معالم مهدویة

هوية الکتاب

مَعالِمُ مَهدَوِیَةُ

الشیخ نِزَار آل سُنبُل القَطیفیّ

بقلم أَحمَد طلال صَفَر

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

رقم الإصدار: 188

ص: 1

اشارة

مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

النجف الأشرف - شارع السور - قرب جبل الحویش

الموبایل : 07816787226 و 07812141111

www.m-mahdi.com

info@m-mahdi.com

معالم مهدویة الشیخ نزار آل سنبل القطیفی

بقلم أحمد طلال صفر

تقديم: مَركَز الدَّراسَاتِ التَّخَصُّصِّيَّة فِي الإِمَامِ المَهدِيّ عَجَّلَ الله تعالَي فَرَجَهُ الشَّريف

الطبعة الأُولیٰ: 1438 ه-

النجف الأشرف

رقم الإصدار: 188

عدد نسخ: 3000

جمیع الحقوق محفوظة للمرکز

ص: 2

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدّمة المركز:

حينما تُسرع الفتن في مجتمعاتنا وتهبُّ العواصف التشكيكية في خَلَجات قلوب الضعفاء من أتباع مدرسة أهل البيت علیهم السلام ينبري العلماء لمسك دفَّة سفينة الاستقامة ورفع شراع الأصالة تطبيقاً لقوله: «إذا ظهرت البدع فعلىٰ العالم أن يُظهر علمه»(1).

ونحن اليوم في خضم معركة تشكيكية شرسة تحاول النيل من سواحل عقيدة الإماميَّة الاثني عشرية في واحدة من أهم مبانيهم الفكرية - وبالأحرىٰ من أهم المباني الإسلاميَّة عموماً - وعقائدهم الأصيلة، ألَا وهي عقيدة المهدي المنتظر الموعود علیه السلام.

کا وفي نفس الوقت نحن نخوض حواراً داخلياً صعباً يريد استلاب العقيدة وحرفها عن الجادَّة القويمة وتأطيرها بإطار أدعياء المهدوية مستنداً إلىٰ نسج حالة من الضبابية الفكرية والغنوصية الباطنية لكي يسيطر علىٰ الساذج من العقول والسطحي من الأفكار.

نعم نحن بين معركتين الأُولىٰ تحاول جاهدة إنكار العقيدة من الأساس والتهجُّم علىٰ معتقدیها بأنَّهم يعيشون حالة من النرجسية والمثالية الناتجة عن طول الاضطهاد والقهر والاستضعاف، لذلك نسجوا في خيالهم المنقذ العالمي والمخلص المقتدر حتَّىٰ يحافظ علىٰ وحدة

ص: 3


1- عيون أخبار الرضا علیه السلام 1: 103/ باب 10/ ح 2

كيانهم وعدم ذوبانهم في الكيانات الأُخرىٰ، ومن ثَمَّ ضياعهم واضمحلالهم، متناسين أنَّ هذه العقيدة - المهدي المنتظر - هي أصيلة بأصالة الإسلام، بل بأصالة الديانات الإلهيَّة الكبرىٰ، وهذا القرآن يصدح قائلاً: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)» (الأنبياء:105).

كما أنَّ من آمن بها ليسوا من صنف المستضعفين والمقهورين دائماً، بل آمن بها وحاول تقمُّص شخصيتها الحاكمون والطغاة أيضاً سواء في العصر الأُموي أو العبّاسي، وقبل هذا وذاك هي عقيدة بشَّر بها نبيُّ الرحمة صلی الله علیه و اله في أكثر من (560) رواية من الطرفين، ومئات الروايات عن ذرّيته المعصومة علیهم السلام .

أمَّا المعركة الثانية فهي محاولة التسلُّق علىٰ أكتاف آل محمّد، وذلك بالادعاءات الكاذبة، ومع كل الأسف نجد البعض سواء عن طيب قلب أو خبث سريرة ينصاع لمثل هذه الشبهات وينخدع بمثل هذه الدعوات، وهذا ليس بالأمر الغريب أو الجديد، بل هو قديم بِقدَم رسوخ العقيدة المهدوية عبر قرون من الزمن، فها نحن أمام العبرتائي وهو أوَّل من نَصَبَ نفسه لمقام غیر مقامه فيبداية عصر الغيبة الصغرىٰ وتبعه الآخرون أمثال أبي دلف والشلمغاني حتَّىٰ صدر فيه وفي أمثاله لعائن الله على يد مولانا صاحب العصر والزمان علیه السلام ، وها نحن اليوم أمام ادعاء جديد وبابية وبهائية أُخرىٰ، وهي دعوىٰ (أحمد إسماعيل گاطع) أو ما يحلو لأصحابه تسميته (أحمد الحسن) أو اليماني أو عشرات غيرها من الألقاب المستلبة التي يحاول تجريدها من مقام صاحب العصر والزمان علیه السلام وتكريسها لنفسه الضعيفة والأمّارة.

ص: 4

ولذا فنحن بحاجة ماسَّة إلىٰ أمرين مهمّين: الأوَّل تأصيل العقيدة المهدوية وترسيخها في قلوب شبابنا ومجتمعنا، والثاني تفنيد الشبهات وحلُّ الإشكاليات بصورة علمية متينة.

وكتاب (معالم مهدوية) - الذي بين يديك عزيزي القارئ - قد جمع بين الأمرين معاً، فهو يُؤصل للفكر المهدوي - وقد أفلح في ذلك ونجح أيّما نجاح - من خلال الأدلَّة العقلية والنقلية العامَّة والخاصَّة، كما أنَّه يجيب علىٰ الكثير من الشبهات القديمة والحديثة بأُسلوب رصين خالٍ من التعقيد والإبهام، فهو بحقٍّ من مصاديق السهل الممتنع، ولعلَّ ممَّا ساعد علىٰ ذلك أنَّ الكتاب كان علىٰ شكل محاضرات ودروس علىٰ نخبة من أهل الفكر والمعرفة ألقاها عليهم ساحة الأُستاذ الشيخ نزار سنبل حفظه الله ورعاه، وقد جمعها وقرَّرها بأُسلوب لطيف جَمَعَ بين سهولة اللفظ وجزالة المعنىٰ وعمق الفكرة الأخ الفاضل (أحمد طلال صفر) متوخّياً في ذلك رضاسیده ومولاه حجَّة الله علىٰ الخلق صاحب العصر والزمان علیه السلام، فجزىٰ الله المحاضر والمقرر عن إمامهم خير جزاء المحسنين، وجعلهما وإيّانا من أصحابه وأنصاره وشیعته ومقوية سلطانه والمستشهدين تحت لوائه.مدير المركز السيّد محمّد القبانچي

ص: 5

ص: 6

شكر وثناء

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام علىٰ سادة الخلق نبينا محمّد وآله الأئمَّة الطاهرين، ولعنة الله علىٰ أعدائهم أجمعين إلىٰ يوم الدين.

وبعد.. فقد أطلعني الولد العزيز، الشاب المهذَّب ، أحمد صفر وفَّقه الله تعالىٰ لرضاه، ما حرَّره من مجموعات سمعية متفرقة، كان بعضها محاضرات ألقيتها حول (صاحب الزمان)، وبعضها لقاءات تلفزيونية في الموضوع نفسه، فرتَّبها وأخرج مصادرها، فجاءت هذه الحلَّة القشيبة، ف(لله) درُّه وعليه أجره، وأسأل الله تعالىٰ أن يجعلها في ميزان أعالي وأعماله، وأن تكون محلًّا لعناية ورضا ولی نعمتنا، وإمامنا الحجَّة بن الحسن أرواحنا فداه.

ولا يخفىٰ أنَّ هذه الأوراق وإن اشتملت علىٰ إثارات مختلفة إلَّا أنَّها بمقدار ما يسمح له الوجود اللفظي للفكرة، أعني وقت المحاضرة أو البرنامج ممَّا يُبرر عدم الإسهاب. ويعذرنا - القارئ - في عدم إشباع الموضوع.

الجش / بالقطيف (5/ شهر رمضان / 1437 ه )

نزار سنبل القطيفي

ص: 7

ص: 8

المقدمة:عقيدة المصلح العالمي

اشارة

• البشارة بالمهدي علیه السلام في الكتب القديمة.

• البشارة بالمهدي علیه السلام في القرآن الكريم.

• البشارة بالمهدي علیه السلام في أحاديث أهل البيت علیهم السلام.

• تشخيص الإماميَّة للمصلح العالمي.

ص: 9

ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ عقيدة المصلح العالمي لا تختصُّ بشيعة آل محمّد علیهم السلام فقط؛ بل هي عقيدة جميع الأديان؛ لكن لا ينبغي تجاهل ما امتازت به الشيعة الإماميَّة علىٰ جميع الفِرَق والأديان في عقيدتها وطرحها لهذا الموضوع.

ومن الملاحظ بالنسبة إلىٰ الإعداد الربّاني والإلهي لصاحب الزمان علیه السلام أنَّه يتمُّ عبر عدَّة أُمور:

ومبدأ الأُمور: التبشير به؛ فإنَّ الإمام صاحب الزمان علیه السلام قد بشرَّت به الكتب السماوية، وحتَّىٰ الأنبياء السابقون أخبروا أُمهم بوجود إمام في آخر الزمان، سوف يغيب ويظهر، ويملأ الأرض عدلاً وقسطاً.

البشارة بالمهدي علیه السلام في الكتب القديمة:

ولنا شواهد علىٰ ذلك، منها ما في العهد الجديد، الإصحاح الثاني عشر، في ضمن كلام يقول فيه:

(وظهرت آية عظيمة في السماء. امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلىٰ رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً. وهي حبلىٰ تصرخ متمخّضة ومتوجّعة لتلد. وظهرت آية أُخرىٰ في السماء. هو ذا تنّين عظيم أحمر له سبعة رؤوس وعشرة قرون وعلىٰ رؤوسه سبعة تيجان. وذنَبه يجرُّ ثلث نجوم السماء فطرحها إلىٰ الأرض. والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتَّىٰ يبتلع ولدها متىٰ ولدت. فولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعىٰ جميع الأُمم بعصاً من حديد. واختُطِفَ ولدها إلىٰ الله وإلىٰ عرشه. والمرأة هربت إلىٰ البرّية حيث لها موضع معدٌّ من الله لكي

ص: 10

يعلوها هناك. وحدث حرب في السماء ميخائيل وملائكته حاربوا التنّين. وحارب التنّين وملائكته. ولم يقووا فلم يوجد مكانهم بعد ذلك في السماء. فطرح التنّين العظيم الحيَّة القديمة المدعو إبليس والشيطان الذي يضلُّ العالم كلّه. طُرِحَ إلىٰ الأرض. وطُرِحَت مع ملائكته. وسمعت صوتاً عظيماً قائلاً في السماء: اليوم يوم الخلاص القوَّة والملك لله ربّنا وسلطان مسيحه. من أجل هذا افرحي أيَّتها السماوات والساكنون فيها. ویل لساكني الأرض والبحر، لأنَّ إبليس نزل إليكم وبهغضب عظيم عالماً أنَّ له زماناً قليلاً. ولمَّا رأىٰ التنّين أنَّه طُرِحَ إلىٰ الأرض اضطهد المرأة التي ولدت الابن الذكر. فأُعطيت المرأة جناحي النسر العظيم لكي تطير إلىٰ البرّية. إلىٰ موضعها حيث تُعال زماناً وزمانين ونصف زمان من وجه الحيَّة. فألقت الحيَّة من فمها وراء المرأة ماء كنهر لتجعلها تُحمَل بالنهر. فأعانت الأرض المرأة. وفتحت الأرض فمها وابتلعت النهر الذي ألقاه التنّين من فمه. فغضب التنّين علىٰ المرأة وذهب ليصنع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله)(1).

ودلالة التبشير:

العبارة الأُولىٰ: (امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلىٰ رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً).

إشارة واضحة إلىٰ السيدة الزهراء علیها السلام والأئمَّة الاثني عشر، وهم الذين يحفظون وصايا الله سبحانه.

العبارة الثانية: (والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة أن تلد حتَّىٰ يبتلع ولدها متىٰ ولدت).

ص: 11


1- رؤیا یوحنّا 1/12 - 17

إشارة إلىٰ أُم الإمام المهدي علیه السلام، فإنَّ التنّين هو رمز الحاكم في ذلك الوقت الذي كان ينتظر ولادة المرأة العتيدة، وهي أُمُّ الإمام علیه السلام حتَّىٰ يختطف المولود وهو الإمام الحجَّة علیه السلام ويقتله؛ ولكن المشيئة الإلهيَّة شاءت أن يبقىٰ وأن يُحفَظ.العبارة الثالثة: (فولدت ابناً ذكراً عتيداً أن يرعىٰ جميع الأُمم بعصاً من حديد. واختُطِفَ ولدها إلىٰ الله وإلىٰ عرشه).

ودلالته واضحة علىٰ أنَّ هذا الولد هو الذي سيخرج في آخر الزمان بحيث يرعىٰ جميع الأُمم، وهو نفسه الإمام المهدي علیه السلام، فإنَّه ورد بالتواتر عندنا أنَّه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

وأمَّا عبارة: (واختُطِفَ ولدها إلىٰ الله)، فهذا اللفظ ليس من نفس النصوص الموجودة؛ ولكن هم ترجموها بهذا الشكل، وأحياناً تكون ترجماتهم غير دقيقة ومحرَّفة حتَّىٰ يُؤیدوا آراءهم؛ ولكنَّه رمز آخر عن حصول الغيبة لذلك الولد العتيد، وأنَّه اختفىٰ عن نظر هذا التنّين، أو نظر السلطان، وهذا هو نفس المعنىٰ الذي سنذكره في الأبحاث الآتية من كيفية حصول الغيبة.

فيستفاد من المجموع أنَّ المقصود به هم أهل البيت علیهم السلام وخصوصاً صاحب الأمر علیه السلام.

ولا بأس بنقل بعض الكلمات عن الباحث المستبصر سعيد أيّوب في كتابه (المسيح الدجّال)، قال:

(ويقول كعب: مکتوب في أسفار الأنبياء: المهدي ما في عمله عیب)، ثمّ علَّق علىٰ هذا النصّ بالقول:

ص: 12

(وأشهد أنّي وجدته كذلك في كتب أهل الكتاب، لقد تتبَّع أهل الكتاب أخبار المهدی کا تتبَّعوا أخبار جده صلی الله علیه و اله ، فدلَّت أخبار سفر الرؤيا إلىٰ امرأة، يخرج من صلبها اثنا عشر رجلاً، ثمّ أشار إلىٰ امرأة أُخرىٰ، أي التي تلد الرجل الأخير الذي هو من صلب جدَّته، وقال السفر: إنَّ هذه المرأة ستحيط بها المخاطر، ورَمَز للمخاطر باسم (التنّين) وقال: والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة حتَّىٰ تلد، يبتلع ولدها متىٰ ولدت).

ويلاحظ علىٰ تفسيره: أنَّه فسَّر عبارة سفر الرؤيا بأنَّ المرأة يخرج من صلبها، وهذا غير صحيح؛ إذ أنَّه لم يذكر في سفر الرؤيا أنَّه يخرج من صلبها، بل قال: إنَّه علىٰ رأسها اثنا عشر تاجاً، فلم يُعبر أنَّهم كلّهم من نسلها، قال: (وظهرت آية عظيمة في السماء امرأة متسربلة بالشمس والقمر تحت رجليها وعلىٰ رأسها إكليل من اثني عشر كوكباً)، فالتعبير إكليل علىٰ رأسها، لا أنَّهم من صلبها، فتفسيره بأنَّهم من صلبها اشتباه واضح. والتعبير الأوَّل لا يتنافىٰ مع اعتقادنا بعدد الأئمَّة علیهم السلام، فهم اثنا عشر إماماً، أوَّلهم أمير المؤمنين علیه السلام وهو ليس من صلب الزهراء علیها السلام؛ بل زوجها، ثمّ أحد عشر إماماً من ولدها.

وأيضاً قوله: (وقال السفر: إنَّ هذه المرأة ستحيط بها المخاطر، ورَمَز للمخاطر باسم (التنّین) وقال: والتنّين وقف أمام المرأة العتيدة حتَّىٰ تلد)، وهو ليس بصحيح؛ لأنَّ التنّين رمز لسلطان ذلك الوقت لا إلىٰ المخاطر، لأنَّه ينتظر متىٰ تلد حتَّىٰ يقتله، ثمّ نقل نفس العبارة: ((والتنّين وقف أمام المرأة العتيده حتَّىٰ تلد ليبتلع ولدها).

ونفس الباحث يقول فيما بعد: إنَّ السلطة كانت تريد قتل هذا

ص: 13

الغلام، يقول باركلي في تفسيره: (عندما هجمت عليها المخاطر اختطف الله ولدها وحفظه)، والمنقول: اختطف الله ولدها من سفر الرؤية، وذكر السفر أنَّ غيبة الغلام ستكون ألفاً ومائتين وستّين يوماً، وهي مدَّة لها رموزها عند أهل الكتاب. ثمّ قال باركلي عن نسل المرأة الأُولىٰ عموماً: (إنَّ التنّين سيعمل حرباً شرسة مع نسل المرأة كما قال في السفر: فغضب التنّين علىٰ المرأة، وذهب ليضع حرباً مع باقي نسلها الذين يحفظون وصايا الله)(1).

البشارة بالمهدي علیه السلام في القرآن الكريم:

ونلاحظ في آيات عديدة من القرآن الكريم أنَّها بشَّرت بالإمام المهدي علیه السلام ومهَّدت له، وفي بعضها أنَّه ذُکِرَ في الكتب السابقة، وقد ذكرها ساحة الأُستاذ آية الله العظمىٰ الشيخ الوحيد الخراساني (مُدَّ ظلّه العالي) في كتاب (مقدَّمة في أُصول الدين)، قال:

(قال الله تعالىٰ: «وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)» [الزخرف: 61]

قال ابن حجر: (قال مقاتل بن سلیمان ومن شايعه من المفسرین:

إنَّ هذه الآية نزلت في المهدي).

وقال الله تعالىٰ: «وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

ص: 14


1- المسيح الدجّال لسعيد أيوب: 379 و 380

الْفَاسِقُونَ (55)» [النور: 55]، وفُسرت بالإمام المهدي علیه السلام وحكومته، كما في التبيان و مجمع البيان وتفسير القمّي والغيبة للشيخ الطوسي.

وقال الله تعالىٰ: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4)» [الشعراء: 4]، وقد فُسرت «آيَةً»

بالنداء الذي يُسمَع من السماء قرب ظهوره علیه السلام، والنداء هو: «ألَا إنَّ حجَّة الله قد ظهر عند بيت الله فاتَّبعوه، فإنَّ الحقَّ معه وفيه».

وقال الله تعالىٰ: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)»

» [القصص: 5]. قال أمير المؤمنين علیه السلام: «لتعطفنَّ الدنيا علينا بعد شماسها عطف الضروس علىٰ ولدها»، وتلا عقيب ذلك: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)» ...).

إلىٰ أن قال سماحته:

قال الله تعالىٰ: «وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)» [الأنبياء: 105]، ورد تفسيرها بالإمام المهدي علیه السلام وأصحابه، ومضمون هذه الآية موجود في: كتاب المزامير - زبور داود - المزمورالسابع والثلاثين: (لأنَّ الربَّ يُحِبُّ الحقَّ ولا يتخلّىٰ عن أتقيائه. إلىٰ الأبد يحفظون. أمَّا نسل الأشرار فينقطع. الصدّيقون يرثون الأرض ويسكنونها إلىٰ الأبد. فم الصديق يلهج بالحكمة، ولسانه ينطق بالحق، شريعة إليه في قلبه، لا تتقلقل خطواته).

وفي المزمور الثاني والسبعين: (اللّهمّ اعط أحكامك للملك وبارك الابن الملك. بدین شعبك بالعدل ومساکینك بالحق. تحمل الجبال سلاماً للشعب والآكام بالبر. يقضي لمساكين الشعب. يخلص بني البائسين

ص: 15

ويسحقُّ الظالم. يخشونك ما دامت الشمس ودام القمر إلىٰ دور فدور. ينزل مثل المطر علىٰ الجُزاز، ومثل الغيوث الذارفة علىٰ الأرض. يشرق في أيّامه الصدق، وكثرة السلام إلىٰ أن يضمحلَّ القمر. ويملك من البحر إلىٰ البحر ومن النهر إلىٰ أقاصي الأرض. أمامه تجثو أهل البرية. وأعداؤه يلحسون التراب))(1).

وأمَّا كونه من التبشير القرآني؛ فلأنَّ الله سبحانه عالم بالغيب، وأخبر بأخبار وقعت؛ ولكن هذا الخبر امتاز عن غيره بأنَّ فيه رفعاً للظلم والجور، وإظهاراً للدين كلّه، فلذلك يُعبر عنها بالبشارة.

وعندما نلاحظ الآية المباركة: «وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)» (القصص: 5)، نجد أنَّ هذا المعنىٰ غير متحقق في عصر الرسول صلی الله علیه و اله، ولا ما بعد زمن خاتم الأنبياء صلی الله علیه و اله، فلذلك نستفيد منها مع إضافة الروايات أنَّ القرآن الكريم ناظر إلىٰ صاحب الزمان الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً.

وأيضاً الآية الكريمة الأُخرىٰ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)» (الفتح: 28)، وقوله تعالىٰ: «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)» (الصف: 9)، نلاحظ أنَّه إلىٰ الآن لم يظهر دين الإسلام علىٰ الدين كله، والوعد الإلهي قائل بظهوره، فإذن يظهر الدين كلّه في زمان الإمام المهدي علیه السلام، وهذا نحو من الصراحة لا يمكن أن يقال فيه: إنَّه مجرَّد رمز غير واضح المعالم.

ص: 16


1- مقدَّمة في أُصول الدين: 475 - 477

التبشير بالمهدي علیه السلام في أحاديث أهل البيت علیهم السلام:

ومن الواضح أنَّ الهدىٰ الذي أرسل الله به نبیَّه صلی الله علیه و اله ليُظهِره علىٰ الدين كله مستمرٌّ حتَّىٰ تحقُّق الوعد، وقد أُنيطت مهمَّة إظهاره بالأئمَّة، فإنَّ الله سبحانه وتعالىٰ جعلهم أئمَّة يهدون بأمره، وهذا القيد المذكور «أَئِمَّةً يَه۟دُونَ بِأَم۟رِنا» (الأنبياء: 73)، قید توضیح بمعنىٰ: أنَّه بما أنَّهم يُمثلون الله سبحانه وتعالىٰ في أرضه وأنَّهم خلفاؤه في أرضه؛ إذن لابدَّ من أن ينطلقوا من أمر الله سبحانه، فلا يمكن أن يأتوا بشيء من عندهم، و إنَّما

بكل حركاتهم وسکناتهم وأفعالهم وأقوالهم من الله سبحانه، فلا بدَّ من تقييده بهذا القيد حتَّىٰ يُمثلوا الله سبحانه وتعالىٰ في أرضه ويكونوا حجج الله علىٰ البرايا، وقد دلَّت الأخبار الشريفة علىٰ ذلك، نذكر بعضاً منها:

الحديث الأوَّل: عن الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر علیه السلام أنَّه قال: «لو أنّا حدَّثنا برأينا ضللنا کما ضلَّ من كان قبلنا؛ ولكنّا حدَّثنا ببينة من ربنا بيَّنها لنبيه فبيَّنها لنا»(1).

الحديث الثاني: عن داود بن أبي يزيد الأحول، عن أبي عبد الله علیه السلام، قال: سمعته يقول: «إنّا لو كنّا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين؛ ولكنَّها آثار من رسول الله صلی الله علیه و اله أصل علم نتوارثها کابر عن کابر عن كابر نكنزها کما یکنز الناس ذهبهم وفضَّتهم»(2).

الحديث الثالث: عن جابر، قال: قال أبو جعفر علیه السلام: «يا جابر ، لو كنّانفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين؛ ولكنّا نفتيهم بآثار من

ص: 17


1- بصائر الدرجات: 319/ ج 6/ باب 14/ ح 2
2- بصائر الدرجات: 319 و 320/ ج 6/ باب 14/ ح 3

رسول الله صلی الله علیه واله وأُصول علم عندنا نتوارثها کابر عن كابر نکنزها کما یکنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(1).

الحديث الرابع: عن محمّد بن شریح، قال: سمعت أبا عبد الله علیه السلام يقول: «والله لولا أنَّ الله فرض ولايتنا ومودَّتنا وقرابتناما أدخلناكم بيوتنا ولا أوقفناکم علىٰ أبوابنا، والله مانقول بأهوائنا ولا نقول برأينا إلَّا ما قال ربُّنا»(2).

الحديث الخامس: عن جابر، قال أبو جعفر علیه السلام: «يا جابر، والله لو كنّا نُحدث الناس أو حدَّثناهم برأينا لكنّا من الهالكين؛ ولكنّا نُحدثهم بآثار عندنا من رسول الله صلی الله علیه و اله يتوارثها کابر عن كابر نکنزها کما یکنز هؤلاء ذهبهم وفضَّتهم»(3).

الحديث السادس: عن محمّد بن شریح، قال: قال لي أبو عبد الله علیه السلام: «لولا أنَّ الله فرض ولايتنا و مودَّتنا وقرابتنا ما أدخلناكم ولا أوقفناكم علىٰ بابنا، فوَالله ما نقول بأهوائنا ولا نقول برأينا ولا نقول إلَّا ما قال ربُّنا»(4).

الحديث السابع: عن يونس، عن عنبسة، قال: سأل رجل أبا عبد الله علیه السلام عن مسألة، فأجابه فيها، فقال الرجل: إن كان كذا وكذا ما كان القول فيها؟ فقال له: «مهما أجبتك فيه بشيء فهو عن رسول الله صلی الله علیه واله ، لسنا نقول برأينا من شيء» (5).

ص: 18


1- بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 4
2- بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 5
3- بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 6
4- بصائر الدرجات: 320/ ج 6/ باب 14/ ح 7
5- بصائر الدرجات: 320 و 321/ ج 6/ باب 14/ ح 8

الحديث الثامن: عن فضيل بن يسار، عن جعفر علیه السلام أنَّه قال: «إنّا علىٰ بينة من ربنا بيَّنها لنبيه فبيَّنها نبیُّه لنا، فلولا ذلك كنّا کهؤلاء الناس»(1).

تشخيص الإماميَّة للمصلح العالمي:

وكما قلنا فمن الواضح أنَّ الهدىٰ الذي أرسل الله به نبیَّه (صلی الله علیه و اله)ليُظهِره علىٰ الدين كله مستمرٌّ حتَّىٰ تحقُّق الوعد، وقد أُنيطت مهمَّة إظهاره بالأئمَّة(علیهم السلام). وإنَّ الإماميَّة جرياً علىٰ العادة وهي اتباعهم لأئمَّة أهل البيت (علیهم السلام)، فهم يُشخصون المصلح العالمي، وأنَّه هو الإمام محمّد بن الحسن العسكري (علیهما السلام)، وهو أمر مجمع عليه عندهم، ويعرف ذلك عنهم حتَّىٰ المخالفون. ولا بأس بذكر عدَّة روايات حول ذلك تيمّناً بذكره (علیه السلام):

الرواية الأُولىٰ: عن الكميت بن أبي المستهل، عن الإمام الباقر (علیه السلام): «يا أبا المستهل، إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين(علیه السلام)، لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)اثنا عشر، الثاني عشر هو القائم(علیه السلام)».

قلت: يا سيدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟

قال: «أوَّلهم عليُّ بن أبي طالب (علیه السلام)، بعده الحسن والحسين(علیهما السلام)، وبعد الحسين عليّ بن الحسين (علیه السلام)وأنا، ثمّ بعدي هذا – ووضع يده علىٰ کتف جعفر -».

قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسىٰ، وبعد موسىٰ ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد،

ص: 19


1- بصائر الدرجات: 321/ ج 6/ باب 14/ ح 9

وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعدعليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً، ويشفي صدور شيعتنا».قلت: فمتىٰ يخرج یا ابن رسول الله؟

قال: «لقد سُئِلَ رسول الله (صلی الله علیه و اله)عن ذلك فقال: إنَّها مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتةً»(1).

الرواية الثانية: عن أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «تكون تسعة أئمَّة بعد الحسين بن عليّ (علیه السلام)تاسعهم قائمهم»(2).

الرواية الثالثة: عن البطائني، قال: كنت مع أبي بصير ومعنا مولىٰ لأبي جعفر الباقر (علیه السلام)، فقال: سمعت أبا جعفر (علیه السلام)يقول: «منّا اثنا عشر محدثاً، السابع من ولدي القائم»، فقام إليه أبو بصير، فقال: أشهد أنّي سمعت أبا جعفر (علیه السلام)يقول - منذ أربعين سنة قبل - هذا الكلام(3).

الرواية الرابعة: عن عمرو الأهوازي، قال: أراني أبو محمّد ابنه وقال: «هذا صاحبكم من بعدي»(4)

ص: 20


1- كفاية الأثر: 249 و 250
2- الخصال: 419/ ح 12
3- الغيبة للنعماني: 97/ باب 4/ ح 28
4- الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلىٰ صاحب الدار (علیه السلام)/ ح 3. قال آية الله العظمىٰ الميرزا جواد التبريزي قدس سره: (وأمَّا الروايات الواردة في إمامة الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري صاحب الزمان (علیه السلام)، وفي صفاته وعلامات ظهوره، وما يرتبط بخريطة تحرّکه بعد الظهور، وأنصاره، فهي كثيرة جدّاً، حتَّىٰ لقد أُلفت کتب ومجلَّدات خاصَّة في هذا الأمر، وحيث إنَّ بناءنا هو علىٰ الاختصار في هذه الرسالة كما ذكرنا في البداية، فسوف نذكر عدَّة مع عناوينها: في النص عليه (علیه السلام): ما رواه الصدوق عن محمّد بن عليّ بن ماجيلويه،عن محمبد بن يحيىٰ العطّار، عن جعفر بن محمّد بن مالك الفزاري، عن معاوية بن حکیم و محمّد بن أيّوب بن نوح ومحمّد بن عثمان العمري، قالوا: عرض علينا أبو محمّد الحسن بن عليّ ونحن في منزله وكنّا أربعين رجلاً، فقال: «هذا إمامكم من بعدي وخليفتي عليكم أطيعوه ولا تتفرَّقوا من بعدي في أديانكم فتهلكوا، أمَا إنَّكم لا ترونه بعد يومكم هذا». قالوا: فخرجنا من عنده فما مضت إلَّا أيّام قلائل حتَّىٰ مضىٰ أبو محمّد(علیه السلام) . [كمال الدين: 435/ باب 43/ ح 2] راجع: رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة علىٰ إمامة الأئمَّة الاثني عشر: 25

وخلاصة الكلام:

أنَّ الإماميَّة تشترك مع جميع الأديان والفِرَق والمذاهب بعقيدتها في المخلص من جهة، وتمتاز عنها من جهة أُخرىٰ.

أمَّا جهة الاشتراك، فهي الاعتقاد بمجيء المخلص.

وأمَّا جهة الامتياز (1) ، ففي تعيين و تشخیص مصداق المصلح

العالمي.

ص: 21


1- ومضافاً إلىٰ الجهة التي ذكرها سماحة الأُستاذ (دام مؤيَّداً)، فإنَّ أصحابنا رحمهم الله يتميَّزون في عقيدتهم هذه بوجود علامات ذكرها الأئمَّة (علیهم السلام)لظهور الإمام المهدي (علیه السلام)وستأتي مفصَّلاً. وهذه الميزة ليست متوفرة عند بقيَّة الفِرَق والمذاهب والأديان، فعقيدتهم في المهدي تشوبها شوائب عدَّة، ويكتنفها غموض عجیب! ولا تخفىٰ عليك ثمرة هذه الميزة، إذ لولاها لما أمكن تشخيص المصداق الخارجي للإمام المهدي

ص: 22

الفصل الأوَّل:وجود الإمام المهدي (علیه السلام)

اشارة

• البحث الثبوتي:

• إثبات ضرورة وجود الإمام (علیه السلام).

• البحث الإثباتي:

• الأدلَّة علىٰ وجود الإمام المهدي(علیه السلام).

ص: 23

ص: 24

البحث الثبوتي إثبات ضرورة وجود الإمام (علیه السلام)

ويمكن تقريب هذه الضرورة بوجهين:

الوجه الأوَّل: العقل:

اشارة

وبيان هذا الوجه العقلي يتوقَّف علىٰ بيان مقدَّمات:

المقدَّمة الأُولیٰ:

إنَّ القرآن الكريم كتاب إلهي أُنزل لأجل هداية البشر

وإخراجهم من الظلمات إلىٰ النور، والدالُّ علىٰ ذلك من القرآن آیات كثيرة، منها:

الآية الأُولىٰ: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)» (النحل: 8).

الآية الثانية: «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)» (إبراهيم: 1). الآية الثالثة: «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)»(النحل 44).

الآية الرابعة: «وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64)» (النحل: 64). وغيرها من الآيات الدالّة علىٰ مكانة الكتاب الكريم ودوره في هداية الناس والأخذ بيدهم إلىٰ الصراط المستقیم.

ص: 25

ومحصَّل الاستدلال بهذه الآيات:

أنَّ المستفاد من هذه الآيات أنَّ الله سبحانه وتعالىٰ أنزل القرآن الكريم لغرض وغاية، وهي تبيانه للناس حتَّىٰ يخرجوا من الظلمات إلىٰ النور المبين، فإنَّ الله ما أنزل الكتاب علىٰ النبي (صلی الله علیه و اله)إلَّا لأجل تفعيله وتبيينه للنّاس، ويُلاحَظ من خلالها أنَّ القرآن يحتوي علىٰ كل المعارف، وبه يخرج الناس من الظلمات إلىٰ النور، ومن الضلالة إلىٰ الهدىٰ.

المقدَّمة الثانية:

إنَّ تحقيق الغاية من وجود القرآن العظيم متوقف علىٰ وجود من یُبینه ويُوضحه للناس، إذ إنَّ القرآن الكريم فيه من المعارف الجليلة والأحكام الكثيرة، والأسرار العظيمة، ما لا يكون شرعة لكل وارد، فلا بدَّ من وجود عالم محیط بما فيه، ويعرف الحقَّ بجميع مصادیقه، والضلال بكل أفراده، حتَّىٰ يُخرِجهم من الظلمات إلىٰ النور، ومن الضلال إلىٰ الحق، ومن الكفر إلىٰ الإيمان، وهو النبيُّ محمّد(صلی الله علیه و اله) في زمانه.

المقدَّمة الثالثة:

إنَّ من المقطوع به أنَّ هذا الكتاب بهذه القيمة المعرفية والمعنوية لا يختصُّ بزمن الدعوة النبوية التي امتدَّت إلىٰ ثلاث وعشرين سنة، فإنَّ الكتاب المجيد تبيان لكل شيء، وهدىٰ ورحمة لجميع الأزمنة وليس لخصوص زمن الدعوة النبوية؛ لأنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و اله)هو خاتم الأنبياء، وهو المبعوث للناس كافَّة.

النتيجة:

بما أنَّ القرآن الكريم أُنزل لهداية الناس كافَّة، ولم تختصّ هدایته بزمن النبي (صلی الله علیه و اله)دون باقي الأزمنة، وتحقيق الغاية يتوقَّف علىٰ وجود الهادي به، فالضرورة تقتضي وجود إمام بعد النبي (صلی الله علیه و اله) في كل زمان

ص: 26

حتَّىٰ یُبين القرآن للناس ويهديهم ويرشدهم ويُخرِجهم من الظلمات إلىٰ النور، وإلَّا لانتفت الغاية من وجود القرآن الكريم، فلا بدَّ إذن من وجود شخص عالم وعارف بالقرآن وما فيه حتَّىٰ يُبينه للناس.

وبعد أن ثبت بمقتضىٰ الآيات الكريمة المتقدمة أنَّ القرآن الكريم كتاب هداية، فلا يخلو حال الطرف المقابل، إمَّا أن يُنكِر هداية القرآن الكريم للناس كافَّة، فيكون مخالفاً لكتاب الله سبحانه وتعالىٰ، وإمَّا أن يُسلم بكونه کتاب هداية، فعندها نقول له: ما دام أنَّه كتاب هداية فيجب وجود الهادي والمُفعل لهذا الكتاب الكريم؛ إذ إنَّ القول بوجود القرآن لوحده دون الهادي والمرشد والإمام يوجب انتفاء الحكمة والغاية من إنزال القرآن وهي الهداية وإخراج الناس من الظلمات إلىٰ النور، فالناس بعد النبي (صلی الله علیه و اله)مختلفون في فهم معارف وأحكام القرآن، فلا بدَّ من وجود شخص يفهم القرآن الكريم كلّه من أوَّله إلىٰ آخره ويعرف أسراره وكيفية تطبيقه ومحكمه ومتشابهه حتَّىٰ لا ينتفي الغرض منه.

تقریب سماحة الأُستاذ الأعظم (دام ظلّه الوارف) للدليل العقلي:

وقد قرَّب أُستاذنا الأعظم سماحة آية الله العظمىٰ الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه الوارف) هذا الوجه، فقال: (وكان مجمل بعض الأدلَّة العقلية المتقدمة أنَّ النبوَّة والرسالة قد خُتِمَت بنبي الإسلام(صلی الله علیه و اله) ، وأنَّ مرحلة نزول الوحي وتبليغ الرسالة انتهت برحلة النبي (صلی الله علیه و اله)؛ ولكن القرآن الذي أنزله الله تعالىٰ لتعليم الإنسان وتربيته باقٍ وخالد، وهو يحتاج إلىٰ معلم ومُرَبٍّ، وقوانين القرآن التي شُرعت لضمان حقوق الإنسان - هذا الكائن الاجتماعي المدني بالطبع - تحتاج إلىٰ مفسر ومنفذ.

وذلك أنَّ الغرض الإلهي من بعثة خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و اله)غرض ممتدٌّ في الأجيال، ولا يتحقَّق إلَّا بوجود معلم عالم بها في القرآن، منزَّه عن

ص: 27

الخطأ والهوىٰ، متخلق بأعلىٰ صفات الكمال المقصودة بقوله(صلی الله علیه و اله): «إنَّما بُعِثت لأُتمم مكارم الأخلاق»(1)، فبذلك وحده يتحقَّق الكمال العلمي والعملي للبشر الذي هو الغرض من خلق الإنسان «إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ» [فاطر: 10] وبالجملة، فإنَّ القرآن كتاب أُنزل لإخراج جميع أفراد البشر من الظلمات الفكرية والأخلاقية والعملية إلىٰ عالم النور، «كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» [إبراهيم: 1]، «هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» [الحديد: 9]، ولا يمكن أن يتحقَّق هذا الغرض إلَّا بواسطة إنسان عصمه الله من الأخطاء والأهواء، وإلَّا فمن هو في الظلمات ليس بخارج منها كيف يكون مُخرِجاً عنها؟

ولولا وجود هذا الإنسان لما تیسَّر تعلّم الكتاب والحكمة، والقيام بالقسط في الأُمَّة؛ بل يتحوَّل القرآن الذي أنزله الله من أجل رفع اختلاف الناس إلىٰ سبب لاختلافهم ومادَّة لنزاعهم؛ بسبب أهوائهم وأفكارهم الخاطئة !

كيف يتعقَّل الإنسان أنَّ الله الذي لم يترك دور الحاجب في جمال الوجه حتَّىٰ أتقنه مراعياً قاعدته في خلق الإنسان في أحسن تقويم، ينزل كتاباً لغرض تصوير سيرة الإنسان في أحسن تقويم، ثمّ يُبطِل غرضه من تنزيله و من إرسال الرسل بعدم نصبه حافظاً وشارحاً للكتاب ؟!)(2).

المستفاد من هذا الدليل:

المستفاد من هذا الدليل أُمور ثلاثة مهمَّة:

ص:28


1- بحار الأنوار 210:16 ؛ سنن البيهقي 10: 192
2- مقدَّمة في أُصول الدين : 468 - 470

الأمر الأوَّل: وجود إمام في كل زمان، ومن جملة الأزمنة زماننا.

فهو يُثبِت وجود إمام في زماننا، وهذا بلا إشكال.

الأمر الثاني: أن يكون هذا الإمام عالماً بجميع الأدواء البشرية

وأدويتها حتَّىٰ يمكنه أن يُخرِج الناس من الظلمات إلىٰ النور.

الأمر الثالث: أن یکون معصوماً من الأخطاء والأهواء، وإلَّا لم تتحقَّق الغاية المطلوبة لله تعالىٰ، فإنَّ من يغوص في أوحال الهوىٰ لا يمكنه رفع الناس عن الأهواء الباطلة.

الوجه الثاني: النقل:

اشارة

والروايات الشريفة الثابتة عن خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و اله)، صريحة بضرورة وجود إمام لكل زمان، وضرورة معرفة هذا الإمام، ووجوب التمسّك به، ومن جملة تلك الروايات التي نقلها العامَّة والخاصَّة:

الحديث الأوَّل: حديث الثقلين:

اشارة

وهو قول رسول الله (صلی الله علیه و اله): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي، ولن يفترقا حتَّىٰ يردا عليَّ الحوض».

والكلام فيه يقع في جهتين:

الجهة الأُولىٰ: إثبات صدوره:

وهذا الحديث الشريف من الأحاديث المتواترة في كتب العامَّة

والخاصَّة بلا إشكال (1).

ص: 29


1- أنظر: صحيح مسلم 4: 1873؛ مسند ابن أبي شيبة 1: 351؛ فضائل الصحابة 2: 572 و 779؛ مسند أحمد بن حنبل 17: 170 و 172 و211 و 309، و 32: 64 و65؛ سنن النسائي 7: 310 و 320 و 437؛ صحیح ابن خزيمة 4: 22؛ مستدرك الحاكم 3: 188 و 160؛ وغيرها من مصادر العامة. وإليك تصريح كوكبة من علمائهم بصحة الحديث وتواتره: 1- قال شعيب الأرنؤوط في تعليقته على قول ابن الوزير: (وقَرَنَهُمْ في حديث الثقلين بكتاب الله، ووصّى فيهم، وأكَّدَ الوصاة)، بقوله: «الله الله»: (خرَّجه مسلم فيما رواه، وزاد الترمذي وسِواه: بشراه لذوي قُرباه، إنَّهما لن يفترقا حتَّى يلقياه. وهو قوله (صلّى الله عليه وسلم) في حديث طويل: «... وأنا تارك فيكم ثقلين: أوَّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به»، فحثَّ على كتاب الله ورغَّب فيه، ثمّ قال: «وأهل بيتي، أُذَكِّركم الله في أهل بيتي» ثلاثاً. رواه مسلم: 2408؛ وأحمد 4: 366 و371؛ والدارمي 2: 432؛ والفسوي في تاريخه 1: 537؛ والطبراني في الكبير: 5028 و5040 عن زيد بن أرقم، وعنه قال: قال (صلّى الله عليه وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض»، رواه الحاكم 3: 148، وصحَّحه ووافقه الذهبي؛ والطبراني في الكببر: 4980؛ والفسوي في المعرفة والتاريخ 1: 536، وهو صحيح. ورواه الترمذي: 3788، وقال: حسن غريب، أي بشواهده، فإنَّ في سنده عطيَّة العوفي، وهو ضعيف. وفي الباب عن زيد بن ثابت عند أحمد 5: 181 و199؛ والطبراني في الكبير: 4921 و4922 و4923. وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد 3: 14 و17 و26 و59، وسنده حسن بالشواهد. وعن جابر عند الترمذي: 3786؛ والطبراني: 2678 - 2680) انتهى. راجع: كتاب العواصم والقواصم في الذبِّ عن سُنَّة أبي القاسم/ تعليق: شعيب الأرنؤوط 1: 178. 2 - وقال ابن حجر: (وفي رواية صحيحة: «إنّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن تبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي»، زاد الطبراني: «إنّي سألت ذلك لهما، فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»). راجع: الصواعق المحرقة 2: 439. وقد صرَّح بتواتره أيضاً، فقال: (وفي رواية صحيحة: «كأنّي قد دعيت فأجبت، إنّي قد تركت فيكم الثقلين أحدهما آكد من الآخر، كتاب الله (عزَّ وجلَّ) وعترتي - أي بالمثنّاة -، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ حوضي». وفي رواية: «وإنَّهما لن يتفرَّقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، سألت ربّي ذلك لهما، فلا تتقدَّموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلِّموهم فإنَّهم أعلم منكم»، ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً الحاجة لنا إلى بسطها. وفي رواية: آخر ما تكلَّم به النبيُّ (صلّى الله عليه وسلم): «اخلفوني في أهلي»، وسمّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما، إذ يقال لكلِّ خطير شريف: ثقلاً، أو لأنَّ العمل بما أوجب الله من حقوقهما ثقيل جدّاً). راجع: الصواعق المحرقة 2: 653. 3 - قال الدهلوي: (وهي أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين، فإن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله وعترتي أهل بيتي»، وهذا الحديث ثابت عند الفريقين أهل السُّنَّة والشيعة، وقد عُلِمَ منه أنَّ رسول الله (صلّى الله عليه وسلم) أمرنا في المقدَّمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسّك بهذين العظيمي القدر والرجوع إليهما في كلِّ أمر، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأُمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضالٌّ، ومذهبه باطل وفاسد لا يُعبَأ به. ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى). راجع: مختصر التحفة الاثني عشرية 3: 52. وأمَّا ورود الحديث في كتب الخاصَّة، فنكتفي بذكر جملة من ألفاظ الحديث الشريف التي نقلها رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق (قدّس سرّه) في كتابه المبارك كمال الدين: 239 - 241: 1 - عن الحسن بن عبد الله بن محمّد بن عليّ التميمي، قال: حدَّثني أبي، قال: حدَّثني سيِّدي عليّ بن موسى بن جعفر بن محمّد، قال: حدَّثني أبي، عن أبيه جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ، عن أبيه الحسين، عن أبيه عليّ صلوات الله عليهم، قال: قال النبيُّ (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض». 2 - عن حنش بن المعتمر، قال: رأيت أبا ذرٍّ الغفاري (رحمه الله) آخذاً بحلقة باب الكعبة وهو يقول: ألَا من عرفني فقد عرفني ومن لم يعرفني فأنا أبو ذرٍّ جندب بن السكن، سمعت رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) يقول: «إنّي خلفت فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض، ألَا وإنَّ مَثَلهما فيكم كسفينة نوح من ركب فيها نجا ومن تخلَّف عنها غرق». 3 - عن القاسم بن حسّان، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم خليفتين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض». 4 - عن عطيَّة العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): «إنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض». 5 - عن زيد بن أرقم، عن النبيِّ (صلّى الله عليه وآله وسلم)، قال: «إنّي تارك فيكم كتاب الله وأهل بيتي، فإنَّهما لن يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض». 6 - عن محمّد بن أبي عمير، عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ (عليهم السلام)، قال: «سُئِلَ أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن معنى قول رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم): إنّي مخلف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمَّة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتَّى يردوا على رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلم) حوضه».

ص: 30

ص: 31

الجهة الثانية: في دلالته:

ولا بأس بعرض موجز لعدَّة أُمور مستفادة من هذا الحديث:

الأمر الأوَّل: دلالته علىٰ أنَّ العترة تركة ومیراث من النبي (صلی الله علیه و اله):

تدلُّ جملة: «إنّي تارك» علىٰ أنَّ الكتاب والعترة تركة ومیراث من النبي (صلی الله علیه و اله)إلىٰ أُمَّته، لأنَّ نسبة النبي إلىٰ أُمَّته نسبة الأب إلىٰ ولده، فالكتاب هو رابط الأُمَّة بربها، والعترة هي رابطة الأُمَّة بنبيها، فانقطاع الأُمَّة عن القرآن انقطاع عن الله تعالىٰ، وانقطاعها عن العترة انقطاع عن النبي ، والانقطاع عن النبي (صلی الله علیه و اله)انقطاع عن الله سبحانه وتعالىٰ.

الأمر الثاني: دلالته علىٰ مشاركة العترة للقرآن في العلم:

إنَّ الحديث جَعَل العترة عِدلاً للكتاب الكريم، ولا يمكن أن تكون العترة عِدلاً للقرآن إلَّا إذا كانت العترة شريكاً للقرآن في العلم حيث وصف الله الكتاب بقوله: «وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)» (النحل: 89).

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ حديث الثقلين يدلُّ علىٰ تميّزهم بالعلم بكل ما يتَّصل بالشريعة وغيرها، ووجه دلالته علىٰ تميّزهم بالعلم لاقترانهم بالكتاب الموصوف بأنَّه تبيان لكل شيء، والذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة، كما يدلُّ عليه قوله(صلی الله علیه و اله): «ولا تُعلموهم فإنَّهم أعلم منکم»(1).

