرى لمنكب الإنسان في حركته بقول أمير المؤمنين علیه السلام عن بيت الله الحرام:

«فَصَارَ مَثَابَةً لِمُنْتَجَعِ أَسْفَارِهِمْ... حَتَّی یَهُزُّوا مَنَاکِبَهُمْ ذُلُلاً یُهَلِّلُونَ لِلَّهِ حَوْلَهُ».

والهَزُّ في الأصَل الحركة واهْتَزَّ إذِا تحرك(2)، فاستعمله علیه السلام على معنى الغاية لقوله تهوى؛ لأنَّ من عادة المستبشر الراضي أن يهزَّ منكبه، والمعنى تسرع إليه قلوب الحاج من المفاوز والمهاوي إلى أن يحرّكوا المناكب مطيعين منقادين(3)، يحرّكهم الشوق نحوه إلى أن يسافروا إليه فكنىّ عن السفر بهز المناكب، و (ذللاً) حال إمَّا منهم وإمَّا من المناكب(4)، والسياق بعد ذلك يبيّن حال الطواف، وبهذه الدلالة للمنكب لا يخرج الاستعمال عن باب الإمالة في الأصل وإن كانت هذه الإمالة معنوية، لكنهَّا جاءت في تسلسل زمني لأحداث متعلِّقة بتهيئة الإنسان لقيمة دينية عليا وهي حج

ص: 224


1- مسند أحمد بن حنبل حديث رقم (1608): 1 / 185
2- ينظر: لسان العرب: 5 / 423
3- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 342
4- ينظر: نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 13 / 160

بيت الله.

ويظهر في النصين استعمال المنكب لدلالة عاطفية عند الإمام؛ لتضمّنه معنى الإمالة وتوظيفه لحركات معينة، وقد نالت هذه الحركات نصيباً من التطور الدلالي، فلحركة المنكب تعبيرات نستعملها نحن في حياتنا اليومية أيضاً لها دلالات تختلف باختلاف المستوى التداولي، فهز المنكب مثلاً قد يعني الرفض في نسج كلامي معين، والفرح فالراقص يهزّ منكبه.

ووظّف الإمام لفظ المتن لأربع مرات في نهج البلاغة(1)، غير أنَّه قصد الإنسان مرة واحدة فيها، وهي قوله علیه السلام في وصف مظاهر الصوم عند عباد الله المؤمنين:

«الْتِصَاقِ كَرَائِمِ الْجَوَارِحِ باِلأرْضِ تَصَاغُراً، وَلُحُوقِ الْبُطُونِ باِلمُتونِ مِنَ الصِّيَامِ تَذَلُّلاً».

ولحوق البطون بالمتون من الصّيام تذلّلاً، تعبير مجازي عن جوع في الصوم(2)، ويقتضي زوال الأشر والبطر ويوجب مذلة النفس وقمعها عن الانهماك في الشهوات(3)، ولعلَّ هذا التوجيه جاء لتحقيق غرض المتكلم من استعمال المتن بدلاً عن الظهر أو غيره، وهو اكتنافه باللحم الذي يراد إذابته بالصوم مع امتداده وبروزه على وجه الظهر.

ويلحظ أنّ لألفاظ هذه المجموعة ارتباطاً واضحاً بالوحدة الدلالية الجامعة (الظهر)، وقد تجلى ذلك في التقديم اللغوي، فمثلت بعض الأجزاء للظهر دفة

ص: 225


1- من ذلك قوله علیه السلام في خلق الأرض: «فَأَنْهَدَ جِبَالَهَا عَنْ سُهُولِهَا، وَ أَسَاخَ قَوَاعِدَهَا فِی مُتُونِ أَقْطَارِهَا، وَ مَوَاضِعِ أَنْصَابِهَا، فَأَشْهَقَ قِلاَلَهَا، وَ أَطَالَ أَنْشَازَهَا، وَ جَعَلَهَا لِلْأَرْضِ عِمَاداً، وَ أَرَزَّهَا فِیهَا أَوْتَاداً» (نهج البلاغة: 2 / 15، خ 204)
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 364
3- ينظر: نهج البلاغة، شرح ابن أبي الحديد: 13 / 165

القيادة للمشاعر والعواطف كالمنكب، وارتبطت طاعة الإنسان في استعمال الإمام بمتنه، وارتبطت قوته بعاتقه؛ إذ جاء في سياق القتال والحرب.

ص: 226

الفصل الثالث الألفاظ الدالة على الأطراف وما يلحق به

اشارة

المبحث الأول الألفاظ الدالة على اليد وما يلحق بها المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الرِّجل وما يلحق بها

ص: 227

ص: 228

المبحث الأول الألفاظ الدالة على اليد وما يلحق بها

تعدُّ الأطراف من أهم أدوات جسم الإنسان، إلّا أنّها لا يمكن تحديدها بعضو معين من أعضائه أو توابع ذلك العضو؛ لذا من الأفضل دراستها في هذا الموضِع من البحث بمعزل عن الأعضاء وأجزائها، ولا يخفى أنَّ النظر إلى ألفاظ أجزاء الجسم في مواقع تراكيبها وسياقها، يجلي لنا الكثير من المعاني وضلالها؛ إذ إنَّ ما يحدده السياق ويتطلبه لا يصلح غيره في موضعه، وهي بعد ذلك محاولة تفسير كل فكرة بتتبع واقتفاء أثر نتائجها العملية(1)، فالمتكلمون لا يتقيدون بحرفية اللغة في كثير من الأحيان وهو ما يجعل المخاطب في حاجه إلى عوامل عديدة أخرى تساعده على فهم حديث المتكلم منها السياق الثقافي والاجتماعي وجملة الاستنتاجات التي يهتدي إليها منطقياً أو عرفياً عن طريق القرائن، ومن هنا ينبغي التفريق بين المعنى اللغوي والمعنى المقصود وهو المفهوم عن طريق اللغة وحدها وبين المعنى المقصود الذي يفهم من القولة المستخدمة في ظل عناصر المساق(2)، والذي يعتبر بمثابة حل لمعالجة تعددية المعاني؛ لذلك ذُكر بأنَّ دلالة الكلمة تُعطى من السياق وتكون متعلقة به(3)، وبناءً على ذلك سنتتبع هنا لفظ الأطراف بصورة عامة، ومن ثمّ

ص: 229


1- ينظر: البرجماتية، وليام جيمس: 64
2- ينظر: المعنى وظلال المعنى، محمد محمد يونس: 141
3- ينظر: المعنى في علم المصطلحات، ترجمة: ريتا خاطر: 110 - 112

التخصيص بذكر ألفاظها، فالأطراف جاء استعمالها للإنسان في نهج البلاغة في خمسة عشر نصّاً(1)، ومنها قوله علیه السلام يصف المتقين:

«فَهُم حَانُونَ عَلَي أَوسَاطِهِم، مُفتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَ أَكُفّهِم، وَ أَطرَافِ أَقدَامِهِم، يَطلُبُونَ إِلَي اللّهِ فِي فَكَاكِ رِقَابِهِم»(2).

وقوله علیه السلام في خطبة قبل مقتله:

«... جُثَّةً سَاکِنَةً بَعْدَ حَرَاکٍ، وَ صَامِتَةً بَعْدَ نُطْقٍ لِیَعِظَکُمْ هُدُوِّی، وَ خُفُوتُ إِطْرَاقِی، وَ سُکُونُ أَطْرَافِی فَإِنَّهُ أَوْعَظُ لِلْمُعْتَبِرِینَ مِنَ الْمَنْطِقِ الْبَلِیغِ وَ الْقَوْلِ الْمَسْمُوعِ»(3).

و «منتهى كل شيء طرفه، والأطراف اسم الأصابع لا يُفْرد إلا بإضافةٍ إلى الأصْبَع، يقال: أشار بطرفِ إصْبَعِه، والطَرَف: الطائفة من الشيء... وأطراف الأرض: نواحيها، والواحدُ: طَرَف»(4)، إذن فالطرف معنى عائم مالم يحدد، ويمثل أحد أدوات الإنسان إذا خُصِّصَ به، وبملاحظة النصوص الواردة فيها كلمة أطراف لم تُذكر إلَّا مضافة إلى ضمير أو اسم(5)، وأمام هذا لاسبيل إلى معرفة الدلالة إلا من نافذة إضافتها ووجودها في سياقها، والنص الأول يبين دور قرينة الإضافة في تحديد المعنى، فقوله علیه السلام علیه السلام:

«فَهُمْ... مُفْتَرِشُونَ لجِباهِهِمْ وأکُفِّهِمْ، وَأطْرافِ أقدامِهِم».

هو وصف للسجود وبتحقق الإضافة في التركيب لم يبقَ لقارئ النص خيار

ص: 230


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 349، خ 152، 2 / 69، خ 232، 2 / 70، خ 232
2- المصدر نفسه: 1 / 445، خ 186
3- المصدر نفسه: 1 / 341، 149
4- العين: 8 / 414، وينظر الجيم، أبو عمرو الشيباني (ت 206 ه): 2 / 211، 217
5- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 250، خ 108، 2 / 103، خ 238

سوى دلالة اللفظ على أصابع الأقدام، أمَّا النص الآخر، فيبين دور قرائن السياق في تحديد الدلالة فقوله علیه السلام:

«لِیَعِظْكُمْ هُدُوِّي، وَخُفُوتُ إطْرَاقِی، وَسُكُونُ أطْرَافِی».

يذكر الإمام الأطراف لمناسبة سياق الكلام؛ لأنَّها من أكثر الأعضاء حركة ودلالة على التحديد، والمراد في النص ذهاب حركة ما انتهى من جذع الإنسان، وهي اليدان والرأس والرجلان(1)، أو اليدان والرجلان فقط(2)، ويلاحظ أنَّ الأطراف نُسبت إلى الإنسان بكامله من دون تحديد؛ لأنَّ معنى هذه الكلمة يأتي بحسب ما تضاف إليه، وقد أُسندت إلى الضمير الدال على المتكلم، ومن هذين الشاهدين والشواهد الأخُر، نتنبه على المعنى العائم للفظ إذ لا تحدده القرائن وأنماط السياق، ومن المناسب هنا أن نبين أنَّ هذه الكلمة عنواناً لدلالة مرنة قابلة للزيادة استطاع الإمام بحنكته اللغوية لَیّ عنقها فجعلها طيّعة له.

وكانت اليدان من بين أهم تلك الأطراف؛ إذ تتمتع بحركات وأوضاع كثيرة جداً إذا ما قورنت بالجوارح الأخرى، وقد يكون بعضها إرادياً وبعضها الآخر لا إرادياً؛ بسبب ارتباطها الوثيق بالدماغ، فقد أظهرت حركات اليدين عبر التاريخ أهمية كشف ما يجول في الدماغ، وهذا يعني أنَّ الصلة بين اللغة والحياة تمثل إحدى غايات الإنسان، وقد ظهر ذلك عند المحدثين في الصلة بين الدراسة اللسانية وعلوم الحياة لفهم أعمق للظاهرة اللغوية على مستوى الفرد أو الجماعة؛ لأنّ هذه الحركات والأوضاع تتخذ قيمة رمزية للتعبير عن معنى أو مفهوم في مستوى معين، يكون له ما يناسبه من الرموز اللغوية فتقرأ هذه الحركات الجسدية بحسب

ص: 231


1- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 346
2- ينظر: شرح نهج البلاغة الميسر: 120، 159

العوامل البيئية والثقافية والاجتماعية...(1)، وغالباً ما يحدث ذلك بمقارنة بين الحركة والعلامة اللغوية، فالركوع والسجود والطواف والتمرُّغ بالتراب ونحوها تعابير بالإشارة، وأحياناً تكون الحركات والإشارات في أثناء الكلام ساندة للألفاظ في أداء معانيها، ويختلف الناس في التمثيل لذلك(2)، وهذا التلازم بينها قد ظهر بوصفه سمة مميزة في الحقل الخاص بألفاظ اليد وأجزائها في نهج البلاغة، وسيأتي تفصيل ذلك، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الإمام قد عبّر عن يد الإنسان بلفظ الجناح على سبيل الاستعارة(3)، وقد قابل الخليل بين جناحي الإنسان وجناحي الطائر بقوله: «وجناحا الطائر يداه، ويدا الإنسان جناحاه»(4)، وبمثل هذا المجرى تجري الشواهد التي خُصّ بها الإنسان(5)، وعددها سبعة(6)، أمَّا استعمالها لغير الإنسان، فكان من باب إضافتها لغير ما يخصه في أغلب النصوص.

وبعد قراءة فاحصة لتتبع شواهد لفظ اليد وما يلحق بها من ألفاظ في نهج البلاغة، نرى من الأفضل دراستها على مجموعتين، الأولى: وتتضمن ألفاظ (الباع، العضد، الذراع، الساعد، الزند، المرفق)، لكن شواهد كل من الباع، والزند، والمرفق، كانت قليلة(7)، ولم تتوافق مع منهج البحث؛ كونها قد قصد بها الإمام غير

ص: 232


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 99 - 103
2- ينظر: اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة، حسن ظاظا: 20 - 21
3- يمكن أن يكون الإمام قد اقتفي الأسلوب القرآني في هذه الاستعارة التي وردت فيه مراراً، ومنها قوله تعالى: «وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِمَنِ ٱتَّبَعَكَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنيِنَ» (الشعراء: 215)، وقوله تعالى: «وَٱخۡفِضۡ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحۡمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِی صَغِيرٗا» (الإسراء: 24)
4- العين: 3 / 84، وينظر: المخصص: 2 / 4، ولسان العرب: 2 / 428
5- ينظر: بلاغة العرب نشأتها - تطورها - علومها، علي سلوم: 220
6- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 2 / 167، ك 46. 2 / 173، ك 28، 2 / 320، 61، 2 / 230، ك 46
7- استعمل المرفق في نهج البلاغة مرة واحدة (ينظر: 2 / 88، خ 237)، والباع مرة واحدة أيضاً (ينظر: نهج البلاغة: 1 / 244، خ 107)، واستعمل الزند مرتين (ينظر: نهج البلاغة: 1 / 96، خ 35، 1 / 213، خ 93)

الإنسان، أو أن استعمالها لم يدل على انتمائها إلى أجزاء جسمه، أمَّا المجموعة الثانية فهي: (الكف، الأصابع، الأنامل، البنان)، وقد نالت هذه ألفاظ اليد نصيباً وافراً من ألفاظ جسم الإنسان في نهج البلاغة، فمثَّلت فيضاً دلالياً وثراءً لغوياً، يتضح ذلك بجلاء في هذه الألفاظ التي استعملها الإمام علیه السلام في النصوص.

المجموعة الأولى:

تتضمن اليد وملحقاتها الآتية: (العضد، الذراع، الساعد،) ومن شواهدها:

- اليد: وكان أكثر ما خصّ الإنسان من هذه الألفاظ اليد؛ إذ بلغ ذلك مائة وثلاثة شواهد(1)، ومنها قول الإمام علیه السلام في أحدى حكمه:

ص: 233


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 24، خ 1، 1 / 30، خ 3، 1 / 376، خ 161، 1 / 239، خ 150، 1 / 296، خ 127، 1 / 409، خ 173، 1 / 405، خ 171، 1 / 216، خ 96، 1 / 257، خ 92، 1 / 250، خ 108، 1 / 376، خ 161، 1 / 400، خ 168، 1 / 316، خ 137، 1 / 332، خ 146، 1 / 249، خ 108، 1 / 280، خ 120، 1 / 370، خ 159، 1 / 216، خ 96، 1 / 166، خ 23، 1 / 191، خ 90، 1 / 205، خ 90، 1 / 217، خ 96، 1 / 240، خ 105، 1 / 252، خ 108، 1 / 287، خ 124، 1 / 303، خ 130، 1 / 398. خ 167، 1 / 422، خ 178، 1 / 207 خ، 92، 1 / 234، خ 104، 1 / 1234. خ 104، 2 / 30 ح 212، 2 / 33، ك 5، 2 / 44، خ 217، 2 / 55، خ 224، 2 / 60، خ 227، 1 / 66، خ 23، 2 / 71، خ 232، 1 / 74، خ 26، 2 / 76، خ 233، 2 / 97، خ 238، 2 / 12، خ 203، 2 / 223، ك 45، 2 / 238، ك 53، 2 / 241، ك 53، 2 / 242، ك 53، 2 / 247، ك 53، 2 / 251، ك 53، 2 / 252، ك 53، 2 / 274، ك 60، 2 / 316، ح 41، 2 / 333، ح 116،، 2 / 114، خ 238، 2 / 194، ك 31، 1 / 277، ك 62، 2 / 115، خ 238، 2 / 268، ك 55، 2 / 198، ك 31، 2 / 205، ك 33، 2 / 214، ك 40، 2 / 336، ح 127، 2 / 400، ح 424، 2 / 219، ك 44، 2 / 314، ح 31، 2 / 315، ح 37، 2 2 / 114، خ 238، 2 / 105، خ 238، 2 / 106، خ 238، 2 / 108، خ 238، 2 / 110، خ 238، 2 / 111، خ 238،، 2 / 152، ك 17، 2 / 171، ك 28، 2 / 173، ك 28، 2 / 242، ك 53، 2 / 299، ك 74، 2 / 311، ح 20، 2 / 319، ح 60، 2 / 359 ح، 233،، 2 / 378، ح 316، 2 / 194، ك 31، 2 / 202، ك 31، 2 / 262، ك 53، 2 / 263، ك 53، 2 / 217، ك 42،، 2 / 114، خ 238، 2 / 133 ك 5، 2 / 190 ك 13، 2 / 198 ك 31، 2 / 214 ك 40، 2 / 392 ح 381، 2 / 336 ح 127، 2 / 189 ك 31، 2 / 240 ك 53، 2 / 392 ح 380، 2 / 223 ك 45، 2 / 392، ح 380، 2 / 383، ح 340، 2 / 392، ح 381، 2 / 304، ح 434، 2 / 411، ح 474

«مَنْ يُعْطِ باِلْیَدِ الْقَصِيرَة يُعْطَ باِلْیَدِ الطَّوِيلَةِ»(1).

