فاجعة کربلاء في الضمیر العالمي الحدیث

هوية الکتاب

فاجعة کربلاء في الضمیر العالمي الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزء الاول

دار العلوم للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

الأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

المجلد 1

اشارة

كافة الحقوق محفوظة و مسجلة

الطبعة الأولى 1430ه /2009م

المكتب : الرويس - بناية عروس الرويس - تلفاكس : 01/545182 -03473919

ص . ب : 140/ 24 - المستودع : بئر العبد - مقابل البنك اللبناني الفرنسي - هاتف : 01/541650

E-mail:info@daraloloum.com

www.daraloloum.com

ص: 2

فاجعة کربلاء

فی الضمیر العالمی الحدیث

دراسة تحلیلیة لروی دینیة و فکریة عالمیة

تأليف راجي أنورهيفا

الجزء الاول

دار العلوم

للتحقیق و الطباعة و النشر و التوزیع

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ

ص: 4

الإهداء

إلى العينين الحزينتين

المهاجرتين في كل لحظة

باتجاه زرقة السماء

إلى العمامة الطاهرة

التي اجتمع في كل خيط من خيوطها

سواد ليالي كربلاء

فأضحى صاحبها رمزا للصبر على كل مصيبة

وكل بلاء

إلى الذي علمنا أن شهادة أن لا إله إلا الله،

وأن محمدا رسوله هي الترتيلة المباركة المقدسة

التي كتبها الله لنا، وشرفنا بها،

وما علينا إلا أن ننشدها دوما بصدق وإخلاص ويقين

إلى أن تأذن ساعة الرحيل.

إلى الإمام الذي علمنا أن المؤمن، الغريب، الوحيد، العطشان، المظلوم، الذي يرفع يديه إلى السماء ويقول صابرا محتسبة: (آه) فإنما ينادي (الله).

إلى الذي علمنا أن الحياة أن نموت قاهرين،

وأن الموت أن نحيا مقهورين.

إلى كل جرح من جراحك يا سيدي ويا مولاي

يا بن علي والزهراء،

إليك يا سيدي، يا حسين...

راجي

ص: 5

شعاع من وهج الحقيقة و التاریخ

إن الحديث عن فاجعة كربلاء وعن بطلها الإمام الشهيد وما حل به وبأهل بيته الأطهار علیهم السلام هو حديث طويل وأليم، إنه حديث يفيض بالحزن والغربة، وبالعبر والعبرات، وبالدروس التي لا تزال المجتمعات الإنسانية المعاصرة تنهل منها ما تشاء من حکم ومواعظ وقيم أخلاقية عالية تجعلها أساسا راسخا لثوراتها ضد كل مظاهر الظلم والطغيان، وضد كل صور الجور والفساد والانحراف عن القيم الإيجابية الفاضلة المتجذرة في النفس الإنسانية السليمة والسوية.

والحديث عن مسيرة الإمام الحسين عليه السلام بأهله إلى أرض کربلاء هو حديث عن هجرة الروح و سفر النور الحسيني إلى عالم الماء وإلى مملكة الخلود في رحاب النور الإلهي المطلق.

فالإمام الحسين عليه السلام ، إمام الشهداء، لم يكن في سفره مجرد إمام مجاهد اختار الحركة الاستشهادية ضد واقع سلبي منحرف حاول أن يفرض ذاته عليه وعلى أتباعه المؤمنين فحسب، بل كان سفره حركة إيمانية شاملة ومتكاملة حملت عناوین عديدة ومتنوعة و من ضمنها الاستشهاد من أجل شرف الكلمة وروح الرسالة.

وعندما نقول: إن الإمام الحسين علیه السلام قد اختار إعلاء شرف الكلمة وإحياء روح الرسالة ولو كلفه ذلك بذل الغالي والرخيص وصولاً إلى تقديم الدماء والأرواح من أجل ذلك الهدف السامي النبيل، فماذا يعني هذا الكلام؟!

ص: 6

يعني هذا الكلام، وبكل بساطة، أن الكثير من الناس يتحدثون عن واقعة كربلاء من وجهة نظر تراجيدية بحتة تقوم على أساس موت البطل مع أسرته الطاهرة المقدسة بطريقة مأساوية أليمة على يد جيش جرار من الظلمة الحاقدين القادمين من كهوف التاريخ ومن صفحات الثقافة الجاهلية العفنة و من مراتع الظلام وأقبية الجهل الضاربة بجذورها عميقاً في عقولهم الصدئة وقلوبهم المهترئة.

ونحن لا نشك في أن هذه الرؤية صحيحة بوجهها العام، ولكن لا يمكن أن تكون هذه النظرة دقيقة و شاملة في حالة دراستها من زوايا خاصة أخرى.

فهناك الكثير من رجال التأريخ والسير ومن الرواة أيضاً ممن ينقلون لنا صورة الإمام الحسين عليه السلام بطريقة فجة غير ناضجة حيث يصورونه لنا بصورة الإمام الثائر الذي لم يكن له هم إلا أن يقتل بسيوف الأعداء وتقطع أوصاله برماحهم من أجل الحصول على شرف الشهادة فقط.

وفي الحقيقة، لا يمكننا أن نقول إلا أن هذه الصورة التراجيدية ناقصة في محتواها الروحي والفكري، وقاصرة في عمقها الاجتماعي والإيماني، ويأتي جزء كبير من هذا النقص المعرفي من حقيقة أننا غالباً ما نقوم بتسليط الأضواء على الإمام الحسين عليه السلام و على أهله الكرام عليهم السلام وعلى جيشه الصغير - إن جاز لها أن نسميه جيشاً- فقط، دون تسليط بعض الأضواء على خصومه وأعدائه وعلى طبيعة ذلك الجيش العرمرم الذي يستقوي به ذلك الخصم العنيد، فعندما نعرف ماهية وأهداف وغايات يزيد بن معاوية (لع)، فإننا وقتها سنعرف بلا ريب أهداف و رسالة الإمام الحسين بن علي عليه السلام الذي خرج بأعز ما يملك من أجل إجلاء الغبار عن رسالة جده المختار محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلق الله وخاتم رسله عليهم السلام.

ص: 7

فعندما نقرأ بعمق وروية وصية ورسالة الإمام الحسين عليه السلام لأخيه محمد بن الحنفية قبيل مغادرته المدينة، سنعلم وبشكل واضح أهم الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام للخروج و ملاقاة جحافل یزید بن معاوية، وها هو أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي الحنفي المعروف ب (أخطب خوارزم) يحدثنا في كتابه (مقتل الحسین) عن أن الإمام الحسين عليه السلام قد دعا بدواة و بياض و كتب فيها هذه الوصية الهامة لأخيه محمد و ذلك قبيل خروجه بوقت قصير:

بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، أن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.

إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر و أسير بسيرة جدي محمد، و سيرة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد على هذا صبرت حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و يحكم بيني و بينهم و هو خير الحاکمین.

هذه وصيتي إليك يا أخي، وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب، والسلام عليك و على من اتبع الهدى و لا قوة إلا بالله العلي العظيم»(1).

إن هذه السطور القليلة، بالإضافة إلى خطب وأقوال أخرى للإمام الحسين علیه السلام سنأتي على ذكرها في مكانها الصحيح في هذا الكتاب، تلخص لنا فلسفة الحركة

ص: 8


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مطبعة الزهراء، النجف الأشرف، 1948، ج1 ص188.

الحسينية المباركة الكامنة وراء مسيرته من المدينة المنورة إلى كربلاء.

فالوعد الحسيني يمثل لنا الأمل الدائم في ضرورة التخلص والقضاء على كل أنواع الانحراف الذي يصيب الضمير الإنساني القابل للتمظهر بمظهر الإيمان والعدل والنقاء، و لذلك فإننا نقول إن خروج الإمام الحسين عليه السلام مع أهل بيته الكرام الأطهار طلباً للإصلاح في أمة جده لا يعني أن الفساد قد دخل قلب الرسالة الإسلامية و جوهرها، بل الشيء الذي فسد و تحلل من كل روابط مبادئ وقيم تلك الرسالة السماوية الخالدة هو قلب الإنسان الطاغية الذي أراد أن يفسد كل ما حوله بقدر الفساد الذي يعيشه هو شخصياً من الداخل و من الخارج على حد سواء.

فالرسالة الإسلامية رسالة سماوية واضحة، وأسسها واضحة، وأحكامها جلية، و قوانينها ومبادئها بينة، ولكن ما تبدل حقا هو التطبيق والممارسة لا النظرية و لا المبادئ، نعم، لا يشك كل قارئ للتاريخ الإسلامي في أن الحكام والملوك الأمويين قد ألقوا بغبار سيرتهم السوداء على الوجه الناصع للمرأة الإسلامية التي تعكس بصدقٍ و نقاء قوانين و أحكام السماء، و أنهم حاولوا أيضاً أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ولكن إرادة الله كانت دائماً فوق إرادتهم، و مشيئته أعلى وأقوى من مشيئتهم ومن مكرهم.

فالصورة التي نقلتها لنا كتب التاريخ والسير عن خروج الإمام الحسين عليه السلام هي صورة حركية تتجاوز في أبعادها الروحية والفكرية حدود المشهد والتراجيديا التصويرية لتنقلنا إلى عمق العبرة التي تفتح الحدث على الفكرة والهدف، وهذا يعني أن حركة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مجرد ثورة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل إن حركته عليه السلام تعني الثورة الرسالية المتكاملة التي تنادي بالتغييرات الكلية الشاملة،

ص: 9

والتي أول ما تبدأ من الدعوة الصريحية للثورة على الذل والاستكانة الداخلية والخضوع النفسي داخل ذات الإنسان، و لتتسع بعد ذلك حتى تشمل حدود تغيير المجتمع بكل أبعاده، و ذلك من خلال تغيير الأشخاص والرموز التي تدعي أنها الموكلة به والقيمة عليه.

و لذلك، فإن للنهضة الحسينية أبعاداً عميقة لا نراها في غيرها من الحركات والثورات والتحركات النهضوية المختلفة، فهي- الثورة الحسينية- حركة نهضوية لا تنبع من منظور أو من منطلق شخصي، و لا تهدف إلى تحقيق منفعة ذاتية فردية، ولا تقوم على تغييب الجانب الروحي والأخروي في خط سيرها وفي منهجها، بل على العكس من ذلك، فهي حركة جهادية ذات أهداف شمولية وإنسانية عامة، تقوم على خلق نوع من التوازن بين احتياجات الروح ومتطلبات الوجود، إنها الحركة التي تجعل من الأرض ساحة صراع بين قيم الحق وقوى الباطل و ذلك من أجل مشروع تأسيس وبناء هيكل للروح في عالم السماء، فالجنة التي وعد بها المؤمنون والتي يبلغ (عرضها) السماوات والأرض، والتي لم يخبرنا الله سبحانه و تعالى عن مدی (طولها)، هي الهدف والمنطلق الذي حرك و فجر الثورة الرسالة المحمدية العلوية الحسينية لتكون ثورة إنسانية دائمةً لا يخمد لهيبها طالما أن هناك قيما للخير و قوي للشر على مسرح الحياة.

أما النقطة الثانية التي تميز هذه النهضة عن غيرها، فهي نقطة التجاوز لحدود الملحمة القومية التي تخص شعباً دون شعب أو بلداً دون بلدٍ آخر، فالدماء الطاهرة التي بذلها الإمام الحسين علیه السلام فوق رمال كربلاء الحارقة جعلت منه نشیداً روحياً تتغتی به دائماً وأبداً أفواه أبناء الإنسانية المعذبة، وتحولت عندها جراحه المتعانقة

ص: 10

على مساحة جسده الشريف إلى أوتارٍ قدسية تعزف لكل الثائرين من بعده لحن السمو والإيمان والخلود.

ومن هنا يمكننا أن نقول للقارئ الكريم: إن هذا الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن هو کتابٌ فریدٌ في نوعه، شأنه في ذلك شأن كتابنا السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر)، ذلك الكتاب الذي حظي بالكثير من الثناء والمديح من قبل الكثير من المفكرين والنقاد و رجال الدين على مختلف مشاربهم و اعتباره أيضاً كتابة فريداً جديداً لم يسبق للمكتبتين العربية والإسلامية أن سجلتا حضوراً مميزاً لكتابٍ شبیه به في ما يحويه من أقوالٍ و شواهد و قوةٍ في الدراسة والتحليل.

وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا الدخول على العديد من المواقع الدينية والثقافية على شبكة الإنترنت للوقوف على حقيقة ذلك.

و بالتالي، فإن هذا الكتاب الذي نقرأ صفحاته الآن هو كتابٌ يتناول الحركة الحسينية من وجهات نظر عديدة، إسلامية و غير إسلامية، و بالطبع، عندما نقول و جهات نظر إسلامية فإننا نقصد بذلك و جهات نظر إسلامية غير شيعية، و على الرغم من أنني قد تعمدت أن يتناول هذا الكتاب شخصية و سيرة الإمام الحسين عليه السلام وحركته الثورية وآثارها من وجهات نظر عصرية، إلا أنني وجدت نفسي مرغماً بعض الأحيان على العودة إلى بطون الكتب التاريخية القديمة للتأكيد، بما جاء فيها، على ما كتبه حديثاً رجال الفكر والأدب والدين والسياسة حول فاجعة كربلاء وقرابينها المقدسة.

و بالطبع، فقد قمت بتقسيم الكتاب إلى عدة فصول، وكل فصل يتناول موضوعاً معيناً ولكنه بنفس الوقت يعتبر حلقة وصل تربط بين الفصل السابق والفصل اللاحق،

ص: 11

و لم أعتمد على التسلسل الزمني للأحداث التي وقعت على مسرح الفاجعة و ذلك لأن هذا الكتاب ليس كتاباً يهتم بالدرجة الأولى بتسلسل الأحداث التاريخية لتفاصيل الفاجعة، وإنما هو كتاب يهتم بالدرجة الأولى بالناحية الإنسانية وبالآثار الاجتماعية والسياسية التي خلفتها و قائع تلك الملحمة الحسينية الدامية في نفوس المسلمين والمسيحيين، بل و حتى في نفوس الكثير من الذين لا يندرجون تحت هوية الإسلام أو المسيحية، كالمهاتما غاندي، على سبيل المثال، أو غيره من اليهود والصابئة.

و يمكن أن أضيف إلى هذه المقدمة الموجزة فكرة هامة قد يعتبرها البعض غريبة بعض الشيء، ولكن لن أستفيض في مناقشتها هنا، بل سيكون لها مكانها المناسب في صفحات هذا الكتاب، و تتلخص هذه الفكرة الهامة والموجزة بقولنا إن ما جرى في کربلاء لم يكن بالشيء المستغرب و لم يكن التخطيط له وليد اللحظة، بل إن فاجعة کربلاء هي ابنة أحداث سقيفة بني ساعدة، وسيلاحظ القارئ الكريم أن الخوض في هذه الفكرة ليس شيئاً دخيلاً على موضوع هذا الكتاب و على جوهره، بل سيلاحظ مدى عمق العلاقة بين ما حدث في سقيفة بني ساعدة و بين ما جرى على مسرح الفاجعة، علماً أن هدفنا هنا ليس التجريح أو الإهانة، و إنما تقييم مواقف خاطئة فقط.

و على كل حالٍ، فإن لكل فكرةٍ مكانها الخاص بها والمناسب لها، و علينا أن لا نستعجل الأمور و علينا أيضا أن نكون في أنسب مكان يمكن للمرء أن يكون فيه بعيداً عن روح التعصب والانفعال، وعن لغة الانحياز إلى تيار العاطفة الذي يجره بعيداً عن تيار العقل وعن نهج المنطق القويم، وانطلاقاً من هذه النقطة تحديداً، فقد قمت بإجراء واستعراض الوقائع والأحداث كما جاءت في الكتب والدراسات الفكرية والتاريخية المختلفة، والتي هي بأغلبيتها كتب و دراسات غير شيعية، أي أن الكتاب

ص: 12

والمفكرين الذي قاموا بكتباتها و دراستها هم ليسوا من الشيعة أبدا، بل من أديان و مذاهب مختلفة.

وبعد أن قمت باستعراض الأحداث والوقائع كما جاءت في صفحات كتبهم الفكرية و في دواوينهم الشعرية، و بعد أن ذكرت تحليلاتهم الخاصة بهم والمتعلقة بدراسة الشخصيات والأحداث، وحتى الخطب والأحاديث، فقد قمت عند ذلك بإجراء تحليلاتي الخاصة آخذاً بعين الاعتبار أن القرار الأخير في كل مسألة من المسائل التي تعرض لها هذا الكتاب هو قرار القارئ الكريم و ليس قراري الشخصي.

فمن غير اللائق أن يعتبر الكاتب أن القارئ عبارةٌ عن حجر شطرنج يمكن تحریکه کيفما يشاء، فللقارئ، بلا ریب، عقله و فكره و ثقافته الخاصة، و له أيضاً منطقه و منهجه الفكري الخاص به، و لذلك ما علينا نحن أن نقوم به هو أن نزوده بالوقائع و بالدراسات والتحليلات الفكرية المختلفة المبنية على الحجج والبراهين، و ما عليه هو- كقارئ يبحث عن الحقائق-إلا أن يقوم بتحليلاته الخاصة أيضا وأن يجعل عقله يعمل و يتفاعل بشكلٍ أكثر فاعلية مع ما يقرؤه و بأسلوب عقلاني واعٍ يحميه من الوقوع في شرك الطائفية و أفخاخ المذهبية التي لا ترحم حقيقةً و لا تحترم حقاً مهما كان ذلك الحق متجلياً للبصائر و بادياً للأبصار.

فغاية الكتابة عن التاريخ و أحداثه هي إدراك الماضي كما كان، لا كما نتوهم أنه كان، و كذلك ليس التاريخ هو تصوير الماضي كما يجب أن يكون أو كما نريده أن يكون بل هو التصوير الدقيق والصادق للأحداث و للأشخاص مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذا التصوير متصف بروح الموضوعية والحيادية و إلا فإن التاريخ، في حال عدم اتصافه بالحيادية و بالصدق في التصوير، لن يكون إلا بمثابة المساحيق والألوان

ص: 13

الزاهية التي توضع على وجه أنثي تضج روحها ونفسها بالقبح والفجور.

ورب قارئ يتساءل قائلاً: و هل تاريخنا العربي والإسلامي يندرج تحت عنوان التاريخ الصادق والمحايد في وصفه و تأطيره للأحداث بالشكل الصحيح أم أنه يندرج تحت سياق التاريخ الموجه والمشوه والذي يمكن تمثيله بالوجه الأنثوي المترهل والمموه، ذلك الوجه الذي عمد البعض إلى وضع الكثير من الأصبغة والمساحيق الكثيفة عليه في محاولة يائسةٍ منهم لإخفاء صورته الحقيقية بكل ما تحمله من قبح و تشوهات؟!

و يؤسفني أن أقول في جوابي على هذا السؤال المفترض: إن تاريخنا العربي والإسلامي هو تاريخ مليء بالزيف و مترعٌ بالأكاذيب.

وليعذرني القارئ الكريم على هذه الصراحة الخشنة في حديثي، فأنا لم أعتد أن أجامل أحداً في حديثي عن قضايا هامة و حساسة كهذه، و ما اعتدت أن أكون إلا منطقياً في معالجة أية قضية من هذا المستوى أو العيار.

وحتى لا أكون مجحفاً بحق تاريخنا ولا متجنياَ عليه، و حتى أكون أكثر إنصافاً وأكثر موضوعية واتزاناً في حكمي عليه، أرى لزاماً علي أن أشير و بكل وضوح إلى أن هناك صفحات بيضاء ناصعة في تاريخنا العربي والإسلامي بحيث لا يستطيع كائن من كان أن يتجاهل تلك الصفحات أو أن ينكرها أو يضرب عنها صفحاً.

فتاريخنا ليس كله مظلماً و ليس كله عبئاً على الحقيقة، بل نستطيع أن نقول إننا بحاجة إلى أقلام حرة وجريئة، إلى أقلام حرة تنتقد بنزاهةٍ وموضوعية، إلى أقلام تمجد الحق لا إلى أقلام تقدس السلطة والسلطان، إننا بحاجةٍ إلى كل هذه الأقلام اليوم من أجل رفع النقاب عن وجه التاريخ الإسلامي وإظهار الوقائع والأحداث على

ص: 14

حقيقتها التي كانت عليه بالفعل، فمعالجة قضايانا التاريخية يجب أن تستند إلى سلطة العقل لا إلى عقل السلطة.

علينا اليوم أن نقول إن تلك الصفحة من تاريخنا كانت بيضاء مشرفة، ونحن نعتز بها و نعتبرها مثالاً رائعاً ومأمثلاً على نحتذي به في عصرنا الراهن، و لكن علينا بنفس الوقت أن نكون شجعاناً أمام ذواتنا و نقول بصوتٍ عالٍ إن تلك الصفحة الأخرى من تاريخنا سوداء ومذلة، و نحن نعترف بها و نخجل منها و لكنها اليوم درس مفيد لنا إذ علينا أن نحللها و نستوعب كل السلبيات التي أفرزتها و ذلك من أجل الحرص الشديد على عدم تكرارها في وقتنا الحاضر.

فثمار اليوم هي النتيجة الطبيعية لغراس الماضي، فإذا ساءت الغرسة أو سكتنا عن الآفات التي تعصف بها، فإن الثمار ستأتي بعد حين مريضة و غير مكتملة في نضجها، و ربما الشجرة ذاتها لن تعرف أغصانها طريقاً إلى شمس المستقبل لأنها ستكون قد هو على الأرض و قد حولها داؤها العضال إلى مجرد كومة من الحطب لا تصلح أن تكون إلا و قوداً للنار التي ستحيلها إلى رماد تذروه الرياح والعواصف

والمشكلة الحقيقية هنا هي أننا لا نتعظ من الماضي ولا نأخذ عبراً من دروسه القاسية والمريرة، فلا أحد يشك في أن العصر الجاهلي، ذلك العصر السابق على مجيء الرسالة الإسلامية، قد مر وانقضى وأخذ معه الكثير من متناقضاته والكثير من نقائصه و سيئاته، و لا سبيل إلى عودته اليوم في الحالة التي كان عليها بالأمس.

نعم، لا أحد يشك باستحالة عودة هيكل الماضي للعيش معنا في الحاضر، و لكن الذي نشك فيه، و ربما تصل عندنا درجة الشك إلى حالة اليقين، هو حقيقة أننا قد تخلصنا تماماً من رواسب العصر الجاهلي و من سلبياته و مساوئه، فروح العصر

ص: 15

الجاهلي لا تزال تعيش في حالة كمون داخل عقول و قلوب الكثيرين من أبناء القرن الحادي والعشرين من المسلمين داخل و خارج ديار العروبة.

و باختصار شديد، أقول إننا نعاني اليوم من جاهلية القرن الحادي والعشرين والتي لا تختلف بجوهرها كثيراً عن جاهلية ما قبل الإسلام.

وأعتقد أنني قد ناقشت هذه النقطة بشكلٍ موسع في الكتاب السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر) و ذلك من خلال الكلام عن ربط مفهوم العروبة بالإسلام لدرجة جعل العروبة هي الهوية القومية للرسالة الإسلامية من جهة، و جعل الإسلام هو الهوية الروحية للعروبة من جهة أخرى.

و لذلك لا داعي للإسهاب في الحديث عن هذا الموضوع و لكن ما أردت قوله هنا هو أن هناك من لا يزال يكتب عن أحداث التاريخ الإسلامي بقلمٍ يستمد مداده من محابر العصر الجاهلي و يستمد قوته و غطرسته من روح العصر الأموي، ذلك العصر الذي قام أساساً على أسس و مرتكزات التركيبة النفسية والاجتماعية للعصر الجاهلي متجاوزاً بذلك معظم قيم و مبادئ الرسالة الإسلامية التي جاء بها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم هديةً كريمةً من السماء إلى عموم أهل الأرض من عربٍ و غير عرب.

و لذلك أقول بصراحةٍ، إن هناك ارتباطاً وثيقاً جداً بين العصرين، العصر الجاهلي والعصر الأموي لدرجة أنني عندما أقرأ ما جاء في العصر الجاهلي من مثالب و مساوئ أجد نفسي في حالة استرجاع فكري شامل لما كان يتصف به العصر الأموي من صفاتٍ سلبية مشابهة، و بالمقابل أيضاً، عندما أقرأ عن واقع المسلمين والعرب المسلمين في ظل الحكومات الأموية المتعاقبة أجد نفسي، و بشكلٍ لاشعوري، في حالة مقارنة بين هذا العصر المحسوب على الإسلام و بين عصرٍ آخر أكثر قدماً و يقع

ص: 16

خارج الدائرة الإسلامية لأجد - بعد تلك المقارنة - أن أبسط ما يمكن أن يقال هو أن العصر الأموي يمثل الابن الشرعي للعصر الجاهلي و ليس للرسالة الإسلامية.

و لا أريد هنا أن أكشف النقاب عن الوجه المظلم لجاهلية ما قبل الإسلام و كيف كانت حالة التركيبة النفسية والاجتماعية لغالبية الأفراد في تلك الفترة، و لكن يكفي أن أشير إلى أن التركيبة الفكرية والبنية النفسية للذات العربية قد تسللت بما هي عليه إلى دائرة الانتماء الإسلامي المولود حديثاً والمنادی به من قبل الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

فهناك العديد من المسلمين - و هذا ليس سراًة على أحدٍ- قد دخلوا إلى دائرة الانتماء الإسلامي إما طمعاً و إما خوفاً و لم يدخل الإيمان المطلوب إلى قلوبهم، و قد صرح القرآن الكريم بهذه الحقيقة في أكثر من موقعٍ و اصفا إياهم بالمنافقين سواءً كانوا من (الأعراب) أم من (أهل المدينة) ليقطع بذلك الطريق على كل من يريد أن يقول إن ظاهرة النفاق مقتصرة على الأعراب دون غيرهم من العرب، فالآية القرآنية الكريمة التالية: «وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ»(1)، إنها آيهٌ شريفة واضحة و دالة على وجود ظاهرة النفاق في صفوف المسلمين، تلك الصفوف التي تمثل الجيل الأول من الداخلين إلى الدعوة الجديدة سواء كانوا عرباً أم أعراباً.

وأرى من الواجب علينا هنا أن نذكر مثالاً أو مثالين عن أناسٍ دخلوا وانضموا إلى صفوف المسلمين لكنهم لم يستطيعوا أن يتخلوا تماماً عن طبيعتهم الجاهلية و عن عصبياتهم القبلية و ثاراتهم الشخصية القديمة.

ص: 17


1- توبه، 101

و لذلك، و قبل إيراد البعض من هذه الأمثلة المناسبة لابد من التأكيد على صفة بارزة لازمت العقل العربي منذ زمنٍ بعيدٍ يصعب تحديد بدايته و تتعلق بعدم قبول (الآخر) و احترام هويته حتى ولو كان ذلك (الآخر) عربياً و لكن من قبيلةٍ أخرى.

فالإنسان العربي، و على الرغم من الصفات الإيجابية التي كان يتحلى بها، لم يستطع أن يتخلى عن (أناه) المفرطة والمتضخمة أمام الآخرين من غير قبيلته، إنه مستعد أن يكون حجرة مصمتة على رقعة قبيلته الشطرنجية بحيث يترك على مساحة تلك الرقعة دون إرادة منه إلى درجة أن تذوب (أناه) في ميدان تلك القبيلة بكل يسر و رحابة صدر، غير أنه من المستحيل تقريباً أن يقبل ذلك الرجل احتواء آراء الآخرين من القبائل المحيطة بقبيلته حتى في أعظم الأمور التي تتطلب من الفرد أن يعمل عقله فيها كأن يلقي بسيفه جانباً و لا يشارك قبيلته في حرب جائرةٍ ظالمةٍ ضد قبيلةٍ أخرى ضعيفة و مظلومةٍ و لا ناصر لها، و ما قول الشاعر:

و ما أنا إلا من غزيةٍ إن غوت *** غويت ، و إن ترشد غزية أرشد

ما هذا القول إلا واحد من عشرات الأقوال والأمثلة الصائبة والدالة على صدق مقالنا إن مرض (الأنا) المتضخمة ضمن إطار القبيلة والتعصب لها والذي اجتاح عقولنا بالأمس لا يزال يسري فيها بقوة حتى يومنا هذا، إنها حالة أشبه ما تكن بحالة السير أثناء النوم أو ما تعرف علمياً بحالة (الشرنمة)، فكم من رأس قطع بالسيف و كم من صدرٍ طعن بالرمح من أجل ناقةٍ أو من أجل فرسٍ كما حدث في حرب البسوس و في حرب داحس والغبراء، و كم عقدٍ من الزمان دامت هذه الحروب و كم كلفت من دماءٍ وأرواحٍ من أجل إرضاء خاطر هذه القبيلة أو تلك!!

إن العقل العربي و قتذاك كان يقدم و لاءه المطلق للقبيلة و كأن حدود العالم تنتهي

ص: 18

عند آخر خيمةٍ من خيام قبيلته، لقد كان يشعر أن (الأنا) هي الكمال وال (هو) من غير قبيلته هو النقص، إذ لا مجال للاتفاق بين النقص والكمال إلا ضمن أطرٍ محددة لا يسمح بتجاوزها أبداً(1)

و للأسف الشديد، فقد انتقلت هذه الحالة إلى ظل الدولة الأموية و من بعدها إلى الدولة العباسية بشكلٍ ملحوظٍ تماماً و صار العقل العربي ينظر إلى عقول البقية ممن هم في جوارهم نظرةً دونيةً غير قائمةٍ على احترام الإرث الثقافي والروحي لهذا الشعب أو ذاك، بل نرى أن الكثير من المفكرين العرب أنفسهم قد أعدموا بتهمة الزندقة والكفر وحوربت الفلسفة و رفض علم المنطق و راحت المدارس الإسلامية تكفر بعضها بعضاً، و كان من نتيجة ذلك أن سالت الدماء بين الأخوة العرب و بين المسلمين عموماً.

و حتى لا نكون جائرين على الدولة الأموية، أو على الأقل حتى لا يتهمنا أحد بذلك، نرى أن هناك العديد من المشاهد والصور التي تعكس بصدقٍ كل ما أسلفنا من قول على الرغم من أنها مشاهد و صور مأخوذة من الخيوط الأولى لفجر الرسالة الإسلامية و من العهد الراشدي أيضاً.

و على سبيل المثال، كل واحدٍ منا يعرف من هو خالد بن الوليد و كيف أسلم و متى كان ذلك، و كلنا يعرف أيضاً دوره القوي في التصدي للرسالة الإسلامية و للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و كيف لعب الدور الحاسم في إلحاق الهزيمة بالمسلمين يوم غزوة أحد، و كيف استطاع هو و جنوده العتاة النيل من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم حتى سال

ص: 19


1- راجي أنور هيفا، محاكمة العقل العربي، مجلة النور العدد (107)، دار النور، لندن، نیسان 2000م، ص12.

الدم الغزير من رأسه الشريف و من فمه، فما كان منه صلی الله علیه و آله و سلم إلا أن وقف و رفع يديه إلى السماء قائلاً: «كيفَ يُفْلِحُ قَوْمٌ خَضَّبُوا وَجْه نَبِيّهمْ بِالدَّمِ!!»(1)

نعم، كلنا يعرف أن هذا قد حدث قبل إسلام خالد بن الوليد، و لكن هل كلنا يعرف ماذا حدث بعد إظهار إسلامه؟!

على كل حالٍ دعونا الآن نقرأ ما جاء في الجزء الثالث من كتاب (تاریخ الأمم والملوك) للمؤرخ (محمد ابن جرير الطبري) حول بعض ما قام به خالد بن الوليد بعد إظهاره للإسلام، و سنترك التعليق على ما حدث للقارئ الكريم كي يرى أن الأخلاق الجاهلية والنزعات التعصبية كانت عميقة في جذورها داخل عقول و قلوب العديد من أولئك الذين دخلوا دائرة الدين الإسلامي الجديد.

إن المؤرخ (الطبري) يحدثنا عن مسير خالد بن الوليد، بتكليفٍ رسمي من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، إلى بني جذيمة ليؤكد على دعوة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم لهم مجدداً كي يجاهروا بإسلامهم و يؤمنوا عمليا بمبادئه و قيمه بعد أن بينها و شرحها لهم.

و بالفعل، يتحرك خالد بن الوليد على رأس جماعةٍ من معاونيه لتنفيذ المهمة الموكلة إليه، و لكن ما أن يصل خالد و رجاله إلى القبيلة المقصودة حتى يظهر أمر غريب من خالد، فبعد أن وصل إلى القبيلة و عرفهم على نفسه بأنه مبعوث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم إليهم، بعد أن أعطاهم الأمان على أرواحهم و أموالهم و أعراضهم، نراه يأمر رجاله أن يجردوا رجال القبيلة من أسلحتهم، ثم يأمر بهم بعد ذلك فتوثق أيديهم، و لم يكتف خالد بفعل ذلك، بل عرضهم على السيف، فقتل من قتل منهم، فلما انتهى الخبر

ص: 20


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج2، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سویدان، بيروت، ج2 ص515

المشؤوم إلى رسول صلی الله علیه و آله و سلم رفع يديه إلى السماء، ثم قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ».

و يتابع (الطبري) حديثه قائلاً بأنه بعد أن دفع الإمام علي عليه السلام ديات القتلى نيابةً عن رسول الله و بأمره صلی الله علیه و آله و سلم، وقف رسول الله فاستقبل القبلة قائماً شاهراً يديه، حتى إنه لیری بیاض ما تحت منكبيه، و هو يقول: «اللَّهُمَّ إنِّي أبْرَأُ إلَيْكَ ممَّا صَنَعَ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ» ثلاث مرات(1).

هذا هو المشهد الأول من المشاهد الدالة على انتقال العصبية القبلية والروح الجاهلية إلى ميدان العمل الإسلامي من قبل أشخاص دخلوا إلى الإسلام وانضموا إلى صفوفه في الوقت الذي كانت فيه قلوبهم ما تزال تئن و تعاني من أمراض الجاهلية المزمنة.

أما المشهد الثاني من مجموعة المشاهد الكثيرة التي يمكن أن نوردها في بحثنا هذا، هو ذلك المشهد المأساوي الذي ذكره المفكر والباحث المصري المعاصر (خليل عبد الكريم) في كتابه (الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية) والمتعلق بمقتل أحد الرجال المسلمين على يد خالد بن الوليد أيضاً بتهمة الارتداد عن الدين، إذ إن الطريقة الوحيدة للتخلص من الخصم هي رميه بتهمة الزندقة أو الارتداد عن الدين.

و يلخص لنا الأستاذ الباحث (عبد الكريم) تلك الحادثة المأساوية والدالة على التركيبة النفسية المضطربة لخالد بن الوليد بتأكيده على أن خالداً ما أراد أن يلصق تهمة الارتداد عن الدين ب (مالك بن نويرة) إلا من أجل أن يتخلص منه و يصفو له

ص: 21


1- نفس المصدر السابق، ج3 ص68.

الجو الاغتصاب زوجته البارعة الجمال (أم تميم)، و هذا ما قام به خالد بن الوليد بالفعل، فقد أعمل خالد سيفه و سيوف رجاله في رقاب بني يربوع، رهط مالك بن نويرة، بل وقام بقتل أسراهم و من ثم قام بقتل مالك بن نويرة بنفسه و نكح امرأته في نفس اليوم، حتى أن عمر بن الخطاب لما سمع بما قام به خالد على رؤوس الأشهاد، أغلظ القول لخالد بن الوليد مهدداً متوعداً: (قَتَلَتْ امرءا مُسْلِماً ثُمَّ نَزَوْتُ عَلَى امْرَأَتُهُ ، وَ اللَّهُ لَأَرْجُمَنَّكَ بِالْحِجَارَةِ!)(1)

و بعد أن يورد الأستاذ (عبد الكريم) هذه الحادثة الشنيعة التي قام بها خالد بن الوليد بحق مالك بن نويرة و بحق زوجته أم تميم، نراه يعلق على تلك الحادثة بقوله مخاطباً القارئ ومبيناً له كيف أن بعض المؤرخين والباحثين راحوا يلتمسون الأعذار لما قام به ابن الوليد من عملية اغتصاب لزوجة رجل مسلم قتله غدراً و مكراً:

(دعك مما ذكره المؤرخون من أن تلك الزوجة (أم تميم) كانت صاحبة أجمل ساقين بين نساء العرب حتى كان يضرب بهما المثل فيقال (أحسن من ساقي أم تميم)، أو أنها كانت ذات شعر أسود فاحم ينسدل حتى منتصف ظهرها، أو أن عينيها زانهما الحور فزادهما سحراً، أو أن ابن الوليد كان يهواها في الجاهلية، دعك من كل هذا، فحتى لو كانت أم تميم تلك أقبح امرأةٍ في جزيرة العرب فما كان يجوز لخالد أن ينكحها . أو (ينزو عليها) بتعبير عمر بن الخطاب- بعد أن قتل زوجها، هذه التجاوزات التي لا يمكن تبريرها أو الدفاع عنها)(2).

و هنا نرى أنه من حقنا أن نتساءل قائلين، و دون أدنى إحراج:

ص: 22


1- خليل عبد الكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، سينا للنشر، القاهرة، 1995، ص111.
2- نفس المصدر السابق ص111.

لماذا لم تفعل الأخلاق الإسلامية فعلتها في قلب و ضمير خالد بن الوليد کي تمنعه من قتل امرئٍ مسلم من أجل مجرد الفوز بساقي زوجته الجميلة؟!

و أي إيمان هذا الذي يدفع بقائدٍ، والقائد يجب أن يكون قدوةً لغيره، إلى أن يعمد إلى نحر رجلٍ بريءٍ بعد رميه بتهم باطلة، و من ثم التمثيل بجثته و حرقها، لا لشيءٍ إلا لأن هذا المسكين قد تزوج و بطريقةٍ شرعيةٍ، من عشيقة ذلك القائد المسلم (البطل) حيث كان يهواها في الجاهلية في الوقت الذي كانت هي ترفض أن تبادله ذلك الهوی؟!

ولا أعتقد أن الإجابة على أسئلةٍ كهذه تحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء، بل أعتقد أن ما تحتاجه الإجابة هو القليل من الجرأة والموضوعية والصدق مع الذات أولاً و آخراً.

و أظن، بنفس الوقت، أين هذين المشهدين أو هاتين الحادثتين تكفيان تماماً لإعطاء صورة واضحة المعالم عن كيفية انتقال الإرث الفكري الجاهلي إلى الساحة الإسلامية عن طريق أناسٍ لم يستطيعوا أن ينفصلوا تمام الانفصال عن جاهليتهم و سلوكياتها، و لم يستطيعوا أيضا أن يتشربوا و يتمثلوا أخلاقيات و أدبيات الدين السماوي الجديد.

أما النقطة الثانية، و هي النقطة المتعلقة بقضية تضخم (الأنا) ضمن إطار القبيلة فإنني أعتقد أن هذه المسألة أيضاً أخذت طريقها إلى الدولتين الأموية والعباسية مروراً بالخلافة الراشدية ذاتها، و لا أريد أن أستفيض في شرح هذه المسألة و لا أن أكثر من الأمثلة للتأكيد على وجودها، و لكن كل ما أريد أن أقوله الآن هو أن العرب الذين يعيرون بقية القوميات والشعوب بامتلاكهم للنزعة الشعوبية، تلك النزعة التي تحط

ص: 23

من قيمة العرب و مقدارهم إنما هم مخطئون تماما في ما يدعون، فالعرب يعيرون غيرهم بالشعوبية انطلاقاً من مبدأ (الهجوم خير وسيلةٍ للدفاع) و ذلك لأننا لو راجعنا بعض المواقف التي شهدتها ساحة الخلافة الراشدية لوجدنا أن (الخليفة) ذاته كان هو البادئ في قدح شرارة تلك النزعة القائمة على احتقار بقية الشعوب و على الانتقاص من قدرهم أمام (الأنا) المتضخمة قبليا من جهة و غروبیاً من جهةٍ أخرى.

و على سبيل المثال لا الحصر، عندما تولى عمر بن الخطاب الخلافة بعد أن أوصى له بها الخليفة الأول أبو بكر، قام بعدة أعمال و إجراءات كان من شأنها أن زرعت بذور الشقاق بين العرب والعجم، و بين القبائل العربية ذاتها مما أدى إلى إزكاء نار الحقد والبغضاء بين القبائل و زيادة الشعور بضرورة التعصب والتحزب في ظل دینٍ لا يسمح أساسا بالتعصب إلا للحق وحده و لا يرغب بالتحزب إلا لمكارم الفعال و محامد الخصال

و لم يكن المؤرخون القدماء و لا الباحثون المسلمون المعاصرون هم وحدهم الذين أدركوا هذه الحقائق والوقائع، بل نرى أن المفكرين المسيحيين المعاصرين أيضاً قد أدركوا ذلك، وقد أثبتوا في كتبهم، و بالاعتماد على مصادر إسلامية سنية، أن عمر بن الخطاب حينما تولى الخلافة، (فرض العطاء على مبدأ التفضيل، ففضل السابقين على غيرهم، و فضل المهاجرين على الأنصار، والعرب على العجم، والصريح على المولى، و مضر على ربيعة، والأوس على الخزرج)(1).

و يرى بعض المفكرين المسيحيين أيضاً أن عمر بن الخطاب قد ابتعد كثيراً عن سياسة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الداعية إلى جعل الناس، أمام مقياس العدل والحق

ص: 24


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، انتشارات الهاشمي، قم، ط 3/ 1984، ص197.

متساوین كأسنان المشط، والداعية أيضاً إلى جعل التقوى هي المعيار الأساسي للتفضیل بین فرد و آخر أو قوم و آخر، إذ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، و لذلك فإن عمر بن الخطاب، في نظر ذلك الصنف من المفكرين والأدباء المسيحيين المعاصرين، قد لعب الدور الأبرز في الابتعاد عن المناقبية الإسلامية و عن الصفة العالمية للرسالة التي أرادها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم شريعة عالمية منفتحة على العالم بأسره تأبى الانعزال والتقوقع على ذاتها ضمن دائرة العروبة و داخل حدود العصبيات القبلية البغيضة(1).

و بناء على ما تقدم، ألا يعني هذا أن الحركة الشعوبية التي بلغت أوجها في العصر العباسي إنما كانت نتيجة حتمية و طبيعية للرؤی و للممارسات الاستعلائية الخاطئة التي صدرت أول ما صدرت عن (الخليفة الراشدي) نفسه؟!

ألا يعني هذا أيضاً أن هذه الحقائق التي تغص بها كتبنا التاريخية والتراثية الإسلامية، والتي تكشف النقاب عن الوجه الصحيح للكثير من الشخصيات التي لعبت دوراً بارزاً في تصنيع أحداث ذلك الماضي، ألا يعني ذلك أن هذه الحقائق الثابتة تاريخياً هي التي تخيف المفكرين والباحثين العرب والمؤرخين المسلمين المعاصرين أيضاً و تمنعهم من الخوض في مسألة إعادة كتابةالتاريخ العربي والإسلامي؟!

فهناك خوفٌ واضحٌ عند العديد من المفكرين العرب والإسلاميين تجاه مسألة إعادة كتابة التاريخ بكافة أبعاده و في مختلف مجالاته، و هم بذلك يتعاملون مع التاريخ و كأنه تاریخٌ مقدسٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لذلك لا يجوز المساس به و لا يجوز

ص: 25


1- سليمان كتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور، (ضمن مجموعة محمد شاطئ و سحاب)، دار المرتضى، بيروت، 1990م، ص718.

حتى التفكير في مجرد إعادة ترتيب أوراقه و وضع النقاط على الحروف.

و هنا نقول لهذا الصنف من المفكرين إن التاريخ ليس كتاباً مقدساً و ليس مرآة صافية تعكس دائماً الصور والوجوه كما هي عليه بالفعل، و فوق ذلك، فالتاريخ ليس إرثاً قومياً بل هو میراث إنساني عام، و لا أعتقد أن الأديب الفرنسي (ألبير كامو 1913۔ 1960) قد جانب الصواب عندما قال موضحاً وجهة نظره تجاه التاريخ العام للبشرية المتعبة وكيفية التعامل معه: (ليس للتاريخ عيون، و لذا ينبغي رفض عدالته والاستعاضة عنها قدر الإمكان بالعدالة التي يتصورها الفكر)(1).

فالتاريخ ليس مادة صماء تكتب مرةً واحدةً و بشكلٍ حاسمٍ و قاطعٍ، بل هو المادة التي يمكن، بل يجب، أن تعاد کتابتها و باستمرار على ضوء ظهور معلومات جديدة تتعلق بأي حادثة مفصلية من حوادث التاريخ أو على ضوء ظهور أدوات فكرية مستجدة تستخدم في فهم التاريخ و في تحليل أحداثه و تعليلها، بل و في كشف المزيف منها أيضاً.

و على سبيل المثال، يذكر الباحث المصري المعاصر (أحمد بهاء الدين 1927۔ 1996) في معرض حديثه عن التاريخ وعن ضرورة إعمال الفكر في دراسة التاريخ و دراسة أحداثه و كشف المزيف منها أن الكثير من المؤرخين ينسبون إلى بعض فراعنة مصر القدماء أنهم كانوا يمحون ما سبق أن حفره أسلافهم على الصخر الأصم من تسجيل للأحداث التاريخية، و كانوا يعيدون كتابة بعض تلك الأحداث ناسبين إلى أنفسهم معارك و وقائع لم يخوضوها أبداً، وانتصارات خيالية لم يحرزوها البتة،

ص: 26


1- بيير . هنري سيمون، الفكر والتاريخ، ترجمة: د. عادل العوا، المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1993م، ص5.

و جلائل أعمال لم يقوموا بها مطلقاً، سواء كان ذلك تهميشاً لحكام و فراعنة سابقين عليهم قاموا بتلك الأعمال، أو انتحالاً لفضل لا حق لهم فيه أبداً.

و ليس هذا فحسب، بل و في القرن العشرين أيضاً، و بعد أن مات (لينين) قائد و زعيم الثورة الاشتراكية الروسية، و دارت رحى الحرب العنيفة على السلطة و على المراكز السلطوية من بعده بين أشهر و أبرز رفيقين له و هما (ستالين) و (تروتسكي) انتهت تلك المعركة الحامية بانتصار (ستالين) و بهزيمة (تروتسكي) و بطرده من البلاد شر طرد.

و بعد ذلك، فقد عمد (ستالين) إلى وثائق الثورة مستخدماً سلطته الشخصية المستمدة من سلطة الدولة المطلقة و راح يمحو منها كل عمل مهم و مفيدٍ قام به (تروتسكي) في سبيل الثورة و من أجل الشعب، و ظهرت- وقتذاك-أعداد هائلة من الكتب و دوائر المعارف التي طبعت طبعات جديدة تعيد صياغة أحداث الثورة و تعيد تشریح و دراسة شخصياتها البارزة بطريقةٍ جديدة تماماً بحيث تزيل وتمحو أثر (تروتسكي) أو تشوه دوره الإيجابي في أحداث الثورة.

و لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حتى اللوحات الزيتية الرائعة التي رسمها الفنانون تخليداً لمجريات الثورة وأحداثها الحاسمة، عادت إليها ريشة الفنان، و بأمر من ستالين، كي تمحو وجه (تروتسكي) حيثما ظهر فيها، و قد قاموا بالعمل ذاته في الأرشيف الذي يحتوي على الصور الفوتو غرافية الهامة، فأجروا عليها الكثير من التعديلات التي تصب في المجرى ذاته(1).

ص: 27


1- أحمد بهاء الدين، المثقفون والسلطة في عالمنا العربي (كتاب العربي)، الكتاب 38، الكويت 15 أكتوبر، 1999م، ص157

إذن، ما حدث منذ ما يقارب الأربعة آلاف عام يتكرر أيضاً في القرن العشرين، القرن الذي غادرنا منذ سنوات قليلة فقط، و لذلك، فمما لا شك فيه أبداً، أن عادة التزييف والتلاعب بالتاريخ هي عادة مستحكم في العقول السلطوية، بل و في عقول أولئك المفكرين والباحثين الذين يعملون تحت إشراف السلطة و برعايتها، فيكتبون ما تريده السلطة الحاكمة و يحذفون ما تشاء و يحرفون و يشوهون ما ترغب فيه و تبتغيه.

وانطلاقا من هذه الحقيقة نستطيع أن نؤكد أن تاريخنا العربي والإسلامي هو عبارة عن حلقة من حلقات التاريخ البشري الطويل، و بالتالي هو أيضا معرض للتزييف والتشويه و قلب الحقائق رأسا على عقب، شأنه في ذلك شأن أي تاريخ كتب بسياط الجلاد أو بسيف السياف أو حتى بريشة الكاتب المعتاش على فتات موائد السلطان الحاكم.

و لسنا هنا بمعرض الحديث المطول والمعمق حول حجم و طبيعة التشويه والتزييف اللذين لحقا بتاريخنا، و بشكلٍ خاص التاريخ الإسلامي الذي كان له النصيب الأوفر من طمس الحقائق قياساً بما لحق التاريخ العربي عموماً من تزویر و قلب للوقائع والحقائق، و لكن كل ما نريد أن نقوله هنا هو أن حادثة كربلاء، تلك الحادثة الفاجعة التي اهتر لها الضمير الإنساني عموماً لم تكن أيضاً بمعزلٍ و بمنأى عن يد الدهاء والمكر التي تريد أن تنال من قيمتها الفكرية و من معانيها الروحية، بل و ترید أن تجمل صورة القاتل أيضاً في الوقت الذي تريد فيه أن تشوه صورة الضحية و تزيف قائمة المبادئ والقيم التي كانت تلك الضحية تسعى لتحقيقها بكل ما أوتيت من عزمٍ وتصميمٍ و إيمان.

و من هنا يأتي دور كتابنا هذا في الرد على أولئك المتعصبين الذين يريدون أن

ص: 28

يدافعوا عن القتلة وأن يلتمسوا لهم الأعذار والحجج في كل ما أقدموا عليه من عملٍ شنيع أو تصرفٍ فظيعٍ يتنافى مع أبسط قواعد و مبادئ الإسلام و مع أدنى حد من حدود الإنسانية.

و ليس هذا فحسب، بل يأتي دور هذا الكتاب أيضا في كشف الكثير من الحقائق التي تتعلق بالمبادئ والأهداف والغايات التي يسعى إلى تحقيقها كل من الطرفين المتصارعين في كربلاء على كافة المستويات الحياتية والأخروية.

والأهم هذا، هو أن الزاوية التي سننظر منها إلى فاجعة كربلاء لن تكون زاوية ذات نظرةٍ شيعية أو رؤية إمامية، بل ستكون الرؤية منطلقة من زاوية أكثر اتساعاً و شمولية، إنها الرؤية المبنية على الفكر الإنساني العام و على الضمير العالمي الشامل، إنها تلك الرؤية الإنسانية العالمية التي لا تعترف بحواجز المكان و لا تعترف بحدود الزمان، و لا حتى بمبدأ تأطير الفاجعة ضمن خطوط و حدود الدين الواحد الذي ولدت الفاجعة الكربلائية في أحضانه.

و يرى أصحاب تلك النظرة الإنسانية العامة أن المساحة الزمنية التي تحتلها کربلاء على امتداد الوجود البشري تبدأ منذ اليوم الذي اغتال فيه (قابیل) أخاه الوحيد والمظلوم (هابیل) باللجوء إلى الحوار الدمائي معه دون وجه حق، و تنتهي عند حدود آخر فاجعة يمكن أن يشهدها مسرح الحياة في عملية الصراع المرير والدائم بين قوى الخير و قوى الشر، فالفاجعة الكربلائية عند أولئك المفكرين والأدباء- كما سنرى لاحقاً في فصول هذا الكتاب- تمثل الاختزال الحقيقي لكل بلاء وابتلاءٍ حل بعالم الأنبياء والرسل أو بعالم الفواجع البشرية التي دفع فيها الإنسان المؤمن أغلى ما يملك من ولدٍ و مالٍ و روحٍ ودماءٍ من أجل الدفاع عن قيم الحق والخير والفضيلة و من أجل

ص: 29

إبقاء الشعلة الإلهية حيةً و دائمةً الاتقاد في صدور المؤمنين بالله من جهة، و بكرامة الإنسانية و قيمها و مثلها الرفيعة من جهة أخرى.

و هنا نعتقد أن الوقت قد حان فعلا للانطلاق في رحلتنا المؤثرة عبر صفحةٍ داميةٍ من صفحات التاريخ الإسلامي لنتعرف من خلالها على ماهية الصراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين النفس المطمئنة والنفس المسؤلة، و ليكن شعارنا دائماً هو: (الحق هو القوة و ليست القوة هي الحق).

ص: 30

أهل البيت علیهم السلام عماد الوجود و رحمته

أن نبدأ الحديث عن أهل البيت النبوي الشريف عليه السلام، معنى ذلك أن نتحدث عن رسالة الإسلام السماوية بكل قيمها و بكل أبعادها الروحية والفكرية، معنى ذلك أن نتحدث عن القرآن العظيم الخالد بكل ما يختزن من مفردات وجودية و بكل ما يملك من ذخائر معرفية تتناول الحیاتین الدينية والدنيوية.

أن نتحدث عن أهل البيت المحمدي عليهمالسلام الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيراً، معنى ذلك أن نتحدث عن الطهر الإلهي و عن الصفاء السماوي الأزلي السرمدي المستمد في وجوده و بقائه من ديمومة الحق الأبلج المطلق، ذلك الحق الذي لا يحد بحد و لا يقاس بند

أن نتحدث عن آل بيت المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذين افترض الله سبحانه و تعالی مودتهم و محبتهم في محكم تنزيله الشريف على كل مسلمٍ و مسلمة و مؤمنٍ ومؤمنةٍ، يعني ذلك أن نتحدث عن معاني الحب و رموزه، عن التجسيد العملي والحركي لكل جانبٍ من جوانب الحب الأسمى، عن تلك القوة الهائلة التي يمنحنا الحب إياها كي نقف بثباتٍ و بقوة إيمان أمام رياح الشر و عواصفه و أمام الأمواج العاتية التي تجتاحنا أحياناً من الداخل حيث تستيقظ مع تلك الأمواج كوامن النفس الأمارة بالسوء و تثور معها أيضاً نزعات و رغبات النفس المسؤلة لتجعل من ذواتنا هشيماً و حطاماً، بل وأثراً بعد عين أيضاً.

ص: 31

فالله محبة، والمحبة لا تفيض إلا من ذاتها و لا تلقي على الآخرين إلا و ريف ظلالها.

والمحبة نور أيضاً، والنور لا يقبل أن يجتمع مع الظلام في مكان واحد و في زمان واحد أبداً.

و لأن الله نور و لأن الله محبة، فإن الله سيتجلی نوراً و محبةً في قلوب المحبين العاشقين: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ»(1)، فدائرة العشق الإلهي لن تكتمل عند العاشق المحب ما لم يصل الی حالة محو المحب لصفاته من أجل إثبات و تأكيد المحبوب بذاته.

والحب في وجودنا لا يتحرك في فراغ و لا يتجسد و يتجلى في غير أهله، الحب ليس معنى مجرداً و ليس هو عبارة عن حالة غيبية ميتافيزيقية، بل هو حالة حركة و ثورة داخلية، و هو حالة توحدية يتحد فيها المحب مع الحب ذاته من أجل الوصول إلى الحبيب المقصود.

فروح المؤمن أشد اتصالاً بالله من شعاع الشمس بقرصها، و كذلك الحال في نهاية المطاف بين الطالب والمطلوب، بين الحبيب والمحبوب.

و عندما نتكلم عن أهل البيت عليهم السلام فإننا نتكلم عن كلمات الله التامات التي تلقاها سیدنا آدم (عليه الصلاة والسلام) من ربه الغفور الرحيم فتاب عليه، فأهل بيت الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم هم الكلمات التامات و هم أنوار العرش العظيم و هم مصابيح الهدى و سفن النجاة، و هم سفينة نوح و باب حطة، و هم عماد الوجود و أساس كل موجود.

ص: 32


1- سورة المائدة: الآية 54.

و ليست هذه الأوصاف المختصة بأهل البيت علیهم السلام هي مجرد أوصافٍ نلتقي بها كثيراً في كتب و مؤلفات المسلمين الشيعة بحيث يخيل للمرء أنها أوصاف مبالغ فيها و ربما تكون أوصافاً نابعةً من عاطفةٍ مذهبيةٍ جياشة تتجاوز في عمقها و شدتها كل حد و تصورٍ، بل هي في الواقع أوصاف حقيقية صادقة و يمكن لنا أن نقع عليها في الكثير من مؤلفات و دواوين إخواننا المسلمين السنة، و ليس هذا فحسب، بل حتى أنه يمكننا أن نقرأ تلك الأوصاف العميقة والتوصيفات الدقيقة في الكثير من كتب و دواوين و دراسات المفكرين المسيحيين أيضاً.

والشيء الآخر الذي يمكننا أن ندركه أيضاً هو أن تلك الصفات العميقة التي ذكرناها بشأن حقيقة أهل البيت عليهم السلام والتي سنستعرضها لاحقاً في كتب السنة والمسيحيين، لم تكن ناتجةً عن عاطفةً مذهبيةٍ أو عن عصبيةٍ فئوية، بل هي أوصاف و حقائق جاء بها رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك الرسول الذي لا ينطق عن الهوى، بل هو الرسول الأمين الذي يبلغ الناس ما يوحى إليه عن رب العالمين دون زيادةٍ أو نقصان و بكل صدق و أمانة.

و لو توقفنا الآن قليلاً مع أهل البيت علیهم السلام، ذلك البيت النبوي الشريف والذي يمثل الإمام الحسين عليهه السلام أحد أقطابه الهامة، فإننا نستطيع أن نقول من خلال هذه الوقفة القصيرة إن أهل البيت النبوي عليهم السلام هم المرموز إليهم في محكم التنزيل ب (المؤمنين) وَ(الصادقين) و(خير البرية) و(أهل الذكر) وإلى غير ما هنالك من أوصافٍ حميدةٍ لا تليق إلا بهم علیهم السلام.

و فوق كل ذلك، هم معتمد كل الأنبياء والمرسلين السابقين علیهم السلام، و هم كهفهم و ملاذهم، و بهم و بفضلهم كانت نجاتهم من المهالك و كان خلاصهم من كل هم

ص: 33

و غم.

فما هي الكلمات التي تلقاها آدم عليه السلام من ربه حتى تاب عليه؟!

و ماذا قال سيدنا إبراهيم علیه السلام حتى جعل الله سبحانه وتعالى النار برداً وسلاماً عليه؟!

و كيف فرج الله الكربات عن النبي الصابر أيوب؟!

وكيف استجاب الله لدعاء يعقوب؟!

و كيف تخلص سیدنا يوسف من البلاء العظيم عندما ألقي في غياهب الجب؟!

إنها، بلا شك، أسئلة بالغة الحساسية و مثيرة بالفعل، غير أن الإجابة عليها ستكون بدورها أكثر إثارةً وأعظم دلالة على خصيص مكانة أهل البيت علیهم السلام في الكتابين الإلهيين العظيمين، الكتاب التدويني المتمثل بالقرآن الكريم، والكتاب التكويني المتمثل بالوجود و عالم الإمكان.

و قبل الإجابة على بعض تلك الأسئلة المطروحة سابقة، لابد لنا من الوقوف على تفسير بعض الآيات القرآنية الشريفة لنتعرف من خلالها على المكانة الرفيعة التي يشغلها آل بيت النبوة في الكتاب الإلهي العظيم.

و على سبيل المثال، فقد جاء في كتاب (الصواعق المحرقة) الشهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، و في غيره من كتب السنة المعتبرة، في تفسير قوله تعالى: «مَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً»(1).

قوله: وأخرج أحمد عن ابن عباس (في تفسير الآية المذكورة) هي (المودة لآل

ص: 34


1- سورة الشورى: الآية 23

محمد صلى الله عليه (وآله) وسلم).(1)

و قد جاء في العديد من كتب السنة أيضا أن المقصود من قوله تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»(2) هم آل بيت محمد صلی الله علیه و آله و سلم ، و على سبيل المثال أيضاً، فقد ذكر المتقي الهندي الحنفي في كتابه (کنز العمال) والحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي في كتابه (الدر المنثور) أن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال لما نزلت هذه الآية «أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ»: «ذَاكَ مَنْ أَحَبَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ أَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي صَادِقاً غیر کاذب وَ أَحَبَّ الْمُؤْمِنِينَ شَاهِداً وَ غَائِباً ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ يَتَحَابُّونَ»(3).

و قد جاء في صحيح الإمام مسلم أنه لما نزلت هذه الآية «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَ أَبْنَاءَكُمْ وَ نِسَاءَنَا وَ نِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا

ص: 35


1- راجع ما جاء في كل من: أ- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، المطبعة الميمنية بمصر المحروسة، 1312ه، ص 101. ب- الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك الصحيحين، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد دکن، 1324ه، ج3 ص172. ج- الإمام محمود بن عمر الزمخشري، تفسير القرآن المسمى بالكشاف، مطبعة مصطفى محمد بمصر، 1354ه، راجع ما جاء في تفسير الآية المذكورة ضمن شرح سورة (الشوری). د- الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، المطبعة الميمنية بمصر، 1314ه، راجع تفسير الآية المذكورة ضمن شرح سورة (الشوری).
2- سورة الرعد : الآية 28
3- راجع على سبيل المثال ما جاء في: أ. المتقي الهندي، كنز العمال ج 1 ص 251، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد دکن، 1312ه. ب. الإمام السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، راجع ذیل تفسير الآية المذكورة.

وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(1) و هي الآية المعروفة باسم آية المباهلة، دعا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم عليا و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام فقال: «اللَّهمَّ هؤلاءِ أَهلُ»(2).

و هناك أيضاً عشرات الآيات القرآنية المباركة التي نزلت لتبيان فضائل أهل البيت المحمدي الطاهر عليهم السلام و لإظهار خصيص مكانتهم و سمو مواقعهم، و لكننا لا نستطيع أن نورد كل ما جاء في حقهم من مدح و ثناء في محكم التنزيل الإلهي المبارك و ذلك لأن موضوع کتابنا الأساسي يفرض علينا أن لا نسهب كثيراً في الكلام عن كل ما من شأنه أن يبعدنا عن الفكرة الأساسية والموضوع الرئيسي لهذا الكتاب.

و لكن يكفي أن نقول إن آية المودة «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ...» و هي الآية رقم (23) من سورة الشورى، و إن آية التطهير «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا» و هي الآية (33) من سورة الأحزاب، هما آیتان قرآنیتان واضحتان من حيث نزولهما على آل بيت المصطفى علیهم السلام بحيث إن كل المفسرين والرواة المسلمين، على مختلف أطيافهم و مشاربهم قد أجمعوا على نزولهما في أهل بيت محمد عليهم السلام حصراً.

و لو انتقلنا الآن من دائرة القرآن الكريم إلى دائرةٍ أخرى، و هي دائرة الحديث النبوي الشريف، لنرى كيف كان الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم ينظر إلى أهل البيت عليهم السلام و كيف كان يراهم بنور بصيرته و بصفاء سريرته، فإننا سنقع أيضاً على الكثير من الأحاديث النبوية الهامة التي تتداولها كتب المسلمين جيلاً إثر جيل، و ستبقى، بلا

ص: 36


1- سورة آل عمران: الآية 61.
2- الإمام مسلم، صحيح مسلم ج7، مطبوعات محمد علي صبيح و أولاده . مصر، راجع ج7 ص120. 121.

ریب، كذلك طالما أن المسلمين يسمعون الأذان والصلاة على محمد و آل محمد خمس مرات في كل يوم.

و على سبيل المثال، روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده عن أبي هريرة أنه قال: نظر النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم إلى علي والحسن والحسين و فاطمة علیهم السلام، فقال: «أَنَا حَرْبٌ لِمَنْ حَارَبَكُمْ وَ سِلْمٌ لِمَنْ سَالَمَكُمْ»(1).

أما الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله الشهير ب (المحب الطبري) فقد روى في كتابه ( الرياض النضرة) عن أبي بكر أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم خيم خيمة و هو متكئ على قوس عربية، و في الخيمة علي و فاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، فقال: «مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنَا سِلْمُ لِمَنْ سَالِمٍ أَهْلِ الْخَيْمَةِ ، حَرْبُ لِمَنْ حَارَبَهُمْ ، وَلِيُّ لِمَنْ وَالَاهُمْ، لا يُحِبُّهُمْ إِلَّا سَعِيدُ الْجَدِّ ، طَيِّبُ الْمَوْلِدِ ، وَ لَا يُبْغِضُهُمُ إِلَّا شَقِيُّ الْجَدِّ ، رَدِي ءُ الْوِلَادَةِ»(2)

و قد روى الحاكم النيسابوري أيضاً في كتابه (مستدرك الصحيحين) عن زيد بن أرقم أنه قال: لما رجع رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم من حجة الوداع و نزل غدیر خم أمر بدوحاتٍ فقال: «كأني قد دعي فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر، ك تَابَ اللَّهُ تعالی وَ عِتْرَتِي فَانْظُرُوا كَيْفَ تَخْلُفُونِّي فِيهِمَا ، فَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عَلَيَّ الْحَوْضَ»(3)

و ربما كان الحديث النبوي الشريف الذي سنورده الآن هو الحديث الأكثر شهرة في كتب المسلمين عموماً، إنه حديث الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي يصور فيه أهل

ص: 37


1- راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل ج 2 ص 442، طبع المطبعة الميمنية بمصر، 1313ه.
2- المحب الطبري، الرياض النضرة ج2 ص199، مطبعة الاتحاد المصري . الطبعة الأولى.
3- الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين ج3 ص109، مصدر سابق.

بيته عليهم السلام بصورة باب حطة و بسفينة نوح، فقد جاء في الكثير من كتب المسلمين السنة أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، الذي لا ينطق عن الهوى، أنه قال: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي مِثْلَ سَفِينَةُ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَ مَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِقَ»(1)، وأنه صلی الله علیه و آله و سلم قال في موضعٍ آخر: «إنما مثل أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق، و إنما مثل أهل بيتي فيكم مثل باب حطة في بني إسرائيل من دخله غفر له»(2).

و لا شك في أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد استفاض في بيان مكانة أهل البيت علیهم السلام للمسلمين و كان صلی الله علیه و آله و سلم دائم التذكير بضرورة التمسك بهم و بموالاتهم و اتباع نهجهم و لو بخوض اللجج و سفك المهج و ذلك لأنهم هم علیهم السلام في نهاية المطاف وجه الرحمن و ترجمان القرآن.

وانطلاقا من هذه النقطة الهامة والأساسية نرى لزاماً علينا أن نذكر المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة التي وردت في كتب إخواننا السنة و التي كان لها أبلغ الأثر في نفوس عموم المسلمين من جهةٍ و في نفوس و عقول الكثير من المفکرین

ص: 38


1- راجع على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في: أ. الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين ج2 ص343، مصدر سابق. ب . الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء ج4، ص306، مطبعة السعادة بمصر، 1351ه. ج. الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ج12 ص19، مطبعة السعادة بمصر، 1349ه. د. الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله (المحب الطبري)، ذخائر العقبى ص 20، مكتبة القدسي. القاهرة، 1354ه. ه . الحافظ زین الدین عبد الرؤوف المناوي، كنوز الحقائق ص137، مكتبة الزهراء . القاهرة ط 1، 1985م.
2- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد ج 9 ص168، مكتبة القدسي . القاهرة، 1352ه.

المسيحيين وغير المسيحيين من جهةٍ أخرى.

و لكن قبل أن نورد المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة المتعلقة بفضائل أهل البيت عليهم السلام و بسمو مكانتهم، ينبغي أن أشير إلى أن الاستزادة من هذه الأحاديث النبوية الشريفة عن أهل البيت عليهم السلام عموماً ليست خروجاً عن موضوع بحثنا الأساسي والمتمثل بالحديث عن الإمام الحسين عليه السلام و عن ثورته المباركة، و إنما هي جزء هام من موضوع بحثنا و ذلك لأن أهل البيت عليهم السلام ذوو جوهرٍ واحدٍ و معدنٍ واحد، و بالتالي فإن الكلام عنهم عليهم السلام هو بنفس الوقت كلامٌ عن كل فردٍ منهم، والكلام عن كل فردٍ منهم هو، بالضرورة أيضاً، كلامُ عنهم بالإجمال و ذلك بسبب التوحد في الجوهر والتعدد في المظهر.

و لا ريب في أن الشاعر المسيحي المعاصر (خليل فرحات) كان محقاً في قصيدته المطولة (في محراب علي) عندما و صف أهل البيت عليهم السلام بأنهم أكثر رقةٍ و شفافية من النور ذاته لأنهم هم في مجملهم يمثلون خلاصة اللطف النوراني الإلهي، و ها هو يقول معلناً ذلك بكل صدقٍ و إيمانٍ ومؤكداً على حقيقة توحدهم في الجوهر و تعددهم في المظهر:

محال عبور الشمس جسر شروقهم *** و هم يعبرون الضوء من غير ما جسر

يذوبون في الأنوار حتی كأنهم *** خلاصة لطف الله في خالص الأجر(1)

و على كل حالٍ، و حتى لا نطيل المقدمات على قارئنا الكريم، دعونا الآن

ص: 39


1- خليل فرحات، في محراب علي (مطولة شعرية) و هي منشورة بالكامل تقريباً في مجلة (الموسم) العدد السابع، صدر العدد في هولندا (1990)، أما القصيدة الكاملة فمطبوعة بشكلٍ مستقل و تحمل نفس العنوان أيضأ مع مقدمة طيبة بقلم الأديب والشاعر اللبناني الراحل نجيب جمال الدين، راجع البيتين السابقين في الصفحة 27.

نستعرض باقةً من أحاديث النبي المصطفی حول حقيقة منزلة أهل بيته عليهم السلام المطهرين من كل دنسٍ و رجس

قال الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم: «مَن حَفِظَني فِي أَهْلِ بَيْتِي فَقَدِ اتَّخَذَ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً»(1)

و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «شَفَاعَتِي لِأُمَّتِي مَنْ أَحَبُّ أَهْلِ بَيْتِي وَ هُمْ شِيعَتِي»(2).

و قال صلی الله علیه و آله و سلم في موضعٍ آخر و على رؤوس الأشهاد: «من مات على حب آل محمد مات شهيداً، ألا ومن مات على حب آل محمد مات مغفوراً له، ألا و من مات على حب آل محمد مات تائباً، ألا و من و مات على حب آل محمد مات مؤمناً مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حب آل محمد بشره ملك الموت بالجنة ثم منكر و نكير، ألا و من مات على حب آل محمد يزف إلى الجنة كما تزف العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حب آل محمد فتح له في قبره بابان إلى الجنة، ألا و من مات على حب آل محمد جعل الله قبره مزاراً لملائكة الرحمن، ألا و من مات على حب آل محمد مات على السنة والجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمد جاء يوم القيامة مکتوباً بين عينيه آیسٌ من رحمة الله، ألا و من مات على بغض آل محمد مات كافراً، ألا و من مات على بغض آل محمد لم يشم رائحة الجنة»(3)

و من الأحاديث النبوية الهامة التي يمكن أن نذكرها هنا، هو ذاك الحديث الذي ورد أيضاً في العديد من كتب السنة والذي يمتلك في ذاته دلالات معنوية عميقة لا

ص: 40


1- المحب الطبري، ذخائر العقبى ص18، مصدر سابق.
2- الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ج2 ص146، مصدر سابق.
3- راجع ما جاء في : أ. الزمخشري، التفسير المسمى ب (الكشاف)، مصدر سابق، راجع ما جاء في تفسير قوله تعالى: «قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبي» في سورة الشورى. ب. العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة ج1 ص26، مؤسسة الأعلمي . بيروت.

يمكن لكل ذي لب أن يغضي عنها أو أن يتجاهلها أبداً، و يقول نص الحديث، كما جاء في كتب إخواننا السنة: «من لم يعرف حق عترتي والأنصار، فهو لإحدى ثلاث: إما منافق، و إما كرنية، و إما لغير طهر، يعني حملته أثره على غير طهر»(1)

و لا ريب في أن كلام الرسول صائبٌ تماماً في شأن من لم يعرف حق عترته و أنصاره، بل كيف لا يكون الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم صائباً في ذلك و هو القائل مخاطباً المسلمين في منطقة (الجحفة): «ألست أولی بكم من أنفسكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله، قال:

«فَإِنِّي سَائِلُكُمْ عَنِ اثْنَيْنِ : عَنِ الْقُرْآنِ ، وَ عَنْ عِتْرَتِي»(2)

و عندما يقول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم هذا الكلام عن الكتاب وعن العترة، فإن هذا يعني أن الرسول يريد أن يقول للمسلمين على مر العصور والأجيال أن هناك علاقةً و طيدةً و رابطةً وثيقة بين طرفي المعادلة الأكثر أهمية في رسالة الإسلام.

فالطرف الأول من المعادلة هو القرآن الكريم، ذلك الكتاب السماوي الخالد الذي «لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ»(3)، وبالطبع ليس المقصود هنا من كلمة (لا يمسه) عملية اللمس المادي، فشتان بين المس واللمس، فاللمس عملية احتكاك مادي، بينما المس عملية نفسية معنوية كأن نقول: إن فلاناً من الناس فيه مسٌ من الشيطان أو

ص: 41


1- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت ص 45، منشورات معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1988م.
2- راجع ما جاء في : أ. الحافظ جلال الدين السيوطي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت ص62، مصدر سابق. ب. الحافظ الهيثمي، مجمع الزوائد ج5 ص195، مصدر سابق. ج. الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء ج1 ص64، مصدر سابق.
3- سورة الواقعة: الآية 79.

الجن.

و بالتالي، فإن المقصود من الآية السابقة شيئان أساسيان، و هما: أولاً: لا يستطيع أحدٌ أن يمس معاني القرآن النبيلة و قيمه السامية ما لم يكن ذلك المرء من أصحاب الطهارة الروحية والنقاوة النفسية بإقبالهم على الله و بمحبتهم لرسوله و كتابه.

ثانية، إن المقصود من الآية السابقة هو أن القرآن بذاته هو کتاب طاهر مطهرٌ من كل نقصٍ و خطأ و عيب، فهو كتابٌ سماوی کامل و خالد و قد صدر حقاً عن إلهٍ حکیمٍ مطلق الكمال والجلال.

أما الطرف الثاني من المعادلة، فهو العترة الطاهرة، تلك العترة المباركة التي أخبرنا الله سبحانه و تعالى عنها بأنه قد أذهب عنها الرجس و طهرها تطهيراً، و هذا يعني بدوره أن عترة النبي المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم هم أيضاً، كالقرآن الكريم، مبرؤون من كل نقصٍ وخطأ و عيب، فهم بالتالي يمثلون الجانب العملي والحركي من القرآن الكريم.

و بما أن القرآن الكريم هو الكتاب الشامل لدراسة مفردات الحياة الدينية والحياة الدنيوية، فإن عترة محمد المصطفى علیهم السلام هم رسل القرآن إلى الإنسان، و هم أيضاً صوت الرحمن بين خلقه، و لذلك، عندما نفتح و نقرأ الصفحة تلو الصفحة في كتاب أهل البيت الشريف علیهم السلام، فإن ذلك يعني أننا نقرأ صفحات الإيمان في كتاب الإسلام برحابته مثلاً و قيماً، و بسعته فكراً و علماً، و بامتداده و عمقه نهجاً و سلوكاً واتساع حياة.

فكل صفحةٍ نقرؤها عن أهل البيت علیهم السلام نقرأ فيها غايات المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم السامية و أهدافه النبيلة، و نرى فيها تجليات العظمة و أطياف الأنوار العلوية المتماهية في جوهرها و معدنها مع أنوار الكتاب السماوي الأقدس المنفتح على مسرح الوجود بكل أبعاده و متحولاته، و بكل انطلاقاته و مستجداته المادية والمعنوية، جسداً و روحاً.

ص: 42

و مع ذلك، قد يستغرب بعض القراء عندما تقع عيونهم على ما كتبه الأستاذ الأزهري (فكري أبو النصر) عن مكانة أهل بيت النبوة عليهم السلام عند الباصرين من أهل الستة، فالأستاذ (أبو النصر) أحد خريجي الأزهر الشريف، و كان يعمل محرراً في جريدة الأهرام القاهرة، و له عدة مؤلفات فكرية مثل (من كفاحنا الفكري) و(ذكريات خالدة) و غيرهما.

و قد درس الأستاذ (أبو النصر) التاريخ الإسلامي دراسةً وافية و عميقة، و درس بنفس الوقت الخلافات المذهبية بين العديد من المذاهب والطوائف الإسلامية و مرتكزات تلك الخلافات و أسبابها، و لكنه أبى أن يقول إلا الحق بعد أن انتهى من تلك الدراسات والتحليلات، و كان من جملة ما قاله عن المكانة الحقيقية لأهل البيت النبوي المطهر كطهر القرآن:

(و إيمان الشيعة المطلق بأن الإمام علياً و آل البيت النبوي الكريم كانوا أحق بها و أهلها صلاحاً لأمر الإسلام والمسلمين إلى يوم الدين، و هو ما يؤمن به و يتفق معهم صفوة كبيرة من علماء السنة كذلك.

... فأي سني ینکر على آل البيت طهرهم و أحقيتهم في الخلافة الدينية للمسلمين، أو ینکر تشیعه لهم والاستضاءة بنورهم!!)(1).

نعم، قد يبدو هذا الكلام غريباً لأول وهلة، خاصةً أنه كلامٌ صادرٌ عن قلم مفکرٍ سني أزهري، و لكن سرعان ما ستتبدد غيمة الغرابة تلك بعد أن نقرأ عشرات الكتب والمقالات المشابهة لما قاله الأستاذ (أبو النصر)، و لكن هذه المرة من أقلام مفکرین

ص: 43


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية ص187، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط1، 1979م.

ليسوا بالشيعة و لا حتى بالسنة، و إنما من أقلام مسيحية أبت أن تنطق إلا بالحق، و رفضت أن تبوح إلا بالصدق.

و ها هو المفكر والأديب اللبناني (نصري سلهب)، و هو مفکر مسیحي بارز، یری أن أحد أهم أسباب تراجع العرب والمسلمين و تقهقرهم و تخلفهم عن الركب الحضاري هو ابتعادهم عن أهل البيت عليهم السلام و عن مبادئهم و تعاليمهم، فالعرب والمسلمون الذين تنکروا لأهل الحق في الماضي حيث قبلوا أن يحكمهم و يتأمر عليهم من هو ليس بالشخص الجدير باستلام زمام أمور المسلمين مبعداً أهل الخلافة الحقيقية تارةً بالسم والنار و تارةً أخرى بالسيف والدماء، هم العرب والمسلمون الذين فاتهم لاحقاً اللحاق بركب المستقبل الحضاري الذي تعيشه الكثير من الأمم الحالية دونهم، فالخوف على العرب والمسلمين، إذن، هو خوفٌ من الأمس على الغد.

و ها هو الأستاذ (سلهب) يقول بكل صراحةٍ وجرأةٍ معبراً عن ذلك:

(كلما ذكرت (أمة العرب) أن أولئك الذين جعلوا من أنفسهم أمراء مؤمنيها، خلفاء نبيها، وارثي رسول ربها، قد استباحوا الدم الزكي العطر فغدروا بأهل البيت، أولاد و رضعاً، نساءً وعجزاً، فتیاتٍ وعزلاً.

كلما ذكرت أن الغادرين، سافكي الدماء، هادري الحياة، هم منها عرب أقحاح، بکت وخافت من أمسها على غدها)(1).

و يحق لهذا المفكر المسيحي أن يقول ذلك لأن الإنسان الذي يرى بنور بصيرته قبل أن يرى بنور عينيه سيرى أن الأمة التي تخالف أهم وصایا رسولها السماوي لن يكون مصيرها أفضل من مصير الأمم السابقة التي قامت بنفس الفعل وارتكبت نفس

ص: 44


1- نصري سلهب، في خطى علي ص17، دار الكتاب اللبناني . بيروت، ط 1، 1973م.

الأخطاء.

فالأمة التي تدعي أنها أمة القرآن في الوقت الذي تخلت فيه عن التمسك بالطرف الثاني من وصية نبيها الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم (القرآن والعترة)، هي أمةٌ تعيش حالةً من حالتين اثنتين: إما حالة النفاق الروحي و إما حالة الفصام النفسي، و في كلتا الحالتين هي أمةٌ جديرةٌ بالرثاء لما آل إليه أمرها واستقرت عليه حالتها.

و مهما يكن من أمر، فرب قائل يقول لنا: قد عرفنا مكانة آل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في القرآن الكريم، و عرفنا أيضاً منزلتهم الرفيعة عند رسول رب العالمين صلی الله علیه و آله و سلم، فهل لنا أن نتعرف على مكانتهم من خلال ما وصفوا هم أنفسهم به؟!

أليس من العدل والحكمة أن نستمع إليهم و هم يصفون أنفسهم - و هم العترة الصادقة في كل ما تقول-خاصةً و هم المطهرون من كل رجس والمنهون عن كل دنسٍ بشهادة القرآن الكريم؟!

نقول لكل من يسأل ذلك: إنك محقٌ في طلبك و صائبٌ في مرماك، و ها نحن نلبي لك مطلبك بكل سرورٍ و برحابة صدر، و ليكن أول قول يمكن أن نستشهد به الآن على حقيقة منزلة أهل بيت النبوة علیهم السلام هو قول أمير المؤمنين و سيد البلغاء والمتكلمين و إمام المتألهين علي بن أبي طالب علیه السلام.

يقول الإمام علي عليه السلام في كتاب (نهج البلاغة): «هم عيش العلم وموت الجهل، يخبركم حلمهم عن علمهم، و صمتهم عن حکم منطقهم، لا يخالفون الحق، و لا يختلفون فيه، و هم دعائم الإسلام، و ولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، و انزاح الباطل عن مقامه، و انقطع لسانه عن منبته، عقلوا الدین عقل و عاية و رعاية، لا

ص: 45

عقل سماع و رواية، فإن رواة العلم كثير، و رعاه قليل»(1).

إنهم عليهم السلام، إذن، حياة العلم و بقاؤه، و هم أيضاً موت الجهل و فناؤه، إنهم عليهم السلام أهل الحق في منهج الصدق، و هم راية الرحمن و مدحرة الشيطان.

و لو انتقلنا من قول أمير المؤمنين علي علیه السلام إلى قول ابنه الأكبر، الإمام الحسن الزكي عليه السلام فماذا يمكننا أن نقرأ في وصفه لأهل البيت النبوي الكريم؟!

بالطبع، بإمكاننا أن نقرأ الكثير والكثير عن و صفه لآل بيت محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و لكتنا لن نطيل على القارئ الكريم و سنكتفي بذكر مقولةٍ واحدةٍ من مقولاته الكثيرة والهامة، و سنعتمد في ذكر هذه المقولة على ما جاء في كتاب (مستدرك الصحيحين) للحاكم النيسابوري.

لقد ذكر الحاكم النيسابوري بسنده عن علي بن الحسين عليهماالسلام ، قال: خطب الحسن بن علي عليهماالسلام على الناس حين قتل علي عليه السلام فحمد الله و أثنى عليه، فساق الحديث إلى أن قال «أيها الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا الحسن بن علي، و أنا ابن النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم، و أنا ابن الوصي، و أنا ابن البشير، و أنا ابن النذير، و أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه، أنا ابن السراج المنير، و أنا من أهل البيت الذين كان جبريل ينزل إلينا و يصعد من عندنا، و أنا من أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرة، و أنا من أهل البيت الذين افترض الله مودتهم على كل مسلمٍ، فقال تبارك و تعالى لنبيه صلى الله عليه (وآله) و سلم «قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ»(2)، «وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً ن-زدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا»(3)فَاقْتِرَافُ الْحَسَنَهًِْ

ص: 46


1- الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، الدار الإسلامية . بيروت، ط 1 ص1992، ج2 ص398
2- سورة الشورى: الآية 23.
3- سورة الشورى: الآية 23.

مَوَدَّتَنَا أَهْلَ اَلْبَيْتِ».(1)

أما ما جاء عن الإمام الحسين عليه السلام ، الذي هو الموضوع المحوري في كتابنا هذا، بشأن وصفه لأهل بيت النبوة و معدن الرسالة، فسنرجئ ذكره الآن إلى المكان الذي نراه مناسباً حيث أوضح فيه الإمام الحسين عليه السلام للمسلمين من هم أهل البيت علیهم السلام و ما هي رسالتهم و ما هي غاياتهم و أهدافهم.

و إذا كنا قد تجاوزنا الآن ما قاله الإمام الحسين عليه السلام، فإننا بالطبع لن نتجاوز ما قاله ابنه الإمام علي زين العابدین علیه السلام بشأن الموضوع نفسه.

فالإمام زین العابدین علیه السلام شهد فاجعة كربلاء الدامية و شهد كيف كان الشهداء من أهل البيت علیهم السلام و من أنصارهم الكرام يتساقطون الواحد تلو الآخر کتساقط أوراق الخريف المنذرة بقدوم شتاء عاصفٍ و مظلمٍ لا يعرف للرحمة طريقاً و لا للشمس سبيلاً، إنه شتاء الأعاصير و ظلام الليالي الحالكة لا شتاء الخير والبركة، إنه شتاء الجفاف واليباب والموت عطشاً!!

و للإمام زین العابدين عليه السلام العديد من الأقوال والخطب التي تتناول وصف أهل البيت عليهم السلام و وصف الأهداف والغايات السامية التي سعوا لتحقيقها مع معرفتهم أن ذلك السعي يمكن أن يكلفهم كل غالٍ و رخيصٍ، و لكننا آثرنا أن نختار من كل تلك الخطب والأقوال تلك الخطبة المؤثرة التي ألقاها علیه السلام علي مسامع أهل الشام بعد أن اقتيد أسيراً إلى دمشق مع من تبقى من نسوة و أطفال كي يمثلوا بين يدي يزيد اللعين.

و قد مثلت تلك الخطبة البليغة الوجه الإعلامي الصادق للثورة الحسينية، إذ إنها

ص: 47


1- الحاكم النيسابوري، مستدرك الصحيحين، مصدر سابق، ج2 ص172.

قد استطاعت أن تبرز بشكلٍ واضحٍ و علني أهداف ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستطاعت بنفس الوقت أيضاً أن تزيل اللثام عن الوجه القبيح لغطرسة يزيد و كفره و إنهاء أضاليله و أباطيله التي أشاعها بين الناس حول أن الحسين عليه السلام و أهله و أنصاره هم مجموعةٌ من ثوار خوارج عصوا و خرجوا عن الجماعة و شقوا عصا الطاعة فقضي عليهم!!

و على كل حالٍ، ها هو الإمام زين العابدین و سید الساجدين علیه السلام يقف أمام أهل الشام و أمام يزيد اللعين و يقول مخاطباً إياهم بعد أن حمد الله سبحانه و تعالى و أثنی عليه:

«أيها الناس أعطينا ستاً و فضلنا بسبع، أعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، و فضلنا بأن منا النبي والصديق والطيار و أسد الله و أسد رسوله و سبطا هذه الأمة، أيها الناس من عرفني فقد عرفني و من لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي، أيها الناس أنا ابن مكة و مني، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الركن بأطراف الردا، أنا ابن خیر من ائتزر وارتدی، و خير من طاف و سعی، و حج و لبي، أنا ابن من حمل على البراق و بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى فكان من ربه كقاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحي، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله ببدر و حنين و لم يكفر بالله طرفة عين، أنا ابن صالح المؤمنين و وارث التبيين و يعسوب المسلمين و نور المجاهدين و قاتل الناكثين والقاسطين والمارقين و مفرق الأحزاب، أربطهم جاشاً و أمضاهم عزيمةً، ذاك أبو السبطين الحسن والحسين علي بن أبي طالب، أنا ابن فاطمة الزهراء و سيدة النساء وابن خديجة الكبرى، أنا ابن المرمل بالدماء، أنا ابن ذبيح

ص: 48

کربلاء، أنا ابن من بكى عليه الجن في الظلماء و ناحت الطير في الهواء»(1).

و هذه باختصار صورة أهل البيت علیهم السلام بشكلها الموجز والصادق كما نقلها لنا لسان و بيان أهل تلك الدوحة النبوية المباركة، تلك الدوحة التي لا تنطق إلا بالصدق و لا تعكس إلا صورة وجه الحق بين الخلق.

و لم لا يكون أهل البيت علیهم السلام كذلك؟!

بل كيف نستغرب ذلك، و هناك مئات الأحاديث التي نقرؤها في كتب السنة والتي تدل على عظمة أهل البيت عليهم السلام و على أنهم أنموذج الكمال الصادر عن ذي العزة والجلال؟!

ألم يثبت لنا العلامة الكبير الشيخ سليمان القندوزي (الحنفي) في كتابه القيم (ينابيع المودة) حديث الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن هذه الحقيقة و ذلك بقوله صلی الله علیه و آله و سلم للمسلمين: «معرفة آل محمد براءة من النار، و حب آل محمد جواز على الصراط، والولاية لآل محمد أمانٌ من العذاب»(2)؟!

ألم يأت الإمام محمد الباقر عليه السلام بعد عدة سنين، ليشرح لنا ما قاله جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بحديثٍ مطولٍ و صريحٍ لمن طلب منه أن يعلمه شيئاً عن ماهية و منزلة أهل البيت عليهم السلام قائلاً: «نحن جنب الله و صفوته و خبرته، ون حن مستودع مواریث الأنبياء، و نحن أمناء الله عز وجل. و نحن حجة الله و أركان الإيمان و دعائم الإسلام، و نحن من رحمة الله على خلقه، و بنا يفتح و بنا يختم، و نحن الأئمة الهداة والدعاة إلى الله، و نحن مصابيح الدجى و منار الهدى، و نحن العلم المرفوع للحق، من تمسك بنا

ص: 49


1- کریم جبر الحسن، الإمام السجاد عليه السلام، مؤسسة البلاغ . بيروت، 1990م، ص34.
2- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج1 ص22.

لحق و من تأخر عنّا غرق، و نحن قادة الغر المحجلين، و نحن الطريق الواضح والصراط المستقيم إلى الله، و نحن من نعمة الله عز وجل على خلقه، و نحن معدن النبوة و موضع الرسالة و مختلف الملائكة، و نحن المنهاج والسراج لمن استضاء بنا، و نحن السبيل لمن اقتدی بنا، و نحن الأئمة الهداة إلى الجنة، و غرى الإسلام، و نحن الجسور والقناطر من مضى عليها لحق و من تخلف عنها محق، و نحن السنام الأعظم، و بنا ينزل الله عز وجل الرحمة على عباده و بنا یسقون الغيث، و بنا يصرف عنكم العذاب، فمن عرفنا و نصرنا و عرف حقنا وأخذ بأمرنا فهو منا و إلينا»(1)؟!

نعم، لقد أتي كل أئمة أهل البيت علیهم السلام بالكثير من الأحاديث القيمة والمشابهة لهذا الحديث الذي أوردناه عن الإمام محمد الباقر عليه السلام، و كما يلاحظ القارئ الكريم، فقد تعمدنا أخذ حديث الإمام محمد الباقر عليه السلام من كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الشيخ سليمان بن إبراهيم القندوزي (الحنفي) لنؤكد على حقيقة أن هذه الأحاديث الهامة والمتميزة بشأن علو منزلة أهل البيت عليهم السلام و مقامهم لا يقتصر وجودها على كتب المسلمين الشيعة، بل هي أحاديث لها مكانتها اللائقة حتى في كتب السنة أيضاً.

و هذا لا يعني أن مفعول هذه الأحاديث والحقائق المنبثقة عنها ستبقى حبيسةً ضمن إطار المنظومة الفكرية الإسلامية، بل إنها- بلا شك- ستجاوز حدود الدائرة الفكرية الإسلامية حتى تصل و تتصل بالدوائر الفكرية الأخرى من مسيحية و غير مسيحية.

وهنا يحضرني الحديث عن لقاء تلفزيوني نادر مع رجل من رجالات الفكر

ص: 50


1- نفس المصدر السابق، ج 1 ص 21.

والسياسة في لبنان، وكان ذلك اللقاء التلفزيوني الرائع يتمحور حول ذكرى بيعة الغدير المباركة من جهةٍ و حول فاجعة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام من جهةٍ أخرى.

و قد تطرق ضيف الحوار، الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، نائب رئيس حزب الكتائب المسيحي اللبناني إلى النقطة المهمة التي كنا نتحدث عنها منذ قليل، إنها مسألة الدوائر الفكرية و ضرورة تجاوز الفكر الحر لكل حدود الأوطان والأديان والمذاهب، و قد أكد الأستاذ (رشاد سلامة) على حقيقة أن فكر أهل بيت الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم هو فكر خلاق و نهج إنساني شاملٌ يصلح أن يكون دستوراً لكل جيلٍ من الأجيال.

و قد ذكر الأستاذ (رشاد) أيضاً كيف أن والده الأديب والشاعر (بولس سلامة) قد غاص في بحار علوم و آداب أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام، و كيف غاص أيضاً في تاريخهم و في سيرتهم المباركة العطرة، ومن ثم كيف عکس تلك السيرة العطرة في مؤلفاته القيمة عنهم عليهم السلام، و بشكلٍ خاص في ملحمته الشعرية الخالدة المسماة ب (عيد الغدير) تيمناً و تباركاً بذلك اليوم التاريخي الأغر(1)

و لا أخفي على القارئ الكريم أنني كنت مشدوداً- شأني في ذلك شأن كل مشاهدٍ لذاك الحوار الثمين-إلى كل كلمةٍ كان يقولها الأستاذ (رشاد سلامة) لدرجة أنني شعرت في نهاية الحوار كأنني كنت في حالة تنويمٍ مغناطيسي حقيقي أمام شاشة التلفاز.

ص: 51


1- جرى الحوار مع المفكر والسياسي المسيحي اللبناني (رشاد بولس سلامة) على قناة (المنار) اللبنانية بتاريخ 2000/3/22 م، الموافق ل 18/ ذي الحجة/ 1420ه. و ذلك بمناسبة عيد الغدير، و قد كان الحوار مليئاً بالمتعة والفائدة والصراحة التي تثلج الصدور.

و غالباً ما كنت أسأل نفسي هذا السؤال:

كيف يمكن لرجلٍ مسيحي أن يتكلم بهذه الروح المفعمة بالحب والولاء عن اهل بیت رسولٍ لا تربطه بهم صلةٌ دينية روحية مباشرة؟!

والحقيقة تقال، إن هذا السؤال لم يكن هو السؤال الوحيد واليتيم الذي كان يقرع بوابة ذهني، بل كان هذا السؤال عبارة عن مفتاح للكثير من الأسئلة الأخرى التي لعبت دور التداعيات الفكرية الناتجة عن السؤال الرئيسي الأول.

و غالباً ما كان يهدأ بالي و تستريح أمواج فكري عندما أقول بعد طول تفكيرٍ و عمق تحليل إن ما قاله الأستاذ (رشاد سلامة) شيء مدهش حقاً و يأخذ بمجامع القلوب، خاصةً و أن هذا الكلام يجري على لسان مفكرٍ مسيحي لم يعتنق الإسلام، و لكن أليس من الطبيعي أن تخف هذه الدهشة قليلاً عندما ندرك أن الأستاذ (رشاد سلامة) هو ابن المفكر والأديب المسيحي الكبير (بولس سلامة) إذ لم يكن الأستاذ رشاد ابنه بالدم والجسد فحسب، بل كان ابنه أيضاً في الأدب والفكر.

ألم يتعلم الأستاذ رشاد من أبيه أن العقل نافذة و أن الفكر شمس!!

ألم يتعلم من أبيه أيضاً أن الحق والتاريخ مشاع للعالمين؟!

ثم لماذا نندهش عندما يتحدث الأستاذ رشاد سلامة بكل احترامٍ و تقديرٍ عن أهل البيت عليهم السلام عموماً و نحن نعرف أنه ورث هذا الاحترام والتقدير عن أبيه الذي لم ينقطع لسانه يوماً عن مدح الرسول المصطفی صلى الله عليه وسلم وآله عليهم السلام؟!

ألم يقل الأستاذ (بولس سلامة) عن عالمية الفكر و عن عظمة رسول الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم في مقدمة ملحمته الشعرية الرائعة (عيد الغدير):

(أجل، إني مسيحيٌ ينظر من أفقٍ رحبٍ لا من كوة ضيقة، فيرى في غاندي الوثني

ص: 52

قديساً.

مسيحيٌ يرى (الخلق كلهم عيال الله) و يرى أن «لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوی).

مسيحيٌ ينحني أمام عظمة رجلٍ يهتف باسمه مئات الملايين من الناس في مشارق الأرض و مغاربها خمساً كل يوم، رجلٌ ليس في مواليد حواء أعظم منه شأناً، وأبعد أثراً، وأخلد ذكراً، رجلٌ أطل من غياهب الجاهلية فأطلت معه دنيا أظلها بلواءٍ مجید، كتب عليه بأحرف من نوره لا إله إلا الله، الله أكبر!)(1).

نعم، لقد قال الأديب الشاعر (بولس سلامة) هذا الكلام الرقيق عن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، بل، لقد قال كلاماً كثيراً أعذب من هذا الكلام عن محمد و عن أهل بيته الكرام عليهم السلام و لم يخف في الحق لومة لائمٍ، و ما كان ليخرج ذلك الكلام منه لولا صفاء بصيرته و نقاء سريرته، فمن المعروف عنه أنه كان قارئاً بارعاً للتاريخ الإسلامي، ينهل من كل المشارب و يتذوق من كل أنواع العلوم والمعارف، حتى إذا شعر أن عقله قد امتلأ منها أعطى الأوامر لذلك العقل أن يتسلح بالحجج والبراهين و أن يتدرع بقوة المنطق و ذلك من أجل أن يمارس كاقة صلاحياته في الحكم على القضية المطروحة على طاولة البحث والتحليل.

و بالطبع، ليس كل المفكرين المسيحيين، و حتى غير المسيحيين، على درجةٍ واحدةٍ من الدقة في البحث والتحليل و في استخلاص النتائج و بلوغ الأهداف والغايات، و لكن نستطيع أن نقول إن هناك اتفاقاً واضحاً على الكثير من الخطوط العريضة المتعلقة بأهم المسائل الإسلامية و بأعقد القضايا التاريخية التي شهدتها

ص: 53


1- بولس سلامة، عيد الغدير، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1989م، راجع المقدمة ص10

حركة الرسالة الإسلامية في عصورها الأولى.

و بما أننا الآن في معرض الحديث عن منزلة أهل البيت عليهم السلام، و هو الحديث الذي يمثل دور البوابة الواسعة للدخول إلى عالم الإمام الحسين عليه السلام الذي هو ركنٌ هامٌ من أركان أهل ذلك البيت النبوي الطاهر الكريم علیه السلام، نستطيع أن نقول إن الفكر العالمي عموماً متفقٌ على عنوان عريضٍ، و هذا العنوان العريض يمكن تلخيصه بالقول التالي:

إن دوام و استمرار رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم إلى يومنا هذا إنما مرده إلى ما قدمه أهل بيته علیهم السلام من تضحيات.

و سنلاحظ الآن، كما لاحظنا في العديد من الشواهد السابقة، أن الإسلام الحقيقي الذي جاء به محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم هو إسلام أهل بيته الأطهار عليهم السلام و أن الورثة الفعليين المستحقين لحمل لواء الرسالة الإلهية بعد غياب رب البيت صلی الله علیه و آله و سلم هم أهل بيته و وعاء علمه و محط أسراره و منازل أنواره علیه السلام.

و لا ريب في أن هذه الحقيقة الثابتة عن مكانة أهل بيت المصطفى علیهم السلام هي التي دفعت بالكثير من أئمة المذاهب الإسلامية، و بشكلٍ خاص الأئمة الأربعة، إلى إثبات تلك الحقيقة و تدوينها في مؤلفاتهم و نتاجاتهم الفكرية القيمة، و لولا أنني قد آليت على نفسي منذ البداية أن يكون الكلام عن الإمام الحسين و عن فاجعة كربلاء مقتصراً على الرؤية الفكرية حصراً، لكنت قد أتيت بعشرات الشواهد والبراهين لأئمةٍ و مفكرين و أدباء و شعراء ينتمون إلى عصرٍ متقدمٍ جداً على عصرنا الراهن بمساحات زمنية طويلة، و لكن طبيعة الكتاب والزاوية التي نظرنا من خلالها إلى فاجعة كربلاء هي التي فرضت علينا أن نستغني، و لو بشكلٍ جزئي، عن الكثير من الأمثلة والشواهد

ص: 54

الممتدة في جذورها إلى أعماق التاريخ الإسلامي.

و لكن، حتى لا يتهمنا القارئ الكريم بالبخل والتقتير أو بالتجاوز الكلي والكامل للتراث الفكري الماضي المتعلق بأهل البيت علیهم السلام من جهة و بالإمام الحسين عليه السلام و ما حل به و بأسرته و أصحابه في واقعة كربلاء من جهةٍ أخرى، سأكتفي بذكر بعض ما جاء عن الإمام (محمد بن إدريس الشافعي) (150- 204ه) عن مكانة أهل البيت علیهم السلام في ضميره و وجدانه، و سنمسك عن ذكر ما قاله بخصوص الإمام الحسين عليه السلام و كربلاء إلى المكان المناسب في هذا الكتاب.

و لا أعتقد أنني بحاجةٍ لتقديم الإمام الشافعي إلى القارئ، فهو إمامٌ و علمٌ من أعلام الفكر الإسلامي، و هو أحد أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة الباقية حتى يومنا هذا.

و لاريب في أن هذا الكلام معروفٌ عند الكثير من المسلمين في العالم قاطبةً، و لكن الشيء الذي قد لا يعرفه الكثير من المسلمين هو أن لهذا الإمام الفقیه دیواناً بديعاً من الشعر الوجداني الرقيق.

و ما يهمنا الآن من هذا الديوان الشعري الرقيق هو ذكر أهل البيت علیهم السلام فيه، أو بعبارةٍ أكثر وضوحاً: هل لأهل بيت النبوة علیهم السلام مكانٌ في ديوانه؟!

و بالطبع لن نجيب نحن على ذلك السؤال، بل ستترك الإمام الشافعي يجيبنا عنه بنفسه، و أعتقد أن الإمام الشافعي سيقول لنا بادئ ذي بدء: انظروا واصغوا جيداً إلى هذين البيتين الشعريين الهامين في ديواني، لقد قل في آل بیت رسولنا الكريم عليه السلام:

یا آل بیت رسول الله حبكم *** فرضٌ من الله في القرآن أنزله

ص: 55

يكفيكم من عظيم القدر انکم *** من لم يصل عليكم لا صلاة له(1)

و لا أظن أن هذين البيتين الشعريين للإمام الشافعي، و على الرغم من بلاغة تركيبهما و قوة معناهما، بحاجةٍ للكثير من الجهد والعناء للوصول إلى المرامي والغايات التي أرادها الإمام الشافعي منهما.

و من نافلة القول أن هذين البيتين الشعريين الرقيقين ليسا هما كل ما قاله الإمام الشافعي في أهل البيت عليهم السلام، و لكن لا بأس بذكر بعض الأبيات الشعرية الأخرى حتى نتأكد من حقيقة أن مقام أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عند الإمام الشافعي هو المقام الأقدس والأطهر، إنه المقام الذي يمثل بالنسبة للإسلام مقام القطب من الرحى و مقام الروح من الجسد.

و ها هو يقول فيهم عليهم السلام أيضاً، في نفس الديوان:

آل النبي ذريعتي *** و همو إليه و سيلتي

أرجو بهم أعطي غداً *** بيدي اليمين صحيفتي(2)

إذن، فأهل بيت النبي المصطفى علیهم السلام بالنسبة للإمام الشافعي هم الذريعة والوسيلة لدخول الجنان والفوز بثواب الرحمن، و عندما نقول إن أهل البيت عليهم السلام هم الذريعة والحجة والوسيلة في عقل و ضمير الإمام الشافعي، فإن هذا لا يعني أن هذه هي مكانتهم و منزلتهم عند الإمام الشافعي فقط، بل إن هذه المكانة هي مكانتهم عند كل أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة، بل هي مكانتهم و منزلتهم عند ملايين المسلمين السنة في مشارق الأرض و مغاربها، و كيف لا تكون هذه مكانتهم عند

ص: 56


1- الإمام محمد بن إدريس الشافعي، ديوان الشافعي، تحقيق: صلاح الدين أبو الجهاد، مكتبة دار المستقبل، حلب، ط1/ 1999م، ص48.
2- نفس المصدر السابق ص12.

المسلمين عموماً و قد أيقنوا أن الرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم قد أوصى قائلاً:

«الزموا مودتنا أهل البيت، فإنه من لقي الله تعالى، و هو يودنا دخل الجنة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عملٌ عمله إلا بمعرفة حقنا»(1)!!

و لذلك، فمن الطبيعي بالنسبة لكل مسلمٍ يريد أن يكون مشمولاً بشفاعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم و أن يكون من أهل الجنة الخالدين، أن يكون ملتزماً بمودة أهل البيت علیهم السلام و أن يعرف حقهم و يدرك مقامهم.

و علينا أن نعلم هنا تحديداً أن المعرفة الحقيقية والكاملة لمقام أهل بيت النبوة علیهم السلام ليست بالأمر اليسير و لا حتى بالأمر الممكن تماماً، بل نستطيع أن نقول و بكل يقينٍ إن الخلاف الذي دار حول مقام النبوة لم يبلغ أبدا تلك الدرجة من الخلاف بين المسلمين حول مقام الإمامة والولاية.

و لكن، و بالرغم من هذه الحقيقة الثابتة، فإننا نقول إن بذل المحبة والمودة لآل بيت محمد المصطفى عليهم السلام له أجرٌ عظيمٌ عند الله سبحانه و تعالى حتى و لو لم يكن ذلك المحب لهم علیهم السلام عارفاً و مدركاً تمام المعرفة والإدراك لحقيقة مقامهم أو لمكانتهم و منزلتهم.

و ربما يتساءل متسائل ما قائلاً بعد التسليم بإمكانية الاقتراب من معرفتهم من قبل البعض:

و هل معرفتهم حكر على شيعتهم و أتباعهم فقط، أم أن هناك من عرف جليل مقامهم و عظیم منزلتهم و هو من غير أتباعهم و شيعتهم؟!

و ربما يتساءل نفس المتسائل قائلاً لنا أيضاً:

ص: 57


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق، ص46.

إذا كان جوابكم لنا: (نعم، هناك من يعرف و يعلم مقامهم عليهم السلام و هو مصنف من غير أتباعهم)، فإننا نطلب منكم، إذن، أن تعطونا و لو مثالاً واحداً للتأكيد على صحة كلامكم لأننا نعتقد أن هذا الطلب من حقنا، أليس كذلك؟!

و نحن بدورنا سنقول لذاك السائل: نعم، إن ذلك الطلب من حقك بكل تأكيد، و سنعمل على إعطائك مثالاً على صحة كلامنا الذي قد أسلفناه، و سيكون ذلك المثال من العصر المقارب لعصرنا نسبياً و ليس من العصور البعيدة عنا، و ذلك لسببٍ واحدٍ فقط و هو أن كتابنا يتناول بالدرجة الأولى صورة الإمام الحسين عليه السلام و فاجعة كربلاء من وجهة نظر الضمير العالمي المعاصر و ليس من جهة نظر الضمير العالمي الشامل لكل الصور والأزمان و قد نوهنا إلى ذلك سابقاً.

و ها نحن نقول بكل صراحةٍ و جرأة لذلك السائل: نعم، هناك من يعرف مقام آل بیت النبوة علهم السلام على الرغم من أنهم غير مصنفين في زمرة أتباعهم، و نحب أن نؤكد هنا، قبل إيراد المثال المطلوب، على نقطةٍ هامةٍ جداً، و هذه النقطة يمكن تلخيصها بالقول إن التصنيفات والتسميات التي يطلقها الناس على شخصٍ ما بحيث يصبح ذلك الشخص أسيراً لها لا تعود ذات قيمةٍ ذكر إذا تحولت تلك التسميات والتصنيفات بداخله إلى ما يشبه الشمع المذاب أمام و هج نور الحقيقة القائمة.

فهل يضير فلاناً من الناس أن يقال عنه إنه (مالكي) أو (حنفي) أو...الخ

إذا كان ذلك الفلان من الناس يعيش بداخله حالة الولاء التام لأهل البيت علیهم السلام؟؟

و هل يتألم فلانٌ من الناس أيضاً إذا رمي بالجهل أو بالانحراف عن الحق إذا كان ذلك الفلان قد جعل من عقله معقلا للعلم و من قلبه عرشاً للحق!!

ص: 58

أعتقد أن الإنسان الحكيم والعاقل لا يأبه للتصنيفات التي تلحق به- مهما كان نوع تلك التصنيفات- إذا كان يعيش بداخله أجواءً مغايرة لها و بعيدةً عنها.

و على سبيل المثال، عندما يقول أحد المتصوفة المشهورين مخاطباً (الحق) سبحانه و تعالى بعد أن صنفه الناس و وضعوه تحت عدة تسميات و تصنيفات مختلفةٍ و متباينة في اتجاهها وطبيعتها:

أراني فيك ممسوساً *** من الشيطان بالنكد

و بالتشنيع من جاري *** و بالعصيان من ولدي

و أبر ما أكابده *** من الإخوان بالحسد

و لست بذاك مكترثاً *** فكيف؟ و أنت معتمدي(1)

فعندما يقول هذا المتصوف الحكيم (المكزون السنجاري) هذا الكلام معبراً عن عمق أحاسيسه و ما لحق به من تعب و ألم حتى من أقرب الناس إليه بعد أن تم رميه بصفاتٍ و نعوتٍ مختلفة من قبل الناس، فإنما أراد أن يقول لنا إن الألم أو التعب الذي الحق به لم يكن في حقيقته إلا شيئاً ظاهرياً فقط، بينما هو كمتصوفٍ و كعارفٍ لا يكترث لكل ما يصفونه به أبداً و ذلك لأن قلبه منشغلٌ عن كل تلك الأشياء و نعوتها، إنه القلب الذي لا يرضيه شيءٌ إلا أن يكون عرشاً للرحمن.

و لا أعتقد أن (ابن عربي) يبتعد كثيراً عن الشيء الذي قصده الأمير (المكزون السنجاري) بقوله السابق في مخاطبته للحق جل وعلا، و ها هو- ابن عربي - يؤكد أيضاً فكرة إمكانية تعدد الصفات والمسميات الظاهرية أمام ما يثبت عليه القلب الذي

ص: 59


1- حامد حسن، المكزون السنجاري بين الإمارة والشعر والتصوف والفلسفة، منشورات دار مجلة الثقافة بدمشق، طبعة أولی، 1972م، ج2 ص7.

هو الأساس في كل شيء، فعندما يكون القلب كبيراً، يمكن له أن يتجاوز كل المسميات والتصنيفات و ذلك من أجل هدفٍ واحد هو (الحب) أو (الحق)، و بإمكاننا أن نسمعه الآن و هو يقول:

لقد صار قلبي قابلاً كل صورة *** فمرعی لغزلان و دیر لرهبان

و بيت لأوثان و كعبة طائف *** وألواح توراة و مصحف قرآن

أدين بدين الحب اتنی توجهت *** ركائبه فالحب ديني و إيماني(1)

فالقلب الكبير، الواعي والمستنير لا يرضى أن يبقى سجيناً أو أسيراً حقيقياً المجموعة من الألقاب والمسميات على حساب الجوهر والمضمون، و لكن بنفس الوقت أيضاً، لا يجد ذلك القلب المستنير غضاضةً في أن يصنف حامله في أي زمرة طالما أن القلب ذاته متعلق بأستار الحقيقة و راكع في هيكل الحب، فارتفاع أمواج البحار لا يعكر صفو القاع.

و هذا ما عبر عنه المفكر والأديب المسيحي الأستاذ (بولس سلامة) عندما أعلن ولاءه للإمام علي عليه السلام ، و هو الشاعر والأديب المصنف ضمن زمرة المسيحيين، فالأستاذ (سلامة) لم يتخل بالتأكيد عن حبه للسيد المسيح أو لأمه السيدة العذراء (عليهما سلام الله)، و لكنه بنفس الوقت لم يغلق قلبه أمام أنوار الحقائق السماوية والمعارف الإلهية، فما كان منه إلا أن أعلن أن الهوية الخارجية لا تعني الكثير، أو على الأقل، يمكن أن تذوب أمام الهوية الداخلية المبنية على التفكير والدراسة لا على التقليد والوراثة كما هو الحال عند الكثيرين ممن يحملون هويات روحية خارجية مختلفة أعطاهم إياها الآباء والأجداد.

ص: 60


1- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة . دمشق، 1989م، ص82.

فهل تحول صفه (المسيحي) التي يحملها الأستاذ (سلامة) دون إعلان و لائه و حبه القلبي الصادق للإمام علي عليه السلام الذي يمثل أهل البيت علیهم السلام جميعاً؟!

بالطبع، كلا، إن ذلك لن يحول دون حدوث ولادة روحية جديدة تخلق مصالحةً حقيقيةً بين العقل والقلب، وانطلاقاً من ذلك، فقد أعلن الأستاذ الأديب (سلامة) صوت الولاء الممزوج بصدق الوفاء قائلاً:

يا أمير الإسلام حسبي فخراً *** أنني منك مالي أصغريا

جلجل الحق في (المسيحي) حتى *** عد من فرط حبه (علویا)

أنت رب العالمين إلهي *** فأنلهم حنانك الأبويا

و أنلني ثواب ما سطرت كفي *** فهاج الدموع في مقلتيا

يا سماء اشهدي و يا أرض قري *** واخشعي، إني ذكرت عليا(1)

و بإمكاننا أن نلاحظ في البيت الشعري الثاني أن التصنيفات والمسميات الظاهرية لم تعد هي الغاية أو الهدف، بل تصبح الغاية الجوهرية عند الأستاذ (سلامة) هي الولاء القلبي المشتمل على الحقيقة والحب والطاعة.

و بالطبع، فإن هذا الكلام صحيح تماماً و لا ريب فيه، فما هي الفائدة أو المضرة من أن يحمل إنسانٌ ما صفةً من الصفات أو أن يدرج في فئةٍ من الفئات و هو يعلم أنه من الداخل بخلاف ذلك، و يكون مطمئناً أيضاً لما هو عليه قلبه سواءٌ كان ذلك الاطمئنان ناتجاً عن حمل صفات داخلية سلبيةٍ أو إيجابيةٍ؟!

فهل يضير الإنسان المؤمن أن يرمي بالكفر من قبل بعض الحمقى أو أصحاب غايات السوء في الوقت الذي يكون فيه قلبه مطمئناً بالإيمان و ثابتاً عليه؟!

ص: 61


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، ص312.

و بالمقابل، وإحقاقاً للحق، نقول ما هي الفائدة المرجوة من صفة يحملها إنسانٌ ما كصفة أنه (مسلم) أو (شيعي) في الوقت الذي يكون باطن ذلك الإنسان، بل و أعماله أيضاً مخالفةً تماماً لتعاليم الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و لمبادئ أهل بيته الأطهار اعلیهم السلام؟!

و أعتقد الآن أن الفكرة المطلوبة قد وصلت بعد أن أسهب قليلاً في الحديث عنها، و لكن ما أو الحديث عنه الآن والعودة إليه من جديد هو ذلك الوعد الذي أعطيناه للقارئ الكريم بشأن معرفة مقام أهل بيت النبوة عليهم السلام من قبل أناسٍ غير مصنفين من أتباعهم بشكلٍ ظاهري، و مثالنا الذي سنتحدث عنه الآن هو مثالٌ مدهشٌ اقتطفناه من حديقة فكر إخواننا المسلمين السنة.

و مثالنا الآن هو الأديب والسياسي والشاعر (عبد الباقي العمري الموصلي الحنفي).

فالشاعر (العمري) واحد من مشاهیر شعراء القرن الثالث عشر الهجري و واحدٌ من أعلام الأدب والسياسة في القطر العراقي في العهد العثماني.

قله من الناس هم الذين يعرفون أن لهذا الأديب والسياسي دیواناً شعرياً بديعاً من العيار الثقيل حجماً و مضموناً، و قلةٌ هم أيضاً أولئك الذين يعرفون العلاقة الروحية العميقة التي تربط بين هذا الشاعر المتحدر من ذرية الخليفة الثاني عمر بن الخطاب و بين آل بيت الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم

و للحقيقة نقول: إن شعر عبد الباقي العمري الذي قاله في أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام هو شعرٌ أقرب إلى شعر التصوف والعرفان منه إلى شعر الثناء والمديح.

و قد أكد في أكثر من قصيدةٍ من قصائده المعرفية العميقة على أن نورهم عليهم السلام هو

ص: 62

نور إلهي المصدر و ذلك لأن الله سبحانه و تعالى شاء منذ الأزل أن يخلق محمداً صلی الله علیه و آله و سلم و علياً علیه السلام من نورٍ واحدٍ، و من هذا التور الواحد المتحد نشأ عنه النور المشع لأهل البيت عموماً عليه والذي هو في حقيقته نورٌ من نور منور الأنوار (عز وجل)، و لذلك، فالحقيقة الوجودية الوحيدة- بالنسبة لعبد الباقي العمري الحنفي - هي حقيقة وجود أهل البيت عليههم االسلام، و ما عدا ذلك فهو توهمٌ و خيالٌ، و في ذلك يقول موضحاً هذه الفكرة:

إن الوجود و إن تعدد ظاهراً *** ما فيه غير کمو لمن يتوسم

أو صح في الإمكان ثمة عالمٌ *** و حياتكم ما فيه إلا أنتمو

أنتم حقيقة كل موجودٍ بدا *** من کنز (کنت) و فيه أنتم كنتمو

فحقيقة الأعيان أنتم عينها *** و جميع ما في الكائنات توهم(1)

و لا أعتقد أنني أبالغ إذا قلت إن هذه الأبيات الشعرية الأربعة تحتاج إلى الكثير من الصفحات من أجل شرحها و توضيحها، و بشكلٍ خاص البيت الثالث الذي يشير الشاعر (العمري) من خلاله إلى العلاقة الوطيدة والرابطة الوثيقة بين حقيقة وجود أهل البيت علیهم السلام من جهةٍ و بين كلمة (كنت) الموضوعة ضمن قوسين و التي تشير إلى الحديث القدسي الشهير:

کنت کنزاً مخفياً... من جهةٍ أخرى.

إن مجرد الخوض في هذه النقطة العرفانية الحساسة يتطلب منا الكثير من الوقت والجهد لإعطاء صورةٍ واضحة المعالم عن طبيعة و عمق تلك العلاقة النورانية

ص: 63


1- عبد الباقي العمري، الترياق الفاروقي، دار النعمان. النجف الأشرف، ط2/ 1994م، ص136.

المميزة.

و لكن، بما أن موضوع کتابنا الذي هو بين أيدينا الآن ليس عن أهل البيت علیهم السلام عموماً، و ليس أيضاً عن طبيعة تلك العلاقة العميقة بينهم علیهم السلام و بين الله سبحانه و تعالى، و إنما هو حول حياة وثورة الإمام الحسين عليه السلام فقط، و لذلك لا داعي هنا للاستفاضة في الحديث عن مواضيع حساسة و عميقةٍ تستحق أن يكتب عن كل واحدٍ منها العديد من الكتب والمؤلفات، بل والدواوين الشعرية العرفانية أيضاً.

و لكن، حتی يكون حديثنا مترابطاً و متماسكاً، و حتى يكون هدفنا واضحاً و بيناً، علينا أن نبين للقارئ الكريم، على الأقل، وجهاً واحداً من الوجوه التي تدعو الناس عموماً إلى الوقوف في حالة عجزٍ شبه تام عن معرفة أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم حق معرفتهم، و تجعلهم يحارون في فهم كنههم و إدراك حقيقتهم علیهم السلام.

و ليكن هذا الوجه الذي سنتحدث عنه باقتضابٍ شديدٍ الآن هو وجه العلاقة و طبيعتها بين آل البيت علیهم السلام من جهةٍ و بين بعض الرسل والأنبياء علیهم السلام من جهةٍ أخرى، و ذلك من أجل التأكيد أيضاً على أن آل البيت علیهم السلام هم حقاً عماد الوجود و هم الرحمة التي يمكن أن تطال كل موجودٍ.

و حتى لا نثقل بحديثنا على القارئ الكريم، دعونا نقلب صفحات کتاب (الدر المنشور في التفسير بالمأثور) للإمام الحافظ جلال الدین عبد الرحمن أبي بكرالسيوطي الشافعي) كي نتعرف على وجه العلاقة بين آل بيت محمد علیهم السلام من جهة و سیدنا آدم علیه السلام، أبي الأنبياء والبشر جميعاً، من جهةٍ ثانيةٍ.

فقد جاء في الكتاب المذكور (للسيوطي الشافعي)، في ذيل تفسير قوله تعالى:

ص: 64

«فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)، قال: و أخرج ابن النجار عن ابن عباس، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه (وآله) و سلم عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، قال: «سأل بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه»(2)

و بالطبع، ليس الإمام السيوطي الشافعي هو الوحيد الذي ذكر هذه الحقيقة، بل بإمكاننا قراءة نفس الحقيقة المذكورة، و لكن باختلافات لفظية يسيرة، في كتاب (کنز العمال) لمؤلفه (المتقي الهندي الحنفي) حيث ذكر نفس الحديث في الصفحة / 234/ من الجزء الأول من كتابه المذكور، هذا بالإضافة إلى بعض الكتب الأخرى التي كتبها علماء سنة مشهورون أوردوا فيها الحديث المتعلق بتوبة الله سبحانه و تعالى علی سیدنا آدم عليه السلام بفضل و ببركات أهل بيت محمد عليه علیهم السلام و لكنهم ذكروا ذلك الحديث بطرقٍ و أساليب شتی و بأشكالٍ لفظية مختلفة لكنها لا تمش روح الحديث و جوهره و لا تشوه غایته و مقصده.

و لو تركنا جانباً مسألة سيدنا آدم علیه السلام والكلمات القدسية التي كانت السبب المباشر في توبة الله سبحانه و تعالى عليه، واتجهنا في رحلتنا الفكرية باتجاه من يأخذ بیدنا للوقوف على حقيقة كلمات سيدنا إبراهيم الخليل علیه السلام، فهل سنجد أن هناك اختلافاً أم تشابهاً بین کلمات سیدنا آدم عليه السلام و كلمات سيدنا إبراهيم علیه السلام؟!

فمن المعروف تماماً أن هناك آية قرآنية كريمة تقول: «وَ إِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي

ص: 65


1- سورة البقرة: الآية 37.
2- الإمام السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور، مصدر سابق، راجع ذيل الآية المذكورة

الظَّالِمِينَ»(1) ومن الواضح أيضاً أن هناك رابطةً وثيقةً بين سيدنا إبراهيم الخليل علیع السلام و مفهوم الإمامة من جهة و بين عدة كلمات إلهية تلقاها إبراهيم علیه السلام من ربه الرحيم الحكيم فكانت تلك الكلمات الإلهية مفتاح الرحمة و بوابة النعمة عليه.

و هنا يحق لنا أن نتساءل قائلين:

ما هي حقيقة تلك الكلمات الإلهية الموحى بها إلى سيدنا إبراهيم خليل الله علیه السلام، و ما معنى (فأتمهن) الواردة في الآية الكريمة؟!

و لا ريب في أنه سؤال يستحق التفكير فيه ملياً، وإلا ما معنى أن نقرأ القرآن الكريم دون أن نغوص في أعماقه و نتدبر معانيه؟!

و على كل حالٍ، ها هو المحدث الثقة والفقيه السند (المفضل بن عمر الجعفي) يوفر علينا عناء البحث والتنقيب عن معنى الآية القرآنية الكريمة السابقة، و يدعونا لزيارة إمام أئمة المسلمين، الإمام الصادق جعفر بن محمد علیه السلام لنستمع إليه بإمعان و هو يخبرنا عن معناها العميق والذي يتفق بطريقة أو بأخرى مع ما أخبرنا به، سابقاً، كلٌ من الإمام السيوطي الشافعي) والعلامة (المتقي الهندي الحنفي) بشأن توبة سيدنا آدم علیه السلام.

و ها هو الإمام الصادق عليه السلام يجيب عن معنى الآية القرآنية السابقة ملبياً طلب تلميذه المقرب (المفضل بن عمر) قائلاً: «هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، و هو أنه قال: يا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحیم»، فقلت (والكلام هنا للمفضل ابن عمر) له: يا بن رسول الله، فما يعني عز وجل بقوله: «فَأَتَمَّهُنَّ»؟ قال: «يعني فأتمهن

ص: 66


1- سورة البقره، الآیة 124

إلى القائم عليه السلام اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين»(1).

و هذا الكلام الجليل الصادر عن الإمام الصادق عليه السلام لو قارناه مع كلام الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن توسل الأنبياء والرسل عليهم السلام بمحمد و بآل بيته الكرام عليهم السلام، لوجدنا أن هناك تشابهاً كبيراً بينهما في الشكل والمضمون، آخذين بالاعتبار أن للرسول الكريم أحاديث عديدة مشهورة حول هذه المسألة المعرفية الهامة.

و ربما كان الحديث النبوي الشريف الذي سنورده الآن هو واحد من أكثر الأحاديث النبوية شهرةً حول موضوع بحثنا الآن، إنه ذاك الحديث المتعلق بقدوم أحد علماء اليهود على النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، حيث دخل ذاك العالم اليهودي عليه و قام بين يديه يحد النظر إليه طويلاً، فقال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم له: «يَا يَهُودِيُّ ، قُلْ لِي مَا حَاجَتُكَ؟»، فقال اليهودي: أنت أفضل أم موسی بن عمران النبي الذي كلمه الله و أنزل عليه التوراة والعصا و فلق له البحر وأظله الغمام؟

فقال له النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «إنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، و لكني أقول إن آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما غفرت لي، فغفرها الله له، و إن نوحاً عليه السلام لما ركب في السفينة و خاب الغرق قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني من الغرق، فنجاه الله منه، و إن إبراهيم عليه السلام لما ألقي في النار قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما أنجيتني منها، فجعلها الله عليه برداً و سلاماً، و إن موسى عليه السلام لما ألقى عصاه و أوجس في نفسه خيفة قال: اللهم إني أسألك بحق محمد و آل محمد لما آمنتني، فقال الله جل جلاله: لا تخف إنك أنت الأعلى، یا یهودي إن موسى لو أدركني ثم لم يؤمن بي

ص: 67


1- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الخصال، مؤسسة الأعلمي- بيروت، ط1 / 1990م، ص305.

و ينبوتي ما نفعه إيمانه شيئاً و ما نفعته النبوة، يا يهودي و من ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى ابن مريم لنصرته فقدمه و صلى خلفه»(1)

و قبل أن نرفع مسألة توسل الرسل والأنبياء علیهم السلام بآل بيت النبي المصطفى علیهم السلام عن طاولة البحث والتحقيق، لابد لنا من أن نذكر حديثاً آخر لا يقل أهميةً من الأحاديث السابقة التي أوردناها عن هذه المسألة الهامة، و لكن هذه المرة لن يكون الحديث عن سيدنا آدم أو إبراهيم أو نوح أو موسی (علیهم السلام جميعاً)، و إنما سيكون الحديث هذه المرة عن نبی کریمٍ قاسی کثیراًة و عانى طويلاً شأنه في ذلك شأن سيدنا النبي الصابر أيوب علیه السلام.

إن حديثنا الآن، و هو آخر حدیثٍ نورده في هذا المجال، سيكون عن سيدنا النبي الجليل يوسف عليه السلام و عن كيفية خلاصه من واحدٍ من أعظم الابتلاءات التي تعرض لها في حياته، تلك الحياة الحافله بعددٍ غير قليلٍ من الاختبارات والمفاجآت القاسية .

و كلنا يعرف، بالطبع، قصة سيدنا يوسف عليه السلام مع إخوته و كيف ألقوه في غياهب الجب، و كيف جاء ذكر هذه الحادثة بتفاصيلها في القرآن الكريم حيث قال الله سبحانه و تعالی مخبراً عن ذلك: «لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ»(2)

ص: 68


1- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الأمالي، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط5/ 1980م، ص181.
2- سورة يوسف: الآية 7.

نعم، كلنا نعرف هذه القصة، و نعرف أيضاً كيف التقطه بعض السيارة و أخرجوه سليماً معافى، و لكن هل خطر في بالنا كيف اهتدى أولئك السيارة إليه بعد اليوم الرابع من إلقائه في الجب المظلم والعميق؟!

و إذا كان البعض منا يعرف أن الاهتداء إلى سيدنا يوسف عليه السلام وإنقاذه كان نتيجةً حتميةً للدعاء الذي كان سيدنا يوسف عليه السلام يدعو به، و هو دعاء خاص علمه إياه جبرائیل عليه السلام من أجل الخلاص مما هو فيه، فإذا كان البعض يعرف هذا، فهل يعرف أيضاً ما هي طبيعة ذلك الدعاء الخاص لتفريج الهموم والمصائب، و هل يعرف ذلك البعض أيضاً بمن كان يتوسل يوسف عليه السلام إلى الله سبحانه و تعالى و بمن كان يتوجه إليه للخلاص ما هو فيه؟!

ربما القلة القليلة هي التي تعرف الإجابة على هذه التساؤلات التي يمكن أن تغزو عقل القارئ المثقف أو الباحث المفكر على حد سواء في حين أن الأكثرية الغالبة لا تعرف شيئاً بخصوص الإجابة على تلك الأسئلة السابقة.

و حتى لا نضيع وقت القارئ الكريم، و حتى نوفر عليه جهد البحث والعناء عن تلك الإجابات الصحيحة المطلوبة، دعونا ندق الباب على الإمامة العلامة (أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي) صاحب کتاب قصص الأنبياء المعروف بكتاب (عرائس التيجان) فلعل الجواب الشافي والقول الكافي في جعبته.

و بالفعل، ها هو (الإمام الثعلبي)، و هو أحد علماء المسلمين السنة، يفتح لنا بابه و يستجيب لما دعوناه إليه بكل رحابةٍ صدر قائلاً عن خلاص سيدنا يوسف عليه السلام من غياهب الجب وظلامه: (... فلما كان في اليوم الرابع أتاه جبريل عليه السلام و قال: یا غلام من طرحك في هذا الجب؟ قال: إخوتي لأبي، قال: و لم؟ قال: حسدوني على منزلتي

ص: 69

من أبي، قال: أتحب أن تخرج من هذا الجب؟ قال: نعم، قال: قل يا صانع كل مصنوع و يا جابر کل مکسور و يا حاضر كل ملا و یا شاهد كل نجوی و یا قريباً غير بعيد و يا مؤنس كل وحيد و يا غالب غير مغلوب و يا عالم الغيوب و يا حي لا يموت و يا محيي الموت لا إله إلا أنت سبحانك أسألك يا من له الحمد يا بديع السماوات والأرض يا مالك الملك يا ذا الجلال والإكرام أسألك أن تصلي على محمد و على آل محمد أن تجعل من أمري و من ضيقي فرجا و مخرجاً و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب، فقالها يوسف فجعل الله تعالى له من الجني مخرجاً و من كيد إخوته فرجاً و آتاه ملك مصر من حيث لا يحتسب)(1).

و من الجدير بالملاحظة هنا هو أن سيدنا يوسف عليه السلام لم يبدأ بالمسألة والطلب إلا بعد أن سأل الله سبحانه و تعالى أن يصلي على محمد و على آل محمد علیهم السلام و كأني به قد سمع حديث أخيه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم القائل: «الدعاء محجوبٌ حتى يصلى على محمد و أهل بيته، اللهم صل على محمد و آله»(2)

و هكذا نرى أن الرسل والأنبياء جميعاً عليهم السلام كانوا يتوسلون إلى الله عز وجل بمحمد صلی اله علیه و آله و سلم، أول خلق الله و خاتم رسله عليه، و بآل بيته الأبرار الأطهار عليهم السلام أن يرحمهم و يرأف بهم وينجيهم من شرور النوازل و أهوال المصائب، و ما الأمثلة السابقة التي أوردناها عن الرسل والأنبياء عليهم السلام إلا باقة وردٍ من حديقةٍ غناء و ما هي إلا غيض من فيض.

و مهما تحدثنا عن حقيقة أن أهل بيت الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم هم عماد الوجود

ص: 70


1- الإمام أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، قصص الأنبياء (عرائس التيجان)، المكتبة الشعبية . بيروت ص67.
2- المتقي الهندي الحنفي، كنز العمال، مصدر سابق، ج1 ص173.

و أساس رحمته، فإننا سنبقی - بلا شك- مقصرين في إعطائهم کامل حقهم و في إعطاء الصورة الحقيقية لتخصيص مكانتهم و عظیم منزلتهم واتساع رحمتهم في عالم الغيب والشهود، وقد أجاد و أصاب المتصوف التركي المعاصر الإمام (بديع الزمان سعید النورسي) (1292 ه - 1379 ه) عندما تحدث عن مكانة أهل البيت علیهم السلام و مبلغ رحمتهم المرتبطة بالتوسل والدعاء و ذلك في كتابه النفيس المسمى (مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور) حيث استفاض في شرحه العرفاني لمعنى (آية المودة)، و كان من جملة ما قاله ذلك المتصوف السني التركي عن أهل البيت المحمدي النوراني عليهم السلام و ارتباطهم الوثيق والمتشب بمعاني الدعاء:

(إن الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام، رأی بنظره الأنيس للغيب، أن آل بيته سيصبح في حكم شجرة نورانية بين عالم الإسلام، وأن الذين يؤدون وظيفة الهداية والإرشاد في درس الكمالات الإنسانية في كل طبقات عالم الإسلام سيخرجون من آل البيت على الأكثرية المطلقة، و كشف أن دعاء الأمة في حق الآل في التشهد، و هو (اللهم صل على محمد و على آل محمد كما صليت على إبراهيم و على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد) سيكون ذلك الدعاء مقبولا...)(1).

وبالطبع، ليس هذا هو كل ما قاله ذلك المتصوف التركي المعاصر عن أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذين يمثلون، بنظره، (شجرة نورانية) تتواصل بنورانیتها الأبدية مع الإنسان المؤمن في هذا الوجود بواسطة الدعاء، فهم عليهم السلام شجرة نورانية مباركة تتقبل الدعاء من المؤمنين من جهة، و تكون سببا مباشراً لاستجابة كل أنواع وألوان

ص: 71


1- الإمام بدیع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، ترجمه عن التركية: الملا محمد زاهد الملا زكردي، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، 1985م، ص33.

الدعاء من جهة أخرى.

إنهم عليهم السلام الشجرة النورانية المباركة التي ترسل ضوء رحمتها في كل اتجاه شرقا و غربا، فلا جهة أحق برحمتها و نورها من جهة أخرى إلا بمقدار معرفة تلك الجهة بها والتمسك بأغصانها والتفيو بظلها.

و لا ريب في أن لهذا المتصوف التركي المعاصر کلاما مميزا عن سيدنا و مولانا الإمام الحسين عليه السلام والذي هو محور کتابنا الأساسي، و لكننا سنرجئ الكلام الوارد عن سيدنا الحسين علیه السلام إلى الوقت المناسب وإلى المكان المناسب في هذا الكتاب.

و على كل حال، إذا كان ذلك المتصوف التركي السني يرى أن آل بيت النبي المصطفى علیهم السلام هم الشجرة النورانية الحقيقية التي دل عليها النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في بحر علم الغيب، فإن المفكر والأديب اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني) يرى في كتابه الشيق (الإمام الحسين في حلة البرفير) أن أهل البيت علیهم السلام هم (الكلمة الإلهية في الرسالة التي هبطت بالحق)(1).

إنهم علیهم السلام اليقظة في ضمير الأمة، إنهم عليهم السلام كلمات الله في كتاب الرسالة.

و قد يتبادر إلى ذهن القارئ أن تلك العبارة الجميلة والعميقة التي قالها الأديب اللبناني الأستاذ (كتاني) عن أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام إنما هي مجرد عبارة طارئة صدرت عن قلم مفكر و أديب مسيحي لا يعرف أساسا الكثير عن تاريخ الرسالة الإسلامية و لا عن أعلامها و كبار قادتها و مفكريها، و بالتالي فإن تلك العبارة قد صدرت عن انفعال عاطفي أو عن قلم يعمل على تغييب لغة العقل والمنطق.

ص: 72


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، دار الكتاب الإسلامي. قم، ط1 / 1990م، ص62.

نعم، إن هذه الفكرة قد تتبادر إلى ذهن القارئ الحصيف، و قد تتبادر إلى ذهنه أفكار أخرى مماثلة لا تقل عنها أهمية، و لكن باستطاعتنا أن تطمئن ذلك القارئ و أن تبعد عنه غيومه الفكرية التي تحجب شمس الحقيقة عن عقله، بإمكاننا أن نقول له بكل وضوح و بشكل بسيط و مباشر إن المفكر والأديب المسيحي (سلیمان کتاني) ليس بالقارئ العادي و لا هو بالمطلع العابر على التاريخ الإسلامي عموما، بل هو واحد من المثقفين المسيحيين الذين أثروا المكتبة العربية بالكثير من النتاجات الفكرية وأغنوها بالعديد من المؤلفات الثقافية التي تثبت لهم طول الباع في معرفة أدق التفاصيل في الحوادث الإسلامية المفصلية ذات الأهمية البالغة.

فكتاب (الإمام الحسين في حلة البرفير) ليس هو الكتاب الوحيد للأستاذ (كتاني)، و إنما هو واحد من سلسلة طويلة من الكتب التي تتحدث تارة عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم (محمد شاطئ وسحاب)، وتارة عن أمير المؤمنين علي عليه السلام (الإمام على نبراس و متراس)، و تارة عن الطاهرة المطهرة، سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء علیهاالسلام (فاطمة الزهراء وتر في غمد)، و نراه مرة أخرى يتحدث عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام (الإمام الحسن الكوثر المهدور)، و لم يتوقف قلمه عن الكتابة عند هذا الحد، بل راح يسطر ملحمة فكرية رائعة عن شهید کربلاء، الإمام الحسين عليه السلام ، و هو الكتاب الذي ذكرناه سابقا، واستمر قلمه المسيحي الصادق بالفيض والعطاء، فصاع لنا تحفة فنية فكرية رائعة أسماها الإمام زین العابدین عنقود مرصع)، ثم كتب أيضا عن الإمام الصادق عليه السلام و عن الإمام الباقر عليه السلام دون كلل أو ملل، و لا يزال ذلك القلم النظيف يخط أروع الملاحم من صفحات مشرقة من تاريخ الإسلام إنها تلك الصفحات التي تتحدث بكل فخر واعتزاز عن مآثر و فضائل آل بيت محمد صلی لله علیه و آله و سلم.

ص: 73

و هنا تحديدا، و قبل إقفال باب هذا الفصل، تحضرني مقارنة بسيطة بين مقولتين قصيرتين لمفکرین اثنين، أحدهما مفكر و رجل دين مسلم، أما الآخر فهو أديب و مفكر مسيحي، والمقولتين اللتين سنقوم بذكرهما الآن هما مقولتان تدوران حول منزلة أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء.

فالمقولة الأولى هي تلك المقولة الجميلة التي كتبها الأستاذ (محمد زكي إبراهيم) ذلك الأستاذ الذي تخرج من جامعة الأزهر الشريف في القاهرة، وراح يرفد الفكر العربي والإسلامي بالعديد من المؤلفات الأدبية والدينية، هذا بالإضافة إلى إصداره لمجلة (المسلم) مدة خمسة و عشرين عاما بانتظام.

يقول الأستاذ (إبراهيم): (إن الكتابة عن آل البيت عبادة يجب أن تؤدي على وجهها، والتقلب في ذكرياتهم حياة فوق الحياة، والانصراف إلى خدمة تاريخهم توفيق عزيز، والخلوص إلى التفكر فيهم مدة لا يتاح، و لا ينبغي إلا لأهل الله)(1).

إذن، فمن أراد أن يستزيد من العبادة لله سبحانه و تعالى، فعليه أن يتفاعل مع تاریخ أهل البيت علیهم السلام عليه أن يكتب عن فضائلهم وأن يحيي مآثرهم، و عليه أيضا أن يعقد جلسات حوار و مناقشات بناءة وصريحة مع عقله و فكره و أن يكون الجلوس للحوار مبنية دائما و أبدا على أسس منطقية و قواعد حيادية و ذلك بهدف الوصول إلى أقوى و أعمق الحقائق المعرفية المتعلقة بهم عليهم السلام.

و إذا كان هذا هو رأي ذلك العلامة الأزهري السني (محمد زكي إبراهيم) بشأن أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام، فما هو رأي الباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) حول نفس الموضوع المتعلق بآل بيت الرسول عليهم السلام؟!

ص: 74


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مصدر سابق، ص20.

وأعتقد أن الباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) غني عن التعريف والتقديم، خاصة بعد أن حقق كتابه النفيس (الحسين في الفكر المسيحي) شهرة واسعة المدی و قوة الصدى، و يكفي أن نذكر أن سيادة المطران (برتلماوس عجمي) قد قال عن ذلك الكتاب معلقا: (و يظل كتاب ابننا الأديب أنطون بارا من أفضل الكتب التي قرأتها في هذا الصدد، إن من حيث اللغة، أو من حيث الأسلوب والمضمون، وأعتبره خطوة جبارة في طريق الحوار بين أتباع الديانات السماوية)(1).

و أما ما يتعلق بالعبارة التي نريد أن نذكرها له الآن، فهي عبارة قصيرة في مبناها عميقة في معناها، إنها قوله: (الفكر المسيحي العربي يقدس آل البيت عليهم السلام كما المسلم)(2).

نعم، إنها عبارة قصيرة من مجموعة عبارات كثيرة قالها الأستاذ الأديب (بارا) في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي المعاصر)، و لكنني آثرت أن أذكر هذه العبارة تحديدا هنا دون سواها لما لهذه العبارة من مدلولات عميقة تتعلق بعمق الرابطة الروحية بين المفكرين المسيحيين العرب المستنيرين من جهة و بين فكر و مآثر أهل البيت علیهم السلام من جهة أخرى.

فالفكر المسيحي المستنير بنور الحق يتعشق، بلا شك، أهل الحق علیهم السلام، فعندما يقول سيدنا الإمام علي علیه السلام: «اِعْرِفِ اَلْحَقَّ تَعْرِفْ أَهْلَهُ»، و عندما يقول سیدنا عیسی المسيح عليه السلام : «اطْلُبُوا الْحَقِّ ، يَحرّركُم الْحَقِّ»، فعندما يقول كلاهما عليهماالسلام ذلك، معنی ذلك أن الحق يحرر الإنسان من الكثير من القيود والأغلال، و أول هذه الأغلال

ص: 75


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق، ص358.
2- نفس المصدر السابق ص25.

والقيود هو قيد التقوقع والانكماش داخل دائرة التين الواحد أو الفكر الواحد، فالحق دائما وأبدا يحلق عالية فوق حواجز الأديان و فوق حدود القوميات والسياسات، والحق هو الذي يعطي الإنسان الباحث عنه هويته في حين أن الحق لا يكتسب هويته من أي إنسان.

فالفكر المستنير للعرب المسيحيين يقدس أهل البيت عليهم السلام لأن فكرهم يسمو على التعصب والتزمت من جهة، ولأن أهل البيت علیهم السلام هم أهل الحق من جهة أخرى.

و بالتالي، فإن كل إنسان - سواء كان مسيحيا أم غير مسيحي- له فكره الخاص، و له أيضا: قيمته المرتبطة بذلك الفكر، و تتجلى قيمة الإنسان الحقيقية بمقدار الجهد المبذول للوصول إلى حمى الحق والدخول في دائرته، فعظمة الإنسان تتجلى بالفكر الباحث عن الحق و بالعمل الحثيث على ترجمة معانيه و إدراك مقاصده.

و بناء على كل ما سبق، نستطيع القول إن عبارة الأديب الأستاذ (أنطون بارا) السابقة كانت عبارة صادقة في معانيها و صائبة في مراميها، و ذلك لأن أهل البيت المحمدي علیهم السلام - بالنسبة للمفكرين المسيحيين عموما-هم مصباح الدجی و منارة الهدی وهم أهل الصدق و حمى الحق.

و بالتالي، فإن أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين يمثلون دور الفراشات اللطيفة التي تدور و تدور بلهفة و شوق حول المصباح الإلهي العظيم، إنهم العشاق الذين يدورون حول حمى الحق، و من دار حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

ص: 76

يحدثونكم عن الحسين عليه السلام

كان حديثنا السابق حديثا موجزا نوعا ما عن أهل البيت عليهم السلام عموما، و كان ذلك الحديث يتناول ذكرهم عليهم السلام من خلال رؤى إسلامية و مسيحية على حد سواء، و من الطبيعي تماما أن أكون مقصرا في عرض كل وجهات النظر الإسلامية والمسيحية و حتى الهندوسية و غيرها التي جاءت على لسان الكثير من الشخصيات الفكرية الهامة والتي تتحدث تارة عن الرسالة الإسلامية و رسولها الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و تارة أخرى عن أهل بيت ذلك الرسول المصطفى صلی لله علیه و آله و سلم الذين يعتبرون الامتداد الروحي والفكري الرسالة رأس ذلك البيت النبوي الشريف، محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و لا يعني اعترافنا بالتقصير أننا سنقبل بالأمر الواقع و سنستكين له، بل على العكس من ذلك تماما، فإننا سنبذل قصارى جهدنا لاستدراك ما فاتنا و لترميم كل الثغرات التي نرى أن من شأنها أن تخفف من قيمة هذا العمل الفكري الذي يستحق كل الجهد والعناء.

و على كل حال، نرى الآن أن الوقت قد حان فعلا للدخول إلى عالم الإمام الحسين عليه السلام و إلى مملكته الروحية كي نتعرف عليه عن قرب أكثر بعد أن عرفناه كفرد من أفراد أهل البيت عليهم السلام الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا.

فللإمام الحسين عليه السلام مكانة عظيمة و منزلة رفيعة لا يرقى إليها أحد إلا أبوه المرتضى الإمام علي عليهه السلام وأمه المطهرة الزهراء فاطمة علیهاالسلام، و أخوه المجتبى الإمام

ص: 77

الحسن عليه السلام ثم الأئمة التسعة من صلب الحسين (عليهم السلام جميعا).

و لا أعتقد أن هناك من داع إلى إعادة ما جاء في فضل الإمام الحسين عليه السلام كفرد من أفراد أهل البيت الشريف علیهم السلام، فقد ذكرنا في ما مضى أن القرآن العظيم الذي يمثل الوثيقة الإلهية الأعلى منزله قد أفصح في العديد من آیاته المحكمات عن مكانة الإمام الحسين عليه السلام باعتباره واحدة من أعضاء أسرة آل بيت الرسول المصطفى علیهم السلام، و قد رأينا من خلال آية التطهير: «إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا»(1)، أن أهل البيت عليهم السلام عموما، و من بينهم الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا الآن، هم المبرؤون من كل عيب و نقص و من كل رجس و نقيصة.

و غني عن القول أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام هو أحد المقصودين بآية المباهلة التي تقول:

«...فَمَن حاجَّكَ فيهِ مِن بَعدِ ما جاءَكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعالَوا نَدعُ أَبناءَنا وَأَبناءَكُم وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُم وَ أَنفُسَنا وَ أَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَعنَتَ اللَّهِ عَلَى الكاذِبينَ»(2)، حيث أجمع كل المفسرين، و على اختلاف مذاهبهم، أن المقصود بكلمة (أبناءنا) هم الحسن والحسين (عليهما الصلاة والسلام)، و بكلمة (نساءنا) السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة نساء العالمين، و بكلمة (أنفسنا) الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم والإمام علي المرتضى عليه السلام، و في هذا إشارة واضحة و صريحة إلى المكانة التي يشغلها أهل البيت علیهم السلام في الرسالة الإسلامية، تلك المكانة التي لا يستطيع أحد أن يبلغها أو أن ينالها، و إلا لكان الرسول الحكيم صلی الله علیه و آله و سلم قد أحضر جماعة غيرهم من أجل المباهلة.

ص: 78


1- سورة الأحزاب: الآية 33.
2- سورة آل عمران: الآية 11.

أما ما يتعلق بأية المودة «... قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ»(1) فهي الآية الكريمة التي ستبقى تنزف دما و دموعا على ما حل بأهل بيت محمد علیهم السلام بعد أن تنكر الكثير من المسلمين لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم ولآل بيته عليهم السلام و تناسوا تلك الوصية الإلهية الخالدة في محكم تنزيله و بدلوا المودة والمحبة والتوقير بالسيف والتحریق والتهجير، و راحوا يلاحقون و يرهبون كل من أحبهم و والاهم وینکلون بهم قتلاً و تشريدا، و قد صدق القائل:

إن اليهود بحبها لنبيها *** أمنت معرة دهرها الخوان

و ذووا الصليب بحب عیسی أصبحوا *** يمشون زهوأ في قرى نجران

والمؤمنون بحب آل محمد *** یرمون في الآفاق بالنيران

و إذا كان الإمام الحسين عليه السلام هو دائم أحد المشمولين بالذكر ضمن تلك الآيات القرآنية الكريمة السابقة والتي تتحدث بشكل صريح عن موقع آل البيت عليهم السلام من الرسالة الإسلامية و عن منزلتهم السامية عند الله سبحانه و تعالى و عند خاتم رسله الكرام (عليهم سلام الله جميعا)، فلم لا نتحدث الآن، إذن، عن مكانة الإمام الحسين علیه السلام، بشكل مفرد و مستقل، حتى نتعرف عليه عن قرب أكثر و حتى نستوعب شيئا من مزايا شخصيته الكريمة الحميدة التي أبت إلا أن تمثل العمق الفكري والبعد الروحي لشخصية الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، أول الخلق وخاتم الرسل عليهم السلام.

دعونا الآن، أيها القراء الكرام، ندخل سوية، عبر بوابة الزمن الغابر، إلى بيت سیدنا و مولانا محمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، دعونا نسأله عن مدى حبه لسبطه الحسین علیه السلام، و عن المعاني الإسلامية والقيم الفكرية والأخلاقية التي يمثلها ذلك السبط

ص: 79


1- سورة الشورى: الآية 23.

بالنسبة إليه صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، الكريم بعلومه الإلهية، و بآدابه النبوية، و بأخلاقه الرسالية، يجيب على سؤالنا بكل رحابة صدر قائلا:

«حسين مني و أنا من حسين، أحب الله من أحب حسینا، حسين سبط من الأسباط»(1).

هذا هو الحديث الأول الذي تفضل علينا به سيدنا و مولانا محمد المصطفى صلی الله علیه و آل و سلم، و لكن، و قبل أن يفيض علينا ذلك الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة المفصحة عن مكانة الحسين عليه السلام عنده، و هو الرسول السماوي الأخير الممثل لخلاصة الرسالات السماوية السابقة، دعونا نقف قليلا في رحاب الحديث الأول كي نشرح و نحلل شيئا من دلالاته و معانيه.

أعتقد أن القسم الأول من الحديث النبوي الشريف (حسين مني) واضح تماما و لا يحتاج إلى الكثير من الدراسة والتحليل، و لكن لابأس بإلقاء بعض الأضواء على المعاني الروحية التي تكمن وراء العبارة اللفظية ذاتها.

نعم، لا أحد يشك أو يرتاب في أن الحسين عليه السلام هو أحد حفيدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبالتالي، فالحسين عليه السلام هو حقا من النبي، أو بشكل أوضح هو من ذرية النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يخفى علينا حديث الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المشهور: «ينقطع يوم القيامة كل سبب

ص: 80


1- راجع على سبيل المثال: أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مطبعة بولاق بمصر، 1292هج2 ص307. ب. الحافظ النيسابوري، مستدرك الصحيحين، مصدر سابق ج 2ص 177 مع اختلاف يسير. ج. المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مصدر سابق ج 7 ص107، أورده باختلاف يسير.

و نسب، إلا سببي و نسبي»(1)، و في هذا دلالة واضحة و صريحة على الوحدة الدموية الأبوية بين الإمام الحسين عليه السلام و جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد اعتبر أن أبناء السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هم أبناؤه لأن - و كما رأينا في آية المباهلة - الإمام علي عليه السلام و محمدا صلى الله عليه و آله و سلم نفس واحدة حيث استخدم البيان الإلهي في تلك الآية الكريمة كلمة (أنفسنا) للدلالة على أنهما علیهماالسلام نفس واحدة.

و لو أردنا أن نغوص أكثر في معاني عبارة (حسین مني) بحيث نقف على ما وراء المعنى الظاهري الواضح لتلك العبارة النبوية، لرأينا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يعني أن الإمام الحسين ليس مجرد حفيد طاهر من ذريته المقدسة والمطهرة من كل رجس، و إنما يعني أشياء أخرى أيضا تتجاوز في مضامينها حدود البعد اللفظي الأحادي المعنی

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يعني أن الإمام الحسين عليه السلام هو منه دما و روحا و فكرا، بل هو منه نورا و رسالة أيضا، و لا يمكن أن تتضح الصورة المطلوبة هنا ما لم ننتقل مباشرة للحديث عن القسم الثاني من الحديث النبوي السابق «وأنا من حسين».

كيف يمكن لصاحب الرسالة السماوية الأخيرة صلی الله علیه و آله و سلم : أن يكون جزءا أو بعضا من حفيده؟

بل أي عقل سيقبل فكرة أن الجد هو المتحدر من الحفيد في الوقت الذي يجب أن يكون فيه الحفيد هو المتحدر فعليا من ذرية الجد؟!

و إذا قلنا، على سبيل التسليم، إن المقصود بتلك العبارة هو أن الحسين علیه السلام

ص: 81


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص55.

السبيل القويم والنهج المستقيم لمرحلة إسلام ما بعد محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فكيف يمكن لنا أن نستوعب ذلك و أن نسلم به؟!

كل هذه التساؤلات يمكن أن تخطر على بالنا و على بال الكثيرين من المفكرين والمسلمين و غير المسلمين ممن استوقفتهم تلك العبارة المميزة من الحديث النبوي الشريف.

و على سبيل المثال، لو سألنا الشيخ الأزهري الجليل (عبد الله العلايلي) عن معنى ذلك الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه سابقا، والذي ذكره هو شخصيا في أماكن متعددة في كتابه (الإمام الحسين)، فماذا سيكون جوابه؟!

إن جوابه هو ما يلي: (و في هذا الحديث معنى لا أدري كيف أحدده، و لكن يجمل بي أن أتعنى في فهمه بما أمثل معه لحن النبوة في حروفها، هو لون من البيان يقصد به في كلام العرب إفادة الامتزاج والاتحاد، و كأنما حي صلی الله علیه و آله و سلم من الحسين في مظهرين: مظهر الرجل النبي، و مظهر الرجل المسلم، و له في المظهر الأول شكل من جاء من السماء، و في المظهر الثاني شكل من عاد إليها)(1).

هذه هي باختصار شديد وجهة نظر العلامة الأزهري، الشيخ (عبد الله العلايلي) حول مفهوم و معاني ذلك الحديث النبوي الشريف بشأن الحسين عليه السلام، و خلاصة القول عند العلامة (العلايلي) هو أن الإمام الحسين عليه السلام يمثل، بالنسبة لجده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، بقية النبوة و خلاصة الشخصية الإسلامية الكاملة.

و ما يعزز وجهة النظر تلك، هو قوله في مكان آخر في تفسيره لنفس الحديث النبوي السابق: (جاء في أخبار الحسين أنه كان صورة احتبكت ظلالها من أشكال جده

ص: 82


1- الشيخ عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة التربية . بيروت 1989، ص68.

العظيم، فأفاض النبي عليه شعاعة غامرة من حبه و أشياء نفسه، ليتم له أيضا من وراء الصورة معناها.

فتكون حقيقته من بعد كما كانت من قبل، إنسانية ارتقت إلى نبوة (أنا من حسين)، و نبوة هبطت إلى إنسانية (حسين مني)، فسلام عليه يوم ولد...)(1).

حسنا، نعتقد أن الصورة باتت أكثر و ضوحا في التعبير عن وجهة نظر ذلك العلامة الجليل (عبد الله العلايلي).

و لا يخفى على القارئ الكريم أن الكثير من الباحثين والمفكرين المسلمين والمسيحيين قد تهبوا الخوض في شرح الحديث السابق، خاصة ذلك القسم الذي يقول فيه صلی الله علیه و آله و سلم: (و أنا من حسين)، و لذلك فقد اكتفوا بذكر الحديث كدلالة على عظمة الحسين عليه السلام ، و لم يتطرقوا إلى فك رموزه و تحلیل معانيه.

و قد يستغرب البعض منا إذا علم أن هناك بعض المفكرين المسيحيين في الشرق والغرب قد عمل جاهدة على تحليل العلاقة الروحية الوثيقة التي تربط بين الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و حفيده الإمام الحسين عليه السلام، و ذلك بالاعتماد على تفسير دلالات الحديث النبوي السابق و على غيره من الأحاديث النبوية الأخرى التي لا تبين فضائل و عظمة الإمام الحسين عليه السلام فحسب، بل و تبين فضائل و مآثر أبيه، الإمام علي المرتضى عليه السلام ، وأمه السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام، قرة عين المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و لو أردنا أن نأخذ مثالا واحدة فقط على ما نقول، لوقع اختيارنا على المستشرق الفرنسي الذائع الصيت (Louis massignon- لويس ماسينيون) (1883 -1962)

ص: 83


1- نفس المصدر السابق ص290.

و بالطبع، لم يأتي اختيارنا للباحث والمستشرق الفرنسي (ماسينيون) عن عبث، و إنما جاء هذا الاختبار نتيجة لعدة عوامل ثقافية هامة، و لابأس بذكر البعض منها هنا كي تكون المدخل المناسب لحديثه عن الإمام الحسين عليه السلام و عن أمه و أبيه و جده (عليهم الصلاة والسلام جميعا) و عن العلاقة المميزة التي تربط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بسبطه الإمام الحسين علیه السلام.

فالمستشرق (ماسینیون) عالم بالإسلام، و كان له نفوذ بعيد المدى على الصورة التي نظر بها الغربيون إلى الإسلام، و قد مهد الطريق للكنيسة الكاثوليكية للانفتاح على الإسلام و مبادئه على حسب ما ورد في (إعلان الفاتيكان 2)، و قد شغل (ماسینیون) منصب کرسي علم الاجتماع الإسلامي في جامعة باريس، والجدير بالذكر أيضا أن المستشرق الفرنسي (هنري کوربان) هو أحد تلامذته النجباء، و من تلامذته أيضا المفكر المصري عبد الرحمن بدوي)، والمفكر (جورج مقدسي)، والشيخ (عبد الحليم محمود) شيخ الأزهر سابقا، و من أشهر أعماله کتاب (آلام الحلاج).

إذن، فالأستاذ (ماسینیون) ليس بالشخصية العادية التي تكتب عن الإسلام والمسلمين عن بعد، بل هو واحد من القلة القليلة التي زارت و جابت الكثير من البلدان الإسلامية حتى أنه، كما يقول عنه الباحث الروسي (أليكسي جوارفسكي) في كتابه (الإسلام والمسيحية)، دخل إلى القاهرة للدراسة في جامعة الأزهر، و قد عين في شتاء 1912- 1913 أستاذا في جامعة القاهرة الجديدة، و قد أصبح في عام 1919 مدیر (مجلة العالم الإسلامي)، و لاحقا مديرا لمجلة (الدراسات الإسلامية) )(1).

ص: 84


1- أليكسي جارافسكي، الإسلام والمسيحية (عالم المعرفة) العدد (215)، ترجمة: الدكتور خلف محمد الجراد ، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب . الكويت . تشرين الثاني، 1996، ص110.

و على كل حال، يرى الأستاذ (ماسينيون) في العديد من كتاباته و مقالاته أن الرسول الكريم محمدا صلی الله علیه و آله و سلم كان شديد الحب لابنته الطاهرة فاطمة علیهاالسلام حتى أنه كان يلقبها ب (أم أبيها) إيمانا منه بأنها- إلى جانب زوجها علي عليه السلام، ستحفظ مبادئ الإسلام الدينية والإنسانية من خلال ذرنيتها المقدسة المتمثلة بشكلها الأوضح في شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي سيأتي من نسله تسعة أئمة أطهار عليهم السلام، و سيكون آخرهم الإمام المهدي (عجل الله تعالی فرجه الشریف)(1).

و هنا، يؤكد لنا الباحث الفرنسي المعاصر (جان موریون) أن (ماسينيون) كان مدركا تماما لمعنى قول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لابنته فاطمة أنها (أم أبيها)، و قد شرح الأستاذ (موريون) وجهة نظر (ماسینیون) بقوله: (لقد لقبت فاطمة تحببا بأم أبيها، و هذا يدل على مدى حب الرسول لها، فهي التي سيستمر توارث الرسالة الإسلامية عبرها حتى يوم الدين)(2).

و بعد هذا الكلام، نرى أن الأستاذ (موريون) يستفيض في شرح و جهات نظر الأستاذ (ماسینیون) بشأن العلاقة الروحية العميقة بين الجد والابنة والحفيد علیهم السلام، فالإمام الحسين علیه السلام هو الإمام الذي سيحفظ تراث جده الروحي، و هو الذي سيدافع عن شريعته، بل هو الإمام الوحيد من ذرية علي و فاطمة علیهماالسلام القادر والمؤهل لإعطاء دفة القيادة الإسلامية الروحية لتسعة أئمة من ذريته يجددون و يعمقون مبادئ الإسلام الحنيف في نفوس المؤمنين، و من هنا يسهل علينا أن نفهم قول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم: «... و أنا من حسین»، على أساس أن روح رسالته السماوية ستستمر حية

ص: 85


1- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بیروت، 1981، ص81.
2- نفس المصدر السابق ص80

من خلال حفيده الحسين الذي سيحيي معالمها و سيبقيها شعله متقدة من خلال الأئمة التسعة من أبنائه، فحياته الرسالية ستبقى حية وستستمد بقاءها اللامحدود من خلال حياة حفيده القائمة على أساس الإيمان بالإمامة المتحدرة أساسا من الإمام علي علیه السلام و من زوجته فاطمة عليهاالسلام ، ابنة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم و(أم أبيها).

و ربما بسبب كل هذه العوامل المذكورة أعلاه، فقد خص (ماسينيون) الفكر الإسلامي الشيعي بمكانة بارزة في أعماله، و خض أهل البيت عليهم السلام عموما وفاطمة الزهراء علیهاالسلام التي تحتل موقع المحور وسط علاقات القرابة الخمس (الأبوة، الزواج، الأمومة، البنوة، الأخوة)، بمكانة مرموقة في مؤلفاته لدرجة أنه أبرزها بشكل مستقل في أربعة من بحوثه(1).

هذه باختصار شديد بعض التحليلات الهامة للحديث النبوي السابق، و قد تعمدنا أن يكون التحليل الأول لعالم إسلامي من الشرق، و هو العالم الأزهري (عبد الله العلايلي)، هي حين كان التحليل الثاني لمستشرق مسيحي من الغرب، و هو المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون).

و علينا أن لا ننسى الآن أننا كنا في زيارة لسيدنا الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لنتعرف على مكانة الحسين علي عنده، و أننا كنا بانتظار المزيد من أحاديثه النبوية الشريفة.

و ها هو صلی الله علیه و آله و سلم يفيض علينا من برکات بیانه قائلا: «إن الحسن والحسين هما ريحانتاي»(2)، ولأنه صلی الله علیه و آله و سلم رسول الخير والحق والفضيلة، ولأنه أيضا الرسول الأكرم،

ص: 86


1- نفس المصدر السابق ص81 80.
2- راجع على سبيل المثال ما جاء في أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق ج2 ص306. ب. الإمام أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، المطبعة الميمنية بمصر، 1312ه، ج2 ص85 93. ج. الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصباني، حلية الأولياء، مطبعة السعادة بمصر، 1351ه، ج5 ص70. د. الحافظ أحمد بن شعيب النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، مطبعة التقدم العلمية بمصر ص37.

فهو لا ينتظر منا أن نطلب منه المزيد عن مكانة الحسين عليه السلام عنده، بل هو صلی الله علیه و آله و سلم الذي يبادر إلى القول من جديد: «الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة»(1).

و إذا كنا نريد و داع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و إنهاء رحلتنا إلى حضرته النبوية القدسية على أمل لقائه غدا يوم العطش الأكبر كي يكون شفيعا لنا عند رب غفور رحيم، فإننا نشعر بحرقة الوداع و لوعة الفراق، غير أن الأمل الأكبر سيكون في يقيننا أنه صلی الله علیه و آله و سلم سیسقينا غدا و سوف يسقي كل محب له و لأهل بيته علیهم السلام من نهر الكوثر أيا كانت هوية ذلك المحب المذهبية، أو حتى الدينية أيضا.

والحقيقة ثقال، فإننا مهما حاولنا إقناع أنفسنا بضرورة الاكتفاء بما قدمناه من أحاديث نبوية شريفة عن منزلة الحسين عليه السلام الرفيعة في ضمير جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و في فكره الرسالي، فإن تلك القناعة قد لا تكون مرضية لبعض القراء الكرام الذين يريدون دائما المزيد من تلك الأحاديث الممتعة للروح و للفكر، و ربما يزيد ذلك النوع من القراء المزيد من الأحاديث النبوية لعدة أسباب جديرة بالاهتمام، و لا نستبعد أن

ص: 87


1- راجع على سبيل المثال: أ. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق، ج2 ص306. ب. أحمد بن حنبل، مسند الإمام أحمد بن حنبل، مصدر سابق، ج3 ص3 + 62. ج . الحافظ أبو بكر أحمد بن علي (الخطيب البغدادي)، تاریخ بغداد، مطبعة السعادة بمصر، 1349ه، ج9 ص 231. د. الحافظ أبو نعيم الأصبهاني، حلية الأولياء، مصدر سابق، ج5 ص 71. ه . الحافظ النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام ، مصدر سابق، ص36.

يكون على رأس هذه الأسباب حبهم للاطلاع على الدراسات والتحليلات المعاصرة التي جادت بها أقلام الأدباء والمفكرين المعاصرين، والتي جاءت بمثابة الدراسة المنطقية والتحليلات العقلانية لتلك الأحاديث النبوية الشريفة التي قالها خاتم رسل الله صلی الله علیه و آله و سلم قبل أكثر من أربعة عشر قرنا من الزمان.

و ها نحن سنكون كرماء، كما كان الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم کریما معنا، و سنورد المزيد من أحاديثه البهيجة والمميزة حول سبطه الذي سيروي شجرة الإسلام من دمائه الزكية.

فقد جاء في كتاب (مجمع الزوائد) للحافظ (نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي): عن يزيد بن أبي زياد قال: خرج النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم من بیت عائشة، فمر على بيت فاطمة سلام الله عليها، فسمع حسينا يبكي فقال: «ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني؟»(1).

نعم، إن بكاء الحسين علسه السلام يؤذي رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و يثير الهموم والآلام في صدره الشريف، و لكن ألا يحق لنا أن نسأل - على ضوء فهينا لهذا الحديث النبوي-رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم قائلين:

إذا كان بكاء الحسين علیه السلام يؤذيك يا رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم، و إذا كانت دموعه تشعل الهموم والأحزان في قلبك النقي الطاهر، فما هو موقفك لو أبصرته و رأسه الشريف يقطر دما؟!

و إذا كان بكاؤه يؤذيك و يؤلمك على الرغم من أنه كان يبكي و هو بين ذراعي أمه

ص: 88


1- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، مكتبة القدسي، القاهرة، 1352ه، ج9 ص 201.

فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فما هو شعورك لو أبصرته مرملا بدمائه، ممزق الجثة تحت حوافر الخيل؟!

ألم يسمع أولئك القتلة الفجرة بقولك المشهور الذي قلته على رؤوس الأشهاد: «من أحب الحسن والحسين فقد أحبني و من أبغضهما فقد أبغضني»(1)؟!

و على كل حال، لا يسعنا أن نقول شيئا إلا قولنا لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم، و حسبنا الله و نعم الوكيل.

و نعتقد الآن أنه من الأفضل لنا أن نذكر هذا الحديث الهام الذي أخذناه من كتاب (تاریخ بغداد) لمؤلفه الحافظ (الخطيب البغدادي)، و هو حديث مؤثر جدا و مناسب کي نختتم به حدیثنا الآن عن منزلة الإمام الحسين عليه السلام في وجدان الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و في ضميره النبوي الكريم.

و لكن، بالطبع، ستكون لنا عودة ثانية للتوقف مع أحاديث النبي المصطفی وصلی الله علیه و آله و سلم التي تتحدث عن قضية خروج الإمام الحسين علیه السلام و عن استشهاده على رمال كربلاء الحارقة والمتعطشة لدماء الشهداء الأبرار التي ستكون الوقود الإيماني الذي سيحفظ روح الإسلام والخير والحق والفضيلة حية دائما و أبدا في ضمائر كل الأحرار في العالم على مر الأعوام و تقادم الأزمان والعصور.

و ها نحن نذكر الآن الحديث الأخير الذي يمكن أن نذكره هنا، فقد روی الخطيب البغدادي بسنده عن أبي العباس، قال: كنت عند النبي صلى الله عليه (وآله) و سلم، و على فخذه الأيسر ابنه إبراهيم (ابن مارية القبطية)، و على فخذه الأيمن الحسين بن علي علیهماالسلام .

ص: 89


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق،ج2 ص46.

تارة يقبل هذا و تارة يقبل هذا، إذ هبط عليه جبريل عليه السلام بوحي من رب العالمين، فلما سرى عنه قال: أتاني جبريل من ربي فقال لي: يا محمد إن ربك يقرأ عليك السلام و يقول لك: لست أجمعهما لك، فافذ أحدهما بصاحبه، فنظر النبي صلى الله عليه (و آله) و سلم إلى إبراهيم فبكى، و نظر إلى الحسين عليه السلام فبكي، ثم قال: إن إبراهيم أمة أمة و متى مات لم يحزن عليه غيري، و أم الحسين فاطمة و أبوه علي ابن عمي لحمي و دمي، و متى مات حزنت ابنتي و حزن ابن عمي و حزنت أنا عليه، و أنا أوثر حزني على حزنهما.

يا جبريل، تقبض إبراهيم، فديته بإبراهيم، قال: فقبض بعد ثلاث، فكان النبي (صلى الله عليه (و آله) و سلم) إذا رأى الحسين عليه السلام مقبلا قبله و ضمه إلى صدره و رشف ثناياه، و قال: فديت من فديته بابني إبراهيم(1).

و هنا لا بد لنا من التوقف قليلا كي نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الجولة الشيقة في ربوع الفكر المحمدي الرسالي الخالد و في مملكة معرفة الحسين علیه السلام، الإمام الشهيد و أبي الأئمة الشهداء علیه السلام.

و بطبيعة الحال، ما هذه الأحاديث النبوية الشريفة التي أوردناها في معرض حديثنا عن الإمام الحسين علیه السلام إلا غيض من فيض، و هي بمجملها - بالإضافة إلى الأحاديث النبوية التي سنذكرها لاحقا حول نبوءة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ومعرفته الغيبية باستشهاده عليه السلام - الأحاديث التي بني عليها المفكرون والأدباء المسلمون والمسيحيون و غيرهم و جهات نظرهم و دراساتهم عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام و عن ثورته الإيمانية الإنسانية المباركة.

ص: 90


1- الحافظ الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد ، مصدر سابق، ج2 ص204.

و إذا كان المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون)، الذي أسلفنا ذكره، قد أعطى أهل البيت عليهم السلام عموما مكانة مرموقة في مؤلفاته الاستشراقية، و بشكل خاص تلك المكانة المميزة للسيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، أم الحسن والحسين عليهماالسلام ، والملقبة بأم أبيها، فإن المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) يؤكد في كتابه (الإسلام الشيعي) على صحة وجهة نظر أستاذه المستشرق (ماسينيون)، و يعتبر أن لأبناء السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، و تحديدا الإمام الحسين عليه السلام الدور الفعال في عملية استمرار النسل المحمدي الحامل والمجدد دوما للديانة الإسلامية، تلك الديانة التي أثبتت قوتها و جدارتها فعلا يوم حادثة المباهلة حيث باهل الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم و فد نجران، أو بالأصح كاد أن يباهلهم، بأغلى الناس على قلبه و بأهل بيته عليهم السلام الذين يمثلون صفوة رسالته الإلهية، بعلي و فاطمة والحسن والحسين(1).

أما لو عدنا ثانية إلى الشيخ الأزهري الجليل (عبد الله العلايلي) كي نقف على رأيه بشخصية الإمام الحسين عليه السلام بعد وضعها تحت أضواء الأحاديث النبوية الشريفة، فماذا سيكون رأيه؟!

في الحقيقة، يربط العلامة (العلايلي) بين الآية القرآنية التالية «اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»(2) و بين شخصية الإمام الحسين عليه السلام، إذ إنه یری- على ضوء الآية القرآنية السابقة- أن كل شيء قائم بنور الله وحي به، و إنما يتفاوت الناس بمقدار ظهور شعاع الله فيهم، و من هذه الفكرة ينبثق السؤال التالي:

إذا كان الناس يتفاوتون بمقدار ظهور شعاع الله سبحانه و تعالى فيهم، فما هو

ص: 91


1- یان ریشار، الإسلام الشيعي، ترجمة: حافظ الجمالي، دار عطية . بيروت، 1996م، ص47.
2- سورة النور: الآية35.

موقع الإمام الحسين عليه السلام من هذا الكلام؟!

والجواب بكل بساطة- كما يراه العلامة العلايلي - هو أن الحسين عليه السلام ، ليس غريبا أن يكون حيث نتحدث عنه، فإن في إنسانيته السامية، تلتقي شعله النبوة المقدسة بالفطرة المثالية، و تزدحم المعاني والصور، و رموز العالم المجهول، فهو روح إلهي في طبيعة بشرية)(1).

نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام روح إلهي في طبيعة بشرية، و لكن لم يأت هذا الحكم من العلامة (العلايلي) من الفراغ، و لم يأت نتيجة ثورة عاطفية بعيدة عن روح المنطق و أسس العقل، بل إنه الحكم المنطقي الصادر عن عقل مستنير بضوء الحقائق و بنور الوقائع، فلا يسمح لتيار العاطفة المجلجل أن يجرف معه ما بناه العقل من نتائج و أحكام.

و لا أريد هنا أن أسهب في الحديث عن وجهة نظر العلامة (العلايلي) حول طفولة الإمام الحسين عليه السلام و موقعه کسبط في قلب و وجدان جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لكن أحب أن أذكر هنا حادثة واحدة فقط من الحوادث المشهورة عن طفولة الحسين عليه السلام، و من ثم سأذكر تعليق العلامة (العلايلي) عليها و تحليله العقلي لها.

نقل لنا العلامة (العلايلي) في الصفحة / 282/ من كتابه (الإمام الحسين) القصة التالية كما جاءت في الكثير من كتب التراث الإسلامي، فقال:

و عن شداد، قال: خرج علينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في إحدى صلاتي العشاء و هو حامل حسينا، فتقدم النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فوضعه، ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، فرفعت رأسي فإذا الصبي على ظهره و هو ساجد، فرجعت إلى سجودي فلما قضى الصلاة،

ص: 92


1- العلامة عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص8

قيل: يا رسول الله إنك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أم أو أنه يوحى إليك، فقال: «كل ذلك لم يكن، و لكن ابني ارتحلني (أي امتطى ظهره صلی الله علیه و آله و سلم) فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته».

هذه هي القضية بتمامها كما نقلها لنا العلامة (العلايلي) في كتابه المذكور، و قد حظيت هذه القصة تحديدا بالكثير من التأمل والتفكر في كتاب العلايلي، و لعل أبرز تحليل و أعمق معنى وصل إليه العلامة العلايلي في دراسته لأبعاد هذه الحادثة المتعلقة بطفولة الإمام الحسين عليه السلام هو قوله:

(ارتحل الحسين عليه السلام ظهر جده العظيم و هو ساجد في الصلاة، وجاء في الحديث أن أقرب ما يكون المرء من ربه و هو ساجد.

و معنى هذا أن النبوة الساجدة كانت معراجا روحيا لهذا الطفل الذي استودع فيه النبي أسراره العظمى و إنسانيته العليا)(1).

فالحسين عليه السلام، إذن، كأبيه الإمام علي عليه السلام، مستودع أسرار النبوة و خزان علوم الرسالة السماوية، و لهذا السبب كان الكثير من رجال الفكر والأدب ينظرون إلى زواج الإمام علي عليه السلام من ابنة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المفضلة فاطمة الزهراء علیهاالسلام على أنه تزاوج قائم بالأساس على امتزاج النور الإمام العلوي مع النور الرسالي النبوي المحمدي والعودة بذلك النور إلى حالته الأولى كما كان عليه قبل أن يخلق الله سبحانه و تعالى سیدنا آدم عليه السلام بعدة آلاف من السنين الإلهية.

فالإمام الحسين هلیه السلام، كأخيه الإمام الحسن علیه السلام، هما نتاج أنوار الإمامة وأنوار الرسالة، إنهما عليهماالسلام ابنا المرتضى عليه السلام والمصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لهذا لا يمكننا أن نعتبر

ص: 93


1- نفس المصدر السابق ص293

قول العلامة (العلايلي) عن زواج علي علیه السلام من فاطمة بنت المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم إلا قولا صائب و حكما سديداة، إذ إنه قال:

اجتمعت في علي قابليات لا حد لها...

واجتمعت في فاطمة إشراقات لا حد لها...

فيوم علي و فاطمة، يوم نظر النبوة إلى نفسها في المرآة(1).

و الآن، أيها الأعزاء، دعونا ننتقل في رحلتنا هذه من عالم العلامة (العلايلي) إلى رحاب عالم مفکر آخر لا يقل أهمية في فكره عن مستوى العلامة (العلايلي) الذي كنا في ضيافته الفكرية منذ قليل.

فالأستاذ (توفيق أبو علم) واحد من أبرز الكتاب السنة المعاصرين الذين خاضوا غمار البحث في التاريخ الإسلامي و خرجوا نتيجة بحثهم بالعديد من الكتب الدينية والفكرية الهامة التي أغنت المكتبة العربية بمعلوماتها و بدقة الملاحظات التي أبدتها حيال الكثير من الوقائع الإسلامية والحوادث التاريخية المفصلية الهامة على امتداد فجر الرسالة الإسلامية.

و لا ريب في أن الأستاذ (أبو علم) كان متبخرة جدا في دراسة التاريخ الإسلامي و إلا لما خرج بالعديد من الكتب الإسلامية التي تتناول سيرة حياة أعلام المسلمين الذين كانوا هم بحق صورة الإسلام ومنهج الإيمان الذي رسمته الرسالة السماوية الأبناء الأرض.

و يمكننا أن نذكر من مؤلفات الأستاذ (أبو علم)، الذي كان يشغل منصب وكيل أول في وزارة العدل سابقا، الكتب التالية والتي طبعت مرات عديدة نظرا لقيمتها

ص: 94


1- نفس المصدر السابق ص386

الفكرية والروحية:

(فاطمة الزهراء)، (علي بن أبي طالب)، (الحسن بن علي)، (الحسين بن علي)، (السيدة نفيسة)، و قد ترجمت بعض هذه الكتب إلى اللغة الفارسية.

و أكثر ما يهمنا الآن من هذه الكتب هو كتاب (الحسين بن علي)، كونه الكتاب الذي يتحدث بشكل مباشر عن الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا في الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن.

وبلا شك، فقد تحدث الأستاذ (أبو علم) عن طفولة الإمام الحسين عليه السلام في بداية كتابه، و قد أجاد في إيراد الشواهد التاريخية و في التعليق عليها أيضا، و قد ذكر من جملة ما ذكر عدة حوادث تتعلق بطفولة الإمام الحسين عليه السلام و بارتباطه الروحي بجده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

و ما يهمنا من هذه الحوادث الهامة هي تلك الحادثة التي نقلها لنا الأستاذ (أبو علم) من بطون الكتب التراثية السنية المعتمدة والموثوقة عند أهل النقل من علماء المسلمين.

يقول الأستاذ (أبو علم) إنه جاء في كتاب (تاريخ البلاذري) نقلا عن محمد بن يزيد المبرد النحوي بسنده، قال: انصرف النبي صلی الله علیه و آله و سلم إلى منزل فاطمة فرآها قائمة خلف بابها فقال: «ما بال حبيبتي ها هنا؟» فقالت: «إن ابنيك خرجا غدوة و قد غم علي خبرهما»، فمضى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقفو آثارهما حتى صار إلى كهف جبل فوجدهما نائمين وحية مطوقة عند رأسيهما... ثم حمل الحسن على كتفه اليمنى والحسين على كتفه اليسرى، فنزل جبرائيل فأخذ الحسين، فكانا بعد ذلك يفتخران، فيقول الحسن:

ص: 95

«حَمَلَنِي خَيْرَ أَهْلِ الْأَرْضِ»، و يقول الحسين: «حَمَلَنِي خَيْرُ أَهْلِ السَّمَاءِ»(1).

و في نفس الصفحة التي ذكر فيها الأستاذ (أبو علم) هذه الحادثة المشهورة والمأخوذة من كتاب (تاريخ البلاذري)، نراه يسارع مباشرة لذكر عدة أبيات شعرية تخلد هذه الحادثة شعرا، فقد ذكر قول الشاعر (حسان بن ثابت):

فجاء و قد ركبا عاتقيه *** فنعم المطية والراكبان

ثم ذكر بعد هذا البيت الشعري، عدة أبيات شعرية أخرى و لكن هذه المرة للشاعر العبقري (السيد الحميري)، و هي في مجملها أبيات شعرية تصور الرسول الكريم صلی اله علیه و آله و سلم و هو يحمل حفيديه العزيزين علي علیهماالسلام كتفيه:

أتی حسنا والحسين الرسول *** و قد برزا ضحوة يلعبان

فضمهما و تفداهما *** و كانا لديه بذاك المكان

و مر و تحتهما عاتقا، *** فنعم المطية والراكبان

و للأستاذ (أبو علم) أسلوبه الخاص و طريقته المميزة في عرض جوانب الشخصية التي يتحدث عنها، فهو ينتهج أسلوب واحدة من مدارس علم النفس الحديثة التي تقول إن الإنسان، في محصلة الأمر، هو ابن بيئته البيتية، و هو نتاج تربيته الأبوية، و ذلك لأن الإنسان يكتسب الكثير من الخصال والصفات في سلوك و ثقافة أبويه و من محيطه الأقرب.

وانطلاقا من هذه الفكرة، يرى الأستاذ (أبو علم) أن التعريف بشخصية استثنائية رفيعة كشخصية الإمام الحسين علیه السلام لا ينظر إليها من ذاتها فحسب، و إنما ينظر إليها أيضا من خلال محيطها الأقرب، و من خلال ثقافة و سلوك أفراد ذلك المحيط

ص: 96


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، دار المعارف بمصر، ط1982/2 ، ص27.

الأقرب، و بشكل أوضح، من خلال أسرته.

و لذلك، يرى أن التعريف بالإمام الحسين عليه السلام يستلزم الكلام عن هوية جده صلی الله علیه و آله و سلم و عن جدته (رضی الله عنه)، و يستلزم الكشف أيضا عن هوية أبيه عليه السلام و أمه علیهاالسلام و أخيه علیه السلام أيضا.

و لكن نحن لن نقوم بهذا العمل لأننا لو قمنا به، أو على الأقل، لو استعرضنا هوية كل من مر ذكرهم علیه السلام من محيطه الأقرب فسيطول بنا المقام كثيرا و سيكون في ذلك خروج، بعض الشيء، عن الشخصية الأساسية والمحورية في كتابنا هذا.

و لذلك، سنختصر الكلام و سنقول مؤكدين ما يراه الأستاذ (أبو علم) من أن معرفة أهل البيت علیهم السلام هي باب من أبواب الجنة، لأن حبهم هو بحد ذاته الجنة التي لا يرضى عنها المؤمن الحقيقي أي بديل أو مقابل.

و سنوفر الكلام على الأستاذ (أبو علم)، و سنورد الحديث النبوي الشريف الذي ذكره في كتابه (الحسین ابن علي) والذي يختصر الحديث عن استعراض الهوية المفضلة عن جو الإمام الحسين عليه السلام و عن محيطه الأقرب.

و نص الحديث المنقول عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه هو أنه قال: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم آخذا بيد الحسين بن علي و هو يقول: «أيها الناس هذا حسین بن علي فاعرفوه، فوالذي نفسي بيده لجد الحسين أكرم على الله من جد یوسف بن يعقوب - هذا الحسين جده في الجنة- و أبوه في الجنة و أمه في الجنة و عمه في الجنة و عمته في الجنة، و خاله في الجنة و خالته في الجنة و أخوه في الجنة و هو في الجنة»(1)

و لا أظن، بعد ذلك، أننا بحاجة للإجابة على السؤال التالي:

ص: 97


1- نفس المصدر السابق ص30.

إذا كان كل هؤلاء علیهم السلام: من محيطه الأقرب، هم سادة أهل الجنة، فماذا تعني محبتهم و معرفتهم و موالاتهم؟! هو مصير من يسير على خطاهم و ينهج نهجهم و سلوكهم مع الخالق ومع الخلائق؟!

و لا نطلب من القارئ الكريم، في إجابته على ذلك، إلا القليل من التروي والمنطق والإنصاف، و من ثم فليكن جوابه ما يشاء.

و حتى يكون القارئ أكثر عقلانية و إنصافا في إطلاق حكمه و في الإجابة على ما سبق من جهة، و حتى لا يتهمنا بالبخل والتقتير بإيراد المزيد من الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرها الأستاذ توفيق أبو علم في مؤلفاته العديدة عن أهل البيت عليهم السلام من جهة ثانية، لا يسعنا إلا أن نقول للقارئ: لك ما تريد، و لكن دعنا نقرأ سوية و بروية هذا الحديث النبوي الشريف الذي أورده الأستاذ (أبو علم)، هذه المرة، في كتابه (الحسن بن علي)، و لنقف متأملين بعمق و متفکرین بهدوء و بتعقل كل عبارة واردة فيه.

ينقل لنا الأستاذ (أبو علم) عن علي بن الهلالي عن أبيه قوله:

دخلت على رسول الله صلی اله علیه و آله و سلم في الحالة التي قبض فيها، فإذا فاطمة سلام الله عليها عند رأسه فبكت حتى ارتفع صوتها، فرفع صلی الله علیه و آه و سلم طرفه إليها، فقال: «حبيبتي فاطمة ما الذي يبكيك؟»، فقالت: «أخشى الضيعة من بعدك»، فقال: «يا حبيبتي أما علمت أن الله اطلع على أهل الأرض اطلاعة فاختار منها أباك فبعثه برسالته، ثم اطلع اطلاعة فاختار منها بعلك و أوحي إلي أن أنكحك إياه؟

یا فاطمة و نحن أهل بيت فقد أعطانا الله سبع خصال لم تعط أحدا قبلنا و لا تعط أحدا بعدنا، وأنا خاتم النبيين و أكرمهم على الله عز وجل و أحب المخلوقين إلى الله عز وجل و أنا أبوك، و وصيي خير الأوصياء و أحبهم إلى الله عز وجل و هو بعلك، و شهيدنا

ص: 98

خير الشهداء و أحبهم إلى الله عز وجل و هو حمزة بن عبد المطلب عم أبيك و عم بعلك، و منا من له جناحان أخضران يطير بهما إلى الجنة حيث يشاء مع الملائكة و هو ابن عم أبيك و أخو بعلك، و ما سبطا هذه الأمة و هما ابناك الحسن والحسين و هما سیدا شباب أهل الجنة، وأبوهما -والذي بعثني بالحق-خیر منهما، یا فاطمة والذي بعثني بالحق إن منهما مهدي هذه الأمة إذا صارت الدنيا هرجا و مرجا، و تظاهرت الفتن و تقطعت السبل و أغار بعضهم على بعض، فلا كبير يرحم صغيرا، و لا صغير يوقر كبيرا، فيبعث الله عز وجل عند ذلك من يفتح حصون الضلالة و قلوبا غلفا يقوم بالدين في آخر الزمان كما قمت به في أول الزمان، و يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا»(1).

و أقل ما يمكن أن يقال عن المحيط الأقرب للإمام الحسين عليه السلام- بعد قراءة الحديث الذي ذكرناه- هو أن ذلك المحيط المتمثل بالأسرة التي نشأ فيها الإمام الحسين عليه السلام هو محیط يدأب و يسعى لتحقيق وحدة هدف كان أول من نادی به رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تحت راية لا إله إلا الله دائما و أبدا، و لا ريب في أن ذلك الهدف أو القضية التي حمل لواء الدفاع عنها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم - كما يصفها المفكر المسيحي (سلیمان کتاني)- هي نفس القضية التي امتلأ بها وجود الإمام علي عليه السلام، و هي أيضا ذات القضية التي حملتها و سارت بها الصديقة الزهراء علیهاالسلام إلى باحة المسجد، و هي ذاتها التي قصف بها الإمام الحسن عليه السلام حسامه حقنا للدماء، وصونا لوحدة المسلمين، لتبقى هي القضية ذاتها يمشي بها الإمام الحسين عليه السلام من أرض مكة إلى

ص: 99


1- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، دار المعارف بمصر، ط 1990/2 ، ص29.

رمال كربلاء بجبة ما طاب له إلا أن يصبغها بدماء الوريد(1).

لقد كان محيط الإمام الحسين عليه الاسلام الأسري هو بحد ذاته المجتمع الإنساني والإيماني الأمثل، لقد حققته الرسالة السماوية إذ بنته بيتا كريما تنزل فيه كي تخلد معه في القيمة المستمرة، في وجود الإنسان و استمراريته، فهي الرسالة السماوية التي ستدافع عن ذلك البيت النبوي، إذ إنها في ذلك ستدافع عن ذاتها و عن حقيقتها من خلال دفاعها عنه، و من هنا كان البيت بيت الرسالة، أما أهلوه المخصصون فهم المصطفون عنصرا أصيلا للصيانة والتعهد، حتى تبقى الرسالة فاعلة فعلها المنشود إلى أن يعم الرشد سواد الناس و تنجلي سحب الضلالة والظلام، و تتجذر إنسانية الإنسان بداخله عن طريق العلم واليقين و عن طريق السعي والممارسة، تلك الممارسة التي نسيه مواطئ قدميه في أمسه المظلم والهزيل، و تنقذه و تنجيه من الانتكاس والردة في يومه الجديد و في مستقبله الممتد صعودة إلى يوم الدين). (2)

و ليس هذا فحسب، بل يرى المفكر والأديب المسيحي (كتاني) أن لطفولة الإمام الحسین علیه السلام تعهدا متفردا عن المثيل، و قد اشترك في ذلك التعهد الممتاز: الجد والأب والأم بأسلوب موحد لا يدل و لا يشير إلا إلى وحدة الهدف الذي يجتمع عليه الثلاثة، فكان واحدة في اللون، و واحدة في التوع، و واحدة في التوجيه، بل و واحدة أيضا في ضم الأخوين الطاهرين إلى مشترك واحد دون أي فرق أو تمييز، كأنهما واحد في التنشئة والتربية، و كان كل واحد منهما المكمل للآخر ليكونا حبكة واحدة في فتيلة سراج الرسالة السماوية الأخيرة.

ص: 100


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص6.
2- نفس المصدر السابق ص27.

لقد كانا - الحسن والحسين عليهماالسلام-فعلا شخصين منفصلين جسدية لكنهما متحدان بقوة لا تقبل التفريق بينهما ضمن إطار الوحدة الفكرية الروحية الخالصة، لقد جمعتهما تلك الوحدة إلى القصد الواحد، ليكونا يتاجة واحدة لذلك القصد الأكبر الذي جال في بال النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو يزف إلى الإنسان رسالة تجمعه من تیهه المشرد إلى مجتمعه الموحد(1).

إذن، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام منذ البداية المرأة الصافية التي تعكس بصفائها و نقائها أفكار و أخلاقيات و سلوك جده الرسول المصطفى و أبيه الإمام المرتضى عليه السلام و أمه البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فهو المرآة العاكسة لأنوار النبوة والإمامة فكرا و ممارسة، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يعمل أعداء الإسلام الحقيقي على تحطيم تلك المرأة و تفتيتها، أو على الأقل، على نثر الغبار والرمال على وجهها الناصع بغية إطفاء نورها و إبطال مفعولها.

و يمكننا أن نعتبر کلام الأديب الراحل الدكتور (طه حسين) عن شخصية الإمام الحسين بمثابة التأكيد على ما قلناه، فالدكتور (طه حسين) الذي يتميز بوجهات نظر خاصة و غريبة بعض الشيء حول بعض القضايا والأحداث الإسلامية الهامة، يرى في كتابه (الفتنة الكبرى) أن الإمام الحسين عليه السلام كان (كأبيه صارما في الحق لا يحب الرفق و لا الهوادة و لا التسامح فيما لا ينبغي التسامح فيه)(2).

حقا، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام كأبيه علي أمير المؤمنين عليه السلام تماما، بل لقد كان أيضا صورة صادقة عن شخصية جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في كل صفة من صفاتها

ص: 101


1- نفس المصدر السابق ص79.
2- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، 1978، ج2 ص195.

و في كل سلوك من سلوكياتها، فالحسين عليه هو الصورة التي انطبعت فيها خطوط و معالم جده العظيم محمد صلی الله علیه و آله و سلم لأنه حل في بيئة النبوة التي هي، حقا، الإنسانية العليا في المظهر البشري، فكان بذلك أسمى رجل لأنه أسمى طفل تربى و ترعرع في أسمى بیئة

و يرى الكثير من أهل العلم والمعرفة، على مختلف مشاربهم و مذاهبهم، أن الجانب النوراني في شخصية الإمام الحسين عليه السلام هو انعکاس واكتساب أيضا من نورانية عالم النبوة والإمامة.

فعندما يخبرنا الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم أن إرادة الله سبحانه و تعالى قد قضت عليه أن يزوج النور بالنور، أي علي عليه السلام من فاطمة علهاالسلام، فهذا يعني أن الأئمة الأطهار عليهم السلام المنحدرين منهما والمنصوص عليهم أصلا هم أيضا ورثة و حملة و أصحاب و نتاج تزاوج هذين النورين العظيمين الخالدين.

و بناء على ذلك، يمكننا أن نعتبر ما قاله الإمام (بديع الزمان سعيد النورسي)، و هو أحد المتصوفين الأتراك الستة المعاصرين، بشأن علاقة الرسول الكريم صلی لله علیه و آله و سلم، بحفيديه الطاهرين الحسن والحسين عليهماالسلام و بشأن علاقتهم النورانية هو عين الصواب حيث قال ذلك الإمام التركي المعاصر حرفيا:

(إن ما أظهره الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام من الشفقة الفائقة علی العادة والاهتمام العظيم، إزاء الحسن والحسین (رضی الله عنهما) في صبوتهما، ليس شفقة جبلية و محبة ناشئة عن حس القرابة، بل ذلك، من حيث إن كلا منهما رأس حبل نوراني من حبال وظيفة النبوة)(1).

ص: 102


1- الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل التور، مصدر سابق ص 31.

إذن، فالاهتمام العظيم الذي أظهره الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم تجاه ابنيه الإمامين الحسن والحسين عليهماالسلام لم يأت عن عبث، و لم يكن ناتجا عن الرابطة الدموية و عن العلاقة العاطفية فحسب، بل كان ذلك الاهتمام العظيم والمميز اهتماما ناشئا عن وحدة العلاقة النورانية بالدرجة الأولى، تلك العلاقة التي تربطهم بالله سبحانه و تعالى ارتباطا و ثيقا و دقيقا كارتباط شعاع الشمس بقرصها و ربما أكثر دقة من ذلك، و قد أصاب و أجاد الإمام محمد الباقر عليه السلام عندما أجاب على سؤال سأله إياه جابر بن يزيد الجعفي، بقوله مجيبة عليه:

(یا جابر إ لنا عند الله منزلة و مكانة رفيعا، و لولا نحن لم يخلق الله أرضا و لا سماء و لا جنة و لا نارة و لا شمسا و لا قمرة و لا با و لا بحرة و لا سهلا و لا جبلا و لا رطب و لا يابسة و لا حلواة و لا مرا ولا ماء و لا نباتا و لا شجرا، اخترعنا الله من نور ذاته، لايقاش بنا بشر)(1).

و لا يسعنا إلا أن نقول، و بثقة كاملة، إن عبارة الإمام الباقر علیه السلام: «اخْتَرَعَنَا مِنْ نُورِ ذَاتِهِ» هي واحدة من أكثر العبارات دقة في وصف العلاقة النورانية القديمة بين الله سبحانه و تعالى وأهل بیت رسوله علیهم السلام.

و لا ريب في أن عبارات و أحاديث من هذا النوع، سواء كانت للإمام محمد الباقر عليه السلام أم لغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام هي أحاديث عميقة المعاني و قد استمدت عمق معانيها من الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي لم يبخل بها الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على عموم المسلمين في العديد من المواقف والمناسبات.

ص: 103


1- محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، نشر دار الكتب الإسلامية . طهران، 1388ه، ج26 ص12.

و يمكننا أن نوجز القول حول هذه النقطة بقولنا إن الكثير من الشعراء الكبار والمتصوفة قد تناولوا تلك الأحاديث النبوية الشريفة و درسوها و حللوا معانيها ثم خلصوا بعد ذلك إلى العديد من النتائج التي تتفق في معانيها مع مجمل معاني أحاديث الرسول المصطفى صلی اللهعلیه و آله و سلم حول طبيعة العلاقة النورانية و عمق ارتباطها بين الله و أهل البيت علیهم السلام.

و قد عمد أولئك الشعراء المتصوفة إلى تدوين النتائج التي توصلوا إليها في أبيات شعرية بالغة العذوبة والشفافية إيمانا منهم بأن تلك الحقائق التي توصلوا إليها يجب أن تخلد أبد الدهر في دواوينهم و مؤلفاتهم.

و يكفي أن نذكر على سبيل المثال أن المتصوف والشاعر السني (عبد الغني النابلسي)، و هو متصوف ليس بالبعيد عنا زمنيا كثيرا، كان يرى أن آل بیت المصطفى علیهم السلام هم أساس الوجود إذ إن نورهم المستمد من ذات نور الله سبحانه و تعالى هو نفس نور طه النبي صلی الله علیه و آله و سلم غير أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم يمتاز عنهم بحمله لخاتم النبوة، و يرى المتصوف (النابلسي) أيضا أن الإنسان البصير الذي يمعن التفكير في أساس هذا الكون و في وجوده المستمد من أمر الله:

(كن فيكون)، سيدرك بنور بصيرته أن نور النبي صلى الله عليه و آله و سلم و نور أهل بيته عليهم السلام، والذي هو بالأساس نور واحد، هما التنوران المميگان بدوام هذا الوجود، و هما الممئلان الحقيقيان للحكمة الإلهية السارية في هذا الكون.

و قد قال (النابلسي) عن ذلك مخمسا في كتابه (ديوان الحقائق و مجموع الرقائق):

الكون قد أظهر لي بسطه

ص: 104

في نور طه مثبت قسطه

و الآن نور أحكموا ربطه

لو شق عن قلبي يرى وسطه *** سطران قد خطا بلا كاتب

نوران في نور لهم غائب

روح و جسم ذا بلا عائب

لا زال في قلب لنا تائب

العلم والتوحيد في جانب *** و حب آل البيت في جانب(1)

و سواء ذكر الشيخ (النابلسي) الإمام الحسين عليه السلام بالاسم الصريح أم لم يذكره، فالنتيجة واحدة دون أدنى شك، و ذلك لأن الإمام الحسين عليه السلام هو أحدأقطاب أهل البيت المحمدي عليهم السلام الذين يمثلون السفارة السماوية الأخيرة على الأرض، و هم عليهم السلام أيضا مهبط وحي الله و بیت رسالته و أئمة أمته.

و قد صدق المفكر والشاعر المسيحي الكبير (سعيد عقل) عندما و صفهم أيضا، فأجاد الوصف بقوله عنهم في إحدى قصائده الرائعة:

و كانت إمامات و كانت مطارح

محیط نزول الله أو يقرب القرب

ففي كل أرض بعد بیت مطیب

على اسم الأولى في الكتب ليس لهم شطب(2)

ص: 105


1- الشيخ عبد الغني النابلسي، ديوان الحقائق و مجموع الرقائق، دار الجيل . بیروت، د.ت، ج1 ص74.
2- سعيد عقل، الأعمال الكاملة، المجلد السادس (كما الأعمدة . الوثيقة التبادعية)، نوبلیس . بیروت، ص 71.

نعم، فلأهل البيت علیهم السلام ذکر مطيب في كل مكان من الأرض، و في كل زمان من الدهر، بل لأهل البيت علیهم السلام ذكر لا يفنى واسم لا يمحى في كل كتب السماء و في كل رسالات الأولين الغابرين.

و قد يستغرب بعض القراء الكرام هذا الكلام، و قد يعتبره البعض الآخر ضربا من الإثارة الفكرية أو التشويق الروحي الممتزج بشيء من التأويلات والترجيحات التي تتجاوز في بعض وجوهها الوقائع والحقائق.

نعم، ربما يقول البعض ذلك، و لكن يمكننا أن نقول لذلك البعض إن الفصول اللاحقة من هذا الكتاب ستبين لنا أن هذا الكلام عن أهل البيت عليهم السلام و عن ورود ذكرهم في الكتب والرسالات السماوية السابقة ليس ضربا من التأويل الشخصي أو التفسير المذهبي الخاص، بل هي- كما سنری - حقائق ثابت و مؤكدة، و قد عمد على تأكيدها و إثباتها، بالفعل، العديد من الشعراء والمفكرين المسلمين والمسيحيين القدامى والمعاصرين، و ليست تلك الأبيات الشعرية القليلة التي أوردناها منذ قليل للأديب والمفكر المسيحي المعاصر (سعيد عقل) إلا مثالا واحدا فقط من مجموعة أمثلة أخرى سنأتي على ذكرها في المكان المناسب في الفصول اللاحقة بإذن الله.

و حتى لا نجنح مبتعدين كثيرا عن موضوع فصلنا هذا، دعونا نتوقف الآن مع واحد من أعظم الأدباء المصريين في العصر الحديث، إنه الأديب الشاعر والكاتب (عبد الرحمن الشرقاوي) (1920- 1987).

و من المعروف عن الأستاذ (الشرقاوي) أنه كاتب و شاعر و روائي و مسرحي الامع، و له بصمات فنية لا تمحى في ساحة الفكر والأدب، و يمكن إيجاز الكلام عن أعماله الفكرية و آثارها الأدبية بأنها كانت أعمالا تجسد الدعوة إلى العدالة الاجتماعية

ص: 106

والحرية والبحث عن المبادئ الفضيلة والقيم النبيلة، و كانت تلك المبادئ والقيم هي الهدف الأساسي المحرك لنشاطه العام و للموضوع الذي لا يغيب أبدا عن باله في كل أعماله و مؤلفاته التي خلفها وراءه.

و من أشهر آثاره: رواية (الأرض) و کتاب (علي إمام المتقين) و كتاب (محمد رسول الحرية)، و من أشهر مسرحياته: مسرحية (الفتى مهران)، و مسرحية (الحسين ثائرا، شهيدا)، و هذه المسرحية بالأساس هي عبارة عن مسرحيتين شعريتين مطبوعتين في كتاب واحد، المسرحية الأولى تحمل عنوان (الحسين ثائرا)، أما المسرحية الثانية فتحمل عنوان (الحسين شهيدا)، و تمثل هاتان المسرحيتان الشعريتان الصورة الحقيقية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام كما أراد الأستاذ (الشرقاوي) أن ينقلها لنا.

و على الرغم من أننا قد خصصنا فصلا مستقلا للكلام عن المسرح التراجيدي و تاريخه و علاقة ذلك بفاجعة كربلاء في الأدب المسرحي العربي والعالمي، إلا أننا نرى من المناسب هنا أن نتحدث في هذا المكان عن بعض أبعاد شخصية الإمام الحسين عليه السلام كما يراها الأستاذ (الشرقاوي) لكن دون أن نتعمق في الكلام عن البعد المسرحي أو التراجيدي في مسرحيته.

نستطيع أن نقرأ بوضوح، و منذ الصفحات الأولى في مسرحية (الحسين ثائرا)، صورة الإمام الحسين عليه السلام كما هي في الواقع وكما أراد أن ينقلها لنا بأمانة الأستاذ (الشرقاوي) أي أن الأستاذ (الشرقاوي) عمد إلى تصوير أبعاد شخصية الإمام الحسين عليه السلام كما هي بالفعل و لكن بأسلوب أدبي شفاف ليستطيع من خلاله أن يجذب القارئ إلى كل كلمة أو عبارة قال في تلك المسرحية.

و يمكننا القول أن الانطباع الأول الذي يريده الأستاذ (الشرقاوي) أن يبقى في

ص: 107

عقولنا و قلوبنا عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام هو أنه الوريث الشرعي لرسالة جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و لمبادئ أبيه علي أمير المؤمنين عليه السلام.

فالإمام الحسين عليه السلام كما يصوره (الشرقاوي)، لم يكن في يوم من الأيام طالب دنيا و لم يكن طالب مال و لا جاه، و إنما كان طالب إعادة بريق الرسالة و نورها إلى ما كانت عليه في زمن جده صلی اللهعلیه و آله و سلم، فالإمام الحسين عليه السلام كان مدركا دائما و أبدا أن طالب الدنيا كالعطشان الذي يريد أن يرتوي من ماء البحر، فكلما غرف و شرب منه لم يزدد إلا عطشا و طلبا للمزيد من الماء للارتواء.

و هنا يصور الأستاذ (الشرقاوي) الإمام الحسين عليه و هو يحاور (الوليد)،أمير المدينة، بشأن موقفه من الدنيا والخوض في غمار مغرياتها قائلا:

آه من بعد السفر!

آه من طول طريقي و عظيم المورد!

إنما عيشك في الدنيا يسير!

كل أخطارك يا دنيا حقير

إيه يا دنيا إليك الآن عني!(1)

و لو تأملنا قليلا في هذه العبارات القصيرة والمعبرة التي جاءت على لسان شخصية الإمام الحسين عليه السلام في تلك المسرحية المؤثرة، فماذا عسانا أن نقول؟!

ألا يمكننا القول أن الأستاذ (الشرقاوي) قد تعقد وضع هذه العبارات على لسان الإمام الحسين عليه السلام لكي يقول للقارئ أو للمشاهد- في حال القيام بتمثيل المسرحية

ص: 108


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، دار العصر الحديث . بيروت، ط 2/ 1985، ص 42.

-إن نهج الحسين عليه السلام في حياته هو نفس النهج الذي سلكه الأب عليه السلام و من قبله الجد صلی الله علیه و آله و سلم؟!

ثم، ألا تذكرنا هذه العبارات السابقة بالكثير من العبارات والأحاديث المشابهة التي جاءت تارة على لسان الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم و تارة أخرى على لسان الإمام المبين علیه السلام؟!

ألا يشبه مفهوم الحياة الدنيا عند الإمام الحسين عليه السلام مفهومها عند جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم الذي قال عنها يوما مخاطبا سلمان الفارسي (رضی الله عنه):

«إن أكثر الناس شبعا في الدنيا أكثرهم جوعا في الآخرة، یا سلمان! إنما الدنيا سجن المؤمن و جنة الكافر»(1)، و قوله صلی الله علیه و آله و سلم عنها أيضا في مكان آخر: «أيها الناس هذه دار ترح لا دار فرح، و دار التواء لا دار استواء، فمن عرفها لم يفرح لرجاء و لم يحزن لشقاء»(2)؟!

ثم، ألا يشبه مفهوم الإمام الحسين عليه السلام والرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم للحياة الدنيا مفهوم أمير المؤمنين علي علیه السلام لها عندما قال عنها في إحدى كلماته الخالدة:

«تغر، و تضر، و تم، إن الله تعالى لم يرضها ثوابا لأوليائه، و لا عقابا لأعدائه، و إن أهل الدنيا كرکب بينا هم حلوا إذ صاح بهم سائقهم فارتحلوا»(3)؟!

أليست كل معاني الأحاديث والعبارات السابقة تصب جميعها في معاني قول

ص: 109


1- محمد رضا الأنصاري، مختارات من الأحاديث النبوية، نشر معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1986، ص48.
2- نفس المصدر السابق ص48.
3- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، الدار الإسلامية . بيروت، ط 1992/1، ج4 ص601.

أمير المؤمنين علي عليه السلام الواردة في مقولته الشهيرة التي فتنت أرباب اللغة والفكر بجمال مبناها و عمق معناها:

«ما أصف من دار أولها عناء، و آخرها فناء، في حلالها حساب، و في حرامها عقاب، من استغنى فيها فتن، و من افتقر فيها حزن، و من ساعاها فاتته، و من قعد عنها واتته، و من أبصر بها بصرته، و من أبصر إليها أغمته»(1)؟!

و غاية القول في ذلك هو أن الأستاذ (الشرقاوي) قد تعمد وضع العديد من الأقوال والأحاديث الغنية بالإيمان والحكمة على لسان الإمام الحسين عليه السلام من أجل إيصال فكرة هامة جدا للقارئ، و تتلخص تلك الفكرة الهامة بالقول إن الحسين السبط عليه السلام هو وجه من وجوه الشخصية المحمدية الرسالية.

و بتعبير آكثر دقة، إن الإمام الحسين عليه السلام هو النسغ المحمدي المبارك الذي يجري بعنفوان و حيوية في وريد الرسالة الإسلامية التي شاءها الله سبحانه و تعالى أن تكون الحب الروحي الأخير الذي يصل ما بين رحاب السماء و أبناء التراب.

و على كل حال، لا أعتقد أن وجهات نظر الأستاذ (الشرقاوي) حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام تختلف كثيرا عن وجهات نظر الأديب والشاعر المصري (عباس محمود العقاد) (1889- 1964): غير أن الأسلوب في عرض الأفكار والوقائع هو الذي كان يميز كلا منهما عن الآخر، فالأستاذ (الشرقاوي) كان يميل إلى تقديم الأفكار و عرضها بأسلوب أدبي شاعري شفاف يميل إلى السهولة والبساطة، في حين أن الأستاذ (العقاد) يميل إلى عرض أفكاره عن الإمام الحسين و عن تقديم واقعة کربلاء بأسلوب أقرب ما يكون إلى عملية التدوين والتحليل البعيدة عن لغة المشاعر

ص: 110


1- نفس المصدر السابق ج1 ص124.

والعواطف والأحاسيس المتفاعلة مع الحدث إلا بقدر يسير.

و لكن، و بالرغم من ذلك، فمن خلال تناول الأستاذ (العقاد) شخصية أبي الشهداء الحسين عليه السلام في كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي) يصور لنا (العقاد) مأساة تاريخية إنسانية عظيمة لا تكاد تجاریها مأساة أخرى في أسبابها و وقائعها و نتائجها و آثارها.

و من أجل ذلك نجده ينفذ إلى جوهر الوقائع والتواريخ لتمحيص الحقيقة محاولا الابتعاد عن الأهواء في دراسة حياة أبي الشهداء علیه السلام.

و حين يتناول الأستاذ (العقاد) شخصية أبي الشهداء الحسين بن علي علیه السلام بالدراسة والتحليل، نراه يبدأ أول ما يبدأ بدراسة طبائع الناس و كيف أن تلك الطبائع والأمزجة يتناوبها مزاجان متقابلان متناقضان: مزاج يعمل عمله للأريحية والنخوة والبحث عن الحق والفضيلة، و مزاج يعمل عمله من أجل المنفعة الخاصة والغنيمة الشخصية و لو على حساب الحق والفضيلة(1).

و يرى الأستاذ (العقاد) من خلال كتابه المذكور أن حياة الإمام الحسين عليه السلام عبارة عن صفحة، لا تماثلها صفحة أخرى في توضيح الفارق بين خصائص هذين المزاجين و بيان ما لكل منهما من أدوات و جنود للنجاح في كفاح الحياة سواء نظرنا إلى الأمد البعيد أو قصرنا النظر على الأمد القريب.

و هنا تحديدا، لا يغيب عن ذهننا أن نذكر القارئ الكريم بحقيقة أن الأستاذ (العقاد) قد درس التاريخ الإسلامي العام و حاول أن يسبر أغواره و يستكشف خباياه

ص: 111


1- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي (كتاب الهلال)، العدد /4/ دار الهلال . القاهرة عدد سبتمبر (أيلول)، 1951/ ص 11.

لكن النجاح لم يكن دائما حليفه في تلك المحاولات الفكرية الجادة، و لذلك يمكننا القول أن الأستاذ (العقاد) كان أديبا و لم يكن باحثا أو رجل دين كما يتصوره البعض، بل كان واحدا من أبرز كتاب النهضة الأدبية، و أكثرهم ثقافة و إبداع في المجال الأدبي، و قد ظل اسمه لامعا في سماء الأدب مدة نصف قرن تقريبا، أخرج خلالها (83) کتابا في أنواع مختلفة من الأدب الرفيع(1).

و لكن عدم نجاح الأستاذ (العقاد) في الوصول إلى بعض النتائج المنطقية المتعلقة بالعديد من القضايا والشخصيات الإسلامية المطروحة ضمن سلسلة (العبقريات) التي كتبها الأستاذ (العقاد) نفسه و قدمها للشباب المسلم كي يتخذوا تلك العبقريات أسوة و قدوة حسنة لهم، لا تخفف من قيمة العقاد ککاتب حاول أن يدلي بدلوه في حقل الثقافة الإسلامية.

و مهما يكن من أمر، فإن ما يهمنا هنا هو موقف (العقاد) أو رؤيته الخاصة لطبيعة و شخصية الإمام الحسين عليه السلام، أو أبي الشهداء، كما يحلو للعقاد أن يسميه.

فالأستاذ (العقاد) يرى منذ بداية الكلام عن شخصية الإمام الحسين علیه السلام و طبيعته، و تنشئته، بل يرى منذ الصفحات الأولى من كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي) أن صفات الإمام الحسين علي هي صفات نبوية موروثة و متجذرة في ذاته النبيلة، و أن كل منقبة و محمدة من محامد خصاله و مکارم فعاله إنما مردها إلى البيئة البيتية الصالحة و إلى التربة النبوية الطاهرة التي استنبتت الغرسة الحسينية المباركة تلك الغرسة الطيبة التي ارتوت أيضا بماء الفضائل العلوية والمناقب الفاطمية.

نعم، كل هذا واضح تماما عند الأستاذ (العقاد)، و لكن العقاد لا يريد أن يكتفي

ص: 112


1- مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، وزارة التربية . دمشق، 1996، ص55.

بقول ذلك، بل يريد أن يقول لقرائه إن اللون الأبيض هو فعلا أبيض و لا يستطيع أحد أن ينكر ذلك، و لكن إذا أردنا أن نعرف شدة و درجة بياض هذا اللون فما علينا إلا أن نضع بجانبه نقيضه، والمقصود بذلك اللون الأسود بلا شك.

والمعنى من هذا الكلام هو لو أنك تريد أن تعرف العظمة الحقيقية للإمام الحسين عليه السلام وللأهداف والمقاصد الإنسانية النبيلة التي جاهد من أجلها، فما عليك إلا أن تدرس و تحلل شخصية و طبيعة و تربية ذلك الشخص الذي ناصبه العداء، و إذا أردت أن تعرف غايات و أهداف الحسين عليه السلام و أثرها على المجتمع الإسلامي والإنساني، فما عليك إلا أن تقرأ و تدرك غايات و وسائل و أهداف أعداء الإمام الحسين عليه السلام و أثر ذلك على نفسية الأجيال اللاحقة في الساحتين الإسلامية والإنسانية، فالأشياء عموما تزداد المعرفة بها من خلال معرفة نقائضها.

و عن هذه النقطة تحديدا، فقد تحدث الأستاذ (سامح كريم) في كتابه (إسلاميات) عن التضاد الواضح بين شخصية الإمام الحسين عليه السلام من جهة و شخصية يزيد بن معاوية من جهة أخرى كما جاء وصف الشخصيتين حسبما يراهما الأستاذ (العقاد) في كتابه (أبو الشهداء).

و قد حاول الأستاذ (سامح كريم) أن يكون متزنا و منطقية قدر الإمكان في شرحه و توضيحه للأفكار التي طرحها الأستاذ (العقاد) من خلال كلامه عن النهضة الحسينية و فلسفتها في التاريخ الإسلامي.

و عن أسباب التنافس والخصومة بين الحسين علي السلام ، و یزید بن معاوية، يقول الأستاذ (کرم) موضحا و شارحة وجهة نظر (العقاد) بقوله: (يتبع هذا الفصل عن الخصمين موازنة بينهما، فهناك اختلاف في النشأة بين الاثنين والنسب والمكانة

ص: 113

والصفات، والخلق، والشجاعة، و هي أمور جد اختلف الاثنان فيها مما أدى في النهاية إلى الخصومة، بل و أي شيء آخر غير الخصومة كان مستغربا بين الاثنين)(1).

إذن، فالشيء المستغرب هو أن لا يكون هناك نزاع و خصومة بين الإمام الحسين عليه السلام و خصمه اللدود یزید ابن معاوية، أما الحالة السوية فهي وجود ذلك النزاع المرير والصراع الدائم بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين في كلصفة و هدف، و في كل مخطط و حركة و أثر.

و يتابع الأستاذ (کریم) شرحه و توضيحه لأفكار الأستاذ (العقاد) بقوله:

(و بديهي جدا أن يكون- والخصومة قائمة- أعوان لكل خصم... هم رجال المعسكرين، و بالطبع اختلاف أنصار، فمنهم من هو طامع في مال أو مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات و لا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام، و لم يكن معه رجال ذوي رأي إن العقاد يصفهم و صفا دقيقا حين يقول في كلمة صغيرة: كان أعوان یزید جلادين و كلاب طراد في صيد كبير)(2).

أما الآن، فدعونا أيها القراء الأعزاء، نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الجولة المثمرة في رحاب أفكار الأستاذ (عباس محمود العقاد) الذي قدم لنا صورة مشرقة من صور حياة واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في كتابه (أبو الشهداء الحسين بن علي)، ذلك الكتاب الذي أخذ طريقه إلى النور منذ أكثر من خمسين عاما و لا يزال یطبع المرة تلو المرة، و لا يزال أيضا مرجعا أساسيا يرجع إليه الكثير من الباحثين والمفكرين الذين يريدون أن يتحدثوا أو أن يكتبوا عن فاجعة كربلاء أو عن فلسفة

ص: 114


1- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم . بيروت، 1982، ص129.
2- نفس المصدر السابق ص120.

الشهادة من أجل قيم و مبادئ السماء.

و على كل حال، فإن استراحتنا القصيرة الآن ستكون مع الأديب والمفكر المسيحي الراحل (بولس سلامة) الذي نذر نفسه و جند قلمه للدفاع عن قضايا و مبادئ أهل البيت عليهم السلام مسقطة من حسبانه أي قيمة لرضى زيد أو لغضب عمر، و إنما القيمة الحقيقية عنده هي قيمة الحق وحده في زمن أغبر قل فيه الباحثون عنه.

فللإمام الحسين عليه السلام قيمة استثنائية في نسيج (سلامة) الفكري والشعري، و لذلك فقد خصه، منذ بداياته الشعرية، بالكثير من العناية والاهتمام، و قد كتب في وقت مبكر نسبيا قصيدة مطولة تحت عنوان (علي والحسين) بين من خلالها أن الإمام علي عليه السلام و ابنه الإمام الحسين عليه السلام هما وجه الإسلام الرضي و قلبه النقي، ذاك الإسلام الذي أراده محمد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم أن يبسط جناحيه على وجه البسيطة فيمنع عنها سدف الظلام و يرفعها إلى عالم الإشراق والأنوار.

و غني عن تفصيلات القول أن الأستاذ (سلامة) قد ذكر في حديثه عن طفولة الإمام الحسين عليه السلام حادثة سابقة على حادثة ولادة و طفولة الحسين عليه السلام حيث اعتبر الأستاذ (سلامة) أن تلك الحادثة السابقة هي حادثة هامة جدا و يجب أن لا يغفل أحد عن ذكرها أبدا نظرا لما تحمل من مدلولات و إشارات روحية قوية تصب كلها في تيار الحديث عن الإرادة الإلهية والحكمة السماوية التي جعلت من الإمام الحسين علیه السلام، و من قبله أخيه الإمام الحسن عليه السلام، الثمرة الطاهرة المطهرة والتي تحمل و تجمع كل الصفات الرسالية و كل المؤهلات الإمامية التي و رثها عن أبويه عليهماالسلام .

فحادثة زواج الإمام علی عليه السلام من السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام هي الحادثة التي يجب أن نستذكرها دائما في معرض حديثنا عن سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام،

ص: 115

فزواج علي علیه السلام من فاطمة عليهاالسلام، ابنة رسول الله صلی الله علیه و السلام، لم يأت بقرار محمدي فحسب، بل أتی أيضا بقرار سماوي إلهي لا يقبل الطعن أو التبديل، و كلنا يعرف و يدرك عمق الحديث النبوي المشهور والذي يؤكد الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم من خلاله على أنه لو لم يكن الإمام علي عليه السلام موجودا في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لما كان هناك أحد يمكن أن يكون الزوج الكفؤ لفاطمة الزهراء عليهاالسلام.

و لذلك، فبعد أن يذكر الأستاذ الشاعر (بولس سلامة) حادثة الزواج المبارك، نراه ينتقل بعد ذلك للكلام عن ميلاد الإمام الحسن عليه السلام و من بعده عن ميلاد أخيه الإمام الحسين عليه السلام الذي سيغير وجه التاريخ الإسلامي بعد أن أراد أعداء الإسلام أن يسيروا بالإسلام إلى الهاوية و ذلك باتخاذه مطية لهم للعودة إلى الحياة الجاهلية، مع الأخذ بعين الاعتبار التأسيس لحياة سياسية جديدة قائمة على نظام الملك العضوض و توارث العرش الملكي ابنة عن أب و أبا عن جد ضاربين بمبادئ الإسلام عرض الحائط.

و على كل حال، فإن أهم ما يميز کلام الأستاذ (سلامة) عن ولادة الإمام الحسين عليه السلام هو الوضع النفسي لجده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، ذلك الجد الرحيم الذي اصطفاه الله رسولا للعالمين، رسول محبة و فضيلة و خير و إخاء

فبقدر ما كان ذاك الجد الرسول صلى الله عليه و آله و سلم مسرورا و مبتهجا بولادة سبطه الحسین علیه السلام ، بقدر ما كان فريسة للكثير من الهواجس والظنون التي بدأت تعصف برأسه حول مستقبل ذلك السبط و ما ينتظره من هموم و آلام في مستقبله القريب.

و هنا، يريد أن يقول لنا الأستاذ (سلامة) إن الرسول المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم کان على علم إلهي مسبق بكل ما سيحل بأهل بيته من كوارث و مصائب، بل و كان يدرك أيضا

ص: 116

على يد من ستكون نهاية كل فرد من أفراد أهل بيته علیه السلام الذين سيحملون راية الإسلام من بعده.

فعندما يصور لنا الأستاذ (سلامة) الحالة النفسية للرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و هو يحمل حفيده الحسين الطاهر عليه السلام بين يديه، و ينظر بعينيه الحزينتين في عيني سبطه الصغير، فعندما يفعل الرسول صلی الله علیه و آله و سلم هذا متأملا وجه حفيده بحزن يقطر له الفؤاد دما، فإنما يفعل ذلك لأن عين السماء جعلته يرى آفاق المستقبل و هو لا يزال يعيش في أحضان الزمن الحاضر.

و مهما يكن من أمر، فعندما يقول الأديب الشاعر (سلامة):

و علت جبهة النبي طيوف *** کوشاح الغمامة الدکناء

لمح الغيب ! يا لهول الليالي *** مرعدات بالنكبة الدهياء(1)

فعندما يقول الشاعر (سلامة) هذا، فهو يشير بذلك إلى النبوءة المستقبلية التي قرأها الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم في صفحات کتاب الغيب والتي لا تكشف إلا لقلوب الأنبياء والأوصياء.

و لا أريد الاستفاضة هنا بهذا الشأن، بل سأرجى الحديث في هذا الموضوع إلى صفحات لاحقة من هذا الكتاب حيث نتحدث فيها، و بشكل مفصل، عن مسألة نبوءة الرسل والأنبياء بفاجعة كربلاء

و إذا كان الأديب الشاعر (بولس سلامة) قد ركز في ملحمته الشعرية (عيد الغدير) على شخصية الإمام الحسين عليه السلام في مرحلة الثورة أكثر من تركيزه عليها في مرحلة ما قبل الثورة، فإن الأديب والمفكر المسيحي (أنطون بارا) قد ركز على

ص: 117


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص 66.

شخصية الإمام الحسين عليه السلام في مختلف أطوارها و مراحلها و في مختلف الأحداث والمتغيرات الجوهرية التي عایشتها.

و من أوائل الأسئلة التي يطرحها الأستاذ (بارا) على نفسه في مقدمة كتابه (الحسين في الفكر المسيحي): لم الحسين بالذات دون سائر أعلام الإسلام موضوعا للكتاب ؟!

فيأتي جوابه بسؤال مردود: (و لم لا يكون الحسين بالذات؟ أيكره أحدنا الحق و رافعي لوائه ... و لم لا يحب المؤمن، أيا كان دينه، من أحبه النبي صلی الله علیه و آله و سلم واعتبره بضعة منه (حسین مني) واعتبر نفسه جزءا منه (و أنا من حسین؟!))(1)

و لا يكتفي الأستاذ (بارا) بهذه الأسئلة المردودة على سؤاله الأول، بل نراه يسارع إلى طرح المزيد والمزيد من ذلك النوع من الأسئلة التي يحق لها أن تطرق باب فکر كل إنسان باحث عن الحقيقة في هذا الزمن الأغبر الكئيب.

و ها هي مجموعة أخرى من الأسئلة تطرح نفسها عليه بقوة و تصميم و كأنها أسئلة تأبى الرحيل عن ساحته الفكرية إلا بعد أن تصطحب معها أجوبتها الشافية بعد أن تحررها و تطلقها من قيود الفكر المحدود و من براثن الثقافة المتقوقعة المنقوصة التي تدور وحيدة في دائرة ديني ما أو مذهب ما لا يقبل الانفتاح على بقية الأديان والمذاهب.

و ها هي أسئلة ذلك المفكر المسيحي الجديدة تطرح نفسها متسائلة:

(أيرفض مطل إنسان - سيما إذا كان مسيحيا - أن يكون ذلك المؤمن الذي ترقد في قلبه حراره قتل الحسين التي لا تبرد أبدا... تيمنا بقول الإمام الصادق عليه السلام: «إن

ص: 118


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص52.

القتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا» ...؟ ومن الذي لا يحب مظلوما کالمظلوم الحسين، و لا يجد في حبه راحة لضمير حي، و سعادة لفكر أصيل، و رضى لقلب ينزع بالإيمان)(1)؟!

و هنا، يجيب الأديب الباحث، الأستاذ (بارا) على مجمل تلك الأسئلة بقوله البسيط والواضح: (... فشخصية كالحسين اختصت بشمائل النبوة، لا يعثر المطلع في سفر حياته على موقف رخو أو متخاذل، فلا يملك إلا أن يعجب به و يحبه و يجد في الاستجابة لهذا الإعجاب، و هذا الحب، مودة قلب، و مودة قربی... «قل لا أسئلکم عليه أجرا إلا المودة في القربی»)(2)

و غني عن القول أن هناك الكثير من العبارات والأقوال المهمة والتي تجمع بين القوة والجمال في كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) للأستاذ الأديب (أنطون بارا) حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام و سيرة حياته العطرة، و لا ريب في أننا سنعود إلى تلك العبارات والأقوال للاستشهاد بها عند الضرورة، و لكن دعونا الآن - أيها الأحباء- نتوقف عند علم جديد من أعلام الفكر والأدب، دعونا نتوقف عند أديب و مفكر عملاق له بصماته الثقافية الواضحة على الساحتين الإسلامية والعالمية، إنه الأديب والفيلسوف (محمد إقبال).

يعتبر الأديب والمفكر (محمد إقبال 1876- 1938) أشهر الشعراء الفلاسفة والمفكرين المسلمين في الهند، دعا إلى إنشاء الباكستان والاستقلال عن الهند تماما.

واستطاع (إقبال) أن يوائم بين الشعر والسياسة، و إن بدا كل منهما على طرفي

ص: 119


1- نفس المصدر السابق ص54.
2- نفس المصدر السابق ص54.

نقيض، و على كل حال، ففي كلية الحكومة بمدينة (لاهور) التقى المفكر (إقبال) بأستاذه الفيلسوف والمستشرق (توماس أرنولد) و هو من خبرة من درسوا الإسلام والتصوف الإسلامي، و له مواقف جليلة في الدفاع عنه و عن قيمه و مبادئه و عن رجاله و رموزه، و رحب الأستاذ بميل تلميذه إلى الفلسفة، فكان له خیر مرشد و معين، و قد دفعه طموحه العلمي إلى الدراسة في أوروبا، و بالفعل، فقد حصل في إنكلترا على عدة شهادات في الفلسفة و في القانون، و نال من جامعة (ميونخ) الألمانية شهادة الدكتوراه في الفلسفة.

و قد تعمق (إقبال) في دراسته للفكرين الهندي والإيراني، و نال قسطا عظيما من کنوز التراثين الروماني واليوناني قديمهما و حديثهما، و نهل قدرا كافيا من الثقافة الإنجليزية والألمانية والفرنسية والأمريكية، هذا بالإضافة إلى التراث الفكري والروحي الإسلامي والعربي، الذي صرف فيه (إقبال) معظم مجهوداته الفكرية(1).

و كان لأهل البيت علیه السلام في مجهوده الفكري و في تراثه الشعري مكانة متميزة جدا لا تدانیها مكانة أي شخص آخر، و بالتالي، فقد كان للإمام الحسين عليه السلام المنزلة الرفيعة والمكانة السامية التي تجعل منه، كأبيه الإمام علي عليه السلام الإنسان الكامل في الإسلام، و ربما هذا هو السبب الذي جعل الفيلسوف (إقبال) يتعمد ذكر الإمام الحسين عليه السلام في كل دواوينه الشعرية دون استثناء إيمانا منه بأن مستقبل الأمة الإسلامية مرهون بالسير على خطى الإمام علي عليه السلام و بالاتباع الصادق لنهج ابنه الإمام الحسين عليه السلام قولا و عملا.

و يكفي أن نذكر هنا شيئا بسيطة نستدل من خلاله على مكانة الإمام الحسين عليه السلام

ص: 120


1- نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مؤسسة الرسالة . بيروت، طه4 /1988، ص35.

عليه عند الفيلسوف الشاعر (محمد إقبال).

فمن المعروف عن الفيلسوف اليوناني القديم (دیوجین)، صاحب المصباح، أنه كان يبحث بشكل دؤوب عن الحقيقة و عن الإنسان الحقيقي الكامل حتى أعياه البحث واستسلم لليأس بعد طول البحث والعناء، و قد تناول هذه القصة الشاعر الفارسي الكبير (جلال الدين الرومي) في العديد من قصائده الشعرية.

و كان من جملة ما قاله شعرا عن قصة ديوجين، الملقب في القصيدة بلقب (الشيخ):

قضى الشيخ ليله في الطواف بالمصباح حول المدينة

يقول: مللت الشيطان والوحش، الإنسان أملي

قالوا: لا يعثر عليه فقد بحثنا نحن أيضا

قال: هذا الذي لا يعثر عليه أملي

إذن، ليس للإنسان الكامل وجود عند الفيلسوف اليوناني (ديوجين)، بل بإمكاننا القول، بناء على ما جاء عن لسان الشاعر المتصوف (جلال الدين الرومي) أيضا، أن الكثير من الناس يؤكدون جازمين أن العثور على الإنسان الكامل شيء مستحيل.

و إذا كان هذا هو الرأي السائد عند عموم الناس تقريبا، فما هو رأي شاعرنا و فيلسوفنا (محمد إقبال)؟!

في الواقع، لقد أبدى الفيلسوف (إقبال) رأيه حول الإنسان الكامل من خلال تعليقه على البيتين السابقين للإمام الصوفي الفارسي (جلال الدين الرومي)، حيث علق على البيتين الشعريين السابقين بقوله رادا عليه بلغة الشعر أيضا:

أنا أبحث عن السهم والرمح والخنجر والسيف

ص: 121

فلا تصاحبني لأن مسلك (الحسين) أملي

قالوا: أغلق فمك و لا تبح بالأسرار

قلت: كلا، إن صيحة تكبيري هي أملي(1)

و كما نلاحظ هنا، فالبحث لدى الثلاثة (دیوجین) و (جلال الدين الرومي) و (محمد إقبال) عن الإنسان الكامل هو عبارة عن عملية بحث دؤوب، فقد بحث (دیوجین) عنه ليلا و نهارا حاملا مصباح الزيت بيمينه و عكازه بيساره يجوب طرقات المدينة و أزقتها في الصيف والشتاء لم يهتد إليه.

و جاء من بعده الشاعر المتصوف (جلال الدين الرومي) يقتفي أثره باحثا عن ضالته لمنشودة و لكن سرعان ما استسلمت أشرعته لرياح اليأس، و لكنه لم يلبث أن عاود الكرة تلو الكرة و ثابر واجتهد و كافح إلى أن حقق بالفعل ما لم يستطع أن يحققه الفيلسوف اليوناني (ديوجين) و قد قارب في نهاية حياته أن يشير إلى بغيته و هدفه بكل ثقة و اطمئنان، و هذا ما يعني أنه قد قطع شوطا طويلا في هذا المجال.

أما بالنسبة إلى الشاعر الفيلسوف (محمد إقبال)، فقد أشار إلى هدفه دون أي شك أو تردد، فهو يقول لمن يؤثر الحياة الدنيا على الاستشهاد في سبيل الحق والخير والفضيلة: لا، لا تصاحبني، فأنا لن أسمع نصيحتك، و لن أغلق فمي، و لن أمتنع عن البوح بالأسرار العميقة المتعلقة بمن وجدت فيه الصورة الحية للكمال، بل إنني سأتزود بالسهم والرمح والخنجر والسيف و بكل و سائل الحرب الأخرى من أجل الحق، فابتعد عني إن كنت تخاف النتائج، فإنني أرى عظمة الفناء على حقيقتها في

ص: 122


1- مجموعة من المفكرين، نداء إقبال (و هو مجموعة المحاضرات التي ألقيت في مؤتمر إقبال في دمشق عام 1985) إصدار دار الفكر بدمشق، 1986، ص182.

سبيل الحق، فالعظمة الحقيقية هي العظمة الحسينية و هي كمال الشرف الإنساني(1).

و رب قائل يقول هنا: نحن لا نعترض على هذا الكلام حول كمال الإمام الحسين علیه السلام، و لكننا و جدنا في العديد من دواوين الشاعر (إقبال) أمثلة أخرى عن حقيقة الكمال الإنساني، فهناك الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و هناك الإمام علي المرتضی علیه السلام، بل و هناك أيضا سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء عليهاالسلام أيضا، فهل هذا تناقض في كلامه و في أحكامه؟!

والجواب على هذا التساؤل المنطقي يمكن أن نلخصه بعدة عبارات بسيطة و واضحة:

إن الفيلسوف (إقبال) عندما يعتبر أن الإنسان الكامل هو الرسول الأمين صلی الله علیه و آله و سلم أو عندما يعتبره هو الإمام علي عليه السلام أو الإمام الحسين علیه السلام أو حتى عندما يعمد في أكثر من موضع في دواوينه الشعرية و في مؤلفاته الثرية إلى التأكيد على أن السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي سيدة نساء العالمين و هي قدوة نساء المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها، فعندما يؤكد الفيلسوف (إقبال) على كل ذلك، فإنما يفعل ذلك إيمانا منه بأنهم جميعا، بالإضافة إلى الإمام الحسن علیه السلام، يشكلون وحدة واحدة كاملة متكاملة بحيث إن الكلام عن أي فرد منهم علیهم السلام هو في المحصلة كلام عن بقية الأفراد دون استثناء.

و بالتالي، فإن كلامه عن الإنسان الكامل المتجسد عمليا في الإمام علي عليه السلام أو في الإمام الحسين عليه السلام هو كلام عن الإنسان الكامل المتجسد أيضا في بقية أفراد أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة.

ص: 123


1- نفس المصدر السابق ص183.

و على سبيل المثال، عندما يتحدث الشاعر (إقبال) عن السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام في مؤلفاته و في دواوينه الشعرية و يعتبرها صورة صادقة و نسخة ثانية عن كمال و جلال أبيها الرسول المصطفى، و عندما يعتبرها مستحقة بجدارة للقب الذي أطلقه عليها أبوها صلی اللهعلیه و آله و سلم (أم أبيها)، فهذا يعني بالنسبة إلى (إقبال) أن السيدة الزهراء عليهاالسلام قد ورثت الكمال عن أبيها صلی الله علیه و آله و سلم من جهة، و قد قامت بتوريث تلك الصفات النبوية الكمالية إلى أبنائها الأئمة علیهم السلام من جهة ثانية.

و لهذا علينا أن لا نستغرب منه عمق و صدق إجلاله و تعظيمه للسيدة الزهراء عليهاالسلام التي هي بحق قدوة النساء و هدية السماء، بل علينا أن لا نستغرب قوله فيها:

أنا لولا الشرع عن هذا نهى *** و إلى شرع الرسول المنتهی

طفت حول القبر إجلالا لها *** ناشرة من سجداتي حولها(1)

فالفيلسوف الشاعر يريد أن يسجد، جسدا و روحا، للسيدة الزهراء فاطمة عليهاالسلام تعظيمة لها و إجلالا لقدرها، لكنه يعود و يتذكر أن شريعة والدها الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد نهت عن السجود لغير الله سبحانه و تعالی.

و إذا كانت هذه هي الصورة التي رسمها الشاعر (إقبال) بكل أمانة و صدق للسيدة الزهراء علیهاالسلام، والدة الإمام الحسين عليه السلام الذي هو محور بحثنا في هذا الكتاب، فما هي الصورة التي رسمها نفس الشاعر لوالد الإمام الحسين عليه السلام، الإمام علي أمير المؤمنین علیه السلام ؟!

قبل كل شيء، نستطيع القول، و دون أي مبالغة، أنه لا يوجد دیوان شعري خطته يمين الفيلسوف الشاعر (إقبال) إلا و كان للإمام علي عليه السلام نصيب وافر من الذكر فيه

ص: 124


1- نفس المصدر السابق ص115.

حيث جاء ذكره دائما في تلك الدواوين بصورة الإمام الرباني الكامل.

و على سبيل المثال، لا الحصر، عندما نقرأ في كتاب دیوان جناح جبریل) ما كتبه الشاعر (إقبال) عن أمير المؤمنين علي علیه السلام ، نستطيع أن نتبين حقيقة ما نقول، و على سبيل المثال، يعرف الشاعر (إقبال) معاني الحب، فيقول:

الحب وحدة في الجبال والأودية حينا،

الحب ضني (بالغياب) حينا و غبطة و وصال حينا،

الحب يبعث الحياة في المحراب والمنبر حينا،

الحب هو الوصي علي، فاتح خیبر، حينا(1)

و من أجل أن تبدو الصورة أكثر وضوحا، علينا أن ندرك جيدا أن الشاعر (إقبال) يعتبر أن الحب الحقيقي، الذي يجده الإمام علي علیه السلام، هو الطريق القويم لمعرفة الذات، فبقدر ما يغمس طالب المعرفة جناحيه في بحر الحب والعشق الإلهي، بقدر ما يكون قادرة على معرفة ذاته و مدركا للكثير من خفاياها و أسرارها.

و إذا كان الفيلسوف (إقبال) يطلق على طالب المعرفة المحلق في سماء الكمال لقب (الإنسان الحر) و (الإنسان الجسور) و(القلندر) و(الإنسان المتجرد) و(الدرویش) و إلى غير ما هنالك من الألقاب المشابهة، فإن النتيجة تبقى هي ذاتها، فحتى يبلغ الدرویش هدفه المنشود، لابد من أن يتعمد أولا بمياه العشق الإلهي، و لابد أيضا من أن يملأ صدره و قلبه بعبير محبة الإمام علي عليه السلام لدرجة أن كل من هو حوله يستطيع أن يستنشق عبق ذلك العطر السماوي الخالد و هو يتفجر من ذلك القلب الذي

ص: 125


1- محمد إقبال، دیوان جناح جبريل، تعريب: عبد المعين ملوحي، دار طلاس . دمشق، 1987، ص93.

امتلأ حبا بعلي عليه السلام.

و ها هو يعبر عن ذلك في كتابه (دیوان جناح جبریل) قائلا:

(عندما يلقن الحب العبيد طقوس معرفة الذات،

تتكشف لهم الأسرار الملكية!

................

هذا الدرویش خیر من (دارا) و من (الإسكندر)

في دروشته نستنشق عبير (أسد الله))

و قد قال الأستاذ (عبد المعين ملوحي) الذي ترجم کتاب (دیوان جناح جبریل) إلى اللغة العربية، معلقا على تلك المقطوعة الشعرية المذكورة أعلاه: (أسد الله هو لقب علي عليه السلام ، و علي عند إقبال صورة الرجل الكامل)(1).

و أخيرا نقول، إذا كانت هذه هي منزلة الإمام الحسين عليه السلام و منزلة أبويه، الإمام المرتضى عليه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام عند الفيلسوف الشاعر (محمد إقبال)، فبماذا عسانا أن نختتم هذه المحطة عنده في ما يتعلق بمختصر القول المفيد عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالعشق والحب الإلهي الذي يكثر (إقبال) من الحديث عنه في كل دواوينه و قصائده؟!

في الواقع، يري الفيلسوف (إقبال) أن العلاقة بين الإمام الحسين عليه السلام والحب ليست بالعلاقة المعقدة أو العلاقة العصية على الفهم والإدراك، فالحب الإلهي، من حيث المبدأ، هو القوة الخفية السارية في الكون و هو عماد الوجود، و لذلك، علينا نحن البشر أن نتفاعل مع هذا الوجود من خلال عملية تفعيل الحب بداخلنا في

ص: 126


1- نفس المصدر السابق ص132

علاقتنا مع ذاتنا و في علاقتنا مع ذوات الآخرين و حتى نصل صعودا إلى علاقتنا مع الله سبحانه و تعالى والذي هو بذاته الرحمة والمحبة.