قال ابن حجر: (ثمّ إنَّ الذين وقع الحثُّ عليهم منهم إنَّما هم العارفون بكتاب الله وسُنَّة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلىٰ الحوض، ويُؤيده الخبر السابق: «ولا تُعلموهم فإنَّهم أعلم منكم»، وتميَّزوا بذلك عن بقيَّة العلماء؛ لأنَّ الله أذهب عنهم الرجس وطهَّرهم

ص: 32


1- وسيأتي تخريجه

تطهيراً، وشرَّفهم بالكرامات الباهرة، والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ بعضها...)(1).

الأمر الثالث: دلالته علىٰ عصمة أهل البيت (علیهم السلام):

وهو من جهات:

الجهة الأُولىٰ: اقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أنَّ صدور أيَّة مخالفة للشريعة سواء كانت عن عمد أم سهو أم غفلة تُعتَبر افتراقاً عن القرآن في هذا الحال، وإن لم يتحقَّق انطباق عنوان المعصية عليها أحياناً كما في الغافل والساهي، فالافتراق يتحقَّق بعدم المصاحبة؛ فيتحقَّق بعدم التقيّد بأحكامه وإن كان معذوراً في ذلك لغفلته، والحديث صريح في عدم افتراقها حتَّىٰ يردا الحوض.

الجهة الثانية: إنَّ الحديث اعتبر التمسّك بأهل البيت عاصماً عن الضلالة دائماً وأبداً، كما هو مدلول كلمة (لَن۟) التأبيدية في: «فإن تمسَّكتم بهما لن تضلّوا»، والإنسان الفاقد للشيء لا يُعطيه.

الجهة الثالثة: إنَّ تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم تجويز للكذب علىٰ الرسول(صلی الله علیه و اله) الذي أخبر عن الله عزوجل بعدم وقوع افتراقها، وتجويز الكذب عليه متعمداً في مقام التبليغ والإخبار عن الله في الأحكام وما يرجع إليها منافٍ لافتراض العصمة في التبليغ، وهي ممَّا أجمعت عليها كلمة المسلمين علىٰ الإطلاق. ولا إشكال أنَّ الغلط لا يتأتّىٰ في هذا الحديث، لإصرار النبي (صلی الله علیه و اله)علىٰ تبليغه في أكثر من موضع وإلزام الناس بمؤدّاه، والغلط لا يُتكرَّر عادةً.

ص: 33


1- الصواعق المحرقة 442:2
الأمر الرابع: دلالته علىٰ خلافة العترة للنبي (صلی الله علیه و اله):

ورد في بعض صيغ الحديث: «تارك فيكم خليفتين»، وفي بعضها: «محلف فیکم الثقلين»، ويُستفاد من تعبير: (خليفتين)، ومن تعبير: (مخلف) أنَّ العترة خليفة للرسول(صلی الله علیه و اله) ، فهذا الحديث مرسوم نبوي في تعيين خليفته في المسلمين إلىٰ يوم القيامة.

الأمر الخامس: وجوب التمسّك بالقرآن والعترة:

والحديث واضح في لزوم التمسّك بهما معاً لا بواحد منهما؛ ليؤمن بذلك من الوقوع في الضلال، لقوله (صلی الله علیه و اله)فيه: «ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا»، وضمير (به) راجع إلىٰ (ماترك) وهو الاثنان. ويُؤيد ذلك ما ورد في بعض الروايات: «ما إن تمسَّكتم بهما»، و«فانظروا كيف تخلفونني فيهما». وأوضح من ذلك دلالةً ما ورد في رواية الطبراني في تتمَّتها: «فلا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلكوا، ولا تُعلموهم فإنَّهم أعلم منكم»(1).

ومن الواضح أنَّ معنىٰ التمسّك بالقرآن، هو الأخذ بتعاليمه والسير علىٰ وفقها، وهو نفس معنىٰ التمسّك بأهل البيت (علیهم السلام) عِدل القرآن.

فمن هذا الحديث يتَّضح أنَّ التمسّك بأحدهما لا يُغني عن الآخر «ما إن تمسَّكتم بهما»، «ولا تقدموهما فتهلكوا، ولا تقصروا عنهما فتهلکوا»، ولم يقل: ما إن تمسَّكتم بأحدهما، أو تقدَّمتم أحدهما. والسرُّ في ذلك أنَّهما معماً یُشکلان وحدة واحدة يتمثَّل بها الإسلام علىٰ واقعه وبكامل أحكامه ووظائفه.

ص: 34


1- المعجم الكبير 5: 167
الأمر السادس: ضرورة وجود الإمام:

وهو محلُّ الشاهد في إثبات ضرورة وجود الإمام والهادي في كل زمن، فإنَّ قوله (صلی الله علیه و اله): «لن يفترقا» كما يدلُّ علىٰ التلازم الدائم بين القرآن والعترة في العمل - وهو معنىٰ العصمة -، فكذلك يدلُّ علىٰ تلازمهما في الوجود، أي بقاء العترة إلىٰ جنب الكتاب إلىٰ يوم القيامة، فلا يخلو زمان من الأزمنة عنهما ما دامالن يفترقا حتَّىٰ يردا عليه الحوض، وهي كناية عن بقائهما إلىٰ يوم القيامة.

قال ابن حجر: (وفي أحاديث الحث علىٰ التمسّك بأهل البيت إشارة علىٰ عدم انقطاع متأهل منهم للتمسّك به إلىٰ يوم القيامة، كما أنَّ الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض کما یأتي، ويشهد لذلك الخبر السابق: «في كل خلف من أُمَّتي عدول من أهل بيتي»)(1) (2).

الخلاصة:

إنَّ موقف المخالف من وجود إمام في هذا الزمان، بعدما تقدَّم من بیان دلالة حديث الثقلين لا يخلو إمَّا أن يقرَّ بوجود عِدل للقرآن فيكون بذلك موافقاً لكلام النبي (صلی الله علیه و اله)- وهو ما عليه الشيعة -، أو لا يقرُّ بوجود عِدل للقرآن فيتحقَّق الافتراق، والحال أنَّ قول النبي(صلی الله علیه و اله) نصٌّ بعدم الافتراق حتَّىٰ الورود علىٰ الحوض.

الحديث الثاني: «من مات ولم يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»:

اشارة

وهو من تلك الأحاديث التي تُثبِت الإمامة، وأنَّها أصل من أُصول الدين لا يتمُّ الإيمان إلَّا بالاعتقاد بها، ولقد وردت هذه الرواية بعدَّة ألفاظ:

ص: 35


1- الصواعق المحرقة 2: 442
2- مقتبس من كتاب مختصر العقائد لسماحة الشيخ (أدام الله بقاه): 60 -65. وقدنبَّه فيه إلىٰ أنَّ بعض هذه الدلالات ممَّا أفاده العلَّامة السيد محمّد تقي الحكيم قدس سره في كتابه الأُصول العامَّة للفقه المقارن: 166

اللفظ الأوَّل: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهلية» (1) . اللفظ الثاني: «من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية»(2) . اللفظ الثالث: «من مات وليس له إمام مات ميتةً جاهلية» (3) . اللفظ الرابع: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»(4).

ص: 36


1- کمال الدين: 409. وقد أرسله التفتازاني في شرح المقاصد 2: 275، إرسال المسلَّمات
2- صحیح مسلم 1478:3
3- صحیح ابن حبّان/ تحقيق الأرنؤوط 434:10 . وقد علَّق عليه الأرنؤوط قائلاً: (حديث صحیح، محمّد بن یزید بن رفاعة: هو محمّد بن يزيد بن محمّد بن كثير العجلي مختلف فيه، وقد توبع، وعاصم بن أبي النجود حسن الحديث، وباقي السند رجاله رجال الصحيح. أبو صالح: هو ذكوان السمّان المدني. وهو في (مسند أبي يعلىٰ) ورقة 1: 345؛ وأخرجه أحمد 4: 96 عن أسود بن عامر، والطبراني 769:19 من طريق يحيىٰ بن الحمّاني، كلاهما عن أبي بكر بن عيّاش، بهذا الإسناد. والمراد بالميتة الجاهلية: حالة الموت كموت أهل الجاهلية علىٰ ضلال وليس له إمام مطاع، لأنَّهم كانوا لا يعرفون ذلك... الخ. ولا بأس بالإشارة إلىٰ ما ذكره أبو حاتم ابن حبّان عن معنىٰ الحديث، فقال: (قَو۟لُهُ : «مَاتَ مَي۟تَةً ال۟جَاهِليَّةِ»، مَع۟نَاهُ: مَن۟ مَاتَ وَلم۟ يَع۟تَقِد۟ أَنَّ لَهُ إِمَامًا یَد۟عُو النَّاسَ إِلَى۟ طَاعَةِ الله حَتَّىٰ يَکُونَ قِوَامُ ال۟إِس۟لَامِ بِهِ عِن۟دَ ال۟حَوادِثِ، وَالنَّوَازِلِ، مُق۟تَنِعًا فِي الاِن۟قِيَادِ عَلَىٰ مَن۟ لَی۟سَ نَعَتُهُ مَاوَصَف۟نَا، مَاتَ مَي۟تَةً جَاهِليَّةً). صحيح ابن حبّان 434:10 ؛ وحسَّن الحديث محققهم الألباني في كتابه التعقليات الحسان علىٰ صحيح ابن حبّان 20:7
4- مسند أبي داود الطيالسي 3: 425؛ ومسند أحمد بن حنبل 89:28 بتحقيق الأرنؤوط. وقد علَّق عليه قائلاً: (حديث صحيح لغيره، وهذا إسناد حسن من أجل عاصم - وهو ابن بهدلة - وبقيَّة رجاله ثقات رجال الشيخين غير أنَّ أبا بكر - وهو ابن عيّاش - إنَّما روىٰ له مسلم في المقدَّمة، وهو صدوق حسن الحديث. أبو صالح: هو ذكوان السمّان. وأخرجه ابن أبي عاصم في السُّنَّة: 1057؛ وأبو يعلىٰ: 7357؛ وابن حبّان: 4573؛ والطبراني في الكبير 769:19 ، من طرق عن أبي بكر بن عيّاش، بهذا الإسناد. وأخرجه الطبراني في الأوسط: 5816؛ ... وأورده الهيثمي في المجمع 5: 225، وقال: رواه الطبراني في الأوسط، وفيه العبّاس بن الحسين القنطري، ولم أعرفه، وبقيَّة رجاله رجال الصحيح)

اللفظ الخامس: «من مات وليس عليه إمام مات ميتةً جاهلية »(1).

إشكال ابن تيمية ودفعه:

أشكل ابن تيمية علىٰ الاستدلال بالحديث بها حاصله: أنَّ المقصود من الحديث السلاطين والأُمراء، فلا يأتي كلام الشيعة الإماميَّة بوجود إمام من الله سبحانه تُفتَرض طاعته، لأنَّ المراد من الإمام في الحديث هو الحاكم والسلطان والأمير، وهم الذين تجب طاعتهم والانقياد لهم.

قال في منهاجه: (فعُلِمَ أنَّ هذا الحديث دلَّ علىٰ ما دلَّ عليه سائر الأحاديث الآتية من أنَّه لا يخرج علىٰ ولاة أُمور المسلمين بالسيف، وأنَّ من لم يكن مطيعاً لولاة الأُمور مات ميتةً جاهليةً، وهذا ضدُّ قول الرافضة، فإنَّهم أعظم الناس مخالفةً لولاة الأُمور، وأبعد الناس عن طاعتهم إلَّا كرهاً)(2).

والجواب:

لا يخفىٰ أنَّه ليس المراد من الإمام الذي تلزم بيعته ومعرفته هو السلطان والحاكم أيّاً كان؛ لأنَّ كلَّ حكّام بني أُميَّة وبني العبّاس فسّاق ظالمون، والكثير منهم - كما يُحدث التأريخ - يشربون الخمور ويلهون بالملاهي ويعبثون بالغواني ويقتلون النفس المحرَّمة، فهل يُعقَل أن يصدر من الرسول (صلی الله علیه و اله)- وهو الذي يدعو إلىٰ الهدىٰ ودين الحق ويدعو، للعدل والإحسان، وجاء بأعلىٰ القيم - أنَّ من لم يبايع هؤلاء ولا يراهم عليه أئمَّة يموت ميتةً جاهليةً؟! وهل يُعقَل أن يصدر منه(صلی الله علیه و اله) أنَّ من لم يبايع يزيد قاتل ريحانة الرسول وسبطه الإمام الحسين (علیه السلام)يموت ميتةً جاهليةً؟!

ص: 37


1- مسند أبي يعلىٰ 366:13 ، وقال محقق الكتاب حسین سلیم أسد:(إسناده حسن)
2- منهاج السُّنَّة 1: 111

فلو تُعقل لحُکِمَ علىٰ الإمام الحسين (علیه السلام)بأنَّه مات ميتةً جاهليةً؛ لأنَّه قُتِلَ ولم تكن في عنقه بيعة لأحد، ولا يتفوَّه بهذا مسلم علىٰ وجه الأرض، كيف وقد قال الرسول (صلی الله علیه و اله)فيه وفي أخيه الإمام الحسن (علیه السلام): «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنَّة»، كما في الحديث المتسالم عليه عند العامَّة والخاصَّة(1).

ص: 38


1- فضائل الصحابة 2: 774؛ مسند أحمد 31:17 ؛ سنن الترمذي 6: 117؛ سنن النسائي 7: 368 و 460؛ صحيح ابن حبّان 15: 413؛ المعجم الكبير للطبراني 3: 35؛ مستدرك الحاكم 182؛ وغيرها من المصادر. وإليك كلام جملة من علمائهم في تصحيحه: 1 - قال الأرنؤوط في مسند أحمد 31:17 : (إسناده صحيح، رجاله ثقات رجال الشيخين غير یزید بن مردانبة، فقد أخرج له النسائي، وهو ثقة. محمّد بن عبد الله الزبيري: هو أبو أحمد، وابن أبي نعم: هو عبد الرحمن البجلي. وأخرجه النسائي في الكبرىٰ: 8525؛ والطبراني في الكبير: 2611؛ وأبو نعيم في أخبار أصبهان 2: 343؛ والخطيب في تاريخه 90:11من طريق الفضل بن دكين، عن يزيد بن مردانبة، بهذا الإسناد. وأخرجه الطبراني في الكبير: 2614 من طريق عطاء بن يسار، والطبراني أيضاً: 2615؛ والخطيب في تاريخه 231:9 من طريق عطيَّة العوفي، كلاهما عن أبي سعيد،به. وأخرجه النسائي في الكبرىٰ: 8169 و 8528؛ والفسوي في المعرفة والتاريخ 2: 644؛ والطحاوي في شرح مشکل الآثار: 1967؛ وابن حبّان: 6959؛ والطبراني في الكبير: 2610؛ والحاكم في المستدرك 166:3 و167؛ وأبو نعيم في الحلية 5: 71؛ والخطيب في تاريخه 4 : 207 من طريق الحكم بن عبد الرحمن بن أبي نعم، عن أبيه، به. وفيه زيادة: «إلَّا ابني الخالة: عیسیٰ بن مریم، ويحییٰ بن زکریا». قال الحاكم: هذا حديث قد صحَّ من أوجه كثيرة، وأنا أتعجَّب أنَّهما لم يُخرجاه. وتعقَّبه الذهبي بقوله: الحَكَم فيه لين. قلنا: الحَكَم بن عبد الرحمن بن أبي نُعم، وثَّقه الفسوي، وقال أبو حاتم: صالح الحديث، وذكره ابن حبّان في (الثقات)، وضعَّفه ابن معين، فهو حسن الحديث. وسيرد بالأرقام (11594) و (11618) و (11777). وفي الباب عن حذيفة بن اليمان: سیرد 5 : 391 و 392، وإسناده صحيح. وعن عبد الله بن مسعود عند الحاكم 3: 167 وصحَّحه، ووافقه الذهبي. وعن قرَّة بن إياس، عند الطبراني في الكبير: 2617، وإسناده صحيح. وعن البراء بن عازب، أورده الهيثمي في مجمع الزوائد 184:9 ، وقال: رواه الطبراني، وإسناده حسن). 2 - قال الترمذي في سننه 6 : 117 : (هذا حديث حسن صحيح). 3- وصحَّحه الألباني في التعليقات الحسان علىٰ صحيح ابن حبّان 10: 89. 4 - وابن تيمية في مجموع الفتاویٰ 511:4 : (والحسين رضی الله عنه أكرمه الله تعالىٰ بالشهادة في هذا اليوم وأهان بذلك من قتله أو أعان علىٰ قتله أو رضی بقتله وله أُسوة حسنة بمن سبقه من الشهداء فإنَّه وأخوه سیدا شباب أهل الجنَّة)

وحتَّىٰ لا نلتزم بهذه اللوازم الباطلة نقول: إنَّ المراد من الإمام هو إمام الحق الذي عُين من قِبَل الحق تعالىٰ، وهم أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام)بضميمة الأحاديث الأُخرىٰ الثابتة عن النبي (صلی الله علیه و اله).

وبهذا يتَّضح أنَّ الإمامة أصل من أُصول الدين؛ لأنَّ من لم يعتقد بها تكون ميتته ميتةً جاهليةً بنص الحديث الشريف، ولا يكون كذلك إلَّا إذا كان أصلاً يتوقَّف عليه الدين.

وبناءً علىٰ هذا لا يكفي للمسلم أن يقول: آمنت بالله وبالرسول وبالمعاد ويقف، بل لا بدَّ أن يضيف الإيمان بالإمامة، ليعرف إمام زمانه حتَّىٰ لا يموت ميتةً جاهليةً(1).

ثمّ ماذا عن المسلمين الذين يعيشون في بلاد الكافرين، فهل يشملهم الحديث ؟! وحينئذٍ من هو إمامهم الذي تجب عليهم بيعته حتَّىٰ لا يموتوا ميتة الجاهلية ؟! وإن لم يشملهم فما هو دليل الاستثناء ؟!

فإن قيل: اتَّضح لنا ثبوت الحديث الشريف؛ لكن لا يمكن الاستفادة منه في تشخيص الإمام وتعيينه.

نقول: بعد بيان صحَّة الحديث الشريف ووروده في كتب الفريقين، وبعدما تبيَّن أيضاً عدم قصد السلطان والأمير من خلال لفظ (إمام)، إذ يلزم منه لوازم لا يقبلها من آمن بالله سبحانه وتعالىٰ وبرسوله (صلی الله علیه و اله)، فنقول في الجواب:

ص: 39


1- مقتبس من كتاب: مختصر العقائد للشيخ نزار آل سنبل (حفظه الله تعالىٰ): 49 - 51

إنَّ المستفاد من لفظ الحديث أنَّ معرفة هذا الشخص المجعول إماماً هي میزان للموت ميتة جاهلية من عدمها، وهذا المعنىٰ يلزمنا أن نقول بلابدَّية أن يكون هذا الشخص من قِبَل النبي (صلی الله علیه و اله)، أو من قِبَل الله سبحانه، وحتَّىٰ يتحقَّق الغرض الإلهي من بعثة خاتم الأنبياء (صلی الله علیه و اله)وإنزال الكتاب الكريم وهو هداية الناس كافَّة، فلا بدَّ أن يُحدد ويِعين لنا الله سبحانه وتعالىٰ ورسوله(صلی الله علیه و اله) هذا الإمام - الذي عدم مبايعته ومعرفته تُشکل خطراً علىٰ حياة الإنسان ويكون مآله الموت علىٰ الجاهلية -، وهذا ما نرید استفادته من الحديث، ومن خلال سلسلة الأحاديث النبويَّة المتواترة من الفريقين نُعين ونُشخص الإمام، كحديث الثقلين، والغدير، والاثني عشر خلیفة أو إمام.

فإنَّ هذه الأحاديث سلسلة مرتبطة في حلقة واحدة كلّها تفيد ضرورة وجود أئمَّة اثني عشر، وأنَّهم أحد الثقلين، وعترة الهادي الأمين (صلی الله علیه و اله)، وأنَّ من لم يعرفهم يموت ميتةً جاهليةً، وهذه الأحاديث الشريفة بمجموعها لا تُشخص إلَّا في أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام).

الحديث الثالث: حديث الخلفاء الاثني عشر:

اشارة

نعتقد أنَّ الأئمَّة (علیهم السلام)المنصوص عليهم بالإمامة - الذين لهم صفة الإمامة الحقَّة وهم مرجعنا في الأوامر الإلهيَّة - اثنا عشر إماماً، نصَّ عليهم النبيُّ (صلی الله علیه و اله)جميعاً بأسمائهم، ثمّ نصَّ المتقدم منهم علىٰ المتأخر، وهذه العقيدة هي الموافقة لبشارة الرسول (صلی الله علیه و اله)في أحاديث كثيرة، رواها أهل السُّنَّة فضلاً عن الشيعة بعنوان (اثنا عشر خلیفة) و(اثنا عشر أميراً)، وفيما يلي بعضها:

الأوَّل: في صحيح البخاري: عن جابر بن سمرة، قال: سمعت

ص: 40

النبيَّ (صلی الله علیه و اله)يقول: «یکون اثنا عشر أميراً»، فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: قال: «كلّهم من قریش»(1).

الثاني: وفي صحيح مسلم: عن جابر بن سمرة، قال: دخلت مع أبي علىٰ النبي (صلی الله علیه و اله)، فسمعته يقول: «إنَّ هذا الأمر لا ينقضي حتَّىٰ يمضي فيهم اثنا عشر خلیفة»، قال: ثمّ تكلَّم بكلام خفي عليَّ، قال: فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قریش»(2).

الثالث: وفي مسند أحمد: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلىٰ اثني عشر خليفة» (3) .

الرابع: وفي لفظ آخر: «اثنا عشر کعدَّة نقباء بني إسرائيل »(4).

والأحاديث في هذا الباب كثيرة. ويدلُّ هذا الحديث علىٰ عدَّة أُمور: الأمر الأوَّل: حصر الخلفاء في اثني عشر. الأمر الثاني: استمرار خلافة هؤلاء الاثني عشر إلىٰ يوم القيامة . الأمر الثالث: توقّف عزَّة الإسلام وأُمَّته ومنعته عليهم.

الأمر الرابع: إنَّ قوام الدین علماً وعملاً بهم؛ لأنَّ قوامه العلمي بمفسر للكتاب ومبين لحقائقه و معارفه، وقوامه العملي بمُنفذ لقوانينه وأحكامه العادلة، وهذان الغرضان المهمّان لا يتيسَّران إلَّا بتحقُّق شروط خاصَّة في هؤلاء الأئمَّة الاثني عشر.

ص: 41


1- صحيح البخاري 8: 127؛ مسند أحمد 5: 93
2- صحیح مسلم 201:12
3- مسند أحمد 90:5
4- مسند أحمد 1: 398

الأمر الخامس: إنَّ اختياره (صلی الله علیه و اله)للتنظير بنقباء بني إسرائيل تنبيه علىٰ أنَّ خلافتهم لیست بانتخاب من الناس؛ بل تعيين من الله سبحانه، فقد قال الله تعالىٰ عن النقباء: «وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا» (المائدة: 12).

الأمر السادس: إنَّ هؤلاء الأئمَّة من قريش.

فهل يوجد خلفاء فيهم هذه المزايا إلَّا خلفاء المذهب الحقّ؟ وهل يمكن تفسير الأئمَّة الاثني عشر إلَّا بأئمَّتنا ؟ وهل تحقَّقت عزَّة الإسلام وأهدافه في خلافة يزيد بن معاوية وأمثاله ممَّن عاثوا في الأرض الفساد؟!

ولهذا ترىٰ علماء السُّنَّة قد سلكوا في تفسير هذه الأحاديث مسالك ملتوية، ولم يقفوا لها علىٰ تفسير صحيح، ولو يمَّموا صوب أهل البيت لعرفوا الطريق الواضح والصراط المستقيم، فإنَّ أئمَّتنا الاثني عشر هم المشهود لهم بالعلم والتقوىٰ حتَّى من قِبَل علماء السُّنَّة (1).

وقد تلخَّص من جميع ما قدَّمنا - عقلاً ونقلاً - أُمور: الأمر الأوَّل: وجود أئمَّة اثني عشر يبقون إلىٰ يوم الدين. الأمر الثاني: إنَّ هؤلاء هم خلفاء الرسول(صلی الله علیه و اله) دون غيرهم.

الأمر الثالث: إنَّ هؤلاء من أهل البيت(علیهم السلام)، وإنَّ مرجعية الأُمَّة المسلمة لهم.

الأمر الرابع: إنَّ أهل البيت (علیهم السلام)الذين هم مرجع المسلمين بعد النبي (صلی الله علیه و اله)هم الأئمَّة الاثنا عشر.الأمر الخامس: ضرورة وجود إمام في كل زمان.

ص: 42


1- مقبس من كتاب مختصر العقائد: 77 - 79. ومن أراد أن يعرف الأئمَّة فليرجع أيضاً لكتاب مقدَّمة في أُصول الدين لسماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلّه الوارف)

الأمر السادس: إنَّ من مات ولم تكن له بيعه لإمام زمانه مات ميتةً

جاهليةً.

الأمر السابع: إنَّ إمام هذا الزمان هو الإمام المهدي (علیه السلام)حسب ما دلَّت عليه الروايات الكثيرة عند الشيعة والسُّنَّة المصرحة بأنَّه إمام آخر الزمان، وهو الذي سيظهر ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما مُلِئَت ظلماً وجوراً.

ص: 43

البحث الإثباتي الأدلّة على ولادة الإمام المهدي (علیه السلام)

إنَّ إثبات النسب والولادة عند العقلاء وفي العادة يتمُّ باخبار القابلة بأنَّ فلانة ولدت فلاناً فتِصدَّق، أو إخبار الأب لوحده بأنَّ له ولداً، أو شاهدين ينقلان عن الأب أنَّه قال: لي ولد.

وهذه الأُمور وغيرها قد اجتمعت للدلالة علىٰ ولادة الإمام المهدي ونسبه الشريف، فهناك كثير من الرويات المتواترة دلَّت علىٰ ولادته ونسبه، وأنَّه هو محمّد بن الحسن العسکري ، ننقل بعضاً منها، وهي علىٰ عدَّة طوائف:

الطائفة الأولى:الإمام المهدي(علیه السلام) هو التاسع من ولد الإمام الحسين(علیه السلام)

الطائفة الأولى:الإمام المهدي(علیه السلام) هو التاسع من ولد الإمام الحسين(علیه السلام)(1)

الرواية الأُولىٰ: صحيحة أبي بصير، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «یکون تسعة أئمَّة بعد الحسين بن عليّ تاسعهم قائمهم»(2).

ص: 44


1- سيأتي ذكر أبواب أخرى تصب في نفس الموضوع من قبيل: أين الإمام المهدي (علیه السلام) هو السابع من ولد الإمام الباقر (علیه السلام) ، والسادس من ولد الإمام الصادق (علیه السلام) ، والخامس من ولد الإمام الكاظم (علیه السلام) ، والرابع من ولد الإمام الرضا (علیه السلام). ومجموع ما دل من الأخبار في هذه الأبواب مايقارب (465) حديثا؛ ولكن اقصرنا على خصوص هذا الباب: (التاسع من ولد الإمام الحسين(علیه السلام) ) روما للاختصار.
2- الكافي 1: 533/ باب فيما جاء في الاثني عشر.../ ح 15

الرواية الثانية: صحيحة النزال بن سبرة، عن أمير المؤمنين (علیه السلام)في حديث يذكر فيه أمر الدجّال، ويقول في آخره: «لا تسألوني عمَّا يكون بعد هذا، فإنَّه عهد إلىَّ حبيبي(علیه السلام) أن لا أُخبِر به غير عترتي»، قال النزال بن سبرة: فقلت لصعصعة بن صوحان: ما عنيٰ أمير المؤمنين بهذا القول ؟ فقال صعصعة: یا ابن سبرة، إنَّ الذي يُصلّي عیسیٰ بن مریم خلفه هو الثاني عشر من العترة، التاسع من ولد الحسين بن عليّ ، وهو الشمس الطالعة من مغربها، يظهر عند الركن والمقام، فيُطهر الأرض ويضع الميزان بالقسط فلا يظلم أحد أحداً، فأخبر أمير المؤمنين(علیه السلام) أنَّ حبیبه رسول الله (صلی الله علیه و اله)عهد إليه أن لا يُخبِر بها يكون بعد ذلك غير عترته الأئمَّة(1).

الرواية الثالثة: صحيحة الكميت بن أبي المستهل أنَّه دخل علىٰ الإمام أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام)، فقال له في حديث طویل: «یا أبا المستهل، إنَّ قائمنا هو التاسع من ولد الحسين؛ لأنَّ الأئمَّة بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)اثنا عشر، وهو القائم»، قلت: يا سيدي، فمن هؤلاء الاثنا عشر؟ قال: «أوَّلهم عليّ بن أبي طالب، وبعده الحسن والحسين، وبعد الحسين عليّ بن الحسين، وأنا، ثمّ بعدي هذا – ووضع يده علىٰ كتف جعفر -)، قلت: فمن بعد هذا؟ قال: «ابنه موسىٰ، وبعد موسىٰ ابنه عليّ، وبعد عليّ ابنه محمّد، وبعد محمّد ابنه عليّ، وبعدعليّ ابنه الحسن، وهو أبو القائم الذي يخرج فيملأ الدنيا قسطاً وعدلاً ويشفي صدور شیعتنا»، قلت: فمتىٰ يخرج یا ابن رسول الله؟ قال: «لقد سُئِلَ رسول الله (صلی الله علیه و اله)عن ذلك فقال : إنَّما مثله كمثل الساعة لا تأتيكم إلَّا بغتة» (2) .

ص: 45


1- کال الدين: 77 و 78، و 525 - 528/ باب 47/ ح 1
2- كفاية الأثر: 249 و 250

الرواية الرابعة: عن أبي مريم عبد الغفّار بن القاسم، قال: دخلت علىٰ مولاي الباقر (علیه السلام)وعنده أُناس من أصحابه ...، فقبَّلت يده ورجله وقلت: بأبي أنت وأُمّي يا ابن رسول الله، فما نجد العلم الصحيح إلَّا عندكم، وإنّي قد كبرت سنّي ودقَّ عظمي، ولا أرىٰ فيكم ما أسرّه، أراكم مقتَّلین مشرَّدین خائفين، وإنّي أقمت علىٰ قائمكم منذحين أقول: يخرج اليوم أو غداً. قال: «يا عبد الغفّار، إنَّ قائمنا (علیه السلام)هو السابع من ولدي، وليس هو أوان ظهوره، ولقد حدَّثني أبي، عن أبيه، عن آبائه، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): إنَّ الأئمَّة بعدي اثنا عشر عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، والتاسع قائمهم، يخرج في آخر الزمان فيملأها عدلاً کما ملئت جوراً وظلماً »(1).

الرواية الخامسة: عن عبد الرحمن بن سمرة، قال: قلت: يا رسول الله أرشدني إلىٰ النجاة، فقال: «يا ابن سمرة، إذا اختلفت الأهواء، وتفرَّقت الآراء، فعليك بعلي بن أبي طالب، فإنَّه إمام أُمَّتي، وخليفتي عليهم من بعدي، وهو الفاروق الذي يُميز بين الحق والباطل، من سأله أجابه، ومن استرشده أرشده، ومن طلب الحقَّ من عنده وجده، ومن التمس الهدىٰ لديه صادفه، ومن لجأ إليه آمنه، ومن استمسك به نجّاه، ومن اقتدىٰ به هداه. یا بن سمرة، سَلِمَ من سلَّم له ووالاه، وهلك من ردَّ عليه وعاداه. یابن سمرة، إنَّ عليّاً منّي، روحه من روحي، وطينته من طينتي، وهو أخي وأنا أخوه، وهو زوج ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين من الأوَّلين والآخرين، إنَّ منه إمامي أُمَّتي، وسيدي شباب أهل

ص: 46


1- كفاية الأثر: 250 - 253

الجنَّة الحسن والحسين، وتسعة من ولد الحسين، تاسعهم قائم أُمَّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً»(1).

الرواية السادسة: عن سلمان الفارسي رحمة الله ، قال: دخلت علىٰ النبي (صلی الله علیه و اله)، فإذا الحسين علىٰ فخذيه وهو يُقبل عينيه ويلثم فاه، وهو يقول: «أنت سید ابن سید،أنت إمام ابن إمام، أنت حجَّة ابن حجَّة أبو حجج تسعه من صلبك، تاسعهم قائمهم»(2).

الرواية السابعة: عن غياث بن إبراهيم، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن الحسين، عن أبيه الحسين بن عليّ (علیه السلام)، قال: «سُئِلَ أمير المؤمنين (علیه السلام)عن معنىٰ قول رسول الله(صلی الله علیه و اله) : إنّي مخلف فیکم الثقلين كتاب الله وعترتي، من العترة؟ فقال: أنا والحسن والحسين والأئمَّة التسعة من ولد الحسين تاسعهم مهديهم وقائمهم، لا يفارقون كتاب الله ولا يفارقهم حتَّىٰ يردوا علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و اله)حوضه»(3).

الرواية الثامنة: عن الأصبغ بن نباته، قال: خرج علينا أمير المؤمنين (علیه السلام)عليُّ بن أبي طالب ذات يوم، ويده في يد ابنه الحسن(علیه السلام) ، وهو يقول: «خرج علينا رسول(صلی الله علیه و اله) ذات يوم ويدي في يده هكذا، وهو يقول: خير الخلق بعدي و سيدهم أخي هذا، وهو إمام کل مسلم، ومولىٰ كل مؤمن بعد وفاتي. ألَا وإنّي أقول: خير الخلق بعدي وسيدهم ابني هذا، وهو إمام كل مؤمن، ومولىٰ كل مؤمن بعد وفاتي، ألَا وإنَّه سيُظلَم

ص: 47


1- أمالي الصدوق: 78/ ح ( 3/45)
2- عیون أخبار الرضا 56:1 / ح 17
3- عيون أخبار الرضا 60:1 / ح 25

بعدی کما ظُلِم۟تُ بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)، وخير الخلق وسيدهم بعد الحسن ابني أخوه الحسين المظلوم بعد أخيه المقتول في أرض كربلاء، أمَا إنَّه وأصحابه من سادة الشهداء يوم القيامة، ومن بعد الحسين تسعة من صلبه خلفاء الله في أرضه، وحججه علىٰ عباده، وأُمناؤه علىٰ وحيه، وأئمَّة المسلمين، وقادة المؤمنين، وسادة المتَّقين، تاسعهم القائم الذي يملأ الله به الأرض نوراً بعد ظلمتها، وعدلاً بعد جورها، وعلماً بعد جهلها. والذي بعث أخي محمّداً بالنبوَّة، واختصَّني بالإمامة، لقد نزل بذلك الوحي من السماء علىٰ لسان الروح الأمين جبرئيل، ولقد سُئِلَ رسول الله (صلی الله علیه و اله)- وأنا عنده - عن الأئمَّة بعده، فقال للسائل:

«وَالسَّماءِ ذاتِ ال۟بُرُوجِ(1)» [البروج: 1]، إنَّ عددهم بعدد البروج، وربُّ الليالي والأيام والشهور، إنَّ عددهم كعدد الشهور. فقال السائل: فمن هم یا رسول الله؟ فوضع رسول الله (صلی الله علیه و اله)يده علىٰ رأسي فقال : أوَّلهم هذا، وآخرهم المهدي، من والاهم فقد والاني، ومن عاداهم فقد عاداني، ومن أحبَّهم فقد أحبَّني، ومن أبغضهم فقد أبغضني، ومن أنكرهم فقد أنكرني، ومن عرفهم فقد عرفني، بهم يحفظ الله عزوجل دينه، وبهم يعمر بلاده، وهم يرزق عباده، و بهم نزل القطر من السماء، وبهم يُخرِج برکات الأرض، هؤلاء أصفيائي وخلفائي وأئمَّة المسلمين وموالي المؤمنين» (1).

الرواية التاسعة: عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسىٰ الرضا، عن أبيه، عن آبائه(علیهم السلام) ، قال : قال رسول الله : «أنا سید من خلق الله عزوجل، وأنا خير من جبرئیل و میکائیل وإسرافيل وحملة

ص: 48


1- کمال الدين: 259 و 260/ باب 24/ ح 5

العرش وجميع ملائكة الله المقرَّبين وأنبياء الله المرسلين، وأنا صاحب الشفاعة والحوض الشريف، وأنا وعليّ أبوا هذه الأُمَّة، من عرفنا فقد عرف الله عزوجل، ومن أنكرنا فقد أنكر الله عزوجل ، ومن عليّ سبطا أُمَّتي، وسیدا شباب أهل الجنَّة: الحسن والحسين، ومن ولد الحسين تسعة أئمَّة طاعتهم طاعتي، ومعصيتهم معصيتي، تاسعهم قائمهم ومهدیهم»(1).

الرواية العاشرة: عن الحسين بن خالد، عن علي بن موسىٰ الرضا، عن أبيه، عن آبائه (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): «من أحبَّ أن يتمسَّك بديني، ويركب سفينة النجاة بعدي، فليقتدِ بعلي بن أبي طالب، وليعادِ عدوَّه وليوالّ وليَّه، فإنَّه وصيّي، وخليفتي علىٰ أُمَّتي في حياتي وبعد وفاتي، وهو إمام کل مسلم، وأمير كل مؤمن بعدي، قوله قولي، وأمره أمري، ونهيه نهیي، وتابعه تابعي، وناصره ناصري، وخاذله خاذلي»، ثمّ قال(علیه السلام): «من فارق عليّاً بعدي لم يَرني ولم أرَه يوم القيامة، ومن خالف عليّاً حرَّم الله عليه الجنَّة وجعل مأواه النار (وبئس المصير)، ومن خذل عليّاً خذله الله يوم يُعرَض عليه، ومن نصر عليّاً نصره الله يوم يلقاه، ولقَّنه حجَّته عند المسألة»، ثمّ قال (علیه السلام): «الحسن والحسين إماما أُمَّتي بعد أبيهما، وسیدا شباب أهل الجنَّة، وأُمُّهما سيدة نساء العالمين، وأبوهما سید الوصيين. ومن ولد الحسين تسعة أئمَّة، تاسعهم القائم من ولدي، طاعتهم طاعتي ومعصيتهم معصيتي، إلىٰ الله أشكو المنکرین لفضلهم، والمضيعين لحرمتهم بعدي، وكفىٰ بالله وليّاً وناصراً لعترتي وأئمَّة أُمَّتي، ومنتقماً من الجاحدين لحقهم، «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)» [الشعراء: 227]» (2).

ص: 49


1- کمال الدين: 261/ باب 24/ ح 7
2- کمال الدين: 260 و 261/ باب 24/ ح 6

الرواية الحادية عشر: عن علي بن الحسن السائح، عن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (علیهما السلام)، يقول: «حدَّثني أبي، عن أبيه، عن جده (علیهم السلام)، قال: قال رسول الله(صلی الله علیه و اله) لعلي بن أبي طالب(علیه السلام) : ياعليُّ، لا یُحِبُّك إلَّا من طابت ولادته، ولا يبغضك إلَّا من خبثت ولادته، ولا يواليك إلَّا مؤمن، ولا يعاديك إلَّا كافر.

فقام إليه عبد الله بن مسعود، فقال: يا رسول الله، قد عرفنا علامة خبيث الولادة والكافر في حياتك ببغض عليٍّ وعداوته، فما علامة خبيث الولادة والكافر بعدك إذا أظهر الإسلام بلسانه وأخفىٰ مکنون سريرته؟

فقال (صلی الله علیه و اله): يا ابن مسعود، عليُّ بن أبي طالب إمامكم بعدي وخليفتي عليكم، فإذا مضىٰ فابني الحسن إمامكم بعده وخليفتي عليكم، فإذا مضىٰ فابني الحسين إمامكم بعده وخليفتي عليكم، ثمّ تسعة من ولد الحسين واحد بعد واحد أئمَّتكم وخلفائي عليکم، تاسعهم قائم أُمَّتي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلُئَت جوراً وظلماً، لا یُحِبُّهم إلَّا من طابت ولادته ولا يبغضهم إلَّا من خبثت ولادته، ولا يواليهم إلَّا مؤمن، ولا يعاديهم إلَّا كافر، من أنكر واحداً منهم فقد أنكرني، ومن أنكرني فقد أنكر الله عزوجل ، ومن جحد واحداً منهم فقد جحدني، ومن جحدني فقد جحد الله عزوجل ؛ لأنَّ طاعتهم طاعتي، وطاعتي طاعة الله،ومعصيتهم معصيتي، ومعصيتي معصية الله عزوجل. يا ابن مسعود، إيّاك أن تجد في نفسك حرجاً ممَّا أقضي فتكفر، فوَعزَّة ربّي ما أنا متكلف ولا ناطق عن الهوىٰ في عليٍّ والأئمَّة من ولده.

ثمّ قال (صلی الله علیه و اله)- وهو رافع يديه إلىٰ السماء -: اللّهمّ والِ من والىٰ خلفائي وأئمَّة أُمَّتي بعدي، وعاد من عاداهم، وانصر من نصر هم،

ص: 50

واخذل من خذلهم، ولا تخلُ الأرض من قائم منهم بحجَّتك ظاهراً أو خافياً مغموراً، لئلَّا يبطل دينك وحجَّتك (وبرهانك) وبيناتك.

ثمّ قال (صلی الله علیه و اله): يا ابن مسعود، قد جمعت لكم في مقامي هذا ما إن فارقتموه هلكتم، وإن تمسَّكتم به نجوتم، «وَالسَّلامُ عَلىٰ مَنِ اتَّبَعَ ال۟هُدىٰ (47)»

[طه: 47]»(1). ونقلها بعض أهل السُّنَّة مثل القندوزي(2)، عن مناقب الخوارزمي، قال: وفي المناقب: عن المفضَّل، قال: سألت جعفر الصادق (علیه السلام)عن قوله عزوجل: «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ...» الآية [البقرة: 124]، قال: «هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربه فتاب عليه، وهو أنَّه قال: يا رب، أسألك بحق محمّد وعليٍّ وفاطمة والحسن والحسين إلَّا تبت عليَّ، فتاب الله عليه، إنَّه هو التوّاب الرحیم»، فقلت له: يا ابن رسول الله، فما يعني بقوله: فَأَتَمَّهُنَّ» ؟ قال: «يعني أتمَّهنَّ إلىٰ القائم المهدي اثني عشر إمام، تسعة من ولد الحسين(علیهم السلام)»(3).

تنبیه بشأن القندوزي ومن علىٰ شاكلته:

قد يتبادر إلىٰ الذهن سؤال، وهو: أنَّه مثل هؤلاء من علماء السُّنَّة يعترفون وينقلون لنا الأحاديث في إمامة أهل البيت(علیهم السلام)، ومع ذلك لا يؤمنون بها،فكيف الحلُّ؟

ص: 51


1- کمال الدين: 261 و262/ باب 24/ ح 8
2- وقد ترجم له الزركلي في الأعلام 3: 125، ولم يشر لا من قريب ولا من بعيد إلىٰ تشیّعه، بل صریح كلامه أنَّ الرجل نقشبدني الطريقة، حنفي المذهب، قال: (سلیمان بن خوجه إبراهيم قبلان الحسيني الحنفي النقشبندي القندوزي: فاضل، من أهل بلخ، مات في القسطنطينية. له (ينابيع المودَّة) في شمائل الرسول وأهل البيت)
3- ينابيع المودة 1: 290/ باب 24/ ح 6

فنقول في المقام: يُحتَمل أحد احتمالين:

الاحتمال الأوَّل: أنَّ القندوزي الحنفي وأمثاله بعد هذه الأحاديث

استبصروا وتبيَّن لهم الحقُّ واتَّبعوه.

الاحتمال الثاني: أنَّهم لم يؤمنوا بهؤلاء الأئمَّة كما نحن نؤمن، ولا ضير في ذلك، إذ إنَّ بعض الحقائق العقدية والفقهية واضحة موجودة في كتبهم بنحو لا تشوبها شائبة، ولكن مع ذلك لم يؤمنوا بها، وهم بين منكر لها أو محرف لمعناها، فيُحرفوا معنىٰ هذه الأحاديث المبينة لإمامة الأئمَّة الاثني عشر کما قلبوا معاني الأحاديث الأُخرىٰ، كحديث الثقلين، والغدير، والموت علىٰ الجاهلية، وغيرها، بحيث لا تُهدِم ما جاؤوا به، ولكن مثلهم مثل الذين قال الله سبحانه وتعالىٰ فيهم: «مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)» (العنكبوت: 41).كما ينبغي التنبيه علىٰ أنَّ هذه الأحادیث متواترة ومتعددة الطرق، والحديث المتواتر يفيد العلم واليقين.

الطائفة الثانية:الروايات الدالّة على حصول الغيبة قبل وقوعها

فإنَّ المطَّلع علىٰ الأخبار لا يخفىٰ عليه ما رواه الأصحاب (رضوان الله

تعالىٰ عليهم) من الإخبار بوقوع غيبتين للإمام المهدي (علیه السلام)، نذكر بعضاً منها:

الرواية الأُولىٰ: عن المفضَّل بن عمر الجعفي، عن أبي عبد الله الصادق(علیه السلام)، قال: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين: إحداهما تطول حتَّىٰ يقول بعضهم: مات، وبعضهم يقول: قُتِلَ، وبعضهم يقول: ذهب، فلا يبقىٰ علىٰ أمره من أصحابه إلَّا نفر يسير، لا يطَّلع علىٰ موضعه أحد من وليٍّ ولا غيره، إلَّا المولىٰ الذي يلي أمره».

ص: 52

ثمّ عقَّب الشيخ النعماني علىٰ هذا الحديث قائلاً: (ولو لم یکن يُروىٰ في الغيبة إلَّا هذا الحديث لكان فيه كفاية لمن تأمَّله»(1).

الرواية الثانية: ما رواه أيضاً عن حازم بن حبيب، قال: دخلت علىٰ أبي عبد الله (علیه السلام)، فقلت له: أصلحك الله، إنَّ أَبَوَيَّ هلكا ولم يحجّا، وإنَّ الله قد رزق وأحسن، فما تقول في الحج عنهما؟ فقال: «أفعل، فإنَّه یُبرد لهما»، ثم قال لي: «یا حازم، إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبتين يظهر في الثانية، فمن جاءك يقول: إنَّه نفض يده من تراب قبره فلا تُصدقه» (2).

الرواية الثالثة: عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): كان أبو جعفر(علیه السلام) يقول: «لقائم آل محمّد غیبتان: أحدهما أطول من الأُخرىٰ»، فقال: «نعم، ولا يكون ذلك حتَّىٰ يختلف سیف بني فلان، وتضيق الحلقة، ويظهر السفياني، ويشتدُّ البلاء، ويشمل الناس موت وقتل يلجأون فيه إلىٰ حرم الله وحرم رسوله (صلی الله علیه و اله)» (3).

الرواية الرابعة: عن عبد الأعلىٰ مولىٰ آل سام، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال :

«أمَا أنَّ لصاحب هذا الأمر فيه غيبتين، واحدة قصيرة و أُخرىٰ طويلة»(4).

الطائفة الثالثة:الروايات التي تُبين أنَّ الإمام هو ابن الحسن العسكري (علیه السلام)

الرواية الأُولىٰ: عن داود بن القاسم، قال: سمعت أبا الحسن (علیه السلام)يقول: «الخَلَف من بعدي الحسن، فكيف لكم بالخلف من بعد الخلف؟»، فقلت: ولِمَ

ص: 53


1- الغيبة للنعاني: 176/ باب 10/ فصل 4/ ح 5
2- الغيبة للنعاني: 176 و 177/ باب 10/ فصل 4/ ح
3- الغيبة للنعماني: 177/ باب 10 فصل 3/ ح 7
4- الغيبة للطوسي: 163/ ح 123

جعلني الله فداك؟ فقال: «إنَّكم لا ترون شخصه، ولا يحلُّ لكم ذكره باسمه»، فقلت: فكيف نذكره؟ فقال: «قولوا: الحجَّة من آل محمّد(علیهم السلام)»(1).

الرواية الثانية: عن ابن عبّاس، قال: قدم يهودي علىٰ رسول الله (صلی الله علیه و اله)يقال له: (نعثل)، فقال: يا محمّد، إنّي أسألك عن أشياء تلجلج في صدري منذ حين، فإن أنت أجبتني عنها أسلمت علىٰ يدك.

قال: «سَل۟ یا أبا عمارة...».

إلىٰ أن قال: فأخبرني عن وصیك من هو؟ فما من نبيٍّ إلَّا وله وصیٌّ، وإنَّ نبيَّنا موسیٰ بن عمران أوصىٰ إلىٰ يوشع بن نون.

فقال: «نعم، إنَّ وصيّي والخليفة من بعدي عليّ بن أبي طالب (علیه السلام)، وبعده سبطاي الحسن والحسين، تتلوه تسعة من صلب الحسين، أئمَّة أبرار».