وقوله علیه السلام يُذكِّر الناس بنعمة الإسلام:

«أَلَا وَ إِنّكُم قَد نَفَضتُم أَيدِيَكُم مِن حَبلِ الطّاعَةِ، وَ ثَلَمتُم حِصنَ اللّهِ المَضرُوبَ عَلَيكُم، بِأَحكَامِ الجَاهِلِيّةِ...»(2).

- العضد والذراع: ورد كل منهما في نهج البلاغة مرة واحدة في نصّ يصف الإمام علیه السلام علاقته برسول الله:

«وَأنَا مِنْ رَسُولِ الله كَلضوءِ مِنَ الضِوءِ(3)، وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ»(4).

- الساعد: ذُكر هذا اللفظ ثلاث مرات(5)، ومنها قول الإمام علیه السلام في استنفار الناس إلى الشام:

«فَأَمَّا أَنَا فَدُونَ أَنْ أُعْطِیَ ذَلِکَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیَّةِ تَطِیرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَ تَطِیحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ، وَيَفْعَلُ اللهُ بَعْدَ ذلِكَ مَا يَشَاءُ»(6).

ص: 234


1- المصدر نفسه: 2 / 357، ح 227
2- المصدر نفسه: 2 / 110، خ 238
3- في بعض النسخ (كَالصِّنْوِ مِنَ الصِّنْوِ) منها نسخة محمد عبدة، وتحقيق: فارس الحسون، وتحقيق: هاشم الميلاني، وهي آخر نسخة حققت على أقدم النسخ سنة 2012 م حسب علم الباحث
4- نهج البلاغة: 2 / 225، ك 45
5- المصدر نفسه: 1 / 289، خ 124
6- المصدر نفسه: 1 / 93، خ 34

وقوله علیه السلام في الحثّ على الموعظة:

«أَیُّهَا اَلْیَفَنُ اَلْکَبِیرُ، اَلَّذِی قَدْ لَهَزَهُ اَلْقَتِیرُ، کَیْفَ أَنْتَ إِذَا اِلْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ اَلْأَعْنَاقِ، وَ نَشِبَتِ اَلْجَوَامِعُ حَتَّی أَکَلَتْ لُحُومَ اَلسَّوَاعِدِ»(1).

أمَّا معنى هذه الألفاظ لغةً، فإنَّ اليد منها قد اختُلف في أصلها؛ فيقول ابن فارس: «الياء والدال: أصل بناء اليد للإنسان وغيره... ويجمع على الأيادي ويُدِيّ... واليَدُ: القُوَّة»(2)، أمَّا الخليل والجوهري والزمخشري وابن منظور وغيرهم(3)، فإنَّ أصل بناء اليد عندهم الجذر (ي د ي)، إذ جاء في الصحاح أنّ «أصلها يَدْي على فَعْلٍ ساكنة العين لأن جمعها أيدٍ ويُدِيٌ وهذا جمع فَعْلٍ...

وقد جُعت في الشعر على أيادٍ... وهو جمع الجمع»(4)، وجاء في لسان العرب أنَّ «اليَدُ من أَطْراف الأصَابع إلِى الكف، وهي أُنثى محذوفة اللام وزنها (فَعْلٌ) يَدْيٌ، فحذفت الياء تخفيفاً فاعْتَقَبت حركة اللام على الدال، والنسَبُ إِليه على مذهب سيبويه يَدَوِيٌّ، والأَخفش يخالفه فيقول: يَدِيٌّ كَنَدِيٍّ، والجمع أَيْدٍ على ما يغلب في جمع فَعْلٍ في أَدْنى العَدَد»(5)، وهو لغة لبعض العرب يحذفون الياء من الأصل كما يحذفونها مع الإضافة، فيكون الذاهب منها الياء؛ لأن تصغيرها يُدَيَّة(6)، وقد ذُكر في اللسان أيضا ما يبرر رأي ابن فارس على أنّ «اليَد اسم على حرفين، وما كان من الأسَامي على حرفين قد حذف منه حرف، فلا يُردّ إلِا في التصغير أَو في التثنية

ص: 235


1- المصدر نفسه: 1 / 440، خ 184
2- مقاييس اللغة: 6 / 152
3- ينظر: العين: 8 / 97، والصحاح: 6 / 2539، ولسان العرب: 15 / 419
4- الصحاح: 6 / 2539
5- لسان العرب: 15 / 419
6- ينظر: الصحاح: 6 / 2540

أَو الجمع وربما لم يُردَّ في التثنية ويثنى على لفظ الواحد»(1)، وخلاصة القول أن اليَدُ من أَطْراف الأصَابع إلِى الكف، وهي أُنثى محذوفة اللام، أمّا العضد المتصل بساعدها، فهو «ما بين المِرْفق إلى الكتف، يقال عَضُدَ وعَضْدَ، وهما عَضدان، والجمع أعضاد، وهي مؤنَّثة»(2)، ويرجع إلى الجذر (ع ض د) وله «أصلٌ صحيح يدلُّ على عضوٍ من الأعضاء؛ يُستعار في موضع القوّة والمُعين»(3)، وأضاف ثابت أن في العضُد القصبة، وقصبةُ العَضُد عظْمها، والجمع قَصَب، وفي العضُد العضلة، وهي اللحمة الغليظة فيها، وملتقى العضد والذراع وما احتزم به المرفق(4)، وهذا الخلق والوظيفة قد أضفى دلالة إلى لفظ الذراع وأصله اللغوي، فالجذر (ذ ر ع) له «أصلٌ واحدٌ يدلُّ على امتدادٍ وتحرُّك إلى قُدُم، ثم ترجع الفروعُ إلى هذا الأصل، فالذِّراع ذِراع الإنسان، معروفة، والذَّرع: مصدر ذَرَعْتُ»(5)، قال الإمام علي علیه السلام:

«أَلاَ تَرْبَعُ أَيُّهَا الإنْسَانُ عَلَی ظَلْعِكَ، وَتَعْرِفُ قُصُورَ ذَرْعِكَ»(6) وجاء في خلق الإنسان أنَّ في كل ذراع زندين، والواحد زندٌ، وهما اللذان اجتمعا فصارا ذراعاً، ومعظم الذراع: العَظَمةُ، والخضُمَّةُ(7)، وقد ذُكر عند بعض اللغويين أن الذراع يسمى الساعد، قال الخليل: «عظم الذراع: ملتقى الزندين من لدن المرفق إلى الرسغ وجمعه، سواعد»(8)، ويرى ابن فارس أنَّ السّاعد لفظ مشتق من الجذر (س

ص: 236


1- لسان العرب: 15 / 419
2- مقاييس اللغة: 4 / 348، وينظر: 2 / 163
3- مقاييس اللغة: 4 / 348
4- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 217 - 219
5- مقاييس اللغة: 2 / 350
6- نهج البلاغة: 2 / 172، ك 28
7- ينظر: كتاب خلق الإنسان، ثابت: 219 - 221
8- العين: 1 / 322

ع د) وله «أصلٌ يدل على خير وسرور، خلاف النَّحْس، فالسَّعْد: اليُمْن في الأمر...

هذا هو الأصل، ثم قالوا لساعد الإنسان ساعد، لأنَّه يتقوَّى به على أموره، ولهذا يقال ساعده على أمره، إذا عاونَه، كأنه ضمَّ ساعده إلى ساعِده، وقال بعضهم:

المساعدة المعاونة في كل شيء»(1)، وربَّما جاءت التسمية على معنى المساعدة في الأصل؛ إذ إنَّ هذا الساعد مكون من عظمي الزند اللذين يقوي أحدهما الآخر، وفي خلق الإنسان قيل: إنَّ الذراع والساعد واحد إلا أن الذراع تؤنّث والساعد تذكر، يقال هذه ذراع طويلةٌ، وهذا ساعد طويل(2)، ويبدو من ذلك أنَّ الساعد مأخوذ فيه معنى الكف الذي يدخل في مسمى الذراع، لكن ساعد اليد يقابل ساق الرجل في الخلْق وكلاهما مأخوذ به معنى القوة والشدة، وبتقابل الأجزاء لا يمكن أن يدخل مع الساعد الكف كعدم دخول القدم في معنى الساق، فالساعد كما قال الخليل نهايته من الأسفل الرسغ ومن الأعلى المرفق الذي يتصل به مع العضد كما يتضح من (الشكل 9)(3)، لكنه لايرادف الذراع فالمنطقة المحددة الكاملة تمثل الذراع، والمنطقة المظللة منها تمثل الساعد فقط.

(الشكل 9)، يوضح الفرق بين الذراع والساعد وأمّا في نهج البلاغة فقد فاقت اليد الكفّ في نهج البلاغة بكثرة استعمالها،

ص: 237


1- مقاييس اللغة: 3 / 75
2- ينظر: كتاب خلق الإنسان، ثابت: 219 - 221، وينظر: كتاب خلق الإنسان، الأصمعي: 206
3- الشبكة العنكبوتية: .www.google.iq

وتنماز بمجازاتها مقارنة بأطراف الإنسان الأخرى، فقد تكرر استعمالها في نهج البلاغة مائة وست عشرة مرة، وخصّ الإنسان منها بمائة وثلاثة شواهد(1)، ومنها قوله علیه السلام:

«مَنْ يُعْطِ باِلْیَدِ الْقَصِيرَة يُعْطَ باِلْیَدِ الطَّوِيلَةِ».

وتمثل لفظة اليد في هذه الحكمة الأساس لتعبير عُرفت دلالته قديماً، وهي النعمة، ويذهب عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه) إلى أنَّ هذا نقل للمعنى وهو مجاز وليس بتشبيه أو استعارة؛ لأنَّك لا تثبت للنعمة بإجراء اسم اليد عليها شيئاً من صفات الجارحة المعلومة؛ إذ لا مجانسة بين الجارحة والنعمة، وإنَّ هذا المعنى لا يصح لليد إلا في إشارة إلى المنعم أو التلويح به(2)، ويفسر الرضي (رحمه الله) اليد بأنها النعمة فيقول «واليدان هاهنا عبارتان عن النعمتين، ففرّق علیه السلام بين نعمة العبد ونعمة الرب، فجعل تلك قصيرة وهذه طويلة، لأن نعم الله سبحانه أبداً تَضعف على نعم المخلوقين أَضعافاً كثيرة، إذ كانت نعمه تعالى أصل النعم كلها، فكل نعمة إليها تَرجِعُ ومنها تنزع»(3)، فالإمام في هذه الحكمة يضع قرينة فاصلة دالة على المنعم، تفريقاً لنعمة العبد عن نعمة الرب وهي الطول والقصر؛ فاقترانهما بما يلائم القريب وهو الإعطاء والقصر؛ لظهورهما في الجارحة المخصوصة(4)، ويُشكِل محمد جواد مغنية على فهم الشريف الرضي هذا ومن جاء بعده من الشارحين، بأنَّ المراد باليد القصيرة إعطاؤه الصدقة للمعوزين،

ص: 238


1- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 376، خ 161، 1 / 375، خ 161، 1 / 90، خ 33، 2 / 277، ك 62، 1 / 281، خ 120، 2 / 277، ك 62، 2 / 115، خ 238، 2 / 219، ح 37، 1 / 217، خ 96، 2 / 110، خ 238
2- ينظر: أسرار البلاغة، عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه): 351
3- ينظر: نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 2 / 357
4- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 1/ 164

فيذكر بأنّ المراد هنا عمل الإنسان وجهاده، والتضحية بالنفس والنفيس لنصرة الحق والعدل، وإزهاق الجور والباطل، ويعلّل بأنَّ الله قد أوضح وبيّن في الذكر الحكيم نوع الأعمال التي يثيب العباد عليها بعطاء طويل غير مجذوذ أي غير مقطوع(1)، وهذا الرأي يمكن أن يكون من باب التوسع في المعنى؛ لأنَّ ما ذكره الرضي أو غيره يقع في حدوده ولا يتعارض معه، وهو أولى بالاتباع لحذف الشيء المعطى في نصّ الإمام، والحذف يورث الأطلاق في المعنى عموماً.

ومن استعمالات الإمام لليد ما اختص بحركاتها، ومن ذلك قوله علیه السلام في النص الثاني:

«أَلاَ وَإنَّكُمْ قَد نَفَضْتُمْ أيْدِيَكُمْ مِنْ حَبْلِ الطاعَةِ».

فقد عبر علیه السلام عن الرفض بإحدى حركات اليد وهي النفض، والتعبير بلفظ النفّض من دون الترك للإشارة إلى طرحهم له وإعراضهم عنه(2)، وهو آكد وأبلغ من القول: ألقيتم حبل الطاعة عن أيديكم؛ لأنَّ كلامه متضمّن أنَّكم خليتم أيدكم من حبل الطاعة ثم نفضتموها عنه(3)، فمن يخلي الشيء من يده ثم ينفض يده منه يكون أشدّ تخلية له ممن لا ينفضها بل يقتصر على تخليته فقط؛ لأنَّ نفضها إشعار بشدة الإطراح والإعراض(4)، فحركة نفض اليد تطلق الشحنة الكاملة في التعبير مصاحباً للواقعة الحسية التي يعبر عنها مبرزاً لها في صورتها الحسية المتحركة(5)؛ لذا شبّه الإمام الطاعة بالحبل وهو من تشبيه المعقول بالمحسوس ووجه الشّبه أنّ الحبل آلة الوصلة بين الشيئين والطاعة سبب الاتّصال بقرب الخالق، لذا أمر اللهّ سبحانه

ص: 239


1- ينظر: في ظلال نهج البلاغة: 4 / 356
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 12 / 7
3- ينظر: منهاج البراعة، الراوندي: 2 / 264
4- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 13 / 181
5- ينظر: لغة الجسد في القران الكريم: 82

بالاعتصام به في قوله:

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)»(1).

ومن مكمّلات الصورة الحسية في النص استعارة حبل اللهِ للإسلام(2)، والتعبير في نص الإمام مستقى من قوله تعالى:

«إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)»(3).

وبالربط بينهما يمكن القول أن الإمام يعبر عن الإنسان بكليته بلفظ اليد في النص وهو من المجاز؛ فالمراد أنكم رفضتم أنتم فعبر باليد عنهم بأجمعهم.

أمَّا عن تحديد اليد، فإنَّ الإمام ذكر اليد في أغلب النصوص مطلقة بمجموع أجزائها، ولم يحدد ذلك بقرينة أو سياق، وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن، لكنهَّ علیه السلام قد حدد في نصوص أُخر دلالتها بكفّ اليد وأصابعه، ومنها قوله:

«وَلَقَدْ دَخَلَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ وَمَعَهُ أَخُوهُ هَارُونُ علیهما السلام عَلَى فِرْعَوْنَ، وَعَلَيْهِمَا مَدَارِعُ الصُّوفِ، وَبِأَيْدِيهِمَا الْعِصِيُّ، فَشَرَطَا لَهُ...»(4).