فالنبي إبراهيم خليل الله علیه السلام، أبو الأنبياء، هو صورة صادقة للحب، والحبيب المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم، خاتم الأنبياء، هو صورة صادقة أخرى من صور الحب الإلهي الرفيع، أما الإمام الحسين عليه السلام فهو الإمام الشهيد الذي وقف بصلابة إيمانه مدافعة عن الحق و مقدما أغلى ما يملك من أجل هذا المفهوم العظيم والذي هو شخصيا عليه السلام يجسده و يمثله خير تمثيل.

و يكفي أن نذكر هذه المقطوعة الشعرية القصيرة لنؤكد على حقيقة ما أوردنا من شرح و توضيح لوجهة نظر الفيلسوف (إقبال) حول هذه النقطة المطروحة عن الإمام الحسين عليه السلام و تجليات الحب فيه و في غيره من الرسل والأنبياء يقول (إقبال):

الحب هو السيد الأول للعقل والقلب والنظر،

إذا غاب الحب، فالدين والقانون مجمع الخرافات،

صدق إبراهيم هو الحب، صلابة الحسين في الحق في الحب،

بدر و حنين هما الحب في معركة البقاء(1)

هذا هو الإمام الحسين عليه السلام، و هذه هي صورته و منزلته في فكر فیلسوف باكستان الأكبر و شاعرها الأعظم (محمد إقبال)، و لا ريب في أننا سنتعرف في الفصول اللاحقة على المزيد من وجهات نظر الفيلسوف (إقبال) تجاه أهل البيت عموما و تجاه الإمام الحسين علیه السلام علي وجه الخصوص.

و لكن علينا أن نعرف الآن أن الفيلسوف (إقبال) قد هام حبأ بمحمد المصطفى

ص: 127


1- نفس المصدر السابق ص183.

صلی الله علیه و آله و سلم و بآل بيته عليهم السلام الغر الميامين لدرجة يعجز القلم أو اللسان عن الإحاطة بذلك الحب الروحي العميق، و قد كان ذلك الحب، بالفعل، حبا منطلقا من عمق المعرفة والإرادة والمعاناة، إنه الحب الذي يبدأ بالإخلاص، و ينتهي إلى الخلاص.

فالكثير من الناس الذين نصادفهم في حياتنا اليومية قد ينطلقون في حبهم لشيء ما أو لشخص ما من خلال الرؤية السطحية الخارجية دون الولوج إلى داخل الأشياء و حقائقها، إنه حب القلب الأعمى الذي قد يتصدع عند بزوغ أول شعاع من أشعة الشمس الكاشفة لخفايا الأمور و حقائقها المتمتعة بالأشكال الجاذبية والمظاهر الخادعة.

أما الحب الذي ينطلق من المعرفة والصدق والمعاناة بحيث تتفاعل مفردات ذلك الحب في ميزان العقل و في أعماقه، بل و في عمق النفس المطمئنة، و في عمق الروح المنفعلة بالتفخة الإلهية، فعندئذ سيبقى ذلك الحب العظيم ثابتا في اليقلب ثبات الجبال الراسيات على الأرض، و سيبقى ذلك الحب متصلا بالروح أيضا اتصال الكلمة بمعانيها أو كاتصال غيوم الشتاء بالمحيط العظيم حيث في البداية نشأت منه، و إليه في النهاية تعود.

و بالطبع، فإن هذا الكلام لا ينطبق فقط على فيلسوف الباكستان و شاعرها الأعظم (محمد إقبال) الذي كنا في ضيافته منذ قليل، بل إن هذا الكلام ينطبق أيضا على كل صاحب فكر نير و صاحب كل قلب عامر بالصدق والحب والمعاناة في طلب الحقائق والإخلاص لها.

إن هذا الكلام ينطبق على كل من يحمل الهوية الإنسانية الصادقة سواء كان حاملها مسلمة أم مسيحيا، أبيض أم أسود، عربيا أم أعجميا، فكل قلب ينفتح على

ص: 128

الحب هو قلب منفتح على الله، والله بدوره- كما يقول عنه السيد المسيح عليه السلام . محبة، و من يثبت في المحبة يثبت في الله، والله يثبث فيه(1).

و من خير الأمثلة على من بت الحب الصادق في قلبه و تمكن من كل نفس من أنفاسه، و ذلك بعد عمق المعرفة و طول المعاناة، هو السياسي والأديب الشاعر (عبد المسيح الإنطاكي) المولود في إنطاكية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر من أبوين مسيحيين.

و لكن، و قبل أن نتحدث عن تمكن الحب والولاء الصادقين في قلب هذا الرجل المسيحي، لابد أن نعرف القارئ عليه، و لو بسطور قليلة، حتى يعلم أن هذا الرجل المسيحي لم يكن بالرجل العادي أبدا، بل كان حقا رجلا استثنائيا في ميادين عديدة، و لكنه للأسف لم يقدر حق قدره في زمننا الحاضر على الرغم من كل الخدمات الجليلة التي قدمها للعروبة و للإسلام.

ولد أديبنا (الأنطاكي) - كما ذكرنا- في إنطاكية، و لكنه نشأ في مدينة حلب الشهباء، و أقام الأديب (الإنطاكي) العديد من العلاقات والصداقات مع العديد من العلماء والشعراء والسياسيين، و تربى على أيدي البعض منهم و على رأسهم العلامة الكبير السيد (عبد الرحمن الكواكبي) صاحب كتابين شهيرين هما: (أم القرى) و كتاب (طبائع الاستبداد)، والأستاذ (الإنطاكي) هو أول من نادي بالقومية العربية و إنشاء دولة عربية واحدة و مستقلة ذات سيادة كاملة منفصلة عن العثمانيين و مستقلة عن الشرق والغرب.

و من أجل هذا الهدف، راح الأستاذ (الإنطاكي) يوطد علاقاته السياسية مع زعماء

ص: 129


1- العهد الجديد (الإنجيل)، رسالة القديس يوحنا الأولى ج4 ص16.

العالم العربي من ملوك و سلاطين و شيوخ عشائر عرب، و قد تمكن من زيارة معظمهم و نال الحظوة والاحترام عندهم، و أنشأ لهذا الغرض أيضا مجلته المعروفة باسم (الشذور) في مدينة حلب سنة (1897-1898) فحاربته الحكومة التركية تحت قيادة السلطان (عبد الحمید)، فما كان منه إلا الارتحال عن أرض وطنه الأم والهجرة إلى مصر فأنشأ فيها جريدته باسم (الشهباء) والتي أخذت لاحقا اسم آخر هو (العمران)(1)

و بعد معارك سياسية طاحنة و محاولات يائسة لتشكيل (ولايات عربية متحدة)، و بعد الحرب العالمية الثانية و ما جرته على الناس عموما من ويلات و مآس و فقر شدید، استقر به المقام عند أحد الأمراء العرب في منطقة الخليج، و هناك بدأ تنظيم قصيدة شعرية مطولة أسماها (القصيدة العلوية المباركة) و هي أول ملحمة شعرية عربية هائية على الإطلاق، فبلغ عدد أبياتها خمسة آلاف و خمسمائة مئة و خمسة و تسعين بيتا من الشعر العربي الأصيل، و قد صدرت الطبعة الأولى من هذه الملحمة الفريدة في مصر عام (1920).

و لا يستطيع كل من يقرأ تلك الملحمة العلوية المباركة أن يخفي دهشته الشديدة إزاء تلك الفيض المتفجر حبا لأهل البيت عليهم السلام عموما من قبل رجل مسيحي صادق جند قلمه النظيف لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي الحقيقي بأسلوب شعري راق موضحا من خلال تلك الملحمة الكثير من الوقائع الإسلامية التي شاءها البعض أن تكون غامضة أو حتى- في بعض الأحيان - موؤودة تحت رمال التاريخ و غباره.

ص: 130


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام أو (القصيدة العلوية المباركة)، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات . بيروت، ط 1991/2 ، راجع المقدمة ص 6

و على الرغم من أن تلك الملحمة تحمل في عنوانها اسم علي عليه السلام إلا أنها لم تكن في نهاية المطاف مقتصرة على الكلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام من حيث السيرة والفضائل والمآثر، بل كانت ملحمة شاملة امتدت في أعماقها حتى مرحلة الحكم الأموية الدموي الجائر والممثل أفضل تمثيل بمعاوية و بابنه يزيد (لع).

و قد أفرد الأستاذ (الإنطاكي) في ملحمته تلك الكثير من الأبيات الشعرية الجريئة التي تصور و قائع فاجعة كربلاء من ألفها إلى يائها.

و بالطبع، فإننا سنقوم بذكر العديد من تلك الأبيات الشعرية المؤثرة عندما نتحدث عن أحداث و تفاصيل تلك الفاجعة المروعة التي ألمت بالأمة الإسلامية و بالهوية الإنسانية على حد سواء.

و هنا تحديدا، يمكننا أن نذكر ما قاله الأستاذ (الإنطاكي) عن الإمامين السيدين (الحسن) و(الحسین) علیهماالسلام نثرا لا شعرا بهدف توضيح و شرح بعض أبياته الشعرية.

يقول المسيحي (الإنطاكي): (هما (أي الحسن والحسين عليهماالسلام ) فرعا الدوحة النبوية المثمران، و نجما سماء الرسالة المحمدية المضيئان، و خير من أنجبت الآباء والأمهات في بني الإنسان، هما سبطا رسول الله عليه وعليهما وعلى أبويهما الصلاة والسلام)(1).

و يؤكد الأستاذ (الإنطاكي) أن الإمامين الحسنين عليهماالسلام هما الإمامان المبرآن من كل عيب و خطأ و نقص، و هما عنصران أساسيان في آية (التطهير) الكريمة التيجاء بها الروح الأمين عن رب العالمين.

كما ويؤكد الأستاذ (الإنطاكي) أيضا على أن الإمامين الحسنين عليهماالسلام هما حقا

ص: 131


1- نفس المصدر السابق ص616.

ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم حتى أنه كان يدعوهما (ولديه)، و كان يدعوهما أيضا (زهرة شباب أهل الجنة)، و قد استشهد الأستاذ (الإنطاكي) بحديثين يدلان على أن ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هما الحسن عليه السلام والحسين علیه السلام، و أن تلك الذرية ستستمر من خلالهما، و بشكل خاص من خلال الإمام الحسين عليه السلام الذي سيحفظ رسالة جده العظيم صلی الله علیه و آله و سلم عبر ذريته من الأئمة الأطهار الأبرار الذين سيحفظون تراث جدهم الروحي والإلهي من كل تزييف و تشويه إلى أن يرث الله سبحانه و تعالى الأرض و ما عليها.

فالحادثة الأولى التي يوردها الأستاذ (الإنطاكي) في ملحمته العلوية هي أن أمير المؤمنين عليه السلام كان يربأ أن يزج بالحسنین علیهماالسلام بمهالك الحروب الضروس حرصا على حياتهما الثمينة التي إذا أصابها مكروه انقطع نسل رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انطفأت أنوار رسالته السماوية التي شاءها الله سبحانه و تعالى أن تكون البلاغ السماوي الأخير لأبناء آدم علي علىه السلام وجه هذه الأرض.

و عن هذه الحادثة الأولى، يقول الأستاذ (الإنطاكي): (ومرة- في موقعة صفين-رأى سيدنا أمير المؤمنين ابنه الحسن يتسرع إلى القتال، فصاح بمن حوله: املكوا عني هذا الغلام لا يهدني، فإنني أنفس بهذین (و یرید الحسن والحسين) على الموت، لئلا ينقطع بهما نسل رسول الله )(1).

أما الحادثة المهمة الثانية التي ذكرها الأستاذ (الإنطاكي) في معرض حديثه عن منزلة الإمامين الحسنين علهماالسلام عند جدهما رسول رب العالمین صلى الله عليه و آله و سلم فهي الحادثة التالية التي جرت مع محمد بن الحنفية (رضی الله عنه) ابن أمير المؤمنين علي و لكن من غير

ص: 132


1- نفس المصدر السابق ص617.

السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام، فقد قيل يوما له: لم يغرر بك أبوك في الحروب و لم يغرر بالحسنين؟!

فقال: (لأنهما عيناه و أنا يمينه، فهو يذب عن عينيه بيمينه)(1)، و في هذا تأكيد على أن الإمام علي عليه السلام كان يعتبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بمثابة عينيه و أن الحسن و أخيه الحسين عليه السلام هما الامتداد الطبيعي للبصيرة النبوية التي يجب الحفاظ عليها و حمايتها و صونها من كل مكروه.

و قد رأينا في ما سبق من صفحات أن كلمة (أنفسنا) في آية المباهلة تعني أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم و علي عليه السلام هما نفس واحدة، و بالتالي فإن عيني الإمام علي عليه السلام الممثلين بالحسن والحسين عليهماالسلام هما أيضا عينا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي فإن دفاع الإمام علي عليه السلام عن عينيه هو دفاع بالضرورة عن عيني رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم الذي بين لنا بدوره أن كلمة (أبناءنا) في نفس آية المباهلة أيضا، إنما تعني حفيديه العظيمين، الإمامين السيدين الحسن والحسين عليهماالسلام ابني علي و فاطمة عليهاالسلام .

و لا أعتقد أننا بحاجة للاستفاضة في الكلام حول وجهة نظر الأستاذ (الإنطاكي) بشأن مكانة الإمام الحسين عليه السلام ، و أخيه الإمام الحسن عليه السلام أيضا، عند جدهما رسول الله محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، لقد أفرد الأستاذ (الإنطاكي) العديد من الصفحات في ملحمته الغراء عن الفضائل والمآثر الخاصة بالإمام الحسين عليه السلام بدءا من طفولته في أحضان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و انتهاء باستشهاده التراجيدي المفجع من أجل إحياء مبادئ جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم فوق رمال كربلاء.

و ليس هذا الحال هو حال السياسي والأديب المسيحي (عبد المسيح الإنطاكي)

ص: 133


1- نفس المصدر السابق ص617.

فقط، بل هناك الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين و غير المسيحيين الذين تحدثوا و كتبوا عن سيرة أبي الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام، بكل صدق و محبة و أمانة حتى لتحسبهم أنهم من شيعته أو من خواص صحابته.

و لكن عندما نقول هذا الكلام و نؤكده بكل ثقة و يقين من خلال العديد من الأدلة والشواهد الحية، فإننا نأخذ بعين الاعتبار أن أولئك المفكرين والأدباء عموما لم تكن نتاجاتهم الفكرية بسوية واحدة و لم تكن النتائج المستخلصة من كتاباتهم عن فاجعة کربلاء بذات القيمة الفكرية، بل كان هناك تفاوت ملموس في الرؤية وفي النتائج بين أولئك الأدباء والمفكرين وإن كان الجميع متفقين على أن الإمام الحسين عليه السلام هو شهيد الحق والخير والفضيلة، و أن أعداءه يمثلون حقا جيش الباطل والشر والرذيلة.

و ربما يعود التفاوت في الرؤى بين الأدباء والمفكرين إلى الزاوية التي ينظر كل واحد منهم من خلالها إلى شخصية الإمام الحسين، هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فهناك أيضا تفاوت و تباين في أسلوب عرض الأحداث و توصيف الأمور المفصلية الهامة التي قامت عليها أحداث الفاجعة الأليمة.

و على سبيل المثال، هناك العديد من الأدباء الذين خاضوا غمار الكتابة عن سيرة حياة الإمام الحسين عليه السلام و عن خصاله و مآثره بأسلوب أدبي روائي شيق و جذاب يجعل القارئ معه مستعجلا في التهام السطر تلو الآخر، والصفحة تلو الأخرى بغية الوصول إلى نتيجة تلك الرواية التاريخية المؤثرة، و لكن، هنا، يمكننا أن نطرح السؤال التالي:

أليست هذه الطريقة في عرض الأفكار و في تقديم الأحاث و توصيفها هي طريقة جذابة حقا و شيقة لكتها محفوفة بالمخاطر و مصحوبة بالمحاذير؟!

ص: 134

نحن لا نشك في أنها طريقة سهلة لنقل الأفكار من المؤلف إلى القارئ، و لكن ألا يمكن أن يكون هناك تقصير في وصف الشخصيات، و تقصير في عرض المبادئ والقيم التي يؤمن بها الأشخاص الحقيقيون في الرواية؟!

ثم، ألن تكون القيمة الأدبية للرواية التاريخية على حساب قيمتها الفكرية و على حساب التصوير الواقعي لقيمة و حقيقة أبطالها؟!

و حتى لا نطيل النقاش حول هذه النقطة، دعونا نزور الأديب والمؤرخ المسيحي (جرجی زیدان) (1861. 1914) والذي له باع طويل في كتابة الروايات التاريخية، و بشكل خاص الروايات التاريخية المتعلقة بتاريخ الإسلام و أحداثه الهامة.

فمن المعروف لكل مطلع أن هناك رواية للأديب المؤرخ (زیدان) تحمل عنوانا يناسب موضوع کتابنا الذي هو الآن بين أيدينا، فعنوان الرواية هو (غادة كربلاء)، و لا يخفى على القارئ اللبيب ما لهذا العنوان من دلالات و مؤشرات، فكلمة (كربلاء) وحدها كافية لإعطاء القارئ إشارة واضحة إلى أن هذه الرواية التاريخية ستعطيه فكرة كافية و مفصلة عن كل ما حدث في تلك الواقعة من الآلام والفجائع والمآسي التي تفوق حدود الوصف والتعبير، و ربما سيتخيل القارئ أيضا أن تلك الرواية ستلقي بالكثير من أضوائها على شخصية الإمام الحسين عليه السلام و على علاقته و مكانته من جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم، و على الأسباب المباشرة و غير المباشرة لثورته ضد معسكر الظلم والضلال والطغيان، و باختصار شديد، ربما يتبادر إلى ذهن القارئ أن تلك الرواية التاريخية للأستاذ (زیدان) عن فاجعة كربلاء سوف تعطيه صورة مفصلة عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام بدءا من الولادة و انتهاء بالشهادة.

و لكن هل هذا هو فعلا ما استطاعت أن تقدمه تلك الرواية؟

ص: 135

والجواب بكل بساطة و وضوح هو أن تلك الرواية استطاعت فقط أن تقدم لنا جزءا بسيطا من حياة الإمام الحسين عليه السلام و من سيرته المتجذرة في عمق الرسالة الإسلامية، إنه الجزء المتعلق فقط بمسرح الفاجعة و بالأحداث الدامية التي شهدتها رمال كربلاء.

و بالطبع، فإننا عندما نقول هذا الكلام عن رواية (غادة كربلاء) للأديب والمؤرخ المسيحي (جرجي زيدان) فإننا لا نقصد الانتقاص من القيمة الأدبية والفكرية لتلك الرواية و لا لغيرها من الروايات التي أصدرها ضمن سلسلة (روایات تاريخ الإسلام)، كما و أننا لا نقصد الإساءة إلى المؤلف نفسه أو إلى النيل من إنتاجه الفكري و جهده الثقافي الذي قدمه خدمة للقارئ العربي، بل على العكس من ذلك تماما، كل ما أردنا أن نقوله هنا هو أن الرواية التاريخية عموما تبقى عاجزة عن إعطاء الشخصيات الرئيسة حقوقها من تسليط الأضواء عليها و من إعطائها أيضا حقوقها من الوصف الحقيقي الذي يجب أن يكون بمثابة المرأة الواقعية لها.

فشخصية الإمام الحسين عليه السلام في رواية (غادة كربلاء) لا تبرز بشكلها الفعال إلا في النصف الأخير من الرواية عموما، أما في النصف الأول منها، فإننا بالكاد نقرأ شيئا عنه عليه السلام و عن طفولته و عن مكانته في القرآن و عن منزلته من جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل بإمكاننا القول أن أكثر ما أراد أن يركز عليه الأديب والمؤرخ (زیدان) في تلك الرواية هي شخصية الإمام الحسين عليه السلام المؤمنة بحقها والقادرة على إثبات شجاعتها التي لا مثيل لها تحت و طأة أي ضغط أو ظرف مهما كان قاسية أو عصيبا(1).

فالمعسكر المعادي للإمام الحسين عليه السلام- كما يصفه المؤرخ (زیدان) - هو

ص: 136


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، د.ت ص 151.

معسكر الشر والباطل و هو أيضا المعسكر المرتكز في أيديولوجيته الفكرية على أسس ثابتة من العصبية القبلية والنزعة الجاهلية.

و على الرغم من اتصاف معسکر یزید اللعين بهذه الصفات الذميمة، إلا أن كبار قادة جيشه كانوا يدركون حقيقة الإمام الحسين عليه السلام و كانوا يعرفون تمام المعرفة أن الحق كل الحق مع الإمام الحسين عليه السلام و مع الأهداف التي نذر حياته من أجلها، و لكنها الدنيا التي تغر و تضر فتجعل المرء الضعيف يقف مع الباطل من أجل حطامها و سقط متاعها.

و قد استشهد المؤرخ (زیدان) بالعديد من العبارات والجمل التي قالها أعداء الإمام الحسين عليه السلام أنفسهم عنه و عن حقيقة شخصيته والتي تؤكد أنهم حينما ناصبوه العداء، كانوا عارفين بأن وزرهم و ذنبهم عند الله عظيم لا يغتفر

و لا أريد أن أستفيض هنا في الحديث عن بداية أحداث الفاجعة، و لا أريد أن أستبق الأحداث، فالكلام عن مسرح الفاجعة قادم لا ريب، و لكن الحديث عنه سيأتي في مكانه اللائق والمناسب في هذا المكان، و لكن لابأس في أن أورد شاهدا واحدا هنا عما قلته منذ قليل عن معرفة أعداء الإمام الحسين عليه السلام به و عن إدراكهم لعظيم منزلته و علو مقامه الشريف عند الله و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

فعندما يتحدث الأديب والمؤرخ (زیدان) عن محاولة أخذ البيعة بقوة السيف اليزيد من الإمام الحسين عليه السلام ، نراه يلجأ إلى تصوير ذلك الحدث بطريقة مباشرة حيث يتم الحديث الأساسي بين شخصيتين متميزتین بعدائهما التاريخي لأهل البيت عليهم السلام عموما، و للإمام الحسين عليه السلام خصوصا.

فالشخصية الأولى هي (مروان بن الحكم)، أما الشخصية الثانية فهي (الوليد بن

ص: 137

عقبة بن أبي سفيان)، ابن عم يزيد و عامله على المدينة.

فعندما يرفض الإمام الحسين عليه السلام مبايعة يزيد الفاسق خليفة على رقاب المسلمين غير آبه بتهديدهما له بالقتل و بالتنكيل به، و عندما يغادر مجلسهما دون أن يعتريه أي شعور بالخوف من ترهيبهما له بسفك دمه و إهدار حياته، يطلب مروان بن الحكم من الولید بن عقبة أن يسرع في اغتيال صوت الحق عند الحسين علیه السلام عن طريق اغتياله هو شخصيا، فيجيبه الوليد بن عقبة قائلا-كما جاء في رواية جرجي زیدان-:

(والله يا مروان ما أحب أن يكون لي ما طلعت عنه الشمس و غربت عنه من مال الدنيا و ملكها، و أن أقتل حسينا أن قال لا أبايع، والله إني لا أظن امرءة يحاسب بدم الحسين خفيف الميزان عند الله يوم القيامة)(1).

فيجيبه مروان بن الحكم قائلا: (قد أصبت).

هذه، باختصار، صورة الإمام الحسين عليه السلام كما جاءت في النصف الأول من رواية (غادة كربلاء) التاريخية، و لكن، و على الرغم من الغياب الواضح لتصوير جوانب و خصائص عديدة في شخصية الإمام الحسين علیه السلام، إلا أن مؤلف الرواية (جرجي زيدان) استطاع أن يختصر الكلام عن الإمام الحسين عليه السلام مع الإبقاء على فكرة هامة أراد تصویرها و نقلها للقارئ، إنها الفكرة القائمة على تصوير و تأكيد أن الإمام الحسين عليه السلام الذي هو سبط الرسول الإلهي الأخير صلی الله علیه و آله و سلم، و ابن الوصي علي المرتضی علیه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام، هو في، محصلة الأمر، الوجه الحقيقي الصادق للإسلام، و هو صرخة الضمير الإنساني الشريف في وجه الظلم والجبروت والطغيان.

ص: 138


1- نفس المصدر السابق ص151.

فالإمام الحسين علیه السلام كما يؤكد الأستاذ (زیدان) من خلال حوار شخصياته في الرواية، هو حرمة عظيمة من حرمات الله العلي العظيم

و ربما ما قلناه عن المؤرخ والأديب المسيحي (جرجي زيدان) يصدق أيضا على الأديب الروائي الشهير (إميل حبشي الأشقر)، ذلك الأديب الروائي اللبناني الذي أثرى المكتبة العربية بالعديد من الأعمال الروائية المثيرة التي تعبق برائحة الماضي البعيد من التاريخين العربي والإسلامي.

و لا ريب في أن الرواية الأكثر أهمية بالنسبة إلينا في معرض حديثنا الآن هي روايته (فاجعة كربلاء) والتي تعتبر الرواية المتممة لرواية أخرى سابقة عليها هي رواية (خيانة و غدر)، والروايتان- بالطبع- هما روايتان تاریخيتان من سلسلة روائية مطولة كانت تصدر تحت عنوان (روایات الليالي في تاريخ العرب والإسلام).

و على الرغم من الخطأ الذي وقع فيه الأديب (حبشي الأشقر) و هو استقاء أحداث رواياته التاريخية المتعلقة بالإسلام من مصادر واحدة معينة ذات صبغة إسلامية محددة، و هو نفس الخطأ الذي وقع فيه أيضا الأديب والمؤرخ (جرجي زیدان)، إلا أن أحداث روايته (فاجعة كربلاء) جاءت مصورة للعديد من الحقائق والأحداث التي جرت فعلا في تلك الحقبة السوداء من تاريخ المسلمين.

نعم، إن الأديب (الأشقر) لم يتطرق إلى ذكر الإمام الحسين علیه السلام من خلال الكلام عنه في مرحلة الطفولة والصبا، و ربما لم يكن باستطاعته أن يبين للقارئ طبيعة المنزلة التي يحتلها الإمام الحسين عليه السلام في ضمير جده صلی الله علیه و آله و سلم وجدانه، و ماذا كان يمثل بالنسبة إليه في ما يتعلق باستمرار رسالته الإسلامية السماوية من خلاله و من خلال الأئمة الأطهار علیه السلام من ذريته، نعم، إن الأديب (الأشقر) لم يذكر ذلك بشكل

ص: 139

واضح و صريح، و لكنه لم يدخر جهدا في إبراز العديد من الحقائق الثابتة والمؤكدة عن الإمام الحسين عليه السلام و تقديمها للقارئ على أنها بالفعل من المسلمات القائمة والثوابت الأساسية التي تعترف بمصداقيتها كل الأطياف والمذاهب الإسلامية، بل و حتى العديد من العقول المسيحية المستضيئة بنور الفكر من شمس الثقافة والمعرفة.

و على كل حال، فإن الأستاذ الأديب (الأشقر) يرى، على ما يبدو، أن خير وسيلة لتعريف القارئ بالإمام الحسين عليه السلام هي تقديمه إليه من خلال الاعتماد على خطبه و كلماته التي كان يعرف الناس على نفسه من خلالها، و بشكل خاص تلك الخطب التي كان يلقيها على مسامع الجيوش المدججة بالسلاح في ساحة كربلاء قبل الاشتباك والالتحام مع جيشه الصغير الذي لا يتجاوز بالكاد السبعين شخصا ما بين رجل و امرأة و شيخ و طفل رضيع.

و هنا يمكننا القول أن الأفكار التي أراد الأستاذ (الأشقر) إيصالها إلى القارئ هي أن جيش الإمام الحسين عليه السلام- هذا إذا جاز لنا أن نسميه جيشا- هو جيش الإيمان والنور، في حين أن جيش يزيد و رجاله هو جيش الكفر والضلال(1).

و ما أراد أن يقوله الأديب (الأشقر) للقارئ أيضا من خلال الصفحات الأولى من الرواية هو أن الإمام الحسين عليه السلام الابن الأخير للرسول الأخير صلی الله علیه و آله و سلم على وجه الأرض، و هو بالفعل كما قال جده صلی الله علیه و آله و سلم؛ عنه و عن أخيه، «سیدا شباب أهل الجنة و قرة عين أهل السنة»(2).

أما بالنسبة لبقية الأفكار والصفات التي أراد الأستاذ (الأشقر) إيصالها إلى القارئ

ص: 140


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس . بيروت، 1965، ص9.
2- نفس المصدر السابق ص11.

عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام کالجرأة والشجاعة و عمق الإيمان بالله و مدی الاقتداء برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، والنبل والحلم والتضحية والفداء، فكل هذه الصفات لا داعي للوقوف عندها من أجل شرحها والتأكيد عليها و ذلك لأن كل هذه الصفات هي صفات ثابتة للإمام الحسين عليه السلام عند الموالي والمخالف، و عند كل المفكرين والأدباء المسلمين والمسيحيين على حد سواء، بل و سنلاحظ لاحقا اتساع دائرة الاعتراف والإقرار بذلك لتشمل أيضا البعض من مفكري أبناء الطائفة الهندوسية الذين تحدثوا و كتبوا عن الإسلام و عن رجاله العظام، كالإمام الحسين عليه السلام مثلا، بكل جرأة و محبة و تبجيل و احترام.

أما الآن، و قد قاربنا على الانتهاء من هذا الفصل من كتابنا، دعونا أيها الأعزاء نتابع جولتنا السريعة والمختصرة من أجل التعرف على ما قاله بقية المفکرین المعاصرين حول الخطوط العامة والمعالم لرئيسية لشخصية سيدنا و مولانا الإمام الحسين عليه السلام.

و عندما نقول إن جولتنا السريعة والمختصرة القادمة ستكون مع بقية الأدباء والمفكرين المعاصرين، فإن هذا لا يعني أثر من سنذكرهم الآن هم كل ما في جعبتنا من رجال فكر و أدب ممن أذلوا بدلائهم في ميدان الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام قتیل العبرة و ضمير العترة، بل إن ذلك يعني أن من سنذكرهم الآن هم أصحاب الباع الأطول في الكتابة عن سيد الشهداء، أبي عبد الله الحسين عليه السلام، و لذلك، فهم الآن الأجدر بالذكر من غيرهم من المفكرين والأدباء في هذا المكان.

و ستكون جولتنا السريعة الآن مع الكاتب المصري، الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) صاحب عشرات الكتب والروايات والمجموعات القصصية القصيرة، و يعد

ص: 141

الأستاذ (السحار) واحدا من أهم الذين كتبوا عن أهل بيت النبي المصطفى عليهم السلام و عن سيد الشهداء الإمام الحسين علیه السلام.

و لو استعرضنا، بإيجاز سريع، صورة الإمام الحسين عليه السلام في كتابه المخصص لهذا الغرض والذي يحمل عنوان (حياة الحسين)، لوجدنا عدة نقاط هامة يمكن تلخيصها بما يلي:

أولا- إن أهل البيت عليهم السلام عموما، والحسين عليه السلام منهم بلا شك، هم أهل العصمة الإلهية المباركة(1).

ثانية - إن مجرد دموع الحسين عليه السلام تؤذي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تؤلمه في أعماق نفسه و روحه(2).

و في هذه النقطة استثارة لذهن القارئ كي يجيب على السؤال التالي، و هو سؤال کنا قد طرحناه سابقا:

إذا كانت دموع الحسين علیه السلام تؤلم قلب رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و تدميه حزنا، فما هو حاله صلی الله عله و آله و سلم لو رأي دماء سبطه المظلوم الغريب الظمآن مسفوحة فوق رمال كربلاء اللاهبة؟!

ثالثا- إن الكرم والجود، بما في ذلك الجود بالنفس من أجل الحق، و إن الجرأة والإقدام والشجاعة التي يتحلى بها الإمام الحسين عليه السلام هي كلها صفات نبوية رسالية عظيمة أورثه إياها جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم(3)

رابعا- لا يستطيع أي شخص كان أن يجحد أو أن ينكر أن الإمام الحسين علیه السلام

ص: 142


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مكتبة مصر - القاهرة، ط 1977/2 ، ص11.
2- نفس المصدر السابق ص11
3- نفس المصدر السابق ص13.

هو بحق، كما وصفه جده الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم رؤوس الأشهاد من الأصحاب، سيد شباب أهل الجنة يوم القيامة والحساب(1).

هذه هي باختصار شديد المعالم الرئيسية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام كما رسمها الأستاذ (جودة السكار) في كتابه القيم (حياة الحسين)، و بالطبع، ليس هذا هو كل شيء عن الإطار العام لمزايا و خصائص الحسين عليه السلام ، بل هناك الكثير مما يمكن أن يقال عنه و لكن ليس من الحكمة أن نذكر كل شيء هنا، بل ستترك ذلك للحديث عنه عند التكلم عن أسباب الثورة الكربلائية و عن أحداثها الدامية.

و لكن لا يغيب عن ذهننا هنا أن نقول إن كتاب (حياة الحسين) يتكامل في معلوماته مع المعلومات الواردة في كتاب آخر للكاتب الأستاذ (جودة السحار) و هو الكتاب الذي يحمل عنوان (أهل بيت النبي)، فكلاهما كتابان يتناولان سيرة أهل بیت النبوة علیهم السلام من حيث إنهم هم أهل النبوة و مهبط الوحي و معدن الرسالة و أن الإمام الحسين عليه السلام من أصحاب الكساء و هو الإمام الطاهر المطهر من كل رجس(2)

و قد أكد الأستاذ (جودة السكار) في كتابه المذكور على عدة نقاط تتطابق بشكل حرفي مع ما هو موجود في كتابه (حياة الحسين)، و ما تأكيده على تلك المعلومات إلا ليثبت للقارئ أن ما كتبه عن الإمام الحسين عليه السلام هو عين الصواب و جوهر الحقيقة.

و نستطيع أن نلاحظ منذ الصفحات الأولى لكتاب (أهل بيت النبي) أن الكاتب الأستاذ (جودة السكار) يريد أن يشتد الاهتمام على نقطة محورية هامة من ضمن مجموعة نقاط هامة أخرى أوردها في كتابه، و تتجلى هذه النقطة بالتأكيد المستمر على

ص: 143


1- نفس المصدر السابق ص89
2- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي، دار مصر للطباعة . القاهرة، د.ت، ص259.

أن ذرية الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام هي ذاتها ذرية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي، فإن النتيجة المنطقية التي يريد الأستاذ (جودة السحار) أن يتوصل إليها القارئ هي أن أذى العترة الطاهرة عليهم السلام هو في حقيقته أذى لرسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و أن أذى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم هو في محصلة الأمر أذ لله سبحانه و تعالى من خلال الانتقاص من ثقليه العظيمين، كتابه الكريم و عترته الطاهرة عليهم السلام.

و يكفي أن نذكر هنا حادثة واحدة من مجموعة حوادث ذکرها الأستاذ (جودة السحار) لإثبات أن الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم كان يرى في الإمامين السيدين الجليلين الحسن والحسين عليهماالسلام ذريته الرسالية المقدسة والمحفوظة في نسل علي سيد الأوصياء عليه السلام و فاطمة الزهراء عليهاالسلام سيدة النساء، فهي ذريته المتصلة به صلی الله علیه و آله و سلم بالدم والفكر والروح والنور.

و ها هو الأستاذ (السحار) يروي لنا: (وقف رسول الله في مسجده يخطب، و بينا هو يعظ المسلمين، جاء الحسن والحسين (و هما طفلان) و عليهما قميصان أحمران يعثران و يقومان، فلم يتمالك رسول الله نفسه، بل نزل إليهما وأخذهما و عاد إلى المنبر و هو يضمهما إليه، ثم وضعهما في حجره و قال: «صدق الله ! إنما أموالكم و أولادكم فتنة»)(1)

و لا ريب في أن من حق الأستاذ (جودة السحار) أن يركز على تلك النقطة التي أراد أن يلفت انتباه القارئ إليها، بل و إلى غيرها من النقاط الهامة الأخرى المبثوثة في صفحات کتابه (أهل بيت النبي)، فالكتابة عن أهل البيت علیهم السلام عبادة، والدفاع عن قضاياهم و مبادئهم جهاد، و ذكر فضائلهم رحمة، و موالاتهم مغفرة و عتق من النار.

ص: 144


1- نفس المصدر السابق ص12.

و أعتقد أنه من المسلم به تماما أن كل من ذكرناهم في هذا الفصل من مفکرین و أدباء و شعراء سواء كانوا من المسلمين أو من المسيحيين قد قرأوا الكثير عن أهل البيت علیهم السلام و عن فضائلهم و مآثرهم العملية والروحية و إلا لما كتبوا عنهم بتلك الطريقة الشفافة التي تفيض حبا و احتراما و ولاء

فماذا عساه المفكر أو الأديب المسلم السني، أو حتى المسيحي الذي نفض غبار التعصب عن عينيه، أن يقول عندما يقرأ الكثير من الأحاديث النبوية الهامة التي وردت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم في كتب السنة والشيعة معا حول عظمة آل بيته الذين هم مستودع سره؟!

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ذكر (الخوارزمي) الحنفي، المتوفى عام /568 ه / في كتابه (مقتل الحسین) هذا الحديث الثابت عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقال:

قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «والذي نفسي بيده لا تفارق روح جسد صاحبها حتى يأكل من ثمر الجنة أو من شجر الزقوم، و حتى يرى ملك الموت، و يراني و يري علي و فاطمة والحسن والحسين، فإن كان يحبنا، قلت: يا ملك الموت ارفق به، فإنه كان يحبني و أهل بيتي، و إن كان يبغضني و يبغض أهل بيتي، قلت: يا ملك الموت شدد عليه، فإنه كان يبغضني و يبغض أهل بيتي، لا يحبنا إلا مؤمن و لا يبغضنا إلا منافق شق»(1).

و ماذا يمكن لذاك المفكر أن يقول أيضا عندما يقرأ ما جاء في كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الكبير (الشيخ سليمان ابن الشيخ إبراهيم القندوزي الحنفي)حيث ذكر هذا الشيخ الجليل حديثا مطولا لأمير المؤمنين علي عليه السلام بعد أن سئل عن تفسير

ص: 145


1- أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، منشورات مكتبة المفيد . قم المقدسة، د.ت، راجع الجزء الأول ص109.

قوله سبحانه و تعالى: «وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيماهُمْ»(1)، فأجاب علیه السلام: «نحن الأعراف و نحن نعرف أنصارنا بسيماهم، و نحن الأعراف الذين لا يعرف الله عز وجل إلا بسبيل معرفتنا، و نحن الأعراف يوقفنا الله عز وجل يوم القيامة على الصراط، لا يدخل الجنة إلا من عرفنا و عرفناه و لا يدخل النار إلا من أنكرنا و أنكرناه، إن الله تبارك و تعالی لو شاء لعرف الناس نفسه و لكن جعلنا أبوابه و صراطه و سبيله و وجهه الذي يتوجه منه إليه، فمن عدل عن ولايتنا أو فضل علينا غيرنا فإنهم عن الصراط لناكبون...»؟!(2)

فلا ريب في أن هذا المفكر المسيحي أو ذاك الأديب المسلم قد قرأ الكثير من هذه الأحاديث الرائعة عن أهل البيت عليهم السلام في كتب السنة و في مؤلفاتهم الفكرية و في دواوينهم الشعرية التراثية، و هذا ما جعلهم يسارعون إلى إلقاء عباءة التعصب عن كاهلهم و من ثم تجنيد أقلامهم النظيفة للذود عن أهل بيت آخر رسول في مشارق الأرض و مغاربها إذ لا رسول بعده إلى يوم الدين.

و لذلك أقول إنه إذا كان المفكر المسيحي (أنطون بارا) محقا في مقولته التي أسلفنا ذكرها في الفصل السابق، والتي تنص على أن الفكر المسيحي العربي يقدس أهل البيت عليهم السلام و يجلهم، فإن الراهب المسيحي الفرنسي (لويس غارديه) أيضا محق في مقولته عن أهل بيت النبي عليهم السلام و موقف السنة منهم حيث اعتبر (غارديه) أن السنیين يمجدون و يجلون هم أيضا أسرة النبي علیهم السلام و أن السنيين أنفسهم كانوا متعاطفين مع الشيعة ضد الحكم الأموي البغيض(3).

ص: 146


1- سورة الأعراف: الآية 46
2- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج1 ص 101.
3- لويس غارديه، أهل الإسلام، ترجمة: صلاح الدين برمدا ، وزارة الثقافة . دمشق، 1981، ص216.

و لا داعي، بالطبع، لأن نسرد عشرات الأحاديث النبوية الشريفة و غيرها من الأحاديث التي تنص على علو مكانة آل بيت الرسول المصطفى عليهم السلام و سمو منزلتهم في الأرض و في السماء، و لكن ما أردنا قوله هنا هو أن هذا النوع من الأحاديث الثابتة والمتفق عليها عند جميع الأطياف الإسلامية هو أحد الأسباب المباشرة التي جعلت هذا الكم الكبير من الأدباء والشعراء والمفكرين المسيحيين المستنيرين و من رجال السنة يشمرون عن سواعدهم للدفاع عن أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام وللانتصار لقضاياهم التي جاهدوا من أجلها بأنفسهم و أموالهم باذلين بذلك أغلى ما يملكون.

و من البديهي أيضا أن نقول إن الأحاديث النبوية الشريفة المختصة بذكر الإمام الحسين عليه السلام و مكانته من جده و من جوهر رسالته السماوية الأخيرة، هذا بالإضافة إلى الأحاديث النبوية الأخرى التي تخرق حجاب الغيب لتتنبأ بمصير ذلك الإمام العظيم و لتخبر المسلمين و قتذاك بالنهاية المفجعة التي سيلقاها ذلك السبط المظلوم على ضفاف الفرات الحزين، إن كل هذه الأحاديث لعبت أيضا دورها الفعال في استثارة العواطف و في تنبيه كل العقول النيرة إلى ضرورة الدفاع عن أهل الحق و إلى إبراز فضائلهم، و إلى ضرورة إدانة أهل الباطل و إظهار رذائلهم، فكان نتيجة ذلك هذا الكم الكبير من الأقلام الحرة والنزيهة التي جاءت من مختلف الأديان والمذاهب کي تصدع بالحق و تنطق بالصدق و ترفع أصواتها عالية لنصرة سيد شباب أهل الجنة الذي قال عنه جده رسول الله الأعظم علیه السلام الذي لا ينطق عن الهوى:

«الجنة والحور العين من نور ولدي الحسين، و نور ولدي الحسين من نور الله،

ص: 147

و ولدي الحسين أفضل من الجنة والحور العين»(1).

و لربما من أكثر الأحاديث قوة و تأثيرا على من كتب عن الإمام الحسين عليه السلام و عن نهضته و ثورته المباركة، هو ذاك الحديث النبوي الشريف الذي ورد بطرق متقاربة في الكثير من المصادر والمراجع الإسلامية الهامة، سواء الشيعية أو السنية، و هو الحديث النبوي الذي يلخص لنا ما يمثله الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة إلى جده الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو (الخوارزمي) الملقب ب (أخطب خوارزم) الحنفي المذهب ينقل لنا ذلك الحديث النبوي الشريف بصيغته الصحيحة والكاملة، فيروي لنا الحديث المرفوع إلى سلمان الفارسي (المحمدي) بقوله:

(دخلت على النبي صلی الله علیه و آله و سلم، و إذا الحسين على فخذه و هو يقبل عينيه و يلثم فاه، و يقول: «إنك سيد ابن سيد أبو سادة، إنك إمام ابن إمام أبو أئمة، إنك حجة ابن حجة أبو حجج تسعة من صلبك، تاسعهم قائمهم»)(2).

فما من كلمة قالها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في هذا الحديث إلا و لها أعمق الدلالات على المنزلة العظيمة التي يحتلها الإمام الحسين عليه السلام في قلب جده، و ما من كلمة في هذا الحديث أيضا إلا و لها، بنفس الوقت، أوضح الدلائل و أبلغ الإشارات على الدور المنتظر المنوط بالإمام الحسين عليه السلام أبي الأئمة الأبرار الأطهار علیهم السلام الذين سيستمرون في حمل راية الإسلام و لواء الإيمان إلى أن يأتي تاسعهم عليهم السلام في نهاية الزمان فيملأ الأرض قسطا و عدلا بعدما تكون قد ملئت ظلما و جورا،

ص: 148


1- العلامة ميرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، ترجمة و شرح السيد ياسين الموسوي، دار التعارف للمطبوعات . بیروت، 1990، ص84.
2- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج1 ص146.

فهؤلاء الأئمة التسعة عليهم السلام الذين أشار إليهم جدهم الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم والذين يمثلون عبق الرسالة و روحها الحية و نبضها الدائم الممتد إلى آخر الزمان، و لو کره الكافرون، هم کلهم من الإمام الذي سيقدم نفسه قربانا على ضفاف الفرات من أجل شهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، إنه القربان الإلهي المقتول ظلما بسيف أعداء الدين، إنه وارث رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم، إنه الإمام الحسين.

و أنا أعرف الآن أن الكثير من القراء يطلبون المزيد والمزيد من ذكر الأحاديث التي تظهر عظمة الحسين عليه السلام و مقامه السامي الرفيع، و لا ريب في أن لهم الحق في ذلك، و لكن سنعمد إلى ذكر تلك الأحاديث المطلوبة في مكانها المناسب من هذا الكتاب، أما الآن، دعونا نزور أحد المفكرين المصريين الأفذاذ الذين تميزوا بآرائهم الجريئة والصريحة حول المبادئ الأساسية والخطوط العامة العريضة التي تتمحور حولها شخصية الإمام الحسين عليه السلام و حول أسباب و نتائج ثورته الحسينية التي حفظت للإسلام ماء وجهه بعدما أراد أعداؤه و أعداء أبيه عليه السلام و جده صلی الله علیه و آله و سلم أن يريقوه عبثا غير آبهين بدين و لا بشريعة و لا حتى بإله جبار شديد العقاب ينصب الميزان غدا ليوم الحساب.

و حتى لا نطيل المقدمات، دعونا نعرفكم، أيها الأعزاء، على محطة مميزة من محطاتنا الفكرية الهامة، إنه الأستاذ الأزهري والباحث المصري (خالد محمد خالد) صاحب المؤلفات الفكرية والإسلامية التي تعد بالعشرات، والتي لا يزال يعاد طبعها المرة تلو المرة حتى يومنا هذا نظرا لقيمتها الفكرية العالية.

و من أهم آثاره: (عشرة أيام في حياة الرسول صلى الله عليه و آله و سلم )، (الوصايا العشر)، (كما تحدث القرآن)، (في رحاب علي عليه السلام)، (أفكاره في القمة)، (أبناء الرسول في

ص: 149

کربلاء)، هذا بالإضافة إلى الكثير من الكتب الإسلامية والمؤلفات الفكرية الأخرى التي تتصف بروح الإنصاف والموضوعية في نهج البحث و في عملية استخلاص النتائج المترتبة عليه.

و ما يهمنا من كل كتبه الآن هو كتابه (أبناء الرسول في كربلاء)، ذلك الكتاب الذي أخذ طريقه إلى النور في طبعته الأولى عام / 1968/ و أعيدت طباعته مرات عديدة.

و بإمكاننا أن نلاحظ، و بشكل بارز تماما، كيف أن الأستاذ (خالد) قد استطاع بكل براعة أن ينتقل بقارئه من فكرة إلى أخرى بأسلوب منطقي متدرج يجعله قادرا على تكوين مجموعة أفكار جوهرية و حساسة جدا عن الجو الأسري الذي تربى و نشأ فيه الإمام الحسين عليه السلام .

و لو أخذنا مثالا واحدة على طبيعة تلك الأفكار الهامة التي طرحها الأستاذ (خالد) في سياق الكلام عن أسرة الإمام الحسين عليه السلام التي ترعرع و شب في أحضانها إلى أن بلغ مرحلة الشباب، فسيكون مثالنا المأخوذ هو ما جاء في تعليق الأستاذ (خالد) على معنى قوله تعالى في سورة آل عمران: «... كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ»(1)، حيث قال معلقا على ذلك:

(فالربانية وحدها هي التي تضفي على العظمة الإنسانية رداء الصدق، والإخلاص، والنسك، و هي التي تجعل من التضحيات رشدا و رضوانا...

و لقد كانت القدوة التي تركها (علي و فاطمة)، والتي سيتركها بنوهما (الحسن والحسين) من بعدهما رائعة الاتساق مع هذه الغاية الفريدة، و ذلك المستوى

ص: 150


1- سورة آل عمران: الآية 79

البعيد)(1).

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام إمام رباني في تربيته و في نشأته و في سلوكياته و في غاياته، إنه سليل أسرة القرآن وابن مدرسة الرحمن

و إذا كان الإمام قد نشأ هذه النشأة الربانية العظيمة في أحضان أسرة نبوية طاهرة مطهرة، كما جاء في النص الإلهي الأقدس، فكيف نتوقع أن تكون علاقة ذلك الإمام بالحق والفضيلة و بالدستور الإلهي الخالد؟!

إن الجواب على هذا السؤال ليس بالأمر الصعب أو العسير بالنسبة إلينا و إلى الأستاذ الأزهري (خالد)، بل على العكس من ذلك تماما، فالإمام الحسين عليه السلام كان أكثر التصاقا بالله و بكتابه من التصاق الجنين بأمه، و كان أكثر ارتباط بجده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و بأبويه، المرتضى عليه السلام والزهراء علیهاالسلام، و بمبادئهم جميعا من ارتباط معنی الكلمة بالكلمة أو هوية الشيء بالشيء.

و بالنسبة للأستاذ (خالد)، فإن (للحسين طبيعة جياشة ثائرة، يربطها بالحق ولاء وثيق و عجيب، و تستمد من فضائل الدين العالية و من تراث حسبه العريق زادة لا يفنی من الصمود والمثابرة)(2).

و عندما يقول الأستاذ (خالد)، و هو العالم السني الأزهري، إن الإمام الحسين عليه السلام يستمد الكثير من الفضائل والمناقب والخصال عن طريق ارتباطه الوثيق بشريعة السماء من جهة، و عن طريق الأخذ بتراث حسبه العريق من جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن الإمام الحسين عليه السلام يعتمد في تثبيت مكانته و منزلته على مجرد الانتماء إلى

ص: 151


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مطبوعات دار الشعب . القاهرة، ط1/ 1968 ص 19
2- نفس المصدر السابق ص102

الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عن طريق الرابطة الدموية فحسب، بل إن الإمام الحسين عليه السلام يعتمد على عدة عوامل أخرى أيضا، و ما الانتساب إلى الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله و سلم بالرابطة الدموية إلا أحد تلك العوامل العديدة التي أشار إليها الأستاذ (خالد) في صفحات متفرقة من كتابه (أبناء الرسول في كربلاء)، ذلك الكتاب المميز بأسلوب طرحه للأفكار و بالنتائج المستخلصة على ضوء ذلك الطرح والبحث العميقين.

و على ما يبدو، إن هناك الكثير ممن كتبوا عن الإمام الحسين عليه السلام، سواء من المسلمين أو من المسيحيين، قد اعتمدوا في تأكيدهم علی عظیم مقام الحسين و على رفعة مكانته و منزلته على العديد من الآيات القرآنية كآية (التطهير) و آية (المباهلة) و على غيرهما من الآيات القرآنية الأخرى التي تظهر خصيص مكانة أهل البيت علیهم السلام عموما.

و قد اعتمدوا من جهة أخرى على عشرات الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت بمثابة الشرح والدعم لتلك الآيات القرآنية السابقة.

و لعل من أكثر الأحاديث النبوية الشريفة رواجا في كتب السنة المتقدمين هو ذلك الحديث النبوي الشريف الذي سنذكره الآن، و هو أحد الأحاديث الهامة التي يستشهد به ويعتمد عليه الكثير من الأدباء والمفكرين المعاصرين من سنة و شيعة و مسيحيين.

و هذا هو نص الحديث النبوي الشريف كما ورد حرفيا في كتاب (ينابيع المودة) للعلامة الكبير الشيخ سليمان القندوزي الحنفي)، و كما ورد أيضا في غيره من کتب السنة القدماء و لكن باختلافات يسيرة جدا.

يقول العلامة (القندوزي الحنفي): (و عن ربيعة السعدي، قال: أتي حذيفة رضي الله عنه، فسألته عن أشياء، فقال: اسمع مني وعة، و بلغ الناس أني رأيت رسول الله

ص: 152

صلی الله علیه و آله و سلم و سمعته بأذني و قد جاء الحسين بن علي رضي الله عنهما على المنبر فجعله على منكبيه ثم قال:

«أيها الناس هذا الحسين خير الناس جدا و جدة، جده رسول الله سيد و لد آدم، و جدته خديجة سابقة إلى الإيمان من كل الأمة، و هذا الحسين خير الناس خالا و خالة خاله القاسم و عبد الله و إبراهيم، و خالته زينب و رقية و أم كلثوم، و هذا الحسين خير الناس عما و عمة، عمه حمزة و جعفر و عقيل، و عمته أم هانئ، و هذا الحسين خير الناس أبا و أمة و أخا و أختة، أبوه علي و أمه فاطمة و أخوه الحسن و أخته زينب و رقية»، ثم وضعه عن منكبه فأجلسه في جنبه، فقال: «أيها الناس هذا الحسين جده في الجنة و جدته في الجنة و أخواله في الجنة و خالاته في الجنة و أعمامه في الجنة و عماته في الجنة و أبوه في الجنة وأمه في الجنة و أخوه في الجنة و أختاه في الجنة و هو في الجنة»، ثم قال: «يا أيها الناس إنه لم يعط أحد من ذرية الأنبياء الماضين ما أعطي الحسين بن علي خلا يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، يا أيها الناس إن الفضل والشرف والمنزلة والولاية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ذريته فلا تذهب بكم الأباطيل». (1)

و يحق - بالطبع - لكل قارئ، بل و لكل أديب أو باحث أن يولي هذا الحديث النبوي الشريف أهمية بالغة و مكانة مرموقة في ميدانه الفكري و في مجال بحثه و تأليفه نظرا لما يقدمه هذا الحديث لنا من فكرة شاملة عن الجو الأسري المقدس الذي نشأ فيه سيد الشهداء، أبو عبد الله الحسين عليه السلام .

و كما سنلاحظ، فإن الإمام الحسين عليه السلام هو المحور في هذا الحديث النبوي الشريف، و هو السبط الوحيد، كما يقول عنه جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم- الذي

ص: 153


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج2 ص103.

أعطي ما لم يعط أحد غيره من ذرية الأنبياء ما عدا سيدنا يوسف بن يعقوب عليهماالسلام .

و قد استدل العالم الأزهري المصري الأستاذ (عبد اللطيف المشتهري) - و هو مبعوث الأزهر بسوريا في فترة الستينيات من القرن الماضي- على تلك العظمة الحسينية من خلال العديد من الأحاديث النبوية، بل و من خلال الكثير من الحوادث والوقائع التي وقعت في زمن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، شخصيا، أحد أقطابها.

و من جملة الحوادث التي ذكرها الأستاذ (المشتهري) عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، والتي استدل من خلالها على عظمة الحسين في نفس و وجدان جده خاتم رسل الله صلی الله علیه و آله و سلم هي تلك الحادثة الشهيرة التي ذكرها في كتابه (سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين صلی الله علیه و آله و سلم):

دخل الحسين المسجد و رسول الله يخطب، فداس (الحسين عليه السلام) في ثوب كان عليه فسقط و بکی، فنزل النبي ليتلقاه، فلما رآه الناس سعوا إلى الحسين يتعاطونه و يعطيه بعضهم بعضا حتى تسلمه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و قال: «والذي نفسي بيده ما دریت أني نزلت عن منبري»(1).

حقا إنها حادثة عظيمة أن يقطع رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و صفوه رسله في خلقه خطبته و ينزل عن منبره من أجل سبطه الطفل الصغير !!

بلى والله إنها لعظيمة، و إن دلالتها لأعظم !!

و على كل حال، فقد علق العلامة الأزهري على تلك الحادثة قائلا:

ص: 154


1- عبد اللطيف المشتهري، سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين، طبع اللاذقية، ط 1379/2 ه، ص12.

(إيه يا حسين، أيه منزلة لك في قلب صفوة الله من خلقه حتى يدع خطبته و منبره و يتلقاك من بين الناس ليعود بك قرير العين؟!»(1).

نعم، أيها الإمام العظيم، یا بن الإمام الأعظم

نعم، إن لك منزله في قلب صفوة الله من خلقه و رسله

لا تخطر على قلب بشر، و لا تناله الفكر

و إن لك شأنا، و أي شأني، في رسالة السماء إلى أهل الأرض

لا يبلغه المؤمنون و لا الملائكة المقربون

و كيف لا تكون أنت كذلك

و أنت ابن سید النبيين، وابن خير الوصيين

وابن سيدة نساء العالمين؟!

و كيف لا تكون كذلك

و أنت أحد سيدي شباب أهل الجنة

و أحد الريحانتين

والوارث لعلوم الوحي الأمين؟!

و بعد كل هذا، ألا يح لجذك الرسول الأعظم صلی الله علیه و آله و سلم أن يقول على رؤوس الأشهاد: «حسين مني و أنا من حسین»؟!

إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع و هو شهيد.

ص: 155


1- نفس المصدر السابق ص13.

فاجعة كربلاء و مأساة السقيفة

ربما يستغرب القارئ الكريم أن أكتب هنا فصلا مستقلا تحت عنوان (فاجعة کربلاء و مأساة السقيفة) و ربما يتساءل البعض أيضا ما علاقة فاجعة كربلاء و أحداثها الدامية بما سبقها من أحداث و اختلافات و (فلتات) في سقيفة بني ساعدة !!

نعم، ربما يتساءل أي قارئ عن ذلك، بل ربما يتساءل عن أشياء أخرى أكثر من ذلك، و مهما كانت الأسئلة التي يمكن أن يطرحها القارئ و مهما كان حجمها و عمقها، فهي، بلا ریب، أسئلة مباحة و غير محظورة و لها ما يبررها أيضا.

و لكن، و قبل أن ندخل في الحديث عن العلاقة الوطيدة بين أحداث واقعة كربلاء و أحداث سقيفة بني ساعدة، دعونا نؤكد أولا على نقطة غاية في الأهمية و في الجدية نظرا لما يراه البعض فيها من ضرورة تبيان و توضيح.

و تتلخص هذه النقطة الهامة بقولنا الاستفهامي:

هل الشريعة الإسلامية ديانة دم و عنف؟

و إذا كان الجواب (نعم)، فما هي أسسه و عوامله، و ما هي الشواهد الدالة عليه في كتاب الله العزيز و في سنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؟

أما إذا كان الجواب (لا)، إن الإسلام في جوهره و في تعاليمه السماوية و في إرشاداته النبوية يقف موقف النقيض من العنف و من سفك الدماء البريئة، فمن أين، إذن، و فدت علينا هذه الظاهرة السلبية الخطيرة والتي تمتد بجذورها إلى أعماق

ص: 156

التاريخ الإسلامي الطويل؟!

و بطبيعة الحال، لا يحق لنا نحن أن نجيب على هذه التساؤلات الضرورية والتي يمكن أن تكون المدخل الطبيعي والمعبر المنطقي للكلام عن ما حدث في ساحة کربلاء.

بل إننا سنترك أمر الإجابة عن هذه الأسئلة لمجموعة من المفكرين والباحثين الكبار ممن ينتمون إلى غير الدائرة الإسلامية سواء كانوا من المسيحيين أم من غير المسيحيين.

و لكن، و قبل أن نستعرض وجهات نظر و آراء أولئك المفكرين، علينا أن نلفت نظر القارئ الكريم إلى أننا سنوجز الكلام في هذا الموضوع و سنعمد إلى ذكر أسماء بعض الشخصيات الهامة، و ذلك لسبب واحد فقط و هو عدم الرغبة بالخروج عن جوهر کتابنا الأساسي المتمحور حول واقعة كربلاء و أثر تلك الفاجعة في الضمير العالمي الحديث.

و على كل حال، وحتى لا نطيل المقدمات و لا نضيع الوقت، دعونا الآن نستعرض بعض تلك الآراء والمواقف، و لتكن محطتنا الأولى مع المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون) الذي أسلفنا الكلام عنه والتعريف به في الفصل السابق من هذا الكتاب.

قبل كل شيء، پری (ماسينيون) أن الإسلام دين له حصته و نصيبه من الخطة التي وضعها الله لهداية البشر، و یری (ماسينيون) أيضا أن الإسلام شريعة إنسانية تحترم آراء الأفراد والجماعات و تقدس جوهر الديانات السماوية الأخرى، و يؤكد (ماسینیون) مضيفا على ذلك بقوله: (بما أن الإسلام لا يفصل الشؤون الروحية عن الشؤون

ص: 157

الزمنية، فإن الواجب الأساسي المفروض على المؤمنين هو التوحيد والشهادة العلنية الدالة على العزم الراسخ على الإخلاص لعبادة الله الواحد، بكلمة أخرى، يمكن القول إن الشخص الإنساني يشكل في الإسلام شهادة يؤديها كل فرد وحده «وَ لَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ»(1)، والإخلاص لهذه الشهادة هو الذي يحدد قيمة الشخص الإنساني أمام الله)(2).

إذن، فالشخص (الإنساني) في الإسلام هو القادر على تحديد هويته أمام الله، فبقدر ما يكون ذلك الشخص قادرا على الإخلاص لله من خلال النطق بالشهادة الكاملة والعمل بشروطها وفق المستويين العمودي والأفقي - أي (الإلهي) مع الله و رسوله، و(الإنساني) مع الإنسان بشكل عام- بقدر ما يكون قادرا على تحقيق قيمته الإنسانية أمام خالقه.

و قد ذهب (ماسينيون) إلى حد القول (إن الإسلام جاء بمنزلة ضمير لليهودية والمسيحية)(3)، أي أن الرسالة الإسلامية هي الضمير الإنساني الحي لبقية الرسائل التي جاءت بها الرسل والأنبياء علیهم السلام.

أما المؤرخ البريطاني (أرنولد توينبي) ( ARNOLD TOYNBEE) (1889-1975) الذي فسر التاريخ على أساس مبدأ التحدي والاستجابة، فقد شهد الإسلام بأنه دين الإنسانية السمحاء، و أنه أكثر العقائد الدينية في العالم اتفاقا مع المنطق و أشدها صراحة في الإيمان بمبدأ الوحدانية الجليل و أعظمها و ضوحا في إدراك

ص: 158


1- سورة الأنعام: الآية164
2- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات والنشر. بيروت، ط1981/1 ، ص56.
3- أليكسي جورافسكي، الإسلام والمسيحية، مصدر سابق ص125.

الاستشراق الإلهي وتسامي الذات الإلهية(1).

و لا يختلف رأي المستشرق المعروف (مونتغمري واط) ( M.WATT)، المولود عام (1909)، كثيرا عن رأي سابقه المؤرخ (توينبي) حول الطبيعة الروحية والنزعة الإنسانية في جوهر العقيدة الإسلامية التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد رأى هذا المستشرق (واط) أن الرسالة الإسلامية هي أكمل الرسالات السماوية روحيا و إنسانية، حتى أن المجمع المسكوني الفاتيكاني المنعقد عام /1965/ قد اعترف بمآثر الإسلام العظيمة في نشر الكثير من القيم والحقائق(2).

و يرى المستشرق (واط) أيضا أن كل دين يترك للدين الذي يليه أن يكمل ما فيه من نقص، أما الإسلام فهو خاتم الأديان، و لذلك كان لا بد من اشتماله على كل فضائل الديانات السابقة من مكارم الخصال و محامد الصفات والتفحات الإنسانية الشفافة التي تسمو بالإنسان إلى عوالم الطهر والنقاء، فالعقيدة الإسلامية تصلح أصولا أن تستمد منها البشرية كل القوانين التي تسير حياتها، إنها القانون الإنساني(3).

و يرى المستشرق الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) في كتابه (ما یعد به الإسلام) أن المتصوفة (العمليين) في الإسلام هم الأقدر على نقل مضمون رسالة الإسلام إلى كل من هو خارج دائرة الإسلام، فالمتصوف رمز للتسامح و نبراس للقيم الإنسانية النبيلة، و بالتالي فإن الإنسان الكامل في الإسلام هو الإنسانية ذاتها في شمولها و تاريخها و تنوع أجناسها و ثقافاتها، فالإنسان الكامل الذي يجسد الحب

ص: 159


1- أنور الجندي، الإسلام والحضارة، دار الاعتصام. القاهرة، 1977، ص225.
2- مونتغمري واط، أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا، ترجمة: جابر أبي جابر، وزارة الثقافة . دمشق، 1981، ص12.
3- أنور الجندي، الإسلام والحضارة، مصدر سابق ص242.

والملحمة الإنسانية بكامل أبعادها هو الرسول المصطفى محمد صاحب الحقيقة المحمدية(1).

و یری (غارودي) أيضا في كتاباته المتمحورة حول معاني الإسلام الحنيف أن العقيدة الإسلامية هي أبعد العقائد عن العنف و عن الإكراه والجبر، بل على العكس من ذلك تماما، فالمسلم يحترم جميع الأديان السماوية السابقة و يقدسها، و فوق ذلك أيضا، فالإسلام اشترط لصحة إسلام المسلم الإيمان بجميع الرسل والأنبياء(2).

و هذا يعني أن المبادئ النظرية للعقيدة الإسلامية تستوجب من المسلم أن يكون غاية في المحبة والتسامح والحفاظ على رابطة الأخوة الإنسانية، و قد استشهد على ذلك بقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الكريم: «قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَ مَا أُنْزِلَ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَ إِسْمَاعِيلَ وَ إِسْحَاقَ وَي َعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَ مَا أُوتِيَ مُوسَىٰ وَ عِيسَىٰ وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»(3)

و لو توقفنا قليلا عند الأديب والفيلسوف الإيرلندي (جورج برنارد شو) (G.B.SHAW ) (1950 - 1856) و سألناه عن رأيه بصاحب الرسالة الإسلامية، فماذا سيكون واجبه؟!

إن جوابه، و بكل بساطة و وضوح، سيكون هو التالي:

(ان محمدا يجب أن يدعی منقذ البشرية... إن محمدا هو أكمل البشر في

ص: 160


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، ترجمة: قصي أتاسي و ميشيل واكيم، طبع دار الوثبة . دمشق، د.ت، ص173.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، ترجمة: عبد المجيد بارودي، دار الإيمان . بيروت. و دمشق، د.ت ص34.
3- سورة البقرة: الآية 136.

الغابرين والحاضرين، و لا يتصور وجود مثله في الآتين)(1).

و إذا كان محمد صلی الله علیه و آله و سلم هو المنقذ للبشرية -كما يقول عنه الفيلسوف (برناردشو) - أليس يعني هذا أن رسالة منقذ البشرية هي رسالة الخير والحق والفضيلة، ألا يعني هذا أنها رسالة المحبة والتسامح والغفران، و نبذ العنف و رفض الجبر والإكراه و مصادرة الأفكار واغتيال العقول والحريات؟!

ثم ألا يتفق هذا الرأي من الفيلسوف الإيرلندي (برناردشو) مع رأي المفكر السياسي والأمير الألماني (بسمارك) (BISMARCK) ( 1898-1815 ) موحد الأمة الألمانية و رجلها الفولاذي في القرن التاسع عشر، حيث يقول مخاطبة رسول الإنسانية والرحمة المهداة إلى أهل الأرض:

(یا محمد، إنني متأثر جدا من أن لم أكن معاصرة لك... إن البشرية رأت قدوة ممتازة مثلك، مرة واحدة، و لن ترى ذلك مرة أخرى، فبناء على ذلك، إني أعظمك بكمال الاحترام راكعا في حضورك المعنوي)(2).

و لو أخذنا عبارة واحدة فقط من عبارات الأديب والفيلسوف الألماني العظيم (یوهان غوته) ( J.W.GOETHE ) (1749 - 1832) لوجدنا عمق حبه و تقديره لرسالة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم المنطوية في أساسها و في عمق أهدافها على غایات نبيلة تعجز الألسن عن وصفها، و ها هو يقول عنها بعد أن قرأها و درسها جيدا على مدى عدة عقود من الزمان:

ص: 161


1- تامر سمير مصطفى، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار، الغدير . بيروت، ط1998/1 ، ص126.
2- نفس المصدر السابق ص127.

(إذا كان الإسلام معناه التسليم لله، فعلى الإسلام نحيا و نموت جميعا)(1).

أما عن أثر هذا الدين الحنيف على الإنسان، فيقول (غوته) أيضا:

( إن دین محمد كله إخلاص، و دین اجتماع و أخلاق و رعاية لبني الإنسان)(2).

و لو خرجنا قليلا عن محيط الدائرة المسيحية المتفهمة لحقيقة الرسالة الإسلامية و أهدافها السامية و دخلنا في إطار الدائرة الفكرية للطائفة الهندوسية كي نتعرف على وجهة نظر أهم أعلامها و أبرز رجالها في العصر الحديث في ما يتعلق بأهداف الرسالة الإسلامية و بمعطياتها الفكرية و علاقة ذلك بالنزعة الإنسانية و بمسألة احترام (الآخر) و نبذ العنف و إراقة الدماء، فيمكننا أن نقرأ الكثير عن تلك النقاط الهامة و كما قد وردت في كتابات العديد من المفكرين المعاصرين من أبناء الديانة الهندوسية.

و على سبيل المثال، فقد تحدث الصحافي والمفكر الهندي (ج.ن. راغهافان) في كتابه (تقديم الهند) عن الإسلام و عن الرسالة السماوية الإنسانية التي نزلت و حية على الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و يعتبر هذا المفكر الهندي المعاصر (ج.ن.راغهافان) واحدة من أبرز المفكرين الهنود في مجال البحث والدراسة والعناية بالتراث الروحي والفكري للهند.

و يكفي أن نقول إن السيد (راغهافان) قد شغل العديد من المناصب الفكرية في الهند و قد استقر به المقام أخيرة في رئاسة تحرير مجلة (قراءات من الهند) الصادرة من قبل المجلس الهندي للعلاقات الثقافية.

و يرى هذا المفكر الهندي أن الديانات الكبرى التي تحكم العالم كلها تمجد الله

ص: 162


1- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة: الدكتور عبد الرحمن بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1980، ص37.
2- العلامة خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، مؤسسة الوفاء. بيروت، 1983، ص98.

و تقدسه، و كلها أيضا تنادي بالمحبة والتسامح و رفض العنف و نبذ كل الصفات الذميمة التي تتنافى مع الفطرة الإنسانية السليمة المودعة في التركيبة النفسية للإنسان بشكل عام.

و يرى هذا المفكر الهندي أيضا أن الإسلام، کدی سماوي متكامل، يمتلك القدرة في ذاته على نشر الخير والفضيلة في صفوف معتنقيه، بل و له القدرة أيضا على جعل معتنقيه قادرين على التعايش بسلام مع معتنقي الديانات الأخرى حتى و لو لم تكن تلك الديانات ذات مصدر سماوي.

و يرى السيد (راغهافان) أن خير دليل على مصداقية هذه الفكرة هو اللجوء إلى الدراسات المقارنة التي تربط بين التصوف الإسلامي من جهة و بين التصوف الهندوسي بكافة طوائفه من جهة ثانية.

و من هنا يری (راغهافان) أن ظهور الحركات التوفيقية الهندوسي في الهند والتي تنادي بالتآخي والتقارب مع المسلمين و غيرهم ما هي إلا الدليل الواضح على أن الإسلام في جوهره الذاتي، والممثل خير تمثيل بالتيار الصوفي العملي، هو دين رحمة و محبة و فضيلة و سلام(1).

و إذا كانت هذه هي و جهة نظر المفكر الهندي البارز (ج.ن. راغهافان) بشأن إنسانية الإسلام، فإن وجهة نظر الزعيم الهندي الراحل (جواهر لال نهرو) ( J.NEHRU) (1889- 1964) لا تختلف كثيرا عن رأي المفكر (راغهافان) حول نفس النقطة المطروحة بشأن جوهر الرسالة الإسلامية التي تحترم إنسانية الإنسان أيا

ص: 163


1- ج.ن. راغهافان، تقديم الهند، تعريب: عبد الحق بن شجاعت علي، إصدار المجلس الهندي للعلاقات الثقافية. نيودلهي، ط 1982/3 / ص55. 59.

كان دينه أو مذهبه.

و من الجدير ذكره هو أن الزعيم (نهرو) قد شغل منصب رئاسة وزراء الهند( 1964-1947 )، و لذلك فهو يعتبر أحد أهم بناة الهند الحديثة، و لهذا الزعيم الراحل عدة مؤلفات هامة في التاريخ والسياسة والثقافة العامة.

و من جملة ما يقوله هذا المفكر الهندي العظيم في كتابه (لمحات من تاريخ العالم) و يؤكد عليه في العديد من الصفحات هو أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم قد رحل عن هذا العالم و ابتعد عنه جسميا و لكن تعاليمه السماوية السامية لم ترحل معه بل بقيت حية في صفوف أتباعه و محبيه الذين يتقدون غيرة و حماسة إلى نشر الفضيلة بين الناس(1).

إذن، فالفضيلة بكل معانيها و أبعادها هي الغاية الأسمى في رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم السماوية إلى أهل الأرض، و لا ريب في أن الديانة التي تجعل من نشر الفضيلة غايتها الأسمى، هي ديانة غاية في الإنسانية و في التسامح و في نبذ العنف والتفرقة بين الاخوة في الهوية الإنسانية.

و بما أننا في سياق الكلام عن الرؤية الهندوسية للإسلام كشريعة سماوية يعتنقها ملايين البشر في مشارق الأرض و مغاربها، فلا يجوز لنا أن نتجاوز أبرز رجل هندوسي و زعيم هندي العصر الحديث، إنه الزعيم الكبير (المهاتما غاندي) (GANDHI) ( م1948- 1869 )

و من المعروف عن هذا الزعيم الكبير هو أنه زعيم سياسي و روحي للهند، نادی

ص: 164


1- عبد الرزاق كيلو، النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم في عيون هؤلاء، جريدة الوحدة . اللاذقية بتاريخ .9 /2/ 2006

باللاعنف واتخذ المقاومة السلمية شعارا له، و عمل جاهدة على استقلال الأمة الهندية عن الاستعمار الإنكليزي و قد نجح في ذلك نجاحا رائعة لا يزال صداه يهز ضمائر الثائرين في كل أصقاع العالم.

و مهما حاولنا أن نختصر في الكلام عن مدى تأثير الرسالة الإسلامية و كتابها الأقدس، القرآن الكريم، على البنية الفكرية (للمهاتما غاندي)، فإننا نجد أنفسنا في حاجة دائمة لإلقاء المزيد من الأضواء على عمق التفاعل بين هذا الزعيم الهندوسي و بين رسالة الإسلام.

و لكن، اختصارا للوقت و منعا للإسهاب والإطالة، يمكننا أن نوجز الكلام بالقول إن هذا الزعيم الروحي والسياسي الهندي لم يكن يحترم ديانته الهندية الخاصة أكثر من بقية الأديان الأخرى بما في ذلك الديانة الإسلامية، و قد ذكر عالم الاجتماع الإنكليزي (لویس فیشر) في كتابه (غاندي الثائر القديس) أن (المهاتما غاندي): (لم يكن يؤمن أن ديانة البوذا هي وحدها كلمة الله، فهو لا يرى ما يمنع عقلا من أن يكون الإنجيل والتوراة والقرآن كلام الله كذلك... فهو بهذا بعيد عن التعصب الذميم الذي يمليه على أصحابه ضيق الأفق)(1).

و لذلك، فالإسلام- بالنسبة للزعيم (غاندي) - هو دين التعايش والسلام، دین الحب والانعتاق من الأنانية الآثمة، نعم، إنه - غاندي- يؤمن أن كل الأديان السماوية تدعو إلى ذلك و تحاول جاهدة نشر تلك المفاهيم النبيلة بين أتباعها، لكنه كان دائما يسعى إلى التقرب من المفكرين المسلمين بالدرجة الأولى بهدف إقامة أوثق

ص: 165


1- لويس فيشر، غاندي الثائر القديس، ترجمة: صوفي عبد الله، سلسلة كتاب الهلال، العدد 8، القاهرة، 1952، ص52.

العلاقات الفكرية معهم والاستزادة من علوم القرآن الكريم الذي قرأه (غاندي) في حياته مرات و مرات إلى أن بلغت درجة احترامه له أن وقف في اليوم الذي توفيت فيه زوجته (کاستور باي) على جثمان زوجته المسجى أمامه وراح يقرأ عليه آيات من الذكر الحكيم و بعض الأدعية من الكتب الأخرى(1).

أما عن موقف هذا الزعيم العظيم من شخصية الإمام الحسين علیه السلام، فحدث و لا حرج، غير أننا لن نفصح عن ذلك الموقف المميز للزعيم (غاندي) إلا في المكان المناسب في الصفحات القادمة من هذا الكتاب، و لكن يكفي أن نقول هنا إن الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة للزعيم الكبير (غاندي) كان دائما و أبدا رمز الحياة القرآنية الكريمة، و قدوة الأخلاق الإنسانية و قيمها، و مقياس الحق(2).

و هكذا نرى أن الإسلام السماوي الذي جاء به الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم إلى بني الإنسان ما هو في جوهره إلا رسالة أخوة و محبة و توحيد و سلام، فالرسالة الإسلامية لا تدعو في حقيقتها إلى العنف و لا إلى سفك الدماء بين بني البشر، و إنما هي رسالة نبيلة تدعو- كما لاحظنا في ما قاله المفسرون والأدباء المسيحيون والهندوس - إلى صقل إنسانية الإنسان وإلى نشر الخير والفضيلة بين أفراد الأسرة الآدمية على الأرض.

و هنا لنا أن نتساءل قائلين:

إذا كان الأمر هو حقا كما ذكرنا و كما ذكر و أكد عليه الأدباء والمفكرون المسيحيون و غيرهم، فمن أين جاءت، إذن، ظاهرة الإسلام الدموي العنيف؟!

ربما يبدو الجواب على هذا السؤال في الوهلة الأولى عسيرا بعض الشيء، و ربما

ص: 166


1- نفس المصدر السابق ص210.
2- عبد الله عدنان المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد (50)، إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، تموز . آب، 1993، ص44.

يرى البعض الآخر أيضا أن الجواب الشافي على هذا السؤال ليس صعبا فحسب بل إنه مستحيل تمام الاستحالة و لا يمكن الإجابة عليه بأي حال من الأحوال.

و لكن نقول إن هناك جماعة من المفكرين والباحثين المسلمين و غير المسلمين لهم وجهة نظر مختلفة عن وجهات النظر السابقة، و هم يؤكدون على حقيقة أن بإمكانهم أن يقدموا لنا المبررات الكافية والمسوغات المقنعة التي كان لها الدور الأبرز في جعلهم يتبنون وجهة نظرهم المختلفة هذه، بل هم يؤكدون أيضا على أن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل إنه يتجاوزه إلى حقيقة أخرى و هي أن الجواب على السؤال المطروح هو جواب سهل و في غاية البساطة، و بالتالي، ما على الذي يريد الوصول إلى الجواب المطلوب إلا أن يعمل عقله بشكل جيد و جدي، و أن يعود بذاكرته للوراء إلى اللحظات الأولى بعد وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى من أجل أن يعرف ماذا حدث بالتفصيل، و من أجل أن يدرك أيضا أن ما حدث بعيد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم قد ترك آثارا عميقة و دائمة في مجری تاريخ المسلمين و على امتداد تاریخ الرسالة إلى يومنا هذا.

إذن، دعونا الآن نمتطي صهوة الزمن و نعود وراء إلى اللحظات العصيبة الأولى التي تلت وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لنرى ماذا حدث و قتذاك و ماذا ترتب على ذلك من أمور و متغيرات كان لها الدور الأبرز في تغيير و تشويه أهم و أنبل المفاهيم الإسلامية التي جاء بها الرسول الكريم صلی الله عیه و آله و سلم و نادي بها القرآن الكريم.

و من الضروري أن نفكر هنا أن الكتاب الذي سنعتمد عليه بالدرجة الأولى لقراءة الأحداث التي أعقبت غياب الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم وانتقاله إلى الرفيق الأعلى هو كتاب (الإمامة والسياسة) والمعروف أيضا باسم کتاب تاریخ الخلفاء للإمام الفقيه أبي

ص: 167

محمد عبد الله بن مسلم قتيبة الدينوري (213-276 ه).

و لكن هذا لا يعني أننا سنقتصر في دراستنا لحادثة سقيفة بني ساعدة على كتاب (الإمامة والسياسة) فقط، بل سنعتمد أيضا على كتب و مراجع أخرى تناولت تلك . الحادثة بشيء من التفصيل والتوضيح.

و على كل حال، ها نحن ننقل ما ذكره (ابن قتيبة الدينوري) في كتابه (الإمامة والسياسة) حول حادثة السقيفة و ما جرى فيها من القول.

يقول (الدينوري) في الحديث مرفوعا إلى عبد الله بن عبد الرحمن الأنصاري أنه قال:

(إن النبي عليه الصلاة والسلام لما قبض، اجتمعت الأنصار رضي الله عنهم إلى سعد بن عبادة، فقالوا له: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد قبض، فقال سعد لابنه قیس رضي الله عنهما: إني لا أستطيع أن أسمع الناس کلاما لمرضي، و لكن تلق مني قولي فأسمعهم، فكان سعد يتكلم، و يحفظ ابنه رضي الله عنهما قوله، فيرفع صوته لكي يسمع قومه، فكان مما قال رضي الله عنه، بعد أن حمد الله تعالى و أثنى عليه: يا معشر الأنصار إن لكم سابقة في الدين و فضيلة في الإسلام ليست لقبيلة من العرب، إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لبث في قومه بضع عشرة سنة، يدعوهم إلى عبادة الرحمن، و خلع الأوثان.

فما آمن به من قومه إلا قليل، والله ما كانوا يقدرون أن يمنعوا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يعرفوا دينه، و لا يدفعوا عن أنفسهم، حتى أراد الله تعالى لكم الفضيلة و ساق إليكم الكرامة، و خصکم بالنعمة، و رزقكم الإيمان به و برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، والمنع له و لأصحابه، والإعزاز لدينه، والجهاد لأعدائه، فكنتم أشد الناس على من تخلف عنه منكم، و أثقله على عدوكم من غيركم، حتى استقاموا الأمر الله تعالى طوعا و كرها، و أعطى البعيد

ص: 168

المقادة صاغرا داحرا حتى أثخن الله تعالى لنبيه بكم الأرض، و دانت بأسيافكم له العرب، و توفاه الله تعالى و هو راض عنكم قرير العين، فشدوا أيديكم بهذا الأمر، فإنكم أحق الناس و أولاهم به.

فأجابوه جميعا: أن قد و فقت في الرأي و أصبت في القول، و لن نعدو ما رأيت توليتك هذا الأمر، فأنت مقنع و لصالح المؤمنين رضا، قال فأتي الخبر إلى أبي بكر رضي الله عنه، ففزع أشد الفزع، و قام معه عمر رضي الله عنهما، فخرجا مسرعين إلى سقيفة بني ساعدة، فلقيا أبا عبيدة بن الجراح رضي الله عنه فانطلقوا رضي الله عنهم جميعا، حتى دخلوا سقيفة بني ساعدة، و فيها رجال من الأشراف، و معهم سعد بن عبادة رضي الله عنه، فأراد عمر رضي الله عنه أن يبدأ بالكلام، و قال: خشيت أن يقصر أبو بكر رضي الله عنه عن بعض الكلام، فلما تيسر عمر للكلام، تجهز أبو بكر رضي الله عنه و قال له: على رسلك، فستكفي الكلام، فتشهد أبو بكر رضي الله عنه، وانتصب له الناس، فقال: إن الله جل ثناؤه بعث محمدا صلی الله علیه و آله و سلم بالهدى و دين الحق، فدعا إلى الإسلام، فأخذ الله تعالی بنواصينا و قلوبنا إلى ما دعا إليه، فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسلامة، والناس لنا فيه تبع، و نحن عشيرة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و نحن مع ذلك أوسط العرب أنسابة، ليست قبيلة من قبائل العرب إلا و لقريش فيها ولادة، و أنتم أيضا والله الذين آووا و نصروا، و أنتم و زراؤنا في الدين، ووزراء رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أنتم إخواننا في كتاب الله تعالی و شركاؤنا في دين الله عز وجل، و فيما كنا فيه من سراء و ضراء، والله ما كنا في خير قط إلا كنتم معنا فيه، فأنتم أحب الناس إلينا، و أكرمهم علينا، و أحق الناس بالرضا بقضاء الله تعالى، والتسليم لأمر الله عز وجل و لما ساق لكم و لإخوانكم المهاجرين رضي الله عنهم، و هم أحق الناس فلا تحسدوهم، و أنتم

ص: 169

المؤثرون على أنفسهم حين الخصاصة، والله ما زلتم مؤثرين إخوانكم من المهاجرين و أنتم أحق الناس ألا يكون هذا الأمر واختلافه على أيديكم و أبعد أن لا تحسدوا إخوانكم على خير ساقه الله تعالى إليهم، و إنما أدعوكم إلى أبي عبيدة أو عمر، و كلاهما قد رضيت لكم و لهذا الأمر، و كلاهما له أهل.

فقال عمر و أبو عبيدة رضي الله عنهما: ما ينبغي لأحد من الناس أن یکون فوقك يا أبا بكر، أنت صاحب الغار ثاني اثنين، وأمرك رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بالصلاة فأنت أحق الناس بهذا الأمر.

فقال الأنصار: والله ما نحسدكم على خير ساقه الله إليكم، و إنا لكما و صفت یا أبا بكر والحمد لله، و لا أحد من خلق الله تعالی أحب إلينا منكم، و لا أرضى عندنا و لا أيمن و لكنا نشفق مما بعد اليوم، و نحذر أن يغلب على هذا الأمر من ليس منا و لا منکم، فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا، على أنه إذا هلك اخترنا آخر من الأنصار فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين أبدا ما بقيت هذه الأمة، كان ذلك أجدر أن يعدل في أمة محمد وأن يكون بعضنا يتبع بعضا، فيشفق القرشي أن يزيغ فيقبض عليه الأنصاري، و يشفق أن يزيغ الأنصاري فيقبض عليه القرشي

فقام أبو بكر، فحمد الله تعالى و أثنى عليه، و قال: إن الله تعالى بعث محمدا صلی الله علیه و آله و سلم رسولا إلى خلقه و شهيدة على أمته ليعبدوا الله و يوحدوه و هم إذ ذاك يعبدون آلهة شتى، يزعمون أنها لهم شافعة، و عليهم بالغة نافعة، و إنما كانت حجارة منحوتة، و خشبا منجورة (أي صنعها النجار)، فاقرؤوا إن شئتم «إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ»(1)، «وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هَٰؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ

ص: 170


1- سورة الأنبياء: الآية98.

اللَّهِ ۚ»، و قالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَي اللَّهِ زُلْفي»(1)، فعظم على العرب أن يتركوا دين آبائهم، فخص الله تعالى المهاجرين الأولين رضي الله عنهم بتصديقه، والإيمان به، والمواساة له والصبر معه على الشدة من قومهم، و إذلالهم و تكذيبهم إياهم و كل الناس مخالف عليهم، زار (غائب) لهم، فلم يستوحشوا لقلة عددهم و إزراء الناس بهم واجتماع قومهم عليهم، فهم أول من عبد الله في الأرض، و أول من من بالله تعالى و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و هم أولياؤه و عشيرته، و أحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم، و أنتم يا معشر الأنصار من لا ينكر فضلهم و لا النعمة العظيمة لهم في الإسلام، رضيكم الله تعالى أنصارة لدينه و لرسوله، و جعل إليكم مهاجرته، فليس بعد المهاجرين الأولين أحد عندنا بمنزلتكم، فنحن الأمراء و أنتم الوزراء، لا نقتات (أي لا نستأثر) دونكم بمشورة، و لا تنقضي دونكم الأمور.

فقام الحباب بن المنذر بن زید بن حزام رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا عليكم أيديكم، فإنما الناس في فيئكم و ظلالکم، و لن يجير مجير على خلافکم، و لن يصدر الناس إلا عن رأيكم، أنتم أهل العز والثرو وأولو العدد والنجدة، و إنما ينظر الناس ما تصنعون، فلا تختلفوا، فيفسد عليكم رأيكم و تقطع أموركم، أنتم أهل الإيواء والنصرة، و إليكم كانت الهجرة، و لكم في السابقين الأولين مثل ما لهم، و أنتم أصحاب الدار والإيمان من قبلهم، والله ما عبدوا الله علانية إلا في بلادكم، و لا جمعت الصلاة إلا في مساجدكم، و لا دانت العرب للإسلام إلا بأسیافكم، فأنتم أعظم الناس نصيبا في هذا الأمر، و إن أبي القوم، فمنا أمير و منهم أمير.(2)

ص: 171


1- سورة يونس: الآية18.
2- سورة الزمر: الآية 3.

فقام عمر رضي الله عنه، فقال: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم، و لكن العرب لا ينبغي أن تولي هذا الأمر إلا من كانت النبوة فيهم، و أولو الأمر منهم، لنا بذلك على من خالفنا من العرب الحجة الظاهرة والسلطان المبين، من ينازعنا سلطان محمد و میراثه، و نحن أولياؤه و عشيرته، إلا مدل بباطل أو متجانب لإثم أو متورط في هلكة.

فقام الحباب بن منذر رضي الله عنه، فقال: يا معشر الأنصار، املكوا على أيكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه، فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر، فإن أبوا عليكم ما سألتم فاجلوهم عن بلادكم، و تولوا هذا الأمر عليهم، فأنتم والله أولى بهذا الأمر منهم، فإنه دان لهذا الأمر ما لم يكن يدين له بأسيافنا، أما والله إن شئتم لنعيدنها جذعة (أي خربة قوية)، والله لا يرد على أحد ما أقول إلا حطمت أنفه بالسيف.

قال عمر بن الخطاب: فلما كان الحباب هو الذي يجيبني، لم يكن لي معه كلام لأنه كان بيني و بينه منازعة في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ، فنهاني عنه، فحلفت أن لا أكلمه كلمة تسؤوه أبدا.

ثم قام أبو عبيدة، فقال: يا معشر الأنصار، أنتم أول من نصر و آوی، فلا تكونوا أول من يبدل و يغير.

و إن بشيرة (بشیر بن سعد) لما رأى ما اتفق عليه قومه من تأمير سعد بن عبادة، قام حسدا لسعد، و كان بشیر من سادات الخزرج، فقال: يا معشرالأنصار، أما والله لئن كنا أولي الفضيلة في جهاد المشركين، والسابقة في الدين، ما أردنا إن شاء الله غير رضا ربنا، و طاعة نبينا، والكرم لأنفسنا، و ما ينبغي أن نستطيل بذلك على الناس، و لا نبتغي به عوضا من الدنيا فإن الله تعالى ولي النعمة والمنة علينا بذلك.

ص: 172

ثم إن محمدا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم رجل من قریش، و قومه أحق بميراثه، و تولي سلطانه، و أيم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر أبدا فاتقوا الله و لا تنازعوهم و لا تخالفوهم.

ثم إن أبا بكر قام على الأنصار، فحمد الله تعالى و أثنى عليه، ثم دعاهم إلى الجماعة، و نهاهم عن الفرقة، و قال: إني ناصح لكم في أحد هذين الرجلين: أبي عبيدة بن الجراح، أو عمر، فبايعوا من شئتم منهما، فقال عمر: معاذ الله أن يكون ذلك و أنت بين أظهرنا، أنت أحقنا بهذا الأمر، و أقدمنا صحبة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و أفضل منا في المال، و أنت أفضل المهاجرين و ثاني اثنين، و خليفته على الصلاة، والصلاة أفضل أركان دين الإسلام، فمن ذا ينبغي أن يتقدمك، و يتولى هذا الأمر عليك؟ ابسط يدك أبايعك.

فلما ذهبا یبایعانه سبقهما إليه بشير الأنصاري فبايعه، فناداه الحباب بن المنذر: یا بشیر بن سعد، عقك عقاق (أي مخالفتك لنا أمر صعب و مر)، ما اضطرك إلى ما صنعت؟ حسدك ابن عمك على الإمارة؟

قال: لا والله، و لكني كرهت أن أنازع قوما حقأ لهم، فلما رأت الأوس ما صنع بشیر بن سعد و هو من سادات الخزرج، و ما دعوا إليه المهاجرين من قريش، و ما تطلب الخزرج من تأمير سعد بن عبادة، و قال بعضهم لبعض و فيهم أسيد بن حضير: لئن وليتموها سعدة عليكم مرة واحدة، لا زالت لهم بذلك عليكم الفضيلة، و لا جعلوا لكم نصيبا فيها أبدا، فقوموا فبايعوا أبا بكر رضي الله عنه، فقاموا إليه فبايعوه، فقام الحباب بن المنذر إلى سيفه، فأخذه، فبادروا إليه فأخذوا سيفه منه، فجعل يضرب بثوبه وجوههم حتى فرغوا من البيعة، فقال: فعلتموها یا معشر الأنصار، أما والله لكأني

ص: 173

بأبنائكم على أبواب أبنائهم، قد و قفوا يسألونهم بأكفهم و لا يسقون الماء.

قال أبو بكر: أما تخاف یا حباب؟

قال: ليس منك أخاف، و لكن ممن يجيء بعدك، قال أبو بكر: فإذا كان ذلك كذلك، فالأمر إليك و إلى أصحابك، ليس لنا عليكم طاعة، قال الحباب: هيهات يا أبا بكر، إذا ذهبت أنا و أنت، جاءنا بعدك من يسومنا الضيم.

فقال سعد بن عبادة: أما والله لو أن لي ما أقدر به على النهوض، لسمعتم مني في أقطارها زئيرا يخرجك أنت و أصحابك، و لأ لحقتك بقوم كنت فيهم تابعة غير متبوع، خاملا غير عزیز، فبايعه الناس جميعا، حتى كادوا يطئوون سعدا.

قال سعد: قتلتموني، فقيل: اقتلوه، قتله الله، فقال سعد: احملوني من هذا المكان، فحملوه فأدخلوه داره و ترك أياما، ثم بعث إليه أبو بكر (رضی الله عنه): أن اقبل فبايع، فقد بايع الناس، و بایع قومك، فقال: أما والله حتى أرميكم بكل سهم في كنانتي من نبل، وأخضب منكم سناني و رمحي، و أضربكم بسيفي ما ملكته يدي، و أقاتلكم بمن معي من أهلي و عشيرتي، و لا والله لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي، و أعلم حسابي)(1).

هذا ما أورده حرفيا الإمام الفقيه أبو محمد عبد الله بن مسلم (ابن قتيبة الدينوري) في كتابه المعروف (الإمامة والسياسة) حول مسألة البيعة المزعومة في سقيفة بني ساعدة والتي تخللها الكثير من المشاحنات و حتى الاشتباكات بين مختلف الأطراف والأحزاب.

و هنا تحديدا، و قبل أن نكمل ما جاء في نفس الكتاب، و في غيره من الكتب

ص: 174


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي و شركاه، القاهرة، د.ت ج1 ص 17.

المعتبرة، حول تداعيات تلك البيعة الشوهاء المشؤومة، نجد أن من حقنا و من حق كل قارئ أن يطرح عدة أسئلة هامة على ضوء ما ورد في أحداث تلك البيعة التي ذكرناها منذ قليل.

و لعل أولى هذه الأسئلة التي طرحت نفسها بقوة على عقول الكثير من المفکرین والباحثين هي:

لماذا فزع أبو بكر و عمر أشد الفزع- كما يقول الدينوري - عندما بلغهما أن معظم الناس قد بايعوا سعد بن عبادة عن قناعة و رضا قائلين له بعد خطبته القصيرة: أن قد و فقت في الرأي، و أصبت في القول، و لن نعدو ما رأيت توليت هذا الأمر، فأنت مقنع و لصالح المؤمنين رضا؟!

والسؤال الثاني الذي يطرح نفسه و بقوة: من أين حصل أبو بكر على الحق الذي يخوله ترشيح أبي عبيدة ابن الجراح و عمر بن الخطاب على أن يكون أحدهما خليفة على المسلمين؟! و بأي حق حضر الترشيح بين هاتين الشخصيتين فقط؟!

أما السؤال الثالث، والذي لا يقل أهمية عن الأسئلة السابقة، فهو: لو افترضنا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم يوص بالخلافة لأحد من بعده و لم يستخلف أحدا من أتباعه على المسلمين، فلماذا، إذن، رفض أبو بكر و عمر العرض المنطقي الذي تقدم به الأنصار قائلين: فلو جعلتم اليوم رجلا منا و رجلا منكم بايعنا و رضينا على أنه إذا هلك اخترنا واحدة من الأنصار فإذا هلك اخترنا آخر من المهاجرين؟!

و ليس هذا فحسب، بل لماذا كان جواب أبو بكر على هذا الاقتراح: نحن الأمراء و أنتم الوزراء؟!

و علينا أن لا يغيب عن أذهاننا أنه لما قام الحباب بن المنذر قائلا: منا أمير و منكم

ص: 175

أمير، رفض عمر بن الخطاب هذا العرض بكل قوة و عنف قائلا: هيهات لا يجتمع سيفان في غمد واحد، إنه والله لا يرضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم.

فمن أين جاء عمر بن الخطاب بهذه الفتوى العجيبة؟! و أين موقع هذا الكلام من حديث المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم المشهور: لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى؟!

و لو تركنا ما قاله ابن الخطاب جانبا، و توقفنا قليلا مع ما قاله أبو بكر مخاطبا الأنصار بقوله لهم: فهم- أي المهاجرين- أول من عبد الله في الأرض، و أول من آمن بالله تعالى و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و هم أولياؤه و عشيرته، و أحق الناس بالأمر من بعده لا ينازعهم فيه إلا ظالم.

فلو فكر كل باحث في هذا الكلام الذي قاله أبو بكر للأنصار، و باحتجاجه عليهم بقوله إن الخلافة هي حق للمهاجرين لأنهم هم أولياؤه و عشيرته، و بالتالي فهم أحق الناس بهذا الأمر من بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم لا ينازعهم فيه إلا ظالم.

فلو فكر أي باحث في هذا الكلام قليلا، و من ثم سأل أبا بكر قائلا:

كيف فضلت المهاجرين على الأنصار، و كيف قبلت أن يكون المهاجرون هم أولياء رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم و عشيرته والأقرب إليه، والأحق بأمر الخلافة من غيرهم، و لم تقبل أن يكون أهل بيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم الحقيقيون، و على رأسهم الإمام علي عليه السلام ، هم أولياء الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و عشيرته المقربة، و هم الأحق بهذا الأمر العظيم حيث، بالفعل، لا ينازعهم أحد فيه إلا ظالم؟!

و يمكن لذلك الباحث السائل أن يقف و يسأل أبا بكر مجددا، و بكل جرأة و ثبات: ثم ما قولك يا أبا بكر في حديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم- الذي ذكرته لاحقا كتب السنة -

ص: 176

والذي يقول فيه: «من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان»(1)؟!

وآخر ما يمكن أن يسأله أي باحث عن الحقيقة: ما هذه الخلافة التي يدعي البعض أنها انعقدت بين المسلمين بطريقة الشورى في حين أن كبار الصحابة الأجلاء و كل أهل بيت النبي علیهم السلام الذين هم فعلا أهله و قرابته و عشيرته كانوا خارج دائرة الشورى و مغيبين عنها عمدا؟!

فما أصدق القائل مخاطبا أبا بكر:

فإن كنت بالشوری ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غیب؟!

و إن كنت بالقربی حججت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي و أقرب !!

و مهما يكن من أمر، دعونا نعود ثانية إلى كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري كي نتعرف على موقف سيدنا أمير المؤمنين علي علیه السلام من تلك البيعة الرخيصة التي حدثت في سقيفة بني ساعدة والتي دارت رحاها على المسلمين عموما منذ ذلك اليوم و حتى يومنا هذا.

و لكن، و قبل أن نكمل الكلام عن موقف الإمام علي عليه السلام من تلك البيعة الغريبة الشوهاء، نرى ضرورة لفت انتباه القارئ الكريم إلى أن الكاتب الإسلامي (ابن قرناس) يرى في كتابه المطبوع حديثا في ألمانيا، والذي يحمل عنوان براقا، (سنة

ص: 177


1- أ. الحافظ زين الدين المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مكتبة الزهراء . القاهرة، 1985، ص150. ب. الحافظ ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام، المكتبة الإسلامية . طهران، 1394ه، و قد أورد ابن المغازلي نص الحديث عن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بالشكل التالي: «من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، و قد حارب الله و رسوله، و من شك في علي فهو كافر» راجع الصفحة 46 من الكتاب المذكور.

الأولين)، يرى هذا الكاتب المشهور بعدائه لأهل البيت علیهم السلام، و لكل أتباعهم، أن أبا بکر و عمر بن الخطاب قد زورا الكلام على الناس عند بيعة السقيفة، حتى أن عمر بن الخطاب نفسه- كما يقول (ابن قرناس) - قد أضمر في نفسه تزوير الكلام من أجل أن يجعل الناس يقبلون بيعة أبي بكر و يعتبرونها شرعية، غير أن أبا بكر استطاع أن ينفذ إلى أعماق عمر، و قال كل ما كان قد أضمره عمر في نفسه من تزوير(1).

أما موقف الإمام علي عليه السلام من تلك البيعة، فهو- كما ذكره الدينوري - بقوله: (ثم إن علي كرم الله وجهه أتي به إلى أبي بكر و هو يقول: «أنا عبد الله و أخو رسوله»، فقيل له: بايع أبا بكر، فقال: «أنا أحق بهذا الأمر منكم، لا أبايعكم و أنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبي صلی الله علیه السلام، و تأخذونه منا أهل البيت غصبا، ألستم زعمتم للأنصار أنكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد منكم، فأعطوكم المقادة، و سلموا إليكم الإمارة؟

و أنا أحتج عليكم بمثل ما احتججتم به على الأنصار، نحن أولى برسول الله حيا و ميتا، فأنصفونا إن كنتم تؤمنون و إلا فبوؤوا بالظلم و أنتم تعلمون». .

فقال له عمر: إنك لست متروكا حتى تبایع، فقال له علي: «أحلب حلبا لك شطره، واشدد له اليوم أمره يردده عليك غدا»، (أي افعل فعلا يكون لك منه نصيب، فأنت تبایعه اليوم ليبايعك هو غدا)... فقال أبو عبيدة بن الجراح لعلي كرم الله وجهه: یا بن عم إنك حديث السن و هؤلاء مشيخة قومك، ليس لك مثل تجربتهم، و معرفتهم بالأمور، و لا أری أبا بكر إلا أقوى على هذا الأمر منك، و أشد احتمالا و اضطلاعا به، فسلم لأبي بكر هذا الأمر، فإنك إن تعش و يطل بك بقاء، فأنت لهذا الأمر خلیق و به

ص: 178


1- ابن قرناس، سنة الأولين، طبع دار الجمل . ألمانيا، ط2006/1 ص637.

حقیق، في فضلك و دينك، و علمك و فهمك، و سابقتك و نسبك و صهرك.

فقال علي كرم الله وجهه: «الله، الله يا معشر المهاجرين، لا تخرجوا سلطان محمد في العرب عن داره و قعر بيته إلى دورکم و قعور بيوتكم، و لا تدفعوا أهله عن مقامه في الناس و حقه، فوالله يا معشر المهاجرين، لنحن أحق الناس به لأنا أهل البيت و نحن أحق بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب الله، الفقيه في دين الله، العالم بسنن رسول الله، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بینهم بالسوية، و الله إنه لفينا، فلا تتبعوا الهوى فتضلوا عن سبيل الله، فتزدادوا من الحق بعدا».

فقال بشير بن سعد الأنصاري: لو كان هذا الكلام سمعته الأنصار منك يا علي قبل بيعتها لأبي بكر ما اختلف عليك اثنان.

قال: و خرج علي كرم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على دابة ليلا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل و لو أن زوجك وابن عمك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به، فيقول علي کرم الله وجهه:

«أفكنت أدع رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في بيته لم أدفنه، و أخرج أنازع الناس سلطانه؟»، فقالت فاطمة: «ما صنع أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له، و لقد صنعوا ما الله حسيبهم و طالبهم»(1).

هذا بالتمام والكمال ما أورده ابن قتيبة الدينوري عن مأساة سقيفة بني ساعدة و ما دار فيها من مجالات و من تحالفات و اتفاقات تصب جميعها في مجرى التيار المناهض لأهل البيت عليهم السلام و لحق أمير المؤمنين علي عليه السلام بالخلافة والولاية.

ص: 179


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مصدر سابق، ج1 ص19.

و على الرغم من أن (الدينوري) قد أغفل - عن عمد أو عن غير عمد- العديد من الجالات الكلامية بين مختلف الأطراف، و بشكل خاص بعض العبارات التي قالها الإمام علي علیه السلام في معرض احتجاجاته على أولئك الذين نازعوه حقه في الخلافة و سلبوه إياه تحت ذرائع شتی و حجج واهية متنوعة، إلا أننا يمكننا اعتبار ما جاء في كتابه (الإمامة والسياسة) هو الأقرب للحقيقة مما جاء في العديد من الكتب الأخرى التي حاولت إخفاء حتى أبسط الحقائق مما أدى بها إلى الوقوع في تناقضات مذهلة واختلافات غريبة لا تدل في جوهرها إلا على شيء واحد، و هو الرغبة الدفينة في إخفاء الحقيقة بأي شكل كان و مهما كانت النتائج.

و هنا، على وجه التحديد، يجدر بنا التوقف عند تلك البيعة التي جاء وصفها لاحقا على لسان الخليفة الثاني بأنها كانت (فلتة من فلتات الجاهلية) حتى نرى ما هي أبعادها السياسية وتداعياتها الاجتماعية والدينية كما يراها أصحاب الفكر والأدب في العصر الحديث، و حتى نرى أيضا أثر هذه الحادثة المؤسفة جدا على المقدمات المبدئية التي قادت جماعة من القتلة المرتزقين إلى ارتكاب مجزرة كربلاء الرهيبة والتي لم يكن القصد من ارتكابها التخلص من أهل البيت عليهم السلام فحسب، بل كان الهدف الأساسي أيضا اغتيال القرآن الكريم و تصفية الإسلام ذاته معتمدين في ذلك على الإرث الدموي العنيف الذي بدأ أول ما بدأ فعليا لحظة انتقال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم إلى الملأ الأعلى، و من ثم القيام بعملية التفاف من قبل بعض كبار الصحابة على مبدأ الاستخلاف والولاية، والتمويه على المسلمين بأن ما فعلوه هو التطبيق العملي المبدأ الشورى في الإسلام، و هذا بالضبط ما يراه الكثير من المفكرين والمستشرقين في كتاباتهم عن تاريخ المسلمين.

ص: 180

و مهما يكن من أمر، دعونا الآن نستعرض آراء و وجهات نظر بعض المفكرين في الشرق، والمستشرقين في الغرب كي نرى و نتعرف على الآثار السلبية التي خلفتها و راءها حادثة السقيفة التي فات عليها ما يقارب أربعة عشر قرنا من الزمان و لا نزال نعاني من تداعياتها حتى عصرنا الحاضر.

و دعونا نبدأ أولا مع الأديب والمفكر اللبناني (سلیمان کتاني)، ذلك المفكر المسيحي الذي نذر قلمه و فكره لكشف اللثام عن الكثير من القضايا التاريخية العربية والإسلامية التي تهم كل فرد عربي غيور على سلامة تاريخه و نقاوة ماضيه و أصالته.

يرى هذا المفكر الباحث عن الحقائق أن مسألة استخلاف علي عليه السلام على المسلمين هي مسألة بديهية تماما لا ينكرها إلا جاهل أو متعصب، أما المسألة الأخرى التي لا يمكن لأي شخص أن ينكرها أيضا هي مسألة تمثيل مسرحية مدبرة أطلت بفصولها البغيضة من سقيفة بني ساعدة متحدية بذلك كل وصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و أوامره.

و ها هو الأستاذ (كتاني) يحلل الحدث الجلل قائلا: (إن الاجتماع الذي حصل في السقيفة- و جثمان النبي لا يزال فاترا- كان أكبر دليل على اليقظة السريعة للميول المكبوتة المجمدة تحت ضغط الهالة القدسية التي كانت تشع من جبين المسجی الصامت الذي كان على قيد الحياة منذ ساعة، لقد وجدت تلك الميول- في هذه اللحظة التاريخية الواجمة - متنفسا لها فعبرت عن روح قبلية جاهلية لم تتمكن حتى الرسالة من و أدها)(1).

ص: 181


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد (مجموعة محمد شاطئ و سحاب)، دار المرتضى بيوت 1990 ص574.

و لهذا كان يرى الأستاذ (كتاني)، و هو المفكر المتعمق في دراسة التاريخ الإسلامي، أن الحوار الذي قام بعد موت النبي لم يكن حوارا حقيقية و لم تكن له أية علاقة بمبدأ الشورى التي يتستر بها البعض، فالمجتمعون في السقيفة لم يستدرجوا المجتمع إلى أي حوار، بل لم يستدرجوا حتى أولي الأمر منهم، لقد تحاوروا فيما بينهم و لم يستدعوا الطرف الآخر أبدا من أجل استكمال ما عقدوا الأمر على مناقشته.

و هنا يتساءل الأستاذ (كتاني) قائلا:

ثم إن المجتمعين- أي شيء دعاهم إلى الاجتماع؟ هل هو استلام الحكم أم هو الحرص منهم على الرسالة-عن طريق استلام الحكم؟

فإن يكن الأول، فلقد توصلوا إلى الغاية، و لا لزوم إلى حوار... و إن يكن الثاني - كما هو الادعاء- فلماذا الخوف من استدعاء رجل (أي علي عليه السلام) سلمه زمام الرسالة من برأ الرسالة؟(1)

و بسبب حجم مأساة هذه الحادثة التي لا يزال المسلمون، حتى يومنا هذا، يعانون الكثير من آثارها و مخلفاتها، فقد احتلت العديد من الصفحات في مؤلفات الأستاذ (كتاني) الفكرية، و يكفي أن نقول، من خلال قراءتنا المتأنية لكتابه المعروف(الإمام الحسن عليه السلام الكوثر المهدور)، أنه اعتبر أن ما حدث في سقيفة بني ساعدة عبارة عن عملية تعيين مباشر و ليست عملية مبايعة فعلية و شرعية، و باختصار شديد، لقد كانت تلك البيعة- هذا إذا جاز لنا أن نسميها بيعة- خاتمة شؤوم لبيعات لاحقة قائمة على القهر والغدر و على هدر الدماء(2).

ص: 182


1- نفس المصدر السابق ص578.
2- سليمان كتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور (مجموعة محمد)، دار المرتضى . بیروت، 1990، ص684.

و بطبيعة الحال، فإنه لا يمكننا أن نستفيض في شرح موقف الأستاذ المفکر (سليمان الكتاني) بشأن مأساة السقيفة و ذلك لسبب بسيط و هو أنه ما من كتاب كتبه الأستاذ (كتاني) عن الإسلام إلا و تناول فيه و قائع تلك الحادثة المؤسفة و أبعادها المختلفة بنفس الأسلوب و بنفس الموقف، و لذلك ليس هناك من ضرورة لتكرار و جهات نظره المتماثلة والواردة في كل مؤلفاته.

و لذلك، دعونا الآن أيها الأحبة، نتعرف على موقف رجل آخر من رجال الفكر والمعرفة، دعونا نتعرف على موقف الأديب والمفكر المسيحي (أنطون بارا) الذي سبق و أن عرفنا به، و بمؤلفاته، و بمكانته الفكرية في فصل سابق من هذا الكتاب.

فمن أهم النقاط الحساسة التي يمكن أن نذكرها هنا هي تلك النقطة التي يركز عليها الأستاذ (بارا) في بداية حديثه عن البيعة الناقصة في سقيفة بني ساعدة، و يمكننا أن نوجز الكلام عن تلك النقطة بالقول إن الأستاذ (بارا) يرى أن ما حدث في فاجعة کربلاء هو الثمرة الطبيعية لما حدث في يوم السقيفة.

فما فعله یزید بن معاوية بالإمام الحسين عليه السلام لم يمكن في حقيقته إلا المرأة العاكسة لما فعله (الخلفاء) الأوائل بالإمام علي أمير المؤمنين عليه السلام، فيزيد (لع) لم يفعل كل ما فعله إلا اقتداء بسياسة الآباء والأجداد و ما فعلوه مع أهل بيت النبوة علیهم السلام(1)

و قد أضاف الأستاذ (بارا) على ذلك قائلا: (و قد جاءت وفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم لتكشف عن استمرارية تمکن روح القبلية بين المسلمين، إذ لم تمضي ساعات على وفاة الرسول الأعظم، حتى بدأت المداولات هنا و هناك بمعزل عن جموع أمة الإسلام

ص: 183


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص197

العريضة... و كان عامل الذهول الذي أصاب المسلمين بوفاة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، قد جعلهم يتناسون عهد النبي إلى علي بن أبي طالب عليه السلام) (1)

و على الرغم من أن المفكر المسيحي المصري الدكتور (نظمي لوقا) كان رأيا خجولا حول أحداث السقيفة و حول المآسي الكثيرة التي نتجت عنها، إلا أن ذلك الخجل الواضح في الرأي الصريح لم يمنعه من التأكيد على أن بيعة أبي بكر لم تكن في حقيقتها سوى (فلتة) من فلتات الجاهلية .- كما عبر عنها عمر- و لم يمنعه ذلك أيضا من اعتبار تلك البيعة حدثا جسيما و يوما عاصفة في تاريخ الإسلام(2).

إذن، فإن رأي الدكتور (نظمي لوقا) هو حقا رأي خجول قياسا برأي الأديب والمفكر (أنطون بارا)، و لكن، و بالرغم من ذلك كله، فإنه لم يجد حرجا في شرح مقولة أبي بكر المعروفة، والتي قالها بعد استلامه مقاليد الخلافة: (... ألا و إن لي شیطان يعتريني ! فإذا أتاني فاجتنبوني)، فقد علق الدكتور (لوقا) عليها قائلا:

(و ما من شك في أن التعبير بهذا اليسر الشديد عن حدة الطبع بأنها شيطان يعتريه يدلنا على أمرين: أنها حد معهودة فيه لا يستغرب عارفوه أمرها، فهي عندهم مفروغ منها، و أنها شديدة شدة بالغة لها تأويلا أو تشبيها إلا مس الشيطان، ذلك أنها تتجاوز كل حد)(3).

و هنا يمكن أن تتبادر إلى الذهن مجموعة من الأسئلة الملكة التي تبحث عن أجوبة شافية كافية، و من هذه الأسئلة الملحة قولنا:

ص: 184


1- نفس المصدر السابق ص197.
2- د. نظمي لوقا، أبو بكر (سلسلة كتاب الهلال)، العدد 242، دار الهلال . القاهرة، عدد مارس (آذار)، 1971، ص154.
3- نفس المصدر السابق ص48.

(كيف يمكن لمن لديه (شیطان) يعتريه و يسيطر عليه بين الحين والآخر أن يكون هو حقا خليفة الرسول الكريم صصلی الله علیه و آله و سلم الذي وصفه خالقه في محكم تنزيله بأنه على خلق عظیم

ثم كيف يمكن لأي عقل سليم أن يقبل فكرة أن كل المسلمين قد قبلوا ذاك الذي فيه حدة طبع، لدرجة تشبيهها بمس من الشيطان، و تفضيلهم إياه على ذاك الإمام الذي هو أحد الأقطاب الهامة في الآية القرآنية الكريمة التي تؤكد على أنه عليه السلام أحد الذين أذهب الله عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا؟!

إنها أسئلة طبيعية و منطقية يمكن أن تقتحم أذهان الكثير من أولئك الذين يريدون أن يقرأوا ماضيهم و يتفهموه بروح موضوعية و حيادية، بل و أن يتعرفوا أيضا على شيء من الأسباب المباشرة للمأساة التي يعيشها الإسلام المعاصر بعد أن تم تفريغه من محتواه الروحي و تشويه رسالته الإنسانية بعد أعوام قليلة من ولادته.

و على كل حال، فإن هناك الكثير من المفكرين المعاصرين يعتقدون أن مسألة تحول الإسلام من إسلام الرسالة الإنسانية والكلمة الطيبة إلى إسلام الدماء المسفوحة والكرامة المهدورة قد بدأت فعليا يوم السقيفة، و ما تلك الحوادث الدمائية المفجعة التي شهدتها الساحة الإسلامية لا حقا إلا الثمرة الطبيعية الناضجة للغرسة الأولى التي غرسها بعض (الصحابة) في تربة السقيفة إثر وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بساعات قليلة.

و هنا يمكننا الوقوف مع واحد من أبرز الكتاب الإسلاميين المعاصرين في مصر، إنه المفكر الإسلامي المصري (خليل عبد الکریم) صاحب المؤلفات الإسلامية المتعددة والتي حاول من خلالها أن يقيم الأحداث الإسلامية الأولى التي قام بها الصحابة، لكنه لم يفلح في تقييمه لها حيث كان من المفترض لذلك التقييم أن يكون

ص: 185

منطقيا و موضوعيا تماما، لا أن يكون التقييم تقييما استثنائية يجعل من بعض الصحابة أشخاص فوق مستوى التقييم و فوق كل الاعتبارات والموازین.

و لكن، و بالرغم من كل ذلك كله، يرى الأستاذ (عبد الكريم) أن سياسة قتل المعارضين بالسيف والنار التي نراها على الساحة الإسلامية في عصرنا الحاضر إنما هي سياسة تعود في أصولها و جذورها إلى سنة عمر ابن الخطاب، تلك السنة التي لا يزال يدفع المسلمون ضريبتها منذ ذلك الوقت و حتى اليوم(1).

و لم يكتف الأستاذ (عبد الكريم) بذکر تجاوزات عمر بن الخطاب للأحكام القرآنية و للسنة النبوية بشأن التكفير والقتل و تعطيل بعض الحدود في كتابه (قریش من القبيلة إلى الدولة المركزية)، بل إنه عاد و ذكر العديد من تلك التجاوزات الخطيرة في أماكن عديدة في كتابه الأكثر شهرة (شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة)، حتى أنه تطرق في الجزء الثاني من هذا الكتاب إلى حادثة السقيفة و إلى حقيقة أن عمر بن الخطاب لجأ في حواره مع المعارضة إلى أسلوب القمع والإرهاب بدلا من الحوار والإقناع لدرجة أنه أمر بتصفية سعد بن عبادة جسديا حيث قال صائحا: (اقتلوا سعدا قتل الله سعد)(2)، و هو أسلوب ترفضه شريعة محمد صلی الله علیه و آله و سلم جملة و تفصيلا.

والحق يقال: فإن رأي المفكر الإسلامي المعاصر (أحمد عباس صالح)، و هو أيضا مفكر ستي، لا يختلف كثيرا عن موقف الأستاذ المفكر (خليل عبد الكريم) من حيث تقييم واقعة السقيفة و تداعياتها الاجتماعية والسياسية على أمة المسلمين.

ص: 186


1- خليل عبد الكريم، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، سينا للنشر . القاهرة، 1993، ص10.
2- خليل عبد الكريم، شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة السفر الثاني)، سينا للنشر . القاهرة، ط1/ 1997، ص85.

يرى الأستاذ (صالح) في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام) أن الإمام عليا علیه السلام هو، في الحقيقة، صورة النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم الصادقة التي تعكس جميع فضائله الحميدة و كل خصاله الجليلة، و هو الرأس الأساسي الذي يمثل اليسار الثوري في الإسلام بعد الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و يؤكد الأستاذ (صالح) أيضا على أن الإمام عليا عليه السلام و صحبه كانوا إلى جوار النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يبكونه و يعدون العدة لدفنه بالطريقة اللائقة به، في حين اندفع عمر بأبي بكر- و جثة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم تبرد بعد - إلى السقيفة ليبتوا في مسألة من سيخلف الرسول صلی الله علیه و آله و سلم(1)

و لا يرى الأستاذ (صالح) أي حرج في القول إن حزب اليمين من المسلمين، ذلك الحزب الذي يضم الأرستقراطيين، و أصحاب الجاه المادي، و ذوي النزعات الاستغلالية، و أهل المآرب الشخصية والمصالح الخاصة كانوا من مؤيدي بيعة أبي بكر التي دفعه إليها صاحبه عمر بن الخطاب، بينما كانت غالبية المسلمين مع الاتجاه اليساري الذي يمثله علي و أصحابه، وأضاف الأستاذ (صالح) معللا ذلك بقوله: (إن جماهير المسلمين العريضة كانت مع هذا الاتجاه (أي مع علي عليه السلام) لأن النبي نفسه كان زعيمه و واضع مبادئه الأساسية، و أي اتجاه مضاد كان سيقابل بالعنف، و كان سيقضي عليه في المهد.

و لذلك جاءت خلافة أبي بكر فرصة ليستجمع فيها اليمين قواه و يرتب للوثوب على الحكم بعد أن قضى النبي الذي لم يجرؤ أحد في حياته أن ينحرف بالدعوة إلى اتجاه غير اتجاهها)(2).

ص: 187


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت، ط2/ 1973، ص58.
2- نفس المصدر السابق ص59.

و غني عن الاستفاضة في الشرح والتوضيح، إن معنی کلام الأستاذ (صالح) هو أن الطريقة التي جاء بها أبو بكر إلى الحكم هي الطريقة التي مهدت للآخرين شبل الالتفاف والانقضاض على الإسلام الذي نادى به النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آزره عليه علي علیه السلام .

و يمكننا القول إن أوضح و أقوى عبارة قالها الأستاذ (صالح) حول هذه المسألة هو أن اليمين لم يكن هو الوحيد الذي يخشى اليسار الذي يمثله الإمام علي عليه السلام الخليفة الحقيقي للرسول ، بل إن عمر و أبا بكر (جماعة الوسط) أيضا كانوا يخافون من الإمام علي علیه السلام، الممثل الفعلي للتعاليم التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و لذلك (حين حضرت الوفاة أبا بكر الصديق كان أهم ما حرص عليه هو أن تتم البيعة لعمر بن الخطاب، و كانت و صايته للجميع بذلك)(1) بهدف منع الإمام علي عليه السلام من استلام زمام الخلافة و عدم السماح له بتطبيق ما أراد محمد صلی الله علیه و آله و سلم القيام به بين المسلمين.

و أنا شخصيا أعتبر أن كل ما قاله أولئك المفكرون الذين أسلفنا ذكرهم حول مأساة السقيفة مجرد قبس من نور الحقيقة قياسا بما قاله المفكر المصري الكبير (عبد الفتاح عبد المقصود)، ذلك المفكر المبدع الذي رفض أن يكتفي بأخذ مجرد قبس بسيط من وهج الحقيقة، بل أراد أن يأخذ الحقيقة كلها كما هي في بطون كتب التاريخ والسير، نعم، لقد أراد الأستاذ (عبد المقصود) أن يقدم الحقيقة للقارئ بكل أبعادها و تبعاتها، بكل حلاوتها و مرارتها، و لكن ليس بأسلوب تاریخی جامد لا يعرف المرونة، بل بأسلوب حيوي مثير، و هو أقرب للأدب منه للتاريخ و إن كان التاريخ هو مادته الأساسية والجوهرية.

ص: 188


1- نفس المصدر السابق ص60.

و يكفي أن نقول إن كتاب الأستاذ (عبد الفتاح عبد المقصود)، و هو كتابه الأكثر شهرة بين جميع مؤلفاته، والذي يحمل عنوان (الإمام علي بن أبي طالب)، يعد مفخرة فكرية حقيقية لذلك المؤلف السني الكبير.

و غني عن الإسهاب في القول إن ذلك الكاتب المتميز قد وضع خلاصة فكره عن حقيقة أهل البيت علیهم السلام في ذلك الكتاب المذكور والذي يتكون من تسعة أجزاء غاية في الترابط والتكامل، و لا يكاد القارئ يمسك بالجزء الأول و يبدأ بقراءته حتى يشعر برغبة عارمة تدفعه ما لقراءة بقية الأجزاء جزءا تلو الآخر دون الشعور بالتعب أو الملل.

و لا ريب في أن مسألة السقيفة قد شغلت حيزا لا بأس به من الكتاب المذكور، و قد حاول (عبد المقصود) أن يكون منطقيا و موضوعية قدر الإمكان في حديثه عن تلك الواقعة الأليمة.

و نستطيع القول أنه كان مقبولا جدا في موضوعيته و في كيفية عرضه و تقييمه لتلك الحادثة و للأحداث المأساوية الأخرى التي جاءت لاحقا بمثابة النتائج الطبيعية لها.

و مما يلفت النظر حقا، هو أن الأستاذ (عبد المقصود) قد أعطى الصديقة البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام دورا عظيما في مسألة الدفاع عن مبدأ الخلافة أو الإمامة التي أرادها الله و رسوله لأمير المؤمنين علي عليه السلام دون غيره من بقية الأصحاب.

و بالنسبة لمن يعرف السيدة الزهراء فاطمة علیهاالسلام جيدا، لن يكون مستغربا من الوصف الذي صورها به الأستاذ (عبد المقصود) و هي تدافع عن وصية أبيها المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و عن حق زوجها المرتضى عليه السلام، و بالفعل، فقد أجاد الأستاذ (عبد

ص: 189

المقصود) عندما أتى على وصف جزء من شخصيتها الكاملة المتكاملة بقوله في الجزء الأول من كتابه واصفا إياها علیهاالسلام و هي تدافع عن كلمة الحق الجريحة بعد أحداث السقيفة: (لعبت فاطمة دورها و هي شديدة الإيمان بأنه لزام عليها أن تفعل، و أن تدعو، و أن تكافح غير وانية، و وقفت إلى جوار زوجها المظلوم تنضح عنه باللسان و ليس لها عدة سواه... فكأنها بفعلها ارتدت (خديجة أخرى)، لا يقعدها خذلان القوم زوجها عن الكفاح، بل راحت ترسم نفسها بلون الماضي لتبدو صورة بارزة الظلال والأضواء، واضحة المعالم، نابضة بالحياة، عاشت فيها الأم في الفتاة)(1).

نعم، إن هذا الكلام صحيح كله بلا أدنی ریب، بل يمكننا القول إنه عين الحقيقة، ففاطمة الزهراء علیهاالسلام هي حقا خديجة الكبرى (علیها سلام الله) قلبا و قولا، فكرا و عملا، بل كيف لا تكون فاطمة صورة عن أمها خديجة عليهالسلام إذا كانت هي ذاتها علیهاالسلام صورة عن أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم؟!

فعندما تكون فاطمة علیهاالسلام هی- كما وصفها أبوها صلی الله علیه و آله و سلم- (أم أبيها)، فكيف لا تعيش الأم في جوهر الفتاة أيضا؟!

و على كل حال، إن موقف السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام من أحداث السقيفة التي قادت لاحقا إلى حدوث الكثير من التجاوزات والاعتداءات السافرة على نصوص القرآن الكريم، و إلى حدوث الكثير من الاقتتالات والمجازر بين المسلمين، و لعل أشهرها و أكثرها عنفا و دموية مجزرة كربلاء التي تم فيها اقتلاع ريحانة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم

ص: 190


1- عبد الفتاح عبد المقصود ، الإمام علي بن أبي طالب، مكتبة العرفان . بیروت، د.ت ج1 ص181.

و إلقائه عطشانة و مرملا بدمائه الطاهرة فوق رمال كربلاء، إن موقفها علیهاالسلام من أحداث السقيفة، و معرفتها اليقينية بما ستؤول إليه الأحوال بعد أن نكث الكثير من المسلمين ببيعتهم لزوجها علي عليه السلام ، لهو موقف يستحق التوقف عنده طويلا، و لكن لن نقوم الآن بذلك لأن ذلك سيجعلنا - بلا ريب - في موقف الخروج عن جوهر کتابنا الأساسي المتمحور حول أحداث کربلاء و تداعياتها على المستويين الإسلامي والإنساني.

و لكن ذلك لا يمنعنا من القول إن الأستاذ (عبد المقصود) لم يخف وجهة نظره الخاصة عن القارئ عندما اعتبر أن ما حدث في السقيفة هو عبارة عن حركة سياسية انتهازية أخجلت كل المسلمين الذين تجاهلوا بيعة علي عليه السلام و حقيقة مكانته في سفر الرسالة الإسلامية إلى جانب ابن عمه الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد أبرز الأستاذ (عبد المقصود) هذه الحقائق عندما ذكر الحوار الهام جدة الذي دار بين السيدة فاطمة الزهراء علیهاالسلام و بين المسلمين الذين أسفوا و أبدوا ندمهم على ما كان منهم من تفريط واضح بحق الإمام علي عليه السلام.

فعندما سألتهم عليهاالسلام عن تفريطهم بحق الإمام الوصي علیه السلام، كانوا يجيبونها خافضي الرؤوس، کاسفين:

(يا بنت رسول الله ... قد مضت بيعتنا للرجل).

و تجيبهم هي مستنكرة فعلتهم و تناسيهم لحقه في الولاية:

«أفتدعون تراث رسول الله يخرج من داره إلى غير داره؟!»

فلا يجدون لهذا الاستنكار ردا سوى الأسف على ما سلف منهم، والاعتذار عنه: (يا بنت رسول الله ... لو أن زوجك سبق إلينا قبل أبي بكر لما عدلنا به).

فيقول علي عليه السلام:

ص: 191

«أفكنت أدع رسول الله في بيته لم أدفنه، ثم أخرج أنازع الناس سلطانه؟!».

و هنا تحديدا، يعلق الأستاذ (عبد المقصود) على هذا الحوار و على ما قاله الإمام علي عليه السلام بقوله:

و لكنها (أي مقولة علي عليه السلام السابقة) حجة لا تغني في حساب السياسة النهازة (الانتهازية) العادية و إن أغنت في حساب الأخلاق القويمة الصافية....

و إن فاطمة لتعبر عن هذا في أوجز بیان فتجيب القوم و هي تنهض عنهم نافضة يدها من تأييدهم المأمول:

«ما صنع والله أبو الحسن إلا ما كان ينبغي له... و قد صنعوا ما الله حسيبهم عليه»(1).

إذن، ما حدث في السقيفة ما هو في حقيقته- كما عبر عنه الأستاذ (عبد المقصود)- إلا عملية سياسية انتهازية جائرة لا يمكن للإمام علي عليه السلام أن يهبط إلى مستوى من خطط لها و نفذها و جني ثمارها ضاربا بمصلحة المسلمين و بوصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم عرض الحائط.

أما ما يتعلق باغتيال سعد بن عبادة، فقد سخر الأستاذ (عبد المقصود) من أولئك البسطاء الذين يصدقون إشاعة أن الجن قد قتلته ليلا، بل رجح الأستاذ (عبد المقصود) فكرة أن الذي قتل سعد بن عبادة، المعارض البارز لخلافة أبي بكر، هو خالد بن الوليد.

و كانت حجة الأستاذ (عبد المقصود) على ذلك هي عدم القدرة، بالفعل، على تبرئة خالد بن الوليد من أعمال كهذه، و ذلك لأن تاريخه الأسود السابق يشهد عليه

ص: 192


1- نفس المصدر السابق ج1 ص182.

بذلك، و بأنه (لم يكن بالنقي الصفحة كل النقاء من العدوان)(1)، مع الأخذ بعين الاعتبار أيضا أن خالدة كانت له أهدافه الخاصة، و كان من المقربين من أبي بكر في الوقت الذي كان فيه معادية لكل من يأبی مبايعته خليفة على المسلمين.

و لا يمكنني هنا أن أتجاهل أو أتجاوز ما جاء في كتاب (تاريخ الإسلام) للدكتور (حسن إبراهيم حسن) بشأن تلك البيعة السقيمة والتي حاول الدكتور (حسن) أن يدافع عنها و يبرر حدوثها بشتى السبل والوسائل المنطقية و غير المنطقية.

و على الرغم من دفاعه المستميت عن تلك البيعة الباطلة، إلا أنه لم يجد بدا من الاعتراف بعدم كمالها و نضوجها، و هذا ما يعني عدم صحتها، و ذلك عندما قال صاغرة: (و تسمى بيعة السقيفة بالبيعة الخاصة لأنه لم يبايعها إلا نفر قليل من المسلمين هم الذين حضروا السقيفة)(2).

و هذا ما يؤكد كذب زعم أولئك النفر من الكتاب والمؤلفين الذين يزعمون أن كل المسلمين قد أجمعوا وقتها على بيعة أبي بكر خليفة عليهم قبل أن ينفض المجلس، و أن أمرهم كان شوری بینهم جميعا.

فقد تم تفريغ مبدأ الشورى من محتواه الأساسي تماما، و حولوه إلى لعبة سياسية، و إلى واجهة عريضة تخفي وراءها الكثير من المصالح الخاصة والمنافع الشخصية المتبادلة.

و لعل الباحث والصحافي (نبيل فياض) هو واحد من أكثر الباحثين جرأة و إقدامة على طرح مسألة السقيفة و على ما خلفته من آثار سلبية كثيرة على عموم الأمة

ص: 193


1- نفس المصدر السابق ج1 ص153.
2- د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية، ط 7/ 1964 ، ج1 ص205.

الإسلامية.

و يكفي أن نقول إن الأستاذ (فياض) يعتبر أن سقوط العرب والمسلمين من التاريخ، بل خروجهم الخالي منه، إنما هو النتيجة الحتمية لما حدث بداية في السقيفة من صراع واقتتالي، ذلك الاقتتال الذي انتهى بتنصيب أبي بكر زعيما على جثة سعد بن عبادة و على اغتيال حقوق أهل البيت عليهم السلام، هذا بالإضافة إلى المحاولة الجادة من قبل عمر و أبي بكر و خالد بن الوليد لأخذ البيعة من الإمام علي علیه السلام بالقوة والترهيب و لو أدى الأمر إلى قتله و قتل زوجته فاطمة الزهراء علیه السلام و إحراق البيت على من فيه(1).

فالممارسات الخاطئة والمؤسفة التي قام بها كبار الصحابة، والتي ذكر الأستاذ (فياض) معظمها في كتابه (یوم انحدر الجمل من السقيفة)، هي حقا المفتاح المناسب لعملية إخراجنا الراهن من التاريخ والعيش على هامشه روحيا و فكريا.

فما معنى أن تصدر الأوامر بإحراق بيت النبوة على من فيه؟!

أليست تلك محاولة جدية لإطفاء نور الله؟!

أليس هذا العمل المؤلم، بالإضافة إلى بقية الأعمال والتجاوزات الأخرى الواضحة التي قام بها الصحابة الأوائل و من حذا حذوهم لاحقا ممن تسموا بالخلفاء، هي أحد أهم المبررات الرئيسية التي اتخذها یزید بن معاوية (لعنت الله به) درعا و ستارا له في عملية إبادة أهل بيت النبوة والتخلص منهم نهائيا و على رأسهم سبط رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و ريحانته، وأحد سيدي شباب أهل الجنة، سيد الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام؟!

ألا يحق للقارئ أو للباحث الحيادي، و بشكل خاص من غير المسلمين، أن يرى في شخص یزید بن معاوية (لعنت الله به) التلميذ النجيب الذي تتلمذ فكرة و ممارسة على أيدي

ص: 194


1- نبيل فياض، يوم انحدر الجمل من السقيفة، منشورات، EXACT ليماسول، ص34.

من سبقه من (أولي الأمر) من المسلمين؟

ألا يحق لكل ذي بصيرة أن يرى في ما قام به یزید اللعين بحق الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء هو الامتداد الطبيعي لما قام به الأوائل في مأساة السقيفة؟!

و على كل حال، فإن إدراك حجم الكارثة التي لحقت بالإسلام والمسلمين من جراء ما حدث في السقيفة ليس حكرا على الباحثين والمفكرين المسلمين، بل إن ذلك الإدراك قد تعداهم إلى غيرهم من المسيحيين أيضا في الشرق والغرب.

و على سبيل المثال، لا الحصر، يرى المفكر اللبناني المسيحي (نصري سلهب) في كتابه (في خطي علي) أن المسلمين قد دفعوا، و لا يزالون يدفعون ثمن خطئهم نتيجة انحرافهم عن وصايا رسولهم صلی الله علیه و آله و سلم بشأن ولاية الإمام علي علیه السلام عليهم.

واعتبر الأستاذ (سلهب) أن ما قام به الشيخان في السقيفة خطأ عظيم و جسيم، و إن ما قاما به سوية ما هو إلا عصيان واضح لأ وامر الرسول الكريم صصلی الله علیه و آله و سلم الذي لم يحترما وصيته في حياته و لا بعد مماته(1).

و بما أن كتاب ذلك المفكر المسيحي عن الإمام علي عليه السلام و سيرة حياته، فمن الطبيعي أن لا يذكر الأحداث الدامية والفجائع المريرة التي حدثت بعده، و لا سيما ما حدث لابنه الإمام الحسين علي علىه السلام رمال كربلاء، و لكن الأستاذ (سلهب) تحدث عن مأساة أخرى لا تقل أهمية- بنظره - عن بقية الكوارث التي جاءت لاحقا بعد رحيل الإمام علي علیه السلام.

فالحادثة التي رأى فيها الأستاذ (سلهب) الاستمرار المدروس لما و قع في السقيفة، والتي نراها نحن فاجعة حقيقية لا تقل مكانة وأهمية عن ما حدث في كربلاء،

ص: 195


1- نصري سلهب، في خطى علي عليه السلام ، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1973، ص92.

هي تلك المحاولة الجادة من قبل بعض صحابة الرسول صلی الله علیه وآله و سلم لإحراق بيت النبوة، بيت علي و فاطمة والحسن والحسين علیهم السلام، و إجبار الإمام علي عليه السلام على التنازل عن حقه و مبايعة أبي بكر خليفة على المسلمين.

و قد أكد الأستاذ (سلهب) على ذلك بقوله: (ولقد بلغ بهما- أي بعمرو و أبي بكر-الخطأ حدا جعلهما يلجآن إلى العنف والتهديد ليحملا عليا على مبايعة أبي بكر، و لقد اقتحم عمر، برفقة بعض أنصاره، منزل ربيب الرسول و هدده بالقتل و بحرق المنزل، إن هو لم يبايع)(1).

و هذا، من حق الأستاذ (سلهب) أن يتساءل هو و غيره من الباحثين والمفكرين بل و حتى من القراء أيضا:

أليس الشروع في إحراق بيت الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بمن فيه من آله علیهم السلام، الذين وصفهم الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الكريم بأنهم مطهرون من كل رجس، بمثابة و بمكانة الشروع بقتل الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء؟!

أليست النية الدفينة والمميتة لإحراق البيت الشريف الذي يضم عليا و فاطمة والحسنين عليهماالسلام، أولئك الذين باهل الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بهم أهل نجران، أو كاد أن يباهل بهم، أليست النية لإحراقهم تعادل نية يزيد اللعين في اجتثاث جذور ریحانة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم وإطفاء نور الله؟!

من حقنا، و من حق الجميع أيضا، أن يتساءلوا و أن يجيبوا على تلك الأسئلة بالطريقة التي يرونها منطقية و موضوعية و بعيدة عن روح العصبية والمذهبية.

و لا ريب في أن كل من سيجيب على هذه الأسئلة و على غيرها من

ص: 196


1- نفس المصدر السابق ص100.

التساؤلات والاستفسارات بالطريقة المنطقية والموضوعية المطلوبة، سيجد نفسه، و بشكل تلقائي، يقف في صف الإمام علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين علیه لسلام، ذلك الصف الذي يمثل دائما و أبدا صرخة المظلوم الثائر في وجه الظالم، و صوت الحق الهادر في الضمير النائم.

و بهذا، يكون التشيع، كما يقول عنه الأديب والمفكر المسيحي (جورج جرداق)، هو (موئل يلوذ به كل مضطهد و محروم، و ينضوي تحت لوائه كل ثائر في سبيل الحق المهدور)(1).

و غني عن القول إن رأي الأستاذ (نصري سلهب) والأستاذ (جورج جرداق) هما رأيان و مثالان من عشرات الأمثلة لآراء و وجهات نظر الأدباء والمفكرين المسيحيين الذين أدركوا بعقولهم المنفتحة المستنيرة، مثلما أدرك الكثير من المستنيرين السنة أيضا، أن يوم السقيفة هو اليوم الذي غرست فيه شجيرة الفتنة لتتحول بعد ذلك إلى شجرة كبيرة تمد أغصانها و فروعها الأخطبوطية في كل مكان و لتحمل، لاحقا، عن جدارة بذرة مخيفة كان قد تنبأ بمستقبلها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، سابقة قبل رحيله، إنها الشجرة الأموية التي ستلقي بظلالها الكثيفة الخانقة على نفوس المسلمين.

و بطبيعة الحال، لا يمكننا أن نغفل موقف الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) من السقيفة و أهوالها، إنه اجتماع السقيفة الذي أثار کوامن النفوس و أظهرها على حقيقتها، و أظهر موقعها الحقيقي من الإيمان بوصايا محمد، الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

ص: 197


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج5 ص186.

و ها هو يعطينا وجهة نظره تجاه تلك المأساة المؤسفة، والتي أدت لاحقا إلى حدوث سلسلة متوالية من المآسي الأخرى، و على رأسها مأساة الإمام الحسين عليه السلام و أهل بيته الكرام البررة على شاطئ الفرات الحزين.

فلنستمع إليه، إذن، و هو يقول:

و توالت تحت السقيفة أحداث *** أثارت کوامنا و ميولا

وانجلت عن ضياع حق ولي *** کان إلا عن حزنه مشغولا

و توالت مبایعات ثلاث *** طمست نور حقه المأمولا

أول الناس رتبة و ولاء *** كان أحرى بالطيبات الأولى(1)

هذه هي، باختصار شديد، وجهة نظر الأديب الشاعر (بولس سلامة) تجاه أحداث السقيفة، تلك السقيفة التي أثارت- كما يقول الأستاذ (سلامة) - الكوامن والميول الخفية، والتي تعود بجذورها إلى عصر الجاهلية، فكشفتها على حقيقتها و أخرجتها من تحت الرماد جمرات متقدة تحرق صحائف الحاضر و آمال المستقبل.

و ليس هذا الرأي هو رأي الأديب المسيحي (بولس سلامة) فقط، بل هو رأي الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين أيضا.

فالمفكر السياسي والأديب (عبد المسيح الإنطاكي) أدلى بدلوه أيضا في مسألة الكارثة، بل الكوارث، التي حلت بالمسلمين نتيجة مخالفة وصايا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تجاوزها کليا والوصول معها إلى ضرب عرض الحائط بها و ذلك من خلال اجتماع الشورى المزعوم يوم السقيفة المشؤوم.

و يمكننا أن نوجز موقف الأديب (الإنطاكي) بشأن تلك المسألة من خلال

ص: 198


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص118.

الاستشهاد المباشر بقوله الواضح والصريح في كتابه (ملحمة الإمام علي علیه السلام):

(وظل الناس يلغطون ببيعة أبي بكر و ينتقدونها سرا و جهرة حتى اضطر عمر أن يصعد المنبر في مسجد المدينة و يقول: (فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بکر کانت قلتله، فلقد كانت كذلك و لكن الله وقی شترها)، و كان قد سبق له أن قال على إثر بيعة أبي بكر (إن بيعة أبي بکر کانت فلتة وقي الله شرها فمن عاد إلى مثلها قاتلوه)، و ذاع هذا القول عنه و تداوله الناس و في قوله هذا كفاية لقوم ينصفون)(1)

و هنا، نرى من الحق لكل واحد منا أن يعلق على قول عمر بن الخطاب متسائلا:

إذا كان أبو بكر هو الخليفة حقا، فمن الذي أعطاك الحق في أن تسن شريعة القتل لكل من يكرر تلك البيعة (الفلتة)؟!

و إذا كنت -والسؤال موجه إلى (الخليفة) الثاني - مصمما على قولك (فمن عاد الى مثلها قاتلوه)، فما قولك بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، والذي تتداوله كتب السنة، والذي يقول ان فيه عن كل من تسول له نفسه أن يغتصب الخلافة من الإمام علي علیه السلام:

«من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، و قد حارب الله و رسوله، و من شك في علي فهو كافر»؟!(2)

و قوله صل الله علیه و آله و سلم أيضا: «من قاتل عليا على الخلافة فاقتلوه كائنا من كان»؟!(3)

و من هنا تبرز القيمة الحقيقية للسؤال الذي يمكن أن يطرحه صاحب كل عقل

ص: 199


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام، مصدر سابق ص239.
2- الحافظ الخطيب ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام، مصدر سابق ص46.
3- الحافظ الفقيه زين الدين المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مصدر سابق ص150.

منفتح على شمس الحقيقة:

إذا كان الأمر كذلك، و بناء على ما قاله الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و أوصى به في الحديئين السابقين، فمن هو، إذن، الذي يجب أن يعيد حساباته بشأن قتل من يكرر عمل تلك (القلتة)؟!

إن هذا السؤال، كما أعتقد أنا شخصيا، يمكن أن يقرع أبواب فكر الكثير من الباحثين والمثقفين المسلمين و غير المسلمين في محاولة جادة للوقوف على الجواب الشافي والذي يبدو بالفعل ليس بالأمر الغامض أو العسير.

و على كل حال، و كما عودنا قراءنا الكرام في كتبنا السابقة، فإننا لن نتفوه بجوابنا الخاص على السؤال السابق المطروح، بل سنترك الجواب حقا محفوظة و مصونا لكل قارئ و باحث، غير أن كل ما يمكن أن نقوله الآن بهذا الصدد هو قول الفيلسوف العظيم (أفلوطين): (من يملك القدرة على رؤية الحقيقة فإنه لا يتجه إلى ظلها أبدا).

و لو تركنا الآن جانبا كل ما قاله المفكرون والباحثون المسيحيون في الشرق عن تداعيات بيعة السقيفة و كيف أنها قادت، لاحقا، المسلمين إلى الدخول في متاهات الصراع الدموي والنزاع الأيديولوجي القائم عند بعض الأطراف، و هي في الغالب الأطراف السلطوية، على تحقيق هويتها الفكرية و مآربها النفعية من خلال التخلص من كل الخصوم عن طريق اللجوء العلني إلى سياسة سفك الدماء و كم الأفواه و شراء بعض الضمائر الضعيفة، فلو تركنا هذا جانبا واتجهنا إلى الغرب، إلى العالم المعروف باسم الاستشراق، لنرى و نتعرف على بعض وجهات النظر الغربية الاستشراقية، فماذا يمكننا أن نقرأ عن محور بحثنا الآن؟

في الواقع، يمكننا أن نقرأ الكثير من الأشياء، و لكن ضيق المساحة المخصصة

ص: 200

لهذه المسألة لا يسمح لنا بالمضي قدما في عملية إيراد كل ما قيل من قبل كل المستشرقين عن تلك النقطة الحساسة والتي يعتبرها الكثيرون أنها النقطة التي حرفت رسالة المسلمين مئة و ثمانين درجة عن اتجاهها الصحيح الذي كان يريده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم

و على سبيل المثال، تحدث المستشرق الدكتور (دوایت رونلدسن)، و هو مستشرق يحمل شهادة دكتوراه في اللاهوت و شهادة دكتوراه أخرى في الفلسفة، و قد زار الكثير من البلدان الإسلامية و على رأسها العراق و إيران حتى أنه بقي في إيران ما يقارب ست عشرة سنة درس فيها العديد من الأديان والمذاهب والعادات والتقاليد، إذن، فقد تحدث هذا المستشرق عن أحداث إسلامية على غاية من الأهمية والخطورة، و كان من جملة ما تحدث عنه (رونلدسن) قضية استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء.

و مبادئ أهل البيت عليهم السلام و علاقتهم الروحية بجوهر الرسالة الإسلامية، و تحدث أيضا عن مساوئ الحكام الأمويين الذين اتخذوا من الدين سلعة و ستارا لإخفاء عدائهم الباطني لمحمد و لأهل بيته الكرام علیهم السلام من جهة، و لإشباع ميولهم و شهواتهم و تحقيق مطامعهم الدونية والدنيوية من جهة أخرى.

و لكن ما يهمنا في هذا الفصل هو حديثه عن مسألة السقيفة و آثارها العميقة الممتدة على طول التاريخ الإسلامي التي تلاها.

یری (رونلدسن) أن مسألة السقيفة والنزاع الدموي الذي حدث فيها يعود إلى أسباب سابقة تتزامن مع اللحظات الأخيرة من حياة الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم .

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم أوصى، في أكثر من مناسبة، بالخلافة من بعده الإمام علي

ص: 201

علیه السلام، و لكن كل تلك الوصايا كانت عبارة عن وصایا شفهية يمكن أن ينساها الناس بعد فترة من الزمان، أو حتى يمكن أن ينكروها و أن يتلاعبوا بمضمونها بحيث يحرفوه عن معناه الأصلي، و لذلك كان لابد من تتويج تلك الوصايا أو البيعات الشفهية ببيعة كتابية لا يمكن لأحد أن يتلاعب بها أو أن يتنكر لها، و من هنا جاءت إرادة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بتدوين تلك الوصية قبيل رحيله بلحظات قليلة.

و من هنا، فإن استشهاد المستشرق (رونلدسن) بما جاء في صحيح مسلم و صحيح البخاري لم يأت عن عبث، خاصة و أن المسألة تتعلق بإرادة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم حول تدوین وصيته الأخيرة التي لن يضل المسلمون من بعدها أبدا.

أما نص الحديث الهام الذي نقله (رونلدسن) عن صحیحي مسلم والبخاري فهو أن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم لما دنت وفاته كان عنده في البيت عدة رجال بينهم عمر بن الخطاب، فقال النبي صلی الله علیه و آله و سلم: «اِیْتُونی بِدَواةٍ وَ صَحیفَة اَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ اَبَدًا»، فقال عمر: (إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، و حسبنا کتاب الله )(1).

و بعد أن يورد (رونلدسن) هذا الحديث المعبر صراحة عن رغبة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في أن يكتب وصيته الأخيرة و هو على فراش الموت، و هي الوصية التي لن تجعل المسلمين بعدها يقتتلون أو يضلون أبدا، و بعد أن يورد أيضا رد عمر بن الخطاب على رغبة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بمعارضته الواضحة لكتابة تلك الوصية التي لن يضل المسلمون لو تمسكوا بها، بل و بالإيحاء لمن هم حوله بأن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد بدأ يهذي بالفعل لأن الوجع قد غلبه، و بالتالي فليس هناك أدنى ضرورة أو حتى

ص: 202


1- دوايت رونلدسن، عقيدة الشيعة، ترجمة: عبد المطلب الأمين، مؤسسة المفيد . بیروت، ط 1990/1 ، ص28.

أهمية للاستجابة لرغبة الرسول في الأخيرة، إذن، فبعد إيراد (رونلدسن) هذين الحديثين، الحديث الأول رغبة الرسول بكتابة الوصية، والحديث الثاني معارضة عمر بن الخطاب لإرادة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم واتهامه بالهذيان، يمكن لكل قارئ لبيب أن يلاحظ بفطنته أن (رونلدسن) يتوقف عند حديث ثالث لايقل في دلالته أهمية عن الحديثين السابقين و إن كان لم يعمد إلى شرحه و توضيحه بالشكل المطلوب.

و على كل حال، فإن نص الحديث الثالث الذي أورده المستشرق (رونلدسن) هو قوله:

و روى عبد الله أن ابن عباس كان يقول: (إن الرزية كل الرزية ما حال بین رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم)(1).

و غني عن الإسهاب في القول إن ابن عباس لم يكن ليقول: (إن الرزية كل الرزية...) إلا بعد أن عايش بالفعل الكثير من المآسي والمصائب التي عصفت بالمسلمين و قتذاك نتيجة لمنع عمر بن الخطاب و جماعته الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم من كتابة وصيته الأخيرة والتي كان من المفترض لها، لو أنهم أخذوا بها واحترموها، أن تجعل منهم، بالفعل، خير أمة أخرجت للناس.

و لا يغيب عن ذهننا هنا موقف المستشرق الفرنسي المعاصر (یان ریشار) من الأحداث الجسام التي قادت المسلمين إلى أنهار الدم بعد التجاوزات الواضحة التي لم يتم من خلالها احترام وصايا الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فالمستشرق (ريشار) تحدث بشكل مطول و على اتساع صفحات كثيرة عن مأساة أهل البيت، و على رأسهم الإمام الحسين عليه السلام ، في واقعة كربلاء و ما لاقوه من آلام

ص: 203


1- نفس المصدر السابق ص29.

الغربة والوحدة والجوع والعطش و لظى الصيف و ظلم السيف.

نعم، لقد تحدث الأستاذ (ریشار) عن كل ذلك، و عن غير ذلك أيضا، في كتابه الذي يحمل عنوان (الإسلام الشيعي)، و لكنه قبل أن يتحدث عن تلك المأساة الخالدة و عن غيرها من المآسي التي تعرض لها المسلمون المؤمنون عموما، و أهل البيت علیهم السلام خصوصا، نلاحظ أن الأستاذ (ریشار) لم يغفل عن ذكر البيعات المشبوهة و لم يغفل أيضا عن التلميح الواضح إلى مسألة التآمر على الإمام علي عليه السلام و إبعاده عن الخلافة التي هي - كما يقول (ریشار)- من حقه واستحقاقاته باعتباره هو الخليفة المعين أساسا من النبي صلی الله علیه و آله و سلم(1).

و لا يختلف رأي المستشرق (یان ریشار) كثيرا عن رأي المستشرقين المعاصرين (دومينيك و جانين سوردیل) بشأن المآسي المروعة التي نشبت بين المسلمین نتيجة إقصاء الإمام علي عليه السلام عن حقه المشروع في خلافة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم

و قبل كل شيء، يرى هذان المستشرقان أن استيلاء أبي بكر على منصب الخلافة إنما هو استيلاء غير مبرر، بل إن استيلاء على مقاليد الحكم جاء نتيجة مجادلات و مناقشات مطولة و مكائد و مناورات أدانها التقليد الديني اللاحق.(2)

و يعزو هذان المستشرقان أيضا أهم أسباب الشقاق بين المسلمين في ذلك العصر إلى إبعاد الإمام علي عليه السلام عن حقه(3)

و هنا علينا أن نعرف أيضا أن الأستاذ الباحث (ریمون بلوخ) الذي عرض على

ص: 204


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص35
2- دومينيك و جانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة: حسني زينه دار الحقيقة . بيروت، ط1980/1 ، ص31.
3- نفس المصدر السابق ص32.

المستشرقين (سوردیل) كتابة كتاب شامل عن الإسلام في العصر الوسيط، والذي هو أيضا وضع المقدمة المناسبة لذلك الكتاب الذي حمل عنوان (الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي)، كان له رأي حاسم و صريح بشأن المؤامرات التي حيكت وراء أستار السقيفة والتي كانت تحمل في أحشائها بذور الانشقاق والارتداد، و لذلك، فإن الأستاذ (بلوخ) يقول، حرفيا، في المقدمة التي وضعها للكتاب المذكور سابقا إن (أوائل الفتوحات و تنافس الصحابة بعد وفاة محمد، تبدو لي مرسومة بعمق و وضح نادرين)(1).

و بالفعل، فإن صاحب كل بصيرة خبيرة سيدرك على الفور أن كل شيء كان مدبرا و محاكا جيدا منذ البداية، و ما على الممثلين إلا أن يتقنوا لعب أدوارهم على مسرح السقيفة كي يوهموا المشاهدين البسطاء أن يد القدر هي التي تتصرف بحكمة منها كي تحفظ وحدة المسلمين، وكي تحفظ المسلمين أنفسهم أيضا من أي (فلتة) ثانية يمكن أن تحدث لاحقا في صفوفهم التي تصدعت و حدتها بشكل فعلي منذ المشهد الأول من مسرحية البيعة في سقيفة بني ساعدة.

و على ما يبدو، فإن المستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) صاحب کتاب (سطوع نجم الشيعة)، الذي تحدث مطولا عن موقعة كربلاء بالاعتماد على النظر إليها من زوايا فكرية متنوعة، كان له وجهة نظر خاصة تنم عن مقدرته في دراسة الأحداث و تحليلها و من ثم الخروج بنتائج محددة و واضحة تستطيع أن تقنع القارئ أن ما حدث في كربلاء للإمام الحسين عليه السلام و من كان معه من الأهل والأصحاب في ظل حكومة يزيد بن معاوية، و أن ما حدث لعموم المسلمين في ظل بقية الحكومات

ص: 205


1- نفس المصدر السابق، راجع المقدمة بقلم ريمون بلوخ ص7.

الأموية المتلاحقة، و من بعدها الحكومات العباسية أيضا، هو شيء طبيعي تماما قياسا بالتجاوزات الخطيرة والقاتلة التي حدثت في عهد الخلافة (الراشدة).

فالمستشرق (کونسلمان) تحدث عن الإمام الحسين عليه السلام و عن مبادئه و أخلاقه، و عن الأهداف النبيلة التي خرج من أجلها إلى كربلاء، و لكنه بنفس الوقت أيضأ، استفاض في الحديث عن الانقسام الأول الذي عصف بالمسلمين بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و يمكننا أن نلاحظ في العديد من صفحات کتابه (سطوع نجم الشيعة) أن هذا المستشرق يلقي باللائمة، بطريقة أو بأخرى، على رجال السقيفة و أبطالها بطريقة تجعل القارئ اللبيب يتساءل بينه و بين نفسه قائلا:

كيف يلقي الكثير من المسلمين باللوم على معاوية فقط عند خروجه عن طاعة الإمام علي عليه السلام و محاولته الجدية انتزاع الخلافة منه بالقوة، و لا يلوم أولئك المسلمون أيضا من سن لمعاوية ستة الخروج على صاحب الحق و لو كان في ذلك مخالفة صريحة لوصية رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟!

و لماذا يلوم المسلمون عموما معاوية على عدم اعتماده مبدأ الشورى في تولية الخليفة من بعده -هذا إذا اعتبرناه خليفة أساسا-مما دفعه إلى تسليم ابنه يزيد مقاليد الحكم، و لا يلوم المسلمون أبا بكر الذي سلم مقاليد الحكم لصاحبه عمر بن الخطاب دون أن يعمد فعليا إلى عقد مجلس شورى يضم أهل الحل والعقد؟!

فلماذا دائما نلقي باللوم على الأذناب لا على الرؤوس، أم أننا لا نستطيع أن نقترب من الرؤوس أساسا لأن تلك الرؤوس قد اكتسبت، بحكم الزمان و قوة السلطان، هالة من القداسة والتنزيه لدرجة يحظر معها الاقتراب والدراسة أو الإشارة إليها بالتقصير والخطأ عند ثبوت ذلك؟!

ص: 206

و على أي حال، فإن القارئ الفطن يمكن أن يسأل نفسه أكثر من هذا، سواء قرأ کتاب المستشرق (کونسلمان) أم قرأ غيره من كتب المستشرقين والباحثين في الشرق والغرب، تلك الكتب التي تتناول - و لو بالقليل من الصدق والإنصاف -. ذكر الأحداث المفصلية الهامة في فجر الرسالة الإسلامية.

و حتى لا يفوتنا ذكر بعض ما جاء في (سطوع نجم الشيعة) للمستشرق (کونسلمان)، يجدر بنا أولا أن نقول إن للأستاذ (کونسلمان) تعليقا لافت للنظر حول حديث الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم المشهور في مؤلفات السنة والذي يقول صلی الله علیه و آله و سلم فيه- كما أورده هو حرفيا -: «أيها المؤمنون، إن قضيت (مت)، فسيبقى القرآن، کلام الله و آل بینی»(1)

و ربما كان يقصد (کونسلمان) بهذا الحديث الذي أورده، أو بالأصح أورد معناه، هو الحديث النبوي الشريف الذي تتداوله كتب السنة عموما والذي نصه الصحيح هو قوله صلی الله علیه و آله و سلم: «إني مقبوض، و إني قد ترکت فیکم الثقلين: كتاب الله، و أهل بيتي، و إنكم لن تضلوا بعدهما»(2)

والمهم، هو أن (کونسلمان) قد حلل مغزى هذا الحديث بطريقة ذكية بعد أن ربطه بعدة أحاديث أخرى تبين المكانة الخاصة التي يحتلها أهل البيت عليهم السلام في عمق الرسالة الإسلامية.

و قد علق (کونسلمان) على الحديث الماضي المتعلق بالقرآن و بأهل البيت علیهم السلام

ص: 207


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، ترجمة: محمد أبو رحمة، مكتبة مدبولي القاهرة، 1992، ص17
2- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، نشر معاونية العلاقات الدولية . طهران، 1988، ص50.

بقوله:

«إن كليهما ينبغي أن يظلا في أسمى مكانة، القرآن الذي أعلن مشيئة الله، و أفراد عائلة النبي، و من هذا يفترض أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم تنبأ بإمكانية التهديد الذي سيتعرض له آل بيته بعد موته)(1).

وبالفعل، إن هذا التحليل لا يبتعد عن الصواب أبدا، و قد ذكر (کونسلمان) بعد ذلك التحليل جملة من الأحداث التي لاقاها أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام بعد وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم مباشرة.

و كان من جملة الأحداث التي ذكرها (کونسلمان) والتي تخدم محور بحثنا الآن هو الهجوم المسلح على بيت فاطمة الزهراء عليهاالسلام، سيدة نساء العالمين، بعد رفض الإمام علي عليه السلام ما حدث في سقيفة بني ساعدة، و كان من نتيجة ذلك الهجوم الذي قاده عمر و صاحبه أبو بكر - كما ورد في كتاب (کونسلمان) - هو صدم فاطمة الزهراء علیهاالسلام بالباب مما أدى إلى جرحها، و من ثم قام واحد من رجال عمر بضربها حتى أجهضت من حملها في الشهر السادس(2).

أما عن النتائج اللاحقة التي جاءت نتيجة لعدم تلبية رغبة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بكتابة وصيته الأخيرة من جهة، و للاجتماع المشوه الذي حدث في السقيفة و كان من نتائجه إبعاد الإمام علي عليه السلام من جهة أخرى، هو أن الخلفاء الثلاثة الذين سبقوا الإمام علي عليه السلام لم يكونوا خلفاء للرسول صلی الله علیه و آله و سلم بالمعنى الصحيح للكلمة، و لم يستطيعوا أن يمثلوا روح الإسلام و جوهر رسالته.

ص: 208


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق، ص17.
2- نفس المصدر السابق ص37.

و إذا لم يكن الخلفاء الثلاثة خلفاء حقيقيين للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فماذا كانوا إذن؟!

و حتى لا تقول على الأستاذ (کونسلمان) ما لم يقله، دعونا نورد ما قاله بشكله الحرفي الدقيق.

يقول (کونسلمان): (فأثناء خلافة أبي بكر و عمر و عثمان، أخذ خليفة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يصير بسرعة حاكما دنيويا - أي ملكا)(1).

و نعتقد من الواضح تماما كيف يمكن للملك، مثل کسری أو قيصر، أن يحكم بين الرعية في الوقت الذي وضع نفسه فيه موضع الحاكم أو الخليفة لرسول سماوي معصوم من الزلل والخطأ.

و حتى لا يتهمنا القارئ العزيز بإغفال نقطة هامة من نقاط بحثنا المطروح الآن، ألا و هي مظلومية الإمام الحسين عليه السلام و موقع حادثة كربلاء في فكر المستشرق الألماني (کونسلمان)، نقول له! إننا لم ننس و لم نغفل ذكر تلك الحادثة و آثارها على المسلمين عموما، و حتى على غير المسلمين أيضا، بل كل ما نستطيع أن نقوله الآن هنا هو أن (کونسلمان)-و كما هو واضح في كتابه- قد أشار في العديد من صفحات کتابه إلى التجاوزات التي قام بها الخلفاء، واحدا تلو الآخر، بدءا بالسقيفة و مرورا بفاجعة کربلاء وامتدادا إلى عدد لا ينتهي من التجاوزات الفاضحة التي قام بها الخلفاء الأمويون و من بعدهم الخلفاء العباسيون أيضا.

و لا يمكن لأي قارئ - بطبيعة الحال - بعد أن يقرأ ما كتبه (کونسلمان) و غيره من الباحثين في الشرق والغرب عن مسيرة الحركة الإسلامية منذ الأيام الأخيرة للرسول

ص: 209


1- نفس المصدر السابق ص49.

الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و حتى ما بعد فاجعة كربلاء، إلا أن يلاحظ و بوضوح تام أن اجتماع السقيفة هو الذي خنق رسالة محمد صلی الله علیه و آله و سلم، وأجهض السيدة الزهراء علیهاالسلام و سفك دماء الإمام الحسين عليه السلام .

و للحق أقول- و دائما قول الحق لا يروق للبعض - إن كل الباحثين والمفكرين المسيحيين في هذا الشرق، بالإضافة إلى الكثير من المستشرقين في الغرب، قد كتبوا و درسوا و حللوا ما حدث في مأساة كربلاء بطريقة أكثر عقلانية و أكثر إنصافا من بعض المسلمين الذين شاركوا أيضا في الكتابة عن عملية استشهاد الإمام الحسين عليه السلام و عن أبعاد و آثار مسألة خروجه واستشهاده مع أهل بيته الأطهار عليهم السلام فوق رمال کربلاء.

و ما المستشرقين والمسيحيين العرب الذين ورد ذكرهم في هذا الفصل من كتابنا إلا أمثلة قليلة من مجموع أمثلة كثيرة تدل في مجملها على قدرتها الفكرية في كيفية التعامل والتفاعل مع الأحداث، و من ثم القدرة على الخروج من تلك الأحداث الخطيرة والهامة بنتائج مقبولة هي أقرب للعقل والمنطق منها إلى الانفعال والعاطفة.

و ما أريد أن أذكره الآن، و في هذا المكان تحديدا، هو أنني لا أبرئ ساحة كل المستشرقين من الاتهام بالتحامل على الإسلام رسالة و رسولا، بل على العكس، فهناك العديد من المستشرقين قد تعمدوا قلب الحقائق و تشويهها لغايات سلبية متعددة سواء كانت تلك الغايات ناتجة عن أهداف استعمارية شمولية أو عن أهداف دينية تعصبية.

و بالتالي، فإذا كان المستشرقون عموما قد تناولوا بعض القضايا والحوادث الإسلامية المفصلية بروح الحياد والموضوعية، فإن هذا لا يعني أن هناك البعض منهم

ص: 210

لم يحاول أن يضع السم في الدسم في محاولة مدروسة للنيل من شخصية ما أو للتقليل من حادثة ما أو للتشويش على فكرة ما.

و إذا كان الأمر كذلك في عالم الاستشراق، فإنه ليس كذلك في عالم الفكر والثقافة المسيحية في الشرق.

فالمفكرون المسيحيون في الشرق يكتبون عن الإسلام و رجاله و أحداثه التاريخية الهامة بروح الانفتاح على عوالم الصدق والإنصاف، و بدافع الانعتاق من ظلمة الغايات والإجحاف، فإظهار الحقائق هو الهدف الأسمى لكل مفكر أو باحث أو أديب مسيحي في الشرق.

و حتى أكون أكثر موضوعية و صدقة في حديثي هذا، أقول إنني لا أدعي أنني قد قرأت كل ما كتبه المفكرون والأدباء المسيحيون في الشرق عن الرسالة الإسلامية و عن رسولها صلی الله علیه و آله و سلم؛ و رجالها و أحداثها، و لكنني أقول الحق بأنني قد قرأت الكم الأعظم مما كتبه أولئك المفكرون والأدباء عن الإسلام، و قد قمت بعد ذلك بدراسة و تحليل كل تلك الأعمال الفكرية والأدبية التي قرأتها، و كان من نتيجة ذلك أن خرج بالعديد من المقالات والأبحاث والكتب التي من شأنها أن تبرز الدور الإيجابي للمفكرين والأدباء المسيحيين في الشرق في كشف اللثام عن الكثير من الحوادث الإسلامية التي عصفت بالأمة في المراحل الأولى من عهد الرسالة النبوية الشريفة و إظهارها على حقيقتها دون تعاطف مع طرف على حساب الطرف الآخر، و إنما إظهار الحادثة و توضيحها كما حدثت بالفعل.

و قد بينت في ما كتبت أيضا كيف أن أولئك المفكرين والأدباء قد لعبوا دورا حيويا هاما في توضيح الأهداف الإنسانية النبيلة للرسالة الإسلامية، و كيف أنهم-

ص: 211

بالرغم من أنهم مسيحيون - لا يتفقون في العديد من النقاط مع المستشرقين المسيحيين في الغرب، و بشكل خاص تلك النقاط التي تتناول مسألة الوحي، والمصدر السماوي للقرآن، و براءة الإسلام الحقيقي من العنف والدم، و إلى غير ما هنالك من نقاط هامة و حساسة تبقى محل خلاف و نزاع بين المسيحيين في الشرق والمستشرقين من جهة، و بين المستشرقين أنفسهم من جهة أخرى.

و على كل حال، فإن الشيء الذي أريد أن أقوله الآن، مع التأكيد عليه دائما و أبدا، هو أن أهل الفكر والثقافة والأدب، وأقصد بذلك الفكر المسيحي في عالمنا الشرقي، كانوا يعرفون على أي الحروف يجب أن توضع النقاط، و كانوا يدركون تماما أن الإسلام برسالته الإنسانية النبيلة ما كان له أن يترجم إلى أرض الواقع إلا من خلال أهل بيت صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله و سلم، فأهل البيت علیهم السلام، عند الكثير من المفكرين المسيحيين في الشرق، هم خيوط النور الإلهي الذي يربط قلوب و بصائر أهل الإيمان في الأرض ببوابات قدس الأقداس في مملكة السماء، فهم علهم السلام: «الطيبون الأوائل، والمعاينون الأوائل، والمعانون الأوائل، والمعنيون الأوائل»(1).

أو هم عليهم السلام - باختصار شديد- كما وصفهم الأديب والشاعر المسيحي المبدع (بولس سلامة) بقوله مخاطبا إياهم على أساس أنهم هم عليهم السلام مشارق الأنوار الإلهية التي تكرم الله سبحانه و تعالى بإظهارهم بين خلقه لإجلاء الظلمات عنهم:

یا شروق الأنوار في غيهب الأزمان ظلي على العصور مشاعل

أهل بيت الرسول ما زال منكم نحو عرش الرحمن حبل واصل(2)

ص: 212


1- سليمان كتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، دار الروضة، بيروت، 1993، ص62.
2- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، البيت الأول ص 101 والثاني ص105.

و لذلك، لنا الجرأة على القول إن أولئك المفكرين المسيحيين في الشرق، بالإضافة إلى الكثير من مفكري و أدباء إخواننا السنة أيضا، قد أبلوا البلاء الحسن في الحديث عن أهل البيت عليهم السلام عموما و عن سيدنا الإمام الحسين عليه السلام خصوصا، و كان لهم موقف جريء لافت للنظر عندما تحدثوا عن العلاقة الوثيقة التي تربط بين أحداث السقيفة من جهة و وقائع مأساة كربلاء الدامية من جهة أخرى.

إنهم رجال فکر آمنوا بشرف الكلمة و بنبل الأمانة فحملوا أقلامهم النظيفة و راحوا يسطرون الحقيقة تلو الحقيقة لا لشيء و لا لمكسب، فلا الشيء الدنيوي يغريهم، و لا المكسب المادي يغويهم، بل أرادوا فقط أن يكونوا جنود الحقيقة و فرسانها، لقد أدركوا الحقيقة و عاشوا بمستواها، و أيقنوا أيضا أن الذي يتعمد أن يزرع غراس الريح فلن يحصد إلا العواصف والزوابع.

نعم، إن العبارة الواردة في (كتاب العقائد) للهندوس والتي تقول: (واحد من آلاف البشر قد يجاهد في سبيل الحقيقة)(1)، هي عبارة صحيحة تماما، و لكن علينا أن ندرك أن مقام هذا (الواحد) المجاهد من أجل الحقيقة هو بمثابة شمعة في غرفة كبيرة، تتحدى و تتغلب بنورها الضعيف الواهن على ظلمة الليل البهيم، و علينا أن ندرك أيضا أن الحقيقة التي ننشدها و نبحث عنها هي قبس من الحق، و ما (الحق) إلا هو عز وجل.

وما أجمل أن ننهي هذا الفصل بقول الشاعر عن العلاقة الوطيدة بين مأساة السقيفة و فاجعة کربلاء:

رزية الخميس لا تمحي *** آثارها حتى يقوم الحساب

و حيل بين المصطفى غنوة *** و بين أن يكتب ذاك الكتاب

ص: 213


1- سامي شيا ، أقوال مأثورة، دار النهار . بيروت، 1981، ص150.

لو لا خميس الشؤم ما وجهت *** في كربلاء نحو الحسين الحراب(1)

إنها أبيات ثلاثة تلخص لنا ما جاء من أقوال و شواهد لكبار المفكرين والأدباء في هذا الفصل حول مقدمات الفاجعة و بذورها.

و بقي علينا أن نقول إننا في هذا الفصل لم نقصد الإساءة-لا سمح الله - لأي شخص من كبار الصحابة، و لم يكن هدفنا التشهير أو التجريح بمشاعر أي من إخواننا السنة على الإطلاق، والدليل على ذلك هو أنني استشهدت في هذا البحث بالكثير من آراء علمائهم و مفكريهم من أصحاب العقول الراجحة والآراء السديدة.

و من جهة أخرى، فعندما أذكر ما فعله فلان أو فلان، فأنا لا أقصد تقييمه أبدا، و إنما أقصد تقييم الفعل الذي بدر منه، فأنا أقيم أحداثا لا أشخاصا.

و لذلك، أرجو من القارئ الكريم - خاصة إذا كان من إخواننا الستة- أن يعذرني في تقييمي للأحداث الحساسة، فالحقيقة هي الشيء الوحيد الذي يجب أن يكون فوق أي اعتبار، و علينا أن ندرك دائما و أبدا أن الرجال يعرفون بالحق و ليس الحق يعرف بالرجال.

ص: 214


1- السيد حسين الصدر، لغة الطفوف، مجلة (الموسم) العدد /12/ مصدر سابق ص420

عصر الإمام الحسين علیه السلام

إن الكلام عن عصر الإمام الحسين علیه السلام هو كلام عن المجتمع الإسلامي الذي هیاه معاوية لابنه يزيد، إنه كلام عن المجتمع الذي صاغه معاوية وفق رؤيته الأموية الخاصة والبعيدة كل البعد عن الرؤية الإلهية المتجلية في قرآنه الحكيم و في سنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم.

و إذا أردنا أن نتكلم عن مجتمع ما، فربما كان بالإمكان تخيل صورة ذلك المجتمع من خلال معرفة صفات و خصائص الشخص المسؤول والحاكم لذلك المجتمع، و قد حدثنا التاريخ، قديما و حديثا، أن الحاكم العادل والصالح يستطيع أن يؤسس لحياة كريمة في المجتمع الذي يحكمه بحيث يرتقي بأفراد مجتمعه، من خلال عدله و صلاحه، إلى مستوى لائق من الإنسانية والحضارة الراقية التي من المحتمل جدا أن تفتقر إليها بقية المجتمعات التي يحكمها حكام طغاة عتاة لا يعرفون شيئا من فنون الحكم والقيادة إلا فن الحكم بالسيف والنار.

نعم، ربما يأتي حاكم نزيه و عادل يريد أن يعم العدل والسلام والصلاح كل أرجاء دولته و لكنه لا يفلح في ذلك على الرغم من شدة نزاهته و مبلغ عدله و صلاحه، فما السر في ذلك؟!

الجواب، و بكل بساطة، أخطاء الرجال والأجداد يدفع ثمنها الأبناء والأحفاد.

فالحاكم الجيد هو حاكم جيد بذاته و لكن قد لا يستطيع أن يحكم مجتمعه

ص: 215

الملوث بالطريقة التي يريدها، إذن، المشكلة هي أساسا في المجتمع الذي بات ملوثا من جهة و في الحاكم السابق الذي لعب دور العامل الملوث من جهة ثانية.

فالقيم السلبية والمفاهيم الخاطئة والممارسات الملتوية التي فرضها و أقرها الحاكم السيئ السابق و جعلها مرتبطة بحركة المواطن و بتفاعله مع المجتمع لدرجة أنه بات يمارس الأخطاء و كأنها أعمال مشروعة و مبررة، شأنها في ذلك شأن اكتساب القمة الخبز اليومية، إن كل ذلك يجعل من الحاكم اللاحق، و إن كان صالحة و عادلا، يواجه الكثير من المتاعب والمشاكل في عملية إدارة دفة الحكم، و في عملية إعادة القيم الإيجابية المغيبة لأخذ دورها من جديد في ساحات العمل و في إعادة استنباتها في عقول و ضمائر الأفراد والجماعات بعد أن يتم اقتلاع القيم والمفاهيم السلبية السابقة من تلك الضمائر والعقول، فالمزارع النبيه لا يلقي ببذاره في أرض مليئة بالأشواك إلا بعد أن يقتلعها و ينظف التربة منها و من بقية الأعشاب الضارة الأخرى.

إن هذا الكلام يصدق بشكل كبير على وضع مجتمع كان محكوما سابقة من قبل حاکم سلبي سيي لفترة مديدة من الوقت إلى أن شاءت الظروف أن تأتي بحاكم آخر لكنه حاكم صالح و إيجابي و مناقض للحاكم السابق في الميدان الحضاري والإنساني و في ميزان الصفات الشخصية والمزايا الذاتية.

و إذا كان هذا هو حال المجتمع الذي يتعاقب عليه حاکمان متناقضان ما بين السلب والإيجاب، فما هو حال المجتمع الذي تتعاقب عليه جماعة من الحكام الذين يسجدون صباحا و مساء لكرسي الحكم و يقيمون صلواتهم للدينار والدرهم، يتخذون من مساجدهم أو کار فتن، و من قصورهم دور فساد وبغاء، و من بطانتهم أهل سوء واستعلاء، يأمرون بالمنكر و ينهون عن المعروف، قلوبهم عامرة إلا من الإيمان،

ص: 216

و عقولهم منقاده لحبائل الشيطان، و ليس عندهم غريب القرآن، المؤمن بينهم غریب، والفاسق عندهم قريب، من ذکرهم بما فيهم ظلموه و منعوه، و من مدحهم بما ليس فيهم أعطوه و وصلوه؟!

و لا أعتقد أنني جانب الصواب أو ابتعدت عن الحقيقة القاسية عندما قصدت بكلامي هذا بني أمية عموما و معاوية و ابنه يزيد اللعين خصوصا.

فالعالم الإسلامي ابتلي بالكثير من حكام الشوء ممن اتخذوا لقب (الخليفة) ستارا لهم يتحكمون بالبلاد والعباد کیفما يشاؤون باسم الدين و باسم الإسلام، بل باسم (خليفة) رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، في الوقت الذي أعلن فيه الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؛ نفسه براءته العلنية منهم و من أتباعهم و أصحابهم إلى يوم الدين.

و لذلك، نرى لزاما علينا أن نقدم للقارئ الكريم بعضا من الأحاديث النبوية الشريفة التي تبين لنا موقف الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم من معاوية بن أبي سفيان، ذلك الحاكم الأموي الداهية الذي أوصل المجتمع الإسلامي لاحقا إلى حالة من الجفاف الروحي واليباب العقائدي و ذلك بعد أن قام بحملة إعلامية تضليلية دهياء أفرغ من خلالها الإسلام من كل مضامينه الجوهرية و حوله إلى مجرد قناع يتستر به و يخفي وراءه الكثير من الدسائس والمؤامرات، لقد حوله إلى مجرد جسد مفتقد إلى العقل والروح و إلى الكثير من المضامين الإنسانية.

إذن، دعونا الآن نتعرف على شخصية معاوية كما يراها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و لنتقل بعد ذلك إلى صورة المجتمع الإسلامي الذي هيأه معاوية إلى ابنه يزيد من أجل إحكام السيطرة على المجتمع بكافة أطيافه، و بشكل خاص على الإمام الحسين عليه السلام و أهل بيته، و أتباعه، ممن ثبتوا على ولاية أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و ذلك من خلال

ص: 217

الالتزام بتعاليم الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ووصاياه المتعلقة بضرورة التمسك بالثقلين العظيمين: القرآن الكريم و أهل البيت عليهم السلام الذين لا يقاس بهم أحد من الخلائق و لا يحيط بمعرفتهم أحد من أهل الحقائق.

و على كل حال، و حتى لا نسهب كثيرا في الكلام، دعونا أيها الأحبة نستعرض طائفة صغيرة من الأحاديث الواردة بشأن معاوية الذي مهد طريق لابنه يزيد قاتل الإمام الحسين عليه السلام و هاتك حرمات المسلمين.

جاء في كتاب (میزان الاعتدال) للحافظ شمس الدين بن محمد بن أحمد المعروف بالذهبي قوله: عن أبي برزة قال: كنا مع النبي صلی الله علیه و آله و سلم، فسمع صوت غناء فإذا عمرو (بن العاص) و معاوية يتغنيان، فقال: «ارکسهما في الفتنة ركسا و دعهما إلى النار دعا»(1).

و جاء أيضا في كتاب (کنز العمال) للمتقي الهندي، و أصل هذا الكتاب هو (جمع الجوامع) للحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي المشهور، فقام المتقي الهندي بتبويبه على نهج الكتب الفقهية و سماه بكتاب (کنز العمال في سنن الأقوال والأفعال)، وقد جاء فيه:

عن شداد بن أوس أنه دخل على معاوية و هو جالس، و عمرو بن العاص على فراشه، فجلس شداد بينهما، و قال: هل تدریان ما يجلسني بينكما؟ إني سمعت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «إذا رأيتموهما جميعا ففرقوا بينهما، فوالله ما اجتمعا إلا على غدرة»، فأحببت أن أفرق بينكما؟(2).

ص: 218


1- الحافظ شمس الدين بن محمد المعروف بالذهبي، ميزان الاعتدال، مطبعة السعادة .مصر، طبع 1325ه، ج3 ص311.
2- المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مطبعة دائرة المعارف النظامية . حیدر آباد .دکن، 1312ه، ج6 ص88.

و يكفي أن نذكر أيضا القول المشهور للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و هو حديث ثابت في الكثير من كتب السنة، يقول صلی الله علیه و آله و سلم فيه مخاطبا عموم المسلمين:

«إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»(1)

و من خلال مضمون هذا الحديث النبوي تحديدا، و من خلال الأحاديث السابقة التي ذكرناها قبله، والأحاديث النبوية الأخرى التي سنذكرها لاحقا، نستطيع أن نتخيل عمق المأساة التي عصفت بالمجتمع الإسلامي عقب اغتصاب معاوية لكرسي الخلافة واجترائه على منبر رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم

فالأعمال السوداء التي قام بها معاوية خلال فترة حكمه والرذائل التي أشاعها في صفوف الناس وروج لها، والفتن التي استنبتها في عقول الناس، كل ذلك أذى بالمجتمع الإسلامي إلى فقدان تماسكه الروحي والاجتماعي، و إلى اتخاذ الدين وسيلة رخيصة لتحقيق غايات شخصية و مصالح دنيوية تتعارض في الكثير من جوانبها مع المبادئ الإلهية والتعاليم النبوية النبيلة.

فمجرد قول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و هو الرسول الإلهي الذي لا ينطق عن الهوى: «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه»، هو أكبر و أوضح دليل على أن المجتمع

ص: 219


1- راجع على سبيل المثال ما جاء في: أ. الحافظ الذهبي ، ميزان الاعتدال، مصدر سابق ج2 ص17 + ج2 ص 129. ب. الحافظ المنادي والشافعي، كنوز الحقائق، مصدر سابق، ص15. ج . الحافظ شهاب الدين العسقلاني المعروف ب (ابن حجر)، تهذيب التهذيب، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية . حیدر آباد .دکن، 1325ه، ج5 ص110. د. السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، طبع دار الثقافة . قم، 1412ه، ص58 + ص261.

الإسلامي سيكون في الدرك الأسفل، روحيا واجتماعية، في حال قبل المجتمع بوجود خليفة أو حاكم عليه كمعاوية أو حتى غيره من أمثاله و نظرائه.

و من أجل أن ندرك حجم الكارثة التي حلت بالصف الإسلامي نتيجة الفتن التي زرعها معاوية بين صفوف المسلمين عموما، يمكننا أن نذكر عدة أحاديث أخرى قالها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بحق معاوية منطلقا في ذلك من قوة بصيرته في قراءة الأحداث المستقبلية، و من نفاذ حدسه الثاقب لأعماق الشخصيات التي عاصرته صلی الله علیه و آله و سلم و عاشت معه عن قرب، فاستطاع بذلك أن يدرسها و يحللها و يستخلص النتائج الدقيقة التي ستظهر لاحقا و بشكل واضح و جلي على صفحات کتاب المستقبل.

فعندما يقول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على رؤوس الأشهاد، بعد معرفته العميقة و دراسته الدقيقة لشخصية معاوية و أفعاله: «إن معاوية في تابوت من نار في أسفل درک منها، ينادي يا حنان یا منان، الآن و قد عصي قبل و كنت من المفسدين»(1).

فعندما يقول الرسول صلی الله علیه و آله و سلم ذلك، بإمكاننا أن ندرك أن الإسلام قد انحرف عن مساره المرسوم له بشكل مخيف جدا و بشكل مختلف كليا، فالإسلام لم يعد ذلك النهج العملي الذي أراد للإنسان أن يكون متحررا من كل أنواع العبودية و منعتقا من كل أصناف التبعية إلا التبعية لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والعبودية لله وحده فقط، لقد أصبح وجه الإسلام مشوها عمدة و بفعل فاعل، بدأت عملية التشويه في وقت مبكر جدا واستمرت بقوة إلى ما بعد ذلك، و بلغت ذروتها عند معاوية في عصر الدولة الأموية.

إن هذه الأجواء هي صورة موجزة و مختصرة جدا عن الصورة الشاملة للأجواء

ص: 220


1- السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، مصدر سابق ص262.

التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام و عاصرها بكل تفاصيلها المؤلمة، بل يمكننا أن نضيف أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام کا على معرفة كاملة بأن معاوية قد تجاوز في غيه و ضلاله كل حد و خرج في جهله و جاهليته و جهره بالعداء للإسلام من كل سنة نبوية شريفة و دخل في كل بدعة جاهلية ذميمة، ناهيك عن أنه، و كما هو معروف للجميع، قد ناصب هو و أبوه الإسلام العداء و لم يدخرا جهدا في محاربة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و تنفير الناس منه و من رسالته حتى أن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم قد رأى يوما أبا سفيان مقبلا على حمار و معاوية يقود به ویزید ابنه يسوق به، فقال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «لعن الله القائد والراكب والسائق»(1).

و يكفي معاوية خزيا في تلك الفترة أنه قاتل أمير المؤمنين عليا عليه السلام دون أي وجه حق مع معرفته الكاملة أن عليا عليه السلام و قومه هم آية الجنة، و أنه هو و قومه هم آية النار، و ذلك حسب نص حديث نبوي شريف يعرفه العامة والخاصة على حد سواء.

فقد أورد الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي في كتابه (مجمع الزوائد) ما جاء عن عمرو بن حمق الخزاعي حيث قال: بعث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم سرية (إلى أن قال) ثم هاجرت إلى رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فبينا أنا عنده ذات يوم قال لي: «يا عمرو هل لك أن أريك آية الجنة تأكل الطعام و تشرب الشراب و تمشي في الأسواق؟».

قلت: بلی، بأبي أنت، قال: هذا و قومه و أشار بيده إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، و قال لي: «يا عمرو هل لك أن أريك آية النار تأكل الطعام و تشرب الشراب و تمشي في الأسواق؟».

قلت: بلى بأبي أنت، قال: هذا و قومه آية النار، و أشار إلى معاوية.

ص: 221


1- نفس المصدر السابق ص261.

فلما وقعت الفتنة ذكرت قول رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: ففرت من آية النار إلى آية الجنة...(1)

إذن، فالمجتمع الإسلامي في ذلك الوقت الذي كان فيه معاوية حاكما و متحكما برقاب المسلمين كان مجتمعا يسير القهقرى باتجاه الجاهلية البغيضة التي حاربها الله و رسوله صلی اله علیه و آله و سلم، و لم تكن صورة شخصية معاوية في تلك الفترة السوداء من تاريخ الإسلام إلا التجسيد الواقعي والأمثل لشخصيته و لنواياه السلبية التي عجز عن تحقيقها قبيل دخوله الإسلام و تظاهره باعتناقه.

و حتى تتضح الصورة أكثر في ما يتعلق بالعصر الذي كان الإمام الحسين علیه السلام شاهدا حيا عليه، علينا أن نعرف أن معاوية قد أباح المحارم لمن ارتكبها و منع الحقوق أهلها، ثم إنه عمد إلى قتل خيار صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتابعين و أهل الفضل والديانة مثل عمرو بن الحمق الخزاعي و حجر بن عدي الكندي.

و غني عن القول قتله لعمار بن یاسر (رضی الله عنه) في عهد سيدنا علي عليه السلام، و مما استحق به اللعنة من الله و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم ادعاؤه زیاد بن سمية، والله سبحانه و تعالى يقول: «ادْعُوهُمْ لِابَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ»(2)، والرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم يقول: «ملعون من ادعى إلى غير أبيه»، هذا بالإضافة إلى تأكيده صلی الله علیه و آله و سلم على ناحية شرعية أخلاقية هامة هي أن «الولد للفراش و للعاهر الحجر»، فخالف بذلك معاوية حكم الله عز وجل وسنة نبيه الكريم صلی الله علیه و آله و سلم جهارا و جعل الولد لغير الفراش والعاهر لا يضره عهره.

و باختصار شديد، لقد قام معاوية بكل ما من شأنه أن يمهد الطريق أمام ابنه يزيد

ص: 222


1- الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، عني بنشرها صاحب مكتبة القدس حسام الدين القدسي . مصر، 1352ه، ج9 ص405.
2- سورة الأحزاب: الآية 5.

اللعين عند مجيئه و إعطائه مقاليد الحكم للتحكم برقاب العباد و مصالح البلاد.

و قد صدق (الحسن البصري) عندما لخص لنا الخطوط العامة لسياسة معاوية السفيانية والتي أرادها من بعده نهجا و دستورا لابنه يزيد و لكل من يأتي بعده من حكام أمويين لا يعرفون عن الإسلام غير الاسم و من القرآن غير الرسم.

يقول الحسن البصري: (أربع خصال كن في معاوية، و لو لم يكن فيه إلا واحدة منهن لكانت موبقة: انتزاؤه على هذه الأمة بالسيف حتى ابتزها أمرها بغير مشورة منهم و فيهم بقايا الصحابة و ذوو الفضيلة، واستخلافه بعده ابنه يزيد، سکيرا خميرا يلبس الحرير و يضرب بالطنابير، وادعاؤه زیادا، و قد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الولد للفراش و للعاهر الحجر»، و قتله حجر بن عدي و أصحابه، فيا ويله من حجر و من أصحاب حجر»(1).

نعم، إن هذه الموبقات الأربع، بل الأربعين، لأن كل واحدة منها تتفرع على ما لا يقل عن عشر موبقات أخرى، هي الخطوط العامة والملامح الأساسية لسياسة معاوية في صفوف المسلمين و في تعامله مع مبادئ و قيم الرسالة الإسلامية.

و في الحقيقة، لقد كان معاوية يدرك ما يفعل تماما، فالشيء الذي كان يخطط له و يقوم به كان عبارة عن عملية وضع منهاج كامل و متكامل في كيفية هدم الإسلام من الداخل، و ما على الخلفاء الأمويين الذين سيأتون بعده و بعد ابنه اللعين يزيد إلا أن يتمثلوا و يستوعبوا منهاج تلك المدرسة القائم على استبدال سياسة الكلمة الطيبة بالسيف الظالم، والقيم الإسلامية بالعادات الجاهلية، والسنة النبوية بالبدع الأموية.

ص: 223


1- ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية . القاهرة، ط 1959/1 ، راجع ج2 ص262.

و لذلك فنحن لا نستغرب من كيفية نظر الكثير من المفكرين المسلمين السنة والباحثين المسيحيين، سواء كانوا مستشرقين أم غير مستشرقين، إلى طبيعة الحكومات الأموية التي تعاقبت على الساحة الإسلامية.

فالكثير من أولئك المفكرين والباحثين لا يرون في الدولة الأموية دولة عدل قائمة على أساس ديني متين، بل هي مجرد إمبراطورية عربية اتخذ حكامها و قادتها الدين ستارا لتحقيق منافع شخصية و مكاسب ذاتية على المستويين الداخلي والخارجي.

أما في ما يتعلق بالميدان الروحي تحديدا، فالكل قد أجمع- خاصة بعد أن قرأوا عن الحسين واستشهاده في كربلاء في سبيل الحق- على أن الحكومات الأموية عموما، و حكومة معاوية و من بعده حكومة ابنه يزيد خصوصا، كانت حكومات دنیوية بحتة و ليس لها أدني علاقة برسالة الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و هذا ما كان يدفع بهم دوما إلى التخلص من كل من كان يدعوهم للعودة إلى الدين القويم.

و حتى ندرك حجم المأساة التي خلفها معاوية على العالم الإسلامي من خلال وضعه لمنهاج مدرسته الخاصة في الحكم والذي ورثه لاحقا لابنه يزيد و للخلفاء من بعده، و حتى ندرك أيضا حجم المسؤولية الملقاة على عاتق الإمام الحسين عليه السلام في مواجهة مدرسة معاوية الهدامة للإسلام و لقيمه و مبادئه،علينا أن نورد بعض الشهادات الدامغة حول طبيعة الدولة الأموية التي تأسست على انتهاك الحقوق، و على سفك الدماء، والأهم من ذلك، على تشويه رسالة الله الأخيرة و تحويلها - عملية-من رسالة سماوية سامية إلى مجرد تعاليم سطحية جوفاء يتلاعب بها الخليفة الأموي كيفما يشاء و يطبقها كيفما يريد.

ص: 224

و على كل حال ها نحن نقدم مجموعة صغيرة من الآراء بالدولة الأموية التي سارت، من خلال حكامها، على النهج الذي وضعه لها معاوية و إن لم يكن هو الأول والوحيد الذي وضع أسس و قواعد ذلك النهج المنحرف والسقيم.

يرى المفكر الفرنسي (روجيه غارودي) أن مجيء الأمويين إلى السلطة و تركيز اهتمامهم على السياسة فقط دون المغزى الديني هو (طعنة قاتلة في صميم الإسلام)(1).

و يضيف (غارودي) في كتابه (ما يعد به الإسلام) قائلا إن الحكم الأموي كان حكما بعيدا عن الجوهر الديني و متنكرة له من حيث مبدأ (الأمة الإسلامية)، بل لم يكن في حقيقته أكثر من حكم أموي متعصب(2).

أما المستشرق الألماني (يوليوس قلهاوزن) فيرى في كتابه (تاريخ الدولة العربية) أن الأمويين كانوا منذ البداية أخطر أعداء النبي محمد (عليه وآله السلام) و أنهم لم يعتنقوا الإسلام إلا في الساعة الأخيرة مكرهين و لكنهم عرفوا بعد ذلك كيف يجنون لأنفسهم ثمرة انتصاره و سيادته، و ذلك من طريق استغلال ضعف عثمان أولا، و من طريق المهارة في استغلال مقتله بعد ذلك(3)

و يتابع المستشرق (قلهاوزن) مؤكدا على حقيقة أن أصل الأمويين لا يجعلهم أهلا لقيادة الأمة المحمدية، فهم كانوا مغتصبين للخلافة عن طريق القوة الخاصة التي

ص: 225


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، مصدر سابق ص70.
2- نفس المصدر السابق ص72.
3- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، ترجمة: الدكتور محمد هادي أبو ريدة، نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر في إدارة الثقافة العامة . القاهرة، 1968، ص59.

كانوا يمتلكونها، قوة أهل الشام، و لكن قوتهم تلك لم تستطع أن تصير حقا شرعيا(1).

و لا يختلف رأي المستشرق والفلكي الفرنسي (جان جاك سيديو) (Sedillot ) (م 1777- 1832) كثيرا عن رأي المستشرق الألماني (قلهاوزن)، فقد درس (سیدیو) تاريخ العرب والحضارة الإسلامية، كما أنه درس تاريخ العلوم الفلكية عند العرب.

و قد اشتهر هذا المستشرق بكتابه المعروف ب (تاريخ العرب) الذي ترجم من قبل العديد من المترجمين و قد طبع مرات عديدة نظرا لثراء معلوماته و لقيمته الفكرية العالية، و ما يهمنا في كتابه المذكور هو رؤيته للحكام الأمويين الذين تربعوا على عرش الخلافة.

يرى العلامة (سيديو) أن عصر معاوية هو عصر الفتن والمصائب و سفك الدماء والهلع الذي زرعه معاوية و أعوانه في قلوب المسلمين(2).

و يرى العلامة (سيديو) أيضا أن حكام بني أمية قد استغنوا بالسياسة عن الدين الإسلامي و تجاوزوا في تعاملاتهم الحدود الشرعية و أعرضوا عن إحياء أمر القرآن حتى بلغ الأمر بالخلفاء الأمويين أنفسهم أنهم أصبحوا قدوة لغيرهم في تجاوز الدين و مخالفته(3).

و لا يختلف رأي العلامة (سيديو) عن رأي المستشرق (دومينيك سوردیل) الإسلام في القرون الوسطى) على الإطلاق، بل على العكس من ذلك تماما، فهناك تشابه كبير في وجهات النظر حتى أنها تبلغ أحيانة درجة التطابق التام.

ص: 226


1- نفس المصدر السابق ص60.
2- العلامة سيديو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة المرحوم محمد أفندي بن أحمد عبد الرزاق (وآخرون)، دار الآثار . بيروت، ط 2/ 1400 ه، ص90.
3- نفس المصدر السابق ص91.

فعلى المستوى العقائدي، يرى (سوردیل) أن خلفاء بني أمية كانوا يحملون الناس على الاعتقاد بمبدأ الجبرية أو المشيئة الإلهية المطلقة التي لا تترك أي هامش لمشيئة الإنسان و إرادته، و تفسير ذلك عند (سوردیل) هو أن التقليل من مسؤولية الفرد يعني أيضا التقليل من مسؤولية الخليفة، و بالتالي عدم محاسبته من قبل رعيته(1).

هذا بالإضافة إلى أن (سوردیل) يرى أن نظام الحكم الأموي، و خاصة الخلفاء منهم، كانوا دائما متهمين بالكفر حيث يؤخذ عليهم التعلق بالحكم والسياسة والتخلي الكامل عن مقتضيات الرسالة القرآنية(2).

و قبل أن نكمل إيراد بقية الشواهد الاستشراقية عن الحكومات الأموية التي خطط لسياستها معاوية و تلامذته المقربون، لابد لي من لفت انتباه القارئ الكريم إلى نقطة على درجة كبيرة من الأهمية والخطورة، و هذه النقطة الهامة تتجلى بقولنا إن استشهادنا بهذه الأقوال للمستشرقين لا يعني لنا أن كل هؤلاء المستشرقين كانوا حياديين و منصفين في تقييمهم للرسالة الإسلامية و للأحداث المفصلية الهامة التي حدثت على امتداد تاريخها، بل إن معظم من دخل دائرة الاستشراق لم يستطع أن ينجو من العصبية أو من عدم النضوج في إطلاق الأحكام النهائية على شخصية ما أو حادثة ما.

أما القلة القليلة من أولئك المستشرقين فهي التي استطاعت، و بعد جهد جهيد، أن تنجو بنفسها من التلوث بأقذار العصبية، و أن تنتهج نهجا سليما في الوصول إلى النتائج المنطقية الصائبة.

ص: 227


1- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، ترجمة: علي المقلد، دار التنوير. بيروت،1983، ص90.
2- نفس المصدر السابق ص90.

و على كل حال، فقد ناقشت هذه النقطة الحساسة في كتاب سابق لي يحمل عنوان (الإسلام والغرب بين حوار الحروف و صدام السيوف)، حيث تمت المناقشة والدراسة بشكل مفصل و دقيق(1)، و كان من نتائج تلك الدراسة هو أنه حتى أولئك المستشرقون المتعصبون الذين كتبوا عن الإسلام و رسوله صلی الله علیه و آله و سلم و رسالته بطريقة تعصبية واضحة، فقد فشلوا في إخفاء و تبرير الأعمال المخزية والجرائم السوداء البشعة التي ارتكبها الحكام الأمويون بحق الرسالة الإسلامية و بحق أهلها من المسلمين.

و لئن كان المستشرق الفرنسي (بول كازانوفا) (1861- 1926) يعد واحدا من المفكرين والمستشرقين القلائل الموصوفين بالاعتدال والحيادية في طروحاتهم الفكرية و في دراساتهم الأكاديمية، فقد كان له أثر واضح في العديد من الأبحاث الهامة عن الإسلام، بالإضافة إلى أنه كان - سابقا - أستاذا لمادة أصول اللغة العربية في الجامعة المصرية.

و باختصار شديد، فقد أجاد المستشرق (کازانوفا) في وصفه للخلفاء الأمويين عندما قال عنهم بكل جرأة و صراحة: (كانت نفسية) الأمويين على الإطلاق مركبة على الطمع في الغنى إلى حد البشم (أي التخمة المفرطة)، و حب الفتح بقصد النهب، والحرص على التسؤد للتمتع بملذات الدنيا)(2).

و هنا تحديدا، سأتوقف قليلا مع عبارة المستشرق (کازانوفا) عن طبيعة الحكام

ص: 228


1- راجي أنور هيفاء الإسلام والغرب بين حوار الحروف و صدام السيوف، طبع دار العلوم . بيروت، ط 1/ 2004م، راجع الفصل الثاني، ص57 حتى ص103.
2- جورج جرداق، الإمام علي عليه السلام صوت العدالة الإنسانية، ج4 (علي و عصره)، منشورات دار و مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ص47.

الأمويين المركبة على (حب الفتح بقصد النهب)، و أقول تعليقا على هذه العبارة التي أطلقها قلم مسيحي من الغرب، إن هذه العبارة صحيحة بنسبة عالية جدا.

فالحكام الأمويون لم يكن عندهم هاجس نشر الدين أساسا، بل كان هاجسهم الأول هو إيجاد ضحايا جدد من العباد والبلاد بقصد استعبادهم و نهب ثرواتهم و خيراتهم، وأذكر تماما كم كانت هذه الحقائق التي أكتبها الآن تهز کيان الكثير من أصدقائي المسلمين السنة و كم كانت تدهش أيضا أصدقائي من المسيحيين الذين كانت دهشتهم تزداد أكثر فأكثر، هم والأخوة من السنة، عندما كنت أعمد إلى كتب التاريخ المعتبرة، كتاريخ الأمم والملوك للطبري أو تاریخ الخلفاء للحافظ السيوطي الشافعي أو الإمامة والسياسة للدينوري و إلى غيرها من كتب الحديث والتراجم وأستخرج لهم فضائح الحكام الأمويين من بين صفحاتها مما لا يدع مجالا للشك بصدق ما جاء فيها بحقهم من ذكر للمآسي والفظائع التي ارتكبوها بحق الرسالة الإسلامية و مبادئها من جهة، و بحق المسلمين عموما من جهة أخرى، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يقول المفكر السوري المعاصر (سليمان الخش) في كتابه (الفتح العربي الإسلامي): (إن الحكام الأمويين الظالمين، هم و عمالهم، لا يمثلون إرادة الله في العدل، بل هم ظل الشيطان و أعداء الرحمن لأنهم يأمرون بالشر، و يرتكبون الظلم)(1).

و بالطبع، فإن هذا القول من الأديب والمفكر السوري الأستاذ (الخش) لم يأت من فراغ و لم يأت من باب التجني على الحكام الأموين أبدا.

ص: 229


1- سليمان الخش، الفتح العربي الإسلامي، دار ریاض نجيب الريس للكتب والنشر . لندن، ط 1/ 1994 ، ص189.

بل على العكس من ذلك تماما، فالأستاذ (الخش) (1926- 1991) کان دارسا جيدة للتاريخين العربي والإسلامي، هذا بالإضافة إلى عمله الأساسي كأستاذ محاضر في آداب اللغة العربية في جامعة دمشق، و قد شغل عدة مناصب و زارية هامة حيث عين وزيرا للثقافة ثم للإعلام ثم للتربية، و قد مكنته تلك المناصب الوزارية من الاطلاع على الكثير من القضايا الثقافية والتراثية الهامة، و لعل هذا هو أحد أهم الأسباب التي دفعته للكتابة عن تاريخ العرب والمسلمين بهدف کشف النقاب عن الكثير من الحقائق الخطيرة المدفونة تحت رمال التاريخ.

و نعود ثانية و نقول إن الأستاذ (الخش)، و هو بالطبع ليس شيعيا، قد تحدث بإسهاب عن الحكم الأموي الفاسد، والذي كان من نتائج حكامه الأوائل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في الشهر الحرام على بطاح كربلاء، و لم يكتف الأستاذ (الخش) بذكر مساوئ و مثالب تلك الدولة الجائرة، بل راح يشير إلى نقطة على غاية من الأهمية والخطورة و على درجة كبيرة من الدقة والصحة، إنها النقطة التي تسمى بالفتح الإسلامي في العصر الأموي.

و عن هذه النقطة الحساسة، فقد كتب الأستاذ (الخش) تحت عنوان (المجاهدون يدينون التوسع الإمبراطورية العربي) ما يلي:

(عاش الكثيرون من المحماة (أي المحاربين) العرب الذين انزلقت أقدامهم في جيوش التوسع طلبا للرزق أو الثراء، ثم اكتشفوا أنفسهم و قد خانوا مبادئ الإخاء العالمي الذي و عد به الإسلام، فانكفأوا على أنفسهم يلومونها، و طفقوا يراجعون تلك الخطوات التي طوها بعيدا عن القضايا الكبرى للإنسان العربي)(1).

ص: 230


1- نفس المصدر السابق ص130.

إذن، ليس هناك في الإمبراطورية الأموية شيء يدعى الفتح الإسلامي لنشر نور الرسالة الإسلامية، بل هناك شيء واضح يتعلق بطبيعة الحروب التي خاضتها تلك الإمبراطورية الشرسة، إنه التوسع بحد السيف تحت غطاء إسلامي بهدف خلق حركة استعمارية تمد أذرعها الأخطبوطية إلى كل مكان من الأمكنة في العالم الرحيب المثقل بالخيرات والثروات والفتيات الكواعب الحسان.

و غني عن القول إن هذا الرأي الجريء والصائب الذي باح به المفكر الأستاذ (الخش) ليس بالرأي الجريء الوحيد على ساحة الفكر، فهناك الكثير والكثير جدا من رجال البحث والفكر والأدب ممن صحوا، و بكل جرأة و قوة، بمواقفهم و آرائهم حول طبيعة الحكم الأموي الغاشم الذي أذل المسلمين في الداخل واستباح حرمات الناس في الخارج تحت عناوین شتی و بشعارات مختلفة، مثل (الجهاد في سبيل الله) و (الفتح الإسلامي) و(نشر الرسالة الإسلامية) و إلى غير ما هنالك من شعارات و عناوين مترهلة في شكلها و معانيها على جسد و طبيعة الحكومات الأموية.

و بطبيعة الحال، ليس بإمكاننا أن نذكر كل أولئك الكثيرين الذين أدلوا بآرائهم الصريحة و بوجهات نظرهم الجريئة بخصوص أهل الشجرة الملعونة في القرآن، تلك الشجرة التي حاولت جاهدة أن تمد أغصانها شرقا و غربا لفرض ظلالها المظلمة المرعبة على كل من تطاله تلك الأغصان الشيطانية الخانقة.

و لكن، للتأكيد فقط، يكفي أن نذكر من ذلك الكم الهائل من المفكرين الذين يتفقون في الرأي مع رأي المفكر السوري (سليمان الخش) المفكر والعلامة المصري (محمد الغزالي) صاحب عشرات المؤلفات في ميدان الفكر والدين والسياسة والاقتصاد والفلسفة الإسلامية.

ص: 231

فالأستاذ (الغزالي)، و إن تعددت الميادين التي كتب فيها، إلا أنه يبقى قبل كل شيء مفكرة إسلامية بارزة في الزمن المعاصر حيث اصطبغت كل مؤلفاته الفكرية بالصبغة الإسلامية الواضحة و هذا ما جعل منه و من مؤلفاته مرجعا هاما و أساسيا لكل الذين يريدون أن يدرسوا الإسلام و علاقته بالحياة من خلال رؤية إسلامية معاصرة.

و حتى لا نبتعد كثيرا عن محور النقطة المطروحة الآن، نقول إن الأستاذ (الغزالي) قد كرس معظم وقته وجهده لدراسة الإسلام و مسيرته التاريخية والروحية، و درس بإمعان و روية الحروب الإسلامية الداخلية والفتن المحلية التي مزقت صفوف المسلمين و شتت شملهم و أزهقت أرواح الآلاف منهم.

و قد درس أيضا تفاصيل ما حدث مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء والأسباب التي علیه السلام علي للخروج والهجرة مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه المخلصين إلى أرض الشهادة والخلود.

و لم يقصر الأستاذ (الغزالي) في دراسة كل الحروب الداخلية التي سبقت واقعة کربلاء، و ربما استوقفته حرب صفين بين الإمام علي عليه السلام و معاوية أكثر من غيرها من بقية الحروب، و لذلك فعندما طلب منه رأيه في ما حدث في صفين بين جيش الإمام علي عليه السلام و جيش معاوية، أجاب مقسما بالله العظيم إنه يحب عليا عليه السلام كثيرة و يود لو كان له شرف الاستشهاد بين يديه في صفين(1).

أما عن موقفه من الإمام الحسين عليه السلام و ما حدث معه في كربلاء فسنأتي على ذكره في المكان المناسب.

و نعود للتأكيد ثانية على أن الأستاذ (الغزالي) واحد من بين الكثيرين الذين رأوا

ص: 232


1- محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، مكتبة الأمل. الكويت، 1967، ص336.

في الحكومات الأموية رمزا للإمبراطورية التوسعية التي وضعت الدنيا أمام عينيها و ألقت بالآخرة وراء ظهرها.

و من هنا يتساءل الأستاذ (الغزالي) عن أهداف العرب الأمويين من غزو العالم، و عن سبب فشلهم في حمل لواء الإسلام كما يدعون.

و ها هو يقول متسائلا:

ماذا صنع العرب (الأمويون) في الأندلس ؟!

و يجيب هو مباشرة على هذا السؤال بقوله:

فشل هؤلاء في إقناع الجماهير المشدوهة أن محمدا رحمة للعالمين !!

فشلوا في استثارة أشواق الأمم الضخمة إلى قبول الإسلام عن حماسي و رغبة!

كانت أجهزة الدعاية الإسلامية القائمة على البصر والعلم قد تعطلت في ظل ولاة جورة، و ملوك فسقة، فانحسر الإسلام عن الأندلس، بعدما أفسد الترف الخاصة والعامة، و بعدما أنشئت فيها بحيرات من المسک على شطآنها أوحال من العنبر(1).

إذن، و باختصار شديد، يرى الأستاذ (الغزالي) أن العرب الأمويين قد نقلوا معهم الفساد الاجتماعي والتردي الديني إلى العديد من بقاع الأرض و على رأسها بلاد الأندلس، و هذا ما جعل أهل الأندلس و غيرهم يشككون بصدق الرسالة الإسلامية من جهة، و بصدق أن محمدا صلی الله علیه و آله و سلم هو فعلا رسول الرحمة للإنسانية جمعاء من جهة أخرى.

و رب قائل يقول مستنكرا أو مستفسرة:

و لكن ما دخل هذه الأحداث المتأخرة بعصر الإمام الحسين عليه السلام؟!

ص: 233


1- محمد الغزالي، نظرات في القرآن، دار الكتب الحديثة . القاهرة، ط 3/ 1962 ص228.

فهو لم يعاصر إلا شطرا يسيرا منها، فلماذا نأتي على ذكرها؟!

و يمكننا الإجابة على أسئلة كهذه بقولنا: نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام لم يعاصر من الحكام الأمويين إلا القلة القليلة جدا، و لكن هذا لا يمنع من ضرورة إعطاء صورة متكاملة عن طبيعة الحكم الأموي العام الذي عاش الإمام الحسين عليه السلام الجزء الأخير من حياته الشريفة فيه إلى أن استشهد في ظل ذلك الحكم الجائر.

فالإمام الحسين عليه السلام شهد من الحروب أقواها، و عاصر من الفتن أدهاها و عانی من المصائب أقساها، و كان علیه السلام يدرك في قرارة نفسه، و بالاعتماد على اخبار جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بما ستؤول الأمور إليه بعده، أن بني أمية سيملكون الأمر بيد من حديد و سيحكمون المسلمين بسيف من نار لا يعرف العدل و لا الرحمة.

و لذلك، فالإمام الحسين عليه السلام عاش، بالفعل، هاجس الخوف والقلق مما سيقدم عليه الأمويون لاحقا من أجل إطفاء نور الله و إسقاط راية محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يعش هاجس الخوف والقلق على ذاته و نفسه أبدا، و إلا لما خرج بقوة و شجاعة و إيمان إلى ساحة كربلاء، و لكن خوف الإمام الحسين عليه السلام و قلقه كان على مصير رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم من بعده، و لذلك فعندما نقوم نحن الآن بإعطاء صورة متكاملة لطبيعة الحكم الأموي عموما، فإننا نقصد من وراء ذلك تأكيد صدق الهواجس التي عاشها الإمام الحسين عليه السلام و أحس بها يقينا قبل حدوثها على مدى عقود عديدة.

و من أجل أن نعيش بعدة هاما من أبعاد عصر الإمام الحسين عليه السلام ، علينا أن نتوقف مع حدث هام تعمدنا إرجاء الكلام عنه سابقة، و نرى الآن أن الوقت قد حان فعلا للكلام عنه هنا بالتحديد، إنه صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية و معاهدة

ص: 234

التعايش السلمي بين المعسكرين.

فمن المعروف للجميع أن الإمام الحسين عليه السلام قد شهد ما آلت إليه أمور المسلمين قبيل استشهاد الإمام علي عليه السلام نتيجة خروج معاوية عن طاعة الإمام و إحداث شرخ عريض في صفوف المسلمين واستغلاله حادثة مقتل قريبه عثمان بن عفان الذي شارك هو شخصيا في تسريع عملية مقتله والتخلص منه كي يصفو له الجو بعد ذلك من أجل تنفيذ مخططاته الخاصة التي وضعها هو والمقربون منه كعمرو بن العاص و غيره ممن كان لهم باع طويل في محاربة الرسالة والرسول صلی الله علیه و آله و سلم قبل إظهار إسلامهم.

لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام- شأنه في ذلك شأن أخيه الإمام الحسن المجتبی عليه السلام- أن الإسلام بات على مرمى من حجر من الدخول في دائرة التيه والضياع والوقوع فريسة سهلة و لقمة سائغا في فم الروم و سواهم من الأعداء الخارجيين المتحفزين في كل لحظة للوثوب على الأمة الإسلامية الصغيرة والحديثة الولادة قياسا بالإمبراطوريات والممالك الأخرى القوية والعريقة المحيطة بها.

نعم، لقد أدرك الإمامان السيدان الحسن والحسين عليهماالسلام هذه الحقيقة المرة والتي لا سبيل إلى تجاهلها أو الإغضاء عنها إلا بمجابهتها وجها لوجه و ذلك عن طريق دراستها و تحليلها و من ثم استخلاص النتائج المترتبة عليها، و بالتالي و جوب القيام بالتصرف المطلوب بغية الوصول إلى أي هدف من شأنه أن يحفظ الرسالة السماوية الجديدة، و أن يقلص الهوة بين المسلمين في الداخل و لفت أنظارهم إلى عدوهم المتربص بهم شرا في الخارج.

و كان من الطبيعي أن يكون القرار الحاسم والخطير بشأن تلك المسألة في يد

ص: 235

الإمام الأكبر، الإمام الحسين عليه السلام الذي كان -كما تصفه كتب المسلمين عموما - أشبه الناس بجده النبي المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم خلقا وخلقا.

و لما كان الرسول المصطفى صی الله علیه و آله و سلم قد بعثه الله سبحانه و تعالى رحمة للعالمين، كان من الطبيعي و من المنطقي تماما أن يحذو حفيده الإمام الحسن عليه السلام حذوه في طلب الرحمة والرفق والسلام والمحبة للجميع من مسلمين و حتى غير مسلمين طالما أنهم لا يناصبون الحق العداء الدامي و لا يتربصون بهم دوائر السوء.

و بما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم قد صرح في أكثر من مناسبة قائلا عن حفيده الإمام الحسن علیه السلام: «إن ابني هذا سيد و لعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين»(1).

فقد كان من الطبيعي تماما أن يقبل الإمام الحسن عليه السلام الصلح الذي عرضه عليه معاوية مع التحفظ الكامل على بعض بنود الصلح المكتوبة بوجود الشهود من کلا الطرفين المتنازعين.

و لا ريب أيضا في أن الإمام الحسين عليه السلام كان له رأيه في بنود ذلك الصلح،

ص: 236


1- راجع على سبيل المثال، لا الحصر، ما جاء في الكتب التالية: أ. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، منشورات الشريف الرضي. قم، 1418، ص177. ب . العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مؤسسة البلاغ . بيروت، 1999، ص227. ج. العلامة ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مؤسسة الأعلمي . بيروت، د.ت، ص153. د. الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بيروت، د.ت، ص133. ه . الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاريخ الخلفاء، دار الفكر - بيروت، د.ت، ص176. و محمد رضا (المصري)، الحسن والحسين، المكتبة العصرية . صيدا ، ط1/ 2004 م، ص35.

و كان له بنفس الوقت حضوره الشخصي الذي يمثل دور الإمام الشاهد الذي سيذکر المسلمين لاحقا أن أخاه الإمام الحسن عليه السلام لم يقبل الصلح إلا لقلة ناصريه الحقيقيين من جهة، و ليبين لهم أيضا أن معاوية رجل غدر و مكر لا يقيم للعهود أي وزن و لا يقيم للدين و مواثيقه أي اعتبار، أما الشيء الآخر والذي لا يقل أهمية عما سبق هو إرادة الحسين عليه السلام الواضحة في النزول عند رغبة أخيه الإمام الحسن عليه السلام بعقد الصلح مع معاوية - بعد التأكد من رغبة العدد الأكبر من الأتباع في الإعراض عن المواجهة المباشرة والميل الواضح إلى المهادنة - ليذكرهم لاحقا أن للصلح زمان و للثورة زمان، و لا معنى للثورة ما لم يكن هناك ما يبرر القيام بها من أسباب و ظروف و رياح زمنية مؤاتية و بعد الاستنفاد الكامل لكل الوسائل والسبل السلمية في كيفية التعامل مع جوهر المشكلة و أسباب النزاع.

و من أجل أن تبدو الصورة أكثر وضوحا في ما يتعلق بصلح الإمام الحسن علیه السلام المبرم مع معاوية، والذي كان الإمام الحسين عليه السلام شاهدأ حيا و حيويا على أسباب و ظروف انعقاده و علی بنوده و شروطه، و من ثم على مصيره و نتائجه اللاحقة، نری من الواجب علينا أن نذكر الآن أهم بنود هذا الصلح كما سجلته كتب التاريخ عند كل الأطراف، و خاصة السنية، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود بعض الاختلافات اليسيرة بين الكتب والمراجع المعتبرة.

و نحن بدورنا، بإمكاننا الآن أن ننسق و نختصر صورة مواد ذلك الصلح و نوردها بالشكل التالي:

1- تسليم الأمر إلى معاوية على أن يعمل بكتاب الله و بسنة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم و بسيرة الخلفاء الصالحين.

ص: 237

2- أن يكون الأمر للإمام الحسن عليه السلام من بعده، فإذا حدث له مكروه فيكون الأمر لأخيه الحسين عليه السلام .

3- ليس لمعاوية الحق في أن يعهد بالأمر إلى أحد من بعده .

4- أن يتوقف عن أمير المؤمنين علي عليه السلام والقنوت عليه بالصلاة، و أن لا يذكر عليا إلا بخير.

5- على معاوية أن يحمل إلى الحسين عليه السلام ألفي ألف درهم لتوزيعها على فقراء الشيعة، و أن يفرق معاوية الأموال في أولاد من قتل مع أمير المؤمنين علي عليه السلام يوم الجمل، و أولاد من قتل معه بصفين أيضا.

6- على معاوية أن يجعل الناس آمنين حيث كانوا من أرض الله في شامهم و عراقهم و حجازهم و يمنهم، و أن يؤمن الأسود والأحمر، و أن لا يتبع أحدا بما قد مضى، و لا يأخذ الناس بالهفوات، و أن يعطي أصحاب علي عليه السلام الأمان حيث كانوا، و أن لا ينال أحدة من شيعة على علیه السلام بمكروه، و أن يكونوا آمنين جميعا على أنفسهم و أموالهم و أعراضهم و أولادهم، و أن لا يتعقب عليهم شيئا و لا يتعرض لأحد منهم بسوء، و يوصل إلى كل ذي حق حقه.

و على معاوية أيضا أن لا يبغي للحسن بن علي و لا لأخيه الحسين و لا لأحد من أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، غائلة سرا و لا جهرة، و لا يخيف أحدا منهم في أفق من الآفاق(1).

ص: 238


1- راجع ما جاء في الكتب التالية، مع ضرورة ملاحظة أن البعض منها قد اقتصر على ذكر بعض البنود فقط في حين أن البعض الآخر حاول أن يذكر معظم البنود أو أهمها: أ. العلامة الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، مصدر سابق، ص133. ب. العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مصدر سابق، ص. 240. ج. الإمام العلامة ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مصدر سابق، ص163. د. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق، ص180. ه. العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق، ج2 ص117. و . العلامة غريغوريوس الملطلي المعروف ب (ابن العبري)، مختصر تاريخ الدول، طبع مؤسسة نشر منابع الثقافة الإسلامية . مدينة قم، د.ت، ص108. ز. محمد رضا، الحسن والحسين، مصدر سابق ص48. ح. أسعد وحيد القاسم (الفلسطيني)، حقيقة الشيعة الإثني عشرية، طبع و نشررابطة أهل البيت علیهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، ط 1991/1 ، ص75. ط. محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن، دار المثقف المسلم . قم، د.ت، ص130.

هذه هي، بإيجاز، بنود الصلح بين الإمام الحسن علیه السلام و معاوية والتي عمل من خلالها الإمام الحسن المجتبى علیه السلام علی حقن دماء المسلمين كما كان قد تنبأ له جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم بذلك قبيل رحيله إلى الملأ الأعلى بوقت ليس بالقصير.

و هذا الصلح بين الإمام الحسن عليه السلام و معاوية هو صفحة هامة من الصفحات التي قرأها الإمام الحسين عليه السلام بإمعان و حللها بروية و إتقان، و من ثم استخلص النتائج المنبثقة عنها واحتفظ بتلك النتائج الهامة المستخلصة إلى حين وجوب إظهارها و شرحها و تبيانها إلى عموم المسلمين في الوقت المناسب.

و لعل من أهم النتائج الشريعة التي استخلصها المسلمون عموما و دون انتظار شرحها من الإمام الحسن عليه السلام أو أخيه الإمام الحسين عليه السلام هي حقيقة أن معاوية لا يمكن أن يكون إلا أحد أهم الأغصان في الشجرة الملعونة في القرآن

فمعاوية الذي أعطى الإمام الحسن علیه السلام العهود والمواثيق و أغلظ له الوعود بالوفاء له بها لم يلبث إلا سويعات قليلة على و عوده و عقوده التي استشهد الله عليها حتى انقلب على عقبيه و نکص مرتدا عن كل ميثاق غلیظ و راح يهدم في بناء الإسلام حجرة وراء حجر و كأنه نسي أن أول بند من بنود صلحه مع الإمام الحسن المجتبی

ص: 239

علي السلام هو أن يعمل في الرعية بكتاب الله و سنة رسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

إذن، كانت هذه الحادثة المشهورة إحدى الصفحات الهامة التي عاصرها الإمام الحسين عليه السلام و عایشها عن قرب و استمد منها دروسا عظيمة في كيفية التعامل معها كل أنواع أعداء الرسالة في المستقبل القريب.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم تنبأ لحفيده الإمام الحسن عليه السلام بأنه سيكون السيد العظيم الذي سيحقن بأخلاقه و حكمته و حلمه دماء المسلمين، و قد حدث بالفعل ما تنبأ به الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و كأنه كان يقرأ كتاب الغيب و هو بين يديه الكريمتين.

و هنا لنا أن نتساءل قائلين: نعم، لقد صدق الرسول المصطفی صلی اللهعلیه و آله و سلم بشأن ما سيحدث مع أول ريحانتيه العطرتين بشأن حقن دماء المسلمين، و لكن ما هو موقفه صلی الله علیه و آله و سلم مما سيحدث لثاني ريحانتيه عندما يرفض المسلمون الذين حقنت دماؤهم بفضل أخيه عليه السلام أن يحقنوا دمه الزكي و دم عياله و أهل بيته و أصحابه المخلصين المدافعين عن أحد سيدي شباب أهل الجنة ؟!

أي تناقضي عجيب هذا!!

الإمام الحسن علي السلام يخطط لحقن دماء المسلمين، والمسلمون من وراء قادتهم ينساقون لسفك دماء أخيه الإمام الحسين علیه السلام؟!

أي مفارقة غريبة تلك!!

المسلمون يرفعون أصواتهم بالصلاة والسلام على محمد و أهل بيت محمد خمس مرات في اليوم، و من ثم يعودون فيرفعون أياديهم بالسيوف والرماح ليوقعوها على رقاب أولاد و أحفاد محمد صلى الله عليه و آله و سلم و أهل بيته، و هم يرجون - بعد ذلك - شفاعته؟!

فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

ص: 240

جذور الثورة و دوافع النهضة

تحدثنا في الفصل السابق من هذا الكتاب عن نقطتين أساسيتين و هما: عصر الإمام الحسين عليه السلام والأحداث الهامة التي شهدها كلها حيث كان عليه السلام الشاهد الفعال في معايشتها و في التعامل مع تبعاتها لاحقا، أما النقطة الثانية التي تحدثنا عنها أيضا هي التعريف الموجز بالشجرة الملعونة التي ما برحت تناصب الإسلام والرسول صلی الله علیه و آله و سلم العداء والبغضاء منذ انبلاج الخيوط الأولى لأشعة الرسالة و حتى اندثار دولتهم التي أسست على الغدر والخيانة و على أمل إعادة الحياة إلى الروح الوثنية والقيم الجاهلية في المجتمع الجديد.

و غني عن القول إن هذا الفصل جزء لا يتجزأ عن الفصل السابق، بل يمكننا القول إن هذا الفصل هو الامتداد الفكري الطبيعي للفصل السابق بحيث لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر أبدا.

و لذلك، و قبل أن ندخل في دراسة و تحليل جذور الثورة الحسينية و دوافع تلك النهضة المباركة التي لا تزال تداعب ضمائر الأحرار وقادة الثورات الكبرى في العالم حتى وقتنا الراهن، علينا أن نذکر ثانية بحقيقة أن معاوية بن أبي سفيان الذي تكلمنا عن بعض موبقاته في الفصل الماضي، كان يمثل و بجدارة الطعنة القاتلة التي استقرت في صدر الإسلام.

لقد كان الشيخ الأزهري، العلامة (محمود أبو رية) على حق حين اختصر الكلام

ص: 241

عن معاوية في كتابه (شيخ المضيرة أبو هريرة) و أثره على غير المسلمين من أوروبيين و غير أوروبيين بقوله إن أحد كبار علماء الألمان في الآستانة قال يوما لبعض المسلمين -و فيهم أحد شرفاء مكة المكرمة:

إنه ينبغي لنا أن نقيم تمثالا من الذهب لمعاوية بن أبي سفيان في ميدان كذا في عاصمتنا برلين، فقيل له: لماذا؟ قال: لأنه هو الذي حول نظام الحكم الإسلامي عن قاعدته الديمقراطية إلى عصبية، و لولا لذلك لعم الإسلام العالم كله، و إذن لكنا نحن الألمان و سائر شعوب أوروبا عربة مسلمين)(1).

و لا ريب في أن هذا الكلام صحيح تماما، فمعاوية، و غيره ممن لقبوا أنفسهم بالخلفاء، كان لهم الدور الأبرز في إبعاد الناس عن الإسلام، بل و في تنفيرهم من المسلمين عموما.

فالإسلام من حيث إنه رسالة سماوية أخيرة موجهة بواسطة نبي مرسل إلى عموم أهل الأرض لم يكن بالنسبة إلى معاوية وأمثاله أكثر من ستار عريض يخفون وراءه كل ما يكنون من مطامع شخصية و رغبات ذاتية دنيوية لا تمت للدين الإسلامي بأدنی صلة، و يكفي أن نذكر على سبيل المثال أن المستشرق (هنري ماسيه) المعروف بتشنجه تجاه العديد من المسائل الإسلامية، لم ير حرجا في ذكر تلك الحقيقة الواضحة عن طبيعة الحكام الأمويين عموما، فقد قال الأستاذ (ماسیه) بالحرف الواحد في كتابه الذي يحمل عنوان (الإسلام) ما يلي:

(إن الأمويين رأوا أن اعتناق الإسلام ينقص مدخول الضرائب فوضعوا العوائق

ص: 242


1- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، دار المعارف بمصر . القاهرة، ط3/ 1969، ص185.

أمام اعتناق الإسلام، و كان عمالهم يعاملون هذه الشعوب (غير العربية)، التي هي وارثة لمدنيات قديمة يسرها تذکرها، كطبقة أدنى، و يضغطون عليها و يسيئون معاملتها)(1).

إذن، أن تدفع لهم حفنة من المال أفضل عندهم من أن تصبح أخا لهم في الإسلام.

و يبدو أن قدر أهل البيت عليه السلام، الحملة الحقيقيين لرسالة الله في أرضه، أن يكونوا دائما هدفا مباشرا لعداوة أهل البيت الأموي، ذلك البيت الذي لم يؤمن أفراده بالإسلام إلا خوفا أو طمعا، و لم يدخروا جهدا في محاولاتهم إعادة الناس إلى ما كانوا عليه في عصر الجاهلية من الوثنية والعصبية والروح الأعرابية التي تتعارض مع المبادئ الإسلامية والقيم المحمدية في الكثير من جوانبها و غاياتها.

و قد صدق شاعر الفلاسفة و فيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) عندما وصف تلك العداوة الدائمة بين الحق والباطل، الخير والشر، بقوله:

عبد شمس قد أضرمت لبني هاشم حربا يشيب فيها الوليد

فابن حرب للمصطفی، وابن هند لعلي، و للحسين يزيد(2)

إذن، العداوة بين هذين البيتين قائمة دائما و أبدا، بیت یرید أهله أن يحملوا بشائر النور إلى العالمين ليهدي الإنسان إلى سراج الحق والخير والفضيلة، و بيث ثان يريد أهله أن يطفئوا ذلك النور بأفواههم ليعودوا بالإنسان إلى كهوف الظلم والظلام والرذيلة.

ص: 243


1- هنري ماسية، الإسلام، ترجمة: بهيج شعبان، منشورات عويدات. بيروت، 1960، ص73.
2- آية الله محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، دار الملاك . بیروت، ط1/ 1997، ص216.

نعم، إن كل الخلفاء الأمويين عموما، ومعاوية وابنه يزيد خصوصا، قد رفعوا شعارات إسلامية براقة و حاولوا دائبين إيهام المسلمين أنهم يعملون بكل تقوی و إخلاص لتحقيق تلك الشعارات والعناوين العريضة التي من شأنها أن تضفي عليهم شرعية لقب (الخليفة) و تبعد عنهم بنفس الوقت لقب (الملك) أو حتى (الإمبراطور).

و بالطبع، لم يكتفوا بذلك بل راحوا يغدقون الأموال الطائلة لأصحاب الأقلام المأجورة والضمائر المهجورة كي يشوهوا معالم الرسالة و سيرة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم وذلك بهدف تبرير ما يقومون هم به من أفعال دنيئة و آثام رديئة يترفع عن ارتكابها حتى الإنسان العادي من عموم المسلمين.

لقد أوحى (خلفاء) بني أمية - من خلال مؤرخيهم و رواتهم - أن النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم غیر معصوم حتى عن الكبائر، بل يمكن له أحيانا أن ينسی آیات من القرآن، و يمكن له أن يظلم في القضاء بحجة أن بعض الناس يكونون أقوى في حجتهم من البعض الآخر و لو كانت تلك الحجة مكذوبة.

و يمكن للرسول صلی الله علیه و آله و سلم أن يعيش طويلا مع ملذاته حتى أنه لا يصبر على عدم مجامعة أزواجه، فيباشر البعض منهن و هن حائضات.

والأدهى من ذلك أن الرسول صلى الله عليه و آله و سلم کان یشرب الخمر أحيانا دون حرج مع معرفته المسبقة به أنه خمر و مسكر، و لذلك، ما على القارئ الكريم، إذا أراد أن يتأكد من ورود هذه الصفات الذميمة التي ألصقت بالنبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم زورا و بهتانا، إلا أن يعود إلى قراءة (صحاح) المسلمين ليرى ذلك بأم عينه و خصوصا تلك الأحاديث الكثيرة الزائفة التي وردت على لسان شيخ المنافقين (أبي هريرة)، ذلك الراوي الكاذب الذي نهاه عمر بن الخطاب عن رواية الحديث، و عزله عن ولاية البحرين

ص: 244

لعدم أمانته، بل وقام أيضا بجلده بقسوة حتى أدمى ظهره(1).

و رب قائل يسأل هنا مستفسرا عن سبب إلصاق هذه التهم الباطلة بالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، و ما الحكمة في ذلك.

و يكون الجواب، و بكل بساطة، أنهم كانوا يلصقون تلك الافتراءات الباطلة والتهم المشينة بصورة الرسول المصطفى صلی اله علیه و آله و سلم ليكون ذلك مخرجة منطقيا لهم من الأفعال السوداء التي كانوا يمارسونها على مسمع و مرأى من عامة المسلمين.

هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فقد غرسوا في أذهان الناس فكرة (الجبرية) في الأفعال.

فالخليفة- وفق تلك النظرية الدخيلة على الفكر الإسلامي السليم- سيتمكن من قتل كل معارضيه و تصفيتهم لأن الإرادة الإلهية أجبرته على ذلك، والخليفة أيضا سيكون قادرا وفقا لنفس النظرية السابقة -على ارتكاب كل ما تطيب له نفسه من آثام و موبقات دون أن يحاسبه أحد و ذلك لسبین جوهريين و هما: أولا، إن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ذاته كان - وفق مروياتهم الملفقة - معرضا لارتكاب كل أنواع الأخطاء والمعاصي، و بالتالي فمن الطبيعي أن يخطئ الخليفة كما أخطأ الرسول.

ثانية، إذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي إجبار العبد على فعل المعاصي، فلا يجوز لأحد من الخلائق أن يعترض على ما يقوم به الخليفة من جرائم و آثام حتى و لو كانت تلك الجرائم بحق الإسلام ذاته.

و هكذا كان الخليفة أو الحاكم منهم يريد إسلاما خاصة على شاكلته و على مقتضيات احتياجاته و متطلباته، فقد أصبح الإسلام بالنسبة إليهم أشبه ما يكون بقطعة

ص: 245


1- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، مصدر سابق ص105.

من القماش يقوم الخليفة بقصها وتفصيلها وفقا للشكل الذي يريده وتبعا للمقاس المطلوب.

فهو رب الرعية في النهار، لكنه، بنفس الوقت، هو رب الغانيات في الليل، و هو الذي يخطب بالمسلمين في أيام الجمعة و يقول لهم محذرا من الظلم و مذكرا إياهم بالحديث النبوي الشريف الذي يقول فيه رسول الرحمة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم إن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فما أطعمتها و ما تركتها تأكل من خشاش (أي حشرات) الأرض.

نعم، هو يحذر المسلمين في خطب الجمعة من ظلم الهرة و ربما أدنى من ذلك، لكنه يحض المسلمين في نفس الخطب على وجوب قتل أهل بيت محمد عليهم السلام و إراقة دمائهم و دماء أتباعهم أينما وجدوا!!

إنهم يرفعون أصواتهم بالصلاة على محمد خمس مرات في اليوم، و بعد الصلاة يتقربون إلى الله بتقتيل أبناء و ذرية ذلك الرسول الذي كانوا منذ قليل يرفعون أصواتهم بالصلاة عليه !!

و على أي حال، و من أجل عدم الخروج عن محور بحثنا، دعونا الآن نبحث في الأسباب التي دعت الإمام الحسين عليه السلام للقيام بثورته، أو بالأصح، بنهضته في مواجهة و مقارعة رؤوس الإمبراطورية الأموية مع معرفته المسبقة بالثمن الباهظ الذي سیدفعه لقاء ذلك.

و قبل كل شيء، دعونا نقف قليلا مع كلمات قليلة و معبرة قالها المفكر والدكتور السوري (شبلي شميل) (1917-1853) عن مفهوم الثورة و ضروراتها.

يقول الدكتور (شمل): (إن المجتمع لا بد له في بعض الأحوال من ثورة تخلصه

ص: 246

من خطر الهلاك، و يلزم أن تكون الثورة صادرة عن استعداد باطن كأنها اتفاق خفي بين أعضائه، موافقة لأمياله، أي أن تكون عبارة عن صوت الشعب لكي تكون قانونية و إلا انقلبت شا عليه)(1).

و يرى هذا الدكتور و(الفيلسوف) - كما جاء وصفه في العديد من المراجع والموسوعات - أن الثورة يجب أن يكتب لها النصر بطريقة أو بأخرى و إلا فإنها ستذهب جهودها أدراج الرياح و تتحول إلى رماد في مهب العواصف و على كثبان الرمال.

و لا ريب في أن هذا الكلام لا يخلو من الصدق والصحة و إن كان لدينا بعض التحفظات على تحليل تفاصيل بعض العبارات، فالثورة حركة، والحركة حياة، والحياة نقيض الموت والهلاك، و بالتالي فإن الثورة أو النهضة هي اختلاجات حياة جديدة في جسد أنهكه السقم.

أو لنقل: إنها جنين متمرد على رحم بدا و كأنه أصيب بالعقم أو السقم.

و هنا علينا أن نؤكد على مسألة هامة جدا عند البحث عن جذور و أسباب النهضة الحسينية، علينا أن نؤكد مرارة على حقيقة أن الإمام الحسين عليه السلام و أتباعه المخلصين لم يختاروا و لم يفضلوا السيف على الكلمة، بل على العكس من ذلك تماما، فالنهضة الحسينية كانت في حقيقتها و في جوهرها حركة ممانعة قائمة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوة الكلمة لا بقوة السيف.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يختر الحرب بداية لإحياء دین جده الرسول المصطفى

ص: 247


1- محمد زكي عبد القادر، الحرية والكرامة الإنسانية، مكتبة الخانجي بالقاهرة، 1959، ص74.

صلی الله علیه و آله و سلم، بل نهض کما نهض جده صلی الله علیه و آله و سلم من قبله يدعو الناس إلى إصلاح المجتمع بالكلمة الطيبة و يدعوهم إلى الدين السماوي الجديد والأخير بالحكمة والموعظة الحسنة.

و لو قرأنا بإمعان و روية رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، و ذلك قبل خروجه بأهله و أصحابه إلى كربلاء، لأدركنا أن الإمام الحسين عليه السلام قد جعل الأفضلية في الحوار مع الآخر لسلطة الكلمة أولا، أما اللجوء للحوار بالسيوف فهو الحالة الاضطرارية التي قد يجبره الطرف الآخر إلى اللجوء إليها والعمل بها.

و كما وعدنا القارئ في الفصل الأول، ها نحن نعود لوصية الحسين عليه السلام مرة أخرى من أجل شرحها و توضيحها هنا، و ننقلها ثانية بكل أمانة كما جاءت في كتاب (مقتل الحسين) لمؤلفه السني المعروف (أبي المؤيد الموفق بن أحمد المكي المعروف بأخطب خوارزم الحنفي)- و يقول نص الرسالة الذي تعترف به كل المراجع الإسلامية والتاريخية المعتبرة:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، إن الحسين بن علي يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أن محمدا عبده و رسوله جاء بالحق من عند الحق، و أن الجنة والنار حق، و أن الساعة آتية لا ريب فيها، و أن الله يبعث من في القبور، إني لم أخرج أشرا و لا بطرا و لا مفسدا و لا ظالما، و إنما خرجت أطلب الإصلاح في أقة جدي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهى عن المنكر، و أسير بسيرة جدي محمد، و سيرة أبي علي بن أبي طالب و سيرة

ص: 248

الخلفاء الراشدين فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، و من رد علي هذا صبرت حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و يحكم بيني و بينهم و هو خير الحاكمين، هذه وصيتي إليك يا أخي و ما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب والسلام عليك و علی من اتبع الهدى و لا قوة إلا بالله العلي العظيم)(1).

إذن، هذا هو مجمل نص الرسالة الموجهة من الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن علي المعروف بابن الحنفية، و هي رسالة قصيرة و معبرة جدا، و لها دلالات واضحة تدل على أن الهدف الأول للإمام الحسين عليه السلام من ثورته النهضوية هو- كما قال - «أطلب الإصلاح في أمة جدي محمد صلی الله علیه و آه و سلم، أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر...»، و هذا يعني بشكل بديهي تماما أن الحوار الذي كان يريده الإمام الحسين عليه السلام مع خصمه هو الحوار النابع من جذور الكلمة الطيبة والحجة البرهانية الناضجة والقادرة على إقناع الطرف الآخر دون الحاجة للجوء إلى منطق القوة أو إلى المبدأ القائل إن القوة هي الحق.

فالحق في فلسفة النهضة الحسينية هو القوة و ليس العكس، و لذلك فإن الحق يكتسب قوة ذاتية من كونه المبدأ الذي يقف موقف النقيض مما هو باطل و لأن الحق عند الإمام الحسين عليه السلام هو القوة، فإن هذه القوة يجب أن تنطلق أولا من قاعدة الكلمة والحوار، من قاعدة العقل والمنطق، من قاعدة الحجج والبراهين، لا من قاعدة الفوضى والانفعالات، أو من قاعدة التعصب والتعنت، أو حتى من منطلق اللجوء في حسم الخلافات والنزاعات إلى سلطة السيف والنار.

فلو تدبرنا قليلا قول الإمام الحسين عليه السلام في الرسالة السابقة «و من رد علي هذا

ص: 249


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق ج1 ص189.