قال: يا محمّد، فسمهم لي؟

قال: «نعم، إذا مضىٰ الحسين فابنه عليّ، فإذا مضىٰ فابنه محمّد، فإذا مضىٰ فابنه جعفر، فإذا مضىٰ جعفر فابنه موسىٰ، فإذا مضىٰ موسىٰ فابنه عليّ، فإذا مضىٰ عليّ فابنه محمّد، فإذا مضىٰ محمّد فابنه عليّ، فإذا مضىٰ

عليّ فابنه الحسن، فإذا مضىٰ الحسن فبعده ابنه الحجَّة بن الحسن بن عليّ (علیهم السلام). فهذه اثنا عشر إماماً علىٰ عدد نقباء بني إسرائيل».

قال: فأين مكانهم في الجنَّة؟ قال: «معي في درجتي...»(2).

الرواية الثالثة: عن موسىٰ بن جعفر بن وهب البغدادي، قال: سمعت أبا محمّد الحسن بن علىٍّ(علیهما السلام) يقول: «كأنّي بكم وقد اختلفتم بعدي في الخلف منّي،

ص: 54


1- الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ علىٰ أبي محمّد (علیه السلام)/ ح 13
2- كفاية الأثر: 11 – 14

أمَا إنَّ المقرَّ بالأئمَّة بعد رسول الله (صلی الله علیه و اله)المنكر لولدي كمن أقرَّ بجميع أنبياء الله ورسله ثمّ أنكر نبوَّة رسول الله (صلی الله علیه و اله)، والمنكر لرسول الله (صلی الله علیه و اله)کمن أنكر جميع أنبياء الله؛ لأنَّ طاعة آخرنا كطاعة أوَّلنا، والمنكر لآخرنا کالمنكر لأوَّلنا. أمَا إنَّ لولدي غيبة يرتاب فيها الناس إلَّا من عصمه الله عزوجل»(1).

الرواية الرابعة : عن أبي عليّ بن همام، قال: سمعت محمّد بن عثمان العمري قدَّس الله روحه يقول: سمعت أبي يقول: سُئِلَ أبو محمّد الحسن بن عليّ (علیهما السلام) وأنا عنده عن الخبر الذي روي عن آبائه(علیهم السلام): «أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة لله علىٰ خلقه إلىٰ يوم القيامة»، وأنَّ «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتةً جاهليةً». فقال (علیه السلام): «إنَّ هذا حقٌّ كما أنَّ النهار حقٌّ». فقيل له: يا ابن رسول الله، فمن الحجَّة والإمام بعدك؟

فقال: «ابني محمّد هو الإمام والحجَّة بعدي، من مات ولم يعرفه مات ميتةً جاهليةً. أمَا إنَّ له غيبة يُحار فيها الجاهلون، ويهلك فيها المبطلون، ويكذب فيها الوقّاتون، ثمّ يخرج، فكأنّي أنظر إلىٰ الأعلام البيض تخفق فوق رأسه بنجف الكوفة»(2).

الطائفة الرابعة:إخبار الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)بولادة ابنه

وهي إحدىٰ طرق إثبات أمر الولادة، أي إقرار الأب بأنَّ له ولداً، ونذكر بعضاً من الأخبار الدالّة عليه من كتاب الكافي الشريف:

ص: 55


1- کمال الدين: 409 / باب 38/ ح 8
2- کمال الدین: 409/ باب 38/ ح 9

الرواية الأُولىٰ: صحيحة أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد (علیه السلام): جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟

فقال: «سَل۟». قلت: يا سيدي، هل لك ولد؟ فقال: «نعم». فقلت: فإن [حدث] بك حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: «بالمدينة»(1).

الرواية الثانية: عن أحمد بن محمّد بن عبد الله، قال: خرج عن أبي محمّد(علیه السلام) حين قُتِلَ الزبيري لعنه الله: «هذا جزاء من اجترأ علىٰ الله في أوليائه، يزعم أنَّه يقتلني وليس لي عقب، فكيف رأىٰ قدرة الله فيه؟»، ووُلِدَ له ولد سمّاه (م ح م د) في سنه ستّ وخمسين ومائتين»(2)الرواية الثالثة: عن جعفر بن محمّد المكفوف، عن عمرو الأهوازي، قال: أراني أبو محمّد ابنه، وقال: «هذا صاحبکم من بعدي»(3).

الطائفة الخامسة:شهادة القابلة

وهو طريق واضح، فإنَّ كلَّ امرأة إذا جاءها المخاض وحان حين ولادتها يُؤتىٰ لها بقابلة تلي أمر الولد، وهي أوَّل من يأخذ به .

ص: 56


1- الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلىٰ صاحب الدار (علیه السلام)/ ح 2
2- الكافي 1: 329/ باب الإشارة والنصّ إلىٰ صاحب الدار(علیه السلام) / ح 5
3- الكافي 1: 328/ باب الإشارة والنصّ إلىٰ صاحب الدار (علیه السلام)/ ح 3

وقابلته (علیه السلام)هي السيدة حكيمة عمَّة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، وقد صرَّحت بمشاهدة الإمام الحجَّة (علیه السلام)بعد ولادته، ففي الكافي الشريف: عن محمّد بن يحيىٰ، عن الحسين بن رزق الله أبو عبد الله، قال: حدَّثني موسىٰ بن محمّد بن القاسم بن حمزة بن موسیٰ بن جعفر، قال: (حدَّثتني حکيمة ابنة محمّد بن عليّ - وهي عمَّة أبيه - أنّها رأته ليلة مولده وبعد ذلك)(1).

الطائفة السادسة:شهادة الوكلاء من الثقاة الأجلاء المعروفين وشهادة الخدم والإماء

ومن جملة الروایات صحيحة عبد الله بن جعفر الحميري، قال: اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو رحمة الله (2) عند أحمد بن إسحاق، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف، فقلت له: يا أبا عمرو، إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيها أُريد أن أسألك عنه، فإنَّ اعتقادي و ديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة، فلم يُك «يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا (158)» [الأنعام: 158]، فأُولئك أشرار من خلق الله عزوجل ، وهم الذين تقوم عليهم القيامة؛ ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً، وإنَّ إبراهيم (علیه السلام)سأل ربَّه أن يريه كيف يُحيي الموتىٰ، قال: «أَوَلَم۟ تُؤ۟مِن۟»؟ قال: «بَلىٰ وَلكِن۟ لِیَط۟مَئِنَّ قَل۟بِي» [البقرة: 260]، وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق، عن أبي الحسن(علیه السلام) ، قال : سألته وقلت: من أُعامل أو عمَّن آخذ، وقول من أقبل؟ فقال

ص: 57


1- الكافي 1: 330 و 331/ باب في تسمية من رآه(علیه السلام) / ح 3
2- وهو السفير الأوَّل: عثمان بن سعيد العمري قدس سره

له: «العمري ثقتي فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي، وما قال لك عنّي فعنّي يقول، فاسمع له وأطع، فإنَّه الثقة المأمون»، وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد (علیه السلام)عن مثل ذلك، فقال له: «العمري وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّی يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها، فإنَّهما الثقتان المأمونان»، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك.

قال: فَخَرَ أبو عمرو ساجداً وبكىٰ، ثمّ قال: سَل۟ حاجتك. فقلت له: أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد (علیه السلام)؟ فقال : إي والله، ورقبته مثل ذا – وأومأ بيده -. فقلت له: فبقيت واحدة. فقال لي: هاتِ. قلت : فالاسم؟

قال: محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك، ولا أقول هذا من عندي، فليس لي أن أُحلل ولا أُحرم؛ ولكن عنه(علیه السلام) ، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضىٰ ولم يُخلف ولداً وقسَّم میراثه وأخذه من لا حقَّ له فيه، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً، وإذا وقع الاسم وقع الطلب، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك»(1).

الطائفة السابعة:تصرّف السلطة

ومن دلائل القول بولادته(علیه السلام) تصرّف السلطة غير المسبوق؛ فإنَّ المعتمد كان شديد التعصّب وضدُّ أهل البيت (علیهم السلام)، فدخل بيت

ص: 58


1- الكافي 1: 329 و 330/ باب في تسمية من رآه / ح 1

الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)وصار يجول بعسكره لإيجاد هذا المولود، والسبب هو السبب في قضيَّة نبي الله موسىٰ (علیه السلام)وفرعون الطاغي.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ من المعلوم بالضرورة إقامة الدولة الإلهيَّة وعدالة السماء ومحق الظلم والباطل عن طريق المهدي من آل محمّد (علیه السلام)، وكان المؤمنون في تلك الأزمان يترقَّبون خروجه المبارك الميمون، وأمَّا غير المؤمنين فهم أيضاً ينتظرون هذه الساعة؛ لكن سنخ انتظار مغاير عن المؤمنين بالإمام المهدي (علیه السلام)، فانتظارهم لأجل التخلّص من وجوده المبارك ليحفظوا ملذّات دنياهم وعروش دولتهم الظالمة، فعلمت السلطة الغاشمة أنَّ سلسلة أهل البيت (علیهم السلام)لم تنتهِ، وأنَّ الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) هو الإمام الحادي عشر، وأنَّ الثاني عشر الذي تعتقد به الإماميَّة - أنار الله برهانهم - قادم لا محالة، ولا بدَّ أن ينصروه ويعزروه ويقيموا الدولة الإلهيَّة في ظل عنايته وإشرافه؛ فعلمت السلطة أنَّ الحكومات تسقط عند قيام هذا الموعود من قِبَل النبي (صلی الله علیه و اله)، وطبيعة حالة الخوف مع عدم الإيمان ينتج لنا تصرّف کتصرّف فرعون من مراقبة وبث العيون في الأرجاء واقتحام البيوت وغيرها من الأُمور الشنيعة، ولو لم يعلم بوجود ولد لما ارتكب ما ارتكب بحثاً عنه، وسيأتي تفصيله إن شاء الله تعالىٰ.

الطائفة الثامنة:شهادة علماء الأنساب

وهم أهل الخبرة في مثل هذه الموارد. فمن جملة علماء النسب:

ص: 59

1- أبو نصر البخاري، قال: (وولد عليّ النقي ابن محمّد التقي (علیه السلام)جعفراً، وهو الذي تُسمّيه الإماميَّة: جعفر الكذّاب، وإنَّما تُسمّيه الإماميَّة بذلك لادعائه میراث أخيه الحسن(علیه السلام) دون ابنه القائم الحجَّة ، لا طعن في نسبه)(1).

2 - السيد العمري، قال: (ومات أبو محمّد (علیه السلام)وولده من نرجس (علیها السلام)معلوم عند خاصَّة أصحابه وثقات أهله، وسنذكر حال ولادته والأخبار التي سمعناها بذلك، وامتُحِنَ المؤمنون بل كافَّة الناس بغيبته، وشَرِهَ جعفر بن عليّ إلىٰ مال أخيه وحاله، فدفع أن يكون له ولد، وأعانه بعض الفراعنة علىٰ قبض جواري أخيه...)(2).

3 - الفخر الرازي الشافعي، قال تحت عنوان: (أولاد الإمام العسكري(علیه السلام)) ماهذا نصُّه: (أمَّا الحسن العسكري الإمام(علیه السلام) فله ابنان وبنتان: أمَّا الابنان فأحدهما : صاحب الزمان عجَّل الله تعالىٰ فرجه الشريف، والثاني موسیٰ درج في حياة أبيه ...)(3).

4 - النّسابة الزيدي السيد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني، قال تحت اسم الإمام عليّ التقي المعروف بالهادي(علیه السلام) خمسة من البنين وهم: (الإمام العسكري، الحسين، موسیٰ، محمّد، عليّ).

وتحت اسم الإمام العسكري (علیه السلام)مباشرةً كتب: (محمّد بن) وبإزائه: (منتظر الإماميَّة)(4).

هذه شهادة بعض علماء النسب.

ص: 60


1- سرُّ السلسلة العلوية: 40
2- المجدي في أنساب الطالبيين: 130
3- الشجرة المباركة في أنساب الطالبية: 78 و 79
4- روضة الألباب لمعرفة الأنساب: 105
الطائفة التاسعة:اعتراف علماء السُنَّة ومؤرخيهم

ذكر الباحث المعاصر ثامر العميدي في كتابه (الدفاع عن الكافي)

اعترافات علماء السُّنَّة في هذا الشأن، حيث أفاد بأنَّه بلغت اعترافات الفقهاء والمحدثين والمفسرين والمؤرخين والمحققين والأُدباء والكُتّاب من أهل السُّنَّة أكثر من مائة اعتراف صریح بولادة الإمام المهدي (علیه السلام)، وقد صرَّح ما يزيد علىٰ نصفهم بأنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)هو الإمام الموعود بظهوره في آخر الزمان.

ثمّ ذكر مائة وثاني وعشرين من مصنفي أهل السُّنَّة ممَّن ذكر الإمام المهدي (علیه السلام)بعنوان أنَّه الإمام الثاني عشر من أئمَّة أهل البيت (علیهم السلام)، منهم من عاصر الميلاد والغيبة الصغرىٰ فلشهادتهم قيمة علمية، ومنهم غير ذلك.

أحدهم أبو بكر الروياني (307ه) في كتابه المسند، وأحمد بن إبراهيم بن عليّ الكندي (310ه) من تلاميذ ابن جرير الطبري، ومحمّد بن أحمد بن أبي الثلج أبو بكر البغدادي (322ه)، وعنده کتاب مواليد الأئمَّة مطبوع ضمن كتاب الفصول العشرة في الغيبة للشيخ المفيد.

ومن جملتهم: الخوارزمي (568ه)، وابن أثیر الجزري (606ه)، والكنجي الشافعي (658ه) في البيان، وابن خلّکان (681ه)، والجويني الشافعي (730ه) في فرائد السمطين.

وكثير من هؤلاء الذين اعترفوا بولادته(علیه السلام)(1).

ص: 61


1- راجع: دفاع عن الكافي 1: 573 - 596

قال الذهبي في حوادث سنة (260 ه): (وفيها الحسن بن عليّ الجواد بن محمّد بن عليّ الرضا بن موسىٰ الكاظم بن جعفر الصادق العلوي الحسيني، أحد الأئمَّة الاثني عشر الذين تعتقد الرافضة فيهم العصمة، وهو والد المنتظر محمّد صاحب السرداب)(1).

وقال المؤرخ أبي الفداء: (والحسن العسكري المذكور هو والد محمّد المنتظر صاحب السرداب، ومحمّد المنتظر المذكور هو ثاني عشر الأئمَّة الاثني عشر علىٰ رأى الإِماميَّة، ويقال له: القائم، والمهدي، والحجَّة.

ووُلِدَ المنتظر المذكور في سنة خمس وخمسين ومائتين، والشيعة يقولون: دخل السرداب في دار أبيه بسُرَّ من رأىٰ وأُمُّه تنظر إِليه فلم يعد يخرج إِليها، وكان عمره حينئذٍ تسع سنين، وذلك في سنة خمس وستّين ومائتين، وفيه خلاف)(2).

وقال الصفدي: (محمّد بن الحسن العسكري بن عليّ الهادي بن محمّد الجواد بن عليّ الرضا بن موسىٰ الكاظم بن محمّد الباقر بن زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضی الله عنه، الحجَّة المنتظر، ثاني عشر الأيمَّة الاثني عشر، هو الذي تزعم الشيعة أنَّه المنتظر القایم المهدي، وهو صاحب السرداب عندهم، وأقاويلهم فيه كثيرة، ينتظرون ظهوره آخر الزمان من السرداب بسُرَّ من رأىٰ، ولهم إلىٰ حين تعليق هذا التاريخ أربع مائة وسبعة وسبعين سنة ينتظرونه ولم يخرج، وُلِدَ نصف شعبان سنة خمس وخمسين وماتین)(3) .

ص: 62


1- العبر في خبر من غبر 1: 373
2- المختصر في أخبار البشر (تاريخ أبي الفداء) 361:1
3- الوافي بالوفيات 2: 336 و 337
إشكالان وردُّهما:
الإشكال الأوَّل: غرابة استتار الولادة:

فإن قلتَ: إنَّ استتار الولادة أمر غريب.

قلنا: إنَّ استتار أمر الولادة ممكن الحصول عند العقلاء وله أسبابه الموضوعية وأغراضه العقلائية، منها:

العامل الاجتماعي: وإنَّنا نجد من الناس أشخاصاً يتزوَّجون زوجة ثانية ولا يريدون أن يطَّلع أحد وبالخصوص من يقرب من الزوجة الأُولىٰ علىٰ أمر زواجه من الثانية، فلو ولد له ولد من زوجته الثانية، فمن الطبيعي في هذه الحالة أن يخفي ولادته ولا يُظهِره، ولا يُخرِجه للناس.

العامل المادّي: يمکن أن یکون لشخص ماثروة مالية كبيرة، ويكون له أقارب مادّیون ظلمة، قدمدّوا أعينهم إلىٰ ثروته، ولا يعلمون بوجود وارث له أقرب منهم نسباً، وهو ولده الصغير، فيخاف علىٰ ولده منهم؛ إذ يعتقد بأنَّهم لو علموا بوجوده لقتلوه لأخذ إرثه والاستيلاء علىٰ ثروته، فلا سبيل له إلَّا إخفاءه وستره عن أعينهم إلىٰ أن يشتدَّ عوده ويستطيع أن يقوم بنفسه.

العوامل الدينية: ما مرَّ من العوامل هي من قبيل الأُمور الشخصية، بينما الإمام المهدي (علیه السلام)يُمثل وضع مستقبل الأُمَّة، فاستتاره يكون من نوع استتارٍ مغایرٍ، فلا بدَّ أن يكون متعلَّق استتاره وغيبته أمراً دينياً.

ولا يمكن إنكار العوامل الدينية؛ إذ إنَّها ثبتت عن نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم وهو كليم الله موسىٰ(علیه السلام) ؛ فإنَّ أُمَّه أخفت ولادته خوفاً عليه؛ لأنَّ فرعون يعلم أنَّ إطاحة حكمه من خلال رجل من بني

ص: 63

إسرائيل، فبقر البطون وحاول أن لا تحمل النساء، ووضع الجواسيس، قال الله تعالىٰ: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)» (التوبة: 32). فإنَّ فرعون أراد أن يُطفى نور الله ودينه بمنع ولادة نبي الله موسىٰ (علیه السلام)؛ ولكنَّ الله سبحانه جعل أمر ولادته مستوراً وخافياً بحيث إنَّه حفظه من كيدهم، ومنه يعلم أنَّ القضيَّة لها بُعد دیني إلهي في حفظ نبيٍّ من أنبياء أُولي العزم (علیه السلام).

فلو أثبتنا أنَّ أمر ولادة الإمام المهدي(علیه السلام) كان مستوراً وخافياً عن عامَّة الناس وخصوصاً السلطة فهذا الأمر ليس غريباً، وخصوصاً أنَّ السلطة الحاكمة آنذاك تحارب وتقاتل أهل البيت (علیهم السلام)وتقربهم القرب الجغرافي لمراقبتهم، إلىٰ أن أتىٰ زمن الإمام الحسن بن عليٍّ العسكري (علیهما السلام)، فعلمت السلطة ماتواتر عن أهل البيت (علیهم السلام)أنَّ التاسع من ولد الإمام الحسين (علیه السلام)هو الإمام المهدي (علیه السلام)، وهو الذي يملأ الأرض عدلاً وقسطاً بعدما مُلِئَت ظلماً وجوراً. والخلاصة: أنَّ استتار الولادة أمر متعارف لا شناعة فيه.

الإشكال الثاني: إنَّ منهج السيد الخوئي قدس سره لا يُثبِت ولادة الإمام المهدي (علیه السلام):

وحاصل الشبهة التي ذكرها بعضهم: أنَّ الاعتماد علىٰ المنهج السندي للسيد الخوئي قدس سره يلزم منه عدم إمكان إثبات ولادة الإمام المنتظر (علیه السلام)، وساق علىٰ ذلك شواهد ثلاثة:

الشاهد الأوَّل: أنَّ الروايات الواردة في الكافي الشريف، في باب مولد الصاحب (علیه السلام)، كلّها ضعيفة باستثناء روايتين، كما نصَّ علىٰ ذلك البهبودي في (زبدة الكافي).

ص: 64

الشاهد الثاني: أنَّ العلَّامة المجلسي قدس سره أيضاً ضعَّف جُلَّ هذه الروايات في مرآة العقول في هذا الباب، ولم يسلم من أسانيدها إلَّا سبعة أو ثمانية.

الشاهد الثالث: أنَّ العلَّامة المجلسي قد نقل في المجلَّد الواحد والخمسين من البحار أربعين رواية ولم يصحّ منها شيء، كما قال صاحب (المشرعة).

والنتيجة التي خلص إليها المتحدث بعد هذه الشواهد: أنَّه لا يُمكن إثبات ولادة الإمام الحجَّة (علیه السلام) بناءً علىٰ المنهج السندي للسيد الخوئي لضعف الروایات کما تقدَّم، أو لا أقل إن قبلنا بصحة بعضها - كما قال البهبودي - فلا يُمكن الاكتفاء بروايتين في المقام؛ لأنَّ ما نحن فيه - أي ولادة الإمام المهدي (علیه السلام)- داخل في ضمن المسائل العقائدية التي لا يصحُّ الاستناد فيها إلَّا إلىٰ اليقين، وهو لا يتحصَّل من روايتين!

الجواب عن الشبهة:

ما أفاده المتحدث باطل لا یُمکِن التفوّه به، وهو مخدوش من جوانب متعددة،ونحن نكتفي في المقام - رعايةً للاختصار - بذكر مطلبين أساسيين:

المطلب الأوَّل كبروي، وهو في الحديث عن المنهج الصحيح في التعامل مع الأخبار، وبالأخصّ وفق مباني السيد الخوئي قدس سره.

المطلب الثاني صغروي، وهو في تطبيق القواعد العلميَّة في المنهج المذكور علىٰ ما نحن فيه، ليُلاحِظ الباحث أنَّ المعطيات العلميَّة المبنيَّة علىٰ الأُسس المتقنة والصحيحة مخالفة لما أفاده المتحدث جملةً وتفصيلاً.

وإليك تفصيل ذلك:

ص: 65

تفصيل المطلب الأوَّل: منهجية السيد الخوئي قدس سره:

قرَّر الأعلام - ومنهم السيد الخوئي قدس سره - أنَّ الخبر ينقسم إلىٰ أقسام أربعة:

الأوَّل: الخبر المتواتر، والذي ينقسم إلىٰ ثلاثة أقسام:

القسم الأوَّل: الخبر المتواتر لفظاً، من قبيل قوله (صلی الله علیه و اله): «من کنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه».

القسم الثاني: الخبر المتواتر معنیً، من قبيل الأخبار الواردة في شجاعة أمير المؤمنين (علیه السلام).

القسم الثالث: الخبر المتواتر إجمالاً، کورود أخبار كثيرة متعددة في باب من الأبواب بحيث يُعلَم إجمالاً - لكثرتها – بصدور بعضها.

وهذه الأقسام الثلاثة حجَّةٌ عند السيد الخوئي قدس سره وغيره من الأعاظم .

الثاني: خبر الواحد المحفوف بالقرينة المفيدة للقطع أو الاطمئنان، وهذا حجَّة بلا شكٍّ. أمَّا عند استفادة القطع من احتفاف القرائن بالخبر فواضح؛ إذ القطع حجَّة بلا منازع. وأمَّا عند استفادة الاطمئنان من ذلك، فلأنَّ الاطمئنان حجَّة عقلائية، والسيد الخوئي قدس سره يرىٰ حجّية هذا القسم من الخبر.

الثالث: خبر الواحد الثقة غير المحفوف بالقرينة، وهنا وقع الخلاف بين الأعلام، فذهب بعضهم كالسيد الخوئي قدس سره إلىٰ حجّية خبر الثقة، وذهب غيره من الأعاظم إلىٰ حجّية الخبر الموثوق.

الرابع: الإخبار الطَّبَقي، وهو إخبار طبقة عن طبقة، وهذا القسم أقواها؛ إذ إنَّ وصول الخبر بنقل طبقة - تحتوي المئات والآلاف - إلىٰ

ص: 66

طبقة أُخرىٰ مثلها أمر يفوق حدَّ التواتر، من قبيل نقل القرآن الكريم ووصوله إلينا، فإنَّه منقول لنا نقلاً طبقياً، ولسنا بعد هذا بحاجة لما يفعله المخالفون

من رواية القرآن عن مجموعة أشخاص ثمّ الانتهاء إلىٰ خمسة رواة فقط، ولا يُحصلون بذلك تواتراً.

تفصيل المطلب الثاني: تطبيق المنهج علىٰ ما نحن فيه:

وقبل الحكم علىٰ المسألة وتطبيق القواعد العلمية المتقدمة، لا بدَّ من تشخيص الموضوع حتَّىٰ تتحدَّد الأدوات التي علىٰ وفقها نتعاطىٰ معه، فنقول: هل إنَّ مسألة ولادة الإمام المهدي مسألة تأريخية أو عقائديَّة؟

ويترتَّب علىٰ ذلك أمرٌ مهمٌ غاب عن ذهن هذا المُشكِل، سيتَّضح في طّيات البحث.

فقد أفاد المُشكِل في الجواب علىٰ هذا السؤال: بأنَّ مسألة ولادة الإمام المهدي (علیه السلام)مسألة عقائديَّة. وهذا خلط بين ولادته والاعتقاد بضرورة وجوده وإمامته؛ فإنَّ ولادة الإمام (علیه السلام)بها هي ولادة حدث تاريخي وليست من العقائد في شيء، وأمَّا الاعتقاد بإمامته ووجوده فعلاً الملازم لولادته فهو من العقائد.

ومع غض الطرف عن ذلك، فإنَّنا نبحث في جهتين:

الجهة الأُولىٰ: فيما لو كانت المسألة تأريخية - كما هو الحقُّ -، فلا إشكال في بطلان مانسبه لمنهج السيد الخوئي قدس سره من عدم حجّية الأخبار في هذا الباب؛ إذ إنَّه اعترف بصحَّة روايتين - لا أقلّ - استناداً إلىٰ تصحيح البهبودي، والسيد الخوئي قدس سره يرىٰ حجيّة خبر الواحد الثقة في المسائل التأريخيَّة.

ص: 67

وبعبارة أُخرىٰ: أراد المُشكِل بنقله لتضعيفات الآخرين للروايات وتصحيحهم للعدد الأقلّ منها أن يقول بأنَّ الأخبار الواردة في هذا الباب أخبار آحاد، وبالتالي لا يمكن إثبات مسألة الولادة علىٰ رأي السيد الخوئي قدس سره، إلَّا أنَّ هذا منه، فمسألة الولادة تأريخيَّة، والسيد الخوئي قدس سره يریٰ حجّية خبر الواحد الثقة في المسائل التأريخية.

علىٰ أنَّنا لا نُسلم بأنَّ هذه الأخبار الشريفة أخبار آحادکما سيتَّضح، إنَّما نحن نتنزَّل للمُشكِل.

الجهة الثانية: فيما لو كانت المسألة عقائديَّة - كما زعم -، فإنَّ الخبر في هذا الباب ليس خبر واحد کما سيتَّضح، ولو تنزَّلنا وقلنا بأنَّه خبر واحدفلا إشكال ولا شبهة في كونه محفوفاً بالقرينة القطعية أو المفيدة للاطمئنان، والخبر المحفوف حجَّة عن السيد الخوئي قدس سره.

بيان ذلك:

أنَّ الأخبار الواردة في ولادة الإمام (علیه السلام)أخبار متواترة بلا ریب.

أوَّلاً:

لو اقتصرنا علىٰ باب من الكافي وهو باب ولادة الصاحب (علیه السلام)، فإنَّ التواتر الإجمالي ثابت لا محالة مع وجود واحد وثلاثين رواية شريفة في هذا الشأن کما يشهد له وجدان سليم الحواس، فكيف لو ضممت أبواباً أُخرىٰ في الكافي وغيره من الكتب التي صُنفت لهذا الشأن سواء علىٰ نحو المطابقة أو الالتزام، ككتب رئيس المحدثين الصدوق، وشيخ الطائفة الطوسي، وشيخ أصحابنا المفيد (أعلىٰ الله في جنان الخلد مقامهم)؟!

وقد ذكر العديد منها المرجع الديني الكبير آية الله العظمىٰ الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني رحمة الله في (منتخب الأثر)، وإليك شيء من فهرس الكتاب في الجزء الثاني منه:

ص: 68

الباب الثالث:

الفصل العاشر: في أنَّه من الأئمَّة التسعة من ولد الحسين (علیه السلام)، وفيه (165) حديثاً(1).

الفصل الحادي عشر: في أنَّه التاسع من ولد الحسين (علیه السلام)، وفيه (160) حديثاً(2).

الفصل الثالث عشر: في أنَّه السابع من ولد الباقر محمّد بن عليٍّ ، وفيه (121) حديثاً (3).

الفصل الخامس عشر: في أنَّه السادس من ولد الصادق جعفر بن محمّد ، وفيه (120) حديثاً(4).

الفصل السابع عشر: في أنَّه الخامس من ولد الإمام السابع موسیٰ بن جعفر، وفيه (115) حدیثاً (5). الفصل الثامن عشر: في أنَّه الرابع من ولد الإمام أبي الحسن علي بن موسىٰ الرضا ، وفيه (109) حديثاً(6) .

الفصل الحادي والعشرون: في أنَّه خلف الخلف أبي الحسن وابن أبي محمّد الحسن ، وفيه (107) حديثاً(7).

ص: 69


1- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 162
2- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 164
3- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 173
4- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 179:2
5- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 182
6- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 187
7- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 195

الفصل الرابع والعشرون: في أنَّه إذا توالت ثلاثة أسماء: محمّد

وعليّ والحسن كان الرابع هو القائم، وفيه حديثان(1).

الفصل الثالث والثلاثون: في أنَّه خفيُّ الولادة، وفيه (13) حديثاً(2) .

الباب الرابع (3):

الفصل الأوَّل: في ثبوت ولادته، وكيفيتها، وتاريخها، وبعض حالات أُمه واسمها، وفيه (436) حديثاً.

الفصل الثاني : معجزاته في حياة أبيه (علیهما السلام)، وفيه (10) أحاديث.

الفصل الثالث : فيمن رآه في أيّام والده (علیهما السلام)، وفيه (20) حديثاً .

الباب الخامس(4):

الفصل الأوَّل: في من فاز برؤيته (علیه السلام)في الغيبة الصغرىٰ، وفيه (27) حديثاً.

الفصل الثاني: في ذكر بعض معجزاته(علیه السلام) في الغيبة الصغرىٰ، وفيه (29) حديثاً.

الفصل الثالث: في حالات سفرائه ونوّابه في الغيبة الصغرىٰ، وفيه (27) حديثاً.

الباب السادس (5):

الفصل الأوَّل: في معجزاته في الغيبة الكبرىٰ، وفيه (15) حديثاً .

ص: 70


1- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 214:2
2- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 289
3- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 367:2 - 431
4- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 437 - 562
5- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 2: 533 - 562

الفصل الثاني: في من رآه في الغيبة الكبرىٰ، وفيه (13) حديثاً(1).

وأمَّا في الجزء الثالث من الكتاب فذكر باباً في دعائه (علیه السلام)، وبعض الأدعية المأثورة عنه، وفيه (13) حدیثاً ).

وكذلك المحدث الكبير الشيخ الحرّ العاملي في (إثباة الهداة)، حيث ذكر (170) حديثاً في معجزات صاحب الزمان(علیه السلام) (2).

وأيضاً دلالة توقيعاته الشريفة علىٰ وجوده المقدَّس، فإنَّ الشيخ الصدوق قدس سره نقل منها (52) حدیثاً (3).

ثانياً:

إنَّ الأخبار الواردة في هذا الباب في كتب الأصحاب، والدالّة علىٰ المطلوب - بالمنطوق أو باللازم البين بالمعنىٰ الأخصّ - متواترة تواتراً معنوياً، وهي علىٰ طوائف سبق بيانها في بداية الفصل:

الأُولىٰ: التي ذكرت نسب الإمام (علیه السلام)، وأنَّه التاسع من ولد الحسين (علیه السلام)، أو الخامس من ولد السابع (علیه السلام)، أو السادس من ولد الصادق (علیه السلام)، أو الخلف بعد الخلف - أي الإمام الهادي (علیه السلام)-.

الثانية: روايات الغيبة.

الثالثة: إخبار الإمام العسكري (علیه السلام)بولادة ولده (علیه السلام)- وهو ما يُثبِت الولادة عند عامَّة العقلاء - کما ورد بسند صحيح في الكافي الشريف(4).

ص: 71


1- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر 3: 250
2- إثبات الهداة 5: 284
3- کمال الدين: 438 - 473
4- صحيحة أبي هاشم الجعفري، قال: قلت لأبي محمّد : جلالتك تمنعني من مسألتك، فتأذن لي أن أسألك؟ فقال: «سَل۟». قلت: يا سيدي، هل لك ولد؟ فقال: «نعم». فقلت: فإن حدث بك حدث فأين أسأل عنه؟ فقال: «بالمدينة». راجع: الكافي 328:1 / باب الإشارة والنصّ إلىٰ صاحب الدار / ح 2

الرابعة: إخبار القابلة وهي السيدة حكيمة (علیها السلام)التي صرَّح العلَّامة المجلسي بأنَّ هذه الرواية مشهورة عند أصحابنا(1).

الخامسة: من شهد برؤيته في زمن الإمام العسكري(علیه السلام) ، ولو تتبَّعت عددهم في كتب الأصحاب تتبّعاً سريعاً لأحصيت (177) رجلاً - علىٰ عجالة - رأوه في عصر أبيه (علیه السلام).

السادسة: شهادة وكلائه، ومن وقف علىٰ معجزاته، أو شهادة الخدم والجواري، وغير ذلك من الأبواب الكثيرة.

ثالثاً:

إنَّ أمر ولادة الإمام (علیه السلام)وصل لنا طبقة عن طبقة، وإن شئت سمه بالتواتر الطبقي.

المتحصل ممَّا تقدَّم:

إنَّ هذه الروايات الشريفة - التي ذكرها المُشكِل - وغيرها حجَّةٌ علىٰ منهج السيد الخوئي قدس سره، والذي تقدَّم عرضه.

وقد عرفت أنَّ المنهج بكامله عند السيد الخوئي - فضلاً عن غيره من الأعاظم - يدلُّ علىٰ إثبات ولادة الإمام (علیه السلام)، ومن ادَّعىٰ بأنَّه لا يدلُّ على ذلك بناءً علىٰ منهج السيد الخوئي قدس سره فإنَّه لم يتذوَّق من طعم مباحث علم الأُصول شيئاً.

ص: 72


1- قال العلامة المجلسي رحمة الله في مرآة العقول (ج 4 / شرح ص 8) معلقاً علىٰ الرواية الثالثة، وهي رواية رؤية السيدة الحكيمة له : (والكليني أجمل القصَّة، وهي طويلة مشهورة مذكورة في كتب الغيبة)

الفصل الثاني:غيبة الإمام (علیه السلام)وسنن الأنبياء

اشارة

• تمهيد.

• شبه غيبته (علیه السلام)بغيبة الأنبياء.

• أقسام غيبة الإمام (علیه السلام).

• الغيبة الصغرىٰ ومباحثها.

• الغيبة الكبرىٰ ومباحثها.

ص: 73

ص: 74

تمهيد

اتَّضح ممَّا تقدَّم عدَّة أُمور ترتبط بالإمام المهدي (علیه السلام)، وأنَّ وجوده وولادته ونسبه إلىٰ الإمام الحسن العكسري (علیهما السلام)ممَّا ثبت بالضرورة، فلا بدَّ بعد ذلك من ثبوت أنَّه غائب عن الأنظار والأبصار، ومن أراد أن يطَّلع علىٰ عقيدتنا في الغيبة، فليراجع كلمات الأصحاب (قدَّس الله روحهم)، ولا بأس بذكر بعض منها حتَّىٰ يعرف القارئ الكريم عقيدة شيعة أهل البيت (علیهم السلام)في غيبة الإمام المهدي (علیه السلام).

قال الشيخ المفيد قدس سره : (وكان الإمام بعد أبي محمّد (علیه السلام)ابنه المسمّىٰ باسم رسول الله (صلی الله علیه و اله)، المكنّىٰ بكنيته، ولم يُخلف أبوه ولداً غيره ظاهراً ولا باطناً، وخلَّفه غائباً مستتراً علىٰ ما قدَّمنا ذكره.

وكان مولده (علیه السلام)ليلة النصف من شعبان، سنة خمس وخمسين ومائتين.

وأُمُّه أُمُّ ولد يقال لها: نرجس، وكان سنُّه عند وفاة أبي محمّد خمس سنين، آتاه الله فيها الحكمة وفصل الخطاب، وجعله آية للعالمين، وآتاه الحكمة کما آتاها يحيىٰ صبياً، وجعله إماماً في حال الطفولية الظاهرة كما جعل عیسیٰ بن مریم (علیه السلام)في المهد نبيّاً.

وقد سبق النصُّ عليه في ملَّة الإسلام من نبي الهدىٰ (صلی الله علیه و اله)، ثمّ من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (صلی الله علیه و اله)، ونصَّ عليه الأئمَّة واحداً

ص: 75

بعد واحد إلىٰ أبيه الحسن (علیه السلام)، ونصَّ أبوه عليه عند ثقاته وخاصَّة شیعته.

كان الخبر بغيبته ثابتاً قبل وجوده، وبدولته مستفيضاً قبل غيبته، وهوصاحب السيف من أئمَّة الهدىٰ (علیهم السلام)، والقائم بالحق، المنتظَر لدولة الإيمان، وله قبل قيامه غیبتان، إحداهما أطول من الأُخرىٰ، كما جاءت بذلك الأخبار، فأمَّا القصرىٰ منهما فمنذ وقت مولده إلىٰ انقطاع السفارة بينه وبين شيعته وعدم السفراء بالوفاة، وأمَّا الطولىٰ فهي بعد الأُولىٰ، وفي آخرها يقوم بالسيف)(1).

ص: 76


1- الإرشاد 2: 339 و 340

شبه غيبته (علیه السلام)بغيبة الأنبياء

إنَّ قضيَّة الإمام المهدي تشابه قضايا الأنبياء السابقين(علیهم السلام) کما دلَّت عليه الأخبار، وأحد أوجه التشابه بينه وبينهم هو الغيبة والاستتار عن الأنظار والأبصار، ووجه التشابه يردع تشکیکات المشككين بغيبته (علیه السلام)، سواء كان بداعي الغرابة أو عدم الهداية، فإنَّ ما يرد من نقض علىٰ غيبة الإمام يرد علىٰ غيبة الأنبياء والصالحين في السنن الماضية، فبعد إثبات أنَّ هذه السنن جرت في حق الأنبياء والصالحين فلا غرابة إذا ثبتت عن الإمام المهدي (علیه السلام).

الروايات الدالّة على شبهه(علیه السلام) بأنبياء الله (علیهم السلام):

الرواية الأُولىٰ: عن سعيد بن جبير، قال: سمعت سید العابدین عليَّ بن الحسين (علیه السلام)يقول: «في القائم منّا سنن من الأنبياء:سُنَّة من أبينا آدم(علیه السلام)، وسُنَّة من نوح، وسُنَّة من إبراهيم، وسُنَّة من موسىٰ، وسُنَّة من عیسیٰ، وسُنَّة من أيّوب، وسُنَّة من محمّد صلوات الله عليهم.

فأمَّا من آدم ونوح فطول العمر، وأمَّا من إبراهيم فخفاء الولادة واعتزال الناس، وأمَّا من موسىٰ فالخوف والغيبة، وأمَّا من عيسىٰ فاختلاف الناس فيه، وأمَّا من أیّوب فالفرج بعد البلوىٰ، وأمَّا من محمّد (صلی الله علیه و اله)فالخروج بالسيف»(1).

ص: 77


1- کمال الدين: 321 و 322/ باب 31/ ح 3

الرواية الثانية: عن محمّد بن مسلم الثقفي الطحّان، قال: دخلت علىٰ أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیه السلام)وأنا أُريد أن أسأله عن القائم من آل محمّد صلّىٰ عليه وعليهم، فقال لي مبتدئاً: «یا محمّد بن مسلم، إنَّ في القائم من آل محمّد (صلی الله علیه و اله)شبهاً من خمسة من الرسل: يونس بن متّىٰ، ويوسف بن يعقوب، وموسىٰ، وعيسىٰ، ومحمّد صلوات الله عليهم.

فأمَّا شبهه من يونس بن متّیٰ، فرجوعه من غيبته وهو شابٌّ بعد كبر السن.

وأمَّا شبهه من يوسف بن يعقوب (علیه السلام)، فالغيبة من خاصَّته وعامَّته، واختفاؤه من إخوته وإشكال أمره علىٰ أبيه يعقوب (علیه السلام)مع قرب المسافة بينه وبين أبيه وأهله و شیعته.

وأمَّا شبهه من موسىٰ (علیه السلام)، فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته، وتعب شيعته من بعده ممَّا لقوا من الأذىٰ والهوان إلىٰ أن أذن الله عزوجل في ظهوره ونصره و أيَّده علىٰ عدوه.

وأمَّا شبهه من عيسىٰ (علیه السلام)، فاختلاف من اختلف فيه حتَّىٰ قالت طائفة منهم: ما وُلِدَ، وقالت طائفة: مات، وقالت طائفة: قُتِلَ وصُلِبَ.

وأمَّا شبهه من جده المصطفىٰ (صلی الله علیه و اله)، فخروجه بالسيف، وقتله أعداء الله وأعداء رسوله (صلی الله علیه و اله)، والجبّارينوالطواغيت، وأنَّه يُنصَر بالسيف والرعب، وأنَّه لا ترد له راية.

وإنَّ من علامات خروجه: خروج السفياني من الشام، وخروج اليماني من اليمن، وصيحة من السماء في شهر رمضان، ومنادٍ ينادي من السماء باسمه و اسم أبيه»(1).

ص: 78


1- کمال الدين: 327 و 328/ باب 32/ ح 7

شبهه بنبيّ الله موسى (علیه السلام)في خفاء مولده وغيبته:

عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سمعته يقول:

«في القائم (علیه السلام)سُنَّة من موسىٰ بن عمران (علیه السلام)».

فقلت: وما سُنَّته من موسىٰ بن عمران؟ قال: «خفاء مولده، وغيبته عن قومه». فقلت: وكم غاب موسىٰ عن أهله وقومه؟ فقال: «ثاني وعشرين سنة»(1).

وهذه الروايات الشريفة مضمونها يوجب أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)له سُنَّة کسُّنَّة نبي الله موسىٰ وهي الغيبة، فلا بدَّ من القول بمقتضىٰ هذه الأدلَّة وهذا التشابه أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)حيٌّ ولكنَّه غائب كغيبة موسىٰ عن قومه.

وللتوضيح نقول:

إنَّ غيبة الإمام المهدي (علیه السلام)مسبوقة بمثلها عند الأولياء السابقين، فالروايات الشريفة تدلُّ علىٰ عدَّة أُمور حصلت مع النبي موسیٰ (علیه السلام)كالخوف والغيبة وخفاء الولادة، فالرواية الأُولىٰ: «وأمَّا من موسىٰ فالخوف والغيبة»، والرواية الثانية: «وأمَّا شبهه من موسىٰ (علیه السلام)فدوام خوفه، وطول غيبته، وخفاء ولادته)، والرواية الثالثة: (خفاء مولده، وغيبته عن قومه)، وهو مع هذا كلّه كان حيّاً حاضراً؛ ولكنَّه غائب عمَّن في موطنه، وكذلك الإمام المهدي (علیه السلام)هو حيٌّ حاضر؛ ولكنَّه غائب عنّا لا نعرفه إذا رأيناه.

فكما أنَّ ظروف موسىٰ (علیه السلام)اقتضت أن يكون غائباً عن الأنظار

ص: 79


1- کمال الدين: 152/ باب 6/ ح 14

ولا يعرفه كثير من الناس أو كلُّ الناس إلَّا الخواصّ منهم، فكذلك الإمام صاحب العصر والزمان (علیه السلام)، وهذا هو مقتضىٰ المشابهة الواردة في الأخبار المتقدمة.

وأمَّا الشبه بخفاء الولادة؛ فلأنَّ فرعون (لعنه الله) كان له علم مسبق من الكهنة والسحرة بأنَّ زوال ملكه ونهاية سلطانه سوف يكون علىٰ يد رجل من بني إسرائيل وهو النبيُّ موسىٰ (علیه السلام)، فأراد إطفاء نور الله في أرضه بقتل الأولاد والناشئين من الذكور، وبقر بطون الحبالىٰ، حتَّىٰ لا يخرج المولود الذي سيُنهي ملکه، كما أشار القرآن الكريم حيث أكَّد علىٰ قضيَّة الاستتار وإخفاء الولادة خوفاً من السلطة الحاكمة.

ومنه يُعلَم وجه التشابه بين مولد نبي الله موسىٰ (علیه السلام)ومولدصاحب الزمان (علیه السلام)، فإنَّ الدولة العبّاسية شابهت سلطة فرعون في إرادة إهلاك من ذُکِرَ أنَّه سیُنهي ويزيل دولتهم حيث علموا من النبي (صلی الله علیه و اله)أنَّ الإمام الثاني عشر هو القائم والخاتم الذي يقوم بالسيف، وأنَّ حكومات الجور ستزول علىٰ يده، ففرضوا الجواسيس والعيون، واقتحموا البيوت للبحث عن ذلك المولود حفاظاً علىٰ الملك الدنيوي الزائل والملذّات الحقيرة الفانية.

ولمزيد التوضيح:

إنَّ الله سبحانه وتعالىٰ قدَّر لنبي الله موسىٰ (علیه السلام)أن يعيش في بيت عدوه من خلال أمر أُمه أن تلقيه في النهر، فأخذه عدوٌّ الله وعدوٌّ له، قال تعالىٰ: «وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8)» (القصص: 7 و 8).

ص: 80

ولمَّا شبَّ وجریٰ ما جرىٰ من قتل النفس الذي حكاه القرآن فقال سبحانه وتعالىٰ: «وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15)» (القصص: 15)، اقتضىٰ أن يغيب عن الأنظار، قال تعالىٰ: «وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21)» (القصص: 20 و 21).

فهذه الظروف اقتضت خفاء مولد نبي الله موسىٰ (علیه السلام)وغيبته، وأيضاً الظروف التي أحاطت بالإمام المهدي(علیه السلام) اضطرَّت لاستتاره بالولادة، واضطرَّته (علیه السلام)للغيبة عن الأنظار.

شبهه بالخضر في غيبته:

روىٰ الشيخ الصدوق قدس سره عن الحسن بن علي بن فضّال، قال: سمعت أبا الحسن عليَّ بن موسىٰ الرضا (علیهما السلام)يقول: «إنَّ الخضر (علیه السلام)شرب من ماء الحياة، فهو حيٌّ لا يموت حتَّىٰ يُنفَخ في الصو، وإنَّه ليأتينا فيُسلم فنسمع صوته ولا نرىٰ شخصه، وإنَّه ليحضر حيث ما ذُکِرَ، فمن ذكره منكم فليُسلم عليه، وإنَّه ليحضر الموسم كلّ سنة فيقضي جميع المناسك، ويقف بعرفة فيُؤمن علىٰ دعاء المؤمنين، وسيؤنس الله به وحشة قائمنا في غيبته ويصل به وحدته »(1).

ص: 81


1- کمال الدين: 390 و391/ باب 38/ ح 4

وعن الحسن بن علي بن فضّال، عن الإمام أبي الحسن علی بن موسیٰ الرضا (علیهما السلام): «لمَّا قُبِضَ رسول الله (صلی الله علیه و اله)جاء الخضر (علیه السلام)فوقف علىٰ باب البيت وفيه عليٌّ وفاطمة والحسن والحسين (علیهم السلام)، ورسول الله (صلی الله علیه و اله)قد سُجّي بثوبه، فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمّد، «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [آل عمران: 185]، إنَّ في الله خلفاً من كل هالك، وعزاء من كل مصيبة، ودركاً من كل فائت، فتوکَّلوا عليه، وثقوا به، و أستغفر الله لي ولكم. فقال أمير المؤمنين (علیه السلام): هذا أخي الخضر(علیه السلام) جاء يُعزّيكم بنبیکم(علیه السلام)»(1).

شبهه بيوسف (علیه السلام)في غيبته:

وأمَّا شبهه بيوسف (علیه السلام)فقد عُلِمَ أنَّ نبيَّ الله يوسف (علیه السلام)غاب عن بلده، وإخوته يظنّون أنَّه مات؛ إذ أنَّهم ألقوه في الجب، بينما هو في مصر-، وقد ذهبوا إليه هناك ولم يعرفوه بعد هذه الغيبة الطويلة، قال الله تعالىٰ: «وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58)» (يوسف: 58).

ص: 82


1- کمال الدين : 391/ باب 38/ ح 5

أقسام غيبة الإمام (علیه السلام)

اشارة

بعدما علمنا أنَّه لا ضرر بالاعتقاد بالغيبة، تصل بنا النوبة إلىٰ بيان أقسام غيبة الإمام المهدي (علیه السلام)؛ فإنَّ غيبته تنقسم إلىٰ قسمين: صغریٰ، و کبریٰ.