فعبارة بِأَيْدِيهَمَا الْعِصِیُّ لاشك في أنَّ اليد هنا تعني كف اليد وأصابعه، وفي

ص: 240


1- آل عمران:. 103
2- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 12 / 7 - 8
3- الفتح:. 10
4- نهج البلاغة: 2 / 97، خ 238

بعض نصوص نهج البلاغة ذكرت قرائن أُخر تدل على أنَّ المقصود باليد الكف وأصابعها، ومنها: «قبض اليد وبسطها، والمسك باليد واللمس بها، وعض اليد، وقطع اليد... ونفض اليد»، وقد ذكر مثاله، وفي بعض الأحيان يعبر الإمام عن الإنسان بيده وهو من باب ذكر الجزء وإرادة الكل لعلاقة جامعة بينهما أو قرينة(1)، وهو أسلوب استعمله الإمام كثيراً، كاستعماله اليد القصيرة في المثال السابق ذكره، فالمراد عطاء الإنسان نفسه لكن الإمام ذكر اليد لعلاقة سببية.

أمّا ذُكر العضد والذراع في أحد نصوص نهج البلاغة التي تحدّث فيها الإمام عن نفسه بقوله:

«وَأنَا مِنْ رَسُولِ الله كَلضوءِ مِنَ الضِوءِ، وَالذِّرَاعِ مِنَ الْعَضُدِ»(2).

فيلحظ فيه تشبيه الجمع وهو «ما تعدد فيه المشبه به»(3)؛ جاء للتعريف بمنزلة الإمام علي علیه السلام من نبي الله محمد فتشبيه الإمام نفسه من الرسول بالذراع التي أصلها العضد والذراع فرع عليها، كناية عن القرب وشدة الصلة بينهما(4)، وقد بيّن الرسول ذلك في قوله:

«قد أُمرْتُ أن لا يؤدّى عني إلا أنا أو رجل مني»(5).

فذكْرُ الذراع والعضد في كلام الإمام الغرض منه بيان القرابة والدلالة على تحديد التلاقي والامتداد(6)؛ لذلك لم يعبر عن مراده بالساعد، وما يعزز ذلك دلالة الأصل اللغوي على الامتداد والتقدم، والتشبيه السابق في عبارة (كَالضوءِ

ص: 241


1- ينظر: البيان في ضوء أساليب القرآن، عبد الفتاح لاشين: 155
2- نهج البلاغة: 2 / 225، ك 45
3- جواهر البلاغة: 231
4- ينظر: نهج البلاغة، شرح محمد عبدة: 489
5- نقلا عن: نهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 2 / 225
6- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية، محمد محمد داود: 326

مِنَ الضِوءِ)، أي بمعنى أنهما صورة واحدة متواشجة، وبذلك تكونت صورة كلية موحدة وممتدة، ودلالة متضافرة مع بعضها بعضاً؛ إذ اشترك لفظا الذراع والعضد بشاهد واحد على سبيل تمثيل العلاقة بين الإمام علي علیه السلام وخاتم الأنبياء، فشبَّه الإمام نفسه من الرسول بالذراع الذي أصله العضد، كناية عن شدة الامتزاج والاتحاد بينهما(1)، فضلًا عن دلالته على القوة والمؤازرة؛ فهو من مواطن القوة في الجسم(2)؛ لذا استعير لمعنى التقوية والإعانة للإمام، وذكر العضد من باب التمثيل؛ لأنَّ اليد قوامها عضدها، فيقال: عضد الرجل أنصاره وأعوانه(3)، ويمكن أن يكون المعنى مستوحىً مماَّ ورد في الذكر الحكيم في قوله جل جلاله:

«قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ»(4).

أما الساعد فقد وردَ في سياق نهج البلاغة بصيغة الجمع، ومنها قول الإمام: علیه السلام «فَأَمَّا أَنَا فَوَ اللَّهِ دُونَ أَنْ أُعْطِیَ ذَلِکَ ضَرْبٌ بِالْمَشْرَفِیَّةِ تَطِیرُ مِنْهُ فَرَاشُ الْهَامِ، وَ تَطِیحُ السَّوَاعِدُ وَ الْأَقْدَامُ».

وقال في موضع آخر:

«وَضَرْبٍ یَفْلِقُ الْهام، وَیُطیحُ الْعِظامَ، وَیُنْدِرُ السَّواعِدَ وَالاأَقْدامَ..»(5).

وفي كلا النصين بيان لنتائج الضرب ومنها تطاير الأيدي والأرجل(6)، وهذا

ص: 242


1- ينظر: نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 680
2- ينظر المخصص: 1 / 163، 2 / 4
3- ينظر: الدلالات المجازية لأعضاء جسم الإنسان في معجم لسان العرب، بحث: صالح ملّا عزيز وآخرون: 150
4- القصص:. 35
5- نهج البلاغة: 1 / 289، خ 124
6- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 7 / 293

ما يتناسب مع القتال وتصويره في السياق؛ لأن السواعد تدل على القوة والمنعة، ومعنى يطيح السواعد أو العظام: يسقطها، وينْدر السواعد: يقطعها ويسقطها أيضاً، وقد ورد هذا المعنى في كثير من الشروح(1)، وكلام الإمام عن انفصال السواعد ووقوعها كناية عن ضرب مواقع القوة لدى الخصم، ويأتي استعمال الساعد بدلاً من اليد؛ لأنَّ الساعد هو ما يتقوى به الإنسان على غيره، ويعينه على حمل السلاح وأدوات القتال في المعركة، فلما أراد علیه السلام إظهار قوة اليد أشار إليها بساعدها، وهذا ما يتناسب مع المصاحبات اللغوية، وقوة ما ذكره من أجزاء الجسم الأخرى في النصين.

أما النص الآخر الذي ورد فيه لفظ السواعد وهو قوله علیه السلام:

«کَیْفَ أَنْتَ إِذَا اِلْتَحَمَتْ أَطْوَاقُ النَّارِ بِعِظَامِ الْأَعْنَاقِ، وَ نَشِبَتِ اَلْجَوَامِعُ حَتَّی أَکَلَتْ لُحُومَ السَّوَاعِدِ».

فيُدرج ضمن عنوان الحث على التقوى بجميع مراحل حياة الإنسان في فكر الإمام وذلك باستعمال أجزائه، فقد حدد علیه السلام بعض ضوابط التقوى كالصحة قبل السقم، وفسحة الأعمار قبل أن تبدل بالضيق، ثم عرض لمشهد من مشاهد يوم القيامة وهو غلّ الأيدي إلى الأعناق بالجوامع والتفاف النار عليها والتصاقها بها، ﻓ» التحمت أطواق النار بالعظام التفت عليها وانضمت إليها والتصقت بها، والجوامع جمع جامعة وهي الغلّ لأنها تجمع اليدين إلى العنق، ونشبت علقت، والسواعد جمع ساعد»(2)، وهو ما تُغل منه اليد إلى العنق، أمَّا أكل لحوم السواعد، فهو كناية عن ضعف مقاومة الإنسان للعذاب وحركته غير المنضبطة من شدة

ص: 243


1- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 8 / 8، والهامش في تحقيقات كل من فارس الحسون: 95، والدكتور يحيى مراد: 164، وهاشم الميلاني: 225، ومحمد أبو الفضل: 1 / 93
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 10 / 124، ونهج البلاغة، تح: محمد أبو الفضل: 1 / 440

الخوف والهلع، ويمكن تعليل استعمال السواعد من دون غيرها في النص؛ لأنَّها الجزء الذي تغلُّ منه الأيدي.

المجموعة الثانية:

تتضمن الكفّ والملحقات الآتية: (الإصبع، الأنملة، البنان) ومن شواهدها:

- الكفّ: تكرر استعمال هذا الجزء من اليد للإنسان ثماني مرات(1)، ومنها قول الإمام علیه السلام في إحدى حكمه:

«للِظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌ»(2).

وقوله علیه السلام عن البيعة:

«فَأَقْبَلْتُمْ إِلَیَّ إِقْبَالَ اَلْعُوذِ اَلْمَطَافِیلِ عَلَی أَوْلاَدِهَا، تَقُولُونَ: اَلْبَیْعَهَ اَلْبَیْعَهَ قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا»(3).

- الإصبع(4): ورد هذا الجزء مرتين للإنسان في نهج البلاغة، وهما قول الإمام علیه السلام يخاطب الناس:

«أَمَا إِنَّهُ لَیْسَ بَیْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ إِلاَّ أَرْبَعُ أَصَابِعَ. فسُئل علیه السلام عن معنى قوله هذا؛ فجمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ: سَمِعْتُ، وَ اَلْحَقُّ أَنْ تَقُولَ: رَأَیْتُ»(5).

ص: 244


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 141، خ 72، 1 / 145، خ 190، 1 / 445، خ 186، 2 / 88، خ 237، 2 / 228، ك 45، 2 / 336، ح 127
2- المصدر نفسه: 2 / 345، ح 153
3- المصدر نفسه: / 316، خ 137
4- الأصابع من الأجزاء المشتركة بين الكف والقدم، لكن الإمام لم يستعملها في نهج البلاغة إلّا لليد فقط؛ لذلك درست مع الأجزاء الملحقة باليد في البحث
5- المصدر نفسه: 1 / 323، خ 141

وقوله علیه السلام عن رسول الله:

«فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ، وَ أَشَرْتُمْ إِلَیْهِ بِأَصَابِعِکُمْ، جَاءَهُ الْمَوْتُ فَذَهَبَ بِهِ»(1).

- البَنان: ورد هذا الجزء مرة واحدة في نهج البلاغة في قول الإمام علیه السلام عن الشيطان وجنوده:

«...أَجْلَبَ بِخَیْلِهِ عَلَیْکُمْ، وَ قَصَدَ بِرِجِلِهِ سَبِیلَکُمْ یَقْتَنِصُونَکُمْ بِکُلِّ مَکَانٍ، وَ یَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَانٍ، لاَ تَمْتَنِعُونَ بِحِیلَهٍ، وَ لاَ تَدْفَعُونَ بِعَزِیمَهٍ...»(2).

- الأنمُلَة: ورد هذا الجزء مرة واحدة في نهج البلاغة في قول الإمام علیه السلام يصف حال من فارق الحياة الدنيا:

«...مَحْمُولاً عَلَی أَعْوَادِ الْمَنَایَا یَتَعَاطَی بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَی الْمَنَاکِبِ وَ إِمْسَاکاً بِالْأَنَامِلِ»(3).

ولفهم الدلالات التي جاءت في هذه النصوص ينبغي معرفة معناها في اللغة، فالكفّ: يرده ابن فارس إلى الجذر (ك ف ف) ثم يقول: هو «أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على قبض وانقباض، من ذلك الكَفُّ للإنسان، سمِّيت بذلك لأنَّها تَقبضِ الشّیءَ، ثمَّ تقول: كففت فلاناً عن الأمر وكفكَفتُه، ويقال للرجل يَسأل الناّسَ:

هو يَستكِفُّ ويتكفَّف، والأصل هذا، ثم يَفرِّقون بين الكلمات فتختلف في بعض المعنىَ والقياسُ واحد»(4)، والكفّ: أنثى(5)، وكفّ الإنسان في يده وكفّ الطائر في

ص: 245


1- المصدر نفسه: 1 / 224، خ 99
2- المصدر نفسه: 2 / 93، خ 238
3- المصدر نفسه: 1 / 307، خ 132
4- مقاييس اللغة: 5 / 129
5- ينظر: المخصص: 2 / 4

رجله(1)، وفي خلق الإنسان قيل: «الكف الراحة مع الأصابع سميت بذلك لأنها تكف الأذى عن البدن»(2)، أمّا عند الأصمعي وثابت وغيرهم فإنّ الكفّ تساوي اليد في كلام بعض العرب(3)، والباحث لايميل إلى هذا الرأي، فالأصلان مختلفان جذراً ومعنىً في الاستعمال.

ويتصل بالكفّ الأصابع وهي من الجذر (ص ب ع) وله «أصل واحد، ثم يستعار، فالأصل إصبع الإنسان واحدةُ أصابعِهِ، ويقال صبعَ فلان بفلانٍ، إذا أشار نحوه بإصبعه مغتاباً له»(4)، وهي في كلِّ كفٍّ وقدمٍ، ففي الكفّ هي: الإبهامُ، والسبابةُ، والوسطى، والبنصَرُ، والخنصَر، وصفاتها في القدم مثل ما في اليد(5)، والإصبع تكونُ للإنسان والسَّبُع والطيْر، وقيل: أصله في الإنسان وهو في غيره مستعار، وفيه الظُّفْر(6)، والإصبع قد تُذّكر والغالب التأنيث، يقال: هذا إصبع على التذكير في بعض اللغات(7)، وفي كلام الإمام علي علیه السلام جاءت على الرأي الغالب، والإصبع لفظ جامع تنتمي إليه البنان وهي»أَطرافُ الأَصابع من اليدين والرجلين، قال: والبَنان في كتاب الله: الشَّوى، وهي الأَيدي والأَرجُل»(8)، أمّا جذرها اللغوي (ب ن ن) فله «أصلٌ واحد، هو اللزوم والإقامة، وإليه ترجع مسائلُ البابِ كلُّها»(9)،

ص: 246


1- ينظر: العباب: 1 / 50
2- خلق الإنسان، الأصمعي: 208، وينظر: الصحاح: 4 / 1422، والمعجم المبتكر: 267
3- ينظر: خلق الإنسان: الأصمعي: 208، خلق الإنسان، ثابت: 225، والمخصص: 2 / 4
4- مقاييس اللغة: 3 / 331
5- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 227، 324
6- ينظر: المخصص: 2 / 9
7- ينظر: المعجم المبتكر فيما يتعلق بالمؤنث والمذكر: 73
8- العين: 8 / 372
9- مقاييس اللغة: 1 / 191

وقيل: البَنان الأَصابع وقيل أَطرافها وواحدتها بَنانة(1)، وسميت بهذا الاسم؛ لأنَّ بها صلاح الأحوال، ويُعمل بها كل ما يكون للإقامة والاستقرار ولوازم الحياة، يقال:

أَبنّ بالمكان يَبنّ، أي أقام(2).

أمّا الأَنْمُلَة، فأصلها من الجذر (ن م ل) وكلماتُه «تدلُّ على تجمُّعٍ في شيء وصِغَرٍ وخِفَّة... والأَنْمُلَة: واحدة الأنامل، وهي أطراف الأصابع»(3)، وذكر ثابت أنّ في الأصابع الأنامل، وواحدتها أنمَلَةٌ، ويقال أنمُلةٌ، وهو ما تحت الظّفرِ من طرف الأصابع وفيها الأظفار واحدها ظفرٌ وأظفورٌ، ويقال: رجلٌ سبطُ الأنامل - وامرأةٌ سبطةُ الأنامل - إذا كان تامَّ طول الأصابع مع لين فيها(4)، أمَّا الجمع، فهو أنَامِلُ وأَنْمُلات(5)، ويتبين من ذلك إنَّ البنان أو الأنامل ألفاظ تقع ضمن مسمى أصابع الكف.

أمَّا استعمال الألفاظ المذكورة في نهج البلاغة، فإنّ كفّ اليد منها جاء أربع عشرة مرة خصّ الإنسان بسبع مرات ملازماً لصفة التعريف، ومنها قول الإمام علیه السلام في الشاهد الأول للكف:

«للِظَّالِمِ الْبَادِي غَداً بِكَفِّهِ عَضَّةٌ».

وهذا المعنى قريب من قوله تعالى:

«وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)»(6).

ص: 247


1- ينظر: لسان العرب: 13 / 59
2- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 79
3- مقاييس اللغة: 5 / 482
4- ينظر: كتاب خلق الإنسان: 224، 231، والمفردات في غريب القران: 656
5- ينظر: المخصص: 2 / 9
6- الفرقان:. 27

وإذا نظرنا إلى تركيب النص نجده خلاف المألوف؛ إذ يُلحظ انزياحٌ عن النمط المألوف لتركيب الجملة العربية(1)، فقد تخلى لفظ (عَضَّةٌ) عن مقام الابتداء في التركيب وجاء بعد الإخبار لدواعٍ معنوية وغايات تداولية تجعل المتلقي يستجيب لحال مُاطبه(2)، وإنَّما قال للبادي؛ «لأن من انتصر بعد ظلمه فلا سبيل عليه، ومن أمثالهم (البادي أظلم)، فإن قلت فإذا لم يكن بادياً لم يكن ظالماً فأي حاجة له إلى الاحتراز بقوله البادي قلت؛ لأن العرب تطلق على ما يقع في مقابلة الظلم اسم الظالم أيضاً»(3)، أما عضّ الكف في النص فهو كناية عن شدة الحسرة والندم(4)، ويلحظ أن الإمام عبر عن هذه الدلالة باستعمال عضّ الكفّ ولم يستعمل اليد أو الأصبع مثلاً؛ لأن الأحداث الكلامية في النص حاصلة في الحياة الدنيا؛ لذلك اختلف التعبير عن الآية الشريفة، ويمثل هذا النص أحد الشواهد على المرجعية اللغوية التي استقى منها الإمام موارد كلامه من الأمثال والقرآن الكريم، ومن مجازات استعمال الكفّ قوله علیه السلام في الشاهد الثاني:

«اَلْبَیْعَهَ اَلْبَیْعَهَ قَبَضْتُ کَفِّی فَبَسَطْتُمُوهَا».