أصبر حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق، و هو خير الحاکمین»، نرى أنه عليه السلام لا يريد لأصحابه و لمن كان معه من أهل بيته أن يكونوا هم البادئين بالقتال لأنه علیه السلام لا یرید بالأساس أن يتحرك في حواره مع المعسكر الآخر من خط العنف والحوار بلغة الدماء، بل يريد قبل كل شيء أن يسير وفق نهج الرفق واللين الذي رسمه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لسياسته الأخلاقية في تعامله مع الآخرين.

و اعتمادا على ذلك، يمكن أن نعتبر أن الإمام الحسين لم يخرج محاربا بمعنى أن هدفه الأساسي كان الحرب والاقتتال، بل خرج مصلحا، و ثائرا لتغيير وجه الواقع الذي لم يعد يعكس الصورة التي أرادها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم له.

فهو علیه السلام، إذن، داعية للحق و طالب للإصلاح في مجتمع أراد له القائمون عليه أن يبتعد عن كل ما من شأنه أن يعيده إلى تطبيق المبادئ و إظهار القيم التي نادى بها رسول الإسلام صلی الله علیه و آله و سلم ابن وابن عمه الإمام علي عليه السلام منذ الخيوط الأولى لفجر الرسالة.

و هنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطة هامة وردت في رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد ابن الحنفية والتي ذكرناها سابقا و تتعلق هذه النقطة بقول الإمام الحسين عليه السلام : «... وأسير بسيرة جدي محمد و سيرة أبي علي بن أبي طالب و سيرة الخلفاء الراشدين».

فالإمام الحسين عليه السلام بالاعتماد على الكثير من المراجع والمصادر السنية المتقدمة والمتأخرة، لم يقل هذه العبارة كما هي، بل وردت في معظم المصادر والمراجع دون عبارة (وسيرة الخلفاء الراشدين)، و لكنني تعمدت أن أذكر هذه العبارة كما وردت حرفيا ضمن الرسالة التي أخذتها من كتاب مقتل الحسين لمؤلفه (أخطب خوارزم الحنفي) للتأكيد على أن الرواة في زمن الحكومات الأموية المتعاقبة كانت

ص: 250

تسعى جاهدة لوضع السم في الدسم، و من ثم لتضليل الرأي الشعبي العام و لتشويه الحقائق حتى تغدو، مع مرور الزمن، تلك الحقائق أكاذيب، و تتحول الأكاذيب في مؤلفاتهم إلى حقائق.

و بالطبع، لا أقصد هنا الإساءة إلى (أخطب خوارزم الحنفي)، فهو من رجال الفكر الديني الذين يتميزون بمكانة لائقة حتى عند الشيعة، و لكن ما قصدت قوله هو أن السياسة الفكرية والإعلامية الأموية كانت ذات نهج سياسي إعلامي واضح يقوم على مبدأ: اكذب الآن واستمر في الكذب حتى تصدقك الأجيال القادمة.

و على كل حال، لو أردنا أن نتعمق أكثر في تحليل تلك الرسالة السابقة التي وجهها الإمام الحسين عليه السلام إلى أخيه محمد بن الحنفية عليه السلام لعرفنا و أدركنا أن الإمام الحسين عليه السلام لم يخرج لمقابلة أعداء الإسلام إلا و هو مسلح بالإيمان الكامل و بقوة الكلمة الطيبة التي يمكن أن تثمر سلاما و خيرا و محبة بين الجميع.

و لذلك، فعندما يقول الإمام الحسين علیه السلام: «لم أخرج أشرا»، فإنه يعني بذلك أنه لم يخرج طلبة للشر، و لا لزرع الشقاق بين صفوف المسلمين، و لكنه خرج بقوة الإيمان الكامل لتذكير المسلمين عموما بثوابت دينهم و بأسس و أخلاقيات عقيدتهم و رسالتهم.

فخروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء هو خروج محمد صلی الله علیه و آله و سلم ذاته، و لكن هذه المرة من خلال حفيده الحسين عليه السلام إلى أمة المسلمين ليذكرهم من جديد بقول الله سبحانه و تعالى: «إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ»(1)، قاصدا بذلك الابتعاد عن العنف من جهة، و إيجاد الضمان المبدئي لقيامه بواجبه الشرعي، كإمام

ص: 251


1- سورة الأنبياء: الآية 92.

مفترض الطاعة، بتذكير المسلمين بواجباتهم الشرعية و بضرورة العودة إلى دائرة الحق والالتزام بوصايا الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم و بقيمه و مبادئه السماوية السامية من جهة أخرى.

و عندما يؤكد الإمام الحسين على قوله «لم أخرج أشرا» بقوله: «ولا بطرا»، فإن أبسط ما يمكن أن يفهم من هذه العبارة هو أنه عليه السلام لم يخرج طلبا للاستعلاء و لا للغطرسة أو للتحكم والتسلط على الآخرين، بل إن أول هدف من أهداف خروجه العديدة هو التصدي لاستعلاء الآخرين و لإيقاف تغطرسهم و تحكمهم في رقاب الناس و في مصائرهم و سائر أحوالهم.

و كما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عاش من جديد في نهضة حفيده الإمام الحسين عليه السلام ، كذلك معاوية قد عاش من جديد أيضا، هو و من والاه، في نهج ابنه يزيد قاتل أبناء الأنبياء.

و قد رأينا في الفصل السابق من هذا الكتاب كيف أن معاوية و أمثاله من المقربين منه قد أرادوا بكل ما أوتوا من قوة و بأس أن يطفئوا نور الله بأفواههم و أن يخنقوا الإسلام و هو ما زال فتيا و ذلك من خلال تفريغه التام من کامل محتواه الروحي و من كل قيمة الإنسانية و تعاليمه الرسالية، و قد رأينا في الفصل السابق كيف أن معاوية قد تربع على عرش الملك بعد أن افترش الأرض دماء و عظام جماجم ضاربة بتعاليم الإسلام عرض الحائط.

و ربما كان الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) من أكثر الأدباء والشعراء توفيقا في وصفه لمعاوية و للطريقة التي جاء بها يتحكم من خلالها في رقاب المسلمين، و ها هو يقول في ملحمته الغراء (عيد الغدير) معبرا عن ذلك:

ص: 252

إن ملكأ يشاد من دمع ثكلى *** و دماء الشيوخ والفتيان

هو صرح أوهی من الكذب أسأ *** فجذور الفناء في البنيان

بسم الحظ يا معاوي فاجلس *** فوق عرش من المآثم قان(1)

ثم يتابع الأستاذ (سلامة) و صفه الصائب والدقيق للنهج الذي رسمه معاوية لكل عماله و ولاته على الأمصار والبلدان قائلا:

إن عمالك الطغاة نمور *** مرهفات النيوب للرعيان

فاستطالت على الرعية إجراما *** و نهبا منوع الألوان

اتخذوا خلقك المزيف نهجأ *** إن كل المقال في العنوان

ففي ز من معاوية انتشرت الرذائل بكل أنواعها و تفشت النقائص بكل أصنافها، حتى أن المؤمن بات يخاف من إظهار إيمانه و حبه لأهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم وكأنه يجني إثما عظيما أو كأنه يرتكب ما لا كفارة له أبدا.

و لذلك، فعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام إنه قد خرج إلى كربلاء من أجل (طلب الإصلاح) في أمة جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، علينا أن ندرك أن الإصلاح هو لغة الأنبياء والرسل والأوصياء، بل هو أيضا لغه المصلحين والمرشدين الروحيين عبر مختلف العصور.

فالإصلاح هو إعادة الاعتبار إلى عملية إرشاد المجتمع و توجيهه إلى الفضيلة والحق والخير والسعادة، و إلى كل قيمة من القيم الإنسانية النبيلة التي من شأنها أن تصقل الجانب الإيجابي الخير في كل إنسان.

و ليس هذا فحسب، بل إن الإصلاح أيضا هو عملية ثورية ذاتية تقوم بنفس الوقت

ص: 253


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص194.

بالوقوف والتصدي لكل قوى الجهل والظلام، و مجابهة شتی وجوه الشر والظلم والفساد.

و لو أردنا أن نتوقف قليلا مع مبدأ الإصلاح الذي اعتمده الإمام الحسين عليه السلام في نهضته، و عرضنا ذلك المبدأ على ميزان القرآن الكريم، فماذا عسانا أن نرى ونستنتج؟!

لا ريب في أن الحصول على الجواب المطلوب ليس بالشيء العسير أو حتى الصعب، و لكن دعونا الآن نستعرض سوية بعض الآيات القرآنية المباركة التي تتحدث عن الإصلاح والمصلحين في المجتمع و من ثم ننتقل إلى الجواب المطلوب.

يقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الحكيم: «فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ»(1)، و يقول سبحانه في مكان آخر أيضا: «فَمَنِ اتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لَا هُمْ يَحْزَنُونَ»(2)، و يمكننا أن نقرأ أيضا عن الأنبياء المصلحين قوله سبحانه و تعالى في سورة الأعراف: «وَ قَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَ لَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ»(3)

إذن، فالإصلاح رسالة النبي والرسول والوصي، و هو أيضا مسؤولية فردية يمكن أن تقع على عاتق كل فرد من أفراد المجتمع، فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم أخبرنا في أكثر من موضع و في أكثر من مناسبة أنه على كل واحد منا إذا رأى منكرا في مجتمعه أن يغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، و إن عجز عن ذلك فعليه أن يستنكره بقلبه و ذاك أضعف الإيمان.

ص: 254


1- سورة الشورى: الآية 40.
2- سورة الأعراف: الآية 35.
3- سورة الأعراف: الآية 142.

و من هنا كانت انطلاقة الإمام الحسين عليه السلام في نهضته انطلاقة قرآنية صادقة لا تشوبها شائبة و لا تعيبها عائبة، فالنهوض كان منطلقة أساسيا من أجل تطبيق أحكام الله بين عباده والعودة بأولئك العباد إلى جادة الحق والالتزام بمبادئ السماء التي تنص أساسا على عدم اتباع ولاة السوء و أئمة أهل النار، بل تنص على مجابهتهم والتصدي لهم، و على استنكار أفعالهم و سوء أعمالهم و على العمل الدؤوب من أجل اجتثاث الفساد من جذوره و من ثم الانكفاء على غرس مفاهيم الإصلاح في تربة ذلك المجتمع الذي تم تلويثه و تلويث بيئته العامة بشتى أنواع الشرور والفساد.

و رب قائل يقول:

لقد عرفنا، من خلال ما سبق، الكثير عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام و عن مكانته من الرسالة الإسلامية و من جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلقه و خاتم رسله علیهم السلام، و عرفنا، بنفس الوقت، الكثير والكثير عن معاوية بن أبي سفيان و عن سوء سيرته و سريرته كما جاء في الكثير من كتب المسلمين الأوائل على مختلف مشاربهم و مذاهبهم، بل و حتى في دواوين و كتب من هم من غير المسلمين أيضا، نعم، لقد عرفنا كل هذا، و لكن حتى الآن لم نعرف الكثير عن شخصية يزيد بن معاوية الذي كان هو المرتكب الفعلي لفاجعة كربلاء بحق الإمام الحسين و أهل بيته عليهم السلام و أصحابه، بل و بحق الله والإسلام والقرآن أيضا.

هنا، يمكننا أن نقول لكل من يقول ذلك إنك على حق في ما تقول و تطلب، و لكن يمكننا أن نعطيك الصورة المتكاملة عن شخصية يزيد (لعنة الله به) من خلال هذا الفصل والفصول التي تليه من هذا الكتاب، فلنصبر إذن حتى نكمل تحليل وصية الإمام الحسين عليه السلام .

ص: 255

فلو حللنا قول الإمام الحسين علیه السلام: «أريد أن آمر بالمعروف و أنهی عن المنكر»، لأدركنا و عرفنا العديد من السمات التي تتصف بها شخصية يزيد بن معاوية سليل الغدر والمكر.

فيزيد عبارة عن نسخة طبق الأصل عن والده معاوية في كل صفاته و نعوته، و ربما فاق الأب أباه في بعض الصفات، و لذلك فعبارة الإمام الحسين عليه السلام التي توضح هدفه الأساسي في الإصلاح القائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لها الكثير من الدلالات على شخصية معاوية وابنه يزيد السائر على نهجه و خطاه.

و ليس هناك من حجة على ما نقول أقوى من تلك الوصية الشهيرة التي أوصى معاوية ابنه يزيد بالعمل بها بعد أن يستتب الأمر له من بعده.

و لا حاجة لنا إلى ذكر كل تلك الوصية السوداء الشائنة، و لكن لا بأس بذکر مقدمتها فقط و ذلك لأن المقدمة تفصح بحد ذاتها عن بقية مضمون الوصية من حيث الروح والمحتوى العام.

يقول معاوية في مقدمتها: (يا بني إني كفيتك الرحلة والترحال، و وطأت لك الأشياء، و ذللت لك الأعداء، و أخضع لك أعناق العرب)(1)، و قد علق الأستاذ الباحث (أنطون بارا) على هذه الوصية الخرقاء بقوله، في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي)، إنها: (وصية مغرورة متراخية تقطر لؤما و لا أخلاقية قدمها طاغية مريض لابن فاسق ينبئه فيها بصفاقة ما بعدها صفاقة، بأنه ذلل له الأعداء، وأخضع له أعناق العرب)(2)

ص: 256


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص150.
2- نفس المصدر السابق ص151.

و هذا يعني أيضا أن معاوية لم يدخل الإسلام حبا بالإسلام و لا إيمانا منه بالرسالة أو الرسول صی الله لیه و آله و سلم، و لم يكن سببا مباشرة في اقتتال المسلمين في ما بينهم نتيجة لمبدأ أو القيمة أخلاقية يعتقدها و يدافع عنها، بل إن دخوله الإسلام و قتاله لأهل الإسلام كان نابعا من مصالح شخصية و مطامع ذاتية لا تمت إلى الإسلام و رسالته بأدنى صلة، و ما المقدمة التي أوردناها نقلا عن وصيته إلا الدليل الأقوى على أنه كان يحاول جاهدة أن يعود بالأمور إلى عصر الجاهلية و أن يوطد أركان الحكم والملك لأهله من بني أمية منفذة بذلك وصية أبيه، أبي سفيان، المعروفة للجميع.

أما سياسة معاوية العامة مع المسلمين، و هي السياسة التي أراد معاوية من ابنه يزيد أن ينتهجها في حياته مع الرعية، فيمكن التعرف عليها بشكل واضح من خلال قراءة وصيته التي أوصى بها قائده بسر بن أرطأة حين وجهه إلى الحجاز واليمن، حيث أمره فيها قائلا: (سر حتى تمر بالمدينة فاطرة الناس، وأخف من مررت به، وانهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا... و أرهب الناس عنك فيما بين المدينة و مكة، واجعلها شردة)(1).

و غني عن القول إن يزيد كان، بالفعل، ولدا مطيعا لوصايا أبيه معاوية اللاأخلاقية ولآدابه الجاهلية اللاإسلامية، و ربما بإمكاننا القول إن يزيد الابن قد تفوق على أبيه في العديد من المواقف من ناحية تغييب الضمير واغتيال المشاعر والأحاسيس و وأد الخير والعدل والفضيلة.

و لذلك، يمكننا القول الآن أنه إذا كان الهدف الأول من الثورة الحسينية هو

ص: 257


1- ابن ابي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار إحياء الكتب العربية، ج2 ص7

النهضة الإصلاحية القائمة على مبدأ الحوار واللاعنف في مواجهة (الآخر)، فإن الهدف الثاني، بلا ريب، هو التأكيد على أن الحاكم أو الخليفة يجب أنيكون قدوة المجتمع في الأخلاق والفضائل والخصال الحميدة العامة بحيث يكون هو الحصن المنيع والدرع الصلب الذي يحمي قيم المجتمع وآدابه، و يصون جملة المبادئ والتعاليم التي حملتها رسالة الماء إلى أهل الأرض.

و من هذه النقطة بالتحديد، يمكن لكل واحد منا أن يسأل السؤال التالي:

أين موقع يزيد من هذا الكلام المتعلق بخصال و صفات الحاكم أو الخليفة؟ و ربما قادنا هذا السؤال المطروح إلى أسئلة عديدة أخرى لا تقل أهمية عن السؤال الأول، و لذلك، فإن أول ما يمكن أن نقدمه للقارئ في هذا المجال هو إعطاؤه الصورة المتكاملة عن شخصية يزيد و سلوكياتها كما وردت في الكثير من كتب المسلمين والمسيحيين على حد سواء، أما ما يتعلق بالإجابة عن السؤال الذي طرحناه منذ قليل و قدرنا أن يسأله أي قارئ أيضا، فسنترك الإجابة عليه للقارئ الكريم بعد أن يقرأ بعض ما جاء في وصف یزید بن معاوية، حفيد أبي سفيان.

و على كل حال، والتزامة مني بعنوان الكتاب الذي هو بين أيدينا الآن والذي يدل على دراسة فاجعة کربلاء من وجهة نظر الضمير العالمي (الحدیث) فقط، فسوف نقتصر في تحليلنا لشخصية يزيد على ما يقوله رجال الفكر والأدب في العصر الحديث، أما ما يقوله عنه القدماء فهذا مما لا يسعنا ذكره هنا بشكله المناسب و ذلك لضيق المقام من جهة، و لضيق الوقت من جهة ثانية.

و لذلك دعونا الآن نبدأ رحلتنا في التعرف على شخصية يزيد و موقعها من الأخلاق الإسلامية والآداب المحمدية، مع الأديب والمفكر اللبناني الأزهري (عبد

ص: 258

الله العلايلي) صاحب كتاب (الإمام الحسين) الذي بلغت شهرته الآفاق الإسلامية، بل و طرقت أبواب الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين حتى قال فيه المفكر والأديب المسيحي (كرم قنصل): (كتاب واحد فحسب قرأته، فوجدت فيه ضالتي في فهم شخصية الحسين و ثورته، ألا و هو كتاب (الإمام الحسين) للشيخ العلامة عبد الله العلايلي)(1).

و في كتاب (الإمام الحسين) يقول الشيخ العلامة (العلايلي) واصفا شخصية يزيد بالاعتماد على أوثق المصادر التاريخية لأهل السنة:

(و بالجملة، كان (یزید) موفر الرغبة في اللهو والقنص والخمر والنساء و كلاب الصيد حتى كان يلبسها الأساور من الذهب والجلال المنسوجة منه و يهب لكل كلب عبدا يخدمه، و ساس الدولة سياسة مشتقة من شهوات نفسه، و كانت ولايته ثلاث سنين و ستة أشهر، ففي السنة الأولى قتل الحسين بن علي، و في السنة الثانية نهب المدينة و أباحها ثلاثة أيام ثم قتل فيها سبعمائة من المهاجرين والأنصار و لم يبق بدري بعد ذلك، و قتل عشرة آلاف من الموالي والعرب والتابعين، و افتضاض ألف عذراء)(2).

فأين، إذن، موقع يزيد من أخلاقيات الرسالة و من آداب صاحب الرسالة صلی الله علیه و آله و سلم؟!

بل أين أخلاق یزید- في حال وجودها - من أخلاق الإمام الحسين عليه السلام ؟!

و من هنا، رأى العلامة (العلايلي) أن (الحسين عليه السلام لم يخرج على إمام و إنما

ص: 259


1- راجع: أ. ما جاء في مقالة للأستاذ كرم قنصل في مجلة (الكلمة) السورية عدد (14) لعام 1979. ب. أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص365
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة التربية . بيروت، 1986، ص346.

خرج على عاد فرض نفسه فرضا أو فرضه أبوه بدون ارعواء)(1) مع معرفة معاوية الكاملة أن ابنه يزيد كائن بشري مجرد من كل الأخلاق والصفات التي تؤهله ليكون إنسانا مسلما قبل أن يكون خليفة على المسلمين.

أما المفكر والأديب (عباس محمود العقاد) (1889- 1964) صاحب المؤلفات الفكرية والأدبية التي بلغت (83) کتابا في أنواع مختلفة من الثقافة الرفيعة، فقد كانت له صولة قوية في رحاب كربلاء حيث ألف كتابا خاصا عن سيد الشهداء عليه السلام و قد أسماه (أبو الشهداء الحسين بن علي)، و يعتبر من أهم الكتب التي تتناول دوافع الثورة الحسينية.

و يرى الأستاذ (العقاد) في كتابه (أبو الشهداء) أن المقارنة بين الإمام الحسين عليه السلام و بين يزيد هي مقارنة غير جائزة أساسا و ذلك لفقدان التكافؤ بين الطرفين.

و يؤكد (العقاد) ذلك بقوله: (... الموقف الحاسم بينهما موقف الأريحية الصراح في مواجهة المنفعة الصراح، و قد بلغ كلاهما من موقفه أقصى طرفيه و أبعد غايتيه فانتصر الحسين بأشرف ما في النفس الإنسانية من غيرة على الحق و كراهة للنفاق والمداراة، وانتصر یزید بأرذل ما في النفس الإنسانية من جشع و مراء و خنوع لصغار المتع والأهواء)(2).

و للتأكيد على سوء خلق يزيد الذي استباح كل الحرمات في الإسلام، يتابع الأستاذ (العقاد) وصفه ليزيد قائلا: (... من كان کلفه بالشعر الفصيح مغريا له بمعاشرة الشعراء والندماء في مجالس الشراب، و كان و لعه بالصيد شاغلا يحجبه عن

ص: 260


1- نفس المصدر السابق ص344.
2- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص16

شواغل الملك والسياسة، و كانت رياضته للحيوانات مهزلة تلحقه بأصحاب البطالة من القرادين والفهادين، فكان له قرد يدعوه (أبا قیس) يلبسه الحرير و يطرز لباسه بالذهب والفضة و يحضره مجالس الشراب...)(1)

و لعل أبلغ ما نقله (العقاد) لنا عن يزيد هو القول المشهور لعبد الله بن حنظلة: (والله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمي بالحجارة من السماء، إنه رجل ينكح الأمهات والبنات والأخوات و يشرب الخمر و يدع الصلاة، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت الله فيه بلاء حسنا)(2).

و يبدو أن موقف العلامة الشيخ (محمد عبده) (1849- 1905) جاء أكثر جرأة و قوة من موقف الأديب المفكر (العقاد) و ربما من مواقف الكثير من الأدباء والمفكرين الآخرين الذين أدلوا بدلائهم في بحر الحديث عن أسباب نهضة الإمام الحسين عليه السلام والعوامل التي دفعت به بشكل مباشر أو غير مباشر للخروج إلى أرض کربلاء

و قبل أن نذكر موقف الإمام العلامة (محمد عبده) من مسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، لابد لنا من تذكير القارئ بالموقع الفكري والديني الذي كان يشغله هذا العلامة المصري البارز.

فالعلامة (عبده) كان واحدا من أبرز المصلحين الدينيين في عصر النهضة الذي حاول فيه العرب أن يقلدوا الغرب في إصلاحاتهم و نهضتهم، و كان العلامة (عبده) - إلى جانب صديقه السيد جمال الدين الأفغاني الأسترابادي- من أبرز الذين نادوا

ص: 261


1- نفس المصدر السابق ص60
2- نفس المصدر السابق ص60.

بتجديد الدين و تنقيته من كل الشوائب التي علقت به على مر السنين والعصور.

و قد تولى العلامة (عبده) الإفتاء في الديار المصرية عدة سنوات، و له العديد من الآثار الفكرية و من أشهرها شرح کتاب نهج البلاغة للإمام علي عليه السلام ، و له رسالة و جيزه كان قد وجهها في (18) نیسان عام (1904) إلى الأديب الروسي الكبير (ليو تولستوي) (1828- 1910) عندما ثارت ضده و ضد تعاليمه الكنيسة الروسية و حكمت عليه ب (الحرمان)، و هي رسالة موجزة و مؤثرة حيث يصف العلامة (عبده) فيها الأديب الروسي الكبير بالحكيم الجليل لأنه ثار على الدين التقليدي و مزق حجب الأعراف البالية التي لا تقبلها الفطرة السليمة و لا العقول النيرة البصيرة، و من جملة ما جاء فيها، قوله مخاطبا (تولستوي): (فما كنت بقولك هاديا للعقول، كنت بعملك حائا للعزائم والهمم، و كما كانت آراؤك ضیاء يهتدي به الضالون، كان مثالك في العمل إمامة يقتدي به المسترشدون، و كما كان وجودك توبیخا من الله للأغنياء، كان مددا من عنايته للفقراء )(1).

إذن، فالعلامة الإمام (محمد عبده) كان له سعة اطلاع على الحركات الدينية والتيارات الفكرية التي كانت تتصارع من أجل شق طريقها الأمن إلى الوجود، و من هنا تبرز أهمية وجهة نظر العلامة (عبده) في تقييمه لمسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام بمبادئه و قيمه على مبادئ یزید- في حال وجودها- و على أسلوبه في إدارة العباد والبلاد.

و ربما لأن العلامة (عبده) كان واحدا من أبرز أعلام النهضة والإصلاح، فقد كان الأقدر على دراسة و تحليل و تقييم نهضة الإمام الحسين عليه السلام في زمن قلت فيه القيم

ص: 262


1- محمد عبده، مختارات، إعداد و نشر وزارة الثقافة، دمشق، 2005م، ص189.

و نضبت فيه الضمائر الحية والوفاء بالأمم، و من هذه النقطة، فقد أطلق العلامة (عبده) حكمه قائلا في (تفسير المنار): (إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع، و حكومة جائرة تعطله، وجب على كل مسلم نصر الأولى... و من هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول صلی الله علیه و آله و سلم على إمام الجور والبغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوة والمنكر، یزید بن معاوية خذله الله و خذل من انتصر له)(1).

و لا ريب في أن العلامة الإمام (محمد عبده) و غيره من أعلام الفكر والدین والأدب المعاصرين الذين كتبوا عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام و عن نهضته الإصلاحية الشاملة قد قرأوا الكثير عنها و عن آراء الكثير من الأعلام المتقدمين الأوائل الذين كتبوا بغزارة في هذا المجال آخذين بعين الاعتبار ضرورة إعطاء القارئ لكتبهم و مؤلفاتهم الصورة الكاملة والمتكاملة عن شخصية يزيد و سياسته و ممارساته السوداء، والتي كان لها الدور الأبرز في عملية خروج الإمام الحسين عليه السلام لإحياء دین جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم.

فمما لا شك فيه أن العلامة (عبده) و غيره قد اطلعوا على ما جاء في الكثير من الكتب الإسلامية المتقدمة بشأن شخصية يزيد و سوء فعاله، وعلى سبيل المثال، يقول (الهيثمي) في كتابه (الصواعق المحرقة): «إن الإمام أحمد بن حنبل لما سأله ابنه عبد الله عن لعن یزید، قال: كيف لا يلعن من لعنه الله في كتابه ؟! فقال عبد الله: قرأت كتاب الله عز وجل فلم أجد فيه لعن یزید، فقال الإمام أحمد: إن الله عز وجل يقول: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ

ص: 263


1- العلامة السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مطبعة أمير . قم، ط1/ 1999، ص100.

اللَّهُ »(1)

صدق الله العلي العظيم، و لدي، أي فساد و أي قطيعة أشد مما فعله یزید، و لما قال له ولده: إن قوما ينسبوننا إلى تولي يزيد؟ قال: يا بني، و هل يتولى يزيد أحد يؤمن بالله ؟!(2).

فلا شك في أن العلامة الشيخ (محمد عبده) قد قرأ هو و غيره هذا الحديث الهام عن موقف الإمام أحمد ابن حنبل من يزيد و من أفعاله العامة و سلوكياته الخاصة التي اكتسب قسما كبيرة منها عن طريق التربية البيتية الفاسدة التي غرسها فيه والده معاوية حرصا منه على أن يتابع ابنه يزيد تنفيذ المخطط الجهنمي المرسوم من قبله هو شخصية بحيث يكون ابنه يزيد، بعد تعيينه حاكما على المسلمين، الضربة القاضية التي تقصم ظهر كل من بقي على الإسلام من المؤمنين الحقيقيين.

و على الرغم من ضيق المقام و قصر الوقت، إلا أننا نجد من الضروري أن نذكر شيئا إضافيا عن أفعال یزید و عن سلوكه الذي يعكس فساد طینته و سوء سريرته التي تثبت و بالدليل القاطع أنه لم يكن مسلمة على الإطلاق، بل كان مجرد رجل أعرابي و ثني جاهلي لم يعرف من الإسلام إلا الاسم و من القرآن إلا الرسم.

ففي حديث نبوي شريف رواه (مسلم)، و ذكره الحافظ (جلال الدين السيوطي الشافعي) في كتابه (تاریخ الخلفاء)، يقول فيه: قال الرسول صلی الله علیه و آله و سلم: «من أخاف أهل المدينة أخافه الله، و عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين»(3).

و بالطبع، فإن الحافظ (السيوطي الشافعي) قد ذكر هذا الحديث النبوي الشريف في معرض حديثه عن قبائح يزيد و سوء أفعاله و كيف أنه هجم على مدينة رسول الله

ص: 264


1- سورة محمد : الآية22- 23.
2- نفس المصدر السابق ص95.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاريخ الخلفاء، مصدر سابق ص195.

صلی الله علیه و آله و سلم و قتل فيها خلقا كثيرة من الصحابة و من غيرهم، و كيف أنه نهب المدينة وافتض فيها بکارة ألف فتاة عذراء غير آبه بحديث رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و لا بتعاليم رسالته السماوية.

و يتابع (السيوطي) حديثه عن يزيد و فعائله السوداء، مستشهدا بما جاء في كتب الإمام (الذهبي) و غيره من الأعلام، و مؤكدا على حقيقة أن يزيد لم يكتف بما فعله بمدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، بل راح يحشد الجيوش الجزارة لتوجيهها إلى مكة، و كيف أنه- لعنه الله- قد رمى الكعبة المشرفة بالمنجنيق و حرق أستارها و سقفها(1) مع معرفته الأكيدة بعظيم مكانتها و سمو قداستها عند عموم المسلمين.

و لا أعتقد أن هناك حاجة لإيراد المزيد من ذكر الفظائع المشينة التي ارتكبها يزيد بحق الرسالة و أهل الرسالة أيضا، و لا أرى أن هناك من حاجة إضافية، بنفس الوقت، کی نذكر المزيد من أسماء الكتب والمراجع المتقدمة زمنيا والتي تذكر و تؤكد بالحجج والبراهين وبالدلائل القاطعة على أن يزيد لم يكن أكثر من شيطان في هيئة بشرية.

فالكتب التاريخية العامة، سواء منها الإسلامية أم غير الإسلامية، لم يجد مؤلفوها حرجا في ذكر الكثير والكثير من مساوئ یزید و أبيه معاوية، بل و من ذكر مساوئ و فضائح عموم الحكام الأمويين الذين اتخذوا الإسلام مطية لهم و لكل من يصفق لهم مؤيدا لحكمهم و مبررا لظلمهم.

و حتى لا نستطرد كثيرا في حديثنا، دعونا نعود إلى شخصية يزيد و إلى بعض التعليقات الفكرية الهامة عليها، تلك التعليقات والتحليلات المهمة التي رأت أن

ص: 265


1- نفس المصدر السابق ص195.

مجرد وجود شخصية إجرامية كشخصية يزيد تتربع على كرسي الحكم و تتحكم بمصير العباد والبلاد هو وحده كفيل بإعلان الثورة عليه و إسقاطه بكافة الوسائل الممكنة.

و مما يمكن أن نذكره الآن هنا، هو موقف الأديب والمفكر المصري الدكتور (طه حسین) (1889- 1973) من طبيعة حكومة يزيد والموقف الذي يجب اتخاذه تجاهها، و لكن قبل أن نذكر المآخذ التي سجلها الدكتور (طه حسين) على شخصية یزید وحكومته السوداء، علينا أن نتذكر سوي أن الدكتور (طه حسين) لم يكن مجرد رجل أدب فقط كما يظن البعض، بل كان أيضأ ناقدا و مفكرا عربيا تناول في مؤلفاته المتعددة الكثير من القضايا والمسائل الفكرية والثقافية المتنوعة.

و بسبب ثقافته العامة وسعة اطلاعه الفكري و إتقانه للعديد من اللغات عن أستاذة في الجامعة المصرية، فعميدا لكلية الآداب، ثم اختير وزيرا للمعارف سنة (1950)، و قد كان يدعو باستمرار إلى حرية البحث والتحليل، واعتبر أن العقل هو الأداة الأساس للمعرفة، كما أنه دعا - و هذا هو الأهم- إلى دراسة تاريخنا و تراثنا في ضوء منهج علمي متسلح بالمنطق و بعيد عن التعصب والتشنج.

فالدكتور (طه حسين) یری، قبل كل شيء، أن (أمور المسلمين قد صارت أيام معاوية و ابنه يزيد إلى شر ما كان يمكن أن تصير إليه)(1)، والدليل على ذلك هو المخطط الآثم الذي سارع یزید بن معاوية إلى تنفيذه على أرض الواقع بعد أن كان حلما يدغدغ خيال أبيه معاوية من قبل.

و يذكر الدكتور (طه حسين) لنا كيف أن يزيد قد جهز جيشا عظيما بإمرة (مسلم

ص: 266


1- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، مصدر سابق ج2 ص245.

بن عقبة المري) لغزو مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، و كيف أنه أوصى (مسلما) إذا انتصر على عدوه في المدينة أن يبيحها ثلاثة لأهل الشام يصنعون بأهلها ما يشاؤون و ينهبون من أموالهم و متاعهم كل ما يحبون و يرغبون، و بعد ذلك، ينتقل الدكتور (طه حسين) إلى تصویر نتائج المعركة الدامية التي أمر بها یزید، فيقول: (و قتل منهم (أي من أهل المدينة) في الموقعة خلق كثير.

ثم أباح المدينة ثلاثة لجنده فقتلوا ونهبوا، واستباحوا من محارم الناس ما عصم الله، ثم أخذ من بقي من أهل المدينة بالبيعة، لا على كتاب الله و سنة رسوله كما تعود المسلمون أن يبايعوا، و لكن على أنهم خول ليزيد، فمن أبي منهم هذه البيعة المنكرة أمر به فضربت عنقه)(1).

و هنا يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا، بما في ذلك ذهن الدكتور (طه حسین)، السؤال التالي:

ألا يكفي أن يكون أخ البيعة بالقوة من أهل المدينة على أنهم حول لیزید الطاغية سببا كافية للثورة على ذلك الحاكم المفتقر إلى أبسط المقومات الأخلاقية والإنسانية؟!

بل ألا يذكرنا ما فعله يزيد بالمدينة المنورة و بمكة المكرمة بالحديث الجوهري الهام الذي نقله لنا (الطبري) في (تاريخه) عن الإمام الحسين عليه السلام والذي يقول فيه: إن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قال: «من رأى سلطان جائرا مستحلا لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفة لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا

ص: 267


1- نفس المصدر السابق ج2 ص247

قول، كان حقا على الله أن يدخله مدخله)(1)؟!

و من هذا الحديث النبوي الشريف نستنتج، و بوضح کامل، أن سبط الرسول الكريم عليه السلام كان قد خرج على يزيد بهدف التغيير قولا و عملا في النهج الذي كانت تسلكه الحكومة اليزيدية في الأمة الإسلامية، ذلك النهج اللاأخلاقي القائم على مخالفة سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من جهة، و على العمل بالإثم والعدوان من جهة أخرى.

و لذلك نرى أن هناك الكثير من المستشرقين و غيرهم من رجال الفكر والأدب في الشرق والغرب قد رأوا أن يزيد قد تجاوز كل المعايير الأخلاقية في غطرسته و في ضلاله و كفره مما قاد الناس عموما، بعد عملية إحراقه للكعبة المقدسة، إلى رمي بني أمية بالكفر كما يقول المستشرق (کلود کاهن)(2).

و ليس هذا الرأي هو رأي المستشرق (کلود کاهن) فقط، بل هو رأي كل المستشرقين تقريبا على الرغم من تحامل و تجني الغالبية العظمى منهم على الإسلام و على رموزه الطاهرة النقية.

فللمستشرق (دوایت رونلدسن) رأي لا يختلف كثيرا عن رأي (كلود کاهن) حول طبيعة يزيد و حول حقيقة أفعاله المخزية بحق المسلمين والمقدسات الإسلامية.

و بإمكاننا أن نقرأ الكثير عن تلك الأفعال المخزية في كتاب المستشرق (رونلدسن) (عقيدة الشيعة) والذي يصف فيه تلك الفعائل السوداء بعد أن يوردها في كتابه المذكور معتمدة في ذلك على أوثق المصادر التاريخية الإسلامية السنية.

فقد كتب (رونلدسن) عدة صفحات عن تلك الأفعال التي تعكس بصدق صورة

ص: 268


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، مصدر سابق ج5 ص403.
2- کلود کاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ترجمة: الدكتور بدر الدين القاسم، دار الحقيقة . بيروت، 1972، ص43.

یزید و شخصيته المشوهة نفسية و روحيا، لقد كتب عن إحراق يزيد للكعبة و عن استباحة مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ثلاثة أيام، و عن أخذ البيعة من الناس ليزيد على أنهم عبيد له (1) و خدم له في دولته، و قد وصف (رونلدسن) مجمل هذه الأفعال التي قام بها یزید، والتي تلعب دور المرآة العاكسة لصورة شخصيته الباطنية، بأنها أفعال شائنة(2).

أما المستشرق الهولندي (راینهارت دوزي) (1820- 1883) صاحب المؤلفات العديدة عن الإسلام، و بشكل خاص عن الأندلس و علاقتها بالإسلام، يرى أن الوصول إلى معرفة شخصية يزيد يتم عن طريق معرفة أعوانه و عماله على البلدان، فمن خلال الحاشية تستطيع التعرف على شخصية الحاكم لأنه هو المسؤول عنها أولا و أخيرا.

و لذلك، فهو يصف لنا شخصية (مسلم بن عقبة) الذي استباح المدينة المنورة ثلاثة أيام أمام جنده بأمر مباشر من سيده يزيد قائلا: (ربما لا يكون هناك أحد يمثل العصر القديم والروح الوثنية كما يمثلها مسلم بن عقبة، فلم يكن فيه أقل ظل للعقيدة الإسلامية، و لا كان يقدس شيئا مما يقدسه المسلمون، و لذلك كان أشد إيمانا بالخرافات الوثنية)(3).

ثم ينتقل (دوزي) بعد ذلك لإعطائنا خلاصة وجهة نظره تجاه یزید و تجاه التيار الذي يمثله يزيد بشكل مباشر.

يقول (دوزي) متابعا: (و كان يزيد بوصفه أنه كان ممثل الأرستقراطية القديمة في مكة، قد ثأر لمقتل عثمان وللهزيمة التي ألحقها بجده أبي سفيان أهل المدينة تحت

ص: 269


1- دوایت رونالدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص116.
2- نفس المصدر السابق ص116
3- يوليوس قلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص155.

راية محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و كان رد الفعل من جانب الوثنيين ضد الفكرة الإسلامية قاسيا لا هوادة فيه، و لم يشف الأنصار قط من هذه الضربة... و ظلت مدينتهم، بعد أن كادت تخرب، مأوى للكلاب حينا من الدهر... و كان الأمويون ينتهزون كل فرصة لكي يشعروهم ببغضهم و احتقارهم لهم، لكي يضايقوهم و يجعلوا حياتهم مريرة)(1).

و من خلال هذه الجمل القليلة والمعبرة نستطيع أن نستخلص وجهة نظر المستشرق (دوزي) تجاه التيار الفكري الذي كان يترأسه یزید.

فيزيد الأرستقراطي، بالنسبة لي (دوزي)، كان رمزا للتيار الوثني الذي ما برح يحاول الانقلاب على التيار الإسلامي الذي يمثله محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنصاره المخلصون، و لذلك، فإن يزيد لم يدخر جهدا خلال فترة حكمه القصيرة في أن يغتال كل من يريد أن يحمل راية الإسلام الحقيقي بدءا بالإمام الحسين عليه السلام وانتهاء بالمخلصين من الأنصار الذين بذلوا كل ثمين و رخيص في سبيل نصرة محمد صلی الله علیه و آله و سلم و إعلاء شأن رسالته السماوية الخالدة.

و على ما يبدو، فإن هناك تطابقا غير طبيعي بين رؤية المستشرق (دوزي) و رؤية المستشرق (موللر) حول إمكانية التعرف على شخصية يزيد المريضة روحية من خلال التعرف على كبار قادته و عماله، فها هو-موللر- يقول عن مسلم بن عقبة الذي كان يمثل دور الذراع الأيمن ليزيد في عملية استباحة المدينة: (كان في نفس مسلم بن عقبة على الإسلام، خصوصا على المسلمين الأولين، من الحقد ما كان في نفس شمر بن ذي الجوشن قاتل الحسين)(2).

ص: 270


1- نفس المصدر السابق ص158.
2- نفس المصدر السابق ص156

أما المستشرق (فان فلوتن) ( 1903- 1866 )، الهولندي الأصل، فلم يركز وصفه على شخصية يزيد، بل اعتبر في وصفه العام أن كل حاكم أموي هو صورة طبق الأصل عن بقية الحكام.

و باختصار شديد، پری (فلوتن) في كتابه (أبحاث في السيطرة العربية) أن الحكام الأمويين عموما، و حتى صغار موظفيهم، لم يكونوا أكثر من مجموعة من اللصوص الذين لم يكن عندهم أي شاغل أكثر من الاغتناء على حساب بيت مال المسلمين، و هذا ما دفع بصغار الموظفين عندهم للاقتداء برؤسائهم و حكامهم والتفوق عليهم و ذلك باستلاب ما يقع في أيديهم من أموال الدولة(1).

و أعتقد أنه من الأفضل لنا أن نتوقف، و لو بشكل مؤقت، عن ذكر المزيد من أقوال المستشرقين الغربيين حول شخصية يزيد واهتزازها الروحي والنفسي، و دعونا الآن ننتقل إلى رحاب الشعر في الشرق كي نرى و نقرأ سوية ما قاله شعراؤنا المعاصرون في يزيد بن معاوية قاتل أبناء الأنبياء علیهم السلام.

و لتكن محطتنا الأولى مع الأديب والشاعر المسيحي اللبناني (بولس سلامة) الذي سبق و تحدثنا عنه في صفحات سابقة من هذا الكتاب بشكل موجز بعض الشيء.

يقول الشاعر (سلامة) في كتابه (عيد الغدير) مصورا مجلس یزید الفاسق:

رافع الصوت داعيا للفلاح *** اخفض الصوت في أذان الصباح

و ترفق بصاحب العرش *** مشغولا عن الله بالقيان الملاح

ألف (الله أكبر) لا تساوي *** بين كفي يزيد نهله راح

ص: 271


1- ثان فلوتن، أبحاث في السيطرة العربية، ترجمة الدكتور إبراهيم بيضون، و هذا الكتاب ملحق بكتاب الدولة الأموية والمعارضة، تأليف المترجم نفسه، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر. بيروت، 1985، ص89

فسلیب النهي صريع الغواني *** نذر العمر للغرام السفاح(1)

و برأيي الشخصي أن هذه الأبيات الشعرية القليلة هي أصدق ما قيل في تصوير شخصية يزيد المنغمسة في الملذات والمحرمات حتى الثمالة، و بالفعل، فإن ألف نداء لتوحيد الله کنداء الأذان (الله أكبر) لا يعني روحيا أي شيء ليزيد، بل على العكس من ذلك، فكاس واحد من الخمر المعتق يشربه من كف غانية فاتنة عاهرة تتلوى بين أحضانه کالأفعى الرقطاء أفضل عنده من الدعوة للصلاة لله والامتثال لأوامره و نواهيه.

و لو انتقلنا الآن من كتاب (عيد الغدير) للشاعر العملاق (بولس سلامة) إلى (ملحمة الحسين) لشاعر مسیحی آخر هو الأديب اللبناني المعاصر (جورج شكور)، فماذا عسانا نجد في جعبته من لآلى الشعر العربي الأصيل، تلك اللآلئ الثمينة والجميلة التي ما برحت تستمد بريقها من وهج العشق الحسيني النبيل الذي يسكن القلوب التي تشرع نوافذها الشفافة النقية لابنة النهار؟!

في الحقيقة، و من خلال كلام الأستاذ الأديب (شكور) و حديثه العام عن ملحمة کربلاء، يمكننا أن نلاحظ بوضوح أنه يترفع في حديثه الشعري عن ذكر فعائل یزید و قبائحه لأن يزيد والكلام عنه و عن فظائعه لن يزيده انحطاطا في عيون الناس و ذلك لسبب واحد و هو أن يزيد هو الانحطاط ذاته، بل كاد أن يكون هو الشر المطلق عينه.

وانطلاقا من ذلك، فإن الأديب الشاعر (شکور) يختصر الكلام عن یزید، و نراه يسارع إلى التركيز على عملية المحاولة الفاشلة لانتزاع اعتراف رسمي من الإمام الحسين عليه السلام يقر بشرعية خلافة يزيد الخليع على المسلمين، فمعاوية و يزيد يريدان انتزاع اعتراف واضح و صريح من الإمام الحسين عليه السلام أمام المسلمين ينص على أن

ص: 272


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص204 205.

يزيد هو الرجل المؤهل و هو الخليفة الشرعي المستحق لقيادة الأمة الإسلامية.

و لذلك، فأول ما يتناوله الأديب (شکور) في قصيدته المطولة (ملحمة الحسين) هو وصف الإمام الحسين علیه السلام، لا وصف يزيد الفاسق، و بعد ذلك ينطلق إلى وصف موقف الإمام الحسين علیه السلام من محاولة انتزاع الاعتراف الرسمي منه بولاية يزيد على المسلمين.

يقول الأستاذ (شکور) مستفسرا استفسار العارف عن مكانة الإمام الحسين علیه السلام

أما (الحسین) ربيب للنبي، أما *** له في فؤاد الجد إيثار؟

سماه ریحانة الشبان، حالية *** على الجنان، شذا الريحان معطار

و قبل الثغر يحبو روحه نسما *** کما تفاوح في الأسحار أزهار

أما (الحسين) وريث (للعلي) فتی *** الفتيان، من نهجه في السر أسرار؟(1)

و بعد أن يذكر الأستاذ (شکور) باقة من فضائل الإمام الحسين علیه السلام، سليل النبوة و معدن الرسالة، فإنه يتحرك للكلام عن المبدأ الأخلاقي الذي يكافح الإمام الحسين عليه السلام من أجله ضد ضغمة حاكمة مجردة من كل قيمة أخلاقية ومن كل فضيلة إنسانية.

و هنا يركز الأستاذ (شکور) على رد فعل الإمام الحسين علیه السلام من مسألة الاعتراف بولاية يزيد و بمبايعته خليفة على العباد والبلاد.

فمن المعروف للجميع أن الإمام الحسين عليه السلام قال بعد أن هدده رجال یزید

ص: 273


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، طبعة مصورة و موزعة من قبل المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية بدمشق، 2002م، ص 1 ، و قد طبعت تلك القصيدة المطولة بشكل كتاب مستقل في بيروت و هو يحمل نفس عنوان القصيدة

بالقتل إن لم یبایعه: «إنا أهل بيت النبوة، و معدن الرسالة، و مختلف الملائكة، و مهبط الرحمة، بنا فتح الله و بناتم، و يزيد رجل فاسق شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسق، فمثلي لا يبايع لمثله، و لكن نصبح و تصبحون، و ننظر و تنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة»(1).

لقد استرعى هذا الموقف الرجولي انتباه الأستاذ الشاعر (شکور) مما دفعه لتصويره شعرا بقوله:

هذا (یزید) دعي الحكم ينذره *** و هل يبايع بالأحكام فجار؟!

رد (الحسين) ب (لا) كالسيف صارمة *** و سيد الحق ب (اللاءات) زأار

سمعت جدي رسول الله حرمها *** فلا خلافة في (سفيان) تشتار

المبدأ الحر سر لا أدنسه *** مقدس، وحماة السر أحرار(2)

ولئن صور هذا الشاعر المسيحي موقف الإمام الحسين عليه السلام بهذه الصورة الثورية الملتهبة، فإن الشيخ الأزهري (عبد الله العلايلي) قد علق على نفس الموقف الصادر من الإمام الحسين عليه السلام ، في رده الواضح على عدم إعطاء البيعة ليزيد، بقوله في كتابه (الإمام الحسين): (هذه الكلمات المعدودة (التي قالها الإمام الحسين عليه السلام والتي ذكرناها قبل قليل) تحوي برنامجا خطيرا و دستورا عمليا واسعا، و يمكننا أن نسميه (ناموس الثورة)، والحق أن فيه المبادئ العالية لإعلان الثورة)(3).

و كما ذكرنا سابقا في العديد من الصفحات السابقة، فإن أحد أهم دوافع النهضة

ص: 274


1- أ. الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق، ج1 ص184. ب. عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص92.
2- جورج شکور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، ص 1.
3- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص92.

الحسينية و أحد أهم أهدافها المباشرة هو تحقيق و إحياء مبدأ القيمة الأخلاقية في المجتمع الإسلامي الحديث الولادة، نسبيا، والذي تعرض لعدة نكسات متتابعة نتيجة الابتعاد المتعمد عن النهج الرسالي القويم الذي رسمه الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم لمجتمع الإنسانية عموما.

و عندما نقول و نؤكد على أن أحد الأهداف الأساسية للثورة الحسينية هو إحياء القيم الأخلاقية الرفيعة التي نادت بها رسالة الماء الأخيرة، فإن هذا لا يعني أن يزيد هو الوحيد الذي خرق تلك القيم و شؤهها و استعاض عن المحامد بالمفاسد، و لا يعني هذا أيضا أن يزيد هو أول من سعی لاغتيال صوت الله في ضمير الإنسان، بل إن المسألة أعقد من ذلك بكثير.

فيزيد الخليع لم يكن إلا صورة واحدة من مجموعة صور لشخصيات عديدة سبقته و كانت مثالا في الكفر والفسوق والعصيان على الرغم من تظاهرها بالإسلام و بالتمسك به بطريقة تضحك الثكالى والأيتام.

و على ما يبدو، فإن هذه الحقيقة، لم تغب عن ذهن الكثير من المفكرين والباحثين في مشارق الأرض و مغاربها، فهناك خلل واضح في جسد الأمة الإسلامية يهددها بالفناء والهلاك، و لابد من ثائر مؤمن يثور و يغضب لرسالة الماء، و يقوم و ينهض لإصلاح الخلل الذي راح يزداد اتساعا في جسد الأمة حتى بات أشبه ما يكون بتورم سرطاني ينتشر في شتى أعضاء الجسد مما ينذر باقتراب الكارثة و بداية الفناء.

إذن، فالدافع الأخلاقي في النهضة الحسينية دافع لا يستهان به، بل هو- على أقل تقدير - الدافع الأكثر أهمية و صاحب الأولوية في عملية الخروج على الحاكم الجائر والفاسد يزيد و على حكومته، تلك الحكومة الغاشمة التي أبت أن تسير إلا على النهج

ص: 275

الذي رسمه معاوية و زبانيته الرجيمة للقضاء على النور الإلهي الممثل خير تمثيل بمحمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم و بأهل بيته الكرام عليهم السلام الذين عبر عنهم الإمام الحسين علیه السلام أفضل تعبير بوصفهم قائلا: (نحن سفينة النجاة و عين الحياة والمعاني التي أشرقت من حضرة الأزل، و لم تزل، والأنوار التي بسرها ظهر الوجود و بها عرف العابد من المعبود، والشجرة الإلهية التي منها انفجرت ينابيع الفيض والجود)(1).

و على كل حال، لو أردنا أن ننتقل الآن إلى دافع آخر من دوافع نهضة الإمام الحسين عليه السلام، فيمكننا القول - و بكل جرأة - إن هناك دافعا اقتصادية واضحا لتلك النهضة غفل عنه الكثير من الدارسين والباحثين عن عمد أو ربما عن غير عمد.

فمن خلال أقوال الإمام الحسين عليه السلام و خطبه الموجهة لعموم المسلمين، و من خلال تلك المراسلات والمواجهات الكلامية المباشرة بين الإمام الحسين عليه السلام من جهة و معاوية و ابنه يزيد من جهة أخرى، نستطيع أن نتبين بشكل قاطع أن للإمام الحسين عليه السلام رؤية خاصة بشأن وضع المسلمين العام في ظل حكومة معاوية و في ظل الحكومة المرتقبة التي سيتسلمها یزید بالوراثة عن أبيه بعد وفاته.

فكل أقوال الإمام الحسين عليه السلام و كل رسائله تشير إلى أنه كان يستنفر العقول و يستحث القلوب و يشحذ الهمم والنفوس لنفض و إزالة غبار الجهل بالواقع عن كاهل الأمة الإسلامية.

فالمستوى العام للمسلمين، كأمة إسلامية حديثة الولادة نسبيا، دون المستوى المطلوب في مواجهة كافة تيارات الانحراف العاتية التي أشاعها معاوية في جسد

ص: 276


1- الشيخ كاظم حمد الإحسائي النجفي، السفينة السائرة في فضائل العترة الطاهرة، مؤسسة الهادي . بيروت، 1999، ص62.

الأمة، و تعتبر هذه الحالة حالة مرضية خطيرة جدا ظهرت بشكلها المخيف من خلال الميل إلى السكون والتثاقل والانجذاب نحو المصالح الخاصة و غياب الشعور بالمسؤولية الجماعية عن المسرح الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، و قد أخذت تلك الظاهرة الخطيرة بالتبلور عن طريق تكديس الأموال الطائلة في أيدي القيادات العليا والسلطات المتنفذة في المجتمع الإسلامي بشكل يبعث على الدهشة والاستغراب.

و إذا كان أصحاب السلطة و أرباب الحكم في الأمة قد استغلوا نفوذهم و سلطتهم القاهرة لجمع المال و تكديس الثروات و مضاعفة العوائد والأرباح، فإن شرائح الأمة عاقة قد عانت الأمرين من سوء تلك السياسة التي انعكست على اقتصاد عموم الطبقات والفئات بشكل سيء للغاية مما جعل الكثير من المسلمين يعيشون في مجتمعهم و كأنهم عبيد يعملون في خدمة أسيادهم.

و غني عن القول و عن التفصيل فيه أن معظم أولئك الفقراء الذين كانوا يعاملون معاملة العبيد والإماء هم أتباع أهل البيت عليهم السلام و شيعتهم المخلصون.

و على سبيل المثال، يرى الدكتور المصري (حامد حفني داود)، الرئيس الأسبق القسم الأدب العربي بجامعة عين شمس، و صاحب المؤلفات العديدة في الأدب والفكر، أن أعداء الإمام علي والإمام الحسين علیه السلام هم أعداء محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و أعداء أهل البيت علیهم السلام والرسالة الإسلامية بكل ما فيها من قيم و مبادئ إنسانية سامية.

و لذلك، فلا مانع في نظرهم - كما يقول الدكتور (داود) - من اصطناع الكذب والخيانة والرشوة و قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ليصلوا إلى دنيا هم بالطريق غير

ص: 277

المشروع(1).

و ما من شك في أن كل هذه الأعمال الدنيئة كانت تنفذ بحق أتباع أهل البيت علیهم السلام و محبيهم و ذلك بغية إضعافهم ماديا واقتصادية مما يدفعهم - برأي معاوية و يزيد و أتباعهم- إلى التخلي عن ولاية أهل البيت عليهم السلام والدفاع عن حقوقهم و عن مبادئهم الرسالية، و بالتالي يدفعهم ذلك أيضا للانضمام لاحقا إلى زمرة الطغيان بعد أن يكونوا قد و صلوا حقا إلى حدود الترجمة العملية لمقولة (كاد الفقر أن يكون كفرا).

و على الرغم من أن رأي الدكتور المصري المسيحي (نظمي لوقا) يبدو رأيا بسيطا بعض الشيء بالمقارنة مع رأي الدكتور (داود)، إلا أن ذلك لم يمنع الدكتور (لوقا) من الاعتراف العلني والواضح بأن أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم كانوا على الدوام ضحايا الظلم والجور من قبل أعدائهم حتى أنهم أوذوا كثيرا بسبب قيامهم بأعباء الرسالة التي جاء بها رسول الإنسانية صلی الله علیه و آله و سلم، فقد (أوذوا في أرزاقهم، و في أعمالهم، و في أشخاصهم، و تعرضوا لما تعرض له من التهلكة أكثر من مرة)(2).

وإذا كان الكاتب الفرنسي (جان دولابروییر) ( J.de Bruyere) (1645 -1996) يقول: (لا وطن مع الظلم)(3)، فإن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال قبل ألف و أربعمائة عام تقريبا: «الفقر في الوطن غربة»(4)، و بالفعل، هذا ما أراد معاوية و ابنه

ص: 278


1- السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مصدر سابق، ص97.
2- الدكتور نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، الشركة العربية للطباعة . القاهرة، 1959، ص109.
3- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، ج2 يحمل عنوان (بين علي والثورة الفرنسية)، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج2 ص132.
4- الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح محمد عبدة، الدار الإسلامة . بيروت، 1992، ج4 ص 531.

یزید تحقيقه في المجتمع الإسلامي و ذلك عن طريق إحداث خلل اقتصادي كبير بين أبناء المجتمع الواحد، فللذين يتعامون عن انتهاك السلطة للمحرمات كل الامتيازات الاقتصادية والتسهيلات المالية في ظل حياة مادية مريحة مقابل مباركتهم لما يقوم به الحاكم و رجاله المقربون من تجاوزات علنية للشريعة السماوية وانتهاكات وحشية الأبسط حقوق الكرامة الإنسانية، فللمواطن، في هذه الحالة، الحق في أن يعيش بسلام على أرضه، يأكل و يشرب و ينام و يدعو للحاكم بطول العمر والتوفيق و بالنصر على أعدائه المشاغبين!!

أما بالنسبة لأولئك الذين لا يقبلون بالباطل و لا يسكتون على المظالم التي تقع على نسبة لا يستهان بها من أبناء المجتمع، فأولئك ليس لهم أدنى حق في التمتع بأبسط متطلبات الحياة.

و على هذه الفئة أن تختار، و بشكل واضح و حاسم، بين أن تكون موالية للسلطة، مساندة لها، ساكتة عن جرائمها، و بين أن تكون في الطرف الآخر من المعادلة، ثائرة على السلطة، معادية لسياستها، فاضحة لجرائمها.

و من البديهي تماما أن يكون نصيب كل من يقف في الطرف الآخر المناوئ لسلطة التجويع والترهيب والقتل والتشريد، و في أفضل الحالات التضييق عليه و على عياله حتى يدرك في قرارة نفسه أنه ليس هناك شعور بالمواطنة و لا إحساس بالإنسانية مع الظلم، و بالتالي سيدرك أيضا أن الحق مع أمير المؤمنين علي عليه السلام عندما أكد قائلا إن الفقر في الوطن غربة، فالغربة الحقيقية هي غربة الذات لا غربة الجغرافيا والمكان.

فسياسة الحكام (الخلفاء) الذين حكموا الأمة كانت في مجملها سياسات جائرة تستمد وجودها من سطوة السيف و تحافظ على استمرار ذلك الوجود من ظلام الفكر

ص: 279

الخارج من كهوف و مغاور علماء و فقهاء السوء الذين يأكلون من مائدة الحاكم و يضربون بسيفه و يسارعون إلى إصدار الفتاوى التي تخدم عرش الحاكم و تثبت له دعائم الكرسي فوق أشلاء الفقراء والمساكين والذين لم يرتضوا أن تكون الشمس سجينة وراء القضبان في زنزانة (الخليفة) القابع في مخدعه مع جواريه و غلمانه يناقشون واقع الأمة و مشاكلها على صوت مغنية مغناج لعوب و على وقع نقر كؤوس الخمر بعضها ببعض بين أكف القائمين على أمر الأمة!!

إذن، لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام أن السلطة الأموية الجائرة قد ربطت القوة الاقتصادية و ثروات الأمة بالفساد السياسي والانحلال الأخلاقي والديني، فالمناصب تشتری و تباع دون إقامة أي وزن للمؤهلات والكفاءات، والانحلال الأخلاقي في المجتمع ضرورة سياسية لإلهاء الشعب عن كل ما تقوم به السلطة من خرق للقيم والمبادئ، فعلى السلطة تخدير أكبر شريحة من المجتمع عن طريق تشجيع ارتکاب المحرمات و ارتكاب الفواحش من خلال غض الطرف عن مرتكبيها و تسهيل السبل لهم لنشرها أفقيا في شتى أرجاء البلاد مما يسهل للحكومة لاحقا أمر قيادتهم و توجيههم و إسكات أفواههم بعد أن تكون قد اشترتهم بقليل من المال و بتسهيل الانحلال.

فالإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يفكک رموز شيفرة السياسة الأموية بأدق تفاصيلها، فالقوة الاقتصادية طريقة ناجحة لشراء النفوس المريضة و جذبها إلى مستنقع الموالاة للسلطة، والقوة الاقتصادية ورقة قوية أيضا و رهان ناجح في كثير من الأحيان في إثارة الشقاق والفتن في صفوف المعارضة، خاصة إذا كان ذلك مسبوقا بزراعة الجواسيس و ناقلي الأخبار و مروجي الإشاعات الكاذبة بين الصفوف.

ص: 280

و هنا تحديدا، تحضرني فكرة مفيدة قالها الفيلسوف والمفكر اللبناني (أمين الريحاني) (1876- 1940) والتي تدل على أن السلطة الأموية التي كان يمثلها و قتذاك معاوية، و من بعده ابنه يزيد، كانت حقا سلطة ظلم و ظلام، وكان الإمام الحسين عليه السلام جديرا بالثورة عليها واقتلاعها من جذورها.

يرى هذا المفكر اللبناني المسيحي، والذي هو أحد أهم أقطاب الإصلاح والتجديد و صاحب المؤلفات الفكرية الثقافية الغزيرة، أن زيادة (الخراج) والثروات في خزانة الخليفة أو الحاكم ليست مقیاسا دقيقا لسلامة الدولة و صحتها، والسبب في ذلك هو أنه يجب علينا أن نطرح على أنفسنا السؤال التالي:

كيف كان يصرف ذلك الخراج؟

و يجيب الفيلسوف المسيحي (الريحاني) على هذا السؤال بتأكيده في كتابه (النكبات) على أن الخلفاء الأمويين، و لاحقة العباسيين، كانوا يأخذون الخراج لأنفسهم و لأهلهم و محظياتهم و عبيدهم والمقربين منهم، أما بالنسبة لمعاوية بن أبي سفیان (فبيت المال في نظره إنما هو لشراء الأنصار)(1).

و بما أن الشيء يذكر، و بما أننا أيضا في معرض الحديث عن الدافع الاقتصادي الهام لثورة الإمام الحسين عليه السلام على الحكومة الأموية اللاشرعية التي اتخذت بيت مال المسلمين وسيلة لتعزيز كرسي الملك و لشراء النفوس و قتل الضمائر و إشاعة الفساد في حمى الإسلام، فإنني لا أنسى تلك العبارات القوية التي سمعتها من الكاتب السوري (عبد البديع محجازي) خلال لقاء طويل جرى بيننا عند أحد الأصدقاء في مدينة اللاذقية في يوم من أيام ربيع عام / 2005/.

ص: 281


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج2 ص172

فالأستاذ (محجازي) كاتب و مفكر من مدينة اللاذقية، و هو أحد إخواننا السنة، و قد سررت بالتعرف عليه عن قرب عن طريق أحد الأصدقاء من أصحاب المكتبات.

و على الرغم من أن ذاك اللقاء كان اللقاء الأول بيننا، إلا أنه كان حقا لقاء مميزا جدة نظرا لما حمل من معطيات فكرية و قيم ثقافية ناضجة تأبي الانغلاق على ذاتها في مواجهة الحقائق والوقائع.

والجانب الذي يهمنا الآن من جوانب الحديث المطول الذي دار بيننا على نار هادئة بعيدة عن الانفعال و عن لغة الهيجان والعاطفة هو ذلك الجانب المتعلق بالسلطة الأموية و بمعاوية و يزيد من جهة، و بالإمام علي عليه السلام و بالإمام الحسين عليه السلام من جهة ثانية، فقد أكد الأستاذ (محجازي) في حديثه على أن الإمام علي عليه السلام هو ضمير الإسلام الحي، وأن الإمام الحسين عليه السلام هو صورة الإمام علي عليه السلام و صورة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، ولذلك فإن ثورة الحسين عليه السلام هي استمرار و ديمومة الثورة الإمام علي عليه السلام الذي أبي و رفض إلا أن يبقى الإسلام إنسانيا كما أراده نبي الرحمة محمد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

و من أجل أن يؤكد لي عمق الصدق في كل كلمة كان يقولها، فقد أهداني نسخة جديدة من كتابه القيم (المساواة والاشتراكية في الإسلام)، و بالفعل، فبعد أن قرأت ذلك الكتاب قراءة متروية وجدت أنه كاتب يحاول جاهدة أن يكون عقلانيا و منطقيا في كل موضوع يطرحه على بساط البحث، هذا بالإضافة إلى ابتعاده الواضح عن العصبية المذهبية و عن التحيز المقيت.

و على سبيل المثال، فمعاوية بالنسبة إليه عبارة عن رجل خارج عن روح

ص: 282

الإسلام، بل أول الخارجين عن روح الإسلام(1)، و هو واحد من أولئك الذين يكنزون الذهب والفضة و لا ينفقونها في سبيل الله، و لهذا كان هو و أسياده و أصحابه على عداوة دائمة مع الصحابي الجليل الصادق أبي ذر الغفاري (رضی الله عنه) الذي قال عنه رسول الله : «ما أظَلَّتِ الخَضراءُ، وَ لا أَقلَّتِ القفراء أَصْدَقَ لَهْجَةٍ مِنْ أَبِي ذَرٍّ»(2).

و ليس هذا فحسب، بل يرى الأستاذ (محجازي) أن الإمام عليا عليه السلام خليفة ثوري لا يقبل أنصاف الحلول في التعامل مع مبادئ الإسلام و ثوابته، فهو عليه السلام ثوري بأقواله و أفعاله و بمواقفه التي لا تزال تهز عروش الحكام المسلمين ليلا و نهارا حتى يومنا هذا، تدعوهم للقيام بواجباتهم نحو الله و نحو الأمة كما قام هو بواجبه على أكمل وجه.

و قد عبر الأستاذ (محجازي) عن موقف الإمام علي علیه السلام من السلطة الأموية الحاكمة المستأثرة بالمال و باقتصاد الأمة و بثرواتها و مغانمها بقوله:

(و لما آلت إليه (إلى الإمام علي علیه السلام) إمرة المسلمين بعد تحكم العصبية الأموية بدين الله باسم عثمان و كان لهذه العصبية من الجرأة على دين الله و على حقوق المسلمين ما سرق معها الكثير من أموال المسلمين،... أعاد الأموال التي سرقها الأمويون جميعا و لم يدع من المسروقات شيئا إلا و أعاده حتى الذين تزوجوا بالأموال المسروقة فقد رد زواجهم)(3).

و من هنا كانت ثورة الإمام الحسين علیه السلام استكمالا طبيعيا و امتدادا منطقيا لثورة

ص: 283


1- عبد البديع محجازي، المساواة والاشتراكية في الإسلام، مطبعة الإرشاد . اللاذقية، 2005، ص67.
2- نفس المصدر السابق ص67 في هامشها.
3- نفس المصدر السابق ص96

الإمام علي عليه السلام على الجاهلية الجديدة التي أطلت برأسها من جديد و بأشكال مختلفة فور وفاة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فما من يوم مر على الإمام علي عليه السلام دون مشاكل و فتن و هموم، و ما من ليل مر عليه دون قلق و سهاد و أحزان، فالإسلام، على حداثة ولادته، قد دخل دائرة الخطر و قد بلغ ذلك الخطر حده الأقصى عندما تولى معاوية كرسي الخلافة في الشام ضاربا بمبادئ الإسلام و أخلاقه عرض الحائط.

و لم يكن الحال عند الإمام الحسين عليه السلام بأفضل من الحال عند الإمام علي عليه السلام في زمنه، فيزيد خريج مدرسة معاوية فضلا عن أنه ابنه و معاوية-كما يصفه المفكر المسيحي (نصري سلهب)- كان تلميذ الشيطان الذي راح يعيث في الأرض فسادا(1)، و لذلك كان من الواجب الشرعي على الإمام الحسين أن يواجه الطاغيتين معاوية و يزيد بكل الوسائل الممكنة و أن يستكمل إزكاء نار الثورة ضد الوثنية الجديدة التي تتمثل بعبادة كرسي الحكم مع ما يرافقها من طقوس الظلم والفساد و تقديم الدين والقيم والمبادئ أضحيات و قرابين من أجل شهوة السلطة و استمرار الحكم الأموي البغيض.

و لم تغب هذه الحقيقة المؤكدة عن الكثير من أرباب الفكر والثقافة في الشرق والغرب، فالنهضة الحسينية نهضة عريقة تمتد بجذورها إلى الأفكار الثورية الإصلاحية التي عمل الإمام علي عليه السلام على تطبيقها و ترجمتها على أرض الواقع طوال حياته، و من هنا يرى الباحث الفرنسي (یان ریشار) أن كلا الإمامين، علي عليه السلام والحسين عليه السلام، كانا ثورة لا تنطفئ جذوتها في وجه الظلم والعنف لدى الأمويين

ص: 284


1- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص54.

الذين كانوا يتنكرون لكل القيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية للرسالة الإسلامية(1).

و لا يبتعد رأى هذا المستشرق الفرنسي المعاصر عن رأي المفكر اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني) كثيرا، بل إن هناك الكثير من التقارب والتوافق بين وجهات النظر حول وحدة الأهداف العامة التي نهض أهل البيت علهم السلام جميعا لتحقيقها بشكل جماعي تارة و بشكل فردي تارة أخرى.

و على سبيل التوضيح، يرى الأستاذ (كتاني): (إن أهل البيت هم الوصية المقصودة لتناول الإرث الذي هو رسالة ملفوفة بملحمة حقيقية ما شهدت الأرض نظيرها من الملاحم)(2).

و يرى أيضا، من خلال استدراکه لهذه العبارة التي ذكرناها الآن، أن الحسن والحسين علیه السلام هما سليلا نور النبوة و ألق الإمامة، و لذلك كانا دائما الأمل الحي في إكمال ما انعقدت عليه أهداف الرسالة التي جاء بها النبي صلى الله عليه و آله و سلم و آزره في تبليغها الوصي علیه السلام.

و من هنا نستطيع أن نفهم قول الأستاذ (كتاني) عن مهمة الإمام الحسين علیه السلام و أهدافه، إلى جانب أهداف أخيه الإمام الحسن علیه السلام، على أن هناك وحدة في الأهداف الرسالة لأن هناك، بالأساس، وحدة في الأنوار النبوية الإمامية، و هذا ما قصده ذلك المفكر المسيحي اللبناني بقوله في كتابه الثمين (الإمام الحسين في حلة البرفير) عن الحسن والحسين علیهماالسلام: (ما كانا يشربان إلا كوثرا صرفا سيكون به تحقیق الميراث، و تحقيق الوصية، و تحقيق الإمامة، و تحقيق الوعد الذي تعيش به رسالة ما

ص: 285


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص 264
2- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص28

انفکت ملحمة يلتحم بها إسلام الأرض بين يدي ربها الرحمن الرحيم)(1).

لقد تبين جلية للإمام الحسين عليه السلام أن المبادئ المنهجية التي آمن بها أميرالمؤمنين علي عليه السلام إنما هي كلها جواهر من صلب الرسالة التي قدمها جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم للمجتمع الإنساني عامة هدية سماوية و بركة إلهية تتجاوز الأجناس والأعراق و تتخطى حدود الجغرافيا و عتبات التاريخ، فهي رسالة السماء للإنسان، نعم، إنها دعوة الله لمن يريد أن يكون جديرا بحمل كلمة (إنسان).

و لو أردنا أن نفارق الأديب والمفكر اللبناني المسيحي (سليمان كتاني) على أمل العودة إليه في الوقت المناسب، و اتجهنا في رحلتنا هذه إلى عالم المفكر والمؤرخ المعروف عالميا (فيليب حتي) (Philip Hiti) (1886 - 1978)، فماذا عسانا نجد في جعبته من وجهات نظر عن نهضة الإمام الحسين عليه السلام الإنسانية و ثورته الإصلاحية ؟!

قبل أي شيء، نقول إن المؤرخ (فيليب حتي) مؤرخ و مفکر لبناني مشهور، علم في الكثير من الجامعات الأمريكية لفترات طويلة حتى بات علما بارزا في ميدان التأريخ، له العديد من المؤلفات باللغتين العربية والإنكليزية، منها: (تاريخ العرب)، (تاريخ سورية)، (تاریخ لبنان)، بالإضافة إلى الكثير من الأبحاث التاريخية الأخرى.

يرى هذا المفكر والمؤرخ المسيحي في كتابه الشهير ( History of The Arabs) أن الإمام الحسين عليه السلام كان يسير بخطى ثابتة على نفس النهج الذي سار عليه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم والإمام المرتضى علیه السلام، فالأهداف واحدة والغاية النهائية أيضا واحدا.

ص: 286


1- نفس المصدر السابق ص28.

و ليس هذا فحسب، بل إن عموم المسلمين، و ليس الشيعة فقط، كانوا في حالة تفاعل و تعاطف مع أهل بيت النبي علیهم السلام و بشكل خاص مع الإمام علي عليه السلام و الإمام الحسين علیه السلام، و قد أكد الأستاذ (حتي) على ذلك بقوله في الكتاب المذكور أعلاه: (إن القلوب المليئة بالتقوى تجاه ذرية النبي عليه السلام جعلتهم مرکزا للتعاطف العام معهم، و قد انضم إلى معسكرهم الكثير من الناس الذين لم يكونوا راضين سياسيا واقتصادية أو حتى اجتماعية عن الدور الذي يلعبه بنو أمية)(1).

و بالتالي، فإن مجمل هذه الأسباب قد لعبت دورا حاسما في الثورة والوقوف بثبات و إيمان أمام الطغيان الأموي الذي كان يشكل، بحق، آفة الإسلام و علته.

و من الممكن هنا أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا السؤال المنطقي التالي:

هل كانت حياة الإمام الحسين عليه السلام، أو حتى حياة أمير المؤمنين علي علیه السلام، رهنا للصدام والتصدي لبني أمية و لطغيانهم و عتوهم في الأرض؟!

أو بتعبير آخر أيضا، هل كان هدف الحسين عليه السلام من الخروج إلى أرض کربلاء هو عبارة عن وجه آخر لجهاد الإمام علي عليه السلام ضد الحكم الأموي المستبد واللاشرعي؟!

في الحقيقة، إن أسئلة من هذا النوع هي في المحصلة أسئلة منطقية و عقلانية، بل و ربما هي أسئلة جوهرية تنطوي على الكثير من الوعي الفكري والنضج الثقافي، و لذلك، فمن الواجب على الجواب أن يرتقي إلى مستوى السؤال المطروح.

فالإمام الحسين عليه السلام شأنه شأن الإمام علي عليه السلام، لم يكرس نفسه و لم يسخر قدراته الروحية والفكرية لمواجهة الباطل الأموي فحسب، بل كان في كل حركة من.

ص: 287


1- Philip Hitti History of The Arabs Macmillan Newyork 1958 p.282 )

حركاته و في كل لحظة من لحظاته شمعة يزداد نورها تألقا كلما ازداد ذوبانها في محراب الدفاع والذود عن شرف الرسالة السماوية والكلمة الإلهية ضد كل أنواع الكفر والطغيان والباطل سواء كان ذلك الانحراف والباطل من مصدر أموي أم من مصدر آخر لا يم إلى الأمويين بأي صلة.

فللحق وجه واحد وللباطل وجوه عديدة، و لذلك كان الإمام علیهم السلام هو وجه الحق الذي يجب عليه دائما و أبدا أن يصارع وجوه الباطل و يصرعها مهما تعددت و تباينت تلك الوجوه الباطلة والتي يحاول البعض منها ارتداء قناع الحق ولو إلى حين.

فلا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام هو تلميذ أمير المؤمنين علي عليه السلام في مدرسة الحق والخير والفضيلة، و لذلك فمن الطبيعي تماما أن يحذو الإمام الحسين عليه السلام حذوه في السير على الصراط المستقيم الذي يستوحش الكثير من الناس السير عليه لصعوبته و لقلة سالكيه.

فالإمام علي عليه السلام ، الملهم الأول للثورات ضد الباطل عبر كل العصور، قد أجبر الكثير من أعدائه على الاعتراف بفضله و بقيمه و مبادئه الإنسانية النبيلة، و قد أجبرهم أيضا على الإقرار بأن ثورة الإمام الحسين عليه السلام و كل الثورات اللاحقة كانت تستمد ضياءها من سراج ثورته (العلوية المحمدية) التي ابتدأت منذ ما يقارب أربعة عشر قرنا و لا يزال لهيبها متقدا بعنفوان الحق في صدور الأحرار في العالم.

و يكفي أن أذكر هنا مثالا واحدة أو ربما مثالين على أن المدرسة التي تخرج منها الإمام الحسين علیه السلام،-و نقصد بذلك مدرسة الإمام علي عليه السلام- قد فرضت نفسها حتى على الفكر اليهودي المعاصر.

فمثالنا الآن هو المفكر اليهودي المعاصر الدكتور (إسرائيل و لفنسون)، ذلك

ص: 288

المفكر الذي استفاض في مؤلفاته الفكرية المتنوعة عن علاقة اليهود في الجزيرة العربية بالإسلام، و ربما كان أشهر کتاب له في هذا المجال هو كتابه (تاریخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية و صدر الإسلام) والذي ترجم إلى اللغة العربية و لغات أخرى أيضا.

و يرى هذا المفكر، و على الرغم من أنه يهودي حتى العظم، أن الإمام عليا علیه السلام كان مثالا للرجل الثائر في سبيل الإيمان بما دعته إليه الماء، فعلي عليه السلام هو السند الأول والأخير لابن عمه الرسول محمد صلی لله علیه و آله و سلم عند الملمات والخطوب، و لذلك فقد كان الإمام علي عليه السلام هو الثورة الحقيقية في مواجهة كل أنواع المصاعب التي كانت تعترض طريق الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في عملية تبليغ رسالته بين عموم القبائل والعشائر.

و هنا يورد هذا المفكر اليهودي (و لفنسون) الدور الجوهري الهام الذي قام به الإمام علي عليه السلام في غزوة خيبر الشهيرة، تلك الغزوة التي لا يزال ذكر أمير المؤمنين علي عليه السلام فيها يبعث الرعب والحقد في قلوب اليهود إلى يومنا هذا.

و يذكر الدكتور (ولفنسون) دور الإمام علي عليه السلام في الدفاع عن رسالة الإسلام و تجلي هذا الدفاع في الدور المتميز الذي قام به في عملية الفتح المبين لذلك الحصن اليهودي المنيع والعصي على كل المهاجمين الغزاة.

فالإمام علي عليه السلام تسلم قيادة الجيش بأمر مباشر من ابن عمه محمد صلى الله عليه و آله و سلم بعد أن فشل كبار الصحابة في تحقيق أي نصر و لو كان نصرة معنويا بسيطا.

و هنا يصور هذا المفكر اليهودي الإمام عليا عليه السلام و هو يشن هجومه الساحق على ذلك الحصن المنيع و يكتسحه اكتساحة بطولية باهرا غير مبال بالأخطار المحدقة

ص: 289

به من كل جانب إيمانا منه بأنه يستبسل من أجل الحق والرسالة في مواجهة كل ما من شأنه أن يسيء إلى الرسالة أو إلى صاحبها صلی الله علیه و آله و سلم.

و يختتم ذلك المفكر اليهودي حديثه عن تلك المواجهة الدامية بين إمام المسلمين، الإمام علي عليه السلام، و بين كبار محاربي اليهود المتحصنين في حصن خيبر بتأكيده - من خلال اعتماده على كتاب (تاریخ الخمیس) - أن الإمام عليا علیه السلام استطاع أن يقتلع باب حصن خيبر بقوة إعجازية تثير الدهشة والاستغراب حتى أنه قد اجتمع سبعون رجلا محاربا ليحركوا ذلك الباب من مكانه بعد أن اقتلعه الإمام علي علیه السلام بيده المباركة و تترس به فما استطاعوا بجمعهم أن يحركوه من مكانه الذي ألقاه فيه علي علیه السلام(1).

إذن، و من خلال ما ذكره هذا المفكر اليهودي المعاصر، نستطيع أن نخرج بنتيجة هامة جدا على الرغم من بساطتها و وضوحها، و تتجلى هذه النتيجة بالقول إن الإمام علي عليه السلام كان يمثل الوجه الثوري في الإسلام ضد كل الجبهات المناوئة والمعلنة عداءها و كيدها لرسالة السماء، سواء كانت تلك الجبهات أموية أم و ثنية أم يهودية أم غير ذلك.

فالإمام علي عليه السلام، الذي هو معلم الإمام الحسين عليه السلام و دليله إلى رسالة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، لم يكن مشروعه الثوري، كما يتوهم البعض من أنصاف المثقفين، مقتصرا على مقارعة الباطل الأموي والإطاحة بذلك البيت الملعون في القرآن، بل كان مشروعه، الذي ورثه لاحقا للإمام الحسين عليه السلام، أكبر و أشمل من

ص: 290


1- د. إسرائيل و لفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية و صدر الإسلام، طبع دار النافذة . القاهرة، ط 1/ 2006 ، ص194.

ذلك بكثير.

لقد كان مشروعه التغييري عبارة عن حركة ديناميكية دائمة لا تعرف حدودا للتغيير المستمر نحو قيم السماء و تعاليم آخر الأنبياء صلی الله علیه و آله و سلم، و لذلك، فعندما يقول الرسول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم مخاطبة أمير المؤمنين عليا عليه السلام على مسمع من الناس:

«أنت الصديق الأكبر و أنت الفاروق الذي يفرق بين الحق و الباطل»(1)، فإن هذا يعني أن حجر الأساس في مشروع علي عليه السلام الثوري هو أن صاحب ذلك المشروع هو الفاروق الحقيقي القادر على معرفة الحق والباطل من جهة، و هو القادر أيضا على مجابهة الباطل بقوة الحق من جهة أخرى.

فالمدرسة الثورية العلوية التي تخرج منها الإمام الحسين عليه السلام هي تلك المدرسة التي تنادي بالنهوض والثورة الدائمين في كل زمان و مكان و على أكثر من مستوى و بعد، فهناك الثورة والنهوض على المستوى العمودي، و هناك أيضا الثورة والنهوض على المستوى الأفقي.

و نحن، بطبيعة الحال، لا نريد أن نتشعب في حديثنا كثيرا حول فلسفة هذين المستويين من الحركة الثورية النهضوية في فكر أهل البيت عليهم السلام عموما، و لكن بإمكاننا أن نختصر الكلام و نقول إن الثورة (العلوية الحسينية) العمودية هي تلك الثورة الحية التي تبدأ من الثورة على الذات نفسها لتخليصها من (النفس المسؤلة) و(النفس الأمارة بالسوء) و من شتى الأصنام والأوثان الداخلية، والتي ينتهي بها المطاف إلى حالة التألي من حيث التأدب بآداب الله سبحانه و تعالى والامتثال لكل أوامره والانتهاء عن كل نواهيه.

ص: 291


1- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج 1 ص 61.

و في هذا المستوى العمودي من الثورة على الذات والنهوض بها إلى مستوى الآداب الإلهية السامية يصل صاحب هذا المستوى من الثورة إلى المرتبة الكمالية العالية التي وصفها الله سبحانه و تعالى في حديثه القدسي المقدس قائلا: (يا بن آدم، أنا غني لا أفتقر أطعني فيما أمرك أجعلك غنيا لا تفتقر، یا بن آدم، أنا حي لا أموت أطعني فيما أمرتك أجعلك حيا لا تموت، أنا أقول للشيء کن فیکون أطعني فيما أمرتك تقول للشيء كن فيكون)(1).

أما المستوى الثاني، أو لنقل البعد الثاني من الثورة، فهو البعد الأفقي الممتد من داخل الذات إلى خارجها ليتصل بكل مفردة من مفردات الوجود المحيطة بتلك الذات الفاعلة والمنفعلة بأن معا، فالثورة النهضوية، بهذا المفهوم، هي حركة إيجابية فاعلة في المجتمع، نعم، ربما لا يكتب لكل الثورات و لكل الحركات النهضوية النصر أو النجاح في مساعيها، و لكن هذا لا يعني أن يقف الإنسان الذي هو، عمليا، خليفة الخالق في الخليقة مكتوف اليدين مستكين النفس مكبل الأحاسيس والمشاعر تجاه أية ظاهرة سلبية في المجتمع مهما كان نوعها و عيارها.

فالامتداد الأفقي للثورات الإنسانية يجعلنا نراجع تاريخ المصلحين والأنبياء علي علیهم السلام مر العصور حتى نتعرف على علاقتهم بواقعهم و مجتمعاتهم التي يعيشون فيها.

فما هي حقيقة تاريخ المصلحين

هل تاريخهم تاريخ الخوف والهلع من السقوط في مهاوي الابتلاء والنكبات؟

هل تاريخهم تاريخ الجزع والتخوف من دخول السجون والمعتقلات و من ثم

ص: 292


1- الشهيد السيد حسن الشيرازي، كلمة الله، دار الصادق . بيروت، 1969، ص140.

التعذيب، و ربما أحيانا الموت تحت سياط الجلاد والسجان؟!

هل هذا هو تاريخهم الحقيقي، أم أن التاريخ الحقيقي لأولئك المصلحين كان تاريخ التخلص من الخوف والتحرر من عقدة الابتلاء التي تكمن لهم في كل حركة يقومون بها و هم في طريقهم إلى تحقيق التغيير المنشود؟!

فتاريخهم كان بالفعل تاریخ سجون بلا خوف، و تعذيب بلا جزع، و إقدام بلا إحجام، و كفاح بلا هوادة، و ضحايا على طريق الشهادة.

فالله جل جلاله يقول في محكم تنزيله الحكيم: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...»(1)، و(الربي) هو المنتسب إلى (الرب) أي إلى الله سبحانه و تعالى، و بالتالي، فإن الرب هو الرجل المنتسب فكرا و عملا إلى السماء، و هو الناهض والثائر دوما من أجل سيادة مبادئ الماء، فهو ثائر في سبيل الحق والعدل والخير والفضيلة و في سبيل تحقيق إنسانية الإنسان و صون كرامته، إنه الثائر أيضا في سبيل فك حبال الذل عن رقاب المعذبين والمستضعفين، إنه الثائر الناهض في وجه فراعنة كل العصور و طغاة كل الدهور حيث لا يعترف لهيب الثورة في صدره بحواجز التاريخ و لا حدود الجغرافيا، و لا حتى بالألوان والأجناس والأعراق، فثورته ثورة شاملة ضد كل الانحرافات والمخاطر التي تهدد الهوية الإنسانية في جذورها و أعماقها، و بالتالي، فالثورة رصد و مواجهة مع صور الباطل والطغيان أينما بات و وقتما كانت.

أما المثال الثاني عن الرؤية اليهودية المعاصرة للمدرسة العلوية الثورية فقد أخذناه من أحد مؤلفات المفكر اليهودي الشهير (ليوبولد فايس) ( Leopold Weiss) النمساوي الأصل.

ص: 293


1- سورة آل عمران: الآية 146.

و عن هذا المفكر اليهودي الخطير الشأن يقول الباحث الأستاذ (محمد شاكر عضيمة) في كتابه الجريء (كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية): (هو سليل الحاخامية، أعده والده ليكون حاخاما لحفظ التراث الرباني للعائلة التي احتفظت به أجيالا، و لكن (إحدى الجهات) ساقته إلى السعودية وجعلته مسلما)(1).

و يذكر الأستاذ (عضيمة) أيضا كيف أن ذلك اليهودي الخطير قد تظاهر باعتناق الإسلام و كيف بدل اسمه من (ليوبولد فايس) إلى (محمد أسد) و كيف استطاع بدهائه و بمكر روحه اليهودية أن يصل إلى أعلى المناصب الإسلامية بتوجيهات من بعض الجهات المسؤولة في المملكة السعودية حتى أنه تسلم المناصب التالية و هو لا يزال يهوديا في صميمه حتى العظم:

1. تولى إصدار مجلة (عرفات) الإسلامية في باكستان.

2- تولى رئاسة معهد الدراسات الإسلامية في لاهور.

3. تولى دائرة إحياء الإسلام في باكستان.

4. عمل كمندوب لباکستان في هيئة الأمم المتحدة.

و مما يدل، بالفعل، على مكره و على عبقريته بنفس الوقت هو أنه - كما يقول عنه الأستاذ (عضيمة)- كان يعرف عن الإسلام أضعاف ما يعرفه أي شيخ في السعودية، و كان، بالإضافة إلى ذلك، يتكلم اللغات التالية: العبرية والآرامية والعربية والألمانية والإنكليزية والبولونية والفرنسية(2)

إذن، إن هذا المفكر اليهودي كان على دراية كافية بكل التاريخ الإسلامي و بكل

ص: 294


1- محمد شاكر عضيمة، كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية، مطبعة الكشاف . اللاذقية طبعة أولى، 1969، ص231.
2- نفس المصدر السابق ص231.

رموزه و أعلامه، و لذلك فقد عرف كيف يمكن وضع السم في الدسم، والذي يقرأ مؤلفاته المتعددة سيدرك هذه الحقيقة بلا أدنى شك أو ریب.

و لكن، و على الرغم من كل ذلك، لم يستطع ذلك اليهودي المتظاهر بالإسلام أن يحجب بعض الحقائق المتعلقة بالروح الثورية عند أهل البيت عليهم السلام، و لكن يكفي أن نذكر من كل هذا تأكيده على أن العصر الذهبي للإسلام بدأ بالتراجع بعد عملية اغتيال الإمام علي علیه السلام.

فالإمام علي علیه السلام، بنظر ذلك اليهودي المتعصب، هو حقا (شهيد)(1) الإسلام، و باستشهاد ذلك الإمام عليه السلام دفاعا عن المبادئ والقيم الرسالية بدأ الإسلام بالتراجع والابتعاد عن الروح الإسلامية التي جاء بها الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم والتي هي في جوهرها روح الثورة والتغيير.

و هكذا نرى أنه حتى الفكر اليهودي المعاصر لم يستطع أصحابه إخفاء إعجابهم الواضح بشخصية الإمام علي عليه السلام و بالمبادئ والأهداف التي كان يدافع عنها طوال حياته دون كلل أو ملل، و هو أيضا إعجاب و تقدير للشخصية الإنسانية الملهمة للكثير من النهضات والثورات العالمية و على رأسها ثورة ابنه الإمام الحسين علیه السلام.

و ليس الفكر المسيحي المعاصر ببعيد عن الرؤية اليهودية السابقة في ما يتعلق بالروح الثورية عند أمير المؤمنين علي عليه السلام، تلك الروح التي غرست في ضمير الإمام الحسين عليه السلام ثورة كربلاء، بل والعديد من الثورات اللاحقة الأخرى في شتى بقاع الأرض طلبا للعدالة والحق و رفضا للبغي والظلم، و ها هو أحد المفكرين

ص: 295


1- ليوبولد فايس (محمد أسد)، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة: منصور ماضي، دار العلم للملايين . بيروت، 1957، ص64.

المسيحيين المعاصرين يعبر عن هذه الفكرة ذاتها بقوله و تأكيده على أن اسم الإمام علي عليه السلام قد أصبح مبعث أمل لكل مغصوب، و صيحة تتردد على لسان كل مظلوم، و حصنا يفزع إليه كل من ضاقت عليه الحال والحياة، و يتابع ذلك المفكر المسيحي قوله: (فما من طالب إنصاف في هذا التاريخ إلا اسم علي ملاذه، و ما من غاضب على ظالم إلا و اسم علي درعه، و ما من ساخط على رشوة أو فساد أو جور إلا وله من علي و تراثه حافز على الثورة)(1).

إذن، لا يختلف اثنان في أن أهداف الإمام الحسين عليه السلام في ثورته و في نهضته الكربلائية هي نفس الأهداف العلوية المستوحاة بشكل مباشر من الرسالة الإسلامية التي جاء بها الرسول المصطفى خير البرية صلی الله علیه و آله و سلم

فالمنطلق واحد والمبدأ واحد، و لا ريب في أن الهدف أيضا واحد، و ليس هذا الأمر بخافي على أحد، بل على العكس تماما، إن كل صاحب بصيرة يدرك دونما أدني شك أن الإمام الحسين عليه السلام، من خلال ثورته على كل مظاهر الخلل في الأمة، قد استكمل و ترجم عمليا النهج الذي رسمه أمير المؤمنين علي عليه السلام لصون و حفظ تعاليم المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بعد ما عمل العاملون جاهدين على محو معالمها و طمس مبادئها غير آبهين بتحذير النذير و لا بخلجات الضمير.

فالإمام الحسين عليه السلام- كما يقول عنه المفكر الفرنسي الشهير (روجيه غارودي) ۔ قد قدم كل ما يملك من أجل أسمى مفهومين في الوجود، الحق والإيمان(2)، و بهذا يكون الإمام الحسين عليه السلام قد استكمل بالفعل ما أراد أمير المؤمنين علي علیه السلام

ص: 296


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق ج5 ص186.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص48.

تحقيقه على أكمل وجه و لو من خلال الأئمة الأطهار علیهم السلام من بعده، سواء من الإمام الحسين عليه السلام أم من غيره لأن الجميع، في المحصلة، ينشدون نفس الأهداف والغايات على حد سواء.

و هنا تحديدا أريد أن أتوقف قليلا مع نقطة هامة أخرى تتعلق بدواعي و أسباب خروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء، و على ما يبدو فإن هذه النقطة أيضا قد أغفل ذكرها كل الباحثين في مسألة النهضة الحسينية و أسباب الثورة على حكومة يزيد.

فهناك سبب جوهري لا يقل أهمية عن كل الأسباب والدواعي التي ذكرناها في هذا الفصل من الكتاب، إنه السبب المتعلق بالتفريط العلني والمتعمد بالكرامة و بالأرض.

فالحاكم الذي يقبل التفريط بالأرض إنما هو حاکم بائع للكرامة والعرض، و هذا ما حدث بالضبط مع يزيد و مع أبيه معاوية من قبله و مع غيره من بعض الخلفاء الأمويين من بعده.

فمعاوية شخصية معروفة بمكرها و دهائها، بل و بقذارتها على كافة المستويات الدينية والدنيوية، و لذلك ليس هناك من داع لنعيد الآن فتح ملفات ذلك الحاكم الذي كان يحكم دائما بعكس حكم الله في العباد والبلاد.

و لكن الشيء الذي قد لا يعرفه الكثير من القراء عن معاوية هو أنه كان صاحب مخطط خطير يقوم على المتاجرة بكل شيء مقدس و غير مقدس من أجل الحفاظ على كرسي الحكم دون حدوث أي شغب أو اضطراب.

و على ما يبدو، فإن ابنه يزيد كان بارا بتعاليم والده و بنهجه في التعامل مع الأحداث والوقائع منطلقا في ذلك من ضرورة الحفاظ على مقاليد الحكم والتشبث

ص: 297

بكل ما أوتي من قوة و سلطان بكرسي الحكم المطلق القادر على أن يختصر شخصية الأمة بشخصه و أن يكثف مساحة تلك الأمة أيضا إلى حدود مساحة كرسيه المنتصب عالية على جماجم المظلومين وأشلاء البؤساء والمستضعفين.

فيزيد الذي ورث منصب (الإمبراطور) من أبيه معاوية الذي ذلل له الكثير من الصعاب و أزال له من طريقه العديد من العوائق الخطيرة التي كان من الممكن لها أن تعيق و صوله إلى كرسي الحكم، بدا و كأنه، منذ الأشهر الأولى لحكمه، لا يمت إلى الإسلام بأدنى صلة و لا يرتبط بمبادئه و قيمه بأوهی رباط، و هذا شيء لا ندعي معرفتنا به دون سوانا من الدارسين والباحثين، و لكن ربما كان هناك أشياء أخرى أعمق من الانحطاط الأخلاقي والتردي الديني الذي ورثه يزيد عن أبيه معاوية.

فمسألة المعاهدات التي كان يعقدها معاوية مع أعداء الإسلام الذين كانوا يتربصون الدوائر بالأمة الإسلامية عموما، كانت معاهدات جائرة بحق الإسلام والمسلمين، و لم يكن عند معاوية أي مبرر لعقد مثل تلك المعاهدات إلا توفير الأمن والاستقرار لكرسيه الخاص و ليس للبلاد التي يحكمها.

و تذكر كتب التاريخ السياسي أن معاوية قد رسم سياسة عقد المعاهدات الجائرة مع الأعداء على حساب المسلمين عند الشعور بأن هناك خطرا ما يتهدد الكرسي الذي يتربع عليه، و تذكر تلك الكتب التاريخية أيضا أن ابنه يزيد و بعض الحكام الأمويين قد ساروا على نهجه واقتفوا أثره في عقد معاهدات مخزية مشابهة للمعاهدات التي أبرمها معاوية مع أعداء إسلام الرسالة والرسول صلی الله علیه و آله و سلم.

و لعل أبشع تلك المعاهدات الجائرة و غير المتكافئة هي تلك المعاهدة التي عقدها معاوية -بمحض اختياره و إرادته- مع الأمير البيزنطي (كونستانس الثاني) في

ص: 298

عام / 39ه ، فدفع معاوية - بموجبها و وفقا لمستلزماتها - الجزية المطلوبة لذلك الأمير البيزنطي المذكور(1).

إذن، إن هذا (الخليفة) الذي استعدي على الإسلام و علی رسوله صلی الله علیه و آله و سلم لم يكتف بضرب المسلمين بعضهم ببعض بشتى الوسائل والطرق، والقيام بمختلف المؤامرات الدنيئة للمحافظة على سلطانه و عرشه، بل راح يحالف أعداء الإسلام علانية على حساب المصلحة الإسلامية العليا.

و قد نهج ابنه يزيد نفس النهج الذي اختطه له أبوه معاوية، فراح يزيد يتاجر بمبادئ الأمة و بشرف الرسالة و بكرامة الضمير الإنساني، هذا بالإضافة إلى عقده عدة معاهدات مع أعداء الإسلام شبيهة بتلك المعاهدات التي عقدها أبوه معاوية مع الأمير (كونستانس الثاني) و مع غيره من الأمراء الأعداء.

و لذلك، فمن الطبيعي أن ينتبه الإمام الحسين عليه السلام إلى تلك الظاهرة الخطيرة التي باتت تهدد الإسلام ذاته في نقطتين:

النقطة الأولى تتمثل في الامتداد الجغرافي للإسلام الذي بات مهددا بفعل عقد معاهدات جائرة يقوم بها الحاكم من أجل مصالح شخصية و مكاسب ذاتية.

والنقطة الثانية تتمثل في إضعاف ثقة المسلمين بأنفسهم من خلال معرفتهم بأن (الخليفة) ضعيف و ذليل، مع وجود دليل على ذلك و هو أن الخليفة يدفع الجزية للآخرين صاغرا و ذليلا بعد أن كان الآخرون هم الذين يعيشون بأمان واطمئنان بين ظهراني المسلمين مقابل دفعهم مبلغا بسيطا من المال مقابل ذلك العيش الهادئ، هذا

ص: 299


1- د. نوري جعفر، الصراع بين الأمويين و مبادئ الإسلام، مطبوعات النجاح. القاهرة، 1978، ص87.

بالإضافة إلى إسقاط واجب حملهم للسلاح و قتالهم في صفوف المسلمين في حال نشوب حرب بين المسلمين و أعدائهم.

لقد أدرك الإمام الحسين عليه السلام أن تعالیم معاوية سوف تسري کالنسغ في أوعية الشجرة الأموية، و سيأتي حكام من بعده يسيرون على نهجه في سياسة المبادئ اللاأخلاقية و سيفرطون بحقوق الأمة مثلما فعل هو بحقوق الأمة و بحقوق الرسالة.

و قد صدق حد الإمام الحسين عليه السلام بشأن ذلك وحدث ما كان يتوقعه تماما، فقد سار لاحقا عبد الملك بن مروان على منهاج معاوية وحذا حذوه عندما عقد معاهدة جائرة و غير متكافئة مع الأمير البيزنطي (جوستنیان الثاني) في عام / 70ه / فدفع الجزية صاغرا للبيزنطيين و تنازل لهم عن كل من أرمينيا و قبرص(1).

إذن، فظاهرة التغير الجغرافي - السياسي (الجيوبوليتيك) كانت ظاهرة جديدة و خطيرة تنذر بتداعيات أخرى أشد خطورة على الواقع الإسلامي و قتذاك، فالإسلام، کرسالة و كنهج عام في الحياة، لا يخول الخليفة أو الحاكم التصرف في حقوق الأمة كيفما يشاء، و لا يعطيه الحق في التفريط بأي شبر من البلاد الإسلامية أو بأي شيء آخر من أجل الحفاظ على كرسي الحكم أو من أجل تحقيق أي مكسب شخص آخر.

فعندما يفرط الخليفة بكرامة الأمة أو بمستحقاتها، فإن أول ما يعنيه هذا التصرف هو أن ذاك الخليفة ليس هو بالخليفة الحقيقي بل هو مجرد حاكم قد استولى على كرسي الخلافة بغير حق و قد تطاول على منصب (الخلافة) دون أي وجه من وجوه الاستحقاقات الشرعية المتعارف عليها.

و من الطبيعي تماما - عندئذ أن يقوم ذلك الحاكم الفاسد، الذي اغتصب الخلافة

ص: 300


1- نفس المصدر السابق ص88.

من أهلها وألب الناس على الخليفة الحقيقي بقوة السيف تارة و ببريق الدنانير تارة أخرى، بممارسة كل أنواع الفساد والطغيان في الأمة و سلاحه في ذلك سيف بيمينه و دینار بیساره و جيش إعلامي ضخم من المحدثين والرواة الكذبة الذين يلعبون دور البواقين له، المهللين لمآثره الجوفاء والمصفقين لجرائمه النكراء، والجاهدین دون كلل أو ملل لإقناع العامة من الناس أن ذلك الحاكم هو الخليفة الفعلي الذي اختاره الله عز وجل و نصبه خليفة عليهم، و بالتالي ليس لديهم الحق في الاعتراض على أفعاله و تصرفاته لأنها أفعال و تصرفات موحى بها إليه من الإله الذي شاء و أبى إلا أن يجعله خليفة عليهم لا يسأل عما يفعل بهم و هم يسألون!!

و أمام هذه الحقيقة المرة، كان لابد للإمام الحسين عليه السلام من أن يخرج و يذكر و يحذر، بل - إن اقتضى الأمر-أن يضحي بأثمن ما يملك من أجل إعادة الحق إلى نصابه واستئصال الباطل من منبته.

و قد أصاب الأستاذ الباحث (أحمد عباس صالح) عندما تحدث عن هذه المسألة الهامة والجوهرية، مسألة الخروج و تقديم الفدية العظيمة التي تتناسب في عظمتها مع عظمة الهدف المطلوب، فأشار معبرا عن ذلك بقوله:

(و لكن الحسين كان يعلم أنه لابد من فدية ضخمة، فدية تتوهج بالدم، و كان هو الوحيد الذي يملك أن يتقدم كفدية تهز الضمير شبه الميت في قلب الأمة)(1).

و لو توقفنا هنا قليلا مع الأستاذ (صالح) لنسأله سؤالا واحدة حول مقولته السابقة التي أوردناها للتو، و قلنا له:

لماذا اعتبرت أن الإمام الحسين عليه السلام هو الفدية الضخمة، و أنه هو علیه السلام الوحيد

ص: 301


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص162.

القادر على أن يتقدم كفدية تتوهج دمة لتهز الضمير شبه الميت في قلب الأمة ؟!

فلو سألناه هذا السؤال، فسيأتي جوابه واضحا و مكثفا في عمق المعاني من خلال قوله: (إنه رجل يمثل الثورة المثلى للإسلام)(1).

إذن، و بالاعتماد على ما سبق، نستطيع أن نقول إن الإمام الحسين عليه السلام هو ضمير الإسلام الحي و هو الصوت الإلهي الباقي في صدور تلك الثلة من المؤمنين والمؤمنات الذين خرجوا معه لإعادة الإسلام الرسالي إلى عالم الحياة والنور بعد أن استبد به الطغاة والبغاة محاولين جاهدين سحبه إلى عالم الظلام والفناء حيث لا أذان يرفع و لا توحيد يسمع.

و ليس هذا فحسب، بل لو أننا أجرينا مقارنة بسيطة و سريعة بين ما قاله هذا الباحث المسلم السني (أحمد عباس صالح) و بين ما قاله أحد أبرز الأدباء والباحثين المسيحيين المعاصرين حول طلب الإمام الحسين عليه السلام للحق و ارتباطه به لدرجة التماهي معه، فماذا يمكننا أن نجد؟!

بالطبع، لن أكون أنا من يجري المقارنة، فأنا أفضل أن أبقى على الحياد، و لكن الشخص الذي سيقوم بإجراء المقارنة هو القارئ نفسه والذي من المفترض له أن يخرج بغلال و فيرة من بيادر الحصاد.

لقد ذكرنا منذ قليل ما قاله الأستاذ الباحث (أحمد عباس صالح) عن فدية الإسلام الدامية و عن الصورة المثلى لذلك الدين السماوي العظيم، و لذلك لا داعي التكرار ما ذكرنا من عبارات و شواهد، و بالتالي، فسنذكر الآن ما قاله ذلك الباحث المسيحي العبقري عن نفس النقطة التي عالجها الأستاذ (أحمد عباس صالح).

ص: 302


1- نفس المصدر السابق ص163.

يقول ذلك الباحث المسيحي تحت عنوان (إنه هنا الحسين):

(إن العقل وحده عند الحسين هو الذي اكتشف الحقيقة التي تتغلف بها القضايا الكبيرة في الوجود - و لقد اكتشف أن الحق هو الذي يبني القضية و أن القضية التي هي الحق، لا يكون عمرها بالساعات، بل إنها الأبقى من الدهر... وجد نفسه أمام حقيقة الإدراك بأنه منتدب لتعقد الحق، و سيقوم بحقيقة التعهد- فإما يكون له الظهور، و إما يكون له بروز العنفوان الذي يبني الإنسان- لا للذل- بل للحياة.

أما الأمة التي هي من بنية جده، فهي التي تبقى أبدا تنظر إليه - و لو بعد ألف حين - بأنه العنفوان الذي: إذ ما تفتش عنه الأم تجده في حقيقة ذاتها- و ذلك هو جوهر الإنسان الذي بذل له جده و أبوه عرق العمر !!)(1).

لن أعلق على كلام هذا الباحث المسيحي و لو بكلمة واحدة، بل سأترك أمرالتعليق والمقارنة - كما ذكر منذ قليل - للقارئ الكريم عسى أن يخرج بما لم نحط به علما.

و على كل حال، مهما حاولنا أن نبحث و نخوض بعمق و قوة في دراسة دواعي و أسباب النهضة الحسينية، فسنبقى عاجزين تماما عن الإحاطة بها کليا، فهي ثورة نهضوية لا كالثورات الأخرى التي عرفها مسرح الحياة الإنسانية، فكربلاء ثورة أهل السماء على طغاة أهل الأرض، بل هي في حقيقتها و جوهرها ثورة القرآن على أتباع الشيطان.

و لذلك، مهما كتبنا و مهما أتينا بالكثير من الآراء و وجهات النظر لكبار رجال الفكر والأدب والدین، من مختلف الأديان والمذاهب، حول دوافع خروج الإمام

ص: 303


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص83

الحسين عليه السلام إلى أرض كربلاء، فسنبقى ضمن دائرة العجز عن بلوغ المرام و لو طال بنا المقام، و لكن، و على الرغم من كل ذلك، نرى أنه من الواجب علينا أن نستمر في إيراد المزيد من وجهات النظر والآراء الجديدة و ذلك بهدف إعطاء صورة تقريبية واضحة المعالم والخطوط عن طبيعة تلك الثورة التي لم يخمد لهيبها حتى الآن.

و على سبيل المثال، يرى الأستاذ (محمد رضا) في كتابه (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة) أن خروج الحسين إلى كربلاء هو عين الحق والحكمة، و يری الأستاذ (رضا) أيضا، و هو مسلم سني، أن الإمام الحسين عليه السلام : (إنما قام مجاهدا لتغيير الأحكام التي كانت تجري على خلاف أوامر الله سبحانه و سنة رسوله، فإن الحكام كما قال (الحسين عليه السلام): لزموا طاعة الشيطان و ترکوا طاعة الرحمن، و هو أحق من غيره بوضع الأمور في نصابها و إقامة العدل، و قد روي أن الفساد والمجون و إباحة المحرمات ظهرت في المدينة، دار هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام، وامتدت إلى غيرها من البلدان، فإذا لم يكن الحسين هو الذي يغار على الدين، فمن ذا الذي يغار عليه؟!)(1).

و بالفعل، فقد صدق الأستاذ (رضا) في قوله متسائلا:

إذا لم يكن الحسين عليه السلام هو الذي يغار على الدين، فمن ذا الذي يغار عليه؟!

و لعل هذا القول الاستفساري من قبل الأستاذ (رضا)، و هو عارف بالجواب الأكيد، يقابله قول آخر للأستاذ الأزهري (خالد محمد خالد) في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء) حيث قال ملخصا أحد أهم الأسباب لإشراق شمس الثورة الحسينية في

ص: 304


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، المكتبة العصرية . صيدا، ط 1/ 2004 ، ص132.

ليل الأمة:

(وإذا كانت الطبول تدق في دمشق معلنة قيام خلافة كاذبة لحفيد أبي سفيان، فلابد أن يجد الإسلام من يدفع عنه الكارثة...

و لابد أن يجد المسلمون من يدرأ عنهم الطوفان...)(1).

و لو أردنا أن نواصل رحلتنا في سبر أغوار الثورة الحسينية المباركة و أسبابها الكثيرة المباشرة، فسيطول بنا المقام بلا أدنى شك، و لكن ذلك لا يمنعنا من الاستمرار في عملية استكشاف المزيد من الآراء والأفكار الصادرة عن أرباب الفكر والمعرفة، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإيجاز والاختصار خوفا من أن يتسلل الملل إلى نفوس قرائنا الأعزاء.

و لذلك، فسنحاول جاهدين إيجاز ما جاء في أحد الكتب الهامة عن سيرة و ثورة ريحانة النبي صلی الله علیه و آله و سلم، الإمام الحسين علیه السلام، و هو كتاب طبع منذ عدة عقود في مصر.

فالكتاب يحمل عنوان (الثائر الأول في الإسلام) لمؤلفه العالم الأزهري المعروف (محمد عبد الباقي سرور) صاحب العديد من الكتب والمؤلفات الإسلامية، فقد ذكر الأستاذ (سرور) في كتابه المذكور وجهة نظره الخاصة حول دواعي خروج الإمام الحسين عليه السلام لإسقاط حكومة يزيد الأموي اللاشرعية، بالإضافة إلى ذكره الأسباب الوجيهة التي دعت الإمام الحسين عليه السلام إلى عدم مبايعة یزید مهما كان الثمن و مهما بلغت التضحيات، تلك التضحيات العظيمة التي سيقدمها الإمام الحسين عليه السلام والتي ستكون بمثابة الضريبة الكبرى التي سيدفعها سيد الشهداء مقابل كلمة (لا) للذل والعبودية والطغيان.

ص: 305


1- خالد محمد خالد ، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص102.

و ها هو الأستاذ الأزهري (سرور) يقول حرفيا:

(فلو بايع الحسين يزيد الفاسق المستهتر، والذي أباح الخمر والزنى، و حط بكرامة الخلافة إلى مجالسة الغانيات و عقد حلقات الشرب في مجلس الحكم، والذي ألبس الكلاب والقرود جلاجل من ذهب، و مئات الألوف من المسلمين صرعی الجوع والحرمان، فلو بايع الحسين عليه السلام يزيد أن يكون خليفة لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم على هذا الوضع لكانت فتيا من الحسين بإباحة هذا للمسلمين، و كان سكوته هذا أيضا على هذا رضى، والرضى عن ارتكاب المنكرات و لو بالسكوت إثم و جريمة في حکم الشريعة الإسلامية)(1).

و لم يكتف الأستاذ (سرور) بهذا القول الصائب، بل راح يحاول تفسير كل فكرة بشكل مستقل، و لذلك فقد أضاف قائلا: إن الحسين عليه السلام بوضعه الراهن في عهد یزید هو الشخصية الأولى المسؤولة في الجزيرة العربية بل في البلاد الإسلامية كافة عن حماية التراث الإسلامي لمكانته في المسلمين و لقرابته من رسول رب العالمين، و لكونه بعد موت كبار المسلمين أعظم المسلمين في ذلك الوقت علما و زهدا و حسبةا و مكانة.

فعلى هذا الوضع أحس بالمسؤولية تناديه و تطلبه لإيقاف المنكرات عند حدودها، و لاسيما أن الذي يرتكب هذه المنكرات و يشجع عليها هو الجالس في مقعد رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، هذا أولا، و ثانيا: أنه عليه السلام جاءته المبایعات بالخلافة من جزيرة العرب و جاءه ثلاثون ألفا من الخطابات من ثلاثين ألفا من العراقيين من سكان البصرة والكوفة يطلبون فيها منه الشخوص لمشاركتهم في محاربة العربید یزید بن معاوية،

ص: 306


1- محمد عبد الباقي سرور، الثائر الأول في الإسلام، طبع القاهرة - مصر، ص79.

وألحوا في تكرار هذه الخطابات، حتى قال رئيسهم عبد الله بن أبي الحصين الأزدي): یا حسین سنشكوك إلى الله تعالى يوم القيامة إذا لم تلب طلبنا و تقوم لنجدة الإسلام، و كيف والحسين ذو حمية دينية و نخوة إسلامية، والمفاسد تترى أمام عينيه، كيف لا يقوم بتلبية النداء!!

و بالطبع، فإن الإمام الحسين عليه السلام لا يستطيع أن يقاوم تلبية نداء إغاثة الرسالة و إنقاذ ما تبقى من نور الله في صدور المؤمنين، فهو ابن أمير المؤمنين عليه السلام ، و هو وليهم، و نحن نعلم أن المؤمن أخو المؤمن لأمه و أبيه، فأبوه النور و أمه الرحمة، و بالتالي، كيف لا يستجيب الإمام الحسين عليه السلام لنداء الرسالة، و كيف لا يكون غيورا على إخوانه المؤمنين ؟!

و على الرغم من أننا قاربنا الانتهاء من دراسة هذا الفصل الهام من كتابنا، و هو الفصل المتعلق بأسباب و دواعي النهضة الحسينية المظفرة، إلا أننا لا نزال نملك في جعبتنا الكثير والكثير من الآراء والتقييمات المتفاوتة في القيمة حول أسباب الخروج و إطلاق شرارة الثورة في وجه يزيد الذي لم يدخر جهدا في تكبيل الشمس بآلاف القيود والزج بها في زنزانة قصره الذي هیاه له أبوه و لتبقى الرعية حية في ظلام حالک لا يعرف ليله للنور و للصباح طريقا.

و قد بقي علينا أن نذكر هنا أن هناك بعض الدارسين لأسباب الثورة لم يسيروا في دراستهم على نفس الخط أو النهج الذي سار عليه عموم الأدباء والمفكرين، بل كان لهم نهج خاص في دراسة و تحليل أسباب النهوض والخروج إلى ساحات كربلاء المواجهة حكومة و جيوش الظلام الذي يمثل الامتداد الطبيعي لنهج معاوية.

فهناك من الأدباء والمفكرين من رأى أن خير وسيلة لفهم الدوافع الحقيقية لثورة

ص: 307

الإمام الحسين عليه السلام هي دراسة و تحليل الرسائل العديدة المتبادلة بينه و بين يزيد أو معاوية، فمن خلال الرسائل و تحليل ما ورد فيها يستطيع الدارس أن يحلل شخصية کاتبها من جهة، و يستطيع أن يدرس بعمق الدوافع الأساسية التي دعته لكتابتها أو لاتخاذ أي موقف إجرائي مبني على ما ورد فيها من جهة أخرى.

و من هؤلاء المفكرين الذين نهجوا هذا النهج في دراسة الأسباب المباشرة للثورة الحسينية الكاتب المصري (توفيق أبو علم) صاحب المؤلفات العديدة من أعلام أهل البيت علیهم السلام ، فالأستاذ (أبو علم) يرى أنه من خلال دراسة و تحليل الرسائل المتبادلة بين الإمام الحسين عليه السلام من جهة و أعدائه من جهة أخرى، يمكننا الوصول إلى معرفة الكثير من الوقائع والحقائق، ليس على مستوى معرفة دوافع الثورة فحسب، بل أيضا على مستوى معرفة كوامن النفوس و غايات أصحابها سواء كانت تلك الكوامن والغايات المنعكسة في الرسائل سلبية أم إيجابية.

و بالفعل، فقد ذكر الأستاذ (أبو علم) رسالتين هامتين متبادلتين بين الإمام الحسين عليه السلام و معاوية بن أبي سفيان تعكسان الكثير من الحقائق و تبينان المزيد من العوامل النفسية والدوافع الذاتية التي كان يتصف بها كل طرف من الطرفين المتعارضين.

و لو لم يذكر الأستاذ (أبو علم) إلا رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية لکان ذلك كافيا من أجل إعطاء الصورة المتكاملة عن الأهداف والمساعي التي يسعی لتحقيقها كل منهما، هذا بالإضافة إلى إعطاء الإطار العام والخطوط العريضة لما تتصف به كل شخصية منهما بشكل متناقضي كليا مع الشخصية الأخرى، علما أن هذه الرسالة تمثل تأكيد رفض الإمام الحسين ليزيد و لمعاوية الذي عزم على استخلافه .

ص: 308

و ها نحن نذكر تلك الرسالة التي رد بها الإمام الحسين عليه السلام على مزاعم معاوية، و هي الرسالة التي أوردها الأستاذ (أبو علم) في كتابه (الحسين بن علي) بسبب أهميتها و أهمية الحقائق الواردة فيها من جهة، و بسبب إمكانية استخلاص الكثير من الصفات التي تتعلق بالمرسل و بالمرسل إليه من جهة ثانية.

يقول الأستاذ (أبو علم): فلما وصل الكتاب (أي رسالة معاوية) إلى الإمام الحسین (رضي الله عنه)، كتب إليه الحسين:

«أما بعد، فقد بلغني كتابك تذكر فيه أنه انتهت إليك عني أمور أنت لي عنها راغب و أنا بغيرها عندك جدير، فإن الحسنات لا يهدي لها و لا يسدد إليها إلا الله تعالى، و أما ما ذكرت أنه رقي إليك عني، فإنه إما رقاه إليك الملاقون المشاؤون بالنميم، المفرقون بين الجمع، و کذب الغاوون، ما أردت لك حربا و لا عليك خلافا، و إني لأخشى الله في ترك ذلك منك و من الإعذار فيه إليك و إلى أوليائك القاسطين الملحدين حزب الظلمة و أولياء الشياطين.

ألست القاتل حجر بن عدي أخا کندة و أصحابه المصلين العابدين الذين كانوا ينكرون الظلم و يستفظعون البدع و يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر و لا يخافون في الله لومة لائم، ثم قتلتهم ظلما و عدوانا من بعدما أعطيتهم الأيمان المغلظة والمواثيق المؤكدة لا تأخذهم بحدث كان بينك و بينهم جرأة على الله و استخفافا بعهده؟

أولست قاتل عمرو بن الحمق صاحب رسول الله صلی الله علیه و اله و سلم العبد الصالح الذي أبلته العبادة فنحل جسمه واصفر لونه فقتلته بعدما أمنته و أعطيته من العهود ما لو فهمته العصم لنزلت من رؤوس الجبال؟ أولست المدعي زياد بن سمية المولود على فراش

ص: 309

عبيد من ثقيف فزعمت أنه ابن أبيك، و قد قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «الولد للفراش وللعاهر الحجر»، فتركت سنة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم تعمدا و تبعت هواك بغير هدى من الله، ثم سلطته على أهل الإسلام يقتلهم و يقطع أيديهم و أرجلهم و يسمل أعينهم و يصلبهم على جذوع النخل كأنك لست من هذه الأمة وليسوا منك؟ أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين علي، فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين علي، فقتلهم و مثل بهم بأمرك، و دين علي هو دين ابن عمه صلی الله علیه و آه و سلم الذي كان يضرب عليه أباك و يضربك، و به جلست مجلسك الذي أنت فيه، و لولا ذلك لكان شرفك و شرف آبائك بخثم الرحلتين رحلة الشتاء والصيف، و قلت فيما قلت (أي في إحدى رسائل معاوية للحسين عليه السلام) (انظر لنفسك و لدينك و لأمة محمد، واتق شق عصا هذه الأمة، و إن تردهم إلى فتنة)، و إني لا أعلم فتنة أعظم على هذه الأمة من ولايتك عليها و لا أعظم نظرا لنفسي و لديني و لأمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم أفضل من أن أجاهدك، فإن فعلت فإنه قربة إلى الله و إن تركه فإني أستغفر الله لديني و أسأله توفيقه لإرشاد أمري، و قلت فيما قلت: (إن أنكرتك تنكرني و إن أکدک فكدني ما بدا لك)، فإني أرجو ألا يضرني كيدك و ألا يكون على أحد أضر منه على نفسك لأنك قد ركبت جهلك و تحرصت على نقض عهدك و لعمري ما و فيت بشرط، و لقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق، فقتلتهم من غير أن يكونوا قاتلوا و قتلوا، و لم تفعل ذلك بهم إلا لذكرهم فضلنا و تعظيمهم حقنا فقتلتهم مخافة أمر، لعلك لو لم تقتلهم مت قبل أن يفعلوا أو ماتوا قبل أن يدركوا، فابشر یا معاوية بالقصاص واستيقن بالحساب، واعلم أن الله تعالی كتابا لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها، و ليس الله بناس لأخذک بالظنة و قتلك أولياءه على التهم و نفيك

ص: 310

أولياءه من دورهم إلى دار الغربة، و أخذك للناس ببيعة ابنك غلام حدث يشرب الشراب و يلعب بالكلاب، ما أراك إلا قد خسرت نفسك، و بترت دينك و غششت رعيتك، و أخربت أمانتك، و سمعت مقالة التنفيه الجاهل و أخفت الورع التقي، والسلام)(1).

و غني عن القول والتفصيل في الشرح أن هذه الرسالة البليغة والمفضلة من الإمام الحسين عليه السلام وردت في الكثير من المصادر والمراجع الإسلامية المتقدمة والمعتبرة عند الفريقين، بل و قد وردت أيضا في العديد من المراجع اللاحقة عند المسلمين والمسيحيين على حد سواء أيضا.

و أنا شخصيا أؤيد فكرة أن الرسائل والمكاتبات هي إحدى الطرق والوسائل الهامة في إعطاء و رسم صورة واضحة المعالم عن طبيعة الشخص المرسل من جهة و طبيعة الشخص المرسل إليه من جهة ثانية، فالرسالة سفير المرسل، و هي لسانه الناطق لما ينطوي عليه الفكر والقلب، و هي بنفس الوقت دليل المرسل و عينه وعونه في معرفة الكثير عن مكنونات الطرف الآخر لها.

و بالطبع، لا نريد أن ندخل في ميدان التحليل النفسي و لا أن نخوض في مجال البحث عن الارتباط الوثيق بين الإنسان و أقواله و أفعاله و آثاره، سواء كانت تلك الآثار منطوقة أم مكتوبة أم حتى مرسومة، فکل ما نقوله أو نكتبه أو نقوم بعمله له آثار و دلالات واضحة تدل على بنيتنا الفكرية و دوافعنا النفسية، و بالتالي له مؤشرات واضحة تدل على طبيعة شخصيتنا و على الحاجات والمبادئ والدوافع التي تحركنا

ص: 311


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي (سلسلة أهل البيت)، دار المعارف بمصر، ط 1982/2 ، ص091

ضمن خط مسيرة الحياة.

و على كل حال، و من باب لفت النظر فقط، نقول إن الباحث المسيحي الأستاذ (أنطون بارا) قد أورد الرسالة السابقة أيضا، والتي قد ذكرناها منذ قليل، و قد علق على تلك الرسالة الحسينية في كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) تعليقا يليق بمحتوى الرسالة و بالحقائق التي تتضمنها.

و لكنه، بنفس الوقت، اختصر الكلام عن إيضاح الفرق بين الشخصيتين أو الطبيعتين الحسينية واليزيدية - تلك الشخصية التي ورثت الكثير من صفات معاوية المعادية للإسلام و لرسوله صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد أورد الأستاذ (بارا) بيتين من الشعر القوي المعبر، أكد من خلالهما على أن خروج الإمام الحسين عليه السلام على يزيد، و من قبله على معاوية، لم يكن إلا من أجل إعادة النبض إلى جسد الإسلام بعد أن نفث فيه يزيد كل سمومه بناء على أوامر و مخططات والده معاوية، فيزيد الذي تظاهر بالإسلام، كأبيه من قبل، لم يتجاوز إسلامه حدود شفتيه و لسانه، و لو كان الأمر عكس ذلك لما حمل یزید سیف البغي للفتك بأهل الرسالة وأنوارها!!

و ها هو الأستاذ (بارا) يحدثنا عن يزيد الفاتك برسالة التوحيد:

لئن جرت لفظة التوحيد في فمه *** فسيفة بسوى التوحيد ما فتكا

قد أصبح الدين منه يشتكي سقما *** و ما إلى أحد غير الحسين شکا(1)

إذن، بدأت رسالة السماء تلفظ أنفاسها الأخيرة على يد يزيد الذي أظهر الإسلام بلسانه و ناصبه العداء والحقد بقلبه و بجوارحه حتى لكأن هناك عداوة قديمة بينهما

ص: 312


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص223.

تمتد إلى عقود مضت من السنين.

و لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا الآن هو السؤال التالي:

لماذا يحمل معظم المسلمين يزيد مسؤولية كل ما حدث على الساحة الإسلامية من مصائب و نكبات؟

و هل يزيد إلا مجرد تلميذ تعمد حفظ الدروس التي تلقاها عن آبائه و عن أساتذته الذين سبقوه زمنيا في اعتلاء کرسي الخلافة واغتصابها مجتهدين في قطع شرايين الإسلام بهدف فصله عن معانيه السماوية و عن جوهر تعاليمه الإلهية؟! فلماذا نلوم التلميذ و لا نلوم الأستاذ و من وضع المناهج والخطط؟!

سنترك أمر الإجابة على هذه الأسئلة لمن يريد أن يجعل من عقله سراجا عند الإجابة عليها و على غيرها من الأسئلة الهامة التي تحاول أن تشق طريقها إلى النور.

و مهما يكن من أمر، و مهما تعددت الأسباب في نهوض الإمام الحسين علیه السلام و إعلان رفضه الكامل للباطل بكل صيغه و أشكاله، فقد صدق الكاتب والباحث المغربي المعاصر (أحمد بوعود) عندما قال في حديثه عن دواعي التغيير في ثورة الحسين عليه السلام الخالدة: (لا بد من التغيير، و لن يغير إلا من كان في مستوى المهمة، و رعا و علما و تشبثا بالسنة، و قربا من النبوة، فاختار القدر الإلهي الإمام الحسين بن علي عليه السلام ليغير)(1).

والحقيقة، فإني لا أعلم لماذا تذكرني هذه المقولة التي أوردتها الآن للأستاذ الباحث (أحمد بوعود) بمقولة أخرى مميزة للشاعر والأديب العالمي (أدونيس) الذي

ص: 313


1- أحمد بوعود ، دواعي التغيير في قومة الحسين، مجلة النور، العدد 107 نيسان 200، إصدار دار النور للنشر. لندن، ص79.

سنقدم تعریفا موجزا عنه في المكان المناسب في هذا الكتاب، و يقول (أدونيس) فيها: (و بديهي أن سياسة النبوة كانت تأسيسا لحياة جديدة و نظام جديد، و أن سياسة الإمامة، أو الولاية، اهتداء سياسة النبوة، أو هي إياها، استلهامة لا مطابقة، ذلك أن لكل إمامة أو ولاية عصرة خاصة، و أن لكل عصر مشكلاته الخاصة، هكذا تكمن أهمية سياسة الإمامة، بل مشروعيتها في مدى طاقتها على الاجتهاد لاستیعاب تغير الأحوال، و تجدد الوقائع بهدي سياسة النبوة)(1).

و ربما أن القاسم المشترك بين هاتين المقولتين هو أن الإمام الحسين عليه السلام الذي ورث مشروعية النهوض والإصلاح عن جده المصطفى عليه السلام و أبيه المرتضی علیه السلام كان هو، بالفعل، الإمام الذي اختارته إرادة السماء - بالاعتماد على ما يمتلك من خصائص و مقومات - ليكون المثال الواقعي والرمز الحي المعبر عن الأهمية الحقيقية لمعنى الإمامة والولاية في الإسلام، تلك الإمامة السائرة على خط النبوة و هديها، والقادرة على الاجتهاد والتجديد وفقا لكل عصر و ما يعاني من مستجدات و مشکلات خاصة سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات.

و في نهاية مطافنا هذا في ربوع دوافع الثورة الحسينية و مقوماتها، نرى أنه قد آن الأوان لنختم کلامنا و ننهي حديثنا في هذا الموضوع، خاصة و نحن ندرك تمام الإدراك أن الكلام في هذا المجال يطول و يطول مع كل ما فيه من عنفوان الرجولة و كرامة القيم و نبل المبادئ و أحزان السماء على ما أصاب صفوة الخلق بين أهل

ص: 314


1- راجع هذا القول لأدونيس فی: أ. د. صادق جلال العظم، الاستشراق والاستشراق معكوسا، دار الحداثة . بيروت، 1981، ص42. ب. مجلة (مواقف) العدد رقم 34، شتاء عام 1979، راجع المقولة في الصفحة 158.

الأرض.

و ليس لنا أن نقول الآن أي شيء، أو أن نضيف أي شيء على ما أسلفنا ذكره غير قولنا الحالي الذي نؤكد من خلاله على صدق و صواب قول القائل العارف عن حقيقة الإمام الحسين عليه السلام: (إن نور الإله و مرآة تجلي الحق و نور الهدى نور الحسين لا سواه، و سر الولاء و لؤلؤ الحق المتوهج و مظهر الواهب المعطي إنما هو الحسين، و لقد كان سر الهوية الذي تجلى هو الضوء الساطع لنور الحسين)(1).

نعم، هذا هو الحسين عليه السلام ، بل هذا قبس ضئيل من وهج ضيائه العظيم.

إنه الإمام الحسين عليه السلام الذي أحرق فراشة الروح في حرم العشق الإلهي حبا و شوقا للوصول إلى سراج الذات الذي لا يعرف الظلام أبدا.

ص: 315


1- آية الله السيد محمد الحسيني الطهراني، لمعات الحسين عليه السلام ، طبع دمشق .2002م، ص53.

تبوءة أهل البيت عليهم السلام بفاجعة كربلاء

لا ريب في أن عنوان هذا الفصل الجديد يبدو غريبا و مثيرا بآن واحد، و لاريب أيضا في أن الخوض في هذا الموضوع يحتاج إلى الكثير من الأقوال والشواهد التي تدعم الحديث عن حقيقة التنبؤ بفاجعة كربلاء الدامية التي اهتز لها عرش الرحمن استنكارا لوحشية الإنسان.

و لكن قبل الدخول في جوهر بحثنا هذا، هناك بعض النقاط المتفرقة علينا أن نستعرضها سوية بهدوء كي تكون مدخلا مناسبا لنا للدخول إلى عالم النبوءات و إلى الحديث عن غوامض المستقبل و أسراره الضبابية الغامضة.

كلنا يعلم أن العلم في الآونة الأخيرة، و بالتحديد منذ منتصف القرن العشرين تقريبا، أصبح عرضة للتجاذب بين مسألتين هامتين هما (المادة) و(الروح) أو ما يسميه البعض ب (الفكر) بدلا من كلمة الروح التي لا تروق لهم بسبب غموض معانيها.

و على الرغم من أن الغلبة كانت راجحة لصالح المادة، أو على الأقل لمن كان ينادي بأسبقية و أهمية المادة على حساب الطرف الآخر، إلا أن العلم مؤخرا بدأ و بشكل جدي بدراسة الكثير من الظواهر الروحية و بتحليل الكثير أيضا من القدرات الخفية الخارقة عند الإنسان، تلك القدرات الهائلة التي لا يمكن للمادة أن تكون هي السبب الأساسي والجوهري في وجودها و إطلاقها.

و سأذكر الآن عدة أقوال هامة لبعض العلماء تتعلق بقوى الروح و بتفوقها على

ص: 316

المادة من حيث القدرات و من حيث تجاوز الزمان والمكان والقفز فوقهما و إمكانية قراءة سطور المستقبل و تفكيك رموزه و إشاراته.

يرى الباحث والعالم (آرثر کو جبتون)، الحائز على جائزة نوبل في العلوم الذرية والرئيس السابق للمجمع العلمي الأميركي، أن الروح تبقى حية بعد فناء الجسد المادي للإنسان، و يقول العالم (کوجبتون) بالحرف الواحد: (فلو أني أوقدت شمعة ثم أطفأتها على الفور بنفخة من فمي فإني لا أكون قد أبدت ضوءها، إنك لن ترى هذا الضوء بعينك الفيزيقية، و لكن لهب هذه الشمعة الضئيل يظل مجنحا في الفضاء لمدى سنين ضوئية لا نهاية لها، فإذا كنت لا أستطيع أن أبيد ضوء شمعة أوقدتها أنا بنفسي ثم أطفأتها، فكم يكون سخيفا أن نظن أن شخصية الإنسان تنعدم وتبيد بسبب ذلك الموت الفيزيقي)(1).

و بعد هذا الكلام الجميل عن علاقة الشخصية الإنسانية بالمادة والروح، ينتقل العالم (کوجبتون) للكلام عن قوة الروح و ما تحمله من أفكار و قيم تنتقل معها و تنقيها من العلائق والشوائب حتى تغدو جوهرا نقيا صافيا لا يخضع للقوانين الفيزيائية الأرضية و لا تتأثر بما يتأثر به الجسد المادي من الارتباط والوقوع تحت تأثیر عاملي الزمان والمكان.

و بالطبع، فإن هذا الكلام أول ما يعنيه هو أن الروح يمكن أن يتكشف لها الكثير من الحقائق والمعارف بقدر ابتعادها عن عالم المادة و قيودها.

و لا يختلف هذا الكلام من العالم (آرثر کو جبتون) عن زميله العالم البيولوجي

ص: 317


1- عبد الحميد الجوهري، الشفاء بالتنويم المغناطيسي والطاقة الروحية، نشر: إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 1988، ص139.

(ألفريد راسل والاس) صاحب نظرية خاصة بالتطور، و هي نظرية مكملة لنظرية التطور التي أعلنها العالم (لامارك)، و قد حاول (والاس) التوفيق بين نظرية التطور و بين كشوفاته الروحية، مؤكدا على حقيقة أن من يتأمل في وجود جسد أثيري للإنسان يتبين له ناموس التطور والارتقاء، خاصة و أن هذا الجسد الأثيري الراقي يحمل عقل الإنسان ذاته.

و بما أن الجسد الأثيري أرقى من الجسد العادي الرهين في سجن المادة، فهو الجسد الأقدر على التحرر من سلطة الزمن عليه، و بالتالي تكون له القدرة على التنقل في بعض الظروف بين الأعماق المختلفة للزمان.

و مما يؤكد هذه الرؤية حديثا هو علم الباراسيكيولوجي الذي بدأ يحظى باهتمام عظيم في معاهد و جامعات الغرب.

فهناك نظرية جديدة هامة تسمى نظرية (الجلاء البصري) أو (الاستشفاف)، و بالطبع، لا يسعنا الآن أن نشرح الأسس التي تقوم عليها هذه النظرية الهامة، و لكن يمكننا أن نقول إن هناك نوعين من الجلاء البصري: الجلاء البصري البسيط أو القريب، والجلاء البصري البعيد.

و ما يهمنا هنا الآن هو الجلاء البعيد، و هذا النوع من الجلاء البصري هو حالة يمكن للشخص الموهوب أن يرى من خلالها الأشياء البعيدة عن متناول النظر العادي، ويتم ذلك عن طريق استخدام ذلك الشخص لما يسمى بالتلسكوب الأثيري، و هو بالطبع تلسكوب افتراضي، و تختلف قوته من شخص لآخر، و تقوم الفكرة الأساسية على أن الإنسان يكون تیارة فكريا أثيرية و ذلك باستخدام قوته الحيوية، و هذا التيار يسهل مرور الذبذبات الأثيرية مهما كانت ضوئية أو صوتية أو حتى فكرية،

ص: 318

و بعبارة أكثر وضوحا، فإن الشخص الوسيط من خلال تكوينه هذا التيار، فإنه يرفع من ذبذبته حتی توافق ذبذبة الشيء المطلوب الاتصال به.

و لكن تبدو هذه العملية أكثر تعقيدا من العملية الأخرى التي تعرف باسم (الطرح الروحي)، و هي قدرة الشخص الوسيط على طرح جسمه الأثيري إلى المكان المطلوب رؤيته، فيراه كما هو ثم يعود بالأخبار المطلوبة مخترقة كل الحواجز.

والجلاء البصري موهبة معروفة منذ القدم، و هي موهبة فطرية يمكن لها أن تنمو و تتعاظم بالتعبد والطاعة و صقل النفس، و أحيانا باعتزال الناس أيضا.

و يرى العلم الحديث، بعد ظهور نظرية النسبية لصاحبها (ألبرت أينشتاین)، أنه بالإمكان القول إن جميع الحوادث المستقبلية موجودة في مكان ما في الكون، و لكن لم تصبح بعد في حيز الواقع الحاضر، و كما أن هناك في الهندسة مسافات سالبة و أخرى موجبة، فكذلك الزمن، فنحن نقول الآن هناك (ماضي) و (مستقبل)، و هكذا توجد أيضا حوادث (شفوية) لم تترجم بعد، و حوادث (فعلية) أخذت نصيبها من الواقع الفعلي على مسرح الوجود.

و هنا يأتي دور الأفراد الموهوبين في عملية الجلاء البصري البعيد، حيث يكونون قادرين على استجلاء الكثير من الحقائق والأحداث (النظرية) التي ستأخذ طريقها إلى الواقع و لو طال بها الزمان في وصولها إلينا.

و علينا أن لا نغفل عن أن تعبير الجلاء البصري هو تعبير عام، فهناك الجلاء السمعي والجلاء الشمي و غير ذلك أيضا، و خير مثال على الجلاء الشمي، هو ما ورد في قصة سيدنا يوسف عليه السلام في القرآن الكريم، حيث قال الله سبحانه و تعالى: «وَ لَمّا

ص: 319

فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ»(1)، و هذا يعني أن والد يوسف عليه السلام وصل إلى حالة الجلاء الشمي، فعرف ابنه يوسف و عرف أنه كان موجودا على الرغم من أنه - كما نعلم كلنا- كان كفيف البصر من البكاء عليه.

و من هنا يمكننا الدخول إلى جوهر بحثنا الحالي، مع إمكانية العودة إلى الكلام عن الظواهر والقدرات الروحية الخارقة والاستشهاد ببعض الحوادث منها، و دراستها على ضوء علم (الباراسيكيولوجي) الحديث.

و أول ما يمكن لنا أن نقوله الآن هو طرح السؤال التالي على أنفسنا:

إذا كان الإنسان العادي، الموهوب روحيا، والبعيد عن عالم النبوة والاصطفاء من الله، قادرة على قراءة العديد من الحوادث المستقبلية واستجلائها عن بعد، فكيف الحال، إذن، عند الرسل والأنبياء عليهم السلام الذين اختصوا بعلم النبوة و أسرارها، و هم الأقرب روحا و نورا إلى نور الله سبحانه و تعالى؟!

و لذلك، من الطبيعي جدا أن يتحدث الأنبياء والرسل علیهم السلام عن علوم الغيب و أن یشيروا بطريقة التصريح أو التلميح إلى العديد من الحوادث الغيبية الهامة التي ستحدث لاحقا على أرض الواقع والتي ستكون بمثابة الترجمة الحرفية الصادقة لما أشار إليه هذا الرسول أو ذاك النبي.

و انطلاقا من هذه المقدمات المتعلقة بمضمون بحثنا، دعونا الآن نخطو الخطوات الأولى باتجاه بوابة علم غيب الأنبياء السابقين عليهم السلام كي نقرأ سویة ما جاء على ألسنتهم الناطقة و في كتبهم الصادقة من أحاديث و أقوال و أدعية تتعلق بمأساة کربلاء، و فجيعة محمد و علي و فاطمة عليهم السلام بابنهم الحسين عليه السلام، سيد الشهداء

ص: 320


1- سورة يوسف: الآية 94.

و أمثولة التضحية والفداء.

و أول ما سنبدأ به الآن، هو ذكر أهل البيت علیهم السلام عموما في كتاب التوراة و معرفة كبار أحبار اليهود في زمن الرسول صلى الله عليه و آل و سلم بذلك، و كتمانهم تلك المعرفة إما كرها بالرسالة الجديدة أو خوفا من بطش اليهود و كيدهم لهم في حال إذاعة تلك الأسرار الخطيرة المتسربة من عمق كتبهم و تفاسيرهم العميقة لها.

فمن المعروف أن الإمام عليا عليه السلام قام بمعجزة عظيمة أدهشت الألباب يوم قام بفتح حصن خيبر المنيع، و قد قال عبد الله بن عمرو بن العاص في ذلك: ما عجبنا من فتح الله خيبر على يدي علي، و لكن عجبنا من قلعه الباب ورميه خلفه، أربعين ذراعا، و لقد تكلف حمله أربعون رجلا فما أطاقوه.

و عندما سئل أمير المؤمنين عليه السلم عن ذلك، أجاب:

«والله ما قلعت باب خیبر و رميت به خلف ظهري أربعين ذراعا بقوة جسدية و لا حركة غذائية، لكني أيدت بقوة ملكوتية و نفسي بنور ربها مضيئة»(1)، و قال عليه السلام أيضا في مناسبة أخرى عن نفس الحادثة: «والله ما قلعت باب خیبر بقوة جسمانية و لكن بقوة إلهية»(2)، أي بمدد إلهي مباشر.

والمهم في الأمر، هو ما رواه عبد الله بن أبي أوفي و غيره عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم أنه لما تم فتح حصن خيبر، قالوا له: إن بها حبرا قد مضى له من العمر مئة سنة و عنده علم التوراة، فأحضر بين يديه، و قال صلی الله علیه و آله و سلم له: « أصدقني بصورة ذكري في التوراة و إلا ضرب عنقك». قال: فانهملت عيناه بالدموع و قال له: إن صدقتك قتلني قومي و إن

ص: 321


1- الشيخ الصدوق، الأمالي، مؤسسة الأعلمي . بيروت، 1980، ص415.
2- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، أجوبة المسائل العلوية، مؤسسة المجتبی، بيروت، 2003، ص260.

كَذَبتُكَ قَتَلتَني. قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «قل و أنت في أمان الله و أماني»، قال له الحبر: أريد الخلوة بك، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «أصدقني بصورة ذكري في التوراة و إلا ضربت عنقك»، قال: فانهملت عيناه بالدموع و قال له: إن صدقتك قتلني قومني، و إن كَذَبتُكَ قَتَلتَني، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «قل و أنت في أمان الله و أماني». قال له الحبر: أريد الخلوة بك، قال صلی الله علیه و آله و سلم له: «أريد أن تقول جهرا»، قال: إن في سفر من أسفار التوراة اسمك و نعتك و أتباعك، و أنك تخرج من جبل فاران و ينادي بك باسمك على كل منبر، فرأيت في علامتك بين كتفيك خاتمة تختم به النبوة، أي لا نبي بعدك، و من ولدك أحد عشر سبطا يخرجون من ابن عمك واسمه على و يبلغ ملكك المشرق والمغرب و تفتح خيبر و تقلع بابها ثم يعبر الجيش على الكف والزند فإن كان فيك هذه الصفات آمنت بك و أسلمت على يديك.

قال رسول الله صلی الله لیه و آله و سلم: «أيها الحبر، أما الشامة فهي لي، و أما العلامة فهي لناصري علي بن أبي طالب»، قال: فالتفت إليه الحبر و إلى علي عليه السلام و قال: أنت قاتل مرحب الأعظم؟!

قال علي عليه السلام : «بل الأحقر، بل جدلته بقوة الله و حوله، و أنا معبر الجيش على زندي و كفي»، فعند ذلك قال: مد يدك، فأنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله، و أنك معجزة، و أنه يخرج منك أحد عشر نقيبا، فاكتب لي عهدا لقومي فإنهم كنقباء بني إسرائيل أبناء داود عليه السلام، فكتب له عهدا بذلك(1).

و بالطبع، فإن هذه المسألة لا تتوقف عند حدود التوراة اليهودية، بل إنها تتجاوزه إلى حدود الوصول إلى كتاب الإنجيل ذاته، أو ما يعرف باسم العهد الجديد.

ص: 322


1- نفس المصدر السابق ص260.

و ليس من الغريب أبدا أن نقرأ عن الكثير من الأدباء والمفكرين والباحثين المسيحيين أنهم كتبوا واستفاضوا في الكتابة عن مآثر الرسالة الإسلامية و عن فضائل و خصال الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و ليس هذا فحسب، بل هناك العديد منهم أيضا راح يقرأ الإنجيل بروية مرة تلو أخرى، و راح يغوص أيضا في بحر من المخطوطات والرسائل المسيحية الغنوصية العميقة بغية الوصول إلى حقائق معرفية جديدة تتجاوز كل حدود المعارف المسيحية الكلاسيكية التي تتبناها مختلف النظم الكنسية اليوم.

و بالطبع، لا يمكننا أن نورد هنا كل أسماء أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين الذين تجاوزوا حدود المعرفة التقليدية، فلا الوقت و لا عنوان کتابنا يسمحان لنا بذلك، بل ربما سيكون هذا الموضوع هدفا لنا في كتابة كتاب مستقل لا حقا عن هذا الغرض الجديد والمثير.

و لكن يكفي أن نذكر هنا، الآن، عدة آراء و مواقف للبعض من أولئك الرجال الذين اغتسلوا برحيق المعرفة و شربوا من كؤوس النور.

و لذلك، دعونا الآن نشارك المفكر والباحث (أنطون بارا) في شرب الكأس الأول من كؤوس النور في محراب البيت المعمور.

يقول الأستاذ (بارا) عن تبشير عيسى المسيح عليه السلام بمجيء أخيه محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم من بعده: (ما من نبي إلا وتنبأ مبشرا بقدوم نبي بعده، و ما من شهيد إلا و تنبأ أيضا بالشهيد الذي سيليه، و لم يكن عيسى عليه السلام ليشذ عن هذه الحكمة الإلهية، لا تغافلا عن تبشير الناس بقدوم النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم و لا رها لهذا التبشير أو هذا القدوم، حاشا لله، و عيسی رسول المحبة والسلام، والمبشر بالحب حتى للأعداء

ص: 323

والمبغضين، فكيف إذا كان الأمر يتعلق بنبي بعده، ختم الله به الأنبياء، و برسالته الديانات)(1)؟!

إذن، يرى الأستاذ (بارا) أن يسوع عيسى المسيح علیه السلام قد تنبأ بمجيء الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم لإكمال الرسالات برسالته و لختم الأنبياء بنبوته.

و لكن الأمر لا يتوقف عند الأستاذ (بارا) على هذا المستوى من المعرفة اليقينية، بل إنه يتجاوزه إلى أعمق من ذلك بكثير، و لذلك فإن وقوفنا في واحة الأستاذ (بارا) الفكرية سيطول قليلا، و سنعود إلى تلك الواحة الغنية حينا بعد حين كلما دعتنا الحاجة إلى ذلك.

و من الأفكار الجريئة والمسائل الحساسة التي تناولها الأستاذ (بارا) في معرض حديثه عن مكانة كربلاء و عن الفاجعة التي حدثت فوق رمالها الحزينة، نراه يؤكد دائما على أن لتلك الفاجعة الإنسانية الدامية مكانة عظيمة في قلوب كل الأنبياء عليهم السلام الذين سبقوا مجيء خاتم الرسل محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم.

و قد كتب الأستاذ (بارا) تحت عنوان (المسيح... هل تنبأ بالحسين...؟) قائلا: (لقد لعن المسيح قاتلي الحسين و أمر بني إسرائيل بلعنهم، و قال (أي المسيح): من أدرك أيامه فليقاتل معه، فإنه کالشهيد مع الأنبياء مقبلا غير مدبر، و كأني أنظر إلى بقعته، و ما من نبي إلا وزارها، و قال إنك لبقعة كثيرة الخير، فيك يدفن القمر الزاهر(2)، و بالطبع، فإننا سنتوقف لاحقا لشرح هذا الحديث في فصل (الحسين وارث الأنبياء).

ص: 324


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص31
2- نفس المصدر السابق ص295.

و بالفعل، ففي هذا الإيراد ثلاث نقاط على درجة عالية من الدلالة والأهمية، و هذه النقاط الهامة المتجلية في معاني هذا الحديث العيسوي هي:

1- لعن السيد المسيح عليه السلام لكل من شارك في جريمة قتل الإمام الحسين عليه السلام، و أمره لبني إسرائيل بلعنهم جميعا.

2- الحث على القتال معه والدفاع عنه، مع بيان أن الاستشهاد والموت بين يديه عليه السلام هو كالاستشهاد بين أيدي الأنبياء تماما.

3- التأكيد بقوة على زيارة كل الأنبياء عليهم السلام الأرض کربلاء، مسرح الفاجعة، والجزم التام على أنه (ما من نبي) إلا و قد زارها نتيجة لمعرفته السابقة بما سيحدث عليها من فواجع و هموم و آلام و سفك مخيف لدماء أبناء خير الأنبياء والأوصياء.

و ليس هذا فحسب، بل بإمكاننا أن نلاحظ عمق إيمان الأستاذ (بارا) بمسألة تنبؤ كل الرسل والأنبياء بفاجعة كربلاء، بل و زيارتهم لها و مجيئهم إليها من مناطق مختلفة من أرض الرسالات لإقامة مراسم العزاء عليها و للبكاء فوق رمالها الحارقة مواساة للرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم على ما سيحل بحفيده الحسين و أهل بيته عليهم السلام من بعده.

و قد رد هذا المفكر المسيحي على المشككين الذين رفضوا فكرة أن يكون السيد المسيح عليه السلام قد غادر أرض فلسطين إلى كربلاء أو إلى أية منطقة أخرى، قائلا:

(هؤلاء فاتهم تلك الفترة الغامضة منذ يفاعة عيسى حتى سنه العشرين، إذ لم تذكر التواريخ، و لا حتى الإنجيل المقدس، أين أمضى عيسي طفولته و بعضا من سني شبابه المبكر... إذ هناك روايات تتحدث عن سفره إلى (التبت) لنهل الحكمة والطب الروحي، و ثمة رواية أخرى تحدثت عن تنقله في كل بقاع الأرض لاختيار المواطن

ص: 325

المناسبة لبعث ديانته و نشرها بعد نزولها عليه في فلسطين)(1).

و هنا أريد أن أذكر شيئا هاما جدا يتعلق بالكتاب المقدس، و تحديدا بكتاب العهد القديم - کتاب اليهود- و لذلك سنتوقف قليلا مع مراثي و نبوءات نبي الله (إرميا) علیه السلام التي هي الركن الأساسي الآن في الحديث عن التنبؤ بأحداث الفاجعة.

والحقيقة، ما كنت أريد أن أناقش ما ورد في كتاب اليهود (العهد القديم) عن فاجعة كربلاء في هذا المكان من الكتاب، و لكن رأيت أن أذكر تلك المعلومات الهامة الآن نظرة للمقارنة التي أحببت أن أجريها بین ما قاله الأستاذ (بارا)، ذلك المفكر والباحث المسيحي، و بين ما قاله الأستاذ الباحث (تامر میر مصطفی) ذلك الباحث المتخصص بدراسة الأديان المقارنة، و صاحب سلسلة (دراسات مقارنة في التوراة والإنجيل).

فعندما نفتح الكتاب المقدس و نقرأ في العهد القديم، يصادفنا ما يعرف بعنوان (مراثي إرميا)، فما هو الشيء الذي يستوقفنا في هذه المراثي؟! و ماذا يمكننا أن نقرأ فيها؟!

أول ما يمكننا أن نقرأ فيها، و تحديدا في بداية الإصحاح السادس والأربعين، أن هناك صراعا مريرا بين المصريين والبابليين، و لكن سرعان ما نقرأ أشياء غريبة و غامضة، بل و متناقضة مع ما يقول به التاريخ والمختصون بالأبحاث التاريخية.

بل، وفوق هذا أيضا، يمكن لبعض الباحثين والمتخصصين بالدراسات الدينية المقارنة أن يروا فيها إشارات و دلالات على حدث هام لم يحدث زمن (إرميا)، غير أنه في طريقه إلى الحدوث في المستقبل اللاحق، و لكن مع الإقرار بعدم القدرة على

ص: 326


1- نفس المصدر السابق ص91.

تحديد ذلك الزمن المستقبلي الذي لم ترد عنه أية إشارة زمنية محددة في الإصحاح السادس والأربعين.

و لكن بفضل المقارنات الكثيرة التي أجراها أولئك الباحثون، و بفضل الرجوع إلى الكثير من المراجع التاريخية والكتب الدينية الخاصة التي لم تتناولها أيدي التحريف والتزوير، فقد استطاعوا الوصول إلى العديد من الحقائق المدهشة المتعلقة بأحداث مستقبلية لاحقة للزمن الذي وجد فيه أنبياء بني إسرائيل.

و ذلك، دعونا الآن نورد ما جاء حرفيا في كتاب العهد القديم، في الإصحاح السادس والأربعين من مراثي (إرميا)، و بعد ذلك سنأتي بما قاله التحليل الديني المقارن عن ذلك الإصحاح و عن علاقته بفاجعة كربلاء على شط الفرات، و عن المنتقم لا حقا من القتلة.

فقد جاء في (إرميا 46) مايلي: (أعدوا المجن والترس و تقدموا للحرب، أسرجوا الخيل واصعدوا أيها الفرسان وانتصبوا بالنموذ، اصقلوا الرماح، البسوا الدروع، لماذا أراهم مرتعبين و مدبرين إلى الوراء و قد تحطمت أبطالهم و فروا هاربين و لم يلتفتوا بالخوف حواليهم يقول الرب: الخفيف لا ينوض والبطل لا ينجو، في الشمال بجانب نهر الفرات عثروا و سقطوا، من هذا الصاعد كالنيل كأنهار تتلاطم أمواهها... اصعدي أيتها الخيل و هيجي أيتها المركبات و لتخرج الأبطال... فهذا اليوم للسيد رب الجنود يوم نقمة للانتقام من مبغضيه فيأكل السيف و يشبع و يرتوي من دمهم لأن للسيد الرب ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات)(1).

ص: 327


1- الكتاب المقدس . العهد القديم . راجع مراثي (إرميا)، الإصحاح السادس والأربعين، إصدار دار الكتاب المقدس في العالم العربي . بيروت، 1982، ص1150.

هذا ما ورد في مراثي إرميا عليه السلام في كتاب العهد القديم، و لأخذ العلم فقط، فإن إرميا عليه السلام كان نبيا من كبار أنبياء بني إسرائيل الذي عاش نحو (650- 585 ق.م) و هو النبي المعروف باسم النبي البكاء، لكثرة بكائه، و كان هذا النبي الحكيم واحدة من الأنبياء الذين تنبؤوا بملحمة أهل البيت علیه السلام في كربلاء، و يقتل الإمام الحسين عليه السلام ذبحا على رمالها قرب شط الفرات، كما أنه تنبأ أيضا بقيامة الإمام المهدي المنتظر عليه السلام من أجل الانتقام له، و ما الأحداث التي ورد ذكرها في (إرميا 46) إلا الوصف الطبيعي للأحداث التي ستجري لا حقا على يد الإمام المهدي عليه السلام انتقامة إلهيا من الطغاة الذين قتلوا الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام و أصحابه، و من أولئك الذين هم من ذرياتهم الذين رضوا بمقتله و مقتل أهل بيته علیهم السلام و لم يستنكروا أبدا ما قام به آباؤهم وأجدادهم من ظلم و قتل لأهل بيت آخر الأنبياء علیهم السلام.

و لو دخلنا الآن، بشيء من التفصيل، إلى ما أفضت إليه الدراسات المقارنة بشأن ما أوردناه عن النبي (إرميا) علیه السلام، فماذا يمكننا أن نجد فيها؟

إنه، و قبل كل شيء، وصف مثير لحرب مهلكة يتنبأ بوقوعها نبي الله إرميا عليه السلام حيث سيقوم الله سبحانه و تعالى بالانتقام فيها من أعدائه انتقاما شديدا و مخيفا، و لو تساءلنا عن السبب الذي سيقود السماء إلى ذلك الانتقام الإلهي الرهيب، فماذا سيكون الجواب؟!

الجواب الواضح هو ما قاله نبي الله إرميا علیه السلام: «لأن للسيد رب الجنود (أي الله) ذبيحة في أرض الشمال عند نهر الفرات».

و في الحقيقة، لم يتفق بعد علماء أهل الكتاب و مفسرو العهد القديم حول معاني هذه المرئية والنبوءة، فمنهم من افترض أنها نبوءة بغزو مصر من قبل جيوش (نبوخذ

ص: 328

نصر) ملك بابل، و لكن معظم علماء أهل الكتاب قالوا بأن النبوءة - نبوءة إرميا - قد قيلت بعد اجتياح نبوخذ نصر لمصر، و بذلك بطل الادعاء الأول(1).

والبعض الآخر من علماء أهل الكتاب و مفسروه رأوا أن هذه النبوءة التي جاءت على شكل مرثية، إنما جاءت بخصوص خروج فرعون مصر لتحرير مدينة القدس، أو ما كانت تعرف قديما باسم (أورشليم) من أيدي المحاربين البابليين، و بحسب هذا الافتراض، يكون الله قد انتقم من الجيوش البابلية على أيدي الجيوش المصرية.

و لكن الدراسات التاريخية والوثائق القديمة كلها تقول بعكس ذلك، فالنصر الحاسم كان في تلك المعركة الضروس لصالح الجيوش البابلية، في حين أن الخسائر الجمة والهزيمة والدمار كان من نصيب الجيش المصري و فرعونه.

و تبعا لذلك، فقد ثبت عدم صحة تلك التأويلات المختلفة التي تتعلق بتفسير نبوءة النبي إرميا علیه السلام عن الحرب والذبيحة الإلهية والانتقام السماوي الرهيب.

غير أن الدراسات القائمة على ربط الوثائق بالوقائع، والتحليلات المقارنة بين الأديان و نبوءات رسلها و أنبيائها تدل على نقطتين هامتين أشارت إليهما نبوءة نبي الله إرميا علیه السلام، و هما:

النقطة الأولى: إن هناك وليا عظيما لله سبحانه و تعالى، و يحظى عنده بمكان جليل و مقام رفيع قد تم قتله ذبحا من قبل أعداء الله على جانب شط نهر الفرات في العراق.

النقطة الثانية: إن الله، المنتقم الجبار، سينتقم انتقاما رهيبة لذبيحته المقتولة ظلما بواسطة ولي ثان من أوليائه، مؤيد من قبله مباشرا بحيث يهب للانتقام من أعداء الله

ص: 329


1- تامر مير مصطفى، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار (سلسلة دراسات مقارنة في التوراة والإنجيل)، الكتاب رقم (1)، الغدير للدراسات والنشر، بيروت، ط1998/1 ، ص239.

الظالمين والقاتلين للولي الأول بغير وجه حق، وستكون انطلاقة الولي الثاني المنتقم كانطلاقة نهر هادر لايترك في طريقه شيئا على الإطلاق طلبا للثأر من الكفار الذين شاركوا وقتها في الجريمة أو رضوا لاحقا بها عند سماعهم بأخبارها مما يجعلهم قد شاركوا بالفعل في جريمة (ذبيحة الرب عند نهر الفرات).

و من المعروف تماما، و كما تؤكد الدراسات الدينية المقارنة، أنه لم يذكر في الكتب المقدسة عند كل من اليهود والنصارى، و لا حتى في أي كتاب من كتب التاريخ التي رصدت تاريخ بلاد الرافدين أن هناك نبيا من أنبياء الله أو وليا من أوليائه قد تم قتله ذبحة على شاطئ نهر الفرات في العراق غير سبط رسول الله المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم و ريحانته و سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين بن علي المرتضى عليه السلام و فاطمة الزهراء علیهاالسلام(1)

و هكذا نرى أنه بالنظر إلى عظمة الإمام الحسين علیه السلام و سمو مكانته الرفيعة عند الله سبحانه و تعالى و عند أهل سمائه جميعا، و نظرا لعظمة فاجعة كربلاء التي لم تشهد ساحة البشرية لها مثيلا أبدا، فقد رثاه نبي الله إرميا عليه السلام و بکی لمصابه و سماه قبل حوالي اثني عشر قرنا من استشهاده ب (ذبيحة الرب عند نهر الفرات).

و بالعودة إلى واحة الأستاذ (أنطون بارا) الفكرية، نستطيع أن نقرأ و بوضوح وجهة نظره، کمفکر و باحث، حول نبوءة نبي الله إرميا علیه السلام.

فالأستاذ (بارا) يرى أن الأحداث الواردة في الإصحاح السادس والأربعين من مراثي إرميا غريبة و ضبابية إذ ليس هناك من إطار واحد يجمع تلك الأجزاء المبعثرة من تلك المعلومات الواردة في الإصحاح المذكور، و لذلك يرى أنه من الممكن تماما

ص: 330


1- نفس المصدر السابق ص240.

أن يكون نبي الله إرميا عليه السلام قد أشار بالفعل إلى فاجعة عالمية تهز الضمير الإنساني و سيكون مسرح أحداثها أرض كربلاء قرب نهر الفرات(1).

و لم يكتف ذلك الباحث المسيحي بذلك، بل راح يدرس الأعماق الروحية و يستلهم الدروس والعبر من تلك الفاجعة التي فاقت بفظاعتها أية فاجعة أخرى حلت بالساحة الإنسانية، فوجد، بعد طول دراسة و بحث، أن كربلاء كانت عبارة عن حادثة مكتوبة في الكتب الإلهية السابقة.

و ها هو يؤكد هذا الكلام بقوله: (و ثورة الحسين عليه السلام ليست وليدة ساعتها، بل هي في سفر الوصايا الإلهية، نقشت عليه قبل نزول الرسالة المحمدية، و علم ذلك عند رب الأكوان و باعث الرسالات، إذ كان يعلم تعالی بما ستتعرض له هذه الرسالة من اهتزاز بعد نزولها على محمد صلی الله علیه و آله و سلم، فهيأ لها الحسين قبل أن يكون)(2).

و حتى يؤكد الأستاذ (بارا) صدق أقواله ودقة رؤيته للمسألة المطروحة راح يستشهد بالعديد من أقوال الإمام الحسين عليه السلام التي تؤيد الفكرة القائلة بأن الحسين عليه السلام كان يعلم مسبقا بخروجه و بمقتله في كربلاء على يد أظلم وأكفر الناس أجمعين.

و من جملة تلك الأقوال التي تم الاستشهاد بها، قول الإمام الحسين عليه السلام لعبد الله بن جعفر: «إني رأيت رسول الله في المنام و أمرني بأمر أنا ماض له».

و قوله أيضا لمن كان معه في بطن العقبة: «ما أراني إلا مقتولا، فإني رأيت في المنام کلاب تنهشني، و أشدها على كلب أبقع».

ص: 331


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص316
2- نفس المصدر السابق ص96.

و قوله عليه السلام في مرة أخرى و هو في مكة حينما عقد العزم على السفر منها إلى العراق:

«كأني بأوصالي هذه تقطعها عسلان (أي ذئاب) الفلوات بين النواويس و كربلاء، فيملان مني أكراشا جوفا و أجربة شغبة، لا محيص عن يوم خط بالقلم».

غير أن أكثر الأقوال تأثيرا في النفوس و أقواها حجة في تأكيد معرفة الإمام الحسين عليه السلام بالمصير المرير الذي ينتظره هو و أهل بيته عليهم السلام و أصحابه الغر الميامين، هو ذلك القول المؤئر الذي أورده الأستاذ (بارا) في الصفحة (93) من كتابه (الحسين في الفكر المسيحي) حيث يقف الإمام الحسين عليه السلام مخاطبا السيدة أم سلمة (رضي الله عنه) مخبرا إياها بنهايته المحتومة في حال عدم نجاح مساعيه السلمية في عملية الإصلاح و إرجاع الحق إلى نصابه، و ها هو يعلم أم سلمة (رضي الله عنه) بذلك قبل خروجه إلى كربلاء قائلا:

«إني أعلم اليوم الذي أقتل فيه والساعة التي أقتل فيها، و أعلم من يقتل من أهل بيتي و أصحابي، أتظنين أنك علمت ما لم أعلمه...؟ و هل من الموت بد؟ فإن لم أذهب اليوم ذهب غدا».

و برأيي الشخصي إن هذا الكلام المباشر من الإمام الحسين عليه السلام إلى أم سلمة (رضي الله عنه) له دلالات كثيرة و خطيرة.

فالدلالة الأولى هي معرفة الإمام الحسين عليه السلام المسبقة بعدم قبول الطرف الآخر لأي مسعى من مساعيه الداعية إلى الإصلاح في أمة جده رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم.

والدلالة الثانية هي أيضا معرفة الإمام المسبقة بأن الرفض من المعسكر الآخر لن يكون رفضا سلميا لمطالبه الإصلاحية و حسب، بل إن الرفض المبدئي سيكون معززا

ص: 332

بقوة عسكرية تسحق كل من يقف في طريقها بحيث لا يجرؤ أحد بعد الإمام الحسين عليه السلام على طلب الإصلاح أو ما شابه ذلك بين المسلمين، فمجرد الإشارة إلى الخطأ هو خطأ لا يغتفر

والدلالة الثالثة هي ثبوت أن يزيد و جماعته سيكون همهم الأكبر هو القضاء على الإمام الحسين عليه السلام ذاته إذ أن مكانته من الله و رسوله صلی الله علیه وآله و سلم لن تشفع له بشيء عندهم، و بالتالي، فإن الردع العسكري الأموي لن يتوقف حتى يظفروا برأس الحسين عليه السلام .

والدلالة الرابعة هي قدرة الإمام الحسين عليه السلام على الكشف والاستبصار الغيبي عن طريق مؤهلاته الذاتية من جهة، و عن طريق إخبار الرسول صل الله علیه و آله و سلم له من جهة أخرى، و في هذا مصداق لقول الله سبحانه و تعالى في محكم تنزيله العزيز «عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَىٰ مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا(1).

أما الدلالة الخامسة والأخيرة، فتتجلى في قوله لأم سلمة (رضي الله عنه): «أتظنين أنک علمت ما لم أعلمه؟»، ففي هذا القول من الإمام الحسين عليه السلام دلالة أكيدة على أن أم سلمة (رضي الله عنه) كانت تعلم أيضا بما سيحدث في كربلاء

و من هذه الدلالة الأخيرة، يبرز السؤال التالي:

كيف عرفت أم سلمة (رضي الله عنه) بذلك، و من هو الذي أخبرها بأحداث الفاجعة واستشهاد الإمام الحسين علیه السلام؟! .

و يأتي الجواب المطلوب ردا على هذا السؤال من خلال العودة إلى كتب السنة المتقدمة زمنيا، بل والمعاصرة أيضا، فهناك يكمن الجواب الشافي.

ص: 333


1- سورة الجن الآيتان 26. 27.

فقد جاء في كتاب (مقتل الحسين) لمؤلفه الموفق بن أحمد المكي الحنفي مذهبا، والمعروف بلقب (أخطب خوارزم) والمعروف أيضا، اختصارة، ب (الخوارزمي) أن ملاكا من ملائكة الفراديس جاء إلى النبي و قال له: يا حبيب الله تقتتل على هذه الأرض فرقتان من أمتك، إحداهما ظالمة متعدية فاسقة تقتل فرخك الحسين ابن ابنتك بأرض کرب و بلاء، و هذه التربة عندك.

و ناوله قبضة من أرض كربلاء و قال له: تكون هذه التربة عندك حتى ترى علامة ذلك، ثم حمل ذلك الملك من تربة الحسين في بعض أجنحته فلم يبق ملك في سماء الدنيا إلا شم تلك التربة و صار لها عنده أثر و خبر. و قال (راوي الحديث): ثم أخذ النبي تلك القبضة التي أتاها بها الملك فجعل يشمها ويبكي و يقول في بكائه: «اللّٰهُمَّ لا تُبارِك في قاتِلِ وَلَدِي، وأصلِهِ نارَ جَهَنَّمَ»، ثم دفع تلك القبضة إلى أم سلمة و أخبرها بقتل الحسين بشاطئ الفرات، و قال صلی الله علیه و آله و سلم: «یا أم سلمة، خذي هذه التربة إليك فإنها إذا تغيرت و تحولت دما عبيطا فعند ذلك يقتل ولدي الحسين».

فلما أتى على الحسين من ولادته سنة كاملة هبط على رسول الله اثنا عشر ملكا... قد نشروا أجنحتهم و هم يقولون: يا محمد سينزل بولدك الحسين ما نزل بهابیل من قابيل، و سیعطی مثل أجر هابيل، و یحمل على قاتله مثل وزر قابيل، قال و لم يبق في السماء ملك إلا و نزل على النبي يعتريه بالحسين و يخبره بثواب ما يعطي و يعرض عليه تربته، والنبي يقول: «اَللهُمَّ اخْذُلْ مَنْ خَذَلَهُ وَ اقْتُلْ مَنْ قَتَلَهُ وَ لا تُمَتِّعْهُ بِما طَلَبَهُ»(1)

إذن، هذا هو نص الحديث الذي نقله لنا (أخطب خوارزم) الحنفي مذهبا بطرق متعددة و بأسانيد مختلفة، و كلها تدل على نفس الجوهر والمضمون.

ص: 334


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسین، مصدر سابق ج1 ص163.

و لكن، ژب قائل يقول: نعم، نحن لا ننكر أن ذلك الخوارزمي الحنفي قد أورد أكثر من عشرين حديثا في كتابه (مقتل الحسين) عن إخبار الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بمصرع سبطه الحسين عليه السلام على بطاح كربلاء، و لكن هل هذا يكفي للاطمئنان إلى صحة هذه الأحاديث دون الرجوع إلى غير الكتاب المذكور من المراجع والمصادر المعتبرة؟!

هنا، يمكننا أن نقول لذلك المتسائل: نعم، إنك على حق في ما تقول، و لذلك سنوفر عليك عناء البحث في العديد من الكتب والمراجع القديمة عن الموضوع المطلوب، و بالتالي، سنحيلك إلى كتاب معاصر قد اعتمد في توثيق معلوماته المقتبسة على العديد من المصادر القديمة المشهورة، و بإمكانك العودة إلى هذا الكتاب، فهو معروف و معتمد، و من اليسير الحصول عليه بسبب طباعته المتكررة باستمرار.

فالكتاب يحمل عنوان (السيدة زينب) للباحثة الإسلامية الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) المعروفة بلقب (بنت الشاطی)، تلك الباحثة التي كتبت الكثير من الكتب في المجالات الفكرية المختلفة، غير أن شهرتها الأوسع جاءت نتيجة كتاباتها في الميدان الفكري الإسلامي القائم على معرفة الكثير من الحقائق عن طريق دراسة التراجم والأعلام.

و حتى لا نطيل الحديث كثيرا، نقول إن الدكتورة (بنت الشاطئ) أكدت في كتابها الذي ذكرناه منذ قليل أن حدیث قارورة أم سلمة (رضي الله عنه) هو حديث صحيح، و أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم قد أخبر، بالفعل، عن طريق جبريل عليه السلام أن حفيده الحسين عليه السلام سيواجه الموت مع آل بيته في كربلاء دون رحمة من أعدائه.

و ها هي الدكتورة تقول في كتابها المذكور: (ففي سنن ابن حنبل ج 1 ص58 أن

ص: 335

جبريل أخبر محمدا صلی الله علیه و آله و سلم بمصرع الحسين و آل بيته في كربلاء)(1).

و لم تكتف تلك الباحثة بالأخذ عن (سنن ابن حنبل)، بل تجاوزته في أخذ تلك المعلومات إلى مصدر آخر له قيمته التاريخية أيضا.

و ها هي أيضا تذكره في معرض حديثها قائلة: (و ينقل ابن الأثير في (الكامل) أن الرسول أعطى زوجه أم سلمة ترابا حمله له أمين الوحي من التربة التي سيراق فوقها دم الحسين، و قال لها صلی الله علیه و آله و سلم: «إذا صار هذا التراب دما فقد قتل الحسين»، و أن أم سلمة حفظت ذلك التراب في قارورة عندها، فلما قتل الحسين صار التراب دما، فعلمت أن الحسين قتل، و أذاعث في الناس النبأ)(2).

و لو تركنا الآن موضوع قارورة أم سلمة (رضي اله عنه) جانبا، واستعرضنا سوية الأحاديث النبوية الشريفة الواردة في الكثير من المؤلفات الفكرية والتاريخية و في الدواوين الشعرية أيضا، والتي تتمحور كلها حول تنبؤ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بمقتل حفيده السبط الحسين علیه السلام، فماذا يمكننا أن نجد في تلك المؤلفات الفكرية المعاصرة؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نجد الشيء الكثير في تلك المؤلفات والدواوين، و لذلك دعونا نحلق سوية في فضاءات الأستاذ (توفيق أبو علم) الفكرية كي نرى ما تحتوي تلك الفضاءات من مشاهد و حقائق مأخوذة من عمق التاريخ و فجر الرسالة.

و أول ما يمكننا أن نصادفه في فضاء كتابه (الحسن بن علي) قوله المباشر والواضح عن الأحداث الأليمة والفواجع الجسيمة التي تنبأ بها الرسول المصطفى

ص: 336


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، دار الكتاب العربي . بيروت، 1985، ص29.
2- نفس المصدر السابق ص 29.

صلی الله علیه و آله و سلم لأهل بيته الكرام، و عن النهايات الدامية التي سیلاقونها من بعده.

و قد كتب الأستاذ (أبو علم) تحت عنوان (الرسول والحسن والحسين) ما يلي:

(كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يخاطب الحسن والحسين فيقول: «اللهم أذهب عنهم الرجس و طهرهم تطهيرا»، و يقول: «أنا حرب لمن حاربتم و سلم لمن سالمتم»، و يبتهل قائلا: «اللهم أحب من أحبهم وابغض من أبغضهم، و وال من والاهم و عاد من عاداهم، و أعن من أعانهم، واجعلهم مطهرين من كل دنس، معصومين من كل ذنب»، و يحق للرسول صلی الله علیه و آله و سلم أن يتأثر بما يعرفه عن الطوايا والنوايا نحو آله فيبكيهم أحياء لأنه بصفاء نفسه قد انكشف له الغطاء عن أمور صدقها الوحي، فأجاز لنفسه أن يبكي و قد أقبل عليه الحسن و أن يقول: «إِلَيَّ إِلَيَّ يَا بُنَيَّ»- ثم يدنيه و يجلسه على فخذه و يعدد ما ينزل بآله من البلاء والتقتيل والتشريد والتنكيل)(1).

و غني عن القول أن الأستاذ (أبو علم) لم يقتصر في ذكره لأحاديث الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عن فجائع أهل بيته علیهم اسلام وآلامهم على كتاب (الحسن بن علي)، بل إنه أورد العديد من هذه الأحاديث النبوية في معظم كتبه، و بشكل خاص في كتابه (الحسين بن علي) الذي يعتبر بمثابة الكتاب المكمل للكتاب السابق (الحسن بن علي).

و من خلال قراءتنا للصفحات الأولى من كتابه (الحسين بن علي)، نشعر أننا أمام کاتب نبيل يحاول - قدر إمكانياته - أن ينقل للقارئ الكثير من الحقائق والوقائع عن تاريخ أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة علیهم السلام، و على ما يبدو، فإن عمله السابق، وکیل أول في وزارة العدل، جعل منه رجلا باحثا عن الحق، معتيقا للصدق، طالبا للعدل في

ص: 337


1- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، مصدر سابق ص25.

إطلاق كل الأحكام التي يصدرها على المواضيع المطروحة للبحث والنقاش.

و حتى لا نسهب كثيرا في دراسة أعماله الفكرية و تحليلها، دعونا نلقي نظرة سريعة على نبوءات الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم حول مصائب أهل بيته علیهم السلام من بعده: تلك النبوءات التي كان صلی الله علیه و آله و سلم يتفوه بها أمام الناس دون خوف أو وجل لأنه كان يدرك تمام الإدراك أن الأمة لن تحترم وصاياه و لن تتمسك، من بعده، بالثقلين أبدا.

و هذا هو ابن عباس يخبرنا قائلا في حديث مطول له، نقله لنا الأستاذ (أبو علم) في كتابه (الحسين بن علي):

(كان رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم جالسا إذ أقبل الحسن عليه السلام ، فلما رآه بکی، و قال: إلي إلي، فأجلسه على فخذه اليمنى، ثم أقبل الحسين عليه السلام ، فلما رآه بکی، و قال مثل ذلك، فأجلسه على فخذه اليسرى، ثم أقبلت فاطمة علیهاالسلام، فرآها فبكى و قال مثل ذلك وأجلسها بين يديه، ثم أقبل علي عليه السلام فرآه فبكى و قال مثل ذلك فأجلسه إلى جانبه الأيمن، فقال له أصحابه: یا رسول الله ما ترى واحدة من هؤلاء إلا بكيت؟

فقال: «ما على وجه الأرض نسمة أحب إلي منهم، و إنما بكيت لما يحل بهم من بعدي و ذكرت ما يصنع بهذا ولدي الحسين، كأني به و قد استجار بحرمي و قبري فلا يجار، و يرتحل إلى أرض مقتله و مصرعه أرض كربلاء، تنصره عصابة من المسلمين، أولئك سادات شهداء أمتي يوم القيامة، فكأني أنظر إليه و قد رمي بسهم فخر عن فرسه صريعا ثم يذبح الكبش مظلوما»، ثم انتحب و بكى و أبكى من حوله وارتفعت أصواتهم بالضجيج، ثم قام صلی الله علیه و آله و سلم و هو يقول: «اللهم إني أشكو إليك ما يلقى أهل بيتي بعدي»(1).

ص: 338


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص28.

و ليس هذا فحسب، بل إن الأستاذ (أبو علم) قد ذكر في كتابه حديثا آخر لا يقل أهمية عن الحديث الأول حول إخبار الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم عن إراقة دم الحسين عليه السلام ظلما و عدوانا.

و بإمكان القارئ و هو يقرأ الحديث الثاني الذي سنذكره الآن أن يتخيل الصورة الدراماتيكية المأساوية للسيدة البتول فاطمة الزهراء علیهاالسلام و هي تشكو للإله العظيم ما حل بأبنائها الأطهار من بعدها.

و هذا هو نص الحديث الشريف كما أورده الأستاذ (أبو علم): (قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «تحشر ابنتي فاطمة يوم القيامة و معها ثياب مصبوغة بدم، فتتعلق بقائمة من قوائم العرش، فتقول: يا عدل يا جبار احكم بيني و بين قاتل ولدي»، قال رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: «فَيَحْكُمُ الله لاِبْنَتِي وَ رَبِّ اَلْكَعْبَةِ»(1).

و لاريب في أن هذه الأحاديث النبوية الشريفة المتحدثة عن أحداث ملحمة کربلاء لم تأت من فراغ، و من الواضح أيضا أن هذه الأحاديث التي ذكرها الأستاذ (أبو علم) لم يكن مصدرها كتب المسلمين الشيعة، بل إنه قد أخذها عن العديد من کتب السنة الهامة، تلك الكتب التي تلقى الكثير من الاحترام والتقدير في صفوفهم.

و كما أوضحنا سابقا كيف أن الباحثة والمفكرة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) قد استعانت بالكثير من المصادر والمراجع السنية في معرض حديثها عن نبوءة الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم بآلام و فجائع کربلاء، فإننا نوضح الآن أيضا أن الكلام نفسه ينطبق على الأستاذ الباحث (توفيق أبو علم) و على غيره من جهابذة الفكر من السنة والمسيحيين و غيرهم.

ص: 339


1- نفس المصدر السابق ص29.

فلا ريب أبدا في أن الأستاذ (أبو علم)، و غيره أيضا، قد قرأوا ما جاء في كتاب (نور الأبصار) للعلامة الشيخ (مؤمن بن حسن مؤمن الشبلنجي)، الشافعي مذهبا، حول معرفة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم المسبقة باستشهاد سبطه الحسين عليه السلام على يد أعداء الإسلام، حيث روى (الشبلنجي) الحديث نقلا عن (البغوي) بسند مرفوع إلى أم سلمة (رضي الله عنه) أنها قالت: (كان جبريل عليه السلام عند النبي صلی الله علیه و آله و سلم، والحسين معي، فغفلت عنه فذهب إلى النبي صلی الله علیه و آله و سلم؛ فأخذه النبي صلى الله عليه و آله و سلم و جعله على فخذه، فقال له جبريل علیه السلام: أتحبه با محمد؟ قال: «نعم»، قال: إن أمتك ستقتله، و إن شئت لأريتك تربة الأرض التي يقتل بها، ثم بسط جناحيه إلى الأرض و أراه أرضا يقال لها كربلاء، تربة حمراء بطف العراق)(1).

و لا شك في أن أولئك المفكرين والباحثين قد قرأوا بأنفسهم الحديث الهام الذي دار بين أم سلمة (رضي الله عنه) والحسين عليه السلام حول إخبار الرسول صلی الله علیه و آله و سلم إياهما بالحدث الجلل الدامي الذي سيلاقيه الحسين و أهل بيته الأطهار عليهم السلام على يد عصابة الشيطان، فلاشك في أنهم قد قرأوا ذلك الحوار الهام في العديد من كتب السنة و مؤلفاتهم الأخرى حتى أن المفكرين والباحثين الشيعة راحوا يستشهدون في كتبهم و مؤلفاتهم عن نبوءة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بكربلاء و أهوالها من خلال ما جاء من أحاديث عديدة في كتب إخوانهم السنة المتقدمين والمعاصرين.

و يكفي أن نقول إن العلامة (جمال الدین محمد بن يوسف الزرندي)، الحنفي مذهبا، ذكر في كتابه القيم (نظم درر السمطين) أكثر من عشرة أحاديث متنوعة عن إخبار الرسول صلى الله عليه و آل و سلم بملحمة كربلاء و أهوالها التي تنتظر أهل بيته عليهم السلام بعد رحيله

ص: 340


1- الشيخ مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بيروت / د.ت ص139.

صلی الله علیه و آله و سلم

و حتى لا يتهمنا أحد ما بالتقصير في ذكر المزيد من الأحاديث حول هذه المسألة : المتعلقة بقراءة غيب الأحداث و خرق حجب أستارها، دعونا نقدم إليكم حديثا واحدا من الأحاديث العديدة التي أوردها العلامة (الزرندي) الحنفي في كتابه المذكور سابقة.

و نص الحديث الذي سنذكره الآن ليس للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، و إنما هو لابن عباس، غير أن هذا الحديث يعكس بصورة فعلية المعرفة المسبقة بحدوث الفاجعة و ذلك عن طريق إخبار الرسول صلی الله علیه و اله و سلم عموم الناس بها.

و ها هو نص الحديث الذي يقول عنه (الزرندي) الحنفي أنه أخذه عن کتاب (مسند الإمام أحمد بن حنبل):

(قال ابن عباس: رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم يرى النائم نصف النهار و هو قائم أشعث أغبر، بیده قارورة فيها دم يلتقطه أو يتتبع فيه شيئا، فقلت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله، ما هذا؟!

قال: «دم الحسين و أصحابه و لم أزل أتتبعه منذ اليوم».(1)

و أضاف العلامة (الزرندي) الحنفي معلقا على هذا الحديث الذي أخذه عن (مسند الإمام أحمد بن حنبل)، بقوله إن هناك رواية أخرى عن نفس الرؤيا التي رآها ابن عباس، و هي (أن ابن عباس كان في قايلة له (أي قيلولة)، فانتبه من قابلته و هو يسترجع (ما رآه) ففزع أهله، فقالوا: ما شأنك، ما لك؟!

ص: 341


1- جمال الدين محمد الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، مكتبة نينوى الحديثة . طهران / د.ت ص218.

قال: رأيت النبي صلی الله علیه و آله و سلم و هو يتناول من الأرض شيئا، فقلت: بأبي و أمي يا رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم ما هذا الذي تصنع؟ قال: «دم الحسين أرفعه إلى السماء»(1).

و بالطبع، فإن هذه الرؤيا التي شاهدها ابن عباس، والتي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل في (مسنده)، لم تكن في حقيقتها إلا مجرد صدي أو تثبيت لواقعة نفسية معينة انتقلت من ساحة الوعي والشعور إلى ساحة اللاوعي واللاشعور فتجسدت بشكل رؤيا صادقة نتجت عن حدث مسبق سمعه ابن عباس نفسه من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم، الأمين، والصادق في كل ما يفعله و ما يقول و يخبر.

و ما يؤكد أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم لم يجعل خبر کربلاء سرا و حكرا على بعض المقربين منه، هو أن الكثير من الأصحاب و من عموم الناس كانوا يتناقلون أخبار تلك الفاجعة المرتقبة، تارة باستنكار و تارة باستغراب.

فقد روى، على سبيل المثال فقط، الشيخ (عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي)، و هو من العلماء السنة المعاصرين، أحاديث عديدة تؤكد حقيقة شيوع خبر فاجعة كربلاء بين عموم الناس قبل حدوثها.

فقد روى الشيخ (حسونة الدمشقي) في كتابه (الحسين حفيدا و شهيدا) حديثا مرفوعا إلى (العريان بن الهيثم) قال فيه: (كان أبي يتبدى، فينزل قريبا من الموضع الذي كان فيه معركة الحسين، فكنا لا نبدو إلا وجدنا رجلا من بني أسد هناك، فقال له: إني أراك ملازمة هذا المكان، فقال: بلغني أن حسينا يقتل ها هنا، فأنا أخرج لعلي أصادفه فأقتل معه.

فلما قتل الحسين، قال أبي: انطلقوا نظر هل الأسدي فيمن تل، و أتينا المعركة

ص: 342


1- نفس المصدر السابق ص218.

فَطَوَّفنا، فإذا الأسدي مقتول)(1).

و هنا علينا أن نلفت الانتباه إلى أن هناك بعض المستشرقين الذين كبر عليهم أن يعتبروا الرسول محمدا رسولا سماويا و إنما هو مجرد مصلح اجتماعي لا أكثر من ذلك، رأوا أن تلك النبوءات من محمد صلی الله علیه و آله و سلم مجرد وهم أو خيال لا أساس له من الصحة، في حين أن المنصفين منهم اعتبروا ذلك من کرامات الرسول صلی الله لیه و آله و سلم، أو على الأقل، من قوة بصیرته و شفافية نفسه النقية الطاهرة.

أما المؤرخون المسلمون، فما يشك أكثرهم في أن تلك المرويات كلها صادقة لا ريب فيها(2)، و على ما يبدو، ليس الأقدمون وحدهم هم الذين نزهوا تلك الروايات عن الريب والشك، بل إن هناك من کتاب العصر الحاضر من لا يقل عن المؤرخين والكتاب الأقدمين إيمانا بتلك الظلال الحزينة التي أحاطت بمولد (السيدة زينب) بنت علي و فاطمة (عليهم السلام جميعا).

فها هو الكاتب الهندي (محمد الحاج سالمين) المعروف بثقافته و بسعة اطلاعه يصف في الفصل الأول من كتابه النفيس (Sayyida Zeinab) (السيدة زينب) كيف تم استقبال ولادة السيدة زينب علیهاالسلام بالآهات الحارقة و بالدموع والهموم بدل أن يتم استقبالها بالحبور والفرح والسرور.

ثم يتابع ذلك الكاتب الهندي (سالمين) نقله لبعض الأحاديث والمرويات عن النبوءة الحزينة، و ينتقل بعد ذلك ليصور لنا النبي العظيم وقد انحنى على حفيدته زینب (روحي لها الفداء) يقبلها بقلب منکسر حزين تعتصره اللوعة و تحرقه الحسرة، و يحنو

ص: 343


1- الشيخ عرفان بن سليم العشا حسونة، الحسين حفيدا و شهيدة، المكتبة العصرية . بيروت و صيدا، ط 2005/1 ، ص68.
2- عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي . بيروت، د.ت ص 662.

عليها بعينين دافئتين دامعتين، عالما بتلك الأيام والليالي السوداء التي تنتظرها وراء الحجب(1).

و يمضي ذلك المفكر الهندي الكبير متسائلا:

(ترى إلى أي مدى كان حزنه صلی الله علیه و آله و سلم حين رأی بظهر الغيب تلك المذبحة الشنعاء التي تنتظر سبطه الغالي ! و كم اهتز قلبه الرقيق الحاني و هو يطالع في وجه الوليدة الحلوة (زينب علیهاالسلام) صورة المصير الفاجع المنتظر؟!)(2).

و لا أريد أن أخفي عليكم أيها الأحبة القراء أمرا كنت قد قررت أن أبقيه سرة بيني و بين نفسي، و لكن الصدور تضيق بالأسرار، ثم ما الفائدة من سر تحمله في صدرك إن كانت العيون تبوح به؟!

فأنا الآن أجلس وحيدا في غرفتي، و رياح الليل تصفع قامات شجر الصنوبر العالية فتسمعك صوتا شجية أشبه بصوت النواح على فراق حبيب أو وداع قتیل بريء.

أجلس وحيدا، أقرأ و أكتب، وأتخيل محمدا و عليا و فاطمة علیهم السلام و قد أحاطوا بالوليدة الصغيرة الحلوة (زینب) علیهاالسلام يستقبلون ولادتها بالدموع بدل الشموع.

أتخيل محمدا، رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، يقول هامسا، و هو ينظر تارة إلى علي و فاطمة عليهماالسلام، و تارة إلى أحفاده عليهم السلام الصغار: ماذا سيحل بالثقلين من بعدي؟!

ماذا سيحل بأخي علي الذي حبه عنوان صحيفة المؤمن؟

ماذا سيحل ببضعتي فاطمة الزهراء التي يغضب الله لغضبها و يرضى لرضاها؟

وأتخيله يقول في عمق نفسه متوجها إلى الزهراء علیهاالسلام بكل جوارحه:

ص: 344


1- نفس المصدر السابق ص663.
2- نفس المصدر السابق ص663.

آه یا فاطمة، كم أنا سعيد لأنك ستكونين أول الناس لحاقة بي، فأنا في غاية السعادة يا ابنتي لأنك ستموتين و تلتحقين بي قريبا و لن تشاهدي أبناءك و هم يقتلون الواحد تلو الآخر على يد شرار الأمة، لا لشيء ارتكبوه إلا لذنب واحد لا يغتفر بنظر أولئك القتلة، فذنبهم الوحيد أنهم أبناء الرسالة.

نعم، أنا الآن أتخيل هذا و أشياء أخرى غير هذا و أكثر عمقا من هذان و لكن ما أريد قوله - والله يشهد علي بذلك- أنني الآن أكتب هذه السطور عن ولادة زينب علیهاالسلام، شقيقة الحسين عليه السلام وحاملة لواء نهضته من بعده، و دموعي تبلل الورق الذي بين يدي الآن.

نعم، أنا الآن أبكي ولا أخجل من البوح بهذا، فدموعي عزيزة علي كثيرا و لكنها مبذولة لمصائب آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم، أنا أبكي، و لكنني على يقين ثابت أن المكان الذي تجري عليه الدموع اليوم لن تمسه النار غدا.

و أنا أعرف الآن أن البعض يمكن أن يتساءل قائلا:

کیف ذرف الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم الدموع السخية على الوليدة زينب عليهاالسلام لحظة ولادتها و لم يذرف الدموع على أخيها الحسين عليه السلام صاحب الفاجعة الأول، لحظة ولادته، و هو الرسول العارف بمصير ذلك السبط الوليد؟!

نقول لكل من يتساءل عن ذلك: إنك، بلا ريب، على حق في تساؤلك، و لكن لا تستعجل في حسم الأمور والحكم عليها سريعا دون الإحاطة بالموضوع من كافة أطرافه.

و لذلك دعنا، الآن، نقوم برحلة قصيرة سوية لنرى ما قام به الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم ساعة ولادة حفيده الحسين عليه السلام، و لنتأكد-بنفس الوقت- من أن التاريخ قد بين لنا أن

ص: 345

هناك مجالس للعزاء أقيمت على شهید کربلاء الحسين بن علي عليه السلام، فقد أقام جده الرسول المصطفی صلى الله عليه و آل و سلم العزاء عليه يوم ولادته بدلا عن إقامة الأفراح و إعلان السعادة والسرور.

و قد أقيم أول مأتم للحسين عليه السلام في أول ساعة من ولادته، كما أخرج الحديث شیخ السنة الحافظ (أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي)، فقال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد المفسر،... عن علي بن الحسين عليه السلام، قال: «حدثتني أسماء بنت عميس، قالت: قبلت جدتك فاطمة عليهاالسلام (أي أشرف عليها) بالحسن والحسين علیهماالسلام... فلما كان بعد حول من مولد الحسن ولدت الحسين، فجاءني النبي صلی الله علیه و آله و سلم فقال: یا أسماء هاتي ابني، فدفعته إليه في خرقة بيضاء، فأذن في أذنه اليمني، و أقام في اليسرى، ثم وضعه في حجره، و بکی صلی الله علیه و آله و سلم، قالت أسماء: فقلت: فداك أبي و أمي، مم بكاؤك؟!

قال: على ابني هذا، قلت: إنه وليد الشاعة؟! قال: يا أسماء، تقتله الفئة الباغية، لا أنالهم الله شفاعتي، ثم قال: يا أسماء، لا تخبري فاطمة بهذا الخبر، فإنها قريبه عهد بولادته»(1).

و لاشك في أن أول مأتم للحسين عليه السلام کان یوم ولادته في دار جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، أول خلق الله و خاتم رسله، و مما لا شك فيه أيضا هو أننا لم نسمع قبل هذا على الإطلاق أن ينعقد لمولود- غير ابن فاطمة الزهراء علیهاالسلام - مأتم عوضا عن إقامة حفلات الفرح والسرور و تقبل التهاني.

و بالفعل، لم يحدثنا تاريخ الإنسانية العام، من زمن آدم عليه السلام إلى خاتم الأنبياء

ص: 346


1- أخطب خوارزم الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج1 ص88

محمد صلی اله علیه و آله و سلم، عن والد تصله هدية خاصة بمناسبة مولوده الجديد عبارة عن حفنة من تربة مذبح ولده الحبيب!!

و هنا تجدر الإشارة إلى نقطة مهمة حول مجيء جبريل الأمين عليه السلام بتربة من أرض كربلاء إلى الجد الذي سيفجع لا حقا بحفيده عليها.

فجبريل الأمين عليه السلام لم يأت لزيارة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم محملا بحفنة من تراب كربلاء مرة واحدة فقط، بل إنه جاءه أكثر من مرة حاملا إليه قبضة من تلك التربة التي تنتظر قدوم الحسين علیه السلام إليها لتضمه إلى صدرها كي ينام بطمأنينة و هدوء كما كان ينام و هو طفل على ذراع أمه الزهراء علیهاالسلام.

و مما يؤكد مجيء جبريل عليه السلام إلى محمد صلی الله علیه و آله و سلم أكثر من مرة حاملا معه حفنة من تراب كربلاء المقدسة هو جملة الأحاديث المتواترة والواردة في الكثير من كتب إخواننا السنة.

و على سبيل المثال، أخرج الحافظ (أبو القاسم الطبراني) في الجزء الثالث من كتابه (المعجم الكبير) لدى ترجمة الحسين عليه السلام ما يلي:

قال: (حدثنا أحمد بن رشيد... عن عروة بن الزبير، عن عائشة، قالت: دخل الحسين بن علي (رضي الله عنه) على رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و هو يومئ إليه حتى صعد على ظهره و هو يلعب، فقال جبرائيل لرسول الله صلی الله علیه و آله و سلم: أتحبه یا رسول الله؟

قال: «يا جبرائيل، و ما لي لا أحب ابني!».

قال: فإن أمتك ستقتله من بعدك، فمد جبرائیل علیه السلام يده فأتاه بتربة بيضاء، فقال: یا رسول الله، في هذه الأرض يقتل ابنك هذا، یا محمد واسمها (الطفت)، فلما ذهب جبرائیل علیه السلام من عند رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم والتربة في يده و هو يبكي، فقال: «ياعائشة، إن

ص: 347

جبرائیل أخبرني أن الحسین علیه السلام مقتول في أرض الطف، إِنَّ أُمَّتِي سَتُفْتَنُ بَعْدِي» .

ثم خرج إلى أصحابه، و فيهم علي و أبو بكر و عمر و حذيفة و عمار و أبو ذر و هو يبكي، فقالوا: ما يبكيك يا رسول الله؟!

فقال: «أخبرني جبرائيل أن ابني الحسين عليه السلام يقتل بعدي بأرض الطف و جاءني بهذه التربة، و أخبرني أثر فيها مضجعه»(1).

و بالاعتماد على هذا الحديث و على غيره من الأحاديث الأخرى التي تفيض بها كتب المسلمين المتقدمين عموما، يمكننا القول إن جبرائيل عليه السلام أخبر محمدا و عليا و فاطمة علیهم السلام بمصير ابنهم الحسين عليه السلام المأساوي لحظة ولادته، و كانت تلك هي المرة الأولى، و لكن ذلك لا يعني أن جبرائيل عليه السلام لم يكرر الحادثة والإعلان عن طريقة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، بل على العكس، فقد قام جبرائیل علیه السلام بجلب تراب من كربلاء إلى الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم أكثر من مرة و لا نستبعد أن يكون الهدف من ذلك هو تذكير المسلمين الدائم بضرورة تحديد موقف كل واحد منهم من الفتن المظلمة التي ستأتي بعد غياب رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم كقطع الليل الحالك، و بشكل خاص الفتن الأموية التي ستحاول أن تطيح بالرسالة الإسلامية و بكل فرد من أفراد أهل البيت عليهم السلام و على رأسهم الإمام الحسين عليه السلام الذي أخبر عنه و عن ثورته رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم بشكل مسبق.

إذن، في كل مرة كان جبرائيل عليه السلام يزور فيها محمدا صلی الله علیه و آله و سلم حاملا له حفنة من تراب المذبح الكربلائي، كان الرسول صلی الله علیه و آله و سلم يخبر أصحابه و كل من هو حوله بمصير ابنه الحسين عليه السلام المحتوم من بعده عسى أن يدافع عنه كل من يدركه، و بذلك تكون

ص: 348


1- العلامة السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مصدر سابق ص122.

الحجة قد قامت، بالفعل، على كل من سمع بتلك الأحاديث من الرسول صلی الله علیه و آله و سلم عن کربلاء و لم يسع لنصرة الإمام الحسين عليه السلام في ساعة شدته والوقوف معه في صفه ضد جيش الكفر والنفاق.

و ما يعزز و يؤكد هذا الكلام، هو الكلام الذي رواه الكثير من الرواة الثقاة عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، فقد روي عن عبد الله بن يحيى أنه قال: رحلنا مع الإمام علي عليه السلام إلى صفين، فلما حاذی نینوی، نادی: «صبرا أبا عبد الله» (يعني ابنه الحسين عليه السلام )، ثم قال عليه السلام (شارحا سبب قوله ذاك): «دخلت على رسول الله و عيناه تفيضان دموعا، فقلت: بأبي أنت و أمي يا رسول الله ما لعينك تفيض، أأغضبك أحد؟

قال: لا، بل كان عندي جبرائیل، فأخبرني أن الحسين يقتل بشاطئ الفرات، و هذه قبضه من تربته أشمنيها، فلم أملك عيني أن فاضتا، و اسم الأرض (كربلاء) بشط الفرات التي يقتل فيها، و كأني أنظر إليه و إلى مصرعه و مدفنه، و كأني أنظر إلى السبايا على أقتاب المطايا، و يهدی رأسه إلى یزید.

ثم صعد صلی الله علیه و آله و سلم المنبر مغموم مهموما، حزينا كئيبا باكيا، و أصعد معه الحسن والحسين عليهماالسلام، و وضع يده اليمنى على رأس الحسن واليسرى على رأس الحسين، و قال: اللهم إن محمدا عبدك و رسولك، و هذان (أي الحسن والحسين) أطائب عترتي و خيار أرومتي و أفضل ذريتي و من أخلفهما من أمتي، و قد أخبرني جبرائيل أن ولدي هذا (الحسن) مخذول مقتول بالسم، والآخر (الحسین) شهید مضرج بالدم، اللهم فبارك له في قتله واجعله من سادات الشهداء، اللهم، و لا تبارك في قاتله و خاذله، و أصله حر نارك، واحشره في أسفل درك الجحيم»، (قال): فضج الناس بالبكاء والعويل، فقال لهم النبي صلی الله علیه و آله و سلم: أتبكونه و لا تنصرونه؟ اللهم، فكن أنت له وليا

ص: 349

و ناصرا» .

ثم رجع صلی الله علیه و آله و سلم و هو متغير اللون محمر الوجه، فخطب خطبة أخرى موجزة و عيناه تهملان دموعا، ثم قال: يا قوم إني مخلف فیکم الثقلين : كتاب الله، و عترتي و أرومتي و مزاج مائي و ثمرة فؤادي و مهجتي، لن يفترقا حتی یردا علي الحوض، ألا و إني لا أسألكم في ذلك إلا ما أمرني ربي (أسألكم المودة في القربی) واحذروا أن تلقوني على الحوض غدا و قد آذيتم عترتي و قتلتم أهل بيتي و ظلمتموهم»(1).

إذن، إقامة الحجة على المسلمين هي الحجر الأساس في عملية تكرار زيارة جبرائیل عليه السلام لمحمد صلی الله علیه و آله و سلم و تذكيره بمصير سبطه الحسين عليه السلام مما يستدعي أن يقوم الرسول محمد صلی الله علیه و آله و سلم بدور مماثل و هو تذكير صحابته والمسلمين عموما بضرورة نصرة أهل بيته عليهم السلام والوقوف معهم في شدائدهم و مصائبهم والقضاء على كل فتنة من شأنها أن تطفئ أنوار رسالة الحق بين صفوف الخلق.

فهل كان المسلمون عند حسن ظن الرسول صلی الله علیه و آله و سلم بهم؟

و هل احترموا محمدا صلی الله علیه و آله و سلم وحفظوه جيدا في أهل بيته؟

والأهم من ذلك كله، هل استجاب المسلمون لوصية نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم في مسألة نصر الإمام الحسين عليه السلام والدفاع عنه و عن حرمات أهله والوقوف بثبات و إيمان أمام الإعصار الأموي الحاقد؟!

أعتقد أن الحقائق والوقائع الموجودة في الصفحات القادمة من هذا الكتاب هي التي ستجيب بكل صراحة و وضوح على كل تلك الأسئلة.

ص: 350


1- لبيب بيضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مطابع ابن زيدون . دمشق، 1974، ص53.

و قبل أن ندخل الآن في الأجواء الفكرية المسيحية لنتعرف على وجهات نظر العديد من المستشرقين والمفكرين والأدباء المسيحيين حول نبوءات الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم عن أحداث کربلاء، دعونا نجيب على سؤال قد يطرحه أحد ما علينا حول تنبؤ أفراد أهل البيت المحمدي عليهم السلام بما سيحدث للحسين و أهل بيته علیهم السلام بعد سنوات في كربلاء و قرب شط الفرات.

فمن الممن أن يتساءل أي واحد منا قائلا:

حسنا، ها قد قرأنا العديد من الأحاديث النبوية عن مسرح الفاجعة، و لكن هل هناك من أحاديث مشابهة وردت عن السنة أخرى غير لسان النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم؟!

و سنترك الجواب على هذا السؤال للمفكر الأزهري البارز الأستاذ (خالد محمد خالد) لنرى ما سيقوله لنا في كتابه (أبناء الرسول في كربلاء).

يحدثنا هذا الكاتب المتميز عن عمق بصيرة الإمام علي عليه السلام التي لا تقل في صفائها و نقائها عن بصيرة أخيه وابن عمه محمد الرسول الصادق الأمين صلی الله علیه و آله و سلم.

و ها هو الأستاذ (خالد) يقول في الصفحات الأولى من كتابه المذكور:

(ولكأنما كان الإمام علي بری ببصيرته الثاقبة كل ذلك المصير!!

فذات يوم أثناء مسيرة مع جيشه إلى صفین، بلغ به السير هذه الرقعة من الأرض، فتمهل في سيره ثم وقف يتملي مشهد الفضاء الرهيب، وسالت عبراته من مآقيه، واقترب منه أصحابه صامتين واجمين، لا يدرون ماذا أسال من مقلتي الأسد الدموع..!!

ثم سألهم و يمناه ممتدة صوب تلك الأرض التي تعلقت بها عيناه:

- «ما اسم هذا المكان؟!».

ص: 351

قالوا: كربلاء.

قال: «هنا محط رحالهم و مهراق دمائهم...!»(1).

و بعد هذا الكلام الذي أورده الأستاذ (خالد) عن لسان الإمام علي علیه السلام، يتابع الأستاذ (خالد) کلامه متسائلا العديد من الأسئلة التي أخذت تتزاحم بكثرة في ساحة فكره المتعطش إلى الحقيقة والمعرفة، فقال:

تری من كان يعني... و من كان ينعی...؟!

أكان يعني قرة عينه الحسين و من كان معه من إخوة له و أبناء...؟!

أكان يعني أولئك الأبطال الذين ستشهد هذه الأرض ذاتها استشهادهم الرهيب والمهيب بعد عشرين عامة لا غير من هذه النبوءة الصادقة...؟!

و بعد طرحه المباشر لهذه الأسئلة الساخنة، نراه يجيب عليها بنفسه مؤكدا على حقيقة أن الإمام عليا عليه السلام لم يكن ينعى ابنه الحسين فحسب، و إنما كان ينعى معه كل الشهداء الكربلائيين الذين سيسقطون مع الإمام الحسين عليه السلام فوق بطاح كربلاء.

أما عن كيفية معرفة الإمام علي عليه السلام لهذه الأحداث الغيبية، فيعل الأستاذ (خالد) ذلك بقوله: (و حين يحتدم في البصائر النقية و لاؤها لحق مقدس، أو لمبدأ جليل، فإن هذا الاحتدام يتلقى في لحظة إشراق روحي مددا من الرؤية غير منظور، يكشف الغيب و يجذب إلى دائرة الاستشراف أحداث الزمن البعيد، ولعل شيئا كهذا، حدث ذلك اليوم، فرأى الإمام التقي النقي بلاء أبنائه و حفدته، رأی بلاءهم العظيم في سبيل القضية التي حمل لواءها، و رأى (محط رحالهم، و مهراق دمائهم)(2).

ص: 352


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص35.
2- نفس المصدر السابق ص36

أما الأستاذ الكاتب (محمدرضا)، و هو أيضا من علماء السنة المعاصرين البارزين، فقد روي عن (الأصبغ) قوله: أتينا مع علي فمررنا على قبر الحسين (قبل مقتله) فقال علي علیه السلام: «ها هنا مناخ ركائبهم، و ها هنا موضع رحالهم، و ها هنا مهراق دمائهم، فتية من آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم»(1)

و قد فسر الأستاذ (رضا) معرفة الإمام علي عليه السلام بالغيب و قدرته على قراءة صفحاته المستقبلية على أساس أن ذلك كله كرامة من كرامات علي عليه السلام أفاضها الله عز و جل عليه لاستحقاقه لها، بالإضافة إلى تسخير البعض من ملائكة السماء لخدمة آل محمد صلی الله علیه و آله و سلم كما جاء في الأحاديث النبوية الشريفة.

و نعتقد الآن أن الوقت قد حان فعلا للدخول في عالم الفكر المسيحي لنستطلع معا ما جاء في كتبهم و دواوينهم من روايات و أخبار عن النبوءات بواقعة كربلاء المقدسة.

و كما وعدنا القراء الكرام سابقا بالعودة إلى واحة المفكر المسيحي (أنطون بارا) عند الضرورة، فها نحن الآن نفي بوعدنا و نعود إليه ثانية بموجب الضرورة التي فرضت ذاتها الآن علينا.

و هنا تحديدا، يروق لنا أن نتوجه بالسؤال التالي إليه، أو دعونا نقول نتوجه بالأسئلة التالية إليه:

هل كان الإمام الحسين علیه السلام على معرفة مسبقة بنهايته المأساوية الدامية؟ و كيف كان الحسين عليه السلام يستوحي مقتله؟

و إذا كان الإمام الحسين عليه السلام على دراية كاملة بما ينتهي الأمر إليه، فلماذا

ص: 353


1- محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب، دار الكتب العلمية . بيروت، د.ت ص18.

اصطحب معه أهله و عياله إلى أرض الكرب والبلاء؟

و ربما كان لدينا أسئلة عديدة أخرى، لكننا سنرجي طرحها إلى الزمان والمكان المناسبين في هذا الفصل من الكتاب.

قبل كل شيء، يرى الأستاذ (بارا) أن الحسين عليه السلام كان على اطلاع مسبق بما ينتظره من مصاعب و أهوال في نهضته لإجلاء الرمال والغبار عن وجه رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بعد أن دنستها الأيدي الأموية الجائرة.

و يرى أيضا أن هناك الكثير من الشواهد التي تدل و تؤكد على معرفته بتلك المأساة الدامية التي تنتظره هو و أهل بيته علیهم السلام مع قلة ناصريه والمدافعين عنه.

و قد أورد الأستاذ (بارا) خطبة مطولة للإمام الحسين عليه السلام ينعی بها نفسه و أهل بيته عليهم السلام قبل خروجه من مكة حيث وقف يخطب بما أوحي إليه في قصة استشهاده حتى لكأنه يقرأ قدره أمام ناظريه، فقال علیه السلام أمام حشد من الناس:

«الحمد الله و ما شاء الله و لا قوة إلا بالله و صلى الله على رسوله، خط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، و ما أولهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف، و خير لي مصرع أنا لاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلاة بين النواويس و كربلاء، فيملأن مني أكراشا جوفا و أجربة سغبا، لا محيص عن يوم خط بالقلم، رضا الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه و يوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته بل هي مجموعة له في حضيرة القدس تقر بهم عينه و ينجز بهم وعده، ألا و من كان فينا باذلا مهجته موطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإني راحل مصبحا إن شاء الله تعالى»(1).

ص: 354


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص101.

و بالطبع، لا يغيب عن ذهن ذلك المفكر المسيحي أن يعرض العديد من الصور المؤثرة عن تفاصيل خروج أهل بيت الإمام الحسين عليه السلام معه إلى أرض كربلاء، و لا يغيب عن ذهنه الوقاد أيضا أن يذكر لقارئه وجهة نظره عن أسباب خروج أهل بيته عليهم السلام معه إلى ساحة الموت والشهادة من جهة، وإلى حالة السبي والأسر من جهة أخرى.

فالموت أو الشهادة في ساحة كربلاء نهاية حياة لكنه ليس نهاية إنسان، فالحياة الحقيقية للإنسان لا تقاس بالأعوام والعقود، بل تقاس بالمآثر الجليلة و بالفعائل الفضيلة والخصال النبيلة التي يخلفها ذلك الإنسان للإنسانية بعد رحيله و انتقاله من هذه الحياة إلى حياة أخرى لا تنفد أيامها و أعوامها.

والأسر والسبي في كربلاء له دوره أيضا في أحداث تلك الفاجعة ذات الأثر الإنساني العام، و لذلك يرى ذلك المفكر المسيحي الذي كرس وقتا طويلا من حياته في دراسة سيرة أهل البيت عليهم السلام عموما، و سيرة الإمام الحسين عليه السلام خصوصا أن إخراج أهل البيت عليهم السلام إلى كربلاء له الكثير من المعاني والأهداف المكملة لأهداف نهضة الإمام الحسين عليه السلام ذاتها.

و من هنا يرى الأستاذ (بارا) أن هناك حكمة إلهية في وقوع البعض من أفراد أهل البيت عليهم السلام المطهرين من الرجس أسري و سبايا بيد أعدائهم و أعداء دينهم، و عن تلك الحكمة الإلهية يقول: (و إنها لحكمة إلهية أيضا أن يسار بالسبي إلى الكوفة و دمشق بهذا الشكل المهين على أقتاب الجمال... فيرى الناس في السبايا من الفجيعة، أكثر مما رأوا أو سمعوا في قتل الحسين، و هذا ما هدف له الشهيد بخروجه بالنساء

ص: 355

والأطفال والرضع ليكونوا شهودا وألسنة تنطق بمظلمته)(1).

و من نافلة القول إن الاستشهادات والدلائل التي يذكرها المؤلفون والأدباء المسيحيون عن معرفة الإمام الحسين عليه السلام بمصيره من جهة، و عن الحكمةمن خروجه بأهله الأطهار علیهم السلام من جهة أخرى، هي أحادیث و روایات قوية و ثابتة لها وجود و قيمة كبيرة في الفكر الإسلامي السني أيضا، و هذا يعني أن أولئك المفكرين والأدباء المسيحيين لم يتجاوزوا المؤلفات الإسلامية السنية في اعتمادهم على تلك الأحاديث والروايات المهمة عن التنبوء بما سيحل بعترة أهل بيت الرسول السماوي الأخير صلی الله علیه و آله و سلم وجه هذه الأرض.

و على سبيل المثال، فإن مسألة الحكمة من الخروج بأهل البيت علیهم لسلام إلى كربلاء، تلك الحكمة التي ذكرها الأستاذ (بارا) هي في واقعها و أساسها حكمة إلهية أشار إليها الإمام الحسين عليه السلام نفسه قبل خروجه مباشرة إلى كربلاء، و لم تبخل المراجع الإسلامية السنية المعاصرة بذكر ذلك نقلا عن لسان الإمام الحسين علیه السلام.

ففي كتاب (الحسين بن علي) الذي ذكرناه في الصفحات السابقة، ينقل لنا مؤلفه حوارة ثنائيا بين الإمام الحسين عليه السلام وأخيه من أبيه (محمد بن الحنفية) حول الخروج إلى أرض کربلاء، و لا يمكننا القول إلا أن ذلك الحوار يكشف لنا الكثير من الحقائق حول التكليف الإلهي للإمام الحسين عليه السلام بضرورة خروجه مع عموم أهل بيته علیهم السلام.

و بإمكان القارئ أن يستخلص هو شخصيا النتائج المترتبة على نص هذا الحوار الذي سنذكره الآن مباشرة.

فأثناء تجمع القافلة و بدء المسير، يأتي محمد بن الحنفية (رضي الله عنه) إلى أخيه

ص: 356


1- نفس المصدر السابق ص129.

الحسين عليه السلام مهرولا، و يقف بين يديه مخاطبا:

- ألم تعدني النظر فيما سألتك؟

فأجاب الحسين: «بلی».

فقال محمد: فما الذي حملك على الخروج عاجلا؟

قال الحسين: «أتاني رسول الله بعدما فارقتك، و قال: يا حسين اخرج إلى العراق فإن الله شاء أن يراك قتيلا مخضبا بدمائك».

فقال محمد متألما باكيا: إنا لله و إنا إليه راجعون، فإذا علمت أنك مقتول فما معنی حملك هؤلاء النسوة والأطفال؟

قال الحسين علیه السلام: «ولقد قال لي جدي: إن الله عز وجل قد شاء أن يراهن سبايا مهتكات يسقن في أسر الذل، و هن أيضا لا يفارقني ما دمت حيا»(1).

و ما ينطبق على هذا الحديث ينطبق على غيره أيضا من بقية الأحاديث التي اعتمد عليها المفكرون والأدباء المسيحيون واستشهدوا بها في كتبهم و دواوينهم من خلال الاعتماد المباشر على المراجع والمصادر الإسلامية السنية المتقدمة والمعاصرة.

و من جملة الأحاديث الهامة الأخرى التي اعتمد عليها المفكرون المسيحيون في مؤلفاتهم الفكرية والأدبية هو ذلك الحديث البارز والمهم الذي ورد في كتاب (تاریخ الطبري) و في غيره من المصادر المتقدمة، والذي يأتي ذكره دائما في المراجع السنية المعاصرة عند الحديث عن حادثة كربلاء والتهيوء المسبق لها.

فالمراجع المعاصرة تنقل عن (الطبري)، و هو بدوره ستي، قوله:

و رحل الحسين من قصر بني مقاتل، و بينما هم يسيرون إذ سمع الحسين يقول:

ص: 357


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص118.

«إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين»، و كرره - فسأله علي الأكبر عن استرجاعه و قال له: «يا أبت جعلت فداك، مم حمدت واسترجعت؟».

فقال الحسين و هو يزفر زفرة طويلة: «يا بني خفقت خفقة فعن لي فارس على فرس و هو يقول: القوم يسيرون، والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها نفسنا و إلينا»(1).

و بالفعل، ما أن يصل الإمام الحسين علیه السلام بأهله الأطهار علیهم السلام و بصحبة الأخيار (رضي الله عنه) إلى أرض الكرب والابتلاء، حتى يقف الإمام الحسين عليه السلام و يسأل عن اسم المنطقة التي وصل إليها، فيجيبه (زهير ابن القين):

- سر راشدا و لا تسأل عن شيء حتى يأذن الله بالفرج، إن هذه الأرض تسمی الطفت.

فقال الإمام الحسين عليه السلام : «و هل لها اسم غيره؟».

قال: تعرف بكربلاء.

فدمعت عيناه و قال عليه السلام : «اللهم أعوذ بك من الكرب والبلاء، ها هنا محط رکابنا و سفك دمائنا و محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله»(2)

فكل هذه الأحاديث الهامة والمتميزة التي وردت في كتب إخواننا السنة قديما وحديثا لعبت دورا كبيرا في بلورة الفكر المسيحي تجاه الكثير من المسائل الهامة المتعلقة بقضايا وشؤون أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام.

و بالعودة إلى الفكر المسيحي، بإمكاننا أن نلاحظ في كتاب (السياسة الإسلامية) للمستشرق الألماني (ماربين) أن هذا المستشرق قد أجاد تحليل و دراسة القضايا

ص: 358


1- نفس المصدر السابق ص129
2- نفس المصدر السابق ص130

الهامة التي كانت تشغل فكر أهل البيت عليهم السلام، و رأي أيضا أن الإمام الحسين علیه السلام، تحديدا، كان على معرفة مسبقة باستشهاده من أجل نصرة الحق(1).

أما في ما يتعلق بخروج الإمام الحسين عليه السلام بأهل بيته علیهم السلام لملاقاة آلاف المقاتلين من الجيش الأموي الباغي، فيقول عنه (ماربین):

(إن حركة الحسين في خروجه على يزيد إنما كانت عزمة قلب كبير عز عليه الإذعان و عز عليه النصر العاجل، فخرج بأهله وذويه ذلك الخروج الذي يبلغ به النصر الآجل بعد موته، و يحيي به قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة)(2).

و بالطبع، فالمقصود من كلام (ماربين) عن النصر الآجل بعد موت الحسين علیه السلام، هو معرفة المسلمين لاحقا أن الحسين قد خرج بأهل بيت النبوة و مهبط الرسالة من أجل إحياء الدين و تخليصه من براثن الذئاب الأموية، في حين أن الأمويين- بفظائعهم التي سيرتكبونها بحق أهل البيت- ستثبت للعالم بأسره أنهم أعداء محمد صلی اله علیه و آله و سلم وأعداء الرسالة، و أنهم أيضا بلا دين و لا أخلاق تردعهم عن ارتكاب أفظع المجازر بحق أهل بیت نبيهم صلی الله علیه و آله و سلم الذي أوصى في أكثر من مناسبة قائلا و مذكرا:

-«النجوم أمان لأهل السماء، و أهل بيتي أمان لأمتي»(3).

- «شفاعتي لأمتي، من أحب أهل بيتي»(4).

- «اشتد غضب الله على من آذاني في عترتي»(5).

ص: 359


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص58.
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص67.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص 49.
4- نفس المصدر السابق ص61.
5- نفس المصدر السابق ص65.

و إذا كان الفيلسوف والمستشرق الألماني (ماربين) قد علل سبب خروج الإمام الحسين عليه السلام بأهله لمقابلة جيش يزيد اللعين، فإن المستشرق الإنكليزي المعروف (دوایت رونلدسن) قد أغفل في كتابه (عقيدة الشيعة) ذكر خروج الإمام الحسين علیه السلام بأهله و عياله، لكنه لم يغفل ذكر العديد من الروايات التي تقول إن الملائكة جاءت بتراب من بيت المقدس إلى كربلاء ليدفن فيها الإمام الحسين عليه السلام، و أنهم هم شخصيا من هيا للحسين عليه السلام قبره قبل مقتله بألف عام(1).

و ليس هناك من حاجة للاستفاضة في القول إن العديد من المستشرقين لم يذكروا في مؤلفاتهم و مصنفاتهم أي شيء عن النبوءات بحادثة كربلاء، و لا حتى عن أسباب الخروج بالنساء والأطفال، و إنما اكتفوا بوصف الفاجعة ذاتها مركزين على الأفعال الأموية السوداء بحق أهل البيت عليهم السلام، و خير مثال على هذا النوع من المستشرقين الذين نهجوا هذا النهج العلامة الفرنسي (سيديو) في كتابه الشيق (خلاصة تاريخ العرب)(2).

و لم يبتعد المستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) في نهجه الفكري كثيرا عن نهج الأستاذ (سیدیو)، لكنه تميز عنه بالمرور سريعا على مسألة معرفة الإمام الحسين عليه السلام المسبقة بنهايته المؤثرة على يد جيش الطاغوت، و قد أورد الأستاذ (کونسلمان) تلك الحادثة عن معرفة الإمام الحسين عليه السلام بمصيره الأليم قائلا: فیروی أنه (أي الحسين عليه السلام ) رأى في منامه أن النبي قد ظهر له و قال: «في الليل ستكون عندنا في الجنة، والانتقال من الحياة إلى الموت ليس مهما، فالموت ينهي كل الآلام،

ص: 360


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص108
2- العلامة سيديو، خلاصة تاريخ العرب، مصدر سابق ص88.

و قد بشرتك ذات يوم بالجنة، كلمتي ستعطيك ثقة و سوف تقودك»(1)، و كان من نتيجة ذلك أن بكت النساء وانتحبن لهذا الكلام.

و في الحقيقة، فإن هذا المستشرق الألماني المعاصر لم ينف و لم يستبعد قصة الرؤيا التي شاهدها الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده، وإنما أوردها في كتابه (سطوع نجم الشيعة) كجزء طبيعي من نسيج و سياق الفاجعة المرتقبة على أرض کربلاء.

فالحلم أو الرؤيا لها دور أساسي في حياتنا اليومية، فما نشاهده في النوم قد يكون مرتبطة بخبرات الماضي البعيد، و لكن بنفس الوقت، قد يكون مرتبطا بكشف غیب المستقبل سواء بطريقة الاستبصار أم بطريقة أخرى لم يكتشفها علم النفس بعد.

و ها هو الباحث النفسي المعاصر (جون كيهو) ينقل لنا في كتابه (العقل الباطن) مقولة هامة لعالم النفس الشهير (كارل يونغ)، صاحب نظرية اللاوعي الاجتماعي، يقول فيها عن حقيقة الأحلام ما يلي:

(تبين لكم الأحلام أين أنتم، والطريق الذي تسلكونه، و تفتح أمامكم صفحة قدركم المكتوب)(2).

و لو أردنا أن نقفز الآن فوق عالم الاستشراق من أجل الوصول إلى عالم الفكر المسيحي المعاصر في الشرق، فماذا عسانا نجد فيه من علوم و معارف عن عوالم النبوءات والرؤى حول الخروج بالأهل والعيال إلى ساحة الشهادة المقدسة فوق الرمال التي تنتظر أن تروى بدمائهم الطاهرة بدل أن روی من ماء الفرات؟!

ص: 361


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق ص57.
2- جون كيهو، العقل الباطن، ترجمة: د. مصطفى دليلة، دار الحوار . اللاذقية، 2001، ص71.

قبل كل شيء، يرى المفكر والأديب المسيحي اللبناني (سلیمان کتاني) في كتابه (الإمام زين العابدین عنقود مرصع) أن الغدر الدائم بأهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم سمة بارزة عن البيت الأموي الذي ما برح يدبر المكائد والدسائس والفتن للتخلص الكامل والنهائي من كل أفراد البيت المحمدي الرسالي(1).

و على الرغم من كل تلك الفتن والمكائد الخسيسة التي حاكتها الأيادي الأموية الآثمة، فقد قرر الإمام الحسين عليه السلام الخروج بأهله و عياله لإقامة الحجة الإلهية البالغة، ليس على الأعداء فحسب، بل أيضا على كل مسلم سمع بخروجهم لطلب الحق و إنقاذ الرسالة و لم ينصرهم و يشد من أزرهم.

و يرى الأستاذ (كتاني) أيضا أن إرادة الإمام الحسين عليه السلام جزء لا يتجزأ من إرادة الله سبحانه و تعالى، فالحسين عليه السلام كان محقا تماما عندما عبر عن إرادة الله الحكيم الخبير بقوله لأخيه الحبيب محمد بن الحنفية عليه السلام قبل الخروج:

«أتاني منذ لحظة رسول الله و قال لي: يا حسين اخرج، فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا-و إن الله قد شاء أن يرى نسائي سبایا»(2).

فالرؤيا، بشكلها الأشمل، و بمضمونها و معناها الأعمق، تحمل في ذاتها- كما يقول عنها المفكر والفيلسوف الفرنسي (روجيه غارودي) - بذور الثورة بكل ما في هذه الكلمة من معنى، أي أنها تغيير الإنسان بشكل كامل و شامل(3).

و لا ريب في أن الإمام الحسين عليه السلام كان يمتلك رؤيا غيبية شاملة المعاني و متعددة الأبعاد، و لذلك فعندما يقول عليه السلام قبيل خروجه بوقت قصير: «رأيت رؤيا

ص: 362


1- سلیمان کتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، مصدر سابق ص148.
2- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص151
3- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص168.

فيها رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و أمرث فيها بأمر أنا ماض له»(1)، فعندما يقول الإمام الحسين علیه السلام هذا الكلام، فهو لا يقصد مجرد الرؤيا التي تأتي الإنسان في حالة النوم فقط، بل يعني أيضا تلك الرؤيا القلبية الإشراقية التي تتجلى للنفس الطاهرة النقية الجوهرية بشكل صور حية مثلما تتجلى الصور والحركات على صفحة المرأة الصقيلة والصافية.

و إذا كان الفكر المسيحي المعاصر قد رأى في الإمام علي عليه السلام صورة الإمام الجامع لصفات الرسل والأنبياء عليهم السلام، و أن الإرادة الكونية- كما يقول المفكر (جورج جرداق)- هي التي شاءت أن يكون الإمام علي عليه السلام شيئا من ذات الرسول(2)، فإن الإمام الحسين عليه السلام ، بالنسبة للكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين، هو الوارث أيضا لكل صفات و خصال الإمام علي عليه السلام، و بالتالي هو أيضا و ريث شرعي لكل رسول و نبي و وصي.

و قد رأينا، سابقة، كيف أن الأديب والشاعر المسيحي (جورج شکور) قد عبر خير تعبير في ديوانه (ملحمة الحسين) عن الإرث الحسيني العظيم، بقوله:

أما الحسين و ريث (للعلي) فتی *** الفتيان، من نهجه في السر أسرار؟

و ها هو الآن يكمل حديثه الرقيق عن الإرث العظيم الذي ورثه الإمام الحسين علیه السلام عن جده المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم أيضا، و كيف أن ذلك الجد المبعوث برسالة السماء قد تراءى له في المنام و قد أمره بالخروج إلى كربلاء سريعا لأن أهل السماء قد اشتاقوا إلى لقائه القريب حالما يتحول إلى (ذبيحة مظلومة لله عند شط الفرات)، حيث تكون

ص: 363


1- محمد رضا، الحسن والحسين، سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص117.
2- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات دار مكتبة الحياة . بيروت، 1970، ج1 ص65.

دماؤه الطاهرة الزكية معراجه للقاء جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و أبيه المرتضی علیه السلام و أمه البتول الزاهرة علیهاالسلام و أخيه المجتبى عليه السلام و كل الأحبة والأهل الذين رفعتهم دماؤهم المبذولة و أنوار جواهرهم المصقولة إلى قدس الأقداس حيث لا عين رأت و لا أذن سمعت.

و الآن، دعونا نستمع سوية إلى هذا الأديب المسيحي (جورج شكور) و هو يقول:

سار (الحسين) إلى ترب النبي تقى *** مستلهما سره، للقبر إسرار

صلى مليا، فأغفی، راؤدته رؤى *** أن جده قال، ما في القول إضمار

إني أراك ذبیح (الطف) منطرحا *** في (كربلاء)، و منك الدم قوار

و هنا ينتقل الشاعر إلى وصف الإرادتين المتكاملتين في ضرورة طلب الشهادة من أجل إعلاء راية الحق والنور فوق الدروب المرسومة بالدماء صعودا إلى ممالك السماء و مواطن الأنوار.

فالإرادة المحمدية تخاطب الحسين عليه السلام بالقول (أقدم، حسین)، فيأتي الرد من الإرادة الحسينية هادئا مطمئنا بالقول (مشيناها خطى کتبت)، و هنا تجتمع الإرادتان لتتوحدا في ظلال الأمر الإلهي الذي شاء أن يقيم الحجة على الأمة بعد أن يرى الإمام الحسين عليه السلام قتيلا مضرجا بدمائه دون معين و لا ناصر من الأمة التي ترجو شفاعة جده المصطفي صلی الله علیه و آله و سلم يوم الحساب، و ها هو الأستاذ (شکور) يتابع قائلا عن دعوة الرسول صلی الله علیه و آله و سلم:

أقدم، (حسين)، حبيبي، أهلك اشتعلوا *** شوقا إليك، غدا للشوق أبصار

مدارج الجنة العليا توزعها *** روح الشهيد، و أبرار و أطهار

ص: 364

قال (الحسين): (مشيناها خطی کتبت) *** إلى الجهاد، و إلا هدنا العار(1)

لقد استطاع هذا الشاعر المحلق أن يختصر قول الكثير من خلال هذه الأبيات الشعرية القليلة، و هنا يكمن وجه من وجوه الإبداع في عملية الصناعة الشعرية حيث يمكن إعطاء الكثير من المعاني والصور في أقل عدد ممكن من الكلمات والتعابير .

و لا أعتقد أن هناك من يختلف معنا في أين هذا الكلام ينطبق أيضا على الشاعر (بولس سلامة) الذي استطاع أن يبرهن لنا أن الشعر رسالة و أن الشاعر الحقيقي هو ذلك الإنسان الذي يتحول إلى رسول للفكر يحمله على أجنحة البيان والصور والموسيقى إلى عقول الناس وأفئدتها.

و كما ذكرنا مرارا، فإن شاعرنا (سلامة) ليس مجرد شاعر فحسب، بل هو أيضا أديب مبدع تشهد له مؤلفاته بذلك، و لذلك، فعندما يحدثنا هذا الأديب والشاعر عن أحداث کربلاء، فإننا نلاحظ بوضوح كيف أنه يقدم مادته الفكرية للقارئ بطريقتين ممتعتين: طريقة الرواية النثرية، و طريقة الرواية الشعرية.

و لذلك، فإن مسألة تنبوء أهل البيت علیهم السلام بما سيحل بهم عموما، و بالإمام الحسين علیهم السلام خصوصا، هي مسألة هامة جدا في فكر الأديب والشاعر (سلامة)، و بالتالي فهي تستحق أن تنقل إلى القارئ بالطريقتين اللتين أشرنا إليهما، الطريقة النثرية والأخرى الشعرية.

و ها هو يحدثنا نثرا عن تلك المسألة، فيقول بلسان مليء بالثقة والصدق واليقين، مصورا وصول الإمام الحسين بأهله علیه السلام إلى أرض كربلاء:

ص: 365


1- جورج شکور، ملحمة الحسين، طبع شركة ساب إنترناسيونال . بيروت، ط 2003/1 ، ص15 +16

فقال (أي الحسين عليه السلام): ما اسم هذه الأرض؟ فقيل: كربلاء، قال: هذا موضع کرب وبلاء، انزلوا، ها هنا محط ركابنا، و سفك دمائنا، و هنا محل قبورنا، بهذا حدثني جدي رسول الله، فصرخت زینب أخت الحسين: واثكلاه!!

ينعى الحسين نفسه، ليت الموت أعدمني الحياة، ماتت أمي فاطمة، و أبي، و أخي الحسن، و لم يبق غيرك يا خليفة الماضين و ثمال الباقين... فقال الحسين: تعزي یا أختاه بعزاء الله ، فإن سكان السماوات يفنون و أهل الأرضكلهم يموتون.

ثم قال: يا أختاه، یا أم كلثوم، و أنت یا زینب، و أنت يا فاطمة، و أنت يا رباب، انظرن إذا أنا قتلت فلا تشقن علي جيبا و لا تخمشن وجها و لا تقلن هجرا)(1).

و كما ذكرنا منذ قليل، فإن الأديب (سلامة) لم يكتف بذكر النبوءة نثرا، بل راح يؤكد للقارئ و قوعها و ذلك من خلال إعادة صياغتها شعرا و تقديمها إليه بأسلوب جديد يدخل إلى العقول والقلوب و يتغلغل فيهما و يداعبهما مثلما تتغلغل و تداعب النسيمات اللطيفة الناعمة أوراق شجر الغار والحور والسنديان.

إذن، دعونا الآن نستمع إليه و قد نقل لنا نفس الفكرة السابقة و لكن بأسلوبه الشعري المميز، و هو الآن يصور وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض كربلاء التي سترتوي من دمه و دم أهل بيته عليهم السلام قريبا:

قال: ما هذه البقاع؟ فقالوا: *** كربلاء، فقال: ویحک دارا

هاهنا يشرب الثری من دمانا *** و يثير الجماد دمع العذاری

بالمصير المحتوم أنبأني جدي *** و هيهات أدفع الأقدارا(2)

ص: 366


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص250.
2- نفس المصدر السابق ص251

إنها الحكمة الإلهية التي تأبى أن تتكشف عنها كل الأستار والحجب حتى يدرك الإنسان العاجز العمق الكامل والبعد الحقيقي وراء تلك الحكمة التي جعلت الأقدار المقترنة بالأسباب تقود الإمام الحسين و أهله و عياله عليهم السلام إلى مذبح الحب الإلهي العظيم.

فيا لله !! ما هذا الحب الإلهي الذي يقود المحب إلى الأبح؟!

أليس هذا الحب أيضا هو الذي قاد معظم الرسل والأنبياء والأوصياء والأولياء إلى نفس المصير؟!

ألم يكن سيدنا إسماعيل عليه السلام قاب قوسين أو أدنى من حد السكين من أجل حب الله و مرضاته، و عدم الخروج عن إرادته و حكمته الخفية؟!

لقد صدق فيلسوف الباكستان و شاعرها الأعظم (محمد إقبال) عندما أوجز الكلام في ذلك شعرا، فقال:

في الكعبة العليا و قصتها *** نبأ يفيض دما على الحجر

بدأت بإسماعيل عبرتها *** و دم الحسين نهاية العبر(1)

نعم، والله، فدم الحسين و أهل بيته عليهم السلام نهاية العبر و أبلغها و غایتها.

بل، هل هناك عبرة أعظم من أن يقتل الإمام الحسين علیه السلام بسيوف أناس يمزقون جسده الشريف إربا إربا و يرجون دخول الجنة غدا على يدي جده صلی الله عله و آله و سلم يوم الحساب !!

ص: 367


1- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين عليه السلام على طريق الشهادة، مصدر سابق ص331.

نبوءات الأنبياء علیهم السلام بفاجعة کربلاء

رأينا في الفصل السابق من هذا الكتاب كيف أن أهل البيت عليهم السلام قد تحدثوا عن المآسي الدامية التي ستشهدها أرض كربلاء، و كيف أن تلك الأرض سترتوي من دماء الإمام الحسين عليه السلام و من دماء نسائه و أطفاله علیهم السلام و أصحابه الكرام الذين سيثبتون معه حتى النهاية و كأنهم أسود تدافع عن حرمة عرينها غير خائفين من بريق السيوف و لا و جلين من كثرة مشاهد الدماء المتماهية مع صوت صراخ أطفال الحسين عليه السلام، فلا يزيدهم ذلك إلا إيمانا بالله و برسوله صلی الله علیه و آله و سلم، و لا يزيدهم إلا إصرارا على إثبات حق الحسين عليه السلام في الخروج من أجل طلب الحق في أمة جده المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم و إعلان الثورة على شیطان و فرعون العصر یزید بن معاوية، سليل شجرة الغدر والفجور.

أما الآن، فإننا سنتوقف مليا عند الرسل والأنبياء عليهم السلام و نبوءاتهم الإلهية التي أوحاها الله سبحانه و تعالى إليهم عن طريق وحيه الأمين جبرائيل عليه السلام الذي كان يخبر كل نبي و رسول بما سيحدث لخاتم الأنبياء صلی الله عیه و آله و سلم و لذريته الطاهرة المقدسة من بعده، و كيف سيرتبط خلود ذكر تلك الأرية بدموعهم المسكوبة و بدمائهم المسفوحة تحت رايات التوحيد الإلهية والمبادئ والقيم الرسالة السماوية.

و لا ريب في أن مصير الإمام الحسين عليه السلام و ما سيحل به و بأهل بيته من نساء و أطفال كان هو المشهد الأكثر تأثيرا و الأ عمق ألما و هما في قلوب و نفوس أمناء رسائل السماء إلى أهل الأرض.

ص: 368

و قبل أن ندخل في جوهر بحثنا الآن، علينا أن نذكر دائما أن هناك الكثير، بل الكثير جدا، من المفكرين والأدباء الذين ينتمون إلى أديان أخرى غير الدين الإسلامي، يحترمون و يبجلون أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم كثيرا حتى أنك لتحسبهم من أتباعهم و أشياعهم المخلصين و من جنودهم الصادقين الصابرين.

و ربما كان أهم عامل من عامل محبتهم لأهل البيت عليهم السلام و تعلقهم بهم هو التعاطف الوجداني الناتج عن الكوارث القاسية والأليمة التي أنشبت أظفارها الحادة في وجوه أفراد تلك الذرية الطاهرة التي لم يكن لديها أي هم إلا العمل على ترسيخ قيم الحق والخير والفضيلة في مملكة الإنسان التائه الذي كان يبحث عن واحة ظليلة يلتجئ إليها هربا من رمضاء القيم الجاهلية والاعتقادات الوثنية الغريبة التي تتعارض مع طبيعة الفطرة السليمة.

فالإسلام الذي نادى به الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و أهل بيته الكرام علیهم السلام من بعده، هو الدين القائم على تحرير الإنسان من عبوديته لكل شيء إلا لله ذاته فقط، فبقدر ما يكون الإنسان مستهلكا ذاته في خدمة سيده الأوحد جل وعلا، بقدر ما يكون حرا طليقا من كل القيود والأصفاد التي تربطه بعبوديته للكثير من الأوثان والأصنام الدنيوية القادرة حقا على اجتذابه واستعباده بعد أن يسلم زمام أموره إلى النفس المسؤلة أو إلى شقيقتها النفس الأمارة بالسوء.

فالشاعر والفيلسوف الألماني الشهير (یوهان غوته) (1769- 1832م) أدرك هذه الحقيقة عن الإسلام، بل أدرك الكثير من الحقائق عن طبيعة الرسالة الإسلامية و عن الدور العظيم الموكل إلى أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله و سلم، فأهل البيت عموما، و علي و فاطمة عليهماالسلام خصوصا، هم الأيادي الطاهرة التي استلمت رسالة السماء و حولتها إلى

ص: 369

عبير عطر يمتد بشذاه الزكي إلى كل الناس في كل زمان و كل مكان.

و قد وضع هذا الشاعر الفيلسوف مسرحية شعرية على لسان علي و فاطمة عليهماالسلام يظهر فيها قوة النبي الروحية و إيمانه العميق بالغيب، و يظهر فيها أيضا تفاعل كل الكائنات والموجودات معه و مع رسالته القادمة من عمق الأزل لتكون خاتمة للرسالات السماوية الأخرى التي سبقتها و معراج للإنسان إلى مدارج الصفاء والكمال.

و قد اختمرت هذه الفكرة الثيرة في ذهن (غوته) المتقد حبا و إعجابا بمحمد خاتم الرسل والأنبياء عليهم السلام و بأهل بيته عليهم السلام الذين أكملوا ما بدأه من نشر للمبادئ الإنسانية المثلي، و أقدموا على بذل أغلى ما يملكونه من أجل تحقيق ذلك كله.

و بالفعل، فقد وضع (غوته) مشروع تلك المسرحية الشعرية، فبدأ روايته للأحداث بنشيد ينشده محمد صلی الله علیه و آله و سلم في الليل تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم المتلألئة شاعرا بنفسه الشفافة تسمو إلى عوالم السماء و حجب الغيب فيكاشف زوجته الطاهرة خديجة (رضي الله عنها) بذلك فتؤمن به حالا، ثم في الفصل الثاني يناصره الإمام علي عليه السلام بالدعوة إثر إيمانه المباشر بها، ثم يناوئه الخصوم والأعداء فيضطر إلى الرحيل والهجرة، و في الفصل الثالث ينتصر محمد صلی الله علیه و آله و سلم و يطهر الكعبة من كل الأوثان، و في الفصل الرابع يتابع محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم نشر دعوته السماوية، أما في الفصل الخامس فيبلغ فيه محمد صلی الله علیه و آله و سلم أوج الكمال و تتجلى عظمته الروحية.

ولكن-و للأسف الشديد- بقيت هذه المسرحية الشعرية عند حدود المشروع(1)، و لم تسعفه الظروف في تحقيق هذا المشروع المميز مما أدى به إلى الوقوف عند

ص: 370


1- جميل جبر، من الأدب الألماني، دار الريحاني للطباعة والنشر . بیروت، د.ت، ص17.

حدود وضع المقدمة والخطوط العريضة فقط.

و ليس هذا بالغريب عن (غوته)، فمن المعروف عنه أنه غني بالشرق والإسلام منذ صباه، فتغنى بر وائعه و لاسيما اللغة العربية، و قد اهتم خصوصا بشخصية النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم و بأهل بيته الذين آزروه و بذلوا له يد العون في مختلف مراحل رسالته، و قد دافع أيضا عن قداسة القرآن و وقف ضد الأقوال التي كان يرددها بعض الغربيين بشأن كتاب المسلمين(1).