القسم الأوَّل: الغيبة الصغرى ومباحثها

المبحث الأوَّل: مبدأ الغيبة الصغرى

وقع الكلام بين الأعلام في بداية الغيبة الصغرىٰ، على قولين:

القول الأوّل:

إنَّ بداية الغيبة الصغرىٰ منذ ولادته (علیه السلام). وقد استندوا في ذلك إلىٰ ما ورد في بعض الروايات:

منها: ما عن السيدة الجليلة حكيمة (علیها السلام)، عن أبي محمّد (علیه السلام): «یا عمَّة اذهبي به إلىٰ أُمه ليُسلم عليها وائتني به». فذهبت به فسلَّم عليها ورددته فوضعته في المجلس، ثمّ قال: «يا عمَّة، إذا كان يوم السابع فأتينا».

قالت حكيمة: فلمَّا أصبحت جئت لأُسلم علىٰ أبي محمّد (علیه السلام)، وكشفت الستر لأتفقَّد سيدي (علیه السلام)فلم أرَه، فقلت: جُعلت فداك، ما فعل سيدي؟

ص: 83

فقال: «يا عمَّة استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسیٰ موسیٰ(علیه السلام)»(1).

ومنها: عن يعقوب بن منقوش، قال: دخلت علىٰ أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)وهو جالس علىٰ دكّان في الدار، وعن يمينه بيت عليه ستر مسبل، فقلت له: يا سيدي، من صاحب هذا الأمر؟ فقال: «ارفع الستر»، فرفعته، فخرج إلينا غلام خماسي له عشر أوثمان أو نحو ذلك، واضح الجبين، أبيض الوجه، دُرّي المقلتين، شثن الكفَّين، معطوف الركبتين، في خده الأيمن خال، وفي رأسه ذؤابة، فجلس علىٰ فخذ أبي محمّد(علیه السلام) ، ثمّ قال لي: «هذا صاحبكم»، ثمّ وثب فقال له: «یا بنيَّ، أُدخل إلىٰ الوقت المعلوم»، فدخل البيت وأنا أنظر إليه، ثمّ قال لي: «یا يعقوب، أُنظر من في البيت»، فدخلت فما رأيت أحداً(2).

والظاهر من هذين الخبرين أنَّ غيبته (علیه السلام)كانت منذ ولادته وفي حياة أبيه(علیه السلام) ، والشاهد علىٰ هذا الاستظهار من الحديث الأوَّل: «استودعناه الذي استودعته أُمُّ موسىٰ موسىٰ»، ومن الثاني قوله (علیه السلام): «أُدخل إلىٰ الوقت المعلوم»، وقول الراوي: (فدخلت فما رأيت أحداً)، وهذا لا ينافي إمكان رؤيته في ذلك الوقت لبعض أصحاب الإمام العسكري (علیه السلام)لأجل إثبات وجوده وولادته وإمامته (علیه السلام).

فبناءً علىٰ هذا الرأي تكون بداية الغيبة الصغرىٰ من سنة(255ه)، وتكون مدَّتها (74) سنة.

ولعلَّك تسأل: إذا كانت ولادة الإمام المهدي (علیه السلام)في سنة (255ه)، ووفاة الإمام العسكري (علیه السلام)في سنة (260 ه)، فهذا

ص: 84


1- کمال الدين: 415/ باب 42/ ح 1
2- کمال الدين: 407 باب 38/ ح 2

يفترض أنَّ عمر الإمام عند وفاة أبيه كان خمس سنوات، فكيف نُفسر ما ورد في هذه الرواية من أنَّه ابن عشر أو ثمان سنوات؟

الجواب: لا منافاة في البين ولا اضطراب، كبرىً وصغرىً.

أمَّا الكبرىٰ، فإنَّ المعلوم لدىٰ كثير من الناس أنَّ بعض الأشخاص توجد في أجسامهم خصائص معيَّنة تؤدّي إلىٰ نموّهم سريعاً، بحيث إذا نظر إليهم شخص أعطاهم سنّاً أكبر من سنّهم.

وأمَّا الصغرىٰ، فلأنَّ بعض الروايات دلَّت علىٰ أنَّ الإمام (علیه السلام)کان یکبر - ينمو - أكثر ممَّا یکبر غيره، فلهذا كان ابن خمس سنوات آنذاك ولكن الناظر إليه يحسبه ابن ثمان، ولهذا قال الراوي نفسه: (فخرج إلينا غلام خماسي، له عشر أو ثمان).

القول الثاني:

إنَّ بداية الغيبة الصغرىٰ منذ شهادة الإمام الحسن العسكري (علیه السلام).

وهو الصحيح الذي عليه جمهور الشيعة الإماميَّة؛ فإنَّ غيبة الإمام لم تبدأ حين ولادته؛ بل بدأت بعد شهادة الإمام العسكري (علیه السلام)، وبناءً عليه فإنَّ الغيبة بدأت من سنة (260ه)، واستمرَّت إلىٰ سنة (329ه)، فيكون مجموع سني الغيبة (69) سنة.

ص: 85

المبحث الثاني: أدوار الإمام (علیه السلام)في عصر الغيبة الصغری
الدور الأوّل: هداية المؤمنين وحفظهم:

الحوادث التي نُقِلَت في بيان حرص الإمام (علیه السلام)علىٰ شيعته وحفظه لهم كثيرة جدّاً، نقتصر منها علىٰ موقفين:

الموقف الأوَّل:

أمره بعدم قبض الحقوق الشرعية، خوفاً علىٰ وكلائه، وحفظاً لهم من الوقوع في أيدي السلطة.

روىٰ الشيخ الكليني قدس سره عن الحسين بن الحسن العلوي، قال: كان رجل من ندماء روزحسني وآخر معه، فقال له: هو ذا يجبي الأموال، وله وكلاء، وسمّوا جميع الوكلاء في النواحي، وأنهي ذلك إلىٰ عبيد الله بن سليمان الوزير، فهمَّ الوزير بالقبض عليهم، فقال السلطان : اُطلبوا أين هذا الرجل، فإنَّ هذا أمر غليظ. فقال عبيد الله بن سليمان : نقبض علىٰ الوكلاء؟ فقال السلطان: لا؛ ولكن دسُوا لهم قوماً لا يُعرَفون بالأموال، فمن قبض منهم شيئاً قُبِضَ عليه.

قال: فخرج بأن يتقدَّم إلىٰ جميع الوكلاء أن لا يأخذوا من أحد شيئاً، وأن يمتنعوا من ذلك ويتجاهلوا الأمر.

فاندسَّ لمحمَّد بن أحمد رجل لا يعرفه، وخلا به، فقال: معي مال ن أُوصله.

ص: 86

فقال له محمّد: غلطت، أنا لا أعرف من هذا شيئاً. فلم يزل يتلطَّفه، ومحمّد يتجاهل عليه. وبثوا الجواسيس، وامتنع الوكلاء كلّهم لما كان تقدَّم إليهم(1).

الموقف الثاني:

خروج النهي عن زيارة مقابر قريش، أي قبري الإمام الكاظم والجواد (علیهم السلام)، وقبر الإمام الحسين (علیه السلام)، حفظاً للمؤمنين من إيذاء السلطة لهم.

روىٰ الشيخ الكليني قدس سره علي بن محمّد، قال: خرج نهي عن زيارة مقابرقریش والحير، فلمَّا كان بعد أشهر دعا الوزير الباقطائي فقال له: الق بني الفرات والبرسيين وقل لهم: لا يزوروا مقابر قريش، فقد أمر الخليفة أن يُتفقَّد كلُّ من زار فيُقبَض عليه» (2).

الدور الثاني: مواجهة الانحراف والتيّارات الضالّة:

وأمَّا دور الإمام المهدي(علیه السلام) في مواجهة الانحرافات العقائدية والتيّارات الضالّة في زمانه فكثيرة، فواجه التيّار الذي ادَّعىٰ الوكالة والنيابة والذي يتمثَّل بالشلمغاني(3)، وواجه التيّار الذي ادَّعىٰ الإمامة

ص: 87


1- الكافي 1: 525/ باب مولد الصاحب (علیه السلام)ح 30
2- الكافي 1: 525/ باب مولد الصاحب (علیه السلام) / ح 31
3- سيأتي ذكر التوقيعات الصادرة في حقه ضمن التوقيعات الرجالية في (ص183) من الكتاب. وإليك ما قاله الشيخ المفيد قدس سره : (أبو جعفر محمّد بن علي بن أبي العزاقر الشلمغاني، المتوفّی۟ سنة (323ه)، كان متقدماً في أصحابنا و مستقيم الطريقة، فحمله الحسد لأبي القاسم الحسين بن روح علىٰ ترك المذهب والدخول في المذاهب الردیَّة، فظهرت منه مقالات منكرة، وخرج في لعنه التوقيع من الناحية، له كتاب الغيبة). راجع: الفصول العشرة: 16 و17/ الرقم 36

بعد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)المتمثل بجعفر الكذّاب ابن الإمام الهادي (علیه السلام).

يقول قطب الدين الراوندي قدس سره: (وإنَّ موسىٰ بن عمران علیٰ نبینا وعليه السلام كان مبتلىً بابن عمه (قارون)، كما أنَّ القائم المهدي (علیه السلام)كان مبتلىً بعمه (جعفر الكذّاب). وإنَّ الله تعالىٰ دفع معرَّته عن المهدي (علیه السلام)، وجعل كلمته العليا، وأخافه من المهدي (علیه السلام) فإنَّه لمَّا توفّي الحسن العسكري(علیه السلام) اجتمع أصحابه للصلاة عليه في داره، فجاء جعفر الكذّاب ليُصلّي عليه، والشيعة حضور، إذا هم بفتىٰ جاء وأخذ بذيله وأبعده من عند أبيه، وصلّىٰ عليه، وائتمَّ الناس به، وبقي جعفر الكذّاب مبهوتاً متحيراً لا يتكلَّم، فلمَّا فرغ من الصلاة علىٰ أبيه خرج من بين القوم وغاب، فلا يُدريٰ من أي وجه خرج)(1).

وهذه المواجهة للانحرافات هي من صميم دور الأئمَّة (علیهم السلام) المتمثل في حفظ الدين، وهداية الناس، والوقوف في وجه أهل الضلال.

الدور الثالث: إثبات أحقّيته وإمامته:

تعرَّضنا في هذا الكتاب(2)، إلىٰ أنَّ للإمام العسكري (علیه السلام)وظائف رئيسية ترتبط بولده صاحب العصر والزمان (علیه السلام):

الوظيفة الأُولىٰ: إثبات وجوده، وإمامته، ووجوب طاعته. الوظيفة الثانية: حفظه وستره. الوظيفة الثالثة: حفظ الشيعة.

ص: 88


1- الخرائج والجرائح 2: 939
2- تحت عنوان (التهيُّؤ لغيبة الإمام المهدي(علیه السلام)) يأتي في (ص 119)

وقد أكَّد الإمام صاحب العصر والزمان(علیه السلام) هذه الوظائف الثلاث عملياً ، فبالنسبة للوظيفة الأُولىٰ أثبت نفسه المباركة بعدَّة طرق

الطريق الأوَّل:

الصلاة علىٰ أبيه (علیه السلام)بمسمع ومرأىٰ من المعزين والمشيعين.

فقد روىٰ الشيخ الصدوق قدس سره في كمال الدين عن أبي الأديان، قال: (... فتقدَّم جعفر بن عليٍّ ليُصلّي علىٰ أخيه، فلمَّا همَّ بالتكبير خرج صبي بوجهه سمرة، بشعره قطط، بأسنانه تفليج، فجبذبرداء جعفر بن عليٍّ وقال: «تأخَّر يا عمّ، فأنا أحقُّ بالصلاة علىٰ أبي»، فتأخَّر جعفر، وقد أربد وجهه واصفرَّ)(1).

ويمكن بيان وجه إثبات هذا الموقف لإمامته (علیه السلام)من خلال أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ نفس إقدامه علىٰ الصلاة علىٰ أبيه دليل علىٰ إمامته؛ لأنَّ الإمام لا يلي أمره إلَّا إمام.

الأمر الثاني: مقارنة صلاته لبعض العلامات الغيبية، كالصعقة التي أُصيب بها عمُّه جعفر لمَّا رآه فأربد وجهه واصفرَّ دون أن ينطق بكلمة واحدة، وهيمنته علىٰ الحاضرين من المشيعين مع وجود الجلاوزة والسلطان.

وما جاء في نفس الرواية المتقدمة ممَّا يشير إلىٰ أنَّ الإمام العسكري (علیه السلام)قد هيَّأ بعض خواصّه لمثل هذا الموقف، وأعطاهم علامات تدلُّ علىٰ إمامة من يُصلّي عليه وهو ولده الحجَّة (علیه السلام)، فقد جاء في رواية الصدوق قدس سره:

وحدَّث أبو الأديان، قال: كنت أخدم الحسن بن علي بن محمّد بن علي بن موسىٰ بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي

ص: 89


1- کمال الدين: 475 و 476/ باب 43/ ذيل الحديث 25

طالب (علیهم السلام)، وأحمل كتبه إلىٰ الأمصار، فدخلت عليه في علَّته التي توفّي فيها صلوات الله عليه، فكتب معي كتباً، وقال: «امض بها إلىٰ المدائن، فإنَّك ستغيب خمسة عشر يوماً، وتدخل إلىٰ سُرَّ من رأىٰ يوم الخامس عشر، وتسمع الواعية في داري، وتجدني علىٰ المغتسل».

قال أبو الأديان: فقلت: يا سيدي، فإذا كان ذلك فمن؟ قال: «من طالبك بجوابات كتبي، فهو القائم من بعدي» . فقلت: زدني. فقال: «من يُصلّي عليَّ، فهو القائم بعدي» . فقلت: زدني. فقال: «من أخبر بها في الهميان، فهو القائم بعدي» . ثمّ منعتني هيبته أن أسأله عمَّا في الهميان.وخرجت بالكتب إلىٰ المدائن وأخذت جواباتها، ودخلت سُرَّ من رأىٰ يوم الخامس عشر کما ذکر لي (علیه السلام)، فإذا أنا بالواعية في داره، وإذا به علىٰ المغتسل، وإذا أنا بجعفر بن عليٍّ أخيه بباب الدار والشيعة من

حوله يُعزّونه ويُهنّونه، فقلت في نفسي: إن يكن هذا الإمام فقد بطلت الإمامة؛ لأنّي كنت أعرفه يشرب النبيذ، ويقامر في الجوسق، ويلعب بالطنبور...

إلىٰ أن يقول: فتقدَّم الصبي، وصلّىٰ عليه، ودُفِنَ إلىٰ جانب قبر أبيه ، ثمّ قال: «يا بصري، هاتِ جوابات الكتب التي معك».

فدفعتها إليه، فقلت في نفسي: هذه بینتان بقي الهميان، ثمّ خرجت إلىٰ جعفر بن عليٍّ وهو يزفر، فقال له حاجز الوشّاء: يا سيدي، من الصبي؟ لنقيم الحجَّة عليه.

ص: 90

فقال: والله ما رأيته قطّ، ولا أعرفه.

فنحن جلوس إذ قدم نفر من قم، فسألوا عن الحسن بن عليٍّ، فعرفوا موته، فقالوا: فمن (نُعزّي)؟

فأشار الناس إلىٰ جعفر بن عليٍّ، فسلَّموا عليه وعزّوه وهنّوه، وقالوا: إنَّ معنا كتباً ومالاً، فتقول ممن الكتب؟ وكم المال؟

فقام ينفض أثوابه ويقول: تريدون منّا أن نعلم الغيب.

قال: فخرج الخادم فقال: معكم كتب فلان وفلان (وفلان)،

وهميان فيه ألف دينار، وعشرة دنانير منها مطلية، فدفعوا إليه الكتب والمال، وقالوا: الذي وجَّه بك لأخذ ذلك هو الإمام(1).

وتجدر الإشارة هنا أنَّ الرواية لم تُبين من الذي تولّىٰ غسل الإمام العسكري(علیه السلام) ؛ بل غاية ما فيها أنَّهم جاؤوا للصلاة عليه (علیه السلام)ووجدوه مغسَّلاً مكفَّناً، ولكنَّنا لا نحتاج إلىٰ دليل خاصّ يشير إلىٰ حيثية تولي الغُسل، فقد ثبت عندنا بأدلَّة أُخرىٰ أنَّ الإمام لا يلي غُسله إلَّا إمام مثله(2).

الطريق الثاني:

لقاؤه بجماعة من الثقاة، والذين أوصلهم الشيخ الصدوق قدس سره في کمال الدين إلىٰ ثمانية وستّين شخصاً، وأضاف إليهم المحدث النوري آخرين، فأوصلهم في كتابه (النجم الثاقب) إلىٰ ثلاثمائة وأربعة أشخاص.

ومن جملة لقاءاته لقاؤه بعيسىٰ الجوهري في سنة (268ه)، قال العلَّامة المجلسي قدس سره:

ص: 91


1- المصدر السابق
2- عقد الشيخ الكليني باباً كاملاً في الجزء الأوَّل من الكافي الشريف سمّاه: (باب أنَّ الإمام لا يُغسله إلَّا إمام من الأئمَّة(علیهم السلام))

(وروي في بعض تألیفات أصحابنا عن الحسين بن حمدان، عن أبي محمّد عيسىٰ بن مهدي الجوهري، قال: خرجت في سنة ثمان وستّين ومائتين إلىٰ الحج، وكان قصدي المدينة، حيث صحَّ عندنا أنَّ صاحب الزمان قد ظهر، فاعتللت، وقد خرجنا من فيد، فتعلَّقت نفسي بشهوة السمك والتمر، فلمَّا وردت المدينة ولقيت بها إخواننا بشَّروني بظهوره (علیه السلام)بصابر.

فصرت إلىٰ صابر، فلمَّا أشرفت علىٰ الوادي رأيت عنيزات عجافاً، فدخلت القصر، فوقفت أرقب الأمر إلىٰ أن صلَّيت العشائين، وأنا أدعو وأتضرَّع وأسأل، فإذا أنا ببدر الخادم يصيح بي: يا عیسیٰ بن مهدي الجوهري اُدخل، فكبَّرت وهلَّلت وأكثرت من حمد الله عزوجل والثناء عليه.

فلمَّا صرت في صحن القصر رأيت مائدة منصوبة، فمرَّ بي الخادم إليها فأجلسني عليها وقال لي: مولاك يأمرك أن تأكل ما اشتهيت في علَّتك وأنت خارج من فيد.

فقلت: حسبي بهذا برهاناً، فكيف آكل ولم أرَ سيدي ومولاي؟ فصاح: یا عیسیٰ، کُل۟ من طعامك فإنَّك تراني.

فجلست على المائدة، فنظرت فإذا عليها سمك حار يفور، وتمر إلىٰ جانبه أشبه التمور بتمورنا، وبجانب التمر لبن، فقلت في نفسي: عليل وسمك وتمر ولبن، فصاح بي: يا عيسىٰ، أتشكُّ في أمرنا؟ أفأنت أعلم بما ينفعك ويضرّك؟

فبكيت واستغفرت الله تعالىٰ، وأكلت من الجميع، وكلَّما رفعت يدي منه لم يتبيَّن موضعها فيه، فوجدته أطيب ما ذقته في الدنيا، فأكلت

ص: 92

منه كثيراً حتَّىٰ استحييت، فصاح بي: لا تستحي يا عيسىٰ؛ فإنَّه من طعام الجنَّة، لم تصنعه يد مخلوق، فأكلت، فرأيت نفسي لا ينتهي عنه من أكله.

فقلت : يا مولاي حسبي. فصاح بي: أقبل إليَّ. فقلت في نفسي: آتي مولاي ولم أغسل يدي. فصاح بي: يا عيسىٰ، وهل لما أكلت غمر؟

فشممت يدي وإذا هي أعطر من المسك والكافور، فدنوت منه (علیه السلام)، فبدا لي نور غشي بصري، ورهبت حتَّىٰ ظننت أنَّ عقلي قد اختلط، فقال لي: يا عيسىٰ، ما كان لك أن تراني لولا المكذبون القائلون بأين هو؟ ومتىٰ كان؟ وأين وُلِدَ؟ ومن رآه ؟ وما الذي خرج إليكم منه؟ وبأي شيء نبَّأكم؟ وأيُّ معجز أتاكم؟ أمَا والله لقد دفعوا أمير المؤمنين مع ما رووه وقدَّموا عليه، وكادوه وقتلوه، وكذلك آبائي (علیهم السلام)ولم يُصدقوهم ونسبوهم إلىٰ السحر وخدمة الجن إلىٰ ما تبيَّن.

یا عیسیٰ، فخبر أولياءنا ما رأيت، وإيّاك أن تُخبِر عدوَّنا فتسلبه. فقلت: يا مولاي، اُدع لي بالثبات. فقال: لو لم يُثبتك الله ما رأيتني، وامض بنجحك راشداً. فخرجت أُكثر حمداً لله وشكراً)(1). ولعلَّك تسأل: هل اللقاء به (علیه السلام)میسور لكل أحد؟ والجواب: لا بدَّ من إيضاح أمرين:

الأمر الأوَّل: أنَّ الذي يريد الالتقاء بالإمام (علیه السلام)لابدَّ وأن یکون علىٰ درجة عالية من الوثاقة والإيمان، وأمَّا الذي امتلأ ذنوباً فلا شكَّ أنَّ

ص: 93


1- بحار الأنوار 68:52 – 70/ ح 54

ذنوبه تكون حاجباً عن رؤية الإمام (علیه السلام). ومن هنا نعلم خطأ ما يتداوله البعض من أنَّك لو قمت بعمل من الأعمال فإنَّك ستتشرَّف بلقاء الإمام (علیه السلام)، فإنَّ لقاء الإمام (علیه السلام)ليس شرعة لكل وارد.

ولأُستاذنا المرجع الديني الكبير الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف) كلمة قيمة في هذا الشأن حيث يقول: (إنَّ الإنسان الذي يريد أن تسطع عليه أشعَّة الشمس لا بدَّ وأن يبرز لها ويكون خارج الدار، وأمَّا الذي يجلس داخل الدار محاطاً بجدرانها فإنَّ أشعَّة الشمس لا تصل إليه، هكذا الحال في ألطاف الإمام صاحب العصر والزمان فضلاً عن لقائه، فهو شمس هذه الأرض التي تشرق أنوارهاعلىٰ القلوب، فمن أراد أن تشرق عليه أشعَّة شمس الإمام(علیه السلام) فلا بدَّ وأن يغادر جدران الحجب والذنوب حتَّىٰ تشرق علیه شمس الإمام(علیه السلام)).

الأمر الثاني: لا بدَّ من التفريق بين أمرين: أحدهما لقاء الإمام، والآخر القرب منه. أمَّا الأوَّل فهو محكوم بالمصالح الغيبية التي يعرفها الإمام (علیه السلام). وأمَّا الثاني فيُحدده المؤمن بعمله الصالح وبعده عن المعاصي.

وملخَّص الوظيفة التي ينبغي للمؤمن أن يقوم بها ليكون قريباً من إمامه هو امتثاله للأوامر والنواهي الإلهيَّة.

ولك أن تقول: طبق أيّها المؤمن ما في الرسالة العملية للفقيه الجامع الذي تُقلده، فإذا استطاع المؤمن في جميع شؤونه أن ينقاد لمرجع التقليد الذي قلَّده، فهذا يعني أنَّه انقاد إلىٰ الشريعة الدينية، وهذا هو عين القرب من الإمام (علیه السلام).

الطريق الثالث: التوقيعات:

وتُعَدَّ التوقعيات الصادرة من إنجازات الإمام المهدي (علیه السلام)،

ص: 94

وسيأتي الكلام في التوقعات وأقسامها، فكانت شاملة لجوانب عديدة علىٰ حسب نوعية السؤال الذي وُجه له (علیه السلام)، فنجد أنَّ الإمام (علیه السلام)تعرَّض للمسائل العقائدية والفقهية وغيرهما من قبيل بيان حال بعض الأشخاص من ناحية وثاقتهم أو انحرافهم.

ومن مميزات التوقيعات الصادرة أنَّها تُثبِت وجود الإمام المهدي (علیه السلام)وإمامته؛ إذ إنَّ هذه التوقيعات التي تصدر من السفراء تكون بخط الإمام المهدي(علیه السلام) ، ووجه إثبات خطه لوجوده المبارك الميمون هو أنَّ خطَّ الإمام (علیه السلام)هو نفس الخطُّ الذي كان معروفاً في زمن أبيه الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، فلمَّا تصل تلك التوقيعات إلىٰ السفراء وغيرهم يجدون أنَّها مطابقة للخط الذي كان يصدر في حياة أبيه الإمام الحسن العكسري (علیه السلام)، وبذلك يزيد اطمئنان شیعته بوجوده المقدَّس، وبصدور هذه التوقيعات الشريفة منه.

وممَّا يدلُّ عليه كلمة شيخ الطائفة قدس سره في كتابه الغيبة: (وكانت توقیعات صاحب الأمر (علیه السلام)تخرج علىٰ يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان إلىٰ شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد(علیه السلام) ، بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلىٰ السؤال فيه، بالخط الذي كان يخرج في حياة الحسن(علیه السلام))(1).

وهذه التوقعيات الشريفة مع كونها كاشفة عن وجود الإمام المهدي (علیه السلام)، فهي أيضاً تُبین للشيعة ما احتاجوه من مسائل وقضايا، وتوجد شواهد كثيرة علىٰ إنجازات الإمام المهدي (علیه السلام)من خلال التوقيعات التي كشف بها المعضلات للشيعة، وبيَّن لهم ما احتاجوه وما سيحتاجونه في تالي الأزمان، وسيأتي ذكر ذلك.

ص: 95


1- الغيبة للطوسي: 356
الدور الرابع: قضاؤه لحوائج المؤمنين:

وممَّا لا شكَّ فيه للمطَّلع علىٰ الأخبار أنَّ قضاء حوائج المؤمنين هو في نفسه مبدأ إيماني وإسلامي مرغوب فيه(1)، لذلك لا يستغرب أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)يقوم بهذه الخدمات بنفسه، ويقضي حوائج الناس والمحتاجين، فهي من أعظم العبادات والقربات، ولكن بما أنَّه يعيش في غيبة عن الناس ولا يتَّصل بهم، فيكون ذلك عبر طرق، وقد تقتضي المصلحة أحياناً کون قضاء الحوائج بنفس اللقاء ونفس المواجهة.

ولك بعض النماذج التي ذكرها الأعلام المتقدمون من آیات ومعجزات وإنجازات الإمام المهدي(علیه السلام) في عصر الغيبة الصغرىٰ:

ما نقله الشيخ المفيد قدس سره:

الحادثة الأُولىٰ: القاسم بن العلاء، قال: وُلِدَ لي عدَّة بنين، فكنت أكتب وأسأل الدعاء لهم، فلا يُكتَب إليَّ بشيء من أمرهم، فماتوا كلُّهم، فلمَّا ولدلي الحسين - ابني - كتبت أسأل الدعاء له، فأُجبت، فبقي والحمد لله(2).

ص: 96


1- ودفعاً لما يتوهَّمه بعضهم من تسخیف قضاء الإمام المهدي (علیه السلام)لحوائج المؤمنين، بقوله: إنَّ قضاء الحوائج لا فائدة منه، وليس أمراً عظيماً حتَّىٰ يتفرَّغ له الإمام (علیه السلام)ويقضي حاجة فلان وفلان، نذكر شيئاً من أحاديثهم الشريفة العطرة الحاثَّة علىٰ عظم السعي في قضاء حوائج المؤمنين: الحديث الأوَّل: عن أبي عبد الله (علیه السلام)قال: «قضاء حاجة المؤمن خير من عتق ألف رقبة وخير من حملان ألف فرس في سبيل الله». الحديث الثاني: عن أبي عبد الله (علیه السلام): «لقضاء حاجة امرء مؤمن أحبُّ إلىٰ [ الله ] من عشرين حجَّة كلُّ حجَّة ينفق فيها صاحبها مائة ألف». ومن أراد الرجوع إلىٰ الروايات في هذا الشأن فليراجع الكافي الشريف 2: 192 - 196/ باب قضاء حاجة المؤمن
2- الإرشاد 356:2 و 357

الحادثة الثانية: عليُّ بن محمّد، عن أبي عبد الله بن صالح، قال: خرجت سنة من السنين إلىٰ بغداد، واستأذنت في الخروج فلم يُؤذَن لي، فأقمت اثنين وعشرين يوماً بعد خروج القافلة إلىٰ النهروان، ثمّ أُذِنَ لي بالخروج يوم الأربعاء، وقيل لي «اُخرج فيه»، فخرجت وأنا آیس من القافلة أن ألحقها، فوافيت النهروان والقافلة مقيمة، فما كان إلَّا أن علفت جملي حتَّىٰ رحلت القافلة فرحلت، وقد دعي لي بالسلامة فلم ألقَ سوءاً، والحمد لله(1).

الحادثة الثالثة: عليُّ بن محمّد، عن نصر بن صباح البلخي، عن محمّد بن يوسف الشاشي، قال: خرج بي ناسور(2)، فأريته الأطباء، وأنفقت عليه مالاً عظيماً فلم يصنع الدواء فيه شيئاً، فكتبت رقعة أسأل الدعاء، فوقَّع إلىَّ: «ألبسك الله العافية، وجعلك معنا في الدنيا والآخرة»، فما أتت عليَّ جمعة حتَّىٰ عوفيت، وصار الموضع مثل راحتي، فدعوت طبيباً من أصحابنا وأريته إيّاه، فقال: ما عرفنا لهذا دواء، وما جاءتك العافية إلَّا من قبل الله بغير احتساب (3).

الحادثة الرابعة: عليُّ بن محمّد، عن علی بن الحسين اليماني، قال: كنت ببغداد فتهيَّأت قافلة لليمانيين، فأردت الخروج معهم، فكتبت ألتمس الإذن في ذلك، فخرج: «لا تخرج معهم، فليس لك في الخروج معهم خيرة، وأقم بالكوفة»، قال: فأقمت، وخرجت القافلة، فخرجت عليهم بنو حنظلة فاجتاحتهم. قال: وكتبت أستأذن في ركوب الماء فلم

ص: 97


1- الإرشاد 2: 357
2- الناسور: عرق لا ينقطع ضرره، حوالي المقعدة. (اُنظر: القاموس المحيط 2: 141/ مادَّة نسر)
3- الإرشاد 2: 357 و 358

يُؤذَن لي، فسألت عن المراكب التي خرجت تلك السنة في البحر، فعرفت أنَّه لم يسلم منها مرکب، خرج عليها قوم يقال لهم: البوارج فقطعوا عليها(1).

وقال بعد الإنتهاء من ذكر الدلائل والآيات التي صدرت من الإمام الحجَّة : (والأحاديث في هذا المعنىٰ كثيرة، وهي موجودة (علیه السلام)في الكتب المصنَّفة المذكورة فيها أخبار القائم (علیه السلام)، وإن ذهبت إلىٰ إيراد جميعها طال بذلك هذا الكتاب، وفيما أثبتُّه منها مقنع، والمنَّة لله)(2).

ما نقله الشيخ الطوسي قدس سره :

الحادثة الأُولىٰ: أخبرني جماعة، عن أبي عبد الله الحسين بن علي بن الحسين بن موسیٰ بن بابویه، قال: حدَّثني جماعة من أهل بلدنا المقيمين كانوا ببغداد في السنة التي خرجت القرامطة علىٰ الحاج، وهي سنة تنأثر الكواكب أنَّ والدي رضی الله عنه كتب إلىٰ الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه يستأذن في الخروج إلىٰ الحج. فخرج في الجواب: «لا تخرج في هذه السنة»، فأعاد فقال: هو نذر واجب، أفيجوز لي القعود عنه؟ فخرج الجواب: «إن كان لا بدَّ فكن في القافلة الأخيرة»، فكان في القافلة الأخيرة، فسلم بنفسه، وقُتِلَ من تقدَّمه في القوافل الأُخر(3).

الحادثة الثانية: أخبرني جماعة، عن أبي غالب أحمد بن محمّد الزراري، قال: جرىٰ بيني وبين والدة أبي العبّاس - يعني ابنه - من الخصومة والشر أمر عظيم ما لا يكاد أن يتَّفق، وتتابع ذلك وكثر إلىٰ أن

ص: 98


1- الإرشاد 358:2
2- الإرشاد 2: 367
3- الغيبة للطوسي: 322/ ح 270

ضجرت به، وكتبت علىٰ يد أبي جعفر أسأل الدعاء، فأبطأ عنّي الجواب مدَّة، ثمّ لقيني أبو جعفر فقال: قد ورد جواب مسألتك، فجئته فأخرج إلىَّ مدرجاً فلم يزل يدرجه إلىٰ أن أراني فصلاً منه، فيه: «وأمَّا الزوج والزوجة فأصلح الله بينهما»، فلم تزل علىٰ حال الاستقامة ولم يجر بيننا بعد ذلك شيء ممَّا كان يجري، وقد كنت أتعمَّد ما يُسخِطها فلا يجري [فيه] منها شيء، هذا معنىٰ لفظ أبي غالب رضی الله عنه أو قريب منه(1).

ما نقله الشيخ الصدوق قدس سره :

عن محمّد بن محمّد الأشعري، عن أبي سعيد غانم بن سعيد الهندي، قال: كنتعند ملك الهند في قشمير الداخلة، ونحن أربعون رجلاً نقعد حول كرسي الملك، وقد قرأنا التوراة والإنجيل والزبور، يفزع إلينا في العلم، فتذاكرنا يوماً محمّداً (صلی الله علیه و اله)وقلنا: نجده في كتبنا، فاتَّفقنا على أن أخرج في طلبه وأبحث عنه، فخرجت ومعي مال، فقطع عليَّ الترك وشلحوني، فوقعت إلىٰ كابل، وخرجت من کابل إلىٰ بلخ والأمير بها ابن أبي شور، فأتيته وعرَّفته ما خرجت له، فجمع الفقهاء والعلماء لمناظرتي، فسألتهم عن محمّد(صلی الله علیه و اله) ، فقال: هو نبيّنا محمّد(صلی الله علیه و اله) بن عبد الله ، وقد مات.

فقلت: ومن كان خليفته؟ فقالوا: أبو بكر. فقلت: انسبوه لي، فنسبوه إلىٰ قريش.

فقلت: ليس هذا بنبيٍّ، إنَّ النبيَّ الذي نجده في كتبنا خليفته ابن عمه وزوج ابنته وأبو ولده.

ص: 99


1- الغيبة للطوسي: 323 و 324/ ح 272

فقالوا للأمير: إنَّ هذا قد خرج من الشرك إلىٰ الكفر، فمُر۟ بضرب عنقه. فقلت لهم: أنا متمسك بدين ولا أدعه إلَّا ببيان. فدعا الأمير الحسين بن إسكيب، وقال له: يا حسين، ناظر الرجل. فقال: العلماء والفقهاء حولك، فمُر۟ هم بمناظرته. فقال له: ناظره کما أقول لك، واخلُ به، وألطف له. فقال: فخلا بي الحسين، وسألته عن محمّد(صلی الله علیه و اله) .

فقال: هو كما قالوه لك، غير أنَّ خليفته ابن عمه عليُّ بن أبي طالب، وهو زوج ابنته فاطمة، وأبو ولده الحسن والحسين.

فقلت: أشهد أن لا إله إلَّا الله، و أنَّه رسول الله. وصرت إلیٰ الأمیر فأسلمت، فمضىٰ بي إلىٰ الحسين، ففقَّهني.

فقلت له: إنّا نجد في كتبنا أنَّه لا يمضي خليفة إلَّا عن خليفة، فمن كان خليفة عليٍّ (علیه السلام)؟

قال: الحسن، ثمّ الحسين. ثمّ سمّىٰ الأئمَّة واحداً واحداً حتَّىٰ بلغ الحسن بن عليٍّ، ثمّ قال لي: تحتاج أن تطلب خليفة الحسن وتسأل عنه.

فخرجت في الطلب.

قال محمّد بن محمّد: ووافیٰ معنا بغداد، فذكر لنا أنَّه كان معه رفيق قد صحبه علىٰ هذا الأمر، فكره بعض أخلاقه، ففارقه.

قال: فبينما أنا يوماً وقد تمسَّحت في الصراة وأنا مفکر فيها خرجت له إذأتاني آتٍ وقال لي: أجب مولاك، فلم يزل يخترق بي المحال حتَّى أدخلني داراً و بستاناً، وإذا بمولاي(علیه السلام) قاعد، فلمَّا نظر إلىَّ كلَّمني بالهندية، وسلَّم عليَّ، وأخبرني عن اسمي، وسألني عن الأربعين رجلاً بأسمائهم عن اسم رجل رجل ، ثمّ قال لي: «تريد الحجَّ مع أهل قم في

ص: 100

هذه السنة ؟ فلا تحجُّ في هذه السنة وانصرف إلىٰ خراسان وحُجْ من قابل » .

قال : ورمىٰ إلىَّ بصرَّة وقال : « اجعل هذه في نفقتك ، ولا تدخل في بغداد إلىٰ دار أحد ، ولا تُخبِر بشيء ممَّا رأيت » .

قال محمّد : فانصرفنا من العقبة ولم يقض لنا الحجّ ، وخرج غانم إلىٰ خراسان وانصرف من قابل حاجّاً ، فبعث إلينا بألطاف ولم يدخل قم ، وحجَّ وانصرف إلىٰ خراسان ، فمات رحمة الله بها (1) .

ومن عظيم عبارات السيِّد مهدي بحر العلوم رحمة الله في وصف الشيخ الصدوق قدس سره وذكر صدور دعاء الحجَّة(علیه السلام)له :

( أبو جعفر شيخ مشايخ الشيعة ، وركن من أركان الشريعة ، رئیس المحدِّثين ، والصدوق فيما يرويه عن الأئمَّة الصادقين (علیهم السلام). وُلِدَ بدعاء صاحب الأمر والعصر (علیه السلام)، ونال بذلك عظيم الفضل والفخر ، ووصفه الإمام (علیه السلام)في التوقيع الخارج من الناحية المقدَّسة بأنَّه : فقيه خير مبارك ينفع الله به . فعمَّت بركته الأنام ، وانتفع به الخاصُّ والعامُّ ، وبقيت آثاره ومصنَّفاته مدىٰ الأيّام ، وعمَّ الانتفاع بفقهه وحديثه فقهاء الأصحاب ، ومن لا يحضره الفقيه من العوامِّ .

ذكره علماء الفنِّ وقالوا : شیخنا وفقيهنا ووجه الطائفة بخراسان . جلیل القدر بصير بالفقه والرجال ، ناقد للأخبار ، حفظه ، لم يُرَ في القمّيين مثله في حفظه ووسعة علمه وكثرة تصانیفه ) (2) .

ونحن في هذا الزمان أيضاً نتوسَّل بصاحب العصر والزمان (علیه السلام)،

ص: 101


1- کمال الدين : 437 - 439 / باب 43 / ح 6
2- الفوائد الرجالية 3 : 292 - 296

ونطلب منه قضاء حوائجنا ، وهو يُلبّي ذلك ؛ ولكن الذي ينبغي أن نُلفِت الأذهان إليه هو أنَّ الجدير بالمؤمن أن لا يقتصر في طلب الحاجة من الإمام (علیه السلام)علىٰ الحاجات الدنيوية ، فطلبها وإن كان شيئاً جيِّداً إلَّا أنَّ همَّ المؤمن ينبغي أن يكون أعلىٰ من ذلك ، فيجدر بالمؤمن أن يطلب من الإمام(علیه السلام) الحاجات الدينية التي تنفعه في دينه وآخرته .

ص: 102

المبحث الثالث السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرى

وحتَّىٰ يتَّضح دور السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرىٰ لا

بدَّ من بيان ذلك من خلال أُمور :

الأمر الأوّل : الفرق بين السفارة والوكالة :

قبل الشروع في دور السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرىٰ ، نُبيِّن الفرقبين السفير والوكيل في خصوص هذه الغيبة ، فإنَّ من

الملاحظ أنَّ السفير يختلف عن الوكيل .

ویمکن بیان جهة الاختلاف بينهما في جهتين :

الجهة الأُولىٰ : مباشرة التلّقي من الإمام المهدي (علیه السلام):

فالسفير يتلقّىٰ الأوامر من الإمام المهدي (علیه السلام)من خلال الاتِّصال المباشر به بأيِّ نحو كان ذلك الاتِّصال ، بينما الوكيل قد لا يلتقي ؛ بل لا يتَّصل مباشرةً بالإمام المهدي(علیه السلام) ، وإنَّما قد تكون مهمَّته الأخذ من السفير الذي هو بنفسه يتلقّىٰ الأوامر والتوجيهات بنحو المباشرة .

الجهة الثانية : المهامّ والوظائف المطلوبة :

ومن الواضح أنَّ مهامّ ووظائف كلٍّ منهما تختلف عن الآخر ، فالسفير مهمَّته أشمل وأعمّ من الوكيل ، إذ يشترط أن تكون مهمَّة السفير مهمَّة المرجعية

ص: 103

العامَّة ، في حين أنَّنا لا نرىٰ هذا الشرط للوكيل ؛ بل قد نجد للوكيل وظائف معيَّنة خاصَّة يقوم بها ، أو يكون لبلد أو في بلد خاصٍّ . وأيضاً لوحظ ممَّا سبق أنَّ السفير ليست مرجعيته لعامَّة الناس فقط ؛ بل حتَّىٰ للوكيل نفسه ، فإذا احتاج الوكيل أمراً ما قصد سفير الإمام (علیه السلام).

فنتيجة ذلك : أنَّ السفير هو النائب الخاصّ للإمام (علیه السلام)، الذي يتلقّىٰ مباشرةً منه ، ويكون مرجعاً للأُمَّة في ظلِّ غياب إمامهم ، ولا يُشتَرط ذلك في الوكيل . وكلُّ سفیر وکیل ، وليس كلُّ وكيل سفيراً . وللوكلاء مجالاتهم الخاصَّة ، فقد يتواجدون في ناحية معيَّنة ، وليسوا العموم الناس ، بخلاف السفير الذي ليس له مجال خاصّ ، ولا لفئة دون فئة ؛ بل يكون مرجعاً عامّاً للناس .

الأمر الثاني : نشأة السفارة والوكالة :

كانت مسألة الوكالة والتوكيل قديمة النشأة ، أي قبل عصر الغيبة ، ومنذ زمن آبائه الطاهرين (علیهم السلام)، فإنَّهم كانوا يُعيِّنون وکلاء في بقاع الأرض ، لقبض الحقوق الشرعية وغيرها من الوظائف الدينية . واستمرَّت الوكالة في زمن الإمام المهدي (علیه السلام)، فالإمام(علیه السلام) كان يوكل إليهم أدواراً متفاوتة سعةً وضيقاً . و أمَّا بالنسبة إلىٰ السفارة فهي مستحدثة في عصر الغيبة الصغرىٰ ، بمعنىٰ أنَّها لم تكن في زمن الأئمَّة السابقين(علیهم السلام) علىٰ الإمام الحجَّة(علیه السلام) ؛ ولكنَّها استحدثت في زمن الغيبة لحاجة الشيعة إليها .

الأمر الثالث : منشأ الحاجة إلى السفراء :

إنَّ المرجع العامّ للشيعة ؛ بل لعموم المسلمين لو تمسَّكوا بالثقلين هم الأئمَّة ؛ وكانت الشيعة الإماميَّة ترجع إليهم حال حضورهم ، وكان بإمكان

ص: 104

الوكلاء وغيرهم الرجوع إليهم ، والاتِّصال بهم متىٰ ما أرادوا وبأيِّ صورة كانت إلَّا في ظروف عصيبة تمنع الإمام (علیه السلام)من اللقاء بعامَّة الشيعة وفتح الباب لهم ، فيقتصر الإمام (علیه السلام)علىٰ اللقاء بالبعض بطريقة ما .

وعلىٰ كلِّ حالٍ فالإمام كان حاضراً ظاهراً ، فلا حاجة لوكيل خاصّ أو نائب عامّ ينوب عنه ، وأمَّا في زمن الغيبة الصغرىٰ فالناس لا يستطعيون اللقاء بالإمام (علیه السلام)لظروف الغيبة ، فلذلك اقتضىٰ غياب الإمام (علیه السلام)وعدم حضوره بين أظهرهم أن يُعيِّن لهم سفيراً ويوجِد لهم هذا المنصب ليرجع إليه الناس . وقد اعتادوا أن يكون الإمام واحداً في كلِّ عصر ، فكذلك كان حال السفير ، ويكون تحته عدَّة وكلاء منتشرين في مختلف البلدان .

الأمر الرابع : سفراء الإمام (علیه السلام)وعددهم :

أمَّا عدد السفراء فأربعة :

أوَّلهم : عثمان بن سعيد العمري قدس سره :

وهو أوَّل السفراء الأجلّاء ، وهو المُنصَّب من قِبَل الإمام الهادي والإمام العسكري (علیهما السلام)، قال عنه شيخ الطائفة الطوسي قدس سره:

( فأوَّلهم : من نصبه أبو الحسن عليُّ بن محمّد العسكري و أبو محمّد الحسن بن عليِّ بن محمّد ابنه (علیهم السلام)، وهو الشيخ الموثوق به أبو عمرو عثمان بن سعيد العمري رحمة الله) (1) .

سبب تسميته بالعمري ، والعسكري ، والسمّان :

يقول الشيخ الطوسي رحمة الله: (وكان أسدياً وإنَّما سُمّي العمري لما رواه أبو نصر هبة الله بن محمّد بن أحمد الكاتب ابن بنت أبي جعفر

ص: 105


1- الغيبة للطوسي : 353

العمري رحمة الله ، قال أبو نصر : كان أسدياً فنُسِبَ إلىٰ جدِّه ، فقيل : العمري ، وقد قال قوم من الشيعة : إنَّ أبا محمّد الحسن بن عليٍّ (علیه السلام)قال : « لا يُجمَع علىٰ امرئ بين عثمان وأبو عمرو » ، وأمر بکسر کنیته ، فقيل : العمري .

ويقال له : العسكري أيضاً ؛ لأنَّه كان من عسكر سُرَّ من رأىٰ . ويقال له: السمّان ؛ لأنّه كان يتَّجر في السمن تغطيةً علىٰ الأمر .

وكان الشيعة إذا حملوا إلىٰ أبي محمّد (علیه السلام)ما يجب عليهم حمله من الأموال أنفذوا إلىٰ أبي عمرو ، فيجعله في جراب السمن وزقاقه ويحمله إلىٰ أبي محمّد (علیه السلام)علي

تقيَّةً وخوفاً ) (1) .

وثاقته وجلالته :

عن أحمد بن إسحاق بن سعد القمّي ، قال : دخلت علىٰ أبي الحسن عليِّ بن محمّد صلوات الله عليه في يوم من الأيام فقلت : يا سيِّدي ، أنا أغيب وأشهد ، ولا يتهیَّأ لي الوصول إليك إذا شهدت في كلِّ وقت ، فقول من نقبل ؟ وأمر من نمتثل ؟ فقال لي صلوات الله عليه : « هذا أبو عمرو الثقة الأمين ، ما قاله لكم فعنّي يقوله ، وما أدّاه إليكم فعنّي يؤدّيه .

فلمَّا مضىٰ أبو الحسن (علیه السلام)وصلت إلىٰ أبي محمّد ابنه الحسن العسكري (علیه السلام)ذات يوم ، فقلت له (علیه السلام)مثل قولي لأبيه ، فقال لي : « هذا أبو عمرو الثقة الأمين ثقة الماضي وثقتي في المحيا والممات ، فما قاله لكم فعنّي يقوله ، وما أدّىٰ إليكم فعنّي يؤديّه » . قال أبو محمد هارون : قال أبو عليّ : قال أبو العبّاس الحميري :

فكنا كثيراً ما نتذاكر هذا القول ونتواصف جلالة محلِّ أبي عمرو (2) .

ص: 106


1- الغيبة للطوسي : 353 و 354
2- الغيبة للطوسي : 354 355 / ح 315

وعن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنیان ، قالا : دخلنا علىٰ أبي محمّد الحسن (علیه السلام)بسُرَّ من رأىٰ وبين يديه جماعة من أوليائه وشیعته ، حتَّىٰ دخل عليه بدر خادمه ، فقال : يا مولاي بالباب قوم شعث غبر ، فقال لهم : « هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن » ، في حديث طويل يسوقانه إلىٰ أن ينتهي إلىٰ أن قال الحسن(علیه السلام) لبدر : « فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري » ، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّىٰ دخل عثمان ، فقال له سيِّدنا أبو محمّد (علیه السلام): « امض يا عثمان ، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون علىٰ مال الله ، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال » .

ثمّ ساق الحديث إلىٰ أن قالا : ثمّ قلنا بأجمعنا : یا سیِّدنا ، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك ، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك ، وأنَّه وكيلك وثقتك علىٰ مال الله تعالىٰ .