وفائدة تكرار لفظ البيعة في النص شدّة حرصهم عليها وفرط رغبتهم فيها، أما قبضت كفّي أي امتنعت؛ لأن القبض هو ضمّ أطراف أصابع اليد(5)، وقوله علیه السلام بسطتموها من التّوسع في الإسناد أي نازعتكم بيدي وتمنّعت فجاذبتموها وبايعتم عن جدّ وطوع منكم وكره وزهد منّي(6)، ودلالة حركة

ص: 248


1- ينظر: الأسلوبية الرؤية والتطبيق، يوسف أبو العدوس: 186
2- ينظر: الاحتراز في نهج البلاغة دراسة نحوية ودلالية، صباح رحمن الزيادي، (رسالة ماجستير): 76
3- شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 18 / 370
4- نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 817
5- ينظر: فقه اللغة وسر العربية: 149
6- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 8 / 341

قبض الكفّ وبسطها هذه كناية عن الامتناع والقبول، وهذا الأسلوب الكنائي أبلغ من الحقيقة وأدق في التعبير(1)، فضلًا عن ذلك أنَّ الكف قد أُسند إليها فعلان مختلفان أنتجا طباقاً أضفى تواتراً دلالياً، فضلاً عن دلالة الأفعال التي وظفها الإمام، فالفعل قبض فاعله علي علیه السلام ودلالته الامتناع أمَّا فاعل بسط، فهو الضمير الدال على جمع المخاطبين، وقد استعمل الإمام الكفّ لهذا المعنى ولم يستعمل اليد؛ لأن البيعة غالباً ما تكون بالكفّ وليس باليد كلّها، فبسطها وعدمه جاء على سبيل الحقيقة كما يبدو، والمعنى باختصار كأنَّه علیه السلام قال: فامتنعت عليكم فأبيتم إلا أن تبايعوني(2)، والمتدبر في النصوص الُأخر(3)، يرى أنَّ الإمام قد وظّف الكفّ في سياقات دالة على الندم، وأخرى تدل على المنع على اختلاف المصاديق؛ لأنَّها سيدة الأدوات ومقود أفعال الجوارح.

ويلحظ في الأصابع وأجزاءَها أنَّ الإمام استعملها مجموعة كلها، وقد تميّز بلغة جسدية في الشاهد الأول للفظ الأصابع، بدافع سؤال سابق عن معنى قوله:

«أَمَا إِنَّهُ لَیْسَ بَیْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ إِلَّا أَرْبَعُ أَصَابِعَ».

فإنَّه علیه السلام «جمع أصابعه ووضعها بين أذنه وعينه ثمّ قال: الْبَاطِلُ أَنْ تَقُولَ:

سَمِعْتُ، وَالْحَقُّ أَنْ تَقُولَ: رَأَيْتُ»، وما يظهر من حركة وإيماء في هذا النص هو تعزيز للخطاب وإغناء له بالحركات؛ لأن الرسائل غير اللفظية من شأنها أن تكمل وتعزز الرسائل اللفظية، فالأفعال تتكلم أكثر من الكلمات، وفي هذه الحالة تصدق الرسالة غير اللفظية؛ إذ إنّها تجيب على السؤال: ماذا يريد أن يقول فعلاً؟ ويبدو أنَّ في نهج البلاغة أصولاً واضحة للنظريات الحديثة في التواصل، وتحديداً واضحاً

ص: 249


1- ينظر: جواهر البلاغة: 290
2- ينظر: نهج البلاغة: تح: محمد أبي الفضل: 1 / 316
3- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 141، خ 72، 1 / 145، خ 190

لملامح عناصر الإلقاء الجسدي التي حددها الباحثون المحدثون(1)، وفي قول الإمام فإنّ أصابع اليد وسيلة تدلّ على قلة الشيء(2)؛ لذا جاءت حركة جمعها ووضعها بين أذن الإمام وعينه للتعبير عن التحديد الواضح للقرب ووجوب التمييز بين الحق والباطل(3)، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ هذه الحركة الجسدية المشفوعة بالكلام، قد أسهمت في تفسير الظاهرة اللغوية اللفظية للمتلقي عن طريق القناة البصرية؛ للإيفاء بالمعنى بصورة نهائية.

أمَّا المرة الثانية التي ورد فيها لفظ الإصبع، فهو قول الإمام علیه السلام في رسول الله:

«فَإِذَا أَنْتُمْ أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَکُمْ، وَ أَشَرْتُمْ إِلَیْهِ بِأَصَابِعِکُمْ».

ومعنى أَشَرْتُمْ إِلَيْهِ بِأَصَابِعِكُمْ، أعظمتموه وأجللتموه كالملك الذي يشار إليه بالإصبَع ولا يخاطب باللسان(4)، فهذه الحركة تكشف عن تحديد الشهرة ودلالة العُلُو التي تناسب الرسول؛ لأنَّ الناس يشيرون بأصابعهم إلى مثار اهتمامهم(5)، وما يسعف هذا المعنى من المصاحبات اللغوية قوله: «أَلَنْتُمْ لَهُ رِقَابَكُمْ» المكنّى به عن تواضعهم بإزاء مقام الرسول الأعظم، ويبين كلام الإمام ما للحركة بالأصابع من انفراد واضح لدلالة التحديد، وقد جاء استعمال الأصابع لهذه المعاني؛ لأنها تمثل مركز قوة، وحركاتها لها دلالات عدّة وإشارات مرمّزة تُسهم كثيراً في اكتساب

ص: 250


1- ينظر: مبادئ الاتصال غير اللفظي: د. محمد بدرة، بتاريخ: الأحد، 22 مارس 2009، منشور على الرابط: http://edutrapedia.illaf.net/arabic/show_article.thtml?id44
2- ينظر: الدلالات المجازية لأعضاء الإنسان في معجم لسان العرب: 131
3- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 109
4- ينظر: نهج البلاغة: تح محمد أبو الفضل: 1 / 224
5- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 108، 319

المعنى كماله(1)، فللأصابع إيماءات مشهورة ومتداولة يمكن أن تعطينا عدة معانٍ تختلف بين شخص وآخر تبعاً لكل ثقافة(2).

أمَّا البنان، فكان استعماله في سياق التحذير من الشيطان وجنوده بقوله علیه السلام:

«یَضْرِبُونَ مِنْکُمْ کُلَّ بَنَانٍ، لاَ یَمْتَنِعُونَ بِحِیلَهٍ، وَ لاَ یُدْفَعُونَ بِعَزِیمَهٍ».

ويفهم من السياق(3) أنّ الشيطان وجنوده أسبابٌ مُعدّة لقتل من خاطبهم علیه السلام بأيدي أعدائهم واستقصائهم، بدافع الوسوسة والإضلال(4)، والبنان في النص تعني أطراف الأصابع، ذكرها علیه السلام لغرض التحذير من أنَّهم سيجمعون بين الضرب على المقاتل وغيره، فيضربون أطراف أصابعكم ويستقصون في أذاكم واستئصالكم ولا يقصرون في إهلاكهم ولا تمتنعون من ضربهم بحيلة ولا تدفعون ضرّهم بعزيمة فحالكم في معظم ذلّ ودائرة ضيق، ومعرض موت ومجال بلاء لا منجى منه(5)، وقد خُص البنان بالذكر هنا؛ لتضمنه دلالة اللزوم، فالبنان من لوازم جسم الإنسان وهي منتهى الأيدي والأرجل وبها يُعمل كل شيء، وفي النص هي التي تقاتل وتدافع بما لزمها من أفعال عند أصحابه علیه السلام(6)، هذا وكان ضرب البنان قد ورد في قوله تعالى:

«إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي

ص: 251


1- ينظر: أسرار لغة الجسد: 112
2- للأطلاع على حركات الكفّ وأصابعها وأسمائها بصورة أكثر تفصيلًا ينظر: كتاب فقه اللغة وسر العربية، لأبي منصور الثعالبي؛ فقد خصص فصلاً في باب الحركات والأشكال والهيئات وهو الفصل الثامن في تفصيل حركات اليد وأشكال وضعها وترتيبها: 148 - 150
3- ينظر: سياق الخطبة في نهج البلاغة: 2 / 93، خ 238
4- شرح نهج البلاغة، ميثم البحراني: 4 / 255 - 256
5- ينظر: منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: 11 / 291
6- ينظر: المفردات في غريب القرآن: 1 / 79

فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ»(1).

ومن اللافت للنظر أنَّ أغلب شرّاح نهج البلاغة قد تبنّوا المعنى اللغوي لكلمة (البنان) وهو الأصابع أو أطرافها، والباحث يميل إلى ذلك، ولكن يختلف مع ماقيل في معنى النص بأنّ ذكر الإمام للبنان قد جاء على سبيل التمثيل وليس الحقيقة، فكأنه أراد باختلاف هيأة الأطراف من الأصابع في اليد أن تكون صورة لتجسيد اختلاف مقامات من اشترك في الحرب؛ لأن آثارها ستنالهم على اختلاف اشتراكهم فيها مثل اختلاف البنان في اليد كطولها واختلاف عملها.

وأمّا استعمال لفظ الأنامل في الشاهد المذكور آنفا فقد ناسب الجنس الجمعي في سياق ذكر الإمام للميت في النص بنسج من التصوير بالأفعال والحركات الإنسانية التي ترافق تهيأة من فارق الحياة للدفن(2)؛ إذ قال علیه السلام:

«مَحْمُولاً عَلَی أَعْوَادِ الْمَنَایَا یَتَعَاطَی بِهِ الرِّجَالُ الرِّجَالَ، حَمْلاً عَلَی الْمَنَاکِبِ وَ إِمْسَاکاً بِالْأَنَامِلِ».

ﻓ «أعواد المنايا: النعش، ويتعاطى به الرّجال يتداولونه تارة على أكتاف هؤلاء وتارة على أكتاف هؤلاء، وقد فُسِّر ذلك بقوله حملاً على المناكب وإمساكاً بالأنامل»(3)، وهذا من المجاز المرسل علاقته جزئية «إذ ذكر لفظ الجزء وأريد منه الكل»(4)، فالإمساك يتمُّ باليد وليس فقط بالأصابع، والإمام ذكر الأنامل وأراد اليد، لكنه استعمل الأنامل من دون غيرها وقيد دورها بالمسك؛ لأن استعمال

ص: 252


1- الأنفال: 12
2- ينظر: شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد: 8 / 270
3- ينظر: المصدر نفسه: 8 / 271
4- ينظر: جواهر البلاغة: 255

الأنامل يومي بضعف الميّت؛ إذ تكفي الأنامل لمسكه ولو استعمل اليد لدلّ ذلك على قوة الميّت، فضلاً عن أنّ المسك بالأنامل يلائم معنى الاشتراك ومعنى الانتهاء الذي أراده الإمام؛ ففعل التعاطي لا ينتهي إلا بآخر جزء من الأصابع لمنتهي الحياة من الناس، والاشتراك يكون في فضل الحمل أو الرفع وهذا ما يمكن أن يتناسب مع مضمون الخطاب الذي أراد الإمام إيصاله(1).

ولا يخفى أنَّ اليد وملحقاتها حازت حضوراً بارزاً في اللغة العربية قديماً وحديثاً، وكان لها النصيب الأوفر عمن سواها من ألفاظ جسم الإنسان في طيات نهج البلاغة أيضاً، فقد مثَّل استعمال اليد المتنوع في كلام الإمام دلالات عدّة ومتنوعة بحسب سياقها ومصاحباتها اللغوية في النصوص يصعب تحديدها هنا التزاماً بمنهجية البحث وتوخياً للإيجاز، وكل ما يمكن قوله هنا إنَّ الإمام جعل من اليد آلة للعمل، وواسطة لظهور المعاني المختصة بها، والمتجلية عنها، مادية كانت أم معنوية، لأنها مصدر القوة واليد سبب له، أما استعمال لواحقها فيتضح أن الإمام علیه السلام لم يستعمل ساعدها إلا مجموعاً في حين استعمل لفظ الذراع مفرداً، ولذلك أسباب يرى الباحث أنها تكمن في دواعي الاستعمال اللغوي، أمَّا سياقياً فإنَّ السواعد قد استعملت لدلالة الغلبة على المقابل والضعف عنده تارة؛ لأن قرينة تطاير تطاير السواعد دلّت على الخسارة وأشارت إلى الضعف والوهن للساعدين الطائرين، واستعملت في مواضع أُخر للدلالة على المساعدة والمؤازرة تارة أخرى؛ لأن هناك ثمة علاقة دلالية تداولية ما بين المعنى اللغوي والمعنى التداولي، فالسواعد هي التي يستعين بها المقاتل في المعركة، فإذا ذهبت ذهبت قوته، بينما استُعمل الذراع للتمثيل والقياس؛ إذ وظّف الإمام كل من الذراع والعضد في سياق واحد أخذ فيه معنى اتصال الجزأين وما يتعلّق به من سمات، ويبدو أنَّ

ص: 253


1- ينظر: بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: 11 / 212

الإمام لمّا أراد تحديد العلاقة بينه وبين الرسول استعمل الذراع، ولمَّا أراد الإشارة إلى مصدر القوة عبر بالساعد.

أمّا استعمال أصابع اليد، فجاء على الرأي الغالب وهو لغة التأنيث، وقد اختصّ لفظ الإصبع بلغة الجسد في الاستعمال، إذ كشفت بعض النصوص عن عاداتٍ وقيمٍ عرفها المجتمع قد أسهمت في تجسيد الواقع التداولي بين المخاطِب والمتلقي، واختصّت الأنامل من ملحقات الإصبع بتصوير جانب من السنن الاجتماعية الخاصة بأحوال الميّت، أما البنان فقد اختصّت بسياق التحذير من القتل.

ص: 254

المبحث الثاني الألفاظ الدالة على الرِّجل وما يلحق بها

تعدّ الرِجلين وسيلة الإنسان الأساس في الحركة والتنقل، وفي بعض الأحيان تظهر حركاتها رغبات أو مواقف معينة؛ لذا لابدَّ من تقصةّی مهمتها الدلالية ضمن السياق الذي وردت فيه في النص(1)، فضلًا عن النظر للفظ من زاوية الحقل الدلالي الخاص به، والذي ذكر الإمام بعضاً من ألفاظه وهي: (الفخذ، الركبة، الساق، القدم، العقِب)، وسوف يكون هدف البحث هنا، الوصول إلى تحديد القيمة الدلالية لجزء رِجل الإنسان والألفاظ الملحقة بها بحسب سياقها في نهج البلاغة، وهنا لابدَّ من ذكر بعض شواهدها، وهي:

- الرِّجل: ذُكرت ثلاث مرات للإنسان في نهج البلاغة(2)، منها قول الإمام علیه السلام في ذكر النبي عيسى علیه السلام:

«ولَم تَکُن لَهُ زَوجَهٌ تَفتِنُهُ، ولا وَلَدٌ یَحزُنُهُ، ولا مالٌ یَلفِتُهُ، ولا طَمَعٌ یُذِلُّهُ، دابَّتُهُ رِجلاهُ، وخادِمُهُ یَداهُ»(3).

وقوله علیه السلام في وصف السالك الطريق إلى الله سبحانه:

ص: 255


1- ينظر: علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي: 263 - 264
2- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 380، ح 323
3- المصدر نفسه: 1 / 376، خ 116

«...وَسَلَکَ بِهِ السَّبِیلَ، وَتَدَافَعَتهُ الأبوَابُ إلی بَابِ السَّلَامَةِ، وَدَارِالإقَامَةِ، وَثَبَتَ رِجلَاهُ بِطُمَأنِینَةِ بَدَنِهِ فِی قَرَارِالأَمنِ والرَّاحَةِ، بِمَا استَعمَلَ قَلبَهُ، وَأَرضَی رَبَّهُ»(1).