و ما أريد أن أقوله الآن، بعد هذا الحديث عن الفيلسوف والأديب الألماني (غوته)، هو أن الدارس والمحلل لمؤلفات هذا الأديب العملاق يستطيع أن يستخلص فكرة هامة جدا عن رؤيته للإسلام، فالذي يقرأ ما كتبه (غوته) أو ما کتب عنه بشكل دقيق و مفصل، مثلما فعلت الباحثة الألمانية المعاصرة (كاتارينامو مومزن)، أستاذة الأدب الألماني في جامعة استانفورد الأمريكية، سيخرج بنتيجة هامة مفادها أن (غوته) يؤمن إيمانا حاسما بأن الإسلام عمي في وجوده و جوهره، فهو يمتد إلى ما قبل ظهور محمد صلی الله علیه و آله و سلم کرسول أرسلته إرادة السماء محملا برسالة الإسلام، فالإسلام بالنسبة للفيلسوف (غوته) هو دين الإنسان المرافق لوجوده القديم على الأرض، و لذلك فهو ممتد في جذوره إلى عمق الوجود الإنساني حتى قبل ظهور النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم، و بالتالي، فإن (غوته) لا يتردد في القول خلال مؤلفاته العديدة: (إنا أجمعين نحيا و نموت مسلمين)(2).

و بالطبع، فهو عندما يؤكد في قوله (إننا أجمعين)، فهو لا يقصد بذلك الإنسان

ص: 371


1- نفس المصدر السابق ص15.
2- كاتارينا مومزن، غوته والعالم العربي، ترجمة: الدكتور عدنان عباس علي، (سلسلة عالم المعرفة)، العدد 194 ، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت . شباط 1995 ص177.

الألماني أو الإنسان الأوروبي، بل يقصد بذلك الإنسان عموما في القديم والحاضر والمستقبل و في شتى بقاع الأرض طالما عند ذلك الإنسان بذور الإيمان بما جاء به الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و سلم بشكله الأكمل والأشمل

و إذا كان هذا هو حال شاعر و فيلسوف استطاع أن يكتشف شيئا من عالمية الإسلام و عن عمق وجوده الزمني والروحي و هو مجرد شاعر و فيلسوفي مبدع، لكنه غير مؤيد باستبصار نبوي، أو غير قادر على كشف بعض حجب الغيب كالرسل، فما بال الرسل والأنبياء الذين استطاعوا أن يتحدثوا عن الرسالة العالمية للشريعة الإسلامية و عن إنسانية مبادئها و عن رموزها المقدسة التي ستلاقي الكثير من الأهوال والمصائب في سبيل نشرها و جعلها الجناح الدافي الذي يحتمي به كل المؤمنين والمستضعفين و طلاب الحقيقة الخالدة أيا كان لونهم أو عرقهم أو وطنهم؟!

و من هنا نستطيع الآن أن نبدأ رحلتنا مع حديث الرسل والأنبياء علیهم السلام عن أحد رموز الرسالة الإسلامية، ذلك الرمز الذي فجر ثورة روحية حقيقية في ضمير الإنسان والأديان.

دعونا الآن، إذن، نبدأ حديثنا عن الإمام الحسين عليه السلام و ثورة كربلاء التي أبی الأعداء إلا أن يجعلوا منها نهرا من الدماء يسير جنبا إلى جنب مع نهر الفرات.

و لنسأل أنفسنا هنا:

هل كان النبي آدم عليه السلام ، أبو الأنبياء جميعا عيهم السلام، على علم و معرفة بما سيحدث للإمام الحسين عليه السلام سبط آخر نبي من أنبياء الله ؟!

و هل هناك من علاقة قديمة ذات طابع نوراني بين آدم عليه السلام أول الأنبياء و بين أهل بيت آخر الأنبياء علیه السلام؟!

ص: 372

ثم، ما تأويل قوله تعالى: «فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ»(1)؟! وما هي حقيقة تلك الكلمات الإلهية؟!

في الحقيقة، إن مفتاح الإجابة على كل هذه الأسئلة هو تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة كما ورد في كتب العلماء من إخواننا السنة، فالعلاقة المباشرة بين آدم علیه السلام والكلمات الإلهية التي كانت السبب الأكيد في توبة الله سبحانه و تعالى عليه هي بوابة العبور إلى جوهر بحثنا.

فقد جاء في كتاب (ینابيع المودة) للعلامة الكبير الشيخ (سليمان القندوزي الحنفي)، و في غيره من كتب السنة المعتبرة، أن الرسول الكريم محمد صلی الله علیه و آله و سلم قد فسر الآية الكريمة المذكورة عن آدم عليه السلام بقوله أمام الملأ من الناس:

«يا عباد الله، إن آدم عليه السلام لما رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله تعالی نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره (ظهر آدم) رأى النور و لم يتبين الأشباح، فقال: يا رب، ما هذه الأنوار؟

قال: أنوار أشباح نقلتهم من أشرف بقاع العرش إلى ظهرك، و لذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت و عاء لتلك الأشباح.

فقال آدم عليه السلام : يارب، لو بينتها لي، فقال الله عز وجل: انظر یا آدم إلى ذروة العرش، فنظر آدم عليه السلام و واقع أنوار أشباحنا من ظهر آدم علیه السلام على ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح یا رب؟ قال الله تعالى: يا آدم هذه الأشباح أشباح أفضل خلائقي و برياتي، هذا محمد صلی الله علیه و آله و سلم وأنا المحمود في أفعالي، شققت له اسما من اسمي، و هذا علي، أنا العلي العظيم، شققت له اسما من

ص: 373


1- سورة البقرة: الآية 37.

اسمي، و هذه فاطمة و أنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل القضاء، و فاطم أوليائي مما يبيرهم ويشينهم، شققت لها اسما من اسمي، و هذا الحسن و هذا الحسين و أنا المحسن المجمل و مني الإحسان شققت اسميهما من اسمي و هؤلاء خيار خلقي و کرائم بريتي، بهم آخذوبهم أعطي، و بهم أعاقب و بهم أثيب، فتوسل بهم إلي يا آدم، و إذا دهتك داهية فاجعلهم شفعاؤك فإني آليت على نفسي قسما لاحقا لا أخيب لهم آملا و لا أرد لهم سائلا، فذلك حين صدرت منه الخطيئة دعا الله عز وجل فتاب علیه و غفر له»(1).

إذن، هناك معرفة مسبقة في عوالم الأنوار بين آدم عليه السلام و أهل البيت علیهم السلام، و بالتالي، ليس من الغريب أن يعرف آدم عليه السام الكثير عن أفراد ذلك البيت النبوي المقدس والذين يمثلون تلك الكلمات الإلهية التي تلقاها من ربه فتاب بها عليه.

و قد جاء في الأثر الصحيح في تفسير قوله تعالى: «فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ...»(2) أن آدم عليه السلام رأی ساق العرش وأسماء النبي والأئمة عليهم السلام فلقنه جبريل قل: يا حميد بحق محمد، یا عالي بحق علي، یا فاطر بحق فاطمة، یا محسن بحق الحسن والحسين و منك الإحسان.

فلما ذكر الحسين سالت دموعه وانخشع قلبه، و قال: يا أخي جبریل، في ذکر الخامس ينكسر قلبي و تسيل عبرتي؟!

قال جبريل: ولدك هذا يصاب بمصيبة تصغر عندها المصائب، فقال: يا أخي، و ما هي؟

ص: 374


1- العلامة الشيخ سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص95.
2- سورة البقرة: الآية 37.

قال: يقتل عطشان غريبا وحيدا فريدا ليس له ناصر و لا معين، و لو تراه یا آدم و هو يقول: واعطشاه.. واقلة ناصراه.. حتى يحول العطش بينه و بين السماء كالدخان، فلم يجبه أحد إلا بالسيوف، و شرب الحتوف، فيذبح ذبح الشاة من قفاه، و ينهب رحله أعداؤه، و تشهر رؤوسهم هو و أنصاره في البلدان و معهم النسوان، كذلك سبق في علم الواحد المنان، فبکی آدم و جبريل بكاء الثكلى(1).

هذا ما كان من شأن سيدنا آدم عليه السلام و علاقته بكلمات الرحمة والمغفرة، و معرفته المسبقة بما سيحدث للإمام الحسين عليه السلام على بطاح كربلاء، فمن من الأنبياء كان على اطلاع أيضا على مصير سيد الشهداء عليه السلام في كربلاء؟!

إله النبي نوح علیه السلام، نعم، لقد كان نوح علیه السلام من العارفين بأحداث ملحمة الخلود التي سيكون بطلها سبط النبي محمد صلی الله علیه و آله و سلم أول خلق الله و خاتم رسله.

و من المعروف عن نبي الله نوح عليه السلام أنه كان من أولي العزم من الرسل، و قد مکث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، صابرا على أذاهم، صامدا أمام كفرهم و حماقاتهم، و ما كانوا ليزدادوا على مر الأيام إلا كفرا و عتوا، و لما رأى أن الله قد حقت كلمته، و قضى وحيه أنه لن يؤمن أحد بعد، نفذ صبر نوح عليه السلام وتوسل إلى الله أن لا يبقي على الأرض من كفار قومه دیارا.

فاستجاب الله دعاءه و أوحى إليه أن يصنع الفلك العظيم، فسارع نوح واتخذ مكانا قصيا عن المدينة و بدأ العمل وسط سخرية القوم واستهزائهم، خاصة و أن مكان صناعة تلك السفينة العظيمة كان بعيدا عن البحار والأنهار التي ستحملها على سطوح أمواجها فور الانتهاء من صنعها.

ص: 375


1- توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، انتشارات لاله کویر. یزد، 1421ه، ص6.

وبعد أن أوحى الله إلى نوح ما أوحي، تفتحت أبواب السماء بالماء، و تفجرت عيون الأرض، و بلغ السيل المخيف قمم الربي والجبال، و في ذلك الحين كان نوح عليه السلام و من معه داخل السفينة في مأمن من غضب الله و غضب الطبيعة.

و لما بلغ الشوط غايته، و أصبح قوم نوح عليه السلام من الغابرين، أمسكت السماء ماءها، وابتلعت الأرض ما تبقى منه على وجهها، و كان لا بد قبل ذلك بقليل أن ترسو سفينة نوح في مكان جديد لتبدأ صفحة جديدة من صفحات الحياة على اليابسة، فما الذي حدث، و كيف استوت السفينة على جبل الجودي؟!

فالذي حدث و قتذاك هو أن نوحا عليه السلام لما ركب في السفينة طافت به الكثير من الأماكن والأصقاع، و لما مرت به بكربلاء أخذته الأرض و خاف نوح وقتها الغرق، فدعا ربه، و قال: إلهي، طفت جميع الدنيا و ما أصابني فزع مثل ما أصابني في هذه الأرض، فنزل جبرائيل عليه السلام و قال: یا نوح، في هذا الموضع يقتل الحسين عليه السلام سبط محمد خاتم النبيين وابن خاتم الأوصياء، فقال: و من القاتل له يا جبرائیل؟

قال: قاتله لعين أهل سبع سماوات و سبع أرضين، فلعنه نوح أربع مرات فسارت السفينة حتى بلغت الجودي واستقرت عليه الوقت الذي كان يبني فيه سفينته قبل الطوفان و قبل أن تمر فوق أرض كربلاء، و أن الذي أخبره بذلك هو جبرائیل علیه السلام ، راجع المصدر المذكور أعلاه ص27. (1).

ص: 376


1- يرجى الرجوع إلى: أ. المصدر السابق نفسه ص7. ب. المنبر الحسيني، العدد الثاني، إصدار دار السيدة زينب الثقافية . بيروت، عدد آذار، 2001، ص28، و قد ورد في هذا المصدر أيضا حديث ذو طابع رمزي يوحي لمن يطلع عليه أن لسفينة نوح عليه السلام معنى مجازيا رمزيا بالإضافة إلى معناها الحقيقي والمباشر، فقد روی (أنس بن مالك) عن النبي صلی الله علیه و آله و سلم حديثا مطولا يرمز من خلاله إلى أن أهل البيت المطهرين علیهم السلام هم أمان السفينة إذ لا أمان و لا سفينة دونهم، فهم . تبعا لتحليل رموز ذلك الحديث النبوي الشريف . عين استمرار الحياة و هم سفينة النجاة، و جاء في نفس الحديث النبوي الشريف أيضا أن نبي الله نوحا عليه السلام تعرف على قصة الحسين عليه السلام و ملحمته الدامية في

و علينا أن ندرك هنا أن للرمز دورا هاما في قصة سفينة نبي الله نوح عليه السلام، و علينا أيضا أن نربط أحداث هذه القصة القرآنية مع الحديث النبوي الشريف الذي تتناوله كتب المسلمين عموما، و حتى كتب بعض المفكرين والأدباء المسيحيين أيضا، إنه ذلك الحديث النبوي المشهور الذي ردده الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم في أكثر من مناسبة قائلا: «مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركب فيها نجا، و من تخلف عنها غرق»(1).

و سنترك أمر الدراسة التحليلية المفضلة واستخلاص النتائج للقارئ اللبيب عساه أن يصل إلى شيء من الأسرار الثمينة والكنوز الدفينة.

و قبل أن نورد الآن النبوءة التي تلقاها سيدنا إبراهيم خليل الله علیه السلام عن جبرائیل علیه السلام حول فجيعة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه و آله و سلم بسبطه الحبيب الإمام الحسين عليه السلام، دعونا نتكلم قليلا عن هذا النبي العظيم علیه السلام.

ولد النبي إبراهيم عليه السلام في بلدة فدام آرام في الدولة البابلية(2) زمن الملك الضال

ص: 377


1- راجع على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في: أ. الحافظ جلال الدين السيوطي (الشافعي)، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص 51. ب. العلامة الشيخ سليمان القندوزي (الحنفي)، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص26. ج . الحافظ ابن المغازلي (الشافعي)، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص132. د . الشيخ محمد بن علي الصبان (الشافعي)، إسعاف الراغبين، دار الفكر . بیروت، د.ت، ص120. و قد أوردنا الحديث المذكور أعلاه عن معنى سفينة نوح عليه السلام في أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم في فصل سابق من هذا الكتاب و قد ذكرنا العديد من المصادر السنية الأخرى التي ذكرته، لذا يرجى العودة إليه للاطلاع على المصادر الأخرى التي لم نكرر ذكرها هنا.
2- محمد أحمد جاد المولى ، قصص القرآن، دار الهجرة، 1984، ص31

نمرود بن کنعان بن كوش، و قد نصب ذاك الملك نفسه إلها على الناس و دعا الجميع إلى عبادته و تعظيمه.

أما إبراهيم عليه السلام فقد كان مشبع النفس بالإيمان بربه، و راجح العقل في دراسة الأمور والمسائل المصيرية الهامة، و لذلك فقد كان شديد الإيمان بما أوحي إليه، من بعث الناس بعد موتهم، و حسابهم في حياة أخرى بشكل عادل تماما، و قد طلب الآية البينة من ربه على البعث والنشور، فأعطاه الله عز وجل ما أراد.

و لم يبدأ إبراهيم بن تارخ عليه السلام دعوته مع قومه بتسفیه معبوداتهم و تحقير آلهتهم، بل اتبع معهم أسلوب الاستدراج المنطقي في الوصول إلى النتيجة المطلوبة، و كان مما فعله هو أنه حطم الأصنام التي يعبدها قومه، و عندما اتهموه بذلك العمل الذي هز كيانهم الروحي، قال لهم- على سبيل تنبيههم من غفلتهم- : بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون!!

عندئذ، أدركوا في قرارة نفوسهم أنهم خسروا المعركة الإيمانية معه، لكنهم لم يستسلموا، فقرروا معاقبته عقوبة تتحدث عنها كل الأجيال اللاحقة، و بعد مشاورات طويلة وقع اختيارهم على إحراقه بنار عظيمة تلتهمه بثوان قليلة و ينتهي أمره.

و راحوا يجمعون الحطب الكثير طوال أيام و ليال، و جعلوا ذلك قربانا لآلهتهم، و نذرا لإرضائهم، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت نذرت قائلة لتلك الآلهة الصماء:

إن عوفيت، لأجمعن حطبا لحريق إبراهيم(1).

و بعد أن جمعوا أكداسة عظيمة من الحطب اللازم، أشعلوا النار فيها، فاضطرمت

ص: 378


1- نفس المصدر السابق ص 41.

و تأججت و علا صوت لهيبها كصوت الرعد القاصف، و عندها، ألقي إبراهيم في جحيم تلك النار المستعرة التي لا يرحم لهيبها بعضه بعضا. فماذا فعلت تلك النار المستعرة بإبراهيم علیه السلام؟

لقد أحرقت منه قيوده، فصار حرا طليقا، و أذهب الله منها حدتها و حرارتها، فصار الهيبها علیه بردا و سلامة.

لاريب في أن ما حدث آية كبرى و حجة عظمى لا تقل عن آیات و حجج بقية الأنبياء والمرسلين علیهم السلام.

و هنا، لنا أن نسأل مستفسرين: و هل كان إبراهيم عليه السلام على إطلاع مسبق بمجيء رسول في آخر سلسلة الرسل والأنبياء يدعى محمدا؟! .

و هل كان على معرفة أيضا بملحمة سبطه الخالدة التي تدمي قلوب الملائكة و تهز ضمير الكون على مر العصور؟!

و يأتي الجواب واضحا و صريحا: نعم، لقد كان إبراهيم عليه السلام على اطلاع مسبق بمجيء رسول کریم يدعى محمد صلی الله علیه و آله و سلم، شجرته خير الشجر، و عترته خير العتر.

وكيف لا يعرف إبراهيم عليه السلام بمجيء ذلك الرسول العظيم و هو النبي المعروف بلقبه المبارك (الخليل)، و هل يخفي الله سبحانه و تعالى عن خليله أمر مجيء الرسل والأنبياء عليهم السلام من بعده؟!

فهناك العديد من الرسل والأنبياء بعد إبراهيم عليه السلام و لا شك في أن الله سبحانه و تعالى قد أطلعه عليهم و على سيرتهم و أسرارهم و آثارهم.

و قد ورد عن أئمة الحق عليهم السلام قولهم: «اتَّخَذَ اللّهُ عز و جل إِبْراهِيمَ خَلِيلًا،

ص: 379

لِکثرَةِ صَلاتِهِ عَلی مُحَمَّدٍ و أهلِ بَیتِهِ صلوات الله علیهم»(1).

و قد جاء أيضا عن الإمام علي الرضا عليه السلام أنه قال: «لما أمر الله عز وجل إبراهيم عليه السلام أن يذبح الكبش الذي نزل عليه بدلا من ابنه إسماعيل علیه السلام، تمنى إبراهيم عليه السلام أن يكون قد ذبح ابنه إسماعيل بيده و أنه لم يؤمر بذبح الكبش مكانه ليرجع إلى قلبه ما يرجع إلى قلب الوالد الذي يذبح أعز ولده عليه بيده فيستحق بذلك أرفع درجات أهل الثواب على المصائب، فأوحى الله عز وجل:

-يا إبراهيم، من أحب خلقي إليك؟

فقال: يا رب: ما خلقت خلق هو أحب إلي من حبيبك محمد صلی الله علیه و آله و سلم.

فأوحى الله إليه: أفهو أحب إليك أم نفسك؟

قال: بل هو أحب إلي من نفسي.

قال: فَوُلْدُهُ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ وُلْدُكَ؟

قال: بل وَلده.

قال: فذبح ولده ظلما على أيدي أعدائه أوجع لقلبك أو ذبح ولدك بيدك في طاعتي؟

قال: يا رب ذبحه على أيدي أعدائه أوجع لقلبي.

قال: يا إبراهيم، إن طائفة تزعم أنها من أمة محمد صلى الله عليه و آله و سلم ستقتل الحسين ابنه من بعده ظلما و عدوانا كما يذبح الكبش و يستوجبون بذلك سخطي.

فجزع إبراهيم بذلك، و توجع قلبه، و أقبل يبكي...»(2).

ص: 380


1- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط 1988/1 ، ج1 ص49.
2- توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص9.

و تأكيدا على ما جاء من قصة وحي الله سبحانه و تعالى لسيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام بشأن فاجعة كربلاء و مصاب الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده على يد طائفة تزعم أنها من أمة جده محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، فقد جاء في الروايات أن الله عز وجل أوحى إلى سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مرة ثانية- عن طريق جبرائيل الأمين عليه السلام - أن کربلاء قادمة لا محالة و أن (یزید) اللعين هو الممثل لتلك الطائفة التي تزعم أنها من المسلمين.

فقد روي أن إبراهيم عليه السلام مر في أرض كربلاء و هو راكب فرسا، فعثر به و سقط، وشج رأسه و سال دمه، فأخذ في الاستغفار...

و قال: «إلهي أي شيء حدث مني؟».

فنزل إليه جبرائیل عليه السلام و قال: «يا إبراهيم، ما حدث منك ذنب، و لكن هنا يقتل سبط خاتم الأنبياء، وابن خاتم الأوصياء، فسال دمك موافقة لدمه»(1).

والحديث طويل نسبيا، و قد اقتصرنا على موضع الحاجة منه فقط.

و من الممكن هنا أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا التساؤل التالي:

ورد معنا في الصفحات السابقة من هذا الكتاب أن الكلمات الإلهية التي تاب الله سبحانه و تعالى بها على سيدنا آدم علیه السلام هي أهل البيت علیهم السلام، و قد وردت هذه الحقيقة الخالدة في العديد من كتب إخواننا السنة، والسؤال الآن هو:

هل هناك من علاقة بین کلمات سیدنا آدم عليه السلام و كلمات سيدنا إبراهيم علیه السلام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم، في سورة البقرة: «وَإ ِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي

ص: 381


1- راجع ما جاء في (المنبر الحسيني)، العدد الثاني، مصدر سابق ص28.

الظَّالِمِينَ»(1)؟!

الجواب على هذا السؤال يمكننا الحصول عليه من العلامة (الحنفي) سليمان البلخي القندوزي الذي ذكر تفسير هذه الآية القرآنية الكريمة في كتابه المعروف (ينابيع المودة): (هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، و هو أنه قال: یا رب أسألك بحق محمد و علي و فاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب الله عليه إنه هو التواب الرحيم)، وأكمل (القندوزي الحنفي) هذا الحديث بالقول إن المفضل سأل الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام عن معنى قوله تعالى: «فَأَتَمَّهُنَّ»، فأجابه الإمام الصادق عليه السلام: «يعني أتمهن إلى القائم المهدي اثنا عشر إماما، تسعة من ولد الحسين علیه السلام»(2).

و قبل أن نكمل حديثنا عن رحلة الرسل والأنبياء في أحداث فاجعة كربلاء، أود أن أؤكد على عدة نقاط هامة كنت قد ركزت عليها كثيرا في كتابي السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر).

و من جملة تلك النقاط التي أريد أن أؤكد عليها الآن هي مسألة فهم حقيقة الموقع الروحي للرسالة الإسلامية بين بقية الأديان، فالإسلام ليس رسالة سماوية مبنية على فراغ، و لا هو رسالة سماوية نزلت على الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و سلم كي يلغي كل القيم والآداب والمعارف الواردة في الرسائل الأخرى التي سبقت رسالته.

فالإسلام رسالة تصحيح لا رسالة هدم و إلغاء لكل القيم السابقة، و لذلك، عندما ذكرت في كتابي السابق أن الشريعة الإسلامية هي خاتمة و تاج بقية الشرائع والرسائل،

ص: 382


1- سورة البقرة: الآية 124
2- سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق ج1 ص95.

فإنما قصد بذلك أن هذه الرسالة التي شبهتها بالتاج الذي يوضع على الرأس إنما هي ذات قدرة تصحيحية عالية الحيوية والفعالية من حيث دقة واستقامة ومجاراة تعاليمها للنفس الإنسانية عموما.

و ما يؤكد وجهة نظري هذه آراء و أقوال الكثير من المفسرين والأدباء الذين لا ينتمون إلى العقيدة الإسلامية سواء من المسيحيين أم من غيرهم.

و على سبيل المثال، يقول المفكر المصري المسيحية، الدكتور (نظمي لوقا) في كتابه ( محمد الرسالة والرسول): (لم يبق شك في أن رسالة الإسلام جاءت مناسبة لطور البشرية الطبيعي، جاءت رسالة الإسلام متلافية أوجه الغموض في العقيدة الإلهية و أوجه العسر والعنت و أوجه إغفال الدنيا و فطرة البدن والروح في كيان واحد)(1).

و من الواضح تماما أن رأي المفكر والأديب المسيحي اللبناني الأستاذ (سليمان كتاني) لا يختلف في مضمونه أبدا عن رأي أخيه في المسيحية، الدكتور المسيحي المصري (نظمي لوقا).

فالأستاذ (كتاني) يطرح على قارئه السؤال التالي:

من بإمكانه القول إن رسالة الإسلام صعبة الفهم و عصية المنال؟

و على ما يبدو، فإن الأستاذ (كتاني) يريد أن يوفر الوقت والجهد على قارئه، و لذلك فهو يختصر عليه الطريق بالقول مباشرة:

(أي شيء هي الرسالة غير التوحيد، غير نشر الخالق في المخلوق: عدلا: وحبا، و نبلا، و شکرانا، و وفاء، و وعدا بنعيم يستحقه الصادقون، و إنذارة بجحيم يشوى بها

ص: 383


1- د. نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، مصدر سابق ص104.

المارقون؟! أليست الأرض في مجموع أممها هي التي تبني إنسانها بمثل هذه الشرائع التي يسميها الناس مقدسة و هي - فعلا - مقدسة في بناء مجتمع الإنسان ؟!)(1).

و لكن ما يختلف فيه الأستاذ (كتاني) عن الدكتور (لوقا) في رؤيتهما الصائبة عن الإسلام هو أن الدكتور (لوقا) يتحدث في العموميات دون التركيز على الرموز الحقيقية الحية للرسالة الإسلامية، في حين أن الأستاذ (كتاني) لا يجد أي حرج في ذكر تلك الرموز المقدسة و في إعطائها، و لو شيئا، من حقها الذي حاول بعض المسلمين أنفسهم مصادرة ذلك الحق و دفنه تحت رمال صحاريهم الفكرية العقيمة.

و على سبيل المثال، عندما يتحدث الأستاذ (كتاني) عن معاني رسالة الإسلام و عن أهدافها و غاياتها، و عن الأشخاص الذين شقوا الطريق لها و حملوا راياتها بين الناس، نراه يشير إليهم بالتصريح لا بالتلويح، و بالعبارة لا بمجرد الإشارة، و ها هو يربط هنا بين الرسالة و بين أحد أهم رموزها و حملة راياتها، فيقول: (تلك هي الرسالة في تركيزها الفلسفي و في ميزانها الاجتماعي الرائع، و تلك هي التي نزلت نقشا في وجدان الحسين، والتهبت بها مشاعره- أما الذي أنزلها نقشا، و أججها لهبا في أسلاك النفس، فهو ذاته الذي اقتنصها من بحبوحة الفيض، و خص بها آل البيت ليكونوا ركيزة القيمومة، وعدة الإمامة في مطلع الغد)(2).

و من النقاط المهمة أيضا، والتي أريد أن أتوسع قليلا في الحديث عنها قبل أن تعود إلى موضوعنا الأساسي في هذا الفصل، و هو حديث الرسل والأنبياء عليهم السلام عن ملحمة كربلاء، هي نقطة خروج الحسين عليه السلام بأهله إلى ساحة الوغی و میدان الموت

ص: 384


1- سلیمان کتاني، الإمام زين العابدين عنقود مرصع، مصدر سابق ص59.
2- نفس المصدر السابق ص60.

مع أرجحية معرفته بما ستؤول إليه الأمور في نهاية الرحلة المريرة.

هذه النقطة بالتحديد يجب أن تعطي كامل أبعادها عند أي حديث عن الإمام الحسين عليه السلام أو عن نهضته، و خروجه إلى أرض كربلاء

و على الرغم من أننا ناقشنا هذه المسألة الهامة في الفصل السابق من هذا الكتاب، إلا أن الضرورة ذاتها تفرض علينا التوسع في الحديث عنها طالما أن لدينا الكثير من الآراء و وجهات النظر لرجال فكر و أدب من مختلف الأديان والأطياف.

فالكاتب المصري (محسن محمد) تناول مسألة خروج الإمام الحسين عليه السلام بأهله إلى مصارعهم، و عمد إلى تحليل تلك المسألة بشكل موجز و دقيق، و قد لخص النتيجة الهامة التي توصل إليها بالقول:

(عز عليه - على الحسين - النصر العاجل... وابتغى النصر الآجل بعد موته.. ليحيي بذلك قضية مخذولة ليس لها بغير ذلك حياة... و قد رفض الحسين إلا أن يصحب أهله ليشهدوا الناس على ما يقترفه أعداؤه بما لا يبرره دين و لا وازع من إنسانية، فلا تضيع قضية مع دمه المراق في الصحراء)(1).

فما هي القضية التي حملها الحسين عليه السلام و دافع عنها طوال حياته؟

و ما هي تلك القضية الجوهرية التي جعلت الإمام الحسين عليه السلام يضحي بكل ما يملك من غال و نفيس في سبيلها لدرجة أنه أصبح هو و ملحمته الحزينة الدامية حديثا مؤثرا و نبوءة أليمة في عالم الملائكة والرسل والأنبياء السابقين؟!

في الواقع، إن العقيدة النبيلة والقيمة الروحية السامية التي يحملها صاحبها يمكن

ص: 385


1- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، انتشارات الشريف الرضي .قم، 1417ه ص265.

أن تصهره و تتماهي معه لدرجة تجعله وحدة متلاحمة متكاملة مع كل معاني السمو والكمال.

و الإمام الحسين عليه السلام ، صاحب قيم و مبادئ، و هذه القيم والمبادئ منصهرة فيه و متماهي مع ذاته التي تمثل الانعكاس الصادق والصافي الشخصية جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم، و لشخصية أبيه أيضا، الإمام علي المرتضی علیه السلام.

فالحسين عليه السلام من علي عليه السلام كشعاع الشمس من قرصها، والحسين عليه السلام من جده الرسول صلی الله علیه و آله و سلم كمعنى الكلمة من حروفها(1).

و لذلك، فمن الطبيعي تماما أن يكون الإمام الحسين عليه السلام هو الامتداد الفكري والروحي لنور الرسالة المحمدية المؤيدة بحقيقة القدرة العلوية التي جاءت مع کل رسالة و رسول سرا، و لكنها جاءت مع رسالة محمد المصطفی صلى الله عليه و آله و سلم جهرا، و قد عرفت عند الأمم والشعوب والأديان بأسماء مختلفة وألقاب شتی.

ألم يقل الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم في حديثه النبوي الشريف:

«يا علي كنت مع كل نبي سرة و معي جهرا» ؟!(2)

ألم يؤكد الرسول صلی الله علیه و آله و سلم أيضا على جوهر هذا الحديث عندما خاطب المسلمين و أخبرهم أن الروح الأمين جبرائيل عليه السلام قد نزل عليه و خاطبه قائلا بلسان عربي مبين:

«الحق يقرئك السلام و يقول لك: إني لم أبعث نبيا قط إلا جعلت عليا معه سرا،

ص: 386


1- هذه العبارة، و كل عبارة أخرى تتحدث عن الحقيقة (المحمدية . العلوية) وردت في هذا الكتاب، أخذناها من كتابي المخطوط (مقدمة في معرفة أهل البيت عليهم السلام بالنورانية) الذي سيأخذ طريقه إلى النور في الوقت المناسب إن شاء الله تعالى.
2- العلامة الشيخ أحمد محمد حیدر، الحيرات، دار الشمال . طرابلس لبنان، 1991، ص178.

و جعلته معك جهرا» ؟!(1)

ثم، ألم يذكر العلامة الكبير والحجة المجاهد المرحوم (عبد الحسين أحمد الأميني النجفي) في كتابه الشهير (الغدير في الكتاب والسنة والأدب) القصيدة المذهبية للشاعر (أبي محمد العوني)، من أعلام القرن الهجري الرابع، والتي يذكر فيها الكثير من الأسماء والألقاب والصفات التي عرف بها أمير المؤمنين علي عليه السلام عند مختلف الأمم والأديان والشعوب(2) مما يؤكد على عظمة مكانته و على قدم و جوده النوراني المتماهي أساسا مع النور المحمدي، على هيئة نور واحد، و هو أول و أعظم خلق الله في عالم الأنوار؟!

و لذلك، فالإمام الحسين عليه السلام حمل لواء الدفاع عن رسالة ذلك النور الإلهي الخالد الذي شاء الله سبحانه و تعالى أن يكون نورا رسالیا و حبلا إلهيا متينا يصل الخلافة الآدمية على الأرض بأبواب الفردوس في السماء

فالإمام الحسين عليه السلام قبل، من خلال مسيرته الفدائية الدامية، أن يصافح السيوف بيده و قلبه، و أن يعانق الرماح بصدره و نحره، و قدم القرابين تلو القرابين من أجل عقيدة أبيه عليه السلام وجده صلی الله علیه و آله و سلم، تلك العقيدة التي تمثل في حقيقتها و جوهرها رسالة جميع الشرائع والأديان التي جاء بها و دعا إليها جميع الأنبياء المرسلين.

نعم، إن الكاتب والأديب المسيحي (نصري سلهب) يقول عن سيد و معلم الشهداء، الإمام علي علیه السلام: «... أما علي، فقد خلقه الله ليكون الشهيد، أبا الشهداء،

ص: 387


1- الحافظ رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين، مؤسسة الأعلمي . بيروت، ط10، د.ت ص85.
2- العلامة عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنة والأدب، دار الكتب الإسلامية . طهران، 1374ه.ش، راجع القصيدة المذهبة في الجزء الرابع من ص 131 حتى ص137.

غاسلي الأرض من أرجاسها بدمائهم، فاتحين في السماء أبوابا ليدخلها المؤمنون أفواجة»(1)، نعم، إن دماء معلم الشهداء علي عليه السلام قد غسلت الأرض من أرجاسها و نصبت للأرواح الطاهرة التقية معراج الخلاص و رسمت لها طريق الوصول إلى حظيرة القدس الإلهي.

و ما كان للإمام الحسين عليه السلام إلا أن يسير على طريق معلمه و قائده و أبيه و سیده، أمير المؤمنين علي علیه السلام في تلوين صدر السماء باللون الأحمر القاني إيذانا منه بأن اللون الأحمر هو اللون الأكثر قدرة على اختراق زرقة السماء، و أنه هو أيضا اللون الذي يشكل الخط الأكثر استقامة و قصرة في وصول الفراشة العاشقة المتعبة إلى حمی مصباح العشق الإلهي ذي الشعلة الأزلية الخالدة.

إن هذه الحقائق عن معاني الرسالة الإسلامية و عن فلسفة أهل البيت عليه السلام في فهم الحياة بطرفيها المادي العملي والروحي المعنوي هي التي دفعت بالكثير من أئمة الفكر والثقافة إلى تقديم فروض الاحترام للإسلام الذي مثله أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله و سلم خير تمثيل.

فالمهاتما (غاندي) الذي عشق فلسفة الإمام الحسين عليه السلام في معنى السلام والثورة -و هذا ما سنتحدث عنه بإسهاب و تفصيل في الفصل الأخير من هذا الكتاب- قدم فروض الاحترام والتقدير للإمام الحسين عليه السلام من جهة، و للينبوع الذي استقى منه الإمام الحسين عليه السلام مبادئه و قيمه من جهة أخرى.

و ها هو المفكر الهندي الهندوسي (ج.ن. راغهافان) يقول عن المهاتما العظيم (غاندي): (و إن كان غاندي هندوسيا من أعمق أعماق وجوده، فهو لم يكن ممارسا

ص: 388


1- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص382.

العقيدة أو طقوس أو تقاليد دينية معينة)(1).

فماذا يعني هذا الكلام؟

يعني هذا الكلام - و كما يقول، هذه المرة - غاندي نفسه-: (كل الأديان عزيزة علي مثل هندوسيتي، أنا أحترم العقائد الأخرى مثل احترامي لعقيدتي)(2)

و بالفعل، فإن ذلك الزعيم الهندوسي الكبير كان يحترم العقائد والأديان، و كان يظهر احترامه و تقديره للإسلام من خلال كتاباته و من خلال خطبه و أقواله، هذا بالإضافة إلى أن هناك العديد من المواقف العملية التي عاشها قد أثبتت حبه و احترامه للرسالة الإسلامية بشكل كبير و واضح.

و يكفي أن نذكر من هذه المواقف المشهودة أن (غاندي) عندما أودعوه السجن و بات أسيرة وراء القضبان، كان يمضي وقته بقراءة كتاب (الجيتا) الهندوسي صباحا، و كان يمضي فترة الظهر بقراءة آيات عديدة و سور من القرآن الكريم باللغة الإنكليزية(3).

فهل كان ذلك الزعيم الهندي الهندوسي يقوم بذلك إلا من منطلق الاحترام والتقدير لرسالة الإسلام عموما، و للإمام الحسين عليه السلام خصوصا بعد أن رأى فيه المثل الأعلى بين المسلمين جميعا؟!

فمعظم الذين درسوا سيرة حياة (غاندي) و قاموا بتحليلها بشكل مفصل و دقيق، معتمدين في ذلك على أحداث حياته و على أعماله و أقواله، توصلوا إلى القول في نهاية دراستهم: (و هكذا تأثر محرر الهند بشخصية الإمام الحسين تأثرا حقيقية، و عرف

ص: 389


1- جین راغهافان، تقديم الهند، مصدر سابق ص86.
2- نفس المصدر السابق ص86
3- لويس فيشر، غاندي الثائر القديس، مصدر سابق ص81.

أن الإمام الحسين علیه السلام مدرسة الحياة الكريمة و رمز المسلم القرآني، و قدوة الأخلاق الإنسانية، و قيمها، و مقياس الحق)(1).

و لاريب في أن المهاتما (غاندي) كان محقا تماما في اعتبار الإمام الحسين علیه السلام رمز المسلم القرآني، و قدوة الأخلاق، و مقياس الحق بين الخلق، فالإنسان المثقف فكريا والمستنير روحية، سواء كان مسلما أم مسيحيا أم هندوسيا أم حتى غير ذلك، سيدرك بعقله و في قرارة نفسه أن الإمام الحسين عليه السلام كان حقا كذلك مثلما وصفه الزعيم الهندي (غاندي).

فالإمام الحسين عليه السلام، بإيمانه و أخلاقه و مبادئ نهضته، كان حجة عظيمة لله على خلقه، و لذلك، فإن الله سبحانه و تعالی عرف الرسل والأنبياء السابقين عليهم السلام بالحسين عليه السلام ، و عرفهم أيضا على ما سيحدث له قرب الفرات على رمال كربلاء.

و يمكننا أن نقف على هذه الحقيقة الثابتة من خلال بعض خطب الإمام الحسين علیه السلام التي قالها قبيل استشهاده بزمن قصير.

فالإمام الحسين عليه السلام يرد على من طلب منه عدم الخروج إلى كربلاء قائلا:

و إذا أقمت مكاني، فبماذا يبتلى هذا الخلق المتعوس، و بماذا يختبرون، و من ذا يكون ساکن حفرتي بكربلاء، و قد اختارها الله يوم دحي الأرض و جعلها معقلا لشيعتنا، و تكون لهم أمانا في الدنيا والآخرة؟!(2).

و لذلك، فالعبارة التي ذكرها المستشرق الإنكليزي (دوایت رونلدسن)، والتي يقول عنها إنها مكتوبة على ضريح العباس عليه السلام في كربلاء، هي عبارة ذات دلالة

ص: 390


1- عبد الله عدنان المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة الثقافة الإسلامية، العدد (50) إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، عدد تموز وآب، 1993، ص44.
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين عليهه السلام على طريق الشهادة، مصدر سابق ص75.

عميقة على معرفة عالم الملأ الأعلى بأحداث الملحمة الحسينية الخالدة.

فالعبارة المنقوشة على الضريح تقول مخاطبة كل زائر لتلك البقعة المقدسة: (لا تتبختر على هذه الأرض التي طالما عفر بها الملائكة والملوك جباههم)(1).

و بالتالي، يمكننا القول إنه مثلما أن الرسل عليهم السلام هم حجج الله على خلقه من خلال رسالاتهم، فالإمام الحسين عليه السلام هو أيضا حجة بليغة لله على خلقه من خلال خروجه و نهضته و طلب الإصلاح في أمة جده صلی الله علیه و آله و سلم.

و من الدلائل القوية على صحة هذا الكلام، هو الحديث الهام الذي تناقلته كتب إخواننا السنة عن جزاء من رأى الحسين عليه السلام في كربلاء و لم ينصره.

فقد روى الشيخ (عرفان بن سليم العشا حسونة الدمشقي) في كتابه (الحسين (رضي الله عنه) حفيدا و شهيدا)، نقلا عن (ابن عساكر الشافعي)، حديثا هاما مرفوعا إلى هرثمة بن سلمي، قال فيه: خرجنا مع علي في بعض غزوه فسار حتى انتهى إلى کربلاء، فنزل إلى شجرة فصلى إليها (أي إلى جانبها)، فأخذ تربة من الأرض فشمها ثم قال: «واها لك تربة ليقتلن بك قوم يدخلون الجنة بغير حساب».

قال: فقفلنا من غزواتنا، و قيل علي، و نسيت الحديث، قال: و كنت في الجيش الذي ساروا إلى الحسين، فلما انتهيت إليه نظرت إلى الشجرة، فذكر الحديث، فتقدمت على فرسي لي، فقلت: أبشرك يا بن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وحدثته الحديث، قال: معنا أو علينا؟ قلت: لا معك و لا عليك، تركت عیالا و...

قال: أما لا، فول في الأرض، فوالذي نفس حسين بيده لا يشهد قتلنا اليوم رجل

ص: 391


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشريعة، مصدر سابق، ص111.

إلا دخل جهنم، قال: فانطلقت هاربة موليا في الأرض حتى خفي علي مقتله(1).

و نحن، بالإضافة إلى صاحب كل عقل سليم و منطق قويم، لا نشك طرفة عين في صدق قول الإمام الحسين عليه السلام : «لا يشهد قتلنا اليوم رجل إلا دخل جهنم»، و ذلك لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، و لأن لقاء الإمام الحسين عليه السلام بالجيوش الأموية الجرارة التي أرسلها يزيد لقتاله، هو صورة مستنسخة عن لقاء الإمام علي عليه السلام مع عمرو بن ود العامري، ذلك اللقاء التاريخي الذي قال فيه رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم قولته المشهورة والتي يعترف بها المفكرون والأدباء المسيحيون مثلما يعترف بها المفكرون والأدباء المسلمون.

إنها العبارة النبوية الخالدة التي تصف خروج الإمام علي عليه السلام إلى لقاء عمرو بن ود العامري: «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»(2).

فالإمام الحسين عليه السلام ، مثله مثل أبيه وجده صلی الله علیه و آله و سلم، إيمان كله، و بالمقابل أيضا، یزید، مثله مثل أبيه وجده، شرك كله، و لذلك، فمن الطبيعي تماما أن يدخل النار كل من شهد الإمام الحسين عليه السلام في محنته و لم ينصره على أهل الكفر والشرك.

والمتعمقون في دراسة شخصية الإمام الحسين عليه السلام و في تحليل مبادئ و خطوات نهضته، يدركون أنه استطاع بفضل إيمانه و صبره و مبادئ نهضته الإنسانية إقامة الحجة الدامغة على أعدائه بشكل يحتم عليهم دخول النار و لقاء مصيرهم الأسود هناك.

فالإمام الحسين عليه السلام، حتى في اللحظات الأخيرة قبل دخول میدان القتال،

ص: 392


1- الشيخ عرفان بن سليم حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص72.
2- نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص129.

يقف أمام جموع جيوش الأعداء و يخاطبهم مذكرا إياهم بهويته و حقيقته عسى أن يعودوا إلى رشدهم و صوابهم و عسى أن ينجوا من إقامة الحجة عليهم.

فها هو عليه السلام يقف في مواجهتهم رافعا صوته بالقول الواضح المبين:

«أنشدكم الله هل تعرفونني؟».

قالوا: نعم، أنت ابن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم و سبطه.

فقال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب علیه السلام؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة بنت رسول الله؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: « أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلام؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة سيد الشهداء عم أبي؟» .

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار في الجنة عمي؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله أنا مُتَقَلِّدُه؟».

قالوا: اللهم، نعم.

ص: 393

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله أنا لابسها؟».

قالوا: اللهم، نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن عليا كان أول القوم إسلامة، و أعلمهم علما، و أعظمهم حلما، و أنه ولي كل مؤمن و مؤمنة؟».

قالوا: نعم.

قال: «فم تستحلون دمي و أبي الذائد عن الحوض يذود عنه رجالا كما يذاد البعير الصادر عن الماء، و لواء الحمد في يد أبي يوم القيامة؟!».

قالوا: قد علمنا ذلك كله و نحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشانا(1).

و بالفعل، و كما سنرى لاحقا، فإنهم لن يتركوه حتى يذيقوه الموت مرارا و مرارا، و ما الموت عطشا إلا ميتة من الميتات التي تفتقت عنها العبقرية الأموية.

و لسنا وحدنا الذين نقول ذلك عن بني أمية، و حكوماتهم الجائرة، بل إن الكثير من المستشرقين يوافقوننا الرأي بشأن تلك المسألة التي باتت من البديهيات عند الجميع.

فالمستشرق الإنكليزي (رینولد ألين نيکلسون) (R. Nicholson) (1868 - 1945)، ذلك المستشرق الذي أتقن اللغتين العربية والفارسية، و برع في دراسة علم التصوف الإسلامي، و كتب كتاب (متصوفو الإسلام) و (تاریخ الآداب العربية) و ترجم (المثنوي) لجلال الدين الرومي، قد کان له وجهة نظر ثاقبة في فهم حقيقة الحكام الأمويين و في فهم و تحليل الأسس التي قامت عليها إمبراطوريتهم الآثمة.

و ها هو يشاطرنا الرأي بشأن بني أمية قائلا: (و كان الأمويون في نظر الدین طغاة

ص: 394


1- الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين قتيل العبرة، دار الذخائر . قم، 1411ه، ص63.

مستبدين لانتهاكهم قوانين الإسلام و شرائعه، و امتهانهم لمثله العليا و وطئها بأقدامهم... و على هذا الأساس يحكم التاريخ، بحق، بإدانة الأمويين (في مصرع الحسين))(1)

و عندما يحدثنا المفكر الفرنسي المعاصر (جان موریون) عن رأي المستشرق الشهير (لويس ماسينيون) (L.Massignon)، الذي عرفنا به سابقا، حول حقيقة الحكومات الأموية المتعاقبة، نستطيع أن نقف على رأي الأستاذ (ماسينيون) بوضوح لا لبس فيه.

فالمستشرق (ماسینیون) الذي أفنى سنوات طويلة من نعمره في دراسة الإسلام و تاريخه، استطاع أن يتوصل إلى الكثير من الحقائق التي تحتاج إلى جرأة في الإعلان.

فالمذهب الشيعي ازداد تألقا و ثباتا بسبب دم أولئك الشهداء من أهل البيت علیهم السلام، والمذهب الشيعي، بالنسبة لماسینیون، بريء من التهم القذرة التي يحاول البعض إلصاقها به للنيل منه و من حملته، و ليس هذا فحسب، بل إن (ماسینیون) قد أفرد مكانا بارزة للفكر الشيعي الذي ينتظر أتباعه مجيء الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف) الذي يحكم بالعدل و ينتقم، بحق، لمجزرة كربلاء(2) و شهدائها الذين قضوا في سبيل الحق والخير والفضيلة.

فالإمام الحسين عليه السلام ، الذي تنبأت و تحدثت كل الملائكة والأنبياء المرسلین عن ملحمته التراجيدية الدامية، كان يمثل دور السفير إلى الجنة، في حين أن یزید بن معاوية كان، بالمقابل، يمثل دور الشيطان الذي هو السفير إلى جهنم

ص: 395


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص64.
2- جان موريون، لويس ماسينيون، مصدر سابق ص72.

و عندما يكون الإمام الحسين عليه السلام السفير إلى الجنة، و يزيد السفير إلى جهنم، فما على المرء إلا أن يختار طريقه الخاص إلى إحدى السفارتين المذكورتين.

و حتى لا يتهمنا أحد من القراء بالابتعاد عن محور بحثنا المتعلق بنبوءات الأنبياء والرسل عليهم السلام بملحمة الحسين و أهل بيته عليهم السلام، نرى من الواجب علينا الآن أن نعود مباشرة إلى محور البحث الأساسي وأن نكمل الحديث عن بقيةالرسل والأنبياء و ما عرفوه عن تلك الملحمة الإنسانية الخالدة.

فالنبي موسى عليه السلام واحد من أنبياء بني إسرائيل، و هو واحد من أولي العزم من الرسل، و قد بعثه الله في بني إسرائيل بعد أن تمادى فرعون مصر في غيه، و علا في الأرض و سفك الكثير من دماء الأبرياء، و دعا الناس إلى عبادته والسجود له(1).

و في أحد الأيام، يذهب أحد الكهان إلى فرعون و يقول له محذرا: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده.

و يجن جنون فرعون، و يأمر شرطته أن يذبحوا كل مولود يولد في بني إسرائيل، فذبح ألوف من الأطفال أمام عيون آبائهم و أمهاتهم، و كان اليوم الذي يولد فيه مولود في بني إسرائيل يوم تعزية و رثاء و يوم حزن و بلاء.

و أراد الله أن يقع ما كان فرعون يخافه و يحذره، فولد موسی بن عمران علی رغم فرعون و جنوده، و لكن الله سبحانه و تعالى أوحي إلى أم موسى أن تضعه في صندوق و تلقيه في النيل و بعد فترة يصل الصندوق إلى قرب قصر الفرعون، فتأخذه زوجة الفرعون و تربيه حتى يصبح شابا، و تشاء الأقدار أن يقتل موسى أحد المصريين عن غير قصد، فيهرب بروحه إلى أرض مدين، و هناك يتزوج موسی من إحدى بنات

ص: 396


1- أبو الحسن الندوي، قصص النبيين، مؤسسة الرسالة . بيروت، ط/20، 1996، ص144.

شعیب، و بعد أن يقضي الأجل، يسير موسى بأهله خارج مدين وسط البرد والظلام، و عندما أراد موسى عليه السلام أن يلتمس لأهله نارا، بدأت معه قصة الوحي والرسالة، و بدأ معه التكليف العملي القائم على إنذار فرعون و إيقافه عند حده، و بعد أن كان ما كان من قصة موسى عليه السلام مع سحرة فرعون و إيمانهم بدعوته و بدء الصراع بين موسی و فرعون ما نتج عنه من هرب موسى علیه السلام بأتباعه و وصولهم إلى شاطئ البحر الأحمر، و لحاق فرعون به و غرقه مع جنوده و انتهاء أمرهم للأبد، تبدأ مشاكل موسی عليه السلام و أخيه هارون عليه السلام مع بني إسرائيل أنفسهم.

و بسبب خذلانهم لموسى و لأخيه موسی علیه السلام و عدم الاستجابة لهما بدخول مدينة (أريحا) لإخراج الحثيين والكنعانيين منها، فإن الله يبتليهم بالتيه في الصحراء أربعين عاما، و لا يخفى على القارئ المطلع أن هناك الكثير من القصص عن موسی و بني إسرائيل، و قد ذكر القرآن الكريم قصصا عديدة من سيرة حياته علیه السلام، كقصته مع الخضر عليه السلام، و قصته مع بقرة بني إسرائيل، و قصته مع قارون، و قصته مع عبدة العجل من بني إسرائيل، و إلى غير ما هنالك من القصص والأحاديث.

و يكفي أن نقول إن العلاقة الروحية الإيمانية بين موسى عليه السلام و أخيه هارون عليه السلام كانت علاقة مميزة قل نظيرها في مسيرة الرسل والأنبياء، و لذلك فعندما أراد الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله و سلم أن يبين للناس مدى عمق العلاقة الإيمانية النورانية بينه و بين الإمام علي عليه السلام ، خاطبه أمام الناس قائلا عند الخروج إلى غزوة تبوك:

«أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»(1).

ص: 397


1- راجع، على سبيل المثال لا الحصر، ما جاء في الكتب التالية عن الحديث المذكور: أ. محمد بن جرير الطبري، تاريخ الطبري، مصدر سابق ج3 ص104. ب. الحافظ الخطيب ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص36. ج. الإمام الشيخ ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مصدر سابق ص42. د. العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق ص28. ه . الإمام العلامة كمال الدين محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول، مصدر سابق ص88. و. محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مصدر سابق ج2 ص301. ز . مسلم بن الحجاج النيسابوري، صحيح مسلم، مطبعة بولاق . مصر، 1292ه. (باب فضائل الصحابة) و قد جاءت روايته بعدة طرق. ح. محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، المطبعة الخيرية بمصر، 1320ه، راجع باب (کتاب بدء الخلق) و قد ورد الحديث بطرق عديدة. ط . الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك الصحيحين، طبع مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية بحيدر آباد دکن، 1324ه، ج2 ص337. ي. مسند الإمام أحمد بن حنبل، مصدر سابق ج 1 ص 173 (رواه بطرق عديدة) ك . الحافظ النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ، مصدر سابق ص14. ل. عبد الرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين، مكتبة غريب. القاهرة، د.ت ج1 ص27. م. أحمد مظهر العظمة، علي بن أبي طالب، مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، طبع عام 1959، ص34. ن. محمد إبراهيم الأحمد، رابع الخلفاء علي بن أبي طالب، دار الرضوان . حلب، 2004، ص 41. س . نصري سلهب، في خطى علي، مصدر سابق ص74.

و يعتبر هذا الحديث النبوي الشريف من أعظم الحجج والأدلة على أن الإمام عليا عليه السلام هو الخليفة الحقيقي والشرعي للرسول صلی الله علیه و آله و سلم، فكما أن موسی استخلف أخاه هارون عليه السلام على قومه من بعده، فكذلك الحال بالنسبة لاستخلاف الإمام علي عليه السلام على أمة محمد صلی الله علیه و آله و سلم من بعده.

و على كل حال، ما يهمنا الآن، هو أن موسى عليه السلام الذي ذاق الأمرين من قومه

ص: 398

هو و أخوه هارون علیه السلام، كان على معرفة بمجيء رسول من بعده يدعى محمدا صلی الله علیه و آله و سلم، و كان على معرفة أكيدة بما سيحدث له و لذريته الطاهرة أيضا.

و قد روي أن موسى عليه السلام كان ذات يوم سائرا و معه يوشع بن نون عليه السلام، فلما دخلا أرض العراق و مرا بأرض كربلاء انخرق نعله، وانقطع شراكه، و دخل الحسك (نوع من الأشواك النباتية الحادة) في رجليه، و سال دمه، فقال: إلهي، أي شيء حدث مني؟

فأوحى الله إليه أن ها هنا يقتل الحسين عليه السلام و هنا يسفك دمه، قال دمك موافقة لدمه.

فقال موسى عليه السلام : «رب، و من يكون الحسين؟».

فقيل له: «هو سبط محمد المصطفی، وابن علي المرتضی».

فقال: «و من يكون قاتله؟».

قيل له: «هو لعين السمك في البحار، والوحوش في القفار، والطير في الهواء».

فرفع موسی یدیه و لعن یزیدا و دعا عليه و أمن يوشع بن نون على دعائه و مضى لشأنه(1)

و بالطبع، ليس نبي الله موسى عیه السلام هو آخر الرسل والأنبياء معرفة بمصير سبط الرسول الأخير صلی الله علیه و آله و سلم إلى الأسرة الآدمية، فهناك أيضا العديد من الرسل والأنبياء الذين

ص: 399


1- راجع: أ. العلامة محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، دار الكتب الإسلامية . طهران، 1365ه، الجزء 44، راجع الباب المخصص بالكامل عن حديث الرسل والأنبياء عليهم السلام عن الحسین علیه السلام ب. توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص10. ج. المنبر الحسيني، مصدر سابق ص30.

عرفوا الكثير من الحقائق عن محمد صلی الله علیه و آله و عن أسرار أهل بيته الأخيار الأطهار علیهم السلام .

فالنبي سليمان الحكيم عليه السلام ، شأنه شأن موسى و إبراهيم و آدم وغيرهم من الرسل و الأنبياء عليهم السلام، كان من العارفين بما ستؤول إليه الأمور في عصر الرسول الأخير صلی الله علیه و آله الذي سيلاقي من قومه ما لم يلقه قبله أي رسول آخر.

و من المعروف عن النبي سليمان عليه السلام أن الله سبحانه و تعالى قد منحه الذكاء و الفطنة، و إصابة الحكم منذ صباه، و قد جمع الله له الملك و الحكم و النبوة.

و من نعم الله عليه أيضا أن الريح الشديدة صارت مسخرة له، تحمل بساطه و تجري بأمره إلى الأرض المقدسة التي بارك الله فيها، فتستغرق وقت الذهاب مسيرة شهر، و مثلها في وقت الرجوع.

و قد ذكر القرآن الكريم أن بعض الشياطين أصبحوا تحت سيطرته و إمرته، فيغوصون له في البحار و يستخرجون اللآلى و الأحجار الكريمة النادرة، و يعملون له العديد من الأعمال الغريبة الأخرى التي يعجز الإنسان العادي عن الإتيان بمثلها.

و قد بين لنا القرآن أيضا أن الله أسال لسليمان (عين القطر) و هو النحاس المذاب(1) و مثلما سخر الله له بعض الشياطين لخدمته، سخر له أيضا الجن ليعملوا له ما يشاء من المباني العظيمة و التماثيل و القدور الكبيرة جدا لصنع الطعام فيها للضيوف و المحتاجين.

و من نعم الله عليه أيضا، علمه بمنطق الطیر عامة، و بمنطق بعض المخلوقات الأخرى، و باختصار شديد، كان سليمان عليه السلام نبيا لا يمكن وصف حاله لكثرة الهبات و النعم الإلهية التي أغدقها الله عليه.

ص: 400


1- علي فكري، أحسن القصص، دار الكتب العلمية ، بيروت، ط5/1975، ج1 ص137.

و قد جاء في الروايات عن هذا النبي العظيم عليه السلام أنه كان في أحد أسفاره جالسا على بساطه و البساط يسير به في الهواء، فمر به البساط فوق أرض كربلاء، فاضطرب البساط، و أدارت الريح بساطه ثلاث دورات، حتى خاف سليمان عليه السلام و من معه السقوط، فسكنت الريح و نزل البساط في أرض کربلاء...

فقال سليمان للريح (و في الحقيقة للملك الموكل بالريح): «لم سکنت؟».

فقالت: إن هنا يقتل الحسين علیه السلام .

فقال: «و من يكون الحسين؟»..

قالت: هو سبط محمد المختار، و ابن علي الكرار.

فقال: «و من قاتله؟».

قالت: لعين أهل السماوات و الأرض یزید، فرفع سليمان يديه و لعنه و دعا عليه، و أمن على دعائه الإنس و الجن، فهبت الريح و سار البساط(1).

و هنا أريد أن أعود و أؤكد على مسألة حساسة لا يمكن تجاوزها أو، على الأقل، تجاوز الإشارة إلى خطوطها العريضة و العامة، إنها مسألة (الرمزية) في الروايات و الأحاديث الدينية.

فمنذ أن أدرك الإنسان ذاته و محيطه، و منذ أن عرف الأنواع البدائية من الفنون و الآداب، و حتى الطقوس و العبادات الخاصة، كان ميالا إلى استخدام الرمز في مختلف فعالياته الفكرية و الروحية، و قد استمرت هذه الحالة معه عبر العصور و الأجيال، و عبر مختلف الديانات الوضعية و السماوية، بما في ذلك الديانة الإسلامية،

ص: 401


1- المنبر الحسيني ، مصدر سابق ص30، و قد جاء في نهاية الرواية أن هذا الحديث مأخوذ عن كتاب (البحار) دون تحديد الجزء، و لكن من المؤكد أن الرواية مأخوذة من الجزء /44/ من الكتاب المذكور لمؤلفه العلامة (المجلسي).

و قد تنبه الكثير من الباحثين في مجال علم دراسة الإنسان (Anthropology) و علم اللاهوت (Theology)، و حتى علم الأساطير (Mythology) إلى الدور الكبير الذي يلعبه الرمز في حياة الإنسان على كافة المستويات، و بشكل خاص المستويين الأدبي و الروحي.

فالرمز يمكن أن يكون حرفا، و يمكن أن يكون رقما أو إشارة، أو حتى لونا، و يمكن للرمز أن يتحول من حالة الحرف إلى حالة النص الكامل سواء في الحديث أو القصة أو المسرحية، و يمكن للإشارة أو اللون أن يتحول من مجرد إشارة مفردة أو لون أصم إلى لوحة فنية كاملة مليئة بحيوية الألوان و الرموز.

و نحن نعلم أن العصر الحديث قد أفرز و بلور العديد من المدارس الرمزية التي تتناول جوانب مختلفة من ميادين العلوم الإنسانية كالرسم و النحت و الشعر و القصة و المسرح، و قد أفرز أيضا بعض التيارات الفكرية و الفلسفية و الروحية التي تميل إلى النزعة الصوفية القائمة أساسا على تقدير الرمز و احترامه و إعطائه القيمة الفكرية الكبرى باعتباره أحد الطرق الأساسية للوصول و الوقوف على الحقائق العليا في الوجود.

و على سبيل المثال، يقول الباحث السوري (صهيب سعران) في كتابه (مقدمة في التصوف): (القرآن و عوالمه اللانهائية كان الأساس الذي قامت عليه الرمزية في الفكر الإسلامي بشكل عام، و الغنوص الشيعي، و من ثم الصوفي بشكل أكثر خصوصية).(1)

و من أجل إزالة أي نوع من الالتباس أو سوء الفهم حول قوة الرمز و تأثيره، ها هو يوضح معنى العمق الروحي و المعرفي للكلمة (الرمز) في القرآن الكريم ذاته، بقوله:

ص: 402


1- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة. دمشق، 1989، ص026

(فالكلمة في الإسلام، مصدر وحي و إلهام، نور يمد قلب المسلم بينابيع الحكمة، إنها طريق وصول إلى عين اليقين لأن القرآن، و هو المصدر الروحي الأكبر للمسلم، هو اللوح المحفوظ الذي حطت عليه الإرادة الإلهية كلمتها، بل إن الإعجاز القرآني الغنوصي احتوى سرية الكلمة في الحرف (مفاتيح السور: آلم، آلر، طسم...)(1).

و انطلاقا من هذه الحقيقة الثابتة، نستطيع القول إن القصص و الروايات العديدة الواردة في القرآن الكريم عن الرسل و الأنبياء السابقين عليهم السلام و عن الأمم و الشعوب الغابرة لها أكثر من عمق في المعاني و الدلالات، و بالتالي، يجب علينا عدم التوقف و الثبات عند المعنى الظاهري لها فقط.

و على كل حال، ربما سيكون لنا عودة ثانية لإكمال الحديث عن هذه المسألة الحساسة و التي هي في حقيقتها جزء لا يتجزأ من علوم دراسة الكلمة القرآنية المخاطبة العقول البشرية على مختلف مستوياتها الفكرية و استعداداتها الروحية.

و حتى لا نسهب كثيرا في الكلام حول هذه المسألة هنا، دعونا الآن نكمل رحلتنا الشيقة و المثيرة لكوامن النفس، تلك الرحلة التي نخترق من خلالها حجب الزمن الغابر کي نلتقي بالرسل و الأنبياء عليهم السلام الذين هم بدورهم اخترقوا حجب الزمن المستقبلي القادم كي يروا و يعلموا ما سيحدث لسبط آخر نبي على وجه هذه الأرض المثقلة بالهموم و الأحزان، و التي لا يزال قابيل يقتل فيها أخاه المظلوم هابيل في كل مكان و زمان.

و ها نحن الآن نقلب صفحات الماضي و نطوي الأيام و الأعوام و القرون، و ها نحن نصل أخيرا بعد طول العناء، و نحط رحالنا قرب نبی کریم من أنبياء الله يدعى

ص: 403


1- نفس المصدر السابق ص25.

(إسماعيل بن حزقیل)، إنه نبي بعثه الله في قومه يدعوهم ليلا و نهارا إلى عبادة الله الواحد القهار و الحليم الغفار، و يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يذكرهم باليوم الذي لا ينفع فيه مال و لا بنون إلا من يأتي الله بقلب سليم.

فماذا كانت عاقبة ذلك النبي في قومه؟

و كيف كان رد فعله على ما قاموا به ضده؟ و كيف واسی نفسه على كل ما لاقاه من قومه الظالمين؟

إن الجواب على ذلك كله موجود عند الإمام الصادق علیه السلام الذي يخبرنا قائلا: «إن إسماعيل الذي قال الله عزوجل في كتابه: «وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ ۚ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا»(1)، لم يكن إسماعيل بن إبراهيم، بل كان نبيا من الأنبياء بعثه الله عزوجل إلى قومه فأخذوه فسلخوا فروة رأسه و وجهه، فأتاه ملك، فقال: إن الله جل جلاله بعثني إليك فمرني بما شئت، فقال: لي أسوة بما يصنع بالحسين علیه السلام»(2).

نَعَم، نِعمَ الأسوة الحسين علیه السلام، ليس للناس العاديين فحسب، بل أيضا لكل الرسل و النبيين، فالحسين علیه السلام مصباح تألقت شعلته في أرض كربلاء، فأضاءت بنورها عوالم السماء.

و ها هو الفكر الإسلامي السني المعاصر يصور هذه الحقيقة المؤكدة بطريقة تراجيدية مهيبة و كأنها جزء من مسرحية كونية كتبتها السماء بقطرات من المطر و الندى، فحولتها الأرض إلى قطرات من الدموع والدماء.

ص: 404


1- سورة مريم: الآية54.
2- الشيخ الصدوق (ابن بابويه القمي)، علل الشرائع، مصدر سابق ج1 ص98.

هذا هو الفكر السني الحر يقول:

و بينما الحسين في سبحاته القدسية و نجواه المائجة بروح الاصطفاء، تبدی لناظريه في وجهة قلبه أطياف يشتملها الرضى و تلفعها نشوة الاغتباط، و هي تبارکه و تشد عزمه و تهيب به إلى الوثبة، الوثبة الكبرى، فهتف مستبشرا:

«رباه! ماذا أرى؟ إنها أطياف جدي المصطفى، و أبي الشهيد، من ورائهما الملائك تدعوني إلى الله، إلى التضحية العظمى».

كان الكبش، في يوم، فداء نبي...

و لكن النبي الأعظم، إنما يكون له الفداء الأعظم...

و حبيب إلى نفسي أن أكون ذلك الفداء...)(1).

ألم يقل الفكر السني المعاصر، و هذه المرة، على لسان العالم الأزهري الفذ (خالد محمد خالد):

إن أهل البيت عليهم السلام جميعا لم يأتوا إلى الوجود إلا من أجل فداء رسالة سید الوجود!!

ألم يقل عنهم أيضأ ذلك القلم النابض بالحب و الوفاء:

(لقد كرسوا حياتهم للحق، أعظم ما يكون التكريس...

و ضحوا في سبيله، أصدق ما تكون التضحية...

... إنهم للتضحية خلقوا.. و للفداء عاشوا..)؟!(2)

فهل هناك أدنى شك أو ريب في هذا الكلام العذب المتدفق من يراع کریم

ص: 405


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص553.
2- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص 20،21.

أخلص الود لأهل المودة عليهم السلام عند حديثه عن معاني البطولة و التضحية و الفداء؟!

فالبطولة عند أهل البيت علیهم السلام ليست فقط أن تحمل السيف و تصرع الأبطال الواحد تلو الآخر، و لا أن تبدد جموعهم و تفتك بهم كما يفتك الأسد القسورة بالفرائس المستنفرة، و لكن البطولة الحقيقية هي أن تسخر قوة السيف من أجل سلامة المبدأ و نبالة العقيدة، البطولة الحقيقية هي أن تثبت على ما أنت عليه من الحق و لو كلفك ذلك خوض اللجج و سفك المهج.

البطولة الحقيقية هي أن تدخل في الحياة على الأرض من الباب الضيق، و من بعده تعرج بروحك عاليا لتدخل أوسع الأبواب في مملكة السماء.

فالسيد المسيح عليه السلاميقول: «ادخلوا من الباب الضيق، فما أوسع الباب و أسهل الطريق المؤدية إلى الهلاك، و ما أكثر الذين يسلكونها، لكن ما أضيق الباب و أصعب الطريق المؤدية إلى الحياة، و ما أقل الذين يهتدون إليها»(1).

و لا نعتقد أن هناك من هو أقدر على معرفة الباب الضيق و الطريق المؤدية إلى حياة الخلود من أهل البيت عليهم السلام الذين كانوا هم، بحقيقتهم، کالباب الضيق أو باب حطة الذي من دخله غفر له، و من استمسك به وثبت على اختياره له فقد تحصن بحصن الله، و من تحصن بحصن الله فقد أمن عذابه، و لذلك، فعند ما نقول و نؤكد على أن أهل البيت علیهم السلام عموما كانوا المثال الأعلى و القدوة الأنبل في البطولة و التضحية و في الثبات على المبادئ و القيم التي ورثوها عن سيد الرسالة و صاحبها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله، فإن ذلك لا يعني أن هذا الكلام هو كلامنا فقط، و إنما هو كلام أولئك الذين درسوا سيرة أهل البيت عليهم السلام و حللوها التحليل الدقيق و المفضل،

ص: 406


1- الإنجيل المقدس، إنجيل متی ج 7 ص 13.

فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من خلاصات و نتائج تتفق جميعها على أنهم علیهم السلام هم أول من رسم طريق الفناء في الله، حيث يكون الفناء في الله هو عين الخلود و البقاء.

و قبل أن ننتقل إلى و احتنا الأخيرة، مع نبي آخر، لنتعرف على نبوءته و معرفته بملحمة الحسين علیه السلام، دعونا الآن نورد شيئا قليلا مما قاله الأديب و المفكر المصري الراحل (أحمد أمين) عن تضحيات و محن أهل البيت عليهم السلام في سبيل الثبات على مبادئ رسالة السماء، و قد أحببنا أن نورد هذه السطور القليلة للأستاذ (أمين) كتأكيد على ما قلناه منذ قليل عن معاني البطولة و الفداء عند أهل بيت النبي المصطفی صلی الله علیه و آله .

و لا أعتقد أن هناك حاجة كبيرة لتعريف القارئ الكريم بالأستاذ (أحمد أمين)، فهو أديب و مفكر مشهور، و لكن لا بأس بتقديم بعض النقاط الضرورية عنه.

ولد أحمد أمين عام (1878)، و تعلم مدة قصيرة في الأزهر، عين مديرا ثقافيا للإدارة الثقافية في جامعة الدول العربية إلى أن توفي عام (1954)، كان من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق و مجمع اللغة في القاهرة، له الكثير من المقالات و الكتب في ميادين مختلفة، من أشهرها: (فجر الإسلام)، (ضحى الإسلام)، (ظهر الإسلام)، (يوم الإسلام)، (قاموس العادات)... و كتب أخرى عديدة.

و من اللافت للانتباه في مؤلفات هذا الكاتب هو التحول الملحوظ في فكره بشأن نشأة التشيع و الفكر الشيعي المرتكز على تعاليم أهل البيت عليهم السلام الرسالية.

فمن المعروف عن هذا الأديب و المفكر أنه كان دائم التحامل على الشيعة و على الفكر الشيعي، بل كان من المتحاملين أحيانا، في بعض كتبه، على أهل البيت ذاتهم علیهم السلام.

و قد ذكر العلامة السيد (محسن الأمين) في كتابه الثمين (أعيان الشيعة) الشيء

ص: 407

الكثير من تحامل هذا المفكر على المذهب الشيعي(1)

و مع ذلك، فقد تغيرت بعض آرائه عن الشيعة في الفترة الأخيرة من حياته، وراح يدافع، في ما يكتب، عن أهل البيت عليهم السلام و عن البعض من حقوقهم و مبادئهم التي عاشوا لها و قضوا من أجلها، حتى لتحسب أن الذي يدافع عنهم اليوم لم يكن مناوئا لهم بالأمس.

و على كل حال، ها هو يصور، بشكل إجمالي، ما لاقاه أهل البيت عليهم السلام، سواء في کربلاء أو في غيرها، من ظلم أموى و عباسي مما لا يطيقه قلب بشر أو تحتمله الفكر، و قد كتب عن ذلك يقول:

(إن الدولتين الأموية و العباسية أخذتا بالعنف و عاملتا هما بأقصى مما يعامل الكفرة الملحدون، فمن حين إلى حين تحدث مجزرة، و لا يكاد يجف منهم دم حتى يسيل دم، و تفتنا في ذلك فقتل و صلب و إحراق و تذرية و إماتة بطيئة في السجون بحرمانهم من النور و الهواء و الأكل و الماء، و كل هذا و أقل منه ما يستنزف الدمع و يذيب القلب)(2).

و بالطبع، و كما ذكرنا منذ قليل، فإن هذه المجازر التي ارتكبت ضد أهل البيت النبوي الشريف عليه السلام لم تكن فيها فاجعة كربلاء الفاتحة و لا الخاتمة، و إنما كانت حلقة من سلسلة من الحلقات الدامية التي تجعل كل يوم من أيامهم کربلاء جديدة متجددة في جراحها و نزيفها.

و إليكم الآن قصة نبي عزيز لاقي من قومه الكثير و الكثير من الظلم و الجور

ص: 408


1- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، مطبعة الإنصاف . بيروت، ط4،1960، ج1 ص89.150.
2- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم . بیروت، 1982، ص69.

و الهوان حتى لتحسبه هو و ابنه الغالي الحبيب، و ما لاقاه هو أيضا من نفس القوم، نسخة ثانية مما لاقاه رسول الله صلی الله علیه و آله و أهل بيته الكرام علیهم السلام من قومهم.

فمن منا لم يسمع بنبي الله زكريا عليه السلام و بابنه النبي يحيى عليه السلام ؟!

و من منا لم يقرأ في القرآن الكريم تلك الآيات المباركات التي تصفهما و تصف فيهما الزهد و التقوى و الإيمان؟!

و لكن، هل كلنا يعلم قصة هذين النبيين الكريمين و ما حدث معهما في قومهما؟!

و هل هناك من يعلم ما علاقة هذين النبيين برسولنا الكريم صلی الله علیه و آله و بابنه الحسين علیه السلام؟!

و للإجابة على هذه الأسئلة، دعونا نلقي الضوء على المختصر المفيد من سيرة هذين النبيين الكريمين عليه السلام وعلى ما حدث معهما في قومهما.

فمن المعروف عن النبي زكريا عليه السلام أنه ابن (برخیا) و هو من ذرية النبي سليمان عليه السلام ، و كان زكريا عليه السلام الحبر الكبير في بني إسرائيل، و هو الذي يقرب القربان في بیت المقدس، و يتلو عليهم التوراة، و كان متزوجا من امرأة فاضلة هي أخت (حنة) زوجة (عمران بن ماثان) أحد كبار بني إسرائيل، و كانت(حنة) قد حرمت الولد حتى يئست، فتوسلت إلى الله الكريم أن يمن عليها و يرزقها ولدا، و قد نذرت لله أن المولود المنتظر سيكون مكرسا لعبادته و خدمته وحده سبحانه و تعالى، فاستجاب الله لها و أصبحت حاملا، و لكن توفي زوجها (عمران بن ماثان) و هي حامل، فلما وضعت (حنة) حملها، كان مولودها أنثى و لم يكن ذکرا، و مع ذلك: فقد بقيت (حنة) محافظة على نذرها و أرادت أن تفي لله به. أخذت (حنة) ابنتها الصغيرة التي أسمتها (مریم) إلى الأحبار من أبناء (هارون) و قالت لهم: دونكم هذه المولودة التي نذرتها لله، فما كان

ص: 409

منهم إلا التنافس على الفوز بها و تربيتها التربية اللائقة لأنها بنت إمامهم و كبيرهم و صاحب قربانهم.

فلما ألقوا أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة ارتفع قلم زکریا علیه السلام فوق الماء ورسبت أقلامهم، عندئذ أخذها زکریا علیه السلام و ضمها إلى خالتها. أي زوجته. و رباها أحسن تربية حتى كبرت و بلغت ما تبلغه النساء، و حتى يكتمل نذر والدتها (حنة)، فقد بنى لها زکریا علی السلام محرابا خاصا، فاعتكفت فيه و صارت تتعبد الله ليلا و نهارا، و لم يكن يدخل عليها أحد غير زکریا علیه السلام .

و لما رأی زکریا علیه السلام من کرامات (مریم) علیها السلام ما رأي، و كان قد بلغ من العمر قرابة مئة و عشرين سنة(1)، و لم يرزقه الله ولدا من امرأته العاقر (أليصابات)، دعا ربه أن يرزقه من زوجته ذرية طيبة مباركة.

و دعا زکریا علیه السلام ربه دعاء خفيا لا علنيا، و قد أخبرنا القرآن الكريم بدعائه الخفي و ماذا قال فيه، و كان من جملة ما نادى به ربه هو: یا رب لقد و هن عظمي، و اشتعل الرأس شيبا، و إني أخاف بني عمي و عصبتي من بعدي أن يرثوني بعد حياتي فلا يحسنون خلافتي، فامنحني يا إلهي من فضلك وليا من صلبي يخلفني و يرثني و يرث من آل يعقوب العلم و النبوة (لأن زكريا عليه السلام كان من ذرية يعقوب علیه السلام).

فاستجاب الله سبحانه و تعالى له و بشره بغلام من زوجته العاقر (أليصابات)، و أوحى إليه إنا نبشرك بغلام اسمه (یحیی) لم نجعل له شبيها و لم يسم باسمه أحد من قبل، و سيكون أيضا سيد القوم حليما تقيا، و من الأنبياء الأطهار الصالحين.

و بالفعل، و بعد فترة و جيزة من الزمن، تبين أن (أليصابات) حامل، و أنها ستلد ما

ص: 410


1- علي فكري، أحسن القصص، مصدر سابق ج 1 ص 162.

كان زكريا عليه السلام يرجوه و يتمناه، و بعد ستة أشهر من بدء حملها يأتي يحيي علي فيكون قرة عين لأبويه و خليفة لوالده العظيم، فيضطلع بأعباء الدعوة إلى الله، و تظهر عليه آثار النجابة منذ الصغر، و يؤيده الله سبحانه و تعالى بالعلم و قوة الحكم بكتاب التوراة، و يمتاز عن أقرانه أيضا بالبر بوالديه و بالحب و الحنان و الصلاح و التقوى و هو ما يزال شابا في ميعة الصبا.

أما عن قصة استشهاد هذا النبي، فهناك إجماع عام بين الروايات التاريخية على طريقة و أسباب مقتله، و لكن هناك بعض الاختلافات في بعض النقاط التفصيلية التي تتعلق بالعمل الذي قام به الحاكم الآثم في المدينة التي كان يقطنها يحيى عليه السلام ، فهناك من يقول إن الحاكم الروماني (هيرودس) المسؤول عن ولاية منطقة (اليهودية) في فلسطين القديمة وقع في غرام زوجة أخيه (فيليبس) - و تدعی هیرودیا ۔ فأغواها و زنی بها.

و هناك رواية ثانية تقول إنه وقع في غرام ابنة أخيه، أما الرواية الثالثة فتروي أنه وقع في غرام ابنة شقيقته (هیرودیا) و على الرغم من أننا لا نستطيع أن نرجح رواية على أخرى، إلا أننا نورد هذه القصة التي كل ما يهمنا منها هو العبرة من خاتمتها.

و تقول هذه الرواية، و باختصار شديد، إن عیسی ابن مریم علیه السلام بعث یحیی بن زکریا علیه السلام في اثني عشر من الحواريين يعلمون الناس و ينهونهم عن نكاح ابنة الأخت، و كان هناك ملك من الرومان في بعض نواحي فلسطين يدعى (هیرودس) وقع في غرام ابنة أخته (هیرودیا)، و كان يريد أن يتزوجها، فلمابلغ أمها (هیرودیا) أن يحيى عليه السلام نهى عن مثل هذا الزواج، أضمرت له في نفسها شرا مستطيرا، و سخطت عليه سخطا عظيما، و بعد مدة من الزمان هیأت (هیرودیا) ابنتها (سالومي) و قالت لها:

ص: 411

أريد أن آتي بك إلى الملك، فإذا واقعك و نال مراده منك، سيسألك عن حاجتك، فقولي له: حاجتي أن تذبح یحیی بن زکریا، و بالفعل، فقد حدث ما قالته الأم (هیرودیا)، و لكن الملك امتنع في بداية الأمر، لكنه سرعان ما استجاب لطلبها طمعا في إرضائها و الفوز الدائم بجمالها، فأمر بطشت ثم دعا یحیی بن زکریا علیه السلام إلى قصره، و ما هي إلا لحظات حتى ذبح يحیی کما تذبح الخراف و امتلأ الطشت بدمه، و سقطت قطرة من دمه على الأرض، فلم تزل تفور و تعلو حتى بعث الله (بختنصر) عليهم، فقتل منهم سبعين ألفا حتى سكن ذلك الدم(1).

و هنا، علينا أن نعلم أن زكريا عليه السلام ذلك النبي الصابر الذي دعا الله صباحا و مساء من أجل أن يرزقه الله ولدا تقر به عينه، قد سمع بما فعله الملك الآثم بابنه الوحيد يحيى عليه السلام ، و لم يتوقف ذلك الأمر المرير عند ذلك الحد، بل إن المأساة قد امتدت بمرارتها لتصل إلى زکریا عليه السلام نفسه، فبعد سماع زكريا عله السلام بفاجعة ابنه الوحيد یحیی علیه السلام، فر هاربا من سطوة الملك، فدخل بستانا عند بیت المقدس فاكتشف الملك أمره و أرسل في طلبه، و قتله فورا، فقضى نحبه بعد طول السنين شهيدا كابنه الحبيب يحيى عليه السلام (2).

و من المؤكد أن هذه القصة المؤثرة عن التبيين الشهیدین زکریا عليه السلام و يحيى عليه السلام ستقودنا إلى السؤال التالي:

ما علاقة هذه القصة الحزينة بقصة كربلاء، و ما علاقة زکریا عليه السلام و ابنه يحيى عليه السلام بمحمد المصطفى صلی الله علیه و اله و ابنه الحسین علیه السلام؟!

ص: 412


1- السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، دار البلاغة . بيروت، ط 1993/2 ، ص430.
2- علي فكري، أحسن القصص، مصدر سابق ج1 ص167.

و ربما يقودنا هذا السؤال إلى سؤال آخر لا يقل عنه أهمية، و هو:

كيف رزق الله سبحانه و تعالى النبي زكريا عليه السلام ولدا بعد أن تجاوز عمره المئة و العشرين عاما، و كانت زوجته عاقرا، و لماذا فجعه الله به بعد أن رزقه إياه؟!

إنها، بلا ريب، أسئلة حساسة تتطلب الإجابة عليها بشكل يؤكد فعلا وجود علاقة قوية بين مأساة زکریا و یحیی من جهة و مأساة محمد و الحسين من جهة أخرى.

و للوقوف على الجواب الشافي على كل هذه التساؤلات المنطقية، علينا أن نقرأ ما جاء في كتاب (الاحتجاج) للعلامة (الطبرسي)، و في غيره من الكتب المعتبرة الأخرى.

و قد جاء في تلك الكتب أن سعد بن عبد الله سأل الإمام المهدي القائم المنتظر(عجل الله تعالی فرجه الشریف) عن تأويل قوله تعالى: (كهيعص)، فقال الإمام القائم علیه السلام:

«هذه الحروف من أنباء الغيب، أطلع عليها عبده زکریا ثم قصها على محمد صلی الله علیه و آله ، و ذلك أن زکریا علیه السلام سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة، فأهبط الله عليه جبرائیل فعلمه إياها، فكان زكريا إذا ذکر محمدا صلی الله علیه و آله و عليا و فاطمة والحسن عليهم السلام سری عنه و انجلی کربه، و إذا ذكر الحسين علیه السلام خنقته العبرة و وقعت عليه البهرة - أي صعوبة الزفير - و تابع التفس، فقال (زکریا) عليه السلام ذات يوم: إلهي، ما بالي إذا ذكرت أربعة منهم تسليت بأسمائهم من همومي، و إذا ذكرت الحسين علیه السلام تدمع عيني و تثور زفرتي، فأنبأه الله تعالى عن قصته فقال: (كهيعص)، فالكاف اسم کربلاء، و الهاء هلاك العترة، و الياء يزيد و هو ظالم الحسين علیه السلام ، و العين عطشه، و الصاد صبره، فلما سمع بذلك زكريا عليه السلام لم يفارق مسجده ثلاثة أيام و منع فيهن الناس من الدخول عليه

ص: 413

و أقبل على البكاء و النحيب»(1).

و بالطبع، ليس هذا كل شيء بالنسبة لنبي الله زکریا علیه السلام، بل إن زکریا علیه السلام کان يرثي لحال الحسين علیه السلام و لحال جده المصطفی صلی الله علیه و آله ، خير الأنبياء و آخرهم.

و من خلال معرفتنا بالدعاء الذي كان ينادي به زکریا علیه السلام ربه، نستطيع أن ندرك لماذا رزقه الله سبحانه و تعالى على كبر سنه ولدا نبيا تقر به عينه ثم ما لبث أن فجعه به بطريقة مأساوية مؤسفة تتفطر لذكرها القلوب.

و ها هو الإمام القائم المنتظر عليه السلام يتابع كلامه مخاطبا سعد بن عبد الله و شارحا له طبيعة الدعاء و الرثاء الذي كان يخاطب به زکریا علیه السلام ربه:

«كان (زکریا) يرثيه و يقول: إلهي، أتفجع خير خلقك بولده؟ إلهي، أتنزل بلوی هذه الرزية بفنائه؟ إلهي، أتلبس عليا و فاطمة ثياب هذه المصيبة؟ إلهي، أتحل کربة هذه المصيبة بساحتهما؟ ثم كان يقول: إلهي ارزقني ولدا تقر به عيني على الكبر، فإذا رزقتنيه فافتني بحبه، ثم افجعني به كما تفجع محمدا حبيبك بولده، فرزقه الله يحيي عليه السلام و فجعه به، و كان حمل يحيى عليه السلام ستة أشهر، و حمل الحسين علیه السلام كذلك»(2)

ص: 414


1- راجع ما جاء في: أ. أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مؤسسة الأعلمي . بيروت، 1983، ج2 ص 464. ب. السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، مصدر سابق ص428. ج. توفيق فتح الله، عاشوراء و كلمات خالدة، مصدر سابق ص11.
2- راجع أيضا ما جاء في : أ. أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مصدر سابق ص464. ب. السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، مصدر سابق ص428. ج. توفيق فتح الله، عاشوراء وكلمات خالدة، مصدر سابق ص12.

و هنا، و قبل أن نختتم هذا الفصل المؤثر بكل ما فيه من نبوءات و أحزان نبوية کربلائية، أريد من القارئ الكريم أن يعود مرة ثانية و يقرأ ما جاء في دعاء نبي الله زکریا عليه السلام و أن يتأمله جيدا و يفكر فيه مليا، عسى أن تسقط من عينيه دمعة أو دمعتان تمنعان حر النار أن يمس وجهه يوم نصب الميزان و لقاء الرحمن.

ألا تعتقد معي ياصديقي القارئ أن القلوب التي تحترق اليوم على الأرض كالشموع بنار الصبر و العشق ستصبح غدا أنوارا بلا نار في سماوات کشف بلا استتار؟!

ألا تعتقد معي، أيضا، أن هناك نيرانا لا تطفئها كل مياه البحار و المحيطات، و لكن تطفئها فقط دموع العاشقين الصابرين؟!

فها قد رحل الليل و تنفس الصباح و ما علينا إلا أن نمسك عن الكلام المباح.

ص: 415

صور من الفاجعة الرهيبة

يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الشريف: ... «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَ مَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»(1)

فما هو الشيء الجوهري الذي يمكننا أن نفهمه من هذه الآية القرآنية المباركة؟!

إن أبسط ما يمكن أن نفهمه من هذه الآية المباركة هو أن الرحمة عمل من عمل الرحمن، في حين أن القتل أو العنف عمل من عمل الشيطان، فكل عمل مرتبط بالعنف لسبب غير معقول إنسانيا هو عمل يسير، بلاشك، على نهج شيطاني لاعلى نهج رحماني.

بل كيف لا يكون ذلك العمل عملا شیطانيا، و الله يدعونا دائما للسلم و الرحمة و المحبة، حتى أنه عز وجل قد أسمى نفسه (السلام) و وصف نفسه أيضا في مبدأ كل سورة من سور كتابه الكريم ب (الرحمن) و(الرحیم)؟ و هل الرحمة غير السلام و المحبة ؟!

فمسألة العلاقة بين السلم و العنف، بين الرحمة و النقمة، بين الإحياء و القتل، هي علاقة واضحة المعالم في الفكر الإسلامي عموما و في فكر أهل البيت عليهم السلام خصوصا، إذ أنها علاقة تستمد وجودها من عمق الآداب الإلهية و الأخلاق الرسالية.

ص: 416


1- سورة المائدة: الآية 32.

و من هنا نقول، إن الحديث عن فاجعة كربلاء، بل عن كل الفجائع التي أصابت أهل البيت علیهم السلام، لابد أن يمر عبر مفهوم السلام في الإسلام، فالإسلام بحقيقته الروحية و بمنظومته الأيديولوجية قائم على الحوار بالكلمة الطيبة و الحجة البينة و مهما حاول البعض من المستشرقين أن ينالوا من سماحة الإسلام و من رسالته الإنسانية، فإن تلك المحاولة لا تعدو كونها زوبعة في فنجان.

فالكثير من المفكرين و الأدباء، و معظم المستشرقين أيضا، حاولوا أن يكتبوا عن إنسانية محمد صلی الله علیه و آله و عن رسالته السمحاء بأسلوب نزيه و بعيد عن التعصب للقوميات أو للدين المسيحي الذي ينتمون إليه في بلدانهم الغربية المختلفة، و لو لا ضيق المجال هنا، لأورد العشرات من الأمثلة المختلفة للتأكيد على مصداقية ما نقول.

و أنا أعرف الآن أن هناك من القراء من يتساءل قائلا: و ما علاقة هذا الحديث بالحديث عن عنوان هذا الفصل (صور من الفاجعة)؟!

و يمكننا الإجابة على هذا السؤال المحتمل بالقول: إن حديثنا الآن عن إنسانية محمد المصطفی صلی الله علیه و آله و عن رسالته هو بداية الكلام عن تلك الفاجعة المليئة بالصور المؤثرة.

و قد علمتني القراءة، شخصيا، أنه على الذي يريد أن يوصل فكرة ما إلى أذهان الناس، عليه أولا أن يحدثهم عن نقيضها، فالمفاهيم و الأفكار و حتى الكثير من المفردات في الوجود لا يمكن أن تعرف حق معرفتها إلا من خلال نقيضها أو ضد ها.

فعند ما أتحدث عن النور و صفاته، لابد أن أتحدث أيضا عن الظلمة و صفاتها، و عندما أتحدث عن اللون الأبيض و عن رمزه (الثلج) مثلا، فمن الأفضل أن أتحدث بنفس الوقت عن اللون الأسود و عن رموزه أيضا، و هكذا، فالكلام عن الجنان

ص: 417

الخضراء يستلزم الكلام عن الصحراء، و الكلام عن الجنة يتطلب الكلام عن جهنم، و الحلم عن اليقظة، و الحياة عن الموت، و هكذا إلى ما هنالك من متناقضات و أضداد في هذا الوجود.

و لكن من الممكن أيضا أن تتبادر إلى ذهن كل واحد منا هذه الفكرة الأصيلة:

إذا كنا نحن متأكدين من حقيقة أن الإسلام دين السلام، فمن أين ولد العنف في الإسلام، و من أين جاءنا هجوم بعض المستشرقين علينا و إلصاق تهمة عطش الإسلام الدائم إلى القتل و النهب و سفك الدماء البريئة ؟!

في الواقع، هناك فرق كبير و فجوة عظيمة بين ثقافة الإسلام و ثقافة المسلمين، فالإسلام - كما يقول عنه المفکر السويسري (مارسيل بوازار) في كتابه (إنسانية الإسلام) - هو دين قائم على احترام حقوق الإنسان، باعتبار أن (الإنسان يمثل جوهر الإسلام).(1)

و هذا يعني أن الإنسان في الشريعة الإسلامية هو الغاية من هذا الوجود الذي أفاضه الله سبحانه و تعالى، فكل ما في الوجود خلق من أجله هو، أما هو فقد خلق ليتذكر، و يتعلم، و يعمل، و يتعبد لمن كان السبب في وجوده.

و لكن للأسف، فقد افترقت ثقافة الكثير من المسلمين عن ثقافة الإسلام منذ اللحظات الأولى لغياب الرسول الكريم صلی الله علیه و آله، و قد أوضحنا في فصل سابق کيفية حدوث الكثير من الانتهاكات الفاضحة لحقوق الإنسان في العصر الراشدي و ما بعده، و أوضحنا أيضا كيف أن حادثة كربلاء المفجعة هي من الناحية النظرية وليدة حادثة

ص: 418


1- مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: د. عفيف دمشقية، دار الآداب . بیروت، 1980، ص99.

السقيفة المشؤومة، و لكن يرى البعض أن حادثة كربلاء، و هذه المرة من الناحية العملية، هي ثمرة الثقافة الإسلامية المزيفة التي أوجدها و اعتنقها بعض كبار الصحابة من المسلمين و التي انعكست سلبا في علاقتهم مع ذاتهم و مع الآخرين.

و على سبيل المثال، يؤكد المستشرق الهولندي (فان فلوتن) (Van Vloten) في كتابه (السيطرة العربية) على أن الذين قاموا بفتوحات عسكرية تحت اسم الفتح الإسلامي لا يمكن اعتبار ما قاموا به انتصارا روحيا لدعوة ما، و لكنه كان يمثل احتلالا مسلحا ما لبث أن تبلور بوضوح في سلوك الخليفة الثاني عمر و تصعيده الحركة الفتوح)(1).

و يعني هذا الكلام من المستشرق (فلوتن) أن المسلمين الأوائل لم يكونوا - برأيه - على مستوى لائق من الثقافة الروحية التي تؤهلهم للتفاهم بالكلمة الطيبة مع بقية الشعوب التي غزوها، و بالتالي، فقد كانت لهم ثقافتهم الخاصة التي قامت على تبرير الحروب التي يشنونها تحت شعارات مختلفة و غايات شتى.

و على كل حال، ما أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إليه هو أن المستشرق (فلوتن) له آراؤه الخاصة بالكثير من القضايا الإسلامية، و لا يعني استشهادنا ببعض أقواله إخراجه من دائرة بعض المستشرقين المتعصبين، فعنده العديد من الآراء و وجهات النظر الغريبة التي لا نتفق معه بشأنها بأي حال من الأحوال.

و لكن، و مهما يكن من أمر، فإنه لا يمكننا أن نتجاوز فكرة التعدي على العديد من الأفكار و الثوابت الإسلامية الإنسانية من قبل بعض كبار الصحابة، و هذا الكلام، و كما ذكرنا سابقا، ليس من عندنا، بل هو كلام وارد في كتابات و مؤلفات الكثير من الباحثينفاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث

ص: 419


1- فان فلوتن، السيطرة العربية، مصدر سابق ص77.

و المفكرين الذين لهم باع طويل في دراسة و تحليل صفحات و أحداث التاريخ الإسلامي من جهة، و في دراسة و تحليل سيرة الشخصيات الإسلامية البارزة من جهة أخرى.

فالمفكر و الباحث المسيحي (سلیمان کتاني)، الذي تجاوزت مؤلفاته حول الإسلام العشرين مؤلفا تقريبا، يرى أن هناك فارقا كبيرا بين ثقافة الرسالة الإسلامية و بين ثقافة المسلمين من بعض الصحابة، و يرى هذا الباحث أنه في الوقت الذي استطاعت فيه الرسالة الإسلامية إثبات جوهرها الإنساني، حاول بعض كبار الصحابة، و على رأسهم عمر بن الخطاب، أن يعيد الروح القبلية و الجاهلية إلى المسلمين و ذلك عن طريق تمهيد الخلافة لصاحبه أبي بكر مع معرفته الكاملة أن صاحبه لن ينسی له ذلك الصنيع و سوف يعيد الخلافة إليه عند أول فرصة سانحة له بذلك، (1)و قد اعتبر الأستاذ (كتاني) أن هذا التصرف من هذين الصحابيين التفاف واضح منهما على ثقافة السماء التي قضت بالفعل أن تكون الخلافة الشرعية الحقة في علي عليه السلام و أبنائه الكرام من السيدة فاطمة عليها السلام.

و حتى المستشرق اليهودي المعروف (ليوبولد فايس)، و الذي تظاهر بالإسلام لاحقا، أكد أيضا على الفجوة الموجودة بين ثقافة السماء و ثقافة بعض الصحابة التي كانت على نقيض مع ما أرادته ثقافة السماء، فالأستاذ (فايس) يقر بخلود رسالة الإسلام و بانفتاحها الكلي أمام العقل الإنساني و ذلك من خلال ما تختزنه من كنوز و حكمة في القرآن الكريم.(2)

ص: 420


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص44.
2- ليوبولد فايس (محمد أسد)، منهاج الإسلام في الحكم، مصدر سابق ص60.

و لكن بنفس الوقت، يرى ذلك المستشرق اليهودي أن الصحابي عثمان بن عفان قد وقع في تصرفات كانت و خيمة العواقب و قد انعكست لاحقا بشكل سلبي على وجه التاريخ الإسلامي.(1)

و هذا ما يؤكد على أنه انتهج نهجا خاصا انحرف به عن الصراط المستقيم إلى مسالك أخرى أودت به و بالأمة لاحقا إلى المهالك و الضعف و التفكك، و على ما يبدو، فإن رأي الأديب و المفكر المصري الشهير الدكتور (طه حسين) لا يختلف كثيرا عن رأي المستشرق الهولندي (فلوتن) بشأن ابتعاد عثمان بن عفان عن ثقافة السماء مما تسبب بضعفه و انهياره، غير أن رأي الدكتور (طه حسين) جاء بطريقة جريئة بعيدة عن الأسلوب الدبلوماسي و عن المحاباة، فقال في وصفه لعثمان: (كان عثمان يقاد كالثور.(2)

إذن، إن ابتعاد بعض كبار الصحابة عن ثقافة الرسول صلی الله علیه و اله و الرسالة، و انتهاجهم نهجا شخصيا خاصا بهم مبنيا على رواسب الثقافة و الأعراف القديمة، جعل منهم و من أعمالهم . كما يقول عنهم من درسهم - السبب المباشر لتبرير أعمال العنف التي يمارسها بعض المسلمين منذ ذلك التاريخ و حتى يومنا الحاضر، هذا بالإضافة إلى أنهم هم السبب المباشر أيضا في غياب روح الشورى، أو الديمقراطية، في حكومات الأمس و اليوم بعد كل ما قام به أولئك الصحابة الكبار من تجاوزات واضحة في هذا المجال، كما يقول و يؤكد على ذلك بعض الدارسين و الباحثين(3).

ص: 421


1- نفس المصدر السابق ص110.
2- السيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، مطبوعات مكتبة النجاح . القاهرة، 1979، ص198.
3- خليل عبد الكريم، قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية، مصدر سابق ص 12.11.

إذن، من هناك، منذ ذلك التاريخ، و منذ حدوث تلك التجاوزات الخطيرة التي كانت على حساب قيم و مبادئ الرسول الكريم صلی الله علیه و آله و على حساب تعاليم رسالته الإنسانية السمحاء، بدأت المجازر و بدأ العنف، و غدا سفك الدماء يتحول من ظاهرة فردية شاذة و عابرة إلى ظاهرة جمعية عامة و طبيعية تغذيها أيديولوجيا دموية قوية قائمة على الإقتداء بما فعله الآباء و الأجداد الأولون من قتل و تغييب للكثير من المفاهيم و القيم الإسلامية الإنسانية الراقية.

و من تلك التجاوزات العملية الخطيرة بدأت المأساة تنسج خيوطها السوداء القوية حول كل ما يتعلق بأهل البيت عليهم السلام، فالهدف الأول هو أهل بيت النبي علیهم السلام و ما يحملونه من أفكار رسالية تمثل العمق الروحي و الأفق الأيديولوجي لفكر الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله ، لقد غاب الرسول صلی الله علیه و آله عن الساحة، و رحلت ابنته العزيزة فاطمة عليها السلام متأثرة بجراحها، و قتل الإمام علي عليه السلام غيلة في مسجد الكوفة، و لم يسلم الإمام الحسن عليه السلام من المكيدة الأموية التي قضت بالتخلص منه بجرعة من السم النقيع عن طريق زوجته جعدة بنت الأشعث، فهل بقي من أهل البيت عليهم السلام و من أهل الكساء من أحد؟!

لا، لم يبق أحد من أعمدة أهل البيت المطهرين من الرجس إلا الإمام الحسين علیه السلام الذي ستستمر رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله من خلاله و من خلال ذريته الطاهرة.

و لأنه لم يبق من أهل الكساء و من أهل المباهلة إلا الإمام الحسين علیه السلام، ريحانة جده الرسول صلی الله علیه و آله، فمن الواجب القضاء عليه فورا قبل أن يكون قادرا على نقل أفكاره و مبادئه النهضوية إلى ابنه الصغير الإمام علي زين العابدین علیه السلام .

و بالفعل، ها هي الغيمة السوداء تقبل مكفهرة، كالحة الوجه، محمولة على

ص: 422

أجنحة الريح الصفراء العاتية میممة وجهها شطر أرض كربلاء المقدسة، أرض العزة و الكرامة، أرض الإيمان المعجون بالدماء و الدموع و الآهات و التراب الحزين.

و ها هي بعض الصور الفجائعية المؤثرة التي خلفتها تلك الغيوم المكفهرة الغاضبة و الرياح العاتية التي ولدت من رحم الإعصار الأموي الدامي الهادف إلى اقتلاع الإسلام من جذوره في أرض الذبائح المقدسة.

و غني عن القول إن التسلسل الزمني للأحداث و الصور المؤثرة ليس مهما هنا، فالشيء المهم هو الحدث ذاته و الصورة ذاتها، أما السياق الزمني فيعتبر غير ذي أهمية في هذا المجال، و ها نحن الآن نبدأ بعرض بعض هذه الصور معتمدين في ذلك، و كما هو واضح من مقدمة كتابنا، على المراجع الفكرية المعاصرة.

و دعونا نبدأ الآن، أيها الأحبة، مع قصة توبة (الحر بن یزید الرياحي) أحدأعظم القادة في الجيش الأموي القادم لسحق الحسين علیه السلام و محو ذكره إلى يوم الدين، فما هي قصة توبة ذلك القائد الأموي الكبير؟! .

تبدأ قصة هذا القائد القوي و الخطير عندما كان من أوائل المعادين المعاندین للإمام الحسين علیه السلام ، فبعد أن كان من أوائل الذين كاتبوا الإمام الحسين علیه السلام و راسلوه من أجل الخروج و المجيء إلى كربلاء، عاد و أنكر أمام الحسين علیه السلام أنه قد بعث إليه بأي رسالة، بل و فوق ذلك راح يجند نفسه لخدمة قادة الجيش الأموي طمعا ببعض المكاسب و المناصب.

و بالفعل، يحظى الحر بمرتبة لا بأس بها في جيش عبيد الله بن زیاد مما يدفع با بن زیاد إلى إرسال کتاب إليه يأمره فيه بمراقبة الحسين علیه السلام قبل وصول موكبه إلى کربلاء، و يأمره أيضا بالتضييق عليه و إزعاجه في كل خطوة يخطوها.

ص: 423

و عندما يلتقي الإمام الحسين علیه السلام بالحر بن یزید الرياحي وجها لوجه، يدور بينهما حديث قصير يفهم من خلاله أن الحر لن يترك الإمام الحسين علیه السلام طليقا، بل إنه مأمور بأخذه إلى عبيد الله بن زیاد، فيرفض الإمام الحسين علیه السلام ذلك الطلب رفضا شديدا و يبقى ثابتا على موقفه مع معرفته التامة بمدی حساسية الموقف.

و تتسارع الأحداث تباعا، و ما هي إلا فترة و جيزة حتى يتقابل الجيشان وجها لوجه، فجيش الإمام الحسين علیه السلام لا يتعدى السبعين شخصا إلا قليلا، و منهم النساء و الأطفال و الشيوخ، في حين أن جيش يزيد قد تجاوز عدده الأربعة آلاف مقاتل شرس، و تذهب بعض الروايات إلى أنه كان أكثر من ذلك بكثير.

و هنا يدرك الإمام الحسين علیه السلام أنهم لن يقبلوا منه ما يدعوهم إليه من إصلاح و عودة لأسس و منهاج الإسلام القويم، و لن يقبلوا منه أيضا طلب العودة سالما مع أهله و صحبه إلى المكان الذي جاء منه، فالشيء الوحيد الذي سيقبلون به هو الاحتكام إلى منطق السيف ولغة النار.

و عندما أدرك الإمام الحسين علیه السلام كل هذا، كان لابد أن يقف محذرا و مذكرا و مقيما الحجة على من لا حجة لهم عليه، فالبرهان و الإيمان هما سلاح الإمام الحسين علیه السلام أمام هذه الحشود التي ما جاءت إلا لتفتك به و بأهله و أتباعه، و بالتالي التطلق رصاصة الخلاص على قلب الرسالة الإسلامية و جوهرها الثمين.

و ها هي كتب إخواننا المسلمين السنة و المسيحيين تسجل تفاصيل ذلك الموقف الرهيب و كيف كانت عاقبة القائد الحر بن یزید الرياحي قبيل اندلاع المعارك.

تذكر تلك المؤلفات و الأبحاث المعاصرة أن الإمام الحسين علیه السلام وقف في تلك اللحظات الحاسمة محيلا طرفه بين الحشود المدججة بالسلاح، فحمد الله و أثنى

ص: 424

عليه، ثم خاطبهم قائلا:

«أما بعد، فانسبوني فانظروا من أنا، ثم راجعوا أنفسكم فعاتبوها و انظروا، هل يصلح و يحل لكم قتلي و انتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم، و ابن وصيه و ابن عمه و أولى المؤمنين بالله؟ أولي حمزة سيد الشهداء عم أبي؟ أوليس جعفر الشهيد الطيار في الجنة عمي؟ أولم قول مستفيض أن رسول الله صلی الله علیه و آله قال لي و لأخي: أنتما سيدا شباب أهل الجنة و قرة عين أهل السنة؟ أما في هذا حاجز يحجزكم عن سفك دمي؟».

فلما لم يلق القوم إليه سماعهم، قال:

«فإن كنتم في شک مما أقول، أو تشكون في أني ابن بنت نبيكم، فوالله ما بين المشرق و المغرب ابن بنت نبي غيري».

فلم يجبه منهم مجيب، و استطرد يسأل:

«أتطلبون بقتيل منكم قتلته، أو بما استهلكته، أو بقصاص من جراحة؟».

فسكتوا لا يحيرون جوابا... فتمزقت كلماته بددا، لم يكد يصغي إليها من القوم سوى الحر بن یزید، فإنه قام إلى قائده عمر بن سعد يسأله:

- أصلحك الله، أمقاتل أنت هذا الرجل؟

فأجابه عمر: أي والله، قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس و تطيح الأيدي.

قال الحر: أفما لكم في واحدة من الخصال الثلاث التي عرض عليكم رضی؟

قال عمر: و الله لو كان الأمر إلي لفعلت، و لكن أميرك قد أبى ذلك.

فلم يزد الحر، و انثنى يدنو نحو الحسين قليلا قليلا و قد أخذته رعدة، و لمحه رجل من قومه فقال:

- و الله إن أمرك لمريب!! و الله ما رأيت منك في موقف قط مثل ما أراه الآن، و لو

ص: 425

قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك!!

فقال له الحر:

- إني و الله أخير نفسي بين الجنة و النار، و لا أختار على الجنة شيئا و لو قطعت و حرقت!!

ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين و قال له:

جعلني الله فداك يابن رسول الله، أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع و سايرتك في الطريق وجعجعت بك في هذا المكان، و الله ما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضت عليهم أبدا... و و الله لو ظننت أنهم لا يقبلون منك الذي سألتهم، ما ركبتها منك، و إني قد جئتك تائبا إلى ربي مما كان مني، مواسيا لك بنفسي حتى أموت بين يديك)(1)

و هنا يصور الأستاذ (خالد محمد خالد) تتمة هذا المشهد التراجيدي المؤثر، فيقول: و نزل (الحر) من فوق جواده، يعانق الحسين و دموعه تتفجر من مآقيه، و يقول

ص: 426


1- راجع على سبيل المثال ما جاء في الكتب التالية، مع مراعاة وجود بعض الاختلافات اليسيرة: أ. د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص120. ب. خالد محمد خالد ، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص162. ج. الشيخ عرفان العشا حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص160. د. محمد عبد الله المنفلوطي، ريحانة أهل البيت السيدة زينب الكبرى، مكتبة الإيمان . القاهرة، 2007، ص77. ه . محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق، أوردها باختصار، ص144. و. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، أوردها شعرا، ص268. ز. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق أوردها باختصار، ص 131.

- قد كان مني بالأمس ما كان، و قد استبان لي حقك، فجئتك أفتديك بنفسي، أفترى في ذلك توبة لي مما صنعت؟

و أجابه البطل (أي الحسين علیه السلام) و هو يضمه إلى صدره النبيل:

«إنها خير توبة، فأبشر... فأنت الحر في الدنيا... و أنت الحر في الآخرة إن شاء الله»(1)

و هنا يبدي الأستاذ (خالد) استغرابه الشديد من تصرفات الجيش الأموي الآثم، و أكثر ما كان يثير استغرابه هو أن أفراد ذلك الجيش و قادثه كانوا إذا حان وقت الصلاة يصلون و يقولون في آخر صلاتهم: (اللهم صل على محمد و على آل محمد)، فإذا ما انتهوا من صلاتهم قاموا ليحصدوا بسيوفهم الحاقدة آل محمد صلی الله علیه و آله !!(2)

أما الأديب المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، فقد أجاد وصف تلك الأحداث المؤثرة في روايته الشهيرة (فاجعة كربلاء)، و قد صاغ وصف حادثة توبة الحر بن یزید الرياحي بأسلوب أدبي رصين بعيد عن لغة المبالغة في العواطف و الانفعالات، و قد استطاع الأديب (الأشقر) أن يقنع القارئ أن الحر بن یزید الرياحي عاد إلى رشده و انضم إلى جيش الإمام الحسين علیه السلام لأنه كان، بالأساس، يمتلك بذور الخير في صدره، و قد استطاع الإمام الحسين علیه السلام أن يستنبت تلك البذور النائمة من خلال الخطب الهامة التي كان يلقيها أمام العدو بين الحين و الآخر من أجل تذكيرهم بما أوصاهم به جده رسول الله صلی الله علیه و آله ، و قد ذكر الأستاذ (الأشقر) العديد من تلك الخطب الحسينية المشهورة، بل وزاد عليهاأيضا تلك الصورة الحزينة التي وصف من خلالها

ص: 427


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص163.
2- نفس المصدر السابق ص160.

الإمام الحسين علیه السلام و قد دعا بمصحف فوضعه أمامه، ثم رفع عينيه الحزينتين إلى السماء، ثم قال بصوت شجي مسموع ضارعا إلى الله تعالى:

«اللهم أنت ثقتي في كل كرب، و رجائي في كل شدة، و أنت لي في كل أمر نزل بي عون وعدة ... كم من هم يضعف فيه القلب و تقل فيه الحيلة و يخذل فيه الصديق و يشمت به العدو، شکوته إليك ففرجته و کشفته، إنك ولي كل نعمة و منتهی کل رغبة»(1).

و إذا كان هذا الأديب المسيحي قد أبدع في وصف الأحداث الأليمة بأسلوب قصص جذاب و بديع، فإن الأديب الشاعر الأستاذ (بولس سلامة) قد حلق عاليا جدا في سماء الشعر الوجداني النبيل، ثم عاد فهبط إلينا محملا بالكثير من الكنوز الشعرية الثمينة التي يعجز الكثير من شعراء هذا العصر عن الإتيان بمثلها.

و لنستمع إليه الآن سوية و هو يصور لنا الدفاع المستميت الذي أظهره الحرالرياحي بين يدي الإمام الحسين علیه السلام و ذلك بعد إعلان توبته مما كان عليه.

يقول الأستاذ الأديب (سلامة):

و يقول الحسام للغمد و دعني *** فلن أرتضيك بعد قرابا

سوف أبقى في راحة (الحر) مسلولا *** فإن غبت في المفاخر غابا

فأجاب الحسين يا حلا تجزع *** فإن الكبير ينسى العتابا

نحن أهل الرسول أورثنا جدي *** صدورا على الخطوب رحابا

حسبنا دمعه الندامة نزجيها *** إلى الله قربة واحتسابا

دمعة تغسل القلوب و تجلوها *** كما يصهر الشعاع الضبابا

ص: 428


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس . بیروت، 1965، ص10.

يغفر الله ما أتيت، فطب نفسا *** و لا تلبس الهموم ارتياب(1)

فرحمة الله عليك يا بولس سلامة، و حشرك الله مع من أحببت من الأنبياء و الشهداء و الصديقين و الصالحين، فوالله ما قرأت في ملحمتك الخالدة (عيد الغدير) قصيدة قط إلا و ازددت في أهل البيت عليهم السلام حبا على حب، و صبرا على صبر.

أما إذا أراد القارئ الكريم أن يعرف كيف كانت نهاية ذلك البطل (الحر)، فنقول له إن كل الروايات من كتب المتقدمين على مختلف مشاربهم قد أجمعت على أن (الحر) قد قتل عند اندلاع المعركة أكثر من أربعين رجلا من جيش الأعداء، و بقي يقاتل مدافعا عن الإمام الحسين علیه السلام إلى أن حملت الرجالة عليه و تكاثروا على قتله، فحمله أصحاب الحسين عليه السلام و هو مضرج بدمائه و وضعوه أمام الفسطاط الذي يقاتلون دونه، و هكذا كان يؤتي بكل قتيل إلى هذا الفسطاط و الحسين علیه السلام يقول:

«قتل مثل قتلة التبين و آل التبين»(2)، ثم التفت إلى (الحر) و كان به رمق، فقال له و هو يمسح الدم عنه: «أنت الحر کما سمتك أمك، حر في الدنيا والآخرة»، و هنا يعطينا الإمام الحسين علیه السلام المعنى الحقيقي لمفهوم الحرية، و ذلك بأن الحر هو ذلك الشخص الذي يملك إرادته و قراره و موقفه.

فالحرية بالمفهوم الحسيني ليست حركة قادمة من خارج الإنسان، بل هي حركة نابعة من داخله و من عمق كيانه.

و هذا هو المعنى الذي يريده الإمام الحسين علیه السلام من كل واحد منا، إنه علیه السلام یریدنا أن نملك حرية القرار و إرادة الموقف، و أن لا نستسلم لأي ضغط داخلي نابع

ص: 429


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص269.
2- السيد عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسين ، مطبعة النجف ط 1963/3/ ص302.

من طمع أو رغبة عمياء، و لا لطمع خارجي ناتج عن خوف أو ضغط أو ما شابه ذلك.

و هذا المعنى هو الذي يؤكده الإمام الصادق جعفر بن محمد عليه السلام بقوله: «إن الحر حر في جميع أحواله، إن نابته نائبة صبر لها، و إن تداکت عليه المصائب لم تكسره و إن أسر و قهر»(1).

و بالطبع، لم يكن (الحر الرياحي) هو البطل الوحيد الذي عاد إلى جادة الحق و اختار الآخرة على الدنيا، بل هناك أيضا شخص آخر له وزنه و مكانته، إنه زهیر بن القين البجلي المجاهر بكراهيته للإمام الحسين علیه السلام، و تؤكد الأخبار أن زهیر بن القين كان قد حج في السنة التي خرج فيها الإمام الحسين علیه السلام إلى العراق، و كان زهير عثماني الهوى و أموي الميول، فلما رجع من الحج جمعه الطريق مع الحسين علیه السلام، و كان لشدة تمسكه بعثمانيته يكره مسايرة الحسين و النزول معه في منزل واحد، و في يوم ما لم يجد بدا من النزول معه و الاجتماع به، حدث التحول الخطير.

فماذا حدث، و ماذا نتج ؟!

تجمع الروايات على أن الإمام الحسين علیه السلام عرف بوجود زهير، فأرسل رسولا إليه يدعوه للمجيء إلى عنده، فقالت له امرأته (دلهم بنت عمرو): سبحان الله، أيبعث إليك ابن رسول الله ثم لا تأتيه؟ فلو أتيته.

فأتاه زهیر استجابة لرغبة زوجته، و لكن على كره منه، و ذهب للقاء الحسين علیه السلام و التقى به، ثم ما لبث أن عاد إلى جماعته مستبشرا و قد أشرق وجهه، و حول متاعه و ثقله إلى الحسين علیه السلام، و قال لزوجته (دلهم) أنت طالق، فإنني لا أحب أن يصيبك بسببي إلا خير، و قد عزمت على صحبة الحسين علیه السلام لأفديه بروحي و أقيه

ص: 430


1- محمد باقرالمجلسي، بحار الأنوار، مصدر سابق ج68 ب62 ح3.

بنفسي، ثم أعطاها مالها و سلمها إلى بعض بني عمها ليوصلوها إلى أهلها، فقامت إليه و ودعته و هي تبكي، ثم قالت له قبل الفراق: خار الله لك، أسألك أن تذكرني بخير يوم القيامة عند جد الحسن عليه السلام ، ثم نادی زهير أصحابه قائلا: من أحب منكم أن يتبعني و إلا فهو آخر العهد مني به.

و هنا يقول العلامة الأزهري (عبد الله العلايلي) إن زهيرا قال لأصحابه قبل مفارقتهم: إني سأحدثكم حديثا، إنا غزونا (بلنجر) و هي من بلاد الخزر، ففتح الله علينا و أصبنا غنائم ففرحنا، فقال لنا سلمان الفارسي: (إذا أدركتم شباب آل محمد فكونوا أشد فرحا بقتالكم معهم مما أصبتم من الغنائم)، فأما أنا فأستودعكم الله(1).

و بالفعل، فبعد أن ترك زهير زوجته و غادر أصحابه، التحق بالإمام الحسين علیه السلام، و بقي معه إلى أن نشبت المعارك، فقاتل قتال الأسود الكواسر إلى أن نال كرامة الشهادة بين يدي الإمام الحسين علیه السلام، فقال له الإمام علیه السلام حين رآه صريعا غارقا في دمائه:

«لا يبعدنك الله يا زهير، و لعن الله قاتلك، لعن الذين مسخهم قردة و خنازير»(2).

و مهما حاولنا أن نختصر الحديث عن هذه المشاهد المؤثرة على ساحة کربلاء، فإننا لا نستطيع أن نتجاوز بعض ما قاله عظماء الفكر و الأدب، و على سبيل المثال، كيف لنا أن نتجاوز ذلك الوصف الرائع لانقلاب زهیر ابن القين كما جاء على قلم الأديب الكبير (سلیمان کتاني)، ذلك الأديب المسيحي الذي نذر نفسه و قلمه لخدمة آل بيت محمد صلی الله علیه و آله ؟!

ص: 431


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص130.
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص251.

انظروا معي إلى هذين المشهدين المسرحيين الرائعين، ألا يستحق كل مشهد منهما أن يكون مسرحية قائمة بحد ذاتها؟! ألا يعطينا كل مشهد منهما- علی رغم قصرهما الشديد - دروسا لا تنسي في البطولة و الكرامة و الفداء و الوفاء؟!

دعونا الآن نقرأ سوية المشهد الأول من خلال الحوار الدائر بين زهير و زوجته دلهم بعد أن عرفا أن الحسين علیه السلام قد وصل إلى منطقة (واقصة) التي ملأها یزید اللعين بمئات الجواسيس، و الأصعب من ذلك أن الحسين علیه السلام يريد أن يأتيه زهير على جناح السرعة و دون أي تأخير مهما كانت الأسباب و الظروف.

و هنا يبدأ المشهد بدخول زهير إلى منزله بشكل سريع، فيدخل و يقفل الباب وراءه، ليجد زوجته الحبيبة و الجميلة واقفة و في عينيها فرحة عيد - و لكنها هدأت روعه و هي تسأل:

دلهم - ماذا يروعك؟

زهير - ألم تسمعي بنزول الحسين محطة (و اقصة)؟

دلهم-إنها البشري مني إليك، هل أنت سعيد؟ أم أنك الجازع؟

زهير- و لكني الجازع یا دلهم، لقد سد المنافذ كلها (الخليفة) یزید، و لا أظن الحسين، و لا كل من يشد بحبل الحسين، ناجيا من كف يزيد و قبضة الوالي ابن زیاد!!

دلهم- ألا تحب الحسين؟ و أبا الحسين؟ و أم الحسين؟ و أخا الحسين؟ وجد الحسين؟

زهیر - و كيف أهرب من یزید؟ و قرود یزید؟ و من زیاد؟ و ابن زیاد؟

دلهم - و هل تبدل السعود بالقرود؟ و النعيم بالجحيم؟ و البطولة بالجبانة؟ و من يصدقك بعد الآن و أنت على نفسك تكذب؟!

ص: 432

زهير -... الخوف من الظلم!!

دلهم -... إنه الموت تحت حوافره!!

ما كاد ابن القين یری وجه زوجته دلهم كيف يموج بما تقول، حتى هب من مكانه إلى الخارج.(1)

فإلى أين ذهب ابن القين تحت تأثير هذه الكلمات السحرية من زوجته الغالية (دلهم)؟!

الجواب على هذا السؤال يمكن العثور عليه بسهولة عند قراءتنا للمشهد الثاني من الحوار الثنائي الذي يلخص ما يمكن أن تفعله المرأة المؤمنة بزوجها الذي يمتلك بداخله بذور الخير و الإيمان، و لكنه بحاجة إلى من يوقظ هذه البذور من سباتها الطويل و يحولها إلى غراس خضراء تتفاعل مع قيم الإيمان و الحياة.

و ها هو المشهد الثاني يبدأ بدخول زهير على الإمام الحسين علیه السلام و بين يديه عدد من المقربين منه، و منهم محمد و عون ابنا جعفر الطيار عليه السلام ، فيقف بخشوع أمام الحسين علیه السلام.

الحسين - «و ما اسمك؟».

زهیر - زهير بن القين، و لكن زوجتي اسمها دلهم.

الحسين - «و تحبها؟».

زهیر - کالعبادة.

الحسين- «يا لها من امرأة رائعة - أراها كتبتك حرفا رائعا على شفرة السيف، أتراني حزرت؟».

ص: 433


1- سليمان كتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص163.

زهير - و لكني طلقتها، إني آت من عند الشيخ الذي عقد زواجي، و ها إنتي الآن قد فككته عنده.

الحسين -«و كيف يمكن ذلك؟».

زهير - و لقد خصصتها بكل ثروتي.

الحسین - «لأنك جئت تنضم إلي؟».

زهیر - حتى لا تكون أرملة من بعدي، و حتى لا تلقطها الحاجة.

الحسین - «يبدو أنك صممت أن تستشهد معي!! ».

زهیر - إنها دلهم يا سيدي، أحبت أن أربط شأني بقدرك!!

الحسین - «وأنت؟!».

زهیر - كان سيفي مقصوفا و أصبح الآن لا يقصف(1).

و قد أثبت زهير بالفعل أن سيفه لا يقصف طالما هو باق على قيد الحياة، و قد أثبت لنا زهير و زوجته (دلهم) أيضا أن الانضمام إلى الحسين علیه السلام هو الانضمام إلى سفينة نوح و مركب الأمان و الإيمان، ألم يقل رسول الله صلی الله علیه و آله :

«الحسین مصباح الهدى وسفينة النجاة»(2)... قاصدا بذلك النجاة في الدنيا والآخرة؟!

فزهير الذي استضاء بنور الحسين علیه السلام و اعتصم بموكبه و مركبه، كانت آخر عبارة قالها للحسين عليه السلام بعد أن خيره الحسين علیه السلام بين الانصراف عنه أو البقاء معه، هي قوله: (و الله وددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتى أقتل كذا ألف مرة و أن

ص: 434


1- نفس المصدر السابق ص164.
2- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى و سفينة النجاة،انتشارات المدرسي . طهران، 1414، ص59.

الله عز وجل يدمع بذلك القتل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك»(1)

و هذه العبارة الأخيرة التي قالها الشهيد السعيد زهير بن القيم تذکرنا بما حدث في التاسع من محرم، أي قبل الفاجعة بيوم واحد فقط، ففي اليوم التاسع من محرم، جمع الحسين علیه السلام أصحابه عند المساء قبل مقتله بليلة واحدة و خطب فيهم قائلا:

«أثني على الله أحسن الثناء و أحمده على السراء و الضراء، اللهم إني أحمدك على أن أكرمتنا بالنبوة و علمتنا بالقرآن و فقهتنا في الدين وجعلت لنا أسماعا و أبصارا و أفئدا و لم تجعلنا من المشركين - أما بعد، فإني لا أعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي، و أهل بيت أبر و لا أوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعا، و قد أخبرني جدي رسول الله صلی الله علیه و آله بأني ساساق إلى العراق فأنزل أرضا يقال لها عمورا و کربلا و فيها أستشهد و قد قرب الموعد.

ألا و إني أظن يومنا من هؤلاء الأعداء غدا و إني قد أذن لكم فانطلقوا جميعا في حل ليس عليكم مني ذمام، و هذا الليل قد غشیکم فاتخذوه جملا، و ليأخذ كل رجل منکم بید رجل من أهل بيتي، فجزاكم الله جميعا خيرا، و تفرقوا فيسوادكم و مدائنکم فإن القوم إنما يطلبونني، و لو أصابوني لذهلوا عن طلب غيري»(2).

هذه هي الخطبة الشهيرة التي قالها الإمام الحسين علیه السلام قبيل استشهاده بیوم واحد فقط، و هي خطبة معروفة للجميع بقوتها وبنبل معانيها، خاصة في الموضع الذي يخير الإمام الحسين علیه السلام أصحابه الكرام بين الثبات و البقاء معه و بين ترکه وحيدا في ساحة الوغى للقاء مصيره المأساوي المحتوم وحيدا تحت قبة السماء التي

ص: 435


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص138.
2- نفس المصدر السابق ص137.

ستحمر خجلا و غضبا لمقتل هذا السبط الطاهر الزكي على أيدي شذاذ الآفاق من بني أمية!!

و ما يهمنا الآن من المعاني النبيلة لهذه الخطبة العصماء هو ردود فعل أصحابه عليها و على الخيارين اللذين وضع الإمام الحسين علیه السلام أولئك الأصحاب أمامهما، أي إما البقاء و الثبات و إما الهروب و الإفلات.

فيا ترى ماذا كانت ردود فعل أولئك الأصحاب الذين قال فيهم الإمام الحسين علیه السلام منذ قليل «فإني لا أعلم أصحابا أولى و لا خيرا من أصحابي ؟!».

فهل كانوا على مستوى هذا القول الرائع من الإمام الحسين علیه السلام حين وصفهم بذلك ؟!

و هل كانوا على مستوى تحمل أعباء تلك المسؤولية في وقوفهم معه؟!

و بماذا أجابوه في نهاية المطاف؟!

فالجواب الشافي على كل تلك الأسئلة يمكننا العثور عليها في كتب إخواننا السنة و أيضا في كتب و دواوين العديد من المفكرين و الأدباء المسيحيين الكبار.

دعونا، الآن، إذن نقلب بعض کتب إخواننا السنة المعاصرين لنرى طبيعة ردود الأفعال من قبل أصحاب الحسين علیه السلام الذين أصبحوا في حل من أمرهم في مسألة البقاء معه و الدفاع عنه أمام السيوف الأموية التي تنظر شذرا إلى قلب الحسين علیه السلام و تحره.

و أول رد فعل من أصحابه و أهله علیهم السلام، كان من بني عقيل، فقد أجابوه قائلين:

(فما يقول الناس؟ يقولون إنا تركنا شیخنا و سيدنا و بني عمومتنا خير الأعمام و لم نرم معهم بسهم و لم نطعن معهم برمح و لم نضرب معهم بسيف و لا ندري ما صنعوا!!

ص: 436

لا و الله لا نفعل و لكن نفديك بأرواحنا و أموالنا و أهلنا و نقاتل معك حتى ترد موردك، قبح الله العيش بعدك)(1).

أما صاحبه (مسلم بن عوسجة الأسدي)، فقام قائلا:

(أنحن نتخلى عنك و لما نعذر إلى الله في أداء حقك؟ أما و الله حتى أكسر في صدورهم رمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي و لا أفارقك، و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به، لقذفتهم بالحجارة دونك حتى أموت)(2)

و قال (سعيد بن عبد الله الحنفي) رافعا صوته بكل ثقة و إيمان:

(و الله لا نخليك حتى يعلم الله أنا حفظنا عيبة رسول الله صلی الله علیه و آله ، و الله لو علمت أني أقتل ثم أحيا ثم أحرق حيا ثم أذر، يفعل بي ذلك سبعين مرة، ما فارقتك حتى ألقي جمامي دونك!! فكيف لا أفعل ذلك و هي قتلة واحدة، ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا)(3)

و قد سجلت كتب إخواننا السنة أيضا موقف (العباس بن علي)، و ما أدراك ما العباس !!

إنه أخ للإمام الحسين علیه السلام من أبيه أمير المؤمنين علي علیه السلام و أمه فاطمة بنت حزام الكلابية، و قد ولدت للإمام علي عليه السلام أربعة أولاد، فسميت لذلك (أم البنين) و هم: العباس و جعفر و عثمان و عبد الله، و قد استشهدوا جميعا في أرض كربلاء دفاعا عن أخيهم الحسين علیه السلام و من ألقابه عليه السلام : (السقاء) و (ساقي العطاشی بكربلاء) لأنه استسقى الماء لأهل البيت عليهم السلام يوم الطف.

ص: 437


1- محمد رضا الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص147.
2- نفس المصدر السابق ص147.
3- نفس المصدر السابق ص148.

و (أبو الفضل) لأنه كان له ولد اسمه الفضل، و (باب الحوائج) لكثرة ما صدر عنه من الكرامات يوم كربلاء و بعده، و(قمر بني هاشم) لجمال هيئته و وسامته و هيبته.

و قد وقف (أبو الفضل العباس) عليه السلام موجها كلامه إلى أخيه الإمام الحسين علیه السلام قائلا: «معاذ الله و الشهر الحرام... و ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم ؟! نقول: ترکنا سیدنا و ابن سیدنا غرضا للنبال و دريئة للرماح و حرزا للسباع.. و فرزنا عنه رغبة في الحياة؟! معاذ الله .. معاذ الله .. بل نحيا بحياتك.. و نموت معك»(1).

يا لها من كلمات تستنزل الدموع من عيون ملائكة السماء !!

يا لها من تعابير تضج بأنغام اليقين و تصدح بألحان العزة و الكرامة و الوفاء !!

فأين أنت يا فاطمة الزهراء علیها السلام لتري ماذا سيحل بابنك الحبيب الحسين علیه السلام و بأبنائه و أهل بيته الأطهار؟! و لو أنک رأيت ما حدث لابنك الحسين علیه السلام أمام عينيك، فماذا ستقولين غدا لأبيك المصطفی رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

لقد صدقت يا سيدتي عندما قلت بعد فقدک لأبيك المختار صلی الله علیه و آله:

ماذا على مَن شَمَّ تربة (أحمد) *** ألا يشم مدى الزمان غواليا

صُبَّت عليَّ مصائبُ لو أنَّها *** صُبَّت على الأيام عدنَ لياليا

و إذا كانت كتب السير و الأخبار قد وصفتک قائلة: (فما يذكر التاريخ أن فاطمة ضحكت بعد وفاة و الدها حتى لحقت به)(2)، فكيف سيكون حالك يا سيدتي و مولاتي لو أنك رأيت ابنك الإمام الحسن عليه السلام و هو يلفظ أحشاءه من جوفه دما بعد أن جرعوه السم الزعاف؟!

ص: 438


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص156.
2- عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص38.

و كيف سيكون حالك يا سيدتي لو أنك رأيت ابنك الحسين علیه السلام و هو مقطع الأوصال فوق الرمال الحارقة قرب الفرات؟!

و ما هو موقفك يا سيدة نساء العالمين لو أبصرت عيناك المكتحلتان بالحزن و بسواد الليل أحفادك الأطفال الصغار و هم يذبحون من الوريد إلى الوريد بعد أن حرق عليهم أعداؤهم الخيام في ساحة كربلاء، ثم راحوا يصطادونهم بالسهام الواحد تلو الآخر كالعصافير الصغيرة التائهة التي فقدت أبويها الحنونين فراحت تهيم على وجهها في كل مكان و قلوبها الصغيرة تنبض بالرعب و الذهول؟!

و على كل حال يا سيدتي البتول عليها السلام ، ها هو ابنك الحسين علیه السلام يقف خطيبا في الناس غداة اليوم الذي استشهد فيه، فها هو يحمد الله و يثني عليه ثم يقول ناصحا و مذکرا: «عباد الله، اتقوا الله و كونوا من الدنيا على حذر، فإن الدنيا لو بقيت لأحد و بقي عليها أحد، كانت الأنبياء أحق بالبقاء، و أولى بالرضا و أرضى بالقضاء، غير أن الله تعالى خلق الدنيا للبلاء، و خلق أهلها للفناء، فجديدها بال و نعيمها مضمحل، و سرورها مكفهر، و المنزل بلغة، و الدار قلعة، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى، و اتقوا الله لعلكم تفلحون»(1).

و هنا لنا أن نتساءل قائلين:

كيف استقبل الجيش الأموي و قادته هذه الخطب البليغة التي حاول الإمام الحسين علیه السلام من خلالها تذكيرهم بالحق و إيقاظ ضمائرهم النائمة؟!

إن الجواب على هذا السؤال الذي يمكن أن يفرض نفسه علينا يبين - و بكل أسف- أن ضمائر أفراد الجيش الأموي، و بشكل خاص ضمائر قادته، لم تكن نائمة أبدا، بل

ص: 439


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص69.

كانت في حالة موت تام لانهوض بعده على الإطلاق، و لذلك، فإن خطب الإمام الحسين علیه السلام زادت الكافرين عتوا و طغيانا، و بنفس الوقت أيضا، زادت المؤمنين ثباتا و إيمانا.

فالحجة قامت، و البينة ثبتت، و الأقلام جفت، و الصحف رفعت.

فعمر بن سعد و عبيد الله بن زياد، و حتى يزيد نفسه، لا يمكن لهم أن يتأثروا بأي كلمة من الحسين علیه السلام، أو حتى من جد الحسين ذاته صلی الله علیه و آله، فالحكمة لا تنفع مع هؤلاء أبدا، بل كيف يمكن للكلمة الإلهية الطيبة أن تؤثر في قلوب هؤلاء، و قلوبهم أقوى و أقسى من الصخر الصلد الأصم؟!

ألم نقرأ في كتاب الله تعالى قوله: «لَوْ أَنْزَلْنَا هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ»(1)؟!

فلماذا، إذن، لم يصدع هؤلاء بالحق و هم يقفون أمام القرآن بكل ما يمتلك من حجج و براهين و آیات حق و منزلة عظيمة ورثها عن جده رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

و أعتقد، شخصيا، أن مقارنة بسيطة بين الحسين علیه السلام و تربيته من جهة،و بين یزید و تربيته من جهة أخرى، ستعطينا الجواب الواضح على السؤال المطروح.

و يكفي أن نجري تلك المقارنة السريعة من خلال طرح هذه الأسئلة البسيطة التالية و سنترك أمر الإجابة عليها للقارئ الكريم:

- من هو والد الإمام الحسين علیه السلام ، و من هو والد یزید؟!

- من هي والدة الإمام الحسين علیه السلام، و من هي والدة يزيد؟!

- من هو جد الإمام الحسين علیه السلام ، و من هو جد یزید؟!

ص: 440


1- سورة الحشر: الآية 21.

- من هي جدة الإمام الحسين علیه السلام، و من هي جدة يزيد؟!

- من هم أفراد جيش الحسين علیه السلام، و من هم أفراد وقادة جيش يزيد؟!

- ما هي المدرسة التي تخرج منها جيش الحسين علیه السلام ، و ما هي المدرسة التي ينتمي إليها جيش يزيد؟!

من خلال هذه المقارنة السريعة المعتمدة على الأسئلة المذكورة أعلاه، ستتضح لنا هوية كل من الطرفين، و ستتجلى فلسفة الصراع عند كل منهما و ذلك من خلال إدراك الأهداف و الغايات التي ينشدها كل من قادة المعسگرین، و لا ريب في أنه سيتوضح لنا أيضا السبب الذي يمنع أولئك الأجلاف من الرضوخ للحق و الاعتراف به.

وليت الأمر يتوقف عند حد عدم الاستماع لكلام الإمام الحسين علیه السلام، و عدم الاستجابة له في عملية نفخ الروح في الضمير الذي فقد القدرة على الحياة، بل إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فقد راح قادة الجيش الأموي يتمادون في غيهم و ضلالهم إذ أنهم عمدوا إلى أسلوب قتل الإمام الحسين علیه السلام و إماتته بطريقة القتل البطيء.

فكيف عمدوا إلى قتله ببطء شديد؟!

و هل هناك أصعب و أمر من أن يرى الأب أهل بيته و أطفاله الصغار يموتون عطشا أمام عينيه، و هو على بعد أمتار من الفرات، و لا يستطيع عمل شيء؟!

و هل هناك أم و أدهى من أن يهدد الرجل الكريم بالإغارة على حرمه و هتک عرضه، و أسر نسائه و تحریق أطفاله القاصرين؟!

ثم، أليس الأصعب من هذا كله أن يهدد كل هؤلاء بالموت عطشا في حين أن

ص: 441

جدهم الرسول المصطفى صلی الله علیه و اله هو صاحب نهر الكوثر و ساقي المؤمنين العطاش يوم المحشر ؟! حقا، إن الظلم الحقيقي هو أن يعطش الإنسان في فصل الشتاء؟!

نعم، لقد منع الجيش الأموي الإمام الحسين و أهله عليهم السلام و أصحابه من شرب الماء من نهر الفرات، ذلك النهر الذي كان ماؤه مباحا لكل الناس من مسلمين و غير مسلمين، من مؤمنين و كافرين، و حتى للكلاب و الخنازير.

فالماء مباح للجميع إلا للحسين و أهله علي و أصحابه الأطهار الصادقين الصابرين، فهو محرم عليهم و لو ماتوا جميعهم عطشا ما لم يبايع الإمام الحسين علیه السلام يزيد الفاسق الفاجر خليفة على المسلمين.

و ما هي كتب السنة و المسيحيين المعاصرين تذكر أن عمر بن سعد قد قام بتوجيه الأوامر إلى عمرو بن الحجاج (أن يسير في خمسمائة راكب، فينيخ على الشريعة (مورد الناس للاستسقاء) و يحولوا بين الحسين و أصحابه و بين الماء، و ذلك قبل مقتله بثلاثة أيام، فمكث أصحاب الحسين عطاشا)(1).

و كانت تلك الأيام العصيبة مأساة حقيقية بحد ذاتها، فقد أصبح الإمام الحسين علیه السلام محكوما بالوحدة و الوحشة و الغربة و الظلم و الجوع و العطش و قلة الأصحاب و الناصرين.

و بالرغم من كل ذلك، إلا أنه علیه السلام ثبت في ساحة الامتحان الإلهي حتى آخر لحظة له على وجه هذه الدار، دار البلاء و الاختبار، و قد أجاد المفكر اللبناني المعاصر الدكتور (عمر فروخ) ( 1987-1906) عند ما قال شعرا يذكر المسلمين من خلاله بأيام الحسين علیه السلام الخالدة:

ص: 442


1- محمد رضا علیه السلام، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص142.

أفي كل يوم لنا وقفة *** و ركب الحياة بنا یعبر؟

و نحن عن الدهر في غفلة *** و للدهر مکر بنا منکر؟

ذكرناعلى الدهر يوم الحسين *** و یوم الحسين هدی نیر

له زجل في ثنايا الزمان *** و عصف على الظلم لا يفتر

و عود کعود الهلال الجديد *** و طيب كعرف الندي خير

إذا جدر الحزين بعد الحسين *** فإن التأسي به أجدر(1)

لقد تحولت تلك الأيام العصيبة في حياة الإمام الحسين علیه السلام إلى مجموعة رموز نبيلة خالدة في الضمير العالمي الباحث دائما عن مثل عليا تنتشله من أوهام الحاضر و أوحاله التي كادت تقضي عليه تحت عناوین مزيفة و شعارات براقة جوفاء تخفي وراء ستائرها السميكة الكثير من الذل و الهوان للنفس الإنسانية السوية المتعطشة في ذاتها لكل قيم الخير في الوجود و لكل لمسة دفء و حنان من فيض ينابيع مبادئ السماء.

و هنا تجدر الإشارة إلى أن الأديب و المفكر المسيحي (بولس سلامة) قد أشار في أكثر من موضع في ملحمته الشعرية (عيد الغدير) إلى عطش الحسين علیه السلام، و لكنه لم يتحدث بالتفصيل عن الآلام المريرة التي عاناها هو و أهله و صحبه، بل سرعان ما ربط ما بين العطش من جهة و إقامة الحجة على الأعداء من جهة أخرى و ذلك عن طریق تذكيرهم بحقيقة مقامه و علو مكانه.

فبعد أن يصور الأديب (سلامة) عطش الإمام الحسين علیه السلام بشكل سريع من

ص: 443


1- الدكتور عمر فروخ، المأساة و التأسي، مجلة (الموسم) العدد /12/ المجلد/3/ إصدار:المركز الوثائقي لتراث أهل البيت عليهم السلام . أكاديمية الكوفة، هولندا (1991)، راجع ص 21.

خلال قوله:

وقف الظامئُ الحسين و نادى *** يا جنود العراق عوا كلماتي

نراه يتحول بشكل مفاجئ إلى تصوير الإمام الحسين علیه السلام و هو واقف قبيل المعركة رافعا صوته بحديث مطول يذكر الناس من خلاله بهويته الروحية المتميزة:

أوليس الرسول جدي، و أمي *** خير بنت و أطهر الزوجات

أمها جدتي خديجة كانت *** وردة المشرقين في السيدات

بيتها مهبط النبوة، إذ جبريل *** يأتي بالوحي و الآيات

أوليس الضرغام حمزة عمي *** أسد الله، كاشف الكربات

أوليس الشهيد جعفر عمي *** لقن الدهر آية في الثبات

أولست الحسین نجل علي ***و علي أنشودة للحداة

و هنا يأتي هذا الشاعر المسيحي العملاق بالمفارقة الغريبة عند تصويره للإمام الحسين بصورة الفارس (الظامی)المتعطش و لو إلى شربة قليلة من ماء الفرات في حين أن أباه عليا أميرالمؤمنين عليه السلام هو الذي:

يمنع الحوض غب هول و حشر *** يوم تأتي النفوس مبتردات(1)

فالحسين الظامئ على رمال كربلاء و المتعطش إلى شربة ماء، سيكون أبوه علي عليه السلام هو صاحب الحوض و ساقي المؤمنين العطاش غدا عند المحشر و هو المطلع في عالم السماء !!

و حتى نكون واقعيين في كلامنا حول تفاصيل الفاجعة، علينا أن نقول - و ذلك من باب لفت النظر و الصدق في الكلام - إن بعض الذين كتبوا و تحدثوا عن مأساة كربلاء

ص: 444


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص260.

لم يعالجوا التفاصيل و لم ينقلوا لنا صورة الأهوال الحقيقية للفاجعة، و إنما اكتفوا بذكر الخلاصة العامة لمجريات الأحداث العامة، و هذا ما نجده جليا في كتاب (History Of The Arabs) للمفكر المسيحي (فيليب حتي) (PH. Hitti) الذي تحدث عن فاجعة كربلاء بأسلوب المؤرخ المسجل للأحداث العظيمة التي تترك عظيم الأثر على حركة التاريخ و على النفوس و العقائد و التيارات الروحية و الفكرية معا.

و إذا كان هذا هو الوضع مع المؤرخ (فيليب حتي)، فإن الوضع مع الأديب و المؤرخ المسيحي اللبناني (جرجي زيدان) يختلف تماما، خاصة في ما يتعلق بتصوير تفاصيل أحداث الفاجعة و وقائعها الدامية في شهر محرم الحرام.

و قبل الدخول في الكلام عن بعض الصور و التفاصيل الخاصة بوقائع مأساة کربلاء لا بد من إعطاء القارئ فكرة موجزة عن الأديب و المؤرخ (جرجي زيدان) صاحب الرواية التاريخية المعروفة (غادة كربلاء).

فالأستاذ جرجي زيدان (1861-1914) أديب و مؤرخ لبناني، ولد و تعلم في بیروت و توفي في القاهرة، يعتبر واحدا من رجال النهضة، و قد أسس في القاهرة مجلة شهيرة هي مجلة (الهلال) عام 1892، و دار الهلال للنشر، له العديد من المقالات اللغوية و التاريخية المتميزة، من كتبه (تاريخ التمدن الإسلامي) و (تاریخ آداب اللغة العربية) و سلسلة (روایات تاريخ الإسلام)، و تعتبر رواية (غادة كربلاء) واحدة من أهم الروايات التاريخية في السلسلة المذكورة.

و غادة كربلاء هو لقب أطلقه ذلك المؤرخ المسيحي على فتاة من شيعة أهل البيت عليهم السلام، اسمها الحقيقي (سلمى بنت حجر بن عدي الكندي المقتول ظلما على

ص: 445

يد الطاغية معاوية في مرج عذراء قرب دمشق لأنه رفض البراءة من ولاية علي أمير المؤمنين علیه السلام.

ولئن قصر ذلك المفكر المسيحي بعض الشيء في إعطاء القارئ الوصف المطلوب لشخصية الإمام الحسين علیه السلام و للبواعث الأساسية لنهضته الكربلائية المباركة، فقد استطاع أن يتجاوز حالة التقصير في وصف الكثير من مآسي الفاجعة و تصوير مجريات أحداثها التراجيدية المؤثرة.

و يكفي أن نذكر من تلك القصص المؤثرة التي أوردها في روايته الطويلة تلك القصة المتعلقة بأحد أطفال الإمام الحسين علیه السلام، و هو الطفل المعروف باسم (عبد الله الرضيع).

و ها نحن نورد هذه القصة المؤثرة من قصص المأساة كما رواها المؤرخ و الأديب (زیدان) مع شيء من التصرف و الاختصار خوفا من أن يشعر القارئ الكريم بالملل والضجر.

ففي الربع الأخير من رواية (غادة كربلاء) يصور لنا المؤلف أجواء المعركة العنيفة بين الطرفين غير المتكافئين في العدد و العتاد، و في خضم تلك الأحداث الدامية تبرز بطلة الرواية (سلمى بنت حجر بن عدي) و هي تحمل (عبد الله الرضيع) ابن الإمام الحسين علیه السلام الذي لم يتجاوز عدة شهور من عمره، و تبتعد به عن بؤرة الأحداث و ساحة الصراع الدامي، و لم تستطع سلمى البقاء هناك خوفا على الطفل الرضيع من نبل يصيبه، فعادت إلى الخيمة فرأت زینب و سكينة و فاطمة آل الحسين يبكين بمرارة و حسرة بجانب فراش علي بن الحسين علیه السلام المريض.

و لما رأى علي بن الحسين، و هو الملقب بعلي زين العابدین علیه السلام، سلمى مقبلة

ص: 446

نحوه و أخوه عبد الله الرضع يبكي بين ذراعيها و يتلوى من حرقة العطش، قال لعمته و أخته: «قمن، فاشتسقين له».

فصاحت زينب عليها السلام: «و من أين نستسقي له؟ و من يسقينا؟ ... يا ليته يشرب الدمع فنسقيه من آماقنا»، قالت زینب علیها السلام ذلك و نهضت إلى الطفل الصغير فتناولته و راحت تقبله و هي تبكي و تضمه برفق و حنان إلى صدرها المليء بالحسرات و الأحزان.

و في هذه اللحظة ينتقل بنا (جرجي زيدان) إلى صورة جديدة من الأحداث قبل إكمال قصة مأساة عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين علیه السلام، و لا ريب في أن التداخل المتعمد بين هاتين الصورتين له هدف واضح تماما، و هو إظهار الوجه الإيماني للحسين عليه السلام و جيشه الصغير من جهة، و إظهار الوجه الشيطاني لجيوش یزید و أعوانه من جهة أخرى.

فالصورة الجديدة المؤثرة المتداخلة مع قصة مأساة ابن الحسين الرضيع الذي سيفارق الحياة دون أن يرتوي من الماء، تقوم على تصوير الإمام الحسين علیه السلام و قد جمع ما تبقى من جيشه الصغير يأمرهم بالصلاة رغم الخوف والقتل و العطش.

و يستجيب الرجال له فيجتمعون معه و يقفون وراءه و النبال تتساقط عليهم من كل جانب و صلى فيهم الحسين علیه السلام صلاة حارة يخشع لها قلب الجماد(1).

فلما فرغوا من الصلاة، تجددت آمالهم و اطمأنت قلوبهم، تقدم أحد رجال الحسين علیه السلام علي و رفع صوته قائلا: (يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب... یا قوم إني أخاف عليكم يوم التناد... یا قوم لا تقتلوا حسينا فيسحقكم الله بعذاب، و قد خاب من افترى، قال ذلك و هجم و هو يقاتل کالأسد الضاري حتى قتل، و ما زال

ص: 447


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص219.

رجال الحسين يقاتلون و يقتلون حتى لم يبق منهم إلا أهل بيته خاصة.

إنها بلا ريب لفتة ذكية من الأستاذ (زیدان) عند ما قرن مشهد الطفل الصغيرالظامئ مع مشهد صلاة أبيه الحسين علیه السلام من جهة، و مع ظلم و طغيان الجيش الأموي من جهة أخرى ذلك الجيش الذي لا يعرف الشفقة أو الرحمة حتى مع أبناء الرسل و الأنبياء

و لذلك، نرى أن الأستاذ (زیدان) يعود ثانية لإكمال ما حدث للطفل الرضيع الظامي الذي يتلظى قلبه الصغير لشربة ماء عذب تبعد عنه شبح الموت عطشا قرب نهر الفرات.

و هنا يكمل ذلك المؤرخ المسيحي رسم الخطوط الأساسية لصورة تلك المأساة القاسية على قلب الحسين علیه السلام و على قلوب أحباب الحسين علیه السلام ، بل و على قلوب كل من كان لهم ضمائر حية في نفوسهم، و قيم إنسانية و إيمانية في صدورهم، و ها هو يتابع مجريات الحدث بقوله إن سلمى قد جزعت كثيرا على الطفل، فأرادت أن تلجأ به إلى الخباء... فرآها الحسين و الطفل يحترق من ألم العطش بين يديها المتعبتين، فأشار إليها أن تأتي، فأتت إليه و الطفل يتلوى من العطش، و قد بح صوته و تعب صدره و هي تحنو عليه لتقيه من النبال، فتناوله الحسين من بين ذراعيها و أسرع نحو المعركة، و لم تفهم سلمي معنى ذلك و لم تعرف ماذا تعمل...

فإذا بالحسين يخاطب أهل الكوفة و الطفل مرفوع بين يديه باتجاه السماء، كأنه يشير إليهم و يقول: يا أهل الكوفة خافوا من الله و اسقوا هذا الطفل الصغير... یا قوم خافوا من الله و اذكروا عذاب يوم أليم.

فتأثرت سلمي من هذا الكلام كثيرا و ظنته يعطي ثماره، فيحن أولئك القوم على

ص: 448

الطفل الرضيع فيسقونه و لو قليلا من الماء... و لكنها لم تكد تفكر في ذلك حتى رأت رجلا من النبالة قد أوتر قوسه و رمی به نحو الحسين و هو يقول له: (خذ اسقه)، فوقع السهم في قلبه و هو بين يدي أبيه الحسین، فصاح الرضيع صيحة الألم العظيم الذي أنساه ألم العطش إلى الماء، ثم تحول صياحه إلى أنين، فأحست سلمى أن السهم قد أصاب قلبها لا قلب ذلك الطفل الرضيع البريء الذي ليس له ذنب بنظر أعدائه إلا أنه ابن الحسين .

و تركض سلمى إلى الحسين و ترى الطفل يختلج بين يديه و هو يئن، و قد تدلی رأسه على صدره و الدم يقطر منه... فصاحت: (ويلاه ما أظلمهم، ويلاه ما أقسى قلوبهم، قتلوا الطفل!!)، ثم همت بتناوله فمنعها الحسين من ذلك و قال لها: «لا تبكي يا بنية، إن له أسوة بجده و عمه و أهله الصالحين».

ثم رفع يديه و الغلام القتيل بينهما، و شخص ببصره إلى السماء وقال: «إن تكن حبست عتا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، و انتقم لنا من القوم الظالمين»، ثم حمله حتى وضعه مع قتلى أهل بيته، و فيهم إخوة الحسين و أولاده و أبناء عمه و أبناء أخيه الحسن(1).

هذه هي القصة التي رواها الأستاذ (جرجي زيدان) حول مصرع عبد الله الرضيع ابن الإمام الحسين عليه السلام بين يديه المتوجهين به إلى السماء و كأنه عليه السلام يقول لله السميع العليم: إلهي، انظر ماذا يفعل القوم بي و با بني الرضيع، و ها أنا أرفعه قربانا إليك فداء للرسول محمد صلی الله علیه و آله و لرسالته السماوية، رسالة الإنسانية و الرحمة.

هذه هي القصة بخطوطها الأساسية كما وردت في رواية (غادة كربلاء)، و لكننا

ص: 449


1- نفس المصدر السابق ص220.221.

تصرفنا فيها بعض الشيء حيث قمنا باختصار بعض التفاصيل من جهة، و أضفنا إليها بعض التعابير و الجزئيات التي أخذناها من بعض كتب و روايات إخواننا السنة، و من بعض مؤلفات المفكرين و الأدباء المسيحيين التي سنذكر عناوينها في هذا الفصل بعد قليل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه التعديلات الطفيفة التي ذكرناها لم تؤثر على جوهر القصة الحقيقية التي نقلناها عن قصة الأستاذ (جرجي زيدان).

و على كل حال، نحن لا نشك أبدا في أن القارئ الذي يقرأ قصة استشهاد الطفل الصغير عبد الله الرضيع عليه السلام سيتأثر بها إلى حد كبير و ربما سيذرف ذلك القارئ - ايا كان دينه و مذهبه . الكثير من الدموع الحارة على مصير ذلك الطفل الذي قضى عطشا و ألما بعد أن سقوه من دمه الطاهر كؤوس المرارة و العذاب.

و لا شك أيضا في أن ذلك القارئ المتأثر بما حدث قد يتساءل قائلا:

هل من المعقول أن تصل وحشية الإنسان إلى هذا الحد الذي يجعله يفقد معه كل شعور بالإنسانية و بالشفقة و الرحمة؟!

نقول: نعم، إن الإنسان، و ربما المجتمع بأكمله، قد تصل به الحال إلى ذلك الحد السلبي السيئ، و ما المجتمع الأموي عموما إلا أوضح مثال على ذلك، فالأمويون- كما يقول عنهم المستشرق الفرنسي (كازانوفا)- لم يكن عندهم أي هم وأي هدف من وراء حروبهم إلا الفتك بالآخرين بهدف السلب و النهب و إشاعة الخراب و التفسخ و التلذذ المفاسد و الشهوات(1)

و بالتالي، فمن الطبيعي تماما أن يصل الحال بهذا المجتمع الفاسد إلى مستوى تقدیس الرزيلة و وأد الفضيلة.

ص: 450


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق ج4، ص47.

و إذا كنا قد ذكرنا تفاصيل قصة استشهاد رمز الطفولة و الطهارة عبد الله الرضيع عليه السلام ، فإننا لن ننسى أيضا قصة استشهاد القاسم ابن الإمام الحسن عليه السلام المعروف بلقب (فلقة القمر) لشدة هيبته و جماله، و قد كان شابا صغيرا لا يزال في مدارج الصبا.

و ها هي الكتب و المراجع المعاصرة تصفه و تصور دوره في معركة كربلاء قائلة:

و اندفع أصغرهم سنا ۔ القاسم بن الحسن - يهز السيف في الهواء الساخن، ثم يهوي به فوق الأعناق الضالة الظالمة، حتى نالته سيوفهم فهوی کالنجم، ينادي: یا عماه (قاصدا بذلك عمه الحسین)...!!

و نسي الحسين ما حوله من هول، و انطلق كالصقر صوب قاتل ابن أخيه، حيث شد عليه شدة الليث و ضربه بسيفه، فبتريده الشقية ثم طرحه أرضا، حيث داسته خيل جيش ابن زیاد، فهلك تحت حوافرها...

و انثنى البطل نحو ابن أخيه يضمه، و يشتمه، و يتملی رونق الزهور في وجهه و في جسده الفتي المثخين بالجراح.

و لأول مرة سالت عبرات الأسد، و قال يخاطب الجثمان المسجى بالمجد:

«عزيز و الله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أو يجيبك، فلا ينفعك في يوم كثر واتره.. و قل ناصره..!!(1)

ثم أسرع إليه عمه الإمام الحسين علیه السلام، فحمله و وضع صدره على صدره، فجاء به حتى ألقاه مع ابنه علي الأكبر و القتلى من أهل بيته علیهم السلام، ثم رفع طرفه إلى السماء و قال عليه السلام: «اللَّهُمَّ أَحْصِهِمْ عَدَداً وَ اقْتُلْهُمْ بَدَداً وَ لَا تُغَادِرُ مِنْهُمْ أَحَداً وَ لَا تَغْفِرْ لَهُمْ

ص: 451


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص176.

أبداً»(1)

و صاح الحسين علیه السلام في تلك الحالة الأليمة: «صَبْراً يَا بَنِي عَمُومَتِي ، صَبْراً يَا أَهْلِ بَيْتِي ، فَوَاللَّهِ لَا رَأَيْتُمْ هَوَاناً بَعْدَ هَذَا الْيَوْمِ أَبَداً».

و قد علق العالم الأزهري الفذ (خالد محمد خالد) على هذا المشهد الدامي من کربلاء بقوله مخاطبا أبا عبد الله الحسین:

(لك الله، أبا عبد الله !!

و هل اختارتك المقادير لهذا العبء الذي يدغدغ الجبال، إلا و أنت له كفءٌ و به جدير؟ ألا صبر آل محمد... فهذا دوركم في الحياة، و حظكم من الدنيا.. یا سادة الآخرة، و يا ملوك الجنة..!!).(2)

نعم، إنهم بلا ريب سادة الآخرة و ملوك الجنة، و لكن هل كان عليهم علیهم السلام أن يدفعوا جميعا تلك الضرائب الباهظة على الأرض كي يحتلوا تلك المكانة الرفيعة في السماء؟!

و هل حفظ مسلمون رسولهم الكريم صلی الله علیه و آله في أهل بيته الأطهار عليهم السلام كما أوصاهم في الكثير من خطبه و أحاديثه و مواعظه؟!

ألم ينقل لنا (أبو بكر) الحديث التالي، و قد أخرجه (البخاري) عنه:

«أرقبوا ( أَيْ احْفَظُوا ) مُحَمَّداً صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ»؟!(3)

ص: 452


1- لبيب بيضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص271، و قد نقل الأستاذ (بيضون) كامل القصة عن استشهاد القاسم بن الحسن عليه السلام من كتاب (مقتل الحسين) للخوارزمي الحنفي ج2 ص28، يرجى مراجعة الكتاب المذكور لزيادة الثقة.
2- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص177.
3- الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت، مصدر سابق ص40.

ألم يخبرنا (ابن عمر) أن آخر ما تكلم به رسول الله صلی الله علیه و آله هو قوله:

«أخلِفُوني فِي أَهْلِ بَيْتِي»؟!(1)

ألم يوصنا نبي الهدى و الرحمة قائلا: «اجْعَلُوا أَهْلِ بَيْتِي مِنْكُمْ مَكَانَ الرَّأْسِ مِنَ الْجَسَدِ ، وَ مَكَانَ الْعَيْنَيْنِ مِنَ الرَّأْسِ»؟!(2)

نعم، إنه صلی الله علیه و آله أوصانا و أوصى كل المسلمين بذلك، و ما الأحاديث النبوية الشريفة التي أوردناها الآن إلا غيض من فيض مما جاء في كتب إخواننا السنة و في بعض کتب و مؤلفات المفكرين المسيحيين أيضا.

و حتى نعرف تمام المعرفة كيف حافظ المسلمون، أو بالأصح من ادعوا أنهم مسلمون، على أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله و كيف حفظوا وصاياه فيهم عليهم السلام، دعونا نسأل التاريخ السؤال التالي:

كيف انتهت حياة كل فرد من أفراد أهل بيت النبوة و مهبط الرسالة؟!

كيف انتهت حياة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام ، و ماذا حل بها بعد وفاة أبيها صلی الله علیه و آله؟!

كيف أمضى أمير المؤمنين علي عليه السلام رحلة الحياة بعد رسول الله صلی الله علیه و آله و كيف غاب عن عالم لا يستحقه و لا يستحق وجود ذلك الإمام العظيم فيه؟!

و هل هناك من حاجة لذكر الطريقة التي انتهى بها الإمام الحسن عليه السلام؟!

أما الإمام الحسين علیه السلام، فلا داعي لطرح السؤال عن كيفية نهايته، فنحن ما زلنا نتحدث عن أهم التفاصيل في نهضته الإنسانية و رحلته الاستشهادية كما يراها أرباب

ص: 453


1- نفس المصدر السابق ص46.
2- الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، الشرق المؤيد لآل محمد، مكتبة دار المستقبل . حلب ط 2006/1، ص50.

الأدب و الفكر و السياسة و الدين في الثقافة العالمية المعاصرة.

و لكن، و مع ذلك، نقول دائما و أبدا إن اللسان و القلم يعجزان تماما عن إعطاء البعد الحقيقي و الصورة الواقعية للمصائب التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام في حياتهم و حتى بعد غيابهم، و الشيء الذي يؤسف له هو أن تلك المصائب قد جاءت بشكلها المخيف السافر من مصدر واحد، من المسلمين أنفسهم و ليس من مصدر عدواني آخر.

و لكن، و من أجل أن نكون منصفين في كلامنا، علينا أن ندرك أن هناك فرقا واضح بين (السني) و (الأموي)، نعم، من الممكن أن يكون كل أموي معاديا في فكره و منهجه لفكر و منهج أهل البيت عليهم السلام، ولكن ليس بالضرورة أن يكون كل سني أموي الهوى أو أن يكون معاديا لفكر و نهج أهل البيت عليهم السلام.

و لعل الراهب الفرنسي (لويس غارديه) (Louis Gardet)(1904-؟) من المستشرقين القلائل الذين انتبهوا إلى تلك الملاحظة الهامة حول التفريق بين معنی كلمة (سني) و كلمة (أموي) و ذلك من خلال دراساته المكثفة للفكر و التاريخ الإسلامي بكل جوانبه و نواحيه، بما في ذلك الجانب المأساوي العنيف الذي لحق بأهل بيت الرسول صلی الله علیه و آله على يد الأمويين و من بعدهم على يد العباسيين أيضا.

و لذلك، فإن هذا الراهب و المستشرق الفرنسي كان يرى على الدوام (أن العديد من المؤرخين السنة، على مر الأجيال، أدانوا بشدة سياسة معاوية، و أكثر منها، شخص و دور ابنه يزيد المسؤول عن هزيمة و مقتل الحسين في كربلاء)(1).

و قد ذكر هذا الراهب كل ما توصل إليه من حقائق و معارف في الكتب المتنوعة

ص: 454


1- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص265.

التي كتبها عن الإسلام، مثل (الحاضرة الإسلامية) و كتاب (الإسلام دين و جماعة) و كتابه الأخير (أهل الإسلام).

و من المعروف عن هذا المستشرق أنه أخصائي في البنى الاجتماعية للحياة الإسلامية، و قد درس في معهد (تولوز) الدولي للفلسفة مادة الفلسفة المقارنة من عام 1957 إلى عام 1972، و قد ألقى العديد من الدروس و المحاضرات الهامة في جامعات الرباط و الجزائر و القاهرة، و سنعرف القارئ عليه بشكل أكبر في الفصول القادمة.

و حتى لا يفوتنا الوقت، و حتى لا تسرقنا الفكرة تلو الفكرة، و تبعدنا عن محور بحثنا، دعونا ننتقل إلى فصل جديد من هذا الكتاب، و هو فصل لا ينفصل و لا يتجزأ عن هذا الفصل الذي هو الآن بين أيدينا، إنه الفصل الذي يستمر في تصوير المأساة بعد أن وصلت إلى ذروتها.

إنه الفصل الذي يتحدث عن استشهاد أبي الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام عليه، بعد أن خذله الخاذل و قل عنه الناصر و استشهد بين يديه المدافع الصابر.

فالمأساة لم تتوقف عند حدود قتل الحسين و لا عند حدود قتل أصحابه و أبنائه،بل هناك الكثير و الكثير من المشاهد و المواقف التي يقطر لها القلب دما، قد حدثت على ساحة كربلاء بعد استشهاد الإمام الحسين علیه السلام مكسور القلب، وحيدا، غريبا، مظلوما، عطشانب، مذبوحا من الوريد إلى الوريد على ضفاف نهر الفرات.

إذن، هيا بنا الآن إلى الفصل الجديد من ملحمة الزمان، إلى ملحمة العاشر من محرم الحرام، إلى الحدث العظيم الذي كاد أن يتوقف عنده الزمان عن المسير حتى يصبح معه كل يوم من أيام الثائرين عبر الأجيال عاشوراء، و حتى تصبح لهم كل أرض

ص: 455

من بقاع العالم كربلاء.

فهيا بنا الآن إلى قراءة صفحة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام و انتصاره على الموت و الفناء.

و بالطبع، فإننا لن ننسى قراءة بقية الصفحات الأخرى المتعلقة باستمرار تتابع الفجائع المريرة على من تبقى من أهل البيت علیهم السلام حتى بعد استشهاد ريحانة رسول السماء الأخير صلی الله علیه و آله.

ص: 456

استشهاد الحسين علیه السلام و استمرار الفاجعة

يقول الباحث و المفكر البريطاني الدكتور (ك. شیلدريك) (K.Sheldrake) في حديثه عن موقعة كربلاء: (لم يزحف الحسين بأصحابه القلة طلبا للمجد و لا للسلطة و لا للثراء، بل طلبا لأسمى تضحية، و إن كل واحد من تلك العصبة الشجاعة، رجلا كان أم امرأة، قد عرف أن أعداءهم لا يهزمون و أنهم (أي العدد) لم يأتوا ليقاتلوا فقط بل ليقتلوا، و مع أن هذه العصبة قد منعت من الماء حتى الأطفال منها، و أقامت تتحرق تحت الشمس الساطعة و بين الرمال اللاهبة، فإن التخاذل لم يتسرب إلى واحد منهم، بل واجهوا بشجاعة أعظم الشدائد بثبات).(1)

و بالفعل، و كما رأينا في الفصل السابق، فقد واجه أصحاب الحسين و أهل بيته علیهم السلام كل أصناف الضغوط و الشدائد دون أن يتسرب الخوف أو التخاذل إلى قلب أي واحد منهم.

و ها هم قد تساقطوا حول الحسين عليه السلام كأوراق الخريف التي عصفت بهاریج هوجاء مبکرة فجعلتها تتناثر هنا و هناك بلا حراك و لا حياة منذرة بمجيء شتاء قاس و طويل مصحوبا بعواصف و فجائع و كوارث كقطع الليل الحالك لا بقي و لا تذر.

و ها هو الإمام الحسين علیه السلام يلتفت حوله يمينا و يسارا فلا يرى أحدا ينصره، و ها هو ينظر إلى أهله و صحبه مذبوحين و مقطعين كالأضاحي و القرابين على مذبح العشق

ص: 457


1- http:H//en.Wikipedia.Org/wiki/Husayn-ibn-Ali

الإلهي العظيم.

لقد هدأ كل شيء، و لم يعد أحد يسمع صوت قعقعة السلاح، و لكن بقي صوت واحد يعلو و يعلو و يرتفع حتى يشق عنان السماء... إنه بكاء الأيامي و صراخ الأطفال في خيام الحسين علیه السلام خوفا و ذعرا و عطشا.

إنها الحجة الأخيرة على الناس، و ها هو الحسين يطلقها قائلا و مناديا بأعلى صوته: أما من مغيث يغيثنا؟ أما من مجير يجيرنا؟! أما من طالب حق ينصرنا؟! أما من خائف من النار فيدافع عنها؟!

لقد قامت الحجة على الجميع و ما من مجيب، فتقدم الإمام الحسين علیه السلام نحو القوم مصلتا سیفه کارها للحياة، طالبا للجنة، مستبشرا بلقاء جده صلی الله علیه و آله و أمه عليها و أبيه عليه السلام و بصحبه و أهله و بنيه عليهم السلام، و دعا الحسين علیه السلام القوم إلى المبارزة، فلم يزل يقتل كل من برز إليه من الرجال، ثم حمل على الميمنة و من ثم على الميسرة و هو يقول:

أنا الحسين بن علي *** آليت أن لا أنثنی

أحمي عيالات أبي *** أمضي على دين النبي

و قد وصفه عبد الله بن عمار بن يغوث بقوله: (فما رئي مکسورا قط قد قتل ولده و أهل بيته و أصحابه، أربط جأشأ منه و لا أمضى جنانا و لا أجرأ مقدما)(1).

و حين قاربت ساعة النهاية، اندفع العديد من رجال جيش ابن زیاد إلى خيام الإمام الحسين علیه السلام الذي فيه عياله و متاعه لينهبوه، فردتهم صيحة الإمام عليه السلام الذي كان يقاتل وحده: «وَيلَكم! إن لم يكن لكم دين فكونوا أحرارا في الدنيا، فرحلي لكم

ص: 458


1- د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص124.

عن ساعة مباح»!!(1)و بالفعل، فقد انتهبوا رحله و متاعه بعد ساعة!!

و قبل أن ينتبهوا رحله و متاعه بلحظات قليلة، وقفت أخته زينب عليها السلام غير بعيدة تملأ عينيها من أخيها الحسين علیه السلام قبل أن يمضي مخضبا بدمائه شاكيا إلى ربه، حتى إذا أثخنته الجراح في كل شبر من جسده الشريف و كاد أن يهوي على صعيد کربلاء، خانتها قواها فلم تعد تقوى على النظر إليه، فوضعت يديها على عينيها حتى لا ترى كيف ستهوي ريحانه الرسول صلی الله علیه و آله إلى الأرض.

و عندها صاح عمر بن سعد برجاله: هذا ابن الأنزع البطين، هذا ابن قتال العرب، احملوا عليه من كل جانب.

أما السيدة زينب عليها السلام فكان آخر ما سمعته من أخيها الحسين علیه السلام صيحته الأخيرة في الألوف المجتمعة عليه لقتله و سلبه و التمثيل به:

«أعلى قتلي تجتمعون؟! أما و الله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله أسخط عليكم لقتله مني، وايم الله إني لأرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون، أما و الله لو قتلتموني لألقى الله بأسکم بینکم و سفك دماءكم ثم لا يرضى بذلك منكم حتى يضاعف لكم العذاب الأليم»(2).

و قصده القوم و اشتد القتال و قد اشتد به العطش أيضا، فحمل من نحو الفرات على القوم، فكشفهم عن الماء و اقتحم بفرسه الماء، و لما مد يده ليشرب ناداه رجل:

أتلتذ بالماء و قد هتکت حرمك ؟!

فرمي عليه السلام الماء من يده و لم يشرب أبدا، و لوی عنق فرسه و اتجه إلى الخيام

ص: 459


1- د. عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي . بیروت، د.ت ص756.
2- نفس المصدر السابق ص757.

مسرعا، و بينما هو يشق الصفوف في طريق عودته، أصابه أحد السهام الحاقدة في صدره الشريف، فمال الإمام الحسين علیه السلام عن ظهر فرسه ثم تمالك نفسه و وقف على رجليه و قد أحاط به العدو من كل مكان كما يحيط القيد بالمعصم.

و بالرغم من كل ما أصابه من جراح و طعنات في جسده كله، ثبت في مكانه و استخرج السهم الذي أصابه في صدره و رماه بعيدا، ثم وضع يده تحت الجراح فلما امتلأت دما رمی به نحو السماء و قال: «هَوَّنَ عَلَى مَا نَزَلَ بِي إِنَّهُ بِعَيْنِ اللَّهُ»، ثم وضعها ثانية، و العدو ينظر إليه ما يفعل، فلما امتلأت من جديد لطخ بالدم رأسه و وجهه و لحيته و قال:

«هَكَذَا أَكُونُ حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ وَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ وَ أَنَا مخضب بدمي وَ أَقُولُ : يا جَدْيُ ، قَتَلَنِي فُلَانُ وَ فُلَانُ».(1)

ثم إنهم تركوه لوحده هنيهة، و عادوا إليه من جديد و أحاطوا به و هو صريع على حر الرمال لا يستطيع النهوض، فنظر إليه ابن أخيه عبد الله بن الحسن عليه السلام ، و كان فتی صغيرا له من العمر إحدى عشرة سنة فقط، فأقبل يشتد نحو عمه الحسین علیه السلام و أرادت زینب علیها السلام منعه فأفلت منها و جاء راكضا إلى عمه المخضب بالدماء محاولا أن يبعد عنه شبح الموت الذي راح يتراقص حوله على أسنة الرماح و رؤوس السيوف الحاقدة.

فماذا كانت النتيجة؟ و هل أفلح ذلك الفتى الصغير في إبعاد شبح القتل و التمثيل بعمه الحسین علیه السلام؟ و هل شفعت له حداثة سنه في إلغاء أو تأجيل ذلك المشهد الدامي من تلك المأساة؟!

ص: 460


1- السيد هادي المدرسي، کتاب عاشوراء، دار و مكتبة الهلال . بيروت، 1985، ص195.

و للجواب على تلك الأسئلة، دعونا، أولا، نسأل المؤرخ (الطبري) لنرى ماذا جاء في كتب المؤرخين المتقدمين عن تلك الصفحة من صفحات السفر الكربلائي الحزين.

ينقل لنا (الطبري) عن العديد من الرواة أن ذلك الغلام الصغير قد جاهد في الوصول إلى عمه الحسين علیه السلام الغارق بدمائه، و قد قام إلى جنبه، و في تلك اللحظة الحاسمة يهوي بحر بن کعب بن عبيد الله إلى الحسين علیه السلام عليه بالسيف يريد قتله تماما، فقال الغلام: يا بن الخبيثة، أتقتل عمي الحسين علیه السلام!!

فما كان من بحر بن کعب إلا أن وجه سيفه القاطع إلى رقبة ذلك الغلام الصغير، فاتقاه الغلام بيده، فقطعها إلا الجلدة، فإذا يده معلقة، فنادى الغلام: يا أمتاه!!

فأخذه الحسين علیه السلام فضمه إلى صدره، و قال له: «یا بن أخي، اصبر على ما نزل بك، و احتسب في ذلك الخير، فإن الله يلحقك بآبائك الصالحين، برسول الله صلی الله علیه و آله ، و علي بن أبي طالب و حمزة و جعفر و الحسن بن علي، صلى الله عليهم أجمعين»(1).

و تحرك الإمام الحسين علیه السلام قليلا، و رفع يديه المتعبتين إلى السماء قائلا:

«اللَّهُمَّ إِنَّ مَتَّعْتَهُمْ إِلى حِينٍ ، ففرقهم تَفْرِيقاً بَدَداً وَ اجْعَلْهُمْ طَرائِقَ قِدَداً وَ لَا تَرْضَ الْوُلَاةِ عَنْهُمْ أَبَداً ، فَإِنَّهُمْ دَعَوْنَا لینصرونا ثُمَّ عَدُوّاً عَلَيْنَا يُقاتِلونا ».

و هنا يتقدم (حرملة بن كاهل) و يرمي الغلام الصغير بسهم فيذبحه و هو في حجر عمه الحسين علیه السلام ... و أمه واقفة بباب الخيمة تنظر إلى ما فعلوا به و هي عاجزة عن فعل أي شيء له.

و حتى تكتمل صورة العمل الوحشي الذي قام به أعداء أهل البيت عليهم السلام، علينا أن

ص: 461


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص451.

نقرأ بروية ما حدث للإمام الحسين علیه السلام في اللحظات الأخيرة من المواجهة.

الإمام الحسين علیه السلام ملقى على الأرض، و جراحه النفسية لا تقل ألما عن جراحه الجسدية، و إذا مررت به تكاد لا تعرفه من كثرة الدم الذي خضب وجهه و جسده و کامل ثيابه، لقد نزف معظم دمه و لم يبق في عروقه دم إلا مثلما يبقى في المصباح من قطرات زيت تبقي شعلته حية للحظات قليلة قبل أن يعم الظلام.

السهام لا تزال مغروسة عميقا في جسده و كأنها تعبر بألمها الحاد عن مدى حقد ها عليه، أما العطش، فلا يمكن لأحد أن يتخيل الحد الذي و صل الحسين علیه السلام إليه مع حالة العطش الشديد التي لا تحتملها حتى رمال كربلاء اللاهثة.

و بالرغم من هذه الحالة المأساوية المزرية التي بينت للجميع أن مصير الإمام الحسين علیه السلام بات محسوما نهائيا بحيث لم يعد يشكل أدنی خطر على مهاجميه من الأعداء، نرى الإمام الحسين علیه السلام ينظر بثبات في وجوه من هم حوله من الأعداء و كأنه يريد أن يقول شيئا أو أن يطلب شيئا.

و يا ترى ما هو ذلك الشيء الذي يريد أن يقوله أو أن يطلبه؟!

إنه يريد منهم شيئا بسيطا جدا، نعم إنه بسيط جدا لكن معانيه عميقة جدا أيضا، إنه عليه السلام يريد منهم قدحا من الماء !!

و يا للعجب!! إنهم يلبون طلبه و يأتونه بقدح من الماء العذب الفرات، ماذا حدث؟ هل عادوا إلى رشدهم؟ هل ندموا على فعلتهم؟ هل تابوا إلى الله من سوء ما قاموا به و تذكروا الحديث القدسي القائل: «أنين المذنبين أحب إلي من تسبیح المسبحين»؟!(1)

ص: 462


1- آية الله السيد عبد الحسين دستغيب، الثورة الحسينیة، دار التعارف. بیروت، دت ص46.

و حتى لا نقحم أنفسنا في متاهات لا طائل منها، و حتى لا نتأول ما حدث، دعونا نقرأ النوايا الخفية لإعطائهم الإمام الحسين علیه السلام قدحا من الماء العذب قبيل استشهاده بلحظات.

تنقل لنا بعض الكتب المعاصرة - نقلا عن الكتب المتقدمة- أن القوم لم يعطوا الإمام الحسين علیه السلام قدحا من الماء الفرات رحمة به أو شفقة عليه، و إنما أعطوه إياه إمعانا منهم في تعذيبه و محاولة إذلاله حتى آخر لحظة من حياته الكريمة.

فعندما استلم الإمام الحسين علیه السلام قدح الماء منهم و أراد وضعه على شفتيه المتشققتين من العطش، رماه (الحصين بن نمير) بسهم غادر فدخل السهم في فمه و حال بينه و بين الماء، فامتلأ فمه دما و سقط القدح من يده(1).

و بسقوط القدح الدامي من يد الإمام الحسين علیه السلام كانت قطرة الزيت الأخيرة في المصباح تزداد تألقا في اشتعالها معلنة بذلك اقتراب النهاية و إسدال الستار.

و يحدثنا التاريخ المتقدم و المعاصر، و رواته من مسلمين و غير مسلمين، أن عمر بن سعد نادي في أصحابه قائلا: من ينتدب للحسين و یوطئه فرسه؟! فانتدب له عشرة فرسان يدوسون صدره و يمزقون جسده.(2)

ص: 463


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابقص145.
2- راجع على سبيل المثال: أ. الأمير أحمد حسین بهادرخان الهندي، تاريخ الأحمدي، أشرف على الترجمة: السيد محسن الخاتمي، مركز الدراسات و البحوث العلمية. بيروت، 1988، ص294. ب. محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص453. ج.د. عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، مصدر سابق ص758. د.د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص126. ه . أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص267. و. إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص30. ز. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 278. ح. جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص225. ط. عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، مصدر سابق ص384.

و لكن علينا أن نعرف أن الأمر بتمزيق جسد الحسين علیه السلام لم يأت هكذا فجأة و إنما جاء أيضا بعد عدة مشاهد عنيفة أخرى قبیل استشهاده بعدة دقائق فقط.

و إليكم ما حدث بالتفصيل نقلا عن ما جاء في كتب إخواننا السنة و في كتب و دواوين الأدباء و المفكرين المسيحيين المعاصرين، و نحن عندما نورد وصف تلك اللحظات الحاسمة و الأليمة بشكلها الكامل في هذا الفصل من الكتاب، فإننا نورده کاملا و مفصلا من أجل إكمال الإطار العام للصورة الهمجية و الإنسانية التي واجهها الإمام الحسين علیه السلام في دقائقه الأخيرة بكل صبر و إيمان و رضى بقضاء الله و قدره.

لقد أجمعت المؤلفات المعاصرة على أن الإمام الحسين علیه السلام بقي مكبوبا على الأرض ملطخا بدمه ثلاث ساعات و هو يقول: «صَبْراً عَلَى قَضَائِكَ ، لا إِلهَ سِوَاكٍ ، یا غیاث الْمُسْتَغِيثِينَ»، فابتدر إليه أربعون رجلا كل منهم يريد حز رأسه الشريف.

و كان أول من ابتدر إليه (شبث بن ربعي) و بيده السيف، فدنا منه ليحتز رأسه، فرمق الحسين علیه السلام بطرفه، فرمی بعدها السيف من يده و ولى هاربا و هو يقول:

«وَيْحَكَ يَا بْنِ سَعْدٍ ، تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ بَرِيئاً مِنْ قَتْلِ الْحُسَيْنُ وَ إِحْرَاقُ دَمِهِ ، وَ أَكُونَ أَنَا مَطَالِبِ بِهِ ، مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَلْقَى اللَّهَ بِدَمِكَ يَا حُسَيْنٍ).

فأقبل (سنان بن سنان) و قال: ثكلتك أمك و عدموك قومك لو رجعت عن قتله، فقال (شبث): (يا ويلك إنه فتح عينيه في وجهي فأشبهتا عيني رسول الله صلی الله علیه و آله ، فاستحييت أن أقتل شبيها لرسول الله)، فقال له: يا ويلك، أعطني السيف فأنا أحق منك بقتله، فأخذ السيف و هم أن يعلو رأسه، فنظر إليه الحسين علیه السلام علي فارتعد، و سقط

ص: 464

السيف من يده و ولى هاربا، و هو يقول: معاذ الله أن ألقى الله بدمك یا حسین.

فأقبل عليه (شمر بن ذي الجوشن) و قال: ثكلتك أمك ما أرجعك عن قتله؟

فقال: يا ويلك، إنه فتح في وجهي عينيه، فذكرت شجاعة أبيه، فذهلتُ عن قتله.

فقال (الشمر): يا ويلك، إنك لجبان في الحرب، هلم إلي بالسيف، فوالله ما أحد أحق مني بدم الحسين ، إني لأقتله سواء شبه المصطفی أو علي المرتضی،فأخذ السيف من يد (سنان) و ركب على صدر الحسين علیه السلام فلم يرهب منه، و قال: لا تظن أني کمن أتاك، فلست أرد عن قتلك يا حسين

فقال له الحسين علیه السلام : «مَنْ أَنْتَ وَيْلَكَ ، فَلَقَدْ ارتقيت مُرْتَقًى صَعْباً طَالَمَا قَبْلَهُ النَّبِيِّ صلی اللَّهِ علیه وَ آلِهِ».

فقال له: أنا الشمر الضبابي، فقال الحسين علیه السلام: «أما تعرفني؟»، فقال: بلی أنت الحسين و أبوك المرتضى و أمك الزهراء و جدك المصطفى و جدتك خديجة الكبرى.

فقال له الحسين علیه السلام: «وَيْحَكَ إِذْ عَرَّفْتَنِي فَلَمْ تَقْتُلُنِي؟!»، فقال له: أطلب بقتلك الجائزة من يزيد، فقال له الحسین علیه السلام: «أَيُّمَا أَحَبُّ إِلَيْكَ . . . شَفَاعَةَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ أَمْ جَائِزَةُ يَزِيدُ؟»، فقال: كان من جائزة يزيد أحب إلي منك و من شفاعة جدك و أبيك، فقال له الحسين علیه السلام: «إِذَا كَانَ لَا بُدَّ مِنْ قَتْلِي فاسقني شَرْبَةِ مَاءٍ».

فقال: هيهات هيهات، و الله ماتذوق الماء أو تذوق الموت غضة بعد غصة و جرعة بعد جرعة، ثم قال: يا ابن أبي تراب ألست تزعم أن أباك على الحوض يسقي من أحب؟ اصبر قليلا حتى يسقيك أبوك، ثم قال له: و الله لأذبحنك من القفا.

ثم أكبه على وجهه الشريف و جعل يحز أو داجه بالسيف، و كان كلما قطع منه عضوا، نادي الحسين علیه السلام: «وا محمداه، وا علياه، وا حسناه، وا جعفراه، وا حمزتاه،

ص: 465

وا عقيلاه، وا عباساه، وا قتيلاه، وا قلة ناصراه، وا غربتاه».

فاحتز (الشمر) رأسه الشريف، و رفعه على رمح طويل، فكبر العسكر ثلاث تكبيرات(1).

و اسود وجه النهار و هو يلفظ أنفاسه الأخيرة...

و مالت الشمس للغروب و هي تنتحب تاركة وراءها شفقا غريبا بحمرته الدامية التي ازدادت في ذلك المساء الحزين تألقا و كأن السماء قد حسدت الأرض و غارت منها لأن الحسين علیه السلام أعطاها دمه، فأبت عليها إلا أن تأخذ شيئا من دم الحسين علیه السلام و ترفعه إليها كي تلون الأفق الفسيح بشفق جدید و بلون جدید و بحمرة جديدة، إنها حمرة دم الحسين علیه السلام.

و قد أجاد شاعر الفلاسفة و فيلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) (973-1057م) عند ما قال عن استشهاد الإمام علي عليه السلام و عن نجله الإمام الحسين علیه السلام:

وَ عَلَى الْأُفُقِ مِنْ دِمَاءِ الشهيدين *** عَلِيُّ وَ نجله شاهدان

فهما فِي أَوَاخِرِ اللَّيْلِ فجران *** وَ فِي أولیاته شفقان(2)

ص: 466


1- راجع ما جاء في الكتب التالية، مع مراعاة وجود بعض الفوارق في دقة و عمق التفاصيل: أ. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص 266.265. ب. عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرة، شهيدا، مصدر سابق ص383.385. ج. عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص169.170. د. الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص 181. ه. خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص179. و . توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق، أورد الحادثة باختصار ص159.
2- عباس محمود العقاد، حياة قلم، دار الكتاب العربي . بيروت، 1969، ص184.

و برأيي الشخصي، فإن كلام الأستاذ خالد محمد خالد) عن لحظة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء لا يقل قوة و بلاغة عن قوة و بلاغة ما قاله الفيلسوف الأديب (أبو العلاء المعري).

ففي السطور الأخيرة من الفصل الذي يحمل عنوان (المأساة و العظمة)، کتب الأستاذ (خالد) يقول:

و قد امتد (الشفق) على طول الأفق، و كأنه بساط وضع و مهد لتعرج عليه إلى جنان الله أرواح الشهداء...!!

و على غير عادة الطقس و المناخ في ذلك الحين و في تلك الأرض، دوت طلقات قوية صادعة كأصوات الرعود.

و لقد حسبها المجرمون نذيرا لهم.. ولكن لا، فهم أهون على الله من ذلك..

إنما هي السماء، كانت تطلق مدافعها تحية..!! تحية إجلال للمهمة التي أنجزها الشهداء.. و تحية استقبال للأرواح التي كانت قد بدأت رحلة خلودها.. حيث تتلقى من يمين الرحمن ما أعده لها من مثوبة، و نعيم، و عطاء..!!(1)

و إذا كان الله سبحانه و تعالى قد قضى على الشهداء بالمثوبة و النعيم و العطاء، فبماذا قضى المجرمون على كل ما تبقى من أهل البيت عليهم السلام و على الحسين بعد أن قتلوه؟!

و على هذا السؤال، يجيبنا المؤرخ (الطبري) قائلا: (... و مال الناس على نساء الحسين و ثقله و متاعه، فكانت المرأة لتنازع ثوبها عن ظهرها حتى تغلب عليه فيذهب

ص: 467


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص180.

به عنها)(1).

و بالطبع، ليس المؤرخ (الطبري) هو الوحيد الذي ذكر تفاصيل تلك الحادثة من المؤرخين و الرواة المتقدمين، بل هناك العديد غيره مثل (ابن الأثير) في كتابه (الكامل في التاريخ) ج 4 ص 80.79، و (المقريزي) في كتابه (المواعظ و الاعتبار بذكر الخطط و الآثار) الذي ذكرالكثير من التفاصيل المؤلمة التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين علیه السلام سواء ما يتعلق بسلب و نهب و أسر ما تبقى من أهل بيت النبوة، أو ما يتعلق بسلب الإمام الحسين نفسه عليه السلام و وطء الخيول جسده الشريف.

و لكن، و كما ذكرنا سابقا، فإن ما يهمنا في هذا الكتاب هو إيراد و تحليل ما جاء في صفحات الكتاب و الدواوين و المؤلفات الفكرية المعاصرة، و لذلك دعونا نقوم الآن بجولة سريعة في رحاب بعض تلك الكتب و الدواوين لنرى إن كان هناك ذكر جلي لتلك الحادثة المخزية التي قام بها أعداء الله و أعداء أهل بیت رسوله المصطفی المختارصلی الله علیه و آله.

يذكر المؤلف الأستاذ (عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) ما حدث قائلا:

(و سلب الحسين ما كان عليه فأخذت سراويله و قطيفته و نعلاه، و مال الناس على الإبل و الخيل و انتهبوها)(2).

أما الأستاذ المصري (توفيق أبو علم) المتخصص في دراسة تاريخ و تراث أهل البيت علیهم السلام، فيقول: (لما قتل الإمام الحسين مال الناس على ثقله و متاعه و انتهبوا ما

ص: 468


1- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم و الملوك، مصدر سابق ج5 ص453.
2- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابقص170.

في الخيام و أضرموا النار فيها و تسابق القوم على سلب حرائر الرسول، و انتهى القوم إلى علي بن الحسین (زین العابدین علیه السلام) و هو مريض على فراشه لا يستطيع النهوض، و جرد (الشمر) سيفه يريد قتله، فقال له (حمید بن مسلم): يا سبحان الله أتقتل الصبيان؟! إنما هو صبي مريض، فقال: إن ابن زياد أمر بقتل أولاد الحسين ...

و أمر ابن سعد بالرؤوس فقطعت و اقتسمتها القبائل لتتقرب بها إلى ابن زیاد)(1).

إذن، هذا هو مصير أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله ، و هذه هي المودة في القربي التي ارادها الله و رسوله من المسلمين!!

و لا يسعني، و أنا أورد هذه الصور و المشاهد عن مآسي أهل البيت عليهم السلام و محبيهم في حادثة كربلاء، إلا أن أذكر حديثة مؤثرا سمعته من الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، و هو ابن الأديب و الشاعر (بولس سلامة) صاحب ملحمة (عيد الغدير) التي لا تزال تطبع منها آلاف النسخ كل عام.

و من المعروف عن الأستاذ (رشاد سلامة) أنه شخص مهتم بالأدب و الثقافة، هذا بالإضافة إلى اهتماماته الاجتماعية و السياسية على الساحة اللبنانية.

ففي تاريخ 18 ذي الحجة من عام 1420ه الموافق ل 22/3/2000م أجرت قناة المنار التلفزيونية لقاء مطولا متعدد الجوانب و المواضيع مع الأستاذ (رشاد)، و قد تحدث الأستاذ (رشاد) في ذلك اللقاء عن علاقة والده الراحل (بولس) بفكر و تراث أهل البيت عليهم السلام بشكل يبعث على الدهشة و الاستغراب.

و كنت كلما سمعت شيئا جديدا منه عن عمق حب والده لكل أفراد أهل البيت النبوي الشريف، كلما ازدادت دهشتي و حيرتي، و كنت أسأل نفسي مستغربا:

ص: 469


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص160.

كيف يمكن لذلك المسيحي المعاصر أن يحب أهل البيت أكثر بكثير من أولئك الذين كانوا يعدون أنفسهم مسلمين على زمن رسول الله صلی الله علیه و آله ؟!

و كيف يمكن لهذا الأديب و الشاعر الذي يفخر بهويته المسيحية أن يحب الإمام الحسين علیه السلام و يتعاطف معه في ما أصابه في الوقت الذي كان فيه الإمام الحسين علیه السلام ضحية لغدر أولئك الكفرة الذين كانوا يعدون أنفسهم سادة و قادة المسلمين؟!

و على كل حال، كان أكثر ما أثر في نفسي هي تلك القصة التي رواها الأستاذ (رشاد) و التي حدثت معه شخصيا عندما كان والده في المراحل الأخيرة من نظم ملحمة (عيد الغدير).

يقول الأستاذ (رشاد): في صباح أحد الأيام كنت أرتب سرير والدي بعد استيقاظه صباحا، و كانت صحة أبي وقتها ليست على ما يرام تماما، و بينما كنت أقوم بترتيب الوسادة، لاحظت أن تلك الوسادة كانت مبللة بالماء بشكل واضح على أحد جانبيها فتعجب من ذلك و اعتقدت أن أبي قد سقط منه كأس الماء- نتيجة ضعفه- على تلك الوسادة مما أدى إلى بلل جزء يسير من أحد وجهيها، و لما عاد أبي و دخل إلى الغرفة من جديد، سألته: هل سكبت الماء، عن غير عمد، على الوسادة و أنت تشرب الماء ليلا؟

فقال أبي: لا، لم أسكب الماء.

فقلت له: فمن أين جاء الماء، إذن، على الوسادة؟!

فسكت أبي لحظة ثم نظر إلي بحسرة و قال: يا بني، إن هذا ليس ماء بل دموعا.

فالبارحة ليلا كنت أكتب قصيدة مطولة عن وقائع استشهاد الإمام الحسين و أهل بيته عليهم السلام في كربلاء، فكتب القصيدة و وضعت رأسي على الوسادة، و هذا ما تبقى من

ص: 470

دموع الليل.

و ما كان الأستاذ (رشاد سلامة) ينتهي من رواية تلك القصة عن والده و عن علاقته الوجدانية العميقة بأهل البيت عليهم السلام عموما، و بالإمام الحسين علیه السلام خصوصا نتيجة للمصائب و للأهوال التي تعرض لها في كربلاء، حتى رحت أسأل نفسي قائلا:

أليس هذا المسيحي أفضل من آلاف المسلمين الذين كانوا يصلون على النبي و يطلبون شفاعته عقب كل صلاة، حتى إذا قاموا من صلاتهم تفرغوا لإبادة أهل بيته علیهم السلام قتلا و تنكيلا و تهجيرا في كل زمان و مكان؟! أليس المسيحي الحقيقي أخا للمسلم الحقيقي في إنسانيته و روحانيته؟!

أليس من الخطأ أن نفهم الإسلام الحقيقي على أنه مجرد لفظ الشهادتين، و إنما الصواب هو أن نفهم الإسلام على أنه المبدأ القائم أساسا على سلامة الناس من يد و لسان الإنسان المسلم؟!! و بالتالي، فقد يكون هناك مسلمون من غير الدائرة الإسلامية يوحدون الله و يسلم الناس من شرور أيديهم و ألسنتهم، و بنفس الوقت، قد يكون هناك من نطق لسانه بالشهادتين، و لكنه هو الشيطان بعينه؛ إذ لم يدخر جهدا في إلحاق أسوأ أنواع الأذى بالناس عموما من مسلمين و غير مسلمين؟!

و كان من الطبيعي أن يكون الأرق هو ضيفي الثقيل في تلك الليلة المثقلة بالذكريات و الهموم، و بالأسئلة و التأملات العميقة، و لم يغادرني في ضيفي إلا عندما رأى أن السماء قد مزقت نقابها عن وجهها المضيء، ذلك الوجه الذي بدأ ينثر الضوء الخجول شيئا فشيئا ليقبل وجه الأرض النائمة تحت عباءة الليل.

و على أي حال، و من أجل التأكيد على مصداقية حديث الأستاذ (رشاد بولس سلامة)، دعونا نقرأ الشيء اليسير مما كتبه والده الراحل عن أيام الحسين علیه السلام.

ص: 471

و لأن المجال لا يتسع لذكر كل ما قاله في الحسين و أهل بيته الكرام علیهم السلام، دعونا نقتطف بعض الأبيات الشعرية عن اليوم الأخير في عاشوراء شهر محرم الحرام.

فبعد أن يصف الشاعر (سلامة) و قائع القتال المرير الذي خاضه الإمام الحسين علیه السلام ضد جيوش يزيد اللعين و كيف استطاعت تلك الجيوش الجرارة أن تحيط به و تمطره بوابل من الرماح و السهام التي استقرت في جميع أعضاء جسمه، من رأسه حتى قدميه، فبعد أن يصف الأستاذ (سلامة) ذلك الموقف، نراه ينتقل لتصوير اللحظة التي سقط فيها جسد الإمام الحسين علیه السلام على الرمال، فيقول عن ذلك:

فَتَحَ الرَّمْلِ قَلْبِهِ مستهاماً *** يَتَلَقَّى مِنْ الحسین الدِّمَاءِ

يَتَلَقَّى دِمَاءَ طه كنوزا *** سائلات فتستفيض ثراء

وَ یباهي فِي الْأَرْضِ ، كُلُّ بِقَاعِ *** الْأَرْضِ ، حتی یکاد یغزو السَّمَاءِ

وَ يُبَاهِيَ ، فَكُلْ حَبَّةٍ رَمْلِ *** دُونَهَا حِلْيَةُ الْمُلُوكِ غَلَاءٍ(1)

إذن، فكل حبة رمل قد تحولت بفعل دم الحسين علیه السلام إلى عقيق أحمر لا تدانيها تيجان الملوك تألقا و جمالا.

أما عن الفظائع التي ارتكبت بحق الحسين علیه السلام بعد استشهاده، فيقول:

وَ انبرى ( الشِّمْرِ ) يَذْبَحُ السِّبْطِ ذِبْحاً *** لَيْتَ كَانَتْ يَمِينُهُ شَلَّاءَ

فَصَلِّ الرَّأْسِ عَنْ قتیل شهید *** فَعَنْ الشَّمْسَ قَدْ أَزَالُ الضِّيَاءِ

يبتغيه هَدِيَّةُ لِ ( عُبَيْدُ اللَّهِ ) *** يَرْجُو نواله وَ الثَّنَاءُ

و أما عن عملية السلب و النهب، فيقول واصفا ذلك العمل الدنيء:

ص: 472


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص282.

نَزَعْتَهَا عَنِ الشَّهِيدِ لُصُوصٌ *** وُلِدُوا يَوْمٍ أَ سَقَطُوا أدنياء

و يتابع الأستاذ الأديب (سلامة) وصفه الدقيق لكل تفاصيل الفاجعة و استمرارها المؤثر حتى بعد الانتهاء من قتل الإمام الحسين علیه السلام، و من جملة المآسي التي ذكرها ذلك الأديب و الشاعر المسيحي (سلامة)، عملية تمزيق جسد الحسين علیه السلام تحت نعال الخيول الهائجة، و عملية سلب حريم الحسين علیه السلام و هتك سترهن بعد أن غاب عنهن كل مدافع و نصير في أرض الوحدة و الغربة.

و ها هو يصف تلك الفجائع المؤسفة بقوله:

أوطأوا الْخَيْلِ ظَهْرِهِ فَاسْتَعَاذَ *** الطَّلَبِ وَ انْقَضَتْ الحنايا الْتِوَاءِ

أَ نِعَالِ الْأَفْرَاسِ داست حُسَيْناً؟ *** یابن ( سَعْدُ ) هَلَّا قَضَيْتَ حَيَاءً

مَا كفاهم سُلِبَ الْحُسَيْنِ فَرَاحُوا *** يسلبون الْمُخَدَّرَاتُ النِّسَاءِ

رَبِّ أنثی تسترت بِرِدَاءٍ *** وَ اسْتِغَاثَةُ ، فجاذبوها الرِّدَاءَ

هَدَّها مَصْرَعِ النُّسُورُ فذابت *** فِي الشرارات شَمْعَةُ صَفْرَاءُ (1)

و بالطبع، فإننا سنرجئ مسألة السبي و موضوع المسير بالرؤوس إلى الفصل الجديد القادم، و لكن تحضرني الآن عبارتان عن مقتل الإمام الحسين علیه السلام و عن التمثيل به و بالقتلى من أهل بيته و أصحابه، و تحریق خيامه و هتک ستر بنات رسول الله صلی الله علیه و آله أمام عيون الفجار و الكفار.

و العبارة الأولى هي تلك التي قالها الخليفة الأموي (عمر بن عبد العزيز) في معرض حديثه عن المصائب التي أحاطت بأهل بيت الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله ، و بشكل خاص عن مصائب الإمام الحسين علیه السلام و مقتله ظلما في ساحة كربلاء.

ص: 473


1- نفس المصدر السابق ص284.

يقول ذلك الخليفة الأموي: (لو كنت من قتل الحسين و أمرت بدخول الجنة لما فعلت حياء أن تقع علي عينا رسول الله صلی الله علیه و آله)(1)

أما العبارة الثانية، فهي عبارة عن مقولة موجزة قالها العالم و المؤرخ (البيروني) ( 1048-973) عن وحشية الروح الأموية و كيفية تعاملها مع الشهداء من أهل البيت علییهم السلام.

فقد ذكر ذلك العالم و المؤرخ أن ما فعلته تلك الطغمة الآثمة بوطئها الخيل جسد الحسين، إنما هو عمل فظيع و شنیع لم يفعل في جميع الأمم بأشرار الخلق،من القتل بالسيف و الرمح و الحجارة و إجراء الخيول على جسد الضحية.(2)

و خلاصة القول عند (البيروني)، و هو المؤرخ الذي خبر بأحوال الكثير من الأمم و الشعوب، أن كل الأمم التي درس عنها و عرف أحوالها لم تعامل المجرمين و شذاذ الآفاق بتلك الطريقة الوحشية التي عامل بها العرب المسلمون سبط رسولهم صلی الله علیه و آله و ريحانته من الدنيا.

و بما أننا كنا قبل قليل مع الشاعر المبدع (بولس سلامة)، و ذلك قبل إيراد عبارتي (عمر بن عبد العزيز) و(أبو ریحان البيروني) عن حياء و خجل الضمير الإنساني الحي مما فعله طغاة بني أمية بالعترة النبوية الطاهرة علیهم السلام التي أوصى بها الرسول الكريم و خيرا و أمر المسلمين عموما بالتمسك بها و بالقرآن العظيم، نری من الأفضل أن نبقى الآن أيضا مع محطة شعرية أخرى لها مساهمتها الخاصة في الحديث عن عنفوان النهضة الحسينية و عن الإمام الحسين علیه السلام الذي كان، و لا يزال، منارة مضيئة لكل

ص: 474


1- راجع مجلة (الموسم)، مصدر سابق، العدد /13/ المجلد /4/، 1992، ص258.
2- أبو ریحان البيروني، الجماهر في الجواهر، نشر مكتب التراث المخطوط . طهران، 1995، راجع المقدمة بقلم المحقق: يوسف الهادي، ص55.

الثوار و الأحرار في العالم على مدى العصور و الدهور.

إن محطتنا الشعرية الجديدة هي محطة هامة مع أحد الأدباء و الصحافيين المسيحيين الكبار في عصره، و قد ولد ذلك الأديب المسيحي (إدوار مرقص) في مدينة اللاذقية و تعلم فيها، و كتب في كبريات الصحف و المجلات المصرية و السورية و اللبنانية.

و قد أجاد الكتابة و البحث و الغوص في فقه اللغة و أدبياتها و فنونها، و له مؤلفات و كتب كثيرة منها: (كفيل البيان و الشعر)، (ذخيرة المتأدب)، (في سبيل العربية)، (دیوان إدوار مرقص)، و كانت وفاته عام (1372 ه- 1952 م).

و كان من جملة ما قاله الأديب (مرقص) في ديوانه عن الإمام الحسين علیه السلام، سيد الثوار و منارة الأحرار:

رَكِبَ الْحُسَيْنُ إِلَى الْفَخَّارِ الْخَالِدِ *** بَيْضَ الصفاح فَكَانَ أَكْرَمَ رَائِدُ

حَشَدَ الطُّغَاةُ عَلَيْهِ كُلَّ قواهم *** وَ حَمُّوا عَلَيْهِ وَرَدَ مَاءٍ بَارِدُ

تَأَبَّى البطولة أَنْ يُذِلَّ لبغيهم *** مَنْ لَمْ يَكُنْ لسوى الْإِلَهُ بساجد

قَدِمَ الزَّمَانِ وَ ذَكَرَهُ متجدد *** فِي كُلُّ قَلْبٍ بِالْفَضِيلَةِ حاشد

وَ خُلُودُ كُلِّ فَضِيلَةٍ بخلود مِنْ *** لَوْلَاهُ لَمْ يَكُنِ الزَّمَانِ بخالد

إِيهِ دَمُ الشُّهَدَاءِ سَلْ متدفقا *** وَاسْقِ الْقُلُوبِ ببارق وَ براعدِ

إِنَّ الْقُلُوبَ الممحلات إِذَا ارتوت *** مِنْهُ زَهَتْ بِمَكَارِمِ وَ مَحَامِدِ(1)

ص: 475


1- راجع ما جاء في الكتب التالية: أ. جواد شبر، أدب الطف، مؤسسة التاريخ العربي . بيروت، 2001، ج10 ص 43. ب . علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين علیه السلام، دار المرتضی . بیروت، 2004، ص305. ج. الموسم، مصدر سابق، العدد 13 المجلد 4، إصدار 1992، ص330.

و غني عن القول إن هذه الأبيات الشعرية عن الإمام الحسين علیه السلام ليست هي كل ما قاله الأديب (إدوار مرقص) عن توصيف نهضة و شخصية الحسين الثائر علیه السلام و لذلك ستكون لنا وقفات و محطات جديدة أخرى مع الأديب المسيحي (مرقص) في الفصول القادمة إن شاء الله تعالی.

أما الآن، أيها الأحبة الكرام، فإننا سننتقل سوية إلى أديب و شاعر مسيحي آخر له شأن عظيم في محبة أهل البيت علیهم السلام، إنه شاعر و أديب، و رجل سياسة متميز في عطاءاته، ولكنه - و للأسف الشديد - لم يتم تسليط الأضواء عليه بما فيه الكفاية حتى يعرفه الناس جيدا و يتدارسون نتاجاته الأدبية الوجدانية الراقية التي تفجرت باكرا في صدر إنسان نبيل ضحى بالكثير من مغريات الحياة في سبيل نشر و نصرة فكر أهل البيت المحمدي علیهم السلام على الرغم من كونه مسيحي الولادة و النشأة و التربية.

و لذلك، فليعذرني القارئ الكريم إن كنت سأطيل عليه رواية بعض النقاط الهامة في حياة هذا الشاعر المسيحي النبيل (حبيب غطاس) و الذي اعتمدنا في سرد سيرته على كتاب (ماذا في التاريخ) لمؤلفه العلامة الشيخ محمد حسن القبيسي).

ولد الأديب الأستاذ (حبيب غطاس) عام (1890)، و نشأ و ترعرع في بيروت، و بعد أن تلقى علومه في مدينة بيروت، دخل الشاب (غطاس) سلك الجيش اللبناني، و راح يترقی و يعلو من رتبة إلى أعلى و من درجة إلى أرقى حتى استحق و سام الأرز الرفيع و نال رتبة (كولونيل) في الجيش اللبناني.

و كان الكولونيل (غطاس) محبا للقراءة و مهتما بالثقافة إلى حد كبير، و لذلك لم يشغله منصبه العسكري العالي عن القراءة و الاطلاع و البحث عن الحقائق، و بعد

ص: 476

رحلة طويلة و شاقة من البحث و الدراسة، آمن الكولونيل (غطاس) برسالة الإسلام، و أعلن إسلامه عام (1960) على رؤوس الأشهاد، و كان رئيس جمهورية لبنان و قتذاك الرئيس (فؤاد شهاب).

و لما بلغ الخبر الرئيس (شهاب) أرسل في طلبه حالا، ثم قال له لما مثل بين يديه: إذا كان الأمر كما سمعت عنك، فيلزمك إما أن تتنازل عن رتبتك إلى درجة يستحقها المسلمون من وظائف الجيش، أو تستقيل نهائيا من سلك الجيش اللبناني، و لك الخيار في ذلك لأن المرتبة التي أنت فيها من مختصات المسيحيين دون المسلمين حسب اتفاق الاستقلال اللبناني عند تسلمه من الفرنسيين و ما ينص عليه دستور لبنان، و بإمكانك أيضا أن ترجع عن إسلامك إلى دينك السابق فتبقى على مقامك و لك المزيد من المراتب و الإكرام.

و هنا تأتي اللحظة الحرجة، و هنا يأتي القرار الحاسم و الخطير .

هل يبقى على دينه الجديد و يخسر رتبته العسكرية العالية و يفقد كل الجاه و المكاسب و الامتيازات؟

أم أن الحكمة تقتضي أن يعود إلى دينه السابق مقابل أن يبقى ضابطا رفيع المستوى، مهاب الجانب، مسموع الكلمة، مطاع الأوامر؟!

و ربما كان السؤال الأصعب و الاستفسار الأقسى الذي يواجهه الكولونيل (حبيب) هو:

إذا كنت قد امتلك الحقيقة بعد أن عانيت الكثير للوصول إليها، فهل أكون قد خسرت الكثير إذا فقدت رتبتي العسكرية و امتيازاتي و وجاهتي الاجتماعية؟!

و بما أن الإيمان كان قد تغلغل إلى كل خلية فيه، و إلى كل نفس من أنفاسه، فقد

ص: 477

تقدم، بكل رغبة و ثبات، إلى الرئيس بأوراق استقالته من الخدمة في الجيش متنازلا عن رتبته و مكانته لمسيحي آخر يخلفه وفقا للقانون اللبناني و لدستوره.

و عاش الأستاذ (غطاس) بقية حياته حرا نزيها عزيزا مترفعا عن طلب أي شيء إلا العلم و المعرفة و الثبات على ولاية أهل البيت عليهم السلام، و كان من ثمار تعلقه بهم علیهم السلام أن كتب فيهم العديد من القصائد الرقيقة الشفافة التي ذكرتها بعض الكتب و المجلات اللبنانية و غير اللبنانية، و لعل الفضل الأكبر في نشر معظم قصائده يعود للعلامة الشيخ (محمدحسن القبيسي) الذي ذكر سيرة حياة هذا المجاهد الحقيقي و عرف القراء على الإبداعات الشعرية لهذا الرجل الذي امتلأ قلبه حبا لأهل البيت عليهم السلام، حيث ذكره العلامة (القبيسي) و ذكر العديد من قصائده في عدة مواضع في كتابه (ماذا في التاريخ) و الذي يبلغ عدد مجلداته (75) مجلدا، و قد طبع في بيروت على عدة مراحل متتابعة.

و من الطبيعي أن نذكر لهذا الأديب بعض الأبيات الشعرية التي قالها في الإمام الحسين علیه السلام، و لكن قبل أن نذكر تلك الأبيات الشعرية، أرى من المناسب أن أورد الآن له بعض الأبيات الشعرية في الإمام علي عليه السلام، حيث جاءت تلك الأبيات حاملة لنا بعض نفحات إيمانه و لواعج مصائبه و أحزانه التي لاقاها في مسيرة حياته الحافلة بالأحداث الجسام، شأنه في ذلك شأن كل موال حقيقي لأهل البيت علیهم السلام، أهل الحق و الخير و الفضيلة.

و ها هو يبث شكواه و حزنه إلى أمير المؤمنين علي عليه السلام قائلا و معبرا عن عمق آلامه و آماله:

أَنِينَ أَمْ صُرَاخَ الموجعين *** عَلَى جَمْرِ الْغَضَا نَامُوا السنينا

أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أُمِّ اللَّيَالِي *** أَرَادَتْ أَنْ نَكُونَ معذبينا

ص: 478

فَمَا لَانَتْ قَنَاتِي وَ رَبِّ (عیسی) *** وَ لَكِنَّ زِدْتَ إِيمَاناً وَ دِيناً

وَ جِئْتُ لبابك الْعَالِي أُنَادِيَ *** أَغِثْنِي يَا أَمِيرَ المؤمنينا

أَغِثْنِي يَا أَبَا الْحَسَنَيْنِ إِنِّي *** بِبَابِكَ وَاقِفُ عَبْداً أَمِيناً

فَمَدَّ إِلَيَّ باعک وَ انتشلني *** فَقَدْ أُوتِيتَ سُلْطاناً مُبِيناً

وَ زِدْنِي مِنْ عَطَائِكَ مَا يُقَوِّي *** عَلَى طُولِ الْمَدَى قَلْبِي الحزينا

فَأَلْقَى وَجْهِ رَبِّي وَ هُوَ رَاضٍ *** وَ وَجْهَكَ عندما أَجِدُ المنونا(1)

أما القصيدة الثانية التي أود ذكرها الآن، فهي القصيدة التي تبدأ بقوله: (روحي فداك حسين)، و هي مثال رائع لقصائد الرثاء في الشعر العربي المعاصر، و لن نعلق على ما جاء فيها من صور و من عبارات مؤثرة، و إنما سنترك أمر التعليق عليها لمن يريد ذلك.

و لنستمع الآن سوية إلى قول الشاعر (حبيب الغطاس) و هو يخاطب الإمام الحسين علیه السلام قائلا:

رُوحِي فِدَاكَ حُسَيْنُ مَا بَدَا قَمَرُ *** بِاللَّيْلِ أَوِ أَشْرَقَتْ فِي الصُّبْحِ أَنْوَارٍ

أَنْتَ الشَّهِيدِ الَّذِي أَ دَمِيَتْ أَفْئِدَةً *** لَوْلَاكَ لَمْ يَذُمُّهَا وَ اللَّهِ بتار

صَدُّوك عَنْ مَوْرِدَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ *** فلاسالك بِأَرْضِهِمْ سحب وَ أَنْهَارُ

يا كربلاء سَقَتکِ الْمُزْنِ هَاطِلَةً *** عَلَى رفاة الْحُسَيْنِ فَهُوَ مغوار

يَلْقَى الْمَنِيَّةِ عَطْشَاناً وَ مُبْتَسِماً *** إِنَّ الْمَنِيَّةَ فِي عَيْنَيْهِ أَقْدَارٍ

ص: 479


1- راجع موقع: http://www.14masom.Com/mostabsiron/F151.htm و قد اعتمد هذا الموقع في ذكره لسيرة حياة (حبيب الغطاس) و لتراثه الشعري على كتاب (ماذا في التاريخ؟) لمؤلفه العلامة الشيخ محمدحسن القبيسي) الذي أسلفنا ذكره.

صَلَّى عَلَيْهِ إِلَهَ الْعَرْشِ مَا بزغت *** شَمْسُ وَ مَا طَلَعَتْ بِاللَّيْلِ أَ قِمَارٍ(1)

و بقي أن نذكر الآن أن الأستاذ الأديب (حبيب غطاس) قد انتقل إلى جوار ربه الكریم عام (1965) في المشفى العسكري في بيروت بتاریخ 27/8/ من العام المذكور.

و لو لا خوفي من احتمال شعور القارئ الكريم بالملل لأوردت العديد من القصائد الشعرية الأخرى للمغفور له الأديب الشاعر (حبيب غطاس)، و لكن ستكون لنا معه وقفات شعرية أخرى في الفصول القادمة من هذا الكتاب.

و ربما سيأتي الكم الأكبر من القصائد الشعرية للكثير من الشعراء الكبار عربيا و عالميا ضمن فصل خاص عن الحسين علیه السلام و كربلاء في الأدب العالمي الحديث، و بالتحديد في القسم الخاص بالشعر.

و على كل حال، دعونا نعود الآن إلى آخر ما يمكن أن نتحدث عنه بشأن استشهاد الإمام الحسين علیه السلام و التمثيل به و التنكيل بمن تبقى من أهل بيته من النساء و الأطفال.

فبعد أن داست الخيول العشرة صدر الإمام الحسين علیه السلام و مزقته تمزيقا، و بعد أن قطع الأعداء الطغاة رأسه الشريف مع باقي رؤوس الشهداء أمام نظر الأطفال و النساء الحرائر، مال العدو على الخيام فأحرقوها و أطلقوا أياديهم الآثمة سلبا و نهبا و ضربا لنساء أهل البيت علیهم السلام، و قد تحدثنا عن كل ذلك في الصفحات الماضية من هذا الفصل.

و ما يهمنا الآن هو مصير رأس الإمام الحسين علیه السلام ، فمن الذي أخذه، و لماذا؟

و ماذا حدث بالتفصيل مع ذلك الشخص الذي استأثر به؟!

ص: 480


1- مجلة الموسم، مصدر سابق، العدد 12، المجلد 3، إصدار عام 1996، ص151.

و عن هذه الأسئلة يجيبنا الكاتب المصري (محمد رضا) في كتابه (الحسن و الحسين سيدا شباب أهل الجنة)، و يؤكد الأستاذ (رضا) في كتابه المذكور على أن الشخص الذي استأثر برأس سيد الشهداء، الإمام الحسين علیه السلام، هو (خولی بن یزید الأصبحي)، أما السبب الذي جعله يستأثر بالرأس الشريف فهو الأمل بالحصول على جائزة مالية كبيرة من سيده عبيد الله بن زیاد.

و هنا تحديدا، ينقل لنا ذلك الكاتب، و هو كما ذكرنا سابقا من إخواننا السنة، ما دار من حديث بين (خولي ابن يزيد الأصبحي)، و بين زوجته (النوار بنت مالك) حول رأس الحسين علیه السلام.

و يبدأ الحديث بدخول (خولي) على زوجته (النوار) و هو مسرور و منفرج الأسارير، فتخاطبه زوجته قائلة له: ما الخبر؟ ما عندك؟

فرد عليها (خولي) قائلا: (جنتك بغنى الدهر، هذا رأس الحسين مع في الدار)، و بالطبع فإنه قد قال ذلك لأنه كان يرجو أن يكافئه (عبيد الله) مكافأة عظيمة لا تخطر على بال أحد أبدا.

فقالت له (النوار): (و يلك، جاء الناس بالذهب و الفضلة و جئت أنت برأس الحسين ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله !! لا و الله لا يجمع رأسي و رأسك بيت واحد أبدا).

ثم قامت (النوار) من فراشها و خرجت إلى الدار حيث كان رأس الحسين علیه السلام موضوعا تحت الإجانة (و عاء كبير) و جلست تنظر ناحيته.

فماذا رأت (النوار)؟!

تقول (النوار) نفسها: (فوالله ما زلت أنظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء

ص: 481

إلى الإجانة، و رأيت طيرا بيضا ترفرف حولها).(1)

و هذه بلا ريب شهادة قوية من (النوار بنت مالك) زوجة (خولي بن یزید الأصبحي)، ذلك الرجل الآثم الذي شارك في قتال الإمام الحسين علیه السلام، و من ثم في الاستئثار برأسه الشريف طلبا للجاه و للثروة العظيمة عند أحد طغاة بني أمية المتجبرين.

و لكن يرى الكثير من الأدباء و المفكرين من إخواننا المسلمين السنة و من المسيحيين أيضا، بالإضافة إلى بعض الهندوس و الصابئة، أن الكرامات الحقيقية للإمام الحسين علیه السلام تجلت و ظهرت بعد استشهاده و لا يمكن لأحد أن ينكر ذلك لسبب واحد و هو أن ما وصل إليهم اليوم من روايات كثيرة متطابقة في معناها عن تلك الكرامات الحسينية إنما هي روایات صحيحة جاءت أول ما جاءت في كتب و مؤلفات لم يكن أصحابها على مذهب أهل البيت عليهم السلام، و هذا ما يعزز مصداقية تلك الروايات المتواترة.

و إذا كنا في نهاية المطاف قد ذكرنا العديد من الحوادث، و نقلنا أيضا العديد من الصور المحزنة عن مصائب الإمام الحسين علیه السلام و مآسي أهله و عياله و أصحابه المخلصين الذين ثبتوا معه على الحق فوق رمال كربلاء، فعلينا أن نذكر أيضا أن هناك العديد من الأبطال الذين ذاقوا مع الإمام الحسين علیه السلام مرارة الآلام في سبيل إحياء الإسلام على الرغم من أنهم لم يكونوا معه عليه السلام في كربلاء، بل كانوا ينتظرون الأخبار بكل صبر و رضى في المدينة المنورة التي كانت تستعد لارتداء السواد عما قريب.

ص: 482


1- محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص161.

و على الرغم من ضيق المجال لذكر بعض تلك المشاهد المؤثرة التي شهدتها مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله بعد وصول خبر استشهاد الإمام الحسين علیه السلام مع أهله و أصحابه و تسيير ما تبقى من النساء و الأطفال سبايا إلى یزید ابن معاوية في دمشق، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى ذكر بعض تلك المواقف المؤثرة لأبطال حقيقيين جاهدوا و ناصروا الإمام الحسين علیه السلام و ضحوا من أجله و أجل إحياء معالم دین جده المصطفى صلی الله علیه و آله بأغلى ما يملكون.

و سأكتفي هنا بذكر واحد من أولئك الأبطال الذين كانت أرواحهم النورانية لصافية ترفرف برفق و خشوع حول الإمام الحسين علیه السلام في وحدته و غربته.

و قد يفاجأ القارئ الكريم إذا قلنا له إن ذلك البطل العظيم الذي سنتحدث عنه الآن من خلال هذه السطور القليلة هو امرأة و ليس رجلا.

نعم، إنها امرأة.

فهل سمعت بامرأة اسمها (فاطمة بنت حزام العامرية الكلابية)؟!

و هل عرفت، أيها القارئ الكريم، ماذا قدمت تلك المرأة الفاضلة (رضی الله عنها) للحسين عليه السلام ولدين الحسين و دين أبيه و جده علیهما السلام؟!

اسمع، إذن.

(فاطمة بنت حزام) هي زوجة أمير المؤمنين علي عليیه السلام بعد وفاة السيدة (فاطمة الزهراء) عليها السلام، و قد تزوجها الإمام علي عليه اللسام لاحقا كي تعتني بأولاده بعد غياب أمهم الزهراء عليها السلام، و قد رزقت فاطمة بنت حزام من أمير المؤمنين علي عليه السلام بأربعة أولاد ذكور، و هم: (عبد الله) و (جعفر) و(عثمان) و(العباس) الملقب بأبي الفضل و هو أكبرهم.

ص: 483

و كانت تلك المرأة الفاضلة مثالا في الشرف و الإخلاص و الطاعة، و كانت أما حقيقية لأولاد السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام.

و من المعروف عن تلك السيدة الفاضلة (رضی الله عنها) أنها جاءت ذات يوم إلى أميرالمؤمنين علي عليه السلام بعد زواجهما و قالت له بكل أدب و احترام:

- لي إليك حاجة.

فقال عليه السلام لها: «قولي ما عندك».

قالت: أنا أطلب منك أن تغير اسمي فعندما تناديني يا فاطمة، أرى الانكسار باديا على وجوه الحسن و الحسين و زينب، فإنهم يذكرون أمهم فاطمة الزهراء و يتألمون، فما كان من الإمام علي عليه السلام إلا أن استجاب لها و غير اسمها و سماها (أم البنين).(1)

هذه هي (أم البنين)، و هذه هي شهامتها و سماحتها و ثب أخلاقها و تربيتها التي تلقتها في مدرسة فاطمة الزهراء عليها السلام و خديجة الكبری (رضی الله عنها).

أما إذا أردنا أن نعرف كيف كانت تلك المرأة بطلة من أبطال و بطلات کربلاء على الرغم من عدم وجودها الفعلي في ساحة المعركة، فما علينا إلا أن نتوقف قليلا و نقرأ السطور القليلة التالية عنها.

لقد انتشر خبر استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في كربلاء في جميع أرجاء الأرض الإسلامية، و قد عرف الناس في المدينة بمقتل الإمام الحسين علیه السلام عن طريقين.

فالطريق الأول، كان من خلال فوران التراب بالدم في القارورة التي أعطاها رسول الله صلی الله علیه و آله إلى أم سلمة (رضی الله عنها) و إعلامه لها بأن الحسين علیه السلام سيقتل في كربلاء وستمتلئ القارورة بدم عبيط يختلط مع التراب في الساعة التي يقتل فيها على يد

ص: 484


1- سلمان هادي طعمة، أم البنين، دار البقيع . طهران، 1996، ص21.

أعدائه الضالين، ولم تعلن أم سلمة (رضی الله عنها) الخبر إلا للخواص فقط.

أما الطريق الثاني، فقد كان من خلال (بشر بن حذلم) الذي نعي الحسين علیه السلام إلى عموم أهل المدينة، و قد كانت أم البنين (رضی الله عنها) في طليعة المستقبلين له، و كانت تحمل على كتفها طفلا صغيرا لولدها أبي الفضل العباس عليه السلام حيث كان قد ترکه عندها لأسباب و ظروف خاصة به اقتضت منه ذلك.

إذن، لقد استقبلت تلك المرأة المجاهدة (بشر بن حذلم) و هو ينعى الحسين علیه السلام و ينادي برفیع صوته قائلا لأهل المدينة:

يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ بِهَا *** قُتِلَ الْحُسَيْنُ فأدمعي مِدْرَارِ

الْجِسْمِ مِنْهُ بِكَرْبَلَاءَ مضرَّجٌ *** وَ الرَّأْسَ مِنْهُ عَلَى الْقَنَاةَ يُدَارُ

و لما وقع بصرها على الناعي لم تسأله عن مصير أحد من أولادها الأربعة، و إنما سألته فقط عن حال الحسين علیه السلام و ما جرى معه، و قد علت الدهشة وجه بشر بن حذلم عند ما عرف أن هذه المرأة هي فاطمة بنت حزام العامرية، و هي أم البنين كيف لا تسأله عن مصير أولادها في المعركة!! و قد ظن (بشر) أن الصدمة قد جعلتها تغفل عن ذكر أولادها، فراح يعددهم لها الواحد تلو الآخر، و في كل واحد منهم كان يعزیها و يقول لها بكل إكبار و خشوع: عظم الله لك الأجر بولدك جعفر، فتقول له بلهفة: و هل سمعتني أسألك عن ابني جعفر؟! أخبرني عن ولدي الحسين، إني أسألك عن الحسين .

و لم يصدق (بشر) ما يسمع و ما يرى، و لذلك راح يخبرها عن حال بقية أولادها إلى أن وصل إلى خبر ابنها العباس، فما كاد يخبرها بقوله:

(يا أم البنين، عظم الله لك الأجر بولدك أبي الفضل العباس)، حتى اعتراها

ص: 485

اضطراب شديد في اللحظة التي سمعت فيها نبأ مصرع ابنها أبي الفضل العباس عليه السلام ، بحيث اهتر بدنها حتى أن الطفل الصغير الذي كانت تحمله على كتفها قد سقط إلى الأرض و لم تقو على حمله ثانية، و لكنها تمالكت نفسها و استمرت في إلحاحها على (بشر) قائلة له: أخبرني يا (بشر ) عن حال ولدي الحسين..

يقول بشر: و حينما أخبرتها بمقتل الحسين و مصرعه، صرخت و نادت:

وا حسيناه..، وا حبيب قلباه.. يا ولدي يا حسين.. نور عيني يا حسين

و قد شاركها الجميع بالبكاء و النحيب على الحسين علیه السلام، و لم تذكر أبناءها إلا بعد أن ذكرت الحسين باكية عليه(1).

و تحدثنا المؤلفات المعاصرة أن تلك البطلة المجاهدة بأولادها فداء لدین جد الحسين صلی الله علیه و آله، كانت تخرج إلى البقيع فتبكي بنيها الأربعة (عبد الله و جعفرا، و عثمان، و أبا الفضل العباس) - و قد قتلوا جميعا في كربلاء، و تندبهم أشجی ندبة و أحرقها، فيجتمع الناس إليها يسمعون منها، حتى أن مروان بن الحكم- عدو الطالبيين - كان يجيء أيضا فيمن يجيء لذلك، فلا يزال يسمع ندبتها و يبكي(2).

و كما ذكرت سابقا، فإنني سأكون ضنينا بذكر الأبطال الكبار الذين ضحوا بكل ما يملكون من غال و رخيص في سبيل إحياء معالم دین رسول الله صلی الله علیه و آله الذي حاول الملوك الأمويون إزالته و محو آثاره و العودة بالناس إلى عصر الجاهلية بكل ما فيه من سلبيات و تناقضات، و لكن هذه المرة بثوب جديد و بأسلوب جديد، إنه الأسلوب القائم على حكم القبائل و العشائر من خلال حكم مركزي واحد هو النظام الملكي

ص: 486


1- نفس المصدر السابق ص20.
2- د.عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص 151.

الفردي المطلق حيث يكون الملك فيه هو الحاكم و المشرع الوحيد و ليس هناك أي اعتراف بقوانین و شرائع أخرى حتى و لو كانت تلك القوانين مستمدة من شريعة السماء.

و لذلك أعود ثانية و أقول: إن ذكر الأبطال المميزين في واقعة كربلاء مثل (أم البنين) و (مسلم بن عقیل) و (هاني بن عروة) و (بریر بن خضير) و حتى (السيدة زينب عليها السلام) نفسها و غيرهم من الأبطال الذين شهدوا كربلاء أو لم يشهدوها بشكل مباشر، مثل (أم البنين)، لم أغفل عن ذكرهم سهوا، و لم أتوسع في ذكر بعض النقاط الهامة من بعضهم إلا من أجل مشروع فکري متكامل يتناول أولئك الأبطال بشكل مفصل بحيث يكون نصيب كل واحد منهم کتابا مستقلا نتناول فيه سيرة حياة ذلك البطل أو البطلة و نستعرض من خلاله كل ما قدمه و ما قام به من مآثر و تضحيات من أجل إبقاء (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) شهادة حية تملا الآفاق و الأكوان بعبير الفضيلة و حرارة الحق و بشائر الفرقان.

أما الآن، فقد آن الأوان لنجمع متاعنا و نرحل عن أرض كربلاء التي امتزجت فيها دموعنا مع دماء أحبتنا فوق رمالها الصفراء التي ارتوت من تلك الدموع السخية و الدماء الزكية، و ها نحن نبتعد عنها الآن و قد تركنا فوق ترابها الكئيب الذاهل مما جرى فوقه جثث أولئك الأحبة بلا رؤوس و لا أياد و لا أصابع.

و أكثر ما يشجينا الآن، و نحن ننظر إلى الوراء، هو منظر جسد سيدنا الإمام الحسين علیه السلام ممددا على التراب بلا رأسي و قد مزقته الخيول و عجنت لحم صدره و نحره اللذين كان يقبلهما رسول الله صلی الله علیه و آله باستمرار بتراب أرض الفاجعة،و على الرغم من تمزيق جسده الشريف إلا أننا نستطيع أن نرى يده لا تزال ممدودا باتجاه

ص: 487

إحدى الخيام المحروقة و كأن أصابعها كانت تريد أن تستقر برفق و حنان على رأس جثة طفل لم يتجاوز الأشهر من عمره.

أما الطفل الرضيع، و على الرغم من أنه كان جثة هامدة قد مزقتها السهام، إلا أن عينيه كانتا مفتوحتين و متجهتين إلى جهة جثة الأب تبحثان عن الرأس المقطوع، تبحثان عنه بلهفة و شوق، تبحثان عنه لتسألاه بکل دهشة و استغراب، و بكل ما في سؤال الطفل من براءة:

. أبي... يا أبي... أنا طفل صغير، فلماذا قتلوني؟!

ص: 488

رحلة الآلام من كربلاء إلى الشام

مع غروب الشمس العاشر من المحرم الحرام، كان وجه السماء يزداد حمرة خجلا مما فعلته الأيادي الآثمة على الأرض، و كانت الشمس قد ودعت أشلاء الضحايا بصمت مهيب و هي تقول في قرارة نفسها.

قتل الإنسان ما أكفره!! وتبا لحظي العاثر التعيس!! أما يكفيني أنني قد شاهدت أول جريمة في تاريخ الإنسان الأول على الأرض عندما هشم قابيل رأس أخيه هابيل التقي بلا هوادة و لا رحمة؟!

أما يكفيني ما رأيت من الفظائع و المجازر التي ارتكبت بحق الرسل و الأنبياء،و بحق الأوصياء و الأولياء، و كيف لي أن أنسى ما فعل القتلة الآثمون بالنبي يحيى عليه السلام و بأبيه النبي زكريا عليه السلام، و كيف ساموا إبراهيم عليه السلام و عيسی عليه السلام و محمدا صلی الله علیه و آله سوء العذاب؟!

و ربما كان أكثر ما يشجي الشمس و يحزنها و قد لملمت آخر خيوطها عن أرض المذبحة هو أنها شهدت - و للمرة الثانية - جميع مآسي أولئك الرسل و الأنبياء مجتمعة من جديد في مجزرة جديدة اسمها كربلاء الحسين علیه السلام.

إذن، غابت شمس العاشر من المحرم سنة إحدى و ستين، و أرض کربلاء غارقة في الدماء، قد تبعثرت فيها أكرم الأشلاء، و ما هي إلا ساعة أو أكثر قليلا حتى لاح القمر من وراء الغيوم خابي الضوء، و قد أرسل ما تبقى من ضوئه الشاحب إلى أرض

ص: 489

القربان العظيم ليعانق برفق و حنان تلك الأشلاء النبوية المبعثرة هنا و هناك.

و في سكون الليل المهيب، و تحت ضوء القمر الكئيب، كان هناك مشهدان متناقضان، بل مشهدان يمثلان فلسفة الحياة و طبيعتها الغريبة الغادرة.

و إذا أردنا أن نتعرف على كل من المشهدين، فلنترك الحديث للكاتبة و الباحثة الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) المتخصصة بالدراسات الإسلامية العميقة و الجادة.

و ها هي تلك الكاتبة الملتزمة بالقضايا الإسلامية تصف لنا المشهدين الغريبين و المتناقضين بقولها المليء بالصور و التعابير المؤثرة:

(و على ذلك الضوء الشاحب بدت (زینب) في نفر من الصبية و جمع من الأرامل و الثواكل، عاكفات على تلك الأشلاء، يلتمسن فيها ذراع ولد حبيب، أو كتف زوج عزيز أو قدم أخ غال.

و غير بعيد منهن، كان عسكر (ابن زیاد) يسمرون و يشربون و يحصون على ضوء المشاعل ما قطعوا من رؤوس و ما انتهبوا من أسلاب)(1)، إنها مقارنة غنية كل الغني عن الشرح و التوضيح.

و ما أن خيم الظلام تماما و توارى القمر وراء الغيوم الكثيفة على صدر السماء المكفهرة حتى كانت رؤوس الشهداء الأبرار و المؤمنين الأحرار تحمل على رؤوس الرماح إلى عبيد الله بن زياد في الكوفة، أما السبايا فلم يؤخذوا إلا عند زوال اليوم التالي.

و سار الجميع صامتين میممين وجوههم شطر الكوفة، و هذا هو الحسين بن علي علیه السلام، الفتى المريض، يسير صامتا أيضا و قد أثقلته السلاسل و الأغلال في يديه

ص: 490


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص126.

و رجليه و حول عنقه، أما نساء أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله فلم يكن حالهن أفضل من حال سبايا الحروب و أسيرات المعارك و الغارات.

أما السيدة زينب عليها السلام، شقيقة الحسين علیه السلام و حاملة راية الثورة من بعده، فقد كانت تتقاذفها الأفكار و تتجاذبها الصور و الذكريات، إن ملامح وجهها المبارك الآن کملامح وجه شقيقها الحسين علیه السلام لها تأثير كبير في إثارة الأحزان و کوامن نفس الإنسان النقي الطامح للحاق بمواكب أهل السماء، و لذلك يذكر عن جدها رسول الله صلی الله علیه و آله و عن أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام و عن أمها الزهراء فاطمة عليها السلام بأنه كلما كان يقع نظرهم عليها، أو احتضنوها، أو قبلوها، اغرورقت عيونهم بالدموع، و انحدرت سخية على صفحات خدودهم، حتى كأنهم عليهم السلام كانوا يرون برؤيتها كل ما سيجري من المصائب عليها، أو كانوا يرون منها مواضع ضرب السياط، و غمد السيوف، و كعب الرماح، فيتذكرون أسرها و يشاهدون في عينيها الذابلتين صور الفجائع و المصائب و السبي من كربلاء إلى الكوفة و منها إلى الشام(1) .

إذن، عند زوال الشمس الحادي عشر من الشهر المحرم ارتحل (ابن سعد) إلى الكوفة و معه رتل السبايا من نساء أهل البيت عليهم السلام بقيادة العقيلة زينب علیها السلام، سیروهن على أقتاب الجمال بغير وطاء کالأسيرات و هن ودائع خير الأنبياء صلی الله علیه و آله.

و قبل أن تودع زینب علیها السلام علي أرض الشهادة و الكرامة، وقفت قليلا قرب جسد شقيقها الإمام الحسين علیه السلام المرمل بالدماء، و بسطت يديها تحت بدنه المقدس و الممزق، و حركته و رفعته قليلا نحو السماء، و قالت منادية الله سبحانه و تعالى بصوتها

ص: 491


1- السيد نور الدين الجزائري، الخصائص الزينبية، منشورات الشريف الرضي . قم، 1998، ص49.

المبحوح الشجي:

«إِلَهِي ، تَقَبَّلْ مِنَّا هَذَا الْقُرْبَانِ»(1)، و في رواية أخرى: «اللَّهُمَّ تَقَبَّلْ هَذَا الْقُرْبَانِ مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ»(2).

نعم، إن الإمام الحسين أعظم قربان قدم نفسه فداء لرسالة أعظم الأديان السماوية و آخرها، و إن دمه هو زيت المصباح المحمدی الذي أبقي شعلته متقدة على مر الأجيال و العصور، و ما من ثائر في الإسلام ضد الظلم و الطغيان إلا وفي وريده قطرات من دم الحسين علیه السلام.

و على كل حال، سار (عمر بن سعد) بالسبايا المشار إليهم، فلما قاربوا مدينة الكوفة اجتمع أهلها للنظر إليهم، فتقدمت امرأة من الكوفيات و قالت:

من أي الأسارى أنتن؟!

فأجابت بنات علي علیه السلام: «نَحْنُ أساری آلِ مُحَمَّدٍ».

و يا له من جواب بليغ يبكي الحجر و يستنطق العبر.

و أي عبرة بعد هذا الجواب(نحن أساری آل محمد)؟!

ثم ألا يذكرنا هذا الجواب منهن (عليهن السلام) بنداء السيدة زينب عليها السلام عند ما جاءها الأمر بالمسير في موكب الأسيرات المحمديات حيث وقفت و رفعت يديها الطاهرتين إلى السماء و نادت بحرارة و حرقة نابعة من أعماق القلب الكسير:

یا محمداه.. صلى عليك ملائكة السماء.. هذا حسين بالعراء.. مرمل بالدماء.. مقطع الأعضاء.. و بناتك سبايا .. و ذريتك مقتلة.. تسفي عليها الضبا»؟!(3) فأيه عبرة

ص: 492


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص314.
2- عبد الرزاق کيلو، السيدة زينب بنت علي، دار المنارة . اللاذقية، 1995، ص36.
3- محمد عبد الله المنفلوطي، ريجانة أهل البيت السيدة زينب الكبرى، مصدر سابق ص85.

أعمق من هذه العبرة؟ !!

لقد صدق فیلسوف الشعراء (أبو العلاء المعري) عند ما قال عن عمق تلك العبرة:

أَرَى الْأَيَّامِ تَفْعَلْ كُلِّ نکر *** فَمَا أَنَا فِي الْعَجَائِبِ مُسْتَزِيدٍ

أَلَيْسَ قریشکم قُتِلَتْ ( حُسَيْناً ) *** وَ كَانَ عَلَى خلافتکم (یزید)؟!

و مهما يكن من أمر، فقد سار الركب و وصل أخيرا إلى الكوفة، و اجتمع الناس حول ذلك الموكب يضجون بالواح و البكاء حتى بکی لمرآهم كل عدو و صديق.

و يذكر الكاتب المصري المعاصر (محمد عبد الله المنفلوطي) أن الإمام علي زين العابدین علیه السلام لما سمع بكاء أولئك الناس، أنشد قائلا:

يَا أَمَةَ السَّوْءِ لَا سُقْيَا لربعِکُمُ *** یا أُمَّةُ لَمْ تُراع أَ حَمْداً فِينَا

لَوْ أَنَّنا وَ رَسُولُ اللَّهِ يَجْمَعُنَا *** يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، مَا کنتم تقولونا؟!

تسیرونا عَلَى الْأَقْتَابَ عَارِيَّةً *** كَأَنَّنَا لَمْ نشید فیکم دینا؟

ثم يتابع زین العابدين عليه السلام قوله مخاطبا بني أمية:

تصفقون عَلَيْنَا كفكم فَرَحاً *** وَ أَنْتُمْ فِي فِجَاجِ الْأَرْضِ تسبونا !

أَلَيْسَ جَدِّي رَسُولِ اللَّهِ وَلِيُّكُمُ *** هَادِيَ الْبَرِيَّةِ مِنْ سُبُلِ المضلينا ؟

یا وَقَفْتَ الْطُفْ قَدْ أورثتني حُزْناً *** وَ اللَّهِ يَهْتِكُ أَسْتَارِ المسيئينا (1)

و يذكر الأستاذ (المنفلوطي) أيضا، هو و غيره من الكتاب المعاصرين، أن السيدة زینب علیها السلام علي لم تطق وقتها أن ترى أهل الكوفة يبكون الحسين و آله و هم ضحايا و يرثون حال الأسيرات من بنات الرسول صلی الله علیه و آله، و ما انتهک من حرمتهن، فأشارت عليها السلام إليهم أن اسكتوا، فسكتوا و طأطأوا رؤوسهم خزيا و ندما، على حين مضت هي

ص: 493


1- نفس المصدر السابق ص86.