قال : « نعم ، واشهدوا علىٰ أنَّ عثمان بن سعيد العمري وكيلي ، وأنَّ ابنه محمّداً وکیل ابني مهديكم » (1) .

وفاته :

جاء في كتاب الغيبة : ( وكانت توقيعات صاحب الأمر(علیه السلام) تخرج علىٰ يدي عثمان بن سعيد وابنه أبي جعفر محمّد بن عثان إلىٰ شيعته وخواصّ أبيه أبي محمّد(علیه السلام) بالأمر والنهي والأجوبة عمَّا يسأل الشيعة عنه إذا احتاجت إلىٰ السؤال فيه بالخطِّ الذي كان يخرج في حياة الحسن (علیه السلام)، فلم تزل الشيعة مقيمة علىٰ عدالتهما إلىٰ أن توفّي عثمان بن سعيد رحمه الله ورضي عنه ، وغسَّله ابنه أبو جعفر ، وتولّىٰ القيام به ، وحصل الأمر كلّه مردوداً إليه ، والشيعة مجتمعة علىٰ عدالته وثقته وأمانته ، لما

ص: 107


1- الغيبة للطوسي : 355 و 356 / ح 317

تقدَّم له من النصِّ عليه بالأمانة والعدالة والأمر بالرجوع إليه في حياة الحسن (علیه السلام)وبعد موته في حياة أبيه عثمان رحمة الله عليه ) (1) .

ثانيهم : محمّد بن عثمان بن سعيد العمري قدس سره:

وهو ثاني السفراء الأجلّاء ، والذي خرج توقيع صاحب العصر (علیه السلام) في تأبين والده والنصِّ على سفارته :

قال عبد الله بن جعفر الحميري : وخرج التوقيع إلىٰ الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري في التعزية بأبيه E في فصل من الكتاب :

« إِنَّا لله وإِنَّا إلَيْهِ راجِعُونَ ، تَسْلِيماً لأمْرهِ وَرضَاءً بِقَضَائِهِ ، عَاشَ أبُوكَ سَعِيداً ومَاتَ حَمِيداً ، فَرَحِمَه اللهُ وَألحَقَهُ بِأوْلِيَائِهِ وَمَوَالِيهِ(علیهم السلام) ، فَلَمْ يَزَلْ مُجْتَهِداً فِي أمْرهِمْ ، سَاعِياً فِيمَا یُقَرِّبُهُ إِلَىٰ اللهِ عزوجل وَإِلَيْهِمْ ، نَضَّرَ اللهُ وَجْهَهُ وَأقَالَهُ عَثْرَتَهُ » .

وفي فصل آخر :

أجْزَلَ اللهُ لَكَ الثَّوَابَ ، وأحْسَنَ لَكَ الْعَزَاءَ ، رُزِئْتَ وَرُزِئْنَا ، وأوْحَشَكَ فِرَاقُهُ وأوْحَشَنَا ، فَسَرَّهُ اللهُ فِي مُنْقَلَبِهِ ، وَکَانَ مِنْ کَمَالِ سَعَادَتِهِ أنْ رَزَقَهُ اللهُ عزوجل وَلَداً مِثْلَكَ يَخْلُفُهُ مِنْ بَعْدِهِ ، وَيَقُومُ مَقَامَهُ بِأمْرهِ ، وَيَتَرَحَّمُ عَلَيْهِ ، وأقُولُ : الحَمْدُ لله ، فَإنَّ الأنْفُسَ طَیِّبَةٌ بِمَكَانِكَ وَمَا جَعَلَهُ اللهُ عزوجل فِيكَ وعِنْدَكَ ، أعَانَكَ اَللهُ وَقَوَّاكَ وَعَضَدَكَ وَوَفَّقَكَ ، وَكَانَ لَكَ وَلِیًّا وَحَافِظاً وَرَاعِياً وَکَافِياً وَمُعِيناً » (2) .

أيضاً جاء في النصِّ عليه ما نقله الشيخ الطوسي قدس سره: وأخبرني جماعة ، عن هارون بن موسىٰ ، عن محمّد بن همّام ، قال : قال لي عبد الله

ص: 108


1- الغيبة للطوسی : 356 و 357
2- کمال الدين : 510 / باب 45 / ح 41

بن جعفر الحميري : لمَّا مضىٰ أبو عمرو رضي الله تعالىٰ عنه أتنا الكتب بالخطِّ الذي كنّا نکاتب به بإقامة أبي جعفر رضی الله عنه مقامه ) (1) .

وثاقته وجلالته :

قال شيخ الطائفة في غيبته : ( عن عبد الله بن جعفر الحميري ، قال :

اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو عند أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري القمّي ، فغمزني أحمد [ بن إسحاق ] أن أسأله عن الخلف . فقلت له : ... وقد أخبرنا أحمد بن إسحاق أبو عليّ ، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال : سألته فقلت له : لمن أُعامل وعمَّن آخذ وقول من أقبل ؟ فقال له : « العمري ثقتي ، فما أدّىٰ إليك فعنّي يؤدي ، وما قال لك فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنَّه الثقة المأمون » .

قال : وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد الحسن بن عليٍّ عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك فعنّي يؤدّيان ، وما قالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لها وأطعها ، فإنَّهما الثقتان المأمونان » ، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك .

قال : فخرَّ أبو عمرو ساجداً وبكىٰ ، ثم قال : سَلْ . فقلت له : أنت رأيت الخلف من أبي محمّد (علیه السلام)؟ فقال : إي والله ، ورقبته مثل ذا - وأومأ بيديه - . فقلت له : فبقيت واحدة . فقال لي : هاتِ . قلت : فالاسم . قال : محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ،

ص: 109


1- الغيبة للطوسي : 362 / ح 324

وليس لي أن أُحلِّل وأُحرِّم ، ولكن عنه (علیه السلام). فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد (علیه السلام)مضیٰ ولم يخلف ولداً ، وقسَّم ميراثه وأخذه من لا حقَّ له ، وصبر علىٰ ذلك ، وهو ذا عياله يجولون وليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو ينيلهم شيئاً ، وإذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك ) (1) .

وقد نقل الشيخ قدس سره توقيعاً صدر عن صاحب العصر (علیه السلام)ترضّىٰ فيه علىٰ محمّد بن عثمان رحمة الله ونصَّ علىٰ وثاقته ؛ بل كونه في غاية الجلالة والوثاقة :

( وأخبرنا جماعة ، عن أبي القاسم جعفر بن محمّد بن قولويه وأبي غالب الزراري وأبي محمّد التلعکبري كلّهم ، عن محمّد بن یعقوب ، عن إسحاق بن يعقوب ، قال : سألت محمّد بن عثمان العمري رحمة الله أن يوصل لي كتاباً قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليَّ .

فوقع التوقيع بخطِّ مولانا صاحب الدار (علیه السلام)- وذكرنا الخبر فيها تقدَّم - : « وَأَمَّا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَمْريُّ فَرَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَعَنْ أبِيهِ مِنْ قَبْلُ فَإنَّهُ ثِقَتِي وَكِتَابُهُ كِتَابِي » ) (2).

وفاته :

توفي(علیه السلام) في آخر جمادىٰ الأُولىٰ سنة ( 305 ه- ) (3) .

ثالثهم : أبو القاسم الحسين بن روح قدس سره:

وهو ثالث السفراء الأجلّاء ( رضوان الله عليهم ) ، فقد نصَّ عليه

ص: 110


1- الغيبة للطوسي : 360 و361 / ح 322
2- الغيبة للطوسي : 362 / ح 326
3- راجع : الغيبة للطوسي : 366 / ح 334

السفير الثاني محمّد بن عثمان قدس سره بأمر من الإمام المهدي (علیه السلام) ، فعن جعفر بن أحمد بن متیل ، قال : ( لمَّا حضرت أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري رضی الله عنه الوفاة كنت جالساً عند رأسه أسأله وأُحدِّثه ، وأبو القاسم بن روح عند رجليه . فالتفت إلىَّ ثمّ قال : أُمرت أن أُوصي إلىٰ أبي القاسم الحسين بن روح . قال : فقمت من عند رأسه وأخذت بيد أبي القاسم وأجلسته في مكاني وتحوَّلت إلىٰ عند رجليه ) (1) .

وعن أبي محمّد هارون بن موسىٰ : ( أخبرني أبو عليّ محمّد بن همّام رضي الله عنه وأرضاه أنَّ أبا جعفر محمّد بن عثمان العمري قدَّس الله روحه ، جمعنا قبل موته ، وكنّا وجوه الشيعة وشيوخها . فقال لنا : إن حدث عليَّ حدث الموت ، فالأمر إلىٰ أبي القاسم الحسين بن روح النوبختي فقد أُمرت أن أجعله في موضعي بعدي فارجعوا إليه وعوِّلوا في أُموركم عليه ) (2).

وثاقته وجلالته :

عن أبي نصر هبة الله بن محمد ، قال : حدَّثني خالي أبو إبراهيم جعفر بن أحمد النوبختي ، قال : قال لي أبي أحمد بن إبراهيم وعمّي أبو جعفر عبد الله بن إبراهيم وجماعة من أهلنا يعني بني نوبخت : ( إنَّ أبا جعفر العمري لمَّا اشتدَّت حاله اجتمع جماعة من وجوه الشيعة ، منهم أبو عليّ بن همّام وأبو عبد الله بن محمّد الكاتب وأبو عبد الله الباقطاني وأبو سهل إسماعيل بن عليٍّ النوبختي وأبو عبد الله بن الوجناء وغيرهم من الوجوه الأكابر ، فدخلوا علىٰ أبي جعفر رضی الله عنه، فقالوا له : إن حدث أمر فمن يكون مكانك ؟ فقال لهم : هذا أبو القاسم الحسين بن روح بن

ص: 111


1- الغيبة للطوسي : 370 / ح 339
2- الغيبة للطوسي : 371 / ح 341

أبي بحر النوبختي القائم مقامي والسفير بينكم وبين صاحب الأمر (علیه السلام)والوكيل [ له ] والثقة الأمين ، فارجعوا إليه في أُموركم وعوِّلوا عليه في مهّماتكم ، فبذلك أُمرت وقد بلَّغت ) (1) .

وفاته :

توفي رحمة الله سنة ( 326 ه- ) (2) .

رابعهم : عليُّ بن محمّد السمري قدس سره:

وهو آخر السفراء الأجلّاء ( رضوان الله تعالىٰ عليهم ) ، وبعد رحليه إلىٰ الرفيق الأعلىٰ انقطعت السفارة ، وجاء زمن الغيبة الكبرىٰ ، يقول الشيخ الطوسي قدس سره :

(فلمَّا مات عثمان بن سعيد أوصىٰ إلىٰ أبي جعفر محمّد بن عثمان رحمة الله ، وأوصىٰ أبو جعفر إلىٰ أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه، وأوصىٰ أبو القاسم إلىٰ أبي الحسن عليّ بن محمّد السمري رضی الله عنه، فلمَّا حضرت السمري الوفاة سُئِلَ أن يوصي ، فقال : ( لله أمر هو بالغه ) ، فالغيبة التامَّة هي التي وقعت بعد مضيِّ السمري رضی الله عنه.

وأخبرني محمّد بن محمّد بن النعمان والحسين بن عبيد الله ، عن أبي عبد الله محمّد بن أحمد الصفواني ، قال : أوصىٰ الشيخ أبو القاسم رضی الله عنه إلىٰ أبي الحسن عليِّ بن محمّد السمري رضی الله عنه، فقام بها كان إلىٰ أبي القاسم .

فلمَّا حضرته الوفاة حضرت الشيعة عنده وسألته عن الموکَّل بعده ولمن يقوم مقامه ، فلم يُظهِر شيئاً من ذلك ، وذكر أنَّه لم يُؤمَر بأن يوصي إلىٰ أحد بعده في هذا الشأن ) (3) .

ص: 112


1- الغيبة للطوسي : 371 و 372 / ح 342
2- حياة الإمام المهدي(علیه السلام) للقرشي : 130
3- الغيبة للطوسي : 393 و 394
وثاقته وجلالته :

عن أبي محمّد الحسن بن أحمد المكتّب ، قال : كنت بمدينة السلام في السنة التي توفّي فيها الشيخ عليُّ بن محمّد السمري ( قدَّس الله روحه ) ، فحضرته قبل وفاته بأيّام ، فأخرج إلىٰ الناس توقيعاً نسخته :

« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ، يَا عَلِيَّ بْنَ مُحَمَّدٍ السَّمُريَّ أعْظَمَ اللهُ أجْرَ إِخْوَانِكَ فِيكَ ، فَإنَّكَ مَيِّتٌ مَا بَيْنَكَ وبَيْنَ سِتَّةِ أيَّام فَأجْمِعْ أمْرَكَ وَلَا تُوصِ إلَىٰ أحَدٍ يَقُومُ مَقَامَكَ بَعْدَ وَفَاتِكَ ، فَقَدْ وَقَعَتِ الْغَيْبَةُ الثَّانِيَة ، فَلَا ظُهُورَ إِلَّا بَعْدَ إِذْن الله ، وذَلِكَ بَعْدَ طُولِ الأمَدِ ، وَقَسْوَةِالْقُلُوبِ ، وَامْتِلَاءِ الأَرْض جَوْراً ، وَسَيَأتِي شِيعَتِي مَنْ يَدَّعِي المُشَاهَدَةَ ، ألَا فَمَن ادَّعَىٰ المُشَاهَدَةَ قَبْلَ خُرُوج السُّفْیَانِيِّ والصَّيْحَةِ فَهُوَ کَاذِبٌ مُفْتَرٍ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِالله الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ » .

قالَ : فنسخنا هذا التوقيع وخرجنا من عنده ، فلمَّا كان اليوم السادس عدنا إليه وهو يجود بنفسه ، فقيل له : من وصيّك من بعدك ؟ فقال : ( لله أمر هو بالغه ) ، ومضىٰ رضی الله عنه، فهذا آخر كلام سُمِعَ منه (1) .

وفاته :

توفّی رحمة الله في النصف من شهر شعبان سنة ( 329 ه ) (2) .

الأمر الخامس : وكلاء الإمام(علیه السلام) وعددهم :

وأمَّا عدد الوكلاء فقد ذكر منهم الشيخ الصدوق قدس سره ثلاثة عشر وکیلاً ، ممَّن رأىٰ معجزات الإمام المهدي (علیه السلام)، وهم متعدِّدون في البلاد ، في الكوفة والريّ وأذربيجان والأهواز وقم وغيرها ، قال :

ص: 113


1- کمال الدین : 516 / باب 45 / ح 44
2- الغيبة للطوسي : 394

( حدَّثنا محمّد بن محمّد الخزاعي رضی الله عنه، قال : حدَّثنا أبو عليّ الأسدي ، عن أبيه ، عن محمّد بن أبي عبد الله الكوفي أنَّه ذكر عدد من انتهىٰ إليه ممَّن وقف علىٰ معجزات صاحب الزمان (علیه السلام)ورآه من الوكلاء ببغداد : العمري وابنه ، حاجز ، والبلالي ، والعطّار .

ومن الكوفة : العاصمي . ومن أهل الأهواز : محمّد بن إبراهيم بن مهزیار . ومن أهل قم : أحمد بن إسحاق . ومن أهل همدان : محمّد بن صالح . ومن أهل الريّ : البسّامي ، والأسدي - يعني نفسه - . ومن أهل أذربيجان : القاسم بن العلاء . ومن أهل نیسابور : محمّد بن شاذان ) (1) .

وما ذكره وعدَّده الشيخ الصدوق قدس سره، هو خصوص الوكلاء الذين شاهدوا معجزات الإمام المهدي (علیه السلام)، فهو ليس بصدد تعداد الوكلاء الذين لم يشاهدوا المعجزات ، وإنَّما أراد من وقف علىٰ المعجزات ، ولذلك نرىٰ في تكملة ما سبق أنَّه يُعدِّد غير الوكلاء ممَّن وقف علىٰ المعجزات وعاينها ، ولذلك مع التتّبع قد نجد أكثر من هذا العدد المذكور (2) .

الأمر السادس : وثاقة السفراء والوكلاء في زمن الغيبة :

عندما نتصفَّح كتب الأصحاب نجد أنَّ السفراء والوكلاء وُثِّقوا وعُدِّلوا من قِبَل المعصومين(علیهم السلام) ، واشتهرت عدالتهم عند المسلمين

ص: 114


1- کمال الدين : 442 / باب 43 / ح16
2- لم نورد عبارة الشيخ الصدوق قدس سره کاملةً خوفاً من الإطالة ، وبوسعك الرجوع إلىٰ المصدر المذكور للوقوف عليها بطولها

عامَّة ، وممَّا يلي بعض کلمات أعلامنا المتقدِّمين تتضمَّن عدَّة أُمور ، منها وثاقتهم وعدالتهم وأوصافهم ووظائفهم ومهامّهم الموكَّلة إليهم :

الكلمة الأُولىٰ :

قال الشيخ المفيد قدس سره في كتابه ( المسائل العشر في الغيبة ) :

( إنَّ جماعة من أصحاب أبي محمّد الحسن بن عليِّ بن محمّد قد شاهدوا خلفه في حياته ، وكانوا أصحابه وخاصَّته بعد وفاته ، والوسائط بينه وبين شيعته دهراً طويلاً في استتاره ، ينقلون إليهم عن معالم الدين ، ويُخرِجون إليهم أجوبة عن مسائلهم فيه ، ويقبضون منهم حقوقه لديهم .

وهم جماعة كان الحسن بن عليٍّ (علیه السلام)عدَّلهم في حياته ، واختصَّهم أُمناء له في وقته ، وجعل إليهم النظر في أملاكه والقيام بمآربه ، معروفون بأسمائهم وأنسابهم وأمثالهم .

كأبي عمرو عثمان بن سعيد السمّان ، وابنه أبي جعفر محمّد بن عثمان ، وبني الرحبا من نصيبين ، وبني سعيد ، وبني مهزیار بالأهواز ، وبني الركولي بالكوفة ، وبني نوبخت ببغداد ، وجماعة من أهل قزوین وقم وغيرها من الجبال ، مشهورون بذلك عند الإماميَّة والزيدية ، معروفون بالإشارة إليه به عند كثير من العامَّة .

وكانوا أهل عقل وأمانة وثقة ودراية وفهم وتحصيل ونباهة ، وكان السلطان يُعظِّم أقدارهم بجلالة محلِّهم في الدنيا ، ويُكرِمهم لظاهر أمانتهم واشتهار عدالتهم ، حتَّىٰ إنَّه كان يدفع عنهم ما يضيفه إليهم خصومهم من أمرهم ، ضنّاً بهم واعتقاداً لبطلان قذفهم به ، وذلك لما كان من شدَّة تحرزهم ، وستر حالهم ، واعتقادهم ، وجودة آرائهم ، وصواب تدبيرهم ) (1) .

ص: 115


1- المسائل العشر في الغيبة : 82
الكلمة الثانية :

قال رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق قدس سره في نفس المعنىٰ :

( ووجه آخر وهو أنَّ الحسن (علیه السلام)خلف جماعة من ثقاته ممَّن يروي عنه الحلال والحرام ، ويؤدّی کتب شیعته وأموالهم ، ويُخرِجون الجوابات ، وكانوا بموضع من الستر والعدالة ، بتعديله إيّاهم في حياته ، فلمَّا مضىٰ أجمعوا جميعاً علىٰ أنَّه قد خلف ولداً هو الإمام ، وأمروا الناس أن لا يسألوا عن اسمه ، وأن يستروا ذلك من أعدائه ، وطلبه السلطان أشدّ طلب ووکَّل بالدور والحبالیٰ من جواري الحسن (علیه السلام)، ثمّ كانت كتب ابنه الخلف بعده تخرج إلىٰ الشيعة بالأمر والنهي علىٰ أيدي رجال أبيه الثقاة أكثر من عشرين سنة ، ثمّ انقطعت المكاتبة ومضىٰ أكثر رجال الحسن (علیه السلام)الذين كانوا شهدوا بأمر الإمام بعده ، وبقي منهم رجل واحد قد أجمعوا علىٰ عدالته وثقته ، فأمر الناس بالكتمان ، وأن لا يذيعوا شيئاً من أمر الإمام ، وانقطعت المكاتبة ، فصحَّ لنا ثبات عين الإمام بما ذكرت من الدليل ، وبما وصفت عن أصحاب الحسن (علیه السلام)ورجاله ونقلهم خبره ، وصحَّة غيبته بالأخبار المشهورة في غيبة الإمام (علیه السلام)، وأنَّ له غيبتين إحديها أشدّ من الأُخرىٰ ) (1) .

ومحصَّل کلامها رحم الله:

أوَّلاً : أنَّ من وظائف وكلاء الأئمَّة (علیهم السلام)نقل معالم الدين والإجابة علىٰ أسئلة المستفتين وقبض الحقوق الشرعية ، كما أنَّهم كانوا معدَّلين موثَّقين من قِبَل الإمام العسكري (علیه السلام)، وكانوا أهل علم وتحصيل وورع ؛ لذا كان الشيعة يرجعون إليهم في شؤوونهم الدينية .

ص: 116


1- کمال الدين : 92 و 93

ثانياً : أنَّ وكلاء الإمام العسكري (علیه السلام)وسفرائه كانوا يتوفَّرون علىٰ جملة من الخصائص والشرائط کالوثاقة والعدالة والعلم والدراية والحنكة ؛ بحيث استطاعوا أن يفرضوا احترامهم علىٰ السلطات آنذاك ، مع كونهم سفراء للإمام المهدي (علیه السلام)، الذي تراه السلطة الجائرة عدوّها الأوَّل ، ولكن حكمة السفراء قد هیمنت على نفوس الجماهير آنذاك فلم تجد السلطة بدّاً من احترامهم ، وهم مع هذا الاحترام الذي فرضوه لم يُحسَبوا علىٰ السلطة أبداً ، وهذا لا يمنع أنيكون لبعض السفراء وئاماً ظاهرياً مع السلطان ، لدفع شرِّه وكيده ، کما کان أمر الحسين بن روح قدس سره بعد خروجه من السجن .

ثالثاً : أنَّ قوَّة الإدارة التي تمتَّع بها وكلاء الإمام (علیه السلام) وسفراؤه راجعة إلىٰ خصائص ذاتية توفَّرت بهم كالحكمة والحنكة والبصيرة ، وتسديد الإمام(علیه السلام) لهم وتوجيهه المباشر .

ومن الشواهد علىٰ مكانتهم عند الإمام وتوفّر تلك الخصائص فيهم ، ما ينقله الشيخ الكليني قدس سره :

( عن عبد الله بن جعفر الحميري ، قال : اجتمعت أنا والشيخ أبو عمرو رحمة الله عند أحمد بن إسحاق ، فغمزني أحمد بن إسحاق أن أسأله عن الخلف ، فقلت له : يا أبا عمرو ، إنّي أُريد أن أسألك عن شيء وما أنا بشاكٍّ فيما أُريد أن أسألك عنه ، فإنَّ اعتقادي وديني أنَّ الأرض لا تخلو من حجَّة إلَّا إذا كان قبل يوم القيامة بأربعين يوماً ، فإذا كان ذلك رُفِعَت الحجَّة وأُغلق باب التوبة ، فلم يكُ « يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ کَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً » [ الأنعام : 158 ] ، فأولئك أشرار من خلق الله عزوجل، وهم الذين تقوم عليهم القيامة ؛ ولكنّي أحببت أن أزداد يقيناً ، وإنَّ إبراهيم (علیه السلام)سأل ربَّه عزوجل أن يريه كيف يُحيي الموتىٰ ،

ص: 117

قال : « أَوَلَمْ تُؤْمِنْ ؟ قال : « بَلىٰ وَلكِنْ لِیَطْمَئِنَّ قَلْبِي » [ البقرة : 260 ] ، وقد أخبرني أبو عليّ أحمد بن إسحاق ، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال : سألته وقلت : من أُعامل أو عمَّن آخذ ، وقول من أقبل ؟ فقال له : « العمري ثقتي فما أدّىٰ إليك عنّي فعنّي يؤدّي ، وما قال لك عنّي فعنّي يقول ، فاسمع له وأطع ، فإنَّه الثقة المأمون » ، وأخبرني أبو عليّ أنَّه سأل أبا محمّد (علیه السلام)عن مثل ذلك ، فقال له : « العمري وابنه ثقتان ، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّیان ، وماقالا لك فعنّي يقولان ، فاسمع لها وأطعمها ، فإنَّها الثقتان المأمونان » ، فهذا قول إمامين قد مضيا فيك .

قال : فَخَرَّ أبو عمرو ساجداً وبكىٰ ، ثمّ قال : سَلْ حاجتك . فقلت له : أنت رأيت الخلف من بعد أبي محمّد(علیه السلام) ؟ فقال : إي والله ، ورقبته مثل ذا – وأومأ بيده - . فقلت له : فبقيت واحدة . فقال لي : هاتِ . قلت : فالاسم ؟

قال : محرَّم عليكم أن تسألوا عن ذلك ، ولا أقول هذا من عندي ، فليس لي أن أُحلِّل ولا أُحرِّم ؛ ولكن عنه (علیه السلام)، فإنَّ الأمر عند السلطان أنَّ أبا محمّد مضىٰ ولم يُخلِّف ولداً وقسَّم میراثه وأخذه من لا حقَّ له فيه ، وهو ذا عياله يجولون ليس أحد يجسر أن يتعرَّف إليهم أو بنيلهم شيئاً ، وإذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك » ) .

قال الكليني رحمة الله : ( وحدَّثني شيخ من أصحابنا - ذهب عنّي اسمه – أنَّ أبا عمرو سأل عن أحمد بن إسحاق عن مثل هذا فأجاب بمثل هذا ) (1) .

ص: 118


1- الكافي 1 : 329 و 330 / باب في تسمية من رآه (علیه السلام)/ ح 1

وما ينلقه رئيس المحدِّثين الشيخ الصدوق قدس سره :

( قال محمّد بن إبراهيم بن إسحاق رضی الله عنه: فعدت إلىٰ الشيخ أبی القاسم الحسين بن روح قدَّس الله روحه من الغد ، وأنا أقول في نفسي : أتراه ذكر ما ذكر لنا يوم أمس من عند نفسه ؟ فابتدأني فقال لي : يا محمّد بن إبراهيم لأن أخرَّ من السماء فتخطفني الطير أو تهوى بي الريح في مکان سحيق أحبُّ إليَّ من أن أقول في دين الله تعالىٰ ذكره برأيي ومن عند نفسي ؛ بل ذلك عن الأصل ، ومسموع عن الحجَّة صلوات الله وسلامه عليه ) (1) .

ويستفاد من الروايتين المتقدِّمتين :

أنَّ السفير يتلقّىٰ من الإمام (علیه السلام)مباشرةً ، ففي الرواية الأُولىٰ : ( ولا أقول هذا من عندي ، فليس لي أن أُحلِّل ولا أُحرِّم ، ولكن عنه (علیه السلام)) ، وفي الروايةالثانية : ( بل ذلك عن الأصل ومسموع عن الحجَّة صلوات الله وسلامه عليه ) .

وعُلِمَ من الرواية الأُولىٰ أنَّ من وظائف السفير أن يحفظ الإمام (علیه السلام)من كيد الكائدين ، فقد جاء في الحديث الأوَّل : ( وإذا وقع الاسم وقع الطلب ، فاتَّقوا الله وأمسكوا عن ذلك ) ، فمنعهم من ذكر اسمه الشريف حتَّىٰ لا يُطلَب من قِبَل السلطات الجائرة .

ومن هذه الأُمور التي تقدَّم ذكرها يتَّضح لنا بشكل جليٍّ دور

السفارة والوكالة في عصر الغيبة الصغرىٰ .

الحكمة من اختصاص السفراء بالغيبة الصغرىٰ دون الكبرىٰ :

إنَّ الشيعة في تلك الأزمنة كانوا معتادين علىٰ الاتِّصال بالأئمَّة

ص: 119


1- علل الشرائع 1 : 243 / باب 177 / ح 1

(علیهم السلام)اتِّصالاً مباشراً ، حتَّىٰ جاء زمن الإمامين العسكريين(علیهما السلام) فمهَّدا لغيبة الإمام المهدي (علیه السلام)من خلال استتارهما عن أنظار الناس في كثير من الأوقات مع وجودهما المقدَّس ، فجعلا الشيعة يعتادون علىٰ مسألة عدم الاتِّصال المباشر والتلقّي من السفراء والوكلاء ، فمتىٰ ما أرادوا أمراً قصدوا السفراء ، والسفراء بدورهم يتَّصلون بالإمام المعصوم (علیه السلام)، وكذلك جُعلت مسألة السفارة والسفراء الأربعة طريقاً ممهِّداً التهيئة الناس لغيبة الإمام(علیه السلام) الكبرىٰ .

وأمَّا في فترة الغيبة الصغرىٰ ، فقد رحل أصحاب الأئمَّة (علیهما السلام)، وبقي الجيل الذي يليهم معتاداً على قضيَّة السفراء والوكلاء ؛ ولأجل ذلك أمكن للإمام المهدي(علیه السلام) أن يكتفي بالنّواب العامين ، وهم المراجع الذين جعلهم بحسب التوقيع : « وَأمَّا الحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَىٰ رُوَاۃِ حَدِيثِنَا ، فَإنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيکُم وأَنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَيْهِمْ » (1).

ومن بيان

الحكمة من جعل السفراء في عصر الغيبة الصغرى ، نعرف وجه الحكمة في عدم جعلهم في الغيبة الكبرىٰ ، فإنَّ الحكمة من جعل السفراء التمهيد للغيبة الكبرىٰ ، المقتضية للانقطاع وعدم التواصل مع الإمام(علیه السلام) .

ص: 120


1- کمال الدين : 484 / باب 45 / ح 4

القسم الثاني الغيبة الكبرى ومباحثها

المبحث الأوّل: التهيّؤ لغيبة الإمام المهدي (علیه السلام)
اشارة

كان الشيعة في زمن الأئمَّة (علیهم السلام)يأخذون أحكام دينهم من الإمام ، فمتىٰ ما طرأت عليهم مسألة ذهبوا إليه أو أرسلوا من يصل إلىٰ الإمام ويسأله عن مسائلهم ؛ لكن في ظلِّ ظروف الغيبة لا يمكن لهم ذلك ؛ إذ أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)غائب ، فلذلك كان الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) قد أوجد عدَّة مهيَّئات تُهیِّىٴ الشيعة لقضيَّة الإمام المهدي (علیه السلام)، فنلاحظ في رواية نقلها الشيخ الصدوق قدس سره في كتابه أنَّ الإمام الحسن العسكري كان يُمهِّد لهم أمر ابنه ويُخبِرهم أنَّ الغيبة ستحصل :

عن أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعري ، قال : دخلت علىٰ أبي محمّد الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)وأنا أُريد أن أسأله عن الخلف من بعده ، فقال لي مبتدئاً : « یا أحمد بن إسحاق ، إنَّ الله تبارك وتعالىٰ لم يخل الأرض منذ خلق آدم (علیه السلام)ولا يخليها إلىٰ أن تقوم الساعة من حجَّة الله علىٰ خلقه ، به یدفع البلاء عن أهل الأرض ، وبه يُنزِل الغيث ، وبه يُخرِج بركات الأرض » .

قال : فقلت له : يا ابن رسول الله ، فمن الإمام والخليفة بعدك ؟

فنهض (علیه السلام)مسرعاً فدخل البيت ، ثمّ خرج وعلىٰ عاتقه غلام کأنَّ وجهه القمر ليلة البدر من أبناء الثلاث سنين ، فقال : « يا أحمد بن إسحاق ، لولا

ص: 121

کرامتك علىٰ الله عزوجل وعلىٰ حججه ما عرضت عليك ابني هذا ، إنَّه سميُّ رسول الله (صلی الله علیه و اله)وكنيّه ، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلِئَت جوراً وظلماً ) .

يا أحمد بن إسحاق ، مثله في هذه الأُمَّة مثل الخضر ، ومثله مثل ذي القرنين ، والله ليغيبنَّ غيبة لا ينجو فيها من الملكة إلَّا من ثبَّته الله علىٰ القول بإمامته ووفَّقه فيها للدعاء بتعجیل فرجه » .

فقال أحمد بن إسحاق : فقلت له: يا مولاي فهل ، من علامة يطمئنُّ إليها قلبي ؟

فنطق الغلام (علیه السلام)بلسان عربي فصيح فقال : « أنا بقيَّة الله في أرضه ، والمنتقم من أعدائه ، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق » .

فقال أحمد بن إسحاق : فخرجت مسروراً فرحاً ، فلمَّا كان من الغد عدت إليه ، فقلت له : يا ابن رسول الله ، لقد عظم سروري بما مننت به عليَّ ، فيما السُنَّة الجارية فيه من الخضر وذي القرنين ؟

فقال : « طول الغيبة يا أحمد » . قلت : يا ابن رسول الله ، وإنَّ غيبته لتطول ؟

قال : « إي وربّي حتَّىٰ يرجع عن هذا الأمر أكثر القائلين به ولا يبقىٰ إلَّا من أخذ الله عزوجل عهده لولايتنا ، وكتب في قلبه الإيمان ، و أیَّده بروح منه . يا أحمد بن إسحاق ، هذا أمر من أمر الله ، وسرٌّ من سرِّ الله ، وغيب من غيب الله ، فخذما آتيتك واكتمه وكن من الشاكرين تكن معنا غداً في علّيين » (1) .

فلذلك نجد أنَّ الإمام الحسن العسكري(علیه السلام) اتَّخذ عدَّة خطوات لِیُمهِّدهم ويعدّهم للغيبة :

ص: 122


1- کمال الدين : 384 و 385 / باب 38 / ح 1
الخطوة الأولى : الرجوع إلى الإمام المهدي في حياة أبيه (علیه السلام):

ففي حديث طويل ومفصَّل جدّاً أنَّ واحداً من أصحاب الأئمَّة (علیهم السلام)كان عنده مجموعة من الأسئلة ، فذهب مع أحمد بن إسحاق إلىٰ الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)، وكان أحمد بن إسحاق لديه أموال كثيرة جاء بها من بلاد إيران ، فسأله عدَّة مسائل ، فأرجعه الإمام العسكري (علیه السلام)إلىٰ ولده القائم (علیه السلام)، والشاهد من هذا الحديث المبارك :

( فلمَّا انصرف أحمد بن إسحاق ليأتيه بالثوب نظر إلىَّ مولانا أبي محمّد (علیه السلام)، فقال : « ما جاء بك يا سعد ؟» .

فقلت : شوَّقني أحمد بن إسحاق علىٰ لقاء مولانا . قال : « والمسائل التي أردت أن تسأله عنها ؟ » . قلت : علىٰ حالها يا مولاي . قال : « فسَلْ قرَّة عيني » وأومأ إلىٰ الغلام . فقال لي الغلام : « سَلْ عمَّا بدا لك منها » .

فقلت له : مولانا وابن مولانا إنّا روينا ... الخ ) (1) .

الخطوة الثانية : الإرجاع إلى الوكلاء :

فجعل وکلاء يرتبط الشيعة بهم ، وبيَّن أيضاً في بعض الموارد أنَّ بعض هؤلاء الوكلاء سيكونون وكلاء لابنه صاحب الزمان (علیه السلام)، فجَعْلُ الوكلاء دالٌّ علىٰ أنَّه ليس بالضرورة أن يرجعوا إلىٰ الإمام وابنه في جميع شؤونهم ؛ لأنَّه أجاز لهم الرجوع إلىٰ هؤلاء الوكلاء المعتمدين الذين يُمثِّلونهم ، فقد روىٰ شيخ الطائفة الطوسي قدس سره عن محمّد بن إسماعيل وعليِّ بن عبد الله الحسنیان قالا :

ص: 123


1- ومن أحبَّ أن يرجع للحديث بتمامه فليراجع كمال الدين : 454 - 465 / باب 43 / ح 22

( دخلنا علىٰ أبي محمّد الحسن(علیه السلام) بسُرَّ من رأىٰ وبين يديه جماعة من أوليائه وشیعته ، حتَّىٰ دخل عليه بدر خادمه ، فقال : يا مولاي بالباب قوم شعث غبر ، فقال لهم : « هؤلاء نفر من شيعتنا باليمن » في حديث طويل يسوقانه إلىٰ أن ينتهي إلىٰ أن قال الحسن(علیه السلام) لبدر : « فامض فائتنا بعثمان بن سعيد العمري » ، فما لبثنا إلَّا يسيراً حتَّىٰ دخل عثمان ، فقال له سیِّدنا أبو محمّد (علیه السلام): « امض ياعثمان ، فإنَّك الوكيل والثقة المأمون علىٰ مال الله ، واقبض من هؤلاء النفر اليمنيين ما حملوه من المال » .

ثمّ ساق الحديث إلىٰ أن قالا : ثمّ قلنا بأجمعنا : یا سیِّدنا ، والله إنَّ عثمان لمن خيار شيعتك ، ولقد زدتنا علماً بموضعه من خدمتك ، وأنَّه وكيلك وثقتك علىٰ مال الله تعالىٰ . قال : « نعم ، واشهدوا علىٰ أنَّ عثمان بن سعيد العمري وکيلي وأنَّ ابنه محمّداً وکیل ابني مهديكم » ) (1) .

الخطوة الثالثة : الإعداد الروحي والفكري :

فيما جرىٰ علىٰ الأئمَّة (علیهم السلام)هيَّأ الشيعة لاستقبال الوضع الجديد ، بمعنىٰ أنَّ الإمام عليَّ الهادي (علیه السلام)يحتجب عنهم في زمنه ، وكذلك احتجب عنهم الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)لمدَّة زمنية معيَّنة ، وقد دلَّت الأخبار علىٰ أنَّهم (علیهم السلام)بیَّنوا بشكل واضح بعض تفاصيل غيبته وما سيحصل للشيعة بعد غيابه ، وما سيجري علىٰ الإمام المهدي(علیه السلام) ، ومنه نعلم وجود إعداد فکري وذهني وإعداد نفسي وروحي للغيبة الكبرىٰ .

ص: 124


1- الغيبة للطوسي : 355 و 356 / ح 317
المبحث الثاني: سبب الغيبة الكبرى
اشارة

وتحت هذا المبحث نطرح عدَّة أُمور تتعلَّق بمناشئ و عوامل تحقُّق غيبة الإمام المهدي (علیه السلام):

الأمر الأول : الإقصاء :

بمعنىٰ أنَّ الأُمَّة اجتمعت علىٰ قطيعة رحم رسول الله (صلی الله علیه و اله)، مجمعة علىٰ النيل منهم وتشريدهم وقتلهم ، فها هي قبورهم موزَّعة بأرجاء البلاد ، وهي أعظم شاهدٍ علىٰ ظلامتهم ومحاولة إقصائهم ، وخصوصاً خفاء قبر بنت المصطفیٰ(صلی الله علیه و اله) وبضعته السيِّدة فاطمة الزهراء (علیها السلام)، وإنَّ أبشع قضيَّة حصلت في الإسلام هي قتل سبط النبيِّ(صلی الله علیه و اله) وسيِّد الشهداء الإمام الحسين (علیه السلام)وسبي نسائه وقتل أصحابه وأولاده .

وكذلك سائر أهل البيت(علیهم السلام) ، مع أنَّهم لم يقوموا وينهضوا ضدَّ حكّام الجور ؛ ولكن ذلك لم يشفع لهم ، فما منهم إلَّا مقتول أو مسموم ، وجاء في كفاية الأثر عن الإمام الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)أنَّه قال في مرضه الذي توفّي فيه : « والله إنَّه لعهد عهده إلينا رسول الله (صلی الله علیه و اله)، أنَّ هذا الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من ولدعلي عليٍّ (صلی الله علیه و اله)وفاطمة (علیها السلام)؛ مامنّا إلَّا مسموم أو مقتول » (1) .

ص: 125


1- كفاية الأثر : 227

فعلمنا أنَّ من قام علىٰ الأُمَّة لا يريد أحداً من أهل البيت(علیهم السلام) أن يبرز ويفتتن الناس به ، فكان ولا بدَّ من محاولة الإقصاء والقتل .

ولا يخفىٰ - مع تعدُّد الأخبار وتواترها - أنَّ السلطات الغاشمة عندهم خبر مسبق بأنَّ الأئمَّة اثنا عشر ، وأنَّ الذي يقوم بالأمر وتنهدم أبنية كلِّ الحكومات علىٰ يده هو الإمام الثاني عشر ، فلعلمهم بتواتر الأخبار ، وخوفهم علىٰ عروشهم ، أرادوا إقصاءه وقتله من بادئ الأمر ، فلمَّا استشهد الإمام الحسن العسكري (علیه السلام)هجموا علىٰ الدار ليبحثوا عنه ، وإذا كانوا يعتقدون بوجوده ، فعمره حينئدٍ خمس سنوات ، فيُفتَرض أنَّه لا يُهدِّدهم ؛ ولكن لأنَّ عندهم علماً بدوره في الأُمَّة ، ووظيفته في تحقيق عدالة الله سبحانه وتعالىٰ ، وإدحاض الظلم والعدوان ، حاولوا جهد أيمانهم ليقتلوه ويزيلوا الهمَّ عن صدورهم ، قال الله تعالىٰ :

« يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)» ( التوبة : 32 ) .

الأمر الثاني : الخوف من القتل :

ولا بدَّ من الإشارة إلىٰ أنَّ الخوف من القتل ليس معناه الجبن ، أو الخوف من الموت ، فإنَّ الجبن والخوف من الموت يدلّان علىٰ ضعف الإيمان ؛ ولكن الخوف من القتل هو أحد أنواع التحرّز، بمعنىٰ أنَّه يختفي عن أنظار الناس حتَّىٰ يتجنَّب القتل وما بعده ، قال الله تعالىٰ : « فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) » ( القصص : 21 ) ، فتُبيِّن الآية أنَّ نبيَّ الله موسىٰ (علیه السلام)يخرج خائفاً يترقَّب ، ولا يمكن أنَّه خاف من الموت نفسه - حاشاه – ؛ إذ إنَّ ذلك من ضعف الإيمان ، وذلك لا يكون لنبيٍّ من أُولي العزم . وقد بحث الشيخ المفيد قدس سره في السبب من ظهور الأئمَّة (علیهم السلام) وغياب

ص: 126

صاحب الزمان (علیه السلام)، فقال : ( إنَّ ملوك الزمان - إذ ذاك - كانوا يعرفون من رأي الأئمَّة (علیهم السلام)التقيَّة ، وتحريم الخروج بالسيف علىٰ الولاة ، وعيب من فعل ذلك من بني عمِّهم ولومهم عليه ، وأنَّه لا يجوز عندهم تجريد السيف حتَّىٰ ترکد الشمس عند زوال ، ويُسمَع نداء من السماء باسم رجل بعينه ، ويُخسَف بالبيداء ، ويقوم آخر أئمَّة الحقِّ بالسيف ليزيل دولة الباطل .

وكانوا لا يكبرون بوجود من يوجد منهم ، ولا بظهور شخصه ، ولا بدعوة من يدعو إلىٰ إمام ؛ لأمانهم مع ذلك من فتق یکون عليهم به ، ولاعتقادهم قلَّة عدد من يصغي إليهم في دعوىٰ الإمامة لهم ، أو يُصدِّقهم فيما يُخبِرون به من منتظر يكون لهم .

فلمَّا جاز وقت وجود المترقَّب لذلك ، المخوَّف منه القيام بالسيف ، ووجدوا الشيعة الإماميَّة مطبقة علىٰ تحقيق أمره ، وتعيينه والإشارة إليه دون غيره ، بعثهم ذلك علىٰ طلبه وسفك دمه ، ولتزول الشبهة في التعلُّق به ، ويحصل الأمان في الفتنة بالإشارة إليه والدعوة إلىٰ نصرته .

ولو لم يكن ما ذكرناه شيئا ظاهراً ، وعلَّةً صحيحةً ، وجهةً ثابتةً ، لكان غير منكر أن يكون في معلوم الله جلَّ اسمه أنَّ من سلف من آبائه (علیهم السلام)يأمن مع ظهوره ، وأنَّه هو لو ظهر لم يأمن علىٰ دمه ، وأنَّه متىٰ قُتِلَ أحد من آبائه(علیهم السلام) عند ظهوره لم تمنع الحكمة من إقامة خليفة يقوم مقامه .

وأنَّ ابن الحسن(علیهما السلام) لو يظهر لسفك القوم دمه ، ولم تقتضِ الحكمة التخلية بينهم وبينه ، ولو كان في المعلوم للحقِّ صلاح بإقامة إمام من بعده لكفىٰ في الحجَّة وأقنع في إيضاح المحجَّة ، فكيف وقد بيَّنّا عن سبب ذلك بما لا يحيل علىٰ ناظر ، والمنَّة لله ) (1) .

ص: 127


1- الفصول العشرة : 74 و 75

ويقول السيِّد المرتضىٰ قدس سره : ( السبب في الغيبة هو إخافة الظالمين له ، ومنعهم يده من التصرُّف فيه فيما جُعِلَ إليه التصرُّف فيه ؛ لأنَّ الإمام إنَّما يُنتَفع به النفع الكلّي إذا كان متمکِّناً مطاعاً ، مخلّیً بينه وبين أغراضه ، ليقود الجنود ، ويحارب البغاة ، ويقيم الحدود ، ويسدُّ الثغور ، وينصف المظلوم ، وكلُّ ذلك لا يتمُّ إلَّا مع التمكّن . فإذا حيل بينه وبين أغراضه من ذلك سقط عنه فرض القيام بالإمامة ، وإذا خاف علىٰ نفسه ، وجبت غيبته ، والتحرّز من المضارِّ واجب عقلاً وسمعاً ، وقد استتر النبيُّ (صلی الله علیه و اله)في الشعب ، وأُخرىٰ في الغار ، ولا وجه لذلك إلَّا الخوف والتحرّز من المضارِّ ) (1) .

وأمَّا الروايات التي تدلُّ علىٰ هذا المعنىٰ ، فمنها :

الرواية الأُولىٰ : عن زرارة ، قال : سمعت أبا عبد الله (علیه السلام)يقول : « إنَّ للقائم غيبة قبل أن يقوم ، إنَّه يخاف - وأومأ بيده إلىٰ بطنه - يعني القتل » (2).

الرواية الثانية : عن زرارة ، عن أبي عبد الله(صلی الله علیه و اله) ، قال : « للقائم غيبة قبل قيامه » ، قلت : ولِمَ ؟ قال : « يخاف علىٰ نفسه الذبح » ((3)) .

الأمر الثالث : لا يكون في عنقه بيعة لأحد :

دلَّت بعض الأخبار علىٰ أنَّ سبب غيبة الإمام المهدي (علیه السلام)هو عدم مبايعته لأيِّ أحد ، ومن تلك الأحاديث :

الحديث الأوَّل : عن عبد العظيم بن عبد الله الحسني رضی الله عنه ، عن محمّد بن عليِّ بن موسیٰ بن جعفر بن محمّد بن عليِّ بن الحسين بن عليِّ بن

ص: 128


1- رسائل الشريف المرتضى 2 : 295
2- الکافي 2 :340 / باب في الغيبة / ح 18
3- کمال الدين : 481 / باب 44 / ح 10

أبي طالب (علیهم السلام)، عن أبيه ، عن آبائه ، عن أمير المؤمنين (علیه السلام)قال : « للقائم منّا غيبة أمدها طويل ، كأنّي بالشيعة يجولون جولان النعم في غيبته ، يطلبون المرعىٰ فلا يجدونه ، ألَا فمن ثبت منهم علىٰ دينه ولم يقس قلبه لطول أمد غيبة إمامه ، فهو معي في درجتي يوم القيامة » ، ثمّ قال (علیه السلام):

« إنَّ القائم منّا إذا قام لم يكن لأحد في عنقه بيعة ، فلذلك تخفىٰ ولادته ويغيب شخصه » (1) .

الحديث الثاني : عن أبي سعيد عقیصا ، قال : لمَّا صالح الحسن بن عليٍّ (علیهم السلام)معاوية بن أبي سفيان دخل عليه الناس ، فلامه بعضهم علىٰ بيعته ، فقال (علیه السلام): « ويحكم ما تدرون ما عملت ، والله الذي عملت خير لشيعتي ممَّا طلعت عليه الشمس أو غربت ، ألَا تعلمون أنَّني إمامكم مفترض الطاعة عليكم وأحد سيِّدي شباب أهل الجنَّة بنصٍّ من رسول الله (صلی الله علیه و اله)عليَّ ؟ » .

قالوا : بلىٰ .