- الفخذ: ذكره الإمام علیه السلام مرة واحدة في كلامه عن الصبر بقوله:

«یَنْزِلُ الصَّبْرُ عَلَی قَدْرِ اَلْمُصِیبَهِ، وَ مَنْ ضَرَبَ یَدَهُ عَلَی فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِیبَتِهِ حَبِطَ أجرُهُ»(2).

- الرّكبة: وردت مرة واحدة في قول الإمام علیه السلام يصف المتقين:

«فَهُم حَانُونَ عَلَي أَوسَاطِهِم، مُفتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَ أَكُفّهِم وَ رُكَبِهِم(3)، وَ أَطرَافِ أَقدَامِهِم، يَطلُبُونَ إِلَي اللّهِ تَعَالَي فِي فَكَاكِ رِقَابِهِم»(4).

- السّاق: جاءت في نهج البلاغة خمس مرات(5)، منها قول الإمام علیه السلام في وصف الفتن:

«یَهْرُبُ مِنْهَا الْأَکْیَاسُ، وَ یُدَبِّرُهَا الْأَرْجَاسُ، مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ، کَاشِفَةٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِیهَا الْأَرْحَامُ، وَ یُفَارَقُ عَلَیْهَا اَلْإِسْلاَمُ»(6).

وقوله علیه السلام واصفاً حال الدنيا:

«دارُ حَربٍ وسَلبٍ، ونَهبٍ وعَطَبٍ، أهلُها علی ساقٍ وسیاقٍ، ولِحاقٍ وفِراق»(7).

ص: 256


1- المصدر نفسه: 2/ 32، خ 214
2- المصدر نفسه: 2 / 339، ح 140
3- هذه الكلمة ساقطة من نص الخطبة (193) في شرح محمد عبدة، وتحقيق فارس الحسون، وبعض الشروح، ومثبتة في تحقيق محمد أبي الفضل، وتحقيق هاشم الميلاني، وبعض الشروح
4- نهج البلاغة: 1 / 445، خ 186
5- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 318، خ 191، 1 / 464، خ 191، 1 / 209 خ، 92
6- المصدر نفسه: 1 / 347، خ 151
7- المصدر نفسه: 2 / 87، خ 237

- القدم: ذُكر القدم ست وعشرون مرة للإنسان في نهج البلاغة(1)، منها قول الإمام علیه السلام في ذكر يوم القيامة وأحوال الناس فيه:

«فَأَحْسَنُهُمْ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَیْهِ مَوْضِعاً، وَ لِنَفْسِهِ مُتَّسَعاً...»(2).

وقوله علیه السلام من كتاب للأشتر النخعي:

«انْظُرْ فِی أُمُورِ عُمَّالِکَ... وَتَوَخَّ مِنْهُمْ أَهْلَ التَّجْرِبَهِ وَالْحَیَاءِ، مِنْ أَهْلِ الْبُیُوتَاتِ الصَّالِحَهِ، وَالْقَدَمِ فِی الْإِسْلَامِ الْمُتَقَدِّمَهِ»(3).

- العَقِب: ورد هذا الجزء إحدى عشرة مرة(4)، منها قول الإمام علیه السلام في حديثه عن الشك:

«وَالشَّكُّ عَلَى أَرْبَعِ شُعَب: عَلَى الَّتمارِي، وَالهَوْلِ، وَالتَّرَدُّدِ، والاْسْتِسْلاَمِ: فَمَنْ جَعَلَ الْمِرَاءَدَيْدَناً لَمْ يُصْبِحْ لَيْلُهُ، وَمَنْ هَالَهُ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ...»(5).

وقوله علیه السلام في النبي محمد:

«فَمَا أَعظَمَ مِنّةَ اللّهِ عِندَنَا حِينَ أَنعَمَ عَلَينَا بِهِ سَلَفاً نَتّبِعُهُ، وَ قَائِداً نَطَأُ

ص: 257


1- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 340، خ 149، 2 / 96، خ 238، 2 / 140، ك 10، 1 / 353، خ 153، 1 / 194، خ 90، 1297، خ 128، 1 / 373، خ 161، 1 / 44، خ 184، 1 / 445، خ 186، 1 / 458، خ 90، 2 / 94، خ 238، 2 / 100، خ 238، 2 / 149، ك 15، 2 / 316، 41، 2 / 141، ك 10، 1 / 139، خ 71، 1 / 169، خ 85، 1 / 46، خ 11، 1 / 138، ك 9، 1 / 441، خ 184، 1 / 227، خ 101، 2 / 47، خ 218، 1 / 203، خ 90، 2 / 140، ك 10، 2 / 214، ك 40، 2 / 94، خ 238، 1 / 373، خ 161، 1 / 253، خ 108، 2 / 371، ح 263، 1 / 253، خ 108
2- المصدر نفسه: 1 / 227، خ 101
3- المصدر نفسه: 2 / 252، ك 53
4- ينظر:المصدر نفسه: 1 / 344، خ 150، 1 / 122، خ 57، 1 / 203، ك 32، 1 / 320، خ 138، 1 / 133، خ 65، 2 / 35، خ 216، 2 / 148، ك 14، 2 / 269، ح 272، 2 / 314، ح 31
5- المصدر نفسه: 2 / 314، ح 31

عَقِبَهُ...»(1).

أمّا ما يتعلّق بالمعنى اللغوي للألفاظ المذكورة، فالرِّجْل منها من الجذر (ر ج ل( ومُعظم بابهِ «يدلُّ على العُضو الذي هو رِجْلُ كلِّ ذي رِجْل، ويكون بعد ذاك كلماتٌ تشِذُّ عنه، فمعظم الباب الرِّجل: رِجْلُ الإِنسانِ وغيره»(2)، وقيل: الرِّجل العضو من الإنسان والقطعة من الجراد(3)، ومن أجزاء هذه الرجل الفخذ، وفيه لغتان فَخِذ وفِخْذ أَيضاً(4)، وهو من الجذر (ف خ ذ)، وقد عبّر عنه ابن فارس بأنَّه «كلمةٌ واحدة، وهي الفَخِذ من الإنسان، معروفة»(5)، والفَخِذُ: ما بين الساق والورك، والجمع أَفخاذ(6)، ويتلوه الرُكبَة: وهي من الأجزاء التي توسطت رجل الإنسان، وأصلها في اللغة من الجذر (ر ك ب) وله «أصلٌ واحد مطّرد منقاس، وهو علُوُّ شيءٍ شيئاً، يقال رَكِب رُكوباً يَرْكَب... ومن الباب رُكْبة الإنسان، وهي عاليةٌ على ما هي فوقَها»(7)، فكلُّ شيء علا شيئاً ركِبَه(8)، وفي خلق الإنسان الركبة «ملتقى الفخذ والساق، وفي الركبة الرضفة، وهو عظم مطبق على رأس الّساق والفخذ»(9)، وتركيب هذه الأجزاء ساعد الإنسان على المشي والحركة، وكان للسّاق دور في ذلك، ويرى صاحب المقاييس أنها من الجذر (س و ق) وله

ص: 258


1- المصدر نفسه: 1 / 387، خ 161
2- مقاييس اللغة: 2 / 492
3- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 67، والمعجم المبتكر: 185
4- ينظر: الصحاح: 4 / 568
5- مقاييس اللغة: 4 / 481
6- ينظر: المخصص: 2 / 48
7- مقاييس اللغة: 2 / 432
8- ينظر: العين: 5 / 363، وتهذيب اللغة: / 10 216
9- خلق الإنسان، الزجاج: 99، وينظر: خلق الإنسان في اللغة، البغدادي: 50

«أصل واحد، وهو حَدْوُ الشَّیء... والسُّوق مشتقّةٌ من هذا، لما يُساق إليها من كلِّ شيء، والجمع أسواق، والسّاق للإنسان وغيره، والجمع سُوق، إنّما سمّيت بذلك لأنَّ الماشي ينْساق عليها»(1)، وفي خلق الإنسان قال ثابت في باب الساق: «والساق هي ما بين الركْبة والكعْب، وفيها عضلتها، وهو لحم باطن الساق حيث عظُمت»(2)، ويتصل بالساق القدم ويترتَّب عليه وظائف كثيرة وعلاقات جمّة، منها، تحديد وجهة الإنسان في السير وبعض أوضاعه ولها من الثراء الدلالي في كلام العرب شيء لايقل شأناً عن أهميتها في الجسم، فهي «ما يطأ عليه الإنسان من لدن الرسغِ فما فوقه»(3)، وهي من الجذر (ق د م) وله «أصلٌ صحيحٌ يدلُّ على سَبْق ورَعْف ثم يفرَّع منه ما يقاربُه: يقولون: القِدَم: خلاف الحُدوث، ويقال: شيءٌ قديم، إذا كان زمانُهُ سالفاً... وقَدَمُ الإنسان معروفةٌ، ولعلَّها سمِّيت بذلك لأنَّها آلة للتقدُّم والسَّبْق»(4)، وفي القدم حِمارَتُا، وعُرْشها، وعَقِبها، وفيها الأخمص وهو خصْر باطنهِا الذي يتَجافى عن الأرض لا يصيبُها إذا مشى الإنسان(5)، ويتبين من البحث اللغوي أنَّ الرِّجل هي وحدة دلالية جامعة لأجزائها من دون ترادف مع الأجزاء المذكورة.

أمّا العَقِب فهو ما تأخر من القدم، وهي «مؤخر القدمِ، تؤنثهُ العربُ، وتميمٌ تُخففه، وتجمعُ على أعقابِ، وثلاث أعْقِبة، وعقب الرَّجل ولده وولد ولده الباقون من بعده، وقولهم: لا عقب له أي لم يبق له ولدٌ ذكَرٌ»(6)، والعَقب من

ص: 259


1- مقاييس اللغة: 3 / 117، وينظر المفردات في غريب القرآن: 329
2- ينظر: خلق الإنسان، ثابت: 3190، والمخصص: 2 / 52
3- العين: 5 / 122
4- مقاييس اللغة: 5 / 65
5- ينظر: كتاب خلق الإنسان، ثابت: 323 - 322، والمخصص: 2 / 55
6- العين: 1 / 178، وينظر: الصحاح: 1 / 184، والمعجم المبتكر: 239

الجذر (ع ق ب) وله «أصلانِ صحيحان: أحدُهما يدلُّ على تأخير شيء وإتيانهِ بعد غيره، والأصل الآخَر يدلُّ على ارتفاعٍ وشدّة وصُعوبة»(1)، وفي خلق الإنسان قال ثابت: «والعَقِب ما يَفْضُل منْ مؤخر القدم على الساق... وهو موقِع الشِّراك من خلفِها»(2)، فهو جزء يحمل ثقل الجسم الإنساني يتصل من الأعلى بجزء تميّز بضخامته ومناسبة ما يتصل به من جذع الإنسان.

ويلحظ في استعمال الإمام علیه السلام للرّجل كثرة استعمالها لغير الإنسان، فقد ذكرت في النهج تسع مرات خصّ الإنسان بثلاث منها فقط؛ لذا سوف يكون بحث دلالتها هنا فيما يخص الإنسان ضمن سياقها لا غير، ومن ذلك كلامه في ذكر النبي عيسى علیه السلام من الشاهد الأول:

«دَابَّتُهُ رِجْلاَهُ، وَخَادِمُهُ يَدَاه».

والدبيب سلوك حركي يعتمد على استخدام الرجلين عند الكائنات الحية طلباً للطمأنينة أو للابتعاد أو الحصول على شيء معين(3)، والدَّابَّة: اسمٌ لما دَبَّ من الحَيَوان، مُمَيِّزةً وغيرَ مُمَيِّزة، والدابَّة: التي تُرْكَبُ؛ وقَدْ غَلَب هذا الاسْم على ما يُرْكَبُ مِن الدَّوابِّ، وهو يَقَعُ عَلى المُذَكَّرِ والمُؤَنَّثِ(4)، وفي النص كنىّ الإمام عن تعفف عيسى علیه السلام وتواضعه بقوله: «دابته رجلاه»، فالسير برجليه من دون الاستعانة بالدابّةِ يعني الدلالة على التواضع والتعفف.

أما في الشاهد الثاني فقد جاءت الرِّجْل في سياق وصف سالك الطريق إلى الله سبحانه إذ قال:

ص: 260


1- مقاييس اللغة: 4 / 77
2- كتاب خلق الإنسان، ثابت: 323
3- ينظر: لغة الجسد في القران الكريم: 99
4- ينظر: لسان العرب: 1 / 370

«وثَبَتَت رِجلاهُ بِطُمَأنینَهِ بَدَنِهِ فی قَرارِ الأَمنِ وَالرّاحَه».

وثبات الرِّجل في النص من المجاز، وقد استعملت للدلالة على القوة والتمكُّن(1)، لشدة العزم والمواظبة لمن راضَ نفسَهُ وجوارحه حتى وصل إلى الراحة والسعادة، والطريق المرسوم له، وهذه معانٍ قد مثلتها أفعال من سلك الطريق إلى الله في سياق كلام الإمام(2)، ويلحظ في هذين النصين والنص الآخر(3)، أنَّ النهج الاستعمالي للرجل قد ارتبط بدلالات وظيفية للرجل من ثبات وحركة تستدعي حضور الجسد الإنساني برمته، سواء أكان ذلك حقيقة أم مجازاً، وهذا ما يمنع الاستبدال بجزء آخر كالقدم مثلاً.

وانماز لفظ الفخِذ من الرجل بفرادة الاستعمال واقترانه بحركة جسدية بُني عليها تقرير حكم للإمام علیه السلام في إحدى حكمه، وذلك في قوله:

«وَمَنْ ضَرَبَ یَدَهُ عَلَی فَخِذِهِ عِنْدَ مُصِیبَتِهِ حَبِطَ أَجْرُهُ».

ويبدو أنَّ في الدلالة التي سيق من أجلها لفظ الفخذ في النص هي الجزع، فقد عبّر عن ذلك الإمام بما يلزم من العدة وهو ضرب اليدين على ما يقابلها من الفخذين، وبذلك قصور في الاستعداد لحصول الفضيلة وارتكاب ضدها وهو الجزع(4)؛ إذ يلجأ الناس في العرف الاجتماعي إلى هذه الحركة عند الجزع، وقد كان استعمالها عند الإمام مختصاً بالجزع والتعبير عنه بلغة جسدية أفرزتها ظروف التداول.

ويذكر الإمام علیه السلام «الأعضاء السبعة التي تكون مباشرتها بالأرض من فروض

ص: 261


1- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 120
2- ينظر: لغة الجسد في القران الكريم: 89
3- ينظر: نهج البلاغة: 2 / 380، ح 323
4- ينظر: شرح حكم أمير المؤمنين: 176

الصلاة وهي: الجبهة، والكفّان، والركبتان، والقدمان»(1)، في النص المذكور آنفاً لجزء الركبة فيقول:

«فَهُم حَانُونَ عَلَي أَوسَاطِهِم، مُفتَرِشُونَ لِجِبَاهِهِم وَ أَكُفّهِم وَ رُكَبِهِم، وَ أَطرَافِ أَقدَامِهِم».

ولفظ الركبة جاء في سياق لغوي يبين صفات المتقين ووصف هيأة الركوع والانحناء في صلاتهم، ثم السجود(2)، وسبقها باسم الفاعل مجموعاً وهو مفترشون، ومعناه باسطون لها على الأرض(3)، وبذلك تتضح دلالة الخضوع ضمناً لحركة الركبتين التي ذكرها الإمام مع الأجزاء السبعة لأنتاج دلالة كبرى مع مجموعة من حركات الأعضاء الأخرى، وهي السجود، يدل على ذلك السياق والقرينة النحوية بالعطف المتوالي للمفردات في النص المذكور.

أمَّا الدلالة الاستعمالية لجزء الساق من الرِّجل عند الإمام فتتضح من تحليل الشواهد ومنها ما ورد في سياق حديث لأمير المؤمنين علیه السلام عن الفتن إذ قال:

«مِرْعَادٌ مِبْرَاقٌ، کَاشِفَهٌ عَنْ سَاقٍ تُقْطَعُ فِیهَا الأَرْحَامُ».

وعبارة «كَاشِفَةٌ عَنْ سَاق» في النص تعبير استعملته العرب، وورد في القرآن الكريم في قوله تعالى:

«يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)»(4).

والساق هنا تحمل دلالة شدة الأمر(5)؛ إذ إنَّ حركة كشف الستار عن الساق

ص: 262


1- نهج البلاغة: تح: محمد أبي الفضل: 1 / 445
2- ينظر: نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه: 221
3- ينظر: صفوة شروح نهج البلاغة: 495
4- القلم:. 42
5- ينظر: المفردات في غريب القران: 329

يقوم بها الناس حينما يشمِّرون بداعي شدة الأمر، قال: علیه السلام:

«إِذَا قَلَّصَتْ حَرْبُكُمْ، وَشَمَّرَتْ عَنْ سَاق»(1).