تقول مؤنبة:

«أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل و الخذل، أتبكون؟! فلا سكنت العبرة و لا هدأت الرنة، إنما مثلكم مثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، تتخذون أيمانكم دخلا بينكم، و إن فيكم الصلف و الصنف وداء الصدر الشنف.. ألا ساء ما تزرون.

أي والله فابكوا كثيرا و اضحكوا قليلا، فقد ذهبتم بعارها وشنارها، فلن ترحضوها بغسل أبدا، و كيف ترحضون قتل سليل خاتم النبوة و معدن الرسالة، و مدار حجتكم و منار محجتكم، و هو سيد شباب أهل الجنة ؟! لقد أتيتم بها خرقاء شوهاء.

و يلكم يا أهل الكوفة أتعجبون لو أمطرت دما؟! ألا ساء ما سولت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم و في العذاب أنتم خالدون.

أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم، و أي دم له سفكتم، و أي كريمة له أبرزتم؟!

لقد جئتم شيئا إدا، تكاد السماوات يتفطرن منه و تنشق الأرض و تخر الجبال هدا»(1).

و ما أن أتمت عليها السلام كلامها و توبيخها، حتى ضج الناس بالبكاء، و ذهلوا، و سقط ما في أيديهم من هول تلك المحنة الدهماء التي ما استفاقوا من صدمتها بعد.

ثم لوت رأسها المتعب عنهم، و مضت قدما إلى حيث أريد لها أن تمضي، هي و السبايا من آل البيت النبوي الشريف علیهم السلام غير آبهة بما یکون.

و مضت علیها السلام حتى بلغت دار الإمارة في قلب الكوفة، فأحست حرقة البكاء تجري في حلقها و مرارة المهانة و القهر تعتصر أعماق قلبها الذي لم يعرف الفرح في حياته أبدا.

ص: 494


1- نفس المصدر السابق ص87.

و كيف لا تبكي و كل حجر من أحجار دار الإمارة تذكرها بأبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام!!

و كيف لا يتصدع قلبها الكبير هما و لوعة و هي تسترجع في ذاكرتها أيام الصبا مع شقيقيها الحسن والحسين علیه السلام في تلك الدار التي كانت تتلألأ بأنوار النبوة و الهداية و تفيض على الناس علما و حكمة و رحمة!

و تماسكت جيدا، و تمالكت أعصابها مستمسكة بحبل الصبر و الإيمان، و لكن و بالرغم من هذا، فقد ازدادت دقات قلبها و شعرت بمزيج من القرف و الغضب و الأسى حين رأت الدعي الفاجر (عبيد الله بن زیاد) جالسا في المكان الذي كان أبوها علي علیه السلام يجلس فيه ليحكم بين الناس بشريعة و عدالة السماء.

كانت بالأمس القريب معروفة ب (العقيلة زينب)، و العقيلة كلمة تعني السيدة العزيزة و الكريمة في قومها، و ها هي اليوم تدخل على (ابن زیاد) أسيرة يتيمة ثكلى، لقد فقدت الأب و الأم و الولد و الشقيق و الكثير من الأعزاء و الأحبة الغوالي.

نعم، لقد فقدت السيدة زينب عليها السلام كل ذلك، لكنها قررت أن لا تفرط بعزتها و كرامتها و كبريائها أمام جبروت ذلك الطاغوت الأموي، لقد قررت ذلك و هي تسترجع في نفسها قول الله عز وجل بأن العزة لله و لرسوله و للمؤمنين.

و وقفت العقيلة العلوية زينب عليها السلام أمام الطاغية ابن زیاد غير آبهة به و مترفعة عن النظر إليه، و عندئذ نظر ابن زیاد إليها مليا ثم سألها: (من تكون؟ فلم تجبه...

و أعاد السؤال عليها أكثر من مرة، و هي لا تجيب عليه، احتقارا لشخصه اللئيم و استصغارا لخلقه الذميم، و عندئذ قيل له إنها زينب ابنة علي و فاطمة علیهما السلام.

و هنا يحدثنا الأديب و المؤرخ (إميل حبشي الأشقر)، و غيره من الأدباء

ص: 495

و المفكرين المعاصرين، عن الحوار الساخن بين العقيلة زينب عليها السلام و عبيد الله بن زیاد.

فبعد أن عرف ابن زیاد أن تلك السيدة الجليلة التي تنزه عينيها الكريمتين عن النظر إليه هي السيدة زينب حفيدة رسول الله صلی الله علیه و آله ، قال لها بلهجة المغتاظ الحاقد:

- الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم.

فأجابته بكل هدوء و روية:

-«الْحَمْدُ اللَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِمُحَمَّدٍ وَ طَهِّرْنَا تَطْهِيراً . . إِنَّما يَفْتَضِحُ الْفَاسِقِ وَ يُكَذِّبُ الْفَاجِرِ!!».

قال: ألم تري ما صنع الله بأهل بيتك؟!

قالت: «كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ فَخَرَجُوا إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُمْ یا بْنِ زیاد ، فتختصمون عِنْدَهُ ».

فغضب قائلا: لقد شفي الله غيظي من أخيك و أصحابه العصاة.

فبكت و جعلت تقول: «لَعَمْرِي ، لَقَدْ قَتَلَتْ مِنْ قُتِلَتْ، فَإِنْ يشفك هَذَا فَقَدْ اشتفيت ».

ثاب: إنك شجاعة، و لقد كان أبوك شجاعا..

ثم التفت إلى (علي) فقال: ما اسمك؟

-«علي بن الحسين ».

- أولم يقتل الله علي بن الحسين ؟

فسكت.

قال: ما لك لا تتكلم؟

قال: «كَانَ لِي أَخُ يُقَالُ لَهُ عَلِيُّ فَقَتَلَهُ النَّاسِ».

ص: 496

- بل قتله الله.

و هنا يصور لنا ذلك الأديب و المؤرخ (الأشقر) الحوار الدائر في مجلس ابن زیاد بأسلوب أدبي بارع، و بمحاولة جادة منه على نقل جوهر ذلك الحوار الهام بكل أمانة و إخلاص، و لذلك نراه يتابع تصوير الأحاديث و الأحداث في ذلك المجلس بقوله:

فرأى الغلام (زین العابدين) أن السكوت أولی.

فقال الطاغية: أتكلم فتسكت؟!

قال: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حین مَوْتَهَا ، وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ».

فقال الطاغية: و ستموت أنت بإذنه.

ثم قال لابن معاذ الأحمري: اقتل هذا الغلام یا بن معاذ.

فقال علي: «و من توكل بالنساء؟».

و قامت زینب فقالت: «یا بْنِ زیاد ، حَسْبُكَ مِنَّا . . أَمَّا رویت مِنْ دِمَائِنَا . . وَ هَلْ أَبْقَيْتَ مِنْ آلِ الْحُسَيْنِ أَحَداً؟»

ثم اعتنقت ابن أخيها و قالت:

«أَسْأَلُكَ بِاللَّهِ إِنْ كُنْتَ مُؤْمِناً ، یا بْنِ زیاد ، أَنْ تَقْتُلَنِي إِذَا قَتَلَتْهُ فَأَنَا لَا أَرْغَبُ فِي الْحَياةِ بَعْدَهُ»

ثم قال علي: «إِنْ كانَتْ بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُنَّ قَرَابَةُ فَأَرْسَلَ مَعَهُنَّ رَجُلًا تَقِيّاً يصحبهن بِصُحْبَةِ الْإِسْلَامِ إِلَى الشَّامِ ».

فجعل (الطاغية) ينظر إلى زينب ثم قال:

عجبا للرحم، فوالله لقد آثرت أن تموت معه.. دعوا الغلام ينطلق مع نسائه و لا

ص: 497

تقتلوه.

ثم أمر منادیه، فنادى: الصلاة جامعة.

فاجتمع الناس، ثم خرج حتى صعد المنبر فقال: الحمد لله الذي أظهر الحق و أهله، و نصر أمير المؤمنين و رجاله، و قتل الكذاب ابن الكذاب الحسين بن علي و شیعته.

و كان عبد الرحمن بن الحصين في المسجد يسمع الخطبة و قد قضى يومه في الأحياء و عند القصر، و لم يرجع إلى المنزل.

و كذلك قضى اليوم الثاني، ليرى بعينيه نساء الحسين و صغاره، الذين بلغ أهل الكوفة، أنهم سينتهون إليها مع عمر بن سعد.

و قد هم بأن يجيب ابن زیاد و يلعنه على مسمع من الناس، و لو أمر بعد ذلك بضرب عنقه.

و لكن عبد الله بن عفيف الأزدي، كان أسبق منه فقد سمعه القوم يقول:

يا ابن مرجانة إن الكذاب ابن الكذاب أنت و أبوك، و الذي ولاك و أبوه، أتقتلون أبناء الأنبياء و تتكلمون بكلام الصديقين؟!

و كان عبد الله ضريرا، ذهبت إحدى عينيه يوم الجمل مع علي، و ذهبت الأخرى مع علي أيضا بصفين.

و هو لا يفارق المسجد، يصلي فيه إلى الليل ثم ينصرف.

فلما سمعه ابن زیاد قال: علي به.

فحملوه إليه، فنادى الرجل بشعار قومه (الأزد) يقول:

- يا مبرور...

ص: 498

فوثب إليه فتية منهم فانتزعوه و ذهبوا به.

فصبر ابن زیاد ساعة ثم أرسل رجال الشرط فقبضوا عليه.

فلما لقيه قال: يا بن عفيف، أنا و أبي، و أمير المؤمنين و أبوه، مع الكذبة؟

- نعم، أنتم و من يخضع لكم من الناس...!

- تقول هذا و أنت أعمى فماذا كنت تصنع لو كنت مبصرا؟!

- كنت أحمل السيف في وجهك و وجه یزید.

- ثم تموت كما مات الحسين..!

- أجل، فالموت مع حفيد رسول الله خير من العيش في ظلك يا بن مرجانة اللعين الظالم.

- إذن فاعلم أنك لاحق بمولاك

- قال: هنيئا لي فسأدخل الجنة.. اضرب یا ابن مرجانة فالعيش لا يطيب لك إلا إذا غاصت يداك في الدماء.

فقال الأمير لجلاده: سيفك..

فبري الجلاد عنقه بضربة واحدة، و أهل الكوفة ينظرون.

ثم قال: اصلبوه في المسجد! فصلب، و الرهبة تملأ نفوس الناس.

ثم قال: علي برأس الحسين ، فلما أتوا به، قال: اجعلوه على خشبة و طوفوا به في الكوفة(1).

و غني عن القول إن تصوير هذه الأحداث الساخنة في مجلس ابن زیاد لم ينفرد بها الأديب و المؤرخ المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، بل إن هناك العشرات من الأدباء

ص: 499


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص50.52.

و الباحثين و المفكرين المسلمين و المسيحيين المعاصرين الذين ذكروا هذه التفاصيل في كتبهم و مؤلفاتهم، وحتى في دواوين الشعراء منهم، معتمدين في تسجيلهم لتفاصيل تلك الأحداث على أهم وأقدم المصادر الإسلامية السنية المعتبرة.

وهنا تحديدا أريد أن أتوقف عند نقطة هامة جدا، و قد تعمدت أن أذكرها الآن في مكانها المناسب حتى لا يتهمني القارئ الكريم بالإهمال لذكرها و توضيحها نظرا لما تحمله من معان و مقاصد لا تخفى عن ذهن كل إنسان عاقل و لبيب.

وتتعلق هذه النقطة الهامة بمصير رأس الإمام الحسين علیه السلام عند الدخول به إلى مجلس عبيد الله بن زیاد.

فماذا كان مصير الرأس الشريف، رأس ابن بنت رسول الله صلی الله علیه و آله ، في مجلس ابن زیاد، و كيف تصرف ابن زیاد معه حين وضع بين يديه القذرتين ؟!

إن الجواب الأكيد على هذا السؤال الحساس ليس بالصعب و لا بالغامض، بل هو واضح في تفاصيله وضوح الشمس في رابعة النهار، و لكن، و بالرغم من وضوحه في كافة المراجع و المصادر الإسلامية و غير الإسلامية، إلا أننا سنجيب عليه مستخدمين في ذلك كتاب نفيسا لأحد علماء جامعة الأزهر الشريف في مصر، و عنوان الكتاب هو (الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهداء) لمؤلفه العالم الأزهري (محمد عبد الباقي سرور نعیم)، وهو بالطبع واحد من إخواننا السنة، و قد طبع الكتاب المذكور في أواسط القرن الماضي و هو من الكتب النادرة، بل و المفقودة، و قد وفقني الله سبحانه و تعالى في الحصول على نسخة أصلية منه بطريق المصادفة، ولكن ذلك لم يمنع استغرابي و دهشتي من عدم إعادة طباعة هذا السفر الرائع على الرغم من أن طبعته الأولى قد قارب عمرها أكثر من نصف قرن تقريبا.

ص: 500

و حتى لا نخرج عن جوهر السؤال المطروح، دعونا نقرأ عن كيفية تعامل ابن زیاد مع رأس الإمام الحسين علیه السلام عند ما أحضر إليه في مجلسه، و ماذا نتج عن ذلك؟.

يقول ذلك العالم الأزهري (محمد عبد الباقي سرور نعیم) في كتابه المذكورسابقا:

(لما أصبح ابن زیاد، جلس في قصر الأمارة و أذن للناس با لدخول، و أمر بإحضار الرأس الشريف بين يديه و أخذ ينظر إلى رأس الحسين و تبسم، و كان في يده قضيبا فأخذ ينكث به ثنايا الحسين رضي الله عنه و الناس ينظرون و لا يتكلمون.

و كان بجواره (زيد بن أرقم) و هو البقية الباقية من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله ، فقال له:

یا بن زیاد، أعل هذا القضيب عن هاتين الثنيتين، فوالذي لا إله غيره لقد رأيت رسول الله يلثمهما، ثم بکی، فقال له ابن زیاد: و الله لولا أنك شيخ قد خرفت و ذهب عقلك لضرب عنقك الآن.

فقام ابن الأرقم و خرج لتوه من مجلسه و هو يقول للمسلمين الذين ينظرون و لايتكلمون: و الله يا معشر المسلمين إنكم لعبيد بعد اليوم، فقد قتلتم ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله، و أمرتم عليكم ابن مرجانة يقتل خياركم و يستعبد شراركم، فما أنتم بأحرار بعد اليوم)(1)

و هنا أريد أن ألفت نظر القارئ الكريم إلى نقطة هامة و هي أن بعض الروايات المعاصرة تنقل لنا أن (ابن الأرقم) لم يقل: (و الله يا معشر المسلمين إنكم لعبيد بعد

ص: 501


1- محمد عبد الباقي سرور نعيم، الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهدا، نشر: مكتبة الجمهورية المصرية . القاهرة، د.ت ص116.

اليوم)، و إنما قال: (و الله يا معشر العرب إنكم لعبيد بعد اليوم)(1)، و الفرق كبير و واضح بين هذين التعبيرين، وأنا شخصيا أرجح القول الأخير.

و بعد هذه المحطة القصيرة في الكوفة، بعث عبيد الله بن زیاد إلى یزید بن معاوية في دمشق يخبره بقتل الحسين علیه السلام و من معه، و أن عياله في الكوفة، ينتظر أمره فيهم، فعاد إليه الجواب من يزيد يأمره فيه بحملهم إليه و الرؤوس معه.

و عندئذ أمر ابن زیاد جماعة من أعوانه بحمل رأس الحسين علیه السلام و رؤوس من قتل معه إلى يزيد، و سرح في أثرهم الإمام علي بن الحسين علیه السلام مغلول اليدين، مقید القدمين، و الجامعة حول عنقه، و عياله معه في أسوأ حال يمكن أن يخطر على بال.

و تذكر كل كتب التاريخ أن يزيد أمر عبيد الله بن زياد أن يسير بركب السبايا سالكا الطريق الشمالية الطويلة إلى الموصل ثم إلى حلب و منها إلى دمشق، مع العلم أن هناك طريقا صحراويا مباشرا و قصيرا يربط ما بين الكوفة و دمشق.

فلماذا فظل يزيد الطريق الطويل للسبايا على الطريق القصير؟!

لقد كان بوسع ابن زیاد أن يعبر الطريق القصير المؤدي مباشرة إلى دمشق، لكنه كان يهدف، هو و سيده يزيد، إلى التشهير بمقتل الحسين علیه السلام و إلى نشر خبر مقتله في كل الأصقاع و الآفاق كي يعلم الناس بقتله و كيفية نهايته الأليمة حتى لا يبقى لأي مدافع عن الحق في صفوف المسلمين أي أمل في مقاومة يزيد و أعوانه.

و لذلك، فقد رأی یزید أن من أبلغ أنواع الأخبار بمقتل الحسين علیه السلام أن يرى الناس رأس الحسين علیه السلام يطوف به في البلاد، و أن تری نساؤه و بناته و صبيانه سبايا يسار بهم في البلدان و الأمصار، و يشهر أمهم في كل مكان يأتونه، و لذا سلكوا به

ص: 502


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص41.

الطريق العامر بالبلدان و الآهل بالسكان، و هو الطريق من الكوفة إلى الموصل ثم إلى حلب، فحماه، فحمص، و أخيرا وصولا إلى قصر يزيد في دمشق.

و بالطبع، فإننا لا نريد أن نحول هذا الكتاب إلى كتاب تاريخي يروي قصة مسيرة الرؤوس و السبايا بشكلها الدقيق والمفضل، و إنما نريد أن نذكر بعض النقاط الهامة في تلك المسيرة الفجائعية الحزينة على درب الآلام من مسرح الفاجعة إلى عاصمة الشام.

و أول نقطة لافتة للنظر في تلك المسيرة الملهبة للمشاعر الإنسانية و العواطف الوجدانية هي تلك النقطة المتعلقة بردود فعل المسيحيين الأوائل الذين عاصروا وقائع تلك الفاجعة و كانوا . جغرافيا - على مقربة من مكان الحدث.

فقد نقلت الكتب المعاصرة عن كتب المتقدمين أن عبيد الله بن زیاد دعا شمر بن ذي الجوشن، و شبث بن ربعي، و عمرو بن الحجاج، و ضم إليهم ألف فارس، و أمرهم بإيصال السبايا و الرؤوس إلى الشام حيث يقيم یزید.

و تذكر تلك الكتب أيضا أن الركب مر في طريقه بمدينة (تکریت)، و كان فيها العديد من النصارى، فلما حاول الركب أن يدخلها بالسبايا و الرؤوس (اجتمع القسيسون و الرهبان في الكنائس، و ضربوا النواقيس حزنا على الحسين، و قالوا: إنا نبرأ من قوم قتلوا ابن بنت نبيهم، فلم يجرؤوا (أصحاب الركب) على دخول المدينة، و باتوا ليلتهم في البرية)(1).

و بتحليل بسيط لهذه السطور القليلة عن رد فعل المسيحيين تجاه أحداث الفاجعة، نرى أن بذور الثورة ضد الحكم الأموي قد أخذت طريقها إلى النور في

ص: 503


1- محمد جواد مغنية، الحسين و بطلة كربلاء، مصدر سابق ص230.

التربة المسيحية على شكل استنكار و استهجان، بل و معارضة شديدة ضد تلك الحكومة الأموية الجائرة التي تأمر بقتل و سبي أبناء و بنات الأنبياء.

و إذا كان هذا هو رد فعل القساوسة و الرهبان المسيحيين على جريمة قتل الإمام الحسين علیه السلام ظلما، و التمثيل به و بالقتلى من أهل بيته، وسبي نسائه و بناته، فعلينا أن لا نستغرب اليوم من وجود الكثير من رجال الفكر المسيحي الذين جعلوا من أقلامهم الحرة وسيلة لتبليغ عموم الناس، في كل زمان و مكان، أن كل ما حدث في كربلاء للإمام الحسين و لأهل بيته عليهم السلام لم يكن في جوهره و ذاته إلا محاولة أموية جادة لسحق محمد المصطفى صلی الله علیه و آله و ذاته، و لطعن المبادئ الأخلاقية و الإنسانية التي كانت متجسدة بأبهى صورها، و بأعلى كمالاتها في شخص الإمام الحسين علیه السلام ، حفيد النبوة و ابن الرسالة.

و حتى تتضح هذه الصورة أكثر في مخيلة القارئ، دعونا نقرأ الآن سوية ما يراه الأديب و الصحافي المسيحي (أنطون بارا) في معاني التشيع و في شخصية الإمام الحسين علیه السلام حيا و شهيدا.

يرى الأستاذ (بارا) (أن التشيع للإمام عليه السلام هو بمعنى التحلي بأعلى درجات العشق الإلهي، و أن الإمام الحسين علیه السلام ليس مختصا بالشيعة أو المسلمين لوحدهم، بل (الحسين) علیه السلام للعالمين أجمعين، فالحسين عنده (جوهر الأديان)(1).

و بطبيعة الحال، فإن هذه الرؤية للأستاذ (بارا) تجاه الإمام الحسين علیه السلام و موالاته لدرجة العشق و الوجد لا تمثل وجهة نظر خاصة و لا حتى رؤية شخصية

ص: 504


1- راجع نص المقابلة الصحفية مع الأديب و المفكر (أنطون بارا)في العدد الخامس و الخمسين من مجلة (رسالة الثقلين) عدد (صفر . ربيع الأول) 2007، و هي تصدر عن المعاونية الثقافية في طهران.

ذاتية اختص بها الأستاذ (بارا) دون غيره من الأدباء و المفكرين المسيحيين و غير المسيحيين، بل هي رؤية عامة و نظرة إنسانية شاملة نكاد نراها جلية واضحة في آثار و مؤلفات كل من خاض في ميدان دراسة أحداث الفاجعة مقرونة بطبيعة و بمقومات شخصية الإمام الحسين علیه السلام المعروف عند القاصي و الداني، عند المؤالف و المخالف ب (ريحانة الرسول)، و(سيد شباب أهل الجنة)، بل و المعروف عند الكثيرين منهم بلقب (وارث الأنبياء)، و هو ما عبر عنه الأستاذ المسيحي (أنطون بارا) بقوله السابق (الحسين عنده جوهر الأديان).

و بما أننا لا نزال في معرض حديثنا عن رحلة الآلام إلى الشام، دعونا الآن نقرأ بهدوء و روية ما جاء في كتاب بالغ الأهمية يتناول في مجمله سيرة الأئمة من أهل البيت عليهم السلام، إنه کتاب (تذکرة الخواص) لمؤلفه العلامة (سبط ابن الجوزي الحنفي)، فقد روي هذا العلامة - الحنفي مذهبا . نقلا عن كتاب (سيرة ابن هشام) حديثا هاما و متميزا عن رحلة رأس الإمام الحسين علیه السلام إلى دمشق.

فقد روى العلامة (ابن الجوزي) الحديث المشار إليه مرفوعا إلى (ابن هشام النحوي البصري) قائلا:

(لما أنفذ ابن زیاد رأس الحسين علیه السلام إلى يزيد بن معاوية مع الأساری موثقين في الحبال، منهم نساء و صبيان و صبيات من بنات رسول الله صلی الله علیه و آله على أقتاب الجمال موثقين، مکشفات الوجوه و الرؤوس، و كلما نزلوا منزلا أخرجوا الرأس من صندوق أعدوه له فوضعوه على رمح و حرسوه طول الليل إلى وقت الرحيل ثم يعيدوه إلى الصندوق و يرحلون.

فنزلوا بعض المنازل و في ذلك المنزل دير فيه راهب، فأخرجوا الرأس على

ص: 505

عادتهم و وضعوه على الرمح و حرسه الحرس على عادته و أسندوا الرمح إلى الدير، فلما كان في نصف الليل رأى الراهب نورا من مكان الرأس إلى عنان السماء، فأشرف على القوم و قال: من أنتم؟!

قالوا: نحن أصحاب ابن زیاد.

قال: و هذا رأس من؟

قالوا: رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، ابن فاطمة بنت رسول الله صلی الله علیه و آله .

قال: نبيُّكم؟!

قالوا: نعم.

قال: بئس القوم أنتم، لو كان للمسيح ولد لأسكناه أحداقنا.

ثم قال (مجددا): هل لكم في شيء؟

قالوا: وما هو؟

قال: عندي عشرة آلاف دينار تأخذونها و تعطوني الرأس يكون عندي تمام الليلة، و إذا رحلتم تأخذونه.

قالوا: و ما يضرنا؟!

فناولوه الرأس و ناولهم الدنانير، فأخذه الراهب فغسله و طيبه و تركه على فخذه، وقعد يبكي الليل كله، فلما أسفر الصبح، قال:

يا رأس لا أملك إلا نفسي، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله و أن جدك محمدا صلی الله علیه و آله رسول الله، و أشهد الله أنني مولاك و عبدك.

ثم خرج عن الدير و ما فيه و صار يخدم أهل البيت، ثم إنهم أخذوا الرأس و ساروا، فلما قربوا من دمشق قال بعضهم لبعض:

ص: 506

تعالوا حتى نقسم الدنانير لا يراها يزيد فيأخذها منا.

و أخذوا الأكياس و فتحوها و إذا الدنانير قد تحولت خزفا و على أحد جانب الدينار مکتوب«وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ»(1)، و على الجانب الآخر«وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»(2) ، فرموها في بردی (وهو نهر في دمشق)(3).

و لو أردنا أن ندخل هنا في بعض التفصيلات الدقيقة التي وردت في الكثير من الكتب و المؤلفات عن بعض المواقف المؤثرة، فبإمكاننا الوقوف مليا عند هذه القصة المؤسفة التي لا تحتاج إلى أي شرح أو تعليق.

و تقول هذه القصة المحزنة أن القوم ساروا برأس الحسين علیه السلام و رؤوس أهله و الأسرى من نسائه و عياله، فلما قربوا من دمشق دنت أم كلثوم عليها السلام من شمر و كان من جملتهم، فقالت له: «لي إليك حاجة!!».

قال: ما حاجتك يا ابنة علي؟!

قالت: «إذا دخلت بنا البلد فاحملنا في طريق قليل النظارة و تقدم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس من بين الحوامل و ينحونا عنها فقد خزينا من كثرة النظر إلينا و نحن في هذه الحال».

فأمر في جواب سؤالها أن تجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغيا منه وكفرا و سلك بهم بين النظارة حتى أتي بهم باب دمشق و جاء شیخ و دنا من نساء الحسين علیه السلام و عياله و هم في ذلك الموضع، فقال:

ص: 507


1- سورة إبراهيم: الآية 42.
2- سورة الشعراء: الآية227.
3- العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، مصدر سابق ص237.

الحمد لله الذي قتلكم وأهلككم و أراح البلاد من رجالکم وأمكن أمير المؤمنين یزید منكم!!

فقال علي بن الحسين: «يا شيخ هل قرأت القرآن؟».

قال: نعم.

قال: «هل عرفت هذه الآية: قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربی؟».

قال الشيخ: نعم، قد قرأت ذلک.

فقال علي علیه السلام: «فنحن القربی یا شیخ، فهل قرأت في سورة بني إسرائيل: «وَآتِ ذَا الْقُرْبَىٰ»؟(1)

فقال الشيخ: قد قرأت.

فقال علي بن الحسين علیه السلام: «فنحن القربی یا شیخ، فهل قرأت:«وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي القُربی»؟(2)

قال: نعم.

فقال علي بن الحسين: «نَحْنُ القربی ، فَهَلْ قَرَأْتُ هَذِهِ الْآيَةِ : إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرِ؟!».

قال الشيخ: قد قرأت ذلك. فقال علي علیه السلام: «فَنَحْنُ أَهْلَ الْبَيْتِ الَّذِي خَصَّنَا اللَّهُ بِآيَةِ التَّطْهِيرِ».

فبقي الشيخ نادما على ما تكلم به، و التفت إلى زين العابدين وقال: بالله عليك أنتم هم ؟!

ص: 508


1- سورة الإسراء: الآية26.
2- سورة الأنفال: الآية 41.

فقال الإمام: «إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ ، وَ حَقُّ جَدِّنَا رَسُولِ اللَّهِ إِنَّا لَنَحْنُ هُمْ».

فبكى الشيخ و رمی عمامته ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إنا نبرأ إليك من عدو آل محمد من جن و إنس.

ثم قال: هل لي من توبة؟

قال عليه السلام : «نَعَمْ ، إِنَّ تُبْتُ تَابَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ أَنْتَ مَعَنَا».

قال: أنا تائب.

فبلغ یزید بن معاوية حديث الشيخ فأمر به فقتل.(1)

وغني عن القول إن هذه المواقف و الأحداث المؤثرة لم يقتصر ذکرها على المصادر المتقدمة زمنيا، و إنما يمكن الوقوع عليها في الكثير من المراجع التاريخية و المؤلفات الفكرية الحديثة و المعاصرة.

و على سبيل المثال، فالحادثة التي سنذكرها الآن هي واحدة من أهم و أشهر الحوادث التي تزامنت مع وصول رأس الإمام الحسين علیه السلام و السبايا إلى قصر یزید في دمشق، و هي حادثة تجاوزت في ذكرها و ثبوت حدوثها حدود المذهب والدين.

إنها حادثة مأساوية راح ضحيتها - هذه المرة - رجل مسيحي نصراني لم يكن له ذنب قد ارتكبه إلا قوله الحق و حبه الصادق للإمام الحسين علیه السلام و لأهل بيته الكرام المظلومين بغيا و عدوانا.

لقد أجمعت المراجع الإسلامية بكل أطيافها و مذاهبها، و كذلك المؤلفات المسيحية المعاصرة على أنه كان هناك تزامن قد حدث بالصدفة بين إدخال رأس الإمام الحسين علیه السلام إلى مجلس یزید و بين وصول رسول قیصر إلى نفس المجلس.

ص: 509


1- الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين علیه السلام قتيل العبرة، مصدر سابق، ص157.

فماذا جرى و قتذاك في ذلك المجلس الذي كان يغص بالزوار و الوافدين ؟!

تجمع معظم المراجع المعاصرة، على مختلف مشارب مؤلفيها، على حدوث ما سنذكره، و سوف نذكر بالتفصيل بعضا من تلك المواقف التي سبقت الحوار الذي دار بین یزید و رسول قيصر الروم إليه، وها هي العديد من المراجع و الكتب المعاصرة تنقل لنا صورة الأحداث، فتقول:

و انتقلوا (أي الفرسان مع السبايا) إلى دمشق، و قبل أن يدخلوهم إلى مجلس یزید أتوهم بحبال فربقوهم (ربطوهم) بها، فكان الحبل في عنق زین العابدین إلی زینب و أم كلثوم و باقي بنات رسول الله، و كلما قصروا عن المشي ضربوهم حتى أوقفوهم بين يدي يزيد و هو على سريره.

فقال له علي بن الحسين: «مَا ظَنُّكَ بِرَسُولِ اللَّهِ لَوْ يَرَانَا عَلَى هَذِهِ الْحَالِ؟!».

فبكى الحاضرون و أمر يزيد بالحبال فقطعت و وضع الرأس المقدس بين يدي يزيد.

والتفت يزيد إلى الإمام السجاد علیه السلام و قال:

كيف رأيت صنع الله يا علي بن الحسين؟

فقال: «رَأَيْتَ مَا قَضَاهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلٍ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتُ وَ الْأَرْضِ».

و شاور یزید من كان حاضرا عنده في أمره فأشاروا عليه بقتله.

فقال زین العابدین: «یا یَزید لَقَدْ أَشَارَ عَلَيْكَ هَؤُلَاءِ بِخِلَافِ مَا أَشَارَ بِهِ جُلَسَاءُ فِرْعَوْنَ عَلَيْهِ حِينَ شاوِرْهُمْ فِي مُوسى وَ هارُونَ ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا لَهُ : أَرْجِهْ وَ أَخَاهُ وَ لَا يُقْتَلُ الْأَدْعِيَاءُ أَوْلَادَ الْأَنْبِيَاءِ وَ أَبْنَاءَهُمْ».

فقال يزيد: ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم.

ص: 510

و قال علي بن الحسين علیه السلام: «مَا هَذِهِ فِينَا نَزَلَتْ ، إِنَّما نَزَلَ فِينَا «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ»(1)، فَنَحْنُ لَا نأسى عَلَى مَا فاتنا وَ لَا نَفْرَحُ بِمَا آتَانَا»(2)

و تؤكد المراجع المعاصرة ذاتها، إسلامية و غير إسلامية، أن الإمام علي بن الحسين علیه السلام وقف في مجلس یزید و خطب بالناس خطبة بليغة . كنا قد ذكرها سابقا قسما يسيرا منها - يقول فيها: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَا بداية لَهُ وَ الدَّائِمِ الَّذِي لَا نَفَادَ لَهُ ، وَ الْأَوَّلَ الَّذِي لَا أَوَّلِيَّةِ لَهُ وَ الْآخِرِ الَّذِي لَا آخرية لَهُ ، وَ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ الْخُلُقِ ، قَدَّرَ اللَّيَالِي

ص: 511


1- سورة الحديد: الآية 23
2- أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص167. ب . محمد عبد الباقي سرور نعيم، الثائر الأول في الإسلام الحسين سيد الشهداء، مصدر سابق ص119. ج . عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص181، ذكرها باختلافات يسيرة. د. محمدرضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص169، مع بعض الاختلاف. ه . الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا و شهيدا، مصدر سابق ص274 مع بعض الاختلاف. و. خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص190 ذكر الحادثة باختلاف یسیر. ز. عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص46 ذكر الحادثة باختلاف يسير. ح. جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق ص239 ذكر الحادثة باختلاف يسير. ط . عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص156 ذكره باختلاف. ي . بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق هامش ص290 مع اختلاف يسير.

وَ الْأَيَّامِ وَ قَسَمَ فِيمَا بَيْنَهُمْ الْأَقْسَامِ ، فَتَبَارَكَ اللَّهُ الْمَلِكِ الْعَلَّامِ..»إلى أن قال:

«...أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرِّفْنِي وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي أَ نَبَّأْتَهُ بحسبي وَ نَسَبِي ،أَيُّهَا النَّاسُ أَنَا ابْنُ مَكَّةَ وَ مِنِّي ،أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَ الصَّفَا ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ الرُّكْنِ بِأَطْرَافِ الرِّدَا ،أَنَا ابْنُ خیر مِنْ ائْتَزَرَ وَ ارتدی وَ خیر مَنْ طَافَ وَ سعی وَ حُجَّ وَ لُبِّيَ ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَمَلَ عَلَى الْبُرَاقِ وَ بَلَغَ بِهِ جبرائیل سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَكَانَ مِنْ رَبِّهِ كَقَابِ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، أَنَا ابْنُ مَنْ صَلَّى بِمَلَائِكَةِ السَّمَاءِ ، أَنَا ابْنُ مِنْ أَوْحَى إِلَيْهِ الْجَلِيلُ ما أَوْحى ، أَنَا ابْنُ مَنْ ضُرِبَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ بِبَدْرٍ وَ حُنَيْنٍ وَ لَمْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ ، أَنَا ابْنُ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ وَارِثِ النَّبِيِّينَ وَ يَعْسُوبُ الْمُسْلِمِينَ وَ نُورُ الْمُجَاهِدِينَ وَ قَاتَلَ النَّاكِثِينَ وَ الْقَاسِطِينَ وَ الْمَارِقِينَ وَ مَفْرِقِ الْأَحْزابِ ، أربطهم جأشا وَ أمضاهم عَزِيمَةُ ، ذَاكَ أَبُو السِّبْطَيْنِ الْحَسَنِ وَ الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ،أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَ سَيِّدَةُ النِّسَاءِ وَ ابْنَ خَدِيجَةَ الْكُبْرى ،أَنَا ابْنُ المرمل بِالدِّمَاءِ ،أَنَا ابْنُ ذبیح کربلاء ، أَنَا ابْنُ مَنْ بَكَى عَلَيْهِ الْجِنِّ فِي الظَّلْمَاءِ وَ نَاحَتْ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ»(1).

و على الرغم من أن الكثير من الكتب و المراجع المعاصرة قد أوردت هذه الخطبة العصماء للإمام علي زين العابدين عليه السلام بهذه الطريقة، إلا أن البعض من تلك المراجع قد أثبتتها بالفعل و لكن بطريقة أخرى لا تقل بلاغة و فصاحة و حجة عن الخطبة التي ذكرناها منذ قليل و إن كانت لا تختلف عنها في المعنى والجوهر.

و نظرا لبلاغة و قوة تلك الخطبة التي وردت بطريقة أخرى، فقد رأينا أنه من الأصوب أن نذكرها هنا أيضا و ذلك من باب التأكيد على الحجج التي أوردها الإمام زین العابدين عليه السلام في مجلس يزيد الذي كان يغص بالناس و بأعیان الشام، و ذلك

ص: 512


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص168.

داخل مسجد دمشق.

فقد ذكر الكاتب و الأديب المصري (عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) أن الناس اجتمعوا في مسجد دمشق، و جلس علي بن الحسين بالقرب من یزید، فارتقى رجل المنبر و جعل يسب الحسين، فقام علي زين العابدین و سار إلى المنبر و التفت إلى الرجل و قال:

-«بِاللَّهِ عَلَيْكِ إِلَّا مَا أَذِنْتَ لِي أَنْ أَصْعِدْ الْمِنْبَرِ ، وَ أَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ فِيهِ رِضَى اللَّهَ وَ رَسُولَهُ؟!».

فقال الرجل: اصعد و قل ما بدا لك.

فصعد المنبر و تكلم بعذوبة لساني و فصاحة و بلاغة، فأعاره الناس أسماعهم فقال: «أَيُّهَا النَّاسُ ، مَنْ عَرَفَنِي فَقَدْ عَرِّفْنِي ، وَ مَنْ لَمْ يَعْرِفْنِي فَأَنَا أَعْرِفُهُ بِنَفْسِي ، أَنَا عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ ، أَنَا ابْنُ مَنْ حَجَّ وَ لُبِّيَ ، أَنَا ابْنُ مَنْ طَافَ وَ سَعْيُ ،أَنَا ابْنُ زَمْزَمَ وَ الصَّفَا ، أَنَا ابْنُ فَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ ، أَنَا ابْنُ الْعَطْشَانُ حَتَّى قَضَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ مُنِعُوهُ مِنَ الْمَاءِ وَ أَ حُلْوَهُ عَلَى سَائِرِ الوری ، أَنَا ابْنُ مُحَمَّدِ الْمُصْطَفَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ رَاحَةٍ أَنْصَارُهُ تَحْتَ الثَّرَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ غُدَّةُ حَرِيمَهُ أَسْرَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ ذَبَحْتَ أطفاله مِنْ غَيْرِ سُوءٍ ، أَنَا ابْنُ مِنْ أَضْرَمَ الْأَعْدَاءِ فِي خَيْمَتُهُ لَظَى ، أَنَا ابْنُ مِنْ أُضَحِّي صَرِيعاً بالعرا ، أَنَا ابْنُ مَنْ لَا لَهُ غَسْلُ وَ لَا كُفِّنَ یری».(1)

و ضج الناس بالنحيب و البكاء و علت الأصوات داخل المسجد، فخاف يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن أن يقطع عليه خطبته، فصعد المؤذن، فقال:

- الله أكبر.

ص: 513


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص184.

فقال علي بن الحسين علیه السلام : «كَبَّرْتَ كَبِيراً وَ عَظُمَتْ عَظِيماً وَ قُلْتُ حَقّاً».

قال المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله.

فقال علي: «أَشْهَدُ بِهَا مَعَ كُلِّ شَاهِدُ».

قال المؤذن: أشهد أن محمدا رسول الله .

فبكى علي عليه السلام و قال: «یا یزید ، سَأَلْتُكَ بِاللَّهِ مُحَمَّدُ جَدِّي أَمْ جَدُّكَ ؟!».

فقال یزید: جدك.

قال علي: «فَلَمْ قَتَلَةِ أَهْلِ بَيْتِهِ ؟».

فأفحم يزيد و قام و قد ظهر عليه الغضب و الضيق و دخل داره.

ولكن لا يحسب القارئ الكريم أن رجلا مثل يزيد يمكن أن ينهزم بسهولة أمام عامة الناس أو أن يقبل الفضيحة و العار دون أن يلجأ إلى الانتقام من خصمه و لو بأقذر الطرق و الأساليب.

فيزيد لم يغادر المسجد و يدخل داره إلا بعد أن انتقم من محمد صلی الله علیه و آله و من ذريته شر انتقام أمام رؤوس الأشهاد و الأعيان.

فماذا فعل یزید کی یرضى النار التي تأكل قلبه حقدا و بغضا لآل محمد علیهم السلام؟!

الجواب بكل بساطة هو ما جاء في معظم الكتب و المؤلفات المتقدمة و المعاصرة حيث ذكرت أن حقد يزيد و بغضه لمحمد وآل محمد علیهم السلام تجلى واضحا من خلال إصدار أوامره بکشف الغطاء عن رؤوس الشهداء و انثنائه يعبث بقضيب كان في يده بثنايا الإمام الحسين علیه السلام و هو يقول منشدا:

لَيْتَ أشياخي بِبَدْرٍ شَهِدُوا *** جَزِعَ الْخَزْرَجِ مَنْ وَقَعَ الأسل

ص: 514

لأهلوا وَ استهلوا فَرَحاً *** ثُمَّ قَالُوا : یا یزید لَا تَشَلُّ (1)

وهنا يقف (أبو برزة الأسلمي) مستنكرا لما كان من يزيد و يقول على مسمع من الناس:

(أشهد لقد رأيت النبي يرشف ثناياه و ثنايا أخيه الحسن و يقول: أنتما سيدا شباب أهل الجنة، قتل الله قاتلكما و لعنه وأعد له جهنم وساءت مصيرا).

فغضب يزيد منه و أمر به فأخرج من مجلسه أمام عيون الناس سحبا.(2)

و على الرغم من الاشمئزاز المنطوي على الكثير من الاستنكار الذي أبداه المفكرون و الأدباء تجاه ما قام به یزید و ما فعله برأس الحسين علیه السلام على رؤوس الأشهاد، فإننا لا نرى أي غرابة في كل ما فعله برأس الإمام الحسين علي و ببقية بيت النبوة و مهبط الرسالة.

فأبوه معاوية كان معلما له في تتبع أهل البيت عليهم السلام و أتباعهم المخلصين من أجل اجتثاثهم من الوجود و من أجل استئصال رسالتهم و قيمتهم، و جده أبو سفيان فعل كل ما سولت له نفسه برأس الشهيد العظيم (حمزة) بعد أن مضغت زوجته (هند) كبده الذي مزقته بأظفارها و أنيابها إمعانا في حقدها على أصحاب الرسالة السماوية الجديدة.

و من الأدباء و الشعراء الذين انتبهوا إلى هذه الملاحظة التاريخية الهامة الأديب والشاعر المسيحي (بولس سلامة) الذي لخص تلك الملاحظة التي تربط بين الجڈ و الحفيد من حيث الخسة والندالة بقوله: (الأرجح ما رواه بعض المؤرخين من أنه

ص: 515


1- د. عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، مصدر سابق ص141.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص169.

(أي يزيد) نكت رأس الحسين علیه السلام بالقضيب شامتة كما فعل جده صخر (أبو سفيان بأسد الله حمزة)(1).

و لم يكتف الأديب (سلامة) بالكلام عن تلك النقطة نثرا، بل راح ينسجها قصيدة عصماء تخلد رذائل الأمويين أبد الدهر و تنشر فضائحهم ما بقي الليل و النهار، و ها نحن ننقل بيتين شعريين فقط من تلك القصيدة الرائعة التي تحمل عنوان (التطواف) لنؤكد على أن هناك من سبق يزيد في التمثيل بجثث الشهداء و بالأولياء، و بأهل البيت علیهم السلام، و لذلك فإنهم لم يستغربوا أبدا ما قام به یزید بحق الشهداء الأطهار الأبرار من أهل البيت المحمدي الكريم عليهم السلام، و إن كانوا استنكروا ذلك العمل أشد الاستنكار.

يقول بولس سلامة في قصيدته (التطواف):

جِي ءَ بِالرَّأْسِ هَامَّةِ السِّبْطِ تلقی *** بین کَفَیِّ یزید بِئْسَ الدَّانِقُ

يتلهّى بِضَرْبِ رَأْسِ حُسَيْنِ *** هَكَذَا ( الْجَدُّ ) رَأْسُ ( حَمْزَةَ ) خازق(2)

و بالطبع، فإن الأستاذ (سلامة) يعني بقوله (هكذا الجد رأس حمزة خازق) أن أبا سفیان، جد یزید، كان قد مزق رأس أسد الله (حمزة) بعد استشهاده دفاعا عن رسالة السماء التي جاء بها محمد المصطفى المختار صلی الله علیه و اله و حيا عن رب العالمين.

إذن، حتى الكثير من رجال الفكر و الأدب من المسيحيين يعرفون أن البيت السفياني بيت غدر وخيانة، و يعرفون أيضا أن داء الإسلام الخطير هو بنو أمية الذين دخلوا و تغلغلوا في الإسلام كما تتغلغل الخلايا السرطانية المهلكة في الجسم المعافی والسليم.

ص: 516


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق راجع هامش الصفحة 297.
2- نفس المصدر السابق ص303.

و بالمقابل أيضا، فإن كل واحد من أولئك المفكرين المسيحيين الذين أضاؤوا عقولهم بأنوار المعرفة و اتخذوا الحق سلاحا ماضيا في محاربة التعصب و الجهل و الانغلاق، قد أدركوا أيضا أن أهل البيت علیهم السلام هم طريق الخلاص و سبيل الأمان لأهل الإيمان في كل زمان و مكان من هذا الوجود.

و لعل الشاعر المسيحي المتقدم (زینبا بن إسحاق الرسعني الموصلي) قد أجاد القول شعرا عندما عبر عن حقيقة أهل البيت علیهم السلام من حيث إنهم هم قوة الحب السارية في الكون بكل موجوداته و مفرداته، فقال شعرا:

يَقُولُونَ مَا بَالُ النَّصَارَى تحبهم *** وَ أَهْلُ النُّهَى مِنْ أُعْرِبَ وَ أعاجم

فَقُلْتُ لَهُمْ إِنِّي لأحسب حُبَّهُمْ *** سَرَّى فِي قُلُوبِ الْخَلْقِ حَتَّى الْبَهَائِمِ(1)

و أعتقد أننا وصلنا الآن إلى المكان المناسب لذكر قصة ذلك الرجل المسيحي النبيل الذي دفع حياته ثمنا لحب الحسين و أهل بيته الأبرار عليهم السلام.

و قد سبق لنا أن ذكرنا أن ذلك المسيحي كان رسول قيصر الروم إلى يزيد، و قد كان حاضرا و شاهدا على كل ما دار و جرى من أقوال و أحداث في مجلس يزيد الذي كان يضم سبايا أهل البيت عليهم السلام من جهة، و أنصاره و أعوانه من جهة ثانية .

فماذا حدث لذلك الرسول المسيحي الذي كان ضيفا على يزيد؟!

فبعد أن سمع ذلك الرسول الذي بعثه قيصر الروم إلى يزيد كل ما دار في ذلك المجلس من حوارات عنيفة، و بعد أن شاهد بأم عينه ما فعل یزید برأس الإمام الحسين علیه السلام، وقف وقال مخاطبا یزید: (إن عندنا في بعض الجزائر حافر حمار عیسی علیه السلام علی

ص: 517


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين ،راجع: نشرة(الغدير)، العدد /59/ تصدر عن مركز الإمام الخوئي . لندن، عدد آذار، 2003، ص5.

و نحن نحج إليه في كل عام من الأقطار و نهدي إليه النذور و نعظمه كما تعظمون کتبكم، فأشهد أنكم على باطل) فأغضب یزید هذا القول، و أمر بقتله(1).

فماذا كان رد فعل رسول قيصر الروم عندما سمع یزید یأمر بقتله؟!

الجواب و بكل وضوح هو أنه قام إلى الرأس الطاهر و قبله و تشهد الشهادتين،و عند قتله سمع أهل المجلس من الرأس الشريف صوتا عاليا فصيحا يردد (لا حول و لا قوة إلا بالله).(2)

و لا يحسب القارئ الكريم أننا أوردنا هذه القصة المؤثرة عن ذلك الرسول المسيحي من خلال مرويات كتب المسلمين الشيعة، أبدا، بل لقد أوردناها من خلال ما وقعنا عليه من مرويات كتب المسلمين السنة و كتب المسيحيين على حد سواء.

و بالفعل، فإنه من البديهي تماما بالنسبة للفكر الإنساني المطلع على سيرة سيد الشهداء علي أن يحرك نوازع الحب و الإيمان في ضمير و وجدان كل إنسان يبحث في ذاته عن بذور النقاء و الطهر و الارتقاء إلى عوالم السماء.

ففي أعماق كل إنسان يبحث عن إنسانيته الحقيقية شمعة مطفأة تنتظر من يوقد فيها النار کي تتألق نورا ومعرفة، و من کالإمام الحسين علیه السلام يقدر أن يوقد تلك الشموع المطفأة في كهوف نفوسنا!!

ففي الكثير من كتب المفكرين و الأدباء المسيحيين نستطيع أن نقرأ عشرات القصص و الأحاديث عن كرامات رأس الإمام الحسين علیه السلام خلال تطوافه في البلدان الإسلامية ذهابا و إيابا، و على سبيل المثال، لا الحصر، يمكننا أن نذكر هذه الحادثة

ص: 518


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص169.
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص86.

الغريبة التي جرت مع راهب مسيحي كان معتكفا في صومعته يتعبد الله وحيدا.

فعندما مر الركب بجوار صومعته، نزل ذلك الراهب إليهم راكضا يستطلع حال الرأس المعلق على الرمح و حال السبايا المكبلات بالسلاسل و الأغلال، و في أثناء الليل رأی نورا عظيما ساطعا من الرأس المطهر، و سمع قائلا يقول: «السلام عليك يا أبا عبد الله»، فتعجب و ذهل مما سمع و رأي.

و ما أن أسفر الصباح عن وجهه، حتى عاد و استخبر القوم ثانية عن حقيقة الرأس المرفوع على الرمح، فقالوا له: إنه رأس الحسين بن علي بن أبي طالب وأمه فاطمة بنت النبي محمد صلی الله علیه و آله فقال لهم: (تبا لكم أيتها الجماعة، صدقت الأخبار في قولها إذا قتل تمطر السماء دما.(1)

و هنا بالتحديد أجد نفسي مضطرا للخروج عن المنهج الذي رسمته في تقديم أو صياغة أفكار هذا الفصل من الكتاب، إنه بلا ريب خروج بسيط عن المخطط المرسوم و لكنني أراه ضروريا الآن في هذا المكان.

إن هذا الخروج الطفيف يتعلق بالسيدة زينب عليها السلام، عقيلة بني هاشم و حاملة اللواء الحسيني بعد الفاجعة، فقد ذكرت سابقا أنني لن أتحدث كثيرا عن شخصيات عديدة شهدت وقوع الفاجعة، بل ونالت قسما عظيما منها، و أوضحت، بنفس الوقت، أن عدم ذكري لتلك الشخصيات مثل (مسلم بن عقيل) و(هاني ابن عروة)، و حتى السيدة (زينب عليها السلام) نفسها، نابع من الرغبة في كتابة كتب مستقلة عن كل شخصية من هذه الشخصيات الهامة بغية توضيح دورها الفعال في سرعة تفعيل مبادئ النهضة الحسينية المباركة، و لكنني الآن أجد نفسي مرغما على ذكر بعض المواقف المميزة

ص: 519


1- نفس المصدر السابق ص86.

للسيدة زينب عليها السلام والتي سيبدو كتابنا هذا، دون ذكر تلك المواقف المميزة، ناقصا و غير ناضج في بعض جوانبه و معالمه.

فمواقف السيدة زينب عليها السلام، ريحانة آل محمد صلی الله علیه و آله، تتجلى بقوة و صدق و إيمان منذ لحظة انطلاق الإمام الحسين علیه السلام و توجهه إلى كربلاء، و تزداد تلك المواقف قوة و صلابة عند وقوفها بين يدي الطاغية عبيد الله بن زیاد و قولها له بعد أن بادرها قائلا: (الحمد لله الذي فضحكم و قتلكم...)، فترد عليه قائلة بفصاحة لسان أهل بيت النبوة و معدن الرسالة:

«بَلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَكْرَمَنَا بِنَبِيِّهِ ، وَ طَهِّرْنَا مِنَ الرِّجْسِ تَطْهِيراً ، وَ إِنَّمَا يفضح اللَّهِ الْفَاسِقِ ، وَ يُكَذِّبُ الْفَاجِرِ ، وَ هُوَ غَيْرِنَا یا بْنِ زِيَادٍ»، فتغلي مراجل الغضب في عروقه لكنه يعود و يسألها: كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك؟

فتجيبه بعمق الإيمان الذي لا يبرد و لا يلين: «کتب عَلَيْهِمُ الْقِتالُ فبرزوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ، وَ سَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَكَ ! فتختصمون عِنْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»(1).

و يرى الكاتب و الأديب (عبد الرزاق کیلو)، و هو أحد إخواننا السنة، أن أحد وجوه البطولة في سيرة السيدة زينب عليها السلام مع أخيها الإمام الحسين علیه السلام هو وقوفها البطولي في وجه يزيد الآثم الباغي، و قولها له على رؤوس الأشهاد، بعد أن شکک بصدق رسالة جدها المصطفى صلی الله علیه و آله، و بعد أن شتم أهل بيت النبوة علیهم السلام:

«إنك أمير متسلط، تشتم ظالما و تقهر بسلطانك! أظننت با یزید أن بنا هوانا على الله و أن بك عليه كرامة!.. فشمخت بأنفك حين رأيت الدنيا مستوثقة إليك!

ألا إن الله إن أمهلك فلأنه يقول: «وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ

ص: 520


1- عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص38.

لِأَنْفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ »(1) لتردن على الله غدا یا یزید! و أنت تود لو كنت أبكما أعمى، و لتجدننا عليك مغرما حين لا تجد إلا ما قدمت يداك، تستصرخ بابن مرجانة (أي ابن زیاد)، و يستصرخ بك، و لتعلمن يوم يحكم الله بيننا، أینا شر مكانا و أضعف جندا!!»(2).

و لا يختلف رأي الأديب و المفكر المصري المعروف (عباس محمود العقاد) كثيرا عن رأي الأستاذ (عبد الرزاق کیلو) حول بطولات و مآثر السيدة زينب علیها السلام في مجلس ابن زیاد و مجلس یزید، و لكن ما أراد أن يلفت الأستاذ (العقاد) أنظارنا إليه هو ذلك التشابه في الأحداث في مجلس ابن زیاد و مجلس یزید عندما وضع رأس الإمام الحسين علیه السلام بين يدي كل منهما.

و قد قال الأستاذ (العقاد) حرفيا عن ذلك الموضوع: (و تكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند یزید.. و لا نستغرب أن يتكرر بعضه حتى يظن أنه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين)(3)، و بالطبع، فإن الأستاذ (العقاد) لم يقصد فقط تلك المواقف البطولية للسيدة زينب علیها السلام في مواجهتها للطاغيتين ابن زیاد و یزید، و إنما قصد أيضا ما فعله كل منهما برأس الإمام الحسين علیه السلام من تمثیل به و إهانة له.

و مهما تحدثنا عن السيدة زينب عليها السلام و عن مواقفها البطولية في النهضة الحسينية فسيبقى القلم عاجزا تماما عن الوفاء لها بحقوقها، و سيبقى مقصرا أيضا عن الإحاطة بعظمة شخصيتها الاستثنائية التي جمعت بين أنوار النبوة و أنوار الإمامة فأمسكت بذلك بالمجد من أطرافه.

ص: 521


1- سورة آل عمران: الآية178.
2- نفس المصدر السابق ص44.
3- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص154.

و حتى لا نسهب كثيرا في الحديث عن السيدة زينب علیها السلام، و هي التي تستحق أن يكتب عنها الكثير من المؤلفات و الدراسات التخصصية، يكفي أن نقول إن السيدة زینب علیها السلام كانت، و ستبقى، في عيون المسلمين وفي عيون المفكرين المسيحيين في الشرق و الغرب رمزا حيا و مثالا بارزا يحتذى به للمرأة المسلمة المؤمنة و المجاهدة الثائرة من أجل إعلاء شرف الكلمة، و في سبيل حمل راية الدفاع عن قيم السماء الجليلة و فضائل الرسالة النبوية النبيلة.

و كيف لا تكون السيدة زينب عليها السلام كذلك، و هي ابنة الزهراء فاطمة عليها السلام سيدة نساء العالمين ؟!

و كيف لا تكون زينب عليها السلام ، كأمها الزهراء عليها السلام، المثال الأكمل للمرأة المؤمنة الخالدة، في عيون المسلمين و المسيحيين، و هي ربيبة الوحي و ابنة علي عليه السلام الذي كان يرى دائما أن السعادة الحقيقية هي في فناء الفاني بالخالد الباقي ؟!

و لكن، و قبل الانتقال إلى الصفحات الأخيرة من هذا الفصل التراجيدي الحزين الذي سطرت أحداثه و نسجت صوره أقلام الأدباء و المفكرين بمداد من الصدق الممتزج بألام الفاجعة، دعونا نقدم لكم الآن . و لو سطورا قليلة. عن الصورة المشرفة للسيدة زينب عليها السلام كما يراها الفكر المسيحي الحديث.

فالفكر المسيحي الحديث يرى فيها صورة مستنسخة عن أمها الزهراء فاطمة عليهاالسلام مع الأخذ بعين الاعتبار الظروف الخاصة التي عاشتها كل منهما، فلو أن السيدة فاطمة الزهراء علیها السلام كانت في مكان ابنتها السيدة زينب عليها السلام لتصرفت كما تصرفت زینب علیهاالسلام تماما.

و بالمقابل أيضا، لو أن السيدة زينب عليها السلام عاشت الظروف التي عاشتها أمها

ص: 522

الزهراء عليها السلام لتصرفت مثلها تماما دون أدنى شك.

و على كل حال، و منعا للإطالة، سنكتفي الآن بإبراز صفحة واحدة من صفحات سيرة السيدة زينب علیها السلام قبل رحلتها الجنائزية الأليمة إلى دمشق حيث وقفت أسيرة بين يد اللعين یزید تدافع عن رسالة جدها المصطفى صلی الله علیه و آله و عن بقية آل بيته عليهم السلام الذين قضوا ما بين قتيل و أسير.

فقبل أن يصور الأديب و المفكر المسيحي (بولس سلامة) الأهوال التي لاقاها ركب السبايا في تلك المرحلة المضنية للروح قبل الجسد، و قبل أن ينقل لقارئه صورا مخزية عن الفعائل الأموية السوداء برأس الإمام الحسين علیه السلام في مجالس الشؤم و الغدر، نراه يعمد مباشرة لتسليط الأضواء على الدور الأنثوي في واقعة كربلاء

فالسيدة زينب عليها السلام هي العنصر الأنثوي الأبرز في أحداث الفاجعة، و لكن لهذا العنصر الأنثوي دور إيجابي و فعال في استمرار لهيب الثورة من جهة، و في حماية البقية الباقية من آل بيت النبوة من جهة ثانية.

و لذلك، فإن هذا المفكر و الأديب الشاعر (بولس سلامة) يركز الأضواء و يسلطها على دور السيدة زينب عليها السلام الفعال و محاولاتها المستميتة في منع ابن زیاد من قتل الإمام علي بن الحسين، الملقب بزین العابدین علیه السلام ، في مجلسه بالكوفة مع معرفتها الكاملة بأن محاولاتها الجريئة لمنع ابن زیاد من تنفيذ غايته بقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله و سلم قد يكلفها حياتها هي بالذات.

إذن، فهي مستعدة و قادرة على أن تفني ذاتها في رضي ذات الله مستذكرا بذلك تلك الدروس العظيمة التي كانت تتلقاها في مدرسة أبيها الإمام علي عليه السلام.

و ها هو الأستاذ الأديب (سلامة) يصور العقيلة الهاشمية عليها السلام و موقفها البطولي

ص: 523

عندما سمعت ابن زیاد يأمر بقتل زین العابدین، الإمام علي بن الحسين علیه السلام ، بقوله واصفا إياها، ثم ناقلا لنا ما قالته لابن زیاد بطريقته الشعرية المؤثرة

صَرْخَةً كاللبوءة السَّمْحَةُ *** التزار مَجْرُوحَةٍ بِدُونِ ضماد

اقتلوني قبل الغلام و هذا الصدر السمح فاستفتحوا بفؤادي

اقتلوا بنت فاطم، فدم الزهراء غال على السيوف الحداد (1)

و بعد إكباره لهذا الموقف الزينبي الفدائي التبيل، يعود الأستاذ (سلامة) و يخاطبها قائلا:

زینب الْعَرَبِ ماأعز المفدى *** فِي الضَّحَايَا وَ مَا أَجَلَّ الفادي

فروح الأبيات الشعرية التي تتحدث عن السيدة زينب عليها السلام في هذه القصيدة التي خطها و أبدعها يراع مسيحي ناطق بالحق و صادح بالصدق، تبين لنا أن الحسين علیه السلام الذي قبل أن يفدي الإسلام بروحه قد جاء بعده من يفدي أيضا المبادئ و القيم التي عاش هو من أجلها، فالسيدة زينب عليها السلام هي الفادي لمبادئ الإمام الحسين علیه السلام و هي الفادي للإمام علي بن الحسين علیه السلام، مستودع نسل و فكر الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله و وعاء أسرار رسالته، إنها زينب عليها السلام العقيلة التي تستحق بجدارة ما نقوله عن دورها الفدائي الخالد في حفظ رسالة أهل بیت رسول السماء صلی الله علیه و اله:

فإذا كان الإسلام محمدیا في وجوده و میلاده،

فهو علوي في نبضه و دمائه،

و حسيني في خلوده و بقائه،

و زينبي في سموه و ارتقائه .

ص: 524


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص292.

و لكن، و بما أننا الآن في معرض حديثنا عن الدور الجهادي للمرأة المؤمنة في النهضة الحسينية المباركة، علينا أن لا نغفل عن الدور العظيم و الفعال الذي لعبته تلك الطفلة الصغيرة التي لم يكن قد تجاوز عمرها ثلاث سنوات.

إنها نجمة صغيرة أضاءت بنورها اللطيف سماء دمشق لكنها سرعان ما هوت صريعة بلا حراك في براثن الحقد و الظلم و الظلام الأموي الذي أراد إطفاء نور فاطمة و أبيها و زوجها و بنيها عليهم السلام و لكن إرادة الله القهار كانت دائما و أبدا فوق إرادتهم، بل كيف لا تكون إرادته عز وجل فوق إرادتهم و فوق ظلمهم و طغيانهم و هو القائل - سبحانه و تعالى في محكم تنزيله الحكيم: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(1)

إن تلك البطلة الصغيرة التي لم يتجاوز عمرها عمر الزهور هي السيدة (رقية بنت الحسين علیه السلام)، إنها الطفلة الصغيرة، الجائعة، الظامئة، الغريبة، الأسيرة، اليتيمة، الصابرة، إنها الطفلة الصغيرة التي تحاكي الزنابق جمالا و طهارة و نقاءً، و قد جاء بها الطغاة من الكوفة إلى دمشق و هي ۔ على صغر سنها- مكبلة بالقيود و السلاسل الثقيلة التي تركت أثرها الواضح حول رقبتها و حول معصميها و قدميها الصغيرتين الحافيتين.

فهل يتخيل عقل بشري سوي فداحة هذا الخطب العظيم الذي تجسد في كربلاء عموما دون أن يرث بداخله و في أعماق نفسه شيئا من آلام الفاجعة؟!

أعتقد شخصيا أن كل باحث عن الحق، و كل إنسان جاد في التنقيب عن جوهر و معدن الإنسانية الحقيقية بداخله، سيدرك بطريقة أو بأخرى أنه أحد الورثة الحقيقيين لمصيبة هابیل عليه السلام و مأساة سقراط و عذاب المسيح عليه السلام و هموم علي عليه السلام

ص: 525


1- سورة التوبة: الآية 32.

و فاجعة الحسين علیه السلام .

أما عن طريقة استشهاد تلك الطفلة الطاهرة فتحدثنا كتب السيرة و التاريخ قائلة أنه بعد وصول تلك الطفلة الصغيرة مع موكب السبايا إلى دمشق، بقيت منهكة القوى، سقيمة البدن، کسيرة القلب، و آثار القيود و الأغلال واضحة المعالم، أما آثار السياط اللاهبة فقد بقيت بارزة على ظهرها الصغير حتى لحظة مفارقتها للحياة.

و تؤكد كتب التاريخ أيضا: أنها عليها السلام قامت في إحدى الليالي مرعوبة فزعة من منامها و قالت باكية: أين أبي الحسين علیه السلام؟ فإني رأيته الساعة في المنام مضطربا شديدا، فلما سمعن النساء بكين و بکی معهن سائر الأطفال وارتفع العويل، فانتبه یزید من نومه، و قال: ما الخبر؟ ففحصوا عن الواقعة و قصوها عليه، فأمر - بكل الحقد الذي يكنه لأهل بيت النبوة عليهم السلام - أن يؤخذ إليها رأس أبيها الحسين علیه السلام مغطى بمنديل،فوضع الرأس المغطى بين يديها و شف الغطاء عنه، و ما أن أزاحت التراب عن وجهه المشرق النير حتى عرفته، و ما أن عرفته حتى شهقت شهقة عظيمة و ازداد نحيبها و راحت تصيح بعد أن أخذت ذلك الرأس الطاهر، رأس أبيها عليه السلام ، و ضمته إلى صدرها الحنون و هي تبكي بكاء مرا و تصيح:

يا أبتاه من ذا الذي خضبك بدمائك؟

يا أبتاه من ذا الذي قطع وريدك؟

يا أبتاه من ذا الذي يتمني على صغر سني؟

يا أبتاه من لليتيمة حتى تكبر؟

يا أبتاه من للعيون الباكيات؟

يا أبتاه من بعدك؟ واخيبتاه!!

ص: 526

يا أبتاه من بعدك؟.. واغربتاه !!

يا أبتاه ليتني لك الفداء.

ثم وضعت فمها على فم الشهيد الشريف عليه السلام و بكت عليه حتى غشي عليها،فلما حركوها فإذا قد فارقت روحها الحياة الدنيا و يداها الصغيرتان ممسکتان برأس أبيها الإمام الحسين علیه السلام، فلما رأى أهل البيت عليهم السلام ما جرى عليها ارتفعت أصواتهم بالبكاء و النحيب و استجدوا العزاء و كل من حضر من أهل دمشق، فلم ير ذلك اليوم إلا باك و باكية.(1)

و بعد أن أوردت هذه القصة المؤلمة عن السيدة رقية بنت الإمام الحسين علیه السلام، لا يسعني إلا أن أطلب من القارئ الكريم طلبا بسيطا و سهلا.

أطلب منك أيها القارئ العزيز أن تغلق الكتاب الذي بين يديك الآن و تضعه جانبا، ثم بعد ذلك أطلب منك أن تغمض عينيك و تسترخي استرخاء تاما، ثم تخيل ما يلي:

تخيل أن ابنتك المدللة أو أختك الصغيرة قد أخذت منك أسيرة مغلولة العنق واليدين و القدمين و هي تساق تحت ضرب السياط المؤلمة دون رحمة بها أو شفقة على صغر سنها.

ص: 527


1- راجع ما جاء في كل مما يلي مع وجود بعض الفوارق البسيطة: أ. حسن الشاهرودي، يتيمة الحسين علیه السلام، مؤسسة السيدة زينب الخيرية . بيروت، 1998، ص20. ب. الشيخ عباس القمي، نفس المهموم، طبع دمشق، د.ت ص416. ج . علي زراع، رقية بنت الإمام الحسين علیه السلام، مجلة (أهل البيت عليهم السلام)، العدد الخمسون تصدرها رابطة أهل البيت عليهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، عدد نیسان 1999م، ص49.

فما هو موقفك، و ما هو رد فعلك على من ظلمها و أسرها و أذلها ثم أزهق روحها؟!

و سأترك لك الآن أمر الخيال بكل تفاصيله، و سأدع لك أيضا أمر الجواب عن موقفك و عن ردود أفعالك تجاه الموضوع المتخيل في ذهنك بكل خصوصياته و أبعاده.

و بعد العودة من عالم التخيل إلى عالم الواقع المعاش لابد أن ندرك أن المشاكل التي تصادفنا في حياتنا، و التي قد تصل أحيانا إلى حد المحن و الخطوب، ما هي إلا مشاكل و من يسيرة أمام المحن و الخطوب العظيمة التي تعرض لها أهل البيت علیهم السلام في مسيرة حياتهم التي تلونت في معظمها باللون الأحمر القاني.

و لذلك نقول و نؤكد على أن قلب الإنسان وعاء، و أن هذا الوعاء قد ينكسر في أية لحظة من اللحظات تحت تأثير الضغوط و الهموم و الآلام، و لكن هذا الانكسار في القلب قد لا يخلف وراءه أي أثر إيماني في النفس أو الروح و ذلك لأن الانكسار قد يكون من أجل أمر دنيوي رخيص لا يمت بأدنى صلة إلى عملية صقل النفس أو إلى تنقية الروح و العودة بها إلى أصالتها الحقيقية.

إلا أن ذات تلك الهموم و الغصات و الآهات يمكن أن تتحول إلى حالات نفسية محمودة إذا اختلف الهدف الذي ظهرت من أجله، فإذا كانت الغصة أو الدمعة - على سبيل المثال - من أجل مصائب الإمام الحسين و أهل بيته الأبرار عليهم السلام. فإن ثوابها لا يقل أبدا عن ثواب المسبح و المستغفر بالأسحار، فقد أجمع الأئمة من أهل البيت النبوي الكريم عليهم السلام علی قول: «نفس المهموم لهمنا تسبیح»،(1) و هذا يعني أنك عند ما

ص: 528


1- آية الله دستغيب، الثورة الحسينية، مصدر سابق ص65.

تبكي و تسقط دمعة من عينك حزنا على ما أصاب الحسين علیه السلام، بل و على ما أصاب أهل البيت عليهم السلام عموما، فهذا يعني أن تلك (الأه) التي انطلقت من فمك أو تلك الدمعة التي سقطت من عينك إنما هي التعبير الصادق عن وجود الحسين علیه السلام بداخلك، نعم، فأنت عند ما تبكي و تتساقط الدموع من عينيك بسخاء استذكارا لما حدث في كربلاء، فهذا يعطيك مؤشرا على أن الحسين علیه السلام الداخلي الذي يعيش فيك هو الذي يبكي، و هو الذي يمدك بحرارة الإيمان و بحرقة البكاء، و ذلك لأن القلب السليم في رحلته الشاقة نحو المعرفة و الإيمان لا يمكن أن يصل إلى شاطئ الحقيقة و اليقين إلا من خلال المرور في دروب الأحزان الموحشة المفروشة بالقلق و الخوف و بالآهات و الدموع و الغصص المريرة.

فعندما تعبر نفس المرء و تجتاز بوابات الهموم و الأحزان تصبح نفسا وضيئا صقيلة كالذهب النقي الصافي الذي تحرر، بفضل النار و الاكتواء بها، من کل شائبة و من كل عيب، فالقلب المسكون بالأحزان هو خير و عاء لمعرفة الرحمن.

فللمؤمن قلبان: قلب يتأمل و قلب يتألم، و قد صدق نبي الله سليمان الحكيم علیه السلام عندما قال: (في كثرة الحكمة كثرة الغم، و الذي يزيد علما یزید حزنا).(1)

و هكذا نرى أن القلب المنكسر في مرضاة الله و المتعاطف مع مصائب و آلام أولياء الله هو حقا ذلك القلب الذي يستحق لقب (خزينة الله) و (وعاء النور) و(عرش الرحمن)، ومن هنا يمكننا القول أنه إذا تألم قلب المؤمن و ارتعش خوفا و حزنا على ما أصاب الإمام الحسين وأهل بيته الأطهار عليهم السلام فإن عرش الرحمن يهتز لذلك.

ص: 529


1- متري هنري، سفر الجامعة، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبة القبطية الأرثوذكسية . القاهرة، 1924، ص27.

فما حدث في كربلاء ألهب الضمير العالمي شرقا و غربا، و ما الأثر العميق الذي خلفته تلك الفاجعة الأليمة في الآداب العالمية عموما، و التي أفردنا لها بابا خاصا بها، إلا الدليل الأقوى على أن كربلاء و شهداءها هم الضمير الحي للإنسان في شتى الأديان، و ما من قائد ثوري في هذا العالم إلا و نجد في ثورته على الظلم رؤی و مطالب من ثورة الحسين علیه السلام.

فعند ما تقول الباحثة و الراهبة الكاثوليكية (کارین آرمسترونغ) في كتابها (الإسلام في مرآة الغرب) إن الإمام الحسين علیه السلام كان يسير على خطى جده الرسول صلی الله علیه و آله و كان يستنكر كل الأفعال التي تتنافى مع تعاليم کتاب الرسالة، و كان يحتج على مساوئ الأمويين و مظالمهم التي لا تحتمل، فإن كلامها صحيح لا ريب فيه، بل إن كلامها الحر في القائل: (ظهر احتجاج جسده حفيد محمد، الحسين، الذي رفض القبول بالخلافة الأموية فقتل بطريقة وحشية هو و من معه في معركة كربلاء على يد الخليفة يزيد)(1)، هو كلام دقیق و صحيح، ويعكس هذا الكلام تعاطف تلك الباحثة و الراهبة الكاثوليكية مع فجيعة الحسين و أهل بيته علیهم السلام الذين وصفت طريقة مقتلهم بأنها (طريقة وحشية) أمر بها يزيد رجاله، و هي طريقة أراد بها يزيد أن يجتث الحسين علیه السلام من جذوره جسديا و فكريا، و لذلك فعل ما فعله انتقاما من الحسين علیه السلام و ثارا من جده و من رسالته.

فما حدث في العاشر من محرم الحرام مع كل ما في ذلك الحدث من صورمحزنة و مخيفة قد زرع في أذهان الناس على مختلف مشاربهم و مذاهبهم فكرة

ص: 530


1- كارين أرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة: محمد الجورا ، دار الحصاد . دمشق، ط2002/1 م، ص304.

جوهرية على درجة عظيمة من الأهمية و الجدية، و تتجلى هذه الفكرة بالقول إن المصائب التي حلت بالإمام الحسين علیه السلام ، بما في ذلك استشهاده في ساحة المعركة، جعلت منه منارا للثائرين على الظلم من بعده و مثالا أعلى يقتدی به شهيدا مثلما يقتدى به إماما حيا.

فعظمة الحسين علیه السلام الحقيقية وصلت إلى ذروتها لحظة هجرته إلى الله على رأس موكب مهيب من الربانيين من أصحابه و أهل بيته عليهم السلام الذين رأوا أن الحياة الحقيقية هي أن يموتوا قاهرين، و أن الموت الحقيقي هو أن يعيشوا مقهورين، ففضلوا بذلك الموت على الحياة من أجل رسالة السماء و كرامة الإنسان و رفعة كل فضيلة من الفضائل النبيلة التي لا غنى عنها لكل جيل من الأجيال.

و قد أصاب البحاثة و الأديب المسيحي الموصلي (يوسف يعقوب مسكوني) (1903-1971) عند ما قال معلقا على هذه النقطة المتعلقة باستشهاد الإمام الحسين علیه السلام و بعظمته التي هي في جوهرها امتداد لعظمة و مبادئ أبيه الإمام علي عليه السلام ، و لئن كان الإمام الحسين علیه السلام- كما يقول الأديب (مسكوني) - (أول بطل من أبطال الاستشهاد من أجل صرح الحق و الفضيلة، فإن أباه عليا قد ذاق من طعم هذا الجور، فكان استشهاد الأب خير مثالي لاستشهاد الابن و كلاهما ضحية انتصار للحق و إزهاق للباطل)(1).

إذن، ففاجعة كربلاء لا تستمد عمقها التراجيدي من مجرد أنها حادثة مأساوية حدثت لجماعة من الناس الأبرياء الذين لم يرتكبوا أي ذنب یذكر فأبيدوا عن آخرهم

ص: 531


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، نشرة الغدير العدد /59/ مصدر سابق راجع الصفحة 5.

تقريبا بطريقة و حشية لم يعرف لها التاريخ مثلا، و إنما هي تلك الفاجعة التي تستمد عمقها التراجيدي من كونها تمثل و تجسد صراعا أبديا بين قوى الخير و قوى الشر، بين ثقافة الكلمة عند أهل السماء و منطق السيف عند أهل الدنيا، إنها ثنائية النور و الظلام و دوام الصراع الوجودي بينهما.

و بما أن كربلاء تمثل ملحمة الصراع الوجودي الدائم بين الخير و الشر، و بين النور و الظلام، فمن الطبيعي أن يتعاطف أصحاب الضمائر الحية النيرة مع الجانب الخير و المنير في ساحة تلك المعركة سواء كان ذلك المتعاطف مع الجانب النوراني الخير مسلما سنيا، أم مسيحيا، أم هندوسيا، أو حتى صابئيا أيضا.

و لو توقفنا هنا قليلا و توجهنا بالسؤال التالي إلى كل قارئ، و بالتحديد إلى كل قارئ من إخواننا المسلمين السنة، و طلبنا منه الإجابة عليه بكل صدق و أمانة، فماذا سيكون جوابه على هذا السؤال؟

و السؤال هو: ماذا تعرف عن أقوال أئمة المذاهب السنية الأربعة حول فاجعة کربلاء؟

هل تعرف ما قاله الإمام الشافعي نثرا و شعرا؟

و هل تعرف موقف الإمام أبي حنيفة من أحداث تلك الملحمة الحسينية؟

و هل قرأت مواقف و أقوال الإمام مالك عن شخصية و نهضة الإمام الحسين علیه السلام؟

و هل توقفت و درست بروية و إمعان موقف الإمام أحمد بن حنبل من يزيد و ما فعله بأنوار البيت المحمدي الشريف عليهم السلام؟

و بالطبع، فإننا لن نجيب على هذه الأسئلة نيابة عن قارئنا الكريم، بل إننا سنترك

ص: 532

أمر الإجابة على هذه الأسئلة له، فهو صاحب الحق في أن يجيب عليها بكل أمانة و صدق.

و لكن، و خدمة منا لبقية القراء من مسلمين و غيرهم، سأقدم إليكم الآن بعض المقتطفات الشعرية من حديقة الإمام الشافعي، أحد أهم أئمة المذاهب السنية الأربعة، و قد اخترت أن تكون تلك المقتطفات شعرا لا نثرا لأنني على ثقة أكيدة من أن معظم القراء سيحفظون هذه الأشعار عن ظهر قلب.

فمن المعروف عن الإمام الشافعي (محمد بن إدريس بن العباس بن شافع(204-150ه-)ه) أنه قال العديد من القصائد الرقيقة في مدح أهل البيت عليهم السلام و تمجيد خصالهم و فضائلهم حتى أصبحت بعض قصائده فيهم عليهم السلام عنوانا لمدحهم و مثلا لذكر علو مكانتهم و سمو فضلهم.

و لعل أشهر ما قاله الإمام الشافعي في مدح عموم أهل البيت عليهم السلام هو قوله في دیوانه:

یا آلِ بیت رَسُولُ اللَّهِ حبکم *** فَرْضُ مِنَ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ أَنْزَلَهُ

يَكْفِيكُمُ مِنْ عَظِيمِ الْفَخْرِ أَنَّكُمْ *** مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْكُمْ لَا صَلَاةَ لَهُ (1)

و من المعروف عنه أنه كان متعاطفا مع أهل البيت علیهم السلام حتى اتهمه البعض بالتشيع و بأنه أصبح (رافضيا)، فلما بلغته الأخبار بشأن هذه التهم الموجهة إليه أجاب قائلا:

يا رَاكِباً قِفْ بالمُحُصَّبِ مِنْ منی *** وَ اهْتِفْ بقاعد خيفها وَ الناهض

ص: 533


1- راجع ديوان الإمام الشافعي، جمعه و علق عليه: سليمان سليم البواب، دار الحكمة . دمشق ص57.

حُرّاً إِذَا فَاضَ الْحَجِيجَ إِلَى مِنًى *** فيضأ كملتطم الْفُرَاتِ الفائض

إِنْ كَانَ رفضا حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ *** فَلْيُشْهِدِ الثَّقَلَانِ أَنِّي ( رَافِضِيُّ ) (1)

هذا هو، و باختصار شديد، موقفه من آل بيت النبوة و مهبط الوحي و معدن الرسالة.

و لكن بقي علينا أن نبين موقفه من أحداث ملحمة كربلاء و من طرفيها المتناقضين و الطرف الحسيني المحمدي و الطرف اليزيدي السفياني.

و كي نتبين موقفه بوضوح کامل، يكفي أن نذكر هنا هذه القصيدة العصماء التي تستثير کوامن النفوس الصافية و تحرك فيها أنبل وأرق المشاعر الإنسانية التي سرعان ما تستنكر الظلم و الطغيان و القهر الذي وقع على الإمام الحسين و أصحابه و أهله علیهم السلام

و ها هو الإمام الشافعي يقويل واصفا حزن الدنيا على مصاب الحسين علیه السلام:

تأوب هَمِّي وَ الْفُؤادَ كَئِيبُ *** وَ أَرِقْ نَوِّمِي وَ الرُّقَادِ غریب

فَمَنْ مَبْلَغَ عَنِّي الْحُسَيْنِ رِسَالَةُ *** وَ إِنْ كَرِهْتَهَا أَنْفُسٍ وَ قُلُوبُ

قتیل بِلَا جُرْمٍ كَأَنَّ قَمِيصِهِ *** صبيغ بِمَاءِ الْأُرْجُوَانِ خضيب

وَ لِلسَّيْفِ أعوال وَ للرمح رَنَّةِ *** وَ لِلْخَيْلِ مِنْ بَعْدِ الصَّهِيلِ نحيب

تَزَلْزَلَتِ الدُّنْيَا لآِلِ مُحَمَّدٍ *** وَ كَادَتْ لَهُمْ صُمِ الْجِبَالِ تَذُوبُ

وَ غَارَتْ نُجُومٍ وَ اقْشَعَرَّتْ کواکب *** وَ هَتَكَ أَسْتَارِ وَ شَقِّ جُيُوبٍ

يُصَلَّى عَلَى الْمَبْعُوثُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ *** وَ يغزی بَنُوهُ إِنَّ ذَا لعجيب

لَئِنْ كَانَ ذَنْبِي حُبِّ آلِ مُحَمَّدٍ *** فَذَلِكَ ذَنْبٍ لَسْتُ عَنْهُ أَتُوبُ

ص: 534


1- نفس المصدر السابق ص43.

هُمْ شُفَعَائِي يَوْمَ حَشْرِي وَ مَوْقِفِي *** إِذا ما بَدَتْ لِلنَّاظِرِينَ طوب (1)

و لا أعتقد أنني أجانب الصواب إذا قلت إن موقف كل أئمة المذاهب السنية الأخرى لا تختلف في جوهرها عن موقف الإمام الشافعي أبدأ، بل إن البعض من المفكرين و الأدباء المعاصرين الذين يعتنقون المذهب (الوهابي) لم يجدوا حرجا في سب ولعن قاتلي الإمام الحسين و أهل بيته الأطهار عليهم السلام و من مثل بهم و أخذ ما تبقى منهم في رحلة سبي طويلة و شاقة لم تنته أهوالها و متاعبها حتى بعد وصول موكب السبايا الأسرى إلى قصر الطاغية يزيد في دمشق.

-و خير مثال على قولنا هذا، الداعية الوهابي و الشاعر السعودي (عائض القرني) أحد أشهر ممثلي المذهب الوهابي في عصرنا هذا، و قد كتب هذا الأديب و الداعية الوهابي قصيدة متميزة في تصوير موقفه من المآسي و المصائب التي تعرض لها الإمام الحسين و أهل بيته علیهم السلام.

و لم يخف هذا الداعية موقفه أيضا من قتلة ريحانة الرسول صلی الله علیه و آله و سيد شباب أهل الجنة عليه السلام.

و هذه باقة صغيرة من تلك القصيدة (الوهابية) والتي جعل الداعية (القرني) عنوانها (أنا سني حسيني)، و يقول (القرني) فيها:

بَكَى الْبَيْتِ وَ الرُّكْنَ الْحَطِيمَ وَ زَمْزَمُ *** وَ دَمْعِ اللَّيَالِي فِي محاجرها دَمُ

وَ شَقَّ عَلَيْكَ الْمَجْدِ أَثْوَابٍ عِزِّهِ *** وَ وَجْهُ الضُّحَى مِنْ بَعْدِ قَتَلَكَ أَدْهَمُ

فَيَا لَيْتَ قَلْبِي كَانَ قَبْرِكَ مُعَلَّماً *** تُكَفَّنُ فِي أَجْفَانِ عَيْنِي وَ تُكْرَمَ

وَ يا لَيْتَ صَدْرِي کان دُونَكَ سَاتِراً *** بِهِ کل رُمْحٍ مِنْ عداك يَحْطِمُ

ص: 535


1- لبيب بیضون، طب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص365.

أَ رَيْحَانَةُ الْمُخْتَارِ صِرْتُ قَضَيْتَ *** وَ أَصْبَحَتِ للأحرار نَعَمِ الْمُعَلَّمُ

وَ لَكِنَّنِي وَافَقْتُ جَدُّكَ فِي العزا *** فأخفي جراحي يَا حُسَيْنُ وَ أَ كَتَمَ

أَصَبْنَا بِيَوْمٍ فِي الْحُسَيْنِ لَوْ أَنَّهُ *** أَصَابَ عُرُوشِ الدَّهْرِ أضحت تَهْدِمُ

ثم ينتقل الشاعر السعودي الوهابي (القرني) إلى تحديد موقفه من قتلة الإمام الحسين علیه السلام بقوله في نفس القصيدة:

أَ لِابْنِ زیاد سُودُ اللَّهُ وَجْهَهُ *** معاذير فِي قُتِلَ الْحُسَيْنُ فَتَعَلَّمَ ؟

يقاضيه عِنْدَ اللَّهُ عَنَّا نَبِيِّهِ *** بِقَتْلِ ابْنِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَى وَ أحکم

عَلَى قَاتِلِيهِ لَعْنَةُ اللَّهُ كُلَّمَا *** دجا اللَّيْلِ أَوْ نَاحَ الْحَمَّامِ المرنم(1)

و بالطبع، ليست هذه الأبيات الشعرية هي القصيدة بكاملها، و لكننا سنعود لاحقا لذكر بقية الأبيات الهامة منها في الفصول اللاحقة من هذا الكتاب.

و هكذا نرى أن القلب الذي تزداد نوافذه انفتاحا على عوالم فضائل و أسرار أهل البيت عليهم السلام، سيزداد تألقا و بريقا، بل و سيزداد أيضا معرفة بحكمة الحياة و طبيعة تناقضاتها الحادة، فالعشق الحسيني باب من أبواب المعرفة و سبيل من سبل الرشاد.

نعم، نحن لا نشك أبدا في مصداقية قول الإمام جعفر الصادق علیه السلام: «إِنَّ لِقَتْلِ الْحُسَيْنِ حَرَارَةً فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لَا تَبْرُدُ أَبَداً».(2)

فو الله حرارته لا تبرد أبدا، و لن تبرد أبدا...

ولكن هل سألنا أنفسنا يوما عن مصدر تلك الحرارة المتقدة في قلوبنا؟

ص: 536


1- راجع جريدة (الحياة)، العدد / 16077/ بتاريخ 11 نيسان 2007، ص17، القصيدة موجودة بالكامل.
2- الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت. قم،1408ه، ج10 ص318.

و هل تساءلنا أيضا عن سبب استمرارية تلك الحرارة بنفس القوة و الوتيرة؟!

إن أبسط ما يقال عن مصدر تلك الحرارة في قلوب المؤمنين من عشاق الحسين علیه السلام، من مسلمين و مسيحيين و غيرهم، هو حب الثورة على كل من يريد أن يغلق النوافذ بوجه ثقافة السماء، فالحرارة حرارة الإيمان بالكلمة و بمن يحمل ثقافة الكلمة و محتواها الروحي و المعنوي، و لذلك، فإن تلك الحرارة التي تسکن القلوب هي تلك الطاقة التي نستمدها من سلطان الكلمة و من وهجها الأقدس.

و طالما هنالك حياة و موث، هناك خير و شر، و طالما هنالك في وجودنا خيرو شر، هنالك أيضا صراعات لا حصر لها بين هذين القطبين المتضادين المتنافرین.

و لأن الصراع موجود في كل حركة من حركات الحياة، فإن الألم أيضا موجود كنتيجة طبيعية من النتائج المترتبة على ذلك الصراع المرير في وجودنا، و ربما يصل الأمر ببعض أولئك الذين يقضون أعمارهم في حالة صراع مع قوی و مظاهر الانحراف و الانحطاط في المجتمع أن يتحولوا إلى ما يمكن أن نطلق عليه اسم (الجوهر المتألم).

فالمسيح عليه السلام جوهر متألم، و الحسين علیه السلام أيضا جوهر متألم، أما نحن البشر العاديين فيمكن أن نسمی- في حال تعاطفنا القوي و صراعنا إلى جانب الحق و الخير ضد الباطل و الشتر - بأصحاب (الألم الجوهري).

فأهل (الألم الجوهري) هم أولئك الناس الذين يصارعون و يقارعون مظاهر الخلل و الانحراف و يدفعون ضريبة ذلك الصراع ألم و دما من أجل مبادئ و قيم جوهرية نبيلة، في حين أن أهل (الجوهر المتألم) هم بحد ذاتهم جواهر و قيم مبدئية سامية وجدت بيننا لتكون مثلا عليا لنا، و مع ذلك فهي ترفض أن تبقى في حالة سكون

ص: 537

أو في حالة ركود كمنظومة من المبادئ الأخلاقية الجامدة التي تنتظر من يجيء و يدافع عنها دون أن تبدي هي أي حراك، إنها جواهر أخلاقية و قيم إنسانية متجسدة في أشخاص محددين، و قد قبل أولئك الأشخاص (الجواهر) أن يتجسد الألم في كل تفسير من أنفاسهم نتيجة همتهم التي لا تفتر و لا تبرد في مقارعة الباطل و في قطع دابر الشرور من وجودهم.

فالحسين علیه السلام - على سبيل المثال ۔ ابتدأت ولادته بمجلس عزاء وانتهت حياته بفاجعة أبكت أهل الأرض و السماء، و ما من يوم مر على الحسين علیه السلام دون هم و ألم أو دون هواجس و مخاوف أرقت ليله و أقلقت نهاره، إنها غربة الروح السماوية في مجتمع سرعان ما يتنکر لوصايا الأنبياء و مبادئ الرسل و قيم الرسالات.

لقد أصبحت روح الإمام الحسين علیه السلام صدی دائم الترديد للفظة (الآه) الخارجة من عمق القلب الإنساني المقهور، من عمق القلب الشجي الذي يمثل عرش الرحمن بعلو مكانه و سمو مقامه، و بالمقابل، فإن لفظة (الآه) أصبحت هي النغمة القدسية الحزينة التي تتغنى بها روح الإمام الحسين علیه السلام آناء الليل و أطراف النهار .

و لا أعتقد أن هناك أية قصة أبلغ من القصة التي ذكرها الكاتب و الأديب اليوناني المعاصر (نیکوس کازانتزاکیس) عن العلاقة بين (الآه) و(الله).

يذكر هذا الأديب العظيم (کازانتزاکیس) ذو النزعة الصوفية الحاضرة دائما في كل رواياته و مؤلفاته أن أحد الأدباء المسيحيين مر ذات يوم بأحد الدراويش المسلمين الذين استوطنوا في جزيرة (کریت) و سأله قائلا:

أي اسم تطلقه على الله؟

فأجاب الدرویش:

ص: 538

- ليس لله اسم، إنه أكبر من أن تحتويه الأسماء، الاسم سجن و الله حر.

و لكن الأب أصر على سؤاله قائلا:

-و لكن إذا شئت أن تناديه حين تكون هناك حاجة فأي اسم تستخدمه؟!

أطرق الدرویش مفكرا ثم افترقت شفتاه:

- آه! هكذا أناديه، ليس الله، بل (آه).

و أربك هذا الكلام الأب فتمتم: إنه على حق. (1)

و بالفعل، فإن ما يناسب هذا المقال في هذا المقام هو ما وردنا عن الأئمة الأطهارعليهم السلام من أن كليم الله موسى عليه السلام ناجي ربه مرة فقال: إلهي، أين نجدك؟

فأوحى سبحانه و تعالى إليه مجيبا: أنا عند المنكسرة قلوبهم...

و هكذا نرى أن المآسي و الفجائع المريرة التي وقعت على أهل البيت النبوي الطاهر عليهم السلام لم تقع على غيرهم بنفس القساوة و المرارة، بل إننا لم نقرأ في التاريخ الإنساني أن نبيا رسولا قد تعرض أهل بيته للمجازر و المذابح من أجل القيم و المبادئ مثلما تعرض له آل بيت محمد.

و قد صدق الكاتب و الباحث المعاصر (عمر فروخ) عند ما أكد على مصداقية هذه الحقيقة الثابتة بقوله: (لم يعرف التاريخ مأساة شغلت الإنسانية كمأساة الحسين بن علي عليه السلام، و عهد الإنسانية بالمآسي أنها نوع من المصائب التي تظهر فجأة عظيمة فادحة ثم تتضاءل و يخف أثرها في كتب التواريخ: تلك هي بلا ريب المآسي الشخصية الفردية التي لا تنطوي في أول أمرها إلا على إشفاق من نزلت بهم المصيبة وإلا على

ص: 539


1- نيكوس كازنتزاكي، تقرير إلى غريكو، ترجمة: ممدوح عدوان، الجندي للطباعة و النشر. دمشق، د.ت، ج1 ص152.

عاطفة عارضة في من اتفق له أن شهدها، أما مأساة كربلاء فكانت من نوع آخر).

فما هو هذا النوع الآخر من المآسي الذي تندرج تحته مأساة كربلاء؟!

إنه- و الكلام أيضا للدكتور (فروخ) - (الاستشهاد في سبيل مبدأ إنساني قويم، و لكن فكرة تلك المأساة لم تزل، بل لقد قوي أثرها و اتسع صداها، و المسلمون لن ينسوا الحسين بن علي بن أبي طالب ذلك الشهيد الذي أصبح المثل الأعلى للاستشهاد في سبيل الدفاع عن المبدأ الحق و كان القدوة الصحيحة لطالبي المثل العليا).(1)

و كدليل أكيد على أن حجم المأساة في كربلاء، قد تجاوز كل المقاييس و المعايير التي يمكن أن يتقبلها العقل البشري، و أنه قد تجاوز أيضا الحدود و الحواجز المحلية إلى درجة أن جعل منها مأساة إنسانية ذات أبعاد عالمية تتردد أصداؤها في كل بقعة من بقاع الأرض، هي القصة المثيرة التالية التي وردت أساسا في العدد الثامن من مجلة (لواء الإسلام) الصادرة في القاهرة بتاريخ شباط عام (1948).

فقد وردت في الصفحة / 67/ من المجلة المذكورة القصة التالية، و هي قصة تتعلق بالرئيس الأميركي الأسبق (فرانکلن روزفلت) (1882-1945) و الذي استلم كرسي الرئاسة من عام (1933) و حتى عام (1945)، أي حتى عام وفاته.

و قد كتب محرر تلك القصة قائلا: (لقد حدثنا أحد كبار الرجال من الأقطار الشقيقة، من غير الشيعيين، أنه التقى بمستر (روزفلت الصغير)، فدار الحديث بينهما عن الحرب و ويلاتها، و أخذ يشرح له آداب الحرب في الإسلام، و يقارنها بوحشية الحروب بين الدول الغربية، فقال له (روزفلت): مهما بلغ المحاربون من الوحشية

ص: 540


1- راجع مجلة الموسم، العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص17.

و الاعتداء، فإننا لم يسمع عنا أننا قتلنا ابن نبي نتسب إليه، و لا جردنا بنات النبي و آله من ثيابهم و أخذناهم سبايا غير مكرمين، قال محدثنا: فوجمت و لم أتكلم).(1)

و يحق لهذا المسؤول العربي الذي لم يشأ محرر الخبر أن يذكر اسمه أن يسكت عن الكلام و أن يصمت كليا أمام ما قاله الرئيس الأمريكي الأسبق (روزفلت).

فكيف يتكلم قوم عن آداب الحرب و عن ادعائهم التمسك بأخلاقياتها و هم الذين قتلوا ابن بنت نبیهم و سبوا حريمه و نساءه و ساقوهم أساری کالعبيد من بلد إلى آخر دون ذنب أو جريرة؟!

و على كل حال، بقي علينا أن نبين للقارئ أنه ربما المقصود من اسم (روزفلت الصغير) الوارد في الخبر هو الرئيس (فرانکلن روزفلت) تمييزا له عن الرئيس الأمريكي (تیودور روزفلت) (1858-1919) الذي حکم أمريكا من عام (1901) و حتى عام (1909)، و الحائز على جائزة نوبل للسلام عام (1906).

و بما أننا قاربنا الانتهاء من الكلام عن آلام أهل بيت الإمام الحسين علیه السلام في رحلتهم الملحمية من الكوفة إلى الشام، و بما أننا أيضا قد عرضنا كل ما يمكن عرضه من آراء و مواقف حول الصور المؤثرة و الأحداث المؤسفة التي أعقبت استشهاد الإمام الحسين علیه السلام في ساحة المعارك الضارية، نرى الآن أنه من الأفضل لنا أن نحث الخطى و نسدل الستار على آلام الحسين علیه السلام و على مصائب آل و أبناء و أصحاب الحسين علیه السلام. و لكن، و قبل أن نسدل الستار على تلك الآلام و الجراح التي عصفت في كربلاء

ص: 541


1- راجع مجلة الموسم، العدد /12/ المجلد (3) مصدر سابق ص64 ، وقد تم نقل الخبر عن مجلة (لواء الإسلام) العدد /8/ ربيع الثاني 1367ه . فبراير 1948 ، إصدار القاهرة ص67.

بالبقية الباقية من أهل بيت النبوة، علينا أن نؤكد للجميع أن العقول النظيفة و الأقلام الواعية، أيا كانت هوية تلك العقول و الأقلام، لا ترى في كربلاء أنها مجرد ملحمة شيعية تراجيدية، أو أنها عبارة عن موروث روحي مكتوب بدماء جماعة من شيعة علي عليه السلام و ابنه الحسين علیه السلام، بل ترى تلك العقول و الأقلام أن تلك الملحمة الحسينية هي بحد ذاتها إرث بشري عام كتبه الإمام الحسين علیه السلام بدمائه و دماء أبنائه و أهله ليكون إنجيلا جديدا يبشر بخلاص كل المظلومين و المستضعفين في الأرض على مر العصور و الأجيال.

فالمفكر و الأديب المسيحي (أنطون بارا) سئل ذات مرة عن عالمية الملحمة الحسينیه السلامية، فأجاب قائلا: (ليست الملحمة الحسينية مختصة بالشيعة و السنة و المسلمین فحسب، بل إنما هي لكل مؤمني، كما جاء في ذلك الحديث: (إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبدا)، و لم يقل: (في قلوب المسلمين)، بل يشمل كل إنسان حر آمن بخطى الحسين و طريقه، و لذا نرى أن المفكرين و أهل العالم یأسرهم حب الحسين عند ما يطلعون على سيرته، تماما كما صاروا من المعجبين و المحبين لطريق علي بن أبي طالب عليه السلام و لسلوكه).(1)

و بالفعل، فإن صناع التاريخ من رسل و أنبياء وحكماء و أبطال و علماء و قادة فكر ليسوا حکرا لشعب دون شعب و ليسوا وقفا لدين دون آخر، إنهم كالشموع التي تضيء بنورها كل الزوايا المظلمة دون استثناء، إن تلك الشمعة أو الشمس لا تضيء لفرد دون فرد و لا لشعب دون شعب آخر، فالنور يغمر الجميع، و على الجميع أن يستحموا بنور المعرفة و الحقيقة.

ص: 542


1- راجع المقابلة الصحفية مع المفكر و الأديب (أنطون بارا) في مجلة (رسالة الثقلين)، العدد /55/ مصدر سابق ص111.

الفهرس

الإهداء...5

شعاع من وهج الحقيقة والتاريخ...6

أهل البيت عليهم السلام عماد الوجود ورحمته...31

يحدثونكم عن الحسين علیه السلام... 77

فاجعة كربلاء و مأساة السقيفة...156

عصر الإمام الحسين علیه السلام ...215

جذور الثورة و دوافع النهضة...241

نبوءة أهل البيت عليهم السلام بفاجعة كربلاء...316

نبوءات الأنبياء عليهم السلام بفاجعة كربلاء...368

صور من الفاجعة الرهيبة...416

استشهاد الحسين علیه السلام و استمرار الفاجعة....457

رحلة الآلام من كربلاء إلى الشام...489

الفهرس...543

التنضيد و الإخراج الفني الكوثر

Agsatri@yahoo.com

ص: 543

المجلد 2

اشارة

فاجعة کربلاء في الضمير العالمی الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزءالثانی

دار العلوم للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

الأعمال الخيرية الرقمية: جمعية الإمام زمان (عج) إصفهان المساعدة

ص: 1

اشارة

کافة الحقوه محفوظة وسجلةالطبعة الأولى 1430ھ/2009م

دار العلوم

المكتب : الرويس - بناية عروس الرويس - تلفاكس :01/545182 -03/473919

ص . ب : 140 /24 - المستودع : بئر العبد - مقابل البنك اللبناني الفرنسي - هاتف :

01/541650

E-mail:info@daraloloum.com

www.daraloloum.com

ص: 2

فاجعة کربلاء

في الضمير العالمی الحدیث

دراسة تحليلية لرؤى دينية وفكرية عالمية

تأليف راجي أنورهيفا

الجزءالثانی

دار العلوم

للتحقیق و الطباعة و النشرو التوزیع

ص: 3

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ

ص: 4

الحسین علیه السلام وارث الأنبياء علیهم السلام

يقول الحكيم الهندي (بوذا) (القرن الخامس ق.م): (إن إنسانا تأخذه الرحمة ويملؤه الحب ويصفو قلبه ويملك زمام نفسه لقريب من (النرفانا) - صفاء الروح واطمئنانها)(1)، ولا ريب في أن كلام هذا الحكيم الهندي صحيح تماما.

فالإنسان الحقيقي الكامل هو ذلك الإنسان الذي يرتدي ثوب الرحمة ويحمل في قلبه مصباح الفضيلة ويسير برفق على دروب الحب.

والإنسان الكامل لا يبحث عن أعظم مصدر للذة، بل يبحث عن أشرف منبع لتلك اللذة، إنه ذلك الإنسان الذي لا وقت لديه للكره، ولا کره عنده للمعرفة، ولا معرفة معه لغير الحق.

فالإنسان العادي قد يصل بعلمه وعمله وزهده وتقواه إلى مرحلة الإنسان الكامل، وليس هذا الأمر محصورا ضمن دائرة الإسلام كما يظن البعض خطأ، بل هو أمر يمكن أن يأخذ طريقه للحدوث مع أبناء كل الأديان الذين أخلصوا العبادة والطاعة لله سبحانه وتعالى، بل ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أيضا أن التاريخ الإنساني المتقدم قد حدثنا عن أناس حكماء قدماء قد وصلوا بفطرتهم السليمة إلى التوحيد وإلى مراحل متقدمة من معرفة الذات وعلاقتها بالجوهر المطلق المحض.

ويكفي أن نضرب مثالا واحدا على صدق ذلك القول من خلال الاستشهاد بما

ص: 5


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مكتبة نوفل . بيروت، ص 377.

قاله الفيلسوف والصوفي الزاهد (أفلوطين) (204 -270م)، مؤسس مذهب الأفلاطونية الحديثة والتي حاول من خلالها التوفيق بين الفلسفة والدين، وقد جمعت تعاليمه القيمة في كتاب خاص يسمى (التاسوعات) وهو خلاصة فكره في مجمل القضايا التي تناولها في رحلة حياته.

يقول ذلك الفيلسوف والصوفي الزاهد واصفا سمو نفسه وصفاء بصيرته بعد أن خلع ثوب الملذات وارتدي ثياب الطاعات: (إني ربما خلوت بنفسي وخلعت بدني جانبا وصرت كأني جوهر مجرد بلا بدني، فأكون داخلا في ذاتي، راجعا إليها، خارجا من سائر الأشياء سواي، فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبا، فأعلم أني جزء من أجزاء العالم الشريف الفاضل الإلهي، ذو حياة فعالة، فلما أيقنت بذلك ترقيت بذاتي من ذلك العالم إلى العالم الإلهي، فصرت كأني موضوع فيها متعلق بها، فأكون فوق العالم العقلي كله، فأرى كأني واقف في ذلك الموقف الشريف الإلهي، فأرى هناك من النور والبهاء ما لا تقدر الألسن على صفته، ولا تعيه الأسماع، فإذا استغرقني ذلك النور والبهاء ولم أقو على احتماله إلى عالم الفكرة، فإذا صرت في عالم الفكرة حجبت الفكرة عني ذلك النور والبهاء، فأبقى متعجبا أني كيف انحدرت من ذلك الموضع الشامخ الإلهي وصرت في موضع الفكرة بعد أن قویت نفسي على تحليق بدنها، والرجوع إلى ذاتها، والترقي إلى العالم الإلهي، حتى صارت في موضع البهاء والنور الذي هو علة كل نور وبهاء.

ومن العجب أني كيف رأيت نفسي ممتلئة نورا وهي في البدن كهيئتها وهي خارجة منه، غير أني لما أطلت الفكرة وأجلت الرأي وصرت كالمبهوت ذکرت عند

ص: 6

ذلك أخي (أرقليطوس)، فإنه أمر بالطلب والبحث عن جوهر النفس، والحرص على الصعود إلى ذلك العالم الشريف الأعلى، وقال: إن من حرص على ذلك وارتقى إلى العالم الأعلى جوزي بأحسن الجزاء اضطرارا، فلا ينبغي لأحد أن يفتر عن الطلب والحرص في الارتقاء إلى ذلك العالم، وإن تعب ونصب، فإن أمامه الراحة التي لا تعب بعدها ولا نصب...)(1).

لا ريب في أن هذه الحالة التي حدثنا عنها الفيلسوف الزاهد (أفلوطين) وصديقه الفيلسوف (أرقليطوس) هي حالة إشراق الروح أمام أنوار التجليات والفيوضات الربانية التي لا تتأتى إلا لأولئك الذين صفت نفوسهم من علائق الدنيا، فتألقت أرواحهم بأنوار الآخرة.

ومن هنا يمكننا أن نطرح السؤال التالي:

إذا كان الحال الذي حدثنا عنه الفيلسوف (أفلوطين) هو حال الإنسان العادي الذي يمكن له أن يبلغ تلك الدرجة من الرقي الروحي بعد جهدوعناء، فما هو الحال إذن عند الرسل والأنبياء والأوصياء؟ وبعبارة أكثر وضوحا: فما هو حال الإمام الحسين عليه السلام ، سليل الأنوار المحمدية والعلوية، أمام هذه الحالات من الصفاء والطهر والنقاء؟!

وقبل الدخول في مناقشة هذا السؤال والإجابة عليه، أود أن أقول إنني ما أردت أن أكتب فصلا مستقلا بعنوان (الحسين عليه السلام وارث الأنبياء) ولم أعقد العزم على ذلك إلا في اللحظات الأخيرة، وإنما كانت إرادتي أن أكتب أفكار هذا الفصل وأبثها

ص: 7


1- السيد أحمد الفهري، دروس في التفسير (ج2)، الدار الإسلامية .بيروت، 1988، (ج2)،ص97

في الفصل اللاحق الذي يحمل عنوان (فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين علیه السلام)

وبناء على ذلك، أرجو أن يتم اعتبار هذين الفصلين فصلا واحدا مؤلفا من حلقتين متماسكتين لا انفصال بينهما أبدا نظرا لما في هذين الفصلين من معلومات متكاملة ومتسلسلة.

وبالعودة إلى مدار البحث، نقول إن الإمام الحسين عليه السلام ، وباعتراف النص القرآني الشريف والأحاديث النبوية، ليس إنسانا عاديا كسائر البشر، وإنما هو أحد مواطن الإشارة في آية التطهير القرآنية والتي تشهد بأن أهل البيت عموما علیهم السلام، والحسين عليه السلام أحدهم، هم أناس غير عاديين، فهم عبارة عن عناصر طاهرة مطهرة من كل رجس وعیب ونقص في وجوههم على الأرض ضمن عالم البشر الآدمي الترابي الكثيف.

وما من أحد يستطيع أن يشك أيضا في أن الإمام الحسين عليه السلام كان وجها من الوجوه النيرة الخمسة التي أراد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن يباهل بها وجوه (نجران) وعلماءها الأفذاذ، بل إن العديد من كتب المفكرين المسيحيين المتقدمين والمعاصرين تشهد وتقر بمصداقية حدوث تلك الحادثة العظيمة، وكيف أن علماء نجران وأساقفتها الكبار طلبوا من الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم الإقالة والإعفاء من إتمام عملية المباهلة بعد أن رأوا في وجوه أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم أنوارا سماوية نقية لو أقسمت على الله سبحانه وتعالى أن يزيل الجبال من مكانها لأزالها إكراما وتعظيمالهم.

وبالتالي، فالإمام الحسين عليه السلام ليس بالإنسان العادي الذي يسعى طوال حياته عابدا زاهدا طائعا راکئعا من أجل الوصول في نهاية المطاف إلى حالة الإشراق الروحي

ص: 8

المؤقت والتواصل بين الحين والآخر مع السبحات الإلهية، فهو علیه السلام منذ البداية ومنذ أن سمعت روحه الطاهرة نداء التوحيد عند معاقد العز من عرش الله العظيم، حيث لم تكن هناك أرض ولا سماء، ولانا رولا ماء، كان عليه السلام . منذ ذلك الحين . في حالة إشراق روحي دائم لا يعرف الانقطاع، وکان، منذ ذلك الحين أيضا، في حالة تواصل مستمر مع الأنوار السماوية والسبحات الإلهية الخالدة.

وأعتقد أن أبلغ حديث عن هذه النقطة التي نناقشها الآن هو حديث الإمام محمد الباقر عليه السلام إلى جابر الجعفي عن حقيقة ومقام أهل البيت عليهم السلام حيث يقول عليه السلام في ذلك الحديث:

«يا جابر كان الله ولا شيء غيره، ولا معلوم ولا مجهول، فأول ما ابتدأ من خلق خلقه أن خلق محمداصلی الله علیه و آله وسلم وخلقنا أهل البيت معه من نوره وعظمته، فأوقفنا أظلة خضراء بين يديه، حيث لا سماء ولا أرض ولا مكان ولا ليل ولا نهار ولا شمس ولا قمر... نورنامن نور ربنا كشعاع الشمس من الشمس، نسبح الله تعالی ونقدسه ونحمده ونعبده حق عبادته»(1).

وبما أن الحسين عليه السلام أحد أفراد البيت المحمدي الطاهر من كل الأرجاس والذي لا يقاس بهم أحد من الناس، فقد كان من الناحية النورانية في مقام الأنبياء والصديقين، ولا عجب عندئذ في أن يختلف المفسرون في تفسير كلمة (أحد) في الحديث الشريف القائل:

«نحن أهل بيت لا يقاس بنا أحد»(2)، فهل كلمة (أحد) مخصوصة ببني آدم علیه السلام

ص: 9


1- العلامة ميرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، مصدر سابق ص85
2- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مصدر سابق (ج1 )ص174

أم أنها مطلقة لتشمل كل النفوس العاقلة من بشر وملائكة وحتى أنبياء مقربين؟!

وعلى ما يبدو، فإن هناك ارتباطا وثيقاٌ بين الحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه منذ قليل وبين الآية القرآنية الكريمة الواردة في سورة (البقرة) والتي تقول: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ»(1).

فكيف يأمر الله الملائكة أن تسجد لآدم عليه السلام ؟!

وهل كلمة (سجود) تعني حصرامعنى العبادة؟!

وهل كان سجود الملائكة سجودا لآدم عليه السلام أم لشيءٍ آخر مُودَعُ في آدم؟!

فالكثير من التفاسير القرآنية تجيبنا على كل هذه الأسئلة بشكلٍ واضحٍ ومفيدٍ، وتعطينا الإجابة - بنفس الوقت وبشكلٍ غير مباشرٍ - عن منزلة ومكانة الحسين عليه السلام في عالم الملائكة المقربين.

وعلى سبيل المثال، فقد ذكر العديد من المفسرين أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قد بَیَّنَ معاني قول الله سبحانه وتعالى: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ»(2) بقوله مخاطبا جمعا من المسلمين: «يا عباد الله، إن آدم عليه السلام لما رأى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبيَّن الأشباح، فقال: يا رب ما هذه الأنوار؟ فقال عز وجل: أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك، ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنتَ وعاءً لتلك الأشباح، فقال آدم: یا رب لو بَيَّنتها لي، فقال الله عز وجل: انظر يا آدم إلى ذروة العرش، فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الإنسان في المرآة الصافية فرأى

ص: 10


1- سورة البقرة: الآية 34
2- سورة البقرة: الآية 34

أشباحنا، فقال: ما هذه الأشباح یا رب؟

قال الله : يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبریَّاتي، هذا محمدصلی الله علیه و آله وسلم وأنا الحميد المحمود في فعلي، شققتُ له اسماً من اسمي، وهذا عليُّ وأنا العليُّ العظيم شققتُ له اسما من اسمي، وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض، فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي، وفاطم أوليائي عمّا يعيّرهم ويشينهم فشققتُ لها اسمآ من اسمي وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققتُ اسميهما من اسمي، هؤلاء خیار خلیقتي وکِرام بريَّتي، بهم آخذ و بهم أُعطي، وبهم أعاقب و بهم أثيب.

فَتَوَسَّل بهم إلي يا آدم إذا دهتم داهيةٌ، فاجعلهم إلى شفعاءك، فإني آليتُ على

نفسي قَسَما حقا أن لا أخيِّبَ بهم آملا ولا أردَّ بهم سائلا»(1).

وهذا يعني، باختصارٍ شديدٍ، أنه لما كان في صلب آدم عليه السلام من أنوار الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم المشتملة على أنوار أهل بيته الأطهار والمعصومين عليهم السلام منذ النشأة النورانية الأولى، وكانوا قد فُضِّلوا على الملائكة بالمنزلة الخصيصة التي أنزلهم الله فيها وحَباهم بها، فقد كان سجود الملائكة لآدم عليه السلام طاعةً، ولله سبحانه وتعالى عبوديّةً، وللأنوارِ من أهل البيت المحمدي، المودَعة في آدم عليه السلام، إكراماوتعظيما وتقديسا.

ومن خلال هذه الحقيقة الراسخة يمكننا الانطلاق في حديثنا الآن عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بعالم الرسل والأنبياء علیهم السلام مبتدئين هذا الحديث الشَيِّق بدعاء عظيمٍ يناسب هذا المقام الذي نحن فيه، وهو دعاءٌ هامُّ ورد عن الإمام الصادق جعفر ابن محمد عليه السلام وهو الدعاء المعروف بدعاء (زيارة وارث)،ويكفي أن نقول إنه من

ص: 11


1- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مكتبة الصدر . طهران، 1416ه-، (ج1 )، ص115

الأدعية العظيمة الواردة عن الأئمة الأطهار علیهم السلام الذين كانوا يوصون أتباعهم المخلصين بالمثابرة على حفظه وقراءته عند زيارة الإمام الحسين عليه السلام .

وبالطبع، فإنّنا لن نورد هذا الدّعاء العظيم من أجل أن نشرحه ونحلّله للقارئ، أبدا، فالهدف ليس كذلك، وإنما سنورده من أجل أن يقوم القارئ نفسه بدراسته و تحلیل معانيه واستيضاح مراميه، فاللقمة السهلة السائغة ليست دائما لذيذة المذاق، وإنما اللقمة المجبولة بالتعب والعرق والصبر هي حقا اللقمة التي تستحقّ بالفعل أن نقول عنها إنها لقمة الحياة.

ولذلك نطلب الآن من القارئ الكريم أن يرکّز ذهنه على كلّ عبارةٍ من العبارات التي سنذكرها الآن من دعاء (زيارة وارث) آملين أن يقارن ويدرس أوجه التشابه بين الأنبياء والرسل المذكورين وبين الإمام الحسين علیه السلام.

وإليكم الآن نصّ الزيارة - زيارة وارث . وما يجب على الزائر أن يقول، فَعَلى

الزائر أن يقف في حرم الحسين عليه السلام من حيث يلي الرأس ويقول بصوتٍ مسموعٍ:

«السَّلامُ عَلَيكَ يا وارِثَ آدَمَ صفُوةِ اللهِ السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ نوُحٍ نَبيِ اللهِ السَّلامُ علَيْكَ يا وارِثَ إبراهيمَ خليلِ اللهِ السَّلامُ علَيْكَ يا وارِثَ موسى كَليِم اللهِ السَّلامُ علَيكَ يا وارِثَ عيسى روُحِ الله السَّلامُ عَلَيْكَ يا وارِثَ محَمدٍ حبيبِ اللهِ السَّلامُ عَلَيكَ يا وارِثَ اَميرِ المُؤمِنينَ علیه السلام السَّلامُ عَلَيْكَ يَابنَ محَمّدٍ المُصطفى السَّلامُ عَلَيْكَ يَابن علي المرتضى السَّلامُ عَلَيْكَ يَابن فاطمة الزهراء السَّلامُ عَلَيْكَ يَابنَ خَديجَةَ الكُبرى السَّلام عَلَيْكَ يا ثارَ اللهِ وابنَ ثارِهِ والوِترَ المَوتوُرَ اَشهَدُ اَنَّكَ قَد اَقَمتَ الصَّلاةَ وَآتَيتَ الزَّكاة وَاَمَرتَ باُلمِعروف وَنَهَيتَ عَنِ المُنكرِ وَاَطعتَ اللهَ وَرَسولَهُ حتّى اَتيكَ اليَقينُ فَلَعنَ اللهُ اُمَةً قَتلَتكَ وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً ظَلَمَتكَ

ص: 12

وَلَعَنَ اللهُ اُمَةً سَمِعت بِذلك فَرَضِيَت به يا مَولاي يا ابا عَبدِ اللهِ اَشهَدُ اَنّك كُنتَ نوُرا في الأصلابِ الشّامِخَةِ وَالأرح-امِ المُطَهَرَةِ لم تُنَجِسكَ الجاهِليَّةُ باَنِجاسها وَلَم تلبسكَ مِن مُدلَهِمّاتِ ثيابِها وَاَش-هَدُ أنَكَ مِن دَعائِم الدّين وَاَركانِ المُؤمِنينَ وَاَشهَدُ اَنّكَ الإمام البَّرُ التَّقيُ الرَّض-يُ الزَّكيّ الهادِي المَهدِيُ وَاَشهَدُ اَنَّ الأَئمّة مِن وُلْدِكَ كَلِمةُ التَّقوى وَاَعلامُ الهُدى وَالعروةُ الوُثقى وَالحجَّةُ عَلى اَهل الدُنيا وَاُشهِدُ اللهَ وَملائكتهُ وَاَنبيائَهُ وَرُسلَهُ اَنّي بِكمُ مُؤمِنٌ وَبِايِابكم مُوقنٌ بشَرائِع ديني وخواتيِم عَمَلي وقَلبي لقَلبِكم سِلمٌ وَاَمري لِامْرِكمُ مُتَّبع صَلَوات الله عَلَيكم وَعَلى اَرواحكم وَعَلى اَجسادِكُم وعلَى اَجسامِكُم وَعلى شاهِدِكم وَعَلَى غائِبكم وَعلَى ظاهركم وعلى باطنِكم»(1)

وكما ذكرنا سابقا، فإنّنا نريد من القارئ الكريم أن يستخلص أوجه التشابه بين الرسل والأنبياء الواردة أسماؤهم في (الزيارة) وبين الإمام الحسين عليه السلام الملقب في تلك الزيارة باسم (وارث)، ولكن ما يمكننا أن نفيد القارئ الكريم به هنا هو ضرورة لفت انتباهه إلى أن أسماء الرسل الكرام عليهم السلام الواردة في نصّ الزيارة هم الرسل المعروفون بلقب (أولي العزم): وهم أعظم الرسل وأعلاهم شأنا بين بقيّة الرسل والأنبياء علیهم السلام .

ولكن، وفي محصّلة الأمر، فإنّ ورود أسماء أولي العزم من الرسل في (زيارة وارث) لا يعني أبدا أن الإمام الحسين عليه السلام قد ورث خصال وصفات أولئك الرسل فحسب، بل إن الدلائل والوقائع تشير إلى أن الإمام الحسين عليه السلام هو الميناء الآمن

ص: 13


1- الشيخ عباس القمي، مفاتيح الجنان والباقيات الصالحات، نشر: أنصاريان .قم،ط1419/1 ص615

الذي يستقبل، بفضل اتّساعهِ وعمقه، كل المراكب والسفن المحمّلة بأرقى وأسمى ما تجود به السّماء من النفائس والهبات.

نعم، منذ اللحظة الأولى التي قَتلَ فيها قابيل أخاه التقيَّ هابيلَ، انشقَّ الوجود البشري إلى قطبين متعارضَين متصارعين، ولا سبيل إلى وقف ذلك التعارض والصراع إلا إذا وقفت عجلةُ الحياةِ ذاتها عن الدوران.

لقد قتل قابيل أخاه هابيل بالأمس، وفي كل يومٍ في زمننا الحاضر وفي المستقبل أيضا، سيحاول قابيل أن يغتال الحق المتجسّد في أخيه هابيل.

فالجريمة السوداء التي اقترفها قابيل لم يكن الهدف منها تصفية الأخ جسديا، بل كان الهدف منها بالدرجة الأولى تصفية هابيل فكريّا واغتياله روحيّا ومعنويّا، فالغاية الأكثر أهميّةً، إذن، هي إخمادُ صوت الحق واقتلاع بذور الخير من الوجود الهابيلي، وذلك لأن هابيل كان يتمتع بمزايا معيّنة وخصائص محدّدة تُخَوِّلُه أن يكون الوريث الشرعي لآدم عليه السلام وخليفته من بعده، في حين أن قابيل كان مفتقدا لتلك الخصائص والمؤهلات.

ولذلك، عندما قرب كل منهما قربانه الخاصّ إلى الله، ماذا كانت النتيجة وفق المنظور القرآني؟ كانت النتيجة أن تقبل الله من هابیل عليه السلام ولم يتقبل من أخيه المتسلط قابيل.

فلماذا تم قبول قربان هابيل ولم يتم قبول قربان قابیل؟!

لأن هابيل، وبكل بساطة، كان مُثقّفا بثقافة السماء، كان أقرب إلى الله، وأكثر معرفة به وعبادة له، وكان متواضعا ولم يكن جبّارا عتيّان، كان منطقه منطق الكلمة الطيبة، وأسلوبه أسلوب التعامل بالحُسني والدفعِ بالتي هي أحسن.

ص: 14

وبالمقابل، ما هي الثقافة التي كان يمتلكها قابيل ويتعامل، بموجب خطوطها

العريضة، مع من لا يتّفق معه أو مع من تتضارب معه مصلحته ومراميه الخاصة؟

إنها ثقافة (الأنا) المتضخّمة والمتربّعة على عرش الأنانية المطلقة، إن هذه الثقافة القابلية تجعل من ضمير المُلكيّة (لي) سَیِّد الضمائر وتاج الحروف والكلمات.

فحين لم يتقبل الله قربان قابیل، سارع قابيل إلى إعلان هويّته الثقافية السلبيّة وقام بمهاجمة هابيل عليه السلام قائلا له بلهجة الطُّغاة العُتاة: (لاَقتلنَّکَ )!

فما كان من هابيل عليه السلام إلا أن سارع هو بِدَوره أيضا إلى إبراز ثقافته الروحية، فأجابه بكل هدوءٍ واطمئنان:« إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ »(1) وأمام هذه الكلمات الطيبة من هابيل، ماذا يمكن لقابيل أن يفعل؟!

إن ثقافة العنف وشهوة الخلافة اللاشرعية وحب التملّك ونزعة التسلط هي التي دفعت بقابيل إلى رفض الحوار ومصادرة الحق واغتيال الفضيلة،وبإمكاننا نحن أن نتبيّن المستوى الروحي والأخلاقي في قول هابيل عليه السلام لقابيل: «لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ »(2) ، إيمانا منه بحرمة القتل بغير الحق، وإيمانا منه أيضا بأن الأخوة الإنسانية تفرض على كل الأطراف احترام مبادئ الحوار وتقدير إنسانية الإنسان قبل كل الاعتبارات الأخرى، فأول هويةٍ يحملها المرءُ منذ لحظة ولادته الأولى، وعلى مدى امتداد رحلة وجوده، هي الهوية الإنسانية، فهو إنسانٌ بالدرجة الأولى، أما بقية الهويات كالقومية والدين والمذهب والانتماءات الفكرية الأخرى، فهي هويات تأتي لاحقا بعد الهوية الأولى

ص: 15


1- سورة المائدة: الآية 27
2- سورة المائدة : الآية 28

من حیث الترتیب و الاهمیة

وفي المحصلة، ماذا كانت النتيجة، وما هو القرار الذي اتخذه قابیل بحق أخيه

هابیل علیه السلام ؟

فالنتيجة النهائية الصادرة عن القرار الذي اتخذه قابيل وتمسك به نجدها في قوله تعالى: «فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ»(1)

وهكذا نرى أن الحياة، بكل ما تفرز من متناقضات، تحتوي في كل زمانٍ ومكانٍ على صُوَرٍ حيةٍ من الصراع الأبدي الدائر بين هابيل وقابيل، الخيروالشر، الحق والباطل، بصورٍ مختلفةٍ ومظاهر شتّی.

وبالتالي، كل من يُدرِجُ نفسَه تحت راية الحق ويدافع عن قِيَم ومبادئ ذلك الحق،يكونُ من ورثة هابيل عليه السلام بمقدار اقترابه من قِيَمِ وتعاليم ومبادئ هابیل علیه السلام .

وكل من يجنّد نفسه لخدمة جبهة الباطل وإعلاء راية الشر والظلم، فهو بلا شك من أتباع وأولياء وورثة قابيل منهجا وتطبيقا، سلوكاونتيجةً، ظاهرا وباطنا.

وكل ما سبق من كلام عن سيدنا هابیل علیه السلام يقودنا إلى السؤال التالي:

لماذا يقول زائر الحسين عليه السلام مخاطبا إياه: (السلام عليك يا وارثَ آدم صفوةِ الله)؟!

ويمكننا الإجابة على ذلك بشكلٍ مباشرٍ ومختصرٍ دون اللجوء إلى أسلوب التكلف والتعقيد، فالإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كان الصورة الأكمل لهابیل علیه السلام في مبادئه ومواقفه ضد جحافل الغي والضلال، وضد دولة الجبروت والطغيان، وهابيل هو . بدورهِ أيضا . الوريث الشرعي لآدم عليه السلام ولرسالته على الأرض،

ص: 16


1- سورة المائدة: الآية 30

وبالتالي، فإن الإمام الحسين عليه السلام هو أيضا (وارث آدم عليه السلام صفوة الله).

وإذا كنّا قد عرفنا، بشكلٍ مختصرٍ وسريعٍ، معنى القول بأن الإمام الحسين علیه السلام هو وارث آدم عليه السلام ، فما معنى قول الزائر أيضا: (السلام عليك يا وارث نوحٍ نبي

الله )؟!

معنی ذلك، في أبسط مستويات المعاني المقصودة، أن هذا النبي صلی الله علیه و آله وسلم قد وقف وحيدا، مع قلّة قليلةٍ من الذين آمنوا معه، في مواجهة أمواج عالية ورياح عاتية من الشرّ والضلال والباطل والطغيان، فقد ترك ذلك النبي الكريم، نوح عليه السلام ، كل شيءٍ وراءه ولم يحزن على شيءٍ ولم يستسلم لشيءٍ أبدا.

لقد كانت رحلته الطويلة القاسية في تلك السفينة الآمنة خالصةً لوجه الله، فالهدف كان دائما وأبدا هو الله، والتضحية منه عليه السلام بكل شيءٍ كانت في كل وجوهها متّجهةً أيضا لإعلاء كلمة الله ورفع رايته في البريّة من جديد. .

والإمام الحسين عليه السلام، بِدَوره أيضا . استطاع أن يواجه الطوفان العظيم مع ثلَّة صغيرةٍ من المؤمنين الذين تخلّوا عن كل شيءٍ من سقط المتاع وتركوه وراءهم من أجل هدفٍ واحدٍ جعلوه نصب أعينهم وقبلة أفئدتهم،إنه الرحيل إلى الله بقلبٍ سليم. فالهدف من الحركة الحسينية عموما هو إعطاء الناس دروسا لا تُنسى في الإيمان بالله وحده، والصبر على الابتلاءات والشدائد، ومواجهة الطوفان بشتى أسلحة الإيمان، ولذلك، فإن الحسين عليه السلام هو الشاهد في كربلاء قبل أن يكون الشهيد، فهو الشاهد على مأساة الإسلام الذي باتَ ألعوبةٌ وُدميَةٌ بيد الأمويين ومن كان يساندهم ويمهد الطريق لهم ويذلل لهم العقبات والصعبات، وهو الشاهد أيضا على الكثير من الناس الذين كانوا يدعون أنهم من أتباع الحق وأنهم من أعداء الباطل والضلال، فكان

ص: 17

لابد من إقامة الحجة عليهم بخروجه مع أهله وبنيه في سبيل الله ورسالته لِيَشهَدَ على الناس ويُتمّ حجته عليهم من جهةٍ، وليُشهِدَهُم على حقيقة أنفسهم وطبيعة مواقفهم في مواجهة الطوفان الأموي الأعمى والمدمِّر من جهةٍ أخرى.

أما عندما يقول الزائر في زيارة (وارث): (السلام عليك يا وارث إبراهيم خليل

الله) فما هو المقصود من ذلك؟!

المقصود من ذلك أن نبي الله إبراهيم عليه السلام كان قدوة للكثير من الأنبياء في علاقته مع ربَّه، فبالرغم من إقراره بعبوديته أمام ربَّه المتعالي العظيم، وبالرغم من إقراره لله بالربوبية المطلقة وأنه - عز وجل - غاية الغايات ومعنى المعاني، إلا أنه كان في علاقته معه مثالا للقُربِ وللخلَّةِ الصادقة التي جعلت منه مرآةً صقيلةً صافيةً قادرةً على عكس الكثير من القِيمَ والصفات الكمالية التي أخبر الله خليلَه الوفي عنها.

فالمرء الذي يُسلِمُ جسدهُ للسجود والركوع، ويجعل من خَدَّيه في جوف الليل طريقا لِما تفیضُ به عيناه من دموع، ويحاسب نفسه ويملأ قلبه بالتقوى والخشوع، ويستشعر الله في كل حركةٍ من حركاته فيعيش حالة (الخلّة) والخضوع، فلا بدّ أن يكون امرءا بعيدا عن النار في الدنيا والآخرة، وهذا ما كان عليه حال إبراهيم خليل الله .

فالله سبحانه وتعالى يخاطب في حديثه القدس نبيَّه موسی بن عمران عليه السلام قائلا:

«یا بن عمران، هب لي من عينك الدموع ومن قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ثم ادعني في ظلم الليل تجدني قريبا مجيبا»(1)، ومن المعروف تماما أن نبي الله موسی بن عمران عليه السلام كان ماضيا على نهج إبراهيم الخليل عليه السلام بكل دقةٍ وأمانةٍ.

فلقب (الخليل) الذي حظي به سيدنا إبراهيم عليه السلام يحمل أكثر من معنى،

ص: 18


1- العلامة میرزا جواد الملكي التبريزي، السير إلى الله، مصدر سابق، ص192

وبإمكاننا معرفة تلك المعاني المتعددة من خلال العودة إلى أي معجم ٍمن معاجم اللغة العربية المُعتَبرة.

فمن المعاني التي تحملها كلمة (الخليل) معنی: الصديق الخالص، ومن معانيها أيضا معنی: الفقير والمحتاج، وهذا يعني أن ارتباط صفة (الخليل) بسيدنا إبراهيم عليه السلام كان ارتباطا وثيقا دالا على عمق العلاقة الروحيّة والنوريّة بين المرأة الإبراهيميّة والذات الإلهيّة.

وبالتالي لا قيمةَ لتلك المرأة الصافية إن لم ينطبع فيها شيء من صفات تلك الذات التي هي منبع كل الصفات الكمالية التي ستنعكس في تلك المرأة على قدر نقائها وصفائها، ومن هنا ندرك أن سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام كان مستغنيا في وجوده عن كل شيءٍ في الوقت الذي كان فيه محتاجا ومفتقرا إلى المَددِ المباشر من ربه وحده لا من أحدٍ آخر سواه.

والحسين عليه السلام ... ماذا عن الحسين ؟!

ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام کإبراهيم خليل الله علیه السلام غنيا عن كل شيءٍ، ومفتقرا في حركته ونهضته، فقط إلى من ثار من أجل إحياء كلمته وإعلاء رايته ؟!

ألم يخيِّر الإمام الحسين عليه السلام أصحابه المقرَّبين الأخيار بين أن يبقوا معه وبين أن يتّخذوا من الليل جَملا ویترکوه وحيدا في ساحة المعركة قبل بدئها مكتفيا بذلك على ثقته بالله؟

ألم يقف الإمام الحسين عليه السلام صبيحة المعركة رامقا جيشَ العدوِّ القادم لاستئصال جذوره النبوية الشريفة واجتثاث سلالته العلوية الطاهرة بنظرةٍ حزينةٍ، وقد توَّجَ تلك النظرة ببعض الدموع الدافئة التي انسابت بِرقّةٍ على خدّيهِ، وعندما سُئِل عن

ص: 19

ذلك، أجاب قائلا لمن سأله من أصحابه، وموضحا له أن سبب بكائه الحقيقي هو شفقته على جيش أعدائه، ويقينُه من أن كل أفراد ذلك الجيش القادم لقتاله سيدخلون النار بسببه؟!

أليست هذه الصورة من حياة الحسين عليه السلام نسخة أخرى عن شفقة إبراهيم

ورأفته حتى بأعدائه؟!

أليست هذه الرحمة من الإمام الحسين عليه السلام هي المرأة الصادقة لرحمة الله التي ابتدأ الله سبحانه وتعالى كل سورةٍ من سور كتابه الكريم بصفتين أساسيتين من أسمائهِ وصفاته وهما (الرحمن) و(الرحيم) المشتَقَّتين من تلك الرحمة الإلهية؟!

ألم يكن الإمام الحسين عليه السلام في كل موقفٍ من مواقفه خليلا لله، مخلصا له، قريبا منه، مدافعا عنه، نافضا من الحياة يديه، مستغنيا عن كل شيءٍ لديه، محتاجا فقط لله ومفتقرا في وجودهِ وحركته إليه؟!

نعم، لقد كان الإمام الحسين عليه السلام إبراهيميا في حركته الإيمانية وفي قربه من الله

وفي خلَّتهِ إليه وحده دون غيره.

ويقرأ الزائر أيضا في (زيارة وارث): (السلام عليك يا وارث عیسی روح الله ... السلام عليك يا وارث موسی کلیم الله) ويقرأ في نفس الزيارة أيضا: (السلام عليك يا وارث محمد حبيب الله... السلام عليك يا وارث عليًّ ولي الله)، فما معنى ذلك؟!معنى ذلك أن في الحسين عليه السلام أسرارا إلهية لا يعلمها إلا الله، وأن فيه أنوارا لا يستطيع أن يكشف على حقيقتها أحدٌ إلا الله، فالحسين عليه السلام خلاصةٌ الرسل والأنبياء، والحسين عليه السلام ابن الرسالة وابن الإمامة، وهو أب الأئمة والأوصياء، ومن ذريته من يخرج ليملأ الأرض قسطا وعدلا، وتحارب معه ملائكة السماء

ص: 20

فما من أحد يشك في أن الحسين عليه السلام هو ابن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم من ابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، وما من أحدٍ أيضا يشك في أنه عليه السلام ابن الأنوار العُلوية العَلَوية من أمير المؤمنين الإمام علي المرتضى إمام الأمة وسيد الأئمة علیه السلام.

ومما تقدم يمكننا أن نقول إن للحديث النبوي الشريف الذي ذكرناه سابقا الحسین مصباح الهدى وسفينة النجاة» معان كثيرة تتدرج في عمقها وفي اتساع أفُقها.

فالإمام الحسين عليه السلام مصباح الهدی، نعم، إنه مصباح الهدى، ولكن من أين يستمد ذلك المصباح الزيت وماه هي طبيعة ذلك الزيت الذي يجعل ذلك المصباح يتوهج بنور الإيمان والعرفان ويجعله منارةَ الهداية والأمان لكل التائهين والمتعبين؟!

إن زيت المصباح الحسيني هو الميراث الروحي والمعرفي الذي ورثه الإمام الحسين عليه السلام عن كل الرسل والأنبياء، وعن كل الأئمة والأوصياء، فهو عليه السلام الوعاء الطاهر الشفاف الذي أراد الله سبحانه وتعالى له أن يرث الزيتَ المقدس وأن يختزنه في ذاته من أجل أن يعكسه نورا وهدايةً لكل من أراد أن يلقي الشمع وهو شهيد.

فقد خلقنا الله سبحانه وتعالى على هذه الأرض مثلما أوجد عليها الإمام الحسين عليه السلام أيضا، وإن الذي أودع في الإمام الحسين عليه السلام ذلك الميراث الروحي العظيم وتلك الصفات الخيرة الكثيرة أودعَ فينا بعض الشيء من تلك الصفات الحميدة على حسب واستعداد أرواحنا كَبَشرٍ عادِّيين، ثم نصب لنا الإمام الحسين عليه السلام مصباحأ ومنارة لنقتدي به وبسيرته ونهجه في كسب المزيد من تلك الصفات والخصال، فالاقتداء بالحسين عليه السلام هو اقتداءٌ بالإمام علي علیه السلام، وهو اقتداء بالرسول المصطفى محمدصلی الله علیه و آله وسلم ، وهو اقتداءٌ بكل رسولٍ ونبي، وبالتالي، فإن الاقتداء بالإمام الحسين عليه السلام هو إقتداءٌ بالكلمات السماوية وبالأنوار الإلهية.

ص: 21

لقد صدق المفكر والباحث (أحمد عباس صالح) عندما تحدث عن نهج علي علیه السلام في الحياة وعن نهج ابنه الحسين عليه السلام بقوله في كتابه (اليمين واليسار في الإسلام): (ومن الغريب أنه ما من فكرةٍ عظيمةٍ تبقى في الأرض وتؤتي ثمارها إلا بالتضحية والفداء، بل بالعذاب أقسى ما يكون العذاب وهذا النوع من الرجال العظماء هو الذي قُدِّر عليه أن يخوض التجربة حتى النهاية وأن يُمتَحنَ بكل أنواع العذابات دون أن يتردد أو يتراجع، وكأن دوره الوحيد أن يكون مثالا في التاريخ البشري كأنه علامةٌ من علامات الطريق)(1)

وبما أن الشيء بالشيء يُذكَرَ، سأتوقف الآن مليا مع جملةٍ قصيرةٍ قالها أحد أعظم الأدباء والمفكرين العرب في العصر الحديث، إنها جملة قصيرة في كلماتها لكنها بليغةٌ في معانيها وعميقةٌ في مغازيها.

ولكن قبل أن أذكر هذه العبارة القصيرة والبليغة، لابد من الوقوف قليلا مع ذلك الأديب والمفكر حتى نقوم بعملية التعرف عليه عن قرب، خاصةً وأن ذلك المفكر الذي بلغت شهرته الآفاق كان له موقف واضحٌ ومميَّز من الإسلام عموما، ومن فكر أهل البيت علیهم السلام المتمثل بالإمام علي عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام خصوصا.

إن ذلك الأديب والمفكر، بل والفيلسوف في نظر المفكرين الغربيين، هو الأديب اللبناني المسيحي (جبران خليل جبران) (1883 - 1931)، إنه أديبٌ، شاعر، مفکر، مجدِّد، وُلد في قرية (بشري )اللبنانية وتوفي في نيويورك، من أركان النهضة الأدبية في المهجر، رئيس الرابطة القلمية في نيويورك، برَع في فن الرسم أيضا، له العديد من المؤلفات الأدبية باللغتين العربية والإنكليزية، ويمكننا أن نذكر من مؤلفاته: (الأرواح

ص: 22


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص112

المتمرّدة)، (الأجنحة المتكسرة)، (یسوع ابن الإنسان)، (المواكب)، (آلهة الأرض)، ومن أشهر كتبه كتاب( النبي ) باللغة الإنكليزية، وقد أصدر الكونغرس الأميركي في عام (1991) قرارا ينصّ على إطلاق اسم جبران خليل جبران على حديقة عامة في واشنطن(1).

ويكفي أن أذكر الآن شيئا واحدا عن عظمة هذا الأديب العالمي الكبير حتى ندرك مدى تأثيره في نفوس الناس في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن ذكرنا لهذا الشيء الوحيد عن عظمة (جبران) لا يعني أنّنا نعطيه کامل حقِّه من الحديث عن طبيعة فكره وعمق تأثيره في نفوس قُرّائه على مختلف مشاربهم وأطيافهم، ولذلك فإننا سنعاود الكلام عن فلسفة هذا الأديب المسيحي في كل لحظةٍ سانحةٍ وفي كل مقامٍ مناسبٍ يسمح لنا بالكلام عنه وعن منابع فلسفته وغاياتها.

وعلى كل حالٍ، فالشيء المهم الذي نودُّ ذكره الآن هو أن كتاب (النبي) الذي كتبه (جبران) باللغة الإنكليزية قد تمت ترجمته إلى كل اللغات الحية في العالم، وليس هذا فحسب، بل إن هناك بعض الكنائس في الولايات المتحدة الأمريكية يقوم رجال الدين فيها بقراءة بعض المقاطع من كتاب (النبي) لجبران خلال إقامة الصلوات وفي بعض الأعياد، ولا يتوقف هذا الأمر على بعض الكنائس المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه يتجاوز تلك الكنائس المسيحية في الغرب ليصل إلى المعابد البوذية في الشرق.

فهناك في الشرق الأقصى العديد من المعابد البوذية التي يرتل رهبانها وزهَّادُها الكثير من الأقوال الواردة في كتاب (النبي)، بالإضافة إلى العديد من المقاطع

ص: 23


1- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، انتشارات ذوي القربى . إيران،1423ه-، ص197

والأقوال الواردة في كتبهم المقدسة الخاصة بهم.

وإن دَلَّ هذا على شيءٍ، فعلى ماذا يدلّ؟!

إن هذا يدل على أنه كان لجبران خليل جبران رؤية معرفية صائبة في فهم جوهر الحياة، ويدل ذلك أيضا على أنه كان يمتلك بصيرةٌ حادّةً في سَبر أغوار معاني الوجود ومفرداته ، فأدب (جبران) - كما يصفه البعض - هو أدب النبوءة.

ولن أتوقف الآن مع الجانب الروحي والديني في فكر (جبران) وفلسفته، ولن أتناول في هذا الفصل التأثيرات الإسلامية الشيعية في أدبه وفكره، فإن لذلك الحديث مكانه الخاص في ما تبقى من فصولٍ من هذا الكتاب، ولكن علينا أن نعلم جميعا أن للفكر الإسلامي، وتحديدا الفكر العرفاني الشيعي، تأثيرا بالغا على نتاجاته الأدبية، بل إن (جبران) نفسه قد أقر في العديد من كتاباته، واعترف في الكثير من أحاديثه لأصدقائه المقرَّبين منه أنه لم يتأثر بشخصية إسلامية قَطَّ قَدرَ تأثره بشخصية الإمام علي عليه السلام وبأفكاره وأفكارالبقية من آل بيت النبي المصطفى عليهم السلام

وليس هذا الكلام مجرد كلامٍ لا يستند على أدلةٍ وبراهين، بل هو كلام صادق وثابت، وما على الذي يريد أن يقف على حقائق هذه الأمور إلا أن يعود ويقرأ بإمعانٍ کتابنا السابق (الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر) ليقف على كل ما قاله (جبران) عن شخصية الإمام علي عليه السلام وعن تأثره العميق بأفكاره ونظراته في الحياة.

ولذلك، ما يهمنا الآن بالتحديد هو الرؤية الجبرانية لشخصية الإمام الحسين عليه السلام التي تُعتَبرُ الامتداد الفكري والرسالي لشخصية أبيه المرتضی علیه السلام ولشخصية جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم

ولا ريب في أن (جبران) الذي قرأ التاريخ الإسلامي ودرس أحداثه المفصلية

ص: 24

الهامة بكل روية، قد درس أيضا حادثة كربلاء من حيث المقدمات والوقائع والنتائج، ولا ريب أيضا في أن (جبران) قد درس شخصية الإمام الحسين عليه السلام بعمقٍ وحللها برؤيته الفلسفیة والمنطقية مثلما درس وحلل شخصية أبيه الإمام علي عليه السلام .

فماذا كانت نتيجة دراسة وتحليل( جبران) لشخصية الإمام الحسين عليه السلام التي يعتبرها الكثير من المسلمين وعاءً لخلاصة الرسل والأنبياء، والأئمة السابقين والأوصياء؟!

إن الجواب على هذا السؤال من قبل (جبران) يؤكد صدقَ الفكرة التي تقول إن الإمام الحسين عليه السلام هو (وارث الأنبياء)، فجبران المسيحي الذي درس جميع الأديان في العالم إلى جانب دراسته للديانة الإسلامية، يقول بكل قوةٍ ويقين عن الإمام الحسین علیه السلام : «الحسین مصباح مُنیرٌ لجميع الأديان»(1).

إنها عبارة - بلا شك . قوية في تعبيرها وعظيمةٌ في دلالاتها ومعانيها، وبسبب هذه القوة والعظمة التي تختزنهما هذه العبارة الجبرانية، يمكننا أن نتساءل قائلين: لماذا قال .

(جبران): (الحسین مصباح منير لجميع الأديان) ولم يقل: (الحسین مصباح منیر

لجميع أهل الإسلام)؟!

ولماذا أكد (جبران) على حقيقة أن نور الحسين عليه السلام نورٌ لجميع الأمم والأديان ولم يقبل فكرة أن نور الحسين علیه السلام نورٌ مقتصرٌ على هداية العرب والمسلمين

فقط؟! لقد أراد (جبران) أن يقول للعالم بأكمله إن كل إنسان في هذا الوجود، أيا كان دينه ومذهبه، سيعشق الإمام الحسين عليه السلام فور اطلاعه على مزايا شخصيته وفور معرفته بالأبعاد الروحية والإنسانية لثورته، فكل إنسانٍ يقرأتاريخ الحسين عليه السلام

ص: 25


1- راجع مجلة (رسالة الثقلين)، العدد /55/، مصدر سابق ص109

وأهداف الحسين عليه السلام سيري في الإمام الحسين عليه السلام صورةٌ مكثّفةَ الأبعاد عن صورة نبيَّه الذي يتبعه أيا كان ذلك النبي.

وبالتالي، فإن الحسين عليه السلام هو خلاصة الأنبياء والرسل علیه السلام ، وهو المنارة الحية في ضمائر كل أصحاب البصائر عند جميع الأمم والأديان في العالم.

فجبران خليل جبران الذي لم يقبل في يوم ٍمن الأيام أن يعتبر الإمام عليا عليه السلام مجرد إمام للمسلمين فقط، والذي لم يقبل أيضا أن ينزل الإمام عليا عليه السلام . في فكره وفي عقيدته الفلسفية الخاصة . إلا في منزلة الرسل والأنبياء، نراه يكرر نفس الاعتقاد مع الإمام الحسين عليه السلام أيضا وكأنه يريد أن يقول إن أنوار أهل البيت عليهم السلام بالأساس نورٌ واحدٌ، ؤُلِدَ من صدر الأزل وسیبقی نورا وهدايةٌ لجميع الأمم إلى منتهی الأبد.

ولن أخرج عن جوهر بحثنا المتعلق بمسألة ميراث الأنبياء عليهم السلام والحسين عليه السلام الوريث لها، ولكن سأمكث قليلا مع (جبران) ورؤيته لشخصية الإمام علي عليه السلام وذلك لأن (جبران) سوف يأخذ لاحقا حيزا لا بأس به في الفصول اللاحقة التي تتحدث عن فاجعة كربلاء في الأدب العالمي عموما، وعن عظمة استشهاد الحسين عليه السلام في ضمير الأديان.

فالحديث عن (جبران) وعلاقته الروحية والعرفانية بأهل البيت عليهم السلام لا ينتهي أبدا، ونحن لا ندعي لك ادعاءً من عندنا، بل إن كل الدراسين والمحللين لأدب وفكر (جبران) يقولون نفس الشيء أيضا، وإذا كان الدارسون لأدبه وفكره في الغرب قد اختصروا الكلام كثيرا حول هذه المسألة، ربما بدافع التعصب أو الجهل، فإن الدارسين لأدبه في الشرق لم يغفلوا عن هذه المسألة أبدا، بل إنهم أفردوا لها أبوابا

ص: 26

وفصولا خاصةً بها واستفاضوا في شرحها وتحليلها.

وعلى كل حالٍ، دعونا نذكر ما قاله الأديب والمفكر المسيحي الكبير (جورج جرداق) عن علاقة (جبران) بالإمام علي عليه السلام وكيف كان (جبران) يبوح بهذه العلاقة الروحية العميقة التي تربطه بالإمام علي عليه السلام لكل أصدقائه المقرَّبين من رجال الفكر والأدب.

يقول الأستاذ (جرداق): (وطالما كان جبران يردد اسم علي بن أبي طالب في مجالسه الخاصة والعامة وحين يخلو إلى نفسه، وطالما كان يعظمه وينعتهُ بما يليق به من حِسانِ النعوت، يُنبيكَ عن ذلك أقرب الناس إليه، وأعني به (ميخائيل نعيمة) الذي يقول في رسالة منه إلى مؤلف هذا الكتاب، في جملة ما يقول: (وأذكر أن جبران كان يجلُّ الإمام كثيرا ويكاد يضعهُ في مرتبةٍ واحدةٍ مع النبي)(1).

ولذلك نقول إنه إذا كان (جبران) يعتبر الإمام عليا عليه السلام في مرتبةٍ تواكب مرتبة خاتم الرسل والتبيين عليهم السلام، فليس من الغريب - كما سنرى لاحقا. أن يعتبر دم الإمام الحسين عليه السلام المسفوح في كربلاء أفضل وأكرم وأنبل من دماء ومصائب جميع الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى على مَرِّ العصور والدهور!!

وبالعودة إلى معاني زیارة (وارث) من جديد، وبالوقوف على عبارة (السلام

عليك يا وارث عیسی روح الله)، ماذا يمكننا أن نقول عن ذلك؟!

يمكننا أن نقول، وقبل كل شيءٍ، إن الكثير من الباحثين والمفكرين الذين درسوا وحلَّلوا سيرة الإمام الحسين عليه السلام رأوا أن هناك تشابها كبيرا جدا بينه وبين يسوع عيسى المسيح عليه السلام.

ص: 27


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق (ج 4)، ص227

ورأي ، بنفس الوقت، قسم آخر من أولئك الباحثين أن الشبه الأكبر لم يكن بين الحسين عليه السلام والمسيح عليه السلام فحسب، وإنما كان أيضا بين الإمام علي عليه السلام والسيد المسيح عليه السلام.

وأنا شخصيا لا أرى أية غرابة في هذا الموضوع على الإطلاق، فالإمام الحسين علیه السلام نسخةٌ مطابقة الأوصاف والخصال عن أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام، وبالتالي كلاهما يحملان في سيرة حياتهما وفي شخصيتيهما الكثير من نقاط التشابه في المبادئ والمواقف والنتائج.

ويكفي أن أذكر على سبيل المثال لا الحصر، أن المفكر المسيحي (نصري سلهب) قد أشار في أكثر من موضعٍ في كتابه (في خُطي علي) إلى التشابه الكبير بين شخصية الإمام علي عليه السلام وشخصية عيسى المسيح عليه السلام، وقد أكد في أكثر من موضع أيضا على أن تسامح الإمام علي عليه السلام مع قاتلیه ومع أعدائه وخصومه يشبه إلى حدِّ كبيرٍ تسامح السيد المسيح عليه السلام مع أولئك الذين ظلموه وعذبوه وأذاقوه مرارة الألم ولوعة الحرمان، وقد عبّر الأستاذ (سلهب) عن ذلك بقوله عن علي عليه السلام : (کان سَمحا غفورا، ما انطوى قلبه على ضغنٍ وحقدٍ... ولهذا السبب غفر لأعدائه، ووقف منهم مواقف تذكرنا بأمثال الإنجيل ومواعظ المسيح)(1).

ولا يختلف الحال بين علي عليه السلام والمسيح عليه السلام عن الحال بين الحسين عليه السلام والمسيح عليه السلام أيضا، فأوجه الشبه بين عيسى والحسين علیهما السلام تبين أن هناك تقاربا كبيرا بين حركتي الفداء والاستشهاد اللتين أقدم عليهما كلاهما مع الأخذ بعين الاعتبار الفوارق السطحية البسيطة في كيفية حدوثهما من حيث المظهر، لا من حيث الأهداف

ص: 28


1- نصري سلهب، في خُطى علي، مصدر سابق، ص320

والجوهر.

فأول وجهٍ من وجوه الشبه بين عيسى والحسين عليه السلام يتجلى في مولدهما وسيرة حياة كل منهما، وقد قيل: (لم يُولد مولود لستّة أشهر وعاش إلا الحسين وعیسی ابن مریم)(1)، وربما المقصود بذلك هو أنهما علیهما السلام فقط من بين كل الأنبياء والأئمة قد وُلدِوا لستة أشهر وسَلِما وعاشا بعد ولادتهما، وبالتالي، فالحديث قد يؤخذ به على وجه التخصيص والتقييد، لا على وجه الإطلاق والتعميم.

وبالطبع، فإن الأمر لا يتوقف عند التشابه بين الولادتين، بل إنه يتعداه إلى ما بعد ذلك بكثير، فلو أننا رجعنا إلى نقاط التشابه الأخرى، لَوَجدنا منها الكثير جدا، ويكفي أن نذكر هنا بعض تلك النقاط المتشابهة بينهما عليهما السلام حتى يكون دليلا على عمق واتساع مساحة التشابه بين كل منهما علیهما السلام .

فمن ناحية الصلابة والصمود والصبر على البلاء والشدائد، نرى أن السيد المسيح عيسى عليه السلام لاقى الكثير من الآلام والتعذيب، وعانى مرارة الظلم والاضطهاد والمهانة، وطُعن وشُتِم وشُتِمت أمّه العذراء مريم عليها اسلام وجرَّده الطغاة من ثيابه ووضعوا على جبينه النقي إكليلا من الشوك بدلا من إكليل الغار إمعانا منهم في تحطيمه وإذلاله، وحُوكِم وعُذِّبَ عذابا شديدا جزاء مبادئه وتعاليمه السماوية وقِيَمه الرسالية النبيلة.

والإمام الحسين عليه السلام بِدَوره أيضا، خرج مهاجرا في طلب الحق وإحياء الكلمة، فَشُرِّدَ و وضُیِّقَ عليه، وأذاقوه لظى العيش وهو ابن صاحب الحوض، وقتلوا البعض من عياله ظمأ وهم أحفاد صاحب نهر الكوثر، ولاقي في نهضته الرسالية الكثير من البأساء

ص: 29


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص72.

والضراء، وقُتِلَ هو وسُبِیَت عيالُه، وجرَّدوه هو أيضا من ثيابه بعد استشهاده، وسُلِب الخاتم من إصبعه بعد قطعها، وداسوا بالخيل على جسده الشريف، وأخذوا أهله وعياله أسرى تحت التعذيب وضرب السياط من كربلاء إلى الشام.

فالسيد المسيح عليه السلام يقول في نهاية مطافه وفي اللحظات الأخيرة: (أنا عطشان)(1)، فلم يُعطِه جلادوهُ أيةَ قطرةٍ، بل أعطوه إسفنجةً مبتلَّةٌ بالخَلِّ بدل الماء انتقاما منه.

والإمام الحسين عليه السلام أيضا طلب شربة ماء وهو ملقى على الرمال، مطعونٌ في جنبه ونحره، و مجروحٌ في حلقه ورأسه وجبهته، وكان دمه يتدفق من جراحه المتعبة بكل غزارةٍ مما يُنبئ باقتراب رحيله، ومع ذلك منعوا عنه شربة الماء وقال له رجلٌ من أعدائه: (والله لا تذوقه حتى تردَ الحامية فتشرب من حميمها)(2).

وإضافةً إلى ذلك، فإن الإمام الحسين نفسه عليه السلام كان يشبه حال عطش ابنه عبد الله الرضيع عليه السلام في كربلاء بحالة ناقة نبي الله (صالح) عليه السلام ومَنعِها من الماء من قِبَلِ أهل ثمود الذين تمادوا في غيهم وضلالهم إلى أقصى الحدود(3)

أما من حيث المبادئ والأهداف، فلا يمكننا أن نتجاوز تلك المقارنة الذكية التي قام بها المفكر والأديب المسيحي (أنطون بارا) بين مبادئ وأهداف المسيح عليه السلام وما يقابلها عند الإمام الحسين علیه السلام .

وينقل لنا الأستاذ (بارا) مقولة للسيد المسيح عليه السلام جاءت في أكثر من إنجيلٍ من

ص: 30


1- راجع إنجيل يوحنا ج19 ص29. 30
2- ابن نما الحلي، مثير الأحزان، دار العلوم. بيروت، ط 2004/1ص112
3- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة، مصدر سابق ص136

الأناجيل الأربعة المعترف بها عند المسيحيين الآن، ويقول السيد المسيح عليه السلام في تلك العبارة مُبَيَّنا أهدافه التي أرسله الله سبحانه وتعالى من أجل تحقيقها بين الناس:

(روح الرب نازلٌ علي لأنه مُسَحني وأرسلني لأُبشِّر الفقراء وأبلغ المأسورين

إطلاق سبيلهم وأفرج عن المظلومين وأعلن سُنَّةً مرضية لدى الرب)(1)

.والإمام الحسين عليه السلام أعلن بِدَوره أيضا عن أهدافه المطلوبة قائلا على رؤوس الأشهاد: «وإني لم أخرج أشِرا ولا بطرا ولا مُفسِدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهی عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب»(2)

فهاتان العباراتان القصيرتان من السيد المسيح عليه السلام ومن الإمام الحسین علیه السلام تلخصان باقتضاب الأهداف المنشودة لحركة ونهضة كلٌ منهما، وغنيٌ عن القول والشرح أن التشابه واضحٌ في جوهر الحركتين وفي عمقهما الإنساني والاجتماعي العام. أما في ما يتعلق بإقامة الحجة على المقصرين في جهادهم ضدّ الباطل وفي وقوفهم مع الحق، وعلى أولئك الذين كانوا يخُفون روحهم الجاهلية وعصبيّتهم القبلية وراء ستار إسلامهم الزائف المبني عندهم على أساس المصالح الشخصية والمكاسب المادية، فنذكرهم أيضا بمواقف متشابهة تجمع بين المسيح والحسين عليه السلام من حيث ضرورة إقامة الحجة على أمثال أولئك الدخلاء على الدين الحقيقي النظيف، سواء الدين المسيحي أم الإسلامي.

ص: 31


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابقص73.
2- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق (ج1 ) ص188.

فالسيد المسيح عليه السلام يقول عن أمثال أولئك: «لو لم أكن قد جئتُ وكلَّمتُهم، لم

تكن لهم خطية، وأما الآن فليس لهم عذرٌ في خطيَّتهم»(1)

والإمام الحسين عليه السلام يقول أيضا عن مسألة الاختبار: «وإذا أقمتُ مکاني فبماذا يُبتلى هذا الخلق المتعوس، وبماذا يخُتَبرون؟ ... ولكن ليهلك من هلك عن بَيِّنةٍ، ويحیی من حيَّ عن بيِّنةٍ»(2)

أما ما يتعلق بمعرفة النهاية المحتومة على كل من المسيح والحسين عليه السلام ،فقد

كان كلاهما على معرفةٍ تامةٍ بما يريده القومُ منهما.

فالسيد المسيح عليه السلام يعرف أن الهدف من تعذيبه وإذلاله، ومحاولاتهم الدؤوبة للقضاء عليه لم تكن تهدف في صميمها إلا إلى التخلص من مبادئه وتعاليمه الجديدة التي جاء بها لتصحيح التشويه والتحريف المتعمد الذي ألحقه المفسدون منهم بشريعة موسی علیه السلام .

ولذلك، فقد قال المسيح عليه السلام مخاطبا أعداءه بكل يقينٍ وثباتٍ: «أليس موسی قد أعطاكم الناموس؟ وليس أحدٌ منكم يعمل بالناموس! لماذا تطلبون أن تقتلوني؟»(3).

ومن نفس المنطلق وبنفس المنطق ينطلق الإمام الحسين عليه السلام في حواره مع أعدائه الذين لم يجتمعوا عليه إلا من أجل هدفٍ واحدٍ وهو القضاء على المبادئ والقِيَم التي جاء ليحييها في صفوفهم من جديد، ففي القضاء على الإمام الحسين عليه السلام قضاء على رسالة محمد صل الله عليه واله ذاتها وإجهاضٌ مُبَکِّرٌ، بنفس الوقت، على كل

ص: 32


1- إنجيل يوحنا ج15 ص22
2- ابن طاوس، اللهوف على قتلى الطفوف، مطبعة العرفان بصيدا، ط 1929/2 ص37
3- انجیل یوحنا ج 7 ص 19.

ثورةٍ محتملةٍ لاحقةٍ يمكن أن يقوم بها أحدٌ ما أو أن تسول له نفسُه مجرد التفكير بها کردِّ فعلٍ على السياسة الأموية في معاملة العباد والتحكم بالبلاد.

وها هو عليه السلام يخاطبهم قائلا ومذکرا قبل الاشتباك والالتحام في ميدان المعركة:

«راجعوا أنفسكم وحاسبوها، هل يصلح لكم قتال مثلي، وأنا ابن بنت نَبيَكم، وليس على وجه الأرض ابن بنت نبي غيري؟!... ويحکم! أما تتقون الله؟ أما في هذا حاجزٌ لكم عن سفك دمي؟!»(1)

وبما أن نقاط التشابه بين السيد المسيح عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام أكثر من أن تحُصى، فلابد من أن يَرِدَ السؤال التالي إلى أذهان البعض منا، خاصةً وأن السؤال يتعلق بمسألة نهاية الآلام التي عاناها كلُّ منهما قبل التحاقه بالرفيق الأعلى.

والسؤال هو: من كان أكثر معاناةً والاما من الآخر، المسيح أم الحسين عليه السلام ؟!

وربما يمكن لهذا السؤال أن يتفرع إلى أسئلةٍ جوهريةٍ لا تقل عنه أهميةً أبدا، فقد

يقودنا هذا السؤال الأساسي إلى أسئلةٍ عديدةٍ، ومنها:

إذا كان الإمام الحسين علیه السلام وارثأ للأنبياء في علومهم وفي خصالهم وأخلاقهم وفضائلهم، وفي مبادئهم وقِيَمِهم، فهل كان وارثا لهم أيضا في آلامهم ومصائبهم وفي إرثهم الفجائعي الدامي؟!

وإذا كان الضمير العالمي، بشكلٍ عامٍ تقريبا، يرى أن آلام السيد المسيح عليه السلام

كانت فظيعةً ولا تُطاق، ويرى بنفس الوقت أن السيد المسيح عليه السلام كان صاحب معجزات وعجائب كثيرة استطاعت أن تذهل البشر، وكان من جملة تلك المعاجز مقدرته على التنبوء بأحداثٍ ووقائع عديدة كانت لا تزال وقتها في دائرة الغيب حيث

ص: 33


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدا، مصدر سابق ص255

أشار القرآن الكريم إلى بعضها بشكلٍ مختصرٍ وواضحٍ من خلال قوله تعالى عن لسان المسيح عليه السلام : «... وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »(1)، فإذا كان السيد المسيح على هذا القدر العظيم والنصيب الوافر من المعاجز والقدرات المختلفة، بما في ذلك قدرته على التنبوء بالغيبيات، فهل كان على معرفةٍ غيبيةٍ بأن هناك ابن بنت نبي أخير سيأتي بعده وسيحمل عنه میراثه وسيتألم كأعظم ما يكون الألم، وسيعاني كأعظم ما تكون المعاناة، من أجل رفع رايات كل الرسل والأنبياء عليهم السلام من عهد آدم عليه السلام إلى عهد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ؟!

إنها أسئلةٌ قد تخطر على بال أيِّ واحدٍ منا، وهي بلا ريب أسئلةٌ تستحق الوقوف عندها والإجابة عليها بكل رويةٍ وإمعانٍ، ودون اعتماد أي عصبية معينة بحيث تخُرج الجواب المطلوب عن جادة الحق والصواب.

فيما يتعلق بالسؤال الأخير المطروح، نقول بكل ثقةٍ واطمئنان: نعم، إن السيد المسيح عليه السلام كان على علمٍ مسبقٍ بما سَيُقدم عليه ابن بنت آخر رسولٍ ونبيٍّ من ثورة شاملة على كل التشويهات والتحريفات التي لحقت بالدين الإلهی الواحد بجوهره، والمتجدد بمظاهره، والمنقول إلى الجنس البشري عموما عبر قنوات الرسل والأنبياء.

نعم، لقد عرف السيد المسيح عليه السلام ذلك وتنبأ به وأخبر عنه أتباعه وحواريه قبل حدوثه بمئات السنين، ولا يحسب القارئ الكريم أنني أنا الذي أقول وأؤكد ذلك.

کلا، فالقائل لستُ أنا قطعا، وإنما هو أحدُ المفكرين والباحثين المسيحيين الذين أفنوا عمرهم في قراءة تفاصيل وخفايا الديانتين المسيحية والإسلامية، وتوصلوا إلى معرفة الكثير من القضايا البالغة الأهمية والتي تدل على عمق الوشائج بين تلك

ص: 34


1- سورة آل عمران: الآية 49

الديانتين العظيمتين.

فالباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) یکتب تحت عنوان (المسيح... هل تنبأ بالحسين؟) ما يلي: (لقد لعن المسيح قاتلي الحسين وأمر بني إسرائيل بلعنهم، وقال: من أدرك أيامه فليقاتل معه، فإنه کالشهيد مع الأنبياء مقبلا غير مدبر، وكأني أنظر إلى بقعته، وما من نبي إلا وزارها، وقال إنك لَبُقعة كثيرة الخير، فيکِ يُدفِنُ القمر الزاهر)(1).

فالسيد المسيح عليه السلام يؤكد من خلال حديثه هذا لأتباعه و حواريه على أن القتال مع الإمام الحسين عليه السلام واجب ديني وضرورة إنسانية، وأن الاستشهاد بين يديه الكريمتين في ساحة الجهاد هو استشهاد عظيم لا يقل أهميةً عن الاستشهاد في ساحات القتال تحت رايات الرسل والأنبياء عليهم السلام.

أما السيد قول المسيح عليه السلام عن أرض كربلاء ذاتها: (وما من نبي إلا وزارها) فهو تأكيدٌ حاسمٌ على أن الله سبحانه وتعالى قد قضى أن تكون أرض کربلاء أرضا ذات قداسةٍ خاصةٍ مستمدةٍ من دماء الحسين عليه السلام ومن عظمته وعظمة ثورته الروحية والإنسانية العامة التي جمعت في أهدافها ومضامينها كل أهداف وغايات الرسائل السماوية السابقة التي جاء بها الرسل والأنبياء عليهم السلام، فاستحق الحسين عليه السلام بذلك أن تكون أرض شهادته مزاراومقصدا لكل من جاء نبيا أو رسولا من السماء إلى بني الإنسان.

أما في الجواب عن السؤال الثاني المطروح سابقا والمتعلق بالإرث الفجائعي الدامي الذي ورثه الإمام الحسين عليه السلام عن كل من سبقه من رسل وأنبياء، فنستطيع أن

ص: 35


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص295

نقول بشكل مباشرٍ إن كل ذي بصيرةٍ نافذةٍ يستطيع أن يحكم على تلك المسألة من خلال مخزونه الثقافي المتعلق بالدراسة المعمقة لتاريخ وسيرة حياة الرسل والأنبياء من جهةٍ، ولتاریخ و سيرة الإمام الحسين عليه السلام من جهةٍ أخرى، وعلى سبيل المثال، هناك الكثير جدا من المفكرين والباحثين المثقفين الذين درسوا وحللوا وقارنوا بين حياة الرسل والأنبياء وسِيَرِهم المختلفة وبين سيرة الإمام الحسين عليه السلام فوجدوا من خلال النتائج الهامة التي توصلوا إليها أن الإمام الحسين عليه السلام نتيجةً لما لاقاه هو وأهله في كربلاء، كان موحدا لجراح الإنسانية المعذبة وجامعا في آلامه لكل آلام من سبقه من رسولٍ أو نبي على امتداد سلسلة النبوات والرسالات.

ولعل القول الذي سأورده الآن هو أفضل تعبيرٍ عن هذه الفكرة التي يعتنقها الكثير من المفكرين والمثقفين الباحثين عن الحقيقة، وهم في مجملهم ليسوا من المسلمين الشيعة، وربما معظمهم ليسوا من المسلمين أساسا.

فعندما نقرأ قولا كهذا القول الذي سأذكره بعد قليل لمفكرٍ مسيحي بارز عن الحسين عليه السلام ، فما هو تعليقنا عليه، وما هو البُعدُ الروحي الحقيقي في قول هذا المفكر المسيحي الذي أمضى سنوات طويلةٍ من عمره في دراسة سِيَرِ الأنبياء والرسل وعمق معاناتهم وآلامهم، ثم عكف بعد ذلك سنواتٍ أخرى من أجل دراسة وتحليل أحداث فاجعة كربلاء على ضوء مبادئ الإمام الحسين عليه السلام وسيرته المناقبية؟!

وما هو التحليل الفكري الذي يمكن أن يفهمه القارئ شخصیا من قول ذلك المفكر المسيحي الذي جاء قوله خاتمةً ونتيجةً لأبحاثه ودراساته المطولة، فقال بكل جرأةٍ ودون أدنى حرج:

(فأي رسولٍ زُرعَ في جسده أكثر من مئة نبلة... وأكثر من أربعين طعنة... وأي

ص: 36

نبي قتله العطش مثل ما فُعِل بالحسين عليه السلام ؟! وها هو قائد الشهداء وسيدهم یُرمی بسهمٍ في جبهته، ويضرب بحجرٍ فيها، ويُطعن على قلبه بسهمٍ ذي ثلاث شعب، ويُرمي في حلقه، ويُضرب على عاتقه، ويُطعن في ترقوته وبصدره وبنحره وبجنبه، ويُسلب وتُقطع إصبعهُ من أجل خاتمٍ، وتُقطع يده اليمنى ثم اليسرى من أجل تكةِ سروال، ويحُتز رأسهُ الشريف، ویُوطأ بعشرٍ من الخيل صَدرا وظَهرا، ثم يحُمَل رأسه على سنِّ رمحٍ إلى دمشق، حيث يوضع بمهانة أمام الفاسق یزید لینکت ثناياه بالقضيب، ويُعلق في سوق الصيارفة ويُشرب الخمر حوله ويُقالُ الكفر أمام كرامته ...

فهل يبقى للمقارِن المتمعِّن في هذه الميتة الأليمة تردد في وضع شهادة الحسين علیه السلام في المقام الأول بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ؟!)(1).

وهنا تحديدا، قد يقف بع القراء الذين قرأوا هذا الكلام البليغ الصادر عن أحدِ الأعلام المسيحيين في الوطن العربي ويتساءلون قائلين:

هل قصد ذلك المفكر المسيحي بقوله إن (شهادة الحسين عليه السلام في المقام الأول بين كل الشهادات التي ذكرها التاريخ) أن شهادة الحسين عليه السلام أعظم وأكبر حتى من شهادة المسيح عليه السلام ذاته والذي يعتبره المسيحيون قد عُلِّق على خشبة الصليب بعد عذابٍ ومعاناةٍ شدیدین؟!

نعم، إن هذا السؤال قد يخطر على بال أي قارئ بعد أن يقرأ ما جاء سابقا من تقييم لحادثة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام بعد مقارنتها الدقيقة مع شهادات كل من استشهد من رسل وأنبياء قبله، ولكن، وعلى ما يبدو، فإن ذلك المفكر المسيحي قد استعد لكل سؤالٍ محُرجٍ من هذا النوع، فأعد له الجواب الشافي والبعيد كل البعد عن

ص: 37


1- نفس المصدر السابق ص117.

التحيز والتعصب على أي دينٍ أو مذهبٍ إلا لمذهب الحق ودين الصدق.

وقد كان جواب ذلك المسيحي على السؤال الذي يمكن أن يُطرح عليه من قِبَلِ أي قارئ: (هي شهادة أكبر في مقياس المعاناة من شهادة عيسی عليه السلام، ولَئِن تعادلت معها في مقياس النتيجة، فإن لها وقعا أشد على القلوب، وإذا تذكرتها العقول فإن الذكراها رنَّة حزنٍ وأسی تحفر في الحنايا والصدور أخاديد عميقة وأثلاما لا تندمل)(1).

وعلينا هنا أن نعرف تمام المعرفة أنه إذا كان هناك الكثير من المفكرين والباحثين الذين ينتمون إلى مشارب مختلفة قد عقدوا الكثير من المقارنات وأجروا عددا لا يُستهان به من الدراسات والتحليلات حول نقاط التشابه بين السيد المسيح عليه السلام والإمام الحسين عليه السلام ، فإن هنالك، بنفس الوقت، العديد من رجال الفكر والأدب الذين لم يقتصروا في أبحاثهم على إجراء المقارنات بين المسيح والحسين عليهما السلام ، بل تجاوزوا ذلك إلى دراسة أوجه التشابه أيضا بين أم السيد المسيح عليه السلام وأم الإمام الحسين عليه السلام كنوعٍ من التأكيد على عمق العلاقة بين أهل عوالم الأنوار وبين أهل وورثة علوم النبؤات والرسالات.

فالمفكر والأديب اللبناني المسيحي (سلیمان کتاني)، وهو مثال واحدٌ من الكثير من الأمثلة الأخرى، يرى أن هناك تشابها كبيرا بين مريم العذراء عليها السلام وفاطمة الزهراء علیها السلام

فكلتاهما تمثلان صورة المرأة الكاملة في الوجود، وكلتاهما جاءنا إلى عالمنا من أجل استمرار بقاء صوت الله ورسالته ونوره أحياء في ضمير الإنسان وذلك عن طريق

ص: 38


1- نفس المصدر السابق ص118.

ما ستتمخض عنه حماهما اللذان كما يقول عنهما الأستاذ الأديب (كتاني)، ليسا من لحمٍ ودمٍ، بل هما رمزان باقيان لمستودع الأنوار التي جاءت رحمةً وهدايةً لبني الإنسان في كل بقعةٍ ومكان، وإرثا سماويا خالدا تتوارثه ضمائر الأحرار على مر الأجيال.

وها هو الأستاذ المسيحي (كتاني) يقوم بعقد تلك المقارنة الهامة قائلا:

(وهذه رحم ما كانت بطانتها من لحم ودم - لقد شقت من قبل رحم مثلها عن ولادة جاءت رحما لسمو الإنسان - تلك مریم واضعةٌ في حضنها ذلك الذي احتضن الأرض والسماء، وهذه فاطمة الزهراء تتفتق خاصرتاها عن سلالة هي ديمومة النبوة في خطها الصاعد مع الأجيال، هي إرث الإنسان في احتكاكه بالجوهر الأسمى فيه، هو ذلك التحضير النفسي لِتَحسُّسِ الإنسان بقيمته المربوطة بالمصدر الأعلى)(1).

هذه هي صورة السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام في نظر ذلك المفكر المسيحي، وتلك هي أيضا وظيفتها في عملية الربط الروحي بين عالَمَي الأرض والسماء من خلال ذريتها المقدسة التي تلعب الدور الأسمى والأكثر حيويةً في إعادة ربط الإنسان بجوهر الرسالات السماوية أخلاقيا وروحيا، ومن ثم لربطه عمليا بالمصدر الأعلى والجوهر الأسمى عن طريق الأخذ بيده للسلوك في معارج السالكين وصولا إلى معرفة حقيقة الذات التي طَهَّرتُها نارُ المجاهدة من كل شائبةٍ وغسلت مرآة وجهها دموعُ التوبة والندم فأضحت صقيلة شفيفةً قادرةً على استقبال الفيوضات النورانية الربانية، وعارفة كيفية حدوث النفخة الإلهية في النشأة الآدمية.

فالسيدة العذراء مريم عليها السلام ، هي والدة السيد المسيح عيسى عليه السلام صاحب

ص: 39


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وترٌ في غمد، مصدر سابق ص625.

الكرامات والمعجزات التي لا تزال تذهل العقول وتحير أرباب النهي والبصائر، وما

جاء ابنُها عيسی عليه السلام بتلك الكرامات والمعاجز العظيمة ليضل الناس ويفتنهم عن الحق، بل جاء ليقول للناس إن كل إنسانٍ مؤمنٍ يمكن له إذا أطاع الله ورسوله أن يتحول إلى مهاجرٍ إلى الله، متخذا من سبيله . أي سبيل عيسی عليه السلام - معراجا ومسلكا للوصول إلى عالم الخلاص والخلود.

فالغاية المباشرة من تعاليم السيد المسيح عليه السلام هي خلق حالة الكمال في ذات الإنسان ورفعه من مستوى الإنسان شکلا وصورة إلى مستوى الإنسان المستحق للخلافة الإلهية على الأرض بكينونته المادية والروحية، ولذلك، بإمكاننا أن نتتبع الكثير من تعاليم السيد المسيح عليه السلام وأقواله ونصائحه لأتباعه ومريديه لنرى في نهاية المطاف أن الغاية من تلك التعاليم الرسالية هي قوله عليه السلام: «لكي تكونوا أبناء أبيكم الذي في السماء، الذي تشرق شمسه على الصالحين والفجرة، ويُنزل قطره على الأبرار والأئمة، وتكونوا تامين كما أن أباكم الذي في السماء تام»(1).

وغنيُّ عن القول أن كلمة (أبناء) أو (أباكم) هي عبارةٌ عن اصطلاحاتٍ مجازية في اللغة، وقد استُخدِمت في هذا الحديث من ذلك الباب.

وكمثالٍ على ذلك، يمكن أن يقال لطالب الدنيا إله ابن الدنيا ولطالب الآخرة إنه ابن الآخرة، ويقال أيضا لمن هو ماهرٌ في صنعته إنه ابن الصنعة، وهكذا...

وإذا كانت الفضيلة العظمى للسيدة العذراء مريم عليهاالسلام أنها حملت كلمة الله وجاءت بها نورا وهداية وخلاصا للمتعَبين والمستضعَفين في الأرض، فما هي الفضيلة العظمى للسيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام ؟!

ص: 40


1- أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، دار دانية . بيروت ودمشق، ط1990/1ص101

في الواقع، إن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، من حيث العظمة التي تتمتع بها، يمكن أن نقف على شيءٍ منها، وليس على تلك العظمة كلها، ويكفي أن نقول إن التأمل والتفكر في هذه الأبيات الشعرية التي نظمها أحد الشعراء العارفين بحقيقتها ستعطينا، بلا ريب، شيئا من ملامح تلك العظمة التي لا يمكن أن تُدرَكَ بحقيقتها تمام الإدراك.

فعندما يقول عنها عليه السلام ذلك العارف ۔ بعد أن وصل إلى مفتاح معرفتها - هذه الأبيات واصفا إياها:

مشكاةُ نور الله جل جلاله *** زیتونةٌ عَمّ الوری برکاتُها

هي قطبُ دائرة الوجود ونقطةٌ *** لماتَبَدت اکثرت کَثَراتُها

هي أحمدُ الثاني وأحمدُ عصرِها *** هي عنصرُ التوحيد في ساحاتها

فعندما يقول عنها ذلك العارف ما قال، ماذا يمكننا نحن أن نقول؟!

بل هل هناك قولٌ لأحدٍ عن فاطمة علیها السلام بعد أن قال عنها الإمام جعفر الصادق علیه السلام :

«هي الصديقة الكبرى، وعلى معرفتها دارت القرون الأولى»(1)؟!

فهل بعد قول الصادق عليه السلام قول؟!

ولكن، ومع هذا، نقول إن كل ما قيل وما يقال عن الزهراء فاطمة عليها السلام ما هو في حقيقته إلا بمستوى القَبَس من الشعاع، ولا يعني هذا الكلام، بطبيعة الحال، أننا لا نريد من أحدٍ أن يكتب عن فاطمة عليها السلام أو أن يذكر فضائلها ومكانتها في قلوب المسلمين، أو حتى أن يكتب عن المصائب والكوارث التي حلت بها وببيتها حتى أن

ص: 41


1- أحمد الرحماني الهمداني، فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفى، مؤسسة البدر . طهران، 1410 ه- ص7

ذلك البيت المقدس قد لُقِّبَ لاحقا ببيت الأحزان، أبدا، فنحن لا نقصد بذلك، بل نحن نطلب من الجميع أن يجُندوا أقلامهم للحديث عن دور الزهراء علیهاالسلام في حفظ الرسالة السماوية الأخيرة، تلك الرسالة الخالدة الجامعة الجوهر كل الرسالات السابقة، وكيف أنها عليها السلام لعبت دور (أم أبيها) وذلك عن طريق ذريتها والتي يمتل الإمام الحسين عليه السلام أحد أهم حلقاتها في الحفاظ على رسالة أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم على مرِّ العصور والأجيال التي تَلَت فاجعة كربلاء.

ولذلك، فمن الطبيعي تماما أن يركز الأديب المسيحي (سلیمان کتاني) على دور فاطمة الزهراء علیها السلام في تربية وتنشئة ابنيها الإمامين الحسن والحسين علیهما السلام في ظلال بيت النبوة من أجل القيام بالدور الذي ينتظرهما في المستقبل القريب، فالزهراء فاطمة علیها السلام كانت تمثل بالنسبة لأبيها المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم البُعدَ الروحي أكثر مما تمثل البُعد المادي والدموي.

فالتاريخ يحدثنا عن عددٍ من الأنبياء كان أبناؤهم ضدهم وضد حركتهم الرسالية، وبالتالي هل هناك من فائدة ٍتُرتجي من تلك القرابة والعلاقة الدموية القوية ؟!

وبالنسبة للزهراء فاطمة عليها السلام فقد كان الأمر مختلفا تماما، فهي من الجهة المادية والدموية الحبل الموصول بين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وذريته إلى يوم القيامة، وقد أكد الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم نفسه هذه الحقيقة بقوله في أكثر من حديثٍ: «كل بني أنثى فإن عصبتهم لأبيهم، ما خلا ؤُلدُ فاطمة فإني أنا عصبتهُم وأنا أبوهم»(1).

وقد أدرك الكثير من المفكرين المسلمين والمسيحيين عمقَ هذه الحقيقة المتعلقة بالسيدة الزهراء علیها السلام ، وأدركوا، بنفس الوقت أيضا، أنها عليها السلام هي الوعاء

ص: 42


1- الحافظ السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت عليهم السلام ، مصدر سابق ص54

الطاهر الذي لعب دور الجمع بين أنوار النبوة وأنوار الإمامة، وبالتالي فهي التي ستقوم بدور إحياء وإكمال ما بدأه أبوها المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وزوجها المرتضی علیه السلام عن طريق أبنائها الأئمة من ذرية ابنها الإمام الحسين عليه السلام

ولذلك، فعندما يقول الأستاذ (كتاني): (إن أم الحسن والحسين كانت أشد الناس استيعابا لقيمة التحضير )(1)، فهذا يعني معرفة الزهراء عليها السلام بالدور الموكل إليها في ترسيخ مبادئ رسالة والدهاصلی الله علیه و آله وسلم من جهةٍ، وفي كشف زيف إيمان من كان يدعي موالاته والتصديق به وبرسالته من جهةٍ ثانيةٍ، فالجهةالأولى باتت واضحة لدينا ولذلك لا داعي للاستفاضة في شرحها وتوضيحها من جديد، أما ما يتعلق بالجهة الثانية، وهي جهة بالغة الحساسية في طريقة معالجتها وتبسيط مضامينها، فيمكننا القول عنها - باختصارٍ شديدٍ - إن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام كانت المحك الحقيقي الإيمان كل من ادعى أنه قد دخل إلى رسالة الإسلام عن قناعةٍ ويقين، ومن الطبيعي تماما أن يسأل أي واحدٍ من الناس عن تفسير هذا الكلام الذي يبدو غريبا بعض الشيء.

ولكننا نؤكد على أنه لا يوجد أي غرابةٍ في ذلك الكلام أبدا، فطالما أن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم قد أكد في أكثر من مناسبة على أن ابنته الزهراء فاطمة علیها السلام هي (أم أبيها)، وهي سرُّه، وهي أم أبنائه من علي عليه السلام ، فمن الطبيعي إذن أن يتم اختبار الناس الذين يدعون صدق الإيمان برسالة المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم عن طريق معرفة صدق مودتهم لمن استحقت بجدارة لقب (أم أبيها)، وعن طريق اختبار مدى مودتهم لأبنائها الذين يمثلون بحقيقة الأمر - أبناء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ذاته.

ص: 43


1- سلیمان کتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمدٍ، مصدر سابق ص627

ولا أعتقد أن هناك أحدا من القراء، مهما كانت ثقافته الإسلامية متواضعة، يجهل كيفية النهاية المأساوية التي لاقتها فاطمة الزهراء عليها السلام هي وجميع أبنائها وأحفادها، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام، سيد شباب أهل الجنة.

وأعتقد أنه من المناسب تماما هنا أن أذكر وجهة نظر المفكر الفرنسي المعاصر (جان موریون) حول الدور الحيوي الذي تمثله السيدة الزهراء عليها السلام على مسرح الرسالة الإنسانية، وليس على مسرح الرسالة الإسلامية فحسب.

يقول ذلك المفكر الفرنسي عنها علیه السلام : (لقد وجهها والدها نحو هذا الدور حين طرح اسمها لتكون من أهل البيت خلال الاحتكام إلى الله الذي عرضه على المسيحيين (يوم المباهلة)، وذلك حتى تستمر تعاليم الرسالة الإسلامية... وهكذا نجد أن فاطمة تحتل هنا موقع المحور وسط علاقات القرابة الخمس (الأبوة، الزواج، الأمومة، البنوة، الأخوة) وهي تحتل مكانة محورية، تاريخية، انتقالية، فهي الرابطة الجسدية الوحيدة بين أبيها وزوجها وأبنائه، وتمثل (أم أبيها) مبدأ الاستمرارية الوحيد للجنس... لقد تحولت فاطمة إلى رهينةٍ إنسانيةٍ لتأكيد الحرارة الإلهية)(1)

وبعد أن يجري الأستاذ (موريون) مقارنة سريعة بين أم السيد المسيح عليه السلام وأم الإمام الحسين عليه السلام وعلاقتهما بالجوهر الإلهي الوحيد والحقيقي الذي( لم يلد ولم يولد)، نراه يتابع حديثه عن معنى التضحية التي قدمتها السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فِداء للمبادئ وللقِيَمِ السماوية النبيلة، فيقول عن ذلك متابعا حديثه:

(وهكذا تجد فاطمة نفسها مخُتارة لضمان استمرار رسالة أبيها النبوية، وبقاء طائفة المؤمنين عبر الموت العنيف (من الحسن الذي مات مسموما، والحسين الذي

ص: 44


1- جان موريون، لويس ماسينيون، مصدر سابق ص81

استشهد، ومحسن الذي أُجهضت به) حتى المهدي الذي أسمته بصورةٍ مسبقةٍ محمدا(1)

وإذا كان البعض من المفكرين والباحثين لم يكتفوا بإجراء العديد من المقارنات بين المسيح والحسين عليهما السلام ، بل راحوا يقومون بإجراء مقارنات أخرى أيضا بين الوالدتين المقدستين، مريم العذراء وفاطمة الزهراء علیها السلام ، فإن هناك أيضا عددا آخر من رجال الفكر والأدب لم تتوقف أقلامهم عند مجرد إبراز وجوه التشابه بين شخصيَّتي عيسى المسيح والإمام الحسين عليه السلام ، بل تخطت أقلامهم ذلك إلى ما هو أكثر عمقا وتشعبا.

فنحن نعرف أن هناك العديد من الكتب والأبحاث والمقالات قد كُتِبَت عن إبراز معظم الأوجه المتشابهة بين شخصية الإمام علي عليه السلام . والذي يمثل الإمام الحسين علیه السلام نسخة ثانية عنه وعن مبادئه، وبين شخصية الفيلسوف اليوناني القديم (سقراط) (نحو 470۔ 399 ق.م)، ذلك الفيلسوف العظيم الذي تقول عنه كل الموسوعات الثقافية إنه أحدث ثورةً حقيقيةً في الفلسفةبأسلوبه وفكره، ولكن الشيء الذي لا يعرفه الكثير من المهتمين بالقراءة والثقافة هو أن هناك أيضا من أجرى نفس المقارنة، ولكن هذه المرة ليست بين سقراط والإمام علي عليه السلام ، بل بين سقراط والإمام الحسين علیه السلام

ذاته.

ولكن، ومن باب الإنصاف في الكلام، نقول إن كل الذين كتبوا في مسألة التشابه بين مبادئ علي عليه السلام ومبادئ سقراط، قد أكدوا بطريقةٍ أو أخرى على أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام في المجتمع هي امتدادٌ طبيعيُّ ومنطقي لنفس الثورة التي قادها أبوه

ص: 45


1- نفس المصدر السابق، ص81

الإمام علي عليه السلام من أجل تثبيت مبادئ الإسلام من جهة، ومن أجل إحياء القيم والمُثُل التي تألقت في عهد محمد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ثم راحت بعد غيابه تفقد بريقها وبهاءها شيئا فشيئا من جهةٍ أخرى.

فثورة الإمام الحسين عليه السلام كانت تتعقب خُطی ثورة الإمام علي عليه السلام حتى كأن الذي رسم الخطوط العريضة لتلك الثورة الخالدة هو الإمام علي عليه السلام وذلك من خلال تلقين الإمام الحسين عليه السلام المبادئ والقِيَم والأهداف التي يجب على الإنسان المؤمن والحر أن يثور من أجلها.

وعلى سبيل المثال، عندما يتحدث المفكر والأديب المسيحي الكبير (جورج جرداق) في كتابه (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، وبالتحديد في الجزء الثالث من ذاك الكتاب، والذي يحمل عنوان (علي وسقراط)، نرى أن ذلك المفكر المسيحي العملاق قد أجاد الحديث عن الصفات والمبادئ التي تجمع بين هاتين الشخصيتين العالميَّتين العظيمتين.

ولابأس هنا أن نتوقف، ولو للحظةٍ قصيرةٍ، مع شيءٍ يسيرٍ من تلك المقارنة الطويلة التي أجراها الأستاذ (جرداق) بين علي عليه السلام وسقراط والتي بدأ حديثه عنها في أحد فصول كتابه المذكور أعلاه بالقول:

قد يتساءل المرء ومن حقه أن يتساءل لماذا نتحدث عن سقراط ونحن نسوقُ الكلام على علي بن أبي طالب، وما عاصر سقراطُ عليا وما كان عربيا ولا مسلما أو مسيحيا، بل تقدمه في الزمان، وكان إغريقيا وثنيا!

وبعد ذلك التساؤل الذي يمكن أن يطرح نفسه بقوةٍ على ساحة الفكر، ينتقل بنا الأستاذ (جرداق) إلى عالم المقارنة بين تلك الشخصيتين النادرتين، فيكتب قائلا

ص: 46

تحت عنوان (عظيم أثينا وعظيم الكوفة):

«كلاهما كان في عهده مظهرا لمجتمع جديد وحاجات جديدة، فراح يهدم

ويبني، فعادوه وتألبوا عليه، فَثَبتَ لهم كالطود الراسخ وازداد بالحق إيمانا!

وكلاهما جابه الطغاة والوجهاء وکانِزي الذهب وأهل السلطان وأصحاب الجيوش بسلامة الفطرة الإنسانية وقدرة العقل وحرارة القلب ووهج الضمير والإيمان بخير الحياة!

وکلا الرجلين تراث للإنسانية عظيم!»(1)

ولا داعي للتأكيد على حقيقة أن تلك المقارنة الرائعة التي أجراها الأستاذ (جرداق) بينهما كانت مقارنةً طويلةً بما فيها الكفاية لإعطاء القارئ صورة توضيحية ً مفصلة عن معظم الصفات والخصال التي تتمتع بها كلتاالشخصيتان العظيمتان.

ولكن اللافت للنظر في عملية المقارنة تلك هو أن الأستاذ (جرداق) قد اعتبر الإمام عليا عليه السلام لم يكن في حقيقته إلا نبيا قد أضاعه قومه فلم يُقَدِّروه حق قدره فحاربوه لجهلهم به ولعدم قدرتهم على مجاراته واللحاق به وبمبادئه، وكذلك كان الحال عند الحكيم والفيلسوف الزاهد (سقراط).

وها هو الأستاذ (جرداق) يختصر الكلام في هذا الموضوع قائلا: «وما أحلى أن نوجز قائلين إن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة آثر الصدق حيث يضره على الانحراف حيث ينفعه بمقاييس العاديين من الناس، وكان مثالا يحُتذى في المروءات كلها، ومثلا أعلى للشجاعة الأدبية التي يعتز بها تراث الإنسان، ونبيا لم يكترث إلا

ص: 47


1- جورج جرداق، الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، مصدر سابق، ج3(علي وسقراط)

بالحق ولم يَهَبِ الموت في سبيله، وإن كلا من عظيم أثينا وعظيم الكوفة جعل العمل والقول شيئا واحدا فلم يفصل بين هذا وذاك»(1)

ويرى بعض المفكرين أيضا أن بقاء الإمام علي عليه السلام في قومه وصبره الطويل على جهلهم به وعلى أذاهم العظيم الذي ألحقوه به وبابن عمه صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته علیهم السلام يماثل في المرارة والألم تجرع سقراط لكأس السم بيديه(2)

ولذلك نقول: إنه إذا كان الله بحكمته، سبحانه وتعالى، قد شاء أن يرى أهل البيت علیهم السلام في كربلاء سبايا، وإذا كان الرسول المصطفى صل الله علیه واله قد أمر الإمام الحسين عليه السلام بالخروج مع أهل بيته الكرام إلى تلك الأرض التي امتدَّت جسرا إلى ملكوت السماء، فإن الإمام علي وفاطمة الزهراء عليها السلام هما اللذان قاما بتهيئةِ ابنهما، الإمام الحسين علیه السلام، للقيام بتلك المهمة الرسالیة والاستعداد التام لِتَحمُّل کامل تبعاتها مهما كانت الأثمان والتضحيات.

ولذلك، فمن الملاحظ دائما عند قراءة أي كتابٍ عن الإمام الحسين عليه السلام، سواءٌ كان الكاتب مسلما أم غیر مسلم، أن الكاتب يركز دائما على مسألة تأثر الحسين عليه السلام الشديد برسالة جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، وبنفس الوقت أيضا تأثره البالغ بعملية الإعداد الروحي والفكري التي نشأ عليها في أحضان أبيه علي عليه السلام وأمه فاطمة عليها السلام .

ومن هنا يمكن القول عن الذين يجرون المقارنات بين الإمام علي عليه السلام وشخصيات أخرى عظيمة سواء من الرسل والأنبياء، أم من الفلاسفة والحكماء، أنهم لا يجدون مَفَرا من إجراء مقارنات شبيهة بين الإمام الحسين عليه السلام ، ابن علي عليه السلام

ص: 48


1- نفس المصدر السابق ص90
2- سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، (مجموعة محمد شاطئ وسحاب) مصدر سابق ص392

وتلميذه، وبين نفس الشخصيات العالمية الأخرى التي لا تزال معلقةً في سماء المجد الإنساني كالقناديل الخالدة التي تضيء بِزَيتها الإلهي دروب الإنسان وعتمة لياليه على مَرَّ العصور وتعاقب الأزمان.

ومن أفضل ما يمكن أن نذكره الآن عن هذه النقطة المتعلقة بعقد المقارنات المتنوعة، هي تلك الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية التي يقارن من خلالها الشاعر المسيحي (جورج شكور) بين الإمام الحسين عليه السلام وعدد من الشخصيات المميَّزة، والتي كانت وستبقى متربعة على عرش المجد والخلود في ضمير الإنسان.

يقول ذلك الشاعر المسيحي النجيب:

يوم (الحسين) بك الأيام شامخة *** وقدتَشَابه في التاريخ أدوارُ

ذکرتَني كأس سم راح يجرعها *** (سقراط) حرا، ولم تأسره أفكارُ

ذکرتني رأس (یوحنا) به حلمت *** إحدى العواهر، والظلام عهارُ

ذکرتنیه(یسوع) الحق، مرتفعا *** على الصليب، وفي كفيه مسمارُ

إن العقائد ماهانت، وما وهنت *** وإن أحاط بها خطبٌ وأخطارُ(1)

وبما أن الشاعر قد ذكر على سبيل المقارنة اسم (یوحنا) وهو اسم النبي (يحيى ابن زکریا) علیه السلام، نرى من اللائق أن نختم هذا الفصل بالكلام عن ذلك النبي الكريم الذي تحدثنا عنه سابقا في أحد الفصول المتقدمة من هذا الكتاب.

ولكن الحديث عنه الآن سيكون من باب إجراء المقارنة التي قام بها العديد من

الأدباء والمفكرين بهدف إبراز وجوه الشبه بينه وبين الإمام الحسين عليه السلام.

وقبل أن ندخل في تفاصيل هذه النقطة، علينا أن نلفت الانتباه إلى حقيقة أن

ص: 49


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق ص24. 25.

الإمام الحسين ذاته عليه السلام كان يدرك في قرارة نفسه أن هناك شبها بينه وبين نبي الله یحیی علیه السلام ، فالإمام الحسين عليه السلام کان یکثر دائما من ذكر سيرة يحیی بن زکریا عليه السلام قبل خروجه إلى كربلاء، وكان يرد على كل من كان ينصحه بعدم الخروج خوف قتله قائلا: «من هوان هذه الدنيا على الله أن يؤتى برأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجة عليهم»(1)

فهو عليه السلام يعرف إذن، وبشكلٍ مسبقٍ، أنه سوف يُقتَل وأن الذي سيأمر بقتله لن تعدو قیمته قيمة (سالومي)، تلك المرأة البغي من بني إسرائيل، وكان يعرف أيضا تمام المعرفة أن رأسه الشريف سوف يُقطع كما قُطع رأس نبي الله يحيي عليه السلام ، غير أن عملية قطع الرأس وحمله هي التي ستؤدي لاحقا إلى انهيار عرش الطغاة وزلزلة الأرض تحت أقدامهم ولو بعد حين.

ولَئِن رأينا . كما ورد سابقا - أن هناك العديد من الآباء والمفكرين في الشرق والغرب قد عقدوا المقارنات بين المسيح والحسين عليه السلام ، وعلى رأسهم المستشرق الشهير (آدم متز) (ADAM METZ) الذي قام بإجراء مقارنة جديدةٍ بين المسيح والحسين عليه السلام ورأى من خلالها أن هناك تشابها كبيرا بين (جمعية الآلام) عند المسيحيين و(أيام عاشوراء) عند المسلمين الشيعة(2)، فإن هناك أيضا العديد من الأدباء والمفكرين الآخرين الذين عقدوا نفس المقارنات بين يحيى والحسين عليه السلام .

فنبي الله يحيي عليه السلام هو النبي المعروف باسم (يوحنا المعمدان) الذي كان يعمد الناس بالماء في نهر الأردن، وهو الذي قام أيضا بتعميد السيد المسيح عليه السلام في نفس

ص: 50


1- أ. الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق، ج1 ص192. ب . عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص99.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص207

النهر المذكور، ونظرا لأن يحيي عليه السلام هو الذي عمد المسيح عليه السلام ، أي قام بإظهار تطهيره ماديا ومعنويا من كل العلائق، فإن البعض قد أعطى النبي يحيى عليه السلام أهميةً أكبر من أهمية السيد المسيح ذاته علیه السلام ، ولا تزال هناك طائفةٌ من الناس، ممن يقولون بذلك، تعيش حاليا في العراق وبعض الدول الأخرى المجاورة لها.

وعلى كل حالٍ، كان الإمام الحسين عليه السلام يدرك أن مصيره المحتوم سيكون كمصير النبي يحيي علیه السلام، ولذلك فقد قال الحسين عليه السلام لعبد الله بن عمر قُبیل الخروج إلى أرض کربلاء:

«إن رأسي يُهدي إلى بغي من بغايا بني أمية»(1)

ولابأس هنا في أن نقف قليلا مع مسألة التشابه بين مسيرة هاتين الشخصيتين العظيمتين كما يراها المتخصصون من أهل الفكر والأدب الذين لا تغيب عن أذهانهم مسألة الدراسات المقارنةالمتعلقة بالشخصيات الاستثنائية الهامة والحية دائما وأبدا في ضمير الأديان والشعوب.

فقد جرت قدرة الله تعالى أن يكون الرسل والأنبياء، والأئمة والأوصياء، والمؤمنون والأولياء محط ابتلائه سبحانه وتعالى وموضع امتحانه واختباره، حتى أن الرسول الأعظم محمد صلی الله علیه و آله وسلم كان من دعائه الدائم بين يدي الله عز وجل: «أسألك من اليقين ما تهوِّن به على مصائب الدنيا»(2)، وفي هذا دلالةٌ قويةٌ على هول المصائب والابتلاءات التي كان يُبتلى بها في حياته صلی الله علیه و آله وسلم

وها هو نبي الله زكريا عليه السلام والد النبي يحيي عليه السلام قد تعرض بدوره للكثير من

ص: 51


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص69.
2- علي رضا برازش، مجمع الأنوار، منظمة الإعلام الإسلامي . طهران، ط1988/1 ، ج2 ص 494

المرارة والألم في حياته، فقد جاء في العديد من الروايات أنه لما هرب من الكفار، واختفى في الشجرة، وعرفوا ذلك جاءوا بالمنشار الكبير، فنشرت الشجرة حتى بلغ المنشار رأس زکریا علیه السلام ، فاضطرب قليلا، ثم إنه أنةً، فأوحى الله إليه: (یا زکریا، لئن صعدت منك أنةٌ ثانيةٌ لأمحونك من ديوان النبوة!)، فَعضَّ زکریا علیه السلام على إصبعه وبقي صامتا صابرا حتى قُطِعَ شطرين (1)

ومن المعروف عن والد یحیی، زکریا علیه السلام ، أنه قد حُرِمَ الولد والنسل حتى إذاأدركه الكبر دعا ربه مخلصا موقنا، فرزقه الله الكريم من زوجته العاقر ولدا اسمه (یحیی) تقرُّ به عينه على الكبر ويرثه من بعده حتى إذا كسر طوق الصِّبا، وشبِّ يافعا اختاره الله إلى جواره مظلوما مذبوحا مقتولا.

وهاهو جد الحسين عليه السلام، الرسول المصطفى محمد صل الله علیه السلام خاتم الرسل والأنبياء، قد حُرِمَ أيضا من الولد والنسل إلا من ابنته الزهراء فاطمة عليهاالسلام ، فشاء الله سبحانه وتعالى في غامض علمه وفي سابق حكمه أن يطلع رسوله صلی الله علیه و آله وسلم على ما سيجري ويقع على حفيده الحسين عليه السلام في أرض كربلاء، فيرى حفيده مقتولا مذبوحا، مقطع الأوصال، مفصول الرأس عن الجسد، ويرى أيضا حرمه وأهل بيته وأصحابه المخلصين الصابرين قتلى وصرعی، ونساءه وبناته أسري وسبايا مقيَّدات بالسلاسل والأغلال ولا يعكر هدوء مسيرهن إلى دمشق إلا صوت ضرب السياط على ظهورهن، أو بكاء طفل عطشان، أو صدی صرخة الإمام الحسين عليه السلام التي كانت لا تزال ترن في الآذان وتتناقلها الوهاد والوديان: (وا قلة ناصراه)!!

ومن التشابه اللافت للنظربين محنة يحيى عليه السلام ومحنة الحسين عليه السلام أن يحيی

ص: 52


1- محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، المؤسسة العلمية . بيروت، ط4 ، ج 3 ص279

قضى مذبوحا، وقد أخِذَ رأسه فَقُدِّم مهرا للعاهرة (سالومي)، تلك البغي من بغايا بني إسرائيل، والشيء نفسه حدث مع الإمام الحسين عليه السلام عندما قضى مذبوحا وقد حُمِلَ رأسه بعد ذلك لأبغى رجلٍ في الكون، إلى قابيل الثاني يزيد بن معاوية.

هذا، مع الأخذ بعين الاعتبار، أن محنة نبي الله يحيي عليه السلام لا تُقارن مع محنة الإمام الحسين عليه السلام في وطأتها وقوة أثرها، فالنبي يحیی علیه السلام قُتِلَ وحده فقط، أما الإمام الحسين عليه السلام فقد قُتِلَ معه من أهل بيته سبعة عشر رجلا ليس لهم شبيهٌ على وجه الأرض، ويحيى عليه السلام لم يُقتَل له أطفالٌ ولم تُهتك له حرمة ولم تُسبَ له نساءُ ولا عيالٌ، في حين أن الإمام الحسين عليه السلام ذُبحت أطفاله وسُبيَت نساؤه وعياله.

ويحيى عليه السلام لم يمنعه أحدٌ من شرب الماء قبل قتله، بينما مُنِعَ الحسين عليه السلام هو وعياله وأطفاله الصغار من شرب حتى القليل من الماء فماتوا عطاشى مظلومين ظامئين.

وهنا يمكننا التأكيد على حجم هذه الفاجعة والمحنة العظيمة التي ألمَّت بالإمام الحسين عليه السلام من خلال هذا الحديث القصير والمعبر الوارد عن الإمام محمد الباقر عليه السلام والذي يدل على أن محنة النبي يحيى عليه السلام، بل ومحن كل الرسل والأنبياء علیهم السلام لم تصل في شدتها وحرقتها إلى المستوى الذي وصلت إليه عند الإمام الحسين علیه السلام

فالإمام الباقر عليه السلام يخبرنا عن ذلك قائلا: «كان أبي علي بن الحسین (زین العابدين) عليه السلام إذا حضرت الصلاة يقشعر جلده، ويصفر لونه، وترتعد فرائصهُ، ويقف شعره، ويقول ودموعه تجري على خديه: (لو علم العَبدُ من يناجي ما انفتل)، وبرز يوما إلى الصحراء فتبعه مولى له، فوجده قد سجد على حجارةٍ خشنةٍ، فقال

ص: 53

مولاه: فوقفتُ حيث أسمع شهيقه وبكاءه، فوالله لقد أحصيت عليه ألف مرة وهو يقول: لا إله إلا الله حقا حقا، لا إله إلا الله تعبدا ورقا، لا إله إلا الله إيمانا وتصديقا، ثم رفع رأسه من سجوده، وإن لحيته ووجهه قد غُمِرا بالماء من دموع عينيه، فقال له مولاه: يا سيدي، أما آن لحزنك أن ينقضي ولبكائك أن يقل؟! فقال له: ويحكَ! إن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم كان نبيا ابن نبي وله اثنا عشر ابنا، فغيَّب الله تعالی واحدا منهم فَشَاب رأسه من الحزن، واحدَودَبَ ظهره من الغَمَّ، وذهبَ بصره من البكاء وابنُه حي في دار الدنيا، وأنا رأيت أبي وأخي وسبعة وعشرين من أهل بيتي صرعی مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلُّ بكائي؟!»(1)

وربما لهذا التشابه الكبير الذي ذكرناه منذ قليل بين محنة يحيى والحسين عليه السلام وبين محنة زکریا و محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، كان من إعجاز القرآن الكريم أن يبتدئ الله سبحانه وتعالى قصة يحيى بن زكريا التي وردت في مطلع سورة مريم، بشكل حروف رمزية تشير بطريقة التلميح - عند العارفين من أهل الذكر الحكيم - إلى ما سيكون من محنة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بولده الحسين عليه السلام ، كما كان من محنة زکریا بولده يحيي عليه السلام ، ولذلك، فقد ابتدأ سبحانه قصة يحيى علیه السلام في القرآن الكريم بقوله: «کهیعص »(2)، ومن المعروف أن هذه الحروف لم تأتِ عبثا في كتابٍ ينطقٌ كلٌ حرفٍ فيه بالحق والصدق.

وقد رأينا في أحد الفصول السابقة كيف أن الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) قد سُئِلَ عن معنى (كهيعص)، فأجاب قائلا: فأما (الكاف) فدلالة على کربلاء، وأما (الهاء) فدلالةٌ على هلاك العترة، وأما (الياء) فدلالةٌ على يزيد

ص: 54


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج2 ص125
2- سورة مريم: الآية 1

الحسين عليه السلام ، وأما (العين) فدلالةٌ على عطشه علیه السلام، وأما (الصاد) فدلالةٌ على صبره عليه السلام، ثم أردف الإمام الحجة عليه السلام بعد ذلك قائلا: «إن هذه الحروف هي من أنباء الغيب الذي أطلع الله عليه عبده زکریا، وذلك أن زکریا سأل ربه أن يعلمه أسماء الخمسة ( محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام )، فأهبط عليه جبريل وعلمه

إياها.

وكان زكريا عليه السلام إذا ذکر محمدا وعليا وفاطمة والحسن سری عنه همه وانجلی کربه، وإذا ذكر الحسين عليه السلام غلبته العبرة ووقعت عليه الزفرة، فسأل الله في ذلك، فأنبأه الله بقصة مقتل الحسين عليه السلام(1)، وقد ذَكَرنا هذه القصة بالتفصيل في فصل (نُبوءات الأنبياء بفاجعة كربلاء).

ويمكننا هنا أن نلتقط أنفاسنا قليلا وأن نأخذ قسطا من الراحة بعد هذه الرحلة المثيرة والطويلة مع الرسل والأنبياء وعلاقتهم، کارثٍ روحيَّ وفكريٍّ واجتماعيٍّ عام، بالإمام الحسين عليه السلام الذي حمل بكل قوةٍ وثباتٍ ذلك الميراث الرسالي العظيم الممتد من آدم عليه السلام وحتى نهاية السلسلة عند الرسول المصطفى محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم

وبالنسبة للاستراحة القصيرة التي سننالها الآن، فستكون مع الشاعر المسيحي المبدع (بولس سلامة) الذي كان بدوره واحدا من الأدباء والمفكرين الذين رأوا أن هناك علاقة وطيدةٌ بين يحيي والحسين عليه السلام على طريق الخطوب والمصائب.

ص: 55


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص83، ولمزيد من المعلومات عن العلاقة بين محنة يحيى والحسين عليه السلام وبين سورة (مريم) في القرآن الكريم، راجع كتاب (مناقب آل أبي طالب) لمؤلفه (ابن شهرآشوب) المتوفى سنة (588ه-)، طبع المطبعة الحيدرية في النجف الأشرف، سنة 1956م، راجع ج3 ص237

وكان من جملة ما قاله عن ذلك شعرا هو قوله تحت عنوان (الساعة الرهيبة): هامة السبط في الغنائم تُهدى *** لخليع يدنس الخلعاء

لابن مرجانة!! كذلك يحيی *** قَرَّبوا رأسه إلى رقطاء

فإذا لم یکن (عُبيدٌ) بغيا *** فلقد كان للنفوس بغاء

ویلکم یاعصائب الشرِّ *** أولاد الثعابين تلسع الأبرياء

لاتصلي إلا رجاء نوالٍ *** وتصلي فتذبح الأنبياء

قد نقعتم صفيحة الأرض سُمَّا *** وطَليتم وجه الزمان ریاء(1)

ومن المؤكد تماما أن الأديب والشاعر، الأستاذ (سلامة) قد أصاب في كل كلمةٍ قالها عن يحيى والحسين عليهما السلام، وقد أصاب أيضا في تصويره الواقعي لأولئك الفجرة الذين لؤَّثوا الأرض بسمومهم وبقبيح أعمالهم، وشوَّهوا وجه الزمان بكفرهم وریائهم.

ولا يحسب أحدٌ من القراء الكرام أن هذا الأديب المسيحي يتجني على الحكام الأمويين ويتحامل على عمالهم وأتباعهم، أبدا، فهو لا يتجنى على معاوية أو على ابنه یزید، وهو لا يتحامل بنفس الوقت أيضا على أي واحدٍ من أذيالهم وأصفيائهم من المقربين الذين يباركون أعمالهم ويسيرون على سلوكهم ونهجهم في الفساد والإفساد.

فها هو (معاوية الثاني بن یزید) (41- 64ه- / 661- 684م)، وهو بالتأكيد ليس مسيحيا حتى نقول عنه إنه يتجنى أو يتحامل على أبيه وجده، يتنازل عن الخلافة بعد ثلاثة شهور فقط من استلامه لها ويتركها طائعا مختارا لغيره من البيت المرواني

ص: 56


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص284

الأثيم.

أما السبب الذي جعله يتنازل عن عرشه ویترکه لغيره فهو واضحٌ تماما ولا يحتاج إلى الكثير من العناء والبحث للوقوف عليه، فهناك الكثير جدا من المراجع والمصادر التاريخية والفكرية القديمة والمعاصرة تذكر أن معاويةالثاني قد شعر بالذل والهوان من الأعمال المخزية التي ارتكبها أبوه يزيد وجدُّه معاوية بحقٌ الإسلام وبحقٌ أهل بيت النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، وهذا ما دفعه للتنازل عن كل شيءٍ له علاقةٌ بالتربُّعِ على عرش الحكم واستلام مقاليد أمور المسلمين.

وأعتقد أنه من الضروري أن أذكر هنا نص الخطبة التي قالها معاوية الثاني بشأن الأسباب التي دعته لترك كرسي الخلافة والتخلي عنها نهائيا.

تذكر المراجع والمصادر التاريخية أن معاوية الثاني، وبعد أشهرٍ قليلةٍ من استلامه مقاليد الحكم، صعد المنبر وخاطب الناس قائلا: «أيها الناس إن جدي معاوية نازع الأمر أهله ومن هو أحق به منه لقرابته من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، وهو علي بن أبي طالب، وركب بكم ما تعلمون حتى أتته منیَّته، فصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرا بخطاياه، ثم قلد أبي الأمر فكان غير أهل لذلك، وركب هواه، وأخلفه الأمل وقصر عنه الأجل وصار في قبره رهينا بذنوبه وأسيرابجرمه» ثم بكى حتى سالت دموعه على خديه وقال: «إن من أعظم الأمور علینا علمنا بسوء مصرعه وبئس منقلبه، وقد قتل عترةَ رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأباح الحرم وضرب الكعبة، وما أنا بالمقلد ولا المتحمل تبعاتكم، فشأنكم وأمركم والله لئن كانت الدنيا خيرا فلقد نلنا منها حظا، ولئن كانت شرا فكفى ذرية أبي سفيان ما أصابوا منها...»(1)

ص: 57


1- أ.أنور الرفاعي وسعد الدين القواص، تاريخ الدولة العربية منذ الخلافة الأموية حتى العهد العثماني، مطبعة الترقي بدمشق، 1953، ص 28.ب .خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص46.

وقد احتجب في قصره بعد تلك الخطبة، وبقي في قصره ولم يخرج إلى الناس،

ولم ينظر في أمورهم حتى وافته المنية بعد أيام من ذلك، وبتقديري الشخصي فقد ماتَ قتلا.

وفي هذه الخطبة دليلٌ قويُّ وحجةٌ دامغةٌ على سوء منقلب معاوية وابنه يزيد إذ أن الأول قد ناصب الرسول والإسلام العداء، وقد اغتصب الخلافة من أهلها دون أي وجه حق وحارب الإمام عليا عليه السلام عليها مع معرفته المسبقة بقول الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم على رؤوس الأشهاد: «من ناصب عليا الخلافة بعدي فهو كافر، وقد حارب الله ورسوله، ومن شك في علي فهو كافر»(1).

أما الثاني، یزید بن معاوية، فهو الذي أباح الحرم المقدس وهو الذي ضرب الكعبة المشرفة بالمنجنيق، وهو الذي . وكما يؤكد ابنه معاوية الثاني - قد صار أسيرا بجرمه لقتله الإمام الحسين عليه السلام ، سيد شباب أهل الجنة وريحانة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ووارث الرسل والأنبياء عليهم السلام.

وهكذا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام ، وعلى الرغم من معرفة المسلمين به وبعظيم مكانته وبأنه الوارث الحقيقي لأنوار الرسل والنبيين عليهم السلام الذين خُتِموا بجده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، إلا أن كل ذلك لم يشفع له في أن يكون بمأمنٍ من سهام غدر أولئك الذين دخلوا في دائرة الإسلام نفاقا ودهاءً، إما طمعا في المكاسب والمناصب وإما خوفا من انتصار المسلمين الحقيقيين الذي سَیَجرُّ عليهم الذل والحيف والموت قتلا بحدِّ السيف.

ص: 58


1- ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب، مصدر سابق ص46.

فالمصائب التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام أكثر من أن تحُصى وتُعد، وربما كانت المصائب والمحن التي طرقت باب الإمام الحسين عليه السلام هي أعظم تلك المصائب وأشدها هَولا وترويعا في النفوس، وحسب اعتقاد عميد الأدب العربي، الدكتور (طه حسین)، فإن المحن التي أصابت أهل بيت النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، والاضطهاد الذي الحق بكل فردٍ منهم، وملاحقة أتباعهم في كل مكانٍ، كلُّ ذلك لعب دورا مهما في جذب قلوب الناس إليهم وتعاطفهم معهم بعد أن عرفوا حقيقة حكام السوء الذين يدفعون إلى الظلم ویُمعنون فيه، ويرهقون الناس من أمرهم عسرا(1)

وبالطبع، فإن الدكتور (طه حسين) لم يقصد في كلامه هذا (یزید) فقط، بل كان يقصد أيضا أباه معاوية وكل من كان يحذو حذوه، وكلَّ من كان يشبهه في طريقة الحكم، سواءً من الذين كانوا قبله أم من الذين جاؤوا بعده.

ويمكننا اختصار القول في ذلك بقصيدةٍ قصيرةٍ قالها أحد الأصدقاء من الأدباء والشعراء المسيحيين المعاصرين، إنها قصيدةٌ قصيرةٌ ومعبرةٌ نَظمها الشاعر والأديب (غسان حنا)، وهو من مواليد محافظة اللاذقية عام 1948، وله العديد من المجموعات الشعرية المتميزة في أسلوبها ومضمونها، وله أيضا عدة كتب نثرية وأدبية أخرى.

يقول الأستاذ (حنا) في تلك القصيدة التي تحمل عنوان (معاوية بن أبي سفيان): ذا... غاصبٌ حقَّ الخلافةِ،

خاطبٌ ودَّ السياسةِ،

والأصولُ غطاءُ.

ص: 59


1- طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2 (علي وبنوه)، مصدر سابق ص197.

ذا... أول المستملكين، وبعده

ويلُ الرعيّةِ

مُلكُها استعصاءُ

خيط ٌرفيعٌ مَدَّهُ لخصومه

وعليه كانت تَعبرُ الأخطاء.

وبعد أن يعطي القارئ هذه الفكرة الموجزة والمعبرة عن طبيعة معاوية، نراه ينتقل لكشف حقيقته بشكلٍ أعمق وأوسع، فيتابع قائلا في نفس القصيدة من دیوانه (أبجدية التجلي):

قد كان نقطة ضعفه (بیزیدِهِ)

والمحنةُ: الآباءُ ... والأبناءُ.

لكنَّ خبرتَه بأهل زمانه

اكتملت مبايعةً فَتَّمَ ولاءُ

عادت أميةُ فيه سيفا حاکما...

بقميص عثمانَ اکتَسَت أهواءُ(1)

وعلى كل حالٍ، لا نريد أن نخرج عن جوهر موضوعنا في هذا الفصل من الكتاب، ولكننا نقول إن مصائب ومحن الإمام الحسين عليه السلام كانت هي الخلاصة العامة لكل النوائب والكوارث التي حلَّت بأهل البيت عليهم السلام، وكانت أيضا التجسيد الأمثل والأقوى للصراع بين قوى الخير والشر التي ابتدأت مع أول نبي واستمرت حتى مع آخر رسولٍ سماوي صلی الله علیه و آله وسلم ، وستبقى تلك المعركة . بلا شکًّ - دائرةً إلى يوم

ص: 60


1- غسان حنا، أبجدية التجلي، دار الينابيع . دمشق، ط 200/4 ص202

الكشف المبين حين يرث الله الأرض ومن عليها.

وأخيرا، نقول إن الإمام الحسين عليه السلام . وكما رأينا. كان بالفعل وارثا للأنبياء والمرسلين، وكانت كل صفحةٍ من صفحات حياته، وكل مبدأ من مبادئه، وكل خصلةٍ من خصاله تنطق بالحق على ذلك، فهو عليه السلام بضعة المصطفى وهو منه (أنا من حسين، وحسينٌ مي)، والمصطفی صلی الله علیه و آله وسلم بِدَوره هو صفوة الرسل والأنبياء، وبالتالي، فالحسين عليه السلام الذي هو بضعة من ذات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، هو أيضا صفوة الرسل والأنبياء، فالقَبَسُ من النور نورٌ، والجزء من الجوهر جوهرٌ.

وعلينا أن لا ننسى أبدا أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم قد أكَّد مرارا على أن عليا عليه السلام كان أيضا وارثا للرسل والأنبياء عليهم السلام، فمن المأثور عنه صلی الله علیه و آله وسلم قوله: «من أراد منكم أن ينظر إلى آدم في علمه، وإلى نوحٍ في حكمته، وإلى إبراهيم في حلمه، فلينظر إلى علي ابن أبي طالب»(1)

فهل نستغرب بعد هذا أن يكون ابنه الإمام الحسين علیه السلام وارثأ أيضأ للأنبياء والمرسلين ؟!

ص: 61


1- الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب علیه السلام ، دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام ، طهران، ط 1404/3 ه- ص122

فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين عليه السلام

الدنيا والآخرة قطبان متقابلان ووجهان متعاكسان وضرتان مختلفتان، وعلى الرغم من كونهما كذلك، إلا أنهما . بالنسبة للإنسان - يصعب الفصل بينهما، وبتعبيرٍ أدق، لا يمكن الفصل بين دنيا الإنسان وآخرته، فالمؤمن الحقيقي هو ذلك الذي يراقب حركته الحياتية من خلال موازين الآخرة، وهو الذي يترقب الآخرة المرجوة من خلال حركته الإيجابية على مسرح وجوده في الحياة.

ومن هنا، فإن المؤمن الحقيقي هو ذلك المرء القادر على رؤية حقيقة ذاته ومعرفتها ومعرفة مدى قربها من الله وابتعادها عن متاع الدنيا، ذلك المتاع الذي يمكن أن يحول الإنسان إلى عبدٍ ذليلٍ يقبع مُستكينا وراء قضبان الملذات في سجون الحُجُبِ والظلمات.

فالمؤمن العاقل العارف لا يرى شيئا في الوجود إلا ويرى الله معه، ولكنه لا يلبث إلا أن يغيب عن الوجود وعن ذاته حتى يصل إلى مرحلةٍ أعلى سموا في العلم والمعرفة، إنها المرحلة التي لا يرى من خلالها شيئا في الوجود غير الله سبحانه وتعالی.

فبالنسبة لذلك المؤمن العارف، ليس هناك من شيءٍ يسبق إلى ذهنه قبل الله، فالله حاضر في ذهنه في كل تصرفاته وحركاته، فإذا تفكر ففي الله، وإذا تكلم فبالله، وإذا تحرك فمع الله وبإرادته، وإذا تفضل وأحسنَ فبحولِ الله ورحمته، ولا يبلغ المؤمن

ص: 62

تلك الدرجة الراقية من حقيقة الإيمان حتى يصل بورعه وتقواه، وبعلمه وعمله إلى درجة التسليم والخضوع لله في كل شيءٍ، وحتى يعلم يقينا أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.

فالنفس التي ارتوت من خمرة الله واغتسلت بفيوضات أنواره، وتجرَّدتُ عن

خدمة كلِّ سيِّدٍ إلاهٌ - عز وجل - وصانت كل العهود ولم تُفرِّط بأسراره، هي نفس تجاهد حق الجهاد للعودة والوصول إلى مملكة مُنَوِّر الأنوار وحظيرة قدس الأقداس، إنها النفس التي تعرج إلى عالم الكشف والشهود، فتقفُ هناك على الحقائق بلا حجاب ولا حدود.

ولقد أجاد ذلك العابدُ العارفُ عندما قال:

دعوتُ نفسي إلى ربي فَأبت، فتركتُها ومضيتُ إليه.

فالحذر كل الحذر من النفس إن لم تقبل أن تخلع ثوب (الأنا) وتلقيه جانبا - فإن كان الأمر كذلك، فإن نفسك التي بين جنبيك ستكون أعدى عدوِّيك، كما يقول عنها الإمام علي عليه السلام .

ومن هنا، فإن المؤمن لا يرغب في شيءٍ غير رضي الله تبارك وتعالى - لا يهمه إذا رضي عنه البعض أو سخطوا عليه، فالمهم حقا هو أن يرضى عنه لخالق أولا وأخيرا.

ولا ريب في أن العلاقة الصادقة بين العبد وربه تبارك وتعالى لا تستبقي في النفس وفي الحياة جانبا إلا ويستلهم فيها ذلك العبد المؤمن عبوديته لله ويعلن من خلالها خضوعه وطاعته الله الرحيم الحكيم وذلك من خلال تطبيق أحكامه وترجمتها عمليا على أرض الواقع، ولعل الآية القرآنية الكريمة: «قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي

ص: 63

وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ »(1)هي أبلغ حجةٍ على أن حركة الإنسان المؤمن وأعماله على مستوى خَطَّي الحياة والموت لا يمكن أن تكون لغير الله عز وجل.وعندما نقرأ أقوال الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : «الخلق كلهم عيال الله وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله»(2)، ندرك أن الكثير من مظاهر الطاعة لله والعبودية له يمكن أن تتجلى من خلال الامتثال لأوامره في عملية التواصل الإنساني السليم وخدمة ذلك الإنسان الذي من المفترض له أن يكون خليفةً لله في أرضه وأخا لكل إنسانٍ آخر يشاركه في النشأة الترابية وفي الصورة الآدمية.

كل هذا الكلام الذي ذكرناه الآن يمكن أن ينطبق على أي إنسانٍ عادي من عامة الناس، وهو كلام يتناسب في جوهره مع ذلك الإنسان العادي الذي اختار خط الإيمان والهداية وارتضاه سبيلا للحاق بعالم الأنوار والخلود.

ولا ريب في أنه من حقنا أن نسأل هنا ما يلي:

إذا كان الأمر على ما هو عليه فعلا، فماذا يمكننا أن نقول عن إيمان الإمام

الحسين عليه السلام ؟!

وهل إيمان الإمام الحسين عليه السلام كإيمان أي إنسانٍ عاديًّ؟!

وكيف ينظر الإمام الحسين عليه السلام إلى مفهوم الشهادة وفق منظوره الإيماني ؟!

إنها أسئلةٌ حسَّاسةٌ تفرض ذاتها علينا وتبحث، بنفس الوقت أيضا، عن إجاباتٍ شافيةٍ وكافيةٍ، وربما كان السؤال الأخير هو السؤال الأكثر أهميةً من بين بقية الأسئلة الأخرى التي يمكن أن تتبادر إلى الذهن.

ص: 64


1- سورة الأنعام: الآية 162.
2- هادي المدرسي، الدين هو الثورة، دار التعارف للمطبوعات، بیروت، 1981، ص8.

وبادئ ذي بدء نقول إنه من الواضح تماما بالنسبة لكل من يدرس شخصية الإمام الحسين عليه السلام أن هناك ترابطا وثيقا بين مفهوم الإيمان ومفهوم الشهادة في فكر الإمام الحسين عليه السلام ونهجه، فالإيمان عنده جهادٌ وشهادةٌ، والشهادة بدورها هي معرفةٌ وإيمان، ولا يمكن لكل من يقرأ بعمقٍ ويحلل شخصية الإمام الحسين عليه السلام أن يفصل بين ذَينك المفهومين عنده على الإطلاق.

لقد عرف الإمام الحسين عليه السلام أن الدين ليس مجرد حرکاتٍ تعبديةٍ وإجراءات طقوسية، بل هو فوق ذلك بكثير، فالدين بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام هو الثورة الحقيقية التي تتفجر على الدوام في وجه كل مظهرٍ من مظاهر الظلم والجهل والفساد والضلال، فالدين هو الثورة وإذا لم يكن الدين كذلك فمعنى ذلك أنه لا يستحق أن يُسمى دينا، وذلك لأن الدين هو الثورة السماوية المتجددة على مفاسد أهل الأرض وجمود حركة الحياة.

فكما أن الدين صلاةٌ وصيامٌ، فهو أيضأ ثورةٌ وتجدَّدٌ وقيام، ولا ريب في أن تلك الثورة عند الإمام الحسين عليه السلام تبدأ من مستوى العمل بالكلمة الطيبة والدعوة للحق بالتي هي أحسن، وتنتهي عند حدود تحويل الدم الغالي إلى قطرات زيتٍ نقيًّ مبارك يتلألأ في احتراقه ويتألق في اشتعاله في سبيل إبقاء مصباح الشريعة الإلهية دائم التوهج في الليالي الحالكة وأمام الرياح العاصفة العاتية.

لقد جعل الإمام الحسين عليه السلام من قلبه العظيم حرما لله، بل جعل من قلبه عرشة له وحده دون سواه، ولذلك فمن البديهي تماما أن تكون الفلسفة الإيمانية للإمام الحسين عليه السلام مبنيةً على قوله، قبل وقعة كربلاء بوقتٍ قصير:

لئن كانت الدنيا تُعدُّ نفيسةً *** فدار ثواب الله أعلى وأنبلُ

ص: 65

وإن كانت الأبدان للموت أنشئت *** فَقتل امرئٍ بالسيف في الله أفضلُ(1)

فأشرف الموت القتل، وأشرف القتل ما كان في سبيل الله، وهذا ما حققه الإمام الحسين عليه السلام في رحلته الإيمانية التي قاربت في شكلها ومضمونها . كما رأينا سابقا ۔ رحلات جميع الأنبياء والمرسلين.

وبما أننا نتكلم الآن عن فلسفة الإيمان عند الإمام الحسين عليه السلام، دعونا الآن نقرأ سويةً هذه القصة القصيرة من تراث الهند الشعبي، والتي رواها(غوث علی شاه) (Ghauth Ali Shah)، وهو أحد كبار الصوفية في القرن التاسع عشر، وقد دونها تلميذه (غول حسن) في كتاب (التذكرة الغوثية) (Tathkira Ghauthia).

وتدور هذه القصة حول حوارٍ قصيرٍ يجري بين الإمام الحسين عليه السلام وأبيه أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام :

يروي (غوث علي شاه) أن الإمام الحسين عليه السلام توجه في أحد الأيام، وكان عمره الشريف وقتذاك اثنتي عشرة سنة، إلى أبيه الإمام علي علیه السلام سائلا إياه:

«أيُّ حبًّ يسكن في قلبك؟».

فقال علي: «حبُّك»

فسأل الحسين: «وحب أخي الحسن؟»

فقال علي: «وحبُّه أيضا».

فسأل الحسين: «وحبُّ أمي أيضا؟».

قال علي: «وحبُّ أمك أيضا»

فسأل الحسين: «وحبّ جدي؟».

ص: 66


1- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدأ وشهيدا، مصدر سابق ص290.

فقال علي: «أجل، وحبُّه»

عندها سأل الحسينُ: «وحبُّ الله كذلك؟».

فقال علي: «أجل». .

فاعترض الطفل قائلا: «أي قلبٍ قلبك هذا؟ أقلبٌ هو أم نُزُل؟

في القلب يسكن حبُّ واحدُّ ولا أكثر من ذلك».

وعندئذ،ٍ ضَمَّه الإمام علي عليه السلام إلى صدره: وقال له: «حقا تقول، یا بني»(1)

لقد صدق الإمام الحسين عليه السلام في ما قاله، بل لقد دَلَّ هذا القول منه، وهو لا يزال طفلا على مبلغ علمه وعلى عمق إيمانه.

ولكن هنا يأتي لاحقا دور الإمام علي عليه السلام ليشرح لطفله كيف أن قلب المؤمن الحقيقي يتسع لكل هذه الأنوار السماوية الخالدة، والتي هي في حقيقتها نورٌ واحدٌ مشتقُّ من ذات نور الله جل جلاله.

فالحسين عليه السلام ابن الرسالة السماوية، تلك الرسالة التي تصهر الإنسان المؤمن وتعجن روحه بها لدرجة تجعله وحدةً متلاحمةً مع كل معاني السمو والكمال، بحيث لا يمكن الفصل بينهما أبدا.

فالإمام الحسين من جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم كالنور من النور، والحسين من أبيه أمير المؤمنين علي عليه السلام كزرقة السماء من السماء، فالإيمان نبعٌ فياضٌ يبدأ من محمد العلي، ومن علي الحسين، ولذلك، فليس كبيرا على الإمام الحسين عليه السلام أن يكون مثل الإنسانية الأعلى في الإيمان واليقين، وأن يكون رائدها في تفجير أعظم ثورةٍ

ص: 67


1- Gul Hasan solomon's Ring: The life and Teaching of sufi Translated and selected by: Hasan Askari Altamira Press 1998 Page 70

عرفها تاريخ الإنسان من حيث مبادئها وعمق أهدافها وعدد الثوار القائمين بها والتضحيات التي قُدِّمت من أجلها، وأخيرا من حيث النتائج التي ترتَّبت عليها.

فالكثير من الكتاب والأدباء يصفون ثورة الإمام الحسين عليه السلام بالثورة الشمولية، فهي ثورةٌ لكل إنسانٍ يعيش فوق صدر هذا الكوكب، مسلما كان أو غیر مسلم، وهذا شيءٌ يسيرٌ مما يجب أن يقال عن تلك الثورة التي كانت وستبقى الثورة المتجددة في ضمائر كل الأحرار في العالم بلا منازع.

فالكاتب والأديب الأستاذ( أحمد مطر) يتساءل قائلا بلسان الملايين من الناس:

(أني للبشرية أن تجد طريق خلاصها بعيدا عن تعاليم الحسين... كيف لها أن تسمو إذا لم تمَسُّها قدسيةُ الطَّف؟ إن كربلاء ليست وقعة تاريخية انتهت في العاشر من محرم، بل كانت منعطفا حياتيا خطيرااستهدفت عقيدة الإسلام العظيم...

فهل للحسين عليه السلام الشهيد وأبي الشهداء وسيدهم شبيهٌ في التضحية بين الأنبياء والشهداء... وهل لتضحيات أرباب الديانات قديمهم وحديثهم شبه بما ضحاه سبط النبي الذي قال عنه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم: «حسينٌ مني وأنا من حسین»؟!)(1)

وعندما نقول عن هذه الأسئلة التي يطرحها ملايين الناس على ألسنة أدبائهم وشعرائهم ومفكريهم إنها أسئلةٌ حساسةٌ وجوهريةٌ، وأنها تستحق بالفعل الوقوف عندها والإجابة عليها، فإن هذا لا يعني أن الذين يطرحون هذه الأسئلة هم من المسلمين فقط أو من العرب فقط، بل إن الواقع يقول ويؤكد على حقيقة أن الكثير من أعلام الفكر والأدب، وحتى رجال الدين، من بقية الأديان في مشارق الأرض ومغاربها يطرحون على أنفسهم نفس الأسئلة والاستفسارات الهامة، ولكن سرعان ما

ص: 68


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص363

يخرج الجميع تقريبا بنفس النتيجة التي تقول إن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في کربلاء لم يغير تاريخ الإسلام والمنطقة فحسب، بل لقد غَیَّر استشهادهُ تاريخ أمم وشعوب على امتداد التاريخ بعد أحداث تلك الفاجعة الرهيبة والمؤلمة.

ويكفي أن نقول . كمثالٍ على قولنا هذا - إن زعيم الهند الخالد ومحررها المهاتما (غاندي) قد ربط تغير الأمة الهندية، بل شبه القارة الهندية، وإمكانية تطورها وتقدمهابحركة الإمام الحسين عليه السلام وثورته المباركة في كربلاء.

وها هو ذلك القائد (الهندوسي) الكبير، وهو بالطبع ليس من المسلمين ولا حتى من أهل الكتاب، يقول مخاطباأمة الهند في إحدى مقولاته الشهيرة بعد دراسة عميقةٍ لسائر الأديان السماوية وغير السماوية وتعرُّفه على شخصياتها البارزة، وها هو يقول في نهاية رحلته الفكرية مع الأديان وأثرها على الأمم والشعوب: (على الهند إذا أرادت أن تنتصر، عليها أن تقتدي بالإمام الحسين)(1).

إذن، فإن ذلك الزعيم الهندي الهندوسي (غاندي) يربط مصير أمةٍ بكاملها، وهي ليست أمة مسلمة في معظمها، بحركة وثورة الإمام الحسين عليه السلام .

ومما يؤكد أيضا أن الحركة الإيمانية عند الإمام الحسين عليه السلام ، والتي قادته إلى إعلان ثورته الخالدة، إنما هي حركةٌ إيمانيةٌ ثوريةٌ تجاوزت حدود الدائرة الإسلامية لتشمل بمبادئها وسمو أهدافها كل المجتمعات الإنسانية على هذه الأرض هو أن العديد من المستشرقين الغربيين قد رأوا في تلك الثورة حادثةً ذات بُعدٍ أيديولوجي عالمي واسع النطاق، وقدعَبَّر عن هذه الفكرة المستشرق الأمريكي المعروف

ص: 69


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، راجع مجلة الثقافة الإسلامية، العدد /50/ إصدار المستشارية الثقافيةالإيرانية بدمشق تموز . آب، 1993، ص44

(غوستاف غرونیباوم) ( G. Grunebaum ) وهو ألماني الأصل - في كتابه (حضارةالإسلام) قائلا: (إن وقعة كربلاء حادث ذو أهمية كونية)(1).

وقد يستغرب القارئ إذا قلنا له إن هذه الحقائق عن إيمان الإمام الحسين عليه السلام وعن معاني استشهاده و عمق أهداف ثورته لم يتم الحديث عنها من قِبَلِ المفکرین المسيحيين والهندوس فقط، بل لقد تم الحديث عنها حتى من قبل المفكرين والأدباء الذين ينتمون إلى ديانة الصابئة أيضا.

ومن المعروف عن أتباع هذه الديانة أنهم يُعرَفون بالصابئين، وهي كلمةٌ مشتقةٌ

كما يقول العالم اللغوي الألماني (جسنیوس) - من كلمة صباؤوث العبرانية والتي تعني (جنود السماء)، وفي هذا دلالةٌ على أنهم كانوا يقدسون الكواكب والنجوم، وذهب المستشرق (نولد که) إلى أن تلك الكلمة مشتقةٌ أساسا من صَبِّ الماء إشارة إلى عملية تعميدهم بالماء كالنصارى، وقال غيرهما من الباحثين والمستشرقين إن الديانة المسيحية الأولى اتصلت بقية الكلدانيين فنشأ منهم مسيحيو مار يوحنا في البصرة وهم الصابئون(2)

ص: 70


1- نفس المصدر السابق ص47.
2- أخذنا هذه المعلومات عن الصابئة من مقال لم ينشر بعد للصديق والأخ الباحث الدكتور (ياسين الويسي)، وهو من إخواننا السنة في مدينة بعقوبة العراقية، حيث تفضل بتقديم هذا المقال الموثق بدقةٍ وأمانةٍ وذلك بالاعتماد على أوثق المصادر والمراجع العربية والغربية، فله منا جزيل الشكر والامتنان، ولكن ومن أجل الأمانة الفكرية فقد عدت وقرأت كتاب (أصول الصابئة) لمؤلفه الأستاذ (عزيز سباهي)، وهو مفكر صائبي معاصر، والكتاب من إصدار دار المدى في دمشق ط 2003/3 م، وقد اعتمدت على هذا الكتاب أيضا في دعم الأفكارالتي أوردها الصديق الدكتور (الويسي) في مقاله القيم عن الصابئة وذلك بعد أن أجريت مقارنة دقيقة بين المعلومات الواردة في المقال والمعلومات الواردة في الكتاب، وكانت النتيجة وجود تطابق واضح في المعلومات عموما.

وهناك الصابئة الحرانية، وهم قوم يعبدون الكواكب ويقدسونها، وهناك أيضا الصابئة المندائية، وهي الطائفة الصابئة الوحيدة الباقية إلى اليوم والتي تعتبر النبي (یحیی) عليه السلام نبيا لها، وهم أيضا يقدسون النجوم والكواكب ويعظمونها، وللصابئة عدد من الكتب المقدسة مكتوبة بلغة سامية قريبة من السريانية، ومن أهمها:

1- الكنزاربا: أي الكتاب العظيم، ويعتقدون بأنه صحف آدم عليه السلام .

2- دراشة ديهيا: أي تعالیم یحیی علیه السلام.

3- سدره انشماثا: كتاب يدور حول التعميد والدفن والحداد وانتقال الأرواح.

4- کتاب الديوان: وفيه قصص وسير بعض الروحانيين مع صور لهم.

5- كتاب أسفر ملواشة: أي سفر البروج وهو لمعرفة حوادث السنة المقبلة.

6- کتاب قماها ذهيقل زیوا: وهو مجموعة تعویذات، ويعتقد الصابئي أن من يحمله لا يؤثر فيه سلاح أو نار.

وهناك أيضا كت أخرى لا مجال لذكرها كلها هنا في هذه المساحة الضيقة، وعلى كل حال، وبعد أن قدمنا هذه اللحمة الموجزة عن ديانة الصابئة، دعونا الآن نتعرف على أحد مفكري وأدباء الصابئة في عصرنا الحاضر، وذلك من أجل الوقوف على وجهة نظره في ما يتعلق بعظمة الإمام الحسين عليه السلام وعظمة ثورته التي ألهبت، ولا تزال تلهب، ضمير الثوار والأحرار في شتى بقاع الأرض شرقا وغربا.