قال : « أمَا علمتم أنَّ الخضر (علیه السلام)لمَّا خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام كان ذلك سخطاً لموسىٰ بن عمران إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك ، وكان ذلك عند الله تعالىٰ ذكره حكمةً وصواباً ؟ أمَا علمتم أنَّه ما منّا أحد إلَّا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلَّا القائم الذي يُصلّي روح الله عیسیٰ بن مریم (علیه السلام)خلفه ؟ فإنَّ الله عزوجل يخفي ولادته ، ويُغيِّب شخصه لئلَّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ذلك التاسع من ولد أخي الحسين ، ابن سيِّدة الإماء ، يطيل الله عمره في غيبته ، ثمّ يُظهِره بقدرته في صورة شاب دون أربعين سنة ، ذلك ليُعلَم أنَّ الله علىٰ كلِّ شيء قدير » (2) .

ص: 129


1- کمال الدين : 303 / باب 26 / ح 14
2- کمال الدین : 315 و 316 / باب 29 / ح 2

الحديث الثالث : عن سعيد بن جبير ، عن عليِّ بن الحسین سیِّد العابدین (علیهما السلام): « القائم منّا تخفىٰ ولادته علىٰ الناس حتَّى يقولوا : لم يُولَد بعد ، ليخرج حين يخرج وليس لأحد في عنقه بيعة » (1).

الحديث الرابع : عن عليِّ بن الحسن بن عليِّ بن فضّال ، عن أبيه ، عن أبي الحسن عليِّ بن موسىٰ الرضا (علیهما السلام)أنَّه قال : « كأنّي بالشيعة عند فقدهم الثالث من ولدي كالنعم يطلبون المرعىٰ فلا يجدونه » .

قلت له: ولِمَ ذاك يا ابن رسول الله ؟ قال : « لأنَّ إمامهم يغيب عنهم » . فقلت : ولم ؟ قال : « لئلَّا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا قام بالسيف » (2).

الحديث الخامس :

الحديث الخامس : عن أبي بصير ، عن أبي عبد الله(علیه السلام) ، قال : « صاحب هذا الأمر تغيب ولادته عن هذا الخلق کیلا يكون لأحد في عنقه بيعة إذا خرج ، ويُصلِح الله عزوجل أمره في ليلة واحدة » (3) .

مناقشة ما نُسِبَ إلىٰ الشهيد الصدر رحمة الله :

نُسِبَ إلىٰ الشهيد الصدر رحمة الله أنَّ الإمام غاب هذه الغيبة الكبرىٰ ؛ لأنَّه بحاجة إلىٰ الخبرة والتكامل ، ولا يتمُّ ذلك إلَّا برؤية الحضارات المتتالية كيف تهوىٰ واحدة وتقوم أُخرىٰ .

ولكنَّنا نتنظَّر في هذه النسبة له قدس سره ، فهو وإن ذكرها ؛ ولكنَّه لم يتبنّها ؛ بل

ص: 130


1- کمال الدين : 322 و 323 / باب 31 / ح 6
2- کمال الدين : 480 / باب 44 / ح 4
3- کمال الدين : 480 / باب 144 ح 5

بيَّن المبرر الذي دفعه للإجابة بهذا الجواب، وهو ردُّ شبهات الخصم، والمتساهلين والمشكّكين وفق قواعد علم الاجتماع التي يِسلم بها الجميع، فقال رحمة الله:

(إنَّ الناس لا يريدون أن يسمعوا جواباً غيبياً، أي إنَّهم يطالبون بتفسير اجتماعي للموقف، علىٰ ضوء الحقائق المحسوسة لعملية التغيير الكبریٰ نفسها).

وإلَّا فالمسألة عنده واضحة أنَّها مرتبطة بالغيب.

ولو فُرِضَ أنَّ الشهيد الصدر رحمة الله قد ذهب إلىٰ هذا القول، فإنَّه مردود مدفوع و مخالف لعقيدة الإماميَّة الأبرار في الإمام المعصوم (علیه السلام)، فهو قرين القرآن وعِدله، وعنده علم ما في الكتاب كلُّه، ويعلم ما كان وما يكون وما هو كائن إلىٰ يوم القيامة؛ فلا يحتاج إلىٰ تكامل عن طريق تكامل الحضارات؛ بل هو الإنسان الكامل الذي أمدَّه الله بجميع أدوات المعرفة والفضل من حين ولادته.(1)

ص: 131


1- بحث حول المهدي : 38
المبحث الثالث التوفیق بین الغیبة و الفائدة من وجوده المقدّس
اشارة

فی بادئ الأمر نُقدم مقدَّمة مهمَّة تتعلَّق بمعرفة الحکمة الإلهیة، و نُبینها علیٰ مطالب عدَّة:

المطلب الأوَّل: إنَّ الشیعة الإمامیَّة - أنار الله برهانهم - تؤمن إیماناً کاملاً بأنَّ الله سبحانه و تعالیٰ حکیم لا یفعل شیئاً إلَّا عن حکمة، ولا یضع شیئاً إلَّا فی موضعه، فإنَّ أفعال الله سبحانه و تعالیٰ کلُّها ناشئة عن حکمة منه تبارک و تعالیٰ.

المطلب الثانی: من الواضح أنَّ عدم العلم بالشیء لا یلزم منه عدم تحقّقه، أو قل فی المقام: عدم العلم بوجه الحکمة لا یقتضی نفی الحکمة، فإنَّ مقتضیٰ وجود الدلیل علیٰ ثبوت الشیء هو التسلیم والانقیاد له، سواء أعلمنا وجه الحکمة فیه أم لم نعلمه، ألفته عقولنا أم لم تألفه، أذ کیف للبشر أن یحیطوا بکل حکمة من حِکَم الله سبحانه و تعالیٰ؟ وأنّیٰ لعقولهم أن تزعم إحاطتها بکل الأسرار والحِکَم؟

المطلب الثالث: إنَّ هذه المبادئ قرآنیة لا شکَّ فیها، إذ أنَّ الله سبحانه و تعالیٰ فی کتابه قصَّ علینا من قصص الأنبیاء التی تفید أنَّ الإنسان لیس له أن یرد الفعل، لعدم علمه بالحکمة الإلهیة، منها قوله:

«فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68)

ص: 132

قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76) فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81) «وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)» (الكهف: 65 - 82).

فإنَّ الإنسان إذا لم يتَّضح عنده وجه الحكمة من الفعل، فلا يعني ذلك عدم وجود الحكمة؛ بل لعلَّها لم تتَّضح عنده وستتَّضح فيما بعد، فلهذا رأينا من خلال الآيات تعجّب النبي موسىٰ (علیه السلام)من خرق العبد الصالح للسفينة، ثمّ اتَّضحت له بعد ذلك.

ص: 133

المطلب الرابع: أشرنا فيما سبق أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)له شبه بسنن الأنبياء، وبيَّنّا أنَّ إحدىٰ السنن هي غيبة الأنبياء (علیهم السلام) عن قومهم، فنقول: بعد علمنا أنَّ من الأنبياء السابقين والأولياء الصالحين (علیهم السلام) من غاب عن قومه کالنبي يوسف (علیه السلام)وموسىٰ(علیه السلام) والخضر (علیه السلام)، فالإشكال لو كان علىٰ غيبة الإمام(علیه السلام) لورد علىٰ غيبتهم أيضاً؛ إذ إنَّ وجه الحكمة من غيابهم كان خافياً، فحتَّىٰ لا نلتزم بالمحاذير ونقع فيها کوقوعكم نقول: إنَّ هناك حكمة لغيابهم، وإذا لم نعلم بها فعدم علمنا لا يدلُّ علىٰ عدم وجودها، وإلَّا يلزم منه ما يلزم في نبي الله موسىٰ (علیه السلام)والخضر (علیه السلام).

إذا اتَّضحت هذه الأُمور نقول: هب أنّا لم نعلم بفائدته (علیه السلام)في زمن الغيبة إلَّا أنَّ ذلك لا يعني إنكارها، بعد أن قام الدليل علىٰ ثبوتها؛ ولكن مع ذلك يمكن بيان الفائدة من غيبته (علیه السلام)من خلال بيان أقسام وظائف الإمام، ونقتصر علىٰ بيان بعضها:

القسم الأوَّل: الوظائف التي يمكن أن يقوم بها الغير:

من قبيل الدعوة إلىٰ الدين، فيمكن أن يقوم بها العلماء الذين تعلَّموا العلم من مصادره وأخذوه من أهله، قال الله تعالىٰ: «وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)» (التوبة: 122).

ومنها القضاء وإقامة الحدود وحفظ الشريعة الظاهرية، فيمكن أن يُطبقها غيره، كما هو حال الولاة علىٰ المدن والمناطق، في زمن أمير المؤمنين (علیه السلام)؛ فإنَّهم يُطبقون الحدود والشريعة.

ص: 134

القسم الثاني: الوظائف التي لا يقوم بها إلاّ الإمام (علیه السلام):

من قبيل حفظ الشرع والشريعة الواقعية، وكما بيَّنّا فيما سبق أنَّ القرآن کتاب هداية، ويتضمَّن جميع ما يحتاجه الناس، ليُخرِجهم من الظلمات إلىٰ النور، فلا بدَّ أن يكون هذا القرآن بجميع معانيه عند أحد حتَّىٰ لا تغيب معانيه عن وجه الأرض ويبقىٰ هادياً ونوراً في طول الأزمنة، فهذا القرآن العظيم موجود عند الإمام من أهل البيت (علیهم السلام)، إذ إنَّهما لن يفترقا حتَّىٰ يردا الحوض. وأيضاً هذه الشريعة الغرّاء التي تطابق اللوح المحفوظ تكون عند الإمام.

فوجود إمام في كل زمان ضروري؛ حتَّىٰ يكون وجود هذه الشريعة محفوظاً عنده، ولا يمكن أن تكون عند غيره، وهذه الثمرة لوجوده المقدَّس کافية، فنفس حفظ حقائق القرآن والشريعة، ممَّا تقتضيه الضرورة، فلا بدَّ من وجود شخص يعرفها ويحفظها .

القسم الثالث: الوظائف التي يقوم بها بالمباشرة:

فإنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)يحضر مواسم الحجّ، ويعرف الناس ولا

يعرفونه، وقد دلَّت الأخبار علىٰ ذلك:

الحديث الأوَّل: عن عبيد بن زرارة، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام) يقول: «يفقد الناس إمامهم فيشهد الموسم فيراهم ولا يرونه»(1).

الحديث الثاني: عن محمّد بن عثمان العمري رضی الله عنه، قال: سمعته يقول: (والله إنَّ صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كلَّ سنة، فيرىٰ الناس ويعرفهم، ويرونه ولا يعرفونه)(2).

ص: 135


1- کمال الدين : 440/ باب 43/ ح 7
2- کمال الدين: 440/ باب 43/ ح 8

ومع حضوره المواسم دلَّت الأخبار الأُخرىٰ علىٰ أنَّه (علیه السلام)يصاحب الناس، ويلتقي بهم ويزور المرضىٰ، ويغيث المضطرّين، ويقضي حوائج المحتاجين، وهم لا يعرفونه.

القسم الرابع: الوظائف التي يقوم بها بغير المباشرة:

ومن المعلوم أنَّ الأدلة دلَّت علىٰ أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)غائب عن عامَّة الناس؛ ولكنَّه يتَّصل ويرتبط بالخواص، فنحن لا ننفي اتصال الإمام المهدي(علیه السلام) بأحد في غيبته؛ بل إنَّ الأدلَّة دلَّت علىٰ أنَّه يتَّصل مع بعض أولياء الله عزوجل.

بعد أن علمنا ذلك نقول: لا يُشتَرط أن يُباشر الإمام المهدي (علیه السلام)الوظائف والمسؤوليات، فيمكن أن يُعطي الإمام (علیه السلام)الخواصَّ هذه الوظائف والمسؤوليات، وهم يرشدون ويهدون الناس، ولا يُشتَرط أن تكون الهداية عن طريق مباشر؛ إذ إنَّ الغرض يتحقَّق عن طريق واسطة، وهم بعض أولياء الله سبحانه وتعالىٰ.

ومن لاحظ سيرة الأنبياء والأولياء يجد أنَّ منهم من خلَّف غيره ليقوم مقامه في أُموره، کنبي الله موسىٰ ، قال الله تعالىٰ: «وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)» (الأعراف: 142). ومنهم من لم يثبت عندنا أنَّه خلَّف أحداً كالخضر (علیه السلام)، وأمَّا الإمام المهدي(علیه السلام) فنصب في غيبته الصغرىٰ السفراء الأربعة، ونصب في غيبته الكبرىٰ المراجع والفقهاء، حيث قال (علیه السلام): «وَأمَّا الحَوَادِثُ ال۟وَاقِعَةُ فَار۟جِعُوا فِيهَا إِلَىٰ رُوَاۃِ حَدِیثِنَا، فَإنَّهُم۟ حُجَّتِي عَلَی۟کُم۟ وَأنَا حُجَّةُ اللهِ عَلَي۟هِم۟»(1).

ص: 136


1- کمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4

وإذا رمت مزید تدقيق، قلنا: ذُكِرَ في التوقيع الصادر من الإمام المهدي (علیه السلام) فوائد متعددة، فقال:

«وَأمَّا وَج۟هُ الِان۟تِفَاع بِي فِي غَي۟بَتِي فَکَالِان۟تِفَاع بِالشَّم۟س إِذَا غَيَّبَهَا عَن الأب۟صَار السَّحَابُ، وَإِنّي لأمَانٌ لأه۟ل الأر۟ض کَمَا أنَّ النُّجُومَ أمَانٌ لأه۟ل السَّمَاءِ، فَأغ۟لِقُوا أب۟وَابَ السُّؤَال عَمَّا لاَ يَع۟نِيکُم۟، وَلاَ تَتَكَلَّفُوا عَل۟مَ مَا قَد۟ کُفِیتُم۟، وَأك۟ثِرُوا الدُّعَاءَ بِتَع۟جِيل ال۟فَرَج، فَإنَّ ذَلِكَ فَرَجُکُم۟»(1).

وبملاحظة هذا التوقيع الشريف وما تقدَّم من مطالب، نقول: إنَّ الفائدة من وجوده الشريف، علىٰ نحوين:

النحو الأوَّل: ما يرتبط بأصل وجوده .

النحو الثاني: ما يرتبط بظهوره.

والذي تسبَّب الناس في منعه وحجبه وعدم وصوله إلىٰ الناس هو القسم الثاني، وأمَّا القسم الأوَّل فهو باقٍ علىٰ ما هو عليه، وهي فوائد جمَّة عامَّة تعود للبشرية جمعاء؛ بل للكون كلّه، ولهذا أثبت الإمام (علیه السلام)الانتفاع من وجوده، وأنَّه كالانتفاع بالشمس وإن غيَّبها عن الأنظار السحاب، فإنَّ جميع من علىٰ الأرض يستفيد من الشمس، حتَّىٰ البذرة في الأرض.

ومن جملة الانتفاع به قوله (علیه السلام): «وإنّي لأمان لأهل الأرض»، وقد بيَّنت هذا المعنىٰ روايات أُخرىٰ؛ حيث أناطت بقاء الأرض بوجود الحجَّة من آل محمّد (علیهم السلام)، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي الجاورد، عن أبي جعفر ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): «إنّي واثني عشر من ولدي وأنت ياعليّ زرُّ الأرض يعني أوتادها وجبالها، بنا أوتد

ص: 137


1- الاحتجاج 248:2

الله الأرض أن تسيخ بأهلها، فإذا ذهب الاثنا عشر من ولدي ساخت الأرض بأهلها ولم ينظروا»(1).

کما وردت روايات من الفريقين في ذات المعنىٰ؛ حيث بيَّنت أنَّ أهل البيت أمان لأهل الأرض.

منها ما جاء من طرق الخاصَّة:

الحديث الأوَّل: عن سعيد الخدري، قال: سمعت رسول الله (صلی الله علیه و اله)يقول: «أهل بيتي أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء».

قيل: یا رسول الله، فالأئمَّة بعدك من أهل بيتك؟

قال: «نعم الأئمَّة بعدي اثنا عشر، تسعة من صلب الحسين أُمناء معصومون، ومنّا مهدي هذه الأئمَّة، ألَا إنَّهم أهل بيتي وعترتي من لحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم الله شفاعتي»(2).

الحديث الثاني: عن يونس بن ظبيان، قال: كنت عند أبي عبد الله (علیه السلام)بالحيرة أيّام مقدمه علىٰ أبي جعفر في ليلة صحيانة مقمرة، قال: فنظر إلىٰ السماء فقال: «يا يونس، أمَا تري هذه الكواكب ما أحسنها؟ أمَا إنَّها أمان لأهل السماء، ونحن أمان لأهل الأرض»(3).

الحديث الثالث: عن سليمان بن مهران الأعمش، عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه علي بن الحسين ، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله علىٰ العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ

ص: 138


1- الكافي 1: 534/ باب فيما جاء في الاثني عشر .../ ح 17
2- كفاية الأثر: 29
3- کامل الزيارات: 86 و 87/ ح ( 10/86 )

النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا يُمسِك الله السماء أن تقع علىٰ الأرض إلَّا بإذنه، وبنا یُمسِك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا ينزل الغيث، وبنا ينشر الرحمة، ویُخرِج برکات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها»(1).

الحديث الرابع: عن جابر بن یزید الجعفي، قال: قلت لأبي جعفر محمّد بن عليٍّ الباقر (علیهما السلام): لأي شيء يُحتاج إلىٰ النبي (صلی الله علیه و اله)والإمام؟

فقال: «لبقاء العالم علىٰ صلاحه، وذلك أنَّ الله عزوجل يرفع العذاب عن أهل الأرض إذا كان فيها نبيٌّ أو إمام، قال الله : «وَما كانَ اللهُ لِیُعَذبَهُم۟ وَأَن۟تَ فِيهِم۟» [الأنفال: 33]، وقال النبيُّ (صلی الله علیه و اله): النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهبت النجوم أتىٰ أهل السماء ما يكرهون، وإذا ذهب أهل بيتي أتىٰ أهل الأرض ما يكرهون، يعني بأهل بيته الأئمَّة الذين قرن الله عزوجل طاعتهم بطاعته، فقال: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» [النساء: 59]، وهم المعصومون المطهَّرون، الذين لا يذنبون ولا يعصون، وهم المؤيَّدون الموفَّقون المسدَّدون، بهم يرزق الله عباده، وبهم تعمر بلاده، وبهم ينزل القطر من السماء، وهم يُخرِج برکات الأرض، وبهم يمهل أهل المعاصي، ولا يعجل عليهم بالعقوبة والعذاب، لا يفارقهم روح القدس ولا يفارقونه، ولا يفارقون القرآن ولا يفارقهم، صلوات الله عليهم أجمعين»(2).

ص: 139


1- أمالي الصدوق: 252 و 253/ ح ( 15/277 )
2- علل الشرائع 1: 123 و 124/ باب 103/ ح 1

الحديث الخامس: عن رسول الله (صلی الله علیه و اله): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأُمَّتي»(1).

الحديث السادس: عن أبي بصير، عن خيثمة الجعفي، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال : سمعته يقول: «نحن جنب الله، ونحن صفوته، ونحن حوزته، ونحن مستودع مواریث الأنبياء، ونحن أُمناء الله عزوجل، ونحن حجج الله، ونحن أركان الإيمان، ونحن دعائم الإسلام، ونحن من رحمة الله علىٰ خلقه، ونحن من بنا يفتح وبنا يختم، ونحن أئمَّة الهدىٰ، ونحن مصابيح الدجىٰ، ونحن منار الهدىٰ، ونحن السابقون، ونحن الآخرون، ونحن العلم المرفوع للخلق، من تمسَّك بنا لحق، ومن تأخَّر عنّاغرق، ونحن قادة الغر المحجَّلين، ونحن خيرة الله، ونحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلىٰ الله عزوجل، ونحن من نعمة الله عزوجل علىٰ خلقه، ونحن المنهاج، ونحن معدن النبوَّة، ونحن موضع الرسالة، ونحن الذين إلينا تختلف الملائكة، ونحن السراج لمن استضاء بنا، ونحن السبيل لمن اقتدىٰ بنا، ونحن الهداة إلىٰ الجنَّة، ونحن عرىٰ الإسلام، ونحن الجسور والقناطر، من مضىٰ عليها لم يُسبَق، ومن تخلَّف عنها مُحِقَ، ونحن السنام الأعظم، ونحن الذين بنا ينزل الله عزوجل الرحمة، وبنا يسقون الغيث، ونحن الذين بنا يُصرَف عنكم العذاب، فمن عرفنا وأبصرنا وعرف حقَّنا وأخذ بأمرنا فهو منّا وإلينا»(2).

ومنها ما جاء من طرق العامَّة:

الحديث الأوَّل: عن عليٍّ، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): «النجوم

ص: 140


1- عیون أخبار الرضا 2: 30/ ح 14
2- کمال الدين: 206

أمان لأهل السماء، إذا ذهبت النجوم ذهب أهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض، فإذا ذهب أهل بيتي ذهب أهل الأرض»(1).

الحديث الثاني: عن إياس بن سَلَمة، عن أبيه، قال: قال رسول الله (صلی الله علیه و اله): «النجوم أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأهل الأرض»(2).

الحديث الثالث: عن إياس بن سَلَمة، عن أبيه، أنَّ النبيَّ (صلی الله علیه و اله)قال : «النجوم في السماء أمان لأهل السماء، وأهل بيتي أمان لأُمَّتي»(3).

وغيرها من الأحاديث التي دلَّت علىٰ أنَّ أهل البيت (علیهم السلام)هم أمان لأهل الأرض، ومن دونهم فالناس في ضياع وشقاق(4).

ص: 141


1- فضائل الصحابة 671:2
2- مسند الروياني 2: 258
3- المصدر السابق
4- مجمع الزوائد 174:9 ؛ المعجم الكبير 22:7 ؛ نظم درر السمطين: 234؛ الجامع الصغير 2: 681؛ تاریخ مدينة دمشق 0:40 ؛ سبل الهدىٰ والرشاد 6:11 و 7؛ ينابيع المودَّة 1: 72، و 2: 104 و 114 و 442 و 443 و 474، و 3: 142؛ الصواعق المحرقة: 187؛ و مصادر أُخرىٰ للعامَّة. نقلاً عن مقدَّمة في أُصول الدين : 245
المبحث الرابع تعارض الهداية مع الغيبة
اشارة

ربَّما أشكل البعض بها حاصله: أنَّ تحقُّق الهداية الإلهية من قِبَل الهادي لا يكون إلَّا من خلال وجوده بين الناس والأتباع، فلا يمكن التوفيق بين هداية الأُمَّة مع غيابه عنها.

والجواب:

قبل بيان الجواب النقضي والحلّي لهذا الإشكال نُقدم مقدَّمة سبق بيانها، وهي: أنَّ الشيعة الإماميَّة معتقدة بحكمة الله سبحانه وتعالىٰ والتسليم والانقياد له؛ بل هو الحكيم المطلق، فكلُّ فعل من أفعاله صادر عن حكمة بالغة.

وعلىٰ ضوئه نقول: ما دام ثبت عندنا حصول الغيبة، وأنَّه أمر لا بدَّ منه، فلا تكون الغيبة إلَّا طبق موازين الحكمة، سواء أعلمناها أم لم نعلمها، فالمدار هو ثبوتها.

الجواب النقضي:

وحاصله: أنَّه لو كانت هناك منافاة بين كونه إماماً هادياً، وبين أن يكون غائباً عن الأنظار، لورد هذا الإشكال علىٰ الأنبياء السابقين؛ إذ أنَّهم غابوا بعضاً من الوقت، فإنَّ نبيَّ الله موسىٰ (علیه السلام)غاب عن قومه فترة من الزمن، وحصل الفراق بينه وبينهم حتَّىٰ إنَّهم عبدوا العجل في

ص: 142

حال غيبته؛ ولكن ذلك لم يضرّ شيئاً بنبوَّته ورسالته، قال الله تعالىٰ:

«وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)» (الأعراف: 142).

وكذلك نبيُّ الله يونس (علیه السلام)، فقد غاب عن قومه، ومكث في بطن الحوت، ونجّاه الله سبحانه وتعالىٰ بعد ذلك، قال الله سبحانه وتعالىٰ في کتابه: «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)» (الأنبياء: 87)، فهذه نماذج حصلت للأنبياء الصالحين بأنَّهم غابوا عن أُمَّتهم، ولم يضرّ بإمامتهم وهديهم للناس.

وقد أشار إمامنا الصادق (علیه السلام)إلىٰ ذلك، ويجب التصديق به، وإن خفيت الحكمة علينا، بعد علمنا بأنَّ الحكيم المطلق لا تكون أفعاله إلَّا عن حكمة.

ومن ذلك ما جاء عن عبد الله بن الفضل الهاشمي، قال: سمعت الصادق جعفر بن محمّد (علیهما السلام)يقول: «إنَّ لصاحب هذا الأمر غيبة لا بدَّ منها، یرتاب فيها كلُّ مبطل».

فقلت: ولِمَ جُعلت فداك؟ قال: «لأمر لم يُؤذَن لنا في كشفه لكم». قلت: فما وجه الحكمة في غيبته؟

قال: وجه الحكمة في غيبته وجه الحكمة في غيبات من تقدَّمه من حجج الله تعالىٰ ذكره، إنَّ وجه الحكمة في ذلك لا ينكشف إلَّا بعد ظهوره، كما لم ينكشف وجه الحكمة فيما أتاه الخضر (علیه السلام)من خرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار، لموسىٰ (علیه السلام)إلىٰ وقت افتراقهما.

ص: 143

يا ابن الفضل، إنَّ هذا الأمر أمر من أمر الله تعالىٰ، وسرٌّ من سر الله، وغيب من غيب الله، ومتىٰ علمنا أنَّه عزوجل حکیم صدَّقنا بأنَّ أفعاله كلَّها حكمة، وإن كان وجهها غير منکشف» (1)

وإن قيل: إنَّ غيبتهم عن قومهم كانت فترة وجيزة، ولم تكن بالغيبة الطويلة، إذ إنَّ الأنبياء كانت مدَّة غيابهم عن أقوامهم أقصر من غيبة الإمام المهدي (علیه السلام).

فيُجاب عليه: لیس المناط هو طول فترة الغياب من قصره، فإنَّه لو كانت الغيبة أمراً باطلاً ما ضرَّ فيه قصر المدَّة وطولها، فلو كانت نفس الغيبة عن القوم تتنافىٰ مع الهداية الإلهية فلا يضرُّ إن كانت قصيرة المدَّة أو طويلة، فلو امتنع ذلك في الكثير امتنع في القليل، بمعنىٰ أنَّ الممتنع حصوله لا يسعفه قصر المدَّة، فيرفعه عن الامتناع إلىٰ الإمكان، كما أنَّ قليل المحرَّم وكثيره علىٰ حدٍّ سواء في الحرمة.

الجواب الحلّي:

ويُدفَع هذا الإشكال ببيان أقسام أولياء الله سبحانه وتعالىٰ، فإنَّه

من قرأ القرآن وتدبَّره يعلم أنَّ أولياء الله علىٰ قسمين:

القسم الأوَّل: الحاضر من أولياء الله سبحانه وتعالىٰ. القسم الثاني: الغائب من أولياء الله سبحانه وتعالىٰ.

فعندما نلاحظ القرآن الكريم نجد أنَّ الله سبحانه جمع بين وليَّين من أوليائه: نبيَّ الله موسىٰ والخضر (علیهم السلام)، قال الله سبحانه وتعالىٰ:

«فَوَجَدا عَب۟داً مِن۟ عِبادِنا آتَي۟ناهُ رَح۟مَةً مِن۟ عِن۟دِنا وَعَلَّم۟ناهُ مِن۟ لَدُنَّا

ص: 144


1- کمال الدين: 482

عِل۟ماً (65) قالَ لَهُ مُوسىٰ هَل۟ أَتَّبِعُكَ عَلىٰ أَن۟ تُعَلمَنِ مِمَّا عُلم۟تَ رُش۟داً (66)» ((الكهف: 66)،فإنَّ هذه الآيات الكريمة التي تتحدَّث عن نبي الله موسىٰ (علیه السلام)والخضر (علیه السلام)تُبين أنَّ هناك وليّاً من أولياء الله سبحانه وتعالىٰ، وهو الخضر، يحمل علماً من الله سبحانه وتعالىٰ، وعنده علم لدنّي، بحيث إنَّه قام بأُمور عديدة غيبية، مثلُ هذا العبد الذي علَّمه الله سبحانه وتعالىٰ من علمه غائب عن الأنظار، ولكن مع غيبته له وظائف ومسؤوليات، انكشف لنا بعضها من خلال الآية ولم ينكشف لنا غيرها، ولم يقل أحد: إنَّ غيابه تنافىٰ مع كونه وليّاً وهادياً، وصاحب وظائف من قِبَل الله سبحانه وتعالىٰ.

ومنشأ الإشكال أنَّ المُشكِل اعتقد الملازمة في ذهنه بين غيابه وعدم الهداية، ولا توجد أيَّة ملازمة عقلية أو عرفية أو عقلائية تدلُّ علىٰ أنَّه ما دام غائباً عن الأنظار فلا يؤدّي وظائفه، من هداية الناس وغيرها من الوظائف الإلهية، ولا تنافي بين الغياب والهداية أو الرسالة أو الإمامة، فهناك من الأنبياء والأولياء الصالحين من كان وليّاً هادياً أو صاحب رسالة حتَّىٰ أثناء غيابه عن الأنظار.

وأيضاً دلالة الأحاديث الشريفة علىٰ أنَّ حجج الله سبحانه وتعالىٰ علىٰ قسمين: ظاهر مشهور وغائب مستور، ومنها: ما رواه رئیس المحدثين الشيخ الصدوق قدس سره عن الصادق جعفر بن محمّد، عن أبيه محمّد بن عليٍّ، عن أبيه علي بن الحسين (علیهم السلام)، قال: «نحن أئمَّة المسلمين، وحجج الله علىٰ العالمين، وسادة المؤمنين، وقادة الغر المحجَّلين، وموالي المؤمنين، ونحن أمان لأهل الأرض كما أنَّ النجوم أمان لأهل السماء، ونحن الذين بنا یُمسِك الله السماء أن تقع علىٰ الأرض إلَّا بإذنه، وبنا

ص: 145

یُمسِك الأرض أن تميد بأهلها، وبنا يُنزِل الغيث، وتُنشَر الرحمة، وتُخرَج برکات الأرض، ولولا ما في الأرض منّا لساخت بأهلها».

ثمّ قال: «ولم تخل الأرض منذ خلق الله آدم من حجَّة الله فيها ظاهر مشهور أوغائب مستور، ولا تخلو إلىٰ أن تقوم الساعة من حجَّة الله فيها، ولولا ذلك لم يُعبَد الله».

قال سليمان: فقلت للصادق(علیه السلام): فكيف ينتفع الناس بالحجَّة الغائب المستور؟

قال: «كما ينتفعون بالشمس إذا سترها السحاب»(1).

ومنها: ما رواه الصدوق قدس سره أيضاً عن أمير المؤمنين (علیه السلام)أنَّه قال:

«اللّهمّ بلىٰ لا تخلو الأرض من قائم بحجَّة، إمَّا ظاهر مشهور أو خاف مغمور، لئلَّا تبطل حجج الله وبیناته» (2).

فإنَّ الرواية الشريفة دلَّت علىٰ ضرورة وجود حجَّة الله علىٰ عباده، إمَّا ظاهراً مشهوراً أو غائباً مستوراً، ولا يتنافىٰ غيابه مع كونه حجَّة الله علىٰ خلقه، وبيَّنت أيضاً أنَّه أثناء مدَّة غيابه يبقىٰ له نفع وفائدة من وجوده، فلم تتنافیٰ المنفعة والفائدة مع الغيبة الحاصلة.

ص: 146


1- کمال الدين : 207/ باب 21/ ح 22
2- کمال الدين: 291/ باب 26/ ح 2
المبحث الخامس طول العمر
اشارة

بعدما قدَّمناه من البحوث، نصل إلىٰ شبهة لطالما يتساءل عنها البعض وشنَّع بها المخالفون واتَّخذوا بذلك آيات الله هزواً، وهي كيف أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)يبقىٰ كلَّ هذه الفترة الطويلة من الزمن حيّاً دون أن يموت ؟ وقد يُعَدُّ ذلك من المحال إمَّا عقلاً أو عادةً.

والجواب عليه من وجهين:

الوجه الأوَّل: عدم دلالة العقل علىٰ امتناع البقاء مدَّة طويلة في الحياة. فإنَّ الحقَّ أنَّه ليس بمحال عقلاً أن يعيش هذه المدَّة الطويلة، فليس ما نحن فيه من قبيل اجتماع النقيضين في آنٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحدٍ، وكيف لأحد أن يدَّعي ذلك مع ثبوت مثل ذلك لبعض الأنبياء كما سيأتي تفصيله؟ والوقوع أدلُّ دليل علىٰ الإمكان.

الوجه الثاني: عدم دلالة غير العقل علىٰ امتناعه. وممَّا يدلُّ علىٰ عدم استحالته عادةً، إثبات القرآن الكريم لطول عمر نبي الله نوح (علیه السلام)، قال الله تعالىٰ: «وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14)»

(العنكبوت: 14)، فإنَّ الآية المباركة صرَّحت بأنَّ مدَّة الدعوة تسع مائة وخمسون عاماً، وهي مدَّة طويلة جدّاً، ولم تتعرَّض لعمر نبي الله نوح (علیه السلام)، فلم تُبين عمره قبل الإرسال إلىٰ قومه ومدَّة بقائه بعد الطوفان.

ص: 147

حتَّىٰ إنَّ أصحاب التفاسير ذكروا أقوالاً عديدة في طول عمره الشريف، منها:

قال السمعاني في تفسيره: (وقوله: «فَلَبِثَ فِيهِم۟ أَل۟فَ سَنَةٍ إِلَّا خَم۟سِينَ عاماً» ، روي عن ابن عبّاس أنَّه قال: بُعِثَ نوح وهو ابن أربعين سنة، ومكث بعد خروجه من السفينة ستّين سنة، وتوفّاه الله تعالىٰ وهو ابن ألف وخمسين سنة. وفي رواية: أنَّ عمر نوح کان ألف وأربعمائة وخمسين سنة، بُعِثَ وهو ابن مائتي وخمسين سنة، وقد قيل غير هذا والله أعلم)(1).وقال الزمخشري: (كان عمر نوح ألفاً وخمسين سنة، بُعِثَ علىٰ رأس أربعين، ولبث في قومه تسعمائة وخمسين، وعاش بعد الطوفان ستّين. وعن وهب أنَّه عاش ألفاً وأربعمائة سنة)(2).

وذكر السيوطي حديثاً في عمر نبي الله نوح (علیه السلام): (وأخرج عبد بن حميد، عن عكرمة رضی الله عنه، قال: كان عمر نوح (علیه السلام)قبل أن يُبعَث إلىٰ قومه وبعدما بُعِثَ ألفاً وسبعمائة سنة)(3).

فنصَّ القرآن والمحدثين وأصحاب التفاسير أنَّ طول العمر ليس بمحال عادةً، إذ إنَّ القرآن الكريم أثبت لنا في آياته أنَّ نبيَّ الله نوح (علیه السلام)

ص: 148


1- تفسير السمعاني 4: 171
2- تفسير الكشّاف للزمخشري 3: 445
3- الدرُّ المنثور 6: 456. وذُکِرَ ذلك في غيره من المصادر التي ذكرت الأقوال في طول عمره الشریف ک: زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 3: 402؛ وتفسير القرطبي 13: 332؛ وفتح القدير للشوكاني 4: 230

بُعِثَ لقومه لمدَّة طويلة من الزمن، ولا قائل من المفسرين باستحالة ذلك وعدم إمكانه، فلو أمكن تحقّقه لنبي الله نوح(علیه السلام) لأمكن للإمام المهدي (علیه السلام).

يقول الشيخ المفيد قدس سره: (وهذا ما لا يدفعه إلَّا الملحدة من المنجمين وشركاؤهم في الزندقة من الدهريين، فأمَّا أهل الملل كلّها، فعلىٰ اتفاق منهم علىٰ ما وصفناه. والأخبار متناصرة بامتداد أيّام المعمرین، من العرب والعجم والهند وأصناف البشر، وأحوالهم التي كانوا عليها مع ذلك، والمحفوظ من حِکَمهم، مع تطاول أعمارهم، والمأثور من تفصيل قضاتهم من أهل أعصارهم وخطبهم وأشعارهم، لا يختلف أهل النقل في صحَّة الأخبار عنهم بما ذكرناه وصدق الروايات في أعمارهم وأحوالهم كما وصفناه)(1).

وذكر الشيخ المفيد قدس سره بعد بیان طول عمر نبي الله آدم ونوح (علیهما السلام)طول عمر عدَّة معمرين منهم:

(لقمان بن عاد الكبير، وربيع بن ضبيع، والمستوغر بن ربيعة، وأكثم بن صيفي، وصيفي بن ریاح، وضبيرة بن سعيد، ودرید بن الصمة، و محصن بن عتبان، وعمرو بن حممة الدوسي، والحرث بن مضاض، والملك الذي استحدث المهرجان، وسلمان الفارسي)(2).

وحتَّىٰ إنَّ أهل السُّنَّة ذكروا عدَّة أشخاص معمرين، منهم الخضر (علیه السلام)، قال القنوجي البخاري: (قيل في إلياس والخضر : إنَّهما حيّان، وقيل: إلياس وُکل بالفيافي

ص: 149


1- الفصول العشرة: 93 و 94
2- من أراد التفصيل فليراجع: الفصول العشرة: 94 - 102

کما وُکل الخضر بالبحار، قال السيوطي في الإتقان: قال وهب: إنَّ إلياس عمَّر کا عمر الخضر، وإنَّه يبقىٰ إلىٰ آخر الدنيا)(1).

وكذلك ذكروا لقمان بن عاد، فكان من أطول الناس عمراً من بعده، قال أبو محمّد عبد الملك بن هشام الحميري:

(حدَّثنا زياد بن عبد الله البكائي، عن محمّد بن إسحاق المطلبي، قال : كان عمر لقمان بن عاد أربعة آلاف عام، عاشت ستَّة نسور کلُّ نسر خمسمائة عام، وذلك ثلاثة آلاف عام، وعاش لبد وكان آخرها ألف عام)(2).

طول العمر وفق الطبّ الحديث:

وأمَّا رأي الطب الحديث، فقد بيَّنوا لنا أنَّه من الممكن للإنسان أن يعيش مدَّة طويلة من خلال النظرية والتطبيق، وكتبوا في ذلك بحوثاً ودراسات، ولعلَّ من أقدمها ما كُتِبَ في مجلَّة المقتطف، في بعض أعدادها سنة (1959م)، وحاصل ما ذُکِرَ:

أنَّه من الممكن للإنسان من حيث المبدأ والنظرية، أن يعيش مدَّة طويلة من الزمن، في ظرف وبيئة معيَّنة، فعندما نُهيئ له الظرف الخاصّ، والغذاء الخاصّ السليم، ونرفع عنه موانع طول العمر، كإبعاد المكروبات عنه، فإنَّه يمكن له أن يعيش مدَّة طويلة.

ص: 150


1- فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي البخاري 418:11 . وأمَّا من خالف هذا القول فإنَّما خالفه لادعائه القصور في الأدلَّة، لا من حيث استحالة طول عمره، فإنَّ ذلك لا يمكن أن يتفوَّه به مسلم
2- التيجان في ملوك حمير 84:1لعبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميري المتوفّي سنة (213 ه)

وأخرجت إحدىٰ الباحثات الغربيات في عام (2011م)، الأمر من دائرة النظرية إلىٰ التطبيق والتجربة، فأثبتت أنَّ الكائن الحيَّ يمكن أن

تُهیَّیء له ظروف خاصَّة مناسبة يعيش فيها، فيعيش ضعف المدَّة التي له أن يعيشها خارج هذا الإطار، وطبَّقت هذه التجربة علىٰ أقرب کائن للإنسان بحسب كلامهم وهم الجرذان، لمحاولة إطالة عمره، وأثبتوا ذلك بالتجربة.

وقفتان:
الوقفة الأُولىٰ: وقفة مع بقاء نبي الله يونس إلىٰ يوم يبعثون:

وقال الله سبحانه في يونس(علیه السلام): «فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)»(الصافّات: 142 - 144)، و(لبث) بمعنىٰ يعيش، وليس معناه أنَّه يموت ويبقىٰ داخل الحوت، فالظاهر منه أنَّه يعيش في بطن الحوت.

وهذا ممَّا تُؤيده بعض التفاسير من الطرفين أنَّه لبث مع كونه حيّاً، فهذه قضيَّة قرآنية مسلَّمة(1).

الوقفة الثانية: وقفة مع الدجّال:

إنَّ المخالفين المنکرین للإمام الحجَّة (علیه السلام)والمثبتين للشبه المذكورة،والمحاججين فيها، والساعين لإبطالها، لا ينفعهم ذلك أبداً؛ إذ ثبت أنَّ طول العمر، والغيبة عن الأنظار، والاستتار، ليس بممنوع عقلاً، ولا شرعاً، ونضيف إلىٰ ذلك أنَّهم في أحاديثهم أثبتوا ذلك

ص: 151


1- من الخاصَّة: جوامع الجامع للشيخ الطبرسي 3: 175. وأمَّا من العامَّة: الكشّاف 4: 62؛ تفسير النسفي 3: 173

للدجّال(1)، فلنا أن نتساءل: لِمَ يكون المانع من غيبة الإمام المهدي (علیه السلام)هو استبعاد واستحالة طول العمر، ويرتفع هذا المانع في الدجّال ؟!

أليس وليُّ الله وحجَّته والمهدي من آل محمّد (علیهم السلام)أولىٰ من الدجّال؟ فلا يُعقَل أنَّ المسلم يُجوز ذلك في عدو الله ورسوله، ويمنعه مطلقاً عن وليه وولي رسوله (صلی الله علیه و اله)، والميزان العلمي لا يُفرق بينهما؛ إذ كما يجوز لغير المهدي (علیه السلام)يجوز له أيضاً.

وإن قلتم: هناك دليل أثبت وجود الدجّال، وأنَّه حيٌّ إلىٰ آخر الزمان؛ ولكن لم يرد من الأدلَّة شيء يُثبِت أنَّ الإمام المهدي(علیه السلام) موجود وحيٌّ.

فنقول: ثبوت ولادة الإمام المهدي (علیه السلام)ووجوده وغيبته أوضح من وجود الدجّال، وعمدنا بذكر شيء من الأدلَّة فيما سبق من البحوث، وبيَّنّا أنَّ مقتضىٰ الأدلَّة الصحيحة المتواترة، والفهم الصحيح الدقيق لها، يُثبِت وجود الإمام المهدي (علیه السلام)، منها حديث الثقلين، وحدیث الاثني عشر خليفة، وحديث من مات وليس في عنقه بيعه مات ميتةً جاهليةً، وغيرها من الأدلَّة النقلية والعقلية علىٰ ضرورة وجوده(2).

فوجود المعمرين أمر لا يخفىٰ علىٰ أحد من قرّاء التاريخ عند الشيعة والسُّنَّة، وبهذا الجواب ندفع الاستحالة العادية كما دفعنا الاستحالة العقلية.

ص: 152


1- في صحيح مسلم باب قصَّة الحساسة 4: 2262
2- مع تلك الدلائل العقلية والنقلية الدالّة علىٰ وجوده (علیه السلام)جدير بالإشارة إلىٰ أنَّ العقل يقتضي وجود الإمام والهادي(علیه السلام) وعديل القرآن المبين لآياته وأحكامه، وأمَّا العقل لا يقتضي وجود الدجّال بالضرورة، فكان عقلاً الأولىٰ بالوجود هو الإمام المهدي(علیه السلام). وأيضاً الدلائل النقلية علىٰ وجود الإمام المهدي (علیه السلام)كثيرة ومتواترة وصحيحة، كما مرَّ في سابق المطالب، والدلائل علىٰ وجود الدجّال لا تضاهيها

والحاصل: أنَّ المناط هو قدرة الله سبحانه وتعالىٰ علىٰ أن يُعمر من شاء، ولا يقول أحد من المسلمين: إنَّ الله سبحانه وتعالىٰ غير قادر علىٰ ذلك؛ لأنَّه من المقولات التي يكفر بها القائل، ولا غرابة من طول عمره، وحفظ الله سبحانه وتعالىٰ له، وخصوصاً أنَّ الأمر متعلق بقيام الدولة الإلهية علىٰ الأرض، التي تملؤها قسطاً وعدلاً.

خاتمة: في وظيفة الأمّة في الغيبة الكبرى:

لعلَّك تسأل: إنَّ بقية الله الأعظم (علیه السلام)غائب عن الأنظار ولا يمكن أخذ الأحكام مشافهةً عنه والحال هذه، فما الذي يفعله الناس في غيبته بالنسبة إلىٰ الأحكام؟

الجواب: أنَّ الأئمَّة(علیهم السلام) لم يتركوا شیئاً إلَّا وبيَّنوه، وعلىٰ الأُمَّة أن تعمل بحلال النبي (صلی الله علیه و اله)وتتجنَّب عن حرامه، وقد بيَّن النبيُّ (علیه السلام)للأُمَّة المرجعيَّة التي ينبغي الرجوع إليها لأخذ الدين عقيدةً وفقهاً؛ بل سائر معارفه، كما في حديث الثقلين المتواتر عند الفريقين، فكما أنَّ النبيَّ لم يُبين الأحكام كلّها دفعة واحدة؛ بل بيَّن ما يحتاج إليه الناس، فوجب أن يكون هناك من يقوم بمهمَّة بيان الدين بعد النبي (صلی الله علیه و اله)وهم أهل بيته الذين أرجع لهم في حديث الثقلين.

وحالنا في زمن الغيبة الكبرىٰ لا يشذُّ عن هذه القاعدة، فنحن بحمد الله تعالىٰ نمتلك تراثاً ضخماً وصل إلينا عن أئمَّة الهدىٰ(علیهم السلام) بيد أمينة، فإذا لم نتمكَّن من ملاقاة الإمام والأخذ عنه مباشرةً - كما في زماننا - فإنَّنا نرجع إلىٰ من أرجع إليهم الإمام (علیه السلام)وسائر الأئمَّة (علیهم السلام)، وهم فقهاء الدين والمراجع العظام، الذين يتمكَّنون من الرجوع إلىٰ الأحاديث الشريفة واستنباط الأحكام الشرعية منها.

ص: 153

ص: 154

الفصل الثالث: علامات الظهور

اشارة

• المقصد الأوَّل: مفهوم علامات الظهور.

• المقصد الثاني: مصادیق علامات الظهور.

• المقصد الثالث: الضوابط العلمية الصحيحة في التعامل مع

علامات الظهور.

• البداء والعلامات الحتمية وغير الحتمية.

ص: 155

ص: 156

المقصد الأوّل مفهوم علامات الظهور

العلامة هي الأثر الذي يُعلَم به الشيء، أو ما يُنصَب هادياً إلىٰ شيء، ومنه قوله تعالىٰ: «وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)» (النحل: 16)، أي إنَّ الناس في الصحراء يهتدون بالنجوم والمصابيح ليلاً لمعرفة الطرقات و تحديد مساراتهم.

وقد جاء في القرآن الكريم مداليل أُخرىٰ للفظة (علامة):

منها: الأشراط، كقوله تعالىٰ : «فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا» (محمّد: 18)، أي علاماتها.

ومنها: الآية، كما في قوله تعالىٰ: «وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ» (البقرة: 248)، أي علامة ملكه.

والحاصل: أنَّ العلامة تُطلَق ويُراد بها تارةً: الأثر الذي يُعلَم به الشيء، وتارةً: الأشراط، وتارةً: الآية، ومعانٍ أُخرىٰ.

إذا اتَّضح ذلك قلنا: إنَّ المراد من علامات الظهور لا يختلف كثيراً عن المعاني اللغوية التي ذُکِرَت في محله، فإنَّ علامات الظهور هي الأُمور التي إذا تحقَّقت ووقعت كشفت عن قرب ظهور صاحب العصر والزمان (علیه السلام)، ولعلَّ وجه الحكمة في جعل علامات لظهوره المبارك هو أنَّ قضيَّته (علیه السلام)قضيَّة عالمية خطيرة فيحلو لبعض الشياطين تقمُّص

ص: 157

مقامه وادعاء ما ليس لهم حقٌّ فيه بُغية التسلّط علىٰ الناس وتحقيق المآرب الشيطانية، فجُعِلَت علامات الظهور میزاناً لتقييم دعاوىٰ المهدوية.

ص: 158

المقصد الثاني مصادیق علامات الظهور

المشهور أنَّ علامات الظهور علىٰ نحوين:

النحو الأوّل: علامات غیرحتمية:

وهي كثيرة جدّاً، جاءت في روايات متفرقة، وتقع في أزمان مختلفة، قد تكون قريبة من الظهور، وقد تكون بعيدة، وقد لا تقع أيضاً.