لذا يكنّى بها عن الشدة، ويذكر الإمام علیه السلام تعبيراً آخر للساق في الشاهد الآخر مزيداً عليه مصدر مشتق من فعلها وهو (السياق) في كلامه عن حال الدنيا:

«أَهْلُهَا عَلَی سَاقٍ وَ سِیَاقٍ، وَ لَحَاقٍ وَ فِرَاقٍ».

للدلالة على الاستعداد لسوقهم لما ينتظرون من آجالهم، وقد استعمل الإمام الساق هنا من دون غيرها من أجزاء الرّجْل؛ لتضمنها معنى الانسياق بدافع حقيقي أو مجازي، والمراد متأهبون قائمون على ساق(2)، لا يلبثون أن يضربوا على سُوقهم فينكبّوا للموت على وجوههم؛ للَّحاق بالماضين، وفِرَاق الباقين(3)، ومصداق ذلك قوله تعالى:

«إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)»(4).

ويظهر أنَّ الدلالة الاستعمالية لهذا الجزء من الرجل عند الإمام هي الاستعداد وما وراءه من أسباب على اختلاف النصوص(5).

أمّا القدم فقد حظيت بنصيب وافر في نصوص نهج البلاغة فقد ذُكرت القدم ثلاثين مرة؛ لذا كانت سياقات هذه القدم منبعاً ثراً لرفد الدلالات الخاصة بأجزاء الإنسان، التي وردت في النهج بأفعال واستعارات مصاحبة أعطتها القدرة على توليد فروع دلالية، ومجازات لم تألفها حتى آخر المعجمات؛ إذ نجد كثيراً من

ص: 263


1- نهج البلاغة: 1 / 209 خ، 92
2- ينظر: أساس البلاغة: 484
3- نهج البلاغة، تح: فارس الحسون: 373
4- القيامة:. 30
5- ينظر: نهج البلاغة: 1 / 318، خ 191، 1 / 464، خ 191

التعبيرات الخاصة بها لم يذكرها أهل اللغة تصل حد الضعف أو أكثر(1)، وبعيداً عن استحصاء تلك المفردة وإحصاء دلالاتها في نهج البلاغة، سوف يكون هدف البحث مدى انصهار المفردة وانسجام دلالتها في النص، وقد ذكرنا للفظ القدم شاهدين الأول قوله علیه السلام في ذكر يوم القيامة وأحوال الناس:

فَأَحْسَنُهُمْ حَالاً مَنْ وَجَدَ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعاً».

وهو تعبير يشير إلى ازدحام فلا يصبح فراغ لمكان يكفي لوضع قدم فيه(2)، وربما جاءت القدمان معبرتين عن الشخص لتكثيف هذا المعنى وملاءمته لموقف يوم القيامة ودلالة السبق المنصوص عليها، والمشار إليها بإحالة بعدية في النص، وهي إحدى آليات الربط التي استعملها الإمام، فقد تجلت الإحالة بنوعيها القبلية والبعدية بعودة الضمائر على مُفَسر موجود في النص، وهو الاسم الموصول (مَن) الذي مثّل محور العلاقة بين طرفي الخطاب(3).

وفي الشاهد الثاني للفظ القدم قال علیه السلام يوصي الأشتر باختيار عمّل له:

«مِنْ أَهْلِ الْبُيُوتَاتِ الصَّالِحَةِ، وَالْقَدَمِ فِي الاِسْلاَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ».

ويلحظ أنَّ الإمام في النص قد «سلك مسلكاً خاصاً يعتمد على استعمال صيغ الأمر والتوكيد المعروفة في اللغة مستفيداً من الثروة اللغوية التي يختزنها وقدرته في بناء الأساليب البلاغية»(4)؛ لبيان الواجبات والإلتزام بها وتنفيذها من الولاة، فالخطاب قد بدأ بفعل أمر وتوسطه آخر يستلزم التنفيذ على المتقدم في الإسلام صاحب الْقَدَمِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِی الإسْلاَمِ، وفي التركيب قد أضفى علیه السلام دلالة صوتية، فضلاً

ص: 264


1- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 119 - 128
2- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 349
3- ينظر: نحو النص اتجاه جديد في الدرس النحوي، أحمد عفيفي: 117
4- عهد الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام لمالك الأشتر دراسة تحليلية في ضوء علم النص: 31

عن دلالة التقدم في الخير والفضل التي حملها سبق القدم، لأن السابق متقدم زمنيا كما وصف(1)، فجاءت الصفة مع موصوفها لتحقيق التوازن الإيقاعي؛ كي يكون الكلام أسهل حفظاً وأثبت في الذهن، وهذه من سمات رسائل الإمام(2)، وخير من مثَّل هذا المعنى حسان بن ثابت في قوله(3): (البسيط) لَنا القَدَمُ الأُولى إلَيكَ وَخَلْفنا *** لأوَّلِنَا في طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ والإمام علیه السلام قد استعمل القدم في النصوص الأُخر(4)، في بنى الإفراد والتثنية والجمع بعلاقات متنوعة مع الأصل اللغوي في سياقات معينة، في جلها كانت القدم متقدمة تارة أو متأخرة تارة أخرى.

وتشترك العِقب مع الساق في الاقتباس القرآني في النهج؛ إذ ورد ذلك في قوله علیه السلام:

«ومَن هالَهُ ما بَینَ یَدَیهَ نَکَصَ علی عَقِبَیهِ».

وفي هذا المقطع من كلام أمير المؤمنين ترِد جملة: «نَكَصَ عَلَی عَقِبَيْهِ» بالتركيب نفسه في القرآن الكريم بقوله:

«وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)»(5).

ص: 265


1- ينظر: جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية: 349
2- ينظر: رسائل الإمام علي في نهج البلاغة دراسة لغوية، رملة خضير مظلوم: 116
3- ديوان حسان بن ثابت، حققه وعلق عليه: وليد عرفات: 1 / 267
4- ينظر على سبيل المثال لا الحصر: نهج البلاغة: 1 / 353، خ 153، 1 / 169، خ 8، 1 / 46، خ 11، 1 / 138، ك 9، 2 / 140، ك 10، 2 / 214، ك 40، 2 / 371، ح 263
5- الأنفال: من الآية. 48

وهذا أسلوب اقتفى فيه الإمام الأسلوب القرآني في بناء الجمل القصيرة في نهج البلاغة؛ لأنَّ نقل اللفظة القرآنية من محيطها الدلالي القرآني وامتزاجها بعلاقات متمكنة دلالياً في كلامه علیه السلام؛ الغرض منه الاستفادة من انطباعها واستقرارها في الأذهان، وذلك للمعاني التي أضافها النص السابق عليها، فكان للكناية القرآنية أثرٌ واضحٌ في الكشف عن خبايا النفس ورصد حالاتها، فالقرآن هو المعين الأول الذي استقى منه الإمام كلّما توخّى التعبير بلغة الإيحاء(1)، ودلالة العبارة باختصار هي الرجوع عن الطريق القويم وتركه(2)، وقد استعمل عقبي الإنسان بدلًا من قدميه لدلالة العقِب على التخلف، فضلاً عن أنّ رجوع الإنسان إلى الخلف يكون بالاعتماد على عقِبيه، ويساند لفظ العقب حركة جسدية لاكتمال الصورة وتوضيح غزارة المعنى بقول الإمام علیه السلام عن النبي محمد في الشاهد الثاني للعقِب:

«وَقَائدِا نَطَأُ عَقِبَهُ».

والتعبير المتعلق بدلالة وطوء العقِب جاء كناية عن المبالغة في الاتّباع والسلوك على طريقه، والمراد نقفوه خطوة خطوة حتى كأنَّنا نطأ مؤخر قدمه، كالمتصلين به، ويأتي استعمال هذا الجزء من مؤخرة القدم، وهذه الحركة الإنسانية، للدلالة على شدة الاتّباع لطريق الرسول وسلوكه(3).

ويذكر الإمام العقِب من الرجل في نصوص أُخر لا يسعنا ذكرها(4)؛ توخياً للإيجاز، لم يخرج في استعماله لهذا الجزء من الإنسان عن دلالة التبعية على الرغم من

ص: 266


1- ينظر: الأثر القرآني في نهج البلاغة: 87، 103
2- ينظر: الدلالات المجازية للأعضاء جسم الإنسان في معجم لسان العرب: 150، والصورة الفنية في المثل القرآني، محمد حسين الصغير: 188
3- ينظر: شرح نهج البلاغة، البحراني: 3 / 174
4- ينظر: نهج البلاغة، على سبيل المثال: 1 / 344، خ 150، 1 / 122، خ 57، 1 / 203، ك 32، 1 / 320، خ 138

اختلاف السياقات التي وضع فيها، ومما تجدر الإشارة إليه أن الإمام لم يستعمل لغة العَقْب بالتسكين وهي لغة تميم، وإنما استعمل لغة العَقِب بالكسر.

ويلاحظ في سياقات الألفاظ الدالة على الرِّجل وملحقاتها وضوح الاقتباس القرآني فيها، وإنَّ هناك ألفاظاً بيّن الإمام علیه السلام استعمالها بتبعيتها للمرجعية اللغوية لها ومنها السّاق، ولا يخفى أنّ هناك ألفاظاً قد إنمازت بظهور دلالات برزت كنتائج لحركات جسدية لبعض الأجزاء تبيّنت في مواضعها.

ص: 267

ص: 268

الخاتمة

ص: 269

ص: 270

الخاتِمة

مثلما كان البدء بالحمد والتسبيح للخبير العليم والصلاة على حبيبه سيد الأنام الأمين المصطفى، يكون المنتهى، وهنا يختتم البحث رحلته لشهور مضت وأيام خلت مع نهج البلاغة، مستخلصاً أهم النتائج التي انتهت إليها هذه الدراسة بعد أن قطعت أشواطاً من الاستقراء والرصد والتحليل، وهذه خلاصة موجزة لأهم النتائج التي توصل إليها الباحث:

أثبتت الدراسة أنّ كتاب نهج البلاغة غنيٌّ بألفاظ أجزاء جسم الإنسان ودلالاتها، كما أثبتت أهميتها الكبرى في عملية التواصل الشفهي وغير الشفهي، وقد ظهر ذلك في كثرة استعمال ألفاظ الجسم في النهج؛ إذ استُعمل فيه قرابة المائة جزء تقريباً، فأفرز ذلك أكثر من ألفٍ ومائة وخمسين شاهدٍ لمائةٍ وواحد وثلاثين لفظٍ، كوَّنت عينة البحث.

ظهر أنَّ وراء كل لفظ من الألفاظ مغزى يؤديه ذلك اللفظ ولا يُؤدى بغيره عند استبداله كالجسم والجسد، والرقبة والعنق، والإصبَع والبنان... الخ؛ لأسباب تتعلق بخصوصية كل لفظ وسماته ذُكرت في تحليل نصوصها، فضلاً عن ذلك فإنَّ بعضاً من هذه الألفاظ (كالأذن والسمع) كان استعمالها في النهج مادياً في الأول ومعنوياً يرتبط بالنفس الإنسانية في الثاني.

يتضح من البحث في معاني الألفاظ الخاصة بجسم الإنسان أنَّ هذا باب منفتح

ص: 271

على معارف كثيرة، بعضها يخصّ تسمية الأجزاء التي تكوِّن الجسم وبعضها يخص حركاتها وأبعادها الإشارية والاجتماعية، وبعضها ديني يخص سلوكها في نطاق إسلامي يهمُّ الخلق والحياة والمعاد، وحركة الجسد وحدوده، وبعضها فكري يخص رمزية الجسد في مستوى معين.

بدت بالدليل العلمي والعملي العلاقة الوثيقة بين اللغة المنطوقة ولغة الجسد التي أكَّدها الإمام في بعض نصوص نهج البلاغة، وفي بعضها الآخر نرى الصراع بينهما كقوله علیه السلام:

«مَا أَضْمَرَ أَحَدٌ شَیْئاً إِلاَّ ظَهَرَ فِی فَلَتَاتِ لِسَانِهِ، وَ صَفَحَاتِ وَجْهِهِ».

فقد أكَّد الإمام (اللغة غير الشفهية)، وهو ما لم تثبته الدراسات إلَّا في خمسينيات القرن الماضي؛ فقد أثبت الإمام أنَّ تعبيرات بعض أجزاء الجسم يمكن أن تحلَّ محل اللفظ بنسبٍ متفاوتة، وفي أخرى تماماً؛ لأنَّ بعضها يغني عن الكلام في مستوى معين من التداول.

أثبتت الدراسة أنّ المعنى السياقي مأخوذ فيه المعنى الحقيقي لكل صيغ الاشتقاق ومنها الاسمية موضع البحث، وذلك بذكر الدلالة المعجمية والأصل فيها، ثم إرجاع جميع المعاني وفروعها إليها بالمناسبة على غرار ما فعل ابن فارس في دلالة الأصل اللغوي، وقد حاول الباحث تقديم دلالة استعماليه جامعة لأكثر الألفاظ موضع الدراسة في كلام الإمام ومناسبتها مع الأصل.

من مظاهر استعمال ألفاظ الجسم عند الإمام توظيفه لبعض لغات العرب ولهجاتها من دون أخرى، مثل لغة التحريك في اللفظين (فخِذ وعقِب) وتجنب لغة التسكين في (فخْذ، وعقْب)، ولغة (الصماخ) من دون لغة (السماخ)، كما استعمل بعض لغات الجمع وأوزانها ومنها أضراس من دون ضروس، وشفاه من دون شفوات.

ص: 272

كان لاستعمال ألفاظ جسم الإنسان في نهج البلاغة أثر مهم في التكوين اللغوي؛ إذ نجد أصحاب المعجمات المتأخرين قد استعانوا بالألفاظ الواردة في نهج البلاغة؛ لأنها جزء من مدونة لغوية يحتج بها في إثبات دلالات معينة ومنهم ابن منظور؛ لما تميَّز به الإمام من استعمال فريد للألفاظ، وتَصرّف في الصيغ والمباني الصرفية؛ فقد أضاف الإمام بعض صيغ الجمع للمعجم، ومنها: مصائخ جمع صماخ.

أظهر استعمال ألفاظ أجزاء الإنسان عند الإمام كثيراً من القدرات العقلية لصاحبها تتناسب والمناسبة التي قيلت فيها والأسس التي تعينت بها اللفظة المختارة في السياق العام، فباتت من كنوز التعبيرات اللغوية التي لا تنقص جمالاً ولا إيحاءً ممثِّلة فيضاً دلالياً وعلمياً عبر التاريخ، وقد جاءت الآن العلوم الحديثة بأدواتها، ومناهجها في العمل لتزيل الحيف الذي وقع على هذا الأثر من جرّاء الأحكام المعيارية، ولتمكننا من النظر إلى الجوانب العلمية والعملية فيه.

من مستويات الاستعمال العلوي لألفاظ الجسم الإنساني عدّه علیه السلام بعض أعضاء الجسم مصدراً بديلاً للأدوات النحوية الظرفية المعبرة عن الاتجاه والاحتواء والتجاور بعيداً عن التصور المعجمي لها؛ إذ استعمله مركزاً في التعبير عن الاتجاهات في اللغة عن طريق نوع مخصوص من الأعضاء كالرأس والوجه والجنب والعقب...، فربط علیه السلام بين اختلاف الدلالة وتنوّع المسمى على وفق حركة الإنسان وزاوية وجوده من مظاهر الطبيعة، كما وظّف الإمام بعض الأعضاء للتعبير عن أنحاء الأشياء بصورة عامة كاستعمال الظهر والبطن.

كان لرؤى الإمام إلى معاني ألفاظ الجسم الإنساني دورٌ مهمٌ في اكتساب نصوصه بعداً استعمالياً خاصاً بكل لفظ؛ إذ تُفصح بعض الألفاظ موضع الدراسة في نصوصها عن تمكنها دلالياً، وقد بينت الدراسة الغرض من استعمال الألفاظ في نصوصها بصورة خاصة، وذلك لعلو منزلته علیه السلام في البلاغة وتمكّنه من عنان

ص: 273

الكلام، لذا فقد مثَّلت بعض الألفاظ مثل الوجه واللسان والقلب واليد والقدم لفظاً محورياً في التركيب لتوليد الدلالة.