فالأديب والشاعر( عبد الرزاق عبد الواحد) هو واحد من الأدباء العراقين المعاصرين البارزين، وهو أحد أفراد وأتباع ديانة الصابئة التي تحدثنا عنها منذ قليل، ولهذا الأديب والشاعر المعروف قصائد لا تنسي في مدح الإمام الحسين عليه السلام وفي مدح ثورته الخالدة خلود المجد على جبين الشمس وعلى صدر الزمان.

ص: 71

وها نحن الآن نقتطف بعض الأبيات الشعرية من قصيدته الطويلة والرقيقة والتي تحمل عنوانا مؤثرا (من لي ببغداد؟) كتأكيد على غربة الإنسان العراقي، تلك الغربة التي لا يخفف من حدتها ولا يقلل من مرارتها إلا وجودالإمام الحسين عليه السلام في تلك الأرض التي ارتوت من دمه فارتفع نخيلها عاليا إلى السماء کارتفاع قامة الحسين علیه السلام

فالشاعر الصابئي يخاطب تلك الأرض المقدسة قائلا:

يا أطهر الأرض... یا قدیسة الطين *** یا کربلا... یا ریاض الحور والعين

یا مرقد السيد المعصوم... يا ألقا *** من الشهادة يحمي كل مسكين

مدي ظلالک للإنسان في وطني *** وحيثما ارتعشت أقدامه کوني

کوني ثباتا له في ليل محنته *** حتی يوحد بين العقل والدین

حتی یکون ضميرا ناصعا ويدا *** تمتد للخير، لا تمتد للدون

محروسة بالحسين الأرض في وطني *** وأهلها في ملاذ منه میمون

ما دام في كربلا صوت يصيح بها: *** إن الحسين ولي للمساكين(1)

نعم، لقد صدق ذلك الشاعر الصابئي الأستاذ (عبد الواحد) في كل عبارة قالها عن الحسين عليه السلام وعن كربلاء، وحقا، فإن كربلاء هي أرض الطهر والقداسة، وهي المعراج المرتفع بدماء الشهداء إلى رياض الجنان وملكوت السماء، ولا أعتقد أن هناك أية مبالغة في قول من وصفها قائلا:

على أعتابهاسجد الوجود *** ولولاها لما كان السجود

ص: 72


1- عبد الرزاق عبد الواحد ، قصيدة من لي ببغداد؟، مجلة الأسبوع الأدبي، العدد /1090/ إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق.2008/2/9 ، راجع ص 11.

وعودا على بدء نقول إننا قد ذكرنا بعض الأبيات الشعرية الرقيقة والمعبرة لأحد شعراء الصابئة المعاصرين لمجرد التأكيد على أن ثورة الإيمان الحسيني وصداها الإنساني العام وأثرها في الفكر والضمير العالمي العام لم يتوقف عند حدود أتباع الرسالة الإسلامية، بل إن تلك الثورة الملحمية قد تجاوزت بطبيعتها وبآثارها كل الحواجز الدينية وكل الحدود القومية والعرقية.

فالإمام الحسين عليه السلام، عندما انطلق في ثورته المبنية على الإخلاص لله والوفاء لمبادئه، كان يحمل الحب بين جوانحه لكل الإنسانية وكان يرى أن التضحية في سبيل المبادئ والقيم هي أبسط مظهر من مظاهر الوفاء لمن جعلنا خليفة له في أرضه وأمناء له على رزقه وملکه.

فالثمن المدفوع کعربون وفاء لله، مهما كان غاليا ومكلفا، لا يهم بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام ، فهو يدرك تمام الإدراك أن النظرة السطحية الظاهرية هي فقط التي تجعل الإنسان ينظر إلى الابتلاءات والمصائب التي تصيبه على أنها نوع من أنواع إعراض الله سبحانه وتعالى عن عبده وسخطأ منه عليه، وبالمقابل، كان عليه السلام يدرك أيضا أن النظرة الباطنية العميقة هي التي تجعل الإنسان المؤمن يرى الأمور على حقيقتها وجوهرها، إن تلك النظرة العميقة هي التي تريه أن المحن والآلام والمصائب هي عبارة عن منح وعطايا إلهيةيتكرم الله بها على المؤمنين من عباده من أجل صقل إيمانهم وتهذیب كمالهم، وتخليصهم من شوائبهم مثلما يتخلص الذهب من الشوائب بحرارة النار اللاهبة.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم كان يدعو كل حين قائلا: «اللهم أرني الأشياء كما هي»، أي أنه كان صلی الله علیه و آله وسلم يريد من الله عز وجل أن يريه حقائق الأمور وبواطنها وأن يوقفه على

ص: 73

أسرارها وحکمتها، ونفس الطلب الذي كان الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يطلبه من الله، كان الإمام الحسين عليه السلام أيضا يطلبه منه عز وجل في كل حركة يقوم بها في الليل والنهار، في السر والعلانية.

فسید الشهداء عليه السلام ، رائد مسيرة الحب والوفاء، تخلى يوم الطف عن كل العلائق بشكل كامل، وودع الأهل والعيال، ولم يترك شيئا معه من متاع أو مال، وعندئذ تقدم بكل إيمان وثبات ونادي قائلا:

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي، ياسيوف خذيني(1)

ونحن نعرف جميعا أن الأبطال من بني البشر ينتابهم الضعف وأحيانا الخوف عندما يقتل أحد أولادهم أو إخوانهم، وربما يتسلل إلى أذهانهم في لحظة مامن لحظات الانهيار النفسي أن يعقدوا هدنة مع الخصم خوفا من أن يفقدوا ابنا أو أخا أو عزیزا آخر في حال استمرار الصراع واتساع لهيبه.

فهل كان الإمام الحسين عليه السلام من هذا النوع؟!

إن كل كتب التاريخ تحدثنا أن الإمام الحسين عليه السلام كان يزداد وجهه تألقا وتوهجا، وكان ساعده يزداد قوة وعزيمة كلما قتل واحد من أولاده وأصحابه يوم عاشوراء، لقد كان مقتل كل واحد من أولئك الأعزاء يعني للإمام الحسين عليه السلام أنه تخلص من أحد القيود التي تجذبه إلى عالم الأرض ودائرة الفناء، ويعني له مقتل ذلك الحبيب العزيز، بنفس الوقت أيضا، أنه اقترب أكثر من عالم النور الكلي ودائرة البقاء.

كان عليه السلام كلما يصاب في جسمه وأهله وأصحابه، كان يزداد شوقا إلى لقاء

ص: 74


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص84، وقد نقل المؤلف كلمة (بنفسي) بدل (بقتلي) خطأ.

الموت وكأنه كان يلمح جمال المحبوب المطلق خلف ستائر الموت وتحت ظلال السيوف، فيزداد عشقا ولهفة للقائه ونعمة البقاء في جواره.

ومن المعروف للجميع أن الأبناء والأصحاب كانوا يستأذنونه لنيل نصيبهم من الشهادة في سبيل الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، وكان الحسين عليه السلام يأذن للواحد منهم تلو الآخر، على الرغم من أن كل فرد منهم كان عزيزا عليه كعينيه أو کنفسه الغالية، وكان من الطبيعي أن يحيط الموت بهم إحاطة السوار بالمعصم، ولكن بالرغم من ذلك فما أن يراهم الإمام الحسين عليه السلام صرعی مخضبين بالدماء من حوله حتى يزداد إيمانا وثباتا وقوة وعزما على لقاء الغاية والمني على مذبح العشق الإلهي العظيم.

وليس هذا بالشيء الغريب عن الإمام الحسين عليه السلام ، فالحسين عليه السلام هو ابن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، خاتم الرسل والأنبياء، وهو أيضا ابن علي المرتضى عليه السلام ، سید الأئمة والأوصياء، والحسين عليه السلام هو فلذة كبد أمه فاطمة الزهراء عليها السلام ، بضعة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وسيدة النساء.

فلا عجب أن يقدم الحسين عليه السلام على ما أقدم عليه وهو ابن تلك الأنوار المشتقة

من النور المطلق للجمال والجلال والكمال.

وها هو المفكر والباحث (ميشيل أنطوني سیلز) (Michael Antony Sells) يذكر حديثا هاما بهذا الصدد في كتابه (التصوف الإسلامي المبكر)( Early Islamic Mysticism) يقول فيه، نقلا عن الإمام الصادق علیه السلام : «كان الله ولا شيء، فخلق خمسة من نور عظمته ومنح كل واحد منهم اسما من أسمائه، فهو المحمود ولذلك دعا رسوله محمدا، وهو العلي فدعا أمير المؤمنين عليا، وهو فاطر السماوات والأرض فاشتق منه اسم فاطمة، وله الأسماء الحسنی فاشتق من ذلك اسمين للحسن

ص: 75

والحسين ثم وضعهم عن يمين العرش»(1)

إذن، فهذه الأنوار التي خلقها الله من (نور عظمته) لابد وأن ترجع إلى ذلك النور الذي اشتقت منه، وقد اختار الجميع أن يكون القتل في سبيله هو أقصر الطرق للعروج إليه ومن ثم للالتحاق به في عليائه من جديد.

وبالطبع، فإن المفكر والباحث (سیلز) ليس بالمفكر الوحيد الذي ذكر أحاديث هامة كهذا الحديث الذي ذكرناه منذ قليل، بل هناك العديد منهم ممن ذكر الكثير من تلك الأحاديث المشابهة له في القيمة وفي المعنى.

وبطبيعة الحال، لا يمكننا أن نستعرض أو أن نذكر كل الأحاديث التي وردت في كتابات ومؤلفات المفكرين المعاصرين، فالوقت والمكان لا يسمحان لنا بذلك الإسهاب والإطالة، كما أننا لا نريد أن نخرج كثيرا عن جوهر موضوعنا المطروح بين يدينا الآن.

ولكن يكفي أن أذكر هنا أن الإمام الحسين عليه السلام الذي نشأ وتربى في بيت النبوة، وكانت أمه الزهراء عليها السلام تغذیه بالإيمان مثلما تغذيه بالطعام، كان موقفه في كربلاء عبارة عن ثمرة من ثمار تلك التربية الفاطمية التي قادت الحسين عليه السلام إلى أن يهز العالم بثورته مثلما كانت هي علیها السلام ان تغذیه و تربیه و تهز له مهده في طفولته.

ولذلك فمن غير المستغرب أن يعتبر المفكر الغربي (کریستیان فون دیسین)

( C.V. Dehesen ) في كتابه (فلاسفة وقادة دينيون) ( Philosophers and Religious leaders) أن السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام هي إحدى القائدات البارزات في التاريخ، وقد لعبت دورا بارزا في الدفاع عن حقوق رسالة أبيها وحقوق الأئمة من

ص: 76


1- Michael Antony Sells, Early Islamic Mysticismn, Paulist Press P.77 + 78.

أبنائها(1)

إذن، فالتربية الإيمانية التي تلقاها الإمام الحسين عليه السلام في طفولته من أمه السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام لم تكن مجرد تربية عادية روتينية من أم تقوم بواجباتها البيتية فقط، بل كانت تربية استثنائية من إحدى النساء البارزات والنادرات في تاريخ الإنسانية، فكل شيء كان استثنائيا الأم، الابن، التربية، وحتى زمن الثورة كان استثنائيا أيضا.

وهنا نقول، وبكل ثقة، إن الزهراء عليها السلام التي ربت الحسين عليه السلام وعلمته وهزت له سريره بيمينها، استطاعت لاحقا، ومن خلال ثورة ابنها في كربلاء، أن تهزضمير العالم بإيمانها.

فالتربية الإيمانية الصافية التي نشأ الحسين عليه السلام عليها جعلته يوازن في نفسه بين الرغبة في البقاء، وبين الواجب في الخروج لمواجهة الموت في عقر داره، فرأى أن طريق الواجب هو الأرجح في ميزان الإيمان، وهو الأرضى عند الله سبحانه وتعالی.

خرج الحسين عليه السلام وهو يدرك أنهم قلة المؤمنون بقضيته ومبادئه، ومع ذلك فقد خرج لأنه مؤمن أن القلة المؤمنة التي تجاهد في سبيل الله وفي سبيل إنعاش رسالته الأخيرة من جديد، ستتغلب بإيمانها على الكثرة الباغية، وأن صوت الحق سیبقی هو الأقوى والأعلى من جعجعة الباطل طالما أن هناك من سيستجيب لذلك الصوت ويلبي النداء في سبيل إبقاء شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حية باقية ما بقي الليل والنهار.

وقد صدق الأديب والعلامة الأزهري (عبد الله العلايلي) عندما قال موجزا كلامه

ص: 77


1- Christian Von Dehesen, Philosophers and Religious leaders, Greenwood, P.64.

عن فلسفة الإيمان عند الإمام الحسين علیه السلام : «رسم الحسين عليه السلام خطته في كلمات خالدات، ستدور مع الفلك ثم تنتشر فيه لتبقى خطة الأبطال المخلصين:

«هيهات منا الذلة، يأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وحجور طابت وبطون

طهرت، وأنوف حمية ونفوس أبية...

ألا ترون أن الحق لا يعمل به، والباطل لا يتناهی عنه، فلا أرى الموت إلا سعادة

والحياة مع الظالمين إلا برما» ...

فسلام عليه يوم يموت ويوم يبعث حيا»(1)

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يلخص خطته الثورية وفلسفته الإيمانية بكلمات قصيرة ومعبرة، وسيكون لتلك الكلمات أبلغ الأثر في خلق أجيال ثورية ترفض كل أشكال الباطل والفساد، ولا تقبل أي نوع من أنواع المساومات على القيم والمبادئ التي دعت إليها شريعة آخر رسالة أهدتها الماء إلى أهل الأرض.

نعم، إن الإمام الحسين عليه السلام يقول: «هيهات منا الذلة»، ويريد لكل المؤمنين من بعده أن تكون هذه العبارة منهجا حياتيا متكاملا لهم، وشعارا يأخذون به عند أي موقف يتطلب منهم الوقوف إلى جانب الحق ونصرته ولو كلفهم ذلك الموقف بذل كل غال ورخيص.

فالله العزيز الحكيم يقول في محكم تنزيله: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ

ص: 78


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص350.

وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»(1)، فالمعاني الإيمانية لهذه الآية القرآنية الكريمة تتضمن معنی قول الإمام الحسين عليه السلام «هيهات منا الذلة»، ولذلك لأن المؤمن لا يقبل أن يعيش حالة الذل أمام الطرف الآخر، ولا يقبل أيضا أن يبيع نفسه وروحه وماله وكل غال وعزيز يملكه إلا لله فقط، فكل ما في وجودنا عبارة عن ودائع لله عندنا، ولذلك فعلى المؤمن منا أن يعيد الودائع إلى صاحبها الذي استودعه إياها، وإلا فإنه يوم العرض والحساب لن يكون عزيزا ولا وجيها.

وعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام «هيهات منا الذلة»، فهي صرخة الحق التي تؤكد فلسفته الإيمانية المبنية على القواعد الإلهية والأسس الرسالية، إنها تلك الفلسفة التي جعلته يطرح مبادئه ويعلن نهجه أمام أعدائه بكل وضوح قائلا دون خوف أو وجل:

«لا والله لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد، عباد الله! إني عذت بربي وربكم أن ترجمون، أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب »(2)

فعبارة (لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر إقرار العبيد) هي عنوان النهج الحسيني على دروب الإيمان، وهي روح العزة التي حدثنا الله سبحانه وتعالى عنها في قرآنه الكريم، وبين لنا أن تلك العزة تليق فقط بمن ذكرتهم الآية الكريمة «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ »(3) في حين أن يزيد الفاسق لا يليق به إلا قوله تعالى:

ص: 79


1- سورة التوبة: الآية 111
2- أ. محمد رضا، الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، مصدر سابق ص136. ب. عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدأ، مصدر سابق ص255. ج. عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص100. د. أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص144
3- سورة المنافقون: الآية 8

أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ»(1)، وشتان ما بين العزتين !!

فالإمام الحسين عليه السلام يقول: «أعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب»، أما يزيد، فتروي عنه كتب التاريخ أنه جلس ذات يوم على مائدة شرابه وعن يمينه ابن زیاد، وذلك بعد مقتل الحسين عليه السلام ، فأقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربة تروي مشاشي *** ثم صل فاسق مثلها ابن زیاد

صاحب السر والأمانة عندي *** ولتسدید مغنمي وجهادي(2)

فالحسين عليه السلام يتحصن بالله ويلوذ به، ولا يرنو بعينيه إلا إلى السماء، أما يزيد فلا يتحصن ولا يلوذ إلا برجس الكأس، ولا يؤمن إلا بالعدم ما بعد الوجود.

وها هو يؤكد على ذلك بقوله بين لفيف من أصحابه وخلانه:

أقول لصحب ضمت الكأس شملهم *** وداعي صبابات الهوى يترنم

خذوا بنصيب من نعيم ولذة *** فكل، وإن طال المدى، يتصرم(3)

فالحسين عليه السلام كان ينظر ویری بلا حجاب،أما يزيد فكان ينظر ولكنه لم يكن يرى وذلك لأن البصيرة عنده قد طمست تماما وأعمتها الحجب الكثيفة والآثام العظيمة، فلم تعد ترى شيئا في الوجود غیر ذاتها، وكأن الوجود بأكمله قد تقزم و تحول إلى مجرد كلمة (أنا) بكل ما فيها من أنانية ومركزية ومعان فوقية متضخمة تدل على انتفاخ الذات وشعورها بأنها هي مركز الوجود وغايته القصوى مما يستدعي عدم الإذعان لله بالعبودية وعدم الإيمان باليوم الذي تجزي فيه كل نفس ما كسبت في دنياها

من فعائل تستحق عليها ثوابا أو عقابا .

ص: 80


1- سورة البقرة: الآية 206
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص342
3- نفس المصدر السابق ص345.

وليست (الأنا) هي الحجاب الوحيد، فهناك حجاب الجهل وحجاب السلطة وحجاب الشهوة وحجاب المادة، وهناك حجب عديدة أخرى تجذب الإنسان للأسفل بعيدا عن عالم الكشف والصفاء.

ومن الوارد أن يقع الإنسان فريسة لأحد هذه الحجب المذكورة، ولكن من المستغرب أن تجتمع كل هذه الحجب الكثيفة في شخص واحد، غير أن يزيد قد أزال حاجز الغرابة بسوء منبته وبقبيح أفعاله وبعظیم آثامه، فلم يعد غريبا أن تجتمع فيه كل تلك الحجب دفعة واحدة لتجعل منه دليلا إلى سقر وبئس المصير، ولتحيله إلى النموذج الأكمل للأبالسة والشياطين.

ولا أريد أن أستفيض كثيرا في الحديث عن هذه النقطة، ولكن لابأس في أن أذكر قصة قصيرة جدا من تراث الفكر الصوفي الهندي القديم، وهي قصة رمزية تبين لنا ما يمكن أن يفعله أي حجاب من حجب الغفلة بنا.

تقول القصة إن أحد الأثرياء البخلاء والمغرورين زار واحدا من متصوفة الهند وفلاسفتها، فأراد ذلك المتصوف الفيلسوف أن يبين لضيفه بعض عيوبه ولكن بطريقة عملية مهذبة ...

فأمسكه الفيلسوف من ذراعه وقاده إلى نافذة الغرفة التي كانا يجلسان فيها، وقال

له بأدب:

- انظر، ماذا ترى؟

فأجاب الرجل: أرى أناسا في الطرقات.

ثم قاده الفيلسوف بعد ذلك إلى مرآۃ معلقة على الحائط، وقال له:

- انظر ماذا تري الآن؟!

ص: 81

فقال الرجل الضيف: أرى نفسي.

وهنا قال الفيلسوف المتصوف: أتدري ما الفارق بين زجاج النافذة وزجاج المرآة؟! لا فارق سوى أن زجاج المرأة قد صقل بغشاء رقيق من (الفضة) فلم يعد يرى المرء فيه غير (أنانيته)، فإياك وغشاء المادة فإنه يطمس البصيرة(1)

فإذا كان غشاء المادة فقط قادرا على أن يطمس البصيرة، فما هو حال يزيد الذي كان على قلبه ما لا يعد من حجب وأغشية؟!

ولذلك، نعود ونؤكد من جديد على أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن ليسمح بوجود أي غشاء أو حجاب يحول بينه وبين ربه، بل لم يكن ليأذن لأي متاع من متاع الدنيا و علائقها أن يقف عائقا بينه وبين الالتحاق بالملأ الأعلى ليشاهد ما لا يخطر على قلب بشر وما لا تحيط به العبارات والفكر، ولذلك كان من الطبيعي تماما أن يقدم الحسين عليه السلام ما قدمه من أجل الوصول إلى غايته السامية التي نذر حياته فدية لها.

وبالفعل، فإن الإمام الحسين عليه السلام عندما قال قولته الشهيرة: «فإني لا أری الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما»(2)، فإنما كان يشير إلى أنه قد عقد العزم بالفعل على الالتحاق بجده وأبيه، وأمه وأخيه (عليهم السلام جميعا)، فالقتل لهم عادة، وكرامتهم من الله الشهادة.

ص: 82


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص384
2- إنها مقولة شهيرة للإمام الحسين عليه السلام وقد وردت في الكثير من المراجع المعاصرة لكتاب مسلمين ومسيحيين، نذكر منهم على سبيل المثال فقط، لا الحصر: أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص 131. ب. بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 261.

وللإمام الحسين عليه السلام - كما رأينا - فلسفة خاصة عن الموت، فهو القائل: «موت في عز خير من حياتي في ذل»(1)، وهو القائل أيضا لمن خوفه بالموت إذا خرج إلى کربلاء: «أفبالموت تخوفني؟! هيهات، طاش سهمك وخاب ظنك»(2)

وهذا الموقف الحسيني من الموت يذكرنا بالموقف العلوي منه أيضا، وذلك عندما استبطأ بعض المقاتلين في جيش الإمام علي عليه السلام الإذن من الإمام علي علیه السلام لهم لبدء القتال في صفين وقد ظنوا أن عدم الإذن لهم بالقتال ناتج عن كراهة علي عليه السلام للموت، فأجابهم عندئذ قائلا:

«أما قولكم: أکل ذلك كراهية الموت، فوالله ما أبالي أدخلت إلى الموت أو خرج

الموت إلي»(3).

إنه نفس الموقف من الموت تماما، إنه الموقف الواحد الموحد المبني على فكرة

الإمام علي عليه السلام القائلة إن الحياة هي أن نموت قاهرين، وإن الموت هو أن نعيش مقهورين.

إنها مدرسة الإمام علي عليه السلام في طلب الشهادة، بل هي أيضا مدرسة الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي علم الناس قائلا: «ما من أحد يدخل الجنة يسره أن يرجع إلى الدنيا إلا الشهيد، فإنه يحب أن يرجع ليقتل مرة أخرى»(4)

فالإمام الحسين عليه السلام الذي تخرج من مدرسة جده صلی الله علیه و آله وسلم و أبيه عليه السلام قد وطن

ص: 83


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص83
2- نفس المصدر السابق ص83
3- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة (شرح محمدعبده)، مصدر سابق ج1 ص100.
4- محمد عبد الرحيم، أربعون حديثا في فضل الشهيد والشهادة، طبع الحكمة . دمشق، 1995،ص84

النفس على ربط المعلومات التي تلقاها في تلك المدرسة بأرض الواقع، فالواقع الذي عاشه الإمام الحسين عليه السلام هیاه كي يترجم تلك التعاليم النبويةوالعلوية إلى أفعال عملية تأخذ سبيلها على أرض الواقع، ولذلك فإن الإمام الحسين عليه السلام لم يرف له جفن أمام الموت المحدق به وبأهل بيته علیهم السلام، بل على العكس من ذلك، فقد كان ثابت الجنان، رابط الجأش، قوي العزيمة على الرغم من معرفته الكاملة بما ينتظرهم على صدر تلك الرمال الحارقة في المستقبل القريب.

وها هو عليه السلام يخاطب أصحابه وأهله بكل هدوء وطمأنينة مخبرا إياهم بما ينتظرهم جميعا في الغد الرهيب: «إني غدا أقتل وكلكم تقتلون معي ولا يبقى منكم أحد، حتى القاسم وعبد الله الرضيع، إلا ولدي عليا زين العابدين لأن الله لم يقطع تسلي منه وهو أبو أئمة ثمانية»(1)، فرفع الجميع أصواتهم شاکرین الله مجددا لأنه كرمهم بنصرته وشرفهم بالقتال معه والموت بين يديه دفاعا عنه وعن رسالة جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم

وفي سبيل التأكيد على هذه الحقائق، نقول إن إيمان الحسين عليه السلام العميق برسالة الإسلام السماوي، وبإنسانيةمبادئه وتعاليمه هو الذي خلق بداخله أحد الأسباب الهامة لإعلان ثورته على الحكم الأموي الجائر الذي كان يهدف أولا وأخيرا إلى تفريغ الإسلام من محتواه الروحي والإنساني.

وقد ذكرت (الموسوعة البريطانية) (Encyclopaedia Britannica) کلاما واضحا حول هذه المسألة، واعتبرت أن أحد أهم أهداف الإمام الحسين عليه السلام هو العودة بالإسلام إلى منهاجه الرسالي الصحيح، وقد جاء في تلك الموسوعة البريطانية

ص: 84


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص 255

حرفيا: (الظاهر أن ما التزمه (الحسين) من أفعال قد ألهمتها إيديولوجيا محددة وهي إرساء نظام يجدد الحكم الإسلامي (الحقيقي) في وجه الحكم الأموي الذي كان يعتبر جائرا)(1)

وبما أننا قد أوردنا شيئا يسيرا مما جاء في (الموسوعة البريطانية) عن الإمام الحسين عليه السلام ، دعونا نتوقف هنا قليلا مع بعض الأدباء والمفكرين الإنكليز الذين تحدثوا عن واقعة كربلاء عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي قاد تلك الملحمة الإيمانية الخالدة.

ودعونا نبدأ أولا مع الأديب الإنكليزي الكبير (تشارلز دیکنز) ( Charles Dickens)

(1812 -1870 )الذي أغنى الأدب العالمي بعشرات الروايات الخالدة مثل (أوليفر تويست)، (دافيد كوبر فيلد)، (قصة مدينتين)، (الآمال الكبيرة)... هذا بالإضافة إلى العديد من الروايات الاجتماعية الواقعية الأخرى التي تلامس جوانب الحياة بحلاوتها ومرارتها، وما من ناقد كتب عنه إلا واعتبره أشهر روائي إنكليزي في القرن التاسع عشر(2)

ويرى أيضا بعض الأدباء والنقاد أن الكثير من العبارات والاصطلاحات التي

ابتكرها (دیکنز) في رواياته قد أصبحت جزءا من اللغة الإنكليزية المتداولة يوميا(3).

إذن، فإن (دیکنز) علم بارز من أعلام الأدب الإنكليزي، الذين تجاوزوا

ص: 85


1- Encyclopaedia Britannica, CD - Rom. 2005.
2- ليليان هيرلاندز (وآخرون)، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ترجمة: محمد الجورا، دار الحقائق . بيروت، دمشق، ط1986/1 ، ص155
3- ل. دوغارد بيتش، تشارلز ديكنز، ترجمة: رجا حوراني، مكتبة لبنان . بيروت، ط 1974/1 ص50

بمؤلفاتهم الأدبية حدود وطنهم وقوميتهم ليحققوا شهرة عالمية ذائعة الصيت.

وقد يفاجأ القارئ إذا قلنا له إن لهذا الأديب العالمي موقفا متميزا من حركة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكن، ومن أجل الإبقاء على عنصر المفاجأة في الحديث، دعونا ننقل ما جاء عن الأديب (دیکنز) حول الحركة الحسينية المباركة التي ألهبت الضمير العالمي على مر العصور.

يقول (دیکنز): (لو كان الحسين يحارب لإرضاء رغباته الدنيوية، ما کنت لأفهم السبب في اصطحابه أخواته ونسائه وأطفاله معا، ولهذا، فإن الذي يقبله العقل هو أن تضحيته كانت خالصة للإسلام)(1)

ولا يختلف رأي الباحث والمؤرخ الإنكليزي (برسي سایکس) عن رأي الأديب( دیکنز) بشأن عظمة الإمام الحسين عليه السلام وسمو حركته الثورية، وها هو يبدي إعجابه الشديد بما قدمه الحسين عليه السلام في كربلاء قائلا:

(إن الإمام الحسين وعصبته القليلة المؤمنة عزموا على الكفاح حتى الموت، وقاتلوا ببطولة وبسالة ظلت تتحدى إعجابنا وإكبارنا عبر القرون حتى يومنا هذا)(2)

وعلى الرغم من أن كتابنا هذا الذي هو بين أيادينا الآن يتناول شخصية الإمام الحسين عليه السلام وأهمية ثورته في كربلاء من وجهات نظر عالمية حديثة، إلا أننا نجد أنفسنا مضطرين أحيانا للعودة إلى الوراء قليلا للاستشهاد ببعض الأقوال والعبارات الهامة التي قيلت من قبل أشخاص لهم مكانتهم المتميزة في ميدان الفكر والأدب

ص: 86


1- راجع موقع: http: H//en. Wikipedia. Org/wiki/ Husayn – ibn - Ali
2- راجع نشرة (أجوبة المسائل الشرعية) المطابقة لفتاوى المرجع آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، العدد /122/ السنة /16/ إصدار مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية . عدد محرم الحرام، 1429. 2008م، ص9.

وذلك للتأكيد على أن أقوال أولئك المفكرين والأدباء السابقين تتفق في جوهرها مع أقوال ووجهات نظر المفكرين والأدباء المعاصرين في ما يتعلق بتحليل الأحداث وتقييم المواقف ودراسة الشخصيات التي لعبت دورا بارزا على مسرح الفاجعة في کربلاء.

وعلى سبيل المثال، فالمؤرخ الإنكليزي البارز (إدوارد غیبون) ( Edward Gibbon)،

(1737 - 1794 )وهو أعظم المؤرخين الإنكليز في عصره، كان له رأيه الخاص بأحداث الفاجعة وبالآثار السياسية والروحية والنفسية التي نتجت عنها، وإننا سنذكر - بلا شك - في الفصل الأخير من هذا الكتاب الآثار العامة التي خلفتها أحداث کربلاء على كافة المستويات، وسنذكر أيضا وجهة نظر المؤرخ (غيبون) حول الآثار السياسية لحادثة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام فيها، غير أننا الآن سنكتفي بما قاله ذلك المؤرخ الإنكليزي عن البعد النفسي الذي يمكن أن تخلفه قراءة أحداث تلك الفاجعة في النفوس على مختلف مستوياتها.

يقول (غيبون): (إن مأساة الحسين المروعة على الرغم من تقادم عهدها، فإنها

تثير العاطفة وتهز التنفس عند اضعف الناس إحساسا وأقساهم قلبا)(1)

نعم، إن ما حدث في كربلاء في شهر محرم الحرام لا يزال يهز نفوس الناس ويوقظ الأحاسيس من رقدتها ويطلق العواطف والمشاعر من سلاسلها، فالدم الحسيني كان ولا يزال قادرا على تطهير النفوس وغسل القلوب وتنقية المشاعر والأحاسيس حتى عند أقسى الناس قلوبا وأعتاهم نفوسا وأصلبهم مشاعرا

ولكننا نقول، وبكل جرأة، إن الدم الحسيني الذي هز عروش بني أمية وأسقطها

ص: 87


1- نفس المصدر السابق ص9

قد عجز عن هز شيء آخر يبدو أكثر بساطة وأقل قوة من صلابة تلك العروش.

وإننا لا نجد أي حرج في هذا القول أبدا، بل على العكس من ذلك تماما، فإننا نقولها ونعلنها ثانية: إن دم الإمام الحسين عليه السلام الذي هز عروش وقصور بني أمية قد أخفق في هز ضمائر الأمويين وفي إيقاظ أحاسيسهم التي قام يزيد، ومن قبله أبوه معاوية، بأخذها في رحلة سبات طويلة لا تعرف النهاية.

ومن بداهة القول هنا إن الخلل لم يكن في قوة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ولا في عظمة التضحيات الغالية التي قدمها على مذبح العشق الإلهي، ولكن الخلل كان في تلك التركيبة النفسية الشاذة التي جبل عليها الأمويون وأتباعهم من عبدة الدنيا والدرهم والدينار.

فالمأساة الرهيبة التي عاشها الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام، بالإضافة إلى أصحابه الكرام، شغلت الضمير العالمي على امتداد ألف وأربعمائة عام تقريبا، ولا تزال تلك المأساة الأليمة تلهب مشاعر وأحاسيس المفكرين والأدباء الأحرار في شتى أصقاع العالم على مختلف مشاربهم الدينية وتياراتهم الفكرية والفلسفية.

وبما أننا كنا نتحدث منذ قليل عما ورد في (الموسوعة البريطانية) عن ثورة الإمام الحسين عليه السلام وعن عمق إيمانه وسمو غاياته وأهدافه، وبما أننا كنا نتحدث أيضا عن بعض وجهات نظر عدد من الأدباء والمفكرين الإنكليز الذين درسوا وحللوا دوافع الثورة وأهدافها ونتائجها، لذا يمكنناالآن أن نستمر في إيراد المزيد من الشواهد الهامة للعديد من المفكرين الكبار الذين أسهموا في رفد الثقافة بالعديد من المؤلفات والكتابات التي أغنت الفكر العالمي الحديث.

ففي عام (1943) كتب عالم الآثار الإنكليزي الشهير المستر (سیتون لويد) في

ص: 88

كتابه الموجز عن تاريخ العراق من أقدم العصور إلى العام المذكور، والذي نشر تحت عنوان (الرافدان)، ما يلي: «حدثت في كربلاء فظائع ومآس صارت فيما بعد أساسا لحزن عميق في اليوم العاشر من شهر محرم من كل عام، فقد أحاط الأعداء في المعركة بالحسين وأتباعه، وكان بوسع الحسين أن يعود إلى المدينة لو لم يدفعه إيمانه الشديد بقضيته إلى الصمود.

ففي الليلة التي سبقت المعركة بلغ الأمر بأصحابه القلائل حدا مؤلما، فأتوا بقصب و حطب إلى مكان من ورائهم، فحضروه في ساعة من الليل وجعلوه كالخندق ثم ألقوا فيه ذلك الحطب والقصب وأضرموا فيه النار لئلا يهاجموا من الخلف، وفي صباح اليوم التالي قاد الحسين أصحابه إلى الموت، وهو يمسك بيده سيفا وباليد الأخرى القرآن، فما كان من رجال يزيد إلا أن وقفوا بعيدا، وصوبوا نبالهم فأمطروهم بها... فسقطوا الواحد بعد الآخر، ولم يبق غير الحسين وحده، واشترك ثلاثة وثلاثون من رجال بني أمية بضربة سيف أو سهم في قتله، ووطأ أعداؤه جسده وقطعوا رأسه»(1)

وبناء على ما جاء في قول الباحث الآثاري الأستاذ (لوید)، نرى أن إيمان الإمام الحسين عليه السلام بقضيته وشعوره بأنه هو المسؤول وقتذاك عن حفظ القرآن وحفظ معالم الإسلام هو الذي دفعه إلى الصمود وإلى الثبات على مواقفه في مواجهة جحافل الظلام الأموية التي جاءت بقوة السلاح لتجعل من الإسلام رسما دارسا ومن القرآن نسيا منسيا.

ص: 89


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مجلة (الثقافة الإسلامية)، العدد /50/، مصدر سابق ص49

ألا يذكرنا هذان الموقفان من الإمام الحسين عليه السلام ومن يزيد، من خلال الاختلاف الكبير بينهما، بقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله الكريم: «الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا»(1)؟!

نعم، إن هذين الموقفين المتضادين بين الحسين عليه السلام ويزيد يذكراننا بالآية الكريمة التي ذكرناها للتو والتي تدور حول فكرة الصراع بين رجال الله وبين أتباع الطاغوت، وإن مضمون تلك الآية الكريمة هو نفس مضمون الآية الكريمة التالية التي تقول: «يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2)، ولا أعتقد، شخصيا، أن هنالك آية قرآنية أخرى أوضح وأقوى منها في تصوير حالة الصراع المرير بين قوى الخير وقوى الشر، والتي يمثل الصراع بين الحسين عليه السلام ويزيد أحد أهم تلك الصراعات على مر العصور.

ولا ريب في أن الباحثة الإنكليزية (جرترود بل) (Gertrude Bell)

( 1868 - 1926 ) والتي عاشت فترة طويلة في بغداد وماتت فيها أيضا، قد أصابت عندها قالت عن واقعة كربلاء:

(لقد أصبحت کربلاء مسرحا للمأساة الأليمة التي أسفرت عن مصرع الحسين)(3)

فقد تحولت أرض كربلاء إلى خشبة مسرح تراجيدي يمثل مأساة الإنسان على الأرض، وقد تحولت تلك الرمال الحارقة المستلقية بصمت على ضفاف الفرات إلى

ص: 90


1- سورة النساء: الآية 76
2- سورة التوبة: الآية 32
3- نفس المصدر السابق ص48.

مسرح يصور مصائب ومحن الأنبياء والأولياء الذين لم تكن لهم ذنوب أو خطايا إلا محاولاتهم الجادة والصادقة في إحلال أسس الحق والعدل والفضيلة بين صفوف الناس.

ولا أريد أن أستفيض كثيرا في ذكر كل المتفکرین والأدباء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وعن معاناته في سبيل إيمانه القوي بمبادئه وأهدافه التي كافح من أجلها، فالمجال والوقت لا يسمحان لنا بذلك الآن، ولكن سنذكر كل شيء في مكانه المناسب في الفصول والصفحات المتبقية من هذا الكتاب بعون الله ومشيئته.

وعلى كل حال، فإن معظم المفكرين الذين أدلوا بدلائهم في تحليل ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، سواء كانوا مسلمين أم غير مسلمين، قد أدركوا وأكدوا أن تلك الثورة كانت مبنية على الوعي والإيمان الكاملين بضرورة حدوثها سواء عنده علیه السلام أو عند أهله وأصحابه الميامين، وقد أكدوا أيضا على أنه لا يمكن لمثل تلك الثورة أن يقال عنها بأنها وليدة الاندفاع النفسي أو التوتر العاطفي أبدا.

فلا أحد يشك في أن الإمام الحسين عليه السلام قد اختار هو وأهل بيته علیهم السلام طريق الشهادة كي تكون هي المنطلق لإعادة إحياء دین جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، فمنذ بداية الحركة وظهور مخاضها الأول يقول الحسين عليه السلام لمن نهاه عن الخروج إلى كربلاء لمواجهة الأمويين: «إني رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

في المنام وأمرني بما أنا ماض له»(1)، وفي هذا إشارة واضحة إلى أنه سيمضي في طريقه لتحقيق أهدافه مهما كان الثمن غاليا طالما أن الأمر له هو رسول الله ذاته صلی الله علیه و آله وسلم.

وقد عاد الإمام الحسين عليه السلام ليؤكد قوله الأول بخطبة بليغة يبين فيها عمق إيمانه

ص: 91


1- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص192.

بقضاء الله وقدره، ويوضح من خلالها أيضا نظرته إلى الموت وعزمه على ترجمة الإيمان بالله إلى واقع عملي من خلال السير في خط الشهادة.

وها هو عليه السلام يقول في بداية مخاض الثورة: «الحمد لله، وما شاء الله، ولا قوة إلا بالله، وصلى الله على رسوله، ځط الموت على ولد آدم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني إلى أسلافي اشتیاق يعقوب إلى يوسف، وخير لي مصرع أنا ملاقيه، كأني بأوصالي تقطعها عسلان الفلوات بين النواويس و کربلا، فيملأن مني أكراشا جوفا وأجربة سغبا، لا محيض عن يوم خط بالقلم، رضي الله رضانا أهل البيت، نصبر على بلائه ويوفينا أجور الصابرين، لن تشذ عن رسول الله لحمته، بل هي مجموعة له في حظيرة القدس تقر بهم عينه وينجز بهم وعده، ألا فمن كان باذلا فينا مهجته وموطنا على لقاء الله نفسه فليرحل معنا، فإنني راحل مصبحا إن شاء الله تعالی»(1)

وبما أن الحسين هو ابن علي وفاطمة عليهما السلام ، وهو أيضا ابن محمد صلی الله علیه و آله وسلم ووليد الرسالة السماوية، فقد كان قلبه صفحة نقية من صفحات تلك الرسالة الإنسانية السامية، وكانت سيرته ترجمة حية لكل منطلقاتها وتصوراتها، الأمر الذي جعل منه أول ملب لنداء تلك الرسالة الجريحة في عصره الكئيب.

وكان ثمن تلبية النداء رؤوسا نبوية مقطعة وأجسادا طاهرة ممزقة، ولكن كل هذا لا يهم بالنسبة للإمام الحسين عليه السلام، فالرسالة الإسلامية شجرة مباركة غرسها الله سبحانه وتعالی - عن طريق نبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم - في أرضه، ولا بد لتلك الشجرة الصغيرة المغروسة حديثا من رعايةوعناية وسقاية حتى تستكمل نموها وتؤتي ثمرها، فكان لها الحسين عليه السلام وكانت لأجلها كربلاء.

ص: 92


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص099

وقد أجاد وأصاب الباحث والعالم الأزهري (خالد محمد خالد) في كتابه القيم (أبناء الرسول في كربلاء) عندما قال: (إن أعظم ما صنع الحسين وأهله وصحبه في ذلك اليوم هو أنهم جعلوا الحق قيمة ذاته ومثوبة نفسه، فلم يعد النصر (مزية) له.. ولم تعد الهزيمة (إزراء) به ..)(1)

أما عن الثمن المدفوع من قبل الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام مقابل بقاء تلك

الشجرة حية، وارفة الظلال، طيبة الغلال، فيقول الأستاذ (خالد) متابعا كلامه:

(إن الأقدار لم تدع رؤوس أبناء الرسول تحمل على أسنة رماح قاتليهم إلا لتكون مشاعل على طريق الأبد، للمسلمين خاصة، وللبشرية الراشدة كافة، يتعلمون في ضوئها الباهر أن الحق وحده هو المقدس... وأن التضحية وحدها هي الشرف... وأن الولاء المطلق للحق، والتضحية العادلة في سبيله هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان وللحياة قيمة و معنى)(2)

فما هو القصد من قول الأستاذ (خالد): (الولاء المطلق للحق والتضحية العادلة

في سبيله هما وحدهما اللذان يجعلان للإنسان قيمة ومعنى)؟!

فالمقصود من ذلك، وبكل بساطة ووضوح، أن الحياة حركة وأن الموت سکون،

ويصدق هذا الكلام على الناس العاديين فقط، أما بالنسبة للعظماء، فإن الوضع يختلف تماما، فموت الإنسان العظيم لا يمكن أن يكون سكونا ولا ثباتا ولا همودا، بل هو في حقيقته عبارة عن حركة مختزنة كامنة خرجت من حالة الكمون إلى حالة الفعل والحركة، إنه حياة ثانية تنتشر في الوسط المحيط بروح جديدة.

ص: 93


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص8.
2- نفس المصدر السابق ص9

فالحياة بحد ذاتها حركة تتمحور حول ذات الشخص الحي، فإذا مات ذلك الشخص وكان عظيما، فإن سكونه (موته) يتحول من حالة السكون إلى حالة الحركة، وذلك لأن حياته كإنسان عظیم تكون قد خرجت عن إطارها الشخصي وأصبحت ملكا حيا وأثرا حيويا في مجتمعه وبين أتباعه ومعتنقي مبادئه وآرائه.

ولذلك، وكما رأينا سابقا عند بعض المفكرين، فإن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن مجرد شهيد في كربلاء، بل كان شهيدا وشاهدا بنفس الوقت، فقد كان شهيدا من أجل الإيمان، وشاهدا على القوم باسم الحق.

وعلى ما يبدو، فإن المفكر الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) الذي أغنى المكتبات العالمية بالعديد من مؤلفاته السياسية والفكرية، والتي يتمحور قسم منها حول الرسالة الإسلامية، يبدو أنه يتفق معنا حول حقيقة إيمان واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في موقعة كربلاء

فقد علق المفكر (غارودي) على الآية القرآنية الكريمة: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1)، بالقول عنها في كتابه (الإسلام دين المستقبل): (... إن نموذج هذا الشهيد جسده لدى المسلمين استشهاد الحسين حفيد النبي الذي استشهد في معركة كربلاء في عام / 680 میلادی /، إن للشهيد هنا معنی آخر غير الهزيمة أو الموت لأنه شاهد باسم الحق والإيمان، إنه في نفسه مساهمة في نصر هذا الحق وهذا الإيمان)(2)

إذن، الموت ليس نهاية الحياة، بل هو وجه جديد من وجوه الحياة، وإن الشهادة

ص: 94


1- سورة آل عمران: الآية 169.
2- روجيه غارودي، الإسلام دين المستقبل، مصدر سابق ص48.

في سبيل الحق هي خير تلك الوجوه وأنبلها وأسماها، ورب امرئ قد يرتفع بموته إلى مستوى لم يستطع أن يصل إليه في حياته، وقد يكون الموت أحيانا خير رسول لحمل الرسائل و تبليغ المبادئ ومن ثم الوصول إلى الغايات والأهداف النبيلة.

فها هو الحكيم والفيلسوف الإغريقي (سقراط)، الذي اختار طريق الموت الإثبات مبادئه وجملة تعاليمه أمام ظالميه من الطغاة والجاهلين، يقول قبل موته بوقت قصير مخاطبا أتباعه المخلصين ومبينا لهم أن الموت بشرف خير من الهروب من المبادئ ولو كان الهروب يحمل معه النجاة بالحياة.

ولنستمع الآن وهو يقول: (إذا أردنا تطهير أرواحنا فينبغي إبعاد أجسادنا عن كل ما يثقلها من الطمع في المال والإقبال على اللذة، وأرجو أن يكون معلوما أن الموت عندما يحضر الإنسان فحينئذ يموت منه الجزء الفاني، لكن الجزء الخالد وهو الروح فإنه ينسحب عند اقتراب الموت وينجو سليما من كل أذى ويكون غير قابل للهلاك.

وهناك نقطة أخرى أيها الأصدقاء وهي تستحق عنایتكم واهتمامكم، فإذا كانت الروح خالدة وجب الاهتمام بها وإن الخطر كل الخطر في إهمالها، وليس للروح مأمن من الشر إلا أن تصبح خيرة وحكيمة إلى أبعد حد تستطيعه)(1)

هذه هي باختصار شديد فلسفة الموت والإيمان بالمبادئ عند الفيلسوف الإغريقي سقراط الذي شغل موته، ولا يزال، الكثير من المفكرين والباحثين والأدباء لدرجة أن بعضهم قد اعتبر موته وصمة عار لا تمحى عن جبين مدينته (أثينا) التي حکمت عليه بالموت ظلما وعدوانا وأن موته أيضا لم يكن مجرد (استشهاد) في سبيل الخير والحق والفضيلة أمام الأثينيين من أبناء مدينته، بل كان موته يمثل بحد ذاته

ص: 95


1- الأستاذ علي رضا، محاكمة سقراط، طبع حلب، ط1 ، 1981، ص139

استشهادا عاما قدم فيه نفسه قربانا لتلك المبادئ السامية التي كان يحملها، فأصبح بذلك موته إرثا عالميا عظيما تجاوز في آثاره ومعانيه حدود الزمان و قیود المكان.

وكما أن الكثير من المستشرقين والمفكرين، من غير المسلمين، قد اعتبروا أن النصر الروحي والمعنوي الذي حققه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء لا يعدله ولا يوازيه أي نصر عسكري أحرزه الجيش الأموي، فإن الكثير من الدارسين والباحثين رأوا أيضا أن النصر الذي حققه سقراط على أعدائه من خلال موته المؤسف قد رفعه إلى مرتبة البطل الأسطوري وحوله إلى شهيد للفضيلة والإنسانية وللحرية الفكرية التي ترفع من شأن الإنسان الباحث عن الحق والمدافع عنه بكل ما يملك من قوة وإيمان.

فسقراط الحكيم الذي قال في قاعة المحكمة قبل صدور الحكم عليه: (إنني عندما أخرج من هذه القاعة سأخرج وقد قضيتم علي بعقوبة الموت، ولكن خصومي سيخرجون منها، وقد أدانتهم الحقيقه بالغواية والإفساد والشر)(1)، فإنما يذكرنا هذا القول بأولئك الذين يقارنون على الدوام بین سقراط والحسين من جهة، وبين سقراط وعلي عليه السلام من جهة ثانية، فهؤلاء الثلاثة هم رمز دائم لشهداء الإنسانية على مر الدهور.

فمعظم المهتمين بالقضايا الفكرية والثقافية يعرفون أن المفكر المسيحي المعروف (جورج جرداق) قد کتب موسوعة مؤلفة من خمسة أجزاء تحمل عنوان (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، وقد جعل لكل جزء منها عنوانا خاصا به، وقد أعطى الأستاذ (جرداق) الجزء الثالث من موسوعته المذكورة عنوان (علي وسقراط)

ص: 96


1- نفس المصدر السابق ص7

حيث راح يقارن (جرداق)، بكل ما أوتي من قوة بلاغية وثقافة فكرية، بين هاتيك الشخصيتين العظيمتين على مر التاريخ، وقد حمل ذلك الكتاب في طياته بعض العبارات والإشارات عن المبادئ والقيم التي ورثها علي عليه السلام لأبنائه وأتباعه كي تبقى تلك المبادئ مدرسة حية في نفوس كل الأجيال المتعاقبة من عرب وغير عرب، ومن مسلمين وغير مسلمين.

وبطبيعة الحال، لم يكن الأستاذ (جرداق) هو الأديب والمفكر الوحيد الذي أجرى مقارنات ودراسات من هذا النوع، فهناك أيضا الأديب والشاعر المسيحي اللبناني (جورج شكور) الذي أجرى بدوره عدة مقارنات بين الإمام الحسين عليه السلام وبعض الشخصيات العالمية الهامة، وكان من جملة الشخصيات العالمية الهامة التي ذكرها الأديب الشاعر (شکور) شخصية الفيلسوف الحكيم (سقراط) حيث رأى الأستاذ (شکور) أن إقدام الإمام الحسين عليه السلام على اقتحام جبهات الموت دون أدنى شعور بالخوف أو التردد يذكرنا بنفس الموقف البطولي الذي تبناه سقراط في مواجهة الموت الذي كان يحدق به خلف القضبان.

فالفيلسوف والحكيم اليوناني الزاهد (دیوجینوس) يقول في إحدى حکمه: قد يكون الأسد حبيسا ولكن الحبس لا يجعله عبدا، وهذا الكلام صحيح بلا أدنی ریب.

فلا الحصار الذي فرضه يزيد على الحسين وأهل بيته عليهم السلام، ولا السجن الذي فرضته محكمة أئينا الجائرة على سقراط جعلا منهما عبدين خاضعين لمطالب السلطتين الظالمتين، بل على العكس من ذلك تماما، فقد تحولا إلى أسدين جريحين يدافعان عن عرينيهما بكل ما أوتيا من بأس وقوة وتصميم، فالانتصار في هذه الأحوال ليس إلا انتصار القيم والمبادئ ولو كان الموت نصيب المنتصرين، وليس الانكسار

ص: 97

في هذه الحالة أيضا إلا انكسار قوی الجبروت والطاغوت ولو كانت الحياة في نهاية المعركة إلى جانب تلك القوى الظلامية التي أحرزت نصرا مزيفا يعشش بداخله ذل الانكسار ومرارة الهزيمة.

ولذلك، دعونا نصغي الآن إلى هذه الأبيات الشعرية المعبرة من الأديب والشاعر

(جورج شكور)، فهي أبيات تخدم هذه الفكرة وتلخصها خير تلخيص.

يقول الشاعر في ديوانه (ملحمة الحسين):

یا (کربلا) لديک الخسر منتصر *** والنصر منکسر، والعدل معيار

وفيک قبر غدت تحلو محجته *** يهفو إليه من الأقطار زوار

فأين قبر (یزید)، من يلم به *** غير التراب، وفوق الترب أحجار؟

وبعد ذلك ينتقل الأستاذ (شکور) ليخاطب يوم الحسين عليه السلام بقوله:

ذكرتني كأس سم راح يجرعها *** (سقراط) حرا، ولم تأسره أفكار

في كربلاء سكبت العمر ملحمة *** بالدم خطت، وخطت عنك أسفار(1)

فالإمام الحسين عليه السلام الذي سكب العمر ملحمة أبدية خطت بالدم على أرض کربلاء، قد أعطى البشرية دروسا لا تنسي في الإيمان والبطولة والفداء،ولذلك فقد أصاب الباحث الإنكليزي المعروف (وليم لوفتس) عندما قال في كتابه (الرحلة إلى کلدة وسوسيانة): (لقد قدم الحسين بن علي أبلغ شهادة في تاريخ الإنسانية وارتفع بمأساته إلى مستوى البطولة الفذة)(2)

ص: 98


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، الأبيات المذكورة موجودة في ص 26/24/22
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، الثقافة الإسلامية، عدد /50/ مصدر سابق ص51.

وإذا كان الإمام الحسين عليه السلام قد وصل بشهادته إلى أسمى شهادة في تاريخ الإنسانية وإلى مستوى البطولة الملحمية التي يندر وجودها في تاريخ الأديان والشعوب، فلا ريب في أن للباحثين الذين توصلوا إلى هذه النتيجة رأيا أيضا في المعسكر المناوئ والمعادي للإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وصحبه القلائل الذين خرجوا معه إلى أرض کربلاء.

وفي الواقع، إنني لا أريد أن أستفيض كثيرا في الكلام حول هذه النقطة التي هي في حقيقتها حساسة وهامة، بل وتعتبر جزءا أساسيا من الموضوع المطروح الآن في هذا الفصل من الكتاب، ولكن لابأس في أن أذكر هنا شيئا يسيرا مما جاء حول النتيجة التي توصل إليها الباحثون والمفكرون بشأن الطرف المناوئ للإمام الحسين عليه السلام .

فعلى سبيل المثال، المستشرق الهولندي (رينهارت دوزي) ( Reinhart

Do3y )

(1820-1883 ) واحد من أكبر المستشرقين المعروفين، وله العديد من الكتب عن الإسلام وعن العرب، ومن أشهرها كتابه (الإسلام في إسبانيا)، وقد أمضى هذا المستشرق ثلاثة وثلاثين عاما - وهي أواخر سنين عمره، بروفسورا للتاريخ في جامعة لندن (Leiden) الهولندية.

وكان لهذا المستشرق البارز رأيه الواضح حول علاقة المعسكر المعادي للحسين

عليه السلام بالإسلام.

يقول ذلك المستشرق الهولندي في كتابه المذكور أعلاه عن علاقة جيش يزيد بالإسلام: (لم يتردد (الشمر) لحظة في الإشارة بقتل حفيد الرسول حين أحجم غيره عن هذا المجرم الشنيع ...

ص: 99

وإن كانوا (أفراد الجيش وقادته) مثله في الكفر)(1).

ولا يختلف موقف المستشرق المعروف (موللر) عن موقف (دوزي) أبدا، فهو يرى أن العامل الإيماني كان معدوما تماما عند قادة جيش يزيد الذين كان يوجههم الإخضاع الناس وسفك دمائهم واستباحة أعراضهم، وكان (موللر) يؤكد دائما على أن أولئك القادة كانوا جميعا يحملون بداخلهم عقائد وثنية ثابتة تجعلهم يتقدون غضبا وحقدا على المؤمنين(2)

وعلى الرغم من معاداة المستشرق الألماني (يوليوس فلهاوزن) (1844 - 1918) للإسلام ولرسوله صلی الله علیه و آله وسلم ، وإظهاره الإعجاب بكل من هو منحرف عن تعاليمه وآدابه، إلا أنه لم يستطع أن يخفي حقيقة كفر يزيد وابتعاده الكامل عن الإسلام وقيمه وآدابه معتمدا في ذلك على ما جاء من أخبار موثقة في كتب ومؤلفات المسلمين المتقدمين (3)

وأنا شخصيا، يذكرني هذا الكلام الوارد من المستشرقين بكلام بالغ الأهمية صدر عن الإمام (أحمد بن حنبل)، وهو كلام کنا قد ذكرناه سابقا حول موقف هذا الإمام الذي يمثل أحد أئمة المذاهب الإسلامية السنية الأربعة المعروفة في الشارع الإسلامي.

فالإمام (أحمد بن حنبل) له موقف واضح من یزید بن معاوية ومن أفعاله السوداء الشنيعة بحق الإسلام والمسلمين، ولكن الشيء الذي يجب على كل مسلم أن يعرفه ويدركه جيدا هو أن ذلك الإمام - ابن حنبل - كان يرى ويحض دائما على لعن یزید

ص: 100


1- نفس المصدر السابق ص50
2- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص156.
3- نفس المصدر السابق راجع ص150 + ص165

وعلى البراءة منه ومن أفعاله(1)

وبتقديري الشخصي أيضا، علينا أن لا نستغرب هذا الموقف من الإمام أحمد بن حنبل تجاه يزيد وما قام به بحق المسلمين والإسلام، وبشكل خاص ما قام به بحق الإمام الحسين وبقية أهل بيت النبوة عليهم السلام

فمن الطبيعي تماما أن يهتز ضمير ووجدان الإنسان المسلم تجاه ما اقترفه یزید

من آثام وما ارتكبه من جرائم يندى لها جبين الإنسانية خجلا، ولذلك فإن موقف الإمام ابن حنبل يأتي نتيجة طبيعية لحركة الضمير وتفاعله الوجداني مع القيم الإنسانية التي تنادي بها الرسالة الإسلامية كعنوان عام للتعامل من خلالها مع عموم الناس بلا أي تمييز.

وحتى اليهود أنفسهم، وهم المعروف عنهم أنهم قتلة الأنبياء، قد هزتهم حادثة

کربلاء وأدهشتهم الأحداث الوحشية التي تخللتها، وخاصة في الأيام الأخيرة منها.

وها هو أحد كبار اليهود المنحدرين من نسل النبي داود عليه السلام يعنف المسلمين على فعلتهم الشنيعة ويقول لهم: بيني وبين داود سبعون أبا وإن اليهود تعظمني وتحترمني، وأنتم قتلتم ابن نبيكم!!(2)

وغني عن القول إن هناك العديد من اليهود الذين استنكروا الأحداث الدامية التي مارسها الأمويون على أهل البيت عليهم السلام وعلى أتباعهم ومحبيهم، بل إن البعض منهم

ص: 101


1- أ. توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص208. ب . الإمام شمس الدين محمد المقدسي الحنبلي، الآداب الشرعية والمنح المرعية، طبع بیروت، ج 1 ص 303.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص208، نقلا عن (الإصابة) لابن حجرالشافعي

قد دفعته دراسه ومعرفته بالإسلام إلى اعتناقه طوعا ورغبة دون وجود أي عامل من عوامل الخوف أو الإكراه أو الإجبار، ولولا خوف الإطالة والإسهاب لرجعنا قليلا إلى بطون كتب التاريخ، وإلى المؤلفات التي تتناول دراسة وتحليل السيرة النبوية الشريفة لنقرأ فيها العديد من الحوادث والمواقف التي تؤكد اعتناق بعض اليهود الكبار الدین الإسلامي رغبة وليس رهبة، وذلك بعد أن أيقنوا أن محمدا المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وأهل بيته الكرام عليهم السلام هم الذين ورد ذكرهم حقا في كتبهم وأسفارهم الخاصة.

ويكفي أن أذكر ولو مثالا واحدا على صدق ذلك، وهو قول أحد رجال الدين اليهودي وقد كان حاضرا في إحدى المرات يستمع إلى حديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن فضائل أهل بيته عليهم السلام وعن وجوب طاعتهم وموالاتهم والاقتداء بهم في أخذ معالم الدين و تحصيل الحقائق والعلوم، فما كان من ذلك الرجل اليهودي، والذي كان معروفا بعناده وعتوه، إلا أن وقف بعد أن أنهى الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم حديثه، وقال منشدا على رؤوس الأشهاد:

صلى الإله ذو العلى *** عليك ياخير البشر

أنت النبي المصطفى *** والهاشمي المفتخر

بکم هدانا ربنا *** وفيك نرجوما أمر

ومعشر سميتهم *** أئمة اثناعشر

حباهم رب العلى *** ثم اصطفاهم من کدر

قد فاز من والاهم *** وخاب من عادى الزهر

من كان عنهم معرضا *** فسوف تصلاه سقر(1)

ص: 102


1- الشيخ منصور البيات القطيفي، النظرات الإلهية في الممادح المحمدية، مؤسسةالأعلمي .بيروت،1974، ص21.

وعلى الرغم من أن هذه الحادثة قد وقعت في فجر الرسالة الإسلامية، إلا أنها كانت تعكس بصدق ردود أفعال البعض من اليهود والنصارى الذين أرادوا أن ينفتحوا بعقولهم على الحق وعلى ثقافة الدين (الآخر) الجديد، والذي لم تكن تخلو كتبهم المقدسة وأسفارهم الخاصة من الإشارة إليه.

وبالعودة إلى ثقافة الشهادة وفلسفة الموت عند سيد الشهداء أبي عبد الله الحسين علیه السلام ، نرى أنها قد باتت في موضع مقارنة هامة مع فلسفة الموت عند السيد المسيح عليه السلام بحيث راح المسيحيون أنفسهم يعقدون تلك المقارنات بين تلك الفلسفتين، الحسينية والمسيحية، تجاه مسألة الموت وعلاقتها بحفظ القيم والمبادئ وبكل ما له علاقة بالمثل العليا السامية والنبيلة.

فالمسيحيون من مفکرین وباحثين وأدباء يؤكدون في مؤلفاتهم أن الإمام الحسين عليه السلام قد لخص فلسفته عن الموت والشهادة بقوله في كربلاء: «صبرا بني الكرام، فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة، والنعيم الدائم، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر؟! وما هو لأعدائكم إلا من ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، إن أبي حدثني عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جناتهم وجسر هؤلاء إلى جهنم، ما کذبت ولا کذبت»،ثم يردف عليه السلام وهو يودع عياله قائلا لهم بكل إيمان وطمأنينة:

«استعدوا للبلاء، واعلموا أن الله حامیکم وحافظكم، وسينجيكم من شر الأعداء، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير، ويعذب عدوكم بأنواع العذاب، ويعوضكم عن هذه البلية بأنواع النعم والكرامة، فلا تشكوا ولا تقولوا بألسنتكم ما ينقص من قدركم»(1)

ص: 103


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص99

وبالفعل، فإن هذا الصبر العجيب الذي كان يتحلى به الإمام الحسين عليه السلام هو ظاهرة نادرة في تاريخ البشرية، وقد أعجز هذا الصبر النادر التفكير البشري عن إدراك ماهيته.

غير أن معظم الذين درسوا تلك الظاهرة المتمثلة بإقدام الإمام الحسين عليه السلام على الموت مع أهل بيته وأصحابه دون أدنى شعور بالخوف أو الرهبة، فقد خرجوا بنتيجة مفادها أن الحكمة الإلهية الخفية هي التي سنت لأولئك الأخيار سنن الشهادة ففرحوا بتلك السنن حتى أن شدة فرحهم كانت تمنعهم حتى من التساؤل ما داموا قد أعطوا ملکة رؤية نتائج صبرهم واستشهادهم، وما أعده وهيأه الله لهم من نعیم وجنان(1)

ومن هنا بدأت مسألة المقارنة بين استشهاد الحسين عليه السلام وآلام المسيح عليه السلام ، فالمفكرون والباحثون المسيحيون يقولون إن عيسى المسيح عليه السلام حث تلاميذه الذين سيحملون رسالة المسيحية من بعده على الصبر العظيم على الشدائد والمحن، وقد كان ذلك منه عندما دنت ساعة رحيله. .

وقد جاء في (إنجيل يوحنا) قول المسيح عليه السلام لتلامذته: «الآن تؤمنون، هاهي الساعة آتية، وإنها قد أتت، تتفرقون فيها فيذهب كل واحد في سبيله، وتتركوني وحدي، کلا لست وحدي لأن الآب معي، قد كلمتكم بهذا ليكون لكم في سلام، في العالم سيكون لكم ضيق، ولكن قوا: أنا قد غلبت العالم»(2).

ومن النقاط الهامة، والتي كانت أيضأ موضعا للمقارنة بين الحسین علیه السلام وعیسی

ص: 104


1- نفس المصدر السابق ص99
2- العهد الجديد، إنجيل يوحنا ج16 ص32. 33

عليه السلام ، هي مسألة التسليم الكامل لمشيئة الله الخفية ولإرادته الحكيمة.

فالإمام الحسين عليه السلام يقول - كما رأينا سابقا - «شاء الله أن يراني قتيلا ویری النساء سبایا»، وفي هذا تسليم مطلق لإرادة الله ومشيئته، بل وتأكيد لقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: «لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ»(1).

وها هو السيد المسيح عليه السلام، بدوره أيضا، يقول لتلاميذه الذين كانوا ساهرين معه في تلك الليلة الكئيبة: «نفسي حزينة حتى الموت»، ثم ابتعد قليلا عنهم وراح يصلي بكل إيمان وخشوع قائلا: «یا أبا الآب، كل شيء مستطاع لك،فأجزعني هذه الكأس، ولكن ليکن لا كما أريد أنا، بل كما تريد أنت»(2)

وفي الواقع، فإن الفكر المسيحي المعاصر لا يتوقف عند هذا الحد في المقارنة بل إنه يتجاوز تلك المقارنات ليصل في نهاية المطاف إلى المعجزات الإلهية التي أعقبت حدوث الفجائع وذلك من خلال الظلم الدموي العنيف الذي ناله کلاهما من أجل كلمة الحق.

ويرى ذلك الفكر تحديدا أن المعجزات التي تحدث عقب الشهادات العظيمة، ما هي في حقيقتها إلا إشارة واضحة إلى غضبة الإله الجبار من أولئك الظالمين الذين انتهوا إلى قتل وليه بطريقة مأساوية أليمة مما يستدعي رفعه إلى مرتبة الشهداء والصديقين.

وهنا يؤكد ذلك الفكر المسيحي أيضا على حقيقة حدوث معجزات عديدة أعقبت وقع مجزرة كربلاء واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام على صعيدها اللاهب،

ص: 105


1- سورة آل عمران: الآية 154
2- نفس المصدر السابق راجع إنجيل مرقس ج1 ص36. 37.

وينطلق ذلك الفكر في تأكيده لحدوث تلك الظواهر من خلال ما أثبته کتاب (العهد الجديد) أي الإنجيل، حيث ورد في (أعمال الرسل) قول الله : «وأعطي عجائب في السماء من فوق وآيات على الأرض من أسفل: دما ونارا وبخار دخان، تتحول الشمس إلى ظلمة والقمر إلى دم»(1)

ولذلك فهناك إقرار عند العديد من المفكرين والأدباء المسيحيين بأنه حينما نال الإمام الحسين عليه السلام شرف الشهادة، فإن الدنيا أظلمت ثلاثة أيام واسودت سوادا عظيما حتى ظن الناس أن القيامة قد قامت أو أوشكت، وبدت الكواكب نصف النهار، ولم ير نور الشمس ثلاثة أيام كاملة، حيث كان سيد شباب أهل الجنة عاريا على وجه الصعيد(2)

وبالمقابل، حينما استشهد عيسى المسيح عليه السلام . وهذا ما يؤمن به المسيحيون عموما - فقد انتشر ظلام شديد على الأرض كلها منذ الساعة السادسة إلى التاسعة تقريبا، وعندما لفظ السيد المسيح عليه السلام روحه تماما، صرخ صرخة قوية وأسلم الروح... وقد جاء في (إنجيل متى) أن (حجاب الهيكل قد انشق إلى اثنين، من فوق إلى أسفل، والأرض تزلزلت، والصخور تشققت، والقبور تفتحت...)(3)

ومن هنا، فقد رأى الفكر المسيحي المعاصر أن هذه المعاجز الغريبة التي حدثت، إنما هي دلالة واضحة على عظمة الشهيدين، وعلى عظم غضب الله سبحانه وتعالي، الذي أظلم الدنيا ثلاثة أيام طيلة بقاء سيد الشهداء قتيلا غريبا عاريا في بطاح کربلاء، وأظلمها ثلاث ساعات كاملة طيلة بقاء السيد المسيح عيسی علیه السلام عاريا في

ص: 106


1- نفس المصدر السابق راجع أعمال الرسل ج2 ص19. 20
2- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص106
3- العهدالجديد، إنجيل متی ج 27 ص 51. 52.

(الجلجلة)، کیلا ترى عين أحد ما لا يجوز أن تراه من ذلك العري المقدس والمخضب بالدماء الزكية التي رفعتهم بحمرتها وطهرها وسمو الغايات التي أريقت من أجلها إلى أعلى عليين.

وهنا يمكننا الوقوف قليلا مع المفكر والأديب المسيحي (أنطون بارا) الذي كان له باع طويل في تشریح و تحليل ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، وفي مقارنة عملية استشهاد أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع حالة عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام قبل رفعه على خشبة الصليب - كما تقول الأيديولوجيا المسيحية وتؤكد عليها في إطارها العام.

فأول شيء يقوله ذلك المفكر المسيحي عن هذه المسألة، هو قوله الصريح: (إن ثورة ريحانة النبي هي أعظم الثورات قاطبة، وشهادته متممة لكل الشهادات التي سبقتها، إذ إن هذه الثورة قبلت قربانا لها الشيخ والمرأة والطفل والرضيع، وكانوا كلهم في ميدان واحد مشاهدي مجزرة ومتحملي نتائجها، فهي ثورة جعلت من مشعل أوارهاوارث آدم صفوة الله ووارث نوح نبي الله ووارث إبراهيم خليل الله ووارث عیسی روح الله ووارث محمد حبیب الله)(1).

ولكن ليس هذا القول هو كل ما يقوله الأستاذ (بارا) عن استشهاد الإمام الحسين علیه السلام ، بل هناك الكثير من الأقوال له حول هذه المسألة، ولكن ما يهمنا منها الآن هو مسألة مقارنة شهادة الحسين عليه السلام مع بقية شهادات الأبطال من رسل وأنبیاء ورجال عظماء آخرين قدموا أنفسهم قربانا على مذبح الحق والفضيلة.

وعلى الرغم من إيمان الأستاذ (بارا) بحادثة رفع السيد المسيحي عليه السلام على

ص: 107


1- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص81

خشبة الصليب، وهذا كما ذكرنا جزء هام من العقيدة المسيحية، إلا أنه يؤمن إيمانا قطعيا أن آلام وتضحيات الإمام الحسين عليه السلام قد فاقت كل ألم وكل تضحية قدمها الشهداء على مسرح الحياة البشرية منذ عهد آدم عليه السلام وحتى يرث الله الأرض ومن عليها.

ويؤكد الأستاذ (بارا) على وجهة نظره هذه بالقول: (واستشهاد الحسين بهذا

الشكل الدراماتيكي المؤلم رفعه مرتبة فوق الشهداء، فصار سيدهم ومعلمهم)(1).

ورب قائل يقول متسائلا:

أليس من الممكن أن تكون هذه العبارة من الأستاذ (بارا) مجرد عبارة عاطفية

عابرة أفرزتها حرارة الحديث عن أهوال تلك الفاجعة المروعة في كربلاء؟!

نعم، يمكن للمرء أن يتساءل وأن يخطر له هذا الخاطر، ولكن يمكننا أن نقول له

مجيبين على خواطره وتساؤلاته:

إنها ليست عبارة عاطفية، وليست اندفاعا ناتجا عن حرارة حديث أو مرارة أحداث، أبدا، على الإطلاق، فالأستاذ (بارا) لا يخرج بهذه النتائج إلا بعد المرور بالمقدمات الأساسية وربطها بأحداث أخرى مشابهة لها ومقارنتها بها، وليصل بعد ذلك إلى النتائج المنطقية المطلوبة.

وليست تلك العبارة التي أوردناها منذ قليل للأستاذ (بارا) هي العبارة الوحيدة

التي قالها في كتابه عن الإمام الحسين عليه السلام.

ويكفي أن نذكر عبارة أخرى له لمجرد التأكيد على صدق كلامنا بهذا الشأن،

فالأستاذ (بارا) يقول مؤكدا في أكثر من موضع في كتابه عن الحسين عليه السلام :

ص: 108


1- نفس المصدر السابق ص81

(لم يسجل التاريخ شبيها لاستشهاد الحسين في كربلاء)(1) وأعتقد أن هذه العبارة وحدها قادرة على إثبات عمق إيمان الأستاذ (بارا) بما يقوله عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وعن عظمة قيمة الشهادة وأهدافها التي رفعته إلى مستوى القربان الإلهي المقدس الذي قدم نفسه وكل ما يملك فداء لكل الرسل والأنبياء علیهم السلام ولكل ما جاؤوا به من کتب ورسالات لهداية الإنسان وإخراجه من ظلمة الديجور إلى معارج النور.

ولا يحسب القارئ الكريم أن الباحث المسيحي (أنطون بارا) هو المفكر المسيحي الوحيد الذي يقول هذا عن مستوى شهادة الإمام الحسين عليه السلام ، فهناك العديد من المفكرين المسيحيين وغير المسيحيين أيضا ممن يقولون هذا أيضا.

وسأكتفي هنا الآن بذکر شخصية أدبية عالمية الشهرة، كان لها رأيها الخاص أيضا بما قدمه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء.

إن الشخصية التي سنتوقف عندها الآن هي شخصية الأديب والفيلسوف العالمي( جبران خليل جبران) الذي سبق وتكلمنا عنه سابقا بشكل موجز في صفحات سابقةمن هذا الكتاب.

ولكن لابأس هنا بالوقوف معه قليلا للتعرف عليه عن قرب وعلى فكره الفلسفي والديني المبثوث في مؤلفاته الأدبية التي ترجمت إلى كل اللغات العالمية الحية من مشرق الشمس إلى مغربها.

وأكثر ما يهمنا الآن هو التعرف على وجهة نظره تجاه القيمة الروحية والإنسانية لمسألة الإيمان والشهادة في نهج وسلوك الإمام الحسين عليه السلام ، وسوف نتعرف - بلا

ص: 109


1- نفس المصدر السابق ص81

شك - على وجهة نظره تلك ولكن بعد إعطاء فكرة موجزة عن طبيعة فكر وفلسفة ذلك الأديب الذي شغل العالم بأدبه وفكره أكثر مما شغله أي أديب عربي معاصر آخر.

وقبل كل شيء يرى المفكر والباحث الدكتور (داغوبرت رونز) ( D. Runes) في كتابه (Treasury Of World Literature) (كنوز الأدب العالمي) أن أدب جبران هو الأدب القائم على أساس تعليم التاس دین المحبة والجمال والخلاص،

وهو الأدب الذي يوصف صاحبه بأنه (صاحب أدب الوحي والإلهام)(1)

ويتفق (رونز) في هذه النقطة مع العديد من الباحثين والدارسين لأدب (جبران)

الذين يصفون أدبه بأنه أدب (النبوءة).

وربما كان هذا أحد الأسباب الأساسية لانتشار أدبه وفكره في قلوب الناس انتشار النار في الهشيم، وليس هذا فحسب، بلراح أدبه المشبع بالأفكار الصوفية وبالإشارات الفلسفية الروحية يغزو أماكن العبادة والتأمل في أقصى الشرق، في الهياكل البوذية، وفي أقصى الغرب في الكنائس المسيحية، حيث يقوم القساوسة والرهبان وأبناء الكنائس - وبشكل خاص في أمريكا - بقراءة كتبه في مناسبات عديدة في الكنائس؟(2).

ولذلك، فإن الباحثين الغربيين لا يعتبرون (جبران خلیل جبران) مواطنا سوريا أو لبنانيا، ولا حتى أمريكيا، بل هو في محصلة الأمر. كما يقول عنه الناقد الأمريكي

ص: 110


1- Dagobert Runes Treasury of world Literature Philosophical Library New (1) York U.S.A, 1971, P.2EE
2- بربارة يونغ، هذا الرجل من لبنان، ترجمة: سعيد عفيف بابا، دار الأندلس . بيروت، ط1964/1، راجع المقدمة بقلم المترجم ص 13.

(جوزيف غولومب) ( J. Golomb) - مواطن عالمي بجنسية عالمية(1)

وهنا لنا أن نتساءل قائلين:

من أين حصل (جبران) على هذا الفكر المسيحي والصوفي الخلاق الذي سحر أهل الشرق والغرب لدرجة أن البعض أطلق على مبدعه - جبران - لقب (النبي) حبا وإعجابا ؟!

وهل كان للفكر الإسلامي عموما، وللفكر الإسلامي الشيعي خصوصا، أي دور هام في تشكيل وصقل تلك الأفكار الفلسفية العميقة التي كان جبران يعمد دائما إلى

بثها في معظم مؤلفاته العربية والإنكليزية بأسلوبه الأدبي البالغ السحر والشفافية؟!

في الواقع، ما من أحد كتب عن فکر جبران خليل جبران إلا واعترف أن ذلك الأديب الحر والفيلسوف الثائر قد نهل في فترة وجوده في لبنان من الفكر والتراث الإسلامي بشكل واضح لا يقبل الشك، وقد أشارت إلى هذه الحقيقة صديقته المقربة الكاتبة الأمريكية (بربارة يونغ) في كتابها (هذا الرجل من لبنان)، وقد لمحت إلى أن الأديب (جبران) يمكن أن يكون من خلال ثقافته التي كونها في مسقط رأسه في لبنان هو الصوت الناطق لأبناء شعبه وقوميته الذين يمتلكون أغنى الآداب على وجه الأرض حيث يحتل (القرآن) المنزلة الأكثر روعة فيه(2)

وعلى الرغم من أن الأديبة (يونغ) قد نقلت هذا الكلام عن الأديب والناقد (جوزيف غولومب) إلا أنها لم تجد ضیرا في ذكر وتثبيت هذه الحقيقة في العديد من

صفحات کتابها المذكور سابقا.

ص: 111


1- نفس المصدر السابق ص117
2- نفس المصدر السابق ص114

وعلى الرغم من تأثر (جبران) بالعديد من الشخصيات الأدبية والفكرية العالمية المشهورة مثل الشاعر الأميركي الصوفي (رالف والدو إمرسون) (1803- 1882)، والشاعر الإنكليزي المعروف (ولیم بليك) (1757 - 1828) الذي يؤمن بالكشف وبالولادة الروحية الثانية، كما يؤمن أيضا بوحدة العالم ووحدة القيم، أما عن تأثر (جبران) بالفلاسفة الغربيين، فقد تأثر بأفكار الفيلسوف الألماني (فريدريك نيتشه) حول فكرة السوبرمان، كما وأنه قد تأثر أيضا ببعض الأفكار التي طرحها الفيلسوف الفرنسي (أرنست رينان) حول طبيعة المسيح عليه السلام، وضرورة دراسة سيرة حياته بطريقة منطقية عقلانية تخلصها من كل ما علق فيها خلال العصور الوسطى من خرافات وهالات أسطورية تسيء إلى السيد المسيح ذاته علیه السلام.

إذن، على الرغم من تأثر (جبران) بهؤلاء الأدباء والفلاسفة الغربيين، إلا أن ذلك لا يمنع من القول إن الأثر الكبير الذي لا يستهان به كان مصدره الفكر الإسلامي الأصيل المتحدر من مدرسة محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام وعموم أفراد أهل البيت النبوي الشريف علیهم السلام

وليس هذا الكلام من عندنا، وما هو بالكلام النابع من الانفعالات العاطفية التي قد تحرف القلم عن جادة الحق وطريق الصواب، بل إنه کلام نابع من أعماق بطون كتب المفكرين والأدباء المسيحيين الذين درسوا أدب (جبران) وسيرة حياته، ودرسوا أيضا العوامل الأساسية والمصادر الرئيسية التي بلورت فكره وأغنت ثقافته.

وإذا أراد القارئ الكريم التأكد من هذا الكلام عن تأثر (جبران) بأقطاب أهل البيت عليهم السلام وعلى رأسهم محمدصل الله و علیه و اله وعلي عليه السلام فما عليه إلا قراءة ما جاء في الكتب التالية لبعض المفكرين المسيحيين والمسلمين، وقد اخترنا هذه العناوين

ص: 112

بسبب توفرها:

- الإمام علي صوت العدالة الإنسانية لمؤلفه جورج جرداق، راجع الجزء الخامس

- الإمام علي أسد الإسلام وقديسه لمؤلفه روکس العزيزي.

- النبي لمؤلفه جبران خليل جبران، راجع مقدمة المترجم: ثروت عكاشة.

- جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية لمؤلفه الدكتور نذير العظمة.

- الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر لمؤلفه راجي أنور هيفا.

- المجموعة العربية الكاملة لجبران خليل جبران، راجع مجموعة البدائع والطرائف، إرم ذات العماد.

- حوار مع المفكر المسيحي أنطون بارا، راجع مجلة الثقلين، العدد /55/ إصدار قم، 2007، فكل هذه المراجع تؤكد بالدليل القاطع مدى تأثر (جبران) بفكر أهل البيت علیهم السلام عموما، وبفكر علي عليه السلام خصوصا.

وعلى كل حال، فإن مسألة تأثر (جبران) بفكر أهل البيت عليهم السلام عموما باتت في زمننا الحاضر من المسائل المسلم بها عند كل من عرف شخصية جبران عن قرب، وعند كل من كتب عنه وحلل أعماله الأدبية، وبشكل خاص تلك التي ترتدي أثوابا فلسفية وتناقش كل الأسئلة الحساسة والحيوية في الكون والوجود.

وحتى لا نسهب كثيرا في كلامنا عن فلسفة جبران ورؤاه الصوفية، دعونا نبحر الآن سوية في رحلة قصيرة جدا مع هذا الأديب والفيلسوف الذي لخص رؤاه عن الإمام الحسين عليه السلام وعن قضية إيمانه واستشهاده في كربلاء بكلمات قليلة وقصيرة لكنها كانت تحمل في رحمها، على الرغم من قلتها وقصرها، كل معاني التعظيم

ص: 113

والإجلال لدرجة أن الإمام الحسين عليه السلام بات بالنسبة لجبران الأنموذج الأعلى والمثل الأسمى للإنسان الكامل في الحياة والموت.

وکمدخل منطقي لمعرفة الموقف الدقيق لجبران من الإمام الحسين عليه السلام ، علينا أولا أن نعرف أن الفلسفة الجبرانية تبدأ أول ما تبدأ من ارتباط جبران بالفكر الإسلامي الشيعي الذي نهل منه الشيء الكثير في مقتبل عمره قبل سفره إلى أمريكا.

ومما يؤكد هذا الكلام، التحليلات الدقيقة للعديد من أعماله الأدبية المميزة، وعلى سبيل المثال، كل الذين درسوا أعمال جبران وحللوها جملة وتفصيلا، لم يستطيعوا أن يفلتوا أو أن ينعتقوا من المجال المغناطيسي الفكري لعمل جبران الأدبي (إرم ذات العماد)، تلك المسرحية القصيرة جدا التي توجز للقارئ المنظومة الفكرية والفلسفية التي يؤمن بها جبران في قرارة نفسه.

وللأسف، ليس لدينا المجال الكافي هنا كي نحلل هذه المسرحية الفلسفية التي تنطوي على الكثير من الأفكار والمعتقدات التي آمن بها جبران دون أدنى خوف من مجتمعه أو حتى من كنيسته، وعلى كل حال، فقد قمت بتحليل أحداث وأفكار تلك المسرحية بشكل مفضل في كتابي (مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام )، ووضعت النقاط على الحروف مستشهدا بالعديد من الأقوال والعبارات لجبران ولغيره من النقاد والأدباء الذين أكدوا بالفعل وجود نزعة إسلامية شيعية في فكر (جبران) وأدبه(1).

ص: 114


1- راجع ما جاء في :أ. راجي أنو رهيفا، مقدمة في معرفة الإمام علي علیه السلام مؤسسة الفكر الإسلامي . بيروت، 2003، ص 131.124 . ب. راجي أنور هيفا، النزعة الإسلامية في فلسفة جبران، مجلة (النور)، العدد 118، دار النور للنشر . لندن، راجع عدد آذار (مارس) 2001، ص74. 75

ولذا، دعونا نختصر الكلام كثيرا، ونتوقف قليلا مع الباحث والمفكر السوري، الدكتور (نذير العظمة) الذي أجاد وأبدع في تحليل بعض الجوانب في شخصية (جبران) وأدبه.

يرى الدكتور (العظمة) في كتابه (جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية) أن مسرحية (إرم ذات العماد) تمثل ثلاثة أصوات أو مستويات لشخصية واحدة هي شخصية جبران في وعيه ولا وعيه، وقوة الإيمان التي تعمل بينهما في وحدة وجود الكيان الإنساني.

فالمستوى الأول تمثله شخصية (نجیب رحمة) المسيحي اللبناني الذي يبحث عن الحق واليقين بعقله لا بقلبه، فهو يؤمن بالعلم وقدرة العقل، ولكنه ليس متأكدا من أن هذه القدرة كافية لحل كل مشاكل الإنسان والإجابة على أسئلته، لذا يفتش عن شخصية قادرة على إعطائه كل ما يريد من علوم ومعارف، إنها (آمنة العلوية) ووساطته إليها (زین العابدين النهاوندي)، درويش أعجمي في الأربعين من عمره، يعرف بالصوفي ويمثل المستوى الثاني، مستوى الإيمان الذي يقبل ويجادل ويؤمن ولا يوارب مستجيبا إلى نداء الروح الكلي آمنة مطمئنا.

أما المستوى الثالث فهو صوت (آمنة العلوية)، لا أحد يعرف عمرها بالضبط، تعرف بلقب (جنية الوادي)، وهي تمثل نفس جبران الخفية، والتي هي جزء لا يتجزأ من الروح الكلي، وهي تصل إلى الحقيقة لا بالإيمان بل بالمجاهدة، وتبلغ مدينة الحق بالكشف.

وبعد الكلام عن المستويات أو شخصيات المسرحية الثلاث، تبدأ بالأسئلة

الهامة بعملية غزو الفكر الدكتور (العظمة)، فلا يكاد ينتهي سؤال حتى يبدأ آخر.

ص: 115

وها هي بعض الأسئلة الهامة التي فرضت نفسها على الدكتور (العظمة) بكل

إلحاح:

(لماذا يختار جبران أن يكون (زین العابدين) النهاوندي عجميا يؤمن بالصوفية؟! ولماذا يصف (آمنة) بالعلوية؟!

هل ينسبها إلى الإمام علي علیه السلام أم إلى العلي لأنها ولدت في صدر الله أما

جسدها فقد ولد في جوار دمشق وروحها جزء من الروح الكلي؟!

أم أنه يترك المسألة غامضة عن قصير لما بين الشيعة والتصوف من وشيجة من حيث اعتمادها على الرمز وباطن النص القرآني وتأويله على حين أن السنة وأهل الجماعة يعتمدون على الظاهر ؟!)(1)

وليست هذه الأسئلة هي كل الأسئلة التي قرعت بوابة فكر الدكتور (العظمة)، بل هناك أيضا ما يزيد عن عشرة أسئلة أخرى لا تقل أهمية عن الأسئلة التي ذكرناها منذ قليل، وربما كان السؤال الأكثر أهمية هو السؤال التالي الذي طرحه الدكتور (العظمة) على نفسه قائلا:

لماذا يختار (جبران) الهرمل مسرحا لملتقاه مع آمنة بتاريخ 1883 ؟!

وإذا كان الدكتور (العظمة) قد اكتفى بطرح الأسئلة الهامة دون أن يجيب عليها

جميعا إلا بشكل موجز وسريع، مع الإقرار بتأثر جبران بالفكر الإسلامي الشيعي الذي يتجاوز النصوص إلى التأويل والعرفان، فإننا نرى أن الأستاذ والأديب (ثروت عكاشة) قد أجاب تقريبا على كل الأسئلة التي طرحها الدكتور (العظمة) عن فلسفة

ص: 116


1- الدكتور نذير العظمة، جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية، دار طلاس . دمشق، 1987، ص228.

جبران وطبيعة فكره وثقافته.

ويكفي أن نذكر هنا أن الأديب (عكاشة) قد علق على أحداث وشخصيات (إرم ذات العماد) بقوله في المقدمة التي وضعها لكتاب (النبي) لجبران بعد أن قام بترجمته إلى اللغة العربية: (من القرآن الكريم أخذ (جبران) اسم هذه المدينة التي ورد ذكرها في سورة الفجر، وصورها في صورة غابة صغيرة زاخرة بالثمار والأشجار، تحتضن بیتا وحيدا قديما، وتقوم على مقربة من قرية (الهرمل) التي يسكنها الشيعة في شمال شرق لبنان، وجعل زمن أحداث المسرحية عصر يوم من أيام يوليو (تموز) من العام الذي ولد (جبران) فيه وهو عام 1883)(1)

ولا يخفى على أحد ما في هذه الشروح والدراسات من إشارة واضحة إلى عمق التأثير الفلسفي والعرفاني الإسلامي الشيعي في فكر جبران المتجلي في نتاجاته الأدبية.

ففكر (آمنة العلوية) بالنسبة للسيد (نجیب رحمة) الذي هو في حقيقته جبران خلیل جبران نفسه هو الفكر الخالد القادر على أن يجعل من الأديان كلها وحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تتناقض إلا بالقشور، وهو أيضا الفكر الوحيد الجدير بالاتباع وبالبقاء على قيد الحياة نظرا لما فيه من قدرة على فهم واستيعاب حكمة الحياة وصيرورة الوجود، وبهذا السبيل يمكن للباحث عن الإيمان والحقيقة أن يكتشف أسرار الحياة وخفاياها التي لن يستطيع أحد أن يتوصل إلى معرفتها إلا إذا قرأ ما هو مکتوب وراء السطور.

ص: 117


1- جبران خليل جبران، کتاب النبي، ترجمة وتقديم: ثروت عكاشة، دار طلاس . دمشق، 1984راجع المقدمة ص52.

فجبران يؤمن أن الموت سطر مكتوب على الجميع، وهو قدر مرسوم لنا جميعا، ولكن لو تأملنا الموت وحقيقته لوجدنا ۔ حسب مفهوم جبران - أن الموت شيء مجازي وما هو في حقيقته إلا قنطرة يعبر عليها المرء من حياته إلى أخرى.

وربما كان المرء من خلال طريقة موته أقوى وأقدر على أن يقول للآخرين ويثبت لهم آراءه ويبين لهم أهدافه وبكل غاياته أكثر مما لو كان حيا باقيا على قيد الحياة، ومن هذه النقطة تماما، حدد جبران موقفه من مسألة شهادة الإمام الحسين في كربلاء

فجبران الأديب والفيلسوف كان يهتم بحقائق الأشياء أكثر من اهتمامه بمظاهرها، وكان يرى أيضا أن الجمال المبثوث في كل مفردة من مفردات الحياة تختبئ وراءه حكمة خفية لا يراها إلا ذوو البصائر وأهل النهی، ولذلك فليس هناك شيء قبيځ في الوجود.

ولكن الشيء القبيح حقا، وهو الشيء الذي يكسر قاعدة الجمال في الوجود ویشذ عنها، هو وجود الظلم، ولا ريب في أن أعلى مستوى للقبح الناتج عن الظلم هو ذاك الذي ينتج عن إساءة فهم الدين واتخاذه مطيه ذلولا لتنفيذ غایات دونية ومصالح شخصية بحيث يتحول الدين إلى وسيلة للاستغلال، وللقمع الفكري، بل وللتباغض والاقتتال والتجهيل.

فجبران الذي ثار على الكنيسة وعلى طقوسها الشكلية الجوفاء وعلى تعاليمها التي كان يرى فيها ظلما روحيا للسيد المسيح عليه السلام وإساءة إلى شخصه الكريم، ثار أيضا على الكثير من المفاهيم والممارسات الخاطئة التي كان يمارسها رجل الدين، سواء كان مسيحيا أو مسلما، وهذا ما نراه جليا في العديد من أعماله باللغة العربية.

وقبل أن نسأل أنفسنا عن كيفية فهم جبران لشخصية الإمام الحسين عليه السلام،علينا

ص: 118

أن نسأل أولا: كيف فهم جبران شخصية يسوع المسيح عليه السلام في سيرته؟!

في الواقع، إن مفهوم جبران ليسوع المسيح عليه السلام كان يختلف عن مفهوم عامة المسيحيين له، وقد أكد الباحث المسيحي المتخصص بأعمال جبران الأستاذ (غازي براکس) ذلك قائلا:

(وإلى هذا التباين في الرؤية مرد قوله (أي قول جبران) فيه: (مرة، كل مئة عام، يلتقي يسوع الناصري ويسوع النصاری، بین ربی لبنان، فيتحدثان مليا، وكل مرة ينصرف يسوع الناصري وهو يقول ليسوع النصارى: أخشی، یا صاح، أننا لن نتفق أبدا)(1)

إذن، فیسوع جبران غير يسوع المسيحيين الذي يتصورونه وفق عقائدهم التي وضعوها هم وليست التي وضعها هو عليه السلام لهم، وبالتالي، كان لابد من ثورة جبران الفكرية على تلك العقائد التي تتنافى مع طبيعة المسيح الحقيقي عليه السلام وأصالة فكره.

ومثلما ثار جبران على أولئك الذين لم يفهموا تعاليم المسيح عليه السلام ولم يقدروه

حق قدره، فقد ثار أيضا على أولئك العرب المسلمين الذين لم يفهموا الإمام عليا علیه السلام ولم يقدروه أيضا حق قدره، فانبرى لهم مؤنبا تارة ومعاتبا تارة أخرى، ولكنه في نفس الوقت امتدح الفرس الأذكياء، ورثة الحضارات الغابرة لأنهم استطاعوا أن يصلوا إلى مكانة عالية في تقديرهم لشخصية الإمام علي عليه السلام ، فقال معبرا عن ذلك:

(مات علي بن أبي طالب شهید عظمته، مات والصلاة بين شفتيه، مات وفي قلبه

الشوق إلى ربه، ولم يعرف العرب قيمته ومقداره حتى قام من جيرانهم الفرس أناس

ص: 119


1- نهال)(1) ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكرى جبران، مكتبة لبنان - بيروت، ط1981/1 ، ص108.

يدركون الفارق بين الجواهر والحصى)(1)

وكما أنه ثار من أجل الإمام علي علیه السلام، فقد ثار جبران أيضا من أجل الإمام الحسين عليه السلام ومن أجل الدماء الزكية التي سفكها سيف الظلم الأموي الذي لم يكن هدفه مجرد القضاء على الإمام الحسين وأهل بيته علیهم السلام، بل كان هدفه أبعد من ذلك بكثير، فقد كان الهدف الأبعد والأعمق هو القضاء على الرسول المصطفى محمد

صلی الله علیه و آله وسلم ذاته طالما قد تجسد من جديد في شخصية حفيده الإمام الحسين عليه السلام.

ولأن الإمام الحسين عليه السلام قد جسد كل قيم الحق والخير والفضيلة في ثورته،

ولأنه أعطى وضحي بكل ما يملك من غال وعزيز لدرجة أنه - حسب رؤية جبران - قد فاق بتضحياته الحمراء كل ما قدمه الرسل والأنبياء من بني الإنسان، فقد وقف جبران وأطلق حكمه الأخير قائلا بكل يقين وثبات:

(لم أجد إنسانة كالحسين سطر مجد البشرية بدمائه)(2)

ولا ريب في أن الذي يرى ويعتقد أن (الحسین مصباح منير لجميع الأديان)، سوف يدرك بالفعل أنه ما من إنسان في كل هذا الوجود استطاع أن يسطر مجد البشرية بدمائه کالإمام الحسين عليه السلام ، ولذلك، فإننا سنعود للوقوف مرة ثانية مع هذه العبارة الجبرانية الهامة في المكان المناسب، وسنرى في الفصل الأخير من هذا الكتاب كيف أن الإمام الحسين عليه السلام بالنسبة لجبران لا يمثل بثورته ثورة إمام مسلم نهض بثورته من أجل المسلمين فقط، بل سنرى أن الثورة الحسينية بالنسبة لجبران تمثل ثورة إمام

ص: 120


1- روكس بن زايد العزيزي، الإمام علي أسد الإسلام وقديسه، دار الكتاب العربي . بيروت، 1979 ص10
2- راجع مجلة (الموسم)، العدد /3/ المجلد 4، صدر العدد في هولندا عام 1992، راجع ص354

الإنسانية الذي كان يهدف بثورته تلك إلى إحقاق الحق واجتثاث الظلم واستعادة کرامات الناس أجمعين.

وقبل أن أختتم هذا الفصل الهام من الكتاب، أود أن أذكر شيئا جوهريا لابد من ذكره، وهو شيء يتعلق بجبران خليل جبران، فالكثير من المهتمين بالقراءة والثقافة يعرفون من هم الشخصيات الفكرية البارزة التي فرضت أثرها البالغ على أدب جبران وعلى فكره في الغرب، ولكن الكثير من أولئك المهتمين بالثقافة قد لا يعلمون أن هناك شخصية فكرية أخرى قد لعبت دورا هاما جدا في جعل جبران يعيد النظر في رؤيته وفلسفته تجاه السيد المسيح عليه السلام وتجاه مسألة الفداء والتضحية والثالوث المسيحي الذي يعتبر حجر الأساس في العقيدة المسيحية.

فمن هي تلك الشخصية الأخرى التي تأثر بها جبران في الغرب؟

وكيف انعكس هذا التأثر على فكر جبران تجاه السيد المسيح عليه السلام وتجاه الإمام الحسين عليه السلام، مع الحفاظ على مكانتهما العظيمة عنده، في فكره ووجدانه، وربط التضحيات العظيمة التي قدمها كل منهما مع تضحيات الإمام علي عليه السلام أيضا؟

بادئ ذي بدء، نقول إن الشخصية المؤثرة على جبران في ما يتعلق بإعادة الحساب حول حقيقة السيد المسيح عليه السلام هي شخصية المفكر والأديب الفرنسي (أرنست رينان) (Renan) (1823- 1892)، فمن هو (أرنست رينان) هذا؟

يقول عنه الأستاذ (لویس معلوف): إنه أديب فرنسي قد تخلى عن دعوته الإكليريكية لينصرف إلى دراسة اللغات السامية وتاريخ ديانات العالم، وقد فقد (رینان) إيمانه بالكثير من العقائد المسيحية السائدة، وقد عبر في كتبه ومؤلفاته عن آرائه العقلانية الخاصة، وكان من أشهر مؤلفاته كتاب (مستقبل العلم) وکتاب (تاریخ

ص: 121

نشأة المسيحية)، وقد حمل الجزء الأول منه عنوان (حياة يسوع) الذي أحدث تأثيرا واسعا في أوروبا(1).

إذن، هذه باختصار لمحة سريعة وموجزة عن شخصية (رینان) التي لعبت الدور الأبرز في تعديل صورة وحقيقة السيد المسيح عليه السلام في فکر جبران الأدبي والفلسفي، وقد أكد الأستاذ (غازی براکس) على ذلك بقوله: (فما أن يمر بضعة أشهر من حلول

جبران في باريس حتى يجهر بحبه لرينان لأنه رآه يحب يسوع ويفهمه، ويبدي أن أمله

الأكبر هو في أن يصبح قادرا على رسم حياة الناصري كما لم ترسم من قبل)(2)

ولأن (رینان) لم يقل بألوهية السيد المسيح ولم يقل بالكثير من المعتقدات والمفاهيم المسيحية الأخرى، فقد اتهم بالجحود والكفر والتجديف على الله، وقد تبرأت الكنيسة منه ومن أفكاره واعتبرت أن تلك الأفكار هي أفكار شيطانية تخالف الحقائق الكنسية وتزعزعها.

لقد تأثر (جبران) بعقلانية (رینان) وبصراحته وجرأته وبعمق أفكاره وحججه، بل وتأثر أيضا بإقدامه الريادي على الخوض في مسائل دينية حساسة دون مراعاة لخطوط حمراء تحظر الخوض في تلك المسائل، أو حتى الاقتراب منها والتفكير فيها.

ولكننا نقول الآن، على الرغم من أن الأديب والفيلسوف (رینان) كان من وجهة نظر المسيحيين جاحدا ليسوع المسيح عليه السلام، إلا أنه كان صاحب رأي متميز بشأن تضحية السيد المسيح عليه السلام وعذابه، ومن ثم - كما يعتقد المسيحيون عموما - رفعه على خشبة الصليب في اللحظات الأخيرة من حياته المليئة بالآلام والعذاب

ص: 122


1- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، مصدر سابق ص274
2- ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكرى جبران، مصدر سابق ص107.

والحرمان.

يقول (رینان) عن موت المسيح عليه السلام مخاطبا إياه: (لقد صرت محبوبا بعد موتك ألف مرة أكثر مما کنته في حياتك حتى أصبحت حجر الزاوية في صرح البشرية، فلو جئنا نمحو اسمك من العالم لزعزعنا أركانه من أساساتها)(1)

وهنا يخالف (جبران) وجهة نظر الفيلسوف والأديب (رینان) حول قيمة السيد المسيح عليه السلام في حياته ومماته، نعم، إن جبران كان يعتبر المسيح عليه السلام ابن الإنسان أيضا، شأنه في ذلك شأن (رینان)، ولكن هناك فرق واضح بين احترام (جبران) للمسيح عليه السلام واحترام (رینان) له.

فجبران ذو روح شرقية شفافة مجبولة على حب المسيح عليه السلام، ولذلك فهي تعرف كيف تحترم وتقدر الأنبياء، وتعرف أيضا القيمة الحقيقية للسيد المسيح عليه السلام في حياته وبقائه وفي صعوده وارتقائه.

ولأن روح جبران تحترم وتقدر الجواهر في الوجود، ولأن فكره المستنير يعرف قيمة الحياة و معنى الموت، فقد أدرك أيضا أن أهل البيت علیهم السلام هم جواهر الوجود، شأنهم في ذلك شأن محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام، وعرفت روحه الباصرة أن الإمام الحسين عليه السلام لم يكن في حياته ذا قيمة تقل عن قيمته في موته واستشهاده، فالإمام الحسين عليه السلام هو الذي أعطى الموت والشهادة معنى جديدا، وهو الذي رفع الموت في سبيل الله إلى مستوى العطاء الدائم في حياة دائمة.

فعطاء الحسين عليه السلام لم ينحصر في ما قدمه من تضحيات في أيام معدودات من

ص: 123


1- راجع مجلة (النشرة) العدد الثالث، المجلد /119/ إصدار السينودس الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان، آذار 2005، راجع الصفحة 220

شهر محرم الحرام، بل هو عطاء دائم بدأت شرارته في كربلاء وسيبقى ذلك العطاء مستمرا إلى اليوم الموعود.

وكيف لا ينظر (جبران)، وهو الأديب والفيلسوف ذو النفس الباصرة، إلى الإمام

الحسين عليه السلام بهذا المنظار الدقيق وبهذه العين الباصرة بحقيقة الأشياء وکنهها؟!

وكيف لا یری جبران خليل جبران في الإمام الحسين عليه السلام صورة الإمام الأمثل والشهيد الأعظم الذي استطاع حقا أن يسطر مجد البشرية بدمائه، وهو الذي قرأ - بلا شك - قول الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، في اللحظة التي قرر فيها أن يهاجر إلى الله، فرفع يديه الكريمتين وخاطب الله عز وجل قائلا:

تركت الخلق طرا في هواكا *** وأيتمت العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إربا *** لما مال الفؤاد إلى سواكا(1)

فهل هناك من كلام بعد هذا القول من سيد الشهداء عليه السلام؟!

وهل هناك من مبرر للاستغراب مما قاله الفيلسوف الباصر (جبران) عن فلسفة

الإيمان والشهادة عند الإمام الحسين عليه السلام ؟!

لن نجيب على أي سؤال من هذا النوع، بل ستترك أمر الإجابة عليها للقارئ الكريم، ولكن علينا أن نعلم جميعا أن المفكر والأديب جبران خليل جبران لم يكن إلا شمعة من مئات الشموع الأخرى التي كانت تضيء بنورها للآخرين بعض الجوانب الإنسانية والإيمانية الهامة في حياة الإمام الحسين علیه السلام.

وإذا كانت شمعة جبران المسيح قد أنارت لنا شيئا من جوانب صورة الشهادة

ص: 124


1- میرزا حسن الإحقاقي الحائري، رسالة الإنسانية، مؤسسة البلاغ . بيروت، ط1988/1 ، ج1 ص 214

والإيمان عند سيد الشهداء بعبارات نثرية قصيرة وساحرة، فإن شموع الكثير من المفكرين والأدباء المسيحيين الآخرين قد أضاءت لنا العديد من الجوانب الإيمانية والاستشهادية الأخرى ولكن بأسلوب شعري يخطف الألباب.

ويكفي أن أختتم هذا الفصل من الكتاب بما قاله الشاعر المسيحي (إدوار مرقص) عن إيمان الحسين عليه السلام وعن استشهاده الجليل، وهو يصور لقاء جيش الكفر الأموي لجيش الإيمان المحمدي بقيادة الإمام الحسين عليه السلام :

أيهابهم سبط النبي وعنده *** جيش من الإيمان ليس بنافد

حسب الفتى من قوة إيمانه *** ولکربلا عليه أصدق شاهد

ولئن قضى بين الأسنة ظاميا *** فلسوف يلقى الله أكرم وافد

ولسوف يسقيه النبي محمد *** كأسأ تفيض من المعين البارد(1)

وإلى هنا، فقد انتهى بنا مشوارنا، وها قد قارب الصباح أن يتنفس بعد أن ألقي

بحمرته الوردية على خد السماء الشرقي وكأنه يريد أن يقول لها:

أيتها السماء، حرام على كل من أعطي يوما جديدا من حياته أن ينسى الحسين علیه السلام عند كل شروق للشمس وعند كل مغيب.

ص: 125


1- راجع ما يلي: أ. جواد شبر، أدب الطف، مصدر سابق، ج10 ص43. ب. علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص305. ج. راجع مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص330.

کربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي

عندما كتب المفكر المسيحي البارز (جورج جرداق) موسوعته الشهيرة (الإمام علي صوت العدالة الإنسانية)، أكد في أكثر من موضع في موسوعته ذات الأجزاء

الخمسة أن الإمام عليا عليه السلام لم يكن في يوم من الأيام ملكا للمسلمين فقط، وأضاف على ذلك أيضا أن عليا عليه السلام لم يكن في مسيرة حياته ممثلا للعدالة السماوية عند معتنقي الرسالة الإسلامية بحيث يقال عنه إنه إمام العدل بين المسلمين، بل كان الإمام علي عليه السلام أشمل من ذلك بكثير، فهو إمام الإنسانية جمعاء من مسلمين وغير مسلمين، وهو أيضا صوت عدالة السماء في مسمع أهل الأرض جميعا، ولذلك، فمن الظلم والجور أن ينظر المرء المنصف إلى الإمام علي عليه السلام على أنه مجرد أمير للمؤمنين من المسلمين فقط.

هذا عن الإمام علي عليه السلام فماذا عن الإمام الحسين عليه السلام ؟!

يبدو أن رؤية الأدباء والمفكرين المسيحيين في الشرق، أولئك الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية ويدرسون تاریخ الرسالة الإسلامية بمنطق الحياد وبروح الموضوعية، لا تختلف نظرتهم إلى الإمام الحسين عليه السلام عن نظرة المفكر والأديب (جرداق) إلى الإمام علي عليه السلام

ولا نغالي إذا قلنا أيضا إن نظرة (الهندوس) وحتى (الصابئة) لا تختلف في خطوطها العريضة عن نظرة أولئك المسيحيين المستنيرين فكريا وثقافيا إلى الإمام

ص: 126

الحسين عليه السلام وإلى ثورته (الإنسانية) التي تفجرت منذ ما يقارب ألفا وأربعمائة عاما تقريبا ولا تزال حرارتها حية في ضمائر الأحرار في العالم حتى يومنا هذا، وستكشف النا الصفحات القادمة من هذا الفصل تلك الرؤى المختلفة في منابعها، والمتوحدة في نتائجها، والتي تتمحور جميعها حول شخصية الحسين عليه السلام وأبعاد ثورة الحق على أرض العزة والكرامة في كربلاء

وبما أننا كنا نتحدث منذ قليل عن معنى العدالة الإنسانية في شخصية الإمام علي عليه السلام وعن معاني الإمامة الإنسانية كما يراها الأستاذ (جرداق) في سمو ونبل تلك الشخصية العالمية، بل الكونية، نظرا لعمق آثارها في الأرض والسماء، دعونا الآن - إذن - نسأل أنفسنا السؤال التالي:

هل ينظر الفكر العالمي الحديث إلى الإمام الحسین علیه السلام کنظرته إلى الإمام علي عليه السلام من خلال الزاوية التي يمكن أن تعطي شخصيته فيها بعدا إنسانياشاملا بحيث ينظر إليه على أساس أنه إمام وصاحب ثورة فريدة في التاريخ من حيث وقائعها ونتائجها؟!

وقبل الإجابة على هذا السؤال المطروح، علينا أن ندرك أولا أن الأقوال والكلمات الهامة في هذا الفصل والواردة عن ألسنة الكثير من أرباب الفكر والأدب لا يمكن فصلها عن تلك الأقوال الهامة الأخرى التي وردت في الفصول السابقة من هذا الكتاب، ولذلك دعونا الآن نستكمل استطلاع وتحليل تلك الأقوال الهامة مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة الإجابة على السؤال الجوهري السابق.

ودعونا نبدأ محطتنا الأولى مع كتاب (الحسين في الفكر المسيحي) الذي أسلفنا عنه القول في الفصول السابقة من كتابنا هذا، وما يهمنا القول عنه الآن هو تعليق

ص: 127

المؤلف نفسه على عنوان كتابه الذي اختاره هو كفاتحة وكبداية لتعريف القارئ بشخصية الإمام الحسين عليه السلام وبالامتداد الروحي والفكري العميق لآثار ثورته التي لا تزال تلعب دورا كبيرا وهاما في رسم الخطوط العريضة للعديد من ثورات الشعوب ضد الظلم والطغيان في العصر الحديث.

ففي مقدمة الكتاب، يقول الأستاذ المؤلف (أنطون بارا): إن البعض من المسيحيين وغيرهم طالبوا أن تستبدل كلمة (مسيحي) بكلمة (إنساني) فيصبح العنوان معها (الحسين في الفكر الإنساني) بدلا من (الحسين في الفكر المسيحي).

فماذا كان رد فعل الأستاذ (بارا) على هذا الاقتراح؟!

يرد الأستاذ (بارا) مجيبا على ذلك بقوله في مقدمة الكتاب: (هي فكرة صائبة، وتسمية في محلها، على اعتبار أن ثورة (سيد الشهداء) كانت ثورة إنسانية في مفرد ميزاتها وفي مجملها، وأخذها من وجهة نظر مسيحية بما يخدم البحث المقارن الذي هو موضوع الكتاب، يصلح تقديمه كمثال على إنسانية هذه الثورة، أكثر مما يصلح قصره على هذه الوجهة، وبأخذنا لها من زاوية الفكر المسيحي، نكون وكأننا ننظر إليها من زاوية الفكر الإنساني ككل لأن الفكر المسيحي ماهو إلا جزء من الفكر الإنساني)(1)

ولا ريب في أن هذا الكلام صحيح ودقيق، فالفكر المسيحي لا يتجزأ من الفكر الإنساني العام، وبالمقابل أيضا، فالثورة الحسينية انطلقت في دائرة إسلامية واضحة المعالم، لكنها سرعان ما تجاوزت محيط دائرتها المحدود لتبلغ بقوة أهدافها وعمق غاياتها الدوائر الإنسانية الأخرى محطمة بذلك حدود الأديان والمذاهب، والألوان

ص: 128


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص23

واللغات، والقوميات.

فلم تعد کربلاء إرثا شيعيا ولا حتى میراثا إسلاميا، بل تحولت إلى تراث إنساني

عام تستثمره الأمم والشعوب وتتوارثه الأجيال جيلا بعد جيل.

ومما يثبت حيادية رأي الأستاذ (بارا) هو تفريقه بين رؤيتين متناقضتين لحادثة کربلاء، ففي إقراره بوجود رؤيتين متناقضتين للفاجعة دليل أكيد على حياديته وموضوعيته، وهو دليل أيضا على مصداقية حديثه عن الحسين عليه السلام وعن الأبعاد الإنسانية والقيم الروحية التي كانت تلك الثورة تختزنها في رحمها المثقل بالآلام وبالجراح النازفة التي جعلها الأمويون قدرا محتوما محسوما على كل الثائرين من المسلمين عموما، وعلى الإمام الحسين عليه السلام وأهله وأتباعه خصوصا.

فالفكر المسيحي الغربي - كما يقول عنه الأستاذ (بارا) - له مآخذ على الإسلام، وهو ينظر إلى تلك المآخذ من کوی مثالب عهود بني أمية، والتغيرات الجذرية التي عمت أمة الإسلام بسبب ذلك، حيث نظر الملوك والحكام إلى الدنيا بشكل مخالف تماما للصورة التي صورتها إياها التعاليم الرسالية والمبادئ السماوية.

ومن هنا ؤلد الصراع الدائم الذي استشرى لاحقا بين أهل بیت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وبين ذرية أبي سفيان، فأهل بيت النبي المصطفى يرون أن الخلافة سفينة تعود إلى الآخرة المحمودة وفق أحكام الله، أما بنو أمية فيتطلعون إليها باعتبارها مطية تقود إلى السلطان والجاه، وانقياد الدنيا، والتحكم بالبلاد والعباد وفق أهواء النفس وغرائزها الدونية التي لا تعرف الشبع أو الوقوف عند حد معين.

وبما أن الفكر الغربي - كما يقول الأستاذ (بارا) - هو فكر تغلب عليه النزعة المادية والنفعية، فهو فكر لا يعي هذا التناقض الصارخ بين الحق المقهور،وبين

ص: 129

الباطل المنتصر، ومتى فقد هذا الوعي تجردت الحوادث التاريخية الهامة من أهم عناصرها الحيوية.

وهنا يخلص ذلك المفكر المسيحي البارز إلى النتيجة التالية التي لخصها بقوله:

(لذا فقد رأى المستشرقون في حادثة الطف - انطلاقا من هذا التجرید - موقعة

عسكرية تغلبت خلالها الكثره على القلة، والتنظيم على الارتجال، غير ملتفتين إلى اختيارات العناية الإلهية وسرها وتدخلها في هذا الحدث الجذري في المسيرة الروحية والتاريخية لأمة الإسلام، ولدين الله الکلي الوحدانية)(1).

أما الرؤية الثانية، أو المنظور الثاني للفاجعة، فهو المنظور المسيحي العربي الشرقي، وهو يلعب دور: الحيادية الصرفة، محلا الرؤية الموضوعية محل تلك العاطفية منها والمتجنية على السواء.

وليعذرني الأستاذ العزيز (أنطون بارا)، فأنا أختلف معه بعض الشيء في ما يتعلق بالرؤية الغربية المسيحية للإسلام وللفاجعة، فنحن لا نشك في أن الحركة العامة للاستشراق بدأت كحركة مبدئية للاستعمار الغربي في الشرق، وهذا ما لا يستطيع أحد أن ينكره أبدا، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا:

هل كل المستشرقين كانوا في حالة مواجهة مع الإسلام، وفي حالة صراع فكري

استعماري مع الشرق؟!

فالجواب عندي - وهذا ما أختلف فيه مع الأستاذ (بارا) -: كلا، ليس كل المستشرقین طلائع للاستعمار ولا دعاة إلى الحركات التبشيرية، فهناك العديد منهم قاموا بدراسة الإسلام عن قرب وأعجبوا به وبتعاليمه وأظهروا الكثير من الاحترام

ص: 130


1- نفس المصدر السابق ص28

والتبجيل لصاحب الرسالة: النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم، ولأهل بيته عليهم السلام الذين ما انفكوا يدافعون عن الرسالة الغراء حتى قضى الجميع نحبه في سبيلها، وما الحال عند المستشرق (جان جاك سيديو)، الملقب بالعلامة، والمستشرق الفرنسي (هنري کوربان) صاحب الحوارات الشهيرة مع السيد محمد حسين الطباطبائي، والمستشرق المعاصر (روجيه غارودي) صاحب المؤلفات العديدة عن الإسلام، إلا الدليل الأكيد على صحة ما نقول، ولولا خوف الإطالة والإسهاب من جهة، والخروج عن مدار بحثنا من جهة أخرى، لسردنا أسماء العديد من أولئك المستشرقين والمفکرین الغربيين الذين يكنون كل الود والاحترام للرسالة الإسلامية، وينظرون إلى الشرق على أنه موطن النور وأرض الرسالات وعالم الفكر والسحر والروح.

ولو تركنا الآن الأستاذ (بارا) وغادرنا واحته الوارفة الظلال، وانتقلنا براحلتنا إلى واحة أخرى، فماذا عسانا أن نلقي فيها؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نلقي فيها الكثير من الثمار في أشجارها، والكثير من الراحة والمتعة في سحر أفيائها وظلالها، خاصة إذا عرفنا أن وجهتنا القادمة ستكون إلى واحة الباحث الدكتور (فكتور الكك) صاحب الصولات والجولات في ميدان الفكر والأدب.

ولو أردنا أن نختصر الإقامة في واحته، وسألناه بشكل مباشر وصريح عن رؤيته

الخاصة للثورة الحسينية، فماذا سيكون جوابه؟

والجواب على ذلك هو أنه يرى أن ثورة الحسين هي عقيدة لا مسلك، وأن الحسين عليه السلام لم يمت جشعا إلى مقام وطامحا إلى مجد (فعلى مفرقه استوى المجد تاج حق لا تاجا من الذهب وبيمناه فخر الصولجان إرثا من الرسالة العلوية لا فضة

ص: 131

صيغت من آهات المحرومین وخبز الجائعين)(1).

ثم نسمعه يخاطب الإمام الحسين عليه السلام ثانية، ويقول له: (مجد سواك يا حسين شید على جماجم المغدورين والمستضعفين في الأرض، أما مجدك ففي حبات القلوب التي لا تخفق إلا للحق، مجد سواك كان اغتصابا للمجد في زمان معین ومكان معين، أما مجدك فرأيته خفاقا في كل زمان وفوق كل مكان، بشهادتك يا حسين دخل التاريخ حرم الوجود خافضا جبينه فولدت الأرض من جديد بالروح)(2).

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام يغير باستشهاده وجه التاريخ، ويجعل الأرض تولد مرة أخرى بنبض جديد وروح جديدة، بل وبلون جديد يستمد وجوده وألقه من دم الحسين عليه السلام المراق في سبيل حقوق الفقراء والمستضعفين في الأرض، فكل الأمجاد الأموية هي أمجاد من ورق، وكل سيوف الجلادين، أمام عظمة الحسين عليه السلام ، هي سيوف من خشب.

ولذلك، فمن الطبيعي أن يكون دم الإمام الحسين عليه السلام زيت سراج الوجود الإنساني النبيل، وأن يكون استشهاده مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه في بطاح کربلاء الشمعة الصامدة أمام عواصف الليل الطويل، بل الشمعة القادرة على اختراق وتبديد عتمة الظلام الأموي المخيف، ذلك الظلام الذي راح يبسط جناحيه الطويلين ويفردهما إلى أقصى ما يستطيع كي يخبئ تحتهما جرائمه وضحاياه وقبح آثامه التي كان يرتكبها تحت ستار الدين والشريعة.

وإذا كان البعض يرى في شهداء الطف - کربلاء - الشمعة التي قبلت أن تذيب

ص: 132


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص6
2- نفس المصدر السابق ص6

نفسها في الله، وأن تحرق ذاتها في سبيل إحياء رسالته، فإن البعض الآخر رأى في أولئك الشهداء الأبرار الشجرة القدسية التي ضربت جذورها عميقا في تراب الرسالة ونهضت بأغصانها عاليا إلى فضاءات الكمال وسماوات الجلال.

وها هو المفكر والأديب المسيحي، الدكتور (أنطوان كرم) یوجز لنا رأيه بواقعة الطف قائلا: (وفيها - أي في كربلاء - ينتهي الإنسان لتحيا الفكرة، فتورق أغصانها، وتتفرع وتتعمق جذورها وتترسخ لتصبح شجرة حضارية قائمة بذاتها، حتى إذا بلغت الفكرة منتهی مجالاتها البعاد، عادت وأبدعت صاحبها إبداعا جديدا وغدت رمزا قدسيا وهالة من جلال)(1)

وبالفعل، فإن ذلك الرمز القدس وتلك الهالة من الجلال هما جزء أساسي وثمرة مباركة من ثمار الشهادة في سفر تلك الملحمة الخالدة، وقد صدق من قال شعرا عن الإمام الحسين عليه السلام بروح العرفان ولغة الوجدان، فأصاب جوهر الحقيقة عندما رفع صوته قائلا:

(ومع أن العالمين محفل للأنس، لكن الشمع الذي

ينير القلوب الحسين لا سواه

وليست النفحة المنعشة لنسيم الجنة إلا شمة وعبيرا

من رائحة الحسين...

ولقد أحرق الحسين لا سواه فراشة الروح

في حرم العشق شوقا)(2).

ص: 133


1- نفس المصدر السابق ص7
2- آية الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني، لمحات الحسین، مصدر سابق ص54.

ولأن الإمام الحسين عليه السلام قد اختار الرحيل إلى الأعالي وحلق بجناحي روحه الطاهرة حول لهب المصباح الإلهي الخالد، فقد وقع في حماه وعاد إلى مبتداه.

وبالطبع، فإننا لا نريد أن نسترجع تفاصيل ما حدث في تلك المأساة الرهيبة، فقد قدمنا في فصل (صور من الفاجعة) العديد من المشاهد المؤثرة الدالة على عظمة الحدث وعلى عمق المأساة وأهوالها، ولكن ما نريد قوله هنا، هو أن ذلك الخطب العظيم قد ألهم الكثير من الأدباء والمفكرين، وفتح لهم أبوابا رحبة من استلهام الأفكار والقيم والعبر ومن الدروس السياسية والاجتماعية والروحية التي لا تنضب، فكربلاء ليست مجرد حادثة، بل هي نهج وعقيدة، وكربلاء ليست مجرد موقف تاريخي عابر، بل هي مدرسة وسلوك.

ولذلك، فمن الطبيعي تماما أن يهب المفكرون والأدباء، من مختلف الأطياف،

حاملين أقلامهم ساعين إلى تصوير الأحداث مع مقدماتها ونتائجها والدروس المستفادة منها.

ورب سائل يسأل:

أية فائدة يجنيها أولئك المفكرون والأدباء، وحتى الممثلون والفنانون، من استرجاع أحداث تلك الفاجعة والتحدث عن ذكرى تلك المأساة سوى بعث الحزن في القلوب جراحا من الهموم وجمرا من القهر والآلام؟

وردا على هذا السؤال المحتمل، يجيبنا عليه العلامة الجليل والمفكر الباحث (محمد علي إسبر)، صاحب المؤلفات الجريئة، فيقول في كتابه الثمين (الإسلام وبناء المجتمع): (إننا لا نتكلم عن استشهاد الإمام الحسين لكي نرفع من مكانته لأنه في سموه قمة نورانية تنحسر دونها البصائر والأبصار، ولكننا نتحدث عن مقتله في سبيل

ص: 134

الله لأن الأمم الحية تحيي ذكرى أبطالها الذين ماتوا في ميدان الجهاد ضد الباطل انتصارا للحق الإلهي المقدس، وللشعوب المعذبة المحرومة المقهورة، ولا ريب أنه بمقدار ما تكرم الأمم أبطالها وعباقرتها ومصلحيها بمقدار ما تدل على أنها أهل للحياة الفاضلة الكريمة)(1)

وإذا كان هذا هو شأن الأبطال العظماء، كالإمام الحسين عليه السلام ، فماذا عسى أن

يقال عن شذاذ الآفاق الذين حاربوا أولئك الأبطال؟!

بل ماذا يمكن أن يقال عن أولئك الذين حاربوا الإمام الحسين عليه السلام شخصيا

محاولين إخماد ثورته الرسالية وإطفاء نور مبادئه وقيمه الإيمانية ؟!

ويأتي الجواب الواضح من الأستاذ (إسبر) أيضا، حيث يقول فيه مبينا النتيجة:

(لقد كتبوا بأيديهم صك عبوديتهم... وعبودية الأجيال التي جاءت بعدهم...

عندما خرجوا عن إنسانيتهم وقتلوا النبي الإنسان الذي جاء ليجعلهم يحيون مبادئ القرآن، وما فيها من مثالية وجمال تهدفان إلى تحرير المجتمع البشري... وتنميته باستمرار نحو الكمال المادي، والروحي... فيا لها من رزية سجلت انتكاسة مرة لقيم الشخصية الإنسانية)(2)

ولاشك أبدا في صحة ودقة كلام هذا الباحث الكبير الذي أفنى عمره في قراءة ودراسة التاريخ الإسلامي، من ألفه إلى يائه، ولا يزال يتحفنا بالكثير من الأعمال الفكرية المتميزة على الرغم من أنه قد بلغ من العمر ما يقارب المئةعام (حفظه الله).

ومهما يكن من أمر، فإن كلام الأستاذ (إسبر) نابع من تحليل دقيق للوقائع

ص: 135


1- محمد علي إسبر، الإسلام وبناء المجتمع، دار التعارف. بيروت، ط2002/1 م، ج1 ص358.
2- محمد علي إسبر، ، ذکری کربلاء، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد 3، مصدر سابق ص 71

النفسية التي نشأ عليها الأمويون عموما، وبالتالي، فإن هذا الكلام يؤكد حقيقة أن الحكومات الأموية المتعاقبة كانت دائما حكومات ذات طابع دنيوي استبدادي لا يمت إلى الدين الإسلامي بأي صلة، اللهم إلا تلك الصلة التي تجعل من الدين مطية في خدمة السياسة، وتلك الصلة الأخرى أيضا التي تجعل من الدين عاملا من عوامل تخدير الرعية وتنويمها مغناطيسيا والتلاعب بها وبمصائرها والتحكم بها كما يتحكم ذئب مفترس بقطيع من الخراف التي أبعد عنها راعيها وحاميها.

وعلى الرغم من وجود بعض المحاولات، من قبل بعض المستشرقين، للتخفيف من وطأة الأعمال المخزية التي كان يقوم بها (الخلفاء - الملوك) الأمويون، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يخفوا الحقائق بشكل كامل، فحتى المستشرق (غولدتسيهر) والمستشرق (لامانس) وغيرهما ممن كان يفتري عمدا على الإسلام، نراهم ينقلون أحيانا بعض الوقائع الحقيقية عن سوء الحكومات الأموية وعن عدم وجود أي صلات لها بشريعة الإسلام.

فالمستشرق الألماني المعروف (يوليوس فلهاوزن)، وهو مجرد مثال واحد من العديد من الأمثلة، يؤكد في كتابه (تاريخ الدولة العربية) أن المسلمين الذين عاشوا في ظل الحكومات الأموية كانوا يكنون الكراهية والبغضاء لتلك الحكومات التي أرهقتهم وأذلتهم، ويتابع المستشرق (فلهاوزن) كلامه قائلا: (ولقد زاد في البغض للأمويين قدم الشكوى من (السلطان) وأفعاله، وظلت هذه الشكوى موجهة إليهم (أي إلى الحكام )خاصة باعتبار أنهم أصحاب السلطان في ذلك الزمان، وكانت موضوعات الشكوى هي: أن العمال يسيئون استعمال سلطتهم ويظلمون الناس، وأن أموال الدولة تجري إلى جيوب أفراد قلائل يستأثرون بها، على حين أن معظم جيوب

ص: 136

غيرهم تبقى خالية، وأن الزنى والعهر والشراب والميسر أصبحت لذات للسادة لا يعاقبون عليها، لأن الحدود معطلة)(1)

ومن هذه الهوة السحيقة بين سياسة حكم الأمويين من جهة، وبين مبادئ ومثل أهل البيت عليهم السلام من جهة ثانية، بالإضافة إلى الصراع بين أهل البيت علیهم السلام ممثلين بالإمام الحسين عليه السلام و بين الأمويين ممثلين بمعاوية وابنه يزيد، ولدت مادة فكرية خصبة مکنت المفكرين والأدباء من كتابة الكثير من الأبحاث والمؤلفات الفكرية، والعديد من الأعمال الروائية التي تتحدث عن ذلك الصراع المرير في الأيديولوجيات بين الطرفين المتصارعين انطلاقا مما يحمله كل طرف من مبادئ، وتعاليم، ونهج، وغايات.

ولا يخفى على القارئ الكريم، أن هناك في ميدان الأدب العالمي فرعا من فروعه العديدة يسمى بالأدب الثوري أو أدب الثورة، وهو عبارة عن أدب رفيع يقتصر في مواضيعه المطروحة على مناقشة واقع ما، سواء كان ذلك الواقع سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا، أو حتى روحيا وفكريا، والدعوة للثورة والانقلاب عليه، ومن ثم الانتقال به إلى حالة أفضل وإلى واقع أكثر أمنا وأمانا وجمالا وعطاء.

ويأخذ هذا النوع من الأدب العديد من الأشكال المتعددة، كالرواية والقصيدة والمسرحية، وحتى القصة القصيرة أيضا، وبما أن الفروع الأدبية تتشابك في الكثير من حالاتها، لذا يمكننا أن نقرأ - على سبيل المثال - رواية تاريخية مكتوبة بأسلوب مفعم بالأفكار الثورة، ويمكننا أيضا أن نقرأ قصيدة شعرية ذات طابع رثائي منظومة بألفاظ وتعابير تنتقل بالقارئ من حالة العطف وذرف الدموع إلى حالة الاستنفار وشحذ

ص: 137


1- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، مصدر سابق ص60

الهمم.

وكذلك الحال بالنسبة للمسرح الذي يمكن أن يؤلف العديد من الأشكال والأحوال الأدبية الأخرى للوصول إلى حالة الانقلاب والتمرد التي يمكن أن تكون دائرتها الأضيق هي الإنسان ذاته، ودائرتها الأوسع هي واقعه الذي يعيش فيه هو ومجتمعه الواسع.

فالأحداث المفصلية في مسيرة البشرية تفرز دائما أشياء جديدة خصوصا إذا كان

الأمر يتعلق بالثورات الاستثنائية الحاسمة التي تلعب دورا مميزا في تاريخ الشعوب.

ويذكر الدكتور( محمد غلاب) العديد من الأمثلة عن دور الثورات في تاريخ الشعوب وكيف أن تلك الثورات قد أذكت نار الأدب في مشارق الأرض ومغاربها أملا في أن ينير لهب تلك الثورات العظيمة الطريق للأجيال القادمة من أجل السير إلى مستقبل أكثر تقدما وأعمق إنسانية، وها هو الدكتور (غلاب)، وهو أحد المفكرين المصريين، يقول في كتابه (أدب الثورة) عن الثورة الفرنسية التي غيرت وجه أوروبا:

(كانت الثورة الفرنسية - بسبب ما استحدثته من أفكار سياسية جديدة، وانقلابات اجتماعية خطيرة - قد أعدت النفوس إعدادا قويا للتمرد على أغلال الماضي والنشاط في تحطيمها والشعور بالحاجة إلى الانفلات منها)(1)

والشيء بالشيء يذكر، فقد كانت الثورة الحسينية، عن طريق استشهاد قائدها الإمام الحسين عليه السلام في ساحة المعركة، وعن طريق المبادئ التي خلفها لمن سيأتي بعده من الثوار، قادرة على تحطيم أقوى عرش في ذلك الزمان وتقويض أركانه من جذوره، فقد انتصر الحسين عليه السلام بقوة إيمانه وبدمه على العرش الأموي المحاط

ص: 138


1- الدكتور محمد غلاب، أدب الثورة، مطابع جريدة المصري . القاهرة، 1953، ص5

بآلاف السيوف التي تمسك بها أيا تجري في عروقها دماء الغدر والكفر والنفاق.

وإذا كان الأدب العربي والإسلامي عموما لم يعرف (الرواية) بمفهومها الأدبي المنهجي الدقيق إلا في فترة متأخرة، فإن هذا لا يعني أن ثورة الحسين عليه السلام لم تنتج في حقل الأدب الروائي الحديث الكثير من الأعمال الأدبية التي تجسد قيم تلك الثورة ومبادئها، بل على العكس من ذلك تماما، فقد أوحت فاجعة كربلاء، وبكل ما تملك من نفس ثوري وإيماني، بالكثير من الأعمال الأدبية الرائعة التي کتبت بأقلام حرة ونزيهة لكبار الأدباء المشهورين من المسلمين وغير المسلمين.

ونظرا لضيق المساحة، وحبا باختصار الوقت على القارئ الكريم، دعونا نتحدث الآن عن بعض الروايات الأدبية الحديثة التي جاءت كثمرة من ثمرات الثورة الحسينية المباركة في كربلاء

وبالطبع، فإننا لن ندخل في تفاصيل كل رواية من تلك الروايات، كما وأننا لن ندخل في تفاصيل التحليلات الدقيقة لكل أحداث تلك الروايات، فهذا مما لا يسمح لنا به الوقت من جهة، أضف إلى ذلك أن الكتاب الذي بين أيدينا الآن ليس كتابة قائما على دراسة وتحليل الأعمال الأدبية بشكلها المفصل وبالأسلوب الأدبي المطول، من جهة ثانية.

فالغاية من ذكرنا لتلك الروايات الأدبية هي الفكرة التي يحملها ذلك الأدب وليس الأدب ذاته.

ولذلك، دعونا الآن ندخل مباشرة في الحديث عن إحدى تلك الروايات التي تتحدث عن واقعة كربلاء وعن الشخصيات البارزة التي أسهمت في أحداث تلك الواقعة، سواء من طرف الإمام الحسين عليه السلام أم من طرف معاوية ولاحقا ابنه یزید.

ص: 139

فالرواية تحمل عنوان (خيانة وغدر) وهي رواية تاريخية من سلسلة روایات تاريخ العرب والإسلام لمؤلفها الأديب المسيحي (إميل حبشي الأشقر)، ومن المعروف عن هذا الكاتب الأديب أنه كتب هذه الرواية كمقدمة للأحداث التي سبقت وقوع الفاجعة أما روايته الأخرى التي يصور من خلالها الأحداث الفعلية للفاجعة الأليمة فهي رواية (فاجعة كربلاء) والتي تعتبر الجزء الثاني من روايته الأولى (خيانة وغدر).

وعلى كل حال، ماذا يمكننا أن نجد في رواية (خيانة وغدر) من أفكار ومن مقاصد وأهداف أراد المؤلف أن ينقلها لنا من خلال أحدث روايته؟!

إن أول ما يمكن أن يستنتجه القارئ لتلك الرواية هو التوصيف العام للطبيعة الأموية المتجلية بشكلها الأكمل في شخصية معاوية، فمن خلال مجريات الأحداث ومدلولات الأقوال والأحاديث الواردة في سياق النص تظهر صورة معاوية بصورة الخليفة غير الشرعي الذي جاء واعتلى على رقاب الناس دون وجه حق على الإطلاق.

كما ويمكن أن نلاحظ أيضا أن هناك إشارات واضحة تدل على التجاوزات الكبيرة التي قام بها معاوية وخالف بموجبها تعاليم الإسلام ومبادئه الأساسية، وقد ذكر الأديب (حبشي الأشقر) مسألة استلحاق معاوية زياد ابن أبيه بنسبه مما يجعله في نظر الناس أخا له، فيكسب مودته ويأمن شره من جهة، ويرهب به الناس ويكم أفواههم من جهة أخرى، وقد ذكر الأديب (حبشي الأشقر) ثلاثة أبيات من الشعر قالها القائد (یزید بن مفرغ الحميري) يشير من خلالها إلى ما قام به معاوية من خرق واضح الآداب وأخلاق الإسلام.

وتقول تلك الأبيات الثلاثة الواردة في الرواية :

ص: 140

ألا أبلغ معاوية بن حرب *** مغلغلة من الرجل اليماني :

أتغضب أن يقال أبوك عف *** وترضى أن يقال أبوك زاني

فأشهد أن رحمک من زیاد *** کرخم الفيل من ولد الأتان(1)

وفي الحقيقة، فإن مسألة إلحاق زیاد ابن أبيه بنسب معاوية هي من المسائل الثابتة في كتب التاريخ الإسلامي، ولا مجال للطعن في مصداقية حدوثها من قبل معاوية، ويمكن لأي واحد منا التأكد من ذلك بمجرد العودة إلى أي كتاب يتناول سيرة حياة زیاد ابن أبيه(2).

ومن الأفكار الأساسية التي ينقلها لنا الأستاذ الأديب (حبشي الأشقر) في مجريات أحداث روايته، هي تلك الفكرة التي تقول إن معاوية قد حول الخلافة إلى نظام ملكي يتوارث العرش فيه الأحفاد عن الآباء مثلما يتوارثه الآباء عن الأجداد.

فمن خلال الأحاديث الدائرة بين الشخصيات الرئيسية في الرواية نرى أن هناك

تأكيدا واضحا على حقيقة أن معاوية (يبذل دهاءه ليحفظ العرش له ولبنیه)(3)

وليس هذا فحسب، بل إن سياسة معاوية كانت قائمة على التظاهر بالتسامح والحلم، بينما حقيقة الأمر غير ذلك، وقد ذكر مؤلف الرواية حادثة موجزة جدا وعلى قدر كبير من الأهمية نظرا لما تحمل من معان عميقة فاضحة لحقيقة الحلم الذي كان معاوية يتظاهر به أمام أعدائه وخصومه، ففي حديث مرفوع إلى (عبد الله بن عمير) أنه قال:

أغلظ رجل لمعاوية فأكثر، فقيل لمعاوية: أتحلم عن هذا؟!

ص: 141


1- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، دار الأندلس . بيروت، 1979، ص84
2- خليل هنداوي (وآخرون)، زياد ابن أبيه، مكتبة دار الشرق . بيروت، د.ت ص32
3- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، مصدر سابق ص099

فأجاب معاوية: (إني لا أحول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملکنا)(1)

ومع تسلسل أحداث الرواية المثيرة، تشرق صورة الإمام الحسين عليه السلام بهية نقية وكأنها نسخة مكررة عن صورة أبيه عليه السلام وجده صلی الله علیه و آله وسلم ، وتظهر صورة الإمام الحسين عليه السلام كشخصية نبوية نبيلة تستنكر الكثير من أفعال معاوية ودسائسه، وترفض أيضا مبايعة ابنه العربيد (یزید) خليفة على المسلمين.

وآخر ما يمكن أن نخرج به من خلال قراءتنا لأحداث تلك الرواية التاريخية، وجود الروح الثورية التي كانت تتفاعل بقوة في صدر الحسين عليه السلام وفي صدور المخلصين من أصحابه المقربين الذين كانوا هم طلائع الفداء في الحركة الثورية الحسينية، كمسلم بن عقيل وهاني بن عروة اللذين ضربا مثلا عظيما بالإخلاص والوفاء لرسالة الإمام الحسين عليه السلام المستمدة من رسالة جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ومن نهج أبيه علي المرتضی علیه السلام.

ولم يغب عن ذهن الأديب (حبشي الأشقر) أن يقارن بين ما قدمه المقربون من الإمام الحسين عليه السلام وبين ما قدمه أصحاب يزيد للإسلام والمسلمين، فطلائع الثوار الحسينيين قدموا أمثولة في الوفاء للمبادئ الرسالية، وأمثولة أخرى في التضحية الثمينة من أجل الإخلاص لمبادئ الحسين عليه السلام ولقيمة التي سيثور من أجلها قريبا.

أما ما يتعلق بالطرف الأموي، فإن أصحاب يزيد قد قدموا لنا مثلا مجسدا عن الغدر برسالة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ومثلا آخر عن حالة النفاق التي كان يعيشها كل فرد منهم، فالواحد منهم يؤمن إيمانا قطعيا، في قرارة نفسه، بكفر یزید وفسوقه، لكن الشيء

ص: 142


1- نفس المصدر السابق ص107

الذي يحرکه باتجاه موالاته والدفاع عنه هو الدفاع عن المصلحة الخاصة أولا، وقد ضرب لنا الأستاذ (حبشي الأشقر) مثالا واضحا عن تلك الحالة السلبية من التقلبات النفسية التي كان يعيشها أصحاب يزيد والقادة عنده.

وحتى تبدو الصورة أكثر وضوحا ودقة، فقد ذكر المؤلف في الصفحات الأخيرة من روايته كيف أن (عمر بن سعد بن أبي وقاص) قد عاش حالة الصراع النفسي الذي كان سببه ضرورة الاختيار السريع بين تبني أحد الموقفين التاليين:

إما أن يقتل الإمام الحسين عليه السلام مقابل استلامه عهدا بولاية منطقة الري، وإما أن

يرفض الاشتراك في قتل الإمام الحسين عليه السلام ويخسر بذلك ولايته على الري.

وهنا يصور لنا المؤلف (حبشي الأشقر) كيف أن عمر بن سعد قد بات ليلته مفكرا في الأمر، ثم سمعه بعض الناس وهو يقول بصوت مرتفع معبرا عما يعتمل بداخله من صراع:

أأترك ملك الري والري رغبة *** أم أرجع مذموما بقتل حسین

وفي قتله النار الذي ليس دونها *** حجاب، وملك الري قرة عيني ؟ !(1)

وكان من نتيجة هذا الصراع أن اختار - كما سنرى في الرواية الثانية - أن يشارك القوم في قتل الحسين عليه السلام مقابل تحقيق مصالحه الشخصية المتمثلة باستلام منطقة الري والتخطيط لاستغلال ثرواتها لحساباته الخاصة وحسابات سیده یزید.

وإذا كانت رواية (خيانة وغدر) بمثابة تصوير ورصد الإرهاصات الثورية المبكرة

في حركة الإمام الحسين عليه السلام ، فإن الرواية الثانية (فاجعة کربلاء) لنفس المؤلف الأديب الأستاذ (إميل حبشي الأشقر) تأتي بمثابة التكملة التاريخية لأحداث الفاجعة

ص: 143


1- نفس المصدر السابق ص182

الحقيقية التي دارت رحاها على أهل البيت علیهم السلام

ففي هذه الرواية، وقد تحدثنا عنها في فصول متقدمة من هذا الكتاب، يصور لنا الأستاذ (حبشي الأشقر) وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء مع أهل بيته والمخلصين من أصحابه، وهنا تبدأ عملية رصد الأحداث المتسارعة والتي بدأت تتلون باللون الأحمر الناتج عن المبارزات الفردية بين بعض المقاتلين والفرسان من الطرفين.

وأول ما يلفت الانتباه في تصوير تلك المبارزات الدامية، الاعتراف الواضح من قبل رجال يزيد بأنهم يقاتلون الحسين عليه السلام ظلما وعدوانا، وبأن قتالهم له ضلال ما بعده ضلال(1)

ولا يكتفي الأستاذ (حبشي الأشقر) بتدوين تلك الاعترافات المهمة الواردة عن ألسنة كبار قادة جيش يزيد، بل نراه يعمد أيضا إلى تصوير الحالة الوحشية الهمجية التي كان يتصف بها جيش يزيد في معاملته لأهل البيت من النساء والأطفال.

وقد أفرد المؤلف الكثير من الصفحات من أجل إيفاء هذا الغرض حقه من الدقة

في التصوير والصدق في الحديث، وقد انتهى إلى تصوير تلك الحالة بالقول:

(ومال الناس، فنهبوا الفرش والحلي والإبل والمتاع وما على النساء من لباس، ووجد بالحسين ثلاث وثلاثون طعنة، وأربع وثلاثون ضربة حتى خيل إلى الناس أن جسده جرح واحد...)(2).

أما مسألة تسيير سبايا أهل البيت عليهم السلام إلى دمشق، وكأنهم من سبايا أهل الروم أو

ص: 144


1- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، مصدر سابق ص22.
2- نفس المصدر السابق ص29

الترك، فهذا مما لا داعي للوقوف عنده والكلام عنه ثانية، ولكن ما يمكن أن نقف عنده قليلا هو وصف الأستاذ (حبشي الأشقر) لشخصية يزيد كما وردت على ألسنة الناس الذين عرفوه عن قرب، فيزيد الذي تربع على كرسي الخلافة:

(يقضي لياليه كلها بين القيان يعزفن له ويضربن بالطنابير، وهو يداعب كلابه

ويشرب الخمر مع اللصوص ورجال السوء)(1).

وليس هذا فحسب، فيزيد هو الذي أمر بغزو مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لقمع المعارضة التي كانت تستنكر قبيح أعماله وسوء أفعاله، وها هو الأستاذ (حبشي الأشقر) يذكر لنا شيئا من مبادئ وتعاليم يزيد وكبار قادته في زمن الحرب والسلم.

وأول صورة من صور مبادئ وتعاليم مسلم بن عقبة، الذي غزا المدينة بأمر سيده یزید، تتجلى من خلال التعليمات التي أصدرها لجيشه الذي أفلج في إخضاع أهل المدينة والتغلب على رجالها.

فبعد أن قتل جيش (مسلم) معظم رجال المدينة، وكان بينهم الصحابة والتابعون، يقف (مسلم) ويوجه تعليماته الموجزة إلى جيشه قائلا: «أبحت لكم المدينة ثلاثة أيام، تقتلون الناس، وتأخذون ما يطيب لكم من المتاع والأموال... ذلك ما أمرني به أمير المؤمنين)(2)

ورب قائل يقول: وهل نقل لنا الأستاذ الأديب (حبشي الأشقر) بعض صور تلك

الحادثة المخزية التي وقعت على مدينة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟!

في الحقيقة، لقد كسر الأديب (حبشي الأشقر) حدود وقواعد الأدب الروائي

ص: 145


1- نفس المصدر السابق ص113
2- نفس المصدر السابق ص159.

المتعارف عليها، فهو لم يكتف بذكر ونقل بعض تلك الصور المروعة التي قام بها جيش يزيد في المدينة بعد أن ارتكبوا ما يماثلها ويفوقها من فظائع شنيعة في كربلاء، بل راح يذكر بعض الأقوال والتعليقات لعدد من المستشرقين على ما قام به أولئك الأمويون الفجرة، وبالطبع، فإن إدخال بعض التعليقات على مجريات الأحداث داخل الرواية يخرجهانسبيا من دائرة العمل الأدبي ليدخلها في دائرة البحث الأدبي والتاريخي معا، هذا ما نراه نادرا في الأدب الروائي.

وعلى كل حال، دعونا نذكر حادثة واحدة من الحوادث التي سلط عليها الأستاذ (حبشي الأشقر) الأضواء في روايته (فاجعة کربلاء) ليرينا فظاعةالأعمال التي قام بها

جيش يزيد في مدينة رسول الله صل الله عليه واله الآمنة.

يبدأ الأستاذ (حبشي الأشقر) حديثه قبل سرد الحادثة، واصفا هول الحدث:

تدمير وقتل ونهب إلى النهاية ... حتى بلغ عدد القتلى يوم (الحرة)، من قریش والمهاجرين والأنصار، ألفا وسبعمائة من الرجال، وعشرة آلاف من سائر الناس ما عدا النساء والغلمان... أباح المدينة لجنده يفعل بأهلها ما يشاء، فطغى الجند وبغی، ونحن ندلك الآن على أثر من آثار طغيانه:

دخل جندي دار امرأة من الأنصار وعلى صدرها طفل، فقال لها:

- هل من مال؟

قالت: لا والله، ما تركوا لي شيئا.

قال: لئن لم تخرجي إلي شيئا لأقتلنک وطفلک هذا.

قالت: ويحك !! إنه حفيد أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، ولقد بايعت رسول الله صل الله عليه واله معه يوم بيعة الشجرة على أن لا أزني ولا أسرق ولا أقتل ولدي

ص: 146

ولا آتی ببهتان أفتريه، فما أتيت شيئا، فاتق الله !!

ثم قالت لابنها (الطفل الرضيع): والله لو كان لي شيء يا بني لافتديتك به.

فأخذ الجندي برجل الطفل، والثدي في فمه، وجذبه بعنف ثم ضرب به الحائط

فانتثر دماغه (وأمه تنظر إليه)(1).

هذه، بالطبع، إحدى تلك الصور المروعة التي نقلها لنا الأستاذ الأديب (حبشي

الأشقر) بكل صدق وأمانة نقلا عن أمهات كتب التاريخ الإسلامي.

وكما ذكرنا سابقا، فإن الأديب المؤلف قد أدخل في القسم الأخير من روايته (فاجعة كربلاء) آراء العديد من المستشرقين والمفكرين، إضافة إلى آرائه الشخصية، حول فظائع الأمويين بحق أهل البيت عليهم السلام في واقعة كربلاء وفي غيرها من الوقائع والأحداث التي تثبت، بحق، أن الأمويين لم يكونوا أكثر من جماعة وثنية أرادت أن تهدم البناء الإسلامي من الداخل.

وعلى الرغم من أننا سنترك ما كتبه الأديب الأستاذ (إميل حبشي الأشقر) في روایتیه (خيانة وغدر) و (فاجعة كربلاء)، وسنغادره الآن إلى أديب آخر، إلا أننا سنعود إليه في الوقت المناسب، لاحقا، كي نتعرف على آرائه الفكرية الخاصة بشأن أحداث کربلاء والنتائج الصادرة عنها.

ولكن، وقبل أن نحط الرحال عند رواية جديدة وأديب جدید، علينا أن نتوقف قليلا مع المفكر الفرنسي المعروف بلقب (الدكتور جوزف)، ذلك المفكر الذي درس الفكر الإسلامي بشكل جيد، وتوقف طويلا عند الفكر الشيعي وأبعاده الروحية العميقة المتميزة عن بقية المذاهب والفرق الأخرى.

ص: 147


1- نفس المصدر السابق ص165

وقد حاول هذا المفكر الفرنسي أن يكون موضوعيا في تقييمه للجانب الروحي والنفسي في فاجعة كربلاء، وقد رأى أن أحد أهم عوامل استمرار الفكرالإسلامي الشيعي وتطوره هو الحدث العظيم الذي تم على أرض کربلاء

وها هي كلمات (الدكتور جوزف) ( Dr. Joseph ) تشهد بذلك، وتشهد أيضا

بأن المسيحيين الأوروبيين يتعاطفون ضمنيا مع أهل البيت عليهم السلام الذين وقع عليهم الظلم الشديد من قبل أعدائهم الأمويين الذين لا يعرفون الرحمة أبدا.

يقول الدكتور جوزف: (وهؤلاء مصنفو أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله، مع أنهم لا يعتقدون بهم، إلا أنهم يذعنون بالمظلومية لهم، ويعترفون بظلم وتعدي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا یذکرون أسماءهم إلا مشمئزين، وهذه الأمور الطبيعية لا يقف أمامها شيء، وهذا السر هو من المؤيدات الطبيعية لفرقة الشيعة)(1)

نعم، لقد أصاب (الدكتور جوزف) في كلامه هذا، وقد صدق في استنتاجاته عندما أكد أن ما حدث في كربلاء أعطى نتيجة مغايرة تماما لما كان يرجوه بنو أمية، فبدل أن ينطفئ ذكر آل محمد عليهم السلام، وبدل أن يخمد فكرهم على الساحة الإسلامية، نرى أن النتيجة لم تكن كما كان يرغب الأعداء الأمويون، فقلوب الكثير من الناس مالت إليهم وتعلقت بهم، والكثير من المسلمين في البلدان التي وصلها نبأ الفاجعة راجعوا حساباتهم الفكرية والروحية ورأوا أن الحسين عليه السلام لم يكن إلا صوت ضمير جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم المنادي في قلوب أبناء الأمة الغافلة عن الحق والمائلة عن منهج

ص: 148


1- راجع كلمة (الدكتور جوزف) في مجلة (الموسم)، العدد /13، المجلد /4،/ مصدر سابق ص236.

الصدق.

لقد لعبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء دورا عظيما في تثبيت دعائم الفكر الإسلامي الشيعي وفي إظهار حقيقة سوء الحكم الأموي وابتعاده الکلي عن الإسلام وعن قيمه ومبادئه.

وليس هذا فحسب، فالفكر الإسلامي الشيعي الذي بدأ منذ زمن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ، والذي هو شخصيا ألقي ببذوره الأولى مع بداية دعوته لرسالته السماوية الجديدة، نراه ينمو وينضج في كربلاء وينتقل بفعل قوته الفكرية والروحية إلى العالم شرقا وغربا محققا حضورا مميزا على ساحة الفكر الإنساني الرفيع الباحث عن حقيقة وهدف وجودنا في هذا الكون الغامض والفسيح.

ولا ريب أبدا في أن المستشرق الفرنسي المعاصر (هنري کوربان) ( .H Corbin) قد أصاب وأجاد عندما قال عن ذلك الفكر الشيعي الخلاق: (في عقيدتي، جميع الأديان حق، وهي تسعى وراء حقيقة حية، وتشترك جميعا في السعي لإثبات أصل وجود هذه الحقيقة الحية، ولكن يبقى التشيع وحده هو المذهب الذي منح هذه الحقيقة لباس الدوام والاستمرار بعقيدته، إن هذه الحقيقة ما بين العالم الإنساني والألوهي ثابتة دائما وباقية إلى الأبد)(1)

فالفكر الإسلامي الشيعي من جهة، وسيرة أهل البيت عليهم السلام المليئة بالمصائب والآلام العظيمين من جهة أخرى هما جناحا ذلك الفكر الإسلامي إلى جميع أصقاع

العالم.

ص: 149


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، الشيعة (نص الحوار مع المستشرق كوربان)، ترجمة: جواد علي كسار، مؤسسة أم القرى . بیروت، ط 1418/2 ص50

فالمصائب التي واجهت محمد صلی الله علیه و آله وسلم عليا عليه السلام وفاطمة الزهراء علیها السلام والمجازر الدامية التي نالت من ذرية النبي المقدسة، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء الكرامة، هي التي خلقت عند عموم الناس، من مسلمين وغير مسلمين، تعاطفا روحيا معهم واستجابة فكرية للأهداف والقيم النبيلة التي قتلوا من أجلها دون أن يظهروا أي إشارة أو علامة من علامات الاستسلام أو اليأس والإحباط والقنوط، وربما كانت هذه الحقيقة هي الدافع الأساسي للدكتور الإنكليزي (دوایت رونالدسن) ليقول: (إن فجيعة العالم الإسلامي بالإمام الحسين قد جعلته بمستوى المسؤولية، وهي مأساة لا نظير لها في التاريخ وستبقى خالدة مع الأيام)(1).

ومن أسباب خلود الثورة الحسينية على مر الزمان هو تحولها من موقف زماني ومكان محدد إلى مدرسة فكرية شاملة تتجاوز بتعاليمها ومبادئها حدود الأمكنة والأزمنة ولتتحول بذلك إلى مدرسة عالمية تبين الصراع الأبدي الدائر بين الحق والباطل، فتناصر الحق وتدعو إلى اعتناقه، وتناهض الباطل وتدعو إلى اجتنابه .

وما يعزز هذا القول هو رأي الباحث المصري، الدكتور (أحمد راسم النفيس) الذي عاش تجربة روحية مريرة ومثيرة انتهت به إلى أن يلقي بمرساته المتعبة على شاطئ الأمان والاطمئنان، على شاطئ ولاية أهل بيت الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم

يقول الدكتور (النفيس) في كتابه القيم (على خطى الحسين) مبينا أهمية الدور والموقف الحسيني الذي تحول من طور الدرس الواحد إلى طور المنهج الكلي الكامل القائم على كيفية التعامل والتفاعل مع قطبي الصراع في الوجود، وضرورة الانتقال من الرؤى النظرية إلى الوقائع التطبيقية في خط سير ذلك الصراع: (الموقف

ص: 150


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص46

الحسيني میزان ومعيار يميز بين الحق والباطل، وهذه حقيقة واضحة من خلال النصوص الكثيرة المتواترة في خصائص أهل بيت النبوة أو تلك الواردة في حق الحسين عليه السلام على سبيل الخصوص.

والذي زاد الأمر وضوحا هو الدليل العملي الذي قدمه الحسين عليه السلام على صحة

ما ورد في فضل أهل البيت عليهم السلام)(1)

وفور الانتهاء من هذا التعليق على حركة الإمام الحسين عليه السلام، ينتقل الدكتور

(النفيس) ليطرح عدة أسئلة هامة، ومن ثم ليجيب هو عنها قائلا:

(فأين كان الآخرون من هذه الفتن التي هاجمت الأمة المسلمة من كل جانب؟!

أين موقف الدفاع العملي عن قيم الإسلام؟!

سؤال لا نجد له إجابة إلا في تحرك الحسين عليه السلام ذلك التحرك الذي كان مقدمة

لكل الحركات الثورية في تاريخ الأمة الإسلامية)(2)

ولا ريب في أن جواب الدكتور (النفيس) على السؤالين المطروحين أعلاه

يستحق الوقوف عنده من أجل دراسته وتحليله بالشكل اللائق به، فهو جواب ينطوي على الكثير من العبر المستخلصة من دروس ثورة الحسين عليه السلام ، ولذلك سنتوقف عند ذلك الجواب في الفصل الأخير من كتابنا هذا، وهو الفصل المخصص لاستخلاص النتائج والدروس المستفادة من الفاجعة الدموية.

ولكن يبقى أن نشير هنا، وهذا من نافلة القول، إلى أن الباحث الدكتور (أحمد راسم النفيس) (1952 ....) قد تحدث عن تجربته الروحية الغنية في كتابه (الطريق

ص: 151


1- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، الغدير . بيروت، ط 1997/1ص117
2- نفس المصدر السابق ص118

إلى مذهب أهل البيت عليهم السلام )، وقد بين من خلاله مدى تأثره بوالده وبجده، الذي كان أحد علماء الأزهر، وكيف توصل إلى الكثير من الحقائق عن مذهب أهل البيت علیهم السلام ، وكيف اتسعت دائرة معلوماته مما أدى إلى ابتعاد أصدقائه وأقاربه عنه، ثم كيف أتت المرحلة اللاحقة وهي مرحلة اعتقاله وتعذيبه، وتلفيق الاتهامات له من قبل السلطات وأجهزة الأمن، وكيفية ملاحقة نشاطاته الفكرية وحركاته السلمية حتى بعد الإفراج عنه وعن بعض مؤيديه الذين مضوا معه على نفس النهج غير آبهين بصعوبة الطريق ومرارة المصير.

وما دمنا في معرض الحديث عن كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي،

دعونا الآن نحط رحالنا في واحة رواية جديدة لأديب وباحث مسيحي معروف للجميع، إنه الباحث والأديب (جرجي زيدان) صاحب سلسلة روايات تاريخ الإسلام الغنية عن التعريف.

والرواية التي سنتحدث عنها الآن هي روايته الأكثر شهرة، إنها رواية (غادة کربلاء)، تلك الرواية التي لا تحتاج إلى الكثير من المقدمات ولا إلى المزيد من التعريف بکاتبها المسيحي الذي حاول جاهدا من خلال مؤلفاته الأدبية أن يعيد صياغة الكثير من الأحداث التاريخية الإسلامية بأسلوب أدبي روائي جذاب يشد القارئ لمعرفة صفحات هامة من تاريخ العرب والمسلمين.

ولا أعتقد أن القارئ الكريم قد نسي أننا تناولنا رواية (غادة كربلاء) في أحد الفصول السابقة في هذا الكتاب، وأننا قد ذكرنا أشياء عديدة مما ورد في سياق أحداثها المؤثرة.

وعلى كل حال، سنوجز الحديث عن هذه الرواية نظرا للتشابه الكبير والتقارب

ص: 152

اللافت للنظر بينها وبين رواية (فاجعة كربلاء) للأديب (إميل حبشي الأشقر) التي كنا في معرض الحديث عنها منذ قليل في الصفحات السابقة من هذا الفصل.

فالأحداث العامة في خطوطها العريضة والهامة واحدة ومتماثلة بين الروايتين،

وروح الحدث أيضا واحدة، وكذلك الحال بالنسبة إلى تقييم الشخصيات البارزة في أحداث الواقعة.

وعلى سبيل المثال، يبرز لنا الأديب (زيدان) شخصية الإمام الحسين عليه السلام في سياق أحداث الرواية بصورة الإمام الزاهد والثائر على الظلم والفساد في مجتمع لم يعد يعرف عن روح الإسلام وعن آدابه وأخلاقياته إلا الشيء القليل، وهنا يقوم الأديب

(زیدان) بإعطائنا صورا من الواقع الإسلامي السيئ الذي كان يزيد بن معاوية يعمل جاهدا للإبقاء عليه من أجل تبرير الكثير من أفعاله وأفعال أبيه السابقة.

ولم يغب عن ذهن المؤلف أيضا أن يفضح، على لسان بعض أبطال الرواية، حقيقة الرجال والقادة الذين استخدمهم یزید کبطانة سوء له، يرهبون الناس ويقطعون أوصالهم ويأكلون أموالهم ويذيقونهم حر الحديد وبرده، لا لشيء إلا لإطفاء نور أهل البيت عليهم السلام من جهة، ولإرضاء (الخليفة) وتثبيت دعائم حكمه على جثث الضحاياوالمظلومين من جهة أخرى(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الحكم الأموي وقتذاك - كما يصوره لنا الأستاذ زيدان في نفس الرواية - انتهج أسلوب مطاردة العلويين وقتلهم في كل مكان دون أدنی شفقة أو رحمة، كما أنهم انتهجوا أيضا أسلوب التعتيم الإعلامي على حقيقة أهل البيت عليهم السلام وعلى فضائلهم وخصالهم ومعرفة حقوقهم، وزادوا على ذلك بأنهم جعلوا مسبة

ص: 153


1- جرجي زيدان، غادة كربلاء، مصدر سابق، ص 117.116

الإمام علي عليه السلام والنيل منه على المنابر فريضة دينية وسنة أموية تتكرر على ألسنتهم كل يوم بعد كل صلاۃ(1)

ولا داعي هنا لنذكر ما أورده الأستاذ (زیدان) بشأن الفضائح السوداء التي ارتكبها معاوية ذاته بحق الإسلام والمسلمين، وكيف أنه هو من وضع ذلك النهج الأموي الفاسد بصورته السوداء المتبلورة كي يمشي عليه ابنه الفاسق يزيد ومن سيأتي بعده من الأمويين المعروفين بعدائهم التاريخي لقيم السماء ولأهل البيت علیهم السلام الذي يمثلونها خير تمثيل.

أما الصورة المباشرة لشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، فيقول عنها الأستاذ (زیدان) بلسان ذاته: (وكان الحسين خالص الطوية صادق اللهجة مثل أبيه، وكان سليم النية سريع التصديق، وما ضاعت الخلافة منه إلا لطيب عنصره ولحمه ورغبته عن الدهاء والمكر)(2).

أما ما يتعلق بالصور المأساوية المرتبطة بما حدث على أرض الفاجعة في كربلاء، فلا داعي لتكرارها وإعادتها ثانية، فقد ذكرنا منها ما فيه الكفاية في فصل سابق بعنوان

(صور من الفاجعة)، وقد أخذنا بعض تلك الصور بطريقة أو بأخرى من هذه الرواية

التي نحن بذكرها الآن.

وبقي أن نقول عن هذه الرواية المؤثرة إنها كانت رواية مقبولة من حيث جودة ومتانة تركيبتها الأدبية وحبكتها القصصية، لكن الأحداث التي نقلها لنا مؤلفها الأستاذ الأديب (جرجي زيدان) لم تكن بمستوى دقة الأحداث التي وردت في رواية (فاجعة

ص: 154


1- نفس المصدر السابق ص104
2- نفس المصدر السابق ص194

کربلاء) للأديب (إميل حبشي الأشقر)، فالصور الحقيقية لما ارتكبه القادة الأمويون من فظائع ومجازر بحق المؤمنين من المسلمين وبحق الحسين وأهله عليهم السلام كانت قليلة نسبيا، وكان يشوبها شيء من البرود أثناء عرضها على القارئ مما أفقدها الحرارة والحيوية في عملية تسارع الأحداث واتجاهها نحو الذروة.

ولكن تبقى هذه الرواية شاهدا جيدا على ما ارتكبه الأمويون، بقيادة زعيمهم يزيد ابن معاوية، بحق الإسلام والمسلمين عموما، وبحق الإمام الحسين عليه السلام وعياله وأطفاله وأصحابه خصوصا، ويبقى الهدف النهائي من هذه الرواية هو تلك الوصية التي نقلها لنا الأستاذ (زیدان) في آخر سطور روايته، وقد جعلها على لسان الشيخ الزاهد (عدي) - والد الشهيد (حجر) الذي قتله معاوية ظلما قرب دمشق - حيث أوصى ذلك الشيخ الزاهد من حوله قائلا لهم:

(إني أوصيكم بتقوى الله، والتفاني في نصرة أهل النبي، فأقيموا بمكة وحجوا إلى

کربلاء، وابكوا قتلاها ما استطعتم، وسيقتص الله من القوم الظالمين)(1)

وفي الحقيقة، إن هذا الكلام يستوقفنا ويستوقف كل من قرأ ولو شيئا يسيرا عن مجريات أحداث الثورة والفاجعة، ولا يستوقفنا هذا الكلام لأنه ورد في رواية تاريخية

کتبت بقلم مسيحي، بل إنه تستوقفنا لأنه يحمل في طياته معاني وحقائق لم تأت من فراغ، وإنما جاءت من مقدمات ودوافع كثيرة أدت إلى تلك النتيجة التي تتداولها كتب التاريخ والكتب الاختصاصيةالمعاصرة، ولا تزال تتناولها بالدراسة والتحليل بهدف الوصول إلى الدروس والعبر المستفادة من تلك الواقعة الثورية الأليمة.

وعلى سبيل المثال، دعونا نتوقف قليلا مع المفكر والفيلسوف الألماني

ص: 155


1- نفس المصدر السابق ص270

المعروف الأستاذ (ماربين) لنرى عن قرب كيف كانت نظرته إلى الإمام الحسين عليه السلام وإلى الحركة الثورية التي قادها بكل رجولة وإيمان، على الرغم من التكاليف الباهظة التي دفعها في سبيل إحياء مبادئها وقيمها التي تشكل جوهر الإسلام روحيا وفكريا.

يقول الأستاذ (ماربين) في كتابه (السياسة الإسلامية):

(الحسين بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عليه السلام هو سبط محمد صلی الله علیه و آله وسلم من ابنته المحبوبة فاطمة علیها السلام ويمكن أن يقال عنه أنه كان مجمع فضائل هذا العصر وأعلم المسلمين بدین جده، قد ورث الشجاعة عن أبيه وحاز أعلى درجات السخاء الذي هو أحب الصفات، فصیح البيان طلق اللسان، غيورا صادقا في الحديث، غير مرعوب من العدو، وعامة المسلمين لهم عقيدة به ومتفقون على مدحه والثناء عليه وقد أشغلوا كتبهم بذكر ملكاته الحسنة وسجاياه المستحسنة حتى الذين لا يوالون أباه وأخاه)(1)

إذن، هذا هو الوصف المبدئي الذي يراه الفيلسوف والباحث الألماني (ماربين) في شخصية الإمام الحسين عليه السلام، ولكن، بالطبع، ليس هذا كل شيء عنه عليه السلام فلا يزال هناك الكثير ليقال عن الإمام الحسين عليه السلام وعن التضحيات العظيمة التي قدمها في سبيل إحیاء دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي لم يبعث إلا رحمة للعالمين.

وعن تلك التضحيات والمصائب التي ارتبطت بمسيرة الإمام الحسين عليه السلام ،

يتابع ذلك الفيلسوف الألماني كلامه قائلا:

(المصائب التي تحملها الحسين عليه السلام في طريق إحياء دین جده تتفوق على مصائب أرباب الديانات السابقين ولم ترد على أحد منهم، نعم، إن هناك رجالا قتلوا

ص: 156


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص57

في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين عليه السلام ، فإنه ضحى بنفسه العزيزة في طريق إحياء دین جده وفداه بأولاده وإخوانه وأقربائه وأحبابه وأمواله وعياله، ولم تقع هذه المصائب دفعة واحدة حتى تكون في حكم مصيبة واحدة، بل وقعت متوالية واحدة بعد أخرى، ويختص الحسين عليه السلام دون غيره بتواتر أمثال هذه المصائب كما يشهد له التاريخ)(1)

ومن المحتمل جدا أن يقول أحد القراء مستغربا:

ما لهذا المفكر المسيحي الغربي يقول شيئا عجبا!!

وكيف يقول: إن هناك رجالا قتلوا في طريق إحياء الدين ولكنهم لم يكونوا كالحسين)، فهل يقصد بهذا الكلام أن الإمام الحسين عليه السلام كان ذا مصاب أعظم وأعمق من مصاب السيد المسيح عليه السلام الذي يعتبره المسيحيون في الشرق والغرب أنه صاحب أعظم مصيبة شهدتها الإنسانية؟!

وبالطبع، فإنه من حق أي قارئ أن يتساءل عن ذلك وأن يبدي استغرابه مما قاله ذلك المفكر والفيلسوف الألماني عن الإمام الحسين عليه السلام ، ولكننا لن نجيب نحن عن ذلك السؤال المنطقي الهام، بل دعونا نستمع سوية إلى الجواب من المسيو (ماربین) نفسه.

يقول (ماربين) مبددا ځجب الحيرة وممزقا سحب الشك:

(إن مصائب الحسين أشد حزنا وأعظم تأثيرا من مصائب المسيح)(2)

وعلى كل حال، ستكون لنا وقفة مطولة مع هذا الفيلسوف الألماني المتميز في

ص: 157


1- نفس المصدر السابق ص57
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص116.

كل دراساته المعمقة عن التاريخ السياسي للإسلام، والذي كانت له وقفات مطولة مع ثورة الإمام الحسين عليه السلام التي هزت الضمير العالمي من الأعماق وأعطت الإنسانية دروس كثيرة لا تنسى في جميع ميادين الحياة ومجالاتها.

وبما أن هذا الفصل يحمل العنوان التالي (كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي)، دعونا نعود، إذن، إلى دراسة بعض المؤلفات الأدبية وإلى تحليلها فكريا مستعينين على ذلك بالعديد من الأقوال والأحاديث الهامة التي قالها كبار رجال الثقافة والفكر في الشرق والغرب.

ومحطتنا الآن عبارة عن كتاب لم يشأ كاتبه أن يطلق عليه اسم (رواية) ولم يصنفه تحت أي باب من أبواب الأدب أو الدراسات، وإنما ۔ على ما يبدو - فقد ترك أمر تصنيفه إلى ذوق القارئ وإلى حريته في أن ينظر إلى ذلك العمل من وجهة نظر أدبية روائية أو دراسة سردية تاريخية.

فالكتاب يحمل عنوان (أهل بيت النبي) للأديب والمفكر المصري (عبد الحميد جودة السحار) الذي أثرى المكتبة العربية بأعماله الأدبية ومؤلفاته الفكرية التي قاربت المئة عملا تقريبا في ميادين مختلفة ومواضيع شتی.

ويغطي هذا الكتاب، (أهل بيت النبي)، مساحة زمنية طويلة نسبيا تمتد من ما بعد موقعة بدر وحتى استشهاد الإمام الحسين في كربلاء والمسير بالسبايا إلى دمشق ومن ثم العودة بهم إلى المدينة، وهذه المرحلة هي في حقيقة الأمر المرحلة الأكثر حساسية في مسيرة الرسالة الإسلامية وفي بيان خط سيرها، ولذلك فقد جعلها الأستاذ (جودة السحار) المادة الخصبة لموضوع كتابه المذكور.

ولا نريد هنا أن نستعيد ما ذكرنا من أحداث وردت في الكتب والروايات التي

ص: 158

ناقشناها سابقا، ولكن يكفي أن نذكر هنا أن الأستاذ الأديب (جودة السحار) يربط دائما بين مفهوم الغربة والشهادة من جهة وبين مفهوم الوفاء والإباء من جهة أخرى.

فالإمام الحسين عليه السلام أدرك بنفاذ بصيرته وبقوة إيمانه أنه سيعاني الغربة في مسيرته وسيلاقي الشهادة في نهاية ثورته، ولكن بالمقابل أيضا، كان يعرف تمام المعرفة ويؤمن تمام الإيمان أن كل ما سيقوم به في ثورته وكل ما سيبذله ويضحي به من أجلها، إنما هو في محصلة الأمر بذل وتضحية ووفاء لرسالة النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، ذاك النبي الذي تنبأ له بكل ما سيلاقيه من مصاعب وآلام وفجائع جمة لإعلاء كلمة الله ولتثبيت كل الفضائل المجيدة والخصال الحميدة في المعالم الأساسية للهوية الإنسانية.

وهنا يصور الأستاذ (جودة السحار) خروج الإمام الحسين عليه السلام من المدينة إلى کربلاء بأسلوبه الأدبي الرقيق والمؤثر، ويقارن ذلك الخروج من المدينة بخروج کلیم الله موسى عليه السلام من مدينته خائفا يترقب وهو يقول: رب نجني من القوم الظالمين. ولابأس هنا بالوقوف على صورة خروج الإمام الحسين عليه السلام من مدينة جده رسول الله صل الله عليه واله كما جاء وصفها بقلم الأستاذ الأديب (جودة السحار)، ولنستمع إليه سوية الآن وهو يقول واصفا ذلك الخروج الحزين الذي ينذر بما خبأت له صحائف الغيب:

(وتجهز الحسين للخروج، فدخل قبر الرسول ليودعه قبل الرحيل، فبان في وجهه الأسى العميق وغامت عيناه بالدموع، وقال وهو يشرق بعبراته:

«بأبي أنت وأمي يا رسول الله! لقد خرجت من جوارك كرها، وفرق بيني وبينك، وأخذت قهرا أن أبایع یزید شارب الخمور، وراكب الفجور، وإن فعلت كفرت، وإن

ص: 159

أبيت قتلت، فها أنا خارج من جوارك كرها، فعليك السلام مني يا رسول الله»(1).

وهنا ينتقل الأديب (جوه السحار) إلى وصف الحالة النفسية العامة للإمام الحسين عليه السلام بعد زيارته الأخيرة لقبر جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، فيقول مصورا تلك الحالة النفسية: (وسار (الحسين عليه السلام ) مطأطئ الرأس منقبض الصدر، تشيع في نفسه أحاسيس رهبة وحزن، وتلفت قبل أن يخرج لفتة إلى القبر، وألقي نظرة أخيرة طويلة كأنما يتزود منه لنهاية العمر فما يدري أيعود إلى قبر الحبيب ثانية يزوره، أم يلتقي بصاحب القبر في جنات عرضها السماوات والأرض)(2)

ويشير المؤلف بطريقة غير مباشرة إلى أن الحسين عليه السلام كان يدرك في قرارة نفسه أنه سيلتقي قريبا بجده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم في جنات الخلود الأبدي ولكن بعد أن يعتلي صهوة الموت قتلا في سبيل إحياء تعالیم وقيم جده الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم الذي أخبر فيما مضى أنه سيسير لاحقا على دروب الحق والشهادة وأن دماءه الطاهرة ستكون معراجه إلى ملكوت السماء.

ولم يكتف الأستاذ الأديب (جودة السكار) بتصوير أحداث كربلاء التفصيلية في كتابه (أهل بيت النبي)، بل عمد إلى كتابة كتاب آخر مخصص للحديث عن الإمام الحسين عليه السلام فقط، وأسماه (حياة الحسين)، وعلى الرغم من أن الكتاب يشير من خلال عنوانه إلى سيرة حياة الإمام الحسين عليه السلام من ألفها إلى يائها، إلا أنه بنفس الوقت يتناول أيضا سيرة أهم المحطات في حياة أخيه الإمام الحسن عليه السلام الذي عمد إلى حقن دماء المسلمين من خلال عقد الاتفاقية المشهورة بينه وبين معاوية الناكث

ص: 160


1- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي ، مصدر سابق ص278
2- نفس المصدر السابق ص278.

بها لاحقا، ويشير المؤلف أيضا في كتابه (حياة الحسين)، ذي الطابع الروائي الواضح، إلى مسألة هامة جدا في بدايات كتابه المذكور، وتتجلى تلك المسألة الهامة من خلال التأكيد على أن معرفة أهم الدوافع الأساسية للثورة الحسينية لا يمكن الوقوف عليها إلا بعد التعرف على ما كان يفعله معاوية، والد یزید، بالإمام الحسن علیه السلام، شقیق الحسين عليه السلام.

فمن خلال فهم طبيعة معاوية وطبيعة البطانة المحيطة به يمكن الوصول إلى معرفة الشيء الكثير عن دوافع تلك الثورة الخالدة التي تفجرت في زمن الحسين علیه السلام

ومنعا لوصول الملل إلى القارئ الكريم، فلن نكرر ذكر دوافع الثورة ولا تفاصيل الفاجعة، بل سنكتفي بذكر تلك الحادثة الشهيرة التي ذكرها الأستاذ الأديب (جودة السحار) في معرض حديثه عن الخلاف بين الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية وتبيان الصراع الأيديولوجي بينهما من خلال فضح الإمام الحسن عليه السلام لسياسة معاوية المبنية على تسليم أهم المناصب والقيادات في الدولة الإسلامية إلى أرباب السوء والفسوق، أولئك الذين ينحدرون من أسوأ البيوت منبتا وتربية، حيث جعلهم معاوية بطانته القريبة التي يتحكم من خلالها برقاب العباد ومصير البلاد.

أما الحادثة التي سنذكرها الآن، فهي تلك الحادثة الشهيرة التي تقول إنه اجتمع في إحدى المرات عند معاوية عمرو بن العاص والولید بن عقبة وعتبة بن أبي سفيان والمغيرة بن شعبة، وقد طلب هؤلاء من معاوية أن يرسل في طلب الإمام الحسن علیه السلام ، كي يحضر مجلسهم من أجل أن ينالوامنه ومن أبيه علي عليه السلام ، وبعد تردد من معاوية، يستجيب لطلبهم ويرسل وراء الإمام الحسن عليه السلام کي يحضر مجلسهم في

ص: 161

الحال.

وما أن حضر الإمام الحسن عليه السلام ذلك المجلس المشؤوم حتى راح كل واحد منهم يتناوله بالشتم والشباب وإفراغ سمومه في أذنيه وهو ساكت لا يتكلم أبدا حتى ظنوا أنه بسكوته عنهم وعن سمومهم التي أخرجوها من صدورهم وألقوها في أذنيه قد نالوا منه كل ما أرادوا

ولكن، في النهاية، ماذا كانت النتيجة ؟!

وما هو الرد الذي قام به الإمام الحسن عليه السلام تجاههم وتجاه معاوية الذي تظاهر

بالوقوف على الحياد؟!

وما هو الهدف من اتباع ذلك الأسلوب في الرد على كل واحد منهم على انفراد؟!

فالإجابة على هذه الأسئلة لا تحتاج - بتقديرنا - إلى الكثير من الجهد والعناء، فبمجرد الاطلاع على رد الإمام الحسن عليه السلام ومعرفة طبيعة ذلك الرد الحاسم وفهم خلفياته وأبعاده، عندئذ نستطيع الإجابة على كل تلك الأسئلة التي ذكرناها منذ قليل.

وحتى لا نطيل الكلام، دعونا نقرأسوية ذلك الرد الذي ذكره الأستاذ الأديب (جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين):

بعد أن أدلى كل واحد منهم بدلوه في شتم الإمام علي عليه السلام والحسنین علیهما السلام وأفرغوا كل ما عندهم من سموم، سكتوا وقد ظنوا أنهم حققوا ما أرادوا

وهنا يأتي دور الإمام الحسن عليه السلام في الرد، بمحضر معاوية، فيقول مخاطبا إياه

فاضحا لسياسته من خلال كشف اللثام عن حقيقة وطبيعة رجال بطانته:

«یا معاوية، فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني فحشا ألفته، وسوء رأي غرفت

ص: 162

به، خلقا سيئا ثبت عليه، وبغيا علينا عداوة منك لمحمد وأهله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا، فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم.

أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كليهما

وأنت يا معاوية بهما کافر تراها ضلالة، وتبعد اللات والعزى غواية؟!

وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كليهما بيعة الفتح وبيعة الرضوان، وأنت یا معاوية بإحداهما كافر، وبالأخرى ناکث؟!

وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة

قلوبهم تسترون الكفر وتظهرون الإسلام وتستمالون بالأموال؟!

وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنه صاحب راية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يوم بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية وأبيه، ثم لقيكم يوم أحد والأحزاب ومعه راية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم و ومعك ومع أبيه راية الشرك، وفي كل ذلك يفتح الله له ويفلح حجته وينصر دعوته ويصدق حديثه، ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في تلك المواطن كلها عنه راض وعليك وعلى أبيك ساخط؟!

وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوما جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده فرآكم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فقال: اللهم العن الراكب والقائد والسائق؟! والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت.

وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فأنزل الله فيه: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ»(1) وأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم

ص: 163


1- سورة المائدة : الآية 87

فهزموا، فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وفعل في خيبر مثلها.

وأنتم أيها الرهط أنشدكم الله ألا تعلمون أن رسول الله لعن أبا سفيان في سبعة

مواطن لا تستطيعون ردها، أولها يوم لقي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقیفا إلى الدين فوقع به وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده وهم أن يبطش به فلعنه الله ورسوله وصرف عنه.

والثانية يوم العير إذ عرض لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهي جائية من الشام فطردها أبو سفیان وساحل بها ولم يظفر المسلمون بها، ولعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ودعا عليه فكانت وقعة بدر لأجلها، والثالثة يوم أحد حيث وقف تحت الجبل ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في أعلاه وهو ينادي (أعل هبل) مرارا، فلعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عشر مرات ولعنه المسلمون.

والرابعة يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود فلعنه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وابتهل والخامسة يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله، ذلك يوم الحديبية فلعن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أبا سفيان، والسادسة يوم الجمل الأحمر، والسابعة يوم وقفوا لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في العقبة ليستنفروا ناقته، وكانوا اثني عشر رجلا منهم أبو سفيان، فهذا لك يا معاوية.

وأما أنت یا بن العاص، فإن أمرك مشترك، وضعتک أمك مجهولا من عهروسفاح، فتحاكم فيك أربعة من قريش فغلب عليك جزارها، الأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، ثم قام أبوك فقال: أنا شأني محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ما أنزل، وقاتلت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته بمكة وكدته کيدك كله، وكنت من أشد

ص: 164

الناس له تكذيبا وعداوة، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة، فلما أخطأك مارجوت، ورجعك الله خائبا، جعلت حقدك على صاحبك عمارة بن الوليد فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلته ففضحك الله وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية والإسلام.

ثم إنك تعلم وكل هؤلاء الرهط يعلمون أنك هجوت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بسبعين بيتامن الشعر، فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : اللهم إني لا أقول الشعر ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك من الله ما لا يحصى من اللعن، وأما ما ذكرت من أمر عثمان فأنت سعرت عليه الدنيا نارا ثم لحقت بفلسطين، فلما أتاك قتله قلت: أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دینك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ود، وبالله ما نصرت عثمان حيا، ولا غضبت له مقتولا.

وأما أنت يا وليد ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر وقتل أباك بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم صبرا، وأنت الذي سماه الله الفاسق وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا وأطول منك لسانا، فقال لك علي: اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق، فأنزل الله تعالى في موافقته قوله: «أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا ۚ لَا يَسْتَوُونَ»(1)، ثم أنزل فيك على موافقته قوله أيضا: «إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا ...»(2)...

وأما أنت يا عتبة، فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك

ص: 165


1- سورة السجدة: الآية 18
2- سورة الحجرات: الآية 6.

وما عندك خير يرجي ولا شريتقی، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر عليا لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأما وعيدك إياي بقتلي فهلا قتلت اللحياني وجدته على فراشك، أما تستحي من قول نصر بن حجاج فيك:

يا للرجال وحادث الأزمان *** ولسبةتخزي أبا سفيان

نبئت عتبة خانه في عرسه *** جنس لئيم الأصل من لحيان

وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشه، فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك! وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر وشارك حمزة في قتل جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد؟!

وأما أنت یا مغيرة، فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني طائره عنك، فقالت النخلة: وهل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني؟!

والله ما نشعر بعداوتك إيانا ولا اغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشق علينا كلامك، وإن حد الله في الزنى لثابت عليك، ولقد درا عمر عنك حقا الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: لابأس بذلك یا مغيرة ما لم ينو الزنى، لعلمه بأنك زاڼ، وأما فخركم علينا بالإمارة، فإن الله تعالی يقول: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا.»..»(1)

... وانصرف الحسن وتركهم يحسون کمدا، فقال معاوية:

- قد أنبأتكم أنه ممن لا تطاق عارضته، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني، فوالله ما

ص: 166


1- سورة الإسراء: الآية 16

قام حتى أظلم علي البيت، قوموا عني، فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم

وعدولكم عن رأي الناصح المشفق والله المستعان)(1).

وهكذا نرى أن الإمام الحسن عليه السلام قد استطاع أن يفضح سياسة معاوية السيئة

وذلك من خلال فضحه لحقيقة بطانته التي كان يغذيها من جهة ويستقوي بها على العباد والبلاد من جهة أخرى.

وليس هذا فحسب، فمن خلال كشف الإمام الحسن عليه السلام للصراع المبدئي بين البيت الأموي والبيت الهاشمي، والذي تجلى بوضوح على الساحة الإسلامية بين أبي سفیان و محمد صلی الله علیه و آله وسلم، والذي استمر جليا وبقوة بن معاوية والإمام علي عليه السلام على مدى سنوات عديدة، والذي لم يتوقف أبدا بين معاوية والإمام الحسن بن علي عليه السلام ، فمن خلال هذا الكشف الذي قام به الإمام الحسن عليه السلام وبين من خلاله طبيعة الصراع بين الطرفين المتخاصمين، استطاع أن يوصل رسالة بالغة الأهمية إلى الناس عموما، ومفاد تلك الرسالة الهامة هو أن معاوية وبطانته وقادته هم أبعد الناس عن روح الإسلام وعن أخلاقياته وتعاليمه الإنسانيةالنبيلة.

وليس هذا فحسب، بل إن الأخطر من ذلك هو أنه عليه السلام أراد أن يقول للمسلمين

إن الصراع التاريخي بين الأمويين والهاشميين لن يتوقف عند حد معين أو عند جيل معين، بل سیستمر دائما وأبدا عبر الأبناء والأحفاد، وبالتالي، فإن الذي سيستخلفه معاوية على كرسي الحكم سيكون - وبشكل طبيعي - عدو لدودا للإمام الحسين عليه السلام

وسيذيقه أنواعا وألوانا من الظلم والجور والعذاب.

وبالمجمل العام، نستطيع أن نقول إن ما قدمه المفكر والأديب المصري الأستاذ

ص: 167


1- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مصدر سابق ص 49.45.

(عبد الحميد جودة السحار) في كتابه (حياة الحسين) كان إنتاجا مميزا على مستوى الصدق في تصوير الواقعة تاريخيا، وعلى مستوى الأسلوب الأدبي الشفاف الذي استطاع من خلاله إيصال خلاصة أفكاره ووجهات نظره إلى قارئه بغض النظر عن الهوية الدينية أو المذهبية لذلك القارئ الباحث عن الحقيقة.

وقبل الانتقال إلى عمل أدبي آخر، دعونا نتوقف قليلا عند بعض الأفكار التي طرحها رجال الفكر في العديد من نتاجاتهم الفكرية المعاصر وذلك من أجل التعرف أكثر على الثورة الحسينية ومعطياتها من زوايا ووجهات نظر جديدة.

وعلى سبيل المثال، يرى الباحث الأستاذ (سعد رستم)، وهو ليس بالمسلم الشيعي، أن ثورة الحسين عليه السلام كانت حركة عقائدية وإنسانية أكثر مما هي حركة سياسية وعسكرية، فخروج الإمام الحسين عليه السلام لم يكن من أجل منصب أو من أجل کرسي، وإنما كان خروجا عقائديا إنسانيا تمليه عليه عقيدته الإسلامية الصافية وأخلاقياتها الرسالية العالمية العالية.

ويوضح الأستاذ (رستم)، وهو صاحب المؤلفات العديدة المتخصصة في دراسة العقائد والأديان، أن هناك دافعا قويا لإصرار الحسين عليه السلام على رفض منح الشرعية الخلافة يزيد بن معاوية، ولخروجه لطلب إصلاح ما فسد من نظام الحكم في أمة الإسلام.

وقد تحدث الأستاذ (رستم) بشكل مفصل عن تلك الدوافع الأساسية، وذكرهاعلى مساحة عدة صفحات في كتابه (الفرق والمذاهب الإسلامية) الذي يتميز، بالفعل، بروح الموضوعية والحيادية في الكلام عن تلك الفرق الإسلامية البائدة والسائدة.

ص: 168

وإيضاحا للصورة أكثر، وتعميما للفائدة أيضا، سنلخص تلك النقاط التي ذكرها الأستاذ (رستم) في كتابه المذكور، وسنتقل بعد ذلك إلى النتيجة النهائية التي خرج بها ذلك الباحث عن رؤيته الخاصة لطبيعة الثورة الحسينية.

فالنقاط الأساسية التي انعكست سلبا على المجتمع الإسلامي بسبب النهج الذي

وضعه معاوية، هي:

1- لم يعد الخليفة قريبا من عامة الناس ومستضعفيهم، بل صار بعيدا جدا عنهم، يسكن القصور، ويبذخ في صرف الأموال على المظاهر والبطانة والخليلات والأتباع...

2- لم يعد الأساس في تولية المناصب الأمانة والكفاءات، بل صار الحكم قبائليا

أسريا خاصا بالخليفة وعشيرته وأسرته من بني أمية ومن والاهم وناصرهم.

3- لم يعد هناك تقبل لحرية وجود المعارضين السياسيين، بل بدأت عمليات التجسس والاعتقالات على الظن، واستبيحت أعراض ودماء وأموال المعارضين، وبدأت عملية الإعدامات السياسية بشكل مرعب في الساحة الإسلامية، كما حدث الحجر بن عدي الكندي وعمرو بن الحمق الخزاعي وأصحابهما من شيعة الإمام علي ابن أبي طالب علیه السلام، وكانوا أول جماعة يقتلون صبرا (أي إعداما) في الإسلام.

4- لم يعد بیت المال ملك الأمة، بل أصبح ملكا للخليفة، يتصرف به كيفما يشاء، ويرشي منه من يشاء، ويحرم منه من يشاء.

5- ظهور التعصب للجنس العربي مكان المساواة بين العرب والأعاجم من الرس وغيرهم.

6- التحول إلى الطريقة الملكية القيصرية الهرقلية في الحكم، فالملك يهلك

ص: 169

ليخلف ابنه على الأمة رغما عنها، وهذا ما فعله معاوية مع ابنه يزيد إذ إن إمرته لم تكن برضا الأمة الحقيقي واختيارها، بل مهدها له أبوه بالمال والخداع والقوة والقهر.

7- سوء السيرة الذاتية وقذارة الصفات الشخصية التي كان يتصف بهایزید، وقد ورث معظمها عن أبيه معاوية، فالإمام الحسين عليه السلام كان يرى ويدرك كل ذلك تماما، ولو أنه لم يخرج على يزيد لما بقي لشريعة جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم أي هيبة أو أثر في القلوب والنفوس(1).

وهنا ينتهي الأستاذ الباحث (رستم) إلى النتيجة النهائية التي تقول: (كان خروج الحسين - إذن ۔ أمرا يتصل بالدعوة والعقيدة أكثر مما يتصل بالسياسة والحرب، ولقد أراد الحسين أن يصلح كثيرا من مسائل العقيدة، بعد أن اختلت الموازين أثناء خلافة معاوية، ذلك أن معاوية لم يكن يدعم ملكه بالقوة فحسب، ولكن بأيديولوجية تمس العقيدة في الصميم، فلقد كان يعلن في الناس أن الخلافة بينه وبين علي قد احتكم فيها إلى الله، وقضى الله له على علي !!

وكذلك، حين أراد أن يطلب البيعة لابنه يزيد من أهل الحجاز أعلن أن اختيار يزيد للخلافة كان قضاء للقضاء، وليس للعباد خيرة في أمرهم، وهكذا، كاد يستقر في أذهان المسلمين أن كل ما يعمل به الخليفة حتى لو كانت طاعة الله في خلافه، قضاء من الله قد قدر على العباد)(2)

وعلى ما يبدو، فإن رأي الباحث والراهب الفرنسي المعروف (لويس غارديه) لا يختلف كثيرا عن رأي الأستاذ (رستم) في ما يتعلق بالعديد من النقاط التي ذكرناها منذ

ص: 170


1- سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، دار الأوائل . دمشق، ط 2005/2، ص 61.
2- نفس المصدر السابق ص62.

قليل عن سوء سياسة معاوية وابنه يزيد، بل والأسرة الأموية عموما، وبشكل خاص أولئك الأمويون الذين لم يقيموا للآداب والأخلاق الإسلامية أي وزن، وكانوا يعاملون الأعاجم معاملة شعوبية بغيضة(1)، على الرغم من أن أولئك الأعاجم کانوا إخوانا لهم في الدين وفي الإنسانية التي كان من المفترض أن تكون عاملا حيويا لضم جميع أبنائها تحت جناحيها في ظل راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله.

ولم ينس العلامة الراهب (غارديه) أن يذكر ويؤكد مرارا أن الكثير من السنة، على مر الأجيال، أدانوا معاوية وسياسته البعيدة عن روح الإسلام، وأنهم قد أدانوا أيضا ابنه وتلميذه يزيد قاتل الإمام الحسين(2)

إذن، فالأدباء والمفكرون في الشرق والغرب، مسلمون وغير مسلمين، يعرفون تمام المعرفة أن النهج الذي رسمه معاوية لابنه الفاسق یزید، ولكل أعوانه ورجاله وبطانته، إنما هو نهج يقوم على تقديم الإسلام من الداخل وتقويض دعائمه، واغتيال أعلامه وعلمائه، ومن ثم العودة بالمجتمع الإسلامي الجديد إلى ما كان عليه سابقا من أحكام قبلية وأعراف جاهلية و عبادات وثنية تضمن بقاء بني أمية في موقع السلطة التي كانوا يتمتعون بها في الماضي على المستويين الاجتماعي والاقتصادي، فالرسالة الإسلامية وتعاليمها وأخلاقياتها وقيمها الروحية والإنسانية هي آخر ما يفكر فيه رجل السلطة الأموي.

وقد أحسن الباحث الأستاذ (سامح كریم) عندما ذكر في كتابه (إسلاميات) تلك المقارنة الوجيزة والمعبرة التي عقدها الأستاذ (عباس محمود العقاد) بين طبيعة رجال

ص: 171


1- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص60
2- نفس المصدر السابق ص265.

یزید وبين طبيعة وحقيقة رجال الإمام الحسين عليه السلام .

فليزيد رجاله وأعوانه وللحسين عليه السلام أيضا رجاله وأعوانه، فلهذه الزمرة أهدافها وغاياتها، ولتلك الزمرة أيضا أهدافها وغاياتها، وما على الإنسان الواعي إلا أن يقارن بين طبيعة وأهداف الزمرتين المتقابلتين.

ويبقى السؤال قائما: ما الفرق بين رجال الطرفين وما هي حقيقتهما؟!

ويأتي الجواب من الأستاذ (کریم) نقلا عن الأديب والمفكر الأستاذ (العقاد):

(كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو جلاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال).

حسنا، هذا شأن رجال يزيد، وهذا هو هدفهم، وهذه هي طبيعتهم وحقيقتهم، فما

هو الحال عند أعوان الإمام الحسين عليه السلام ؟!

ويأتينا الجواب : (وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حده في معونته فهو شهيد

يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح)(1)

إذن، فهي حرب بين جلادین وشهداء

ولأن تلك الحرب كانت، بالفعل، بين جلادین وشهداء، فقد أصبحت مادة خصبة للكثير من الأعمال والمؤلفات الفكرية والأدبية في العالم بأكمله، وسوف نری في الفصل القادم من هذا الكتاب كيف أن الشعر العالمي المعاصر قد استطاع أن يصور أبعاد تلك الثورة وآثارها على الفكر الإنساني عموما في مشارق الأرض ومغاربها، وما كان هذا ليحدث لولا الأثر العظيم الذي ألقته تلك الفاجعة الرهيبة في ضمائر أولئك الشعراء الكبار.

ص: 172


1- سامح كريم، إسلاميات، مصدر سابق ص130

وحتى لا يدركنا الوقت ولا ينال منا الملل والتعب، دعونا نكمل الحديث الآن عن علاقة الفاجعة الكربلائية بالأدب الروائي الرفيع، ولكن لن نتوقف طويلا عند بقية الأعمال الأدبية التي سنذكرها الآن نظرا للتشابه الكبير في سرد الأحداث وفي تصوير وقائع المصائب التي لحقت بأهل البيت علیهم السلام في ساحة تلك المعركة الخالدة، وسنكتفي بذكر بعض التعليقات الشخصية على طبيعة ذلك العمل الأدبي الذي يتناول الفاجعة.

والكتاب الذي سنتناوله الآن بشكل سريع هو كتاب (السيدة زينب عقيلة بني هاشم) للدكتورة (عائشة عبد الرحمن)، التي كانت تشغل منصب أستاذة الدراسات القرآنية العليا بجامعة القرويين في المغرب، ويتناول هذا الكتاب الأدبي الرفيع سيرة السيدة زينب عليها السلام من المهد وحتى اللحد تقريبا.

ولذلك، فمن الطبيعي أن يكون الكتاب المذكور قد تناول أيضا مسألة الثورة الحسينية وفاجعة كربلاء باعتبار أن للسيدة زينب عليها السلام دورا بارزا لا يستهان به في نصرة ثورة شقيقها الإمام الحسين عليه السلام .

وتقول الدكتورة(عبد الرحمن) في مقدمة كتابها: (لهذا الكتاب عندي منزلة خاصة، فقد فتح أمامي أثناء تأليفه آفاقا جديدة رحبة لم أكن شارفتها من قبل، وهيأ لي من المتعة الروحية والذهنية ما لم يتح لي مثله في كتاب آخر)(1) .

أما السبب الأساسي والأهم الذي جعل لهذا الكتاب منزلة خاصة عند الدكتورة (عبد الرحمن) فهو - كما تؤكد هي في مقدمة كتابها - أن تلك البطلة كان لها الدور الذي لا ينکر في ساحة المعركة وأرض الشهادة، فهي عليه السلام السيدة الأولى التي ظهرت

ص: 173


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب عقيلة بني هاشم، مصدر سابق ص13

في اللحظة الحاسمة، تأسو الكلوم، وتواسي المحتضرين، وتثور للضحايا الشهداء الذين نبذوا هنالك في العراء.

وتضيف الدكتورة (عبد الرحمن) وجهة نظرها الخاصة على هذه المسألة، فتقول:

(لكني أرى دورها الحقيقي قد بدأ بعد المأساة، إذ كان عليها أن تحمي السبايا من الهاشميات اللاتي فقدن الرجال، وأن تناضل مستميتة عن غلام مريض - هو علي زين العابدين بن الحسين - کاد لولاها أن يذبح، فتفنی بذهابه يومئذ سلالة الإمام، ثم كان عليها بعد ذلك ألا تدع الدم المسفوك يذهب هدرا...)(1)

ومما يلفت النظر في محتویات ذلك الكتاب، التصوير الصادق والمحزن لكل مشهد من مشاهد المأساة على مسرح الفاجعة، حتى لتحسب أن ذلك الكتاب لم يكتب إلا ليتحول لاحقا إلى فيلم سينمائي عظيم يغزو جميع صالات العرض في العالم، فأحداث الكتاب تصور الإمام الحسين عليه السلام بطلانبيلا متفردا في صفاته ومتميزا في خصاله، معتليا صهوة المجد والشرف، يحمل راية خاتم الرسل والنبيين بيمينه ويقبض على سيف الحق والعدالة بيساره.

وعلى الرغم من وجود هذه الصور الرائعة على امتداد معظم صفحات الكتاب، إلا أن صورة الحسين عليه السلام الحقيقية تتجلى بأبهى مظاهرها في ساحة الوغی مکانيا، وفي ساعة الردى زمانيا.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يأت للوجود إلا ليكون ذلك البطل الذي عليه أن يعيش الفاجعة التي أخبر عنها وهو لا يزال صغيرا، فقدره أن يكون الثائر الساعي لإحياء

ص: 174


1- نفس المصدر السابق ص10

معالم رسالة خير الرسل والأنبياء صلی الله علیه و آله وسلم ، وأن يصبح سيد الشهداء بعد أن يلاقي تلك النهاية المريرة هو وأهله وأصحابه على رمال كربلاء، على بعد أمتار من نهر الفرات الذي كان شاهدا على كل ما لحق بأهل البيت عليهم السلام من آلام و مصائب على مسرح تلك المأساة الدامية التي انتهت بطريقة وحشية لا تماثلها أية مأساة أخرى في التاريخ.

وهنا تسدل الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) الستارة على مسرح الفاجعة بقولها:

( وکفت الرحى المجنونة بعد أن لم يبق من آل البيت من تطحنه!

وردت السيوف إلى أغمادها حين لم يعد هناك من تذبحه!

وترکت جثث الشهداء بالعراء...

وجعلت الخيل تطأ جثث الشهداء!)(1)

وحتى نكون منصفين في دراستنا لكتاب الدكتورة (عبد الرحمن) الذي تصفه هي شخصیا بقولها: (هذا الكتاب ليس تاريخا بحتا، وإن أخذ مادته كلها من مراجع تاريخية أصيلة، كما أنه ليس قصة خالصة، وإن اصطنع الأسلوب القصصي. غالبا - في العرض والأداء، وإنما هو صورة لأنثی، قدر لها أن تعيش في فترة تعج بجلیل الأحداث، وأن تلعب على مسرح الدولة الإسلامية دورا، أقل ما يوصف به أنه دور ذو شأن)(2)، فحتى نكون منصفين في دراستنا للكتاب المذكور، علينا أن نشير إلى أن الدكتورة المؤلفة قد جعلت من كتابها (السيدة زينب عقيلة بني هاشم) حلقة قوية تربط ما بين المادة التاريخية وما بين الأسلوب القصصي والروائي الذي يحترم القواعد الأدبية في الكتابة والتأليف.

ص: 175


1- نفس المصدر السابق ص126
2- نفس المصدر السابق ص9، ورد القول المذكور ضمن المقدمة.

هذا من جهة، أما من جهة ثانية، فإن الدكتورة المؤلفة قد اعتمدت على إظهار عمق المأساة التي لحقت بالإمام الحسين عليه السلام وبأهل البيت عليهم السلام عموما من خلال إبراز الدور الأنثوي الذي لعبته السيدة زينب عليها السلام في مأساة كربلاء وفي تداعيات تلك المأساة التي تسببت في تغيير الكثير من الأموروالأحوال في مسيرة الرسالة الإسلامية.

لقد أرادت أن تقول الدكتورة (عبد الرحمن) للقارئ إن للسيدة زينب عليها السلام دورا حيويا هاما في إذكاء ثورة أخيها الإمام الحسين عليه السلام وفي حفظ مبادئ تلك الثورة بعد استشهاده على أيدي طغاة بني أمية.

فالدور الزينبي لا يقل أهمية عن الدور الحسيني ذاته، بل ربما، في بعض وجوهه، سيكون أكثر أهمية لأن له الفضل الأكبر في تجنيد القوى المختلفة من شتى شرائح الناس في المجتمع الإسلامي وتوجيهها كقوة ضاربة لتدك حصون وعروش الملوك الأمويين الذين ما بنوا دولتهم إلا على دماء الشهداء وعلى أجساد الضحايا من المستضعفين والمظلومين، ضاربين بمبادئ الإسلام وبأخلاقياته عرض الحائط.

وقد أوجزت الدكتورة (عبد الرحمن) کلامها هذا بقولها: وما أحسبني أغلو وأسرف إذا زعمت أن موقف السيدة زينب بعد المذبحة هو الذي جعل من كربلاء مأساة خالدة)(1).

وقد بينت، بالفعل، من خلال صفحات کتابها أن الثورة كربلاء قلبا حسينيا ونبضا زینبيا لا يزال يقدم الدماء الطاهرة النقية، حتى يومنا هذا، فداء للحسين، ولثورة الحسين، ولرسالة الحسين.

ص: 176


1- نفس المصدر السابق ص10

وغني عن القول إن الكثير من الأدباء والمفكرين، وحتى من المستشرقين أيضا،

يتفقون مع كل ما قالته الدكتورة (عائشة عبد الرحمن) عن دور السيدة زينب عليها السلام في دعم ثورة شقيقها الإمام الحسين عليه السلام ، وفي إحياء مبادئها وترسيخ أهدافها بعد استشهاده وعودتها إلى مدينة جدها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مع بقية الأسرى والسبايا

وإذا كان البعض يرى في السيدة زينب عليها السلام صورة المرأة الكاملة الإيمان والتي استطاعت أن تمسك بالمجد من جميع أطرافه، وأن تكون قاب قوسين أو أدنى من تغيير وجه التاريخ، كما يقول عنها المفكر السني السوري( عبد الرزاق کیلو) في كتابه

(السيدة زينب بنت علي)(1) فإن البعض الآخر من المفكرين والأدباء والباحثين قد رأوا أن السيدة زينب عليها السلام قد استطاعت بالفعل أن تغير وجه التاريخ، وأن تقلب الأوضاع في المجتمع الإسلامي رأسا على عقب.

ويعزو، من يرى هذا الرأي، أن السبب المباشر في نجاح السيدة زينب وانتصارها في متابعة ثورة الإمام الحسين عليه السلام وإذكاء نارها من جديد، إلى أن الإرادة السماوية ذاتها هي التي هيأتها وأعدتها لتحمل راية الحسين عليه السلام من بعده كي تزلزل عروش الطغاة والمتكبرين وتحولها نارا حامية تتلظى بهم في الدنيا قبل أن تتراقص على جلودهم في الآخرة.

ولا ريب في أن أولئك المفكرين والأدباء، على مختلف أطيافهم ومشاربهم، قد قرأوا ما جاء في كتب السير والأخبار تلك الحادثة المشهورة التي تقول وتؤكد أن السيدة زينب عليها السلام كانت على اطلاع بتلك النبوءة الأليمة المرتقبة: فقد قيل إنها كانت في إحدى المرات تتلو شيئا من القرآن الكريم بمسمع من أبيها الإمام علي عليه السلام ، فبدا

ص: 177


1- عبد الرزاق كيلو، السيدة زينب بنت علي، مصدر سابق ص59.

لها أن تسأله عن تفسير بعض الآيات الكريمة ففعل، ثم استطرد - متأثرا بذكائها اللامع - يلمح إلى ما ينتظرها في مستقبل أيامها من دور ذي خطر وشأن، ولشد ما كانت دهشته حين قالت له (زینب) في جد رصين وبصوت هادئ حزين

- «أعرف ذلك يا أبي... أخبرتني به أمي (الزهراء) كيما تهيئني لغدي».

وعند ذلك، لم يجد الأب ما يقول، فأطرق صامتا وقلبه يخفق رحمة وحنانا(1)

ولذلك، فإن كل ما في حادثة كربلاء، من ألفها إلى يائها، يدل على أنها تمتلك مقومات الملاحم العظيمة في التاريخ الإنساني، وبالتالي، فليس من المستغرب أن يقوم البعض بإجراء مقارنات مطولة بين ملحمة كربلاء وملحمة (الإلياذة)، ملحمة الإغريق الخالدة، تلك الملحمة التي بلغت شهرتها الآفاق حتى غدت أسطورة وملحمة عالمية وجزءا لا يتجزأ من التراث الإنساني العام.

وقبل أن نذكر شيئا عن مقارنة كربلاء بالإلياذة، دعونا نقدم تعريفا موجزا جدا عن تلك الملحمة الإغريقية العريقة، وذلك بهدف تسهيل الأمر على القارئ الكريم كي يدرك جيدا حقيقة أوجه المقارنة وطبيعتها.

فمن المتعارف عليه أن كاتب تلك الملحمة القديمة هو الشاعر الإغريقي (هوميروس) «Homer» (حوالي القرن التاسع قبل الميلاد)، ويقال عنه إنه كان أعمى، وقد كتب أعظم ملحمتين في التاريخ وهما (The ILiad)(الإلياذة) و( The Odyssey) (الأوديسا)، وأنه هو من وضع أسس الشعر الملحمي لكل من جاء بعده، وأهم تلك الأسس المكونة للأدب الملحمي هي: سرعة الانتقال في الأحداث، طريقة السرد الرائعة والمثيرة، الخيال الفطري، وذكر الأمجاد والمآثر الجليلة لكل الأبطال

ص: 178


1- الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب عقيلة بني هاشم، مصدر سابق ص33.

النبلاء في الملحمة.

والملاحم البطولية موجودة عند أكثر الشعوب، وهي حكايا شعرية مطولة تروي حوادث ذات أهمية من الدرجة الأولى وقعت فعلا في الماضي المجيد، فكانت نقاط انعطاف هامة في تاريخ الشعب المعني بها، وتكون الدروس في نهاية الملحمة أخلاقية ومحترمة ونبيلة.

وملحمة (الإلياذة )عبارة عن عدد هائل من الأبيات الشعرية التي تروي قصة الصراع الدامي والطويل بين اليونانيين والطرواديين، وعلى الرغم من أن (أخيل)، البطل اليوناني، هو الشخصية البارزة في الملحمة، إلا أن (هکتور)، البطل الطروادي، هو الذي يلعب الدور الأهم في أحداث تلك الملحمة الدامية، فأبطال قلائل في قصائد

(هوميروس) يمكن مقارنتهم من حيث الأهمية مع (هکتور) الذي يعد من أنبل

الشخصيات في الأدب.

فمهارته في الحرب تجعل الإغريق، وكل الناس يخشونه، لكن الطرواديين يقدسونه، فهو شجاع، وشجاعته لا يشك فيها أحد حتى عندما يتجنب اللقاء مع (أخيل).

وفوق ذلك، هو مخلص لشعبه، مځب لأسرته، ومحبوب من قبل الآلهة، لكنه يحمل عبثا ثقيلا من المسؤولية، وعقله مليء بالاتزان والحذر، وهو يعرف قدره مسبقا، خراب طروادة، وقدر أسرته الذي ينتهي بهم إلى الرق أو الموت(1)

وتصدق النبوءة، ويواجه (هیکتور) قدره المأساوي، وتسقط طروادة وتتهاوی مثل سنديانة عتيقة قد أنهكتها الرياح العاصفة التي تضربها بعنف من كل اتجاه

ص: 179


1- ليليان هيرلاندز، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، مصدر سابق ص384

وصوب.

وعلى الرغم من سقوطها وتكسر أغصانها وتناثرها حولها، إلا أن صمودها أمام جبروت الرياح العاصفة، وأمام طول السنين العجاف التي حاصرتها ومنعت الماء عنها، جعل من أولئك الذين استظلوا بظلها يروون عنها أجمل الحكايات وأروع الروايات التي تفيض دروسا وحكما ومواعظ في البطولة ونبل الأخلاق لا تنسى على مر العصور.

وبعد هذه المحطة الموجزة جدا عن الإلياذة وعن الأدب الملحمي، دعونا نتوقف الآن مع أحد الأدباء والمفكرين المسيحيين المعاصرين لنرى كيف أنه قد قام بإجراء مقارنة موفقة بين ملحمة الإلياذة التي كتبها هوميروس بمداده وبين ملحمة كربلاء التي سطرها الإمام الحسين عليه السلام بدمائه.

يقول الأستاذ (سليمان كتاني) في كتابه (الإمام الحسين في حلة البرفير) مقارنا

بين ما قدمه هوميروس وما قدمه الإمام الحسين علیه السلام :

(ان ملحمة الإلياذة تشهد لهوميروس كيف خصص عمره كله لها، فإذا هي صنيع أدبي - شعري - خيالي، ليس فيه غير أبطال آلهة، خاضوا الأجواء كلها وربطوها بالميدان الأوسع، وأججوا الصراع وألهبوه بالبروق والرعود، وبقي القراء وحدهم المشاهدين كيف يتم زرع البطولات الخارقة، وكيف يتم الانتصار في المعركة الإلهية التي يحاول أن يقلدها الإنسان)(1)

هذه هي، باختصار شديد، وجهة نظر الأديب والمفكر المسيحي الأستاذ (كتاني)

عن إلياذة هوميروس، فما هي وجهة نظره عن كربلاء الحسين؟!

ص: 180


1- سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص152

لا ريب في أننا نستطيع أن نكتب العديد من الصفحات عن وجهة نظر ذلك المفكر المسيحي عن ملحمة كربلاء، ولكن نرى من الأفضل لنا - وذلك من باب الأمانة الفكرية - أن لا نضع نفسنا مكان ذلك المفكر لنتحدث بلسانه، بل سنترك الأمر كله له، فنقرأ ما قاله حرفيا، وعندئذ ندع أمر الدراسة والتحليل للقارئ نفسه، فنحن لا نريد أن نفرض عليه شيئا من قناعاتنا الشخصية أو وجهات نظرنا الذاتية.

ولذلك، دعونا نقرأ سوية ما قاله عن ملحمة الحسين عليه السلام ، وبعد هذه القراءة فليخرج كل واحد منا بالخلاصة التي يراها صحيحة ومتناسبة مع دراسته وتحليله للنص المقروء.

يقول الأستاذ (كتاني): (ما أروع الحسين - يجمع عمره كله ويربطه بفيض من معاناته، ويجمعه إلى ذاته جمعا معمقا بالحس والفهم والإدراك، فإذا هو كله تعبير عن ملحمة قائمة بذاتها، صمم لها التصميم المنبثق من واقع إنساني عاشه وعاناه وغرق فيه - إن الملحمة التي قدمها على خشبة المسرح في كربلاء، هي الصنيع الملحمي الكبير، ما أظن هوميروس تمكن من تجميع مثله في إلياذته الشهيرة)(1) ولو أننا سألنا الأستاذ (كتاني) عن قوله بعجز (هوميروس) عن الإتيان بصنيع

ملحمي كبير يضاهي أبطاله أبطال ملحمة كربلاء، فماذا سيكون جوابه!

إنه سيجيبنا بكل وضوح عن السبب في ذلك قائلا: (هنالك - أي في الإلياذة - أبطال اعتلوا الجو خشبة لعبوا عليها)، أي أن الصنيعة الملحمية كانت أقرب في أحداثها إلى الخيال الحر منها إلى الواقع، فالأبطال عندهوميروس سطروامعظم ملاحمهم على الورق الذي نقله لنا هوميروس عبر إلياذته مما يعني أن تلك البطولات

ص: 181


1- نفس المصدر السابق ص153.

والخوارق، وحتى المواقف النبيلة، لم تكن كلها حقيقية جرت على أرض الواقع، بل كانت في معظمها محض خيال وتصورات.

أما عن ملحمة الحسين عليه السلام في كربلاء، وعن أبطال هذه الملحمة، فيقول:

(وهنا - أي في كربلاء - بطولة واحدة أتمت ذاتها بذاتها، فذة في مسراها، ومصممة في عزمها، وإنسانية في قضيتها، وواضحة في أهدافها، وحقيقية في عرضها المشاهد، وهي - بالوقت ذاته - مركزة على ملحمة أخرى أصيلة، هي التي قدمها جده العظيم ونفذها فوق الأرض وتحت السماء، فإذا هي ملحمة تنتصر بالإنسان فوق أرض الإنسان وتحت سماء الإنسان، لا خيال فيها، بل واقع إنساني محض، لحمة الأمة وعجنتها بعضها ببعض، في مدة من الوقت لم تتجاوز العشر سنين - أما الفترة التي أظهر فيها الحسين ملحمته الثانية والمشتقة منها فلم تتجاوز عشرين يوما، من أول خطوة خرج بها من مكة إلى آخر خطوة خر بها صريعا في كربلاء العطشى وهي ضفة من ضفاف الفرات)(1).

فملحمة كربلاء التي سطرها الإمام الحسين عليه السلام بدمه وبدماء أهله وعياله

وخيار أصحابه لم يكن الهدف منها الانتصار لطائفة ما أو لحزب ما، بل كان الهدف منها الانتصار لكرامة الإنسان عموما، بغض النظر عن دينه وطائفته وعن حزبه وقوميته، فكربلاء هي الملحمة التاريخية الوحيدة التي تتجدد مبادئها وقيمها عبر العصور والأزمنة لأنها هي الحدث الملحمي الوحيد في التاريخ الذي استطاع أن يثبت أنه ثورة الرحمن في بني الإنسان، وذلك لأن الإمام الحسين الذي هو خلاصة الأنبياء والرسل، والذي هو وريث رسالات الله جميعها، قد ثار من أجلها، وما الثورة

ص: 182


1- نفس المصدر السابق ص153

من أجلها إلا ثورة من أجل تحقيق معادلة الإيمان، وإثبات أن الإنسان الحقيقي هو خليفة الرحمن في أرضه، وقد عبر الإمام الحسين عليه السلام عن وجهة نظره حول العلاقة الوطيدة بين الإيمان والإنسان الحقيقيين خير تعبير عندما قال مخاطبا الناس و مبینا لهم الهدف من وجودهم في الحياة والسعي في مناكبها والثورة الدائمة لتحقيق أغراضها وغاياتها التي وجدت من أجلها:

«أيها الناس، إن الله - عز وجل ذكره - ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، وإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة ما سواه»(1)

وبالتالي، فعندما يقول الإمام الحسين عليه السلام : «أيها الناس»، فهو لا يقصد في خطابه هذا جمهور المسلمين فقط، بل قصد منه عموم الناس، وعندما يؤكد في نفس الخطاب أيضا على حقيقة أن الله - عز وجل - ما خلق (العباد) إلا ليعرفوه، ومن ثم ليعبدوه، فلم يكن يعني بكلمة (العباد) خصوص المسلمين، بل كان يعني أيضا عموم الناس من مسلمين وغيرهم.

وهذا يقودنا إلى القول بأن فلسفة الإمام الحسين عليه السلام حول التجدد والثورة وفق المنطلقات الرسالية والمبادئ السماوية لم تكن تهدف في محصلة الأمر إلى تغيير الشخصية المسلمة فقط، ولم تكن تهدف إلى إذكاء نار الثورة في نفوس المسلمين دون غيرهم، بل كانت تهدف إلى الارتقاء بالمسلمين وغيرهم، أي بعموم (العباد)، إلى مستوى الخلافة الإلهية الصادقة القادرة على تطهير الأرض من الأرجاس ومن جنود فرعون وهامان ومن ورثة قابيل، إمام الغدر وسید الطغيان.

ولا ريب في أن الدكتور المطران (برتلماوس عجمي) قد أجاد وأصاب عندما

ص: 183


1- محمد الريشهري، ميزان الحكمة، دار الحديث. إيران، ج1 ص 223

طرح هذه المسألة على بساط البحث وناقشها بكل روية وروح حيادية حيث خرج بنتيجة هامة جدا، وتتجلى هذه النتيجة الهامة بتأكيد المطران (عجمي) على حقيقة ما أسلفنا من قول عن فلسفة الإمام الحسين عليه السلام حول الحياة والثورة والإنسان، وبتأكيده أيضا على أن الإمام الحسين عليه السلام الذي سطر ملحمة كربلاء لم يكن من خلال ثورته إلا بمثابة صوت الرحمن في ضمير الإنسان، فهو علیه السلام ودمه الطاهر الميراث الذي لا يمكن للمسلمين أن يستأثروا به دون المسيحيين، أو حتى أن يستأثروا به دون بقية الأديان والمذاهب في هذا الوجود(1).

وليس هذا الرأي من الدكتور المطران (برتلماوس عجمي) بالشيء المستغرب، بل على العكس من ذلك تماما، فإن الشيء الغريب هو أن لا يكون رأيه ورأي أمثاله من أصحاب الأقلام الحرة والعقول النيرة كذلك.

فملحمة كربلاء كانت، ولا تزال، تلهب خيال الأدباء والمفكرين، وتغرس في ضمائرهم قيم الحق والخير والفضيلة، وكما أن دماء الحسين عليه السلام كانت فداء عاما للجميع، فكذلك كانت رسالته ومبادئه عامة للجميع دون استثناء، وبالتالي فمن حق كل إنسان - أيا كان انتماؤه - أن ينهل من فضائل وقيم تلك الرسالة الحسينية وأن يستفيد منها قدر ما يرغب وما يستطيع.

فشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، بالنسبة للكثير من الأدباء والمفكرين من غير المسلمين، ليست مجرد شخصية ثورية عادية قامت بأداء دورها ثم انتهى أمرها، بل هي شخصية ثورية استثنائية تنطوي على الكثير من القيم والمبادئ والفضائل التي يتعذر اجتماعها كلها في شخصية واحدة كاجتماعها في شخصية الإمام الحسين

ص: 184


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص358.

علیه السلام

وقد التفت العديد من الباحثين والمفكرين إلى هذه الحقيقة وأولوها الكثير من الرعاية والاهتمام، ويكفي أن نقول، ونحن في هذا المقام، إن الخلاصة التي اتفق عليها أولئك الأدباء والمفكرون حول شخصية الإمام الحسين عليه السلام هي أن تلك الشخصية الاستثنائية كانت ولا زالت منبعا ثرا ومنهلا عذبا لا ينضب من الفضائل والشمائل، ومن الحكمة المقرونة بالشجاعة المتعقلة.

وعلى سبيل المثال لا أكثر، فقد اعتبر الدكتور (جرجس جرجس) في كتابه القيم (بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم) أن الإمام الحسين عليه السلام أحد أبرز رجال الحكمة على امتداد تاريخ العرب المديد، وقد ذكر له الدكتور (جرجس) الكثير من أقواله و حکمه في كتابه المذكور، وقد وصفه في نهاية كتابه بقوله:

(عرف (الحسين عليه السلام ) بألقاب كثيرة منها: الرشيد، والطيب، والوفي، والسيد،

والمبارك، والسبط، والتابع لمرضاة الله ... كان عالما نحريرا لا يهاب الموت، حتى قيل فيه: (شجاعة الحسين يضرب بها المثل، وثباته بثبات الجبل)، وقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيه: «حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسینا، حسين سبط من الأسباط»(1)

وهكذا نرى أن الدكتور (جرجس قد ربط بين حكمة الحسين عليه السلام وعلومه من جهة، وبين شجاعته وثباته في الإيمان من جهة أخرى، وبالتالي، فإن هذا الكلام خير دليل على أن الإمام الحسين عليه السلام لا يزال حتى يومنا هذا معينا لا ينضب من الفضيلة

ص: 185


1- الدكتور جرجس جرجس، بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم، نشر: مختارات . بيروت، ط 1991/1 ص104

والحكمة والشجاعة، ومن الشمائل الحميدة الأخرى التي تجعل منه علیه السلام مدرسة فكرية وأخلاقية متكاملة الجوانب ومتناسقة الأبعاد فهي مدرسة الإمام الحسين عليه السلام التي قل نظيرها وشبيهها بين المدارس على مدى تاريخ الإنسانية الطويل.

ولذلك، وبناء على ما تقدم من قول، نرى أنه من الطبيعي تماما أن يتحول الإمام الحسين عليه السلام إلى قبلة للباحثين والأدباء والمفكرين، يتجهون إليه وينهلون من حكمته في الحياة، ويستخلصون الدروس والعبر من سيرته ومسيرته على دروب الكرامة والفداء وها هي الباحثة والكاتبة الإنكليزية القديرة (فاريا ستارك) ( F. Stark ) كانت قد كتبت فصلا مهما عن عاشوراء في كتابها المعروف باسم (صور بغدادية)، والذي يعرف أيضا باسم (مخططات بغداد).

وتأتي السيدة (ستارك) على ذكر ملحمة كربلاء ومصائب أهل البيت علیهم السلام فيها،

كما وأنها تأتي أيضا على ذكر بعض المفاهيم والقيم الأخلاقية والرسالة التي يتحلى بها الإمام الحسين عليه السلام ، بطل تلك الملحمة الإنسانية الخالدة.

ويمكننا أن نذكر هنا، من جملة ما تقوله الباحثة الإنكليزية (ستارك)، قولها:

(على مسافة غير بعيدة من كربلاء، جعجع الحسين إلى جهة البادية، وظل يتجول حتى نزل في كربلاء، وهناك نصب مخيمه... بينما أحاط به أعداؤه ومنعوا موارد الماء عنه.

وما تزال تفصيلات تلك الوقائع واضحة جلية في أفكار الناس في يومنا هذا كما كانت قبل (1257) سنة، وليس من الممكن لمن يزور هذه المدن المقدسة أن يستفيد كثيرامن زيارته ما لم يقف على شيء من هذه القصة لأن مأساة الحسين تتغلغل في كل

ص: 186

شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها قط من دون أن ينتابني البكاء)(1)

وبالفعل، فإن الأحداث المأساوية الدامية في ملحمة كربلاء تستطيع أن تفتت قلب الصخر الأصم حزنا وأسفا على ما لحق بالإمام الحسين وبأهله وعياله علیهم السلام، وبأصحابه الأخيار الأبرار الذين لن يجود الزمان بمثلهم إلا أولئك الذين سيخرجون مع الإمام المنتظر (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، فيناصرونه ويقاتلون تحت رايته حتى يملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن تكون قد امتلأت ظلما وجورا

وبما أننا قد شارفنا على الانتهاء من هذا الفصل من كتابنا، دعونا نتوقف الآن مع

أحد أهم الأدباء المعاصرين في العالم، إنه الكاتب اليوناني الشهير (نیکوس کازانتزاکیس)( N. Kazantzakis ) ،

(1883- 1957 ) صاحب القصائد والروايات الفلسفية المعروفة عالميا، ومن أشهر تلك الروايات: (المسيح یصلب من جديد)، (ألكسي زوربا)، (الإغواء الأخير للسيد المسيح)، (الحرية والموت) وكتابه الأكثر شهرة (مذکرات کازانتزاکیس) والمعروف أيضا باسم (تقرير إلى غريکو).

ومن المعروف عن هذا الأديب اليوناني الكبير أنه - على حد قوله هو شخصيا في العديد من رواياته - أنه قد قرأ وسمع الكثير عن المتصوفين المسلمين وتأثر بأفكارهم وبرؤاهم للحياة ولحكمة الموجود، وقد انعكست تلك الأفكار الصوفية والرؤى الفلسفية في نتاجاته الأدبية عموما حتى يكاد القارئ لرواياته لا يقرأ له رواية إلا ويقع على العديد من الأحاديث أو القصص التي تتعلق بهذا المتصوف المسلم أو ذاك.

ومن المعروف عن ذاك الأديب اليوناني الكبير أنه كان واسع الاطلاع على

ص: 187


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص52

ثقافات العالم وعلى فلسفات وأديان العديد من الشعوب، ولذلك فقد كان على اطلاع جيد على الفكر الإسلامي بكل أطيافه وتشعباته الأساسية، بل وكان أيضا على معرفة جيدة بالتاريخ الإسلامي عموما، وبتاريخ الدولة العثمانية خصوصا وذلك لأن الدولة العثمانية كانت تناصب بلاده وقتذاك أشد أنواع العداوة والبغضاء، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يميل الإنسان المثقف إلى معرفة الكثير عن تاريخ وطبيعة أعداء قومه وبلاده.

وما يهمنا قوله الآن هو أن الأديب (کازانتزاکیس) قد ذكر في مذكراته أنه زار إيران والعراق وتأثر كثيرا بما شاهده فيهما من طقوس ومعالم روحية لا تنسى، وقد عرج على ذكر الإمام علي علیه السلام وعلى ذكر ابنيه الإمامين الشهيدين الحسن والحسين علیهما السلام وقد أوجز ذكرهما واعتبرهما «ابني علي عليه السلام المقتولين ظلما»(1) وهكذا نرى أن ملحمة كربلاء قد بلغت بأثرها الإنساني والأخلاقي مشرق الشمس ومغربها، وقد ترك صانع تلك الملحمة الإنسانية أنبل الدروس وأسماها على صفحات التاريخ وعلى جبهة الشمس، فصار الحسين عليه السلام أنشودة الزمان، وصارت کربلاء إنجيل الإنسان.

وكم يجدر بنا أن نختتم فصلنا هذا بالوقوف مع علم من أعلام الفكر الألماني الذي كان له باع طويل في الحديث عن فاجعة كربلاء وعن الدور الرسالي العظيم الذي قام به الإمام الحسين عليه السلام في سبيل إبقاء معالم الإسلام الحقيقي الذي جاء به الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم حیة في نفوس المؤمنين، وما ذاك العلم الفكري سوى الفيلسوف الألماني الشهير (ماربين) الذي كان يصيغ أفكاره الغنية عن الإسلام،

ص: 188


1- نیکوس کازانتزاكيس، تقرير إلى غريكو، مصدر سابق ج2 ص144

تاریخا وفكرا، بأسلوب شيق وجذاب وكأنه يروي لقارئه روایات کتبت بقلم أبرع وأمهر الأدباء والروائيين في العالم.

وبما أننا قد وعدنا القارئ في هذا الفصل بالوقوف مطولا عند هذا الرجل المبدع والمتميز على المستوى العالمي، فها نحن نفي بوعدنا لقارئنا، بل ونظرا لأهمية أفكاره عن كربلاء، سيكون لنا معه وقفات لاحقة أيضا في الأمكنة المناسبة من هذا الكتاب.

وحتى لا نطيل الكلام على قارئنا، دعونا نستعرض سوية ما کتب (ماربين)، وبشكل مطول، عن سيد الشهداء عليه السلام وآلامه العميقة في كربلاء، فها هو يقول: (من الظاهر أن الحسين مع ما كانت له من المحبوبية في قلوب المسلمين في ذلك الزمان، لو كان يطلب قوة واستعدادا لأمكنه أن يخرج إلى يزيد جيشا جرارا، ولكنه لو صنع ذلك لكان قتله في سبيل السلطة والإمارة، ولم يفز (بالمظلومية) التي أنتجت تلك الثورة العظيمة.

هذا هو الذي جعله لا يبقي معه إلا الذين لا يمكن انفکاکهم عنه، كأولاده وإخوانه وبني إخوته وبني أعمامه وجماعة من خواص أصحابه، حتى أنه أمر هؤلاء أيضا بمفارقته، ولكنهم أبوا عليه ذلك، وهؤلاء أيضا كانوا من المعروفين بين المسلمين بجلالة القدر وعظم المنزلة، وقتلهم معه ما يزيد في عظم المصيبة وأثر الواقعة... نعم إن ظلم بني أمية وقساوة قلوبهم في معاملاتهم مع حرم محمد وصباياه أثر في قلوب المسلمين تأثيرا عظيما لا ينقص عن أثر قتله وأصحابه، ولقد أظهر في عمله هذا عقيدة بني أمية في الإسلام وسلوكهم مع المسلمین سیما ذراري نبيهم.

لهذا كان الحسين يقول في جواب أصحابه والذين كانوا يمنعونه عن هذا السفر:

«إني أمضي إلى القتل»، ولما كانت أفكار المانعين محدودة وأنظارهم قاصرة لا

ص: 189

يدركون مقاصد الحسين العالية، لم يألوا جهدا في منعه، وآخر ما أجابهم به أن قال لهم: «شاء الله ذلك، وجدي أمرني به»، فقالوا: إن كنت تمضي إلى القتل فما وجه حملك النسوة والأطفال؟!

فقال: «شاء الله أن يراهن سبایا»، ولما كان الحسين بينهم رئيسا روحيا، لم يكن

لهم بد من السكوت)(1)

ولا يحسب القارئ الكريم أن هذا الكلام هو كل ما استنتجه الأستاذ (ماربين) من قراءته المتروية لأحداث الفاجعة الكربلائية، كلا، على الإطلاق، بل إنه قد خرج بالكثير من النتائج والخلاصات التي تستحق أن تجمع في كتاب واحډ مستقل يتناول في صفحاته العديد من الأفكار والقضايا التي تتعلق بمقومات الثورة الحسينية من جهة، وبالصفات الاستثنائية التي تتمتع بها شخصية الإمام الحسين عليه السلام من جهة أخرى.

وحتى لا نقع ضمن دائرة الاتهام بالبخل في ما يتعلق بإعطاء المزيد من أقوال ذلك الباحث المنصف (ماربين)، دعونا نختتم هذا الفصل بما جاء في كتاب (خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة) للأستاذ (لبيب بيضون) حيث نقل في كتابه المذكور العديد من أقوال (ماربين) عن أسرار الشهادة الحسينية.

وها نحن، بدورنا، نختتم فصلنا هذا بقول (ماربين) الدال على عمق نضجه

الفكري، وسمو نقائه الروحي، وطول باعه المعرفي في دراسة الأحداث وتحليلها:

(ومما يدل على أنه (أي الحسين) لم يكن له غرض إلا ذلك المقصد العالي الذي كان في نفسه، ولم يتحمل تلك المصائب لسلطنة وإمارة، ولم يقدم على هذا الخطر

ص: 190


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص119.

من غير علم ودراية - كما تصوره بعض المؤرخين منا - أنه قال لبعض ذوي النباهة قبل الواقعة بأعوام كثيرة، على سبيل السلوة: «إنه بعد قتلي وظهور تلك المصائب المحزنة، يبعث الله رجالا يعرفون الحق من الباطل، يزورون قبورنا، ويبكون على مصابنا، ويأخذون بثأرنا من أعدائنا، أولئك جماعة ينشرون دين الله وشريعة جدي، وأنا وجدي نحبهم وهم يحشرون معنا يوم القيامة». .

وليتأمل المتأمل في كلام الحسين وحركاته يرى أنه لم يترك طريقا من السياسة إلا سلكه في إظهار شنائع بني أمية وعداوتهم القلبية لبني هاشم ومظلومية نفسه، وهذا مما يدل على حسن سياسته وقوة قلبه وتضحية نفسه في طريق الوصول إلى المقصد الذي كان في نظره، حتى أنه في آخر ساعات حياته عمل عملا حير عقول الفلاسفة ولم يصرف نظره عن ذلك المقصد العالي مع تلك المصائب المحزنة والهموم المتراكمة وكثرة العطش والجراحات، وهو قصة (عبد الله الرضيع).

فلما كان الحسين يعلم أن بني أمية لا يرحمون له صغيرا رفع طفله الصغير تعظيما للمصيبة على يده أمام القوم وطلب منهم أن يأتوه بشربة من الماء فلم يجيبوه إلا بالسهم)(1)

إنها حقا كلمات حرة صادقة تبعث حرارة الإيمان في النفوس، وقد جاءت تلك الكلمات سراعا وكأنها الجياد تتراكض في ميدان فكر ذلك المفكر الألماني والفيلسوف المسيحي (ماربين) الذي أبى إلا أن ينطق بالحق، ورفض إلا أن يكون من أهل الصدق، فجاءت كلماته عن الإمام الحسين عليه السلام وعن خصاله وعبق سيرته القدسية كقطرات الندى تتلألأ فجرا على صفحات القلوب الخافقة بالمحبة والانتماء،

ص: 191


1- راجع الصفحة 119.

فتزيد من هيامها في محراب شمس المعرفة والعشق والولاء.

فأي حب کحب الحسين عليه السلام يستطيع أن يغير القلوب ويحول صفرتها إلى لون

الواحات والغابات الخضراء على امتداد الوجود؟!

وأي قلب كقلب الحسين عليه السلام يستطيع أن يمنحك ربيعا دائما ودفئا دائما إذا

أظلم الدهر عليك وأحاطت بك من كل صوب ليالي الدموع والشتاء؟!

وأي دم كدم الحسين عليه السلام يستطيع أن يلون بنوره وجه الشمس، وأستار ابتسامة

الفجر، وأسرار أحزان المساء؟!

ولا يسعنا هنا إلا أن نضم صوتنا إلى صوت القائل:

ارفعوا للحسين راية نصر *** مثلماكان للعقيدة رايه

واجعلوا طينة الولاء أساسا *** في بناء يسقى بماء الولايه

ثم رشوا على الطريق دماء *** فدمانا هوية لا هوایه

فسلام على تلك الدماء الزكية...

وسلام على أهل بيت كانت دماؤهم لنا عنوانا وهوية.

ص: 192

ملحمة كربلاء في الشعر العالمي

إن الإنسان، بوصفه كائنا لغويا بالدرجة الأولى، فهو لا يملك أن يتذوق شيئا ما بقدر ما يملك أن يتذوق الكلمة الملفوظة، أو المكتوبة، المشحونة بالحساسية وبالمعاني الإنسانية العميقة، وما ذلك إلا لأن اللغة في حقيقتها هي السمة الجوهرية الأولى التي تربطنا بالوجود ومفرداته الغنية والمتنوعة من جهة، وبالآخرين ومفاهيمهم وأفكارهم وأيديولوجياتهم المختلفة من جهة أخرى.

ويؤكد الأستاذ الباحث (یوسف سامي اليوسف) على هذا الكلام بقوله في كتابه( ما الشعر العظيم ؟): (إن اللفظ أقدر مناهجنا على التعبير عن روح الإنسان وأعماله، عن شقائه وسعادته ... إن أي عمل فني غير شفوي (كالرسم والموسيقى) لا يملك أن يكون إلا برهة واحدة وحسب، إلا أنا واحدا من آنائنا التي لا ترضخ للحصر والتعداد، بينما يملك العمل الأدبي، ولاسيما الشعري، أن يكون شموليا بحيث يعانق أبعادا كثيرة ومتعددة... إنه وحده الذي يملك أن يلامس الأبديات الراسخة في الداخلية ملامسة عميقة غائصة في الجوهر الماهوي للإنسان)(1).

ففي الشعر الحقيقي الأصيل - كما يقال - لغز عصي على الفهم وسر سماوي يصعب على الذهن استيعابه وإدراكه، فهو صفاء اللغة وروحها الأنبل والأطهر.

ص: 193


1- يوسف سامي اليوسف، ما الشعر العظيم؟، منشورات اتحاد الكتاب العرب . دمشق، 1981، ص 31.

ولأن الشعر هو، بالفعل، كذلك، وربما كان في بعض وجوهه وغاياته فوق ذلك،

كان لابد له من أن يعتلي عرش الكلمات ويتقلد تاج الحروف ويقف خاشعا بكل رهبة أمام أعقد الحقائق التي تحتاج إلى الكشف، فقوام الشعر الجديد معنی خلاق إبداعي لا معنی سردي وصفي، إنه كما يقول الشاعر الفرنسي المعاصر (رینه شار) ( R. Char ): (الكشف عن عالم يظل أبدا في حاجة إلى الكشف)(1)

ولأن حادثة كربلاء ملحمة عالمية تلامس كل ضمير حي في البنية النفسيةللإنسان، ولأن الإمام الحسين عليه السلام كان، وسيبقى، عالم من القيم والفضائل والمبادئ التي لا تزال بحاجة إلى المزيد من الدراسة والكشف للوصول إلى عمق المعاني الإنسانية والأهداف الرسالية التي تختزنها تلك الشخصية الاستثنائية التي يندر وجود نظير لها على مسرح الحياة، كان لابد للشعر العالمي المعاصر من أن يقوم بعملية الدراسة والكشف لتلك الملحمة الحسينية التي لا تزال تتفاعل وتتجدد في وجداننا ووجودنا يوما بعد يوم.

وها نحن سندخل بشكل مباشر إلى جوهر موضوعنا المطروح الآن على بساط الشعر وكلنا أمل أن يجد قارئنا الكريم فيه كل ما يرجوه من المتعة والفائدة وأن يستخلص كل ما يمكنه من الدروس والعبر التي أشار إليها أولئك الشعراء الأفذاذ على مختلف أطيافهم وطوائفهم في الشرق والغرب.

ولنبدأ الآن مع أحد أعلام الشعر في لبنان، والذي كان يعتبر واحدا من أهم الأدباء المسيحيين العرب في نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.

وشاعرنا الذي سنتحدث عنه الآن هو الأديب الأستاذ (حلیم بن إبراهيم بن

ص: 194


1- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة . بيروت، ط 1978/2 ص9

جرجس دموس) (1305- 1277 ه- = 1888- 1957م).

ولد الأديب والشاعر (دموس) في بلدة زحلة اللبنانية، وسافر إلى البرازيل وأقام هناك فترة لا بأس بها، ثم عاد بعد ذلك إلى بلده لبنان فشارك في جريدة (المهذب) واستوطن دمشق بعد الحرب العالمية الأولى إلى آخر حياته، وتوفي لاحقا في بيروت ودفن في بلدة جونيه في مقبرة طائفته (الروم الأرثوذكس)، من كتبه ودواوينه المطبوعة کتاب (قاموس العوام)، (يقظة الروح)، (دیوان حليم)، وديوان (المثالث والمثاني) وإلى غير ما هنالك من كتب وأبحاث عديدة أخرى.

ونظرا لما تركت فاجعة کربلاء من عظيم الأثر في نفس هذا الشاعر المرهف وفي ضميره الإنساني الحي الذي يرفض كل أنواع الظلم والذل والاستبداد، فقد راح قلمه الحر يخط أروع القصائد وأجمل الأشعار عن تلك الملحمة الكونية الخالدة وعن بطل وسيد تلك الملحمة، الإمام الحسين عليه السلام ، الذي حول نفسه إلى شمعة وضاءة تحرق ذاتها لتنیر لغيرها من العشاق السبيل للوصول إلى محراب العشق الإلهي.

وها هو شاعرنا المسيحي يقول عن الإمام الحسين عليه السلام في قصيدة له بعنوان

(الدم الزكي):

في صفحة القلب لا في الطرس ذكراه *** فلتخشع الروح إن الروح مأواه

ذكرى الحسین نواح لا انتهاء له *** كأن داود بالمزمار غناه

ذكرى الحسين قصيد خالد أبدا *** الحب ألهمه والحزن أملاه

ذكرى الحسين دروس في الحياة لمن *** رأت جراح الأسى في (الطف) عيناه

ذكرى الحسين أحاديث مسلسلة *** من جانب الشرق أدناه وأقصاه

فجددوها ففي التجديد تكرمة *** لمن تحن له (الفصحى) وتهواه

ص: 195

من الحجاز إلى أرض العراق سرى *** الله وثبته ، لله مسراه

من جاد بالروح في تحرير أمته *** فالخلد حياه والرحمن أحياه(1)

ولعل أروع ما قاله هذا الأديب والشاعر المسيحي في الإمام الحسين عليه السلام هو

قوله البليغ في مبناه والعميق في معناه:

ذكرى الحسين حفيد أحمد صفحة *** زادت بأسرار السماء يقيني

تلك الضحية في المحرم جددت *** في كعبة الإسلام صرح الدين

لم أنس بيتا للشهيد وقد دوت *** كلماته في (الطف) منذ قرون

إن كان دين محمد لم يستقم *** إلا بقتلي، ياسيوف خذيني(2)

وبالطبع، فليس هذا هو كل ما قاله الأديب المسيحي (دموس) في الإمام الحسين عليه السلام ، سيد الشهداء وسبط خاتم الرسل والأنبياء صلی الله علیه و آله وسلم ، بل هنالك أيضا الكثير مما قاله فيه عليه السلام وفي ملحمته الحسينية الرائدة، ولذلك، فمن الواجب علينا أن نعود لاحقا للحديث ثانية عن الآثار الأدبية التي تركها لنا هذا الشاعر بخصوص التوصيف الدقيق لشخصية الإمام الحسين عليه السلام وثورته الإنسانية التي اندلعت شرارتها الأولى من كربلاء ولا تزال تتقد حرارة وإيمانا في صدور الأحرار والمؤمنين في شتى بقاع العالم إلى يومنا هذا.