النحو الثاني: علامات حتمية:

وقد حدَّدتها الروايات الشريفة في خمس علامات، وربَّما يُضاف إليها غيرها:

1- خروج السفياني. 2 - خروج اليماني. 3 - قتل النفس الزكيَّة في مكّة المكرَّمة. 4 - الخسف في البيداء. 5 - الصيحة من السماء . والروايات في ذلك متعددة:

منها: صحيحة عمر بن حنظلة، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام)يقول: «قبل قيام القائم خمس علامات محتومات: اليماني، والسفياني، والصيحة، وقتل النفس الزكيَّة، والخسف بالبيداء»(1).

ص: 159


1- کمال الدين: 650/ باب 57/ ح 7

ومنها: معتبرة أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام): إنَّ أبا جعفر(علیه السلام) كان يقول: «خروج السفياني من المحتوم، والنداء من المحتوم، وطلوع الشمس من المغرب من المحتوم، و أشياء كان يقولها من المحتوم»(1).

ص: 160


1- الغيبة للطوسي: 435/ ح 425

المقصد الثالث الضوابط العلمية الصحيحة في التعامل مع علامات الظهور

الضابط الأوّل: حمل الألفاظ على معانيها الحقيقية:

المقرَّر لدىٰ أهل المحاورة حمل الألفاظ علىٰ الحقيقة إلَّا أن تُنصَب قرينة من شأنها رفع اليد عن المعنىٰ الحقيقي، والمصير إلىٰ المعنىٰ المجازي المتناسب مع القرينة، وهذا أصل لفظي مسلَّم، لا نزاع فيه بين العقلاء وأهل العرف، وهو جارٍ فيما نحن فيه.

فاليمانيُّ رجل من أهل اليمن، كما هو ظاهر لقب اليماني، والسفياني شخص من بني سفيان، والصيحة نداء عالي الصوت يكون من السماء، والخسف في البيداء هو خسف تكويني أرضي حقيقي، وهكذا في سائر العلامات التي تُذكر.

نعم لا ينافي الحمل علىٰ الحقيقة، أن نقول: إنَّ السفياني لقب لذاك الرجل، الذي يكون من بني سفيان، واليماني أيضاً لقب لذاك الرجل الذي يكون من اليمن، فإنَّ احتمال ظهورهم بهذه الألقاب لا ينافي المعنىٰ الحقيقي الذي بیَّنّاه.

ومن ذلك يتَّضح لك بطلان حمل هذه العلامات المذكورة في الروايات الشريفة علىٰ الرمزية؛ كأن يقال: السفياني ليس شخصاً؛ بل هو

ص: 161

رمز لنهج فكري أُموي يستبيح الدماء ويفعل المحرَّمات، فإنَّ هذا الحمل مخالف للظاهر جدّاً، ولا يمكن المصير إليه إلَّا بقرينة.

الضابط الثاني: المنع من التوقيت:

اشارة

وقد دلَّت روایات متعددة عن أئمَّة الهدىٰ(علیهم السلام) علىٰ منع التوقيت مطلقاً:

منها: خبر الفضيل بن يسار، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: قلت له: لهذا الأمر وقت؟ فقال: «كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون، كذب الوقّاتون»(1).

ومنها: عن أبي بصير، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: سألته عن القائم (علیه السلام)، فقال: «كذب الوقّاتون، إنّا أهل بيت لانُوقت»(2).

ومنها: في الصحيح عن محمّد بن مسلم، عن أبي عبد الله(علیه السلام)، قال: «من وقَّت لك من الناس شيئاً فلا تهابنَّ أن تُكذبه، فلسنا نُوقت لأحد وقتاً»(3).

ويُمكن تصوير فائدتين لمنع التوقيت:

الفائدة الأُولىٰ: منع الادعاءات لهذا المقام الشريف، فقد يدَّعي بعضٌ أنَّ الوقت بعد سنة أو سنتين، فيُصدقه الناس، ثمّ يجيء هذا البعض مدَّعياً مقام الإمامة فيُضلل وتقع الفتنة ولا يُدرىٰ أين الحقّ، فیکون منع التوقيت حصانة للناس من الانجرار خلف الدعاوىٰ الكثيرة، وتكون العبرة والميزان - كما تقدَّم - لعلامات الظهور الحتمية.

ص: 162


1- الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت / ح 5
2- الكافي 1: 368/ باب كراهية التوقيت / ح 3
3- الغيبة للطوسي: 426/ ح 414

الفائدة الثانية: قد يقال: إنَّ البداء يقع في الوقت، فلو وقَّت الناس لظهور الإمام (علیه السلام)، وكان توقيتهم مطابقاً للواقع، ثمّ وقع البداء في ذلك الوقت وتأخَّر الظهور، فإنَّ هذا موجب للتكذيب بالإمام وبوجوده الشريف، فجاء المنع عن التوقيت مطلقاً لدفع ما يُحتَمل من الوجه الأوَّل أو الثاني.

إشكال وردُّه:

وقد يُشكِل بعضهم فيقول: إنَّ المنع من التوقيت لا يتناسب مع ما جاء في بعض الروايات الشريفة من أنَّ السفياني يظهر في شهر رجب، وأنَّ اليماني والخراساني والسفياني يظهرون جميعاً في يوم واحد وشهر واحد وسنة واحدة، وأنَّ مدَّة حكم السفياني لا تتجاوز حمل امرأة، فهل هذا إلَّا توقيت؟

والجواب:

إنَّ المراد من التوقيت هو التوقيت بنحو التعيين كالتوقيت بالسنة الكذائية والشهر واليوم، كأن يقول: في السنة كذا في شهر كذا، وأمَّا أن يُحدَّد في شهر رجب، أو أنَّ الثلاثة يخرجون في يوم واحد، من دون تحديد السنة فلا يُعَدُّ توقيتاً.

الضابط الثالث: تمييز علامات الظهور:

اشارة

بناءً علىٰ ما تقدَّم من أنَّ العلامات منها ما هو حتمي ومنها ما هو غير ذلك، نقول: إنَّ العلامات غير الحتمية لا يُمكن جعلها برهاناً و میزاناً للظهور الشريف؛ لما بیَّنّاه من إمكان وقوع البداء فيها من جهة، ولإمكان انطباقها علىٰ كثيرين من جهة أُخرىٰ، فالعبرة بالتمسُّك بالعلامات الحتمية التي تحدَّثت عنها الروايات الشريفة بأدقّ تفاصيلها

ص: 163

من غير تشویش أو إبهام، ومثال ذلك: تمييز صيحة الحق عن صيحة الباطل، ففي صحيح أبي حمزة الثمالي، قال: فقلت له – أي للإمام الباقر(علیه السلام) -: كيف يكون ذلك النداء؟

قال: «ينادي منادٍ من السماء أوَّل النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في علىٍّ وشیعته، ثمّ ينادي إبليس لعنه الله في آخر النهار: ألَا إنَّ الحقَّ في السفياني وشیعته، فيرتاب عند ذلك المبطلون»(1).

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ العلامات الحتمية علىٰ درجة من الوضوح يمكن كشفها ومعرفتها، وهي علامات متقاربة نظام كنظام الخرز.

البداء والعلامات الحتمية وغير الحتمية:

وهنا سؤالان:

السؤال الأوَّل: هل يقع البداء في العلامات الحتمية؟ السؤال الثاني: هل يقع البداء في العلامات غير الحتمية ؟

وقبل الشروع في الجواب علىٰ السؤالين، لا بدَّ من بیان مقدَّمة

ذكرها السيد الخوئي قدس سره (2)، قال: (ثمّ إنَّ البداء الذي تقول به الشيعة الإماميَّة إنَّما يقع في القضاء غير المحتوم، أمَّا المحتوم منه فلا يتخلَّف، ولا بدَّ من أن تتعلَّق المشيئة بما تعلَّق به القضاء. وتوضيح ذلك أنَّ القضاء علىٰ ثلاثة أقسام:

أقسام القضاء الإلهي:

الأوَّل: قضاء الله الذي لم يُطلِع عليه أحداً من خلقه، والعلم المخزون

ص: 164


1- کمال الدين: 652/ باب 57/ ح 14
2- البيان في تفسير القرآن: 386 - 391

الذی استأثر به لنفسه، و لا ریب فی أنَّ البداء لایقع فی هذا القسم؛ بل ورد فی روایات کثیرة عن أهل البیت (علیهم السلام)أنَّ البداء إنَّما ینشأ من هذا العلم.

رویٰ الشیخ الصدوق فی (العیون) بإسناده عن الحسن بن محمّد النوفلی أنَّ الرضا (علیه السلام)قال لسلیمان المروزی: «رویت عن أبی عن أبی عبدالله(علیه السلام) أنَّه قال: إنَّ لله علمین علماً مخزوناً مکنوناً، لایعلمه إلَّا هو من ذلک یکون البداء، وعلماً علَّمه ملائکته ورسله، فالعلماء من أهل بیت نبیک یعلمونه...»(1).

ورویٰ الشیخ محمّد بن الحسن الصفّار فی (بصائر الدرجات) بإسناده عن أبی بصیر، عن أبی عبدالله(علیه السلام)، قال: «إنَّ لله علمین: علماً مکنوناً مخزوناً لایعلمه إلَّا هو، من ذلک یکون البداء وعلم علَّمه ملائکته ورسله و أنبیاءه، ونحن نعلمه»(2).

الثانی: قضاء الله الذذی أخبر نبیَّه وملائکته بأنَّه سیقع حتماً، ولا ریب فی أنَّ هذا القسم أیضاً لا یقع فیه البداء، وإن افترق عن القسم الأوَّل، بأنَّ البداء لا ینشأ منه.

قال الرضا (علیه السلام)لسلیمان المروزی - فی الروایة المتقدمة - عن الصدوق: «إنَّ علیّاً (علیه السلام)کان یقول: العلم علمان، فعلم علَّمه الله ملائکته ورسله، فما علمه ملائکته ورسله فإنَّه یکون، ولا یُکذب نفسه، ولا ملائکته، ولا رسله، وعلم عنده مخزون، لم یُطلِع علیه أحداً من خلقه، یقدم منه ما یشاء، و یُؤخر ما یشاء، و یمحو ما یشاء، و یُثبِت ما یشاء»(3).

ورویٰ العیّاشی عن الفضیل، قال: سمعت أبا جعفر(علیه السلام) یقول:

ص: 165


1- عیون أخبار الرضا(علیه السلام) 1 : 160 / ح 1
2- بصائر الدرجات: 129 / ج 2 / باب 21 / ح 2
3- عیون أخبار الرضا(علیه السلام) 1 : 161 و 162 / ح 1

«من الأُمور أُمور محتومة، جائية لا محالة، ومن الأُمور أُمور موقوفة عند الله، يُقدم منها ما يشاء، ويمحو مايشاء، ويُثبِت مايشاء، لم يُطلِع علىٰ ذلك أحداً - يعني الموقوفة - فأمَّا ما جاءت به الرسل، فهي كائنة لا يُكذب نفسه، ولا نبيَّه، ولا ملائكته»(1).

الثالث: قضاء الله الذي أخبر نبيَّه وملائكته بوقوعه في الخارج، إلَّا أنَّه موقوف علىٰ أن لا تتعلَّق مشيئة الله بخلافه. وهذا القسم هو الذي يقع فيه البداء: «يَم۟حُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُث۟بِتُ وَعِن۟دَهُ أُمُّ ال۟كِتابِ (39)» (الرعد: 39)، «لِلّٰهِ ال۟أَم۟رُ مِن۟ قَب۟لُ وَمِن۟ بَع۟دُ» (الروم: 4).

وقد دلَّت علىٰ ذلك روايات كثيرة، منها:

1- ما في (تفسير علي بن إبراهيم)، عن عبد الله بن مسكان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)، قال: «إذا کان ليلة القدر نزلت الملائكة والروح والكتبة إلىٰ سماء الدنيا، فيكتبون ما یکون من قضاء الله تعالىٰ في تلك السنة، فإذا أراد الله أن يُقدم شيئاً أو يُؤخره، أو يُنقِص شيئاً، أمر الملك أن يمحو ما يشاء، ثمّ أثبت الذي أراده».

قلت: وكلُّ شيء هو عند الله مثبت في كتاب ؟ قال: «نعم» . قلت: فأيُّ شيء يكون بعده؟ قال: «سبحان الله، ثمّ يُحدِث الله أيضاً ما يشاء تبارك وتعالىٰ»(2) .

2 - ما في تفسيره أيضاً عن عبد الله بن مسكان، عن أبي جعفر وأبي عبد الله وأبي الحسن(علیهم السلام) في تفسير قوله تعالىٰ: «فّيها يُف۟رَقُ كُلُّ أَم۟رٍ

ص: 166


1- تفسير العياشي 2: 217/ ح 65
2- تفسير القمي 1: 366 و367

حَكِيمٍ (4)» (الدخان: 4): «أي یُقدر الله كلَّ أمر من الحق ومن الباطل، وما يكون في تلك السنة، وله فيه البداء والمشيئة. يُقدم ما يشاء ويُؤخر ما يشاء من الآجال والأرزاق والبلايا والأعراض والأمراض، ويزيد فيها ما يشاء ويُنقِص ما يشاء...»(1).

3- ما في كتاب (الاحتجاج) عن أمير المؤمنين(علیه السلام) أنَّه قال: «لولا آية في كتاب الله، لأخبرتكم بما کان وبما یکون وبا هو كائن إلىٰ يوم القيامة، وهي هذه الآية: «يَم۟حُوا اللهُ» [الرعد: 39]»(2).

وروىٰ الصدوق في (الأمالي) و(التوحید) بإسناده عن الأصبغ عن أمير المؤمنين (علیه السلام)، مثله(3).

4 - ما في (تفسير العيّاشي)، عن زرارة، عن أبي جعفر (علیه السلام)، قال: «كان عليُّ بن الحسين (علیه السلام)يقول: لولا آية في كتاب الله لحدَّثتكم بما یکون إلىٰ يوم القيامة».

فقلت: أيَّة آية؟ قال: «قول الله: «يَم۟حُوا اللهُ»»(4).

5 - مافي (قرب الإسناد)، عن البزنطي، عن الرضا (علیه السلام)، قال: «قال أبو عبد الله، وأبو جعفر، وعليُّ بن الحسين، والحسين بن عليٍّ، والحسن بن عليٍّ، وعليُّ بن أبي طالب (علیهم السلام): لولا آية في كتاب الله لحدَّثنا كم بها يكون إلىٰ أن تقوم الساعة: «يَم۟حُوا اللهُ ...»»(5).

ص: 167


1- تفسير القمي 2: 290
2- الاحتجاج 1: 384
3- أمالي الصدوق: 423/ ح ( 1/560)؛ التوحيد: 305 ح 1
4- تفسير العيّاشي 2: 215/ ح 59
5- قرب الإسناد: 353 و 354/ ح 1266

إلىٰ غير ذلك من الروايات الدالّة علىٰ وقوع البداء في القضاء الموقوف.

وخلاصة القول: أنَّ القضاء الحتمي المعبَّر عنه باللوح المحفوظ، وبأُم الكتاب، والعلم المخزون عند الله عزوجل يستحيل أن يقع فيه البداء. وكيف يُتصوَّر فيه البداء؟ وأنَّ الله سبحانه وتعالىٰ عالم بجميع الأشياء منذ الأزل، لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّة في الأرض ولا في السماء.

روىٰ الصدوق في (إكمال الدين) بإسناده عن أبي بصير وساعة، عن أبي عبد الله(علیه السلام) قال: «من زعم أنَّ الله عزوجل يبدو له في شيء لم يعلمه أمس فابر أوا منه»(1).

وروىٰ العياشي عن ابن سنان، عن أبي عبد الله (علیه السلام)يقول: «إنَّ الله يُقدم ما يشاء، ويُؤخر مايشاء، ويمحو مايشاء، ويُثبِت مايشاء وعنده أُمُّ الكتاب»، وقال: «فكلُّ أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يصنعه، ليس شيء يبدو له إلَّا وقد كان في علمه، إنَّ الله لا يبدو له من جهل»(2).

وروىٰ أيضاً عن عمّار بن موسىٰ، عن أبي عبد الله(علیه السلام) : سُئِلَ عن قول الله: «يَم۟حُوا اللهُ ...»، قال: «إنَّ ذلك الكتاب كتاب يمحو الله ما يشاء ويُثبِت، فمن ذلك الذي يردُّ الدعاء القضاء، وذلك الدعاء مكتوب عليه الذي يردُّ به القضاء، حتَّىٰ إذا صار إلىٰ أُم الكتاب لم يغن الدعاء فيه شيئاً» (3) .

ص: 168


1- کمال الدين: 70
2- تفسير العيّاشي 2: 218/ ح 71
3- تفسير العيّاشي 2: 220/ ح 74

وروىٰ الشيخ الطوسي في كتاب (الغيبة) بإسناده عن البزنطي، عن أبي الحسن الرضا (علیه السلام)، [قال]: «قال عليُّ بن الحسين، وعليُّ بن أبي طالب قبله، ومحمّد بن عليٍّ وجعفر بن محمّد: كيف لنا بالحديث مع هذه الآية: «يُم۟حُوا اللهُ ...»، فأمَّا من قال بأنَّ الله تعالىٰ لا يعلم الشيء إلَّا بعد كونه فقد کفر وخرج عن التوحيد»(1).

والروايات المأثورة عن أهل البيت (علیهم السلام)أنَّ الله لم يزل عالماً قبل أن يخلق الخلق، فهي فوق حد الإحصاء، وقد اتَّفقت علىٰ ذلك كلمة الشيعة الإماميَّة طبقاً لكتاب الله وسُنَّة رسوله جرياً علىٰ ما يقتضيه حكم العقل الفطري الصحيح).

إذا اتَّضح ذلك، نجيب علىٰ السؤالين: أمَّا السؤال الأوَّل: هل يقع البداء في العلامات المحتومة؟

الجواب: علىٰ ضوء ما تقدَّم من كلام السيد الخوئي قدس سره، فالقضاء الحتمي الذي يُخبِر به الأنبياء والأوصياء لا يقع فيه البداء؛ لئلَّا يلزم من وقوعه تكذيبهم.

وأمَّا السؤال الثاني: هل يقع البداء في العلامات غير الحتمية؟

الجواب: نعم قد يقع البداء في العلامات غير الحتمية، وهذا

يتَّضح بالالتفات إلىٰ أمر، وهو أنَّ العلَّة التامَّة تتركَّب من أُمور ثلاثة :

1 - المقتضي. 2 - تحقُّق الشرط. 3 - انتفاء المانع. فإذا وُجِدَ المقتضي وتحقَّق الشرط وارتفع المانع وُجِدَ معلول

ص: 169


1- الغيبة للطوسي: 430/ ح 420

تلك العلَّة، وبانتفاء واحد من هذه الثلاثة فإنَّ المعلول لا يقع لعدم وجود علَّته التامَّة.

ولو أنَّ شخصاً أخبر عن المقتضي، فإنَّ إخباره عن المقتضي لا يعني الإخبار عن العلَّة التامَّة، مثلاً: لو أنَّ مهندساً أخبرك بأنَّ البناء المحكم الذي بناه في القرب من الشاطئ سيظلُّ بنياناً محكماً قويّاً إلىٰ خمسين سنة، ثمّ جاء فيضان قوي وهدمه، فإنَّ هذا لا ينافي كلام المهندس؛ لأنَّه أخبر عن المقتضي، ولم يُخبِر عن العوارض الأُخرىٰ التي قد تعرض علىٰ البنيان فتهدمه، فكأنَّه يقول: لو أنَّ هذا البنيان خُلّي ونفسه من غير تلك العوارض الهادمة لبقي بناءً صلباً متيناً قويّاً لا يهدمه شيء.

والكلام هو الكلام فيما نحن فيه، فإنَّ الله سبحانه وتعالىٰ أخبر نبيَّه أو حجَّته بأن يوصل للناس بأنَّ العلامة الكذائية ستقع، أي إنَّها لو خُلّیت و نفسها لوقعت؛ ولكن إذا وُجِدَ مانع من وقوعها كالدعاء والصدقة فإنَّها لا تقع.

وبعبارة أُخرىٰ: إنَّ هذا الإخبار منه تعالىٰ هو إخبار بالنحو الموقوف لا المحتوم، أي: هذه العلامة ستقع لو لم يوجد المانع؛ ولكن إن وُجِدَ مانع من وقوعها فإنَّها لن تقع.

وبناءً علىٰ ذلك يتَّضح كيف يجري البداء في غير المحتوم.

إشكال وردُّه:

قد يُشكِل علىٰ عدم وقوع البداء في المحتوم برواية، وهي:

کنّا عند أبي جعفر محمّد بن عليٍّ الرضا (علیه السلام)، فجرىٰ ذكر السفياني، وما جاء في الرواية من أنَّ أمره من المحتوم، فقلت لأبي جعفر: هل يبدو لله في المحتوم؟

ص: 170

قال: «نعم». قلنا له: فنخاف أن يبدو لله في القائم. فقال: «إنَّ القائم من الميعاد،والله لا يُخلِف الميعاد»(1).

وقد أجاب العلَّامة المجلسي عن هذا التعارض، فأفاد بأنَّ المراد من تحقُّق البداء هو تحقُّقه في تفاصيل العلامات لا أصلها»(2).

بقي ثلاثة أشياء:

الأوَّل: هل يُعذَر المخالف إذا لم ينقَد لصيحة الحق باعتبار أنَّها لم تُروَ عنده ولم يطَّلع عليها؟

الحقُّ أنَّه لا يُعذَر؛ لأنّ عدم علم المخالف سببه هو وليس الله تبارك وتعالىٰ.

وبعبارة أُخرىٰ: عدم علمه ناشئ عن تقصير لا قصور، فلا يُعذَر من كان هذا حاله؛ لأنَّ الأصل الأوَّلي في كل إنسان أن يبحث عن الحق بنيَّة صادقة وإخلاص، وبغرض الوصول إليه.

نعم، من یکون جهله قصوریاً یکون معذوراً علىٰ ما حرَّره الأعلام في الأُصول.

الثاني: عرفنا أنَّ التوقيت لا يجوز، فماذا عن التوقّع؟

الجواب: التوقّع مختلف في معناه عن التوقيت، فإنَّ التوقّع مجرَّد احتمال، وأمَّا التوقيت فليس كذلك، وعليه فلا مانع من التوقّع والتطلّع والمانع في الأخبار الشريفة خاصٌّ بالتوقيت.

ص: 171


1- الغيبة للنعماني: 314 و315/ باب 18/ ح 10
2- قال قدس سره في بحار الأنوار 251:52 / ذيل الحديث 138: (ثمّ إنَّه يحتمل أن يكون المراد بالبداء في المحتوم البداء في خصوصياته لا في أصل وقوعه كخروج السفياني قبل ذهاب بني العبّاس ونحو ذلك)

الثالث: هل يجوز الإتيان بالموبقات بغرض تعجيل الفرج؟

الجواب: إنَّ الإتيان بالموبقات من أعظم المحرَّمات في الشريعة، ولا يجوز بحالٍ، ونحن مأمورون في عصر الغيبة بمعرفة إمام زماننا (علیه السلام)، والتحلّي بمكارم الأخلاق، والورع والاجتهاد في العبادة، والحزم في الدين، والاتصاف بكل فضيلة نفسانية مع توطين النفس علىٰ الصبر علىٰ البلاء.

فعن عمرو بن أبان، قال: سمعت أبا عبد الله (علیه السلام)يقول: «اعرف العلامة، فإذا عرفته لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر، إنَّ الله عزوجل يقول:

«يَو۟مَ نَد۟عُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم۟» [الإسراء: 71]، فمن عرف إمامه كان کمن كان في فسطاط المنتظر(علیه السلام)»(1).

وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله أنَّه قال ذات يوم: «ألَا أُخبركم بما لا يقبل الله من العباد عملاً إلَّا به؟».

فقلت: بلىٰ.

فقال: «شهادة أن لا إله إلَّا الله، وأنَّ محمّداً عبده، والإقرار بما أمر الله، والولاية لنا، والبراءة من أعدائنا – يعني الأئمَّة خاصَّة -، والتسليم لهم، والورع والاجتهاد والطمأنينة، والانتظار للقائم».

ثمّ قال: «إنَّ لنا دولة يجيء الله بها إذا شاء».

ثمّ قال: «من سرَّه أن يكون من أصحاب القائم فلينتظر وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق وهو منتظر، فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدركه، فجدّوا وانتظروا، هنيئاً لكم أيَّتها العصابة المرحومة» (2).

ص: 172


1- الكافي 1: 372/ باب أنَّه من عرف إمام لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 7؛ الغيبة للنعماني : 352/ باب 25/ ح 6
2- الغيبة للنعماني: 207/ باب 11/ ح 16

وفي هذا الحديث الشريف نلاحظ أمرين:

الأوَّل: أنَّ لفظة الانتظار قد کُررت باشتقاقات مختلفة في هذا الحديث الشريف، ففي بادئ الأمر جاءت كلمة: «والانتظار للقائم»، ثمّ «فلينتظر ولیعمل»، ثمّ «بالورع و محاسن الأخلاق وهو منتظر»، ثمّ «فجدّوا وانتظروا»، فهنالك حثٌّ علىٰ الانتظار بحيث أنَّ المنتظر یُوطن نفسه من جميع الجهات والحيثيات للقاء الإمام (علیه السلام)، ويصبر علىٰ ما يريده أهل البيت (علیهم السلام)منه.

الثاني: أنَّ الحصول علىٰ الأجر حال الانتظار غیر مشروط بخروج الإمام (علیه السلام)؛ لأنَّ الرواية تقول: «فإن مات وقام القائم بعده كان له من الأجر مثل أجر من أدرکه».

ويدلُّ علىٰ ذلك أيضاً ما رواه الكليني قدس سره:

الرواية الأولىٰ: عن حريز، عن زرارة، قال: قال أبو عبد الله (علیه السلام):

«اعرف إمامك فإنَّك إذا عرفت لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر»(1).

الرواية الثانية: عن الفضيل بن يسار، قال: سألت أبا عبد الله (علیه السلام)عن قول الله تبارك وتعالىٰ: «يَو۟مَ نَد۟عُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِم۟» [الإسراء: 71]، فقال: «يا فضیل، اعرف إمامك، فإنَّك إذا عرفت إمامك لم يضرّك تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر، ومن عرف إمامه ثمّ مات قبل أن يقوم صاحب هذا الأمر كان بمنزلة من كان قاعداً في عسكره، لا بل بمنزلة من قعد تحت لوائه»، قال: وقال بعض أصحابه: بمنزلة من استشهد مع رسول الله(صلی الله علیه و اله) (2).

ص: 173


1- الكافي 1: 371/ باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 1
2- الكافي 1: 371/ باب أنَّه من عرف إمامه لم يضرّه تقدَّم هذا الأمر أو تأخَّر/ ح 2

فالمطلوب من بادئ الأمر معرفة الإمام ولو بصورة ما كما هو حال معرفتنا به (علیه السلام)، ويكفي لتحقُّق المعرفة أن تعرف أنَّه الإمام الحجَّة بن الحسن العسكري(علیه السلام) المفترض الطاعة الذي غيَّبه الله سبحانه وتعالىٰ، والذي سيُظهِره في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً وقسطاً.

وأمَّا أجر المنتظرین وثوابهم فمذكور في عدَّة روایات، منها رواية أبي خالد الكابلي، عن الإمام زین العابدین (علیه السلام): «ثمّ تمتدُّ الغيبة بولی الله الثاني عشر من أوصياء رسول الله والأئمَّة بعده. يا أبا خالد، إنَّ أهل زمان غيبته القائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره أفضل أهل كل زمان؛ لأنَّ الله تعالىٰ ذكره أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ماصارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله بالسيف، أُولئك المخلصون حقّاً وشيعتنا صدقاً، والدعاة إلىٰ دين الله سرّاً وجهراً». وقال (علیه السلام): «انتظار الفرج من أعظم الفرج»(1) .

وخلاصة المقال في مثل المقام: إنَّ المنتظّر بحاجة إلىٰ إعداد نفسه لاستقبال خروج الإمام (علیه السلام)، حتَّىٰ يكون مؤهَّلاً للدخول في دائرة أنصاره وأتباعه الذين لا ينكثون ولا يتراجعون، وهذا يوجب التحلّي بجملة من الصفات والتخلّي عن الرذائل کما ورد في الروايات الشريفة، فإن حقَّق ذلك كان منتظِراً حقيقياً وإلَّا فلا.

ص: 174


1- الاحتجاج 2: 50

تنبيهات

اشارة

• التنبيه الأوَّل: العلَّة من وجود غیبتين.

• التنبيه الثاني: بحث حول التوقيعات.

• التنبيه الثالث: تساؤلات حول جعفر.

• التنبيه الرابع: السرداب واتهام المؤرخين.

• التنبيه الخامس: وقفة مع منشأ المنع من لطف الإمام (علیه السلام).

ص: 175

ص: 176

التنبيه الأوّل العلّة من وجود غيبتين
اشارة

ولعلَّك تسأل: ما هي العلَّة من وجود غیبتين لصاحب العصر والزمان (علیه السلام)صغرىٰ وكبرىٰ ؟ فلماذا لا يكون الاقتصار علىٰ واحدة؟

والجواب عن ذلك: أنَّ العقل البشري قاصر عن إدراك حقائق الأُمور، وما وراء الغيب إلَّا أن يأتينا شيء ممَّن يُخبِرون عن الله سبحانه وتعالىٰ بطريق صحيح، وهم الأنبياء والرسل والأئمَّة(علیهم السلام) ، وبدون ذلك لا نعلم علَّة ما نحن فيه، ولا سبيل للقطع بشيء؛ ولكن الذي نعلمه أنَّ الله تبارك وتعالىٰ حكيم عليم، لا يفعل شيئاً عبثاً ولغواً، فلا شکَّ عندنا حينئذٍ بأنَّ لغيبته علَّة وحكمة، وأنَّ خفاءها عنّا لا يعني انعدامها.

ومع ذلك فقد تُذكر بعض الوجوه - دون القطع بشيء منها - لبيان وجه الحكمة:

الوجه الأوَّل:

الخطر المحدق بالإمام (علیه السلام)وبشيعته في ذلك الوقت؛ فإنَّ الغيبة الصغرىٰ كانت مقدَّمة توعوية للغيبة الكبرىٰ، بمعنىٰ: أنَّ الغرض من الغيبة الصغرىٰ هو تأهيل الأُمَّة وتوعيتها إلىٰ غيبة لم يُسبَق لها نظير في حجج الله تبارك وتعالىٰ؛ لتصل إلىٰ درجة من الوعي والكمال تستطيع من

ص: 177

خلاله تقبُّل غيبة حجَّة الله طوال هذه الفترة بعد اعتیادها علىٰ وجود الحجَّة ظاهراً معروفاً بين الناس، وتستطيع من خلال ذلك الاعتماد علىٰ نفسها وعلىٰ علمائها لتدبير شؤونهم الدينية، وسيأتي ما يزيد توضيح هذه النقطة.

الوجه الثاني:

إنَّ المستقرئ للظروف والملابسات التي احتفَّت بزمان الإمام الهادي والعسكري (علیهم السلام)وشدَّة الجور الذي وقع عليهما يُدرِك تماماً أنَّ السلطة العبّاسية في ذلك الوقت كانت تسعىٰ جادَّة للبحث عن الإمام المهدي لقتله والتخلُّص منه، وبما أنَّ التمهيد للغيبة الكبرىٰ التامَّة يحتاج إلىٰ خطوات تكميلية فلا بدَّ من مرحلة وسطىٰ بين الظهور والغياب التامّ، والمرحلة الوسطىٰ هي الغيبة الصغرىٰ.

ويمكن ذكر عدَّة شواهد علىٰ الخطر المحدق بالإمام (علیه السلام)ومبدأ الإمامة بشكل عامّ:

الشاهد الأوَّل:

إجبار الإمام الهادي (علیه السلام)وإكراهه علىٰ الخروج من مدينة جده رسول الله(صلی الله علیه و اله) إلىٰ سامراء؛ لأجل إخضاعه تحت السيطرة والمراقبة الدائمة والشديدة، تحسّباً وترقّباً لولادة حفيده المهدي (علیه السلام)، والذي أجبر الإمام الهادي علىٰ ذلك آنذاك هو الخليفة العبّاسي المتوكل الذي شهد المؤرخون بشدَّة عداوته لأهل بيت النبوَّة (علیه السلام)، قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: (وفي سنة ستّ وثلاثين: هدم المتوکل قبر الحسين ، فقال البسامي أبياتاً منها:

ص: 178

أسفوا علىٰ أن لا يكونوا شار

كوا في قتله فتتبَّعوه رمیماً

وكان المتوکل فيه نصب وانحراف، فهدم هذا المكان، وما حوله من الدور، وأمر أن يُزرَع، ومنع الناس من انتیابه)(1).

ومن شواهد نصبه، ما ذكره الذهبي أيضاً: (ويُروىٰ أنَّ المتوکل نظر إلىٰ ابنيه المعتزّ والمؤيَّد، فقال لابن السكّيت : من أحبُّ إليك هما، أو الحسن والحسين؟ فقال: بل قنبر. فأمر الأتراك، فداسوا بطنه، فيات بعد يوم)(2).

هذه هي الفترة التي عاصرها الإمام الهادي (علیه السلام).

الشاهد الثاني:

ما رواه الشيخ الصدوق قدس سره في (كمال الدين): عن موسیٰ بن جعفر بن وهب البغدادي أنَّه خرج من أبي محمّد (علیه السلام)توقيع: «زعموا أنَّهم يريدون قتلي ليقطعوا هذا النسل، وقد كذَّب الله عزوجل قولهم، والحمد لله»(3) .

الشاهد الثالث:

ما رواه الشيخ الكليني قدس سره من وجود جواسيس علىٰ دار الإمام العسكري (علیه السلام)في سامراء بعد مرضه من السُّم حتَّىٰ يراقبوا الأوضاع:

(لمَّا اعتلَّ بُعِثَ إلىٰ أبي أنَّ ابن الرضا قد اعتلَّ، فركب من ساعته، فبادر إلىٰ دار الخلافة، ثمّ رجع مستعجلاً ومعه خمسة من خدم أمير المؤمنين كلُّهم من ثقاته وخاصَّته، فيهم نحرير، فأمرهم بلزوم دار الحسن وتعرُّف خبره وحاله، وبعث إلىٰ نفر من المتطببين، فأمرهم بالاختلاف إليه، وتعاهده صباحاً ومساءً، فلمَّا كان بعد ذلك بيومين أو

ص: 179


1- سير أعلام النبلاء445:9 و446
2- سير أعلام النبلاء 9: 437
3- کمال الدين: 407/ باب 38/ ح 3

ثلاثة أخبر أنَّه قد ضعف، فأمر المتطببين بلزوم داره، وبعث إلىٰ قاضي القضاة، فأحضره مجلسه، وأمره أن يختار من أصحابه عشرة ممَّن يُوثَق به في دينه وأمانته وورعه، فأحضرهم فبعث بهم إلىٰ دار الحسن، وأمرهم بلزومه ليلاً ونهاراً، فلم يزالوا هناك حتَّىٰ توفّي (علیه السلام)، فصارت سُرَّ من رأىٰ ضجَّة واحدة، وبعث السلطان إلىٰ داره من فتَّشها، وفتَّش حجرها، وختم علىٰ جميع ما فيها، وطلبوا أثر ولده، وجاؤوا بنساء يعرفن الحمل....).

إلىٰ أن يقول في آخر الرواية: (والسلطان يطلب أثر ولد الحسن بن عليٍّ)(1).

الشاهد الرابع:

وجود اضطراب في الدولة العبّاسية آنذاك بعد علمها بولادة الإمام المهدي (علیه السلام)، ووجود شيعة له يعتقدون بوجوده، وقد حدَّثنا عن ذلك الشيخ المفيد قدس سره في (الإرشاد)، فقال:

(و کان قد أخفىٰ مولده وستر أمره، لصعوبة الوقت، وشدَّة طلب سلطان الزمان له، واجتهاده في البحث عن أمره، ولما شاع من مذهب الشيعة الإماميَّة فيه، وعُرِفَ من انتظارهم له، فلم يُظهِر ولده(علیه السلام) في حياته، ولا عرفه الجمهور بعد وفاته)(2).

الشاهد الخامس:

المداهمات لدار الإمام العسكري (علیه السلام)؛ لأجل البحث عن الإمام المهدي (علیه السلام).

ص: 180


1- الكافي 1: 503 - 506/ باب مولد أبي محمد الحسن بن عليٍّ (علیهم السلام)/ ح 1
2- الإرشاد 2: 336

روىٰ الصدوق عن أبي الحسين الحسن بن وجناء يقول: حدَّثنا أبي، عن جده، أنه كان في دار الحسن بن عليٍّ (علیهما السلام)، فكبستنا الخيل، وفيهم جعفر بن عليٍّ الكذّاب، واشتغلوا بالنهب والغارة، وكانت همَّتي في مولاي القائم (علیه السلام).

قال: فإذا (أنا) به(علیه السلام) قد أقبل، وخرج عليهم من الباب، وأنا أنظر إليه، وهو(علیه السلام) ابن ستّ سنين، فلم يرَه أحد حتَّىٰ غاب(1).

هذه الشواهد كلُّها تدلُّ علىٰ أنَّ الأوضاع والظروف المحيطة بأهل البيت آنذاك كانت تقتضي وجود غيبة للإمام (علیه السلام).

ص: 181


1- کمال الدين: 473/ باب 43/ ح 25
التنبيه الثاني حول التوقيعات التي صدرت من صاحب الزمان (علیه السلام)
اشارة

والبحث في التوقيعات يقع في جهات ثلاث:

الجهة الأولى: ما هو المقصود من التوقيعات؟

التوقيعات الشريفة: هي مجموعة رسائل صدرت من الإمام (علیه السلام)لشيعته، وفيها جملة من الأُمور المهمَّة التي يحتاجونها في أمر دينهم ودنياهم، سواء ابتدؤوه بالسؤال فجاءهم الجواب فيها، أو هو (علیه السلام)يبتدئ بالإجابة علىٰ ما تضمره نفوس المؤمنين من أسئلة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالىٰ.

وقد كانت هذه التوقيعات الشريفة، بمثابة الوسيلة للتواصل العلمي والديني بين الإمام وشيعته، إذ لولاحظنا الأئمَّة المتقدمين، من أبيه إلىٰ أمير المؤمنين (علیهم السلام)، لوجدنا أنَّهم كانوا يعيشون مع الناس، ويجيبون علىٰ استفتاءاتهم بالمباشرة، فوصلت الروايات عنهم، وكُتبت الأُصول والمصنَّفات من تلامذتهم، ولم يكن ذلك إلَّا نتيجة توفّر الفرص لمقابلتهم والتواصل معهم والأخذ عنهم مشافهةً، إلَّا في بعض الحالات الاستثنائية التي اقتضت فيها ظروف الأئمَّة (علیهم السلام)إلىٰ اللجوء إلىٰ المكاتبات والمراسلات، كظرف السجن الذي حصل للإمام موسىٰ الكاظم (علیه السلام)، حيث كان يتَّصل مع أصحابه عن طريق المكاتبات،

ص: 182

وهكذا في ظرف الإمامين الحادي والعسكري (علیهما السلام)، نتيجة الإقامة الجبرية التي فرضتها عليهم السلطات الجائرة آنذاك.

والأمر كذلك في بقيَّة الله (علیه السلام)، حيث اقتضت ظروف الغيبة هذا النوع من الاتصال بشيعته، وقد سُمّيت هذه المكاتبات بالتوقيعات.

الجهة الثانية: أقسام التوقيعات من جهة المضمون:
اشارة

تنقسم التوقيعات الشريفة من جهة مضمونها إلىٰ أربعة أقسام:

القسم الأوَّل: التوقيعات الفقهية:

وهي التوقيعات التي كان مضمونها مشتملاً علىٰ بيان الأحكام الشرعية.

منها: ما ذكره في الوسائل: وبإسناده عن أبي الحسين محمّد بن جعفر الأسدي أنَّه ورد عليه فيما ورد من جواب مسائله عن محمّد بن عثمان العمري (قدَّس الله روحه): «وَأمَّا مَا سَأل۟تَ عَن۟ الصَّلاَةِ عِن۟دَ طُلُوع الشَّم۟س وَعِن۟دَ غُرُوبهَا، فَلَئِن۟ کانَ کَمَا يَقُولُونَ: إِنَّ الشَّم۟سَ تَط۟لُعُ بَي۟ن قَر۟نَي۟ شَي۟طَانٍ وَتَغ۟رُبُ بَي۟نَ قَر۟نَي۟ شَي۟طَانٍ، فَمَا اُر۟غِمَ أن۟فُ الشَّي۟طَان بِشَي۟ءٍ مِث۟ل الصَّلاَةِ، فَصَلهَا، وَأر۟غِم۟ أن۟فَ الشَّي۟طَان»(1).

ورواه الشيخ بإسناده عن محمّد بن علي بن الحسين بن بابویه، مثله (2).

ورواه الطبرسي في (الاحتجاج) عن أبي الحسن محمّد بن جعفرالأسدي(3).

ص: 183


1- وسائل الشيعة 4: 236 و 237/ ح (5023/ 8)
2- الغيبة للطوسی: 296 / ح 250
3- الاحتجاج 2: 298

ورواه الصدوق في (إكمال الدين وإتمام النعمة) عن محمّد بن أحمد الشيباني وعلي بن أحمد بن محمّد الدقّاق والحسين بن إبراهيم المؤدّب وعلي بن عبد الله الورّاق رضی الله عنه، قالوا: حدَّثنا أبو الحسين محمّد بن جعفر الأسدي، قال: كان فيها ورد من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري في جواب مسائلي إلىٰ صاحب الدار (علیه السلام)، وذكر الحديث بعينه(1).

ومنها: ما في الاحتجاج: «وَأمَّا مَا سَأل۟تَ عَن۟هُ مِن۟ أم۟ر المَو۟لُودِ الَّذِي نَبَتَت۟ غُل۟فَتُهُ بَع۟دَمَا یُخ۟تَنُ مَرَّةً أُخ۟رَىٰ، فَإنَّهُ يَجِبُ أن۟ يُق۟طَعَ غُل۟فَتُهُ فَإنَّ الأَر۟ضَ تَضِجُّ إِلَى الله تَعَالىٰ مِن۟ بَو۟ل الأَغ۟لَفِ أر۟بَعِينَ صَبَاحاً»(2).

القسم الثاني: التوقيعات العقائدية :

وهي التوقيعات التي تحمل مضامين عقائدية.

منها: عن أبي الحسن علي بن أحمد الدلّال القمّي، قال: اختلف جماعة من الشيعة في أنَّ الله عزوجل فوَّض إلىٰ الأئمَّة صلوات الله عليهم أن يخلقوا ويرزقوا، فقال قوم: هذا محال لا يجوز علىٰ الله تعالىٰ، لأنَّ الأجسام لا يقدر علىٰ خلقها غير الله عزوجل. وقال آخرون: بل الله أقدر الأئمَّة علىٰ ذلك وفوَّض إليهم فخلقوا ورزقوا. وتنازعوا في ذلك نزاعاً شديداً، فقال قائل: ما بالكم لا ترجعون إلىٰ أبي جعفر محمّد بن عثمان فتسألوه عن ذلك ليُوضح لكم الحقَّ فيه؟ فإنَّه الطريق إلىٰ صاحب الأمر، فرضيت الجماعة بأبي جعفر وسلَّمت وأجابت إلىٰ قوله، فكتبوا المسألة وأنفذوها إليه، فخرج إليهم من جهته توقیع، نسخته:

«إنَّ الله تعالىٰ هو الذي خلق الأجسام، وقسَّم الأرزاق؛ لأنَّه ليس

ص: 184


1- کمال الدين: 520/ باب 45/ ح 49
2- الاحتجاج 2: 299

بجسم ولا حالّ في جسم، ليس كمثله شيء، وهو السميع البصير. وأمَّا الأئمَّة ، فإنَّهم يسألون الله تعالىٰ فيخلق، ويسألونه فيرزق، إيجاباً لمسألتهم، وإعظاماً لحقهم»(1).

القسم الثالث: التوقيعات الرجالية:

ونريد بها: التوقيعات التي صدرت من الإمام (علیه السلام)لتمييز الرجال وبيان ضلال بعضهم وفساده وكذبه، ووثاقة البعض وعلو مقامه وصلاحه.

ونذكر توقيعين صدرا من الناحية المقدَّسة عن طريق الحسين بن روح قدس سره:

التوقيع الأوَّل: (... وكذا کان أبو طاهر محمّد بن علي بن بلال، والحسين بن منصور الحلّاج، ومحمّد بن عليٍّ الشلمغاني المعروف بابن أبي العزاقري لعنهم الله، فخرج التوقيع بلعنهم والبراءة منهم جميعاً، علىٰ يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح، ونسخته:

«عَرف۟ أطَالَ اللهُ بَقَاءَکَ، وَعَرَّفَکَ اللهُ ال۟خَي۟رَ کُلَّهُ، وَخَتَمَ بِهِ عَمَلَکَ، مَن۟ تَثِقُ بِدِینهِ وَتُس۟کُنُ إِلَىٰ نِيَّتِهِ مِن۟ إِخ۟وَانِنَا أدَامَ اللهُ سَعَادَتَهُم۟، بِأنَّ مُحَمَّدَ ب۟نَ عَلِيٍّ ال۟مَعرُوفَ بِالشَّل۟مَغَانِيّ عَجَّلَ اللهُ لَهُ النَّقِمَةَ وَلاَ أم۟هَلَهُ، قَدِ ار۟تَدَّ عَن الإس۟لاَم وَفَارَقَهُ وَأل۟حَدَ فِي دِين الله، وَادَّعَىٰ مَاکَفَرَ مَعَهُ بِال۟خَالِقِ جَلَ وَتَعَالَىٰ، وَافتَرَیٰ کَذِباً وَزُوراً، وَقَالَ بُه۟تَاناً وإِث۟ماً عَظِيماً، کَذَبَ ال۟عَادِلُونَ بِاللهِ وَضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً، وَخَسِرُوا خُس۟راناً مُبِيناً.

وَإِنَّ بَرئ۟نَا إِلَىٰ الله تَعَالَىٰ وَإِلَىٰ رَسُولِهِ صَلَوَاتُ الله وَسَلاَمُهُ وَرَح۟مَتُهُ وَبَرَكَاتُهُ [عَلَي۟هِ] مِن۟هُ وَلَعَنَّاهُ، عَلَي۟هِ لَعَائِنُ اللهِ تَت۟رَيٰ، فِي الظَّاهِر مِنَّا وَال۟بَاطِن،

ص: 185


1- الاحتجاج 2: 284 و 285

فِي السَّر وال۟جَه۟ر، وَفِي كُل وَق۟تٍ وَعَلَىٰ کُل حَالٍ، وَعَلَىٰ مَن۟ شَایَعَهُ وَتَابَعَهُ وَبَلَغَهُ هَذَا ال۟قَو۟لُ مِنَّا فَأقَامَ عَلَى تَوَليهِ بَع۟دَهُ.

أع۟لِم۟هُم۟ تَوَلَّاکُمُ اللهُ أنَّنَا فِي التَّوَقّي وَالمُحَاذَرَةِ مِن۟هُ عَلَىٰ مِث۟ل مَا کُنَّا عَلَي۟هِ مِمَّن۟ تَقَدَّمَهُ مِن۟ نُظَرَائِهِ مِنَ السَّريعِي وَالنُّمَي۟ري وَال۟هِلاَلي وَال۟بِلاَلي وَغَي۟رهِم۟.

وَعَادَةُ الله جَلَّ ثَنَاؤُهُ مَعَ ذَلِکَ قَب۟لَهُ وَبَع۟دَهُ عِن۟دَنَا جَمِيلَةٌ، وَبِهِ نَثِقُ وَإِيَّاهُ نَس۟تَعِينُ، وَهُوَ حَس۟بُنَا فِي کُل أُمُورنَا وَنع۟مَ ال۟وَكِيلُ»(1).

التوقيع الثاني: أخبرنا جماعة، عن أبي الحسن محمّد بن أحمد بن داود القمّي، قال: وجدت بخط أحمد بن إبراهيم النوبختي، وإملاء أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه، علىٰ ظهر كتاب فيه جوابات ومسائل أُنفذت من قم يسأل عنها، هل هي جوابات الفقيه (علیه السلام)أو جوابات محمّد بن عليٍّ الشلمغاني؛ لأنَّه حكي عنه أنَّه قال: هذه المسائل أنا أجبت عنها، فكتب إليهم علىٰ ظهر کتابهم:

«بِس۟م الله الرَّح۟من الرَّحِيم، قَد۟ وَقَف۟نَا عَلَىٰ هَذِهِ الرُّق۟عَةِ وَمَا تَضَمَّنَت۟هُ ، فَجَمِيعُهُ جَوَابُنَا عَن۟ المَسائِلِ، وَلَا مَد۟خَلَ لِل۟مَخ۟ذُول الضَّال المُضِل المَع۟رُوفِ بِال۟عَزَاقِري لَعَنَهُ اللهُ فِي حَر۟فٍ مِن۟هُ، وَقَد۟ كَانَت۟ أش۟يَاءُ خَرَجَت۟ إِلَي۟کُم۟ عَلَىٰ يَدَي۟ أح۟مَدَ ب۟ن هِلاَلٍ وَغَي۟رهِ مِن۟ نُظَرَائِهِ، وَكَانَ مِن ار۟تِدَادِهِم۟ عَن الإس۟لاَم مِث۟لُ مَا كَانَ مِن۟ هَذَا، عَلَي۟هِم۟ لَعَنَةُ الله وَ غَضَبُهُ»(2).