تحقق في استعمال بعض الألفاظ الاتساق اللغوي، وذلك بظهور عدد من المصاحبات اللغوية مع ألفاظ متعلقة بسماتها مثل (شعث، شعر)، وظهر الاتساق المعجمي بنسبة أقل في ملازمة بعض الأفعال لأدواتها، ومنها الفعل (سمع) الذي ارتبط بالأذن، والفعل (عضّ) الذي ارتبط بلفظ الأسنان في النصوص جميعها.

عمد الإمام في بعض استعمالاته للألفاظ إلى بعض آليات التلقي التي تستهوي المخاطب، ومنها حضور النص الآخر لفظياً ومعنوياً كالنص القرآني؛ لما له من أثر في انسيابية التلقي، وتصويره علیه السلام لجزء معين من جسم الإنسان بموازاة أجزاء أُخر حتى تكون بمثابة الناقل الحقيقي للصورة وتلقي الرسالة الناتجة عن الاستعمال بنوع من التأثير والإيحاء.

تبيَّن من الخوض في غمار معاني ألفاظ أجزاء الجسم الإنساني ودراستها في سياقاتها، اهتمام الإمام بقضايا لغوية، مثل تحديده لبعض المعاني اللغوية، وقضية التذكير والتأنيث، وترجيحه لبعض استعمالات العرب المجازية لأجزاء جسم الإنسان، والاختلافات في جذورها، والارتقاء ببعض الدلالات للألفاظ مقارنة بما كان شائعاً في استعمال العرب...، وهذا يشير إلى أثر ألفاظ الجسم الإنساني في التكوين اللغوي بوصف نصوص النهج مما يحتجُّ به من كلام العرب.

مثّلت مدوّنة نهج البلاغة مرحلة عالية من الثراء بألفاظ تابعة للجسم الإنساني، وما يؤكد ذلك ذكر الإمام علیه السلام بعض أجزاء الإنسان بمشتقاتها أو بأفعالها وحركاتها من دون ذكر صيغة الاسمية موضع البحث، مثل (البشرة، واللّحاظ، والمرفق...)، لكن البحث أعرض عن دراستها مكتفياً بالإشارة إليها؛ إلتزاماً بعنوان البحث وحفاظاً على المنهج الذي سار عليه.

ص: 274

مثَّل البحث دراسة إحصائية عامة وخاصة بألفاظ جسم الإنسان في نهج البلاغة وشواهدها، إذ قدّم الباحث إحصائية خاصة بالشواهد التي تخصّ الإنسان لكل لفظ بذكرها في مواضعها.

حاول الباحث تحديد معاني الألفاظ وسماتها بدقة، وربطها بما توصل إليه العلم حديثاً ومطابقة ذلك مع ما توصل إليه القدماء من علوم في هذا الميدان، بالاعتماد على المعجم وكتب خلق الإنسان والرسائل اللغوية والعلم البايلوجي.

هذا كان أبرز ما أفضت به فصول البحث من نتائج توصل إليها البحث، وأرى من المناسب وأنا أختتم سطور هذا البحث المتواضع أن أشير إلى بعض الاقتراحات والتوصيات، منها:

ضرورة الاهتمام بالجانب الخلَقي للإنسان في الموروث العربي وربطه بالعلم الحديث، والتثقيف له والسعي لإعطائه حقه في دراسات مشتركة تنضوي تحت عنوان (فقه اللغة العربية البايلوجي) أو (فقه اللغة العربية الطبي)؛ لذا يتوسم الباحث الأمل في إدخال هذا النوع من الدراسة إلى كلياتنا.

أوصي الدارسين أن ينهلوا من هذا المنبع الثّر موضوعات لدراستهم؛ لأن هذا البحث المتواضع يقف موقف الخجول أمام غزارة الظواهر اللغوية وكثرة الاستعارات البلاغية في المتن المدروس (نهج البلاغة).

وبعد ذلك لا يسعني إلاّ أن أحمد الله العلي العزيز على توفيقه، وحسن تسديده، وأعوذ به مما أنساني الشيطان من النقص أو الزلل أولاً، وأعتذر من الخطأ إن وقع في هذا البحث ثانياً، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

ص: 275

المصادر والمراجع

ص: 276

المصادر والمراجع

القرآن الكريم.

أولاً: الكتب المطبوعة:

الأثر القرآني في نهج البلاغة: د. عباس علي حسين الفحام، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2011 م.

الأداء البياني في لغة القرآن الكريم بين النظرية والتطبيق: صباح عباس عنوز، ط 1، التميمي للنشر والتوزيع، النجف الأشرف - العراق، 2012 م.

أساس البلاغة: أبو القاسم جار الله محمود بن عمر بن أحمد الزمخشري (ت 538 ه)، تحقيق:

محمد باسل عيون السود، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1998 م.

استراتيجيات الخطاب مقاربة لغوية تداولية: عبد الهادي بن ظافر الشهري، ط 1، دار الكتاب الجديد، بيروت، 2004 م.

أسرار البلاغة: عبد القاهر الجرجاني (ت 471 ه)، تعليق: محمد رشيد رضا، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 1988 م.

أسرار لغة الجسد: ليلى شحرور، ط 1، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، 2008 م.

الأسلوبية الرؤية والتطبيق: يوسف أبو العدوس، ط 2، دار المسيرة للنشر والتوزيع، عمان، 2010 م.

إشكاليات القراءة وآليات التأويل: نصر حامد أبو زيد، ط 7، بيروت، 2005 م.

الأصوات اللغوية: إبراهيم أنيس، مكتبة الأنجلو المصرية، 2007 م.

أصول تراثية في اللسانيات الحديثة: كريم زكي حسام الدين، ط 3، الرشاد للطباعة والتغليف، فالقاهرة، 2000 م.

أطلس جسم الإنسان: د. أحمد الخزاعي، دار الشمس، بغداد - العراق، (د، ت).

الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم: بسيوني عبد الفتاح فيود، ط 1، مؤسسة المختار، القاهرة،

ص: 277

2010 م.

أعلام نهج البلاغة: هاشم مرتضى، سلسلة في رحاب نهج البلاغة، (د. ط)، 2012 م.

الإمام علي $ في ملاحم نهج البلاغة: علي عزيز الابراهيم، ط 1، الدار الاسلامية، بيروت، 1996 م.

الإنسان في الشعر الجاهلي: عبد الغني أحمد زيتوني، ط 1، مركز زايد للتراث والتاريخ الإمارات العربية المتحدة، 2001 م.

الإنسان الكامل في الإسلام: عبد الرحمن بدوي، ط 2، وكالة المطبوعات، الكويت، (د، ت).

الإنسان والتاريخ في شعر أبي تمام: أسعد أحمد علي، ط 2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972 م.

بحار الأنوار الجامعة لدرر الأئمة الأطهار: العلاّمة محمد باقر المجلسي، ط 3، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 1983 م.

البرجماتية: وليام جيمس، ترجمة: محمد علي العريان، المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2008 م.

بغية الوعاة في طبقات اللغوين والنحاة: جلال الدين عبد الرحمن السيوطي (ت 911 ه)، تحقيق:

محمد أبي الفضل ابراهيم، ط 2، دار الفكر، بيروت، 1979 م.

بلاغة العرب نشأتها - تطورها - علومها: د. علي سلوم، ط 1، دار المواسم للطباعة والنشر، 2002 م.

البلاغة العربية البيان والبديع: طالب الزوبعي وناصر حلاوي، دار النهضة العربية، بيروت، 1996 م.

بهج الصباغة في شرح نهج البلاغة: محمد تقي التستري، ط 1، دار أمير كبير، طهران، 1997 م.

البيان في ضوء أساليب القرآن: عبد الفتاح لاشين، ط 1، دار الفكر العربي، القاهرة، 1990 م.

تاج العروس من جواهر القاموس: أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي (ت 379 ه)، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، 1965.

التبيان في تفسير غريب القرآن: شهاب الدين أحمد بن محمد المعروف بابن الهائم (ت 815 ه)، تحقيق: د. ضاحي عبد الباقي محمد، ط 1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 2003 م.

التحقيق في كلمات القرآن: حسن مصطفوي، ط 1، مركز نشر آثار العلامة المصطفوي، طهران، 1393 ه.

التحليل الدلالي إجراءاته ومناهجه: كريم زكي حسام الدين، ط 1، كتب عربية، (د. ت).

التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة: محمود عكاشة، ط 1، دار النشر للجامعات، القاهرة - مصر، 2005 م.

ص: 278

التداولية عند العلماء العرب: مسعود صحراوي، ط 1، دار الطليعة، بيروت، 2005 م.

تصنيف نهج البلاغة: لبيب بيضون، ط 3، مركز النشر التابع لمكتب الإعلام الاسلامي، قم - إيران، 1417 ه.

تهذيب اللغة: أبو منصور محمد بن أحمد الأزهري (ت 370 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون وآخرون، ط 1، الدار المصرية للتأليف والترجمة، القاهرة، 1976 م.

التوقيف على مهمات التعريف: محمد عبد الرؤوف المناوي، تحقيق: محمد رضوان الداية، ط 1، دار الفكر المعاصر، بيروت، 1410 ه.

جامع البيان في تأويل القرآن: أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (ت 310 ه)، دار الفكر، بيروت، 1405 ه.

الجراثيم: أبو عبدالله بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، تحقيق: محمد جاسم الحميدي، ج 1، منشورات وزارة الثقافة، دمشق، 1977 م.

جسد الإنسان والتعبيرات اللغوية (دراسة دلالية ومعجم): محمد محمد داوود، ط 1، دار غريب، القاهرة، 2007 م.

جمهرة اللغة: أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد (ت 321 ه)، ط 1، دائرة المعارف، حيدر آباد، 1344 ه.

جواهر البلاغة في المعاني والبيان والبديع: أحمد الهاشمي، ط 2، مطبعة الأمير، إيران، 1383 ه.

الجيم: إسحاق بن مرار أبو عمرو الشيباني (ت 206 ه)، تحقيق: إبراهيم الإيباري، ط 1، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، القاهرة، 1974 م.

الحجاج وبناء الخطاب في أضواء البلاغة العربية الجديدة: أمينة الدهري، ط 1، شركة النشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2011 م.

الحج في نهج البلاغة: فارس الحسون، سلسلة في رحاب نهج البلاغة (12)، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2011 م.

حياة القلوب: مركز نون للتأليف والترجمة، ط 1، المعارف الإسلامية الثقافية، بيروت، 2009 م.

خلق الإنسان: أبو إسحاق إبراهيم بن السري (ت 311 ه)، تحقيق: وليد بن أحمد الحسين، ط 1، سلسلة إصدارات الحكمة (20)، مانشستر - بريطانيا، 2004 م.

خلق الإنسان: أبو محمد ثابت بن ثابت، تحقيق: عبد الستار أحمد فراج، ط 2، مطبعة حكومة الكويت، الكويت، 1985 م.

خلق الإنسان ضمن الكنز اللغوي في اللسن العربي: أبو سعيد عبد الملك بن قريب الأصمعي

ص: 279

(ت 216 ه) تعليق: د. أوغست هفنر، المطبعة الكاثوليكية للآباء اليسوعيين، بيروت، 1903 م.

خلق الإنسان في اللغة: محمد بن حبيب البغدادي (ت 245 ه)، تحقيق: خليل إبراهيم العطية، ط 1، مكتبة الثقافة الدينية، مصر، 1994 م.

دراسات في نهج البلاغة: محمد مهدي شمس الدين، ط 2، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت - لبنان، 1972.

دراسة الصوت اللغوي: أحمد مختار عمر، ط 1، عالم الكتب، القاهرة، 1997 م.

دراسة مخارج الأصوات العربية وصفاتها عند القدماء والمحدثين: أحمد جاسم النجفي، ط 1، دار البذرة، النجف الأشرف - العراق، 2015 م.

دلائل الإعجاز: أبو بكر عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني (ت 471 ه)، تعليق:

محمود محمد شاكر، ط 5، مكتبة الخانجي، القاهرة، 2004 م.

دلالة الألفاظ: إبراهيم أنيس، ط 2، مكتبة الأنجلو المصرية، 1963 م.

الدنيا في نهج البلاغة: سلسلة في رحاب نهج البلاغة (3)، إعداد مكتبة الروضة الحيدرية، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2012 م.

ديوان حسان بن ثابت: تحقيق وتعليق: وليد عرفات، ط، دار صادر، بيروت، 2006 م.

رؤى الحياة في نهج البلاغة: حسن الصفار، ط 4، 1997 م.

رسائل الإمام علي في نهج البلاغة دراسة لغوية: رملة خضير مظلوم البديري، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2012 م.

الزاهر في معاني كلمات الناس: أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري (ت 328 ه)، تحقيق: حاتم صالح الضامن، ط 1، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1992 م.

السنن الكبرى: أبو بكر أحمد بن الحسين بن علي البيهقي (ت 458 ه)، دار الفكر، بيروت، (د. ت).

سنن النبي (صلى الله عليه وآله): العلاّمة السيد محمد حسين الطباطبائي، تحقيق: الشيخ محمد هادي الفقهي، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي، قم المقدسة، 1416 ه.

السياق والنص الشعري من البنية إلى القراءة: علي آيت أوشان، ط 1، دار الثقافة للنشر والتوزيع، الدار البيضاء، 2000 م.

سيرة الإمام أمير المؤمنين $ في نهج البلاغة: هاشم الميلاني، ط 1، سلسلة في رحاب نهج البلاغة (7)، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2011 م.

السيميائيات مفاهيمها وتطبيقاتها: سعيد بنكراد، ط 2، دار الحوار للنشر والتوزيع، سوريا -

ص: 280

اللاذقية، 2005 م.

شرح حكم أمير المؤمنين: الشيخ عباس القمي، سلسلة في رحاب نهج البلاغة (5)، العتبة العلوية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2011 م.

شرح كتاب أمير المؤمنين $ إلى عثمان بن حنيف الأنصاري: هاشم الميلاني، سلسلة في رحاب نهج البلاغة (22)، ط 1، العتبة العلوية المقدسة، النجف الاشرف - العراق، 2012 م.

شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد (ت 656 ه)، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 2، دار الجيل، بيروت، 1996 م.

شرح نهج البلاغة: كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم البحراني (ت 679 ه)، ط 1، منشورات دار الثقلين، بيروت، 1999 م.

الصحاح، تاج اللغة وصحاح العربية: إسماعيل بن حماد الجوهري (ت 396 ه)، تحقيق: أحمد عبد الغفور عطار، ط 4، دار العلم للملايين، بيروت، 1990 م.

صفوة شروح نهج البلاغة: جمع وضبط: أركان التميمي، ط 1، دار الاعتصام، إيران، 1429 ه.

الصورة الفنية في المثل القرآني: محمد حسين علي الصغير، ط 1، دار الهادي، بيروت، 1992 م.

طوق الحمامة في الألفة والألاّف: محمد بن علي بن حزم الأندلسي (ت 456 ه)، مكتبة عرفة، دمشق، 1349 ه.

الظاهراتية وفلسفة اللغة: عز العرب لحكيم بناني، ط 2، أفريقيا الشرق، المغرب، 2013 م.

العباب الزاخر واللباب الفاخر: رضي الدين الحسن بن محمد الصاغاني (ت 650 ه)، تحقيق:

د. فير محمد حسن، ط 1، مطبعة المجمع العلمي العراقي، 1978 م.

العلامة تحليل المفهوم وتاريخه: إمبرتو إيكو، ترجمة: سعيد بنكراد، ط 1، المركز الثقافي العربي، بيروت، 2007 م.

علم التشريح: د. قيس إبراهيم الدوري، ط 2، مطبعة التعليم العالي، بغداد، 1988.

علم الدلالة: أف. آر. بالمر: ترجمة: مجيد الماشطة، ط 1، بغداد، الجامعة المستنصرية، 1985 م.

علم الدلالة: بييرجيرو، ترجمة: منذر عياشي، ط 1، دار طلاس، دمشق، 1992 م.

علم الدلالة: كلود جرمان وريمون لوبلون، ترجمة: نور الهدى لوشن، ط 1، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي - ليبيا، 1997 م.

علم الدلالة التطبيقي في التراث العربي: د. هادي نهر، ط 1، دار الأمل للنشر والتوزيع، أربد - الأردن، 2007 م.

علم الفراسة (قراءة الوجه والأفكار والحاسة السادسة): خليل حنا تادرس، ط 1، كتابنا للنشر،

ص: 281

بيروت، 2012 م.

عهد الإمام علي بن أبي طالب لمالك الأشتر دراسة تحليلية في ضوء علم النص: د. عبد الكاظم محسن الياسري، ط 1، دار المتقين، بيروت، 2013 م.