وغير بعيد عن الأجواء العامة التي كان يعيشها الشاعر اللبناني (حليم دموس) كان هناك شاع مسيحي آخر لا يقل عنه شأنا يعيش في مدينة اللاذقية الساحلية السورية، وكان ذلك الشاعر شديد التعلق بأهل البيت عليهم السلام جميعا وعلى رأسهم الإمام

ص: 196


1- حليم دموس، الدم الزكي، راجع مجلة (الموسم العدد /12، المجلد 3، مصدر سابق ص387)
2- علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص314

الحسين عليه السلام .

إنه الشاعر (إدوار مرقص)الذي أسلفنا الحديث عنه في صفحات سابقة من هذا

الكتاب، فللأديب (مرقص) لغته الخاصة وأسلوبه المميز في الحديث عن أبي الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، ولملحمة كربلاء بالنسبة لذاك الشاعر المسكون الفؤاد بهاجس حب الحسين وأهله عليهم السلام مكانة في شعره لا تدانيها مكانة حادثة أخرى في التاريخ.

فملحمة كربلاء بالنسبة إليه هي ملحمة الفضائل الثائرة على كل النقائص والرذائل المتجلية في يزيد وأعوانه الذين لا يعدو كونهم أكثر من تجسدات حية للشيطان على أرض الواقع.

وعلى كل حال، فقد ذكرنا سابقا العديد من الأبيات الشعرية لهذا الشاعر المسيحي عن كربلاء وعن بطلها الإمام الحسين عليه السلام، وها نحن نعود ثانية إليه كي نذكر له المزيد من الأبيات الشعرية التي تعتبر من عيون الأدب العربي الشعري الذي يتناول مسألة الكرامة والشهادة التي سطر مبادئها العامة شهيد الإنسانية الإمام الحسين عليه السلام.

وها هو يتحدث عن شهداء کربلاء وعن غاية النهج الاستشهادي الذي رسمه

الإمام الحسين عليه السلام لأهله الأبرار ولصحبه الأخيار، فيقول:

یاغرة الشهداء من عليائها *** لوحي عليهم كالضياء العاقد

موسومة بدم الشهادة فهي لا *** تنفك تدمي مثل زند الفاصد

کیما يسيروا في الحياة بنهجه *** لا يخضعون لغاصب ومعاند(1)

ص: 197


1- أ. جواد شبر، أدب الطف، مصدر سابق ج10 ص43. ب. علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين، مصدر سابق ص305.

إذن، فالمسيرة الاستشهادية للإمام الحسين عليه السلام هي صرخة في وجه الموت،

فالحسين عليه السلام لم يخرج بأهله وعياله كي يكون فريسة سهلة بين أنياب الموت، بل خرج بهم ليهاجم الموت والفناء، وليثبت للعالم وللتاريخ أن إيمانه بالله وصبره على قضاء وحكم الله أقوى وأعمق من كل النوائب وعظائم الابتلاء.

فالإمام الحسين عليه السلام خرج بأعز وأغلى ما يملك ليقول للموت: أيها الموت لن تكون أنت الطريق إلى فنائي، بل ستكون أنت - ورغما عنك - السبيل إلى بقائي، وإذا

ذكرنا أنا وأنت في مجلس ما، في مكان ما، في زمان ما، سأكون أنا الأقوى والأبقى، فالعالم كله سيذكرني وسيذكر مواقفي ومبادئي وتضحياتي وإيماني وصبري، أما أنت أيها الموت، یا عقدة الضعفاء والمستكينين، ويا هم وخوف الجبناء والطغاة، فإنك ستتصاغر أمامي وأمام ذكري، بل إنك ستنهزم عند ذكري مثلما ينهزم الليل البهيم أمام طلائع الفجر المنير.

أما الدكتور الأديب (عبد المسيح محفوظ)، وهو من مسيحيي بلدة (جديدة مرجعيون) في جنوب لبنان، فيصور مشاهد كربلاء الدامية في العديد من الأبيات الشعرية الصادقة حتى يظن الذي يسمعها أنها أنشدت من شاعر شيعي مخلص أثقلته هموم الطف وأثخنت ضميره جراح الفاجعة، فأثارت فيه تلك المشاعر الفياضة مكامن العبقرية الشعرية الوقادة فانطلق يصور في قصائده أحداث تلك الملحمة الحسينية وكأنه عايشها عن قرب بكل تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة.

وها نحن نوجز ذكر بعض الأبيات من إحدى قصائده التي تتحدث عن أهوال

وآلام تلك الفاجعة التي لحقت بأهل البيت عليهم السلام وبأتباعهم الأوفياء المخلصين .

يقول ذلك الشاعر المسيحي في مطلع قصيدته:

ص: 198

ضجت الأرض من عجيج الضوامر *** والتظى الأفق من وميض البواتر

واعترى الشمس كسفة فإذا الجو *** قتام وحاجب الضوء حائر

جحفل أزعج الفضاء بمسراه *** وأدمى الثرى بصدم الحوافر

وبعد هذه المقدمة الوصفية، يعرج الشاعر على ذكر العديد من النقاط البارزة في أحداث الملحمة وتفاصيل المعركة، ومن جملة تلك النقاط البارزة التي يعرج عليها الشاعر قصة رأس سيدنا الحسين عليه السلام يوم تهادی به الأعداء من بلد إلى بلد، وكان أكثر المشاهد استثارة لضمير ووجدان ذلك الشاعر المسيحي مشهد مبيت الجند الذين يحملون الرأس الشريف معهم لدى أحد الأديرة المسيحية، ومن المحتمل أن يكون ذلك الدير - كما يقول الأستاذ محمد سعيد الطريحي في دراسته للقصيدة التي نحن بصدد الحديث عنها الآن - هو (دیر حنا) في مدينة النجف الأشرف.

وحينذاك يرى راهب الدير نورا ينطلق عاليا من الرأس الكريم فيهب مسرعا إلى احتضان الرأس وإكرامه، وفي بعض الروايات أن الراهب كان فنانا وساما فرسمه بيده واحتفظ بتلك الصورة كأيقونة مقدسة، وهكذا تمر تلك الصور المؤثرة في ذهنية شاعرنا (عبد المسيح محفوظ) فيصف تلك المشاهد المتزاحمة بقوله:

أي رأس أقصوه عن جسمك الطهر *** وساروا به علی کل ضامر

بین هزج الحداة في نشوة النصر *** وخفق الظبا وهزج العساکر

أترى عرش قيصر حملوه *** ليزيد حين تدق البشائر !!

أم رؤوسا يصدع الصخر مرآها *** فيضني الحشا ويدمي المرائر؟!

وهنا ينتقل الشاعر إلى قصة الراهب المسيحي مع رأس الحسين عليه السلام المقطوع،

فيقول متابعا في قصيدته مشيرا إلى تلك القصة المؤثرة:

ص: 199

فهنيئا لراهب أكرم الضيف *** وآوی رأس الغريب المسافر

ليتهم يرتضون عنه فداء *** لافتداه بماله والنواظر

ذاك صوت السماء في أذن *** القلب المدمى على اختلاف المشاعر

وفي الحقيقة، فإن الأديب الشاعر (عبد المسيح محفوظ) لم يعرج على قصة الراهب مع الرأس المقطوع للإمام الحسين عليه السلام إلا ليدل على مدى ما بلغته واقعة الطف من التعاطف في الأوساط المسيحية عموما، خاصة وأن الآلام الرهيبة التي تعرض لها الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته من النساء والأطفال تذكرهم - ولو بشكل جزئی ۔ بالآلام العظيمة التي ذاقها السيد المسيح عليه السلام على أيدي الكفار والظالمين.

فالحسين الشهيد عليه السلام حي باق إلى الأبد في ضمير الإنسان، أيا كان دينه ومذهبه، وهذا ما أراد الأديب الشاعر (عبد المسيح محفوظ) قوله بالضبط وهو يختتم قصيدته الغراء المذكورة، فيقول في نهايتها موجها نداءه إلى الإمام الحسين عليه السلام الذي كان يرى فيه صورة ونهج السيد المسيح عليه السلام :

خذ نشيد الأسى يوقعه القلب *** لتصوير ماتكن الضمائر

خلجات النفوس يقطرها الوجد *** ويذكي لهيبها في الخواطر

فاسلت الفؤاد بین القوافي *** وأحر الدموع دمعة شاعر(1)

وغير بعيد عن هذا الحزن الكربلائي العميق المتشح بوشاح الألم المنسوج بخيوط الآهات والدموع المسفوحة على ما حل بالسيد المسيح عليه السلام ، هناك آهات ودموع مسيحية تسفح كل يوم على ما أصاب شبية عيسى ابن مريم العذراء عليها السلام ، الإمام الحسين بن علي وفاطمة الزهراء علیهما السلام.

ص: 200


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص. 706

ولنقرأ الآن هذين البيتين للشاعر المسيحي (سليمان بن إبراهيم الصولة) المتوفى في القاهرة سنة (1899م)، وليحذر القارئ من أن تحرقه آهات هذا الشاعر المسيحي الذي - والله أعلم - لو كان حاضرا وشاهدا على ما حدث في موقعة كربلاء لما تردد لحظة واحدة عن الانخراط في جيش الإمام الحسين عليه السلام والقتال معه وتحت رايته إلى أن يسلم الروح بين يديه ويلقى الله بقلب سليم

وها هو يقول بلغة سرمدية الحزن:

إن لم تسل منا العيون ففي الحشا *** مهج يفتت نوحهن الجندلا

لافارق الكرب المؤبد والبلا *** من لا ينوح على الشهيد بكربلا(1)

وغني عن القول إن هناك عشرات القصائد التي نسجتها أقلام الشعراء المسيحيين بمداد الصدق والحب والوفاء للإمام الحسين عليه السلام وللتضحيات الجليلة التي قدمها بسخاء وبنبل أخلاق عالية على مذبح الكرامة الإنسانية والكلمة السماوية، ولكن الشيء الدائم الذی يمنعنا من ذكر وإيراد كل تلك القصائد هو الملل الذي يمكن أن يتسلل خلسة إلى نفوس القراء الكرام.

وعلى كل حال، دعونا نكمل رحلتنا الكربلائية في عالم الشعر والشعراء، ودعونا ننتقل من شاعر إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، حسب ما تقتضيه الخطة الموضوعة لعرض أفكار هذا الفصل الشعري من الكتاب مع التذكير، للمرة الثانية، أن ترتیب ذکر الشعراء، من حيث البلد الذي ينتمون إليه أو الدين الذي يعتنقونه، ليس مهما، وإنما المهم هو نقل الفكرة ذاتها إلى القارئ الكريم.

ولذلك، سنحط رحالنا الآن في واحة الأديب والكاتب الدكتور (عبد الله

ص: 201


1- نفس المصدر السابق ص7

الطيب)، فمن المعروف عن هذا الأديب الدكتور هو أنه واحد من كبار أدباء القطر العربي السوداني، له العديد من الآثار الأدبية والفكرية المتنوعة، ومن جملة تلك الآثار الأدبية، تلك القصيدة الشعرية القوية والتي تحمل عنوان (وقفة مع الحسين)، وقد نظمها الشاعر بمناسبة زيارته لكربلاء المقدسة عام 1387 ه-. 1968م.

ويرى هذا الشاعر والأديب السوداني أن مجرد الوقوف على أرض کربلاء المقدسة يجعل أحاسيس المرء تتفجر ألما وحسرة على الإمام الشهيد عليه السلام الذي قتل ظلما وعطشا على شط الفرات وسط رياح السموم الحارة دون معين ولا نصير.

وليس هذا فحسب، بل يرى الشاعر (الطيب) أيضا أن المسألة لا تتوقف عند حدود الإمام الحسين عليه السلام ، بل إنها تتجاوزه وصولا إلى الله تعالى، فجیش یزید الأموي لم يكن هدفه النيل من الحركة الحسينية فقط، ولم تكن غايته مجرد قتل الإمام الحسين عليه السلام واجتثاث مبادئه، بل كان هدف جيش يزيد الأساسي إطفاء نور رسالة الإسلام من جهة، وقتل الإله ذاته - جل وعلا عن التشبيه - فيما لو أنه تجسد مدافعا عن رسالته في الأرض.

وها هو الشاعر (الطيب) يعبر عن هذه الأفكار في قصيدته (وقفة مع الحسين) قائلا: وقفت بكربلاء فسال دمعي *** على السبط المحلا في السموم

وقد دلفت قنا مضر إليه *** صوادي وهو كالنسک العظيم

إذا جسد الإله دنافويل *** له من منطق البشر السؤوم(1)

وبالطبع، فليست هذه الأبيات إلا باقة من كامل القصيدة، ولكن لم نر ضرورة

ص: 202


1- راجع القصيدة في مجلة (الموسم)، العدد /12، المجلد /3/ مصدر سابق ص390

لذكر بقية الأبيات الأخرى التي تتشابه في مضمونها مع الكثير من القصائد التي سنذكرها لاحقا لبقية الشعراء، وقد اكتفينا الآن بذكر الأبيات المميزة منها، وبشكل خاص ذلك البيت الذي يؤكد الشاعر من خلاله على أن أهل الباطل من البشر هم على استعداد تام للتخلص حتى من الإله ذاته إذا تعارضت مبادئه وتعاليمه مع مصالحهم و منطقهم السقيم ومع رؤاهم الأنانية الضيقة.

ولذلك، فقد صدق وأصاب الأديب والشاعر (خالد علي مصطفى) عندما كتب قائلا عن العلاقة الضدية بين نهج الإمام الحسين عليه السلام وبين أهل الباطل الذين أرادوا أن يستنزفوا الرسالة الإسلامية من محتواها الأخلاقي والروحي، فقال:

(ولما كانت تجربة الحسين غنية بالإيحاءات في مجالي الإحساس والفكر على حد سواء، فإنها ما زالت تفرض نفسها على الإنسان الشاعر، فهي، من حيث دلالتها، ذات بعد ثوري استهدفت تعديل (الخط الخاطئ) الذي وقع فيه العالم الإسلامي إثر استلام الأمويين للحكم، أما من حيث أخلاقيتها، فقد ثبتت قيمة عالية في الممارسة الفعلية لوضع الهدف موضع التحقيق، إن تجربة الحسين ربطت الوعي والممارسة، والنتيجة هو هذا الدم الفادي الذي أراد أن ينقذ، ومن هنا يظهر أن المأساة في تجربة الحسين هي المحصلة بين عظمة الفعل ونتيجته الدامية)(1)

ويرى هذا الأديب الشاعر من خلال قصيدته (ملاح الصحراء) والتي هي إحدى قصائد مجموعته الشعرية (موتي على لائحة الانتظار)، أن الإمام الحسين عليه السلام کان أقوى بإيمانه ويقينه من الفناء والممات، ولكنه كان بنفس الوقت أيضا أرق بمبادئه

ص: 203


1- خالد علي مصطفى، البعد الثوري لتجربة الحسين، راجع مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص307.

وأخلاقه من الماء الفرات، فالحسين عليه السلام ليس فقط (ملاح الصحراء)، بل هو في حقيقته غيث الصحراء وفراتها.

ولابأس الآن في أن نذكر شيئا يسيرا مما جاء في قصيدته (ملاح الصحراء) يقول

الشاعر في أحد مقاطع قصيدته المذكورة:

هلم اعطني السيف لم يبق لي غير هذا الزمن

ألم الثواني على مقلتيه

من الشام حتى المدينة:

تجمهر بينهما الناس، كل يحدث عن رحلة السبط يبكي عليه.

هلم اعطني ساعة من ضلوع الدمن

أعلقها فوق صدري لتنبئ بالصاعقة

رسمت حديقة بيتي على جبهتي

أين ماء الفرات يمسد أحجارها العاشقة؟

ويقول الشاعر في مقطع آخر من هذه القصيدة التي تفيض بالإشارات والرموز

الكثيرة التي تحتاج إلى صفحات عديدة من الدراسة والتحليل:

خطانا ممالك فوق الرمال

تبيت بها الريح کاهنة، أين درب الشمال؟

(سطیح) تشبث بالباب يحبس صوت النبوءة

ويطفئ مصباحه عن جفون السبايا البريئة

أخي لم يعد بالكؤوس المليئة:

ص: 204

جرار المدينة يشخب فيها نجيع الخطيئة(1)

وربما عظمة الحدث هي التي دفعت الشاعر للقول والتأكيد على أن الشعر بكل مقوماته وبكل وسائطه الفنية سيبقى عاجزا عن إعطاء تجربة الحسين عليه السلام الثورية حقها من الوصف والتقييم، فالإحاطة بمثل هذه التجربة لا يمكن تحقيقها عن طريق القصيدة، وإنما تحتاج إلى عمل (درامي ) يتحرك فيه الواقع والشخوص بحرية لكي تستطيع التجربة أن تأخذ مداها التاريخي وانعكاساتها الواقعية.

وعلى ما يبدو فإن الداعية والشاعر السعودي (عائض القرني) لا يبتعد كثيرا في رأيه عن رأي الأديب والشاعر (خالد علي مصطفی) حول مسألة إعطاء ملحمة كربلاء حقها من الوصف والتقدير من خلال الكلمة الشعرية.

ولكن، وبالرغم من ذلك، فإن هذه الحقيقة لم تمنع ذلك الأديب والداعية الوهابي (عائض القرني) من تدوین بعض أحداث تلك الملحمة الحسينية في قصائده الشعرية .

نعم، إن الأبيات الشعرية التي يتحدث فيها عن ملحمة كربلاء قليلة نسبيا، ولكن ذلك لا يعني أنه لم يتأثر روحا وفكرا بنهج الحسين عليه السلام وبأهداف نهضته التي ما قامت إلا لإحياء معالم دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم

وها هو ذلك الداعية (الوهابي) ينقل لنا شيئا من مشاعره الجياشة الدفينة، فيقول

ناظما ونادبا بأسلوب شعري شجي:

لنا كربلاء المجد ذكرى عزيزة *** يجددها قلب ورأس ومعصم

وروح بها يطهر الطهر كله *** وعزم تهاب الأسد منه وتهزم

ص: 205


1- نفس المصدر السابق ص310

أما ذكروا فيه النبي فأغمدوا *** سيوفا وخافوا الله فيه فأحجموا؟ !

ولو نطقت تلك الرماح لؤلؤلت *** عليه، ولكن هل رماح تكلم؟!

وأبكيه في شوق وأكتم لوعتي *** أكل سنين العمر أبكي وأكتم؟!

إلى الله أشكو ما أصاب جوانحي *** ولكن بأمر الله راض مسلم(1)

وهنا أريد أن أقف قليلا عند البيت الشعري الذي يقول فيه الشاعر:

ولو نطقت تلك الرماح لؤلؤلت *** عليه، ولكن هل رماح تكلم؟!

وما وقوفي عند هذا البيت الشعري تحديدا إلا لأتساءل:

هل هذه الصورة الشعرية الفنية هي من الإبداعات الأدبية الخاصة بالأديب والشاعر (عائض القرني) أم أنه استوحاها من مصدر شعری آخر؟!

في الحقيقة، وجدت بعد الدراسة والتحليل، أن الداعية والشاعر السعودي (القرني) قد تأثر أسلوبه الشعري بأسلوب شعر الإمام (محمد بن إدريس الشافعي)، إمام أحد المذاهب السنية الأربعة المعروفة.

ومن المعروف تماما أن للإمام الشافعي ديوانا شعريا مليئا بالحكم والمواعظ والمدائح والمراثي المؤثرة، ويعتبر دیوانه على صغر حجمه، عينا من عيون الأدب العربي الرفيع.

وبإمكان القارئ العودة إلى ذلك الديوان الشعري والاطلاع عليه عن كثب بهدف

الاستمتاع بقراءته والاستفادة من مواعظه و حکمه

وبالطبع، لسنا هنا في مجال إجراء مقارنة أدبية بين قصائد (عائض القرني)

ص: 206


1- راجع قصيدة (أنا سني حسيني) للداعية والأديب الشاعر (عائض القرني) في جريدة (الحياة)، العدد / 16077/ بتاريخ 1نيسان 2007، ص17.

وقصائد (الإمام الشافعي) الواردة في ديوانه، ولكن لا بأس في أن أذكر شيئا من قصيدة کنت قد ذكرت قسما منها في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب وذلك من أجل أن يقارن القارئ الكريم نفسه بين الأسلوبين وبين الصور الفنية المتنوعة الواردة عند كل من (القرني) و (الشافعي).

يقول (الشافعي محمد بن إدريس) واصفا حزنه على مصاب الحسين عليه السلام :

تأوب همي والفؤاد كئيب *** وأرق نومي والرقاد غریب

وممانفی همي وشيب لمتي *** تصاريف أيام لهن خطوب

وبعد ذلك ينتقل (الإمام الشافعي) لتقديم الصور الفنية المميزة التي تذكرنا

بالفعل بالصور المماثلة لها والتي وردت في أبيات الشاعر (القرني) السالفة الذكر.

وها هو يتابع قائلا وواصفا حزن كل مفردات الوجود على سيد الشهداء علیه السلام : وللسيف أعوال وللرمح رنة *** وللخيل من بعد الصهيل نحيب

وغارت نجوم واقشعرت كواكب *** وهتك أستار وشق جيوب(1)

وأعتقد، بشكل شخصي، أن نظرة واحدة سريعة على أسلوب القصيدتين وعلى

الصور الفنية والبلاغية الواردة فيهما ستبین لنا عمق تأثر الداعية والشاعر(عائض القرني) بأسلوب (الإمام الشافعي) الشعري مع الأخذ بعين الاعتبار أن الوصول إلى هذه النتيجة الحتمية يستلزم عدم الوقوف عند مجرد إجراء مقارنة بين قصيدتين فقط، بل إن الأمانة العلمية والدقة الفكرية تستدعي أن تكون الدراسة أكثر شمولا وأعمق تحليلا.

وبما أن هذا ليس مجال اهتمامنا الآن، دعونا إذن ننتقل إلى شاعر جديد وإلى

ص: 207


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص 365

حصاد جديد من بيادر الإمام الحسين عليه السلام .

نعم، سنمضي الآن إلى شاعر جديد ولكن ليس قبل أن نجيب على سؤال قد يطرحه القارئ على نفسه أو علينا، وهو سؤال يتعلق بالشاعر الوهابي (عائض القرني) الذي كنا في زيارته منذ قليل.

والسؤال المفترض طرحه هو:

كيف يمكن لشاعر وهابي أن يمتدح الإمام الحسين عليه السلام بهذا الشكل الرائع على الرغم من أن مذهب الوهابية على شقاق عميق جدا مع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، فكيف نفسر هذا؟!

والجواب هو:

نعم، إن المذهب الوهابي ليس فقط على شقاق كبير مع مذهب أهل البيت عليهم السلام ، بل إنه يناصبه العداء الواضح بشكل أو بآخر، ولكن وبالرغم من كل ذلك، فإن مأساة الإمام الحسين عليه السلام وأخلاقه ومبادئه هي التي أرغمت الجميع، بما في ذلك أعداءه، على احترامه وتقديره وإحياء معالم نهضته.

ويكفي أن نقول هنا إن الشيخ (ابن تيمية)، ذلك الشيخ الذي تأسست الحركة الوهابية على أنقاض تعاليمه، كان له رأيه الواضح والحاسم بشأن فاجعة كربلاء وما حل بالإمام الحسين وأهله وعياله عليهم السلام .

وقد ذكر العلامة الهندي (أبو الحسن علي الندوي)، السني المذهب، رأي الشيخ (ابن تيمية) في بحث له بعنوان (الحسين وكارثة كربلاء)، وكان من جملة ما قاله في بحثه المذكور: (قال شيخ الإسلام الحافظ ابن تيمية في حديث جرى بينه وبين مقدم المغول (بولائي) لما قدم دمشق في الفتنة الكبيرة

ص: 208

(أما من قتل الحسين أو أعان على قتله، أو رضي بذلك، فعليه لعنة الله والملائكة

والناس أجمعين، لا يقبل الله منهم صرفا ولا عدلا)(1).

فإذا كان هذا هو قول (ابن تيمية) ورأيه، فهل - بعد هذا - نستغرب مما قاله الشاعر

(عائض القرني)، الوهابي، بالإمام الحسين عليه السلام ، (مصباح الهدى وسفينة النجاة)؟! وعلى كل حال، دعونا ننتقل الآن إلى واحة شعرية جديدة كي نتزود منها ببعض المتعة والفائدة، وفي الحقيقة، فإن محطتنا التالية ليست مع شاعر، وإنما هي في واقع الأمر مع فقيه وأديب أكثر مما هي مع شاعر محترف لصناعة الشعر.

ولكن، ومع ذلك، فإن لهذا الفقيه والأديب قصائد رائعة تؤكد لقارئها أن ناظمها لديه من القريحة الشعرية المتميزة ما يجعله يصنف بين أفضل وأفصح الشعراء المعاصرين.

إن محطتنا الآن هي محطة هامة مع العلامة والأديب (عبد الله العلايلي) الذي سبق وأن عرفنا القارئ عليه وعلى هويته الدينية وعلى بعض مؤلفاته الفكرية والتي كان من أهمها كتابه (الإمام الحسين).

وكما أن العلامة (العلايلي) لم يبخل بالكتابة النثرية عن الإمام الحسين عليه السلام ، فكذلك لم يبخل بالكتابة الشعرية عنه أيضا، وكان من أهم ما كتبه شعرا عن الإمام الحسين عليه السلام قصيدتان بعنوان (ذكرى الحسين) و(دمعة سني على الحسين).

ومهما يكن من أمر، دعونا نستعرض الآن بعضا من الأبيات المميزة الواردة في

ص: 209


1- أبو الحسن علي الندوي، الحسين وكارثة كربلاء، راجع مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد الرابع، مصدر سابق ص68. وقد نقل العلامة (الندوي) هذا الحديث عن (ابن تيمية) من كتاب (فتاوی ابن تيمية) المطبوع في الرياض بطبعته الأولى عام / 1381ه-، الجزء الرابع ص487

القصيدة الأولى والتي تحمل عنوان (ذكرى الحسین).

يقول الأستاذ (العلايلي) في القصيدة المذكورة واصفا سيد الشهداء علیه السلام :

عرى الدين من أحلاس شر وفتنة *** دواهي طغت وازور من وقعها الهدی

فهاج إمام الحق من كل وجهة *** وهاج إمام الدين من كل منتحی

فما قر في وجه المظلوم وما التوى *** على مرة الظلام أو شدة الهوى

أرادوا به ذلا فكان جوابه *** زئيرا کليث الغاب حفز للشری

سری جاهدا يستندب الروع بغية *** كأن الردي في الذل والعيش في الردی

إلى أن يتابع قائلا:

فياكربلا، کهف الإباء مجسما *** ویاکربلا، کهف البطولة والعلا

ویاکربلا، قد حزت نفسا نبيلة *** وصيرت بعد اليوم رمزا إلى السما

ویاکربلا، قد حزت مجدآ مؤثلا *** وحزت فخارا ينقضي دونه المدی

فخار لعمري سطرته ضحية *** فكان لمعنى المجد أعظم مجتلى

فللمسلم الأسمی شعار مقدس *** هما قبلتان للصلاة وللإبا

وربما كانت أقوى وأجمل الأبيات الواردة في قصيدة (ذكرى الحسين) هي هذه الأبيات التي يصور فيها الأديب والعلامة (العلايلي) لسان حال الإمام الحسين عليه السلام وهو يقدم الشهيد من أهله تلو الشهيد:

أقدم ولدي والأسنة شرع *** وأستعذب الموت الزؤام لهم رضی

أقدم من قرباي قربان فدية *** حفاظا لدين الله أن يرمي بالدنی

أقدم رأسي شاخبا بدمائه *** على أن أمد الكف للذل والخنا

ص: 210

ولو أن أهلي قطعوا إربا على *** الحاظي، کلا، لا أحول عن الخطی(1)

والآن، أصبح بإمكاننا الانتقال إلى القصيدة الثانية والتي تحمل عنوان (دمعة سنى علی الحسين عليه السلام)، وبالطبع، فإن هذا العنوان المؤثر يذكرنا بعنوان قصيدة (عائض القرني) السابقة (أنا سني حسيني).

يقول العلامة (العلايلي) فيها:

نحيي مثالا أجاب الندا *** فكان فيداء کرمز الحرم

أجاب وياروعة للجوا *** ب إذا قال مرحي بسكنى الرجم

وفيه افتداء حقوق غدت *** تئن بليل إذامااعترم

وفيه نداء يفل قوی *** ظلوم غشوم إذا ما احتكم

وفيه هزيم كصوت الرعو *** دویوم الحقيقة يوم حسم

ويتابع (العلايلي) في قصيدته قائلا:

ويذكي شعورا يخيف الظلو *** م ويحمي الحقوق فلا تنهضم

ألا إنما بالدما وحدها *** يرد اعتداء عدو خصم(2)

ألا تذكرنا هذه الأبيات الشعرية الواردة في القصيدتين المذكورتين، وبشكل

خاص، البيت الذي يقول الشاعر (العلايلي) فيه واصفا حال الحسين عليه السلام:

ولو أن أهلي قطعوا إربا على *** الحاظي، كلا، لا أحول عن الخطی

ألا يذكرنا هذا البيت الشعري بعبارة الأديب والمفكر (عباس محمود العقاد) التي يقول فيها: (فليس في العالم أسرة أنجبت من الشهداء من أنجبتهم أسرة الحسين عدة

ص: 211


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص108
2- نفس المصدر السابق ص110

وقدرة وذكرة... وحسبه أنه وحده في تاريخ هذه الدنيا الشهيد ابن الشهيدأبو الشهداء فيمئات السنين...)(1)؟!

ولو انتقلنا الآن إلى واحة جديدة من واحات الشعر الوارفة الظلال، فأين عسانا

نلقي برحالنا؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نلقي برحالنا في واحة الأديب والشاعر المسيحي السوري (غسان حنا)، الذي سبق وأن عرفنا القارئ الكريم عليه وعلى بعض مؤلفاته الأدبية المتنوعة، وستكون استراحتنا الآن مع مجموعته الشعرية الأكثر تألقا بين مجموعاته ودواوينه الشعرية الأخرى، إنها مجموعته (أبجدية التجلي) التي تميل بطبيعة أشعارها إلى البحث عن هوية الشاعر الفكرية والروحية، وإلى البحث أيضا عن معاني الوجود وعن قيمة التاريخ وحقيقته وحقيقة رجاله واستحقاقاتهم فيه.

لقد رأينا في أحد الفصول السابقة كيف أن الشاعر قد أعطى معاوية بن أبي سفيان حقه من التقييم والنقد الصريحين، وكيف أنه قد اعتبره محنة الإسلام وداء المسلمين، أما الآن فسوف نتعرف على وجهة نظره تجاه الإمام الحسين عليه السلام وتجاه ما حدث له في أرض كربلاء

ولنستمع إليه الآن وهو يقول في قصيدته التي تحمل عنوان (الحسين بن علي):

رأس الحسين... هوی

لو أني شاهد

لمددت قلبي...

فالفؤاد إناء

ص: 212


1- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي، مصدر سابق ص176

أو ... ربما... جانبت عن تقبيله

خوفا بأن... تتلاحم الأجزاء

.....

ما کربلاء

سوى الجريمة ذاتها

الحاكم السفاح والأمناء(1)

ولما سألت الشاعر الصديق (حنا) عن معنى وسبب خوفه من تلاحم أجزاء الحسين عليه السلام المتقطعة، فأجابني بكل تأثر: نعم، أنا أخاف أن تعود أوصاله المقطعة إلى التلاحم من جديد، إنني أخاف حدوث ذلك لأن كل يزيد يعيش في عصرنا هذا سوف يعود إلى قتل الإمام الحسين عليه السلام من جديد وسوف يعود إلى تمزيقه مرة أخرى، ولهذا السبب فأنا لا أريد أن يعاني الإمام الحسين عليه السلام من أجل الإنسانية أكثر مما عاناه.

وهكذا نرى أن هناك عمقا فكريا في الصورة الشعرية التي يرسمها هذا الشاعر المسيحي (غسان حنا)، إن ديانته المسيحية لم تمنعه من أن يحول قلبه النابض بالحب والحياة إلى وعاء رحب ليستقبل الحسين ورأس الحسين عليه السلام ويمنعه من السقوط على رمال كربلاء الحارقة، إنه يتمنى لو كان شاهدا حيا وقتذاك ليفعل ما أراد فعله بالرأس الشريف من تقدير وتوقير، إنه ضمير مسيحي ينبض بحب الحسين عليه السلام .

وبحكم المعرفة الشخصية المباشرة التي تربطني بهذا الشاعر المسيحي المولود في نفس المدينة التي ولدت فيها أنا، مدينة اللاذقية، كانت تدور بينناالعديد من

ص: 213


1- غسان حنا، أبجدية التجلي، مصدر سابق ص202.

المناقشات والحوارات الفكرية والأدبية العامة، مع التركيز على القضايا الشعرية الحديثة وعلى علاقة الشعر المعاصر بالحياة وبأثمن مفرداتها وأغلاها قيمة كمفهوم (الإنسان) و (الحرية) و (الحب) و (الجمال) و(الخير) و (الفضيلة) و (الروح).

وأذكر أن ذلك الشاعر الشقاف (حنا) كان يزين أحاديثه بالكثير من الأحاديث الشريفة الواردة عن السيد المسيح عليه السلام وعن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وكان يستفيض أيضا في توجيه الحوار والنقاش الدائر بيننا وذلك من خلال الاستشهاد بما تحفظ ذاكرته القوية من آيات قرآنية وأحاديث كثيرة واردة عن الإمام علي عليه السلام وعن بقية أهل بيت النبوة عليهم السلام.

وكان ما يدهشني في حديثه عن تاريخ العرب والمسلمين هو قدرته على استرجاع الكثير من الحوادث التاريخية الهامة وكأنه يحفظها عن ظهر قلب،وإن كنت أنسى شيئا، فإنني لن أنسى ذلك الحديث المطول الذي دار بيننا، وبوجود عدد من الأصدقاء، حول الإمام الحسين عليه السلام وما حدث معه في كربلاء.

فقد كان حديثا شجيا مؤثرا يبعث في النفس الكثير من المشاعر المختلفة من حزن وعنفوان، ألم وصبر، انکسار في القلب وسمو في الفكر، لقد كان حديثا مطولا اختلطت فيه العبر بالعبرات.

وكان من أبرز النقاط التي دارت في نهاية ذلك الحوار المشبع تماما بالآهات والآلام، بالعزة والكبرياء والآمال، هي تلك النقطة التي جعلتني أشكره على مداخلة قام بها قبل شهر من لقائنا وحوارنا، حيث قام بمداخلة هاتفية على قناة المنار الفضائية التي كانت تقدم وقتها برنامجا خاصا عن ذكرى عاشوراء.

وكان من جملة ما قاله الأستاذ الشاعر (حنا) في تلك المداخلة الهاتفية التي تعود

ص: 214

بنا عشر سنوات للوراء.

- أتمنى من الإخوة المسلمين الشيعة أن يدركوا أن الإمام الحسين عليه السلام ليس لهم فقط، بل هو لنا أيضا، فالإمام الحسين عليه السلام للجميع من مسلمين وغير مسلمين، فالحسين عليه السلام لكل إنسان، وعلى المسلمين الشيعة أن يعلموا أيضا أن كربلاء إرث عام لنا جميعا، إنها تراث لكل الإنسانية، ونحن حملتها وورثتها، وعلينا جميعا أن تحافظ على هذا التراث الخالد العظيم.

وعندما ذكر الأستاذ (حنا) بهذه العبارات القلبية النقية الصادقة التي قالها عبر تلك المداخلة الهاتفية على شاشة التلفزيون، ابتسم بهدوء، ونظر إلي بعينين حزینتین وقال:

- أيها العزيز، هذا أبسط ما يمكن أن يقال بحق الإمام الحسين عليه السلام .

فللحسین دین کبیر عندنا، ولدمه الغالي حق عظيم على أقلامنا.

وقبل أن ينقض المجلس ويذهب كل منا إلى حال سبيله، أخبرته عن عزمي على تأليف كتاب ضخم عن الحسين عليه السلام وفاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث، فاستحسن الفكرة جدا ورحب بخطوط العمل العريضة التي أخبرته عنها، ثم قام بعد ذلك بإعطائي بعض التوجيهات والنصائح التي من شأنها أن ترفع من قيمة العمل الفكرية والفنية.

وإذا كان صديقنا الشاعر المسيحي (غسان حنا) قد كتب بعض القصائد عن الإمام علي عليه السلام وعن سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام، منطلقا في ذلك من إيمانه العميق بأن للحسین علیه السلام دینا كبيرا عنده، وأن لدمه المطلول ظلما حقا عظيما على قلمه، فإن هناك عددا من الشعراء المسيحيين الذين لم يكتفوا بكتابة بعض القصائد عن

ص: 215

الإمام الحسين عليه السلام أو عن بقية أفراد أهل البيت المحمدي عليهم السلام، بل راحوا ينظمون القصيدة تلو القصيدة، ويكتبون الديوان تلو الديوان عن مآثر الحسين عليه السلام وفضائله وعن فضائل عموم أهل البيت عليهم السلام

وها هو الأديب الشاعر (جورج شكور)، الذي أسلفنا ذكره في أحد الفصول السابقة، لم يكتف بكتابة بعض الأبيات عن ملحمة كربلاء وعن بطل أحداثها الإمام الحسين عليه السلام ، بل کتب دیوانا شعریا کاملا أسماه (ملحمة الحسين) وقدذكر فيه الكثير من الحقائق عن أهل البيت عليهم السلام وعن محامد خصال الحسين عليه السلام ومآثره الخالدة في كربلاء وأثر ذلك في إحياء رسالة الإسلام وخلود تعاليمها ومبادئها الإنسانية من جديد. .

وقد اعتبر الناقد والأديب المسيحي (مروان شمعون) هذه الملحمة الشعرية، (ملحمة الحسين)، ملحمة عظيمة من حيث الأفكار والبنية والتركيب.

فهي - كما يقول الأستاذ (شمعون) - ملحمة قادرة على أخذ القارئ إلى عوالم رائعة شبيهة بعالم (عبقر)، بل إن قراءتها المتروية والتأمل في بنيانها الشعري وفي محتواها الأخلاقي والبطولي والفكري ينقل القارئ إلى حضرة الملاحم العالمية الخالدة، تلك الملاحم البطولية التي تمثل طموح الشعوب الحية الشابة فتربط (الحاضر بالماضي، وتساعد على يقظة الوعي في الجماعات، وعلى تقوية إحساسها بالديمومة زمنيا ومكانيا، على أنه يفرض فيها تقادم الزمن على مضمون الحكاية لتتیسر تحليتها بالإعجاز والإغراب، فیزخرفها القدم، ويضفي عليها جوا من السحر العجيب(1)

ص: 216


1- جورج شكور، ملحمة الحسين، مصدر سابق، الأستاذ الناقد (مروان شمعون) في نهاية الملحمة ص 41.

يويمكننا الآن أن نتوقف هنا قليلا لنقتطف بعض الأبيات الشعرية من (ملحمة الحسين)، وتحديدا تلك الأبيات التي يخاطب الشاعر فيها الإمام الحسين عليه السلام قائلا:

زين الشباب، لکم تهواك أشعار *** وفيك تحلو أحاديث وأسمار

ضجت لهيبتك الصحراء مجفلة *** كأنما هب في الصحراء إعصار

لكن هويت، وما في الأفق كوكبة *** إلا عليك بکت، والدمع مدرار

قد جذ راسک بالأسياف، واقتطعت *** رؤوس قومك، قلب الحقد قهار

ياويحهن على الأرماح، دامية *** تخالها النخل، لاحت منه أثمار(1)

وربما كان أجمل ما جاء في هذه الملحمة الشعرية، هو ذلك الوصف الشعري الرائع لموقف السيدة زينب عليها السلام من يزيد النكيد، حيث صاغ الشاعر المسيحي (شکور) جواب السيدة زينب علیها السلام شعرا، فقال مصورا ردها على يزيد:

تكيد کيدك، تسعى السعي مزدهيا *** وحول عنقك كالحيات أوزار

تشري الضمائر، لكن ظل مذکرا *** لاتنسها، ما لأهل البيت أسعار

لالن تميت لنا وحیأ ولا نسبأ *** باق لنا في قلوب الحب تذكار

نهز عرشك في الجلی نزلزله *** لنا النعيم، لك الويلات والنار(2)

وهنا أريد أن أضع نفسي موضع القارئ، لا موضع الكاتب والباحث، لأطرح هذا

السؤال عن مكانة الإمام الحسين عليه السلام في ضمير الأديان:

لقد عرفنا أن هناك الكثير من الأدباء والشعراء المسلمين السنة ومن الطوائف

ص: 217


1- نفس المصدر السابق ص28.
2- نفس المصدر السابق ص32.

المسيحية المختلفة الذين كتبوا ونظموا القصائد والملاحم عن الإمام الحسين عليه السلام وعن أخلاقه ومبادئه ومآثره في موقعة كربلاء، فهل هناك من كتب عن الإمام الحسين علیه السلام وعن نهضته المباركة من خارج الدائرة الإسلامية السنية ومن خارج الدائرة المسيحية ؟!

والجواب بكل بساطة ووضوح: نعم، هناك من كتب عن ثورة سيد الشهداء علیه السلام

وهو ليس بالمسلم السني ولا حتى بالمسيحي.

وها نحن سنذكر الآن أحد أهم الأمثلة على صدق ذلك، وإن المثال الأول الذي سنذكره الآن في هذا الموضع هو الشاعر (الصابئي) المعروف (عبد الرزاق عبد الواحد).

وأذكر أنني قد ذكرت بعضا من نتاجات هذا الشاعر الصابئي في فصل سابق لكن دون أن أقدم تعریفا کاملا به للقارئ الكريم، ولذلك، أرى أنه من المناسب الآن أن أقوم بتقديمه المطلوب واللائق للقارئ الذي سيتذوق بعد قليل بعض الثمار الشعرية التي جادت بها علينا موهبته الشعرية، تلك الموهبة التي استطاعت بحق أن تثبت وجودها على ساحة الفن الشعري الحديث واستطاع صاحبها أن يحتل مكانا مرموقا في الصف الأول بين كبار الشعراء العرب المعاصرين.

فمن هو الشاعر الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)؟

هو شاعر عراقي كبير، ولد عام / 1930م/ وهو من الجيل الذي تلا جيل الشاعر

المعروف (بدر شاكر السياب) مباشرة وقد زامله وصادقه في دار المعلمين العالية.

وقد عرف (عبد الواحد) بشعره اليساري لفترة طويلة، ودخل السجون مرارا

عديدة نتيجة آرائه ومبادئه التي كان يعتنقها ويؤمن بها تماما.

ص: 218

ولهذا الشاعر مجموعات شعرية متعددة، بدأت بمجموعته (لعنة الشيطان) عام / 1950م/ ثم (أوراق على رصيف الذاكرة) و(خيمة على مشارف الأربعين) و(قصائد في الحب والموت) وغيرها، وله العديد من المجموعات الشعرية للأطفال.

ولهذا الشاعر المتألق مسرحية بعنوان (الحر الرياحي) وهي مسرحية تخدم في موضوعها هذا الكتاب الذي بين أيدينا، ولذلك سنتطرق للحديث عنها في الفصل القادم إن شاء الله، وله ملحمة أيضا بعنوان (الصوت).

وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام /2003م/ اختار شاعرنا مدينة دمشق وطنا

ثانيا له، وما زال مواظبا على عطائه النثري والشعري(1)

وبعد هذا التعريف الضروري بشاعرنا (الصابئي) عبد الرزاق عبد الواحد، دعونا الآن نتوقف مليا عند نتاجه الشعري الذي يصور فيه موقفه من الإمام الحسين عليه السلام ومن ثورته الإصلاحية في كربلاء.

ففي أشهر قصيدة له عن الإمام الحسين عليه السلام ، وهي القصيدة التي تحمل عنوان (في رحاب الحسين)، نستطيع أن نقرأ هذه الأبيات المشبعة بالحب والتقدير والولاء، على الرغم من أنه ليس بالمسلم ولا بالمسيحي، إنه شاعر صابئي ملأ قلبه بحب الحسين عليه السلام فانعكس ذلك على ضميره الإنساني الحي الذي ترجم ذلك الحب والولاء إلى قصائد خالدة عن البطولة والفداء،عن الصبر والكرامة، عن الإيمان وخلاص الإنسان، فقال مخاطبا الإمام الحسين عليه السلام :

قدمت وعفوك عن مقدمي *** أسيرا كسيرا حسيرا ظمي

ص: 219


1- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، منشورات وزارة الثقافة، دمشق . 2007، راجع التعريف بالشاعر وأعماله ص 1

قدمت لأحرم في رحبتيك *** سلام لمثواك من محرم

فمذ کنت طفلا رأيت الحسین *** منارا إلى ضوئه أنتمي

ومذ کنت طفلا عرفت الحسين *** رضاعا وللآن لم أفطم

ومذ كنت طفلا وجد ت الحسين *** ملاذا بأسواره أنتمي

وبعد أن يعرفنا على علاقته بالإمام الحسين عليه السلام التي تمتد إلى أيام الطفولة

المبكرة، ينتقل بنا إلى عالم الحسين عليه السلام الأرحب ليعرفنا على الانتصار الساحق الذي حققه الحسين عليه السلام على الموت والفناء، فيقول:

سلام عليك فأنت السلام *** وإن کنت مختضبا بالدم

وأنت الدليل إلى الكبرياء *** بماديس من صدرك الأكرم

وإنك معتصم الخائفين *** یامن من الذبح لم يعصم

لقد قلت للنفس هذا طريقك *** لاقي به الموت کي تسلمي

وما دار حولك بل أنت درت *** على الموت في زرد محکم

فمسك دون قصد فمات *** وأبقاك نجما من الأنجم

وهنا ينتقل بنا هذا الشاعر (الصابئي) الألمعي إلى المشهد الدامي الذي يصور

تسابق آل الحسين عليه السلام للفوز بالشهادة العظيمة بين يديه، فيقول متابعا:

سلام عليك حبيب النبي *** وبرعمه طبت من برعم

حملت أعزصفات النبي *** وفزت بمعياره الأقوم

سلام على إلى الک الحوم *** حواليك في ذلك المضرم

وهم يدفعون بعري الصدور *** عن صدرك الطاهر الأرحم

ص: 220

ويحتضنون بکبر النبيین *** ماغاص فيهم من الأسهم

سلام عليك على راحتين *** کشمسين في فلک أقتم

تشع بطونهما بالضياء *** وتجري الدماء من المعصم

وهنا يأتي دور الكلام والسلام على السيدة الطاهرة المطهرة زينب الحوراء علیها السلام

شقيقة الإمام الحسين عليه السلام فيقول عنها واصفا دورها البطولي :

سلام على هالة ترتقي *** بلالائها مرتقی مریم

طهور متوجة بالجلال *** مخضبة بالدم العندم

تهاوت فصاحه كل الرجال *** أمام تفجعها الملهم

فراحت تزعزع عرش الظلال *** بصوت بأوجاعه مفعم

ولو كان للأرض بعض الحياء *** لمادت بأحرفها اليتم(1)

وعلى الرغم من كثرة الأبيات الشعرية التي أوردناها في سياق كلامنا عن الشاعر الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)، إلا أن القصيدة لم تنته بعد، ولكن اقتصرنا على ذكر هذه الأبيات فقط خوف الملل أو الإطالة التي قد يشعر القارئ بهما.

ولكن ذلك لا يعني أننا لن نذكر بقية الأبيات الرائعة في مكانها المناسب، بل إننا سنعمد إلى ذكر ما تبقى من هذه القصيدة العصماء الفصل الأخير من هذا الكتاب، إنه الفصل الذي ستحدث فيه عن الآثار العظيمة والدروس المستفادة من فاجعة كربلاء.

أما وقد تعرفنا الآن على وجهة نظر الأديب الشاعر (عبد الواحد) حول الإمام

ص: 221


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: WWW. Yahosein. Com /vb/ Show Thread. Php?t = 63239 تاريخ الدخول للموقع المذكور أعلاه 2008/3/6 م

الحسين عليه السلام وثورته النهضوية في كربلاء، دعونا نبقى هنا لفترة أطول معه كي نستزيد من شعره العذب حول مكانة الحسين عليه السلام ومكانة الفداء العظيم الذي كان وسيبقى قربانا لراية التوحيد في أرجاء السماء وتضحية لا تماثلها تضحية من أجل كرامة الإنسان وشرف الأديان على الأرض.

وقبل أن نكمل رحلتنا في عالم (عبد الرزاق عبد الواحد) الشعري، دعونا نتعرف على آرائه ومواقفه من الإمام الحسين عليه السلام من خلال أقواله وكتاباته النثرية ومن خلال مقالاته الأدبية، وبعد ذلك ننطلق للتحليق سویة في فضاءاته الشعرية من جديد.

يقول الأديب الشاعر (عبد الواحد) في مقال له بعنوان (الحسين أعظم الإضاءات

وذروة الاستشهاد من أجل الإنسان):

(الإضاءات في تاريخنا كثيرة.. وأعظمها إضاءات حملت قابلية الديمومة والتفجر.. فهي في أشد مسارات أمتنا ظلمة، مدخرة في ضمير الأمة، قابلة لأن تتفجر وتضيء كلما تهيات ظروف الأمة لتفجيرها.

وثورة الحسين عليه السلام في طليعة هذه الإضاءات المدخرة، القابلية لأن تضخ دما متوهجا في الأعراق ما تيبست فاخترقت جلودها مشرئبة إلى الحياة ... وبعد: فكثيرا ما يرد الحسين عليه السلام في شعري رمزا كلما شهقت القصيده عندي تبحث عن بطل تلوذ به)(1)

إذن، فالإمام الحسين عليه السلام هو الملاذ الآمن الذي تلجأ إليه القوافي والأفكار

عند الشاعر والأديب (عبد الواحد)، وليس هذا فحسب، فالحسين عليه السلام هو الألق

ص: 222


1- عبد الرزاق عبد الواحد، الحسين أعظم الإضاءات وذروة الاستشهاد من أجل الإنسان، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص403.

المتجدد في ضمير الأمم والأديان، إن ثورته المعمدة بالدماء هي القوة الكامنة في شرايين الأحرار الذين يتوقون إلى حياة جديدة مفعمة بالحرية والكرامة، بالإيمان والعدالة، بالخير والفضيلة، إنها الحياة التي رسمها الإمام الحسين عليه السلام على أفق الوجود بدمائه الطاهرة الزكية بأسلوب ثوري وإنساني جديد كي تتحول تلك الحياة الجديدة، بكل مفاهيمها وقيمها الحسينية، إلى شجرة إلهية مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء.

وسنتوقف الآن مع أحد المقاطع الشعرية من قصيدته التي تحمل عنوان (الصور)، وهي إحدى قصائده الشعرية الرمزية المميزة.

يقول الشاعر (عبد الواحد) فيها، وبأسلوب رمزي واضح المعالم:

نظرت فلم أجد راية

شمخت بعنقي المقطوع عمق الجو صارية

نشرت مكبرا كفني

وأترككم عراة تطفحون على دم البيعة

رؤوسا دونما أعلام

دموعا ما تزال تسيل، تسقي تربة البيعة

وتحني رأسها وتنام

أترك زيفكم لينام

وختم بدي يظل دما على أبوابكم يصحو

ومن يملك صفاء الله صدقا ماحيا يمح(1)

ص: 223


1- نفس المصدر السابق ص403

أما المقطع الشعري الأخير الذي سنذكره لهذا الشاعر العراقي (الصابئي)، فهو المقطع المأخوذ من مطولته الشعرية (الصوت)، وهو مقطع شعري يذكرنا، بلا ریب، بأحد المقاطع الشعرية الهامة للشاعر العالمي المعروف (أدونيس)، وهو شاعر ذائع الصيت عالميا، وسنأتي على ذكره بعد قليل كي نتعرف على مكانة ومنزلة الإمام الحسين عليه السلام في شعره العالمي الحديث.

وأرجو الآن من القارئ الكريم أن يقرأ المقطع الشعري الآتي أكثر من مرة، وأن يدرسه ويحلله جيدا كي يدرك ما فيه من صور فنية رائعة وأحاسيس وجدانية صادقة قلما نجدها في ما يكتب اليوم من دواوين ومجموعات شعرية تنتمي إلى الشعر الحديث أو إلى ما يشبهه.

والمقطع الشعري الذي أخذناه من ملحمة (الصوت) هو قوله الواضح عن رأس

الإمام الحسين عليه السلام المقطوع ظلما وعدوانا :

إني رأيت جسدا لا رأس له

يهبط كل ليلة

يطوف في الشوارع

رأيت رأسا تتدلى،

تعبر السطوح

تلصق بالأبواب والنوافذ

تبحث بالأبواب والنوافذ

تبحث عن أكتافها،

أوحي لي إذا تلاقي الرأس والجسد

ص: 224

فإنها القيامة (1)

وأعتقد، بعد أن انتهينا من الكلام عن الإمام الحسين عليه السلام وثورته في شعر الأديب والشاعر العراقي الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد)، أننا قد قطعنا شوطا لا بأس به عن مكانة كربلاء في عالم الأدب الشعري الحديث والمعاصر.

ولكن، وقبل أن ننتقل إلى نقطة مفصلية هامة وجديدة في هذا الفصل من الكتاب،

علينا أن لا نتجاوز عدة نقاط بارزة لابد من الإشارة إليها الآن.

فالنقطة الأولى، هناك الكثير من الشعراء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وعن ثورته وعظمة شخصيته ومبادئه، ولكنهم - وللأسف الشديد - لم ينالوا نصيبهم من الشهرة في الأوساط الأدبية، وأعتقد أن أحد أهم الأسباب في ذلك هو إعلان حبهم العميق لأهل البيت عليهم السلام وتعاطفهم القوي والواضح معهم في مبادئهم وفي مصائبهم، مما يعني بالضرورة أنهم - أي هؤلاء الشعراء - قد وقفوا موقفا معاديا ومناهضا لكل من ناصب أهل البيت علیهم السلام العداء.

ومن هنا جرى عليهم التعتيم الثقافي والإعلامي في زمن لم تكن تحترم فيه وجهات النظر وحريات الاعتقاد، خاصة وأن تلك الفترة التي تمتد عقودا إلى الوراء كان محكومة فكريا ودينيا من قبل أصحاب فعاليات ثقافية ودينية تهاجم كل من يحاول أن يقول الحقيقة بحجة أن البوح بالحقائق قد يقود إلى إيقاظ الفتن !!

وكمثال واحد على مصداقية هذه النقطة المطروحة، وكتتمة وإكمال لموضوع بحثنا المتعلق بعنوان هذا الفصل، سنتوقف عند شاعر وأديب لم يأخذ نصيبه من الشهرة والتقدير في عالم الشعر والأدب وذلك بسبب حبه العميق لأهل البيت علیهم السلام

ص: 225


1- نفس المصدر السابق ص403

وميوله الواضحة لأفكارهم ومبادئهم على الرغم من كونه (حنفي) المذهب.

وشاعرنا الذي سنتوقف عنده لتعريف القارئ به هو الشاعر المصري (أحمد خيري باشا)، إنه أحد أدباء مصر وفضلائها الكرام، وقد نشأ هذا الشاعر في بيت يهتم بالسياسة والفكر والأدب، وقد ورث مجد أبيه الراحل في كل صفاته ومناقبه وفي ولائه للعترة الطاهرة علیهم السلام دون خوف مما قد يجره عليه هذا الولاء العلني من مصاعب ومتاعب.

وعندما لاحت على هذا الشاعر علامات الموهبة الشعرية، راح ينظم كل عام قصيدة طويلة ويهديها للإمام الحسين عليه السلام ، ومن الواضح تماما أن روح الإيمان كانت ترفرف على قوافي قصائده فتزيدها جمالا وجلالا وصدقا في الولاء لآل البيت عاليهم السلام وهذا ما يجعله غير مبال بقول الناصبين، ولا آبه بادعاءات الحاسدين الحاقدين، وقد قال في ذلك:

ولست بسماع لزعم مفند *** فمن حب آل المصطفى أتضلع

ومدح بني الزهراء وردي و مذهبي *** ولست أبالي قولهم يتشیع

وعندما يذكر هذا الشاعر البيت الأخير يعلق عليه في الهامش ويقول في هامش

الصفحة (76) من دیوانه المطبوع والذي سنأتي على ذكره بعد قليل:

(... والذي أحب ذكره هنا، وأشهد الله تعالى عليه، هو أني (حنفي) المذهب متمسك بحنفيتي، (خلوتي) الطريقة مخلص لطريقتي، (ما تريدي) العقيدة موقن بعقيدتي، ولكن في حب آل البيت عليهم السلام لا أكتفي بأن أكون شيعيا واحدا، ولكن سبعة من الشيعة يكررون عشر مرات - ليكون الناتج سبعين شيعيا)(1).

ص: 226


1- أحمد خيري باشا، ديوان المدائح الحسينية، مطبعة الاعتماد - القاهرة، 1371ه-، الموافق لعام 1953م، راجع هامش الصفحة (76) من الديوان

ولهذا الشاعر (الحنفي) المذهب دیوان شعر في المدائح الحسينية يحتوي على (16) قصيدة في مدح الإمام الحسين عليه السلام وثلاث أخرى في السيدة زينب عليها السلام وها نحن سنذكر مطلع كل قصيدة فقط، بالإضافة إلى ذكر عدد أبياتها.

- ومن قصائد الديوان (المدحة الثانية) (12 بیتا) ومطلعها:

قصدتک أسعي نحو بابك سائلا *** فعدت بما أرجوه منك وآمله

- والقصيدة العينية (22 بيتا) ومطلعها:

ضياء التجلي في مقامك يسطع *** ونور النبوة من ضريحك يلمع

- والقصيدة الجيمية (12 بیتا) ومطلعها:

شهيد أمية نعم الشهيد *** ويامن بقبرك فاح الأريج

- والقصيدة الدالية (61 بيتا) ومطلعها:

بجاهك يدنو الخير والخوف يبعد *** وبابك للمكروب کهف و مقصد

- والقصيدة الهائية (20 بیتا) ومطلعها:

سبط الرسول عليك صلى الله *** تلك المفاخر والعلى والجاه

- والقصيدة الواوية (16 بيتا) ومطلعها:

بکم ترقی مدائحكم علوا *** ويسمو الناظمون بها سموا

- والقصيدة الزائية (12 بيتا) ومطلعها:

حماکم يابني طه حريز *** سعيد من به يومآیفوز

- والقصيدة الحائية (29 بیتا) ومطلعها:

هاج الهيام أخا الغرام فباحا *** وشجاه شدو العندليب فناحا

ص: 227

- والقصيدة الطائية (12 بيتا) ومطلعها:

خليلي هناعنا المآثم تنحط *** فقبل ترابا تحت دفن السبط

- والقصيدة اليائية (23 بیتا) ومطلعها:

سبط خير الناس من ميت وحي *** ونبيلا من کرام في لؤي

- والقصيدة الكافية (32 بيتا) ومطلعها:

لحي الإله عذولا حين يلحاک *** یا نفس فاغتنمي أيام دنیاک

- والقصيدة اللامية (55 بيتا) ومطلعها:

شاقت فؤادك بعد الشيب عطبول *** بسحر بابل منها الجفن مکحول

- والقصيدة الميمية (42 بيتا) ومطلعها:

سرب من الغيد أم لحن من النغم *** أعاد في القلب ذكر الحب والنعم

- والقصيدة النونية (47 بيتا) ومطلعها:

حب الحسین هدانا إن نما فينا *** فزناومدحته أحلى أمانينا

- والقصيدة السينية (66 بيتا) ومطلعها:

سنحت كما يخطو النعام تميس *** فرنت إليها لاتریم نفوس(1)

هذا، بالطبع، أحد الأمثلة على الشعراء الذين تم التعتيم عليهم وعلى آثارهم الشعرية والأدبية نتيجة حبهم وتعلقهم الشديد بأهل البيت عليهم السلام.

والنقطة الثانية التي أريد الإشارة إليها الآن هي تلك النقطة التي يمكن أن تتبادر

إلى ذهن القارئ على شكل هذا السؤال المطروح:

- نحن لا نشك في أن هذا الفصل من الكتاب قد قدم لنا الكثير من الأمثلة عن

ص: 228


1- راجع المصدر السابق للتأكد من مطالع القصائد وعدد أبياتها.

الشعراء الكبار الذين تحدثوا عن كربلاء ضمن دواوينهم الشعرية وأعمالهم الأدبية، ولكن ماذا عن عمالقة الشعر العربي الحديث من أمثال: أدونيس، وبدر شاكر السياب، وعمر أبو ريشة، والدكتور مصطفى جمال الدين، ومحمد مهدي الجواهري، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وبولس سلامة، وعبد المسيح الإنطاكي وغيرهم من كبار وعمالقة الشعر العربي الحديث، فهل للإمام الحسين عليه السلام ولکربلاء مكانة خاصة في دواوينهم الشعرية وفي ضمائرهم الإنسانية؟!

أما النقطة الثالثة التي أريد التنويه إليها، قبل الإجابة على السؤال السابق المفترض طرحه من قبل القارئ، هي نقطة هامة جدا وذلك بسبب علاقتها المباشرة مع عنوان هذا الفصل من الكتاب.

فعنوان الفصل الذي هو بين أيدينا الآن (ملحمة كربلاء في الشعر العالمي)، وبالتالي فإن هذا العنوان سيجعلنا نتساءل قائلين:

- هل هناك شعراء كتبوا عن كربلاء وعن بطلها الإمام الحسين عليه السلام وهم ليسوا

من العرب، بل من قوميات شتی ومن قارات مختلفة؟!

وبالطبع، فإننا لن نجيب على هذا السؤال الهام قبل أن نجيب على السؤال الذي هو قبله، ذلك السؤال المتعلق بعمالقة الشعر العربي الحديث وعلاقتهم الروحية والشعرية بأحداث الفاجعة وبسيد الشهداء عليه السلام .

ولذلك نقول بادئ ذي بدء، إن عمالقة الشعر العربي الحديث قد تركوا بصمات لا تمحى في ميدان الكلام عن العزة والبطولة والكرامة والإيمان، تلك المعاني الروحية والوجدانية السامية التي تجمعت كلها وتجلت بأبهى صورها فيشخصية الإمام الحسين عليه السلام ، سليل النبوة و معدن الرسالة.

ص: 229

وسنبدأ حديثنا الآن عن الشاعر الدكتور (مصطفى جمال الدين) المولود عام

/ 1927/ في العراق، فمن المعروف عن هذا الشاعر الكبير أنه نزح إلى مدينة النجف الأشرف حوالي عام / 1938/ ودرس فيها العلوم الدينية والعربية فتفوق فيهما وبرز بين أقرانه فقیها عالما شاعرا أديبا له مكانته الكبيرة والمتميزة في الأوساط الدينية والأدبية، وتابع دراسته الأكاديمية فحصل على شهادة الماجستير في الشريعة الإسلامية من جامعة بغداد ثم حصل على شهادة الدكتوراه من نفس الجامعة فنالها بدرجة الامتياز، وبعد ذلك أصبح عميدا لجمعية الرابطة الأدبية في النجف.

ولهذا الأديب الشاعر دراسات مطبوعة كثيرة، منها: (البحث النحوي عند الأصوليين)، (القياس حقیقته وحجته) وغيرها.

وقد عرف بشاعرية شفافة مبدعة، وقد أقام هذا الشاعر بقية حياته في العاصمة السورية دمشق.

ومن قصائده العديدة في الإمام الحسين عليه السلام ، يمكننا أن نأخذ هذه الباقة من

الأبيات الشعرية من قصيدته (أبا الشهداء).

يقول الشاعر مخاطبا أبا الشهداء علیه السلام :

ذكراك، تنطفي السنين وتغرب *** ولهاعلی کف الخلود تلهب

مولاي.. درب الخالدين منور *** بالذكريات الغر، سمح، مخصب

أنت الذي أعطيت ما أعيا الورى *** تصديقه، ووهبت مالايوهب

بثم ينتقل بعد ذلك إلى أجمل أبيات القصيدة، فيقول:

أنا لست شيعيا لأن على فمي *** ذكر الحسين، أعيد فيه وأطنب

ولأن في قلبي عصارة لوعة *** لأساه تذكرها العيون فتسكب

ص: 230

ولان امی ارضعتنی حبه *** ولانه لابی وجدی مذهب!!

لکننی اهویالحسین لانه *** للساکلین طریق خیر ارحب

و احبه لعقیدة یفنی لها *** ان دیس جانبها ودین یغضب (1)

اما محطتنا التالیة فستکون مع اخر قلعة من قلاع الشعر العربی الاصیل انه الشاعر الکبیر (محمد مهدی الجواهری)الذی اذهل بعبقریته البلاغیة و الشعریة جهابذة الادب العربی و علی راسهم عمیدالادب العربی الدکتور (طه حسین) الذی اجتمع معه فی احدی المرات فی مدینة دمشق اثناءانعقادمهرجان الفیلسوف و الشاعر(ابی العلاء المعری)عام/1944م/و عندها القی الشاعر(محمد مهدی الجواهری )من قصیدته عز نظیرها فلم یکن من الدکتور (طه حسین) و قد انتهی (الجواهری)من قصیدته فی ذلک الحفل الا ان وقف و قال :(لقد صدق الرسول العظیم: ان من البیان لسحرا و ان من الشعرلحکمة لقد افحمنی الاستاذ(الجواهری)بهذاالبیان الساحر الذی هو البقیة الباقیة من التراث الادبی العربی الصحیح)(2)

و علی کل حال فقد ولد الادیب الشاعر(الجواهری)مع مولد القرن العشرین فی عام /1903م/وقد درس فی الحوزة العلمیة فی النجف الاشرف ثم سافر الی العاصمة بغداد و عمل فی البلاط الملکی

صدرله دیوان شعری فی عدة اجزاء و هو دیوان متعدد الاغراض والمواضع الشعریة و صدر له کتاب ذکریات و قد توفی فی دمشق عام/1997/

ص: 231


1- د.مصطفی جمال الدین اباالشهداء راجع مجلة الموسم/12/المجلد/3/مصدر سابق ص253.252
2- حسن العلوی الجواهری دیوان العصر وزارة الثقافة - دمشق ط 1986/1 م ص 257

للشاعر الکبیر (الجواهری )العدید من القصائد والمقطوعات الشعریة فی الامام الحسین علیه السلام و فی ملحمة کربلاء التی لاتزال دماء ضحایاها تلون ارض العراق حتی یومنا هذا

و من اجمل ما قاله فی الامام الحسین علیه السلام هی تلک القصیدة البلیغة التی تحمل عنوان (امنت بالحسین)و هی التی یقول فیها مخاطبا سید الشهداء الابرارو ابا الائمة الاطهارعلیه السلام:

فداء لمثواک من مضجع *** تنور بالابلج الاروع

ورعیا لیومک یوم(الطفوف) *** وسقیالارضک من مصرع

تعالیت من مفزع للحتوف *** وبورک قبرک من مفزع

تلوذ الدهور فمن سجد *** علی جانبیه و من رکع

وعفرت خدی بحیث استرا *** ح خد تفری و لم یضرع

وحیث سنا بک خیل الطغاة *** جالت علیه و لم یخشع

وطفت بقبرک طوف الخیال *** بصومعة الملهم المبدع

الی ان یتابع نفس القصیدة قائلا:

فیا بن(البتول)وحسبی بها *** ضمانا علی کل ما ادعی

ویا بن(البطین)بلا بطنة *** ویا بن الفتی الحاسر الانزع

ویا غصن هاشم لم ینفتح *** بازهر منک و لم یفزع

ویا و اصلا من نشید الخلود *** ختام القصیدة بالمطلع(1)

ص: 232


1- راجع بعض ابیات هذه القصیدة الواردة فی :ا. انطون بارا الحسین فی الفکر المسیحی مصدر سابق ص 334 ب. محمد مهدی الجواهری امنت بالحسین راجع مجلة اهل البیت علیهم السلام العدد/50/عدد شهر نیسان 1991م تصدر عن رابطة اهل البیت الاسلامیة العالمیة فی لندن راجع الصفحة 63والقصیدة الکاملة موجودة فی الدیوان ج2ص269.266

و کما ذکرنا سابقا فان للشاعر(الجواهری)العدید من القصائد الاصیلة الرائعة فی الامام الحسین علیه السلام و فی مناقبة الرسالیة و الاستشهادیة العالیة و لذلک فان المجال یسمح لنا ان نذکر له بعضا من قصیدة اخری بعنوان (عاشوراء)

و من جملة مایقوله(الجواهری)فیها:

هی النفس تابی ان تذل و تقهرا *** تری الموت من صبر علی الضیم ایسرا

و تختار محمودا من الذکر خالدا *** علی العیش مذموم المغبة منکرا

ثم ینتقل(الجواهری) بعد ذلک لیصف اثرفاجعة کربلاء علی امة المسلمین الذین فرطوا بالامام الحسین علیه السلام و قبلوا ان یکون یزید الفاسق امیرا و خلیفة علیهم !! و هاهو یتابع قائلا:

ابت سورة الاعراب الا وقیعة *** بها انتکص الاسلام رجعا الی الورا

و نکس یوم الطف تاریخ امة *** مشی قبلها ذا صولة متبخترا

و ماکنت بالتفکیر فی امر قتله *** لازداد الا دهشة و تحیرا(1)

و کان (الجواهری) یردد من خلال هذه الابیات الاخیرة التی قالها قول فیلسوف الشعراء ابی العلاء المعری الذی ابدی استغرابه الشدید من متناقضات الحیاة فقال :

اری الایام تفعل کل نکر *** فما انا فی العجائب مستزید

الیس قریشکم قتلت(حسینا) *** و کان علی خلافتکم (یزید)؟!

ص: 233


1- محمد مهدی الجواهری عاشوراء راجع مجلة الموسم العدد/ 12/ مجلد /3/ مصدر سابق ص 249

و علی کل حال فان اخر ما یمکننا ان نذکره هنا عن علاقة الشاعر الکبیر (الجواهری)بالامام الحسین علیه السلام هو ذلک الرباط الروحی المتین الذی کان یتغلغل عمیقا فی نفس (الجواهری )فیغمرها بالایمان و الطمانینة خاصة و هو یطل علی ضریح الامام الحسین علیه السلام فی کربلاء فمن خلال تلک الاطلالة علی ضریح الامام الثائر الشهید علیه السلام ایقن( الجواهری)ان الحسین علیه السلام هو الحجة علی الایمان المطلق بالله العظیم و انه هو ایضا الیقین الذی یبدد کل غیوم الشک و الارتیاب

وقد عبر (الجواهری) عن ذلک بالقول عن دور الامام الحسین علیه السلام فی حیاته الروحیة:

و جاز بی الشک فیما مع ال-- *** ---جدود الی الشک فیما معی

الی ان اقمت علیه الدلی-- *** -----ل من مبدا بدم مشبع

فنورت ما اظلم من فکرتی *** و قومت ما اعوج من اضلعی(1)

و هنا تحضرنی مقولة هامة للادیب المصری (احمد امین) تتمحور حول ادب الشیعة و اثره علی الادب العربی یقول الاستاذ(امین):(ادب الشیعة هو ادب حزین فیه دموع و حسرات و علیه اردیة سود من طول الحداد علی مصرع الحسین بن علی رضی الله عنه و قد کان لحرکة التشیع اثر بعید فی اعطاء نواح الادب العربی حیاة جدیدة)(2)

و قد جاء کتاب (ادب الشیعة .. الی نهایة القرن الثانی الهجری) لمولفة الشیخ(عبد الحسیب طه حمیدة) و هو عالم مصری من علماء الازهر و مدرس سابق فی کلیة

ص: 234


1- حسن العوی الجواهری دیوان العصر مصدر سابق ص 352
2- سامح کریم اسلامیات مصدر سابق ص 69

اللغة العربیة لیوکد کل ما قاله الاستاذ(احمد امین ) عن ادب الشیعة فقد ذکر الشیخ(طه حمیدة)فی کتابه المذکور ان لفاجعةکربلاء دورا قویا فی تفعیل الادب العربی وقد عبر عن ذلک بقوله:(کانت حادثة کربلاء تلک الحادثة المروعة المشوومة فاتحة طور جدید من اطوار هذا الادب الشیعی..کما کانت ذات اثر عمیق فی النفوس الاسلامیة و العقائد الشیعیة و الحیاة السیاسیة و الواقع ان قتل الحسین علی هذه الصورة الغادرة و الحسین هو من هو دینا و مکانة بین المسلمین لابد ان یلهب المشاعرو یرهف الاحاسیس و یطلق الالسن و یترک فی النفس الاسلامیة اثرا حزینا دامیا و یجمع القلوب حول هذا البیت المنکوب)(1)

و لاریب فی ان (الجواهری) واحد من ابرز الشعراء الشیعة المعاصرین بل ربما کان ابرز الشعراء العرب المسلمین عموما و هو العلم الابرز لمعالم الشعر العربی الممزوج بالکثیر من الفواجع و الماسی والاحزان التی تمتد فی تاریخها الی ایام فجائع الحسین علیه السلام و هموم علی علیه السلام و احزان الزهراءعلیها السلام تلک الفجائع و الهموم و الاحزان التی تنبا بها الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم قبل حدوثها باعوام طویلة

و حتی لانخرج بعیدا عن موضوع بحثنا دعونا ننتقل الی شاعر کبیر اخر من عمالقة الشعر العربی الاصیل و لتکن محطتنا الان مع الشاعر (عمر ابو ریشة)

فمن هو الشاعر (عمر ابو ریشة) و ما علاقته بالامام الحسین علیه السلام ؟!

و لد هذا الشاعر العظیم فی مدینة حلب السوریة سنة/1910م/ و تلقی علومه فی الجامعة الامریکیة قی بیروت و اکملها فی المعهد الفنی فی مدینة(مانشستر)

و هو عضو مجمع اللغة العربیة بدمشق و عضو المجمع اللغوی البرازیلی حصل

ص: 235


1- محمد جواد مغنیة الحسین وبطلة کربلاء مصدر سابق ص235

علی اکثر من (17) شهادة دکتوراه فخریة من مختلف جامعات العالم و عمل فی السلک الدبلوماسی السوری فترة طویلة

لهذا الشاعر العدید من الاعمال المنشورة منها : مسرحیة ذی قار - دیوان شعر و مسرحیة الطوفان و مجموعة شعر بعنوان (من عمر ابوریشة) و کتب مطولات شعریة بعنوان (ملاحم البطولة فی التاریخ العربی) و هی عبارة عن مجموعة شعریة تربو علی اثنی عشر الف بیت من الشعرثم مسرحیة بعنوان ( سمیرامیس)و ملحمة بعنوان (ملحمة الحسین بن علی) التی تتجاوز فی طولها الفی بیتا شعریا تقریبا و قد ارخ فیها للثورة الحسینیة ولتاریخ الحسین علیه السلام و ال البیت علیهم السلام منذ عهد النبوة حتی استشهاده و قد توفی هذا الشاعر العظیم عام/1990/ و دفن فی مدینة حلب (1)

و بالرغم من العمل الجلیل الذی قام به هذا الشاعر من عملیة تاریخ الحیاة الامام الحسین علیه السلام من مهده الی لحده فی ملحمته الشعریة الطویلة(ملحمة الحسین بن علی) الا ان هذه الملحمة - و للاسف الشدید - بقیت مخطوطة حتی الان و لا یعرف احد علی وجه الدقة الاسباب التی منعت هذه الملحمة الشعریة الهامة من کسر قیود الاسر و الخروج من زنزانة الظلام الی عالم النور

و علی کل حال فان الابیات التی استطعنا الحصول علیها هی ابیات قلیلة جدا و هی فی مجملها ابیات تصور الاصل السیی لیزید اللعین قاتل الامام حسین علیه السلام و هذه هی الابیات الاربعة التی تسربت الینا من المخطوطة المذکورة:

هی هند ام معاویة *** هی تلک الفاجرة الوغد

ص: 236


1- لمزید من المعلومات عن الشاعر (عمر ابوریشة ) راجع ما جاء فی : ا. مقدمة دیوان عمر ابو ریشة طبع دار العودة - بیروت 1986 ب. مجلة الموسم العدد /13/ المجلد/4/ مصدر سابق راجع ص 268

اخذت تستعرض فی احد *** جیش الفرسان الممتده

ورات فی حمزة و جه الحق *** حساما لا یبرح غمده

فاکبت تشرب من دمه *** و تلوک کما شاءت کبده (1)

وبما ان الشاعر(عمر ابو ریشة) من عشاق الشهادة و الشهداء فانه یری ان الامام الحسین علیه السلام و علی الرغم من کل ما قدم من تضحیات و قرابین عظیمة فی سبیل الله و من اجل رفع رایته فوق سماء الانسان یبقی دائما و ابدا التلمیذ الاعظم الذی تخرج الشهداء.

و مما یوکد هذه النظرة عند هذا الشاعر الکبیر و بشکل خاص تلک النقطة التی تشیر الی ان الامام علیاعلیه السلام هو الاب الروحی و الایمانی لکل قوافل الشهداء المومنین الذین اتوا بعده و ساروا علی نهجه البطولی هی تلک القصیدة الرائعة التی تحمل اسم (محمد)و التی یصف فیها الامام علیا علیه السلام لیلة المبیت علی فراش النبی المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم لیکون بذلک اول فدائی فی الاسلام ویمکننا الان ان نذکر بعض ابیاتها التی تقول :

جمعت شملها قریش و سلت *** للاذی کل صعدة سمراء

ودری سرها الرهیب (علی) *** فاشتهی لو یکون کبش الفداء

قال : یاخاتم النبیین امست *** مکة دار طغمة سفهاء

انا باق هنا ولست ابالی *** ما الاقی من کید ها فی البقاء

سیرونی علی فراشک و السیف *** امالی و کل دنیا و رائی

ص: 237


1- راجع المصدر السابق (ب) ص 268

حسبی الله فی دروب رضاء *** ان یری فی اول الشهداء(1)

فهل اکتفینا الان من التقاط الدرر الثمینة القابعة فی اعماق فکر شاعرنا الکبیر ( عمر ابوریشة)؟

لااعتقد اننا اکتفینا بهذا الکم من الدرر و لکن مایعزینا حقیقة هو الامل الدائم بمحی ء احد انصار الثقافة و الفکر الذی یکون قادرا علی فک اسر (ملحمة الحسین بن علی )و اخراجها دفعة واحدة الی عالم النور و الحیاة

و علی مایبدو فان ما ینطبق علی المخطوطات الشعریة النائمة علی رفوف مکتبة الشاعر و الادیب(عمر ابو ریشة) ینطبق ایضا علی العدید من القصائد المنسیة عند

شاعر النخیل العراقی(بدر شاکر السیاب)(1926 - 1964 )

وکالمعتاد دائما لابد ان نقدم للقاری لمحة موجزة عن الشاعر(السیاب)قبل الدخول فی الکلام عن اثاره الشعریة المتعلقة بالامام الحسین علیه السلام و ماساة کربلاء

یحدثنا الاستاذ (ناجی علوش ) فی المقدمة التی وضعها لدیوان (السیاب) فیقول:(کان(السیاب)رائدامن رواد التجدید... و کانت ماساة بدر ( الشاعر)تکمن فی غربته.. غربته الابدیة.. و کان یعیش فی مرحلة اشتد الصدام فیها بین القیم و الواقع بین الماضی و الحاضر .. انه یرفض ان یقبل الواقعی لانه مولم ...لانه الموت )(2)

و بعد ذلک ینتقل الاستاذ (علوش ) للقول بان (السیاب)قد درس الادب الانکلیزی بعمق وجدیة و قد اتاحت له دراسته التعرف الی الادب الانکلیزی بکل جوانبه و مراحله و قد صدر له العدید من المجموعات الشعریة الجیدة و اهمها:

ص: 238


1- راجع دیوان عمر ابو ریشة المجموعة الاولی / دار العودة - بیروت 1971 ص 495
2- راجع دیوان بدر شاکر السیاب /الجزء الاول/ اصدار دار العودة - بیروت 1989 - راجع المقدمة بقلم ناجی علوش الصفحات فی المقدمة دون ارقام

- ازهار ذابلة 1947م

- اساطیر1947 م

- انشودة المطر 1960 م

- المعبد الغریق 1962 م

- اقبال 1965 م

ویجمع النقاد علی ان اهم ممیزات شعر(السیاب)تتلخص بابرازة روح الشعر العربی التقلیدی بثوب جدید و بالاکثار من استعمال الاسطورة و الرمز هذا بالاضافة الی الاسهاب بدل الترکیز مما یجعل القصائد تتدفق بانساب جمیل حاملة معها اجمل الصور و اعمق التعابیر

و من جملة قصائده الطویلة التی تحمل الکثیر من الصور الجمیلة و التعابیر العمیقة قصیدته المسماة(الدمعة الخرساء ) و هی احدی قصائد مجموعته الشعریة (اساطیر)الصادرة عن دار البیان فی بغداد و تمثل (الدمعة الخرساء) الدموع التی یذرفها هذا الشاعر المرهف الحس بشکل مستمرعلی ما لحق بالامام الحسین واهله الاطهار علیهم السلام علی ضفاف الفرات الحزین

و مهما حاولنا ان نختصر من هذه القصیدة الموثرة فاننا نجد انفسنا بحاجة الی ذکر المزید من ابیاتها المشبعة بالصور و الاحاسیس التی تکاد تنقل القاری الی قلب الحدث و کانه یعیشه الیوم علی الرغم من مضی ما یقارب اربعة عشر قرنا علیه

ویبدا الشاعر(السیاب)قصیدته(الدمعة الخرساء)بالقول:

ارم السماء بنظرة استهزاء *** و اجعل شرابک من دم الاشلاء

واسحق بظلک کل عرض ناصع *** و ابح لنعلک اعظم الضعفاء

ص: 239

و اسدر بغیک یا (یزید)فقد ثوی *** عنک (الحسین) ممزق الاحشاء

مثلت غدرک.. فاقشعرلهوله *** قلبی وثار وزلزلت اعضائی

واستقطرت عینی الدموع ورنقت *** فیها بقایا دمعة خرساء

ثم ینتقل بعد ذلک الشاعر (السیاب) محمولا علی جناح الخیال لینقل لنا صورة المصیر المفترض الذی ینتظر السفاح(یزید)فی عالم الاخرة جزاء و فاقا علی ما اقترفته جوارحه الاثمة من جرائم و مجازر بحق ال بیت النبوة و مهبط الوحی و معدن الرسالة فیقول متابعا وواصفا ما راه من ظل وراءتلک الدمعة الخرساء المقهورة:

یطفو ویرسب فی خیالی دونها *** ظل ادق من الجناح النائی

حیران فی قعر الجحیم معلق *** مابین السنة اللظی الحمراء

ابصرت ظلک یا(یزید)یرجه *** موج اللهیب و عاصف الانواء

ویدان موثقتان بالسوط الذی *** قد کان یعبث امس بالاحیاء

ثم ینادی طیف یزید قائلا له :

قم واسمع اسمک و هو یغدو سبة *** و انظر لمجدک و هو محض هباء

و انظر الی الاجیال یاخذ مقبل *** عن ذاهب ذکری ابی الشهداء

و هنا تعصف الذکریات الالیمة براس شاعرنا (السیاب) فیتذکر لوعة السیدة زینب علیها السلام علی الاطفال الصغار و هم یتلوون عطشا و الما انها ذکری السیدة زینب ابنة الزهراء فاطمة علیها السلام و قد افاقت من حلم رهیب قبیل الکارثة بزمن قصیر لتخبر اخاها الامام الحسین علیه السلام بما راته فی حلمها المخیف حول المستقبل القریب الدامی

وهاهو الشاعر(السیاب)یصف ماکان من امر السیدة زینب علیها السلام و الاطفال

ص: 240

الصغار حولها يحلمون، وهذه أغلى أمانيهم، بجرعة ماء عذب مع مطلع الفجر الجديد: تلك ابنة الزهراء ولهی راعها *** حلم ألم بها مع الظلماء

تنبي أخاها وهي تخفي وجهها *** ذعرا، وتلوي الجيد من إعياء

عن ذلك السهل الملبد يرتمي *** في الأفق مثل الغيمة السوداء

يكتظ بالأشباح ظمأي حشرجت *** ثم اشرأبت في انتظار الماء

أيد تمد إلى السماء، وأعين *** ترنو إلى الماء القريب النائي

وإذا كانت ذكرى السيدة زينب علیها السلام سليلة بيت النبوة، وذكريات الأطفال الصغار حولها قد عصفت بعنف في ذاكرة الشاعر المثقلة بالآلام والجراح، فإن ذكرى الإمام الحسين عليه السلام وقصته مع طفله الصغير (عبد الله الرضيع) لا تقل ألما ولوعة عما سبقها من ذكريات جارحة ومريرة.

ومن هذه النقطة التي تشكل الذكرى الأكثر هما وألما، ينهي الشاعر( السياب)

قصيدته الطويلة واصفا حال الحسين عليه السلام مع طفله الرضيع قائلا:

آلی يموت ولا يوالي مارقا *** جم الخطايا، طائش الأهواء

فليصرعوه، كما أرادوا.. إنما *** ماذنب أطفال وذنب نساء؟!

عاجت بي الذكرى عليها ساعة *** مر الزمان بها على استحياء

خفقت لتكشف عن رضیع ناحل *** ذبلت مراشفه، ذبول خباء

لاح الفرات له فأجهش باسطا *** يمناه نحو اللجة الزرقاء

واستشفع الأب حابسيه على الصدي *** بالطفل يومي باليد البيضاء

رجي الرواء فكان سهماحز فی *** نحر الرضيع وضحكة استهزاء

ص: 241

فاهتز واختلج اختلاجة طائر *** ظمآن رف ومات قرب الماء

ذكرى، ألمت فاقشعر لهولها *** قلبي وثار، وزلزلت أعضائي(1) ومن الجدير ذكره أن الأستاذ (ناجي علوش) الذي جمع وطبع كل الأعمال الكاملة للشاعر (السياب) لم يثبت قصيدة (الدمعة الخرساء) ضمن تلك الأعمال الكاملة مما دفع الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي)، صاحب ورئيس تحرير مجلة (الموسم) التي تصدر في هولندا، إلى الاستفسار شخصيا من الأستاذ (علوش) عن سبب ذلك، فاعتذر الأستاذ (علوش) عن ذلك التقصير الكبير واعتبر أن ذلك من فواته، خاصة بعد أن أرشده الأستاذ (الطريحي) إلى القصيدة الموجودة ضمن دیوان( أساطير) الصادر عن دار البيان في بغداد عام 1947.

وسواء كان تقصير الأستاذ (علوش) في تثبيت هذه القصيدة ناتجا عن عمد أم عن غیر عمد، فإنه يقر في المقدمة التي وضعها لكتاب (الأعمال الكاملة للسياب)، بقوله: «ولبدر أيضا شعر كثير غير منشور، يعود قسم منه إلى سنوات 42 -43 - 54»(2)

وبعد أن قضينا وقتا مفيدا وطويلا مع الأديب والشاعر الكبير (بدر شاكر السياب)، دعونا ننتقل الآن سوية إلى شاعر غزا بشعره الإبداعي الأدب العالمي حتى صار شعره مترجما إلى كل اللغات العالمية الحية، وحتى صار الشاعر نفسه مرشحا لنيل جائزة (نوبل) في الآداب.

ص: 242


1- راجع القصيدة كاملة في أ. بدر شاكر السياب، دیوان (أساطير)، منشورات دار البيان . بغداد، 1947. ب. بدر شاكر السياب، الدمعة الخرساء، مجلة الموسم العدد /12/ المجلد /3/، ص363۔.364
2- راجع الجزء الأول من الأعمال الكاملة للسياب، راجع المقدمة بقلم ناجي علوش وتحديدا الصفحة ذات الرمز (ص ذ ذ)

إن شاعرنا الذي سنتحدث الآن عنه هو الأديب والشاعر العالمي (علي أحمد سعيد) والملقب باسم (أدونيس)، وهو من مواليد عام /1930/، سوري الأصل، لكنه ارتحل للإقامة في لبنان عام / 1956/، شارك (أدونيس) في تأسيس مجلة (شعر) وفي رئاسة تحريرها، ثم بعد ذلك أسس مجلة (مواقف)، وقد نال شاعرنا شهادة دكتوراه دولة في الآداب من جامعة القديس يوسف في بيروت عام / 1973/، وبعد عدة سنوات انتقل إلى فرنسا للإقامة والعمل فيها، له الكثير من الأعمال الأدبية والشعرية، ومن أشهر مؤلفاته الأدبية: (مقدمة للشعر العربي)، (الثابت والمتحول)، (زمن الشعر)، (فاتحة لنهاية القرن)، أما أعماله الشعرية، فهي كثيرة جدا، ونذكر منها: (قصائد أولى)، (أوراق في الريح)، (أغاني مهيار الدمشقي)، (المسرح والمرايا)، (مفرد بصيغة الجمع)، وغير ذلك كثير جدا، وقد جمعت معظم أعماله الشعرية في مجلدين تحت عنوان (الآثار الكاملة)، هذا بالإضافة إلى عمل هام جدا ومتميز له وهو كتاب يحمل عنوانا غريبا بعض الشيء، إنه كتابه (الكتاب )المؤلف من عدة أجزاء.

والشيء المهم بالنسبة لنا في هذا المكان هو رؤية هذا الأديب العالمي بحادثة کربلاء وللإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام، خاصة وأن للتراث أهمية كبيرة في فكره وأدبه، وهو القائل عن التراث وأهميته في كتابه (زمن الشعر):

(ليس التراث عادة في الكتابة، أو موضوعات طرقت ومشاعر عوینت وعبر عنها،

وإنما هو طاقة معرفة وحيوية خلق، وذكرى في القلب والروح)(1)

فماذا اختزن قلبه وروحه من ذكريات وأفكار عن كربلاء؟!

دعونا ندخل الآن إلى أعماق روحه کي نقرأسوية قصيدته (مرآة لمسجد

ص: 243


1- أدونيس، زمن الشعر، مصدر سابق ص45

الحسين)، يقول (أدونيس)، وهو الشاعر المثقل بالأفكار والرموز:

ألا ترى الأشجار وهي تمشي

حدباء،

في سكر وفي أناة

کي تشهد الصلاة؟

ألا ترى سيفا بغیر غمد

يبكي،

وسيافا بلا يدين

يطوف حول مسجد الحسين؟(1)

إنها بلاشك صور شعرية رائعة ومؤثرة، إنها غريبة وجديدة على الأدب الشعري العربي، وأعتقد أن كل من يقرأ هذه القصيدة القصيرة مرة أو مرتين بكل روية وأناۃ، فسيشعر بموجة من الحزن والأسى تجتاح كيانه وهو يتخيل صفوفا من الأشجار المحدودبة الأغصان تمشي على أطراف جذورها بخطى جنائزية مهيبة، وربما سيكون التأثر أقوى وأعمق عندما يتخيل القارئ أن هناك رجلا سیافا مقطوع اليدين، وربما يكون هو قاتل الحسين عليه السلام ، يطوف برهبة وخشية حول قبر الضحية طالبا منها الصفح والغفران!!

وحتى لا نستفيض في الشرح أكثر، دعونا ننتقل إلى قصيدة أخرى مغرقة في الصور والأفكار الرمزية التي تميز شعر (أدونيس) عن غيره بشكل عام، إنها تلك القصيدة التي جاءت تحت عنوان (لون الماء)، وهي قصيدة طويلة مفعمة بالأسرار

ص: 244


1- أدونيس، الآثار الكاملة /ج2/، دار العودة . بيروت، 1971، ص352

والرموز والصور الضبابية الكئيبة، تلك الصور التي تبدو وكأنها تنبعث من رحم کربلاء ومن أتون الفاجعة الحمراء.

وها نحن نقتطف منها مقطعا صغيرا فقط للتأكيد على عمق الأثر الذي تركته کربلاء والحسين عليه السلام في صدر ذلك الشاعر الذي ولد في بيت ريفي بسيط ورث شيئا من الفاجعة وآلامها.

يقول (أدونيس) في قصيدته (لون الماء): .

- کلمات

شهدت جثة الحسين

وهي تبكي وتجري مع الرافدين

مت في حضنها وعشت

وطمرت شرایینها و نبشت

كلمات المجيء۔

سفر معتم خطوات تضيء

في الزمان المهرول في وجهه البطيء (1)

ويمتد الحزن في قلب (أدونيس) حتى يبلغ الأعماق الخفية فيه، ثم يعود ذلك الحزن ليتحول من حالة عاطفية إلى حالة فكرية ممتزجة بحالات فريدة من الصفاء الوجداني والجذب الصوفي والعرفاني، فالذي يقرأ قصيدة (مرآة الشاهد) سيتبادر إلى ذهنه أن (أدونيس) يؤمن بوحدة الوجود من خلال الألم، فالألم أو الموت نفسه هو الذي يوحد ويصهر كل مفردات الوجود في بوتقته، وبالتالي، فإن الإمام الحسين

ص: 245


1- نفس المصدر السابق ج2 ص285

عليه السلام، الذي يمثل قمة الألم وقيمته العليا، هو القادر على توحيد هذا الوجودالمليء بالهموم والآلام المتباينة في قيمتها ومستوياتها.

ولننظر الآن كيف أن كل الأشياء توحدت وتعاطفت کلیا مع آلام الحسين عليه السلام

ومع مأساته التي لم يحدث أي مثيل لها حتى ولو في الأساطير الإغريقية القديمة.

يقول (أدونيس) في قصيدته (مرآة الشاهد):

وحينما استقرت الرماح في حشاشة الحسين

وازينت بجسد الحسين

وداست الخيول كل نقطة في جسد الحسين

واستلبت و قسمت ملابس الحسين

رأيت كل حجر يحنو على الحسين

رأيت كل زهرة تنام عند كتف الحسين

رأيت كل نهر يسير في جنازة الحسين(1)

وهكذا نرى أن الإمام الحسين الشهيد عليه السلام، ومن خلال تمثيله لقيمة الألم

الناتج عن الإيمان، قد تحول إلى بوابة للخلود وإلى مرآة ناصعة لحقيقة الوجود.

إن الألم وجه من وجوه الموت، بل ربما تحول الموت ليصبح أبسط وجه من وجوه الألم، فالعلاقة بينهما وطيدة جدا وقديمة جدا، وكلاهما سر من أعمق الأسرار التي تتوحد بهما الأشياء، ولذلك أكد شاعرنا (أدونيس) على هذه الحقيقة بقوله:

يضمنا الموت إلى صدره

مغامرا، زاهدا

ص: 246


1- نفس المصدر السابق ج2 ص351

يحملنا سرا على سره

يجعل من كثرتنا واحدا(1)

وهذا الألم المتوج بالموت هو النهر الأبدي الخالد الذي لا يمكن لأحد أن يتعمد فيه إلا إذا كان قادرا على أن يعطي السماء أغلى ما يملك، بل كل ما يملك، في زمن السقوط الرديء الذي لا يقدر فيه الأنبياء والحكماء حق قدرهم.

وها نحن نختم رحلتنا مع الشاعر العالمي (أدونيس) بهذه الأبيات الشعرية القليلة التي يتحدث فيها عن نهر الألم الذي انتهى به الأمر إلى كربلاء الحسين عليه السلام ، فها هو يقول في قصيدته (السماء الثامنة):

سمعت صوت الزمن... السقوط

نحوي في الولادة

والنهر الممدود کالوسادة

من شفتي (سقراط) حتى جثة (الحسين)(2)

وهكذا نرى أن الألم، بكل صوره وأبعاده، لو أمكن له أن يتجسد أمام كل إنسان منا، لكانت کربلاء هي خير تجسيد له عبر كل الدهور والعصور.

وهنا صار بإمكاننا الانتقال إلى شاعر جديد بعد أن أطلنا الإقامة في ضيافة الأديب والشاعر العالمي (أدونيس)، وهذا الشاعر الجديد الذي سنكون في ضيافته الآن هو الشاعر المصري (أحمد شوقي) (1868- 1932).

لقد حظي هذا الأديب الشاعر بتكريم عدد وافر من شعراء مصر والبلدان العربية،

ص: 247


1- نفس المصدر السابق ج 1 ص 114.
2- نفس المصدر السابق ج2 ص447.

وقد منحوه لقب (أمير الشعراء)، ويعد (شوقي) أبرز رواد الشعر العربي الحديث، بالإضافة إلى أنه رائد المسرحية الشعرية العربية، فقد أغنى الأدب العربي بالعديد من مسرحياته الشعرية الذائعة مثل (مجنون ليلى) و(مصرع كليوباترا) و (عنترة).

ولهذا الشاعر عدد كبير من القصائد، وقد جمعت في ديوانه (الشوقيات)(1).

ويذكر الأستاذ (جاسم عثمان مرغي) في كتابه المتميز (الشيعة في مصر) العديد

من القصائد التي قالها أمير الشعراء (شوقي) في مصائب عموم أهل البيت عليهم السلام.

ويؤكد الأستاذ (مرغي) ذلك بقوله: (إنه يجل أهل البيت الذين أذهب الله عنهم

الرجس وطهرهم تطهيرا، فتراه في ثنايا أشعاره يتفجع لما أصابهم :

هذا الحسين دمه بکربلا *** روى الثرى لما جرى على ظما

واستشهد الأقمار أهل بيته *** يهوون في الترب فرادى وثنا

ابن زیاد ویزید بغيا *** والله والأيام حرب من بغى

لولا يزيد بادئأ ماشربت *** مروان بالكاس التي بها سقى)(2)

أما الأبيات التالية التي سأذكرها الآن، فهي من أفضل ما قاله أمير الشعراء في إظهار مکنون حبه للإمام الحسين عليه السلام رغم التعصب الشديد الذي كان يلفت مجتمعه، وهو في ذلك لا يتكلم فقط عن نفسه وعن مجتمعه، بل إنه يتكلم بلسان حال كل الشرفاء الذين أرادت لهم مجتمعاتهم المتعصبة وحكوماتها المستبدة أن يكتموا

ص: 248


1- المزيد من المعلومات عن الشاعر (أحمد شوقي) وعن آثاره الأدبية، راجع: أ. فؤاد أفرام البستاني، أحمد شوقي . اجتماعيات منتخبة، دار المشرق . بيروت ط 1968/2 ب. مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، مصدر سابق ص44.
2- جاسم عثمان مرغي، الشيعة في مصر، مؤسسة الوفاء . طهران، 1412ه-، ص 131

كلمة الحق وأن يكفوا عن قول الصدق.

وها هو يعبر عن ذلك بقوله:

وأنت إذا ماذكرت الحسين *** تصاممت لا جاهلا موضعه

أحب الحسین ولكنني *** لساني عليه، وقلبي معه

حبست لساني عن مدحه *** حذار أمیة أن تقطعه(1)

وعلى الرغم من خوفه الشديد من نتائج مدح الحسين عليه السلام في مجتمع كان يلف نفسه بالعصبية مثلما تفعل دودة الحرير بشرنقتها التي تؤدي لاحقا إلى قتلها، إلا أنه لم يتردد بين الحين والآخر من ذكر الحسين عليه السلام ومدحه والثناء عليه وعلى كل ما قدمه للإسلام من تضحيات عظيمة يصعب وصفها وتقديرها.

وها هو يقول أيضا في قصيدته الشهيرة (الحرية الحمراء):

في مهرجان الحق أو يوم الدم *** مهج من الشهداء لم تتكلم

يبدو عليهانورنور دمائها *** کدم الحسين على هلال محرم(2)

هذا هو أمير الشعراء وهذه هي بعض الصفحات من قصته مع أهل البيت عليهم السلام ومع الإمام الحسين عليه السلام على وجه التخصيص، وما على الذي يريد الاستزادة من المعرفة حول مكانة الإمام الحسين عليه السلام وثورة كربلاء في أدب أمير الشعراء (أحمد شوقي) إلا أن يعود إلى ديوانه (الشوقيات) ليقرأ المزيد من الأبيات الشعرية العذبة التي تمجد ذكرى أبي الشهداء عليه السلام وأمجاده في كربلاء.

ص: 249


1- نفس المصدر السابق ص131.
2- راجع الكتب التالية: أ. المصدر السابق ص132، نقلا عن ديوان (الشوقيات) ج2 ص187. ب. أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص332

وبما أننا قد تكلمنا الآن عن أمير الشعراء (أحمد شوقي) وختمنا به الحديث عن عمالقة الشعر العربي في الزمن المعاصر، دعونا نتقل إذن إلى محطة مفصلية جديدة في بحثنا الذي هو بين أيدينا الآن، وما المحطة المفصلية الجديدة سوى الحديث عن الإمام الحسين عليه السلام وعن کربلاء من خلال الملاحم الشعرية الطويلة في الأدب العربي المعاصر.

وقد يتفاجأ القارئ الكريم إذا قلنا له إن الملاحم الشعرية العربية عن فاجعة

کربلاء ليست ذات مصدر إسلامي على الإطلاق، بل هي ملاحم شعرية عربية ذات أصول مسيحية، ونقصد من هذا الكلام أن الناظمين لتلك الملاحم الخالدة كانوا من الشعراء المسيحيين ولم يكونوا من المسلمين.

وحتى لا نطيل الكلام عن تاريخ الملاحم الشعرية عبر العصور، دعونا نقول إن من أقدم الملاحم الشعرية التي عرفها الإنسان هي تلك الملحمة اليونانية القديمة المعروفة باسم (الإلياذة) والتي نظمها الشاعر الإغريقي (هوميروس) في مايقارب (16000) بيتا من الشعر، ثم أتبعها بملحمة ثانية أسماها (الأوديسة) وهي ملحمة شعرية قريبة من حجم الملحمة الأولى وتعتبر تتمة وتكملة للملحمة المذكورة، وقد عرف الرومان القدماء الشعر الملحمي أيضا، حيث كتب شاعرهم المعروف (فرجيليوس) ملحمته الشعرية الرائعة(الإنبادة) بأسلوب شيق وبديع، أما الفرس، وهم أهل الحضارة والفكر، فكفاهم فخرا أنهم رفدوا الفكر العالمي بملحمتهم الرائعة (الشاهنامه) التي نظمها أحد شعرائهم العظام على مر العصور، (أبو القاسم الفردوسي)، الذي تعتبر ملحمته إحدى عيون الأدب العالمي قديما وحديثا، وكذلك الحال بالنسبة لملحمة (المهابهاراتا)، ملحمة الهند الكبرى.

ص: 250

إذن، قصة الإنسان مع الملاحم الشعرية قصة قديمة جدا تمتد جذورها إلى ما قبل التاريخ الميلادي بمئات السنين، ولا تزال روح الإنسان المعاصر تميل إلى احترام وتقدير هذا النوع من الشعر القوي والجميل.

وما يهمنا الآن هو الحديث عن الملاحم الشعرية العربية المعاصرة وعن دورها

في تأريخ وتصوير فاجعة كربلاء كما حدثت على أرض الواقع منذ مئات السنين.

ولذلك سندخل مباشرة في صلب موضوعنا، وسنبدأ الكلام عن الملحمة الشعرية العربية المعاصرة، ملحمة (عيد الغدير ) إناظمها الشاعر المسيحي الكبير (بولس سلامة) الذي سبق وأن عرفنا القارئ عليه في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب.

ومن المعروف عن تلك الملحمة الشعرية الطويلة أنها أول ملحمة عربية تتناول أهم نواحي التاريخ الإسلامي بدءا من الجاهلية وانتهاء حتى آخر دولة بني أمية وما يتعلق بهم وبأفعالهم المشينة.

وحتى لا يشعر القارئ بالملل أو التعب، سنكتفي بذكر بعض الأبيات الشعرية التي تحمل صورا مميزة من أحداث الواقعة الفجائعیة الدامية، وسوف نركز على تلك المشاهد التي تبرز شخصية الإمام الحسين عليه السلام من خلال ارتباطها بالأحداث بشكل مباشر ودقيق.

وأول هذه المشاهد التي يمكن أن نذكرها الآن، هو المشهد الذي يصور الإمام الحسين عليه السلام وقد ازدادت عليه الضغوط وأحاطت به الخطوب، لكنه لم يأبه لكل ذلك، ولم يلهه ذلك عن قراءته للقرآن الكريم أو حتى عن إقامة الصلاة والاجتهاد فيها في أكثر اللحظات حرجاوحساسية، وقد عبر الأديب والشاعر (سلامة) عن ذلك

ص: 251

بقوله:

ناولوني القرآن، قال حسين *** لذويه، وجد في الركعات

فرأى في الكتاب سفر عزاء *** ومشى قلبه على الصفحات

ليس في القارئين مثل حسین *** عالما بالجواهرالغاليات

فهو يدري خلف السطور سطورا *** ليس كل الإعجاز في الكلمات

فما هي السطور الخفية التي استطاع الإمام الحسين عليه السلام قراءتها وراء تلك السطور الظاهرة في الذكر الحكيم؟! وماذا استطاع أن يقرأ ويدرك من خفايا تلك الكلمات المبهمات فيه؟!

لقد رأى الإمام الحسين علیه السلام في تلك السطور والكلمات نفس الشيء الذي رآه في نومه بعد أن انتهى من قراءة القرآن الكريم وإقامته للصلاة وقيامه بالدعاء والمناجاة في جوف الليل الحالك الثقيل.

وهنا يختصر علينا الشاعر المسيحي (سلامة) الجهد والوقت كي يعطينا الجواب الوافي عن كل ما رآه الحسين عليه السلام في قرآنه وفي منامه، وها هو (سلامة) يعطينا تلك الصورة كاملة بكل أبعادها، فيقول:

أطلق السبط قلبه في صلاة *** فالأريج الزكي في النسمات

المناجاة ألسن من ضیاء *** نحوعرش العلي مرتفعات

وهمت نعمة القدير سلاما *** وسكونا للأجفن القلقات

ودعاه إلى الرقاد هدوء *** كهدوء الأسحار في الربوات

وصحاغب ساعة هاتفا: *** أختاه بنت العواتك الفاطمات

إنني قد رأيت جدي وأمي *** وأبي والشقيق في الجنات

ص: 252

بشروني أني إليهم سأغدو *** مشرق الوجه طائر الخطوات

إذن، هذا بعض ما رآه الحسين عليه السلام في نومه وقد أخبر شقيقته الحبيبة زينب عليها السلام بذلك، ولكن ليس هذا كل شيء، فقد جمع الحسين عليه السلام أصحابه ليخبرهم عن كل ما رآه في نومه من أهوال تنتظرهم في الغد القريب:

قال: إني لقيت منكم وفاء *** وثباتا في الهول والنائبات

حسبكم مالقيتم من عناء *** فدعوني، فالقوم يبغون ذاتي

و خذوا عترتي، وهيموا *** بجنح الليل، فالليل درعكم للنجاة

إن تظلوا معي فإن أديم *** الأرض هذا يغص بالأموات(1)

وبالطبع، فإن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام يرفضون التخلي عنه وتركه وحيدا بين أيادي الأعداء الأمويين الذين ما جاؤوا إلى كربلاء إلا لإطفاء النور المحمدي المتجسد في شخص الحسين ذاته علیه السلام.

ويستمر الشاعر (سلامة) في صياغة أحداث الملحمة الحسينية بأسلوبه الشعري الأنيق، وينتقل بنا في ملحمته الشعرية إلى قصيدة طويلة بعنوان (الوقيعة) ليصور من

خلالها توبة (الحر بن یزید الرياحي) واستشهاده المؤثر بين يدي الإمام الحسين عليه السلام وليصور من خلالها أيضا استشهاد أصحابه الكرام الواحد تلو الآخر، وكذلك الحال بالنسبة لإخوانه وأبنائه الأطهار الذين كانوا يتساقطون حوله وبين يديه كما تتساقط وتتهاوى أشجار النخيل الباسقة أمام عواصف هوجاء مجنونة لا تعرف الرحمة ولا الهوادة.

أما في القصيدة التي تحمل عنوان (الساعة الرهيبة)، فيصور الشاعر المسيحي

ص: 253


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص 263 .264

قصص استشهاد من تبقى من آل الحسين وأبنائه، بما فيهم استشهاد ابنه الطفل الصغير

(عبد الله الرضيع)، وقد أسمى الشاعر (سلامة) هذه القصيدة الساعة الرهيبة) لأنه يصور فيها أيضا تفاصيل عملية استشهاد الإمام الحسين نفسه علیه السلام والاعتداء عليه میتا بطريقة وحشية رهيبة تقشعر لها الأبدان وترفضها النفوس الكريمة والضمائر الحرة القويمة.

ولا بأس الآن من ذكر بعض الأبيات التي تصور لنا مأساة استشهاد الطفل الصغير (عبد الله الرضيع) بين يدي أبيه الإمام الحسين عليه السلام الذي كان يحتضن طفله الصغير طالبا من جيوش الأعداء أن يسعفوه ببعض القطرات من ماء الفرات كي لا يموت عطشا بين يديه.

فماذا كانت النتيجة، وكيف استجابوا لطلبه؟!

هذا ما سنعرفه من خلال هذه الأبيات الملحمية التي کتبت بأنامل مسيحية لم يكن هدفها إلا إظهار الحق وموالاته، وكشف القناع عن الباطل ومعاداته، وها هو شاعرنا المسيحي يقول واصفا حال الإمام الحسين عليه السلام وهو محتضن لابنه الرضيع

(عبد الله) وقد أنهكه العطش:

ضمه الوالد اللهيف، لعل *** الحب يقصي عن الصغير العناء

أي طفل؟ كأنه الوردة الحمراء *** جفت ، لم تشرب الأنداء

وإذا كان هذا الطفل لم يشرب الماء، فماذا أرسل إليه الأعداء بدل تلك الشربة من

ماء الفرات؟!

وإذا في الفضاء سهم يصک *** السمع صکا ويجرح الأصداء

شق نحر الذبيح فاندفق *** المرجان، یکسوۂ حلة حمراء

ص: 254

مهجة البرعم الرضيع *** تلقاها حسين، بكفه، أجزاء

روعته الجفون، مسبلة الأهداب *** کالزهر إذ يموت انطفاء

ذلك الفجر لم یمتع بصبح *** وقبيل الصباح لاقى المساء

إنما حرقة الكآبة أقوى *** حين تبقی کابة خرساء(1)

وبما أننا وعدنا القارئ الكريم بإبعاد كل ما من شأنه أن يصيبه بالملل أو الضجر،

لذا فإننا نكرر ذكر تفاصيل استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على أرض الفاجعة، وذلك لأننا قد قمنا بنقل تفاصيل ذلك الحدث المأساوي من هذه الملحمة وذكرناه مفصلا في فصل سابق بعنوان (صور مؤثرة من الفاجعة).

وبالتالي، فإننا سنكتفي الآن بذكر بعض الشذرات الشعرية المتنوعة التي تتناول أحاسيس ومشاعر هذا الشاعر المسيحي تجاه عدة نقاط هامة تتعلق بأحداث ما بعد الفاجعة.

فالنقطة الأولى التي يمكن أن نتوقف عند ذكرها الآن هي الحالة النفسية للشاعر الناظم للملحمة، ذلك الشاعر الذي استطاع، وبجدارة تامة، أن ينقلنا إلى الأجواء الحقيقية للأحداث لدرجة الشعور بأننا نشاهد تلك الأحداث الغابرة وكأنها تحدث اليوم أمام عيوننا. فالواقع النفسي للشاعر جعله يخاطب غروب الشمس فوق رمال كربلاء قائلا بصوت رخيم وحزين:

یاضیاء الغروب في كربلاء *** دونك الشمس في الغروب ضياء

کیف باتت والكوكب الضخم *** يهوي مثلما تسقط الجبال انكفاء

ص: 255


1- نفس المصدر السابق ص276، القصيدة بعنوان (الساعة الرهيبة).

صبغ النهرقانيا وتدلت *** شجرات تكاد تلقي الرثاء

أرسل العندليب شجو جريح *** واستحرت فيه الدموع دماء

وهولو تعلم الغصون نواح *** بث فيها الأسى بعاشوراء(1)

إنها صور فنية آسرة تتناسب مع الأجواء العامة لنهاية الفاجعة التي ألمت ببطلها

الإمام النبيل، سيد الشهداء وسليل بيت النبوة وخاتم الرسالات عليه السلام .

وتنبع هذه الصور - بلا شك - من أعماق هذا الشاعر الذي أضنته وحشية هذه المأساة وراحت تتفاعل بداخله مع ضميره وأحاسيسه مما جعله يعيش كل يوم من أيام حياته وكأنه ساحة من ساحات کربلاء، أوليس هو القائل عن نفسه كإنسان شاعر:

دمك السمح یا حسین ضیاء *** في الدياجير يلهم الشعراء

أي فضل لشاعر، منك يعتا *** م اللآلي، يصوغ منها رثاء

شاعر مقعدجریح مهيض *** كل أيامه غدت کربلاء

أما النقطة التالية التي نرغب في الإشارة إليها، فهي نتيجة العمل الدموي الرهيب الذي قام به الأمويون الطغاة ضد أهل البيت عليهم السلام الذين لم ترسلهم السماء إلا ورثة للأنبياء والمرسلين ورحمة للعالمين.

فكيف يرى (بولس سلامة) المصير الذي ينتظر فراعنة الأمويين؟!

إنه يراه بالقول المؤيد لما قاله (عبد الله بن عفيف الأزدي) في مجلس (ابن زیاد):

إن هذا الذي حنيتم من الآثام *** فوق الكفران والإلحاد

سیعد الرحمان ألف جحيم *** ليزيدورهطه الأوغاد

ص: 256


1- نفس المصدر السابق ص287، القصيدة بعنوان (الساعة الرهيبة).

تتراءى جهنم جنب تلك *** النار کالمدفأ الطري المهاد(1)

وبالطبع، فإن قصة موكب الأسرى والتطواف برؤوس الشهداء عليهم السلام في البلدان والأمصار وقصة المواقف البطولية للسيدة زينب علیها السلام في مجلس يزيد اللعين، كل هذه القصص لم تغب عن ملحمة هذا الشاعر المسيحي العظيم الذي جمع بين الأدب والشعر والفلسفة فجاءت مؤلفاته غنية بالأفكار ومشبعة بالقيم والمبادئ التي قلما نراها في مؤلفات أديب آخر.

ففي كتابيه (حديث العشية) و (الصراع والوجود)، وهما كتابان فلسفیان، نستطيع أن نلمس فيهما الكثير من المشاعر الإنسانية الفياضة، كما وأننا نستطيع أيضا أن نحس بالنفحات الروحية التي تتسامى على المشاعر الدونية الدنيوية، ولا ريب في أن القارئ الحصيف والمثقف النجيب سيدرك ما لفكر أهل البيت عليهم السلام وما لفاجعة کربلاء من آثار عميقة في طيات هذين الكتابين الفلسفيين من حيث الروح ومن حيث الرؤية الفلسفية للحياة.

وآخر ما يمكننا الوقوف عنده في تلك الملحمة المنظومة بمداد المحبة وأنفاس الولاء الصادق لآل البيت علیهم السلام ، ذلك الولاء النابع من قلب محب مسيحي عاهد النفس والروح على استمرار المسيرة في خط الولاية، هي تلك الأبيات الشعرية التي نظمها صاحب الملحمة وجعلها خاتمة لملحمته الشعرية الرائعة.

يقول الأديب (سلامة) مختتما ملحمته الغراء ومشيرا إلى حقيقة أن الظلام

الحالك لا يستطيع أن يقهر النور الأبجل مهما بلغت قوته وشدته:

غاص (نیرون) في دماء النصاری *** فحباهم زرع الخلود نمیا

ص: 257


1- نفس المصدر السابق ص295 ، القصيدة بعنوان (غب الوقيعة).

وأراق (العبيد) مهجة أهل البيت *** فاستشهد (الحسين) أبيا

ومضى للهلاك وغد (زیاد) *** ولواء (الحسین) ظل عليا

ثم يتابع قائلا عن نفسه وعن تأسيه بإيمان الحسين عليه السلام وصبره:

کدت أقضي لولا النهي والتأسي *** ونعيم أصوغه وهمیا

أتأسی بابن البتول فيوليني *** عزاء وبلسمامعنويا

أتأسی بهاجر يقطع *** الصحراء قسراعن بيته منفيا

ما رأى في الحياة ظل هناء *** منذ ماعاد من (حراء) نبيا

أتأسي بالأكرمين خصالا *** لم يسيغوا في العمر شربا مریا

بجراح (الحسین)، في كل جرح *** يجد الصبر كهفه الأزليا(1)

ومن خلال هذه الأبيات الأخيرة التي تطفح عزاء وأسفا على ما لحق بأهل البيت علیهم السلام من فجائع ومصائب تتزلزل لها شوامخ الجبال، نستطيع القول إننا قد استكملنا رحلتنا الشيقة في رحاب ملحمة (عيد الغدير) للأديب الكبير والشاعر المسيحي الشهير (بولس سلامة).

أما الآن أيها الأحبة القراء، دعونا نتوقف مع شاعر ملحمي آخر لا يقل أهمية عن

الشاعر الأستاذ (بولس سلامة) الذي كنا في ضيافته منذ قليل، وشاعرنا الذي سنتوقف عنده الآن هو الشاعر المسيحي المعروف (عبد المسيح الإنطاكي) صاحب (ملحمة الإمام علي عليه السلام) التي تحدثنا عنها سابقا.

وعلى الرغم من أننا عرفنا القارئ على هذا الشاعر المسيحي المتميز، إلا أننا نود أن نلفت انتباه القارئ إلى حقيقة أن هذا الشاعر المتألق ينحدر من أصول يونانية

ص: 258


1- نفس المصدر السابق ص311، القصيدة بعنوان (الخاتمة).

سكنت منطقة (إنطاكية)، على ما يبدو، فإن أصوله اليونانية قد لعبت دورا هاما في تكوين ثقافته وفي التأثير عليه أدبيا وفكريا، مما جعله يتعشق الشعر الملحمي الذي كان يمتاز به الأدب اليوناني القديم.

فملحمته العربية (ملحمة الإمام علي علیه السلام ) تتحدث عن تاريخ الإسلام المبكر وعن دور أهل البيت عليهم السلام في نشر تلك الرسالة السماوية الإنسانية الأخيرة بأسلوبهم السلمي والحضاري الراقي، ومن الطبيعي أن يتحدث الشاعر (الإنطاكي) عن الإمام الحسين عليه السلام وعن دوره في ترسيخ مبادئ وقيم وتعاليم جده الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله وسلم، وعن درب الآلام العسيرة التي سلكها من أجل تحقيق حلم خاتم الرسل والأنبياء عليهم السلام في إبقاء راية التوحيد عالية ينادي بها كل يوم خمس مرات مع التأكيد الدائم على بعدها الإنساني في ساحة الوجود.

وحتى لا نكرر ما سقناه سابقا من أبيات شعرية اقتطفناها من هذه الملحمة، سنذكر الآن بعض الأبيات الجديدة التي تصور لنا موقف ذلك الشاعر المسيحي المبدع من تلك الفاجعة المريرة التي لا تحيط بها الكلمات ولا توفيها حقها العبارات والحروف.

وها هو (الإنطاكي) يصفها قائلا:

جریمة ماروی التاريځ أبشع *** منها في أساطيره أو ما يحاكيها

جریمة دونهاكل الجرائم لا *** ينفك ذو الدين يشکو من تماسيها

جریمة کل عاشوراء تذکرنا *** بها وليس کرورالدهر ينسيها(1)

وفي الحقيقة، فإن الأديب والشاعر الملحمي (عبد المسيح الإنطاكي) لم يتوقف

ص: 259


1- عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام ، مصدر سابق ص648

حديثه عن الإمام الحسين عليه السلام ضمن مجال (ملحمة الإمام علي عليه السلام)، بل إنه تجاوز ذلك إلى الحديث عنه في بقية مؤلفاته ودواوينه الشعرية الأخرى.

وها نحن نقتطف بعض الأبيات من قصيدته (الضريح المقدس) الشهيرة:

تسعى الركاب لسيد الشهداء *** بتقي وإخلاص وحسن ولاء

وتزورتربا قد تطهر بالدم ال- *** زاكي وأصبح مظهر الآلاء

وتؤم تربته التي فيها ثوي *** بجلاله وفخاره و بهاء

وغدت مقر الغفر والرحمات *** للمتهجدين ومصدر النعماء

فهنالك الزوار قد عقدوا الحبی *** حول (الحسین) بفجعة وبكاء

متمسكين بحبه وولائه *** وبحب (طه) مع بني (الزهراء)

فعلى الشهيد بكربلاء تحية *** الإخلاص تعبق في أنم شذاء

من كل من صدق الولا للمصطفی *** ولآله صدقا بغیر ریاء

وهو المشفع مع أبيه وجده *** بالناس في جاه عظیم رواء(1)

وبقي أن نقول الآن، وقبل انتقالنا من ساحة الشعر العربي إلى ساحة الشعر العالمي، إن كل ما ذكرناه من شعر عربي عن كربلاء لا يمثل إلا غيضا من فيض، ولكننا آثرنا أن نقتصر في حديثنا عن كربلاء على ذكر العديد من مشاهير الشعراء العرب الذين كانت لهم بصمات قوية لا تمحى على ساحة الشعر العربي المعاصر.

أما الآن، فسنبدأ رحلتنا في رحاب الشعر العالمي مع الشاعر الذي شرب من خمرة العشق الإلهي حتى الثمالة، فتحولت تلك النشوة بداخله إلى قصائد وأشعار

ص: 260


1- عبد المسيح الإنطاكي، الضريح المقدس، مجلة (الموسم) العدد /12/ المجلد /3/، مصدر سابق ص388.

خالدة يتغنى بها أهل الأرض ويترنم بموسيقاها الوجدانية ومعانيها الإنسانية أهل العشق الأوفياء الذين يتلهفون شوقا للعروج إلى السماء على صوت الأنغام القدسية لقيثارة الروح الخالدة.

إن شاعرنا العظيم الذي سنحل ضيوفا عليه الآن هو الشاعر الباكستاني الكبير (محمد إقبال) (1877- 1938) الذي تحدثنا عنه سابقا بما فيه الكفاية، ولكن حديثنا عنه الآن سيكون مقتصراعلى مكانة الإمام الحسين عليه السلام عنده في قصائده ودواوينه الشعرية التي تمت ترجمتها إلى معظم اللغات العالمية الحية.

تری کیف ینظر شاعر الشرق العظيم (اقبال) إلى شخصية الحسين عليه السلام ؟!

وما هي رؤيته الفلسفيةوالشعرية تجاه ملحمة كربلاء الدامية ؟! |

وللحصول على الإجابات المطلوبة، دعونا ندخل مباشرة إلى عالم (إقبال)

الشعري المخضب بالقيم الأخلاقية وبالأفكار الفلسفية المنفتحة على آفاق الوجود.

ففي قصيدة (فقر الصالحين)، والتي هي إحدى قصائد دیوانه الشعري (يا أمم الشرق)، نلاحظ تركيز الشاعر الواضح على المعاني الصوفية والعرفانية لمصطلح (الفقر) بكل أبعاده ومعانيه.

ولكن هذا لا يعني أن الفيلسوف الشاعر (إقبال) قد اقتصر في قصيدته المذكورة على إبداء وجهة نظره الشخصية تجاه معاني الفقر الصوفية، بل نرى أنه قط ربط ربطا وثيقا بين معاني الفقر وبين الإنسان الكامل في الإسلام، فالفقير الحقيقي - بالمعنی الصوفي العام - هو ذاك الذي يستغني عن (الكل) من أجل (الكلي).

وحتى تتضح الصورة أكثر دعونا نتوقف الآن مع بعض الأبيات من قصيدته (فقر

الصالحين) حيث يقول الشاعر (إقبال) من جملة ما يقوله فيها:

ص: 261

یا عبيد الماء والطين اسمعوا *** ماهو الفقر الغني الأرفع

هو عرفان طريق العارفين *** وارتواء القلب من عين اليقين

خیبر حررها ذاك الفقير *** لم یکن له سوى خبز الشعير

وقد قصد (إقبال) بذلك أن الإمام عليا هو التجلي الأمثل للصفات الكمالية الظاهرة في الإنسان الكامل، ذلك الإنسان الذي استطاع أن يقهر حصن خيبر بقوته الجبارة على الرغم من أنه كان قد اكتفى من دنياه بطمریه وقرصيه من خبز الشعير، وبعد ذلك، ينتقل (إقبال) للقول عن المؤمن الحقيقي:

يقهر المؤمن ناموس الفلك *** فهو إنسان وفي النور ملك

في هدى القرآن والذكر الحكيم *** دائم الإسعاد موصول النعیم

إلى أن يقول:

وترى المؤمن في امته *** ينشدالحق بذاتيتة

نحو إدراك المعالي ساعيا *** وسراجا في الليالي هاربا

إنه إيمان بدر و حنين *** إنه زلزال تكبير الحسین(1)

ونفس المعاني التي وردت عن الإمام الحسين عليه السلام في هذه القصيدة الرائعة نراها تتكرر مرة أخرى في قصيدة أخرى له بعنوان (صوت إقبال إلى الأمة العربية) حيث يرى الفيلسوف (إقبال) أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء ما هي في حقيقتها إلا الامتداد الطبيعي لثورات رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في بدر وځنين وفي بقية

ص: 262


1- محمد إقبال، يا أمم الشرق، ترجمة: محمد أحمد غازي وصاوي شعلان، دار الفكر . دمشق، ط 1988/1 ص74

الوقعات النبوية الأخرى(1)

ولو انتقلنا الآن من ديوان (يا أمم الشرق) إلى ديوان (جناح جبریل)، ماذا يمكننا

أن نقرأ فيه عن الإمام الحسين عليه السلام ؟!

في الحقيقة، يمكننا أن نقرأ فيه الكثير عن سيد الشهداء عليه السلام وعن ثورته الإنسانية العظيمة في كربلاء، ولذلك، دعونا نتوقف الآن مع هذا الديوان الكبير الذي لا تكاد تقرأ فيه قصيدة إلا وتقع فيها على اسم الحسين علیه السلام وعلى معاني بطولاته وتضحياته من أجل الحق والفضيلة.

وها نحن نستطيع أن نقرأ قوله في قصيدته (حمية وحماسة) الواردة في ديوان (جناح جبریل):

ليس في نار التراث العربي، ولا في نغم الفكر الفارسي

رصد العربي ولا تأمل الفارسي!

ليس في قافلة الحجاز (حسين) واحد

مع أن ضفائر دجلة والفرات ما تزال تلمع (2)

إذن، فغاية القول عند الفيلسوف الشاعر (إقبال)، هو أن التاريخ عاجز عن المجيء بحسين آخر إلى الوجود على الرغم من أن وجوده شيء أساسي وضروري في كل حين ووقت أمام هذه الظروف السيئة والضاغطة التي يعانيها الإنسان في كل مكان من الأمكنة التي زرعها آدم عليه السلام بذریته

ونستطيع أن نقرأ أيضا في إحدى قصائده الطويلة جدا قوله الذي يخاطب فيه

ص: 263


1- نفس المصدر السابق ص116
2- محمد إقبال، ديوان جناح جبريل، مصدر سابق ص183.

الإنسان بأسلوب المعلم والحكيم:

الذات التي تدعمها المعرفة يغبطها حتى جبریل

فإذا دعمها الحب غدت صور إسرافيل

أنا الألم الذي أتی من معرفة هذه الأيام:

ألقوني في النار كما ألقوا إبراهيم!

إلى أن يقول في نهاية المقطع من هذه القصيدة الطويلة:

الليل مظلم وأنت بعيد عن القافلة:

لهيب كلمتي مصباح لك!

حكاية الحرم ليس لها نظير، فهي بسيطة وملونة

(الحسين) منتهاها، و (إسماعيل) مبتداها(1)

وقد علق الأستاذ الأديب (عبد المعين الملوحي) الذي ترجم ديوان (جناح جبریل) إلى اللغة العربية بالقول عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالكعبة:

(إسماعيل هو الذي أراد إبراهيم تضحيته لا إسحاق، وكان إسماعيل بكر أولاده... أما الحسين فقد سقط شهيدا في العراق دفاعا عن الإسلام يعني دفاعا عن شرف الكعبة كما يقول إقبال)(2)

وكما ذكرنا سابقا، لا يوجد دیوان من دواوين الفيلسوف الشاعر (اقبال) إلا ولأهل البيت عليهم السلام عموما، وللإمام الحسين عليه السلام خصوصا، ذکر واضح فيه، وبالتالي، من الطبيعي أن يكون للإمام الحسين عليه السلام ذكر مميز في ديوان الشاعر

ص: 264


1- نفس المصدر السابق ص138
2- نفس المصدر السابق ص138

(إقبال) المسمى (في السماء) والذي يجمع الكثير من الأفكار والرؤى الفلسفية التي

يؤمن بها ذلك الشاعر والفيلسوف الكبير.

ولكن، وللأسف، فإن ما يمنعنا من ذكر الشواهد المناسبة من ذلك الديوان هو الخلل الواضح في الترجمة، وربما مرد ذلك إلى أن المترجم حاول جاهدا - وهو مشكور على جهوده - أن ينقل الديوان الشعري من اللغة الفارسية إلى ما يقابله من الترجمة باللغة العربية وبطريقة شعرية مماثلة مما أفقد النصوص الشعرية الأصيلة الكثير من بلاغتها وقوة معانيها ومتانة ترابطها.

وعلى كل حال، فإننا سنكتفي بذكر هذه الأبيات الشعرية القليلة التي يرى الشاعر( إقبال) من خلالها أن استشهاد (ابن النبي)، الإمام الحسين عليه السلام ، لا يماثله أي استشهاد، وأن طريقة رحيله الدامية صعودا إلى الله لا تعادلها أية طريقة أخرى مهما بلغت من الصعوبات والمآسي والآلام العظيمة.

ومن هذا المنطلق، يقول (إقبال):

مایرجي مؤمن من ربه *** موت إطلاق له من تربه

لطريق الشوق هذا الموت غاية *** وهو للتكبير في حرب نهايه

ليس للمؤمن غير الأطيب *** أي موت مثل موت (ابن النبي)؟!

قال للقوم النبي ذو المحامد *** راهب الإسلام من كان المجاهد(1)

وقد علق المترجم الدكتور (حسين مجيب المصري) على هامش الصفحة الموجودة فيها هذه الأبيات الشعرية المذكورة أعلاه، بالقول: (ابن النبي) هنا هو

ص: 265


1- محمد إقبال، في السماء، ترجمة: الدكتور حسين مجيب المصري، نشر مكتبة الأنجلو المصرية . القاهرة، 1973، ص288.

الإمام الحسين رضي الله عنه سيد الشهداء، وقد علق أيضا على البيت الأخير بقوله: هذه إشارة إلى قوله صلی الله علیه و آله وسلم: «الجهاد رهبانية الإسلام»

وتجدر الإشارة إلى أن هذا الشاعر والفيلسوف الباكستاني (إقبال) كان يخالف قول العالم والفيلسوف (رينيه ديكارت) القائل: (أنا أفكر، إذن أنا موجود) وذلك بقوله المأثور: (أنا عاشق، إذن أنا حي)، فالعشق ينشئ ثباتا في الحياة، ويقيم ثقة في البقاء بعد الرحيل من الدنيا، والزمان أيضا أسير العشق لأن العشق أعلى منه، وقد كان العشق وسيبقى دائما وأبدا هو الجوهر الحقيقي للروح.

ولو تساءلنا قائلين: وما العشق الجوهري الذي يقصده (إقبال)؟!

في الواقع، إن الأستاذ الباحث، الدكتور (علي حسون) يجيبنا على السؤال المطروح من خلال ما أورده في كتابه المتميز (فلسفة إقبال) حيث بين لنا أن العشق الحقيقي الذي يقصده الفيلسوف (اقبال) هو التعلق بالکلي المطلق من جهة، والتعلق بأهل البيت المحمدي عليهم السلام من جهة ثانية، وعلى رأسهم والد الحسن والحسين عليهما السلام ، أمير المؤمنين علي عليه السلام(1)

وقد جاء كلام الباحث الإيراني الأستاذ (صادق آئینه وند) مؤيدا لكلام الدكتور (علي حسون) حول مسألة العشق الإلهي وعلاقتها بالإنسان الكامل الذي لا يمكن الأحد، أي كان، ومهما بلغ من العلم والمعرفة، أن يصل إلى تلك الحالة من الكمال الإنسانی ما لم يتخذ من أهل بيت محمد المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم مثلا وأسوة له في طريق كماله الإنساني وعروجه الروحاني.

فالفيلسوف والشاعر الباكستاني (إقبال) كان يري، على الرغم من أنه مسلم سني

ص: 266


1- الدكتور علي حسون، فلسفة إقبال، دار السؤال . دمشق ط 1986/2 ص136

الأصل والمنبت، أن الكمال الإنساني لن يكتمل حقيقة ما لم يتم الاهتداء بنهج الخمسة المطهرين من كل رجس ودنس، ولكن، وبالرغم من ذلك، فإن السؤال الأساسي يبقى مطروحا أمامنا:

أين موقع الإمام الحسين عليه السلام من هذا الكلام عن فلسفة (إقبال) حول العشق

الإلهي وحول الإنسان الكامل؟!

وهنا يجيبنا الباحث الإيراني (آئینه وند) بالقول إن عملية البحث عن الإنسان الكامل في الوجود هي عملية صعبة ومضنية بلا شك، والدليل على ذلك هو أن الفيلسوف والحكيم اليوناني القديم (دیوجینوس) قد بحث عنه في النهار وطاف المدينة بالمصباح فلم يهتد إليه ولم يلتق به وقد مات بعد ذلك دون تحقيق تلك الأمنية الغالية على قلبه.

وهنا يتابع (آئینه وند) كلامه قائلا: (إلا أن إقبال وجد الإنسان الكامل فيمن يتأسى بالحسين عليه السلام ومسلكه في كربلاء، فهو يقول لمن يؤثر الحياة على الموت في سبيل الحق: لا تصاحبني، فأنا لا أسمع نصيحتك، ولن أغلق فمي ولن أمتنع عن إباحة الأسرار، بل إني سأتزود بالسهم والرمح والخنجر والسيف، وكل وسائل الحرب الأخرى في سبيل الحق، فابتعد عني إن كنت تخاف، فإنني أرى عظمة الفناء في سبيل الحق، تلك العظمة الحسينية هي كمال الشرف الإنساني)(1)

وقد جاء كلام الباحث ( آئینه وند) شرحا لقول الشاعر (إقبال) في إحدى قصائده

العرفانية الرائعة:

أنا أبحث عن السهم والرمح والخنجر والسيف

ص: 267


1- مجموعة من الأدباء والباحثين، نداء إقبال، مصدر سابق ص183

فلا تصاحبني لأن مسلك الحسين أملي

قالوا: أغلق فمك ولاتبح بالأسرار *** قلت: كلا، إن صيحة تكبيري هي أملي

وقد تابع الأستاذ (آئینه وند) تعليقه على هذين البيتين الشعريين اللذين أوردهما في بحثه الفكري الشيق (اليقظة الإسلامية في فارسيات إقبال) قائلا وواصفا حال (إقبال): (فليرتفع صوت التكبير عاليا، ولتعل كلمة الإسلام على أشلائي في أسعد مقاماتها أسوة بسيد الشهداء، بسبط الرسول صلی الله علیه و آله وسلم)(1)

وقبل أن تغادر سفينة بحثنا ميناء (إقبال) الشعري، نشعر أنه من واجبنا أن نشير إلى أن الأديب والمفكر (نجيب الكيلاني)، صاحب المؤلفات الفكرية والأدبية الحاصلة على جوائز عديدة، لم يجعل عنوان کتابه الأكثر شهرة، (إقبال الشاعر الثائر)، عن عبث.

بل لقد ربط بين شخصية (إقبال) ومعاني الثورة من جهة، وبين شخصية (إقبال) والروح الإبداعية الشعرية من جهة أخرى، هذا كله بالنسبة لعنوان الكتاب فقط، فماذا عن مضمونه وعن خفايا سطوره و صفحاته؟!

في الواقع، إن الدكتور (الكيلاني) يبين لنا في أكثر من موضع في كتابه المذكور أن ثورة الفيلسوف والشاعر (إقبال) هي جزء، بل هي جذوة من ثورة الإمام الحسين عليه السلام العالمية التي يرمز لها بتكبيرة (الله أكبر)(2)

فتكبيرة (الله أكبر) الحسينية قادرة على تغيير العالم والنهوض به عاليا، بل إن

ص: 268


1- نفس المصدر السابق ص183
2- الدكتور نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مصدر سابق ص147.

(إقبال) قد زاد على هذه الحقيقة حقائق أخرى في قصيدته التي تحمل عنوان(طلوع

الإسلام) والتي يقول فيها بكل جرأة ويقين:

أنت يد قدرة الله أيها المسلم وأنت لسانها.

فهيا اخلق يقين الهمة ولا تعش أسير الأوهام...

أكانت هناك في العالم قوة تحارب الجبابرة سوى

قوة (علي) وفقر (أبي ذر) وصدق (سلمان)؟!(1)

وهنا أجد نفسي، وقد حصلت على معظم ما تريد من كنوز ثمينة من أعماق بحار عالم (إقبال) الفلسفي والشعري، مستعدا للإبحار الطويل من جديد بهدف إلقاء المرساة المتعبة على شاطئ جديد آخر للتعرف على عوالم جديدة زاخرة بالعلوم والمعارف وبالأفكار الإنسانية النيرة التي تتألق بأنوارها المتلألئة في فضاءات الوجود ومدارات الروح وفي خفقات القلب والوجدان.

وستكون محطتنا الآن مع مستشرقة ألمانية عز نظيرها في عالم الاستشراق والبحث في عالم التصوف وتاريخ الأديان.

إنها المستشرقة الألمانية البارزة (آنا ماري شميل) ( Annemarie

(2005 -1922) (Schimmel

وقبل الدخول في عالم تلك المستشرقة الألمانية التي تمثل ظاهرة فريدة في عالم الدراسات الاستشراقية، لا بد لنا من أن نقدم تعریفا موجزا عنها وعن سجلها الفكري المليء بالمآثر وبالأعمال الفكرية الجليلة التي قلما نلحظها عند الكثير من المستشرقين الكبار الذين بلغت شهرتهم الآفاق شرقا وغربا.

ص: 269


1- نفس المصدر السابق ص75

ولدت (آنا ماري شميل) في مدينة (إير فورت) الألمانية عام / 1922/ وقد بدأت تتعلم اللغة العربية في سن الخامسة عشرة، وحصلت على درجة الدكتوراه في علم الاستشراق من قسم اللغة العربية والدراسات الإسلامية من جامعة (برلین) سنة /1941/ وهي لم تتجاوز سن التاسعة عشرة، كما أنها حصلت سنة / 1951/ على درجة دكتوراه ثانية في تاريخ الأديان.

ولهذه المستشرقة العديد من الكتب والدراسات التي تتناول الفكر الإسلامي، عقيدة وتاريخا، ومن أشهر تلك الكتب کتابها (محمد نبي الله ومنزلة الرسول في الإسلام)، وقد حصلت السيدة الفاضلة (شمیل) عام / 1995/ على جائزة السلام، وهي أهم جائزة من نوعها بعد جائزة (نوبل) العالمية للسلام(1)

وبعد هذا التعريف الموجز بالمستشرقة (شميل)، أريد أن أتوقف مليا مع بحث هام لهذه المستشرقة النابغة، كانت قد كتبته لتبين للقراء والباحثين أهمية ثورة كربلاء وعظمة شخصية الإمام الحسين عليه السلام وأثر ذلك على حركة الشعر العالمي خارج دائرة الأدب العربي.

إن بحث السيدة الفاضلة (شميل) يحمل العنوان التالي:

Karbala and The Imam Husayn in Persian and Indo - )

(Muslim Literature

أي ما يمكن ترجمته بما يلي: (كربلاء والإمام الحسين في الأدب الإسلامي الفارسي والهندي)، وهو بحث قيم وبالغ الأهمية نظرا للجهود المبذولة في تقديم

ص: 270


1- میادة خطاب، ماري شميل. الألمانية عاشقة النبي، مجلة (النور)، العدد 176، آب . أيلول 2006، دار النور . لندن، راجع ص74. 75.

المادة الفكرية الجديدة والهامة بأسلوب مختصر و مفید، ولكن، وعلى الرغم من العنوان الواضح الذي يحمله ذلك البحث الفكري الثري، إلا أن السيدة (شميل) قد أدرجت في بحثها أسماء العديد من الشعراء الأتراك الذين لهم بصمات شعرية واضحة في المسيرة التاريخية للشعر التركي.

وها نحن سنبدأ باستعراض أهم النقاط الواردة في ذلك البحث الفكري النادر من حيث نوعيته وغزارة معلوماته، وتبدأ السيدة (شمیل) بحثها المذكور بمقدمة موجزة تقول فيها: (من المثير للاهتمام إلقاء نظرة على شيء من أشعار التراث الإسلامي الشرقي التي تعبر تعبيرا غالبا عن انشغال الشعراء السنة بمصير الحسين عليه السلام والتي تردد في الوقت نفسه صدی ما عند الصوفيين من نزوع لأن يروا فيه مثالا للمعاناة التي لها أثر راسخ في زكاة النفس (سمو الروح))(1)

وبعد هذه المقدمة الموجزة، تبدأ المستشرقة (شميل) استعراض أسماء الشعراء

الذين كان للإمام الحسين عليه السلام أثر بالغ في تكوين بنيتهم الفكرية وهويتهم الروحية.

وها نحن نذكرهم كما أوردتهم هي في بحثها مبتدئة حديثها عن الشاعر (سنائي)( يقول الشاعر (سنائي)، المتوفى عام / 1131م/ في (الديوان) مخاطبا المسلمين

ولائما إياهم على تقاعسهم عن نصرة الإمام الحسين عليه السلام:

دینکم حسینکم، والطمع والرغبة هما خنزیر کم وكلبكم

ص: 271


1- Annemarie Schimmel, Karbala and The Imam Husayn in Persian and Indo - Muslim Literature. وقد نشرت مجلة الصراط هذا البحث في المجلد رقم /12/ عام 1986، وقد قمنا نحن بأخذ هذا البحث باللغة الإنكليزية عن الموقع الإلكتروني التالي: www. al - islam. Org/ al - serat وقد قمنا بترجمته إلى اللغة العربية بكل دقة وأمانة، يرجي الرجوع إلى الموقع الإلكتروني المذكور للتأكد من سلامة التوثيق ودقة الترجمة.

تقتلون الأول (حسینکم) عطشان، وتطعمون الآخرين!!)

ثم تنتقل (شميل) للكلام عن (فريد الدين العطار)، فتقول:

(يقول العطار في إحدى قصائده:

کن کالحسين أو كالمنصور..)

وبالطبع، فإنه يقصد بالأول الإمام الحسين، شهيد الحق في الخلق، بينما يقصد

بالآخر (المنصور) الحسين بن منصور الحلاج، شهيد المتصوفين الشهير.

وبعد الكلام عن الشاعر (العطار)، تنتقل السيدة الألمانية (شميل) إلى دائرة

الشعراء الأتراك، وتبدأ حديثها عنهم بالقول:

(هناك شاعر تركي يدعى (یونس عمر) (Yunus Emre)، عاش بين القرنين (13م. 14م) وتعد أشعاره من أول ما نظم باللغة التركية، وقد برز فيها ذكر سبطي النبي علیهم السلام .

وقد وصفهما في إحدى القصائد الرائعة بأنهما (سيدا الشهداء) و (دمعتي الأولياء) و (حملا فاطمة) و(ملكا الجنان الثمان) و (قرطا العرش).

وبعد كلامها عن الشاعر التركي (يونس عمر)، تنتقل للكلام عن شاعر تركي آخر

اسمه (سيهير أبدال) (Seher Abdal) (القرن السادس عشر ميلادي) فتقول عنه:

(يقول الشاعر (سيهير أبدال):

أهل السماء والأرض سكبوا اليوم دمعا أسود.

وهم شعث مثل شعرك يا حسين

ينزف الفجر دمه حزنا على الحسين،

والتوليب الأحمر تتخضب الدم وقد اصطبغت قلوبها بصبغة حزنه...).

ص: 272

وهنا تنتقل (شميل) من الشاعر التركي (أبدال)، وربما يلفظ أيضا (عبدال)،إلى

شاعر سندي في الباكستان هو الشاعر (محمد محسن) ( M. Muhsin )

(1709م - 1750م) الذي نظم الكثير من المرثيات.

وتذكر له السيدة (شميل) مقطوعة واحدة من مرثياته المؤثرة، وهي تلك المقطوعة التي يقول فيها:

(سفينة آل المصطفى غرقت في الدم،

غيمة الكفر السوداء حجبت الشمس،

سراج النبي أطفأه ريځ أهل الكوفة).

ومن السند تنتقل السيدة (شميل) إلى محطتها الأخيرة في قلب الباكستان.

إنها المحطة التي تقف فيها مع الشاعر الباكستاني المعروف (عبد اللطيف البيتي)

( A. L. of Bihti) (1689م - 1752م)، وقد نقلت السيدة (شميل) عدة مقاطع شعرية له جديرة بالوقوف عندها للتأمل والدراسة والتحليل.

وهذه هي الأبيات التي ذكرتها له (شميل) في بحثها الرائع الجميل.

يقول الشاعر (البيتي):

اصغ إلي، إن مشقة الشهادة هي يوم السرور

ليس عند (یزید) ذرة من هذا العشق

الموت هو المطر لأبناء (علي))

ويقول (البيتي) في نفس القصيدة أيضا:

(مشقة الشهادة في فصل المطر البهيج

ليس في (یزید) أثر من هذا العشق

ص: 273

لقد قدر للأئمة منذ البدء أن يذوقوا القتل)

وتذكر (شميل) مقطعا ثالثا عن شهداء کربلاء يقول فيه الشاعر (البيتي):

(الفردوس مسكنهم، لقد اقتحموا الطريق إلى الفردوس

وفنوا في الله، وبه أصبحوا إياه (متألهين))(1)

وبما أننا لا نزال في إطار الكلام عن المعلومات الثمينة الواردة في بحث المستشرقة (شمیل) علينا أن لا ننسی نقطتين هامتين، فالأولى تتعلق بالشاعر (سنائی) الذي سبق ذكره والذي خاطب المسلمين من خلال دیوانه ليقول لهم: إن (دینکم هو حسینکم)، فقد كان يقصد أن الذي يتهاون في نصرة الإمام الحسين عليه السلام وفي الدفاع عنه، فإنما هو يتهاون في نصرة الإسلام وفي الدفاع عن رسالة الله الأخيرة، فالإمام الحسين عليه السلام هو حجة الله في خلقه وهو رسالة الله الناطقة بالحق والآمرة بالصدق في عموم البرية والخلق.

وقد اعتبر الباحث (Najib Ullah) في كتابه (Islamic Literature) (الأدب الإسلامي) أن الشاعر العظيم (سنائي) واحد من أعظم الشعراء الصوفيين في الإسلام قاطبة(2)

فآثاره الشعرية والعرفانية لا تزال تلقى الكثير من التقدير والإعجاب.

أما النقطة الثانية التي أريد أن أذكرها هنا أيضا، فهي النقطة التي تتعلق، ليس فقط بالشاعرين التركيين (یونس عمر) و(سيهير أبدال)، بل بعموم الأدب التركي في بداية

ص: 274


1- يمكن العودة إلى الموقع الإلكتروني المذكور أعلاه للاستزادة من المعلومات عن الشعراء المذكورين في بحث السيدة (شميل) وعن تأثرهم بالإمام الحسين عليه السلام وفاجعة كربلاء.
2- Najibullah islamic literature washington square press.newyork 1993 -page 278.

ولادته، وعن هذه النقطة المهمة المتعلقة بالأدب التركي، يقول البروفيسور (ستانلي لين - بول) (Stanley Lane - poole ) في كتابه المطبوع باللغة الإنكليزية (Turkey) (تركيا): (إن أدب العثمانيين، مثل حضارتهم، مستعار من الفرس من خلال السلجوقيين، ولذلك فمن الطبيعي أن نجد تشابها كبيرا بين كتابات هؤلاء وكتابات أساتذتهم الفرس)(1)

وبالطبع، فإن تحليل هذا الكلام، وما جاء بعده على لسان الباحث (لين - بول) يشير بوضوح إلى أن الأدب التركي عموما، وبشكل خاص الشعر، كان واضح التأثر بالنزعة الصوفية والميول الروحية التي تقدس أهل البيت علیهم السلام عموما، وتنتصف للإمام الحسين عليه السلام وما حدث له في كربلاء خصوصا، على الرغم من اختلاف المذهب.

وبما أننا الآن بصدد الكلام عن الأدب التركي، وبشكل خاص عن الشعر التركي الذي لا يزال يحمل في طياته الكثير من الرؤى الصوفية، فمن المفيد أن نذكر أن هناك علاقة وثيقة بين الشعر والتصوف، وقد انتقلت هذه العلاقة أيضا من الأدب الفارسي إلى الأدب التركي، وتتجلى تلك العلاقة بين الشعر والتصوف من خلال الحقيقة الواضحة التي تبين لنا أن الشاعر يكتب بلغة صوفية، في حين أن المتصوف يكتب بلغة شاعرية، وربما كان خير مثال على ذلك في العصر الحديث المتصوف التركي (بديع الزمان سعيد النورسي) صاحب عشرات المؤلفات الصوفية المعروفة والتي تمت ترجمة بعضها إلى العديد من اللغات العالمية الحية.

ولو قرأنا، على سبيل المثال، ما جاء في كتابه (مجموعة اللمعات من کلیات

ص: 275


1- stanley lane-poole turkey khayats.beirut 1966p.302.

رسائل النور) عن الإمام الحسين عليه السلام ، فسوف يتبادر إلى أذهاننا أن الذي نقرؤه ليس مجرد أفكار صوفية ولا (لمعات) عرفانية، وإنما هو فيض وفير من القصائد الشعرية الشفافة المليئة بالصور الفنية والمحسنات اللفظية.

وما على الذي يريد التأكد من ذلك إلا أن يعود إلى كتاب (اللمعات) المذكور ويقرأ بالتحديد (اللمعة الرابعة) التي تدور عن معرفة أهل البيت عليهم السلام وعن إقرار المؤلف (النورسي) بنورانية الإمام الحسين عليه السلام وبأنه هو وبقية الأئمة من أهل البيت الاثني عشر علیهم السلام هم عبارة عن سلسلة نورانية متصلة بعضها ببعض، وأنهم هم أيضا الورثة الحقيقيون لنور النبوة وحقيقتها(1)

وبالعودة إلى المستشرقة الألمانية (شمیل) ثانية، نرى أن تلك المستشرقة كانت متأثرة جدا بالفيلسوف والشاعر الألماني العظيم (یوهان غوته) الذي أفنى حياته في دراسة الشرق وقيم الروحية الإسلامية، وقد ذكرت السيدة (شميل) في أكثر من مكان في مؤلفاتها أن (غوته) هو أحد أهم أساتذتها الروحيين الذين فتحوا لها أنوار بصيرتها للتعرف عن كثب على الإسلام وعلى أهل الرسالة الحقيقيين الذين كانوا، بحق، أنوار السماء المرسلة مع خيوط الفجر الجديد إلى غفاة البشر الذين كانوا يغطون في سبات

طويل وثقيل.

فمن هو (غوته) هذا الذي تأثرت به المستشرقة الألمانيةاللامعة (شمیل)؟!

وهل هناك مكان لأهل البيت عليهم السلام، بما فيهم الحسين عليه السلام ، في مؤلفاته

ودواوينه الشعرية ؟!

ص: 276


1- بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، مصدر سابق.ص32

الجواب، وبشكل مختصر جدا، يأتي على الشكل التالي من خلال هذه النقاط الموجزة يرى (غوته) (1749 - 1832) في كتابه ( الشعر والحقيقة) أن أمير المؤمنين عليا عليه السلام هو المؤمن الأول بالرسالة الإسلامية إلى جانب السيدة خديجة عليها السلام، وأن إيمانه کان انحيازا كليا ومطلقا لرسالة النبي المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم(1)

أما النقطة الثانية، فتتجلى من خلال مكانة أهل البيت عليهم السلام عند (غوته) عندما تنقل لنا الباحثة الألمانية (كاتارينا مومزن) جزءا هاما من مسرحية قصيرة وضعها (غوته) على لسان الإمام علي عليه السلام والسيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، والدي الحسن والحسين عليهما السلام ليبين للناس من خلال ما جاء فيها أن عليا وفاطمة علیهما السلام هما جناحا النبي المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي يحلق بهما في سماء الروح حاملا رسالته السماوية التي ستخلد بواسطتهما وبواسطة ذريتهما المرتقبة.

فالقليل من التأمل والتحليل للحوار القائم في تلك المسرحية بين علي علیه السلام وفاطمة عليها السلام سيقودنا، بلا ريب، إلى تلك الرؤى والنتائج المستخلصة وما على الذي يريد تحليل ودراسة تلك المسرحية إلا أن يعود إلى كتاب الباحثة (كاتارينا مومزن) المعروف بعنوان (غوته والعالم العربي)(2)

ولكن، ومن باب التأكيد على ما ذكرناه في السابق، نقول إن فیلسوف ألمانيا وشاعرها الأكبر قد أشار في الجزء الثاني من كتابه (الشعر والحقيقة) إلى أنه كان قد خطط لمسرحية (نشيد محمد) وأن يكون الإمام علي عليه السلام هو صاحب الدور الأول فيها حيث يقوم الإمام علي عليه السلام بإنشاد ذلك النشيد الصوفي المليء بالقيم الروحية

ص: 277


1- يوهان غوته، الشعر والحقيقة، مصدر سابق، ج2 ص279.
2- كاتارينا مومزن، غوته والعالم العربي (عالم المعرفة) العدد /194/ ترجمة الدكتور عدنان عباس علي، الكويت، عدد شباط 1955 ص 206.204

والمعاني الصوفية في نقطة الذروة من النجاح في عملية التبليغ السماوي(1)

وآخر ما يمكننا أن نذكره الآن عن هذا الشاعر والفيلسوف الألماني العظيم الذي شغل أوروبا بأكملها بأعماله الأدبية ومآثره الفكرية والفلسفية هو أن لهذا العبقري دیوانا شعريا يحمل عنوان (الديوان الشرقي للمؤلف الغربي) وقد وضع فيه (غوته) خلاصة أفكاره عن الشرق وعن الإسلام.

وما يعنينا من دیوانه المذكور هنا، هو أنه قد وضع فيه قصيدة عن سيدات الجنة الأربع وهن - حسب ما جاء في قصيدته التي قام بتعديلها لاحقا - (زلیخا، مریم، خديجة، فاطمة) (عليهن السلام جميعا).

وقد علق الدكتور المصري (عبد الرحمن بدوي) على هذه القصيدة من خلال

التعريف بأسماء السيدات الوارد في نص القصيدة بقوله:

(أما في الصورة الثانية للقصيدة (المعدلة) فنجد:

1- زلیخا، وقد عرفت بحبها العنيف ليوسف، ثم زهدها وعزوفها.

2- مريم عليها السلام .

3- السيدة خديجة رضي الله عنها، زوجة الرسول وأم المؤمنين التي لم يتزوج

بغيرها طول حياتها.

4. وفاطمة الزهراء، ابنة الرسول وزوجة علي، وأم الحسن والحسين، رضي الله

عنهم جميعا)(2)

إن كل هذه الأفكار عن أهل البيت عليهم السلام بالإضافة إلى الكثير من أفكار(غوته)

ص: 278


1- يوهان غوته، الشعر والحقيقة، مصدر سابق، ج2 ص279.
2- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، مصدر سابق، ص314.

الأخرى قد أثرت في البنية المعرفية والرؤية الاستشراقية للباحثة الألمانية السيدة (آنا ماري شميل)، ولا تغالي إذا قلنا إن أفكار (غوته) عن الإسلام، بالإضافة إلى استعداداتها الثقافية والروحية، هي التي دفعتها إلى عشق الإسلام وعشق رموزه الحية( محمد وعلي فاطمة والحسن والحسين) عليهم السلام، وإلى ملء أصغريها بحب الله سبحانه وتعالى على نفس النهج الذي أحبه (غوته) إياه من خلاله.

بل كيف لا يكون الأمر كذلك وهي التي قالت: (إنني أؤمن أن الماء الصافي سوف ينتصر بحركته الدؤوبة على مر الزمان على صم الحجر، إنني أتوجه مع رجاء العون من أجل خدمة السلام بالشكر أولا وأخيرا إلى من توجه إليه (غوته) في (الديوان الشرقي) بقوله: لله المشرق... لله المغرب... والأرض شمالا... والأرض جنوبا ... تسكن آمنة بين يديه ... هو العدل وحده، يريد الحق لعباده.. من مائة اسم من أسمائه .. تقدس اسمه هذا.. آمين)(1)

ونظرا لخدماتها الجليلة للإسلام ولنشر الثقافة الإسلامية الصحيحة في صفوف الناس الأوروبيين، فقد أقامت الجهات الثقافية المسؤولة في إيران، بلد الثقافة والحضارة، منتدى ثقافيا يحمل اسم (خیابان این میری شمل) أي (منتدی آنا ماري شمیل) یوکفي هذه المستشرقة فخرا أن رئيس ألمانياالأسبق (رومان هرتسوج) قال عنها وهو يسلمها جائزة السلام: (إنها هي من مهدت لنا الطريق إلى الإسلام)(2).

وعلى كل حال، وقبل أن نكمل رحلتنا في أوروبا بحثا عن أثر الإمام الحسين عليه السلام وعن فاجعة كربلاء في الشعر الأوروبي، نرى من الأفضل الآن أن نستكمل

ص: 279


1- ميادة خطاب، ماري شميل الألمانية عاشقة النبي، مصدر سابق، ص75
2- نفس المصدر السابق، ص75

رحلتنا في شبه القارةالهندية لنتعرف، ولو بشكل مختصر، على بعض الشعراء الهنود الذين كان للإمام الحسین علیه السلام مکان هام في شغاف قلوبهم وضمائرهم و في دواوينه وقصائدهم.

ومن جملة من يمكننا أن نذكرهم الآن، على سبيل المثال، الأديب الهندي المشهور (مير أنيس) الذي كرس قسما كبيرا من جهوده الأدبية للحديث عن الإمام الحسين عليه السلام وعن ملاحمة البطولية الخالدة في كربلاء

وقد كتب عنه الأستاذ (محمد حسن)، أستاذ الأوردية السابق في مركز اللغات الهندية بجامعة (جواهر لال نهرو) في نيودلهي، قائلا: «.. و(مير أنيس) الذي أضفى بشخصيات ملاحمه الدينية عن معركة كربلاء صبغة محلية ونظرة هندية على الأدب الأردي»(1)، قاصدا بذلك عمق الأثر الروحي والفكري الذي تركه هذا الأديب والشاعر الهندي على الأدب الأوردي من خلال عظمة أعماله الأدبية والملحمية عن شخصية الإمام الحسين عليه السلام وعن بطولاته ومآثره الإنسانية الخالدة في واقعة کربلاء.

وهناك شاعر هندي آخر يحدثنا عنه الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي) في بحث مطول له بعنوان (الشعر العربي في الهند)، ويذكر الأستاذ (الطريحي) أن ذلك الشاعر الهندي السيد (علي صدر الدين ابن الأمير أحمد نظام الدين ابن السيد معصوم المدني) (1052ه- - 1117 ه-) كان عالما وشاعرا غزير الإنتاج، ومن أهم مؤلفاته المطبوعة:

ص: 280


1- محمد حسن، الروح الثقافية للمجتمع الإسلامي في الأدب الهندي، ترجمة: الدكتور إبراهيم يحيى الشهابي مجلة (الآداب الأجنبية) العدد /65/، إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق 1990 ص50.

1- سلافة العصر في محاسن الشعر في كل مصر.

2- أنوار الربيع في أنواع البديع.

3- الدرجات الرفيعة - طبع منه جزء واحد في النجف.

4- رياض السالكين في شرح الصحيفة السجادية

5- الحدائق الندية في شرح الصمدية للشيخ بهاء الدين العاملي.

6- ديوان شعر ضخم، يضم بين دفتيه حوالي خمسة آلاف بیت شعري، حققه

ونشره الأستاذ (شاکر هادي شکر).

وها نحن نذكر له هذه الأبيات الشعرية الرقيقة في رثاء الإمام الحسين عليه السلام : نفسي الفداء لمقتول على ظمأ *** لم يسق إلا بحد البيض والأسل

نفسي الفداء له من هالك هلكت *** له الهداية من علم ومن عمل

قرت به أعين الأعداء شامتة *** وأسخنت أعين الأملاک والرسل

یا صرعة صرعت شم الأنوف بها *** وأصبح الدين منهاعاثر الأمل

قد أثكلت بضعة المختار (فاطمة) *** وأوجعت قلب خير الأوصياء (علي)(1)

وبعد هذه الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية المؤثرة للشاعر الهندي السيد (علي صدر الدين)، نرى أنه من الأفضل لنا، ونظرا لضيق المجال، أن ننتقل مباشرة إلى شاعر هندي آخر لم يأخذ حقه من الشهرة والتقدير بعد على الرغم من كثرة تصانيفه ومؤلفاته التي تربو على الخمسين مؤلفا.

إنه الأديب والشاعر الهندي (محمد هارون الزنگپوري) الذي كان حيا حتى سنة

ص: 281


1- محمد سعيد الطريحي، الشعر العربي في الهند، مجلة (الآداب الأجنبية)، المصدر السابق ص116

/ 1335 ه- /، ولهذا الشاعر المولود في بلدة (زنك بور) قصائد كثيرة في مدح أهل البيت عليهم السلام وفي رثائهم ووصف أحوالهم.

ودعونا الآن أيها القراء الكرام نستمع سوية إلى وصية هذا الشاعر الهندي من خلال ما صاغه یراعه المرهف من أبيات ترشح حبا ووفاء لسيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، وها هو يبدأ نصيحته الثمينة بقوله:

إذا ما طلب المستجار من البلى *** فليس لك سوى أرض کربلا

هي المسجد الأقصى يطوفون حوله *** هي الكعبة العليا هي الخلد والعلى

فمن جاءها مستغفرا كان آمنا *** وأوتي في الفردوس قصرا ومنزلا

ومن رامها للأمن من ثورة الأذي *** رآها له حرزا حريزاومعقلا

فما عاد منها سائل غیرمنجح *** وماخاب فيها من أتاهامؤملا(1)

أما عن الفاجعة الكربلائية نفسها وعن الآلام الروحية والنفسية، فيقول شاعرنا الهندي مصورا حال الإمام الحسين عليه السلام وهو يطلب نصرة الحق في ساحة الفاجعة:

أليس من مسلم فيكم فينصرني *** أو من مجيب لقولي بين أشرار

یاقوم یاقوم إني نجل فاطمة *** إني ابن بنت رسول خير أخیار

إني ابن أحمدكم لا ريب فيه لكم *** إني خبير بأحكام وأسرار

لا تقتلوني بلا إثم ولا خطأ *** واخشوا عذاب الإله الخالق الباري

واسترهبوا الله في أبناء فاطمة *** ولا تحوموا لجهل حومة النار

إلى أن يقول في نفس القصيدة متابعا:

فليت شعري ماذا العذر حين دعوا *** لدى الحساب إلى الميقات جبار

ص: 282


1- راجع القصيدة كاملة في مجلة (الموسم) العدد /12/، المجلد الثالث، مصدر سابق، ص390

تقول فاطمة الزهراء باكية *** يارب هذا حسین بر أبرار

هذا حسين أضاعوه لحقدهم *** وكان خامسنا من خمس أنوار(1)

وبالفعل، يحق لهذا الشاعر أن يتساءل عن العذر الذي سيقدمه أولئك القتلة عندما يقفون بين يدي الله المنتقم الجبار سبحانه وتعالی.

ويحق له أن يتخيل أيضا موقفهم من سيدة نساء العالمين، فاطمة الزهراء علیها السلام ، وهي تذرف الدموع السخية في الحضرة الإلهية المقدسةشاكية إلى الله عز وجل ما فعله الأشرار الفجار بابنها الحسين عليه السلام ، ذلك الابن الذي كانت مجرد دموعه، وهو طفل صغير، تؤذي جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم !!

وما أجمل الأفكار التي طرحها الشاعر الهندي المعروف (معین الدین اجمیری)، رحمه الله، عندما تحدث في قصائده وأشعاره عن أهداف الحسين عليه السلام ونبل الحسين وشجاعة الحسين عليه السلام ، إنها أفكار تتشابه في محتواها مع محتوی قصائد السيد (علي صدر الدين) وقصائد غيره من الشعراء الكبار الذين رأوا في كربلاء عملية إحياء لمعالم الإسلام الذي جاء له أبناء الجاهلية ودعاتها أن يكون دينا فارغا من كل قيمه

الروحية وتعاليمه السماوية ومبادئه الرسالية.

وهذا هو الشاعر الهندي (اجمیري) يؤكد من خلال أفكاره وأشعاره على أن الإمام الحسين عليه السلام كان دائما وأبدا جديرا بأن يسمى البناء الثاني في الإسلام بعد

جده المصطفی صلوات الله عليه وآله، وبأنه عليه السلام المجدد لبناية التوحيد(2)

وكان من أهم العوامل في إثارة العنفوان والحمية في نفوس أولئك الشعراء

ص: 283


1- نفس المصدر السابق، ص392
2- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، ص102

الهنود وغيرهم، من مسلمين وغير مسلمين، تلك الخطب النارية التي كان يلقيها الإمام الحسين عليه السلام على أتباعه قبيل حدوث الواقعة الدامية والتي كانت تكشف عن الكثير من الجوانب الذاتية والشخصية للإمام الحسين عليه السلام الذي كان تواقا للتخلي عن كل متاع الدنيا وزينتها من أجل هدف واحد فقط، إحياء كلمة الله في خلق الله.

ولا يسعني وأنا أكتب هذه السطور إلا أن أذكر قول المفكر الإيراني البارز الدكتور (علي شريعتي) الذي امتازت كتاباته عن كربلاء بالقدرة التحليلية على دراسة الأحداث وتحليل الخطب التي كان يلقيها سيد الشهداء قبيل الواقعة، فجاءت تلك الكتابات ناضجة ومليئة بالعبر والدروس المستخلصة من فلسفة الحركة الحسينية ومن هنا يأتي صدق قول الدكتور (شریعتی)، الذي لم يكن غائبا بمضمونه الفكري عن أذهان الكثير من المفكرين والشعراء:

(لقد بدأ التاريخ - حسب الفلسفة السياسية الشيعية - منذ أن قتل هابیل وحکم

قابيل، وبقي قابيل هذا حاكما على التاريخ في جميع مراحله وممسكا بزمامه، وقابيل متدین، له دین، ودينه الشرك، وهابيل إنسان الإسلام، الإنسان المثالي الحقيقي، قتل وصار ضحية، وعليه فالتاريخ الحاكم على المجتمعات البشرية هو تاریخ قابيل وهذا لا يعني أنه مات بعد حين... کلا إنه لم يمت، بل ظل حاكما على مجتمعات البشر باسم الشرك على طول خط التاريخ، بقي حاكما باسم الشرك على الأمم والناس أجمعين، وقد اتخذ (قابیل) من الدين أداة لتبرير وجوده وإبادة الناس والحيلولة دون انبعاث هابيل من جديد)(1).

ص: 284


1- د. علي شريعتي، الحسين وارث آدم، ترجمة: د. إبراهيم دسوقي شتا ، دار الأمير، للثقافة والعلوم، بيروت ط 2004/1 ، ص276

بهذه الرؤية كان ينظر الدكتور (شريعتي) إلى الصراع القائم بين الإمام الحسين عليه السلام ومناوئيه، إنه صراع بين الحق والباطل، بين الخير والشر، بين الميراث الهابيلي والميراث القابيلي، ومن خلال هذه الرؤية الفلسفية المبنية على تحليل خطب وأقوال الإمام الحسين عليه السلام المتوافقة مع مآثره وأفعاله على أرض الواقع، كان معظم المفكرين والأدباء والشعراء على مختلف مشاربهم، ينظرون إلى طبيعة الصراع الأزلي القائم بين النور والظلام ويستوځون منه أقوى وأجمل الأفكار والدروس والعبر وليعيدوا صياغة كل ذلك من جديد في مؤلفاتهم وأبحاثهم ودواوينهم الشعرية.

أما الآن، أيها القراء الأحبة، دعونا نعود سوية إلى أوروبا وإلى الأدب الشعري الأوروبي كي نتصفح بروية ما جاء من قصائد وأشعار وملاحم عن معركة كربلاء وعن سید الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام

لقد رأينا في ما سبق من صفحات مدى تأثر الشاعر الألماني العالمي (یوهان غوته) بفكر أهل البيت عليهم السلام عموما، سواء بمحمد أو بعلي وفاطمة وبابنيهما الحسن والحسين علیهما السلام ، وقد رأينا أيضا في نفس الصفحات من هذا الفصل، وفي غيره من الفصول السابقة عمق تأثر الكثير من أعلام الأدب والفكر الأوروبي بشخصية الإمام الحسين عليه السلام وبمبادئه وقيمه الإنسانية التي تجلت بأبهى صورها في العاشر من محرم الحرام فوق رمال كربلاء التي تلهث عطشا وهي تستلقي بصمتها المخيف على بعد بضعة أمتار من مياه الفرات الحزين.

فهل كان الشاعر (غوته) هو الأديب والشاعر الأوروبي الوحيد الذي تأثر بفكر

أهل البيت علیهم السلام وبشخصياتهم الاستثنائية التي تفيض فكراونورا على العالمين.

وهل كان أولئك المفكرون والأدباء الأوروبيون المذكورون سابقا في كتابنا هذا

ص: 285

هم كل من تحدث عن فاجعة كربلاء التي غيرت مسار التاريخ الإسلامي؟!

إنها أسئلةتستحق الإجابة، وتستحق أيضا العناء الذي نبذله من أجل الكشف عن تلك الإجابات الشافية، ولذلك، دعونا ندخل الآن بشكل مباشر في عمق موضوعنا المطروح دون اللجوء إلى المزيد من المقدمات

يقول الدكتور اليوغسلافي الأصل (محمد موفاكو) عن مسألة دخول الإسلام إلى منطقة البلقان الأوروبية وتأثر أبناء تلك المناطق الهامة من أوروبا بالكثير من الأحداث الهامة التي شهدتها ساحة التاريخ الإسلامي: (لقد شهد القرن السابع عشر ذروة انتشار الإسلام في صفوف الألبانيين، إذ أصبحت غالبية الألبانيين منذ هذا القرن في صف الإسلام، ويثير هذا التحول الجماعي للألبانيين نحو الإسلام اهتمام الباحثين نظرا لأنه يشكل ظاهرة في ذاتها، ويعود هذا إلى أن الألبانيين هم الأمة الوحيدة في البلقان التي اعتنقت الإسلام بغالبيتها)(1).

وعن أثر الفاجعة الكربلائية في أدب تلك المنطقة الأوروبية التي كانت، ولا تزال، ساخنة سياسيا بسبب أهميتها والصراع الدائم عليها، يتابع الدكتور (موفاكو) كلامه قائلا في كتابه (الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية): (وفي ذلك الوقت - أي في النصف الأول من القرن التاسع عشر - سجل الأدب الألباني نقلة كبيرة وجديدة، وذلك بملحمة الشاعر (داليب فراشري) (Dalip Frasheri) عن أحداث کربلاء، والتي يبلغ عدد أبياتها /56/ ألف بيت من الشعر، وقد دخلت هذه الملحمة تاريخ الأدب الألباني على اعتبارها أول ملحمة شعرية في اللغة الألبانية، كما أنها لا تزال إلى

ص: 286


1- د. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدي العربية (سلسلة عالم المعرفة) العدد /68/ إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت. عدد آب 1983 ص 91.

الآن أطول ملحمة شعرية في اللغة الألبانية)(1)

إذن، فالشاعر الألباني (داليب فراشري) قد اشتهر بملحمته الشعرية الضخمة

(الحديقة) التي تعتبر أول وأطول ملحمة في تاريخ الأدب الألباني، وربما كانت هذه الملحمة الشعرية عن مأساة كربلاء وعن شخصية الإمام الحسين عليه السلام وبطولاته هي إحدى أطول الملاحم الشعرية في العالم قاطبة.

ومن المعروف عن هذا الشاعر الألباني العظيم أنه ولد في أسرة مليئة بأرباب الفكر والأدب في قرية تدعى (فراشر)، التي كانت تضم تكية معروفة للطريقة البكتاشية، حيث أمضى فيها معظم حياته بعد أن أصبح من أتباع هذه الطريقة الصوفية، وقد انتهى الشاعر (فراشري) من كتابة ملحمته الشعرية الضخمة بتاريخ / 1258 ه-/ الموافق لسنة / 1842م/.

وتتألف هذه الملحمة - كما ذكرنا سابقا - من ستة وخمسين ألف بيت من الشعر حول فاجعة کربلاء، وهي عبارة عن محاولة ألبانية جادة لتجاوز ما قام به الشاعر (فضولي البغدادي) في كتابه (حديقة السعداء)، وقد قسم الشاعر (فراشري) عمله الملحمي إلى عشرة فصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة.

وفي مقدمة تلك الملحمة يستعرض الشاعر (فراشري) تاريخ الطريقة البكتاشية في المناطق الألبانية، حيث يتحدث عن أهم الشخصيات التي ساهمت في صياغة ونشر هذه الطريقة الصوفية، ثم ينتقل بعد ذلك للحديث المطول عن تاريخ العرب قبل الإسلام وبعده وما صاحب ذلك من تطورات إلى معركة كربلاء الخالدة، حيث يصور بالتفصيل أحداث تلك المعركة ويرثي من سقط فيها من الشهداء الأبرار وعلى رأسهم

ص: 287


1- نفس المصدر السابق ص107

الإمام الحسين عليه السلام(1)

وبما أننا الآن في أجواء الكلام عن الملاحم الكربلائية، لذا يجب علينا أن نتوقف مع شاعر جديد وملحمة شعرية جديدة، ففي هذا الاتجاه لدينا أيضا ملحمة شعرية ثانية للأخ الأصغر للشاعر (داليب فراشري)، إنه (شاهین فراشري) ( Shahin Frasheri)، الذي انتهى من كتابتها سنة / 1868م/، وتتألف ملحمة الشاعر (شاهین فراشري)، التي تحمل عنوان (مختار نامة)، من عدد كبير أيضا من الأبيات الشعرية التي تصل إلى حوالي اثني عشر ألف بيت من الشعر، وتعتبر هذه الملحمة هي الملحمة الثانية في الأدب الألباني بعد ملحمة (الحديقة).

ويعلق الدكتور (موفاكو) على هاتين الملحمتين العظيمتين بقوله: (وقد ترکت هاتان الملحمتان تأثيرا كبيرا في الأدب الألباني، سواء من ناحية تأصيل الملحمة في هذا الأدب أو فيما يتعلق باستمرار حضور کربلاء في الأدب الألباني، وحتى في أدب عصر النهضة القومية الألبانية)(2)

وغني عن القول إن أدب الملاحم الشعرية في الأدب العالمي المعاصر بات قليلا جدا، هذا إذا لم يكن معدوما أو شبه معدوم، ولا نعرف - على حد علمنا - أن هناك من نظم الشعر الغنائي والملحمي بشكل لافت للنظر في الأدب العالمي المعاصر مثل الشاعر والأديب اليوناني الكبير (نیکوس کازانتزاکیس) الذي توفي عام / 1957/ فملحمة (کازانتزاکیس) المسماة (الأوديسا) تتألف من / 33333/ شطرا من الشعر، وهي صورة ملحمية رائعة للمسار الفكري لكازانتزاكيس على طريق الحياة وقد حاکی

ص: 288


1- نفس المصدر السابق ص149
2- نفس المصدر السابق ص152

في نظمها ملحمة (هوميروس) شاعر اليونان القديم وصاحب الملحمتين الشهيرتين (الإلياذة) و (الأوديسا)(1)

ولذلك، فإن هذا اللون من الأدب بات قطعا نادرا جدا، وسيغدو عن قريب ۔ بلا ریب - جزءا هاما من الأدب التراثي العالمي العام سواء كانت الملحمة الشعرية تتحدث عن تجربة شخصية في الحياة كما هو الحال في ملحمة الشاعر اليوناني (کازانتزاکیس)، أو أنها تتناول تجارب أمم وشعوب أو سيرة أبطال وقادة صنعوا المجد والفخار بقيمهم ومبادئهم كما هو الحال في ملحمتي الشاعرين الألبانيين (دالیب) و(شاهین فراشري).

وقد نستغرب كثيرا إذا عرفنا أن هناك شاعرا ملحميا ثالثا يحمل اسم (فراشري)

أيضا، إنه الشاعر (نعیم فراشري) صاحب ملحمة (كربلاء) العظيمة.

ولكننا لن نتحدث الآن عن هذا الشاعر الكبير، بل إننا سنرجي الكلام عنه كي نتحدث بالتفصيل عن ملحمته الشعرية مع إيراد بعض الشواهد الهامة منها في نهاية هذا الفصل، ولذلك سنتابع كلامنا الآن عن بقية الشعراء الذين تحدثوا عن الإمام الحسين عليه السلام وثورة كربلاء من خلال أشعارهم التي لا تنتمي إلى النوع الملحمي الذي كنا في معرض الحديث عنه منذ قليل.

ويمكننا أن نذكر من أولئك الشعراء - على سبيل المثال - الشاعر المسلم حسن کامبيري (Hasan Kamberi)، المتوفى في بداية القرن التاسع عشر، ومن أقدم الأعمال الشعرية المعروفة لهذا الشاعر هي تلك القصيدة الطويلة التي يتجاوز عدد

ص: 289


1- نیکوس کازانتزاكيس، المسيح يصلب من جديد ، ترجمة: شوقي جلال،دار طلاس . دمشق،ط1996/3 ، راجع المقدمة بقلم المترجم، ج 1 ص10

أبياتها الشعرية المئة وهي بعنوان (معاوية)، ويشير هذا العنوان، مع مضمون القصيدة إلى حقيقة أن معاوية قد تحول إلى رمز للشر الذي نبعت منه بقية الآثام والشرور، هذابالإضافة إلى أن لهذا الشاعر الموهوب عدة قصائد أخرى تتناول واقعة كربلاء ومآثر الإمام الحسين عليه السلام ، ويرى النقاد والباحثون أن الشاعر (كامبيري) هو أول من استثمر کربلاء في الشعر الألباني(1)

ويعد الشاعر (بابا أحمد التوراني) شاعرا لامعا ومتميزا بحبه لسيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام ، وقد أصبح هذا الشاعر في عام / 1908/ رئيسا لتكية منطقة (توران) ومن شعره المشهور عن فاجعة كربلاء، قوله في إحدى قصائده:

(بكل ما لدي من قوة

هتف الأمان

یا حسين الشهيد!

وفتح الله يديه وأنقذني

یا آل المرتضى، لا تنسوني،

ولا تخرجوا روحي من الخدمة تحت لواء کربلاء)(2).

وهناك أيضا شاعر آخر لا يقل أهمية عن الشاعر (التوراني)، إنه الشاعر المعروف باسم (باب ملج)، وقد كان حيا في نهاية القرن التاسع عشر، يتصف شعر هذا الشاعر بالشفافية والغزارة وبالتنوع والجزالة، ويمكننا أن نذكر هذا المقطع من إحدى قصائده الكثيرة التي يتحدث فيها عن درب الآلام التي ارتضاها الإمام الحسين عليه السلام لنفسه في

ص: 290


1- د. محمد موناكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص132
2- راجع مقالة: تأثير الملحمة الحسينية على الثقافة الألبانية، إعداد : أطياف النور وهذه المقالة موجودة على الموقع التالي : WWW. Atyaf - alnoor. net

سبيل الحق والفضيلة وطلبا لخلود راية التوحيد الإلهي:

(لا تبک من العذاب والعناء،

فقد تحمل الحسين الكثير من الألم والمعاناة،

لا تضيع الطريق،

الآلام تقربك من الحياة .

فهذا الإمام (زين العابدین)،

انظر إلى ما عاناه في طفولته،

ورغم أنه كان صغيرا،

إلا أنه تعرف على الآلام جميعا)(1)

ويعتبر الشاعر (بابا على التوموري) شاعرامتصوفا، ومن المعروف عنه أنه أحد أشهر دراویش (بريشتينا) في إقليم كوسوفو، ولهذا الشاعر منظومة شعرية حماسية في کربلاء وفي بطولة أبي الأحرار الإمام الحسين عليه السلام ، وله ضمنها قصيدة تحمل عنوان (شهید کربلاء)، جاء فيها:

(ابن فاطمة، وبرعم محمد

هجر المدينة، وانطلق نحو الله.

جميع الذين رافقوه

كانوا يعلمون بمصيره في كربلاء،

ورغم ذلك لم يتخلوا عنه)(2)

ص: 291


1- راجع نفس المقالة السابقة على الموقع المذكور
2- راجع نفس المقالة السابقة على الموقع المذكور.

وعلى كل حال، بإمكان القارئ الكريم إذا أراد التوسع في مسألة التأثيرات الفكرية الإسلامية على تلك المنطقة، وعلى ما يجاورها من مناطق أوروبية أخرى، من خلال ظهور تلك الآثار الفكرية الإسلامية في أعمال ونتاجات أدباء وشعراء أبناء تلك المناطق، أن يعود لما كتبه المفكرون في هذا المجال من أمثال الدكتور (أحمد سمایلوفتش)، الأستاذ السابق للعقيدة والفلسفة الإسلامية بكلية الدراسات الإسلامية في سراييفو - يوغسلافيا، ورئيس المشيخة الإسلامية لجمهوريات البوسنة والهرسك وكرواتيا وسلوفينيا، وبإمكان القارئ أن يعود أيضا إلى كتابات الدكتور (محمد موفاكو)، وكتابات الدكتور (جمال الدین سید محمد) المتخصص بالأدب اليوغسلافي والذي يعالج في العديد من صفحات کتابه (الأدب اليوغسلافي المعاصر) مسألة التأثير الفكري الإسلامي على العديد من الأدباء اليوغسلافيين الذين تأثروا بالكثير من القيم والمبادئ الإسلامية النبيلة كالبطولة والأخلاق والفضيلة في حب الوطن(1)

أما الآن، فيمكننا القول إننا شارفنا تقريبا على الانتهاء من هذه الرحلة الطويلة مع کربلاء في الشعر العالمي، ولذلك، كنا قد وعدنا سابقا بأن نتوقف مليا عند ملحمة

(کربلاء) للشاعر (نعیم فراشري)، وها نحن نفي بوعدنا ونقدم بعض المعلومات الهامة عن تلك الملحمة الشعرية الطويلة، وعن حياة ذلك الشاعر الذي أراد التوفيق بين حماسة القومي الطاغي وبين عواطفه الدينية ومبادئه الروحية العميقة.

ومن أجل التوفيق بين القومية والدين، عكف الشاعر (نعیم) خلال سنوات

ص: 292


1- د. جمال الدين سيد محمد، الأدب اليوغسلافي المعاصر (عالم المعرفة) العدد / 81/، المجلس الوطني للثقافة . الكويت، عدد أيلول / 1984/ ص235. 244، وصفحات متفرقة لاحقة.

/1892- 1895/ على كتابة ملحمة (كربلاء) التي صدرت أخيرا في سنة / 1898/ في ما يقارب عشرة آلاف بيت من الشعر، وقد قسم الشاعر ملحمته هذه إلى خمسة وعشرين فصلا، دون عناوین، بحيث يتناول في كل فصل حادثة أو أكثر.

وعلى سبيل المثال، يتحدث الشاعر (نعیم) في الفصل الأول من ملحمته عن العرب قبل الإسلام، وعن ظهور النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم ومقاومة الوثنيين له، وعن كفاح النبي صلی الله علیه و آله وسلم حتى هجرته إلى المدينة وانتصار الإسلام، كما يتحدث في هذا الفصل عن وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعن صراع السقيفة، وعن المشاكل التي أعقبت الخلافة حتى مقتل عثمان بن عفان.

وهكذا تتوالى الفصول الواحد تلو الآخر، فيتحدث عن بطولات الإمام علي عليه السلام وعن مآثره الخالدة في سبيل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والرسالة، ويتحدث عن فضائح مناوئيه وعلى رأسهم معاوية صاحب المكائد والدسائس والمؤامرات على الإسلام وعلى أهل البيت النبوي الشريف عليهم السلام .

وفي الفصل التاسع، تحديدا، يبدأ الكلام الفعلي عن بداية الفاجعة.

ففي هذا الفصل يتحدث (نعیم) عن تقدم الإمام الحسين عليه السلام نحو الكوفة، حيث يبدأ الموقف بالتأزم والتوتر، ففي الطريق يصل إلى الجماعة المحيطة به خبر استشهاد مسلم بن عقیل فتنهار أعصاب الكثير منهم، ويهرب أكثرهم تاركين الإمام الحسين عليه السلام مع حفنة قليلة من أصحابه المخلصين، الذين باعوا أنفسهم لله وحده عن طريق مبايعتهم الصادقة للحسين عليه السلام والثبات معه حتى اللحظة الأخيرة.

وتتابع هذه الحفنة القليلة المخلصة المسيرة مع الإمام الحسين عليه السلام إلى أن يعترض طريقها (الحر بن یزید التميمي الرياحي) على رأس قوة من ألف فارس، وهنا

ص: 293

يقدم لنا الشاعر (نعیم) صورة اللحظة المؤثرة عن طريق الحوار بين الاثنين :

(قال الإمام: قل لي،

هل جئت لتحاربني أو لتساعدني؟

هبط (الحر) ليقبل قدمه

وأجاب: أنا من الأصحاب،

أنا أؤمن بعلي

كما أؤمن بالله،

ولذا أرجوك أن تعود)

وأمام هذا الرجاء الحار يزداد الإمام إصرارا على متابعة سيره:

(لن أعود أبدا للوراء،

بل سأموت هنا کر جل!

فأنا أسعى في سبيل الحق

وأحترق في سبيل الحقيقة

لإنقاذ الإنسانية!

الموت يبدو أمام أعيننا

فنحن لسنا خالدين في هذه الحياة،

أفلن نموت مرة

فلم نبقى إذن على قيد الحياة

في هذا المساء ؟ ! )(1)

ص: 294


1- محمد موفاكو، کربلاء في الأدب الألباني، مجلة (المعرفة) العدد /213 / السنة /18/، عدد تشرين الثاني عام 1979، إصدار وزارة الثقافة بدمشق، ص96

وفي الفصل العاشر من الملحمة يتحدث الشاعر العظيم (نعیم) عن اللحظات الأولى من وصول الإمام الحسين عليه السلام إلى أرض کربلاء، وعن المناوشات الأولى مع بعض رجال (ابن زیاد) و عندما يسمع الطاغية ابن زياد في الكوفة بموقف الإمام الحسين علیه السلام الرافض للعودة والتراجع إلى المكان الذي جاء منه، يطلب من رجاله الأشداء الأشرار أن يشددوا الحصار على الإمام عليه السلام وأصحابه المخلصين له، وأن يقطعوا عنهم ماء الفرات، وهنا تبدأ المعاناة الشديدة من العطش المضني وتمضي اللحظات الحرجة بطيئة للغاية أمام هذه الأزمة الجديدة:

(استسلم الإمام للنعاس

فرأى الله في نومه،

محمدا وعليا

وأمه فاطمة

مع أخيه الحسن،

رأى كل من في تلك الحياة

رأى عرش الله،

رأى الملائكة وهم يبكون

وقال له كل من كان هناك :

نحن في انتظارك)(1)

وفي الفصل الخامس عشر، وهو من أهم الفصول في الملحمة، يصور لنا (نعیم)

ص: 295


1- نفس المصدر السابق ص97

بطولات عظيمة ومميزة من معركة كربلاء.

فيحدث في البداية عن (علي الأكبر) علیه السلام، الذي (حول باستشهاده النهار إلى ليل)، وقد أثار استشهاده العظیم حماسة الإمام علي زين العابدین علیه السلام، الذي كان مريضا فتمالك نفسه وخرج يطلب أباه الإمام الحسين عليه السلام ليستأذنه في الخروج إلى میدان القتال، إلا أن أباه الإمام الحسين عليه السلام لا يعطيه الإذن في ذلك، بل يقنعه بالصبر والهدوء، وبالبقاء جانبا من خلال شرح فلسفة الحياة والموت:

(قال الحسين: البطل لا تهزمه المعاناة

أولئك ذهبوا إلى تلك الحياة

لدى الله الحق

حيث اجتمعوا مع الله

ومع محمد وعلي، ومع الأم فاطمة والحسن

هذه الحياة مثلها مثل النعاس

فالروح تصحو بعد الموت،

والإنسان الحقيقي

لا يموت أبدا في هذه الحياة)(1)

وفي الفصل السابع عشر، وهو الفصل المتعلق بذروة الأحداث في الملحمة يحدثنا الشاعر عن فراق الإمام الحسين عليه السلام لنسائه وأولاده، وبعد ذلك، يصور لنا هجوم الحسين عليه السلام على أعدائه، مما أدى إلى تحويل أرض كربلاء إلى بحيرات من

الدماء:

ص: 296


1- نفس المصدر السابق ص102

(كان بإمكانه أن ينال الجميع

لكنه كان يتلظى دون ماء

اقترب من النهر

توقف قليلا وتفكر،

تذكر أصحابه

فانهمرت دموعه)

وعاد الإمام الحسين عليه السلام ليحارب ببطولة وشجاعة، وبإيمان كامل برسالته في إحياء معالم دین جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم حتى بلغت جراحة السبعين جرحا، ومع ذلك، لم يمتنع الإمام الحسين عليه السلام عن متابعة هجومه الفردي الساحق على أعدائه الذين كانوا يفرون من أمامه كما تفر الطرائد المذعورة أمام الأسد الجريح.

ولكن، وفي تلك اللحظة الحاسمة، يطبق المزيد من الجنود الأشقياء على الإمام عليه السلام من كل جهة وصوب، ولكنه يبقى صابراوصامدا حتى اللحظة الأخيرة إلى أن نفذت قوته أخيرا فسقط شهيدا وأسلم نور روحه الله السميع البصر الذي كان شاهدا على كل ما حدث لابن بنت نبيه الكريم صلی الله علیه و آله وسلم :

(سقط عمود الإنسانية،

نور الله،

فاهتزت سهول كربلاء

وأظلمت السماء،

اهتزت كل الأرض

ص: 297

لدى سقوط الإمام)(1)

أما في الفصول اللاحقة، فيتحدث الشاعر (نعیم) عن مصير يزيد اللعين وعن

مصير كل من سار على نهجه الشيطاني الذي رسمه له أبوه معاوية منذ زمن طويل.

وبإمكاننا أن نلاحظ أن الشاعر (نعیم) قد خصص آخر الفصول للحديث المطول عن آثار الفاجعة وعن الدروس المستخلصة منها وأثر ذلك على مستوى الأمة الإسلامية

والأسرة الإنسانية الآدمية.

وبالطبع، سنعود لاحقا للحديث عن الدروس التي استخلصها الشاعر الملحمی (نعیم فراشري) من فاجعة كربلاء، وسيكون الحديث عن ذلك في الفصل الأخير من كتابنا هذا الذي بين أيدينا إن شاء الله تعالی.

وهنا أريد أن أعلق على كل ما سبق مضيفا وموضحا أن هناك الكثير من رجال الفكر والأدب والشعر في العالم قد تحدثوا في مؤلفاتهم ودواوينهم عن الإمام الحسين عليه السلام وعن فاجعة كربلاء التي لحقت به وبأهل بيته الكرام عليهم السلام، ولكن كان حدیثهم عنه مقتضبا ومختصرا جدا، وليس معنى ذلك أنه كان مجهولا أو شبه مجهول بالنسبة إليهم، بل على العكس من ذلك تماما، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام معروفا تماما بالنسبة إليهم كما هو حال أبيه علي عليه السلام وجده محمد صلی الله علیه و آله وسلم ، ولذلك كانوا يرون أن الحديث عن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم هو بالضرورة الحديث عن حفيده الإمام الحسين عليه السلام الذي كان نسخة طبق الأصل عن جده الرسول محمد بن عبد الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقد عبر أحدهم عن ذلك خير تعبير عندما شبه العلاقة بين الإمام الحسين عليه السلام وجده المصطفى الأمين صلی الله علیه و آله وسلم بقوله:

ص: 298


1- نفس المصدر السابق ص 105

(إن خصائص الوراثة، بعد أن كانت مجتمعة في النبي صلی الله علیه و آله وسلم الذي هو نقطة الدائرة، انتقلت بالحسين وأخيه اللذين هما الحافظان للنسل النبوي من الانقطاع، إلى محیط أوسع شكل دائرة كبرى)(1)

ولذلك، فإننا لا نبالغ ولا نقدم شيئا جديدا إذا قلنا إن الكثير من الشعراء الكبار في

العالم، من أمثال الشاعر الفرنسي الشهير (لامارتين) (Lamartine )(

1869-1790)

الذي قال عن الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، جد الإمام الحسين الشهيد عليه السلام : (ما من رجل غیر محمد نذر نفسه لهدف كهذا الهدف، فقد كان هذا الهدف مما

يفوق القدرة البشرية، هدم المعتقدات الباطلة التي تتخذ زلفی وواسطة بين الخالق والمخلوق، ورد الله إلى الإنسان والإنسان إلى الله)(2)، أو من أمثال الشاعرين الروسين الكبيرين (بوشكين) (Pouchkine) (1799- 1837) و(میخائیل ليرمونتوف) (1814-1841 ) (Lermontov) اللذين عکسا حبهما القوي للرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم من خلال قصائدهما العديدة التي تمجد أخلاقه وتقد رسالته وتثمن عاليا ثورته على العبودية وعلى الظلم والجهل والفساد في الأرض، فلا نبالغ - إذن - إذا قلنا عن هؤلاء الشعراء، وعن غيرهم ممن امتدح ثورة محمد صلی الله علیه و آله وسلم الفكرية والاجتماعية، إنهم اقتصروا في قصائدهم على ذكر محمد صلی الله علیه و آله وسلم بشكل صريح دون غيره من أهل بيته عليهم السلام، بما فيهم الإمام الحسين عليه السلام ، الذي اكتفى البعض منهم بذكره بشكل موجز وقصير لسبب واحد وجيه وهو السبب الذي ذكرناه منذ قليل، ولكن للزيادة في التوضيح نقول إن السبب في ذلك هو إدراكهم أن الكلام عن

ص: 299


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق، راجع هامش الصفحة 291
2- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، طبع دمشق2006 ص70.

الثورات التي فجرها الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم في مجتمعه، والأهداف الإنسانية العامة التي نادي بها بین عموم الناس هي نفس الثورات التي جدد جذوتها حفيده الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، وهي نفس الأهداف التي نادي الحسين عليه السلام بإعادة تحقيقها في المجتمع الإسلامي وقتذاك، وبالتالي، فكلامهم عن محمدصلی الله علیه و آله وسلم بالتصريح هو عين الكلام عن الحسين عليه السلام بالتلويح.

ففي كتاب الشاعر (بوشكين) الذي يحمل عنوان (قبسات من القرآن)،نستطيع أن نقرأ في القصيدة السادسة منه معاني البطولة وقيم الجهاد في سبيل الله والمبادئ، ونستطيع أن نقرأ فيها أيضا رؤية (بوشكين) الخاصة لمعاني الشهادة وقيمة الشهداء(1)

وبنفس الوقت، بإمكاننا أن نقرأ العديد من المقاطع الشعرية للشاعر (ليرمونتوف)

الذي يبين لنا من خلالها مدى تعلقه بالإسلام، وعمق تأثره بفكرة الثورة والإقدام على الموت في سبيل المبادئ والقيم(2)

ولا يخرج فيلسوف ألمانيا وشاعرها الأكبر (یوهان غوته) عن هذا الإطار في حدیثه ضمن قصائده الشعرية عن الإسلام وعن الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي غير بثوراته المتنوعة وجه التاريخ، ولكن ما يميز الشاعر الألماني (غوته) عن الكثير من بقية الشعراء هو أنه - وكما رأينا سابقا - قد كان أكثر وضوحا وصراحة في الحديث عن محمد صلی الله علیه و آله وسلم وعن أهل بيته عليهم السلام، علي وفاطمة وابنيهما الحسن والحسين عليهما السلام .

وللتأكيد على صحة ما نقول بشأن التصريح والتلويح في قصائد الشعراء التي تتناول الحديث عن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم وعن مآثره وخصاله ومبادئه التي ورثها

ص: 300


1- د. مکارم الغمري، مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي (عالم المعرفة)، العدد /155/ إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، تشرين الثاني 1991، ص159
2- نفس المصدر السابق، راجع من الصفحة 18 حتى ص 201

لأهل بيته عليهم السلام من بعده، دعونا ننهي حديثنا حول ذلك من خلال هذا الشاهد الهام الأحد أرباب السياسة والفكر من الهندوس.

من المعروف عن رجل السياسة البارع والمفكر الهندوسي اللامع (غاندي) أنه لم يكن شاعرا، ولكنه كان محبا جدا للشعر، وعلى الرغم من أنه ليس شاعرا إلا أننا سنختتم فصلنا هذا المخصص للحديث عن كربلاء في الشعر العالمي بهذا الكلام المميز لرجل هندوسي عظيم لم يسبق له أن نظم شيئا من الشعر.

ولقد آثرنا أن نستشهد بأقواله الآن للتأكيد على أن عدم ذكر الإمام الحسين عليه السلام بشكل صريح في أقوال بعض المفكرين والشعراء ما هو إلا إقرار أكيد منهم بأن ذكر جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم هو بحقيقته ذكر له ولبقية أفراد أهل البيت المحمدي الذين حملوا رايته الرسالية من بعده.

وبالعودة إلى ما قاله الزعيم (غاندي)، نلاحظ وبشكل صريح أن هذاالزعيم الهندوسي يقول وبكل صراحة : (إن نبي الإسلام هو الذي قادني إلى المناداة بتحرير الهند، فلا تحرموا الناس من المساواة التي نادى بها الإسلام ونبي الإسلام)(1).

نعم، هذا ما قاله الزعيم والمفکر (غاندي) عقب تحرير الهند من الاستعمار

البريطاني، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو:

هل تضمن كلام (غاندي) عن الرسول محمد صلی الله علیه و آله وسلم شيئا عن حفيده الحسين علیه السلام الذي حمل راية إحياء معالم دین جده؟!

وهل عدم ذكر الإمام الحسين عليه السلام بشكل صريح يدل على عدم المعرفة به أو على تجاهل دوره وقيمته وقيمة ثورته الكربلائية التي تعتبر امتدادا طبيعيا لثورة جده

ص: 301


1- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، مصدر سابق ص137

صلی الله علیه و آله وسلم؟!

في الحقيقة، إن الكلمة الأخرى التالية لذاك الزعيم الهندوسي هي القادرة على

إعطائنا الجواب المطلوب، وإجلاء غبار الشك عن وجه الحقيقة.

يقول (غاندي) في كلمة أخرى له تتعلق أيضا بتحرير الهند وبانتصارها على كل

أعدائها من جهل و تخلف وفقر تسبب به الاستعمار البريطاني:

(على الهند إذا أرادت أن تنتصر، أن تقتدي بالإمام الحسين)(1)

وهكذا نرى، ومن خلال المقارنة بين المقولتين اللتين قالهما ذلك الزعيم والمفكر الهندوسي (غاندي)، أن المقولة الأولى التي ذكر فيها الرسول المصطفى محمد صلی الله علیه و آله وسلم لا تلغي ذكر الإمام الحسين عليه السلام حتى ولو لم يذكر فيها علانية، في حين أن المقولة الثانية صرحت علنا بذكر الحسين عليه السلام ولم يذكر فيها جده المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وما كان ذلك من الزعيم (غاندي) إهمالا لذکر محمد صلی الله علیه و آله وسلم وتجاهلا لدوره في دفع عجلة التاريخ والتطور للأمام، وإنما كان ذلك منه للتأكيد على أن ذكر أحدهما هو بالضرورة ذكر للآخر حتى ولو لم يذكر اسمه بشكله الصريح.

وعلى كل حال، وبعد هذه الجولة الشعرية المطولة في رحاب الشعر العربي والشعر العالمي، وبعد اطلاعنا على آراء ووجهات نظر أولئك الشعراء من خلال قراءتنا لدواوينهم، وتحديدا للقصائد التي تتحدث عن الدم الحسيني الذي انتصر على سطوة السيف، أرى من واجبي أن لا أبخس المرأة الشاعرة حقها من الكلام.

ولذلك فقد تعمدت منذ البداية أن أنهي هذا الفصل بالوقوف مع شاعرة بارزة تكون بمثابة الرمز الأنثوي الذي يمثل بشكل عام كل الشاعرات اللواتي تحدثن عن

ص: 302


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص44.

معاني وقيم الفاجعة التي أحدقت بالإمام الحسين عليه السلام.

وقد ركزت على نقطتين أساسيتين عند اختياري للشاعرة الرمز التي وقع اختيارنا عليها، فالنقطة الأولى تتجلى بالمكانة المرموقة وبالمنزلة الأدبية الرفيعة التي يجب أن تتميز بها الشاعرة المختارة، أما النقطة الثانية، فضرورة أن تكون تلك الشاعرة غير شيعية.

وبالفعل، فقد وقع اختيارنا على الشاعرة السورية البارزة (هند هارون) فمن هي

هذه الشاعرة (هند هارون) الملقبة بشاعرة الأمومة؟!

لقد ولدت هذه الشاعرة في الثلاثينيات من القرن العشرين في مدينة اللاذقية على الساحل السوري في أحد البيوتات المشهورة بثقافتها وبجهادها ضد الاستعمار الفرنسي.

وقد تلقت الشاعرة (هارون) تعليمها في مدينة اللاذقية، وتأثرت كثيرا بكتب

التراث الإسلامي وبالقرآن الكريم.

قرضت شاعرتنا الشعر في سن مبكرة، وشاركت في مناسبات و مهرجانات ومؤتمرات هامة في موسكو والقاهرة وغيرهما أيضا، ولهذه الشاعرة المتميزة العديد من الأعمال الفكرية والأدبية، ومن أهم هذه الأعمال التي أنتجتها هذه الشاعرة المسلمة السنية الفاضلة:

1- دیوان عمار: وحصلت الشاعرة من خلاله على شهادة الماجستير في الآداب .

2- وهج البردة: وهي قصيدة شعرية تعارض فيها (البوصيري) و(أحمد شوقي)

في قصيدتي البردة ونهج البردة على نفس البحر والقافية.

3- المرأة العربية والشعر (من العصر الجاهلي وحتى عصر الانحدار).

ص: 303

4- دراسة تحليلية عن (تجليات الرحمن من أضواء القرآن للدكتور أسعد علي). 5- مجموعة شعرية: وهي مجموعة تحتوي على مختلف أغراض الشعر، وقد تم

جمعها في حوالي خمسة آلاف قصيدة، جمعتها خلال رحلة عمرها.

6- بين المرسى والشراع (ديوان شعر): تغنت من خلاله بالإمام الحسين بن علي ابن أبي طالب علیه السلام، ورأت بمصابه ومصاب أمه الزهراء عليها السلام فيه عزاء كبيرا لها في كل مآسيها الشخصية خلال حياتها.

7- ملحمة شعرية مطولة حول الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام(1)

وهذه هي باختصار اللمحة الموجزة التي أردنا تقديمها للقارئ عن هذه الشاعرة السنية المتألقة، ولذلك - ومنعا للإطالة - دعونا نقف على موقف شاعرة الأمومة من آلام الحسين عليه السلام المتولدة عن ثورة الكرامة على أرض كربلاء

ففي مطلع قصيدة (استشهاد الحسين)، تقول الشاعرة:

من دم في كربلاء *** من ينابيع السخاء

عندما أهوى الحسین *** کل عین منه عين

یارسول الله قدغاب الحسين *** أي خطب في ثرانا... أي بين؟!

کم حبا في حجرك الحاني صغيرا *** کم حملت الطفل فوق المنكبين !!(2)

وبعد هذه المقدمة الشعرية التي ربطت الشاعرة من خلالها بين الحسين عليه السلام وبين جده الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم، نراها تنتقل بعد ذلك للربط بين الإمام الحسين عليه السلام وبين أمه السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام - زوجة المرتضى وابنة المصطفى - بأسلوب

ص: 304


1- الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ في جبال بهراء وتنوخ، طبع دمشق،ط2006/1 ، ص 541.
2- هند هارون، بين المرسى والشراع، وزارة الثقافة . دمشق، 1984، ص 122

شاعری حزين مليء بالمشاعر والأحاسيس الإنسانية الصادقة، وها هي شاعرتنا تتخيل السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام وهي تنظر من الأعالي إلى ابنها الذبيح فوق أرض کربلاء، فتنزل من علياء السماء إلى ابنها المذبوح ظلما من الوريد إلى الوريد، فتمسح بيدها الطاهرة على جراحه العميقة وتحنو عليه بكل رفق وحنان مثلما يحنو النخيل على التراب الحزين على شط الفرات.

وها هي تصعد الآهات بداخلها لتتماهى آلامها وآهاتها مع آلام السيدة الزهراء علیها السلام فتقول: (یا دماء نزفت في كربلاء

وانحنت (فاطمة) فوق الدماء

وكأني ألمح الروح الحزينة

هومت فوق القتيل

من سماوات السكينة

تمسح الجرح الثخين

نازفا تحت النخيل،

آه ما أشجي الأنين...

من قلوب حانیات

من صدور الأمهات

من تراب ضم أطياب الجراح

حزنت كل البطاح

ومنادي القوم صاح:

ص: 305

- (یا لثارات الشهيد)(1)

وبعد هذه الصور الشاعرية المؤثرة التي تتراءى السيدة الزهراء عليها السلام من خلالها وهي تهبط إلى ابنها الحبيب الحسين عليه السلام ، نرى أن الشاعرة تنقلنا بعد ذلك إلى مشهد آخر لا يقل أهمية وتأثيرا عن مشهد الزهراء عليها السلام، ففي هذا المشهد الجديد نستطيع أن نرى الإمام عليا عليه السلام واقفا على أبواب السماوات العلى ليستقبل ابنه الحسين وهو مضرج بدمائه وجراځه لا تزال تنزف دما أحمر يرسم طريقا طويلا يبدأ من كربلاء وينتهي إلى السماء.

فلنستمع إذن إلى هذه الشاعرة العبقرية (رحمها الله) وهي تقول:

(وأراني كالشعاع

عندما حان الوداع

ودع الدنيا الحسين

قاصدا نهر اللجين

و(علي)... من علاه

هش للوجه الحبيب

قبل الخد الرطيب

بالدم المسفوح في أرض الشقاء

تستقي منه السماء)(2)

وليس هذا فحسب، فالشاعرة (هارون) لا تكتفي بذكر هذا المشهد المؤثر والذي

ص: 306


1- نفس المصدر السابق ص123
2- نفس المصدر السابق ص126

يعبر بصدق عن مكنونات نفسها التي صقلها الحب والولاء من جهة، والألم ومرارة الحياة ونكباتها المروعة من جهة أخرى، بل يستطيع القارئ لديوانها الذي يحمل عنوان (بين المرسى والشراع) أن يقرأ أيضا المشهد المتخيل للقاء الحميم بين الإمام علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين عليه السلام في أعالي السماء.

ومن الجدير ذكره هنا هو أن هذه الشاعرة المبدعة قد رزقت في حياتها بطفلها

(عمار) الذي ملأ عليها الدنيا وأنساها هموم الحياة وآلامها المريرة، ولكن - وللأسف الشديد - فقد وقع طفلها فريسة لمرض عضال وهو في الرابعة من عمره وقضى عليه دون شفقة أو رحمة، وهكذا مضى عمار إلى ربه تاركا وراءه أمة ذاهلة من هول الفجيعة وألم المصاب، ذلك الألم الذي فجر شعر الأمومة فيها بعد أن عجزت عن فعل أي شيء لابنها وهي تراه يموت ببطء أمام عينيها، وكان لموت ابنها عمار دور أيضا في تعلقها الشديد بأهداب الزهراء عليها السلام، حيث وجدت أن العزاء الوحيد القادر على أن ینسيها آلامها ولوعة فراق ابنها عمار في الحياة هو ما حل بأهل البيت علیهم السلام من مصائب، وبشكل خاص مصائب ابنة الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، فاطمة الزهراء، أم الحسن والحسين (عليهم السلام جميعا)(1)

وهنا نصل إلى خاتمة الكلام عن هذه الشاعرة التي أبدعت بالفعل في كلامها عن سید الشهداء وعن أبيه المرتضى وأمه الزهراء عليها السلام، ولكن بقي علينا أن نذكر خاتمة قصيدة ( استشهاد الحسين) والتي تعبر من خلال تلك الخاتمة عن عمق حبها للإمام الحسين عليه السلام لأنه أهل لهذا الحب، ولأنه أيضا ابن علي وفاطمة علیهما السلام وها هي تختتم قصيدتها الغراء بالقول فيها وهي تخاطب الإمام الحسين عليه السلام بلسان شاعرة مسلمة

ص: 307


1- الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ، مصدر سابق ص 541

سنية أحبته من عمق ضميرها ووجدانها:

(كنت ترنو... یا صفي الروح... تهفو للقاء

ظللت روحك في الفردوس نسل الأنبياء

أشرقت في صدرك الحاني شموس من ولاء

عندما تم اللقاء..!!

أنت من بعض الإمام

أنت رمز للسلام

أنت حب ليس يفني في الأنام

وأنا... أهوى الإمام)(1)

وهكذا، أيها الأحبة، نرى أننا قد أطلنا الإقامة في رحاب الشعر العربي والعالمي، ذلك الشعر الوجداني الذي يتناول أحداث فاجعة كربلاء ومآثر سيد الشهداء الذي ألهبت تضحياته ومبادئه ضمائر الشعراء الأحرار في مشارق الأرض ومغاربها، فراحوا ينظمون القصيدة تلو القصيدة، ويكتبون الملحمة تلو الملحمة مخلدين بما نظموا أحداث الفاجعة الرهيبة ومستذكرين، بنفس الوقت أيضا، أهداف الحسین علیه السلام ومحامد خصاله ومکارم فعاله وسمو مبادئه ونبل خلاله.

وبما أن هذا الفصل كان مخصصا للحديث عن فاجعة كربلاء في الشعر العالمي، دعونا ننهي حديثنا عنه من خلال تقديم هذه الباقة الصغيرة من الأبيات الشعرية، ولكن هذه المرة لن تكون هذه الأبيات لأي من الشعراء العرب أو العالميين، بل ستكون للإمام الحسين نفسه عليه السلام ، وقد قالها وهو عازم على الموت بين يدي الله سبحانه

ص: 308


1- هند هارون، بين المرسى والشراع، مصدر سابق ص127

وتعالی.

فلنستمع إليه، إذن، وهو يقول مخاطبا جيوش الكفر والنفاق:

أنا ابن علي الخير من آل هاشم *** كفاني بهذا فخرآ حين أفخر

وجدي رسول الله أكرم من مضى *** ونحن سراج الله في الأرض نزهر

وفاطمة أمي ابنة الطهر أحمد *** وعمي يدعى ذا الجناحين جعفر

وفينا کتاب الله أنزل صادعا *** وفينا الهدى والوحي بالخير يذكر

ونحن أمان الله في الخلق كلهم *** نسر بهذا في الأنام ونجهر

ونحن ولاة الحوض نسقي محبنا *** بكأس وذاك الحوض للسقي کوثر

فيسعد فينا في القيام محبنا *** ومبغضنايوم القيامة يخسر(1)

هذا هو الحسين عليه السلام في لحظات ما قبل الشهادة، وهذه هي شهادة نسبه النبوي الكريم، التي كانت بمثابة الحجة الأخيرة على أعدائه الذين جاؤوا لاغتيال ذلك النور النبوي المتجلي فيه.

أما عرف أولئك الطغاة البغاة أنهم بقتلهم للإمام الحسين عليه السلام قد قتلوا محمد ا

ذاته صلی الله علیه و آله وسلم ، وأنهم بتمزيق صدره الشريف قد مزقوا القرآن الكريم؟!

أما عرف جیش الكفر الأموي أن كل دمعة سقطت من عيني فاطمة الزهراء عليها السلام ، وهي تراقب من علياء السماء ما يحدث لابنها الحسين عليه السلام في كربلاء، قد أبكت أم الكتاب وحولت كلماتها إلى حروف مكتوبة بحرقة الدموع وحرارة الدماء؟!

أما عرف أهل الضلال الذين جاؤوا مدججين بالسلاح لاغتيال نور الله أن دموع

علي عليه السلام على الحسين عليه السلام قد اهتز لها عرش الرحمن؟!

ص: 309


1- الخوارزمي الحنفي، مقتل الحسين، مصدر سابق ج2 ص33

وسواء عرفوا ذلك أم لم يعرفوا، فإن الحق باق ما بقيت السماوات والأرض، وما الصفحات السابقة التي مرت معنا عن عظمة الحسين عليه السلام في كربلاء - كما جاءت في القصائد والملاحم الشعرية العالمية - إلا أحد أقوى الأدلة على أن تلك العظمة الحسينية لن تمحى من كتاب الإنسانية والوجود.

وهب أن تلك العظمة قد محيت من كل الكتب، فمن ذا الذي يستطيع أن يمحيها

ويمحي ذكر الحسين وأهل البيت عليهم السلام من القرآن العظيم؟!

فها قد صاح الديك وانشق ثوب الدجي عن الصباح، فلا بد لنا من الصمت

والسكوت عن الكلام المباح.

ص: 310

فاجعة كربلاء في المسرح العالمي

بعد أن زرنا في الفصل السابق واحة الشعر الوارفة الظلال، وأقمنا فيها طويلا، وتعرفنا من خلالها على الكثير من الشعراء الكبار في الساحتين الغربية والعالمية، وغادرناها

في نهاية الرحلة وقافلتنا مليئة بالكثير من الأشعار والقصائد والملاحم الشعرية الخالدة التي تتحدث عن عالم الرجولة والبطولة والفداء، ذلك العالم الذي سطره الإمام الحسين عليه السلام بدمائه ودماء أهله وأبنائه الأطهار وأصحابه الأوفياء الأبرار، فتحولت ملحمته الخالدة إلى نغم أنشودة قدسية ترتلها الملائكة بصوتها الحزين على أسماع المؤمنين وقلوبهم في كل مكان يقلهم سواء على صعيد الأرض أو على أجنحة السماء، فبعد تلك الزيارة الطويلة، ها نحن نرتحل سوية من عالم الشعر إلى عالم المسرح، ومن عالم القوافي إلى عالم الرموز والإيحاءات، إنه عالم التراجيديا ودوره في إيصال رسالة الإمام الحسين عليه السلام ومبادئ ثورته الكربلائية إلى كل الناس في شتى بقاع الأرض وأصقاعها.

ولكن، وقبل الدخول في عالم المسرح التراجيدي وعلاقته بفاجعة كربلاء، لابد لنا من الوقوف مليا مع معنی وطبيعة المسرح التراجيدي الذي عرفه الإنسان منذ أقدم العصور والذي لا يزال حيا بيننا حتى وقتنا الحاضر.

فلا تزال المناقشات تدور، حتى يومنا هذا، بين علماء الأدب حول أصل التراجيديا (المأساة)، في حين أن الاتفاق يكاد يكون تاما بينهم فيما يختص بأصل

ص: 311

الكوميديا (الملهاة) وبجذورها التاريخية والفكرية.

وإذا عدنا إلى أصل كلمة تراجيديا سنجدها مكونة من كلمتين أساسيتين هما

(Trages) وتعني (الماعز)، والكلمة الثانية (Ode) وتعني (القصيدة الغنائية).

وقد قام الباحث (ف. روبير) ( F. Rubert )، الأستاذ الأسبق للأدب اليوناني في جامعة السوربون الفرنسية بكتابة بحث مطول عن أصل التراجيديا، وقد نشر له ذلك البحث القيم في عام /1962/، ولا يزال يعتبر بحثه من أكثر الأبحاث جدية في هذا المجال الأدبي العريق.

ويعود الباحث (روبير) إلى فكرة مؤداها أن أصل التراجيديا يرجع إلى احتفال دیني يقام إكراما للآلهة القدماء والموتى من الأبطال العظماء، وكان المحتفلون يقدمون للآلهة ذبيحة من فصيلة الماعز، فإذا كان المحتفل به إلها كانت الذبيحة له تيسا، أما إذا كانت آلهة كانت الذبيحة لها عنزة(1)

ومن المعروف بالنسبة للباحثين في علم الميثولوجيا (الأساطير) أن الماعز - کرمز - منذ أقدم العصور كان ينظر إليه على أنه كائن محمل بذنوب وخطايا الناس، وأن في عملية ذبحه خلاصا وتطهيرا من هذه الذنوب، ولكن هذه العقيدة تطورت شيئا فشيئا، ليس عند الإغريق فقط بل عند معظم تلك الشعوب القديمة، وكان من نتيجة ذلك التغير في العقيدة السائدة أن يصبح أحد الأبطال العظماء هو كبش الفداء.

وبالتالي، يصبح الكلام هنا بصدد شعائر دينية الغرض منها تطهير القوم من شوائبهم، من تقصيرهم بواجباتهم العليا، فيضحي الفرد المتميز بنفسه في سبيل

ص: 312


1- الدكتور يوسف مراد، علم النفس في الفن والحياة (سلسلة كتاب الهلال)، العدد /187/، دار الهلال . القاهرة، 1966، ص128

خلاص أهله وقومه.

ومن الواجب ذكره أيضا أن مشاهدة التراجيديا كانت أمرا إجباريا لكل سكان المدينة التي تعرض فيها التراجيديا، وكانت فكرة الإجبار توحي أنهم بصدد احتفال دیني جاد لا مجرد احتفال ترفيهي، وكانت المشاركة بين الممثلين والمشاهدين مشاركة فعلية عاطفية، فلم يكن الممثل يتكلم بصوته الطبيعي العادي، بل كان إلقاؤه أقرب إلى الإنشاد المشبع بنبرات الحزن والنحيب وكأنه قد تحول إلى كاهن يؤدي الشعائر الدينية المطلوبة(1)

وفي هذا الجو المأساوي الكئيب، وفي هذا الجو المرؤع الرهيب كان يبدو للمشتركين في أحداث التراجيديا أن حجب السماوات قد تمزقت وأن البطل التراجيدي قد امتطى صهوة آلامه وارتقى على براق عذابه وانطلق مرتفعا إلى عرش السماء ليكتب اسمه وبطولاته ومآثره في سجل الخالدين.

ومن خلال هذه المقدمة الموجز عن مفهوم التراجيديا أصبح بإمكاننا أن ندخل إلى جوهر موضوعنا الأساسي، وكم يحلو لنا الكلام هنا عندما نربط في بداية حديثنا مسألة الفاجعة الكربلائية بقضايا المناحات الكبرى في تاريخ الإنسان المترع بالآلام والأحزان.

إذن، سنبدأ الكلام الآن عن الأساس التراجيدي الذي يوحد بين أقوى ثلاث مناحات ألهبت الوجدان والضمير الإنساني عبر آلاف السنين، ولا تزال المناحة الثالثة حية متقدة في القلوب حتى يومنا هذا.

فما هي قصة المناحات الثلاث وما علاقة ذلك بحديثنا عن كربلاء وعن مسرح

ص: 313


1- نفس المصدر السابق ص130

الفاجعة؟!

في الحقيقة، يرى المهتمون والباحثون في الميدان الميثولوجي أن هناك علاقة وثيقة بين فاجعة كربلاء وبين قصتين قديمتين جدا ولدتا قبل میلاد السيد المسيح نفسه عليه السلام بقرون عديدة، وهاتان القصتان القديمتان، أو الأسطورتان، هما أسطورة (أوزيريس) المصرية وأسطورة (تموز) العراقية، وكلتاهما أسطورتان قدیمتان متجذرتان في عمق التاريخ القديم.

وباختصار شديد، تقول أسطورة (أوزيريس) إن أوزيريس كان من أعظم آلهة مصر القديمة، وكان هو الحامي للموتى، وقد تعرض للقتل العنيف ظلما على أخيه (ست)، إله الصحراء المترامية الأطراف، وهذه القصة الأسطورية يمكن إحالتها إلى قصة أقدم وهي قصة مقتل (هابیل) على يد أخيه الظالم الآثم (قابیل).

أما قصة، أو أسطورة، (تموز) البابلية العراقية، فتقول إن تموز كان يمثل إله الخصب والجمال والانبعاث عند الآشوريين القدماء، وقد لقي ذلك الإله الوديع والجميل حتفه على يد خنزير بري لا يعرف الرحمة أبدا حيث قام بقتل ذلك الإله شر قتلة ثم مزقه بأنيابه شر تمزيق، ولكن ما لبث أن عاد (تموز) للحياة ثانية على يد الإلهة (عشتار)، وبالطبع، فإن (تموز) البابلي هو نفسه (أدونيس) في الأسطورة الفينيقيةالقديمة وفي الأسطورة اليونانية أيضا.

أما القصة الثالثة، أو المناحة الثالثة، فهي قصة استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في کربلاء، وهي القصة الوحيدة، من بين هذه القصص الثلاث، المبنية على أسس واقعية بعيدة عن عالم الميثولوجيا والأساطير.

وما يجمع هذه القصص الثلاث هو الطقس الجنائزي الحزين المصحوب بالبكاء

ص: 314

والنواح على أولئك الأبطال الثلاثة الذين قدموا للناس أعظم ما يملكون بطريقة تراجيدية أليمة، هذا من جهة، أما من جهة ثانية فإن موت هؤلاء الأبطال الثلاثة لا يمثل قناءهم من الوجود، بل إن موتهم يمثل انبعاثهم وعودتهم من جديد إلى عالم الحياة والخلود، بل إنهم هم أنفسهم قد تحولوا إلى رمز ولادة الحياة.

وانطلاقا من كل ما تقدم، نرى أن هناك نقاط تشابه بين الفجائع الثلاث تستدعي الوقوف والتأمل من قبل الباحثين والدارسين المتخصصين في هذا النوع من الدراسات والأبحاث المقارنة.

ففي بحث مطول للباحث (فاضل الربيعي) بعنوان (نواح الأقنعة - الفجيعة الجماعية من تموز حتى كربلاء)، نرى أن ذلك الباحث يفتتح بحثه بالقول المباشر إن المؤرخ اليوناني الشهير (هیرودوت) (500 ق.م) قد نقل لنا في واحدة من أروع وأكثر مشاهداته أهمية في مصر القديمة، انطباعا مفاده أنه قد شاهد المصريين وهم يقيمون نوعا من المناحة الجماعية في احتفالات الإله (الشهيد) أوزيريس، وذلك عن طريق إعادة تمثيل مشاهد من موته العنيف في طقس من الحزن الجماعي، ثم بعد ذلك يشرعون في بكاء حار وطويل ثم يلطمون أجسادهم حزنا عليه وعلى مصيره الأليم.

وقد علق الأستاذ (الربيعي) على كلام المؤرخ اليوناني القديم (هيرودوت) بقوله إن هذا الوصف الموجز الذي تتعمده ملاحظة (هيرودوت) وتقدمه كنوع من المشاهد المسرحية المؤثرة لا يقدر بثمن، فهو يفتح الطريق الصعبة أمامنا على نحو مفاجي، من أجل رؤية الصلات الممكنة بين المناحات الجماعية الكبرى، والتي لا يزال بعضها قائما في مجتمعنا الإسلامي من خلال المناحة الكربلائية الحسينية التي تعيد إحياء ذكرى الإمام الشهيد، الحسين عليه السلام ، الذي سقط من أجل مبادئه في صراع مرير غیر

ص: 315

متكافئ مع یزید بن معاوية(1).

وهذه الرغبة في إعادة المشاهد التمثيلية الكربلائية المفجعة يدركها الجمهور الحسيني في أعماق ذاته جيدا، فهي تلبي باستمرار حاجات روحية وعاطفيةووجدانية دفينة في داخل كل فرد من الحضور، وهي تحمل أيضا العاطفة الملتهبة للبطولة الحقة والمفقودة في الزمن الحاضر، إن تلك الرغبة في إعادة تمثيل تلك المشاهد التراجيدية لا تهدف بالتأكيد إلى إعادة البحث عن البطل الحقيقي واكتشافه من جديد، فهو مكتشف و معروف جيدا، وإنما تهدف إلى استرجاعه من أعماق الماضي وتتبع خطاه المليئة بالآلام المريرة في سبيل المبادئ الخيرة التي استشهد من أجل تحقيقها وتثبيتها.

وإذا كانت المناحة في أسطورتي (أوزيريس) و(تموز) تعبیرا رمزيا عن الخوف من غضب الطبيعة وعواملها المتغيرة التي تؤدي إلى الجفاف وخلخلة الدورة الزراعية، وبالتالي إلى حدوث المجاعات المتبوعة بالموت والطاعون، فإن المناحة في كربلاء ليست إلا التعبير الأمثل عن الخوف من السلطات الجائرة التي لا تتوانی عن فصل رؤوس المعارضين عن أجسادهم كما حدث مع رأس ابن بنت النبي ذاته عليه السلام في واقعة كربلاء

لقد كانت المناحة القديمة تعبيرا حقيقيا عن خوف جماعي من سلطة الطبيعة الغاضبة والمزاجية والقادرة على قهر الجماعات قبل الأفراد نظرا لما تحمله من كوارث لاحقة يصعب معها التنبؤ بالخسارة الحقيقية التي يمكن أن تنال من قوة

ص: 316


1- فاضل الربيعي، نواح الأقنعة، مجلة (الناقد)، العدد /69/، عدد آذار، 1994، تصدر عن دار رياض نجيب الريس، بيروت. لندن، ص4

وتماسك تلك الجماعات التي تعتمد في وجودها وبقائها على ما تعطيهم إياه الطبيعة من بركات الأرض ونعمها التي تبقي على وجودهم وعلى وجود قطعانهم.

غير أن المناحة الكربلائية لم تنشأ من أجل ذلك، بل إنها أسست لخوف جدید غير الخوف من القوة القاهرة للطبيعة، لقد أسست للخوف من السلطة الزمنية الجديدة، تلك السلطة الدموية العنيفة التي اتخذت من الدين ستارا لها، ومن هنا فقد أصبح كل فرد شريف يطالب بالعدالة والشرعية (غریب کربلاء)(1)

ففي دم الحسين عليه السلام المراق ظلما على رمال كربلاء سیری کل مسلم دمه هو شخصيا مراقا ومسفوحا بلا جرم ارتكبه ولا إثم اجترحه، فالجرم الوحيد الذي ارتكبه ذلك الفرد المسلم الرافض للظلم والبغي والعدوان هو جرأته على البوح بما كان يخفيه في صدره من رفض لكل صور وممارسات تلك السلطة الإسلامية الجائرة التي اتخذت من الإسلام شعارات براقة لها لتخفي وراء تلك الشعارات الزائفة قبح وجهها الحقيقي الغارق في الممارسات الجاهلية السابقة.

وقبل الدخول عميقا في تحليل أسس ومقومات المسرح التراجيدي، وبشكل خاص المسرح التراجيدي الكربلائي الذي كنا بصدد الكلام عنه منذ قليل، دعونا الآن نتوقف مع بعض النصوص المسرحية التي تتناول أحداث فاجعة الحسین علیه السلام ومأساة أهله وأطفاله علیهم السلام، ثم لننتقل بعد ذلك مجددا إلى متابعة الحديث الذي كنا قد بدأناه بشأن تحليل المسرح التراجيدي وعلاقته بكربلاء.

فهناك مسرحيتان شهيرتان كنا قد تحدثنا عنهما في فصل سابق من هذا الكتاب،وهما مسرحية (الحسين ثائرا) و (الحسين شهيدا) للأديب والمفكر المصري المعروف

ص: 317


1- فس المصدر السابق ص7

(عبد الرحمن الشرقاوي)، لقد حاول ذلك الأديب جاهدا أن ينقل للقارئ كل ما حدث على أرض الفاجعة بطريقة أمينة وصادقة، وبلغة بعيدة عن كل ما يمكن أن يوصف بالعصبية والانفعال أو التحيز والانحراف عن قول الحق.

فمن الصفحات الأولى في كلتا المسرحيتين تبرز شخصية الإمام الحسين عليه السلام بصورة السيد الجليل المهاب، والبطل المقدام المؤمن حتى الموت برسالة السماء التي جاء بها جده الرسول المصطفى إلى العالمين أجمعين.

وفي المنظر الرابع تحديدا، يصور لنا الأستاذ (الشرقاوي) رحلة الآلام مع الإمام الحسين عليه السلام التي بدأت فعليا بخروجه من مدينة جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ورحيله إلى ساحة الفداء والدماء على رمال كربلاء.

فالإمام الحسين عليه السلام يعلن قائلا، وهو على وشك الخروج من المدينة :

- أنا ذا أرحل مقهورا - ولا حيلة -

عن أرض المدينة،

ملعبي عند الطفولة

ومراحي في الشباب

ومنار العلم والدين ومهد الغزوات،

حرم الله وحصن الذكريات

ومثابات الخيال

آه يا نبع الأماني الشريفة

أنا ذا أخرج منها هائما تحت الظلام

أنا ذا أحمل آلامي وأحلام الجميع

ص: 318

کالمسيح المضطهد

تتلقاه حراب الظلم في كل بلد

وهو يمضي يغرس الأقدام في شوك السلام

ليزيح الشوك من كل الربوع!

مثل موسی خارجا یوجس خيفة

هاربا من بطش فرعون إلى التيه الفسيح المترامي

ما على النفس يخاف،

إنما يشفق منأن يغلب الظلم ودولات الضلال

إنني أخرج كي أنقذ أعناق الرجال

إنني أخرج كي أصرخ في أهل الحقيقة:

أنقذوا العالم، إن العالم المجنون قد ضل طريقة(1)

هذه هي حال الإمام الحسين عليه السلام وهو على وشك الخروج مع أهل بيته وعياله وأطفاله إلى أرض مصارعهم ومحط رحالهم ومهراق دمائهم، وهنا يبرز لنا الأستاذ

(الشرقاوي) فكرتين هامتين في هذا النص، وهما:

أولا: إن الإمام الحسين علیه السلام، شأنه شأن السيد المسيح عليه السلام وموسی کلیم الله علیه السلام ، كان مظلوما و مظطهدافي قومه، خائفا في بلده، فاقدا للأمان في زمن سيطر فيه أهل البغي والنفاق على رقاب العباد و خیرات البلاد، في زمن سيطر فيه أبناء الطلقاء والفجار على أبناء الرسالة وأنوار النبوة الأطهار، فكان لا بد من الخروج.

ثانيا: إن خروج الإمام الحسين عليه السلام ، على الرغم من اضطهاده وخوفه، لم يكن

ص: 319


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا مصدر سابق ص75

خروجا نابعا من خوفه على نفسه، فهو يقول - كما جاء في النص -: (ما على نفسه يخاف)، وإنما كان هناك خوف من نوع آخر، فما هو ذلك الخوف الذي دفع الإمام الحسين عليه السلام للخروج؟!

إنه الخوف من أن يصبح للظلم دولة، إنه الخوف من أن يتخذ الظالمون من الضلال سياسة ومنهجا وسلوكا لهم في تعاملهم مع الأمة والرعية، إنه الخوف من أن تمزق راية الرسالة الإسلامية تحت حوافر خيول الجاهلية.

وما يؤكد ذلك كله، قول الإمام الحسين عليه السلام في المنظر الرابع نفسه:

- ربي... إلى من توکل العبد الضعيف؟

أنا ذاك أدعو مثل جدي

حين طارده رجال من ثقيف

قد أتاهم بالهداية:

(إن لم يكن بك رب من غضب علي فما أبالي!)

إني فزعت إليك من دنیا یزید

وهرعت نحو رحابك القدسي بالخير الطريد

وبكل أحلام السلام وكل آمال العدالة

أنا ذا لجأت إليك يا ذا الحول والجبروت یا رب

الجلالة(1)

وإذا كان هذا هو حال الإمام الحسين عليه السلام وهذه هي أهدافه بإحلال السلام وإقامة العدالة في المجتمع الذي بات فريسة ثمينة بين أنياب یزید و مخالبه، فما هي

ص: 320


1- نفس المصدر السابق ص79

الأهداف التي يطمح رجال يزيد لتحقيقها في ذلك المجتمع، وما هي السياسة التي يتبعها أولئك الرجال مع أفراد المجتمع لإرساء قواعد وأسس تلك السياسة الأموية المتوارثة ؟! في الحقيقة، إن الأديب الأستاذ (الشرقاوي) قد لخص الخطوط العريضة لتلك السياسة الأموية الجائرة بالقول على لسان (عبيد الله بن زیاد) الذي وقف مخاطبا أهل الكوفة، مبينا لهم سياسته المستقبلية معهم:

(- العاقل منکم من نافقني

المجرم فيكم من جابهني

الأحمق من أضمر بغضي

وأسر النجوی كي يطعن في عرض أبي

أو في عرضي).

أما الخط الثاني لسياسته المستقبلية، فيتجلى في قوله:

(فعيوني تسعی بینکم

وجواسيسي يستقصون دبيب الهمسة في الأعماق

وسآخذكم بنوایاکم.. بالأفكار المكتومة

لا بالأعمال المعلومة.

بالخلجات وبالخفقات وهمس الهمس

فالفائز منکم من صانعني حتى في خلوات النفس)(1)

إذن، هذه باختصار شديد، بعض وجوه المقارنة التي أجراها الأديب (الشرقاوي)

ص: 321


1- نفس المصدر السابق ص173.

بین ما يريده الإمام الحسين عليه السلام في الرعية وبين ما يريده يزيد ورجاله من انتهاج السياستهم الأموية الخاصة في نفس الرعية.

وقد علق الباحث المصري الدكتور( علي الراعي) على مسرحية (الحسين ثائرا) بقوله في كتابه (المسرح في الوطن العربي): (صور الشرقاوي الحسين شهيدا منذ البداية، فهو يملك ذلك النقاء في الروح، والقول، والعمل، الذي لا يستطيع صاحبه أبدا أن يهادن معه الشر.

كل ما يستطيعه هو أن يدخل مع الشر في معركة حامية، يعرف أيضا أن مثل هذه

المعركة غير المتكافئة هي السبيل الوحيد لإنقاذ الإنسان وشرف الإنسان)(1).

وكما ذكرنا في بداية حديثنا عن المسرح التراجيدي وعن الأبطال الذين لعبوا الدور الأساسي في نصوص تلك المسرحيات التراجيدية الموغلة في القدم، فما من كاتب مسرحي معاصر كتب عن الإمام الحسين عليه السلام وعن بطولاته الجليلة وغاياته النبيلة إلا وأعطى الإمام الحسين عليه السلام المكانة اللائقة به والتي ترفعه إلى مصاف الأبطال العظماء القدماءالذين ينحدرون من أصول سماوية نبيلة، كما تصورهم الأساطير القديمة في الشرق العريق والغرب القديم.

وهاهو الدكتور (علي الراعي)، وهو الباحث المتخصص في الدراسات المسرحية والحاصل على شهادة دكتوراه في المسرح من جامعة (برمنجهام) البريطانية عام / 1955/ ، ها هو يؤكد صواب کلامنا بقوله عن صورة الإمام الحسين عليه السلام الواردة في مسرح (الشرقاوي) الذي تناول الكثير من أحداث الفاجعة في أدبه

ص: 322


1- الدكتور علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (عالم المعرفة)، العدد /248/، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، عدد آب 1999، طبعة ثانية، ص165

المسرحي:

(إن معركة الحسين مع أنصار الشيطان من بیت یزید بن معاوية، ومن عماله وعملائه، هي أشبه ما تكون بمعركة الإنسان الإغريقي القديم مع القدر، تلك أيضا كانت معركة غير متكافئة، نتيجتها معروفة سلفا، ولكن البطل الإغريقي، الإنسان، كان يشرف كثيرا بمجرد قبوله تحدي القدر، كان يحصل على المجد لمحض دخوله المعركة المحتومة المصير، اعترافا منه بأنه في مثل هذه اللحظات النادرة في التاريخ أو في الأسطورة، يتعين على الإنسان أن يرتفع بقامته طويلة جدا حتى يناطح بها السحاب، أو ما هو أعلى منه)(1).

وبالفعل، فإن الحسين عليه السلام لا يطرف له جفن في مواجهة الشر والضلال، ولا يغريه وعد من الكفار، ولا يرهبه وعيد من الطغاة الفجار، ولا يثبط همته ذلك العدد القليل من الصحب والأنصار، إنه البطل الثائر في وجه الانحراف عن خط الرسالة ولو كلفته ثورته تلك خوض اللجج وسفک المهج، فالهدف السامي الذي خرج بأهله وعياله من أجله يستحق أكثر من ذلك بكثير.

وعلى ما يبدو، فإن أكثر المشاهد إثارة للنخوة والحماسة في النفوس هو ذلك المشهد الأخير الذي يندد فيه الإمام الحسين عليه السلام بزمانه، ذلك الزمان الأغبر الرديء الذي مکن الذئاب من الرقاب، وأبعد أصحاب الحقوق عن حقوقهم، وأقصاهم عن ممارسة ذلك الحق في خدمة العباد والبلاد.

ولابأس هنا في أن نذكر شيئا عن آخر ما قاله الإمام الحسين عليه السلام في المشهد

الأخير من مسرحية (الحسين ثائرا).

ص: 323


1- فس المصدر السابق ص166

فالإمام الحسين عليه السلام يقف أمام من تبقى معه من أصحابه المخلصين بعد أن تخلى عنه معظمهم خوفا من عيون يزيد وأعوانه الذين لا يرحمون صغيرا ولا كبيرا، لا طفلا ولا امرأة، ولا يترددون لحظة واحدة عن ارتكاب أفظع المجازر وأبشعها في سبيل مرضاة فرعونهم الأكبر یزید.

فالإمام الحسين عليه السلام يقف أمام البقية الباقية معه، ويقول لائما عصر الرزایا: (يا أيها العصر الرزي لأنت غاشية العصور

قد آل أمر المتقين إلى سلاطين الفجور...

أي الذئاب منحته السلطان والملك العريض؟

يا أيها العصر البغيض

يا أيها العصر الرزي وأنت غاشية العصور

العصر ينفث حولنا الغثيان مما أحدثته به أمية

عصر يثير تقزز النفس الأبية..

يا أيها الشرفاء لا تهنوا إذا طغت الذئاب

سیروا بنا كي ننقذ الدنيا من الفوضى

ومن هذا الخراب)(1)

وبهذه الأبيات الشعرية التراجيدية ينهي الأديب (الشرقاوي) مسرحيته الأولى( الحسين ثائرا) وليبدأ بعدها بمسرحيته الثانية عن كربلاء، والتي تحمل عنوان (الحسين شهيدا)، وهي المسرحية التي تصور بشكل دراماتيكي مؤثر مجمل أهوال الفاجعة التي لحقت بالحسين وأهله عليهم السلام نتيجة وقوفهم تلك المواقف البطولية في

ص: 324


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، مصدر سابق ص246.

سبيل المبادئ التي نذر الحسين عليه السلام نفسه من أجلها.

وبما أننا لا نريد تكرار المشاهد والأحداث التي ذكرناها سابقا عن تفاصيل تلك الملحمة الحسينية الدامية، فمن الأفضل لنا أن نكتفي هنا بإيراد بعض المقاطع الهامة التي وردت في سياق الحوارات الدائرة بين الشخصيات الرئيسية في نص المسرحية المذكورة.

ففي أحد المشاهد الأخيرة من المسرحية، يصور لنا المؤلف أرض كربلاء ليلا وقد غسلها ضوء القمر الحزين، فبدت التلال وقد امتلأت بجثث الرجال، إنهم رجال الإمام الحسين عليه السلام الذين تساقطوا كالفراش حول المصباح وهم يطلبون قبسا من نوره البهي.

ففي هدأة تلك الليلة المخضبة بالدماء، يقف الإمام الحسين عليه السلام وحيدا تحت

ضوء القمر الذي شهد مصارع الفتيان والرجال، ويقول مخاطبا أعداءه :

- أنا ذا عشت شهیدا

لم لا أقضي شهیدا؟

أنا ذا أمضي وحيدا

ليست العبرة في قتل الحسين بن علي

إنما العبرة فيمن قتلوه.. ولماذا قتلوه

أنا ثأر الله فيكم.. فاطلبوه!!(1)

ومن الطبيعي تماما أن يبرز هنا، في خضم هذه الأحداث الحامية، دور السيدة زینب علیها السلام جليا في مساندة أخيها الإمام الحسين عليه السلام الذي يتقدم بخطوات ثابتة

ص: 325


1- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين شهيدا، مصدر سابق ص380

باتجاه الموت الذي لم يعد يفصله عنه إلا عدد قليل من الخطوات.

ويقترب الحسين عليه السلام من أحضان الموت أكثر فأكثر، ويقاتل بسيفه بكل ما

أوتي من قوة وإيمان، ويصبر ویصابر حتى اللحظات الأخيرة وكله أمل باللحاق السريع بجده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الزهراء وأخيه المجتبى عليهم السلام بعد أن يزلزل بصبره وشجاعته وإيمانه عروش أعداء الرسالة من الأمويين الكفرة.

وبعد صولات وجولات، يسقط الحسين عليه السلام أرضا وقد امتلأ جسده بالجراح النازفة، يسقط الحسين عليه السلام وعيناه مثبتتان نحو السماء فيرى الملائكة بأبهى صورها تستعد للقائه وهو ممزق الجسد، وتستعد للقاء أصحابه وعياله وأطفاله أيضا بعد أن ذبح بعضهم وقتیل البعض الآخر منهم عطشا وقد أضرمت النار في خيامهم مثلما

أضرمت النار من قبل في بيت أمهم فاطمة الزهراء عليها السلام .

وها هي أخت الإمام الشهيد عليه السلام، السيدة زينب عليها السلام، تقف قرب جثة شهید الرسالة ونور النبوة، وقرة عين الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وريحانته، وتخاطب الأمويين القتلة بقولها المجلجل:

(- يا قاتلي بطل الحقيقة والتقى

یا خانقي أمل الخلاص المرتجى

يا ويلكم.. أوطأتموا أفراسکم جسد الشهيد

ابن الشهيد المرتضى

أنتم دهستم ويحکم جسد الرسول!

وسفكتم دمه الطهور

دم الرسول المصطفی...

ص: 326

یا نابشي قبر النبي ومهدري حرمات أهله

یا ماضغي كبد الشهيد

يا مطفئ نور الحضارة.. والحقيقة والسلام

یا خانقي الأحلام)

وبعد هذه الصرخات الهادرة المجلجلة في وجه أبناء الفجور وسلاطين الديجور، تلتفت بكل ثبات إلى عمر بن سعد، ودموعها تنسكب بمرارة على أخيها الشهيد المظلوم وتخاطب ابن سعد بقولها الذي تمتزج فيه أحاسيس الكبرياء والعزة مع أحاسيس الحسرة والألم والمرارة، تلك الأحاسيس المتفجرة والنابعة من قلب جريح قد حولته الهموم والآلام إلى وعاء للفاجعة .