القسم الرابع: التوقيعات التي يُبين فيها الإمام (علیه السلام)كيفية استنباط الأحكام الشرعية:

فقد أورد الشيخ الطبرسي قدس سره توقيعاً طويلاً بيَّن فيه الإمام بعض

ص: 186


1- الاحتجاج 2: 290
2- الغيبة للطوسي: 373/ ح 345

المسائل الفقهية بشكل تفصيلي؛ بل بيَّن الإمام المهدي (علیه السلام)في بعضها طريقة الاستنباط في حال تعارض الأخبار الواردة إلينا وكيفية حل التعارض، فإنَّ إجابات الإمام(علیه السلام) تارة تكون لعامَّة الناس، وأُخرىٰ خاصَّة لمن استفتاه، وثالثة لخصوص الفقهاء، وهذا المورد الذي بيَّن فيه طريقة الاستنباط هو من قبيل القسم الثالث الخاصّ بالفقهاء، فالفقيه هو الذي يتعامل مع الأخبار وتعارضها وطريقة الجمع بينها.

والتعارض من مهمّات مسائل علم الأُصول، لذا نجد أنَّ الأُصولي يبحث بحثاً مفصَّلاً في التعارض وأقسامه المستقرّ وغير المستقرّ، وكيفية حل التعارض بين الأخبار.

مثل: كتاب آخر لمحمّد بن عبد الله الحميري أيضاً إليه(علیه السلام) في مثل ذلك: فرأيك أدام الله عزَّك في تأمّل رقعتي والتفضّل بما أسأل من ذلك لأضيفه إلىٰ سائر أياديك عندي ومنك عليَّ، واحتجت أدام الله عزّك أن يسألني بعض الفقهاء عن المصلّي إذا قام من التشهّد الأوَّل إلىٰ الركعة الثالثة هل يجب عليه أن يُكبر؟ فإنَّ بعض أصحابنا قال: لا يجب عليه التكبير، ويجزيه أن يقول: بحول الله وقوَّته أقوم وأقعد؟

الجواب:

«إِنَّ فِيهِ حَدِيثَي۟ن: أمَّا أحَدُهُمَا فَإنَّهُ إِذَا ان۟تَقَلَ مِن۟ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ أُخ۟رَىٰ فَعَلَي۟هِ التك۟بِير، وَأمَّا الآخَرُ: فَإنَّهُ رُوِيَ أنَّهُ إِذَا رَفَعَ رَأسَهُ مِنَ السَّج۟دَةِ الثَّانِيَةِ فَكَبَّرَ ثُمَّ جَلَسَ، ثُمَّ قَامَ، فَلَي۟سَ عَلَي۟هِ في ال۟قِيَام بَع۟دَ ال۟قُعُودِ تَك۟بِيرٌ، وَکَذَلِكَ في التَّشَهُّدِ الأوَّلُ، يَج۟ري هَذَا المَج۟رَىٰ، وَبأيَّهِمَا أخَذ۟تَ مِن۟ جِهَةِ التَّس۟لِيم كَانَ صَوَاباً»(1).

ص: 187


1- الاحتجاج 303:2 و 304
الجهة الثالثة: أقسام التوقيعات من جهة النوع:
النوع الأوَّل: التوقيعات الشفهية:

ونريد بها: الأجوبة والرسائل التي يوصلها الإمام(علیه السلام) لشيعته عن طريق أحد نوّابه رضی الله عنه، ولكن من غير أن تكون بخطه الشریف؛ بل يجيبهم جواباً شفهياً ينقلونه للمؤمنين.

منها: ما ذكره الشيخ الطوسي قدس سره : (وسمعت أبا عبد الله بن سورة القمّي يقول: سمعت سروراً - وكان رجلاً عابداً مجتهداً لقيته بالأهواز غير أنّي نسيت نسبه - يقول : كنت أخرس لا أتكلَّم، فحملني أبي وعمّي في صباي وسني إذا ذاك ثلاثة عشر أو أربعة عشر، إلىٰ الشيخ أبي القاسم بن روح ، فسألاه أن يسأل الحضرة أن يفتح الله لساني.

فذكر الشيخ أبو القاسم الحسين بن روح أنَّكم رضی الله عنه أُمرتم بالخروج إلىٰ الحائر.قال سرور: فخرجنا أنا وأبي وعمّي إلىٰ الحائر، فاغتسلنا وزرنا، قال: فصاح بي أبي وعمّي: يا سرور، فقلت بلسان فصيح: لبيك، فقال لي: ويحك تكلَّمت، فقلت: نعم.

قال أبو عبد الله بن سورة: و کان سرور هذا رجلاً ليس بجهوري الصوت)(1).

النوع الثاني: التوقيعات المستعجلة:

وهي التوقيعات التي خرجت من صاحب العصر والزمان (علیه السلام)سريعة لمسألة طارئة وقعت استدعت هذا النوع من الاتصال، کما خرج منه في لعن أبي العزاقر، روىٰ الشيخ الطوسي قدس سره:

ص: 188


1- الغيبة للطوسي: 309 و 310/ ح 262

(أخبرنا جماعة، عن أبي محمّد هارون بن موسىٰ، قال: حدَّثنا محمّد بن همّام، قال: خرج علىٰ يد الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح رضی الله عنه في ذي الحجَّة سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة في [لعن] ابن أبي العزاقر والمداد رطب لم يجف)(1).

النوع الثالث: التوقيعات الغيبية:

ونريد بها التوقيعات التي يبتدئ بها الإمام(علیه السلام) السائل بالإجابة مع أنَّه لم يسأله بعد.

منها: عن أبي الحسين الأسدي ، قال: ورد عليَّ توقيع من الشيخ أبي جعفر محمّد بن عثمان العمري قدَّس الله روحه ابتداءً لم يتقدَّمه سؤال عنه، نسخته:

«بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين علىٰ من استحلَّ من أموالنا در هماً».

قال أبو الحسين الأسدي رحمة الله: فوقع في قلبي أنَّ ذلك فيمن استحلَّ من مال الناحية درهماً دون من أكل منه غير مستحلٍّ، وقلت في نفسي: إنَّ ذلك في جميع من استحلَّ محرَّماً، فأيُّ فضل في ذلك للحجَّة(علیه السلام) علىٰ غيره؟!

قال : فوَالذي بعث محمّداً (صلی الله علیه و اله)بالحق بشيراً، لقد نظرت بعد ذلك في التوقيع فوجدته قد انقلب إلىٰ ما كان في نفسي:

«بسم الله الرحمن الرحيم، لعنة الله والملائكة والناس أجمعين علىٰ من أكل من مالنا در هماً حراماً» (2).

ص: 189


1- الغيبة للطوسي: 409 و 410 ح 384
2- الاحتجاج 2: 300

وبعد بيان هذه الجهات الثلاث، يبقىٰ تساؤلان:

التساؤل الأوَّل: كيف كانت الطريقة التي يتلقّىٰ فيها السفراء رحمة الله التوقيعات من الإمام (علیه السلام)؟

الجواب: لا علم لنا بذلك، ولم نرَ عنهم رضی الله عنه بياناً لتلك الطريقة.

التساؤل الثاني: هل نقطع بصدور التوقيعات كلُّها عن ولي الله الأعظم أرواحنا فداه؟

الجواب: أنَّ حال التوقيعات من جهة الأخذ والرد حال بقيَّة الروايات الشريفة الواردة عن أئمَّة الهدىٰ (علیهم السلام)؛ فهي تخضع للميزان العلمي في توثيق وتضعیف رواتها أو الوثوق بصدورها، فإن اتَّصف التوقيع بشرائط الحجّية أُخِذَ به وعُمِلَ بمقتضاه، وإلَّا فلا.

ص: 190

التنبيه الثالث تساؤلات حول جعفر بن الإمام الهادي (علیه السلام)
التساؤل الأوَّل:

كيف يدَّعي منصباً كهذا مع كونه ابن الإمام الهادي (علیه السلام)؟ وكيف غابت عنه کلمات أبيه وآبائه الطاهرين في أنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)هو الإمام الذي يلي والده العسكري(علیه السلام) ؟

الجواب: إن صحَّ ما نُسِبَ إلىٰ جعفر فالقصور فيه، وليس في الأئمَّة ، ولنا في ابن نوح وإخوة يوسف وزوجتي نوح ولوط عبرة، فهؤلاء أبناء أنبياء و أزواج أنبياء، سمعوا من الأنبياء سبل الرشاد والهداية، وطرق الضلال والغواية، ومع ذلك ضلّوا وباؤوا بغضب من الله عزوجل کما حكىٰ لنا ذلك القرآن الكريم، قال الله تعالىٰ: «قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)» (هود: 46).

وقال سبحانه وتعالىٰ: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9)» (یوسف: 7- 9).

وقال سبحانه وتعالىٰ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا

ص: 191

فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)»

(التحریم: 10).

نعم، بالنسبة إلىٰ إخوة يوسف (علیه السلام)ربَّما يقال بتوبتهم وإنابتهم.

التساؤل الثاني:

ماذا كان مصير جعفر الكذّاب؟ هل تاب أو مات وهو علىٰ هذا

الحال؟

الجواب: ورد في توقيع له (علیه السلام): «أمَّا سبيل عمّي جعفر وولده، فسبيل إخوة يوسف»(1).

إلَّا أنَّ المراد ب «السبيل إخوة يوسف» محلُّ بحث و نزاع، فهل المراد: لا تتعجَّبوا من حال عمّي جعفر فهو كإخوة يوسف، وهم أولاد نبيٍّ من الأنبياء، وقد أدّىٰ بهم الحسد لفعل ما فعلوا. أم أنَّ المراد: إنَّ جعفراً قد تاب کما تاب إخوة يوسف؟

وكلاهما محتملان.

ص: 192


1- کمال الدين: 484/ باب 45/ ح 4
التنبيه الرابع السرداب واتّهام المؤرّخين
اشارة

إنَّ المتتبع والقارئ لا يستغرب من اتهامات المخالفين للمؤمنين، ومن جملة الافتراءات التي افتعلها المخالفون لأجل التشنيع علىٰ الشيعة فريَّة السرداب المبارك التي يشهد الواقع والوجدان بكذبها وبطلانها، وإليك نصوص جماعة منهم لتقف علىٰ حجم الافتراء والتشنيع:

نصوص المخالفين:
ابن خلدون:

قال ابن خلدون في تاريخه: (يزعمون أنَّ الثاني عشر من أئمَّتهم - وهو محمّد بن الحسن العسكري، ويُلقبونه المهدي - دخل في سرداب بدارهم في الحلَّة! وتغيَّب، حين اعتُقِلَ مع أُمه، وغاب هنالك، وهو يخرج آخر الزمان، فيملأ الأرض عدلاً، يشيرون بذلك إلىٰ الحديث الواقع في كتاب الترمذي في المهدي، وهم إلىٰ الآن ينتظرونه، ويُسمّونه المنتظر لذلك، ويقفون في كل ليلة بعد صلاة المغرب بباب هذا السرداب، وقد قدَّموا مركباً، فيهتفون باسمه، ويدعونه للخروج حتَّىٰ تشتبك النجوم، ثمّ ينفضّون ويرجئون الأمر إلىٰ الليلة الآتية، وهم علىٰ ذلك لهذا العهد)(1).

ص: 193


1- تاریخ ابن خلدون 249:1
ابن قيم الجوزية:

ويقول ابن قيم الجوزية: (وأمَّا الرافضة الإماميَّة، فلهم قول رابع: وهو أنَّ المهدي، هو محمّد بن الحسن العسكري المنتظر، من ولد الحسين بن عليٍّ، لا من ولد الحسن، الحاضر في الأمصار، الغائب عن الأبصار، الذي يورث العصا، ويختم الفضا، دخل سرداب سامراء طفلاً صغيراً من أكثر من خمس مئة سنة، فلم ترَه بعد ذلك عين، ولم يحسّ فيه بخبر ولا أثر، وهم ينتظرونه كلَّ يوم، يقفون بالخيل علىٰ باب السرداب، ويصيحون به أن يخرج إليهم: اُخرج يا مولانا، اُخرج يا مولانا، ثمّ يرجعون بالخيبة والحرمان، فهذا دأبهم ودأبه . ولقد أحسن من قال: ما آن للسرداب أن يلد الذي كلَّمتموه بجهلكم ما آنا فعلىٰ عقولكم العفاء فإنَّكم ثلَّثتم العنقاء والغيلانا ولقد أصبح هؤلاء عاراً علىٰ بني آدم، وضحكة يسخر منها كلُّ عاقل)(1)(2).

ص: 194


1- المنار المنيف 1: 152
2- وقد تصدّىٰ لهم ثُلَّة من علمائنا وأُدبائنا الأفذاذ بالرد علىٰ مثل هذه الاتهامات وتفنيدها، وأحدهم السيد حيدر الحلّي حيث أنشأ مشطراً: ما آن للسرداب أن يلد الذي فيه تغيب عنکم کتمانا هونور رب العالمين وإنَّما صیَّرتموه بزعمكم إنسانا فعلىٰ عقولكم العفاء لأنَّكم أنكرتم بجحوده القرآنا لو لم تثنوا العجل ما قلتم لنا ثلَّثتم العنقاء والغيلانا وأشار بقوله: (أنكرتم بجحوده القرآنا) إلى قوله تعالىٰ: «فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)» (الصافات: 143 و144)، وهذه الآية دليل علىٰ بقاء الإمام المهدي (علیه السلام)، وهو حيٌّ يُرزَق ينتظر الأمر بظهوره
ابن حجر:

وقال ابن حجر في صواعقه: (قال بعض أهل البيت: وليت شعري من المخبر لهم بهذا؟! وما طريقه؟! ولقد صاروا بذلك، وبوقوفهم بالخيل علىٰ ذلك السرداب، وصياحهم بأن يخرج إليهم ضحكة لأُولي الألباب)(1).

عبد الله القصيمي:

(وإنَّ أغبىٰ الأغبياء، وأجمد الجامدين، هم الذين غيَّبوا إمامهم في السرداب، وغيَّبوا معه قرآنهم ومصحفهم، ومن يذهبون كلَّ ليلة بخيولهم وحميرهم إلىٰ ذلك السرداب الذي غيَّبوا فيه إمامهم، ينتظرونه وينادونه ليخرج إليهم، ولا يزال عندهم ذلك منذ أكثر من ألف عام)(2).

الجواب عنها:

قال تعالىٰ: «كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55)» (الذاریات: 52 - 55).

نقول لمن ساغ له الافتراء علىٰ الدين الحنيف، والمذهب الرصين، بذكر أُمور واضحة البطلان، بشهادة الوجدان: ألَا تعلمون أنَّ للشيعة علماء فقهاء يذودون عنه الافتراءات والأكاذيب، وأنَّ المكتبات عامرة بكتبهم الشريفة؟! أفلا تخافون أن تنكشف عورتكم في زمن من الأزمنة ؟!

ص: 195


1- الصواعق المحرقة 2: 483
2- الصراع بين الإسلام والوثنية 1: 374
ردود أعلام الإماميّة:

وها نحن نذكر بعض ردود الأعلام أعلىٰ الله في الجنان مقامهم:

الميرزا النوري:

قال الميرزا النوري الطبرسي قدس سره : (والحقُّ أنَّ مكان التعجّب المخجل لتلك الجماعة مَن۟ ينثر الشعير ليالي الجُمَع في حضائر الحيوانات التي بنوها علىٰ سطوح مساجدهم وبيوتهم لحمار الله؛ لأنَّه ينزل من العرش، وحتَّىٰ لا يبقىٰ الحيوان جائعلً(1).

فمن الطبيعي أن يعترضوا بهذا النوع من الاعتراضات علىٰ غيرهم.

والجواب: أنَّه لم يُرَ ولم يُسمَع لحد الآن في أي كتاب من کتب الشيعة، من المتقدمين والمتأخرين، والفقهاء والمحدثين والمؤمنين

ص: 196


1- حتَّىٰ لا يظنُّ القرّاء الأعزّاء أنَّ علماءنا العظام علىٰ دأب علمائهم في الكذب والافتراء، نشير إلىٰ أنَّ ما ذكره الميرزا النوري الطبرسي أعلىٰ الله مقامه الشريف ليس من عنده؛ بل ذکره علماء السُّنَّة أنفسهم، ومنهم: ابن عساکر : (ومن أظلم ممَّن كتم شهادة عنده من الله، إنَّ جماعة من الحشوية والأوباش الرعاع، المتوسمين بالحنبلية، أظهروا ببغداد من البدع الفظيعة، والمخازي الشنيعة، ما لم يتسمَّح به ملحد، فضلاً عن موحد، ولا تجوز به قادح في أصل الشريعة ولا معطل، ونسبواكلَّ من يُنزَّه الباري تعالىٰ وجلَّ عن النقائص والآفات، وينفىٰ عنه الحدوث والتشبيهات، ويُقدسه عن الحلول والزوال، ويُعظمه عن التغيّر من حال إلىٰ حال، وعن حلوله في الحوادث، وحدوث الحوادث فيه، إلىٰ الكفر والطغيان، ومنافاة أهل الحق والإيمان...؛ وتمادت الحشوية في ضلالتها، والإصرار علىٰ جهالتها، وأبو إلَّا التصريح بأنَّ المعبود ذو قدم وأضراس ولهوات وأنامل، وأنَّه ينزل بذاته، ويتردَّد علىٰ حمار، في صورة شاب أمرد بشعر قطط، وعليه تاج يلمع، وفي رجليه نعلان من ذهب، وحفظ ذلك عنهم، وعلَّلوه ودوَّنوه في كتبهم، وإلىٰ العوام ألقوه). راجع: تبیین کذب المفتري فيها نُسِبَ للأشعري 310:1 و311

والمنتحلين الإماميَّة بأنَّ المهدي (علیه السلام)بقي في السرداب منذ غيبته، وسوف يُوضَّح الجواب في أواخر الباب السابع بشكل أكثر عن هذا الافتراء، ويُعلَم مَن۟ هو الجاهل والذي يقول جزافاً، وعلىٰ مَن۟ لا بدَّ أن يُضحَك؟

فالحلَّة بنيت سنة ثمان وتسعين وأربعمائة كما صرَّح بذلك ابن خلّكان في أحوال صدقة بن منصور الملقَّب بسيف الدولة، وغيره من المؤرخين، ولذلك فهي معروفة بالحلَّة السيفية.

وإنَّ أكثر مؤرخيهم نسبوا سرداب الغيبة إلىٰ هناك، ولم یکن وقت الولادة حتَّىٰ اسمها، كما يقول الشهرستاني في الملل والنحل مع ادعائه طول الباع وكثرة الاطلاع: إنَّ قبر الإمام عليٍّ النقي (علیه السلام)في قم.

ولا أدري إذا كانت منقولاته في اللغة والنحو والصرف هكذا بلا أساس، فوا ويلاه بحال تلك العلوم)(1).

العلَّامة الأميني:

وقال العلَّامة الأميني قدس سره: (وفریَّة السرداب أشنع، وإن سبقه إليها غيره من مؤلفي أهل السُّنَّة؛ لكنَّه زاد في الطمور نغمات، بضم الحمير إلىٰ الخيول، وادعائه اطراد العادة في كل ليلة، واتصالها منذ أكثر من ألف عام، والشيعة لا ترىٰ أنَّ غيبة الإمام في السرداب، ولا هم غيَّبوه فيه، ولا أنَّه يظهر منه، وإنَّما اعتقادهم المدعوم بأحاديثهم أنَّه يظهر بمكّة المعظَّمة تجاه البيت، ولم يقل أحد في السرداب: إنَّه مغيب ذلك النور، وإنَّما هو سرداب دار الأئمَّة بسامراء، وإنَّ من المطَّرد إيجاد السراديب في الدور وقايةً من قایظ الحر، وإنَّما اكتسب هذا السرداب

ص: 197


1- النجم الثاقب 418:1و419

بخصوصه الشرف الباذخ لانتسابه إلىٰ أئمَّة الدين، وأنَّه كان مبوء لثلاثة منهم، كبقيَّة مساكن هذه الدار المباركة، وهذا هو الشأن في بيوت الأئمَّة (علیهم السلام)ومشرفهم النبيّ الأعظم (صلی الله علیه و اله)في أي حاضرة كانت، فقد أذن الله أن تُرفَع ويُذكَر فيها اسمه.

وليت هؤلاء المتقولين في أمر السرداب، اتَّفقوا علىٰ رأي واحد في الأُكذوبة، حتَّىٰ لا تلوح عليها لوائح الافتعال فتفضحهم، فلا يقول ابن بطوطة في رحلته (صفحة 198): إنَّ هذا السرداب المنوَّه به في الحلَّة، ولا يقول القرماني في (أخبار الدول): إنَّه في بغداد، ولا يقول الآخرون : إنَّه بسامراء. ويأتي القصيمي من بعدهم فلا يدري أين هو فيُطلِق لفظ السرداب ليستر سوءته)(1).

أقول: لا يخفىٰ علىٰ أحد أنَّ ما ذكروه من أمر السرداب کذب محض وافتراء واضح بشهادة الوجدان، فليس السرداب بالحلَّة وإنَّما هو في سامراء، كما لم يذكر المؤرخون - من غير هؤلاء الكذّابين - وقوف الشيعة في كل ليلة بعد صلاة المغرب أمام السرداب والهتاف باسم الإمام (علیه السلام).

وأمَّا دعوىٰ غياب الإمام المهدي (علیه السلام)وبقائه في السرداب فبينها وبين الصحَّة بُعد المشرقين، وظنّي - وظنُّ الألمعي عين اليقين - أنَّهم يعرفون الحقيقة، فيسترونها ويخفونها ويُموهون عليها؛ لأنَّ طبيعة الأماكن الحارَّة آنذاك تقتضي وجود سراديب في البيوت ليحتمي أهلها من قائظ الحر ويستريحوا في برودتها، كذلك كان السرداب في بيت الإمام العسكري (علیه السلام)شأنه شأن تلك السراديب؛ ولكن هذا

ص: 198


1- الغدير 3: 308 و 309

السرداب تميَّز بخصوصية وهي أنَّه محل عبادة ثلاثة من الأئمَّة، وهم:

الإمام الهادي والعسكري والمهدي (علیهم السلام)، فكان محلّ ومحطّ الرحمة الإلهيَّة.

فلست ترىٰ أحداً من الشيعة الإماميَّة يؤمن بأنَّ الإمام المهدي (علیه السلام)باقٍ في السرداب؛ بل نحن نزوره، ونُصلّي فيه لله سبحانه وتعالىٰ، وندعوه عزوجل في هذا المكان؛ لكونه جزءاً من البيت الذي كان أهل البيت (علیهم السلام)يدعون ويُصلّون فيه، ويبتهلون إلىٰ الله سبحانه وتعالىٰ في رحابه، فهو محلُّ دعائهم وأعمالهم وقرائتهم للقرآن الكريم، ومنه يصعد الكلم الطيب، فهذه هي بيوتهم الشريفة، محلّ عناية خاصَّة من قِبَل الله سبحانه وتعالىٰ: «فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36)» (النور: 36). نعم، توجد بعض الروايات التي نقلها غير واحد من علمائنا الأبرار مفادها: أنَّ الدولة العبّاسية سمعوا القرآن في السرداب، فهجموا عليه، وكان الإمام المهدي(علیه السلام) يتعبَّد فيه، وحين دخولهم خرج من بينهم، بحيث إنَّه مشیٰ من جانب قائد القوم ولم يعلم به، فقالوا له: لماذا لم تمسکه، خرج أمامك ؟! فقال لهم: ما رأيته(1).

ص: 199


1- راجع: بحار الأنوار 52:52 و 53/ ح 37
التنبيه الخامس وقفة مع منشأ المنع من لطف الإمام (علیه السلام)
اشارة

إنَّ الله سبحانه وتعالىٰ منَّ علىٰ البشر ببعث الأنبياء والرسل والأوصياء حتَّىٰ يُعلي كلمة الحق والتوحيد، ويفيض الألطاف علىٰ البشر من خلالهم، فإذا منعوا من هذه الألطاف والخيرات، فليس ذلك لعدم وجود المقتضي؛ بل لوجود المانع من نزول الفيض واللطف الإلهيين.

وبعبارة أُخرىٰ: من الأُمور العقلائية المتَّفق عليها أنَّ التاجر الثري قد يُعطي أولاده أموالاً ليختبرهم فيها، فإذا تاجروا بالشكل الصحيح أعطاهم وزادهم من ثروته، وإلَّا قطع عنهم المدد والمال، والسبب في ذلك ليس عدم وجود المال، أو لأنَّه لا يريد أن يعطيهم لبخل فيه؛ بل إنَّ الثروة متوفرة والإرادة موجودة؛ ولكنَّه حجبها عنهم لأنَّهم لم يحسنوا استعمالها، فأسرفوا فيها، وضیَّعوها ولم يضعوها في مواضعها.

فكذلك نقول: إنَّ سبب حجب اللطف الحاصل من وجود الإمام المهدي (علیه السلام)عن الناس، هم الناس أنفسهم، فإنَّ الله تعالىٰ جعله إماماً وأنشأه بينهم لينتفعوا بمحضره الشريف، ويُقربهم لما فيه قربهم من الله ، وليُبعدهم عن ما فيه بعد عن الله عزوجل تعالىٰ؛ ولكنَّهم حينها جحدوا بإمامة المفترض عليهم طاعته، وحاولوا قتله ومحاربته، حجب عنهم اللطف، ولا يُنسَب حرمانهم اللطف إلىٰ الله سبحانه؛ بل المسؤول عن

ص: 200

الاحتجاب، وعن الحرمان من الاستضاءة بذلك النور الساطع هم من أرادوا قتله، فتبقىٰ الثمرة محفوظة، واللطف مصون بوجوده الشریف؛ ولكن الناس هم المانع من إيصالها.

وهذا بيان لما قرَّره علماؤنا الأعلام با حاصله: أنَّ وجود الإمام لطف، وفعله لطف آخر، وعدمه من البشر، ومعنىٰ ذلك أنَّ أصل وجود الإمام لطف من الله سبحانه وتعالىٰ للبشر، وفعل الإمام المهدي (علیه السلام)الخارجي لطف آخر للبشر، ويرجع سبب عدم حصولهم علىٰ اللطف الثاني إليهم.

ص: 201

ص: 202

خاتمة في توصيات المرجعية
توصية:

وما دام وصل بنا الكلام إلىٰ هذا المقام، فنتبرَّك بنقل توصيات سماحة المرجع الديني الكبير الأُستاذ الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف)، حيث يفيد سماحته:

(إنَّ إمام العصر(علیه السلام)مثله مثل الشمس، فلو أنَّ الإنسان جلس في بيته وكان مغلقاً لا تدخله الشمس، فإنَّ أشعَّتها لن تسقط عليه، إلَّا إذا برزلها، وهكذا حال الإنسان، فإنَّ جدران الذنوب والمعاصي والآفات الروحية تحجب عنه أشعَّة شمس الإمام (علیه السلام)، فإذا رفع هذه الحجب، وخرج منها، استضاء بنور ولي الله الأعظم أرواحنا فداه).

ومن وصاياه (دام ظلّه):

أوَّلاً: أن يُهدي الإنسان ختمة القرآن الكريم إلىٰ الإمام (علیه السلام)في شهر رمضان، فإن فعل ذلك كان مع الإمام، كما هو مقتضىٰ الرواية الصحيحة(1)، وهذا غاية المنيٰ.

ص: 203


1- عدَّة من أصحابنا، عن أحمد بن محمّد بن خالد، عن يحيىٰ بن إبراهيم بن أبي البلاد، عن أبيه، عن علي بن المغيرة، عن أبي الحسن (علیه السلام)، قال: قلت له: إنَّ أبي سأل جدَّك، عن ختم القرآن في كل ليلة، فقال له جدُّك: «كلُّ ليلة»، فقال له: في شهر رمضان، فقال له جدُّك : «في شهر رمضان»، فقال له أبي: نعم ما استطعت. فكان أبي يختمه أربعين ختمة في شهر رمضان، ثمّ ختمته بعد أبي فربَّما زدت وربَّا نقصت علىٰ قدر فراغي وشغلي ونشاطي وكسلي، فإذا كان في يوم الفطر جعلت لرسول الله ختمة ولعلي أُخرىٰ ولفاطمة أُخرىٰ، ثمّ للأئمَّة حتَّىٰ انتهيت إليك، فصیَّرت لك واحدة منذ صرت في هذا الحال، فأيُّ شيء لي بذلك؟ قال: «لك بذلك أن تكون معهم يوم القيامة»، قلت: الله أكبر، [ف-]-لي بذلك؟! قال: «نعم»، ثلاث مرّات. راجع: الكافي 618:2 / باب في كم يُقرأ القرآن ويُختَم/ ح 4

ثانيا: أن تقرأ كلَّ يوم من أيّام السنة جزءاً من القرآن الكريم وتهديه إلىٰ الإمام (علیه السلام).

ثالثاً: قراءة سورة «قُل۟ هُوَ اللهُ أَحَدً» (11) مرَّة صباحاً ومثلها مساءً، نيابةً عن صاحب العصر والزمان (علیه السلام)، وتهديها في اليوم الأوَّل إلىٰ النبي، وفي اليوم الثاني إلىٰ أمير المؤمنين (علیه السلام)، وفي اليوم الثالث إلىٰ السيدة الزهراء (علیها السلام)، وهكذا إلىٰ بقيَّة الأئمة صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

ومن آثار هذا العمل المبارك: حفظ النفس والدار ومن يحيط بها.

رابعاً: الاهتمام بقراءة دعاء العهد: «اللّهمّ رب النور العظيم...»(1) بعد صلاة الصبح؛ لأنَّه مبايعة متجددة لإمام العصر والزمان (علیه السلام)في كل يوم.

خامساً: قراءة سورة يس كلَّ يوم في أي وقت، وإهداؤها إلىٰ السيدة الزهراء (علیها السلام).

ص: 204


1- المزار لابن المشهدي : 663 - 666

المصادر

1 - القرآن الكريم.

2 - إثباة الهداة بالنصوص والمعجزات: محمّد بن الحسن بن علي بن الحسين الحرّ العاملي قدس سره ، قدَّم له: آية الله العظمىٰ السيد شهاب الدين المرعشي النجفي قدس سره ، مؤسَّسة الأعلمی للمطبوعات - بيروت، الطبعة الأُولىٰ/ 1425 ه.

3 - الاحتجاج: الشيخ الطبرسي ، تحقيق: السيد محمّد باقر الخرسان، دار النعمان للطباعة والنشر - النجف الأشرف/ 1386 ه.

4 - الارشاد: الشيخ المفيد ، تحقيق: مؤسَّسة آل البيت لتحقيق التراث، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثانية / 1414 ه.

5- الأُصول العامَّة للفقه المقارن: السيد محمّد تقي الحكيم، مؤسَّسة آل البيت للطباعة والنشر، الطبعة الثانية / 1979م.

6- الأعلام: خير الدين بن محمود بن محمّد بن عليّ بن فارس، الزركلي الدمشقي، دار العلم للملايين، الطبعة الخامسة عشر / 2002م.

7- الأمالي: الشيخ الصدوق ، تحقيق قسم الدراسات الإسلاميَّة، مؤسَّسة البعثة - طهران/ الطبعة الأُولىٰ / 1417ه.

8- بحار الأنوار: العلَّامة المجلسي ، مؤسَّسة الوفاء - بيروت، الطبعة الثانية / 1403 ه.

9- بحث حول المهدي : السيد محمّد باقر الصدر، تحقيق: الدكتور عبد الجبار شرارة، مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة، الطبعة الأُولىٰ / 1417 ه.

ص: 205

10 – بصائر الدرجات: محمّد بن الحسن بن فروخ (الصفّار) ، تحقيق: الحاجّ میرزا حسن کوچه باغي، منشورات الأعلمي - طهران/ 1404 ه.

11- البيان في تفسير القرآن: زعيم الحوزة العلميةالسيد أبو القاسم الخوئي

، دار الزهراء للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الرابعة

1395 ه.

12- تبيين كذب المفتري فيها نُسِبَ إلىٰ الإمام أبي الحسن الأشعري: أبو القاسم علىُّ بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساکر، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة / 1404ه.

13- التعليقات الحسان علىٰ صحيح ابن حبّان: أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، دار با وزیر للنشر والتوزيع - جدَّة، الطبعة الأُولىٰ / 1424ه.

14- تفسير السمعاني: أبو المظفر، منصور بن محمّد بن عبد الجبّار بن أحمد المروزي السمعاني التميمي الحنفي ثمّ الشافعي، المحقق: ياسر بن إبراهيم و غنیم بن عبّاس بن غنيم، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأُولىٰ/ 1418 ه.

15- تفسير القرطبي: محمّد بن أحمد القرطبي، تصحیح: أحمد عبد العليم البردوني، دار إحياء التراث العربي - بيروت / 1405ه.

16- تفسير النسفي: أبو البركات عبد الله بن أحمد بن محمود حافظ الدين النسفي، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: يوسف عليّ بديوي، راجعه وقدَّم له: محيي الدين دیب مستو، دار الكلم الطيب - بيروت، الطبعة الأُولىٰ / 1419ه.

17- تفسير جوامع الجامع: الشيخ الطبرسي ، تحقيق والنشر: مؤسَّسة النشر الإسلامي - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولىٰ / 1418 ه.

18- التيجَان في مُلوك حِم۟يَر۟: عبد الملك بن هشام بن أيّوب الحميري المعافري،

ص: 206

أبو محمّد، جمال الدین، تحقيق: مركز الدراسات والأبحاث اليمنية - صنعاء، الطبعة الأُولىٰ / 1347 ه.

19- حياة الإمام المهدي : الشيخ باقر شريف القرشي

، الطبعة الأُولىٰ/1417 ه.

20- الخرائج والجرائح: قطب الدين الراوندي ، تحقيق: مؤسَّسة الإمام المهدي بإشراف السيد محمّد باقر الموحد الأبطحي - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولىٰ / 1409 ه.

21- الخصال: للشيخ الصدوق ، صحَّحه وعلَّق عليه: علي أكبر غفاري، مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين في الحوزة العلمية - قم المقدَّسة / 1403ه.

22- الدرُّ المنثور: عبد الرحمن بن أبي بكر، جلال الدين السيوطي، دار الفكر - بيروت.

23- دفاع عن الكافي: ثامر هاشم حبيب العميدي، مركز الغدير للدراسات الإسلاميَّة، الطبعة الأُولىٰ / 1415 ه.

24- ديوان المبتدأ والخبر (تاریخ ابن خلدون): عبد الرحمن بن محمّد بن محمّد، ابن خلدون أبو زيد، وليّ الدين الحضرمي الإشبيلي، المحقق: خليل شحادة، دار الفكر - بيروت، الطبعة الثانية / 1408ه.

25- رسالة مختصرة في النصوص الصحيحة علىٰ إمامة الأئمَّة الاثني عشر : المرجع الديني الكبير الميرزا جواد التبريزي ، دار الصدّيقة الشهيدة، الطبعة الأُولىٰ / 1419ه.

26- رسائل الشريف المرتضىٰ: الشريف المرتضیٰ ، تحقيق: السيد أحمد الحسيني / إعداد: مهدي الرجائي، دار القرآن الكريم - قم المشرَّفة، 1405 ه.

ص: 207

27- روضة الألباب لمعرفة الأنساب: النسّابة الزيدي السيد أبو الحسن محمّد الحسيني اليماني الصنعاني.

28- رؤيا يوحنّا.

29- زاد المسير في علم التفسير: جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن عليّ بن محمّد الجوزي، المحقق: عبد الرّزاق المهدي، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الأُولىٰ / 1422 ه.

30- سرُّ السلسلة العلوية: أبو نصر البخاري، تقديم وتعليق: السيد محمّد صادق بحر العلوم، انتشارات شريف الرضي، الطبعة الأُولىٰ / 1413ه.

31- سنن الترمذي: محمّد بن عيسىٰ بن سَو۟رة بن موسىٰ بن الضحّاك الترمذي، تحقیق وتعليق : أحمد محمّد شاكر ومحمد فؤاد عبدالباقي وإبراهيم عطوة عوض المدرس في الأزهر الشريف، شركة مكتبة ومطبعة مصطفىٰ البابي الحلبي – مصر، الطبعة الثانية / 1395 ه.

32- السنن الكبرىٰ: أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب بن عليّ الخراساني النسائي، حقَّقه وخرَّج أحاديثه: حسن عبد المنعم شلبي، أشرف عليه: شعيب الأرناؤوط، مؤسَّسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأُولىٰ / 1421ه.

33- السنن الكبرىٰ: أبو بكر ثين أحمد بن الحسين بن عليّ البيهقي، دار الفكر - بيروت.

34- سير أعلام النبلاء: محمّد الذهبي، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الثالثة / 1405ه.

35- الشجرة المباركة في أنساب الطالبية: فخر الدين الرازي، تحقيق: السيد مهدي الرجائي، مكتبة آية الله العظمىٰ المرعشي النجفي العامَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولىٰ / 1409 ه.

ص: 208

36 - شرح المقاصد في علم الكلام: التفتازاني، دار المعارف النعمانية - باكستان، الطبعة الأُولىٰ / 1401 ه.

37- صحيح ابن خزيمة: أبو بكر محمّد بن إسحاق بن خزيمة بن المغيرة بن صالح بن بكر السلمي النيسابوري، المحقق: د. محمّد مصطفىٰ الأعظمي، المكتب الإسلامي - بيروت.

38- صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري، دار الفکر للطباعة والنشر / 1401ه.

39- صحیح مسلم: مسلم النيسابوري، تحقيق: محمّد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي - بيروت.

40- الصراع بين الإسلام والوثنية: الشيخ الأميني ، إعداد الشيخ فارس تبریزیان الحسّون.

41- الصواعق المحرقة: أحمد بن محمّد بن عليّ بن حجر الهيتمي السعدي الأنصاري، المحقق: عبد الرحمن بن عبد الله التركي وكامل محمّد الخرّاط، مؤسَّسة الرسالة - لبنان، الطبعة الأُولىٰ/ 1417 ه.

42- العبر في خبر من غبر: شمس الدين أبو عبد الله محمّد بن أحمد بن عثمان بن قَای۟ماز الذهبي، المحقق: أبو هاجر محمّد السعيد بن بسيوني زغلول،دار الكتب العلمية - بيروت.

43- علل الشرائع: الشيخ الصدوق ، تحقيق: السيد محمّد صادق بحر العلوم، منشورات المكتبة الحيدرية - النجف الأشرف / 1385 ه.

44- العواصم والقواصم في الذب عن سُنَّة أبي القاسم: ابن الوزير محمّد بن إبراهيم بن عليّ بن المرتضىٰ بن المفضَّل الحسني القاسمي، حقَّقه وضبط نصّه وخرَّج أحاديثه وعلَّق عليه: شعيب الأرنؤوط، مؤسَّسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثالثة / 1415 ه.

ص: 209

45 - عيون أخبار الرضا : الشيخ الصدوق ، تحقيق: الشيخ حسين الأعلمي / مؤسَّسة الأعلمي - بيروت / 1404 ه.

46- الغدير: العلَّامةالأميني ، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الرابعة / 1397 ه.

47- الغيبة: الشيخ الطوسي ، تحقيق: الشيخ عباد الله الطهراني، الشيخ عليّ أحمد ناصح، مؤسَّسة المعارف الإسلاميَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولىٰ / 1411 ه.

48- الغيبة: ابن أبي زينب النعماني ، تحقيق: فارس حسّون کریم، الناشر: أنوار الهدىٰ، الطبعة الأُولىٰ/ 1422 ه.

49- فتحُ البيان في مقاصد القرآن: أبو الطيب محمّد صدیق خان بن حسن بن عليّ بن لطف الله الحسيني البخاري القِنَّوجي، عني بطبعه وقدَّم له وراجعه: خادم العلم عبد الله بن إبراهيم الأنصاري ، المكتبة العصريَّة للطباعة والنشر - بيروت / 1412 ه.

50- فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير: محمّد بن عليّ بن محمّد الشوكاني، الناشر: عالم الكتب؛ وأيضاً دار ابن حزم - بيروت، الطبعة الأُولىٰ.

51- فضائل الصحابة: أبو عبد الله أحمد بن محمّد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني، المحقق: د. وصيُّ الله محمّد عبّاس، مؤسَّسة الرسالة - بيروت، الطبعة الأُولیٰ/ 1403ه.

52- الفوائد الرجالية: السيد مهدي بحر العلوم ، تحقيق: محمّد صادق بحر العلوم، حسین بحر العلوم، مكتبة الصادق - طهران، الطبعة الأُولىٰ / 1363 ش.

ص: 210

54- القاموس المحيط: الفيروز آبادي.

55- المجدي في أنساب الطالبين: عليُّ بن محمّد العلوي العمري، تحقيق: الدكتور أحمد المهدوي الدامغاني / إشراف: الدكتور السيد محمود المرعشي، مكتبة آية الله العظمىٰ المرعشي النجفي العامَّة - قم المقدَّسة، الطبعة الأُولىٰ / 1409 ه.

56- الكافي : الشيخ الكليني ، تصحیح و تعليق: عليّ أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميَّة - طهران، الطبعة الخامسة / 1363 ش.

57- كامل الزيارات: الشيخ الجليل جعفر بن محمّد بن قولویه ، تحقيق: الشيخ جواد القیّومي، مؤسَّسة نشر الفقاهة، الطبعة الأُولىٰ / 1417 ه.

58- الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل : أبو القاسم محمود بن عمرو بن أحمد الزمخشري، جار الله، دار الكتاب العربي - بيروت، الطبعة الثالثة 1407 ه.

59- كفاية الأثر: الشيخ الخزّاز القمّي ، تحقیق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوهكمري الخوئي، انتشارات بیدار - قم المقدَّسة / 1401ه.

60- کمال الدین وتمام النعمة: الشيخ الصدوق ، تحقيق: عليّ أكبر الغفاري، مؤسَّسة النشر الإسلامي التابعة لجماعة المدرسين - قم المشرَّفة / 1405ه.

61- الفصول العشرة: الشيخ الجليل محمّد بن النعمان المفيد ، تحقيق: الشيخ فارس الحسّون، دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع - بيروت، الطبعة الثانية / 1414ه.

62- مجموع الفتاوىٰ: ابن تيمية، جمع و ترتیب: عبدالرحمن بن محمّد العاصمي النجدي الحنبلي، سنة 1386ه، الناشر : إدارةالمساحة العسكرية بالقاهرة، سنة 1404 ه.

ص: 211

63- مختصر التحفة الاثني عشرية: عبد العزيز غلام حكيم الدهلوي، نقله من الفارسية إلىٰ العربية: الشيخ غلام محمّد بن محيي الدين بن عمر الأسلمي، اختصره وهذَّبه: محمود شكري الآلوسي، حقَّقه وعلَّق حواشيه: محبُّ الدين الخطيب، المطبعة السلفية - القاهرة.

64- المختصر في أخبار البشر : أبو الفداء عماد الدين إسماعيل بن علي بن محمود بن محمّد بن عمر بن شاهنشاه بن أيّوب، الملك المؤيَّد، صاحب حماة، المطبعة الحسينية المصرية، الطبعة الأُولىٰ.

65- المختصر في العقائد: آية الله الشيخ نزار آل سنبل القطيفي (حفظه الله تعالىٰ)، الطبعة السادسة / 1435 ه.

66- مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول: العلَّامة المجلسي، قدَّم له: العلم الحجَّة السيد مرتضىٰ العسكري - إخراج ومقابلة وتصحيح: السيد هاشم الرسولي، دار الكتب الإسلاميَّة، الطبعة الثانية / 1404 ه.

67- المزار: الشيخ الجليل السعيد أبو عبد الله محمّد بن جعفر بن عليّ المشهدي الحائري، تحقيق: جواد القیّومي الأصفهاني، الناشر: مؤسَّسة النشر الإسلامي، الطبعة الأُولىٰ/ 1419 ه.

68- المسائل العشر في الغيبة: الشيخ الجليل محمّد بن النعمان المفيد ، تحقيق:

فارس تبریزیان الحسّون، مركز الأبحاث العقائدية، قم المقدَّسة.

69- المستدرك علىٰ الصحيحين: محمّد بن عبد الله الحاكم النيسابوري، تحقيق: مصطفىٰ عبد القادر عطا، دار الكتب العلمية - بيروت، ط 1/ 1411 ه.

70- مسند ابن أبي شيبة: عبد الله بن محمّد بن إبراهيم بن عثمان بن خواستي العبسي، أبو بكر بن أبي شيبة، المحقق: عادل بن يوسف العزازي وأحمد بن فرید المزيدي، دار الوطن - الرياض، الطبعة الأُولىٰ/ 1997 م.

ص: 212

71- مسند أبي داود الطيالسي: أبو داود سلیمان بن داود بن الجارود الطيالسي البصري، المحقق: الدكتور محمّد بن عبد المحسن التركي، دار هجر - مصر، الطبعة الأُولىٰ / 1419ه.

72- مسند أبي يعلىٰ: أبو يعلىٰ أحمد بن عليّ بن المُثنىٰ بن يحيىٰ بن عيسىٰ بن هلال التميمي الموصلي، المحقق: حسين سليم أسد، دار المأمون للتراث - دمشق، الطبعة الأُولىٰ / 1404 ه.

73- مسند أحمد بن حنبل: أحمد بن حنبل، تحقيق: شعيب الأرنؤوط وعادل مرشد وآخرون، مؤسَّسة الرسالة، الطبعة الأُولىٰ / 1421ه.

74- مسند الروياني: أبو بكر محمّد بن هارون الروياني، المحقق: أيمن عليّ أبو يماني، مؤسَّسة قرطبة - القاهرة، الطبعة الأُولىٰ / 1416 ه.

75- المسيح الدّجال: سعيد أيّوب.

76- المعجم الكبير : سليمان بن أحمد بن أيّوب بن مطير اللخمي الشامي، أبو القاسم الطبراني، المحقق: حمدي بن عبد المجيد السلفي، مكتبة ابن تيمية - القاهرة ، الطبعة الثانية.

77- مقدمة في أُصول الدين : المرجع الديني الكبير الشيخ الوحيد الخراساني (دام ظلُّه الوارف).

78- المنار المنيف في الصحيح والضعيف: محمّد بن أبي بكر بن أيّوب بن سعد شمس الدین ابن قيم الجوزية، المحقق: عبد الفتّاح أبو غدة، مكتبة المطبوعات الإسلاميَّة - حلب، الطبعة الأُولىٰ / 1390 ه.

79- منتخب الأثر في الإمام الثاني عشر : آية الله العظمىٰ الشيخ لطف الله الصافي الگلبايگاني، دار المرتضىٰ - بيروت، الطبعة الثالثة / 1429ه.

80 – منهاج السُّنَّة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية: أبو العبّاس أحمد بن

ص : 213

عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمّد بن تيمية الحرّاني الحنبلي الدمشقي، المحقق: محمّد رشاد سالم، جامعة الإمام محمّد بن سعود الإسلاميَّة، الطبعة الأُولىٰ / 1406ه.

81- موسوعةالعلَّامة الإمام مجدد العصر محمّد ناصر الدين الألباني: أبو عبد الرحمن محمّد ناصر الدين بن الحاج نوح بن نجاتي بن آدم، الأشقودري الألباني، صَنَعَهُ: شادي بن محمّد بن سالم آل نعمان، مركز النعمان للبحوث والدراسات الإسلاميَّة وتحقيق التراث والترجمة - صنعاء، الطبعة الأُولىٰ 1431 ه.

82- النجم الثاقب: الشيخ الميرزا حسين النوري الطبرسي ، تقديم وترجمة و تحقیق وتعليق: السيد ياسين الموسوي، أنوار الهدىٰ، الطبعة الأُولىٰ / 1415 ه.

83- الوافي بالوفيات: صلاح الدين خليل بن أيبك بن عبد الله الصفدي، المحقق: أحمد الأرناؤوط وتركي مصطفىٰ، دار إحياء التراث - بيروت/ 1420 ه.

84- وسائل الشيعة: الحرُّ العاملي ، مؤسَّسة آل البيت لإحياء التراث - قم المشرَّفة، الطبعة الثانية / 1414 ه.

85- ينابيع المودَّة لذوي القربىٰ: القندوزي الحنفي، تحقيق: سيد عليّ جمال أشرف الحسيني، دار الأُسوة للطباعة والنشر، الطبعة الأُولىٰ / 1416 ه.

ص: 214

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.