العين: أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 175 ه)، تحقيق: د. مهدي المخزومي، ود. إبراهيم السامرائي، سلسلة المعاجم والفهارس، دار الرشيد للنشر، بغداد، 1980 م.

غريب الحديث: أبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحربي، تحقيق: سليمان بن إبراهيم بن محمد العايد، ط 1، جامعة أم القرى، 1985 م.

غريب الحديث: أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي، تحقيق: عبد الكريم إبراهيم الغرباوي، جامعة أم القرى، مكة المكرمة، 1402 ه.

غريب الحديث: أبو عبد الله محمد بن مسلم بن قتيبة الدينوري (ت 276 ه)، تحقيق: د. عبد الله الجبوري، ط 1، مطبعة المعاني، بغداد، 1397 ه.

غريب الحديث: أبو عبيد القاسم بن سلام الهروي (ت 224 ه)، ط 1، مطبعة مجلس دار المعارف العثمانية، حيدر آباد - الهند، 1964 م.

الغريب المصنف: أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224 ه)، تحقيق: رمضان عبد التواب، ط 1، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 1989 م.

غريب نهج البلاغة: عبد الكريم حسين السعداوي، ط 1، مكتبة الروضة الحيدرية المقدسة، النجف الأشرف - العراق، 2011 م.

الفروق اللغوية: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (ت 395 ه) تحقيق: محمد إبراهيم سليم، دار العلم والثقافة، القاهرة، 1997 م.

فقه اللغة وسر العربية: أبو منصور الثعالبي (ت 430 ه)، تحقيق: مصطفى الشلبي وآخرين، ط 1، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، 1938 م.

الفهرست: ابن النديم، مطبعة الاستقامة، القاهرة، (د. ت).

في ذكر شيء من الحلي: أبو عبد الله محمد بن جعفر القزاز التميمي (ت 412 ه)، ضبط: طاهر النعمان وأحمد قدوري كيلاني، ط 1، مطبعة العرفان، صيدا، 1922 م.

في ظلال نهج البلاغة: شرح: محمد جواد مغنية، ط 3، دار العلم للملايين، بيروت، 1979 م.

الفينومينولوجيا عند هوسرل: سماح رافع محمد، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1991 م.

القاموس المحيط: مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزآبادي (ت 817 ه)، تحقيق: مكتب تحقيق التراث، ط 8، مؤسسة الرسالة، بيروت، 2005 م.

ص: 282

قراءة راشدة لكتاب نهج البلاغة: عبد الرحمن بن عبد الله الجميعان، ط 1، سلسلة نحو وحدة إسلامية صادقة (2)، 2005 م.

القوى العقلية الحواس الخمس: مايكل هاينز، ترجمة: عبد الرحمن الطيب، ط 1، الأهلية للنشر والتوزيع، عمان - الأردن، 2009 م.

كتاب الصناعتين في الكتابة والشعر: أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري (ت 395 ه)، تحقيق: علي محمد البجاوي ومحمد أبي الفضل إبراهيم، ط 1، دار احياء الكتب العربية، عيسى البابي الحلبي وشركاه، 1952 م.

الكليات، معجم في المصطلحات والفروق اللغوية: أبو البقاء أيوب بن موسى الحسيني الكفوي (ت 1094 ه)، ضبط وتنسيق: د. عدنان درويش ومحمد المصري، ط 2، مؤسسة الرسالة ناشرون، 1998 م.

لسان العرب: أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور المصري (ت 711 ه)، دار صادر، بيروت، 2007 م.

اللسان والإنسان مدخل إلى معرفة اللغة: حسن ظاظا، ط 2، دار القلم، دمشق، 1990 م.

لسانيات النص نحو منهج لتحليل الخطاب الشعري: أحمد مدارس، ط 2، عالم الكتب الحديث، أربد - الأردن، 2009 م اللسانيات الوظيفية مدخل نظري: أحمد المتوكل، ط 1، دار الكتب الجديدة المتحدة، بيروت، 2010 م.

اللغة العربية معناها ومبناها: تمام حسان، دار الثقافة، الدار البيضاء - المغرب، 1994 م.

اللغة والجسد: الأزهر الزناد، ط 1، دار نيبور، بيروت - لبنان، 2014 م اللغة والمجاز بين التوحيد ووحدة الوجود: عبد الوهاب المسيري، ط 1، دار الشروق، القاهرة، 2002 م.

المجموع من شرح المهذب: أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676 ه)، دار الفكر، بيروت، 1997 م.

المحكم والمحيط الأعظم: أبو الحسن علي بن إسماعيل بن سيدة المرسي (ت 458 ه)، تحقيق: عبد الحميد هنداوي، ط 1، دار الكتب العلمية، بيروت، 2000 م.

المخصص: أبو الحسن علي بن إسماعيل الأندلسي المعروف بابن سيده (ت 457 ه)، ط 1، المطبعة الأميرية ببولاق، مصر، 1316 ه.

مستدرك نهج البلاغة، وهو مجموع مختار من كلام مولانا أمير المؤمنين (علي بن أبي طالب) $

ص: 283

مروي في غير النهج: الهادي كاشف الغطاء، ط 1، مطبعة الراعي، النجف الأشرف - العراق، 1354 ه.

مسند الإمام أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني (ت 241 ه)، تحقيق:

شعيب الأرنؤوط وآخرين، ط 2، مؤسسة الرسالة، بيروت، 1999 م.

المصباح المنير: أحمد بن محمد بن علي الفيومي المقرئ (ت 770 ه)، ط 1، مكتبة لبنان، بيروت، 1987 م.

معالم التنزيل: أبو محمد الحسين بن مسعود البغوي (ت 516 ه)، ط 1، دار ابن حزم، بيروت، 2002 م.

معاني القرآن الكريم: أبو جعفر النحاس (ت 338 ه)، تحقيق: محمد علي الصابوني، ط 1، مركز إحياء التراث الإسلامي، مكة المكرمة، 1989 م.

معاني القرآن وإعرابه: أبو إسحاق إبراهيم بن السري (ت 311 ه)، ط 1، تحقيق: د. عبد الجليل عبده شلبي، عالم الكتب، بيروت، 1988 م.

معجم الفروق اللغوية الحاوي لكتاب أبي هلال العسكري وجزء من كتاب السيد نور الدين الجزائري: تنظيم الشيخ بيت الله بيات ومؤسسة النشر الإسلامي، ط 1، مؤسسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين، قم، 1412 ه.

المعجم المبتكر فيما يتعلق بالمؤنث والمذكر: ذو الفقار أحمد النقوي، ط 1، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 1998 م.

معجم المتفق والمفترق في ألقاب أئمة اللغة والنحو وكناهم وأنسابهم: محمد كشاش، ط 1، عالم الكتب، بيروت، 1998 م.

معجم مقاييس اللغة: أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا (ت 395 ه)، تحقيق: عبد السلام محمد هارون، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 1979 م.

المعجمية العربية على ضوء الثنائية والألسنية السامية: الأب. أ. س. مرمرجي الدومنكي، ط 1، مطبعة الآباء الفرنسيين، القدس، 1937 م.

المعنى في علم المصطلحات: إعداد المنظمة العربية للترجمة، ترجمة: ريتا خاطر، ط 1، بيروت، 2009 م.

المعنى وظلال المعنى: محمد محمد يونس، ط 2، دار المدار الاسلامي، بيروت، 2007 م.

المفردات في غريب القرآن: أبو القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني (ت 502 ه)، تحقيق: محمد سيد كيلاني، ط 1، دار القلم، دمشق، (د، ت).

ص: 284

المقاربة التداولية: فرانسوار أرمينكو، ترجمة: سعيد علوش،، مركز الإنماء القومي، الرباط، 1986 م.

مقالة في أسماء أعضاء الإنسان: أحمد بن فارس (ت 395 ه) تحقيق: الدكتور فيصل دبدوب، مطبوعات مجمع اللغة العربية، دمشق، 1967 م.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: قطب الدين أبو الحسين سعيد بن هبة الله بن الحسن الراوندي، مكتبة آية الله المرعشي العامة، قم، 1406 ق.

منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة: ميرزا حبيب الله الهاشمي الخوئي، ضبط وتحقيق: علي عاشور، ط 1، دار إحياء التراث العربي، بيروت، 2003 م.

منهج البحث اللغوي بين التراث وعلم اللغة الحديث: علي زوين ط 1، دار الشؤون الثقافية العامة، بغداد، 1986 م.

موسوعة الإمام علي $ في الكتاب والسنة والتاريخ: محمد الريشهري، ط 1، دار الحديث للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2000 م.

الميزان في تفسير القرآن: محمد حسين الطباطبائي، ط 1، دار الأضواء، بيروت، 2010 م.

نحو النص إتجاه جديد في الدرس النحوي: أحمد عفيفي، ط 1، مكتبه زهراء الشرق، القاهرة، 2001 م.

النص والسلطة والحقيقة: نصر حامد أبو زيد، ط 5، المركز الثقافي العربي، 2006 م.

نظرية النحو العربي: نهاد الموسى، ط 1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980 م.

نفحات الولاية شرح عصري جامع لنهج البلاغة: ناصر مكارم الشيرازي، ط 3، دار نشر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، قم - إيران، 1430 ه.

نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب: أبو العباس أحمد بن على القلقشندي، تحقيق: إبراهيم الأبياري، ط 2، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1980 م.

النهاية في غريب الحديث والأثر: أبو السعادات المبارك بن محمد بن محمد الجزري ابن الأثير (ت 606 ه)، تحقيق: طاهر أحمد الزاوي ومحمد الطناحي، المكتبة العلمية، بيروت، 1979 م.

نهج البلاغة: تحقيق: فارس الحسون، ط 1، مركز الأبحاث العقائدية في قم المقدسة والنجف الأشرف، 1419 ه.

نهج البلاغة: تحقيق: هاشم الميلاني، ط 1، مكتبة الروضة الحيدرية، النجف الأشرف - العراق، 2012 م.

نهج البلاغة: تعليق: محمد الحسيني الشيرازي، ط 1، دار العلوم، بيروت، 2008 م.

ص: 285

نهج البلاغة: تقديم وشرح: محمد عبده، ط 1، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع، القاهرة، 2009 م.

نهج البلاغة: ضبط نصه وابتكر فهارسه العلمية: صبحي الصالح، ط 4، دار الكتاب المصري، القاهرة، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 2004 م.

نهج البلاغة: قرأه وعلق عليه: يحيى مراد، ط 1، كتب عربية، بيروت، (د. ت).

نهج البلاغة الميسر: أركان التميمي، ط 1، دار المحجة البيضاء، بيروت، 2013 م.

نهج البلاغة والطب الحديث: الدكتور صادق عبد الرضا علي، دار المؤرخ العربي، ط 1، بيروت، 2003 م.

نهج البلاغة والمعجم المفهرس لألفاظه: إعداد: دار التعارف للمطبوعات، ط 1، بيروت، 1990 م.

نهج البلاغة، وهو ما جمعه الشريف الرضي من كلام أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب $، تحقيق وشرح: محمد أبو الفضل إبراهيم، ط 1، دار الجيل، بيروت، 1988 م.

نهج السعادة في مستدرك نهج البلاغة: محمد باقر المحمودي، ط 1، دار التعارف للمطبوعات، بيروت، 1976 م.

ثانياً: الرسائل الجامعية:

الاحتراز في نهج البلاغة دراسة نحوية ودلالية: صباح رحمن دايخ، رسالة ماجستير، كلية التربية للعلوم الإنسانية، جامعة المثنى، العراق، 2015 م.

الأداء البياني في خطب الحرب في نهج البلاغة: نجلاء عبدالحسين عليوي الغزالي، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة الكوفة، العراق، 2002 م.

الإنسان الكليات والجزئيات في القرآن الكريم دراسة دلالية: سلام محمد ياسين الحيحي، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، نابلس - فلسطين، 2011 م.

جهود حبيب الله الخوئي النحوية في شرح نهج البلاغة: ظافر عبيس عناد، رسالة ماجستير، كلية الآداب، جامعة الكوفة، العراق، 2010 م.

خطب نهج البلاغة بحث في الدلالة: أحمد هادي زيدان نصيف، رسالة ماجستير، كلية التربية، جامعة بابل، العراق، 2006 م.

لغة الجسد في القرآن الكريم: أسامة جميل عبد الغني ربايعة، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية في نابلس - فلسطين، 2010 م.

ما بني من ألفاظ اللغة على أقوال الإمام علي في لسان العرب: رائد عبد الله أحمد زيد، رسالة ماجستير، كلية الدراسات العليا، جامعة النجاح الوطنية، نابلس، فلسطين، 2005 م.

ص: 286

نظرية الحقول الدلالية في كتاب المخصص لابن سيده: رزاق جعفر عبد الحسين الزيرجاوي، رسالة ماجستير، كلية الآداب، الجامعة المستنصرية، العراق، 2002 م.

وراثة الأرض في القرآن الكريم والكتب السماوية: نور مهدي كاظم الساعدي، رسالة ماجستير، كلية الفقه، جامعة الكوفة، العراق، 2012 م.

ثالثاً: البحوث والدوريات:

الدلالات المجازية لأعضاء الإنسان في معجم لسان العرب لابن منظور: صالح ملا عزيز وآخرون، مجلة كلية التربية، العدد 4، مجلد 1، 2011 م.

السياق والتأويل: أحمد حساني، مجلة الموقف العربي، دمشق، العدد 395 ، آذار - 2004 م.

العقل والقلب في الرؤية القرآنية: علي كاظم الفتال، مجلة المصباح، الأمانة العامة للعتبة الحسينية، العدد 4، 2011 م.

مقالات في تحليل الخطاب: بسمة بالحاج رحومة وآخرون، كلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة، تونس، وحدة البحث في تحليل الخطاب، بحث منشور على موقع الجامعة، 2008 م.

رابعاً: مصادر الشبكة العنكبوتية:

أطلس جسم الإنسان، على الشبكة العنكبوتية: .www.google.iq عناصر الإلقاء الجسدي - المظهر: د. محمد بدرة، منشور على الرابط:. http://edutrapedia .illaf.net/arabic/show_article.thtml?id=51 لغة الجسد في القرآن الكريم: د. عمر عتيق، بحث منشور على الشبكة العنكبوتية على الرابط:

http://www.qou.edu/arabic/researchProgram/researchersPages/ omarAteeq/search_7.pdf.

مبادئ الاتصال غير اللفظي: د. محمد بدرة، منشور على الرابط: . http://edutrapedia .illaf.net/arabic/show_article.thtml?id=44d الناصية ووظيفة الفص الجبهي للدماغ (دراسة إعجازية لسورة العلق): الدكتور محمد يوسف سكر، بحث منشور على موقع الهيأة العالمية للإعجاز العلمي: .www.eajaz.or ناصيتي بيدك: عبد الدائم الكحيل، بحث المنشور على موقعه على الشبكة العنكبوتية: . www .kheel.com الهيأة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة: . www.eajaz.or

ص: 287

المحتويات

مقدمة المؤسسة...11

المقدمة...15

الفصل الأول: الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به المبحث الأول: الألفاظ الدالة على الرأس وما يلحق به...23

المبحث الثاني: الألفاظ الدالة على الوجه وما يلحق به...45

المبحث الثالث: الألفاظ الدالة على العين وما يلحق بها...57

المبحث الرابع: الألفاظ الدالة على الأُذُن وما يلحق بها...81

المبحث الخامس: الألفاظ الدالة على الأنف وما يلحق به...95

المبحث السادس: الألفاظ الدالة على الفم وما يلحق به...105

الفصل الثاني: الألفاظ الدّالة على جذع الإنسان وما يلحق به المبحث الأول: الألفاظ الدالة على العنق وما يلحق به...139

المبحث الثاني: الألفاظ الدالة على الصدر وما يلحق به...147

المبحث الثالث: الألفاظ الدالة على القلب وما يلحق به...165

المبحث الرابع: الألفاظ الدالة على البطن وما يلحق بها...185

المبحث الخامس: به الألفاظ الدالة على الجنب وما يلحق بها...199

المبحث السادس: الألفاظ الدالة على الظهر وما يلحق به...211

الفصل الثالث: الألفاظ الدالة على الأطراف وما يلحق ها بها المبحث الأول: الألفاظ الدالة على اليد وما يلحق بها...229

المبحث الثاني: الألفاظ الدالة على الرِّجل وما يلحق بها...255

الخاتمة...271

المصادر والمراجع...277

ص: 288

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.