فها هي تخاطب ابن سعد قائلة:

( - ماذا ستجني عندما تهدي رؤوس الأولياء

إلى البغي؟

أخليت وجه الأرض ويحك من جميع بني علي

یا عارك الأبدي إذ تشري رضاء ابن الدعي

بأن تریق دم النبي ؟)(1)

وقد اختتم الأديب (الشرقاوي) مسرحيته الشعرية (الحسين شهيدا) بحديث مطول للإمام الحسين قادم من عالم الغيب، إنه حديث البطل التراجيدي المليء بالدروس والعبر الثمينة التي لا تفيض إلا من قلب كبير قد آلمته الجراح وعصفت به الرياح، فبقي ثابتا على ما هو عليه من قيم إنسانية وأهداف رسالیة لا ينثني أمام آلام

ص: 327


1- نفس المصدر السابق ص392

الجراح ولا ينحني أمام عصف الرياح.

ونظرا لأن الفصل الأخير من هذا الكتاب مخصص للكلام عن الدروس والعبر المستخلصة من الفاجعة، فرأينا أنه من الأفضل أن نستشهد ببعض أقوال الأديب

(الشرقاوي)، التي وضعها على لسان الإمام الحسين عليه السلام، في الفصل القادم إن شاء الله تعالی.

وبقي أن نقول هنا إن النقد الحديث لمسرحيتي الأديب (الشرقاوي) يرى أن امتلاء جسد الحسين عليه السلام بالجراح العميقة، وسقوطه شهيدا، واحتزاز رأسه، والسير به إلى مجلس يزيد في دمشق، إنما هي أحداث طبيعية في عالم التراجيديا، وذلك لأن الإمام الحسين عليه السلام قد سطر باستشهاده قصة استشهاد الإمام وعلؤه ومجده.

ويرى النقاد المعاصرون أيضا أن الحسين عليه السلام دائم الحزن في أحداث

مسرحيتي (الشرقاوي)، ويتساءلون عن السبب في ذلك: لماذا؟!

ويأتي الجواب منهم قائلا ومعللا:

إن المعركةطويلة.. طويلة جدا طول الملايين الكثيرة من السنين التي عاشتها الإنسانية والتي سوف تعيشها، وما هذه المعارك التي يثخن فيها الخير بالجراح إلا المعالم على الطريق.

وتبعا لذلك، فإن الإنسان قد يصبح أكثر حكمة، لكنه لن يكون أقل حزنا وشجنا.

فالمصدر الرئيسي للمأساة في عملي (الشرقاوي) هو أن الخير والنقاء المفرط يعاقبان عقابا شديدا لأشياء لم يرتكباها أبدا، بينما الشر يسرح ويمرح على هواه، ويتمرغ هانئا سعيدافوق أكوام الذهب وبين أعطاف النساء، فالخير غريب، والشر

ص: 328

مقيم!(1)

وغني عن القول إننا لن ندرس ونحلل هنا كل المسرحيات التي كتبت عن الإمام الحسين عليه السلام وعن مصابه الجلل في كربلاء، فكل ما ورد في تلك المسرحيات - من

حيث المادة التاريخية - متشابة تماما، وإنما الخلاف بينها يقع في الأسلوب الأدبي

الذي تتم من خلاله عملية نقل الأحداث والأفكار.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، فلا داعي للإكثار من الشواهد المتشابهة التي قد تخلق جوا من الرتابة والملل في نفوس القراء، ولذلك فإننا سنكتفي بدراسة وتحليل الشخصيات الأبرز الواردة في تلك المسرحيات، مع التركيز أيضا على النتائج المترتبة على استشهاد الإمام الحسين وأهله وأصحابه عليهم السلام، ليس من ناحية الدروس والعبر، وإنما من ناحية المراسم والطقوس العزائية التي خلفتها الفاجعة وراءها.

فمن حيث المادة التاريخية، نرى تطابقا كبيرا بين ما كتبه الأديب (الشرقاوي) وبين ما كتبه الأديب المسرحي السوري (وليد فاضل) في مسرحيته التراجيدية (الحسين).

وتتألف مسرحية الأستاذ (فاضل) من ثلاثة أجزاء مترابطة ومتكاملة، وكل جزء من هذه الأجزاء الثلاثة يحمل عنوانا خاصا به، فالجزء الأول يحمل عنوان (الحسين وشمر)، والجزء الثاني يحمل عنوان (كربلاء)، بينما يحمل الجزء الثالث والأخير عنوان (الرأس والهاشميات).

وإذا كان الأديب (الشرقاوي) قد كتب مسرحيتیه (الحسين ثائرا) و(الحسين شهيدا) بأسلوب شعري متميز، فإن الأديب (فاضل) قد فضل الأسلوب النثري على

ص: 329


1- د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي، مصدر سابق ص168.

الأسلوب الشعري، ولذلك فقد جاءت مسرحيته (الحسين) مليئة بالتعابير والصور الفنية التي تغني بجمالها عن جمال الأبيات والقوافي الشعرية.

ويمكننا أن نذكر هنا، على سبيل المثال، تلك المناجاة العميقة المعاني التي جاءت على لسان الإمام الحسين عليه السلام في الجزء الأول من المسرحية، إنها مناجاة تفيض بالصور والحقائق التي تتعلق بشخصية الحسين عليه السلام وبطبيعته النورانية المتحدرة من الأنوار العلوية القدسية التي أفاضها الله سبحانه وتعالى على خلقه رحمة بهم وفضلا عليهم ما بقيت الأرض والسماء.

فالإمام الحسين عليه السلام كما جاءت صورة مناجاته في المسرحية، يجلس متربعا

على الأرض وسط دائرة من نور، ويطلق لسانه بالمناجاة قائلا:

-«أيا سيدي، أيها المصباح المنير، یا جدي، أيا سيدي، أيها الباب، باب المدينة التي تحوم في صدور الحكماء، يا أبت، أيتها الزمردة الكونية، أيهاالهيكل المحلق في سماء الروح، يا أماه، أنتم الغاية والوسيلة، وأنتم البدء والمنتهى، فلولاكم لما كنت أنا، الطرقات شتى، وطريق واحد هو طريق السلامة، الأنوار شتى، ونور واحد هو نور الحق، تشابهت الأنوار واختلطت الطرقات، فحملتني يا جداه عبء فرز الإشارات ونخب الألوان، وقلت: (حسين مني، وأنا من حسین).

ها شفاهك تقبل أصقاع روحي، فأستبين بعد الأنوار، اخترتني دليلا للأرواح الضالة وذاك الدليل سأكون، اخترتني ناخبا للنور الإلهي من الأنوار الخداعة، وبمسری ذاك النور سأسير، جسدي سيكون الصراط، هكذا أردت يا سيدي، وهكذا سيكون، فالأوثان كثيرة، والطواغيت أكثر، وشمس السماء قد طويت، وأنجم السماء قد غطيت، وبان القمر واختفت الزهرة، وما عاد في السماء من قمر سواك يا جداه، یا

ص: 330

قمر الروح الذي لا يغيب، ويا شمس النفس التي لا يكف ضوءها عن السريان، بك ألتمس الدفء، فأنت دفء الفؤاد والجسد، أفرزتني من بعضك، فأنا منك، جسدي فيه من جسدك، وواسطة الربط كانت زهرة الكون، أمي وسيدتي فاطمة»(1)

هذه هي المناجاة الحسينية التي وضعها الأديب المسرحي (فاضل) على لسان الإمام الحسين عليه السلام في الصفحات الأولى من مسرحيته المذكورة، ولكن الشيء اللافت للنظر في هذه المناجاة هو المقطع الأخير منها، وهو المقطع الذي سنذكره الآن، فهو مقطع يلفت نظر المستمع والمشاهد إلى حقيقتين اثنتين، وهما:

إن الإمام الحسين عليه السلام يعرف نهايته التراجيدية المأساوية منذ بداية المسرحية،

أي منذ أن رفع الستارة عن بداية الحوارات والأحداث.

أما الحقيقة الثانية، فتتعلق بقوله عليه السلام في آخر مقطع من مناجاته، والذي يقول

فيه وهو يستشرف الأحداث المستقبلية القادمة:

«أذرف یا قلب دمعك على قتلتك، فما أقسى الظلام الذي سيزجون به، ظلام خلفه ظلام، ولكن أوان الولادة قد حل، ولو تدري سيوف الظلام أي فجر ستصنع، لبقيت في أغمادها خرساء صامتة»(2)

إنها دلالة الكمال في شخصية الحسين عليه السلام ، تلك الشخصية العظيمة والنبيلة التي ورثت الكثير من عظمتها ونبل أخلاقها من الجد المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم والأب المرتضی علیه السلام ، إنها شخصية الحسين عليه السلام النبيلة التي تبكي حزنا وأسفا على قاتليها الذين سيدخلون النار بسبب قتلهم إياها دون ذنب ارتكبته أو خطأ اجترحته.

ص: 331


1- وليد فاضل، الحسين (ملحمة تراجيدية)، مطبعة اليمامة . حمص، 1998، ص19.
2- نفس المصدر السابق ص20

فالرسول المصطفی صل الله عليه واله قال لأعدائه الألداء الذين ناصبوه العداوة بكل أشكالها في الليل والنهار، قال لهم بعد أن مكنه الله منهم يوم فتح مكة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»(1)، مع معرفته اليقينية بأن أبا سفيان سيبقي رأس الكفر والنفاق في قومه.

والإمام علي عليه السلام، بدوره أيضا، قال موصيا ابنه الإمام الحسن عليه السلام ، بعد أن طعنه عبد الرحمن بن ملجم (لع) عند صلاة الفجر في مسجد الكوفة، وقد تم إلقاء القبض عليه:

«ارفق يا ولدي بأسيرك وارحمه، وأحسن إليه واشفق عليه...»، ثم يطلب من ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام ألا يغلا له يدا وألا يقيدا له قدما، ثم يتابع قائلا في وصيته للحسن عليه السلام : «نعم، يا بني، نحن أهل البيت لانزداد على المذنب إلينا إلا کرما وعفوا، والرحمة والشفقة من شیمتنا، بحقي عليك أطعمه یا بني مما تأكل واسقه مما تشرب...»، ثم يردف في النهاية قائلا: «إن أبق، فأنا ولي دمي، وإن أفن فالفناء میعادي، وإن أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟!»(2).

وبعد كل هذا النبل والتسامح من الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم والإمام المرتضی علیه السلام، هل بقي مكان للاستغراب من بكاء الإمام الحسين عليه السلام حزنا وأسفا على المصير الأسود المحتوم الذي ينتظر قاتلیه؟!

ص: 332


1- عبد الزهراء عثمان محمد ، سيرة المصطفى، مكتبةالشهيد الصدر . قم، 1984، ص162.
2- راجع ما جاء في أ. الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني . بيروت، 1982 ص378. ب . عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي، مصدر سابق ص694

فالحقيقة الثابتة، إذن، تتجلى في الكمال الإنساني وفي ثبوت النور الرباني في شخصية الإمام الحسين عليه السلام الذي ورث ذلك عن كمالات وأنوار الحقیقتين المحمدية والعلوية، المتحدتين بالنور والمنفصلتين في الظهور.

وإذا كان الأستاذ (فاضل) قد أوضح لنا الأهداف التي يسعى الإمام الحسين علیه السلام لتحقيقها، وبين لنا ۔ بنفس الوقت أيضا - الخصال والصفات التتمتع بها تلك الشخصية التراجيدية التي تتجسد فيها كل معاني النبل والبطولة والفداء، فإن هذا لا يعني أبدا أن المؤلف قد أغفل أو أهمل ذكر الشخصية الرئيسية المناوئة للإمام الحسين عليه السلام، أو أنه تجاوز ذكر فلسفتها في الحياة.

فمن خلال أحد الحوارات الهادئة بين یزید بن معاوية ومستشاره المقرب( سرجون بن منصور الرومي) الذي جاء وصفه في المسرحية على أساس أنه (إحدى تجسدات الشيطان)، نستطيع أن نتبين فلسفة يزيد في صراعه مع الحسين عليه السلام ومع آل بيت النبوة عليهم السلام عموما.

ففي جلسة سرية بينهما، يخاطب یزید مستشاره سرجون قائلا:

- التركة تمت تصفيتها، وطويت صفحة الهاشميين، آه، أية أفاع كمنت تحت ألسنتكم، وبأي سحر تأسرون قلوب الناس يا بني هاشم، أعطيتم سحر الكلام، لكن سحر السوط والدينار، وسحر الخمرة والنساء أقوى، وبه سأبطل سحركم على القلوب.

إنه سحر المتعة والشهوة، وحب الدنيا وممارسة الحياة، تعدون الناس بجنة عالية، أما أنا فقد صنعت للناس جنة دانية، وتمنون الناس بالحور العين، أما أنا فقد جلبت لهم حورا من ياسمين وبنفسج، وحتى وردا أسود، تغرونهم بأنهار من عسل

ص: 333

ولبن مصفی، ما أكثر العسل في جرار یزید، وتشوقونهم بخمرة لا يتغير طعمها، أما خمرتي، فيتغير طعمها كلما تعتقت أو مزجت بكافور الماء، خمرتي هي الخمرة، وما عداها السراب، فتهيؤوا یا آل هاشم للغزو، غزو سحركم، وغزو بیانكم، وغزو حجتكم أمام الناس(1)

وبتقديري الشخصي، لقد أبدع الأستاذ (فاضل) في تصوير شخصيات مسرحيته وإبراز حقيقة تلك الشخصيات المتصارعة، وكان من أكثر النقاط تميزا في أحداث المسرحية هي مسألة الحوار الغريب الذي دار بين الإمام الحسين عليه السلام الثابت على مواقفه، مع معرفته المسبقة بالفجيعة التي تنتظره، وبين الشيطان الذي يحاول أن يثنيه عن مواقفه بعد أن يعرض على الحسين عليه السلام خدماته وعروضه المغرية التي قلما يثبت أحد أمام بريقها.

والنقطة الثانية التي يتميز بها الأستاذ (فاضل) في طرحه وفي أسلوبه الأدبي المتمثل في الحوارات المتنوعة الجارية على ألسنة شخصيات المسرحية، هي تلك النقطة التي تتعلق بالكلمات والتعابير التي يستخدمها في تلك الحوارات المتبادلة بين أهم الشخصيات المحورية التي تدير الأحداث.

فالذي يقرأ ما تقوله شخصية الإمام الحسين عليه السلام في تلك المسرحية يظن أن الذي كتب هذه الأقوال والتعابير ووضعها على لسان الحسين عليه السلام ليس (ولید فاضل) وإنما (جبران خليل جبران)، فالتعابير قوية في معناها وجذابة في مبناها، بل إن لتلك التعابير المستخدمة على لسان الإمام الحسين عليه السلام أجنحة رشيقة تحمل القارئ معها إلى عوالم الصفاء والقداسة والخلود.

ص: 334


1- وليد فاضل، الحسين، مصدر سابق ص73

فلنقرأ الآن سوية ما كتبه الأستاذ (فاضل)، وقد وضعه على لسان شخصية الإمام الحسين عليه السلام في حوارها مع شخصية عمر بن سعد وشخصية شمر بن ذي الجوشن وجنودهما المقربين، وعلينا أن نقارن، ونحن نقرأ هذا المقطع الذي سنذكره الآن، بين أسلوب الأديب المسرحي (فاضل) في التعابير التي وضعها على لسان الإمام الحسين عليه السلام و بين أسلوب الأديب والفيلسوف (جبران) الذي انتهجه مع شخصية

(المصطفی)، بطل كتابه الشهير (النبي)، ذلك الكتاب الفلسفي الأدبي الذي بلغت

شهرته الآفاق.

وها نحن نذكر المقطع المذكور الذي وضعه الأستاذ (فاضل) على لسان الإمام الحسين عليه السلام مع أملنا بأن يقارن القارئ الكريم بين أسلوب (فاضل) وأسلوب (جبران)، وعدم إغفال ذلك.

فلنستمع، إذن، إلى شخصية الحسين عليه السلام وهي تخاطب جيوش الظلم والظلام

قائل:

- (ماذا لو قبض الله رحمته عن هذه الأرض بدمي؟!... التراب يهفو للثم خطاي وأنتم تعرضون، ونجوم السماء تتمايل بحبور لأنها أبصرتني وأنتم تمتارون،... بعد قليل لن أكون بينكم، عندئذ ستبكون، وتبكون ندما على خابية المسك التي أرقتم، وعلى حمامة الروح التي ذبحتم، وعلى برزخ السلام الذي نقضتم، بيني وبينكم انقطاع، فلو كانت قلوبكم قلوب ذئاب أو ضوار لأطرقتم حياء مني... ولو أومضت شرارة الإيمان في كهوف أبدانكم، لعلمتم أنني الشرارة وأنني المنارة، وأنني بحر النور، إنني الحسين، جدي محمد، وأبي علي، وأمي فاطمة، وأخي الحسن، خامس خمسة أنا، راسنا محمد، ونحن أجنحته، ونبضات قلبه، نحن دمعه، ونحن حزنه، نحن

ص: 335

فرحه، ونحن نجواه)(1).

أليس هذا الأسلوب في الكلام والتعبير الذي اتبعه الأستاذ (فاضل) في مسرحيته( الحسين) هو نفس الأسلوب الذي انتهجه الفيلسوف (جبران) في كتابه (النبي) وفي

بقية مؤلفاته الأدبية الأخرى ذات الطابع الفلسفي العميق؟!

وعلى كل حال، لا يسعنا هنا أن نتكلم بشكل مفصل عن كل مجريات الأحداث في تلك المسرحية، فالمجال لا يسمح لنا بذلك، ولا يختلف الوضع هنا عن الوضع في أحداث مسرحية (الحر الرياحي) لمؤلفها الأديب والشاعر العراقي الصابئي (عبد الرزاق عبد الواحد).

فبطل المسرحية هنا هو القائد الأموي الهوى (الحر الرياحي) الذي يظهر العداء

الشديد لأهل البيت عليهم السلام بشكل عام، وللإمام الحسين عليه السلام بشكل خاص.

وتستمد شخصية (الحر) قوتها وبطولتها من خلال العودة المفاجئة إلى جادة الحق والالتحاق بجيش الإمام الحسين عليه السلام والتخلي عن كل المغريات التي كان قد أعطاها له أعوان الملك الأموي الضال یزید.

وليس هذا فحسب، بل إن (الحر) يحاول دائما أن يكفر عن سيئاته الكبيرة التي ارتكبها بحق الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام وأصحابه المؤمنين الأطهار، وينجح (الحر) أخيرا في التكفير عن سيئاته وخطاياه وذلك عن طريق إراقة دمه الزكي في ساحة الشهادة فداء للحسين وأهل الحسين ورسالة الحسين عليه السلام.

وللأسف الشديد، هذا هو كل ما استطعنا تحصيله من معلومات عامة عن هذه المسرحية التراجيدية المؤثرة التي هي إحدى أهم النتاجات الأدبية الثمينة للأديب

ص: 336


1- نفس المصدر السابق ص75

والشاعر العراقي الجنسية والصابئي الدين، (عبد الرزاق عبد الواحد)، وتعتبر هذه المسرحية، بالإضافة إلى ملحمة (الصوت)، من أبرز أعماله الأدبية ذات الطابع المسرحي(1)

ولو تركنا الآن المسرحيات المكتوبة باللغة العربية عن فاجعة كربلاء الأليمة واتجهنا في بحثنا هذا إلى الآداب العالمية الأخرى، فماذا يمكننا أن نجد في ذلك العالم من الآداب المسرحية؟! هل يمكننا أن نجد فيها شيئا عن كربلاء؟!

وحتى نختصر المقدمات، دعونا ندخل بشكل مباشر إلى الأدب الفرنسي كي نتأكد من وجود مكان بارز لمأساة كربلاء في ذلك الأدب العريق والذي لا يزال يحقق انتشارا واسعاعلى المستوى العالمي الكبير.

وقبل كل شيء، نقول إن الاتصال والاحتكاك الأول بين المسلمين والفرنسيين الذين كانوا يعرفون باسم (الغاليين)، يعود إلى سنة / 114ه- - 732م / التي شهدت معركة (بواتييه) الشهيرة في قلب فرنسا، وهي المعركة المعروفة عند المؤرخين العرب باسم (بلاط الشهداء) التي دارت رحاها بين المسلمين بقيادة (عبد الرحمن الغافقي) وبين جموع الغاليين بقيادة الأمير (شارل مارتل).

ومنذ تلك الفترة العصيبة بدأ الاهتمام الجدي من قبل الفرنجة بالفكر والتراث العربي والإسلامي، ويؤكد الدكتور( محمود المقداد) في كتابه (تاريخ الدراسات العربية في فرنسا) أن عملية نشر المخطوطات العربية والإسلامية، أو عملية ترجمتها لم تكن تجري بشكل عشوائي دون ضابط أو ناظم لها، بل كانت هناك ضوابط وقواعد مرعية نشأت منذ أن بدئ بنشر تلك المخطوطات أو ترجمتها، وقد أثبت تلك

ص: 337


1- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، مصدر سابق راجع ص 1

الضوابط المستعربان الفرنسيان الشهيران (ریجیس بلاشير) و(جان سوفاجيه) في کتاب نشر في باريس تحت عنوان (قواعد تحقيق المخطوطات العربية وترجمتها) عام /1953 /

وقد اهتم المستعربون الفرنسيون بنص القرآن الكريم، فترجموه إلى اللغةالفرنسية مرارا عديدة، ومن أبرز تلك الترجمات:

1- ترجمة دورییه DuRyer (باريس، 1634).

2- ترجمة سفاري Savary (باریس، 1783).

3- ترجمة كازيميرسكي Kasimirsky(باريس، 1845).

4- ترجمة ماردروس Mardrus (باريس، 1926).

5- ترجمة مونتيه Montet (بایس، 1929).

6۔ ترجمة بلاشير Blachere (باريس،1949-1950 )(1)

وكما اهتم أولئك المستعربون والمستشرقون بالقرآن الكريم وترجماته، فقد اهتموا أيضا بالتاريخ العربي والإسلامي وبكافة الفروع الأخرى من العلوم والمعارف.

وبما أن مجال بحثنا الآن يتمحور حول فاجعة كربلاء في الأدب الفرنسي، وبشكل خاص في الدراسات الفرنسية حول تاريخ المسرح التراجيدي في الشرق، سنتجاوز في بحثنا هذا كل كلام عن بقية العلوم والمعارف التي اهتم بها الفرنسيون، وسنركز كل اهتمامنا على مسألة الروح والفاجعة وعلى مسألة (التعازي) التي تعتبر

ص: 338


1- د. محمود المقداد، تاريخ الدراسات العربية في فرنسا (سلسلة عالم المعرفة)، العدد /167/، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، تشرين الثاني، 1992، ص85.

جزءا لا يتجزأ من الأحداث التالية للمشاهد الدمائية المخيفة والمحزنة التي تنتهي بها الأحداث التراجيدية وتسدل الستارة على المسرح الذي كان شاهدا على المأساة.

وفي الحقيقة، لقد كان المستشرق الفرنسي (كوبينو) (Cabineau) والمستشرق شودزکو) (Chodzko) أول من نبها على وجود دراما واقعة كربلاء، في أوروبا عموما، وفي فرنسا خصوصا، ويقول هذان المستشرقان المذكوران إن تلك الدراما الحزينة تحكي قصة مقتل الحسين وعائلته وأصحابه في سهل كربلاء في مجزرة رهيبة ارتكبتها عساكر يزيد في العاشر من محرم سنة / 61ه-/ الموافق ل-/ 10 أكتوبر 680م/.

ومن المعروف عن المستشرق (كوبينو) أنه أحد أهم الكتاب والمفكرين الفرنسيين في القرن التاسع عشر، وممن اشتهر أيضا بكتاباته التي تقوم على تأیید نظرية التفوق الآري، وربما كان ذلك أحد الأسباب الرئيسية لزيارته بلاد فارس، حيث اطلع هناك على المآتم الحسينية، فتأثر بها وكتب عنها لأول مرة في كتابه (الديانات والمذاهب الفلسفية في آسيا الوسطى) المطبوع في باريس عام / 1865/.

وكان إعجابه شديدا جدا بأعمال المسرح الفارسي الذي يقوم على تصوير أحداث فاجعة كربلاء الأليمة، فيقوم بعرض التمثيلية السنوية لتفاصيل مأساة الإمام الحسين وأهله وأصحابه علیهم السلام مع إطلالة كل شهر محرم من كل عام، ويقول السيد

(کوبینو) في الصفحة / 454/ من كتابه المذكور إن قراء التعزية الحسينية هم الأقدر على إثارة الشعور والحماس في قلوب الناس من أجل الحق وخيرالإنسانية لأنهم يمتلكون الوسائل الكفيلة بامتلاك القلوب والسيطرة على المشاعر وتوجيهها حسب ما يريدون، وقد نشر (کوبینو) ضمن كتابه المذكور سابقا نصا کاملا يحمل عنوان

ص: 339

( عرس القاسم)(1)

ثم جاء بعد المستشرق (كوبينو) المستشرق (ألكساندر شودزکو)، فنشر في عام / 1878/ خمسة نصوص كاملة من التعزية الحسينية كان قد استخرجها من مخطوطة

حصل عليها في إيران وهي الآن محفوظة في دار الكتب الوطنية الفرنسية في باريس تحت رقم / 893/، ثم جاء بعد ذلك الباحث والمستشرق الفرنسي المعروف (فيروليو) ( CH. Virolleauid ) فوقع على تلك المخطوطة الثمينة، فدرسها جيدا ثم اختار منها مجموعة من الأشعار الفارسية المتضمنة تلك المشاهد المؤثرة عن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، فترجمها إلى اللغة الفرنسية تحت عنوان (آلام الإمام الحسين) (La Passion De L'imam Hosseyn)، ونشر الكتاب في مدينة بيروت عام / 1927/(2)

ومن المؤلفات الهامة في هذا المجال، كتاب (الإسلام والمسرح )المكتوب أساسا باللغة الفرنسية لمؤلفه الدكتور التونسي (محمد عزيزة) الذي درس الحقوق والآداب والعلوم الإسلامية في جامعتي باريس والسوربون، ويعتبر كتابة المذكور من أعمق وأجرأ الدراسات في هذا الميدان، بالإضافة إلى أنه يقدم نصا مسرحيا رائعا بعنوان(آلام الحسين أو مأساة كربلاء)، وهو نص ظهر في بعض البيئات الإسلامية القديمة، والحقيقة أنه نص مسرحي بالغ الجمال والعذوبة بحيث يفرض على الباحثين عموما أن يغيروا الشيء الكثير من وجهات نظرهم إلى موضوع المسرح في الحضارة

ص: 340


1- راجع مقالة (آلام الحسين . نص فرنسي عن فاجعة الطف)، إعداد وترجمة المستشرق جيلبرت دیلانو G. Delanoue، راجع مجلة (الموسم) العدد /2-3/، السنة الأولى ، إصدار أكاديمية الكوفة . هولندا، 1989، ص622
2- نفس المصدر السابق ص622

الاسلامیة

ويرى هذا الباحث في مقدمة كتابه (الإسلام والمسرح) وفي أول جزأين منه أيضا أن الإسلام التقليدي لم يعرف المسرح أبدا، ولم يشجع الفقهاء التقليديون بدورهم على ولوج العديد من أبواب الفنون المتنوعة كالرسم والتمثيل المسرحي الذي كان معروفا عند شعوب الإغريق والرومان قبلهم بمئات السنين.

ولكنه يرى في الجزء الثالث من كتابه أن المسرح والتعازي الحسينية هي الاستثناء الوحيد الذي استطاع أن يخرق حدود الإسلام التقليدي الأصم، واعتبر أن هذا المسرح وهذه الطقوس والمراسم في عملية التعازي هي التي أعطت الإسلام - بدءا من القرن السابع - الشكل الدرامي الوحيد الذي يعرفه.

وقد أخذ الدكتور (عزيزة) الكثير من معلوماته عن مجموعة من المستشرقين الذين درسوا التاريخ الإسلامي وتاريخ الشرق بشكل يؤهلهم للخوض في دراسة أفكار ومعتقدات وعادات الشعوب في تلك المنطقة.

وانطلاقا من هذه الملاحظة التي ذكرناها الآن، علينا أن نشير هنا إلى أهم الكتب والمراجع التي كتبت عن مسرح فاجعة الحسين عليه السلام من قبل أبرز المستشرقين والباحثين المتخصصين، وهي في مجملها مكتوبة باللغة الفرنسية أو بغيرها من اللغات الأوروبية الحية الأخرى:

1- شودزکو، المسرح الفارسي، طبع باريس، 1844.

2- ليتين، الدراما في فارس، طبع ليبزيج، 1929.

3. مونتيه، المسرح في فارس، طبع جنيف، 1888.

4- رونو، التعازي الفرنسية (الدراسات الجديدة للتاريخ الديني)،طبع باريس،

ص: 341

1884

5- ریزفاني، المسرح والرقص في إيران، طبع باريس، 1962.

6- نولدیکه، استشهاد الحسين في كربلاء، طبع برلين، 1909.

7- شودزکو، استشهاد الجندي - نشيد الضحايا، باريس، 1855.

8- لويس بيلي، المسرحية المعجزة للحسن والحسين، لندن، 1879.

9- الكونت جوبينو، الديانات والفلسفات في آسيا الوسطى، باريس، 1886 - 1900

10۔ سمیر نوف، الدين في فارس، تفلیس (تبيليسي)، 1916.

11- روبرت وهنري جینیریه، استشهاد علي الأكبر، مكتبة كلية الفلسفة والآداب في جامعة لييج.(1)

ويمكن للقارئ النبيه أن يلاحظ أن معظم عناوين هذه المراجع المذكورة أعلاه

تحمل اسم بلاد فارس - إيران حاليا- فعلى أي شيء يدل هذا؟!

في الواقع، إن هذا الأمر يدل على حقيقتين أساسيتين، وهما:

أولا: إن الفرس الذين كانوا يتمتعون بحضارة عريقة سابقة على الإسلام، كانوا هم الأقدر على فهم روح الإسلام من غيرهم، ولذلك، فإن الشعب الفارسي المسلم لم يأخذ التعاليم الإسلامية بطريقة صماء تتعارض مع متغيرات الحياة ومتطلبات

ص: 342


1- المزيد من المعلومات الواردة في هذه المراجع، وبشكل خاص عن مسألة الروح والتعازي راجع كتاب الإسلام والمسرح، تأليف الدكتور محمد عزيزة (سلسلة كتاب الهلال ترجمه إلى العربية الدكتور رفيق الصبان، الكتاب رقم /243/، إصدار دار الهلال في القاهرة، عدد نيسان 1971، وقد وردت المراجع الأوروبية المذكورة في صفحات متعددة بدءا من الصفحة 42 وحتى الصفحة 52

الحضارة بل قد أخذها وتلقاها بكل مرونة وشفافية بحيث تسير مع التطورات جنبا إلى جنب، مما أدى به الأمر إلى الإبداع في الكثير من فروع الفنون وعلى رأسها الفنون المسرحية التي أبدعها الفرس من رماد وأشلاء الملحمة الكربلائية المكتوبة بدماء الإمام الحسين عليه السلام.

ثانيا: إن الفرس، الذين هم أصحاب حضارة عريقة، لم يبدعوا فقط في مجال الفنون المسرحية وفي غيرها من بقية أنواع الفنون الأخرى، بل لقد أبدعوا في فهم الحياة كکل متكامل، وفهموا الدين على أنه رديف للحياة وموجه لها، ولذلك فقد عمدوا إلى ربط الدين بالحياة وجعلهما وجهين لعملة واحدة تدعى حقيقة الوجود.

وما يؤكد صواب هذا الكلام، هي تلك القصة الشهيرة التي تدور عن رجل من

العرب أو الأعراب جاء إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم : يشكو إليه أمر الأعاجم، وبشكل خاص الفرس، وقد ظن ذلك الرجل أنه بشكواه إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم سيجعله يقول فيهم مقالا سیئا لن تقوم لهم بعد ذلك قائمة، ولكن ذلك الرجل، وكل من كان حاضرا معه، فوجئوا بأن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم لم يذكرهم بأي سوء،بل على العكس من ذلك تماما، فقد قال صلی الله علیه و آله وسلم مادحا إياهم: «ليضربنکم على الدين عودا كما ضربتموهم عليه بدءا »(1)

وهذا يدل على أن الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم كان قادرا بصفاء بصيرته ونقاء سريرته على قراءة صفحات المستقبل وهو لا يزال يمارس دوره کرسول في دائرة الحاضر في زمانه.

ص: 343


1- راجع ما جاء في أ. المتقي الهندي الحنفي، كنز العمال، مؤسسة الرسالة ج4 ص 613 ب. الزبيدي الحنفي، تاج العروس، منشورات مكتبة الحياة . بيروت ج 1 ص 43 ، وذكره أيضا في ج3 ص155

وبالعودة إلى كتاب (الإسلام والمسرح) نرى أن مؤلف الكتاب الدكتور (عزيزة) قد مهد لنص مسرحية (آلام الحسين أو مأساة كربلاء) بشكل جيد ومؤثر وذلك عن طريق تقديم وعرض خلاصة موجزة لأهم المشاهد التي سبقت الفاجعة بزمن طويل.

وبالطبع فإن هذه المشاهد المعروضة ليست من تأليفه هو، وإنما هي مشاهد نقلها المستشرق (شودزکو) وغيره من المستشرقين عن بعض النصوص الإسلامية القديمة .

وأهم مشهد من المشاهد المترجمة إلى اللغة الفرنسية نقلا عن تلك المخطوطات القديمة، هو ذلك المشهد الحزين الذي يحمل عنوان (موت فاطمة)، وبسبب الأثر النفسي الكبير الذي خلفه ذلك المشهد التراجيدي في نفوس قرائه من الفرنسيين وغيرهم، نرى من الضروري أن نثبت هنا هذا المشهد الذي سبق حدوث الفاجعة نظرا لما يحمل أيضا من دلالات قوية على حتمية اقتراب المأساة واقترانها بمصير الإمام الحسين عليه السلام الذي أعاد رسم خارطة رسالة السماء بأقلام من قامات الشهداء وبمداد من الإيمان المعمد بالدماء.

ويصور مشهد (موت فاطمة) كيف أن الزهراء عليهاالسلام قد سقطت مريضة بعد شهور قليلة من وفاة أبيها الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، ويصور لنا المشهد أيضا كيف أن الإمام عليا عليه السلام كان يسهر عليها بكل عطف وحب وحنان، وكيف أنها أخبرته عن الرؤيا التي شاهدت فيها أباها المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم : وهو يبشرها قائلا: «غدا، سوف تلحقين بي إلى الجنة»

وهنا يشتد التأثر بالإمام علي عليه السلام ، وبشكل خاص عندما تطلب منه أن يلبي لها

رغبتها الأخيرة قبل لحاقها بأبيها صلی الله علیه و آله وسلم.

فما هي رغبة فاطمة الزهراء عليهاالسلام الأخيرة التي ينقلها لنا ذلك المشهد المؤثر

ص: 344

الحزين؟!

تقول فاطمة عليها السلام - كما جاء في المشهد : «ستجد في غرفتي صندوقا مغلقا بإحكام، ويمكنك أن تميزه بسهولة عن غيره، لأن له لونا أحمر، بلون الدم، في هذا الصندوق توجد ورقة مختومة كتب عليها ملاك البشارة عدة سطور بالحبر الأخضر.

عندما أفارق الروح، تذكر ذلك جيدا، ضع هذا الصندوق بعناية على صدري لأنني أريد يوم المحاكمة النهائية أن أضع تحت أقدام عرش الخالق هذا العقد ففيه ثمن دم ولدي دم الحسين الذي بفضله يغفر لكل أمتنا، وحتى أكثر الخطاة خطأ.. سيغفر له ويدخل الجنة»(1)

وبعد العديد من هذه المشاهد السابقة على أحداث الفاجعة، ينتقل بنا الباحث الدكتور (عزيزة) إلى تقديم النص الأساسي لمسرحية (آلام الحسين أو مأساة کربلاء)، وقد كانت صياغة هذا النص الثمين باللغة الفرنسية من قبل الدكتور (عزيزة) مميزة بعدة نقاط بارزة، وأهم هذه النقاط وأبرزها هو الأسلوب (الشكسبيري) في صياغة الصور والتعابير المتداولة بين أهم الشخصيات المحركة لأحداث المسرحية التراجيدية، فالذي يقرأ النص المترجم إلى اللغة العربية يخاله نصا مترجما عن إحدى روائع مسرحيات (شكسبير) المأساوية.

فابن سعد، العدو اللدود للإمام الحسين علیه السلام ، يخاطبه قائلا، بعد أن طلب منه

الحسين عليه السلام شربة ماء:

- لا يمكنني يا سيدي النبيل أن أجيبك إلى هذا الطلب، إن أوامر الخليفة يزيد بن

ص: 345


1- محمد عزيزة، الإسلام والمسرح، مصدر سابق ص95

معاوية قاطعة في هذا الشأن، لذلك أنا مجبر على ترك قداستك(1)

.وحتی شمر بن ذي الجوشن الذي كان الأشد في عداوته وحقده على الحسين علیه السلام ، نراه يخاطبه قائلا:

- لم أكن أنتظر غير ذلك منك.. يا حسين الكريم، یا حسين المثالي، أيها النقي الجميل، یا کثير النقاء یا حسین. یا لعظمتك.. وكم هو مؤسف أن تتفسخ هذه العظمة كلها في لهيب الشمس.. في أرجاء هذا السهل الكثيب(2).

أليست هذه التعابير والصور والأسلوب في نقل الأفكار تتشابه إلى حد كبير مع

الأسلوب المسرحي والأديب الإنكليزي (وليم شكسبير)؟!

إن كل من هو على اطلاع کاف ومعرفة جيدة بالمسرح الشكسبيري، سيوافقنا

الرأي بلا شك.

أما أكثر المشاهد تأثيرا على القارئ، سواء كان غربيا أم عربيا، فهو ذلك المشهد الذي يصور الإمام الحسين عليه السلام وهو يودع من بقي حيا من الفاجعة، ويوصيهم قائلا قبل انطلاقه الأخير إلى ساحة الموت والشهادة، مبتدئا بخطابه لزوجته (شهربانو) الوفية: - ها قد حانت ساعة الفراق والتمزق.

(شهربانو)، یا رفيقة شبابي العذبة، يا رفيقة انهياري، اعلمي أني لا أفارقك إلا مرغما لأن قلبي لم يرغب أبدا بأن يتحرر من تلقاء نفسه من القيود العذبة التي تربطنا

معا

ص: 346


1- فس المصدر السابق ص119
2- نفس المصدر السابق ص122

إني أعهد إليك بأولادي.. كلميهم عني حتى يذكروني.

وأنت يا صغيري (زين العابدین)، یا وريثي، إني أعهد إليك بما بقي من القافلة.

ورغم سنك الصغيرة، وجسدك الضعيف، عليك أن تسهر على النساء والأطفال،

وأن تتابع النضال.

وأنت يا (زینب).. یا شقيقتي المفضلة، یا صورة أمنا الحية، كيف أقول لك ما تحسينه وما تعرفينه حقا؟! اعلمي أن الحديد عندما يتغلغل إلى لحمي المدهوش.. ستكون آخر أفكاري متجهة نحوك.

أما أنتم.. أيها الشيوخ الكرماء، وأنتن أيتها الأرامل الغارقات بالدموع.. ويا أرق

الأيتام.

أنتم يا من سأترككم على حافة الشقاء الحادة، أيها الضعفاء الناجون من الموت،

فكنتم أعذب الشهود.

عندما يحين الوقت وينضج.. اذكروني بتسامح، وارووا بكثير من الاعتدال قصة

الرجلالذی ارادان یحقق حتی النهایة قدرا صلبا

وأنتم يا أشباح أحبابي الغائبين، يا من تهيمون حول نيران المعسكرات، تسلحوا بشيء من الصبر.. فقريبا ستفارق روحي التي تحررت.. جسدي، وستذهب لتلقاكم على ضفاف نهر الكوثر في الجنة.. بعيدا عن أشواك هذه الحياة الدنيا.

الوداع يا أصدقائي.. سأسبقكم إلى الحياة الأخرى ولكني لن أترككم(1).

بهذه العبارات الشجية وبهذه الصور المتشحة بالحزن والآلام، يغادر الحسين علیه السلام مودعا من بقي حيا بعد أهوال الفاجعة، يغادرهم الحسين عليه السلام ليکتب خاتمة

ص: 347


1- نفس المصدر السابق ص125

تلك المأساة المريرة بتقديم دمه ثمنا غاليا لرسالة لم تقدر حق قدرها بين أهل لغتها من أبناء قومها.

ومثلما كانت هناك مجموعة مشاهد سابقة على أحداث الفاجعة، كانت هناك مجموعة من المشاهد أيضا لاحقة لأحداث الفاجعة وناتجة عنها.

فأثناء المسيرة بالرأس الشريف وبالسبايا إلى دمشق كانت المعجزات تتوالی واحدة بعد أخرى، وكان كثير من النصارى واليهود يرتدون عن دينهم ويدخلون في رحاب الإسلام الذي طهره الإمام الحسين عليه السلام بدمائه الزكية من رجس يزيد وأبيه وكل الدخلاء من قبلهما في الدين السماوي الأخير.

أما المشهد الأخير من الأحداث، فيحمل عنوان (يوم الحساب الأخير أو خاتمة

الحسين)، وهو مشهد رمزي يقول محتواه (في يوم الحساب الأخير، سيتناقش الحسين ويعقوب لمعرفة من منهما قد تعذب في الدنيا أكثر من غيره، ويحسم جبریل النزاع لصالح الحسين، فيصبح الحسين بذلك الشخص الذي سيتلقی مفاتیح الجنة ليدخل إليها المسلمين الصالحين، وكذلك الخطاة الذين عرفوا الندم الصادق)(1)

وبعد دراستنا المطولة لكل تلك المسرحيات التي تناولناها بالبحث والدراسة والتحليل، نرى من الواجب الآن أن نتوقف عند مفهوم الطقوس الاحتفالية والعزائية المرافقة لمشاهد استذكار أحداث الفاجعة ومصير أبطالها الشهداء.

ص: 348


1- نفس المصدر السابق ص135، ومن الجدير ذكره هنا أن الدكتور (رفيق الصبان) الذي ترجم كتاب (الإسلام والمسرح) إلى اللغة العربية، قد قام بنشر ملخص واف للمعلومات الواردة في الكتاب المذكور، وقد نشر ذلك الملخص مع النص المسرحي (الام الحسين) بالكامل في مجلة (الهلال) المصرية، في العدد الأول . السنة التاسعة والسبعون . بتاريخ يناير كانون الثاني /1971/ راجع من الصفحة (111) حتى الصفحة (149).

فالباحث الدكتور (عبد الكريم اليافي)، وهو أحد أهم أساطين الفكر والفلسفة في سوريا، بل في الوطن العربي عموما، له صولات وجولات في دراسة الفلسفة والحكمة من إقامة مآتم العزاء الحسيني، ولا تتجلى صولات وجولات الدكتور( اليافي) في عدد الأبحاث والمقالات التي كتبها عن المآتم الحسينية، بل في الدقة والنتيجة التي كان يخرج بهما دائما كمحصلة منطقية لأبحاثه العميقة والعقلانية حول طبيعة ومجريات الفاجعة.

والدكتور (اليافي) ينحدر في نسبه من الجد (عمر اليافي)، وهو شاعر صوفي

مشهور له خلوة معروفة في جامع بني أمية بدمشق، وله ديوان شعر مطبوع.

والدكتور (اليافي) من مواليد مدينة (حمص) عام / 1919/، فهو حمصي مولدا،

ودمشقي موطنا، وحنفي مذهبا، ويحمل الدكتور (اليافي) خمس شهادات دراسات عليا في الفلسفة وعلم الاجتماع (باریس 1941- 1945)، بالإضافة إلى شهادة دكتوراه في الفلسفة من باريس أيضا.

له الكثير من المؤلفات الأدبية والفكرية والفلسفية، وكان لهذا الباحث الدكتور

حضوره المميز في مؤتمر الغدير في لندن عام / 1990/.

ويرى الدكتور (اليافي) في مقال له بعنوان (من وحي عاشوراء ومأتم الحسين) أن كل ما قام به الأمويون من فساد في الدولة الإسلامية شيء طبيعي تماما لأن ذلك يمكن أن يفهم ويؤول على نحو خاص وهو حب الأمويين للدنيا والمال والجاه وللتحكم مع العمى عن الهدى والرشاد.

ولكن الشيء الذي لا يمكن فهمه أبدا - كما يقول الدكتور (اليافي) - هو ما حصل في كربلاء بين خلاصة آل البيت الذين على وجوههم سنا من أنوار النبوة وبين حشد

ص: 349

من أجلاف العرب وفجارهم الذين لم ينفذ نور النبوة إلى قلوبهم ولم يهتدوا بهدی الإسلام، بل كانت على قلوبهم أكنة أن يفقهوه، وفي صدورهم وقروحقد للذين آمنوا

واهتدوا وكانوا أعلام الهدى والإيمان.

ويتابع الدكتور (اليافي) كلامه قائلا: (لا أستطيع أن أتصور قبح ما حصل في ساح کربلاء... دون الخجل والاستحياء من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وهو الذي كان له فضل هداية العرب وإنقاذهم من الضلال والتأخر، بل هو الذي شرف الله عز وعلا الإنسانية باجتبائه واصطفائه وحمل رسالته التي هي أعلى الرسالات)(1)

إذن، فالدكتور (اليافي)، الحنفي المذهب، يشعر بالخجل والاستحياء من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعد ما يقارب الأربعة عشر قرنا من وقوع الفاجعة على أرض كربلاء، وإذا كان هذا هو شعور الدكتور (اليافي)، وهو الباحث الموسوعي المثقف، فما هي الرؤى ووجهات النظر المستخلصة من أحداث تلك الفاجعة الإنسانية الأليمة كما يراها هو شخصيا؟!

باختصار شديد جدا، يرى الدكتور (اليافي) أن الإسلام انحرف عن مساره

المرسوم له بشكل حاد وخطير جدا، وإن أبرز الأحداث التي قادت الإسلام للترهل والتمزق هو ارتكاب مجزرة كربلاء بحق أهل بيت النبوة وأنوار الرسالة، ولذلك، فإن إقامة المآتم الحسينية هي الدليل على بقاء ذلك النور الإيماني حيا في ضمائر المسلمين الرافضين للظلم والفساد والطغيان.

ويعزز الدكتور (اليافي) ذلك بقوله: (ولا غرو أن تتملك العالم الإسلامي بأسره

ص: 350


1- د. عبد الكريم اليافي، من وحي عاشوراء ومأتم الحسين، مجلة (الموسم)، العدد الثاني عشر، المجلد /3/، مصدر سابق ص37

مشاعر الخوف والنفور والبغض، ولاسيما بسبب قتل الحسين، ولقد كان قتله جريمة وأي جريمة، وخطأ وأي خطأ جسيم، ومأساة وأي مأساة مذهلة)(1).

فالدكتور (اليافي)، كما يخبرنا في مقاله المذكور، لم يستطع أن يمنع نفسه من البكاء المرير والطويل على الإمام الحسين عليه السلام عندما زار مرقده الشريف في كربلاء، بل إنه وجد نفسه قد ركع على الأرض وراح يقبل تلك الأرض بحرقة ولوعة وقد غسل مكان ركوعه بدموعه.

فالحسين عليه السلام الذي قام له المآتم كل عام، هو ذلك الإمام الذي استنار بنور جده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم واستضاء بضوء أبيه المرتضى عليه السلام، فهو الإمام الذي جمع بين نور النبوة وعبق الإمامة، ولكن - يا للأسف الشديد - لقد أدی انحراف الفكر عند القائمين على أمور المسلمين، أولئك الذين نصبوا أنفسهم خلفاء على الأمة، إلى اغتيال ذلك النور الحسيني المعبر خير تعبير عن تعاليم وقيم أبيه وجده عليهما السلام .

وقد عبر الدكتور (اليافي) عن ذلك بقوله في الكلمة التي ألقاها بمناسبة إقامة المآتم الحسينية: (والذي أؤمن به أن مبادئ الإسلام وحدها كفيلة في العصر الحاضر بإقامة التوازن في المجتمع وإسباغ الصحة والعدالة عليه أيا كان، ومن الواضح أن الإسلام كما كان يعيه علي عليه السلام وسبطاه الشهيدان هو غير ما يستخلص من أحوال المسلمين في هذا الوقت)(2)

فالحسين عليه السلام هو صورة محمد وعلي عليهما السلام، وإقامة المآتم ومجالس العزاء من أجل الإمام الحسين عليه السلام ما هي في حقيقتها وجوهرها إلا المآتم والعزاء من أجل

ص: 351


1- نفس المصدر السابق ص38
2- نفس المصدر السابق ص39

رسالة الإسلام الصحيحة والبعيدة عن كل تشويه و تحریف، إنها مجالس العزاء من أجل الإسلام الصافي الذي كان يريده محمد وعلي علیهما السلام ، وقد أصاب عين الحقيقة من قال:

بکاک جدك (طه) *** قبل الشهادة حزنا

فأنت منه ائتلاف *** يشع هديا وحسنا

رسالة الله عادت *** بفيض نحرك تبنی

وإذا كان الدكتور (اليافي) الذي يعظم مآتم الإمام الحسين عليه السلام لا يستطيع أن يتمالك نفسه من البكاء الطويل وذرف الدموع الغزيرة على ضريح الإمام الشهيد علیه السلام في كربلاء، فإن الأديب والشاعر والسياسي المسيحي (عبد المسيح الإنطاكي)، اليوناني الأصيل، لا يختلف في موقفه كثيرا عن موقف الدكتور (اليافي) الحنفي المذهب في ما يتعلق بزيارة الإمام الحسين عليه السلام والبكاء عند مرقده الشريف كنوع من أنواع تجديد وإحياء المآتم لذكراه الطاهرة العطرة، وذلك لأن الذكرى - بحد ذاتها۔ هي وجه من وجوه الوفاء لصاحب الذكرى المحتفى به.

وها هو يقول في ذلك داعيا وناصحا أبناء الدين المسيحي والإسلامي على حدسواء:

أم الضريح بكربلاء وقف به *** متخشعا واطلب رضاء الغافر

وامرغ جبينك في ثراه فإنما *** أهريق فيه دم الحسين الطاهر

واندب مصاب المسلمين بخطبه *** وعليه نح بمسيل دمع هامل

واقر السلام على رفات قدثوت *** فيه، وعدباليمن أكرم زائر(1)

ص: 352


1- عبد المسيح الإنطاكي، الضريح المقدس، مجلة (الموسم)، العدد /12/، مصدر سابق ص288

ولو أردنا أن نتعمق أكثر في مسألة إقامة المأتم الحسينية وفي فلسفة عقد مجالس العزاء التي تتكرر كل عام في نفس التاريخ، فإن الكلام سيطول وقد نحتاج من أجل ذلك إلى كتابة العديد من المجلدات نظرا لأن الكثير من أتباع الديانات والمذاهب المختلفة تخص وتشارك أيضا في عقد تلك المجالس وفي إقامة المآتم حبا بذكر فضائل الإمام الحسين عليه السلام وباسترجاع الدروس والعبر من فاجعته الأليمة.

أعرف أن هذا الكلام قد يبدو غريبا وجديدا على القارئ، ولكن كل ما يمكننا أن نقوله هنا الآن هو أن الشواهد الفكرية والمشاهد الواقعية هي خير دليل وبرهان على صواب وصدق ما نقول.

وعلى سبيل المثال، دعونا نستعرض سوية ما قاله الفيلسوف الألماني(ماربين)

في كتابه ( السياسة الإسلامية) حول فلسفة المأتم الحسينية.

يرى هذا الفيلسوف والباحث المسيحي أن الطائفة الإسلامية الشيعية قد حققت بالفعل أعظم النتائج في عملية السمو الروحي والفكري نتيجة الاهتمام الزائد بقضية إقامة المآتم الحسينية في كل مكان يوجد فيه أنصار وأتباع لنهج الإمام الحسين عليه السلام الذي سار بخطى ثابتة ومستقيمة على نهج جده رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

وعن ثمار إقامة هذه المجالس والمآتم، يقول (ماربین): (لم يكن قبل مئة سنة من شيعة علي والحسين في الهند إلا ما يعد على الأصابع، واليوم هم في الدرجة الثالثة من حيث الجمعية (أي مجموع العدد) إذا قيسوا بغيرهم، وكذلك هم في سائر نقاط الأرض)(1).

وهنا ينتقل ذلك الفيلسوف الألماني للمقارنة بين المآتم الحسينية واستذکار

ص: 353


1- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص116

أحداث فاجعة الإمام الحسين عليه السلام وآلامه مع أهل بيته وبين مجالس المسيحيين التي يستذكر فيها القساوسة ورجال الدين عموما آلام و مصاب السيد المسيح علية السلام ، وقد رأى نتيجة تلك المقارنة أن الفرق بين حصاد المأتمين كبير جدا حيث عبر عن ذلك بكل صراحة قائلا:

(وإن كان قسسنا(جمع قسيس) يحزنون القلوب بذکر مصائب المسيح، ولكن ليس بذلك الشكل والأسلوب المتداول بين شيعة الحسين، فيغلب الظن أن سبب ذلك (أي عدم القدرة على مجاراة الشيعة) هو أن مصائب الحسين أشد حزنا وأعظم تأثيرا من مصائب المسيح)(1).

والحقيقة، إن هذه النتائج الدقيقة التي خرج بها الفيلسوف (ماربين) عن أسرار النهضة الحسينية وفلسفة مآتمها لم تأت عن عبث أبدا، ولم تأت من فراغ، فمن المعروف تماما عن الفيلسوف المسيحي (ماربين) أنه قد درس التاريخ الإسلامي بدقة بالغة وبروح موضوعية بعيدة - قدر الإمكان - عن التحيز والتعصب، ولذلك فقد جاءت معظم نتائجه المستخلصة قريبة من المنطق وملامسة للعقل القويم.

فالفيلسوف (ماربين) الذي تعمق في دراساته عن الفكر الإسلامي ونقاطه

المفصلية الهامة، يقول مؤكدا في أكثر من موضع في كتابه ( السياسة الإسلامية):

(ينبغي لنا أن ندقق النظر فيما يذكر من النكات الدقيقة الحيوية في مجالس إقامة عزاء الحسين، ولقد حضرت دفعات في المجالس التي يذكر فيها عزاء الحسين في

(إسلامبول) مع مترجم، وسمعتهم يقولون: الحسين الذي كان إمامنا ومقتدانا ومن تجب طاعته ومتابعته علينا، لم يتحمل الضيم ولم يدخل في طاعة يزيد وجاد بنفسه

ص: 354


1- نفس المصدر السابق ص116

وعياله وأولاده وأمواله في سبيل حفظ شرفه وعلو حسبه ومقامه، وفاز في قبال ذلك بحسن الذكر والصيت في الدنيا والشفاعة يوم القيامة والقرب من الله، وأعداؤه قد خسروا الدنيا والآخرة.

فرأيت بعد ذلك وعلمت أنهم في الحقيقة يدرس بعضهم علنا (أي بالقول لهم): إن كنتم من شيعة الحسين وأصحاب شرف، وإن کنتم تطلبون السيادة والفخر، فلا تدخلوا في طاعة أمثال يزيد، ولا تتحملوا الذل، بل اختاروا الموت بعزة على الحياة بذلة حتى تفوزوا بحسن الذكر في الدنيا والآخرة وتحظوا بالفلاح)(1).

وليعذرني القارئ الكريم إن نويت إطالة الاستراحة في واحة فكر ذلك المفكر والفيلسوف الألماني الذي تكلم عن أحداث الفاجعة ووقائعها التراجيدية المؤلمة، وما نجم عنها من نتائج وتداعيات، بطريقة تجعلك تشعر أن ذلك الفيلسوف المسيحي لم يكن في حقيقته إلا أحد خريجي مدرسة الإمام الحسين عليه السلام نتيجة قدرته الإبداعية الخلاقة في فهم الوقائع وفي الغوص إلى أعماق شخصية الإمام الحسين علیه السلام للوقوف على بواطن أهدافها وحكمة تصرفاتها وفلسفة تعاملها مع الواقع.

وسأترك المجال الآن للقارئ الكريم كي يقرأ بعمق وإمعان هذه الفقرات العديدة التي كتبها (ماربين) عن الإمام الحسين عليه السلام ، شهيد القيم ومبادئ الرسالة، ذلك الإمام الذي يستحق أن تقام له المآتم ومجالس العزاء كل يوم وليس كل عام.

فمن جملة ما يقوله الفيلسوف (ماربین): (لقد قتل قبل الحسين ظلما وعدوانا كثير من الرؤساء الروحانيين وأرباب الديانات، وقامت الثورة بعد قتلهم بين تابعيهم ضد الأعداء كما وقع مكررا في بني إسرائيل، وقصة يحيى من أعظم الحوادث

ص: 355


1- نفس المصدر السابق ص117

التاريخية، ومعاملة اليهود مع المسيح لم ير نظيرها إلى ذلك العهد، ولكن واقعة الحسين فاقت الجميع ...

فإن كل واحد من أرباب الديانات الذين قتلوا، ثار عليهم أعداؤهم وقتلوهم ظلما، وبمقدار مظلوميتهم قامت الثورة بعدهم، ومقاصد الحسين كانت على علم وحكمة وسياسة، ليس لها نظير في التاريخ)(1).

وهنا علينا أن نشير إلى حقيقة ثابتة وأكيدة حول كلامنا عن فلسفة المآتم وإقامة

مجالس العزاء الحسينية، فالكثير من المفكرين والأدباء يرون أن الكلام عن مجالس العزاء وعن إقامة المآتم هو جزء لا يتجزأ عن الكلام حول فاجعة كربلاء وعلاقتها بالمسرح.

فمجالس العزاء جزء هام من العروض المسرحية الجماعية التي تقام كل عام

تخليدا لذكرى الفاجعة الحسينية الأليمة والمروعة.

ولذلك، فنحن شخصيا لا نرى أن كلامنا المطول عن مجالس العزاء وإقامة المآتم خروج عن جوهر فصلنا الحالي، الذي يحمل عنوان (فاجعة كربلاء في المسرح العالمي).

ومن هذا المنطلق، يرى ذاك الفيلسوف والمفكر الألماني (ماربين) أن إقامة المآتم الحسينية واجب حتمي تمليه الضرورة الروحية والأخلاقية في كل مجتمع يبحث عن الخلاص من عوامل الفساد والضلال والطغيان.

ثم، أليس هذا الكلام الرائع بدقته، والساحر بصدقه، والذي نطق به ذلك المفكر المسيحي الألماني الكبير (ماربين)، يذكرنا بمقولة هامة نقلها لنا الأستاذ الباحث

ص: 356


1- نفس المصدر السابق ص121

(أنطون بارا) عن أحد كبار القساوسة المسيحيين الذين قرأوا بعمق أحداث فاجعة کربلاء، فما كان منه إلا أن قال متأثرا بعد تلك القراءة المتروية والدراسة المتأنية:

(لو كان الحسين لنا لرفعنا له في كل بلد بيرقا ولنصبنا له في كل قرية منبرا

ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين)(1)

.وعلى كل حال، لن نعلق الآن على مقولة هذا القسيس المسيحي الكبير، بل إننا سنعود ثانية إليها لدراستها وتحليلها في الفصل القادم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالی.

إذن، وبالعودة إلى مسألة إحياء مجالس العزاء وإقامة المآتم الحسينية تخليدا لذكرى الفاجعة، نرى أن تلك المسألة تلعب دورا حيويا هاما في إحياء معالم الدين وفي إظهار (مظلومية) أهل البيت عليهم السلام واغتصاب حقوقهم الشرعية على أيدي جماعة من الناس ادعوا دخولهم في دائرة الإسلام، إذ لم يكن لهم هدف من وراء ذلك إلا العمل على تمزيق الإسلام من الداخل، وتصفية أهل الرسالة وأصحابها الحقيقيين، والعمل أيضا على العودة بالمجتمع الإسلامي الجديد إلى سابق عهده من الحكم القبلي والتناحر العشائري والإقامة الدائمة على قيم وعادات المجتمع الجاهلي المثقل بأوزار عبادة الأوثان واضطهاد الإنسان لأخيه الإنسان.

ألم يعبر الإمام علي عليه السلام عن الحالة التي كان عليها القوم قبل الإسلام، وهي الحالة التي يريد الأمويون العودة بالأمة إليها، بقوله الصائب: (إن الله بعث محمدا صلی الله علیه و آله وسلم، نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وأنتم معشر العرب على شر دین وفي شر دار، منيخون (أي مقيمون) بین حجارة خشن، وحیات صم، تشربون الکدر، وتأكلون

ص: 357


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص72

الجشب، وتسفكون دماءكم، وتقطعون أرحامكم، الأصنام فيكم منصوبة، والآثام بكم معصوبة)؟!(1)

نعم، هذه هي الحالة التي أراد لها يزيد الحياة من جديد، بل هي الصورة الموجزة والمختصرة لتلك الحالة الرهيبة والمزرية التي أراد یزید أن يبث فيها الروح الجاهلية والعصبية القبلية ليبقى هو وأولاده وأبناء الفرع الأموي من بعده الملوك المتربعین على عرش الشعوب الذليلة المقهورة يحكمونهاويتحكمون بها وبرقابها باسم الخلافة والدين.

ومن هذه المخططات الساخرة والمستخفة بالدين، ومن هذه (الملهاة) المولودة في فكر البيت الأموي، ولدت المأساة) وسالت الدماء في بقية البيت المحمدي عليهم السلام .

ولكن أي مأساة هذي التي دارت دوائرها على آل الرسول؟!

وهل يستطيع صاحب أي عقل راجح أن يتصور فداحة الخطوب وهي تتوالی

خطبا إثر آخر دون أن يهتز لأبطالها المؤمنين رمش أو تغمض لهم عين؟!

وها هو الباحث والأديب المسيحي (سليمان كتاني) يتأمل ما حدث بعمق، ويحاول أن يرسم بقلمه الأمين خطوطا عريضة لأهوال الفاجعة ولفلسفة أبطالها الذين كانوا يتسابقون للعروج إلى السماء على جناح الشهادة المخضب بدماء النبي صلی الله علیه و آله وسلم الزكية. وقد عبر الأديب (كتاني) عن رأيه بقوله: (وكربلاء - إني أتمثلها الخشبة العريضة التي عرضت فوقها مشاهد الملحمة التي كان نجمها الكبير، وبطلها الأوحد، الحسين ابن علي بن أبي طالب الذي صرفنا مجهودا طيبا به، ونحن نستنزف النفس والأوصال

ص: 358


1- الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، شرح محمد عبده، مصدر سابق ج1 ص69

في تتبع سيرته المليئة بأسرار الذات، وعنفوان النفس، والمنسولة نسلامن كل عبقرية يقترن بها توق الإنسان، فيقتنص له منها جناحا يطير به إلى سماوات أخرى تجعله قطبا من الأقطاب الذين يعتز بهم وجود الإنسان)(1).

وهنا يتساءل الأستاذ (كتاني) إن كان يجوز لنا، بعد أن رافقنا الحسين عليه السلام ستا وخمسين سنة - وهي كل عمره الشريف -، أن لا نتتبع خطاه في البقية الباقية من أيامه العشرة بيننا على وجه الأرض، وهي الأيام الأخيرة الخالدة في ضمائر الأديان وذاكرة الشعوب، وسرعان ما يرى الأستاذ (كتاني) أن تلك الأيام الأخيرة من عمر الإمام الحسين عليه السلام هي خلاصة المعاني السامية في حقيقة هذا الوجود، ولذلك علينا أن نستمر في مرافقتنا للإمام الحسين عليه السلام حتى نصل معه إلى ساحة كربلاء، وعلينا - على الأقل - أن نكون مشاهدين صادقين مع ذواتنا وقادرين على امتصاص واستيعاب النواقص فينا وإدراك ضعفنا بداخلنا أمام عظمة الحسين عليه السلام وبطولاته، وعلينا، بنفس الوقت أيضا، أن نحاول - قدر الإمكان - امتصاص شذى البطولات.

وهي تدعونا إلى كل فضیلة من شأنها أن تجمعنا إلى حقيقة الذات الخيرة والنيرة

والتي نتوحد من خلالها بالإمام الحسين عليه السلام .

وإذا كان الأديب المسيحي، الأستاذ (كتاني)، قد تأثر كثيرا بأحداث التراجيديا

الكربلائية وبفصولها المأساوية الدامية، واعتبر أن كل إنسان عليه أن يكون شاهدا على فظاعة الخطب وشناعة الحدث الذي انتهت إليه فصول الملحمة الحسينية، تلك الملحمة التي لم يكتبها الإمام الحسين عليه السلام بدمه إلا من أجلنا نحن أبناء النور الآدمي في كل زمان ومكان، فإن هذا لا يعني إلا شيئا واحدا لا يجوز التغاضي عنه أو تجاوزه

ص: 359


1- لیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، مصدر سابق ص152

في الكلام عن مسرح الفاجعة.

إن استذكارناللفاجعة واسترجاعنا لكل تفاصيلها يعني أننا نريد حقا أن نطهر نفوسنا من أكدارها وأن نصفيها من أرجاسها عن طريق تصعيد الألم مثلما يصفو الذهب الحر من التراب والشوائب بفعل قوة النار اللاهبة فيه.

فالكاتب المسرحي والأديب المسيحي العراقي (يوسف عبد المسيح ثروت) ( 1921 - 1994) لم يغفل عن ذكر الإمام الحسين عليه السلام ومأساته الأليمة في دراساته

المسرحية ونتاجاته الفكرية.

فقد أبرز هذا الأديب المسرحي مكانة الحسين عليه السلام بصدق وأمانة في نفوس عشاقه وأحبابه من المسيحيين في العراق، لاسيما ممن خبر قصة الحسين وأهله عليهم السلام، ووقف على التحليلات العقلانية والدراسات الواقعية لثورة الطف المجيدة.

وكان المرحوم (یوسف ثروت) قد حضر مأتم الإمام الحسين عليه السلام والمسرح التقليدي الذي يروي عادة قصة استشهاد سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في معركة غير متكافئة بين قوة الخير وقوى الشر، وكان مما خرج به هو هذا الانطباع عن الإمام الشهيد علیه السلام :

(إن المشاهد التي أراها على مدى التاريخ العربي والإسلامي - لم تستطع مهما آتاها الحظ - أن ترقی سفح الجبل الذي قمته مشهد ثورة الإمام الحسين، واستشهاده عليه السلام مع من استشهد معه، ومن ظل من أتباعه ينتظر الشهادة بعده، احتذاء بأسرته واقتفاء لاثره، فالمثل الذي ينتصب شامخا أمامنا والقدوة التي تجتذبنا إليها بكل تلك الروعة والجلال، والدرس الذي خطته على جبين الزمن تلك الشهادة اليتيمة، والرمز العظيم الذي حفر في كل قلب حزاندیا أبد الدهر، والصفعة التي كالها الإمام لوجه

ص: 360

طاغوت الظلم والشر والاستبداد، كل ذلك يحفزنا على أن لا نمر بالعاشر من المحرم مر العابثين السادرين في غي الأفيون، اللاهثين وراء ملذات الجسد والتراب...)(1) فالمشاهد المسرحية المؤثرة - على كثرتها وصدقها - لا تستطيع أن تنقل الحقيقة

بكل أبعادها وأعماقها إلى قلوب وعقول المشاهدين، فباتساع الرؤية تضيق العبارة.

وقد أدرك الأستاذ (ثروت) حقيقة ذلك، ولكن الشيء الذي لم يستطع أن يدركه تمام الإدراك هو عزوف الأدباء المسرحيين العرب عن تأليف العديد من المسرحيات الجادة التي تتناول قصة الثورة الحسينية بأسلوب مسرحي مدروس جيدا يمکن المشاهدين من فهم حقيقة أبعاد الفاجعة التي لا تزال تطاردهم بآثارها حتى اليوم الحاضر.

وربما كان أبلغ ما قاله المسرحي المسيحي (ثروت) في هذا المجال هو قوله في مقال له بعنوان (ثورة الحسين - المأساة والأصداء): (... وعلى كثرة ما قرأت عن المأساة، فإن الذي كنت أفتقده أشد ما يكون الافتقاد هو خلو أدبنا العربي - وفي القرن العشرين بالذات من أثر مسرحي واحد يعالج المأساة عرض دراميا جديرا بجلالها ومدلولاتها وصنوف تأثيراتها في مجمل التاريخ والأدب وكل دروب الحياة، انطلاقا منها ورجوعا إليها تقويم للدرس وصيانة للأثر، وفضحا للأستار الكثيفة من تبريرات الحكام وتلبيات أذنابهم وجلاوزتهم)(2)

.وإذا كان الأديب المسيحي (يوسف عبد المسيح ثروت) قد أبدى امتعاضه من عدم كتابة المسرحيين العرب للعديد من المسرحيات الهادفة التي تكشف الستارة عن

ص: 361


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص6
2- يوسف عبد المسيح ثروت، ثورة الحسين . المأساة والأصداء، راجع مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص 21

حدث خطير يعتبر من أهم وأخطر الأحداث على ساحة التاريخ الإسلامي والإنساني على حد سواء، فإن الأديب والباحث (أمير اسکندر) قد أبدى استغرابه الشديد من الأيادي السوداء الخفية التي تريد أن تخنق كل محاولة جادة لإخراج المسرحيات المكتوبة عن الإمام الحسين عليه السلام إلى عالم الواقع والنور.

وقد كتب الأستاذ (اسکندر) مقالا له بعنوان (ثأر الله)، وقد نشرته له جريدة الجمهورية المصرية بتاريخ ( 2/18/ 1972)، وكان من جملة ما قاله فيه هو أن الحسين عليه السلام ، منذ ثلاثة عشر قرنا، خرج بأهله وأصحابه كي يعلي كلمة الله الحقيقية، كلمة الحق والعدل والحرية، وكان خروجه حينذاك نذيرا بالنهاية لكل قوى الشر والبغي والظلام.

وكانت تلك الرحلة اليتيمة رحلة عذاب طويلة ومجيدة وما كان يقوى على احتمال مصاعبها ومتاعبها إلا أصحاب الرسالات وحدهم، وقد ناضل فيها الحسين عليه السلام بالكلمة والسيف معا، ورفض السلام الخانع وارتفع فوق مستوى السلامة الشخصية الذليلة، وظل حتى آخر نبضة من قلبه الطاهر النقي ثابت الإرادة، مرفوع الرأس، إلى أن تمكنت منه قوى الكفر والظلام فقتلته وفصلت رأسه عن جسده، وقد حسبت أنها قد حققت ما أرادت وأن لهيب الثورة قد نام إلى الأبد.

لكن الواقع كان غير ذلك تماما، فالحسين عليه السلام قتل لكن دعوته غدت رسالة والحسين عليه السلام قطع رأسه، لكنه بات رمزا للعنفوان والشهادة، والحسين عليه السلام تضرج بدمه، لكنه أمسى في عصره، وفي كل العصور، نداء دائما في صداه يستصرخ المؤمنين والمناضلين والمستضعفين من الفقراء والبسطاء والمساكين طالبا منهم جميعا أن يفتحوا عيونهم وأن يجابهوا بثبات كل قوى الشر التي تحيط بهم، وأن يقمعوا كل

ص: 362

عوامل الضعف والخنوع والتردد في أعماقهم... وأن يثأروا لكلمة الله الحقيقية... كلمة الحق والعدل والحرية(1).

وانطلاقا من هذه الحقائق التي يؤمن بها كلها الأستاذ الأديب (اسکندر)، وانطلاقا أيضا من حبه وتقديسه لمعاني البطولة والتضحية والفداء الذي تشرف به التاريخ الإسلامي والإنساني والتي كان الإمام الحسين عليه السلام رمزهاالأكبر في كربلاء، فإن الأستاذ (اسکندر) يبدي استغرابه الكبير وأسفه الشديد على ما بدر من علماء ومشايخ الأزهر الشريف بحق إحدى المسرحيات الهامة التي تتناول مسيرة الإمام الحسين علیه السلام .

فبعد أن أعطت الجهات المسؤولة في الأزهر موافقتها المبدئية، ومن ثم النهائية،

على عرض مسرحية (عبد الرحمن الشرقاوي) عن ثورة الحسين عليه السلام البطولية على خشبة المسرح القومي في مصر عام / 1971/، فوجئ الناس بصدور قرار جديد من نفس الجهات المسؤولة في الأزهر يحظر ويمنع منعا باتا القيام بعرض وتمثيل هذه المسرحية بأي شكل كان.

وقد صدر ذلك القرار المضاد الجديد دون تقديم أي مسوغ أو تبرير ضاربين برغبات الناس ومشاعرهم عرض الحائط، سيما وأن الآلاف من أولئك الناس قد قرأوا الإعلانات عن المسرحية في الصحف والمجلات، وعلى جوانب الطرقات، تلك الإعلانات التي تقول إن (ثأر الله) سوف تعرض على خشبة المسرح القومي هذا الأسبوع!!

وهنا، يعلق الأستاذ (اسکندر) على ما حدث قائلا: (ويبدو أن مأساة الحسين التي

ص: 363


1- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، مصدر سابق ص252

وقعت في العراق منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا تتكرر هنا مرة أخرى رغم اختلاف الظروف وبعد القرون، فمسرحية الحسين تتعرض الآن مثلما تعرض الحسين نفسه في الماضي للتنكر والإنكار!! وهي توشك أن تلقى مصيره الدمي، مختنقة وسط حصاد قوى غريبة تسلك سلوكا غير مبرر وغير مفهوم...)(1). وعلى ما يبدو، فليست مسرحية (ثأر الله) هي العمل الأدبي المسرحي الذي تعرض للاغتيال على يد جماعة تتخذ من الدين ستارا ومن التعصب دثارا، بل هناك العديد من الأعمال الأدبية الكبيرة لا تزال محتجزة في دائرة الظلام الإعلامي خوفا من إفلاتها وخروجها إلى عالم الانطلاق والنور.

فكتاب (ملحمة الحسين) للشاعر الكبير (عمر أبو ريشة)، الذي تحدثنا عنه في الفصل السابق، لا يزال مختفيا ومتواريا عن الأنظار عامة، ولا أحد يعلم حتى الآن السبب الأكيد والمباشر وراء عدم طباعة تلك الملحمة الشعرية التي تقع في ما يقارب ألفي بيتا من الشعر العربي الأصيل، والتي تؤرخ للثورة الحسينية ولآل البيت عليهم السلام منذ عهد النبوة وحتى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في بطاح كربلاء

وكذلك الحال بالنسبة للملحمة الشعرية ذات الطابع المسرحي التي نظمها الشاعر الدمشقي (عدنان خليل مردم بك) المولود عام / 1917/ في مسقط رأسه دمشق.

وتحمل تلك المسرحية الشعرية الملحمية عنوان (مصرع الحسين)، وهي مسرحية تتناول في طياتها الكثير من المشاهد المؤثرة عن خروج الحسين عليه السلام واستشهاده المبکر من أجل قيم ومبادئ السماء، ومن أجل عزة الإنسان وكرامته على

ص: 364


1- نفس المصدر السابق ص253.

أرض الرسل والأنبياء عليهم السلام .

ولكن، وللأسف، ماذا وصلنا من تلك المسرحية الملحمية غير النتف والمقاطع الصغيرة منها، مع العلم أن ناظمها الأديب والشاعر السني (عدنان مردم بك) هو واحد من ألمع الأدباء في الوطن العربي، وله العديد من المسرحيات الشعرية الأخرى، مثل:(جميل بثينة)، وديوان (نجوی)، و(غادة أفاميا)، وديوان (صفحة ذكرى)، و(عبير من دمشق) و (فلسطين الثائرة)، وغيرها... وقد منحته إحدى منظمات اليونسكو لقب (بروفيسور) مع منحه أيضا الجائزة الثالثة للأعمال الأدبية الصوفية الكبرى.

وقد منح هذا الشاعر المحلق الجائزة الثالثة للأعمال الصوفية الكبرى عن مسرحيته (رابعة العدوية) المنشورة عام / 1972/ في بيروت، ولهذا الشاعر مسرحيات شعرية صوفية أخرى مثل (الحلاج) طبع / 1971/، ومسرحية (دیوجین) طبع / 1977/، ومسرحية (أبو بكر الشبلي) طبع / 1981/، وقد ترجمت معظم مسرحياته هذه إلى اللغات العالمية الحية.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن:

لماذا لا تذکر مسرحية (مصرع الحسين) بين أعمال الشاعر؟!

ولماذا عندما نستعرض قائمة أعمال هذا الشاعر المذكورة في أي عمل من أعماله المنشورة لا تقع عيوننا على عنوان مسرحية (مصرع الحسين)، حتى ولو ضمن قائمة

(تحت الطبع) أو (من الأعمال المخطوطة للشاعر)؟!

ثم، أليس من واجبنا هنا - بعد هذا التعتيم الفكري الكامل على هذه المسرحية - أن نشكر الأستاذ الفاضل (محمد سعيد الطريحي) الذي نبهنا إلى وجود هذه المسرحية الهامة في أدبنا العربي وذلك بعد أن ألقي عليها الأضواء من خلال إيراده لبعض

ص: 365

المقاطع الشعرية منها في مجلته الغراء (الموسم) التي تصدر في هولندا.

وها نحن نذكر الآن - لمجرد التأكيد على وجود هذه المسرحية - بعض الأبيات القليلة الواردة على لسان (حبیب بن مظاهر)، أحد أصحاب الإمام الحسين عليه السلام الذي قدم نفسه في سبيل نصرة رسالة الإمام العظيم عليه السلام ، وها هو يقول مخاطبا معسكر الأعداء:

- انزلي الظلم في رقاب البرايا *** عبد شمس، ولا ترقي لمدمع

وأبيحي ماحرم الله في الأر *** ض وبثي الفساد في الكون أجمع

واخنقي الحق واخرسی کل من *** * قال بقول الحق أو كان يسمع

أليس بعد الظلام غير ذكاء *** ودجى الليل غیر فجر مرصع

فأكثري الظلم عبد شمس فإنا *** عن قريب عند الإله سنجمع(1)

وعلى كل حال، وبما أننا كنا منذ قليل في معرض الحديث عن مسألة تحویل أحداث ونصوص الفاجعة إلى مسرحيات تمثيلية يتم تشخيصها على أرض الواقع، فمن المفترض أن نستمر في استعراض واستكمال ذكر أهم النقاط التي تصب في هذا الميدان الذي لم يبق محصورا على ذكر أحداث ومآسي الإمام الحسين عليه السلام في نصوص المسرحيات العربية، بل تجاوزها إلى ذكر تلك المآسي والدروس والعبر في

سياق العديد من النصوص المسرحية في الشرق والغرب أيضا.

فالأستاذ الباحث (رشید بنشنب)، وهو باحث من المغرب العربي، كتب مؤكدا في بحث مطول له باللغة الفرنسية تحت عنوان (فكرة المسرح والطقوس الإسلامية) أن المسرح الإسلامي الأول نشأ في بلاد فارس، وأن الفرس هم أول من قام بنقل

ص: 366


1- راجع مجلة الموسم العدد /12/ المجلد /3/ مصدر سابق ص358

أحداث الفاجعة من مرحلة الروايات المنطوقة والمكتوبة إلى مرحلة الأحداث المتجسدة والمشخصة على أرض الواقع.

ونراه يؤكد وجهات نظره بالقول: (نحن نقرأ أن هذه المسرحيات تعتمد على أساس ديني شأن التراجيديات اليونانية، وأسرار القرون الوسطى، وأنها تأخذ نقطة انطلاقها من (علي)، وخصوصا من (الحسین) ابن بنت محمد... وهذه الحادثة العسكرية قد وجدت في فارس صدی عميقا، وكان الاحتفال بذكرى موت الحسين يتم عن طريق مظاهر الحداد، ومسيرات شعبية يجلد فيها المؤمنون أنفسهم مع تأوهات وندب علني ثم تحول كل ذلك في نهاية القرن الثامن عشر إلى عرض مسرحي)(1).

وفي الحقيقة، إن الباحث (بنشنب) قد أجاد في وصف المسرح الكربلائي الذي يقام كل عام تخليدا لذكرى الإمام الحسين عليه السلام الذي هزت مأساته الضمائر الإنسانية الحية على مر العصور.

وقد استطاع ذلك الباحث أن يوجز الكلام في هذا الموضوع بطريقة تعطي القارئ الفكرة المطلوبة بشكل مختصر ومفيد دون اللجوء إلى الإسهاب، والإطالة مما قد يوقع القارئ في مهاوي الضجر والملل وربما التشتت في الأفكار أيضا.

وهنا تحديدا، دعونا نتوقف مع هذا الباحث الذي شاهد المسرح الحسيني بأم عينه، ثم راح يصف ويكتب ما رآه باللغة الفرنسية ليقرأ ذلك البحث المميز الآلاف من الفرنسيين وغيرهم من الأوروبيين الذين يهتمون بتاريخ الشرق وبرسالاته وبالأحداث

ص: 367


1- رشيد بنشنب، فكرة المسرح والطقوس الإسلامية، دراسة ملحقة بكتاب الإسلام والمسرح للمؤلف محمد عزيزة، وهو مصدر سبق ذكره، راجع ص164

المفصلية التي مرت عليه وسجلت في صفحاته المكتظة بالأحداث المتنوعة والمتفاوتة في قيمتها وأهميتها.

وحتى يقطع الأستاذ (بنشنت) حبل الإطالة في الحديث عن المسرح الكربلائي نراه يبدأ حديثه عن تصوير مسرح الفاجعة بالقول: (يقام هذا العرض عموما في ساحة عامة، أو في صحن مسجد أو في تكية بنيت لهذا الغرض، ويأتي المشاهدون الذين يهزهم الإيمان نفسه ليشاركوا في العرض وكأنه طقس ديني.

أما في البداية فنجدهم وقد هزهم التأثر صامتين جامدين، ثم تنهمر دموعهم

دون ضابط عندما يشهدون أمام أعينهم أحداث حياة الحسين المضطربة:

طفولته السعيدة مع أبيه الإمام علي، وأمه فاطمة ابنة النبي، وأخيه الحسن، ثم شبابه المهدد من كل جانب من قبل أعداء قساة، وأخيرآ نهایته المأساوية، ويزداد فضولهم المليء بالإعجاب بعوامل أخرى تقدم في العرض... کالرؤى والمعجزات والنبوءات والإحياء... إذ يرون مثلا رأس الحسين المقطوع يظهر كي يرتل مقاطع من القرآن .. وفي مكان آخر يرون أحد المعاركين الشهداء وقد قطعت ذراعاه يضع سيفه بين أسنانه ويغمده في أحشاء خصمه، ولكن حماس المشاهدين لا يصل إلى أعلى درجاته إلا في المشهد الرئيسي للعرض.. مشهد قطع رأس الإمام نفسه حيث يجري الدم - الدم الحقيقي - أمام أنظار المشاهدين المتألمين على رمال الصحراء.. عند ذلك يبدأ البكاء والنشيج المختلط بالاهتزاز العصبي لدى البعض الذين بلغ إيمانهم بما یرونه درجة كبيرة من التأثر.

وأخيرا، يتدخل المشاهدون في العرض بحماسة تفوق حماسة الممثلين.. ويبدو الأمر وكأن الممثلين والمشاهدين قد خضعوا للعذاب نفسه يعيشون بصورة واحدة

ص: 368

مغامرة الحسين الرهيبة ويصبحون بذلك مثالا حيا للتقمص..)(1).

إذن، بهذه السطور المكثفة استطاع الباحث (بنشنت) أن ينقل لنا صورة المسرح الإسلامي الكربلائي بأسلوب واقعي بعيد عن روح الانفعال، وخصوصا ما يتعلق بوصف المشاهد ذات الصلة بإعادة إحياء أحداث الفاجعة وربطها مسرحيا بأرض الواقع من جديد. .

ولكن ما يستوقفني الآن، هو قول الأستاذ (بنشنب): (ويبدو الأمر وكأن الممثلين والمشاهدين قد خضعوا للعذاب نفسه، يعيشون بصورة واحدة مغامرة الحسين الرهيبة، ويصبحون بذلك مثالا حيا للتقمص)، فما الذي يقصده بذلك؟!

في الحقيقة، إن الجواب على هذا السؤال يكمن في عبارة قصيرة نسمعها عادة من أفواه الناس والقراء الذين يتلون وقائع وتفاصيل الفاجعة على أسماع الحضور في مجالس العزاء وعند إقامة المأتم الحسينية.

فما هي تلك العبارة، وماذا تعني؟!

إنها العبارة التي تعبر عن رغبة كل فرد بالدفاع عن الإمام الحسين عليه السلام على الرغم من الفارق الزمني والمكانی الذي يفصل بين ذلك الفرد وبين الإمام الحسين عليه السلام، إنها العبارة التي تقول: (یا لیتنا کنا معکم فنفوز فوزا عظيما)، إن هذه العبارة البسيطة التي نسمعها في كل شهر محرم مئات المرات هي التي تجعل من كل فرد مشارك في ذلك المأتم أو مجلس العزاء جزءا لا يتجزأ من أجواء الفاجعة، بل ربما تجعل منه إنسانا جديدا قادراعلى اختراق حواجز الزمان والمكان ليعيش معركة کربلاء من جديد، وليحارب بكل شجاعة وإيمان وصبر مع الإمام الحسين عليه السلام ،

ص: 369


1- نفس المصدر السابق ص166

وليقتل بين يديه كأي شهيد من أصحابه، بعد أن يكون قد تطهر من كل ذنوبه وأثقاله، ومن كل همومه وأحزانه.

وما يؤكد كلامنا هذا، هو كلام الدكتور (أنطون معلوف) الوارد بشكل موسع في كتابه (المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية)، فبعد الكلام المطول عن تاریخ الأبطال المأساويين بدءا من أبطال الشرق القديم (تموز) و (مردوخ) وغيرهما، و مرورا بالأبطال الإغريق والرومان، وانتهاء بالأبطال المأساويين الذين ولدوا على يدي الأديب والمسرحي الإنكليزي الشهير (وليم شكسبير)، نرى أن هذا الباحث المتخصص، الدكتور (معلوف)، لا يغفل ذكر ملحمة الإمام الحسين عليه السلام التي لا تزال تلك البطولات الدامية فيها حية في قلوب الملايين من محبيه، بل وفي قلوب أولئك الذين يرون أن طهارة القلوب والنفوس لن تأتي بشكلها الحقيقي إلا عن طريق التطهير(CATHARSIS) الذي يتولد عادة عن العيش والانخراط في جو من أجواء المأساة التي تصيب البطل العظيم، ذلك البطل الذي تكون نهايته تراجيدية على الرغم من أنه ينحدر من أصل شريف ونبيل ويحمل الكثير من الصفات والخصال الحميدة التي قلما تجتمع كلها في شخص آخر غيره.

وبعد الانتهاء من الكلام عن احتفالات عاشوراء وعقد مجالس العزاء، نرى أن الدكتور (معلوف) يجيبنا على سؤال هام جدا قد يتبادر إلى ذهن كل واحد منا بعد أن يعرف ويدرك جيدا طبيعة البطل التراجيدي ودوره في عملية (التطهير).

والسؤال هو: لماذا نحب البطل التراجيدي على الرغم من أن نهايته ستكون مأساوية؟!

ويأتينا الجواب الواضح من الدكتور (معلوف) بقوله: (أما أبطال المآسي

ص: 370

فيمثلون، بفعل روح التخطي الحالة فيهم، أعلى ما في نفوسنا من توق إلى التوحيد بين الفكر والعمل، بين الظاهر والباطن، بين (الكون) و(التظاهر) بالكون، بین ما نؤمن به وما نفعله، فلا ازدواجية من بعد، ولا رياء، وبالتالي فلا شعور دائم بالإثم، أو بخيانة الذات... إذن فسر حبنا للمأساة، وسر إقبال الناس قديما وحديثا على الاشتراك في الاحتفالات المأساوية، إن أبطالها هم (نحن) في أنقى وأعلى ما في نفوسنا من اشتياقات دفينة إلى الصدق والبراءة، والنبل والتضحية ...)(1).

وبطبيعة الحال، فإن الدكتور (معلوف) لا يبخل علينا بذكر العديد من المشاهد المسرحية المؤثرة المأخوذة من عمق الفاجعة الكربلائية الدامية، ولكن بعد ذكر تلك المشاهد المؤثرة، نراه الآن وفي هذه المرة هو الذي يطرح السؤال على نفسه قائلا:

هل من كاثرسیس (تطهير) في احتفالات عاشوراء؟!

وقبل أن نقرأ جوابه على سؤاله المطروح، دعونا نقرأ أو أحد المشاهد الهامة التي ذكرها في مقدمة حديثه عن مأساة كربلاء، وقد بدأ الدكتور (معلوف) بقوله عند ذكر المشهد: (ومن المواقف الدرامية الشديدة التأثير، بعد مقتل القاسم بن الحسن،...

حين تقدم العباس من أخيه الحسين:

العباس: السلام عليك يا سيدي يا أبا عبد الله .

الحسين: وعليك السلام يا بن والدي.

العباس: هل من رخصة؟! (إذن القتال)، إني فقدت الصبر .

الحسين: أنت أخي، أنت قائد عسكري وحامل لوائي، وسقيم نفسي، فإذا ذهبت

ص: 371


1- الدكتور أنطوان معلوف، المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر . بيروت، ط1982/1، ص88

قلت حيلتي وشمت بي عدوي.

العباس: أخي، سيدي، لقد سئمت الحياة وعدمت الصبر .

الحسين : إنا لله وإنا إليه راجعون.

... ويتقدم العباس فيفتك بأهل الكوفة (من الموالين للجيش الأموي) فتكاعظيما، فيضربه أحدهم بعمود من حديد على يمينه فيقطعها، فينشد:

والله إن قطعتم يميني...

إني أحامي أبدا عن ديني

وعن إمام صادق اليقين

وکمن له رجل آخر فضربه بالسيف على يساره فقطعها، فصاح العباس:

(السلام عليك يا أخاه، السلام عليك يا أبا عبد الله ...)، فينقض الحسين عليه ويكشف العسكر عنه، ويجلس إلى جنبه، ويضع رأسه على ركبته ويمسح التراب عن وجهه، ولكن العباس ينزل رأسه عن ركبة أخيه ويروح يمرغه بالتراب...

الحسين: أخي، أبا الفضل، لم تفعل ذلك؟!

العباس: أنت الآن تمسح التراب عن رأسي، ولكن بعد ساعة من يمسح التراب

عن رأسك ؟ !(1)

وأمام هذا المشهد المحزن، وأمام بقية المشاهد المأساوية المؤثرة الأخرى، يزداد انفعال الجمهور المحتشد ويرتفع البكاء والنحيب، ويتحول الجميع إلى أفراد مشاركين في الحدث وكأن كل واحد منهم بدأ يعيش کربلاءه الخاصة بالإضافة إلى كربلاء الإمام الحسين عليه السلام العامة ذات الطابع الإنساني الشمولي.

ص: 372


1- نفس المصدر السابق ص42

ولذلك، فمن المناسب هنا أن نذكر جواب الدكتور (معلوف) عن إمكانية قيام

المجالس والاحتفالات العاشورائية بعملية الكاثرسيس (التطهير) في نفوس الناس المحتفلين، وعلى ما يبدو، فإن الجواب عنده واضح وبسيط ولا يحتاج إلى الكثير من التفكير، ولذلك نراه يقول بكل ثقة في جوابه على السؤال المطروح: (إن العاشوراء قائمة على التعاطف مع آلام الحسين تعاطفا يبلغ أقصى حدوده، يشحن المحتفلون نفوسهم بأقصى عواطف الخوف والشفقة على الحسين]... حتى إذا بلغوا الغاية من التعاطف مع بطل عاشوراء تخففوا من آلامهم ومشاعرهم، ومن رآهم ينوحون ويذرفون الدمع الغزير ثم رآهم بعد ذلك، وقد اكتست أساريرهم براحة نفسية أكيدة، عرف ما للعاشوراء من مفعول (کاثر سیسی) (تطهيري) صادق)(1).

وعلى ما يبدو، فإن رأي الدكتور (أنطوان معلوف) يتشابه كثيرا مع رأي الأستاذ (علي يونس)، وهو أستاذ في الجامعة اللبنانية، في فقه المسرح وسوسيولوجيا المسرح وعلم النفس المسرحي، ويرى هذا الباحث المتخصص في علوم المسرح أنه من خلال إقامة مجالس العزاء ومن خلال احتفالات عاشوراء يتم استعادة الحدث بأبطاله وجمهوره، ويتجلى حضور البطل رغم غيابه من خلال حضوره بالقيم والمثل.

أما الزمان في عاشوراء فهو زمن متواصل لا يعرف الفواصل، وأما المكان فلا

يعرف الحدود والأطر لأن عاشوراء قابلة للتمثيل في كل مكان في العراء

وأما عن مسألة التطهير التي كان يتحدث عنها الدكتور (معلوف) منذ قليل، فیری الأستاذ (یونس) بدوره أيضا أن شعيرة عاشوراء هي التربة المثاليةالخصبة لإنتاج عملية التطهير النفسي والروحي عند المحتفلين والمشاركين في تلك الشعيرة.

ص: 373


1- نفس المصدر السابق ص51.

ويؤكد على وجهة نظره بالقول: (إن شعيرة عاشوراء هي الطقس المثالي لتحقيق التطهير، فهي نوع من إعادة خلق الذات والعودة بها إلى (المعيار الصحيح)، وهي مناسبة خصبة تسمح بالولادة والتجدد والانبعاث لكونها متناغمة تماما مع انقضاء عام هجري وبداية عام جديد، إذ يتعانق الموت والحياة والفناء والولادة.. فيأتي مصرع الإمام الحسين ليحقق النصر بالهزيمة، ويوحد القوة بالضعف، في صراع الحق مع الباطل، والإباء مع الطغيان والفساد)(1)

وفي هذه الحالة، يقوم البطل هنا- وهو الإمام الحسين عليه السلام - بتحويل الهزيمة القتالية إلى نصر عظيم، والموت إلى حياة، وعذاب الغربة والوحدة إلى عذوبة اللقاء مع أحكم الحاكمين، ومعاناة الجوع والألم والعطش إلى نعيم دائم في جنات لا تفنى خيراتها ونعمها، والأهم من ذلك كله هو قدرة البطل هنا على تحويل الدم، الذي ينظر إليه شرعا على أنه نجس، من رمز للعذاب والقهر والعنف إلى رمز للخلاص والطمأنينة والطهارة، أوليس الشهيد يدفن دون أن يغسل من دمه!!

ألم يقل الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده بفترة وجيزة:

(إن كان دين محمد لم يستقم إلا *** بقتلي، فياسيوف خذيني)؟!

نعم، لقد قالها الإمام الحسين عليه السلام وهو على يقين تام أن دمه سيغطي جسده كله بعد لحظات من قولها، وأنه سيتحول إلى طريق للتطهير ولاستعادة الوعي والإرادة في نفوس أتباعه.

وقد علق الأستاذ الباحث (یونس) على هذا البيت الشعري الذي قاله الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده بوقت قصير، رابطا بين هذه العبارة الشعرية وبين

ص: 374


1- علي يونس، شعيرة عاشوراء، مجلة (الآداب)، العدد /6.5/ أيار . حزيران، 1999، ص7

تداعيات الشعيرة العاشورائيةونتائجها الطقوسية، بالقول:

(يقولها الإمام الحسين (أي عبارة: إن كان دين محمد...) ويتوحد مع مصيره، إذ

لا لقاء بين الأضداد، فيتخطى الهوان ويقاتل دون تكافؤ، ويستشهد، وهنا يتوازی المفهوم الديني مع المفهوم التراجيدي، حيث يوځد البطل بين قوله وفعله، ولا يؤخر حسما ولا يتردد، وكما أن الحياة في المعتقد الديني رحلة قصيرة إلى زوال ۔ من دار فناء إلى دار بقاء «وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ»(1) ، فإن الموت في التراجيديا ليس مقلقا، بل إن الحياة هي المقلقة، لأن الاستمرار فيها مع الذل والهوان فشل وإخفاق، والموت بالتالي نجاح وانتصار.

وموت الحسين يجعله يبلغ بموته ما لم يكن ليبلغه لو بقي حيا، واحتفالية عاشوراء كشعيرة طقوسية لا تزال موسما للتطهير واستعادة التوازن المفقود، وبذا خرج أبطال عاشوراء إلى حالة إنسانية أرحب، ومن دائرة الواقع إلى دائرة المثل، بل أصبحوا أقرب إلى الأسطورة)(2).

فللدم المراق شعائريا وظيفه تطهيرية في عاشوراء، فهو يمثل الرغبة القوية والطموح الجامح للاستشهاد في سبيل الله، فالشهيد في العقيدة الإسلامية لا يطهر من دمه المراق في سبيل الله وفي سبيل رسالته ومبادئه، بل من المكروه جدا أن يلامس الماء جسده قبل الدفن، وهذا شيء متعارف عليه ولا خلاف على صحته عند كافة المذاهب والفرق الإسلامية، أما بالنسبة لعقيدة (المناولة) في الديانة المسيحية، فهي ترتكز في جوهرها على هذا التصور القائل: إن المؤمن حين يشرب الخمر الذي يقدمه

ص: 375


1- سورى الأعلى: الآية 17
2- س المصدر السابق ص7

له الكاهن في الكنيسة، فهو يشرب الدم الذي نزفه السيد المسيح في لحظات العذاب العظيم، وبالتالي فإن تناوله للخمر الذي هو رمز لدم المسيح، هو محاولة للتكفير عن كل ما ارتكبه ذلك المؤمن من ذنوب وخطايا، وهو تطهير من كل النقائص والآثام.

إذن، فالدم أحد أهم المميزات في هوية البطل التراجيدي سواء في فاجعة كربلاء أم في غيرها من الفجائع والمآسي الكبرى عبر التاريخ، وحتى عبر الأدب والميثولوجيا أيضا.

فالبطل التراجيدي - كما يصفه الفيلسوف اليوناني (أرسطو) - هو ذلك الشخص الاستثنائي الذي يملك من الفضائل والخصال ما لا يملكه الإنسان العادي، ويكون

(أفضل مما نحن عليه)(1)

ولأن ذلك البطل يتصف بامتلاكه ما لا يملكه الإنسان العادي من الخصال والفضائل، فمن الطبيعي تماما أن يعيش حالة الصراع المرير القائم بين رؤيته للحياة الناقصة وبين تطلعات النفس البشرية نحو أحلام كبيرة وسامية، ومن الطبيعي أيضا أن يحكم هذا الصراع القاسي مضمون أخلاقي كما هو الحال في كل مأساة، ويكون لهذا المضمون الأخلاقي قوام روحي وله أيضا قوانین جمالية خاصة به.

ألم يعلق الباحث المتخصص (إريك بنتلي) على علاقة المسرح بالحياة الواقعية وبالحياة الخيالية المرتقبة بقوله: (هل كان للفن وجود لو لم يرغب الإنسان في الحياة مرتين ؟! لك حياتك، وعلى المسرح تحياها ثانية)؟ !(2)

ص: 376


1- مولوین میرشنت وكليفورد ليتش، الكوميديا والتراجيديا (سلسلة عالم المعرفة)، ترجمة: د. علي أحمد محمود ، إصدار المجلس الوطني للثقافة . الكويت، العدد /18/ حزيران، 1979، ص193.
2- مناضل داؤود ، المسرح وطقوس التعزية، راجع ملحق جريدة (الثورة) الثقافي، العدد /163/ الأحد 1999/5/23ص7

فالصراع قائم لا محالة، والدم مسفوك بلا شك، والحياة السامية المرتقبة التي

يريدها البطل التراجيدي لا تزال تدغدغ أحلامنا في كل حين.

وقد ذكر العديد من المستشرقين والمفكرين الغربيين مسألة البطل التراجيدي في فاجعة كربلاء، وركز البعض الآخر منهم على قضية أخرى لا تقل أهمية عن مسألة صفات البطل التراجيدي التي يمتاز بها عن غيره من بقية الشخصيات، إنها مسألة(القدر المكتوب) الذي على البطل أن يواجهه بكل شجاعة وثبات.

ولكن، نظرا لضيق الوقت والمكان، ونظرا لأن هذه المسألة الهامة تحتاج إلى کتاب مستقل قائم بحد ذاته، فإننا نرى أن نرجئ الكلام في هذا الموضوع الهام والحساس إلى وقت آخر بهدف دراسته جيدا والإحاطة به من كل جوانبه.

ولذلك، فإن ما يهمنا الآن هو استعراض بعض الآراء والانطباعات التي سجلها العديد من المستشرقين والمفكرين حول (مسرحة) الفاجعة وإقامة مجالس العزاء والمآتم تخليدا لكل الأبطال التراجيديين الشهداء، وعلى رأسهم الإمام الحسين علیه السلام، حفيد النبي والرسول الأخير صلی الله علیه و آله وسلم

وعلى سبيل المثال، يذكر المستشرق (دومينيك سوردیل) في كتابه (الإسلام في القرون الوسطى )العديد من الملاحظات حول مسرحة أحداث کربلاء، واعتبر في ملاحظاته أن إعادة تمثيل وقائع الفاجعة التي ألمت بالإمام الحسين عليه السلام عبارة عن صورة مطابقة لما يحدث في الديانة المسيحية من تمثيل المشاهد المؤثرة حول عذاب وآلام السيد المسيح عليه السلام .

وكان من جملة ما قاله (سوردیل) بصدد ذلك: (وأدت فاجعة موت الحسين في

ص: 377

کربلاء إلى مشاهد مسرحية تذکر بمشاهد (الوجد) في الغرب الوسيطي، وارتضى

الإماميون أن يتأملوا في الآلام الماضية للعترة المختارة)(1).

وعلى الرغم من أن هذا المستشرق، (سوردیل)، لم يكن نزيها ومنصفا في الحكم على بعض المسائل الإسلامية بشكلها العام، كمسألة مصادر الدين الإسلامي ومسألة الحضارة في الإسلام، إلا أنه لم يجد مفرا من الإقرار بالحق أحيانا عند الكلام عن بعض القضايا التي تتناول الأحداث المصيرية الكبرى في التاريخ الإسلامي، وبشكل خاص التاريخ الإسلامي المبکر.

وانطلاقا من ذلك، نرى أن هذا المستشرق يركز في معظم ما كتبه عن الإسلام على واقعة كربلاء، واستشهاد الإمام الحسين عليه السلام مع أهله وأصحابه على يد الأجلاف الأمويين.

وقد جاء في كتابه (الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي) الذي كتبه بالاشتراك مع (جانين سوردیل)، قوله التالي : (وقد اقترن ما خص به الإمام من دور فرید بتعلق عاطفي بشخصه وبعائلته عبرت عنه بخاصة التأملات في المآسي التي لم تزل تنزل

بساحة علي وفاطمة وآلهم خلال وجودهم الأرضي.

فزيارات التقوى على أضرحتهم واحتفالات ذكرى عاشوراء ساعدت أتباعهم

على تذكر آلام واستشهاد معظم الأئمة الذين مضوا جميعا بموت عنيف...

وقد ركز بشكل خاص على مأساة كربلاء التي ذهب ضحيتها الحسين وعدد من أولاده وبني عمه، وتلاها سوق نسائه وبقية الأسري على طول طريق الفرات حتى المقر الدمشقي للخليفة الأموي... وأدت (فاجعة كربلاء) إلى تمثيلات مسرحية

ص: 378


1- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، مصدر سابق ص107

حقيقية لاستشهاد الحسين)(1).

أما في ما يتعلق بالمؤرخ والباحث الدكتور (جون هوليستر) صاحب الكتاب الشهير (تاريخ الشيعة في الهند)، فقد أفرد في الفصل التاسع منه بحثا خاصا عن شهر محرم الحرام وأهميته الدينية مع مراسيم الشعائر الحسينية التي تقام خلاله في الهند بمختلف الوسائل والأشكال.

وقد أكد في كتابه المذكور، وعلى ما يقارب العشرين صفحة من الفصل التاسع منه، على (أن مقتل الحسين في كربلاء برغم كونه قد وقع قبل مدة تزيد على ثلاثة عشر قرنا، فإن فجيعته كانت واضحة جلية لكل شيعي ولكثيرين غيرهم بواسطة المراسم والاحتفالات الدينية التي تقام سنويا في محرم الحرام).

وبعد تأكيد الدكتور (هوليستر) على حرمة وعظمة شهر محرم عند كل مسلم، نراه

يتابع كلامه بالقول: فقد كان (شهر محرم) حتى قبل عهد النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم يعرف بالمهرجان السنوي الذي كان يقام فيه، وأن اليوم العاشر منه يسمى بيوم عاشوراء، وكان يعرف بكونه اليوم الذي تسقط فيه أول مطرة في السنة، وكذلك خلق الله سبحانه وتعالى فيه آدم وحواء والسماء التاسعة (هكذا وردت)، ومنحت فيه الرسالة المقدسة الأرواح العشرة آلاف رسول، وفي الوقت الذي يكون فيه مقتل أعظم شخصية إسلامية التي لها أثر كبير في نفوس المسلمين وغيرهم، هو سبط الرسول الأعظم محمد ،صلی الله علیه و آله وسلم الإمام الثائر أبي عبد الله الحسين(2).

هذا هو المختصر المفيد من كلام المؤرخ الدكتور (جون هوليستر) الذي ورد في

ص: 379


1- دومينيك وجانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة: حسني زينه دار الحقيقة . بيروت، 1980، ص138
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص56

الفصل التاسع من كتابه (تاريخ الشيعة في الهند)، وعلى ما يبدو فإن الرسالة التي تؤديها احتفالات عاشوراء ومجالس العزاء الحسينية واضحة المعالم والنتائج بالنسبة لكل المفكرين والمستشرقين على حد سواء.

فهذا هو المستشرق الفرنسي، الدكتور (جوزف) يحدث القارئ الغربي في كتابه

(الإسلام والمسلمون) عن طبيعة تلك الاحتفالات التراجيدية وعن دورها الفعال والحيوي في نشر فكر أهل البيت عليهم السلام و في تبيان الظلم العظيم الذي وقع عليهم وعلى أتباعهم المخلصين على مر التاريخ.

وكان من جملة ما قاله الدكتور (جوزف) عن أتباع أهل البيت عليهم السلام ومحبيهم:

(وصاروا يعقدون المجالس سرا ويبكون على مصائب الحسين واستحكمت هذه العاطفة في قلوبهم... وبمقتضى تخمين بعض سواح فرنسا، إن الشيعة فعلا سدس المسلمين أو سبعهم، ونظرا إلى هذا الترقي الذي حازته فرقة الشيعة في زمان قليل من دون جبر وإكراه يمكن أن يقال إنهم سيفوقون سائر فرق الإسلام بعد قرن أو قرنین، والسبب في ذلك هو إقامة عزاء الحسين الذي قد جعله كل واحد منهم داعيا إلى مذهبه.

ولا يوجد اليوم مكان فيه الواحد والاثنان من الشيعة إلا ويقيمان فيه عزاءالحسين ويبذلان في هذا السبيل الأموال الكثيرة)(1).

وأعتقد شخصيا أن هذه الأعمال من محبي النهج الحسيني هي أقل ما يمكن أن يقام به کواجب أخلاقي وروحي تجاه الإمام الحسين عليه السلام وما قدمه للإنسانية عموما من دروس وعبر وتضحيات عز نظيرها في الوجود.

ص: 380


1- نفس المصدر السابق ص58

فالبقدر الذي كان فيه يزيد ذليلا ووضيعا، كان الإمام الحسين عليه السلام بالمقابل عزيزا ورفيعا، وبقدر ما ملك يزيد واستأثر وطغى وبغي، بقدر ما بذل الإمام الحسين عليه السلام وأعطى وجاد و ضحی.

فمن الصراع الحاد والاختلاف الذي يفوق التصور بين هاتين الشخصيتين ولدت أعظم مأساة في التاريخ، وقد صدق العالم الأنثروبولوجي الأمريكي (كارلتون كون) ( C.Coon) صاحب کتاب (قصة الإنسان) المعروف عالميا، عندما قال:

(إن مأساة مصرع الحسين بن علي تشكل أساسا لآلاف المسرحيات الفاجعة)(1)

وقد جاء هذا القول للعالم الأمريكي (کون) في كتابه (القافلة.. أو قصة الشرق الأوسط).

أما المستشرق الإنكليزي (رینولد نیکلسون) فلا يجد حرجا في وصف یزیدبقوله الصريح:

(ترعرع یزید بدويا بكل غرائز وأذواق البدو، من حب اللذة وکره التقى وعدم اكتراث استهتاري بقوانين الدين، وقد تحدد مستهل حكمه بحادث (قتل الحسين) قلما يتحدث عنه المسلمون - حتى في الوقت الحاضر - دون أن يشعروا بقشعريرة الفظاعة والرعب)(2). وإذا كانت هذه هي صورة يزيد كما يراها أحد أهم المستشرقين في الغرب المسيحي، فكيف يرى الأديب النحوي والعالم الأزهري السني (عبد الله العلايلي)

ص: 381


1- الحسين عليه السلام في ضمير الأمم والحضارات، مجموعة أقوال للعديد من المفكرين والعلماء وهذه الأقوال ملحقة بنشرة (أجوبة المسائل الشرعية) المطابقة لفتاوى المرجع آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي، العدد / 122/، مصدر سابق ص9
2- نفس المصدر السابق ص9

صورة الإمام الحسين عليه السلام ، وهو أحد أبرز الأعلام في الشرق الإسلامي؟!

يرى العلامة (العلايلي) صورة الإمام الحسين الحقيقية من خلال قوله الصادق:

(في إنسانية الحسين عليه السلام تلتقي شعلة البذرة المقدسة بالفطرة المثالية الفذة، وتزدحم المعاني والصور ورموز العالم المجهول، فهو روح إلهية في طبيعة بشرية، ومعنى غيبي في حروف من أشباح الوجود، وكذلك تعطي يد الله الصناع بعض المعالم الحية سرا من أسرارها، يكون لها به ما للأحجار الكريمة من خلب وبهجة ورواء)(1)

وبعد كل هذا التناقض الصارخ بين الإمام الحسين عليه السلام ويزيد، أليس من الطبيعي أن تولد ملحمة كربلاء الحسين عليه السلام لتكون النسخة الثانية الأكثر عنفا ودموية من مسرحية الصراع البشري الأول بين قابيل وهابيل؟!

نعم، إن فاجعة كربلاء، وإن كانت متأخرة زمنيا عن فاجعة هابیل علیه السلام وعن

فجائع كل الرسل والأنبياء الذين تعرضوا للظلم والعنف والموت كالنبي زکریا علیه السلام وابنه النبي يحيى عليه السلام وانتهاء بالمآسي والآلام المريرة التي تعرض لها سيدنا عيسى المسيح عليه السلام ، إلا أن كربلاء هي الوعاء الأوسع والأشمل الذي احتوى كل معاني الفاجعة في سبيل نصرة الحق وإعلاء راياته وكشف الظلمات عن كلماته وأنواره.

فالمستشرق الأمريكي (غوستاف غرونیباوم) الذي قرأ وكتب الكثير من المؤلفات عن الإسلام وعن الحياة الاجتماعية والفكرية في الشرق، قرأ بإمعان ما حدث في كربلاء من مجازر وظلم بحق الحسين وأهل بيته عليهم السلام، وقد قرأ أيضا ما جاء في كتاب (مسرحية الخوارق عن الحسن والحسين) للكاتب والأديب الإنكليزي

ص: 382


1- نفس المصدر السابق ص 9.

(لويس بيلي)، وكان من نتيجة قراءته لتلك الأحداث المؤثرة في المسرحية المذكورة،

أن علق عليها بقوله: (إن حادثة كربلاء تذکر بعنف وقوة بموت المسيح)(1).

وهنا بالتحديد، أريد أن أتوقف قليلا مع هذه العبارة التي قالها المستشرق الأمريكي (غوستاف غرونیباوم) حول التشابه بين البطلين التراجيديين (الإمام الحسین) و (السيد المسيح) علیهما السلام

وقبل أن أذكر هنا الفكرة التي تراودني باستمرار عن العلاقة القوية بين هذين البطلين المأساويين من حيث حجم الكارثة والفاجعة التي نزلت بكل منهما، أريد أن أقول للقارئ الكريم إن الفكرة التي سأذكرها الآن هي وجهة نظر خاصة بي أنا، ولا ألزم أي شخص باعتناقها أو حتى تأييدها والقبول بها.

فللقارئ الكريم الحق في قبول أو رفض أي فكرة أطرحها في هذا الكتاب طالما

أنها فكرة قابلة للتداول ما بين أخذ ورد، و قبول ورفض.

والفكرة التي أريد طرحها الآن هي فكرة مبنية على السؤال التالي الذي يبدو أنه سؤال غريب فعلا، والسؤال هو: لماذا لم يتزوج السيد المسيح عليه السلام ويأتي بأطفال وذرية مباركة إلى هذا الوجود؟!

وبالطبع، فإن الجواب على هذا السؤال لا يأتي بكلمة أو كلمتين، وإنما يأتي من

خلال ربط هذه المجموعة من الأفكار التي سنربطها الآن بعضها ببعض.

لقد رأينا في أحد الفصول السابقة من هذا الكتاب كيف أن معظم الرسل والأنبياء علیهم السلام قد تنبأوا بالمصير الدامي الذي ينتظر سبط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين بن علي عليه السلام وفاطمة عليها السلام، وقد رأينا أيضا أن هناك العديد من المفكرين

ص: 383


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص56

المسيحيين المعاصرين قد ذكروا في مؤلفاتهم أن السيد المسيح عليه السلام قد تنبأ بدوره أيضا بما سيقع على الإمام الحسين وأهله علیهم السلام على شط الفرات معتمدين في ذلك على العديد من الأحاديث والروايات المتنوعة الواردة في عدة كتب ولعل أبرزها الكتاب المقدس نفسه، وتحديدا كتاب (الإنجيل) أو مايعرف بكتاب (العهد الجديد).

وبما أن السيد المسيح عليه السلام كان هو الأقرب زمنيا إلى فترة بعث محمدالمصطفی صلی الله علیه و آله وسلم رسولا ونبيا، كان هو الأقدر والأعرف بشؤون هذا الرسول الجديد القادم الذي سيخلفه وسيكون خاتم الرسل والأنبياء.

ولعل آخر کتاب قرأته في هذا المجال هو كتاب (نظرة جديدة في سيرة رسول الله) لمؤلفه المفكر والسياسي المسيحي المعتدل (كونستانس جیورجیو)، وزیر خارجية رومانيا السابقة، والذي يرى في كتابه المذكور أنه من غير المستبعد أن يكون السيد المسيح عليه السلام قد تحدث عن مجيء رسول من بعده يدعى (بارکالت) أو

(بریکلي توس) والتي تعني باليونانية (أحمد) و(محمد) ومعناها هنا الأكثر مدحا.

وقد ذهب السيد (جیورجیو) إلى أبعد من هذا، وذلك عندما ذكر أن اليهود أيضا كانوا على علم ودراية بمجيء رسول آخر بعد المسيح عليه السلام وسيكون اسمه (أحمد)، ولذلك فإنهم اضطربوا اضطرابا عظيما ليلة ولادة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وقد تخوفوا من وضع آمنة علیها السلام خوفا كبيرا(1)

ولأن السيد المسيح عليه السلام - كما رأينا الآن وفي فصل سابق - كان على معرفة

ص: 384


1- كونستانس جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة الدكتور: محمد التونجي، الدار العربية للموسوعات . بيروت، 1983، ص23

كاملة بأحوال الرسول الذي سيأتي بعده، وماذا سيحل به شخصيا من حيث مختلف فعالياته ونشاطاته الدينية والدنيوية، وماذاسيحل بأهل بيته من بعده، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام الذي سيذبح هو وأولاده وأطفاله ظلما على شط الفرات، فقد عاش السيد المسيح عليه السلام فاجعة كربلاء بذهنه وبقلبه قبل أن يعيشها الإمام الحسين عليه السلام بعدة قرون من تنبؤ السيد المسيح عليه السلام بها.

ولأن السيد المسيح عليه السلام كان دائما وأبدأ رمزا للمحبة والسلام، ورمزا للتصالح مع الذات من حيث ارتباطاتها الأرضية، ونظرا لكرهه الشديد لمشهد الدماء ولکرهه أيضا لشرب كأس الاختبار المرير الذي عبر عن موقفه منها بقوله مخاطبا الله عز وجل: (يا أبتاه، إن لم يمكن أن تعبر عني هذه الكأس إلا أن أشربها، فلتكن مشيئتك )(1) مدركا تمام الإدراك أنه لا مفر له من شرب تلك الكأس المريرة المصحوبة بأقسى أنواع البلاء والابتلاء، لذلك فقد آثر وفضل أن يعيش حياته وحيدا دون شريكة ودون عيال وأطفال لأنه كان يدرك أيضا في قرارة نفسه أن مصير أولاده وأطفاله قد يكون كمصير أولاد وأطفال سبط الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام.

ولذلك، فقد آثر السيد المسيح عليه السلام أن يعيش کربلاءه الخاصة بشكل فردي أحادي وحتى دون أن يسمح لفكره أن يتخیل، مجرد خيال، أن يكون له أطفال أتقياء أبرياء أنقياء کندى الصباح يعيشون من بعده ما سيعيشه ابن المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم وأطفاله، وما سيلاقونه سوية على شط الفرات من ظلم وقتل وبي ومهانة لا تحدها حدود.

وفي هذه الحالة، أيهما أفضل: أن يبقى وحيدا ويلاقي مصيره بشكل فردي، أم أن يكون صاحب عیال وأطفال كي يلاقوا ما سيلاقيه أولاد الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم في

ص: 385


1- الإنجيل (إنجيل متى) ج26 ص42.

فاجعة أليمة كفاجعة كربلاء؟!

هذا ما أردت أن أقوله معبرا عن وجهة نظري، وللقارئ الكريم الحق في قبول

هذا الكلام أو رفضه.

وبالعودة ثانية إلى آراء وأقوال المستشرقين، يمكننا أن نتوقف قليلا مع الكاتب والمؤرخ الأمريكي (ول ديورانت) صاحب کتاب (قصة الحضارة) الغني عن التعريف.

يقول هذا الكاتب، وهو مؤرخ أكثر مما هو مستشرق، عن المسرح التراجيدي المتخصص بعرض مشاهد الآلام في الفاجعة الحسينية: (أقيم في كربلاء حيث قتل الحسین مشهد عظیم تخليدا لذكراه، ولا تزال مأساة قتله تمثل في كل عام تمجيدا لتضحيته وبدافع من الحزن والأسى)(1).

وعن هذا المشهد الحسيني العظيم الذي تمثل بجانبه حوادث الفاجعة كل عام تخليدا لذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، يقول المستشرق الألماني (أ - هونيغمان) في كتاب الإنسكلوبيديا الإسلامية الموجزة): (إن الانطباع العام الذي يحصل عليه الإنسان داخل المشهد الحسيني في كربلاء لا يماثله إلا ما يروى في الأساطير)(2).

نعم، لقد أصاب هذا المستشرق الألماني عندما رأى أن الانطباع الذي يكتسبه الإنسان داخل المشهد الحسيني لا يوصف لأنه أشبه ما يكون بالشعور الذي ينتاب الفرد وهو يعيش في جو من أجواء الأساطير التي لا تحدها حدود ولا تضبطها قوانین .

ص: 386


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص54
2- نفس المصدر السابق ص54

وعن هذه الفاجعة التي دخلت بقوة أحداثها المؤلمة أجواء الملاحم الأسطورية،

تحدثنا الباحثة الإنكليزية (أ. س. ستيفنس) في كتابها (في بلاد الرافدين) قائلة:

(على مقربة من مدينة كربلاء حاصر هراطقة يزيد بن معاوية وجنده الحسين بن علي ومنعوا عنه الماء، ثم أجهزوا عليه، إنها أفجع مآسي الإسلام طرا...

جاء الحسين إلى العراق عبر الصحراء ومعه منظومة زاهرة من أهل البيت وبعض مناصريه، وكان أعداء الحسين كثرة، وقطعوا عليه وعلى مناصريه مورد الماء.

واستشهد الحسين ومن معه في مشهد کربلاء، وأصبح منذ ذلك اليوم مبكى القوم وموطن الذكرى المؤلمة كما غدت تربته مقدسة)(1).

وإذا كانت هذه الباحثة الإنكليزية ترى أن التربة التي استشهد عليها الإمام الحسين عليه السلام قد غدت تربة مقدسة على مستوى المسلمين المناصرين لمبادئ الإسلام الثائر في كربلاء، فإن المستشرق الأمريكي (فيليب حتي)، المتحدر من أصل لبناني، يرى أن كربلاء قد أصبحت بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام على رمالها واحدة من الأماكن المعظمة في العالم.

ويقول الأستاذ (حتي) في كتابه (History Of The: Arabs ) عن المجالس والمآتم الحسينية التي تتكرر على الدوام: (ولا تزال حشود الحجاج تتدفق على مشهد (علي) في النجف وعلی مشهد ابنه الحسين، القديس العظيم، والشهيد في جوار کربلاء، ولا تزال المسرحيات المؤثرة تمثل بشكل سنوي في العاشر من شهر محرم في شتى أصقاع العالم الشيعي لتظهر إمكانية أن يكون الموت أكثر فائدة ونفعا بالنسبة

ص: 387


1- نفس المصدر السابق ص53.

(للمخلص) من الحياة ذاتها)(1).

فالموت أحيانا يعطي الأحياء دروسا أكثر مما تعطيهم الحياة، ويكون البطل الشهيد في هذه الحالة هو المخلص والمعلم الذي لا يتوانى في إعطاء الإنسان الحي الكثير من الدروس والعبر والحكم المكتوبة بمداد من الدم على صفحات من البطولة والرجولة والصبر والإيمان.

فعندما يقول العالم الإنكليزي (توماس هيوز)، وهو أيضا أحد المفكرين البارزين، في كتابه الذي يحمل عنوان (قاموس الإسلام): (اشتهرت کربلاء بمصرع الحسين، الإمام الشهيد، وبكونها مثواه الأخير)(2)، فهذا يدل ويؤكد على أن هذا المفكر، وغيره من المفكرين أيضا، لا يترددون لحظة عن إطلاق صفة (الشهيد) على الإمام الحسين عليه السلام الذي يمثل - حتى بالنسبة إليهم - الإمام العظيم الذي قدم أعزما يملك من أجل القيم والمبادئ والمثل النبيلة التي كان يؤمن بها حتى اللحظةالأخيرة من رحيل روحه إلى عالم غيب السماوات الفسيح.

وبإمكاننا الآن الوقوف قليلا مع المستشرق الإنكليزي (دوایت رونلدسن) الذي

يرى أن أرض کربلاء قد اكتسبت قداستها وعظمتها من دم الإمام الحسين عليه السلام المراق فوق رمالها الملتهبة، ويؤكد (رونلدسن) أيضا في كتابه (عقيدة الشيعة) على أن كل مكاني كان يكتسب مكانته المميزة في نظر المسلمين من خلال شهادة المكان ذاته على حجم الظلم الكبير والكارثة التي حلت بدرية الرسول المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم ممثلة بفاجعة كربلاء التي دارت رحاها الطاحنة على الإمام الحسين عليه السلام الثائر وعلى أهله

ص: 388


1- PHILIP HITTI, History Of The ARABS, P.183
2- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55

وأصحابه المخلصين الميامين.

يقول (رونلدسن) في كتابه المذكور: (... وفي القاهرة يوجد جامع الحسين،

فيذهب الدراويش في أيام معينة من شهر محرم ويطوفون بالقبر الذي يقال إن فيه رأس الحسين الشهيد، ولكن شيعة إيران ينظرون إلى سهل کربلا ءنظرة احترام عظیم حيث وطئ جسد الحسين بالخيل، ويذكرون أن إحدى زوجاته كانت ابنة (یزدجرد) آخر الملوك الساسانيين، فيعتبرون شهادته في كربلاء مصيبة قومية عظمى يحيون ذكراها بالتعازي الكثيرة وتمثيل السبايات في شهر محرم.

إن سفك دم الحسين ابن بنت النبي في سهل كربلاء قد أصبح يعتبر ذا قيمة في التضحية ويظهر ذلك في تطور العقيدة وفي انتشار عادة الزيارات التي يمتاز بها مشهد الحسين)(1) ويرى الباحث والراهب الفرنسي (لويس غارديه) أن (تقدیس آل البيت كان منشأتلك التمثيليات المأساوية التي هي (التعزيات)... وبعد ملحمة كربلاء أسبغت على الألم والموت قيمة مباركة بالنسبة إلى الشيعة)(2).

ومن نافلة القول أن نذكر هنا أن هذا الراهب الفرنسي الكبير (لويس غارديه) قد ألف كتابا قيمامن عدة أجزاء بالاشتراك مع الباحث (ج. قنواتي)، والعنوان الكامل للكتاب هو (فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية)، وهو كتاب يتناول في مجمله القضايا العقائدية والفلسفية التي تتفق عليها الديانتان الإسلامية والمسيحية، ولكن، بنفس الوقت أيضا، لم يغب عن ذهن المؤلفين ذكر أهم النقاط التي تتميز بها

ص: 389


1- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، مصدر سابق ص101
2- لويس غارديه، أهل الإسلام، مصدر سابق ص248

كل ديانة عن الديانة الأخرى.

فمن النقاط الهامة واللافتة للنظر قول ذلك الراهب: (ومن اليعاقبة (وهي فرقة من المسيحيين) أيضا كانت القبائل العربية المسيحية التي حالفت المسلمين في حروبهم في السنين الهجرية الأولى، ثم اعتنقت الإسلام بعد ذلك دینا)(1).

وعلى كل حال، أردنا فقط أن نلقي الضوء على هذا الكتاب الهام الذي يعتبر بحق، أهم الأعمال الفكرية التي تركها لنا الراهب (غارديه) بعد رحيله.

وتتمة؛ لحديثنا السابق عن مسألة الفاجعة الحسينية وعلاقتها بالمسرح، نرى أن البارون الفرنسي (كارا دوفو) قد تحدث في كتابه (مفكرو الإسلام) عن مأساة أحداث اغتيال أمير المؤمنين علي عليه السلام واستشهاده في الكوفة، وكذلك عن تمثيل تفاصيل استشهاد ابنه الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولكن كلامه عن الفاجعتين المريرتين جاء بشكل مختصر جدا(2).

ومن الطبيعي أن لا تغيب مأساة كربلاء وذكرى آلامهاعن فكر المستشرق الفرنسي المعاصر (روجيه غارودي) الذي ما برح يتحفنا بالمزيد من نتاجاته الفكرية والفلسفية التي - إن دلت على شيء- فإنما تدل على أن عالم الاستشراق لا يخلو أبدا من وجود مفکرین مخلصين لشرف المهمة الفكرية والثقافية التي انتدبوا أنفسهم للقيام بها وبأعبائها على أكمل وجه.

فالمفکر (غارودي) يتحدث في كتابه (ما يعد به الإسلام) عن فاجعة كربلاءفي

ص: 390


1- لويس غارديه وج. قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية ج2، ترجمة: د.صبحي الصالح والأب الدكتور فريد جبر، دار العلم للملايين . بيروت، 1967، ج2 ص16
2- البارون کارا دوفو، مفكرو الإسلام، ترجمة: عادل زعيتر، الدار المتحدة للنشر . بيروت، ط 1979/1 ، ص83

أكثر من موضع، ولكن كلامه عن مفهوم الشهادة عنده طغى على كلامه حول علاقة الفاجعة ذاتها بالمسرح ومآتم العزاء، ولذلك، فقد لخص كلامه عن تلك النقطة بقوله: ( واستشهاد الشهيد يمكن أن يتم في إحدى المعارك التي يأمل فيها بالنصر، وهذا ما حدث في معركة (أحد) التي خاضها النبي... وقد یکون موت الشهيد باختياره وهو يعلم علم اليقين بهزيمته المؤكدة، وهذا الطراز من الاستشهاد جسده لدى الشيعة من المسلمين الحسين بن علي حفيد النبي الذي قتل في معركة كربلاء، وللشهادة مدلول آخر بالإضافة إلى (موت) الشهيد وتوقع الهزيمة، فهي برهان على الحقيقة والإيمان، وهي في الوقت نفسه إسهام في نصر هذا الإيمان وتلك الحقيقة)(1)

وكان أيضا للمفكر الفرنسي المسيو (بلانشو) (Blanchot) كلام غريب بعض الشيء عن مسرح الفاجعة وعن الإمام الحسين عليه السلام الذي يمثل بنظره البطل التراجيدي المثالي، ولذلك، فقد قال في معرض كلامه عن الاحتفال بأيام عاشوراء : (إن الحسين عند المسلمين يذكر بأدونيس عند اليونان)(2)، أي أن الحسين عليه السلام قد تحول إلى رمز لتجدد الحياة.

ومنعا لأي إشكال في فهم ما قاله المسيو (بلانشو) حول أوجه التشابه بين الإمام الحسين عليه السلام عند المسلمين وأدونيس عند اليونانيين، فقد علق الدكتور (زكي مبارك) على ذلك بقوله في كتابه (المدائح النبوية في الأدب العربي): (ليس معنى هذا أن المسلمين نقلوا عن اليونان فكرة المآتم الموسمية، ولكن هذه المشابهة بين ذکری أدونيس وذكرى الحسين تدل على أن الناس يلتقون في كثير من الأخيلة الفطرية وإن

ص: 391


1- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، مصدر سابق ص68
2- الدكتور زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر . القاهرة، 1935، ص54.

تباعدت بينهم الديار، وفرقت بينهم المذاهب، ومن العجيب أن هناك نفحة روحية في الفكرتين، فأدونيس تقدس ذكراه لأنه ابن (أفرودیت) إلهة الجمال، والحسين یمجد ذكره لأنه ابن فاطمة، وهي بنت الرسول)(1).

ولكن، وعلى ما يبدو، فإن الباحثة المسرحية المعروفة على المستوى الأوروبي (تمارا ألكسندروفنا بوتیتسیفا) كانت أيضا من الشخصيات المسرحية الهامة التي قرأت أحداث فاجعة كربلاء وتأثرت بها إلى أقصى الحدود، وكان لتلك الباحثة الموهوبة مشاركات فكرية فعالة في مجال الكتابة عن فلسفة مأساة الحسين عليه السلام وعن الأسس الفعلية التي قامت عليها طقوس العزاء واحتفالات عاشوراء الحزينة التي تختلط فيها ذكرى آلام الماضي بآهات وهموم الحاضر، وتمتزج فيها أيضا دموع الألم بالدماء التي تراق أحياناللتعبير عن النية الصادقة في السير على النهج الحسيني السليم مهما كانت النتائج والضرائب المترتبة على هذا الولاء الأكيد.

وقد حاولت هذه الباحثة المجتهدة (بوتیتسيفا) الاعتماد على هذه النقاط الأساسية في بحثها المسرحي، وقد أعلنت أسفها الشديد (لعدم ولادة (شكسبير) عربي كان باستطاعته تجسيد طباع أبطاله وسلوكهم في الشكل الفني للتراجيديا الدموية)(2)، ومن ثم الوصول إلى أنه (رغم عدم توفر الأساس الأدبي المتين، فقد أدى مصير الحسين المأساوي وأدت معركة كربلاء إلى ولادة (التعزية) التي تعتبر من أقدم العروض المسرحية في العالم الإسلامي)(3).

ص: 392


1- نفس المصدر السابق ص 54
2- أحمد محمد خالد، مسرح العرب بين نص الإسلام وسيرورته، منشورات وزارة الثقافة . دمشق، 1997، ص 51
3- نفس المصدر السابق ص51

وبالتالي، فإن هذه الباحثة (بوتیتسیفا) هي من أكثر الباحثين المسرحيين حماسه للقول بوجود مسرح (عربي - إسلامي) قدیم ولد من رحم الفاجعة.

ولكن السؤال المهم الآن، هو:

لماذا كانت (بوتیتسیفا) تأمل بولادة (شكسبير) عربي؟ ولماذا شكسبير تحديدا؟ في الحقيقة، إن ما تريد الباحثة (بوتیتسیفا) قوله لنا هو أن الكاتب والأديب المبدع لا يمكن أن يكون مبدعا بالفعل ما لم يكتب شيئا أو يقدم عملا أدبيا أو فكريا مميزا جدا بحيث يضع مؤلفه في دائرة الإبداع، فالمؤلف هو الذي يبدع العمل وهو الذي يخرجه من حالة الكمون إلى حالة الوجود، سواء بشكل قصيدة أو رواية أو مسرحية أو غير ذلك من الأشكال الفكرية أو الفنية الأخرى.

فالأديب المسرحي (شكسبير) (1564-1616) لم يتربع على عرش المسرح في أوروبا كلها إلا بعد أن أبدع الكثير من الأعمال المسرحية الهامة والمعروفة عالميا، مثل: (هاملت)، (عطيل)، (الملك لير)، (تاجر البندقية)، (مكبث) وغير ذلك من الأعمال المسرحية التي لا تزال تمثل على الكثير من خشبات المسرح في بقاع عديدة من العالم حتى الآن.

إذن، فهناك عملية إبداع يقوم بها المبدع حتى يصبح مبدعا في عيون الآخرين، وهذا شيء طبيعي ومتعارف عليه في عالم الإبداع، ولكن الشيء غير الطبيعي هو أن يكون العمل الإبداعي موجودا بطبيعته على أرض الواقع، وهو القادر على أن يخلق مبدعين عظماء لمجرد أن يتناولوه بالبحث والدراسة وإعادة صياغته بأسلوب أدبي وفکری جذاب و دقیق بحيث يتم التركز فيه على طبيعة الأحداث وعلى العمق الذي تتميز به كل الشخصيات الرئيسية وعلى الأهداف والقيم والتداعيات اللاحقة وعلى

ص: 393

الآثار والدروس المستفادة، وهذا- باختصار شديد - ما أرادت الباحثة (بوتیتسیفا) قوله لنا من خلال استغرابها وأسفها على عدم ولادة شكسبير عربي من خلال صياغة وكتابة العديد من المسرحيات باللغة العربية عن فاجعة كربلاء، تلك الفاجعة الأليمة والاستثنائية بمرارة أحداثها وقوة دروسها وآثارها على المستوى العالمي عموما، وليس على المستوى العربي أو الإسلامي وحسب.

إذن، فمن أراد من الأدباء المسرحيين أن يكون مبدعا عالميا في عالم المسرح مثل الأديب المسرحي (شكسبير)، فعليه بالكتابة عن ملحمة الحسين عليه السلام وعن أبعاد تلك الملحمة المأساوية الجديرة بأن تمثل على الدوام بمختلف اللغات في شتى أصقاع الأرض.

ومما يؤكد عالمية ملحمة كربلاء وتجاوزها لحدود الزمان والمكان والأديان، هو تعاطف غير المسلمين مع آلام الإمام الحسين عليه السلام ومع أهدافه وقيمه ونبل غاياته.

فالصابئة - على سبيل المثال - يحتفلون في العراق بذكرى استشهاد الإمام الحسين مع أهل بيته عليهم السلام، ويشاركون المسلمين الشيعة في إقامة مجالس العزاء، وقد أصبح بإمكان كل واحد منا أن يلاحظ بروز هذه الظاهرة جليا في القنوات التلفزيونية الفضائية ذات الطابع الديني المعتدل التي تعرض في كل عام تقريبا ما يقوم به الصابئة في العراق من مشاركات وجدانية وإنسانية في إحياء مراسم ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام.

ومن المعروف عن الصابئة تفضيلهم اللون الأبيض على سائر الألوان في لباسهم فالصابئي يحب أن يرتدي اللون الأبيض على الدوام، غير أنه يفضل أن ينزع هذا اللون عنه ويستبدله باللون الأسود في ذكرى محنة الإمام الحسين عليه السلام حيث يرتدي

ص: 394

السواد إمعانا منه في إظهار حبه ومواساته للإمام الحسين عليه السلام ولأهل بيته الأطهار الذين قضوا ظلما وعطشا على شط الفرات.

ولذلك، فعندما تحدث الرحالة البرتغالي (بيدرو تكسيرا) في كتابه (بغداد مدينة الباشوات) عن السقاة في كربلاء قائلا: (إن السقاة في كربلاء يسقون الماء للناس في سبيل الله وإحياء الذكرى الإمام الشهيد الذي قتل عطشان في هذه البقعة)(1)، فإنه لا يقصد بكلمة (السقاة) مجرد المسلمين المتعاطفين کليا أو جزئيا مع مصائب الإمام الحسين وأهله وعياله علیهم السلام ، بل قصد حتى أولئك الذين هم من غير المسلمين الذين تعاطفوا وجدانيا وإنسانيا مع سيد الشهداء عليه السلام في صراعه مع قوى الشر والشرك.

ولا يتوقف الأمر عند مشاركة المسيحيين والصابئة في إحياء ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام، بل إن الأمر يتعدى ذلك ويتجاوزه إلى حد كبير، فالباحث المتخصص (توبي هوارث) (Toby M. Howarth ) يحدثنا في كتابه الشيق (الشيعة الاثنا عشرية كأقلية إسلامية في الهند) ( The Twelver Shia As Amuslim Minority in India) عن إحياء الطائفة (الهندوسية) لذكرى استشهاد الإمام الحسين علیه السلام وعن إقامتهم لمجالس عزاء خاصة به وبأهل بيته عليهم السلام.

ويحدثنا المؤلف (هوارث) عن الترتيبات التي يقوم بها الهندوس تكريما لتلك المناسبة الحزينة، وقد كتب (هوارث) قائلا تحت عنوان (الهندوس يحيون ذكرى موت الحسین): (ألقيت الخطبة التالية (عن معاني كربلاء) ضمن مجلس عزاء نظمه أحد الهندوس لجمع من غير الشيعة ... والمجلس لقاء سنوي ينظمه الدكتور (إي سودار شان داس)، وهو زعيم محلي وناشط سياسي من ناحية (دابيرا بورا).

ص: 395


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55

و(سودار شان داس) من محبي فاطمة ابنة النبي وأم الحسين، وفي كل سنة يدعو جماعة من السياسيين غير الشيعة وسواهم من زعماء المجتمع ويقيم لهم مجلسا يخطب فيه أحد الشيعة ويلقب ب- (الذاكر)، ومقصده من ذلك أن تحصل لهم معرفة جيدة لمعاني محرم ومعركة كربلاء)(1)

وينتقل الباحث (هوارث) بنا إلى أجواء الاحتفالات ليعطينا بعض الصور عن

طبيعة تلك المجالس التي ينظمها الوجهاء الهندوس تخليدا للفاجعة، فيقول متابعا: (ويقوم في وسط هذه الجماعة (غير الشيعية) عشرون من الرجال والصبيان الشيعة، وهم يدركون تماما أنهم يؤدون منسکا دينيا بحضور طائفة من الناس، وهم إن يكونوا غرباء فإنهم يشاركون في المجلس بالصلوات على محمد وآله وبالبكاء وبعمل المأتم...)(2)

ومن الأبحاث الهامة التي تدعم المعلومات الواردة في كتاب الباحث (توبي هوارث)، هو ذلك البحث الذي يحمل عنوان (ذكرى الاستشهاد في بومبي وحيدر آباد) للكاتب والباحث البحريني (علي الشرقي) الذي عايش جو الاحتفالات ومآتم العزاء في الهند عن قرب.

وقد أكد الأستاذ (الشرقي) في بحثه المذكور أن الأمة الهندية التي تمثل الخليط الغريب لمختلف الأديان والمذاهب، تشارك جميعها في احتفالات عاشوراء وفي إقامة مجالس عزاء حدادا على مصاب الإمام الحسين عليه السلام ، شهید کلمة الرحمن وكرامة الإنسان.

ص: 396


1- Toby M. Howarth, The Twelver Shia As A muslim Minority in India Routledge – 2005 P.74
2- نفس المصدر السابق ص74

فمنذ ألف وأربعمائة سنة تقريبا، وحتى الآن، ولا تزال أصداء النهضة الحسينية تقرع أسماء العالم وتهز ضميره، ولا تزال شخصية الإمام الحسين الشهيد عليه السلام تمثل عند ذوي الضمائر الحية والحرة من مختلف المذاهب والأديان أنموذجا فريدا للمنقذ والمخلص الحق الذي قدم وضحي بكل ما يملك من أجل تحقيق كل الأهداف النبيلة التي خرج من أجلها، وكذلك من أجل إثبات وترجمة قول جده الكريم صلی الله علیه و آله وسلم : «حسين مني وأنا من حسین»، هذا القول الذي لا يختلف على صحته اثنان من المسلمين.

وعلى كل حال، بعد المقدمة الموجزة التي كتبها الأستاذ (الشرقي) عن مكانة تضحيات الإمام الحسين عليه السلام في ضمائر الأحرار، نراه ينتقل بنا إلى مشاهداته الحية في الهند، فيقول: (ففي الهند التي يقطنها خليط من المذاهب والأديان والاتجاهات، تجلت مظاهر الاحتفال بذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام وأهل بيته وأنصاره من أول يوم من المحرم، وفي كل ولاية ومدينة، تعبيرا عن الارتباط العاطفي والشعوري بالرجل الذي صار رمزا لكل ما ينشده الإنسان الحر في كل مكان)(1)

وبعد كلام الأستاذ (الشرقي) ووصفه للاستعدادات التي تقام تمهيدا لاستقبال شهر المحرم الحرام، ينتقل بنا للكلام عن إقامة مجالس التعزية في كل مكان مع التجاوز الكامل لكل القضايا الخلافية والحساسيات الدينية بين المذاهب، وقد ذكر الأستاذ (الشرقي) هذه المسألة وركز عليها بقوله: (والملفت للنظر حقا، أن مجالس التعزية هذه لم تقتصر على منطقة معينة في بومبي، ولا على أتباع مذهب معين، بل إن المسلمين على اختلاف مذاهبهم أقاموا مجالسهم في الشوارع والطرقات، حتى لقد

ص: 397


1- علي الشرقي، ذكرى الاستشهاد في بومبي وحيدر آباد، مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد /4/ مصدر سابق ص71

صارت هذه المجالس وحضورها، يمثل مظهرا من مظاهر الوحدة الحقيقية التي أرادها الإمام الحسين عليه السلام ، وأعطى روحه الطاهرة ثمنا لها)(1).

وفي الكلمات التالية نرى أن هناك تطابقا كبيرا بين ما قاله الرحالة البرتغالي (بيدرو تکسیرا) وبين ما يقوله الأستاذ( علي الشرقي) حول مسألة سقاية الماء في ذكرى الاستشهاد، فما يحدث في بغداد يحدث أيضا في الهند، وبشكل خاص في بومبي وحيدرآباد.

وها هو الأستاذ (الشرقي) يتناول هذه الظاهرة العميقة في مضامينها الإنسانية والوجدانية، فيقول: (ومن الأمور التي تسترعي الانتباه، هو انتشار أماكن توزيع الماء على حب الحسين عليه السلام ، وهذا أيضا لم يكن مقتصرا على مذهب معين أو دين معين، فالمسلمون على اختلاف طوائفهم، والهندوس وغيرهم . حتى الأطفال منهم - يتسابقون لإقامة (سبيل) لتقديم الماء، إشارة منهم إلى أن الإمام الحسين عليه السلام قد قتل عطشان، وعلى العالم أن يتذكر ذلك ليعرف مقدار مظلومية هذا الإمام وغيره من أئمة أهل البيت عليهم السلام، ومقدار الخسة والدناءة التي تشبعت بها قلوب أعدائهم المجرمين)(2).

وهكذا نرى أن الإمام الحسين عليه السلام قد استطاع أن يوحد ضمائر الأحرار من كل المذاهب والأديان تحت رايته الإنسانية المصطبغة بدمائه الزكية، فكان حقا عليهم أن يتذكروه دائما وأبدا وكأنه حي باق بينهم لم يغادرهم ولم يفارقهم طرفة عين، وكأن حناجرهم بدورها أيضا، تهتف على الدوام في كل عاشوراء من كل شهر محرم:

ص: 398


1- نفس المصدر السابق ص71
2- نفس المصدر السابق ص72

(لا يوم كيومك يا أبا عبد الله الحسين !!)

هذه هي، باختصار شديد، قصة مأساة كربلاء وعلاقتها بالمسرح التراجيدي العالمي وبالفنون المسرحية الأخرى كالتعازي والطقوس الجنائزية الحزينة المتجذرة في العمق التاريخي والوجودي للإنسان في رحلته المضينة عبر قنوات الحياة.

وخير ما نختم به هذا الفصل الطويل، هو قول الدكتور (زكي مبارك): (ومقتل الحسين خاصة من الحوادث التي شغلت خواطر المسلمين أجيالا طوالآ، ولو كان التصوير من الفنون التي شجعها الإسلام، لملات صورة الحسين أقطار الأرض)(1) فتأمل وتفکر!!

ص: 399


1- الدكتور زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مصدر سابق ص54

دروس الفاجعة وآثارها

على الرغم من أهمية هذا الفصل وحساسيته الشديدة، إلا أنني قد ترددت كثيرا في كتابته وفي تحليل المعلومات والآراء الواردة فيه، وبعبارة أكثر وضوحا، لم أكن قد خططت بشكل مسبق لوضع هذا الفصل الهام ضمن هذا الكتاب المتفرد في طبيعته ورؤيته لفاجعة كربلاء

ويمكن أن أعزو إحجامي السابق عن كتابة هذا الفصل الهام إلى عدة أسباب

أعتبرها جوهرية وتستحق أن تؤخذ بعين الاعتبار.

فالسبب الأول يعود إلى رغبتي الخاصة في أن يقوم القارئ الكريم شخصيا باستخلاص واستنتاج الدروس والعبر والآثار المتنوعة المترتبة على وقوع الفاجعة بعد أن يكون قد قرأ جميع الفصول السابقة في هذا الكتاب، وإذا كنا قد رغبنا في عمل ذلك بالفعل، فإن مرد ذلك إلى ثقتنا الكبيرة بقدرة القارئ على الدراسة والمقارنة والتحليل، ومن ثم على استخلاص النتائج المترتبة على ذلك كله.

أما السبب الثاني، فهو إيماننا الأكيد بأن هذا الفصل هو أهم الفصول وأكثرها

غنى وثراء بالمفاهيم والقيم والمعاني، وبالتالي فهو يحتاج حقيقة إلى أن یکون کتاب مستقلا، لا فصلا مستقلا.

نعم، إن كل فصل من الفصول السابقة أيضا يستحق أن يكون كتابا مستقلا قائما بحد ذاته، وربما يستحق أن تكتب عنه الكثير من الكتب والمؤلفات، ولكن هذا الفصل

ص: 400

بالتحديد هو أغناها وأثراها لأنه هو الفصل الأكثر والأغنى من حيث عدد الزوايا التي يمكن أن ينظر من خلالها إلى أبعاد الفاجعة وآثارها.

وعلى الرغم من وجود هذين الدافعين لعدم كتابة هذا الفصل، إلا أنني وجدت نفسي مرغما على التراجع عن هذا الإحجام، ورأيت أن عدم كتابته کفصل أخير وكخاتمة للكتاب سيظهر الكتاب وكأنه عمل مبتور وناقص.

ولذلك فقد عزمت على كتابته و اختتام الكتاب به مع الإقرار المسبق بأنني لن أفي الموضوع حقه كما ينبغي

ولكن المشكلة التي برزت أمامي بعد أن عقدت العزم على كتابة هذا الفصل هي المشكلة التالية:

هل سأذكر دروس الفاجعة وآثارها وأبعادها على حسب أهمية كل درس وأثر، أم حسب وجهة نظر كل مفكر ومستشرق وأديب ؟!

ولما كان من الصعب جدا أن نفصل بين الأسلوبين المذكورين، رأيت أن أقوم بعملية مزج بينهما على أمل أن يلقى ذلك قبولا حسنا عند القراء ويبعد عنهم تکرار قراءة بعض الأفكار والآراء التي قد يتولد عن تكرارها بعض الملل وفقدان عامل التشويق والانجذاب.

وليس هذا فحسب، بل رأيت أن يكون لي أيضا رأيي الخاص بي الذي يقوم على إبداء وجهات نظري ضمن التحليلات التي أقوم بها أثناء دراستي لوجهات نظر وآراء الأدباء والمفكرين والمستشرقين الذين أدلوا بدلائهم في هذا المجال. وبناء على كل ما سبق، دعونا الآن نبدأ باستعراض الدروس والنتائج المترتبة على خروج الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده العظيم مع أهل بيته عليهم السلام وأصحابه الكرام في

ص: 401

أرض كربلاء

وفي الحقيقة، إن مسألة الولاية هي واحدة من أهم النقاط التي أكدت الفاجعة نفسها ضرورة التمسك بها، فالولاية بطبيعتها منحة إلهية وهبة سماوية لا يجوز تجاوزها أبدا، وقد أكد القرآن الكريم هذه المسألة في العديد من آیاته الكريمة، ولعل أوضح وأبلغ آية كريمة في هذا المجال هي الآية الكريمة التي تقول:« إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»(1)، وهي آية كريمة لا يختلف على تفسيرها اثنان من المفسرين في ما يتعلق بالإشارة إلى أن (الولي) و(المتصدق) و(الراكع) هو، بلا أدنی ریب، أمير المؤمنين وإمام المتقين علي ابن أبي طالب علیه السلام.

وبالإضافة إلى وجود العديد من الآيات القرآنية الأخرى التي تثبت شرعية ولاية أهل البيت عليهم السلام على المسلمين، باعتبارهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا، فهناك أيضا الكثير من الأحاديث النبوية الشريفة التي تؤكد وثبت ما جاء في القرآن الكريم من حقوق الولاية لأهل البيت عليهم السلام دون سواهم.

فالرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يؤكد أن ولاة الأمر الحقيقيين والشرعيين من بعده اثنا عشر خلیفة وكلهم من قریش، وهذا الحديث مثبت في كتب وصحاح السنة مثلما هو مثبت في كتب ومؤلفات الشيعة، والرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم يؤكد أيضا أن ولاة الأمر من بعده سيكون عددهم كعدد أسباط بني إسرائيل، وهذا الحديث له وجود قوي في مؤلفات السنة أيضا.

وهناك الكثير من رجال السنة الذين كتبوا كتبا خاصة عن ولاية أولئك الأئمة

ص: 402


1- سورة المائدة: الآية 55

الاثني عشر من أهل البيت المحمدي عليهم السلام، ولعل أبرز هذه الكتب وأشهرها هي کتاب (الأئمة الاثنا عشر) لابن طولون الحنفي، وكتاب (الفصول المهمة في معرفة أحوال الأئمة) تأليف ابن الصباغ المالكي، وكتاب (تذکرة الخواص) لمؤلفه العلامة سبط ابن الجوزي الحنفي، وكتاب (مطالب السؤول في مناقب آل الرسول) لمؤلفه الإمام كمال الدين بن طلحة النصيبي الشافعي، وكتاب (ینابيع المودة) لسليمان القندوزي الحنفي، هذا بالإضافة إلى العديد من الكتب الأخرى التي تناولت ذكر إمامة بعض هؤلاء الأئمة الاثني عشر علیهم السلام مثل کتاب (نور الأبصار) للعلامة الشيخ مؤمن بن حسن الشبلنجي الشافعي، وكتاب (إسعاف الراغبين في سيرة المصطفى) للعلامة الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي، وكتاب (الإتحاف بحب الأشراف) لمؤلفه العلامة الشيخ عبد الله بن محمد الشبراوي الشافعي، هذا بالإضافة إلى الكثير من الكتب السنية الأخرى التي تثبت الولاية للأئمة من أهل البيت عليهم السلام.

وعلى كل حال، فإن الإمام الحسين عليه السلام قد أثبت من خلال ما أصابه أن الأمويين لم يكونوا في يوم من الأيام أهلا لولاية أمور المسلمين، بل كانوا مجرد غاصبين لها ومعتدين عليها ومن الطبيعي تماما أن يكون مخطئا كل من يعتقد أو يظن أن الإمام الحسين عليه السلام كان يريد من صراعه مع الأمويين، وعلى رأسهم معاوية ومن بعده ابنه يزيد، مجرد التنافس على استلام كرسي الحكم.

فالإمام الحسين عليه السلام لم يكن همه أن يجلس على كرسي الحكم شأنه في ذلك شأن أي ملك أو حاكم أو حتى صاحب سلطة زمنية، بل كان هم الإمام الحسين عليه السلام أن يتولى بالدرجة الأولى القيادة الروحية والرسالية للأمة كي يعود بها ويسير معها إلى النهج الرباني الذي أراده لها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم .

ص: 403

فالإمام علي عليه السلام يقول في إحدى مناجاته مع ربه العلي القدير، في الوقت الذي كان صراعه فيه مع مناوئيه على أشده: «اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، وتظهر الإصلاح في بلادك، فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطلة من حدودک»(1).

وعلى هذا النهج العلوي سار الإمام الحسين عليه السلام في صراعه مع مناوئيه الأمويين.

فالولاية والإمامة الإلهية لم تكن في يوم من الأيام إرثا للظالمين، بل كانت دائما وأبدا هبة إلهية لمن اجتباهم الله وفضلهم على البقية من العالمين بسبب قوتهم الإيمانية وعدالتهم الإنسانية المستمدة من معرفتهم المطلقة بخفايا الرسالات السماوية، هذا بالإضافة إلى استعداداتهم الروحية وقابلية طبيعتهم النورانية.

فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم تنزيله: "« وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ »(2)، وبالتالي فإن هذا القول الإلهي الخالد يوفر علينا الكثير من الكلام عن علاقة الإمامة والولايةبالظالمين من جهة وبالمطهرين المستحقين لها من جهة أخرى.

فالكاتب والأديب المسيحي (سلیمان کتاني) يتحدث عن ولاية أهل البيت عليهم السلام وعن تطور مفهوم میراث فاطمة الزهراء عليها السلام وكيف يتحول ذلك المفهوم من مجرد مفهوم جغرافي إلى مفاهیم روحية وفكرية سامية متعددة الجوانب والأبعاد، تبدأ من

ص: 404


1- آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، مصدر سابق ص98
2- سورة البقرة: الآية 124

(فدك) وتنتهي في (كربلاء).

ولذلك، فهو يقول موضحا ذلك: (كل الذين يرثون يتعين میراثهم إلا فاطمة الزهراء... كان إرثها مع أبيها نبوة، وأصبح في زواجها من علي إمامة، ثم ارتباطأ ببطولات - وتطور في فدك إلى صنوج تستثير إلى جهاد، وانقلب مع الحسن والحسين إلى امتداد القضية ثم إلى استشهاد)(1)

فالسيدة الزهراء عليها السلام هي الوعاء الأطهر الذي يجمع بين أنوار النبوة وأنوار الإمامة، وبالتالي فهي كلمة الولاية وقرآن الهداية.

وعلى ما يبدو، فإن نظرة العالم الأزهري السني (عبد الله العلايلي) إلى مفهوم الخلافة والولاية التي أثبتها الإمام الحسين عليه السلام لنفسه لا تختلف أبدا عن مفهومها عند ذلك الكاتب والأديب المسيحي (سلیمان کتاني).

فالعلامة (العلايلي) يطلعنا على مفهوم الولاية وحقيقتها التي أرادها سيد الشهداء عليه السلام من خلال إجراء مقارنة بين شريعة الأمويين وشريعة الحسين عليه السلام ، ولذلك نراه يقول في معرض تلك المقارنة الهامة والموضوعية:

(شاؤوا (أي الأمويون) أن يشهدوا رجل التقوى والعمل الصالح الذي ينبثق من معدن الرسالة ونجار النبوة وبيت الاصطفاء الإلهي، ثم يتمثل فيه الحق بأجلى معانيه ويظهر بأروع مظاهره، شاؤوا أن يروا المثل الكامل الحامي الوديقة في نصرة العدالة والحق، ينحني بصغار ويخضع بضعة ويستسلم بذلة، لرجل الباطل والفسوق والتجاوز والخروج والتحدي لله ولرسوله وللمؤمنين، والمجاهرة بدون مبالاة ولا ارعواء ولا احتشام، بكل ماتفرق منه الشريعة وترتعد له الإنسانية وترتجف به

ص: 405


1- سليمان كتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد، مصدر سابق ص631

الفضيلة.

شاؤوا أن يروا بيعة تتم على هذا الوجه وتنتهي على هذا الطراز الساخر، فلا تعجب إذا رأينا هذا الإمام ينظر إلى عهد کهذا العهد وبيعة کهذه البيعة كأنه نیر من نار، أفضل منه حر السلاح في هجير الحر، فقضى كذلك مستبسلا)(1).

ويتابع العلامة العلايلي مؤكدا وجهات نظره بقوله إن هناك واجبا وعلى الخليفة أن يقوم به، وإذا تجاوزه وجب على الأمة إسقاطه ووجبت على الناس الثورة عليه، وهذا الواجب الذي على الخليفة احترامه هو المبالغة باحترام القانون الذي يخضع له الناس عامة، وإلا فأي تظاهر بخلافه يكون عبثا وتلاعبا، فإذا فسق الملك ثم جاهر بفسقه وتحدى الله ورسوله والمؤمنين، لم يكن الخضوع له إلا خضوعا للفسق والفحشاء والمنكر، ولم يكن الاطمئنان إليه إلا اطمئنانا للتلاعب والعبث والإعلان بالفسوق.

ثم ينتقل العلامة (العلايلي) للتعليق على قول الإمام الحسين عليه السلام تجاه یزید: «ومثلي لا يبايع مثله»، ويعتبر أن هذه العبارة من الإمام الحسين عليه السلام هي خير تعبير للكلام عن روح المبايعة وعن معنى العهدة وفلسفة الخلافة والولاية، ولذلك، فهو يعلق على ذلك بقوله: (يعني الإمام الشهيد بهذا أن المبايعة بيع النفس للخليفة الذي هو رمز الشريعة والدين ووحدة التقاليد والعقائد وحامي القرآن كتاب الله، وولي عهد المصطفى صلوات الله عليه، وإن المبايعة أيضا التضحية والاستماتة في سبيل الخليفة الرمزي وهي أيضا وقف كل مسلم نفسه على أن يلبي نداءه تعالى «أَطیعُوا اللّهَ وَ أَطیعُوا

ص: 406


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص 93

الرَّسُولَ وَ أُولِی الْأَمْرِ مِنْکُمْ»(1) فجعل طاعة الخليفة الرمزي من طاعته لأنه ينقذ أوامره جل شأنه )(2)

وهنا يخلص العلامة( العلايلي) إلى نتيجة هامة مفادها أن المبايعة استسلام وخضوع حتى الموت، وبعبارةأخرى، البيعة بيع النفس للخليفة، فهي رق اجتماعي وسياسي وديني، ومن ثم كان لزاما أن يتروى المرء كثيرا حين يبيع نفسه من أجل أن يعلم فيم يبيع ولمن يبيع.

ونتيجة ذلك كان من الضروري جدا أن يثور صاحب الولاية الحقيقية، الإمام الحسين عليه السلام، في وجه يزيد وأن يأبی مبايعته ولو كلفته تلك الثورة الكثير من الدماء، فأعلن الإنكار ولم يعط أذنه إلى من نصحه بالبقاء دون الخروج، لأن عدم خروجه، وإن تكن فيه سلامته، ففيه حتف المسلمين قاطبة.

واختتم (العلايلي) وجهة نظره بالقول: (ولقد استطاع عليه السلام أن يقول بملء رئتيه وبسعة شدقيه وأن يرسلها صيحة داوية تصم من أذن الفجور والبطل، وتبقى تدوي ما بقيت، وهي بعد كلمة الحقيقة الخالصة، (ومثلي) في لحمة الحق ومظهر دين الله، (لا يبايع مثله) في لحمة الشيطان ومظهر الباطل)(3).

وإذا كان الدرس الأول الذي نستخلصه من ثورة الحسين عليه السلام هو وجوب التمسك بالولاية على حقيقتها وبشروطها الرسالية المشروعة، فإن هذا الدرس الهام لا يمكن فصله عن الدرس الثاني المتمثل بكشف اللثام عن حقيقة الحكم الأموي الذي لا يمت إلى جوهر الإسلام وإلى حقيقته الروحية والإنسانية بأدنى صلة.

ص: 407


1- سورة النساء: الآية 59
2- نفس المصدر السابق ص94
3- نفس المصدر السابق ص95

فالإمام الحسين عليه السلام كان على بينة من طبيعة الأمويين وكيفية نظرتهم للدين والدنيا، فحقيقة أبي سفيان لا تخفى على أحد، وحقيقة من تقلد المناصب منهم بالمكر والدهاء لم تكن أيضا خافية على أحد، وبالتالي، فبمكرهم ودهائهم، وبسياسة الترغيب والترهيب استطاعوا امتلاك رقاب الناس حولهم.

وبالطبع، فإننا لن نتطرق الآن إلى ما فعله عثمان بن عفان بحق الإسلام والمسلمين، وكذلك الأمر بالنسبة لمعاوية لأننا تكلمنا عنه في أحد الفصول السابقة بما فيه الكفاية بأقل مستوياتها، ومع ذلك، فإننا سنتكلم عن الحكم الأموي بشكله العام، ذلك الحكم الدموي الوثني الأرعن الذي أثبت للجميع أنه حكم لا يليق بإنسانية الإسلام ولا بتعاليمه الرسالة وقيمه الأخلاقية.

إنه الحكم الذي اتخذ من الإسلام شعارا في الوقت الذي راح فيه ولاة الأمر من الأمويين يعملون السيف برقاب رموز الإسلام وأقطابه وأهله الحقيقيين أملا في اجتثاثه من جذوره وهدم بنيانه من الداخل.

فالباحث والعالم الإيطالي (ألدو ميلي) يقول في كتابه (العلم عند العرب):

(نشبت معركة كربلاء التي قتل فيها الحسين بن علي، وخلفت وراءها فتنة عميقة الأثر، وعرضت الأسرة الأموية في مظهر سيئ، ولم يكن هناك ما يستطيع أن يحجب آثار السخط العميق في نفوس القسم الأعظم من المسلمين على السلالة الأموية والشك في شرعية ولا يتهم)(1).

والذي أثبت بالفعل عدم شرعية ولا يتهم في نظر المسلمين هي تلك الجريمة النكراء التي تضاف إلى سجل جرائهم السوداء السابقة، إنها جريمة قتل سبط رسول

ص: 408


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص47

الله صلی الله علیه و آله وسلم مع أهله وعياله علیهم السلام وكل أصحابه الأبرار الذين كانوا معه في محنته عندما أراد أن يعود بالإسلام إلى ينبوعه الصافي ويخلصه من الشوائب والأكدار التي ألحقها به یزید ومن سبقه إلى كرسي الحكم تحت عنوان (الخلافة).

فالباحث والكاتب المصري المعروف (رفعت سيد أحمد)، مدير مركز يافا للدراسات يرى أن ذكرى استشهاد الإمام الحسين عليه السلام هي ذكرى عزيزة على كل مسلم، شيعي أو سني لأن تلك الذكري العزيزة تمثل وقفة العز الحسيني في وجه الطغيان المتعدي على حدود الإسلام وحقوقه، ولذلك (جاء خروج الإمام الحسين على هذا الحاكم المغتصب للإمامة)(1).

لقد واجه الإمام الحسين عليه السلام وضعا مخيفا ومترديا في جسد الأمة وروحها حيث انقلب كل شيء فيها رأسا على عقب، فالسيوف التي شهرها الإسلام الأول في وجه الكفر والضلال انقلبت إلى سيوف بيد أدعياء الإسلام لمواجهة أهل البيت عليهم السلام وتصفيتهم جسديا وفكریا

والمنابر التي نادى بها الإسلام للإرشاد والهداية، قد تحولت إلى منابر للسب واللعن والبراءة، والصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر قد تحولت عند الأمويين وأتباعهم إلى صلاة جوفاء تعمل عمل الستارة التي ترتكب وراءها عمليات الفحشاء والمنكر، أما الزكاة، فقد حولوها من واجب ديني يطهر النفوس ویزکیها إلى أداة لقتل النفوس وإماتة الضمائر والأحاسيس الحية.

لقد أسقط الإمام الحسين عليه السلام بخروجه واستشهاده في كربلاء شكل الإسلام

ص: 409


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء، مجلة (النور)، العدد / 107/ نيسان (إبريل)، 2000م،إصدار دار النور . لندن، راجع ص77

الذي يريده الأمويون، فهم يريدونه إسلاما يحفظ لهم مصالحهم وسلطاتهم وجميع امتیازاتهم وهم يريدونه أيضا إسلام الطقوس والأمور الشكلية الجوفاء، فإسلامهم المنشود هو ذلك الإسلام الذي يتغير حسب مزاج الحاكم وتبعا لأهوائه ومصالحه ورغباته، وهو بالتالي إسلام بلا ثوابت ولا ضوابط، بل هو عقيدة متلونة كتلون الحرباء في الغابة، يتلون بحسب لون الوضع السياسي القائم.

وإلى هذه الحقائق أشار الأديب والكاتب المسيحي الكبير (جورج جرداق) في حديثه عن تمزيق بني أمية للشريعة الإسلامية والأهدافها السامية التي تتجاوز في روحانیتها وإنسانيتها حدود الشعارات الشكلية والطقوس الظاهرية التي لا تعني شيئا إن لم ترتبط ببواطنها وبمعانيها الروحية والفكرية العميقة وانعكاس ذلك على أرض الواقع.

وبالطبع، فإن الأديب المسيحي (جرداق) لم يتحدث عن الجريمة التي اقترفها بنو أمية بحق الحسين وأهله علیهم السلام فقط، بل كانت نظرته لجرائم الأمويين نظرة شاملة وعامة يفهم من خلالها أن الحسين عليه السلام كان محقا في ثورته ضد يزيد وأعوانه، وذلك لأن يزيد، ومن كان قبله ومن سيكون بعده من الحكام الأمويين، لن يلعبوا إلا دور المخرب للإسلام والمدمر له من الداخل، على كافة الأصعدة وفي مختلف الميادين.

وهنا يحدثنا الأستاذ (جرداق) عن وضع الإسلام في ظل معاوية ويزيد وأتباعهما قائلا: (فأصبح الإسلام في نظر معاوية يعني التخلص من علي، وفي نظر أبي ذر الغفاري رفع الفقر والحاجة عن كواهل الجماعات وإيقاف موجة الفساد والطغيان وأصبح الإذعان لأوامر الإسلام ونواهيه في نظر ولاة بني أمية يعني تأليف الجيوش في خدمة البيت الأموي ومن والاه وعمل له، وتقتيل من لا يرون حقه في الخلافة، ثم

ص: 410

جمع أكبر كمية ممكنة من مال الخراج والجزية وسائر الضرائب بأعنف الوسائل...

وعلى هذا الأساس، كانت وظيفة الله في نظر عبيد الله بن زیاد هي مساعدته ومساعدة بني أمية في قتل الحسين بن علي وصغاره ونسائه...، وكانت وظيفة الله في نظر مسلم بن عقبة هي أن يبيح له نهب المدينة واستعراض أهلها بالسيف على صورة مروعة حتى إذا بلغ عدد القتلى على يديه في الأيام الثلاثة اثني عشر ألفا من الرجال، وبلغ ضعف هذا العدد من النساء والأطفال، وقف يقول مطمئن البال: (الحمد لله الذي شفي صدري بقتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم)(1).

إذن، فالدرس الثاني الذي يمكننا أن نتحدث عنه بشيء من الإسهاب هو إعطاء الناس عموما الصورة الحقيقية للحكم الأموي الغاشم، فاستشهاد الإمام الحسين مع أهله وأطفاله ونسائه وأصحابه بتلك الطريقة المأساوية الأليمة أعطت العالم درسا بليغا عن قساوة الحكم الأموي وابتعاده عن الإسلام من جهة، كما أن ذلك الاستشهاد المؤثر والمرير لحفيد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد سارع في تقويض الحكم الأموي وهدمه من جهة ثانية.

فالإمام الحسين عليه السلام في ثورته النهضوية لم يكن مجرد فرد، بل كان مشروعا ثوريا كاملا، ولم يكن الحسين عليه السلام مجرد شخص، بل كان أيضا منهجا فكريا متكاملا، ولأنه كان كذلك، فقد أراد يزيد وأعوانه أن يطفئوا نوره بأفواههم وأن يجتثواجذوره بأسيافهم، ولكن الحسين عليه السلام كان أقوى من الرياح وأصلب من الرماح.

نعم، إن جيش يزيد قتل جسد الحسين وقطعه ومزقه، ولكن ذلك لا يعني أن المقصود هو جسد الحسين عليه السلام فقط، بل إن ذلك يعني أن المقصود حقيقة هو نور

ص: 411


1- جورج جرداق، علي والقومية العربية، مصدر سابق ص183

الحسين وفكر الحسين وإيمان الحسين عليه السلام .

والدليل الأكيد على أنهم أرادوا ذلك من تمزيق جسد الحسين عليه السلام بكل وحشية وعنف، هو ما قاموا به بعد عدة سنوات من استشهاد الحسين عليه السلام في كربلاء

فالذي فعلوه بالإمام الحسين عليه السلام من تقطيع وتمزيق هو التعبير الأقوى للنوايا الدفينة والمكبوتة في صدور الأمويين والهادفة في حقيقتها إلى تقطيع وتمزيق القرآن الكريم ذاته، وهذا ما حدث بالفعل مع الحاكم الأموي اللاحق (الوليد بن یزید بن عبد الملك) الذي دعا بالمصحف الشريف فنصبه غرضا لسهامه، وأقبل يرميه وهو يقول غاضبا:

أتوعد كل جبار عنيد *** فها أنا ذاك جبار عنيد

إذا ماجئت ربك يوم حشر *** قل يارب مزقني الوليد(1)

وبالتالي، فإن قتل الإمام الحسين مع أهله وأطفاله في كربلاء، وتمزيق أجسادهم وتقطيع أوصالهم، ما هو في حقيقته إلا تمزيق للقرآن الكريم وتقطيع لسوره وآياته.

وبالمقابل أيضا، فإن تمزيق المصحف الشريف وتقطيع أوراقه بسهام الحاكم

الأموي الوليد بن یزید بن عبد الملك، ما هو في جوهره إلا إعادة قتل الحسين عليه السلام وتمزيقه وتقطيع أوصاله من جديد باعتباره هو الممثل الحقيقي والشرعي لرسالة جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم الذي كان يعتبر على الدوام أن الحسين عليه السلام منه وأنه هو صلی الله علیه و آله وسلم من الحسين جسدا وروحا ونورا وفكرا.

فالأديب والدكتور المسيحي المصري (نظمي لوقا)، وإن كان لم يشر بشكل مباشر إلى مأساة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، إلا أنه أشار بشكل واضح إلى

ص: 412


1- لدكتور فرج فودة، الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات . القاهرة، 1988، ص87

الأذى العظيم والظلم الكبير الذي لحق بأهل البيت عليهم السلام عموما في سبيل الله وفي سبیل رسالته وإعلاء رايته وصون كلمته وكرامته، وإن كان قد أشار إلى ذلك في كتابه (محمد الرسالة والرسول) بطريقة التلميح إلى المجازر العديدة التي ارتكبت بحق أهل البيت الشريف عليهم السلام من قبل أعدائهم المعروفين، إلا أن هذا الأسلوب في الإشارة إلى مظلومية أهل البيت عليهم السلام وإلى التضحيات العظيمة التي قدموها للإسلام وللإنسانية لا يروق للكثيرين من الأدباء والمفكرين الذين خاضوا بكتاباتهم في هذا الميدان.

ويعود السبب في عدم رضاهم عن هذا الأسلوب إلى ضرورة الإشارة الصريحة إلى مواطن الخطأ والخلل والزيغ والانحراف دون مجاملة ولا محاباة، فالحكم الأموي الذي ثار الإمام الحسين عليه السلام في وجهه هو آفة الإسلام وداؤه، ولذلك كان علي بن الحسين عليه السلام أن يهب ثائرا من أجل وقف تغلغل ذلك السرطان القاتل في جسد الأمة وفي هيكلها الفكري والروحي المتمثل بالرسالة الإسلامية المولودة حديثا على مسرح الحياة.

وانطلاقا من هذه الحقيقة، فإن الكثير من الأدباء والباحثين لم يكتفوا بالتلميح إلى حقيقة الأمويين وفظائعهم، بل أشاروا إلى ذلك إشارة واضحة وبعبارات بليغة لا تقبل التأويل أو التحريف.

وعلى سبيل المثال، فالمستشرق (رينولد نیکلسون) يشير إشارة واضحة إلىحقيقة الأمويين - وعلى رأسهم معاوية - وإلى موقف المسلمين منهم بقوله:

(اعتبر المسلمون انتصار بني أمية وعلى رأسهم معاوية انتصارا للأرستقراطية الوثنية التي ناصبت الرسول وأصحابه العداء، والتي جاهدها رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حتی

ص: 413

قضى عليها وصبر معه المسلمون على جهادها ومقاومتها حتى نصرهم الله، فقضوا عليها وأقاموا على أنقاضها دعائم الإسلام، ذلك الدين السمح الذي جعل الناس سواسية في السراء والضراء وأزال سيادة رهط كانوا يحتقرون الفقراء ويستذلون الضعفاء ويبتزون الأموال، لذلك لاندهش إذا كره المسلمون بني أمية وغطرستهم وكبرياءهم وإثارتهم الأحقاد القديمة ونزوعهم للروح الجاهلية، ولاسيما أن جمهور المسلمين كانوا يرون بين الأمويين رجالا كثيرين لم يعتنقوا الإسلام إلا سعیا وراء مصالحهم الشخصية، ولا غرو، فقد كان معاوية يرمي إلى جعل الخلافة ملكا كسرویا، وليس أدل على ذلك من قوله: أنا أول الملوك)(1)

وبالتالي، فإن نهوض الإمام الحسين عليه السلام لإسقاط الحكم الأموي المتمثل وقتها بیزید بن معاوية هو نهوض لإسقاط الوثنية الأموية من جهة، ولإحياء معالم الإسلام من جهة أخرى، ولكن رب قائل يقول متسائلا:

نعم، لقد تأكد لنا أن الإمام الحسين عليه السلام قد استطاع من خلال استشهاده مع أفراد أهله وأطفاله أن يكشف للناس الطبيعة الدنيئة والوضيعة للنفوس الأموية التي لا تتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الحفاظ على مصالحها ومكاسبها، ولكن هل كان لعملية قتل الحسین، سبط الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، أثر بالغ على ديمومة الحكم الأموي؟!

وللإجابة على هذا السؤال الذي يمكن أن يطرح بشكل أو بآخر، دعونانستعرض سويةمجموعة من الآراء نبدأها مع البروفيسور اليهودي (برنارد لويس) (

B. Liwis) المولود عام / 1916/.

ص: 414


1- الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام (ج1)، مكتبة النهضة المصرية . القاهرة،1964 ج1 ص279

يقول هذا المؤرخ الإنكليزي اليهودي (لويس)، وهو المتخصص بدراسة الإسلام، إن لحادثة كربلاء تداعيات خطيرة جدا على كافة المستويات، وقد أكد هذا المؤرخ اليهودي ذلك الكلام في كتابه (العرب في التاريخ) قائلا: (في سنة / 681/ ميلادية قتل الحسين مع عدد من أهله وأتباعه على يد القوات الأموية في واقعة كربلاء، وكانت نتائج هذه الواقعة هائلة)(1)

أما المفكر والباحث الهندي (سيد أمير علي)، فيذكر في كتابه (مختصر تاریخ

العرب) أن المؤرخ الإنكليزي (جيبون) يرى أن كربلاء قد أدت بالفعل إلى تعاطف المسلمين عموما مع أهل البيت عليهم السلام مما يعني حدوث نفور وكره وحقد على الحكومة الأموية الجائرة، وقد عقب الأستاذ (أمير علي) على وجهة نظر المؤرخ (جيبون) بقوله: (إن مذبحة كربلاء قد هزت العالم الإسلامي هزا عنيفا.. ساعد على تقويض دعائم الدولة الأموية)(2).

وذكر المستشرق الفرنسي (هنري ماسيه) في كتابه (الإسلام) أن لمعركة كربلاء نتائج لا تحصى من الناحيتين السياسية والدينية، وبشكل خاص يعدقتل الحسين مع أهل بيته ودخول جيش يزيد إلى المدينة واستباحتها، وحصاره لمكة وإحراقه للكعبة(3)

ولكن، وعلى ما يبدو، فإن للباحث والمفكر المسيحي (أنطون بارا) رأيا مغايرا

بعض الشيء عن آراء من أسلفنا ذكرهم منذ قليل.

يرى الأستاذ (بارا) أنه كان لحركة الحسين عليه السلام هدفان أساسيان، الأول:

ص: 415


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص55
2- نفس المصدر السابق ص46
3- هنري ماسية، الإسلام، مصدر سابق ص69

إحداث هزة عنيفة في كيان الأمة الإسلامية، وهذا هدف مبدئي، والهدف الثاني: وضع الأسس النهائية والمبادئ الضرورية لحفظ كيان العقيدة وروحها إلى الأبد، محاذرا بها أن تزل أو تضعف أو تذوب وتضمحل على أيادي أفراد وسلاطين و حکام متسلطين على الإسلام.

فسقوط عرش يزيد - كما يرى الأستاذ (بارا) - كان واحد ة من معجزات الثورة الزمنية أي تلك المتعلقة بأشكال الحكم القائمة، أو بالأفراد الذين يسوسون الأمة في تلك المرحلة، وإذا كان لهذه المعجزة من سبب وهدف فليس إلا لأنها متممة اللمعجزتين - الروحية والاجتماعية اللتين كانتاالهدف الأسمى لثورة الإمام الشهيد علیه السلام

فثورة الحسين عليه السلام التي انتهت باستشهاده جسديا، لم يكن الهدف منها إسقاط عرش يزيد وزلزلة الحكم الأموي فقط، بل كان الهدف من ذلك أبعد وأعمق مما يتصوره الإنسان العادي بكثير، فالثورة الحسينية المكللة بالشهادة لم تكن ثورة فرديةلمجتمع دون آخر، ولم تكن أيضا لزمن دون آخر، بل كانت ثورة الإنسان والرحمن،ما دام الإنسان ذو الفطرة الدينية السليمة هو المستفيد منها.

فمعركة كربلاء في شكلها الخارجي المادي، هي موقعة عسكرية، استطاعت الكثرة من خلالها أن تهزم القلة، أما من الناحية الرمزية والروحية، وکعبرة عميقة الدلالات موحى بها من السر الإلهي، فهي من جانب الحسين عليه السلام رمز لوقفة الحق وصموده في وجه الباطل على الرغم من ضعف وسائله وقلةذات يده أمام جحافل الظلم والظلام، في حين أنها من جانب یزید، و من وجهة نظره الضيقة، هي رمز لجولة الباطل على الحق وانتصاره عليه بكل الوسائل المتاحة على الرغم من بطلانها.

ص: 416

ومن هذه النقطة بالذات يرى الأستاذ (بارا) أنه يتاح لنا النظر إلى إكمال المعجزة الروحية الأساسية للثورة بمعجزة زمنية تتجلى في سقوط عرش یزید بواسطة ذلك الحق الذي كان ضعيفا بوسائله في ساحة كربلاء(1).

ولو قارنا بين رأي الأستاذ (أنطون بارا) ورأي الفيلسوف والحكيم الألماني (ماربين) حول الدروس والآثار الناتجة عن معركة كربلاء، نرى أن الرأيين متشابهان إلى درجة تبعث على الدهشة والاستغراب، ولكن، بنفس الوقت، فإن هناك استفاضة من قبل الحكيم (ماربين) في استنباط الدروس والعبر في دراسته المطولة عن آثار الفاجعة.

ومنعا لإعادة ذكر النقاط المتشابهة بين (بارا) و(ماربين) وخوفا من الملل الذي قد يصيب القارئ من جراء ذلك، نرى أن نذكر الآن تلك النقاط التي تفرد بها الحكيم (ماربين) وتميز بها عن الأستاذ (بارا).

يرى الحكيم الألماني (ماربين) في كتابه (السياسة الإسلامية) أن يزيد لم يكن يجهل مقاصد الحسين عليه السلام في إعلان الثورة ضد الأمويين منذ اليوم الذي استشهد فيه أبوه، الإمام علي عليه السلام، في الكوفة، ولكن الظروف لم تكن تسمح له بإعلان تلك الثورة العارمة ضدهم، وكان يزيد يعلم أيضا أنه لو قامت الثورة تحت قيادة الإمام الحسين عليه السلام ، وبوجود عنصر الكراهية والنفور من قبل المسلمين تجاه الحكومة الأموية وميلهم إلى الحسين عليه السلام ، فإن هذا يعني زوال ملك الأمويين وسلطانهم إلى الأبد، ولذلك فقد عزم یزید قبل كل شيء، ومنذ اليوم الأول الذي بويع فيه، على التخلص جسديا من الإمام الحسين علیه السلام الذي يمثل المحامي والمدافع الحقيقي

ص: 417


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص172

والشرعي عن دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم ، وعن حقوق جميع الفقراء والمساكين والمستضعفين.

ويتابع ذلك الحكيم الألماني كلامه قائلا في كتابه المذكور إن أعظم البراهين والأدلة على أن الإمام الحسين عليه السلام قد أقدم على التضحية بنفسه ولم يكن له أي مطمع بسلطة زمنية أو كرسي رئاسية، هو معرفته المسبقة بعدم وجود قدرات عسكرية عنده مكافئة لتلك التي يمتلكها يزيد، وهذا بالإضافة إلى كونه يعلم مسبقا أنه سيقتل في أرض يقال لها كربلاء، والدليل على ذلك أيضا - كما يقول (ماربين) - هو أن الحسين عليه السلام كان يقول من اليوم الذي استشهد فيه والده أنه سوف يقتل، وأعلن أيضا يوم خروجه من المدينة أنه يمضي إلى القتل، وقد أظهر ذلك لأصحابه والذين اتبعوه من باب إتمام الحجة، وحتى يتفرق الذين التفوا من حوله طمعا بالدنيا والمال كما كانوا يتخيلون، وبالتالي، فإن هذا كله يدل على أنه لم يكن للإمام الحسين عليه السلام أي مطمع دنيوي على الإطلاق، بل كان هدفه الأسمى إعادة بناء الهيكلية العامة للرسالة الإسلامية النقية الصافية، تلك الرسالة التي عمد الأمويون إلى مسخها وتقزيم أبعادها الروحية والإنسانية، علما أن خير الوسائل إلى دحر الأمويين وهزيمتهم كانت برأي الحسين تمر عبر طريق (الانفراد والمظلومية)، مع وضع أمر الشهادة نصب عينيه لأن ذلك سيكون من أشد المصائب ومن أكثرها تأثيرا على القلوب والنفوس(1)

ويغلب على الظن - برأي (ماربین) - أن غرض الإمام الحسين عليه السلام من هذا العمل الذي قام به في ثورته هو تفهيم العالم بقوة مبلغ عداوة بني أمية لحملة الرسالة من بني هاشم ويتابع (ماربين) كلامه قائلا: (ولا يظن أحد أن يزيد كان مجبورا على

ص: 418


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص118

تلك الأعمال المفجعة لأجل الدفاع عن نفسه لأن قتل الطفل الرضيع في تلك الحالة، وبتلك الكيفية، ليس هو إلا توحش وعداوة سبعية، منافية لقواعد كل دین وشريعة، ويمكن أن تكون هذه الفاجعة كافية لافتضاح بني أمية ورفع الستار عن قبائح أعمالهم ونياتهم السيئة بين العالم، سيما المسلمين، وأنهم يخالفون الإسلام في حركاتهم، بل يسعون بعصبية جاهلية إلى إبادة آل محمد)(1).

وأعتقد أن هذا الكلام من الحكيم الألماني (ماربين) يكفينا الآن، ولذلك سوف ننتقل سوية إلى آراء جديدة ووجهات نظر متعددة أخرى، مع العلم أننا سوف نعود ثانية للكلام عن رأي (ماربين) بالنصر العظيم الذي حققه الإمام الحسين عليه السلام باستشهاده من أجل الإسلام، رسالة الرحمن وخاتمة الأديان،وكيف أنه أحيا معالم الدين الجديد بإعطائه دماء الوريد.

ولقد ذكرنا في ما مضى من فصول أن هناك باحثا مصريا يدعى الدكتور (أحمد راسم النفيس) قد كتب كتابا لافتا للنظر بعنوان (على خطى الحسين)، وقد تحدثنا عنه بعض الشيء، وها نحن نعود إليه ثانيه لنتعرف على وجهات نظره تجاه دروس كربلاء والعبر المستفادة منها.

فبعد كلام الدكتور (النفيس )عن تفاصيل الفاجعة، نراه ينتقل بقارئه إلى تداعياتها وإلى آثارها المترتبة عليها، وها هو يستخلص أحد دروس الفاجعة بقوله: (هذه هي شريعة بني أمية وهي شريعة فرعون نفسها وشريعة كل طاغية... هذا هو صنيع بني أمية مع خير هذه الأمة أما وأبا، فكيف صنيعهم مع بقية الأمة؟! إنها سياسة الاستعباد والعبودية التي ورثناها منهم إلى يومنا هذا، لم تكن قضية فردية ولا شخصية كما

ص: 419


1- نفس المصدر السابق ص120

يحاول أنصار الحزب الأموي تسويغ مقتل الحسين عليه السلام أو تسويغ استمرارهم في السلطة بالمعطيات نفسها والأساليب عينها، يسيرون على خطى آبائهم وأجدادهم)(1)

ولذلك، وبناء على هذه الثوابت التاريخية، فقد رأى الباحث الدكتور (علي حسني الخربوطلي) في كتابه (10 ثورات في الإسلام) أن الإمام الحسين عليه السلام كان رجل الساعة وبطل الموقف حين ثار في وجه يزيد الأموي الذي لم يكن مؤهلا لتولي ذلك المقام على الإطلاق، ولم تكن صفاته الخلقية أو خبراته السياسية تؤهله لتولي ذلك المنصب الخطير.

وقد استشهد الدكتور (الخربوطلي) في كتابه المذكور على فظاعة ما قام به یزید وأعوانه بذكر الحادثة التاريخية التي أخذها من كتاب (المحاسن والمساوی) لمؤلفه (البيهقي)، والتي تقول: (غضب قيصر الروم لهذه الفاجعة فكتب إلى يزيد: قتلتم نبياأو ابن نبي)(2)

ويرى هذا الباحث السني، الدكتور (الخربوطلي) أن صيحة (يا لثارات الحسین) كانت من أهم العوامل التي قوضت بنيان الدولة الأموية، فقد كان لمقتل الإمام الحسين عليه السلام أثره البالغ في مسيرة التاريخ الإسلامي عموما، وكان هو السلاح الفعال ذو الأثر البالغ والعاجل في تمزيق ملك يزيد، إذ ما كادت تمر أشهر معدودة من عمر الزمان حتى قضی یزید تحبه(3).

وهنا نری، من باب الضرورة الملحة، أن نعود ونذكر بأن ثورة الإمام الحسين

ص: 420


1- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، مصدر سابق ص121.
2- الدكتور علي حسني الخربوطلي، 10 ثورات في الإسلام، دار الآداب . بيروت، ط 1978/2 ص86
3- نفس المصدر السابق ص87

علیه السلام علی یزید لا تعني أنها ثورة موجهة ضد یزید بعينه فقط، وإنما هي ثورة ضد یزید وضد أبيه معاوية، بل وضد كل الأمويين وأعوانهم ممن أرادوا أن يمتهنوا ويذلوا كرامة الإنسان وأن يشوهوا ويحرفوا تعاليم القرآن، ولو أن الظروف في زمن حکم معاوية كانت مواتية للحسين عليه السلام لإعلان ثورته لما توانی عن القيام بها طرفة عين، ولكن لكل حاد حديث ولكل مقام مقال، فالأسباب كانت حاضرة لكن الظروف کانت تجري برياحها عكس ما تشتهيه السفن وأشرعتها المتعبة.

فالرسالة الهامة المشهورة التي وجهها الإمام الحسين عليه السلام إلى معاوية والتي يفضح تاريخه وماضيه من خلالها، هي الشرارة الأولى التي كانت تنبی المسلمين بعدم جواز قبول الحكم الأموي الجائر على الأمة، وبالتالي فهي رسالة تنبئ بسقوط الدولة الأموية حتى قبل أن يعلن الإمام الحسين عليه السلام ثورته علی یزید بن معاوية وخليفته الآثم على المسلمين.

ونظرا لأهمية تلك الرسالة، فقد تناقلتها معظم كتب التاريخ الإسلامي، سواء منها الشيعية أو السنية، وقد رأى الرواة والباحثون في تفاصيلها بذور الثورة الحسينية التي ستفتك بالحكم الأموي بعد أن تظهره على حقيقته وتكشف أغراضه وأهدافه المتناقضة كليا مع أهداف الإسلام وغاياته الإنسانية الشاملة.

وحتى لا نعود ثانية إلى ذكر تلك الرسالة الهامة بكل تفاصيلها، فها نحن نعود إلى التذكير ببعض ما جاء فيها مستعينين على ذلك بكتاب (الإمامة والسياسة) وهو الكتاب الشهير بكتاب (تاریخ الخلفاء) للإمام العالم (ابن قتيبة الدينوري) (

213- 176 ه-).

فبعد المقدمة الموجزة في الرسالة، يعدد الإمام الحسين عليه السلام لمعاوية مجموعة الجرائم السوداء التي ارتكبها ويذكره بما قام به من أقبح الأعمال التي تتنافي بشكل

ص: 421

عام مع أبسط المبادئ الدينية والقيم الأخلاقية الإنسانية.

فالإمام الحسين عليه السلام يذکر معاوية بجريمته النكراء بحق عمرو بن الحمق الخزاعي.

والإمام الحسين عليه السلام يذکر معاوية أيضا بجريمة قتل حجر بن عدي وأصحابه لمجرد أنهم من أصحاب أمير المؤمنين علي عليه السلام السائرين على نهجه وخطاه.

ومن خلال تلك الرسالة الهامة أيضا، يذكر الإمام الحسين عليه السلام معاوية الفاجر الغادر بما قام به من تحليل للحرام وتحريم للحلال، وتعطيل للحدود والأحكام، وتهديم لأركان الإسلام.

ولم ينس الإمام الحسين عليه السلام أن يذكر معاوية في تلك الرسالة باستلحاقه (زیادابن أبيه) بنسبه السفياني واتخاذه أخا وتأميره على الناس بالرغم من سوء منبته(1)

وقد جاء في بعض الكتب أيضا أن الإمام الحسين عليه السلام كتب في نفس الرسالة مخاطبا معاوية بشأن (الحضرمي) قائلا - وبرأي الخاص، هذا هو الأكثر صحة مما أورده الدينوري -: (أولست صاحب الحضرميين الذين كتب فيهم ابن سمية أنهم على دين علي صلوات الله عليه، فكتبت إليه أن أقتل كل من كان على دين علي فقتلهم، ومثل بهم بأمرك، ودين علي هو دين ابن عمه صلی الله علیه و آله وسلم الذي كان يضرب عليه أباك ويضربك، وبه جلست مجلسك الذي أنت فيه)(2).

ومهما يكن من أمر، فإن الإمام الحسين عليه السلام كان، منذ استشهاد أمير المؤمنين علي عليه السلام ، يتحين الفرصة المناسبة والظروف المؤاتية لإعلان ثورته على الطلقاء

ص: 422


1- ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي - القاهرة، د.ت، ج1 ص156
2- محمد مهدي شمس الدين، ثورة الإمام الحسين، مصدر سابق ص110

الدخلاء على الدين الجديد.

ونحن نعلم جيدا أن الثورة الصحيحة في منطلقاتها والسليمة في غاياتها هي في حقيقتها ذلك الاحتجاج النهائي الأكثر فاعلية و حسما على الواقع السلبي المعاش في كل أبعاده، فالثورة - أيا كان شكلها - هي عملية الکي التي يقوم بها الطبيب الحكيم بعد استنفاد كل طرق ووسائل العلاج الأخرى.

وقد استطاع الإمام الحسين عليه السلام مع تلك الزمرة القليلة من المحيطين به أن يحققوا كل الأهداف المرجوة من ثورتهم على ساحة كربلاء، وربما كان موت هؤلاء الأبطال الحسينيين واستشهادهم حول سبط النبي الكريم صلی الله علیه و آله وسلم بتلك الطريقة المؤلمة، بل والوحشية، التي أرادها لهم أعداء الإسلام هي التي لعبت دورا هاما في إيصال رسالة الإمام الحسين عليه السلام إلى العالم كافة بطريقة أسرع وأشمل

فالمستشرق الإنكليزي (د.ج. هوکارت) كان قد تنبه إلى هذه المسألة في كتابه (الجزيرة العربية)، وقال عنها مؤكدا عليها: (دلت صفوف الزوار التي ترحل إلى مشهد الحسين في كربلاء والعواطف التي ما تزال تؤججها في العاشر من محرم في العالم الإسلامي بأسره - كل هذه المظاهر - استمرت لتدل على أن الموت ينفع القديسين أكثر من أيام حياتهم مجتمعة)(1)

وربما يتفق كلام المستشرق الإنكليزي (هوکارت) مع كلام المستشرق الألماني (يوليوس فلهاوزن) بطريقة أو بأخرى حول هذه النقطة المطروحة الآن، فالمستشرق (فلهاوزن) يقول بدوره: (بالرغم من القضاء على ثورة الحسين عسكريا، فإن الاستشهاده معنی كبيرا في مثاليته وأثرا فعالا في استدرار عطف كثير من المسلمين

ص: 423


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص48

على آل البيت)(1)

وليس هذا فحسب، بل حتى المستشرق الهنغاري (أجناتس غولدتسيهر) المعروف بتحامله الشديد على الإسلام وعلی أعلامه البارزين، نراه يشير من بعيد إلى هذه النقطة الحساسة، ونراه يشير أيضا - بنفس الوقت - إلى أن دماء الشهداء المسفوحة في كربلاء قد مهدت الطريق لقيام العديد من الثورات لاحقا ضد الظلم والقهر على مدى امتداد التاريخ الإسلامي المبكر، وقد عبر عن ذلك بقوله: (قام بين الحسين بن علي والغاصب الأموي (یزید) نزاع دام، وقد زودت ساحة كربلاء تاريخ الإسلام بعدد كبير من الشهداء... اكتسب الحداد عليهم حتى اليوم مظهرا عاطفيا)(2)

ومن خلال كل ما تقدم قوله، نلاحظ بوضوح أن دم الإمام الحسين ودم أطفاله

وعياله عليهم السلام وأصحابه الكرام الأبرار رضی الله عنه قد زعزع العرش الأموي الدامي وتسبب لاحقا في إسقاطه وتقويض أركانه من الجذور بعد أن ظن كل من اعتلاه أنه سيدوم لهم ولذريتهم من بعدهم إلى الأبد.

وبعد هذا نرى أنه من الأنسب لنا أن ننتقل إلى أثر آخر وإلی بعد جدید من آثار وأبعاد الثورة النهضوية التي أخذها الإمام الحسين عليه السلام على عاتقه وفجرها في وجه الطواغيت والفراعنة بكل ما يملك من قوة إيمانية وأهداف رسالية استمدهما من روح المسؤولية المترتبة على مقام الإمامة والولاية المتجلي فيه عليه السلام هذا بالإضافة إلى نور النبوة الذي ورثه عن جده المصطفی صل الله علیه اله

فالإمام الحسين عليه السلام هو من قام بالثورة، وهو الذي قدم كل ما يملك في سبيلها

ص: 424


1- نفس المصدر السابق ص48
2- نفس المصدر السابق ص51

وهو - بالدرجة الأولى - من أعطاها أبعادها الفكرية والإنسانية العامة، ومن هنا يمكن أن يقال إن القائمين بالثورات النهضوية هم دائما وأبدأ أصح أفراد الأمة وأكثرهم وعيا وشعورا بالمسؤولية.

نعم، قد لا يكون جبروت الطاغوت ذاتيا ومطلقا في غطرسته بقدر ما يكون نابعامن صمت الناس وخوفهم من إطلاق صرخة احتجاج في وجهه، بل حتى من إطلاق صرخة ألم في وجه الجلاد الذي يذيقهم أقسى أنواع العذاب، ولكن ذلك لا يغير من الحقيقة شيئا أبدا.

فالذي لا يقبل أن يبقى صامتا أمام الظلم هو ثائر، والذي لا يقبل أن يكون شاة في قطيع تحكمه الذئاب هو ثائر أيضا، والذي لا يقبل أن يعطش هو وقومه في فصل الشتاء، فيهت مطالبا بحقوقه ومنتزعا إياها من أيدي محتكری نعم السماء المباحة في أساسها لكل الناس، هو أيضا ثائر حتى ولو كانت ثورته من أجل نهلة ماء.

ولذلك نقول إن البعد الجديد والدرس الأكيد الذي يمكن أن يتعلمه كل إنسان من ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء هو إعادة الحسابات في مسألة عمق الإيمان بالمبادئ والقيم التي يحملها كل واحد منا في داخله.

ولا تعني مسألة الإيمان هنا مجرد الإيمان بالله سبحانه وتعالى وبرسالته وما تحوي من تعاليم دينية، بل تعني أيضا القيم والمبادئ الإنسانية التي يؤمن بها الفرد شخصيا ويسعى لتحقيقها ونشرها مهما كان الثمن غاليا في نظره.

فالثائر والبطل القومي الإيطالي (جوزيبي مازيني) ( G.Mazzini) (1805۔ 1872) يقول في إحدى مقولاته الشهيرة: (لماذا نخاف الموت إذا ما كنا على حق؟ خير للمرء أن يموت في سبيل فكرته من أن يعمر طويلا خائنا لمبدئه، جبانا عن

ص: 425

نصرته)(1).

وهذا الكلام من الثائر والبطل الإيطالي (مازيني) يتفق إلى حد بعيد مع کلام

الثائرة الفرنسية القديسة (جان دارك) (Jeanne D'arc)

(1412- 1431 )التي ناضلت بكل قوة وشجاعة ضد الاحتلال الإنكليزي، والتي قبض عليها وحكم عليها بالإعدام حرقا بالنار، وقد نفذ فيها الحكم الصادر ظلما من قبل الإنكليز فماتت حرقا دون أن تضعف أمام جلاديها، بل قالت وهي على عمود المحرقة: (الموت بالنار أهون من الحياة بلا عقيدة)(2)، فتحولت بنظر محبيها إلى شهيدة قديسة قضت في سبيل الحق والحرية والعقيدة التي يهون في سبيلها كل شيء.

وإذا كان موت هذه الثائرة البطلة قد جعل منها شهيدة وقديسة بعد أن قدمت نفسها قربانا على مذبح الحق والحرية، فماذا يمكننا أن نقول نحن عن الإمام الحسين عليه السلام الذي قدم أشقاءه وأبناءه وأطفاله وأصحابه، ومن ثم نفسه، قرابين وأضاحي على طريق التعاليم الرسالة والقيم الإنسانية التي تتجدد بدمائهم مع كل جيل؟!

وبناء على هذا التساؤل الطبيعي الذي يمكن أن يتبادر إلى ذهن كل واحد منا فإنه من الممكن أن نؤكد على حقيقة أن ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن مجرد ثورة عادية قائمة من أجل شرف رسالة الإسلام فقط، بل هي في حقيقتها ثورة الأديان جميعها في وجه الظلم والباطل وكل ألوان الانحراف والفساد.

وها هو المفكر المسيحي البارز (أنطون بارا) يؤكد على مصداقية هذه الفكرة

الهامة، فيقول: (ففي الهدف ثبت أن ثورة الإمام كانت دفاعا عن كل الرسالات

ص: 426


1- محمد قرة علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391
2- جبران مسوح، الاشتراكية البسيطة، دار القلم . بيروت، 1954، ص50.

السماوية التي سبقتها ما دام هدف الرسالات تقديم المثال الحي على خلودها بالاستشهاد المعمد بالدم، والحسين عليه السلام تمم بها ما بدأه جميع الأنبياء الذين ذاقوا الاستشهاد حرقا وقتلا وذبحا وصلبا)(1).

ومن الواضح تماما أن المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) على اتفاق واضح - من حيث المبدأ والنتيجة - مع ما يقوله الأستاذ (بارا) بشأن طبيعة الثورة الحسينية وأبعادها الفكرية والعملية، ولذلك نراه يستشهد في الكثير من صفحات کتابه (الإسلام الشيعي) بأقوال وكتابات للمفكر الإيراني البارز، الدكتور( علي شريعتي) ويثني عليها، وكان من جملة ما ذكره في ما يتعلق بموضوع بحثنا المطروح الآن هو القول التالي: (ففي كربلاء، لم يستطع أعداء الحسين الانتصار إلا على أجساد الشهداء، ولكن إيديولوجية الشهداء كانت تدين أولئك الناس ونظام حكمهم... إن الحسين قد حقق نفس المعجزة التي حققها موسي عندما أخجل سحرة فرعون ورجال دينه، وحقق بدم الشهداء ما كان يحققه عيسي عندما يرسل نفخته التي تعيد البصر إلى العميان والحياة إلى الموتی... ولم يكن ذلك محدودا بزمانه، وبلده وحدهما، ذلك أن الشهادة ليست الحرب، إنها مهمة، وليست سلاحا، ولكنها رسالة( إنها كلمة تلفظ بالدم)(2).

وبالفعل، لقد أثبت الإمام الحسين عليه السلام باستشهاده، وبتقديم أعز وأغلى ما يملك، أنه وارث الأنبياء وخليفتهم في رسالاتهم وفي تحقيق معجزاتهم وأمجادهم، فإيمان الحسين عليه السلام بكل حركة كان يقوم بها، وبكل هدف نبيل كان ينشده، وبكل آية

ص: 427


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص81.
2- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص85

قرآنية كان يستذكرها، هذا بالإضافة إلى إيمانه الراسخ والعميق بالله الحكيم الذي لا يرضى بالظلم ولا يقبل بالضلال ولا يتهاون مع الباطل، كل هذا جعل الإمام الحسين علیه السلام على بينة من ثورته ومن نتائجها ومردود حصادها، فالمسألة مسألة حق وباطل، الحق بوجهه الواحد مع الباطل بوجوهه العديدة إنه صراع القيم والأهداف حيث لا يقيم الإمام الحسين عليه السلام أي وزن للكثرة التي سيواجهها في صراعه الفكري والمبدئي، وحتى العسكري إن اقتضى الأمر ذلك، ولذلك، فقد أصاب تماما المؤرخ الأسكتلندي (توماس کارلایل) (Thomas Carlyle) عندما قال عن نتائج الثورة الحسينية: (إن خير درس نستخلصه من فاجعة كربلاء هي أن الحسين وأصحابه کانوا حقا أشد المؤمنين بالله، لقد أوضحوا أن الكثرة ليس لها حساب حينما يكون الأمر أمر

الحق والباطل، إن انتصار الحسين على قلة ناصريه يثير في الأمجاد)(1).

ويحق للمؤرخ والمفكر (کارلايل) أن يستشعر الأمجاد في نفسه بفضل الحسين وإيمان الحسين عليه السلام، ولم لا وهو صرخة الرحمن في ضمير الإنسان، وهو البقيه الباقية من إرث السماء على الأرض !! إنه الإمام الذي أحال الدم المسفوح إلى شفق من شعاع الروح.

فالإمام الحسين عليه السلام الذي أعاد رسم خارطة الإسلام بأعضائه الممزقة وأعاد تلوينها بدمائه المسفوحة على رمال الغربة في ساحات العطش والوحشة والوحدة.

وعلى وقع نشیده التراجيدي الحزين: (وا قلة ناصراه)، لم يكن في يوم من الأيام إلا رجل الإيمان والمبادئ، بل لا نبالغ إذا قلنا عنه إنه الرجل الذي تختبر عنده الرجال في كل ما يحمله أولئك الرجال من قيم وأهداف ومبادئ.

ص: 428


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: - http: H//en. Wikipedia. Org/wiki/ Husayn – ibn : Ali

وها هو العلامة السني، الشيخ (عبد الله العلايلي) يقول في معرض حديثه عن الدروس والعبر المستخلصة من كربلاء: (الحسين شخصية إيمان ومبادئ، وشخصية دعة وسلام ولقد أرانا في كل جانب ألوانا، فكان جزء من تاريخه عقيدة، والجزء الآخر جهادا، فکتب الخلود له، وکتب علينا أن نأتم به لنجرب إيماننا في الجهاد وجهادنا في الإيمان)(1).

وليس هذا فحسب، فمن الأرض التي شهدت مصارع الأبطال، ومن التربة التي ضمتهم إلى صدرها، وقد اغتسلوا وتطهروا بدمائهم، سيخرج صوت الحسين عليه السلام هادرا ليسمع الأجيال ويوقظ الإنسانية على حقيقة أنه من بين العدوان على الحق، وتجاهل العدوان، ينبعث الأبطال ويخرج الأحرار، وعلى نبرات مثل هذا الصوت فقط يتأتى للإنسانية أن تغسل الكثير من آثامها وتخلص من أدرانها وتتطهر من أرجاسها، حتى تعود إنسانية كما أرادتها شرائع السماء واحتفلت بها الأديان، وحتى تكون إنسانية عمادها المثل العليا والفضائل الصالحة والخير المطلق وإحقاق الحق، فإن لهذه الخصال وحدها ضحى الحسين)(2).

ففي الوقت الذي أراد فيه يزيد أن يحول الدين إلى مزرعة أموية، وأن يجعل من السلطة سوطا بيده ويد أعوانه المقربين، كان الإمام الحسين عليه السلام يفكر في شيء آخر تماما، فالحسين عليه السلام حين خرج إلى الكوفة لم يكن طالب دنيا ولا جاه، إنما كان مستجيبا لسلطان الإيمان الذي لا يغلب ولا يقهر، ولقد رأى أن الإسلام بكل قيمه الغالية وأمجاده العالية يتعرض لمحنة قاسية يفرضها عليه بيت أبي سفيان.

ص: 429


1- عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، مصدر سابق ص360
2- نفس المصدر السابق ص92

ويؤكد العالم الأزهري (خالد محمد خالد) على هذا الكلام بقوله إن الإمام الحسين عليه السلام كان يتألم كثيرا لتلك الخطيئة التي ترتكب أمام عينيه كل يوم، إنها خطيئة الصمت والسكوت التي يمارسها الناس رغبة حينا ورهبة أحيانا، فما من شك في أن يزيد كان آثما وخارجا بسوء أفعاله عن الدين وآدابه وأخلاقيات، ولكن هذا لا يعني أن الآثم الوحيد هو يزيد أو ابن زیاد أو ابن سعد، بل إن الذي يشارك أولئك في آثامهم هي الرعية ذاتها، تلك الرعية التي تقبل بالصمت على الأخطاء التي يمارسها الجلاد عليهم وهم خانعون، وهي تلك الرعية التي تراقب ما يحدث لمقدساتها من انتهاكات سافرة على يد من يدعي أنه حاميها وأنه المدافع عنها دون أن تنبث تلك الرعية المستكينة والخانعة ولو بكلمة استنكار صادرة من القلب تجاه ذلك الطاغي الباغي الذي يعبث بمقدساتها ويستبيح محرماتها دون وازع من ضمير أو أخلاق.

ويختتم الأستاذ (خالد) كلامه عن حصاد الفاجعة بقوله: (ويلقانا من حصاد کربلاء ودروسها العظيمة، جلال الإيمان وسلطانه القاهر... كانت بيعة يزيد دعما السلطان الجاهلية على حساب الدين... ودعما لسلطان القبيلة والأسرة على حساب الأمة.. وهكذا صارت مقاومتها دعما لسلطان الدين والأمة معا... وهكذا، وفي سبيل إيمانه الوثيق والعريق، ضحى البطل الشهيد براحته، ثم بحياته.. وضحى معه أهله الأقربون، وصحبه الأكرمون)(1).

وعلينا أن نتذكر دائما صواب ما قاله هذا العالم الأزهري (خالد محمد خالد) عندما وضع عدة مقدمات بسيطة ليصل بعد ذلك إلى نتيجة عظيمة بفحواها، وعميقة بمعناها.. إنها تلك المقدمات التي وضعها بالشكل الاستفهامي التالي:

ص: 430


1- خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مصدر سابق ص193.

(أليس كل مسلم كان أو سيكون، يختم صلاته قائلا:

التحيات المباركات والصلوات الطيبات لله...

اَلسَّلامُ عَلَیكَ اَیُّها النَّبِىُّ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكاتُهْ،

اَلسَّلامُ عَلَیْنا وَعَلَى عِبادِالله الصَّالِحین

اَشْهَدُ اَنْ لااِلهَ اِلاّاللهُ، وَاَشْهَدُ اَنَّ مُحَمَّداً رسول الله

(ٱللَّٰهُمَّ صَلِّ عَلَىٰ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ)...

أليس (الحسين) من أولئك الآلي..؟!

أليس هو درتهم الفريدة والمجيدة..؟!

إذن، فإن لهؤلاء الذين يصلون عليه عبر الزمان والأجيال حقا عظيما سيقتضيه تضحيات عظيمة.

وبالتالي، فإن النتيجة الحتمية والمنطقية لكل ما سبق من أسئلة وحقائق، هي: (إن ملايين المسلمين في كل العصور والأزمان، يصلون عليه في صلواتهم آناء الليل وأطراف النهار)(1)، فللإمام الحسين عليه السلام حق عظيم على المسلمين لا يزال البعض منهم يجهله أو يتجاهله، على الرغم من أنهم يصلون عليه فرضا واجبا خمس مرات كل يوم!!

وعلى كل حال، عندما يقول السياسي والعالم الأميركي (بنیامین فرانکلین)

(1706 -1790 )(B.Franklin) في حديث له عن الشهادة ودورها في تطهير المجتمعات وبنائها: (إن الشهداء هم الذين وضعوا أسس الحضارة، وقد وضعت

ص: 431


1- نفس المصدر السابق ص104

أسسها على أشلائهم)(1)، فقد أصاب جوهر الحقيقة تماما، فالحضارةهي اللحظة الأخلاقية في المدنية، وبالتالي فلا معنى للمدنية ولكل التطورات التي تحدث فيها ما لم تكن تلك التطورات مرتبطة أساسا بالقيم الأخلاقية وبالأهداف الإنسانية القادرة على تحويل المجتمع من مجتمع مديني إلى مجتمع حضاري بعيد قدر الإمكان عن تشويه إنسانية الإنسان وتحريف ثوابته الأخلاقية التي تنادي بها كل الشرائع والأديان، وحتى النظريات والفلسفات الأخلاقية.

وبالتالي، من كالأنبياء والرسل والحكماء والشهداء سيكون قادرا على تحمل مسؤولية تصحيح مسار المجتمعات وتصویب انحرافاتها والحفاظ على كل مفرداتها الأخلاقية والإنسانية؟!

بل من هو ذاك الذي سيكون قادرا على حفظ قداسة الأهداف وجلال الفضائل کالشهيد الذي لا يتوانی لحظة واحدة عن تقديم دمه فدية لكل مقدس نبيل ولكل خلق فضيل؟!

لقد صدق القائل عندما عبر عن ذلك بقوله شعرا:

نحیی الطهارة في بيتها *** إطار الطهارة قدس ودم

فبدماء الشهداء تصان المقدسات وعلى أشلائهم تنهض المجتمعات والحضارات.

أما الآن، فإننا سنقف مع شخصية تبدو للبعض أنها غريبة بعض الشيء، وقد تزداد هذه الغرابة إذا علمنا أن تلك الشخصية التي سنستمع إلى عبرهاالتي استخلصتها من فاجعة كربلاء هي شخصية (سيد قطب)، أحد أهم أعلام الإخوان المسلمين في الوطن

ص: 432


1- محمد قره علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391

العربي من محيطه إلى خليجه.

فالأستاذ (قطب) (1903 - 1966) هو أديب مصري وكاتب إسلامي بارز، وهو أيضا شاعر وناقد، كان من أبرز أعلام الإخوان المسلمين، وقد أعدم نتيجة لذلك، ومن أهم آثاره المطبوعة كتاب (في ظلال القرآن) و(کتب وشخصيات) و(التصوير الفني في القرآن)، هذا بالإضافة إلى الكثير من المؤلفات الدينية والأدبية والنقدية الأخرى.

لقد كتب هذا الأديب والباحث الإسلامي عن فاجعة كربلاء وعن أسسها

ومقوماتها، وكتب أيضا عن العبر والدروس المستفادة من تلك الثورة المجيدة التي فجرها سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام، الذي كان يحلو لجده المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم أن يدعوه دائما ب- (ابني)(1) و(ريحانتي) إمعانا منه صلی الله علیه و آله وسلم في إظهار مقام سبطه الحسين عليه السلام عنده ومكانته منه.

وعلى أي حال، ها هو الأستاذ (قطب) يبدأ حديثه عن العبرة في ذكرى أبي الشهداء، بقوله: (دم ودموع، وسمو واستعلاء، وألم يفري الضلوع، وعزة للنفس وإباء، تلك ذكرى أبي الشهداء.

ما اجتمع الألم القاسي والعزة الطولى، كما اجتمعتا في هذه الذكرى، الألم لذكرى تلك الدماء النقية الطاهرة ما ارتوت الأرض بأطهر منها، والعزة بذلك الشمم العالي ما شهدت الأرض مثله، وإنها لمزيج مقدس تطهر بها الأرواح وتتزکی، وتسمو به الإنسانية إلى السماوات العلا، وإنه لمقام تتطاول إليه الأعناق لتقبس العيون

ص: 433


1- الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، الإتحاف بحب الأشراف، المطبعة الأدبية بمصر1316ه-، ص40

والقلوب من نور هداه، ولترى كيف ترتفع إليه البشرية إلى الملأ الأعلى، وكيف تصمد الروح لآلام الجسد، وكيف تحتمل النفس ما لا طاقة به لبشر وكيف تصفو وتشف فإذا هي نور يتحدى النار، فيكتوي ولكنه ينتصر مدى الأدهار(1)

وبعد هذه المقدمة الرائعة المسبوكة بشفافية الكلمة وبقوة العبارة وبجمال

الصورة، ينتقل بنا الأستاذ (قطب) إلى السؤال الذي طرحه على نفسه:

ما العبرة في ذكرى أبي الشهداء؟!

وما أن يسأل هذا السؤال حتى يتبعه بالجواب قائلا: (هي عبرة العقيدةالتي لا تضعف، والإيمان الذي لا يهن، والعزة التي لا تستخذي، والإباء الذي لا يقهر، والقلب الشجاع الذي لا تردعه الأهوال.

وهي في الجانب الآخر، عبرة النفس الإنسانية حين تمسخ، والطبع البشري حين ينتكس، والشر اللئيم الخسيس حين تسعفه القوة المادية، والنذالة القذرة المنتنة حين تواتيها الظروف؟

وما الذي صنعته الأيام والدهور بهذا وذاك ؟!

لقد خلدت العقيدة والإيمان والعزة والإباء والقلب الشجاع، خلدتها في القلوب

نورا وإيمانا وعقيدة تذكيها القرون والأجيال...

ولقد دفنت الطبع المنتكس والشر اللئيم والنذالة القذرة، وعفت على هذه الصور البشعة، إلا أن تذكرها بالمقت والازدراء.

ألا فلينظر الشباب أي الطريقين يسلك اليوم بعد ألف وثلاثمائة عام، لينظر

ص: 434


1- سيد قطب، العبرة في ذكرى أبي الشهداء، مجلة (الموسم)، العدد /12/، مصدر سابق ص124

أيسلك طريق الخلود الكريم، أم طريق الفناء المهين؟!)(1).

تلك هي العبر التي استقاها (سيد قطب) من أحداث الفاجعة، وذاك هونداؤه

للشبيبة المسلمة ودعوته لها للاقتداء بسيد الشهداء أبي عبد الله الحسین علیه السلام .

وبما أننا قد وعدنا القارئ بالعودة إلى مقالات الفيلسوف الألماني (ماربين) حول الدروس العظيمة التي ألقتها فاجعة الإمام الحسين عليه السلام علينا، فإننا نرى أن الوقت قد حان فعلا للوقوف على تلك الدروس والآثار المهمة التي خرج بها ذلك الفيلسوف الألماني بعد دراسته العميقة لها وتحليله الدقيق لكل بعد من أبعادها.

فقبل كل شيء، يقول (ماربين): (إن الحسين قد أحيا بقتله دین جده وقوانين الإسلام)(2)، ثم ينتقل بعد ذلك للقول: (كأن المسلمين بعد قتل الحسین قد دخلوا في دور جدید وظهرت الروحانية الإسلامية بأجلى مظاهرها وتجددت بعد أن كانت مدرسه غائبة عن أذهان المسلمين... وكما أنه لا يشك اثنان في تفوق مصائب الحسين على جميع مصائب السلف، فكذلك لا يشك في الثورة التي حدثت بعده بأنها فاقت جميع الثورات السالفة وأن امتدادها وأثرها أكثر، وأن بها ظهرت للعالم (مظلومية آل محمد).. فكانت أول نتائج هذه الثورة اختصاص الرئاسة الروحانية التي لها أهمية عظمى في عالم السياسة ببني هاشم، وخصوصا في أولاد الحسين (فكان منهم أئمة الشيعة)، ونظرة عموم المسلمين إلى بني هاشم سيما أولاد الحسين نظرهم إلى الروحانيين... وصار یزید یسمع تقدیس الحسين وأولاد علي وعظمتهم

ص: 435


1- راجع ما جاء في أ. نفس المصدر السابق ص124 ب. لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص18
2- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين، مصدر سابق ص117.

و مظلوميتهم بعد أن لم يكن يمكن ذكرهم عنده بخير، وكان يصعب عليه ذلك إلا أنه لم يكن له بد غير السكوت، ولما أراد تبرئة نفسه من تلك الأعمال ألقى المسؤولية على عماله ولم يزل يسمع محامد الحسين، وقال يزيد ذات يوم: إن سلطنة الحسين كانت أهون علي من هذا المقام العالي الذي فاز به آل علي وبنو هاشم)(1).

فالمقام الروحي الرفيع الذي احتله الإمام الحسين عليه السلام في قلوب المسلمين كان أشد وقعا على يزيد من استلامه مقاليد الخلافة على الأمة - هذا في حال لو أن الحسين قد استلمها فعلا - وبالتالي، فإن يزيد كان يشعر أن خلافة الحسين عليه السلام واستلامه مقاليد أمور الأمة أهون عليه من المكانة الروحية العالية التي حظي بها الإمام الحسين وآل علي عليهم السلام عموما في قلوب المؤمنين من المسلمين الذين لم يقبلوا أن يبيعوا ضمائرهم ولا أن تهدر كرامتهم أمام من تاجر بالرسالة واعتدى على كتابها وقام بتصفية رموزها.

ونحن لا نشك أبدا في أن عدد ذلك النموذج من المسلمين الصامدين الصادقين كان قليلا جدا، وذلك نتيجة السياسة الإعلامية الظلامية التي انتهجها معاوية للتعتيم على حقيقة مكانة أهل البيت عليهم السلام من جهة، ونتيجة سياسة الترهيب والترغيب التي اتبعها هو وابنه يزيد مع المسلمين من جهة أخرى.

ولذلك، يرى بعض الباحثين أن أروع لحظات الاستشهاد البطولية لا تظهر إلا في لحظات الانحدار الروحية التي يعاني منها العدد الأكبر من الوجود الجمعي. ولكن ما أن يقوم البطل الشهيد والقائد الثائر بتقديم كل ما يمكن تقديمه من إمكانيات وتضحيات ودماء وأرواح، حتى تعود القوة الروحية للانبعاث في المجتمع

ص: 436


1- نفس المصدر السابق ص122

السقيم والمتعب من جديد.

فالمجتمع الإسلامي قبل ثورة الإمام الحسين عليه السلام كان مريضا لدرجة فقدان الأمل بعودة الرسالة الإسلامية إلى سابق بريقها بعد أن فقدته بشكل شبه كامل على يد السرطان الأموي الذي راح يفتك بجسدها يوما بعد يوم، ولكن، وبالرغم من كل ذلك، فقد خرج الإمام الحسين عليه السلام لإعلان الثورة شاهرا مبضعه لاستئصال ذلك السرطان المخيف.

وبالفعل، لقد خرج الحسين عليه السلام - كما يقول الأستاذ (أحمد عباس صالح) - وهو يحسب أن كل الناس ما زالوا يطلبون العدل الاجتماعي، وكان الحسين عليه السلام منذ اللحظة الأولى قد اختار دوره لأنه كان يعرف مسبقا ما ستكون عليه نتائج ثورته،فطبيعته ترفض كل ما يحدث حوله في صفوف المسلمين، فالسيف والإرهاب يطالبانه بالبيعة ليزيد فلا يبايع أبدا ويأوي إلى مكة، وفي مكة يتقاطر عليه الناس يدعونه إلى الخروج والثورة.

ولو لم يطلب إليه الناس ذلك لكان قد خرج أيضا أو لمات قهرا على الإسلام (1).

وقد أشار الأستاذ (صالح) إلى مسألة إعادة شجن المجتمع روحيا ورفع مستواه المتردي إلى المستوى الذي كان يريده له جده صلی الله علیه و آله وسلم وأبوه عليه السلام من خلال التضحية الكبرى التي سيقدمها قريبا على رمال كربلاء، فالخاطر الذي لم يفارق الإمام الحسين عليه السلام طرفة عين هو أنه مقتول بغير شك إذ إنه كان يردد دائما أن الموت کتب على ابن آدم...

وأكد الأستاذ (صالح) أيضا على أن الإمام الحسين عليه السلام (كان يضع موته في كفة

ص: 437


1- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، مصدر سابق ص161

وثقته في الناس في كفة، فهو لم يفقد الثقة في الجوهر الكامن في النفس الإنسانية، ذلك الجوهر النازع إلى الارتقاء الروحي)(1).

وهنا يأتي دور الدرس الأشمل الذي استخلصه الأستاذ (صالح) من ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، فيقول في آخر صفحة من صفحات کتابه (اليمين واليسار في الإسلام): (وبذلك انتهت أول جولة لليسار مع اليمين،انتهت بأروع استشهاد وأعظم بطولة، وكانت شهادة الحسين أعظم انتصار للثورة لأنها تغلغلت في الضمير العربي، وأحيث الضمائر التي خنقها الإرهاب)(2)

إذن، لقد تسببت ثورة الإمام الحسين عليه السلام في انبعاث الروح النضالية في صدر الإنسان المسلم من جديد بعد فترة طويلة من الهمود والجمود والاستسلام، ولقد كانت الآفات النفسية والاجتماعية - كما يرى العديد من الباحثين المختصين - تحول بين الإنسان المسلم وبين أن يثور على واقعه، وأن يناضل عن ذاته وعن إنسانيته، فجاءت ثورة سید الشهداء عليه السلام لتحطم كل الحواجز النفسية والاجتماعية التي من شأنها أن تقف في وجه تفجير الثورة وانطلاقها من مهدها الحسيني العزيز.

وحتى نتعرف جيدا على مدى تأثير ثورة الحسين عليه السلام في بعث روح الثورة في المجتمع الإسلامي يجدر بنا أن نلاحظ أن هذا المجتمع السقيم قد أخلد إلى السكون والخنوع ما يقارب العشرين عاما قبل الثورة الحسينية، إذ إنه لم يقم خلالها بأي ثورة على الرغم من توفر الأسباب والدواعي إلى النهوض والثورة خلال تلك السنوات الطوال.

ص: 438


1- نفس المصدر السابق ص165
2- نفس المصدر السابق ص170

ولذلك، فعندما يكتب الداعية الإسلامي السني، الشيخ (عبد الرحمن النجار)،

المدير السابق للمركز الإسلامي بدار السلام في تنزانيا، تحت عنوان (من ذكريات کربلاء) قائلا:

(ومضى الأعداء في إيلام الحسين فقتلوا آل بيته أمام عينيه ثم اجتمع الأعداء حوله وأصابوه إصابة قاتلة ولقي ربه شهيدا... ومضى في التاريخ يوم كربلاء رمزا لعدوان الباطل على الحق، وصمود الحق حتى آخر لحظة من لحظات حياته، وتأكيدا لأن الاستشهاد في سبيل العقيدة والمبدأ هو خير حياة...)(1)، فعندما يكتب ذلك الداعية الإسلامي هذا الكلام الصائب عن معنی کربلاء ومعنى الثورة الحسينية، فإن هذا يعني أن الثورة الملونة بالدم هي العامل الفعال في إيقاظ المجتمع النائم من غفوته، واستنهاضه من كبوته، وهي الدم النقي المتجدد الذي سيجري من جديد في كل خلية متيبسة وفي كل ورید.

وهنا أريد أن أتوقف قليلا مع أحد أهم وأبرز المفكرين والباحثين العرب المعاصرين، الذي أثرى المكتبة العربية والإسلامية بالكثير من مؤلفاته الفكرية المتنوعة، والذي كانت تربطني به معرفة شخصية متميزة خلال إقامتي في مدينة بيروت عام / 1993/ وما بعده، إنه الدكتور( مصطفى الرافعي) الذي كان يدرسنا مادة تاريخ الفقه الإسلامي في معهد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في الضاحية الجنوبية في بيروت.

لقد كان الدكتور (الرافعي)، وهو مسلم سني، يحدثنا عن الإمام علي عليه السلام وعن سید الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، وعن كل إمام من الأئمة الكرام عليهم السلام وكأنه حفظ سيرة حياة كل منهم عن ظهر قلب، ولا زلت أذكر حتى الآن كيف أن أحد الأحاديث

ص: 439


1- عبد الرحمن النجار، خواطر مؤمنة، دار الرائد العربي . بيروت، 1982، ص183

الخاصة قد دار بيننا عن مقومات ثورة الإمام الحسين عليه السلام وعن نتائج ودروس تلك الثورة الحمراء التي انتهت بافتداء الإسلام بدم الإمام الحسين ودم أهله وعياله علیهم السلام وبدم أصحابه الغر الميامين رضی الله عنهم الذين لم يرضوا أن يتركوه وحيدا في ساحة الموت والشهادة، في ساحة العز والشرف والفداء.

ولذلك، فعندما قرأت مقال الدكتور (الرافعي) الذي يحمل عنوان (وبقي الحسين سيرة لا تموت وحديثا لا يفوت) لم أستغرب ما جاء فيها من عبارات وكلمات تدل على أنها نبعث من قلب صافي ثم انسالت على الورق بكل رقة وشفافية وإيمان، إن الكلمات التي كتبها في ذلك المقال هي نفس الكلمات التي كان يسمعني إياها في جلساتنا الخاصة معه بعد انتهاء الدروس والمحاضرات، وأحيانا أثناءها.

وعلى كل حال، دعونا نقرأ شيئا عن الدروس والعبر التي أخذها دكتورنا (الرافعي) من ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، سبط الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، ولذلك، فإنه يبدأ كلامه عن دروس الفاجعة بالقول: إن في استشهاد سيدنا ومولانا الحسين بن علي وابن محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، عظاة وعبرا لا يجوز لنا أن نمر بها غافلين.

ففي هذه الذكرى الكريمة ينبغي أن نتلقى دروسا في الوفاء والاستشهاد في سبيل الحق والعقيدة وإعلاء كلمة الله.

وبعد هذه المقدمة الموجزة عن دروس كربلاء، ينتقل بنا الدكتور (الرافعي) إلى التفصيل في الكلام حول معاني الفاجعة ودروسها، ونراه يفتتح تفصيل الكلام بقوله: (وليس مثل هذا الدرس من عبرة ولا مثل هذه التضحية من استشهاد، وإن وقفة على شرفة الزمن واستعراضا للأحداث الجسام التي جرت للإمام الحسين ليست وحدها

ص: 440

هي الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحسين... فإن حياة الحسين وتاريخ الحسین وجهاد الحسين يشمل زمنا بأحداثه، وإن أندية المسلمين وجوامعهم وحسينياتهم حين تحتفل بهذه الذكرى كل عام، فإنما تحتفل بذكرى الفداء العظيم الذي أقدم عليه الحسين مقتحما المنايا طلبا للآخرة وحماية للدين، ولافتا أنظار المسلمين في كل زمان ومكان إلى أن الفداء هو منزلة أفذاذ الرجال وصفة عظماء الأبطال، وأعظم هؤلاء جميعا من يخوض الصفوف ليحمي المال والأرض، ويصون الدين والعرض، بلا خوف من قوت ولا وقوع على موت، وإنه ليس في هذه الخلائق كلها أفضل من بطل يسفك دمه ليبقي قومه، ومن مقدم بدنه قربي إلى الله لينقذ روحه، ومن مفکر عاقل يغض بصره عن يومه لیری غده، ولا ضير عليه أن تنفصل أجزاؤه وتتفرق أشلاؤه - كما جرى للإمام الحسين - فكلنا نؤمن بوعد الله للشهداء وأهل الفداء حين يقول: «وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(1)(2)

ولا يخرج كلام الدكتور (عمر فروخ) قيد أنملة عن معاني الكلام الدكتور (مصطفى الرافعي) بشأن الدروس المستفادة من كربلاء، فالدكتور (فروخ) الذي درس التاريخ الإسلامي جيدا وحلل معظم أحداثه المفصلية الهامة، وعلى رأسها فاجعة كربلاء، نراه يفتتح إحدى مقالاته الهامة عن فاجعة كربلاء و مصائب الإمام الحسين عليه السلام بقوله: (لم يعرف التاريخ مأساة شغلت الإنسانية كمأساة الحسين بن علي عليه السلام )، ثم ينتقل بعد ذلك للقول: (إن شجاعة الحسين بن علي يجب أن تكون حية في قلوبنا حتى نرهب بها المعتدي ونرد بها الظالمين

ص: 441


1- سورة آل عمران: الآية 169
2- الدكتور مصطفى الرافعي، ويبقى الحسين سيرة لا تموت وحديثا لا يفوت، مجلة (الموسم)،العدد/ 13/، المجلد /4/، مصدر سابق ص389

إننا لم ننصف الحسين عليه السلام مهما عظمت ذكرياتنا ومهما تنوعت تلك الذكريات أو تعددت إذا كنا نحيي ذكراه في كل عام بأفواهنا وجفوننا فقط ثم لا نجعل تلك الذكرى حمية دائمة في قلوبنا وقوة مرهبة في أيدينا، إن علينا أن نقتدي بسيدنا الحسين ونسير على ضوء منهاجه اللاحب ونهتدي بهديه والسلام عليه)(1).

وما من أحد يشك في أن هناك تفاوتا وتباينا في عمق النظرة إلى كربلاء، وربما يكون مرد ذلك إلى اختلاف الزاوية المنظور إلى الفاجعة من خلالها، ففي الوقت الذي ينظر البعض إليها من منظار الشجاعة ومن زاوية البطولة،ينظر البعض الآخر إليها من زاوية المحاولة الجادة لتغيير مسيرة التاريخ وإعادة عجلة الحق إلى مسارها الصحيح في طريق الإنسانية.

فالباحث والمفكر اللبناني، الدكتور (عبد المجید زراقط) واحد من أصحاب النظرات العميقة في تحليله لآثار الفاجعة وتداعياتها، فهو لا يقبل بالرؤية السطحية البسيطة لما حدث على الساحة الإسلامية في العاشر من محرم الحرام، بل نراه ينتقل في دراسته وتحليله لذلك الحدث من المقدمات والمعطيات البسيطة والسطحية إلى الخوض في عمق ذلك الحدث الجلل الذي لا نزال نعاني من آثاره في مجتمعاتنا الشيء الكثير.

وقد لخص الدكتور (زراقط) كلامه عن أبعاد الفاجعة وحقيقتها، بقوله:

(وهكذا تبدو کربلاء، في حقيقتها، حركة تاريخية تهدف إلى تغيير وجهة سير التاريخ وإعادتها إلى الاتجاه الأصوب الذي حدده الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم، وهي، وإن لم تنجح عسكريا حين حدوثها، فقد كانت واجبا شرعيا يؤدی من ناحية أولی، ووضعت

ص: 442


1- الدكتور عمر فروخ، الحسين المثل الأعلى للاستشهاد ، نفس المصدر السابق ص17

أسس التحرك التاريخي، في الحالات المماثلة، على مر العصور من ناحية ثانية)(1).

وبالطبع، فإن هذا ليس هو كل شيء بالنسبة للدكتور (زراقط)، بل بإمكاننا أن نلاحظ أن هذا الدكتور الباحث يحاول أن يغوص أكثر في دراسة وتحليل ماحدث في ذلك اليوم التاريخي العظيم، فيقول مستنتجا: (وفي غمرة احتدام المعركة، وكانت نتائجها واضحة منذ بدايتها، أدى الحسين عليه السلام وأصحابه واجبهم، وواجهوا مصيرهم بشجاعة منقطعة النظير، وبإصرار على بذلك النفس في سبيل أداء الواجب الذي لا يكون إلا من أمثالهم، وما كانوا يرتمون على الموت، وإنما كانوا يوظفونه في سبيل شق طريق التغيير أمام الأجيال التالية)(2)

ومما لا شك فيه هو أن الكثير من أصحاب النظرة العميقة في تحليل الحدث الذي زعزع أمة الإسلام على اتفاق كامل مع المعنى العام للنتائج التي توصل إليها الدكتور (عبد المجید زراقط) في نهاية حديثه عن أبعاد الفاجعة وتفصيل نتائجها على المستويين الإسلامي والإنساني، ولذلك، فقد أصاب أيضا الباحث والمفكر المغربي (أحمد بوعود) عندما كتب تحت عنوان (دواعي التغيير في قومة الحسين): (وهكذا،لم ير الشهيد الحسين أحدا يجب عليه التغيير قبله، فهو أحق الناس به... فهو يقول متمما خطبته: «وأنا أحق من غير...» ولم يكن الإمام يضع في حسبانه ما سيواجهه في قومته، أو على الأصح، لم يكن يبالي، ما كان يهمه هو أن يقوم بهذا الواجب الذي أصبح مطوقا به حفاظا على دين الله عز وجل وسنة جده المصطفى عليه الصلاة والسلام، وما أحوج المسلمين اليوم إلى دراسة قومة الحسين، في شمولية وتكامل،

ص: 443


1- الدكتور عبد المجيد زراقط، كربلاء بين رؤيتين، نفس المصدر السابق ص79
2- نفس المصدر السابق ص79

حتى يستوعبوا تاريخهم، ويتعرفوا إلى طرق النهضة والتحرر من ثقل قرون

الانحطاط، فهي حلقة أساس لا يمكن بحال من الأحوال إغفالها)(1).

وعلى كل حال، هناك العديد من الكتاب والباحثين، من غير الطائفة الشيعية، لا يختلفون في آرائهم عن رأي كبار المفكرين والباحثين الشيعة بشأن الرؤية العرفانية الاستشهاد الإمام الحسين عليه السلام في غربته دفاعا عن عقيدته، فالكاتب السني (توفيق أبو علم) - وهو واحد من مجموعة من الأمثلة - يؤكد في كتابه (الحسين بن علي) على صدق ما يقال في المؤلفات الإسلامية الشيعية عن حقيقة استشهاد الإمام الحسين علیه السلام

وكان من جملة ما قاله عن الإمام الحسين عليه السلام في كتابه المذكور: (فهو (أي الحسين عليه السلام ) قد بين أهل الحق من أهل الباطل، فهو في ذلك يشبه القرآن الذي هو بینات من الهدى والفرقان، إلا أن القرآن صامت والحسين إمام ناطق، والقرآن نافع لمن يتلوه والحسين نافع لمن يزور قبره، والقرآن جديد لا يبلى مع التكرار، والحزن على مقتل الحسين لا يبلى على مر الليالي والأيام، وقراءة القرآن عبادة والاستماع إليه عبادة والنظر إليه عبادة، والحسين رثاؤه عبادة واستماع رثائه عبادة والجلوس في مجلسه عبادة والهم والحزن له عبادة، وتمني الشهادة بين يديه عبادة والسلام عليه عبادة)(2).

وليس هذا فحسب، بل نرى أن الأستاذ الباحث (أبو علم)، وهو الباحث المتخصص في دراسة تاريخ أهل البيت عليهم السلام ، يؤكد على أن جمهور السنة يشاركون

ص: 444


1- أحمد بوعود ، دواعي التغيير في قومة الحسين، مجلة النور، العدد / 107، مصدر سابق ص79.
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص206.

المسلمين الشيعة بحبهم القوي والشديد للإمام الحسين عليه السلام الذي قضى شهيدا في سبيل الحق، هذا بالإضافة إلى اتفاقهم الواضح معهم بشأن صحة الأحاديث التي تنبأ فيها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بمقتل الحسين عليه السلام في أرض کربلاء فداء لرسالته الإسلامية التي بعث بها رحمة للإنسانية ورأفة بالعالمين أجمعين.

فالشاعر والأديب الألماني (شیلر) ( Schiller) ( 1805-1759(

) يقول موضحاالعلاقة بين الخلود والفناء من جهة، والشهادة من جهة أخرى: (بئس الرجل رجل يفر من الاستشهاد، إنه كالذي يفر من الخلود إلى الفناء)(1).

أليس هذا القول للأديب والشاعر الألماني (شیلر) يشابه قول أمير المؤمنين علي عليه السلام الشهير: «اقتحموا الموت، فرب جريء كتبت له السلامة، ورب جبان لقي حتفه في مكمنه، إن المجاهدين قد باعوا أرواحهم واشتروا الجنة»(2)؟!

لا ريب أن التشابه واضح بشكل جلي لا غبار عليه، فالشهادة تبرز في هذين القولين على أساس أنها مفتاح الخلود الأبدي وبوابة النعيم الأزلي، وهذا مما لاشك فيه أبدا، ولكن السؤال الآن هو:

كم هو عدد الذين صنعوا ما صنعه الحسين عليه السلام في كربلاء؟!

وهل هناك في التاريخ المديد من ضحى بأشقائه وأبنائه وأطفاله وأصحابه، ثم

بنفسه، فداء لمبادئه وعقيدته مثلما فعل الحسين عليه السلام؟!

نعم، إن التاريخ يحدثنا عن أناس كثيرين ضحوا بأنفسهم من أجل مبادئهم

وأهدافهم، ولكن ذلك التاريخ لم يحدثنا، ولو عن شخص واحد، ضحى بالذي ضحى

ص: 445


1- محمد قره علي، سنابل الزمن، مصدر سابق ص391
2- نفس المصدر السابق ص391

به سید الشهداء وسبط الرسول العظيم صلی الله علیه و آله وسلم ، الإمام الحسين عليه السلام .

وإذا كان التاريخ قد حدثنا عن أبطال حقيقيين قد اقتحموا جبهات الموت غير مبالين بالنتائج المترتبة على اندفاعهم في سبيل أهدافهم، فإن ذلك التاريخ ذاته لم يستطع أن يحدثنا عن بطل كالحسين عليه السلام استطاع أن يقتحم حصون الموت وقلاع المنايا دون أن يرف له جفن أو أن ينقبض له قلب خوفا من الموت الذي جعله يرى كل أهله وعياله وأصحابه صرعی حوله وبين يديه، معفرین بالتراب ومضرجين بالدماء.

ففي كتاب (الشهيد الخالد الحسين بن علي) يتحدث الأديب والمفكر المصري (أحمد حسن لطفي) عن علاقة الإمام الحسين عليه السلام بالموت في سبيل الحق والمبدأ، فيقول: (إن الموت الذي كان ينشده فيها كان يمثل في نظره مثلا أروع من كل مثل الحياة لأنه الطريق إلى الله الذي منه المبتدأ وإليه المنتهي، ولأنه السبيل إلى الانتصار وإلى الخلود... فأعظم ببطل ينتصر بالموت على الموت)(1)

وإذا كان الأستاذ (أحمد حسن لطفي) قد ركز على دور الإمام الحسين عليه السلام في لقاء الموت ومواجهته في سبيل قضيته العادلة وأهدافه النبيلة، فإن الأديب والكاتب (عمر أبو النصر) قد رأى من خلال كتاب (آل محمد في كربلاء) أن كل شهید من شهداء جيش الإمام الحسين عليه السلام هو صورة مطابقة في حقيقتها لصورة سيد الشهداء من حيث نبالة الأخلاق وسلامة المقصد وقوة الإيمان وعزة النفس وعظمة البطولة والتضحيات.

وها هو يصف تلك الأسرة الطاهرة بقوله: (وهذه قصة أسرة من قريش حملت لواء التضحية والاستشهاد والبطولة من مشرق الأرض إلى مغربها... قصة ألف

ص: 446


1- راجع مجلة (أهل البيت)، الطبعة العربية، العدد /50/، مصدر سابق ص43

فصولها شباب ما عاشوا كما عاش الناس ولا ماتوا كما مات الناس، ذلك أن الله شرف هذه الجماعة من خلقه بأن جعل النبوة والوحي والإلهام في منازلها... فلم يشأ لها حظ الرجل العادي من عباده، وإنما أرادها للتشريد والاستشهاد، وأرادها للمثل العليا في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكتب لها أن تتزعم لواء التقوى والصلاح إلى آخر ما يكون من ذریتها...)(1)

وهكذا نرى أن دروس الفاجعة وآثارها وعبرها تكاد لا تنتهي، ففي كل حركة من حركات الإمام الحسين عليه السلام درس لا ينسى، وفي كل قول من أقواله حكمة أو عبرة لا تمحى، ولكل مشهد من المشاهد الدرامية على أرض التضحية والفداء أثر خالد لا يفنی.

وانطلاقا من هذه الحقائق الثابتة، دعونا نتوقف قليلا مع درس جديد من دروس مدرسة الإمام الحسين عليه السلام الاستشهادية، تلك المدرسة التي أعطت البشرية درسا خالدا لا ينسى في معنى الفداء العظيم.

فالإسلام - بدون أدنى شك - يقدس الفداء كمفهوم عقائدي ويحض على احترامه والعمل به من أجل الحق والخير والفضيلة، ولكن العقيدة المسيحية ترفع مفهوم الفداء إلى مرتبة عظيمة جدا بحيث تضعه فوق كل اعتبار، وحجة المسيحيين في ذلك هو أن السيد المسيح عليه السلام قد فدى العالم بنفسه وطهر البشرية بدمه وخلص الإنسانية من الخطيئة الأولى وتبعاتها بآلامه وعذابه الشديدين قبل ارتفاعه إلى السماء.

ولأن مفهوم الفداء له مكانته الخاصة عند كل الأديان الأخرى أيضا، دعونا إذن نقوم بجولة سريعة مع بعض المفكرين والشعراء والأدباء لنرى ما تعلموه من الإمام

ص: 447


1- نفس المصدر السابق ص43

الحسين عليه السلام عن معاني الفداء العظيم.

فالأديب والباحث المسيحي (أنطون بارا) يمهد للكلام عن معاني الفداء التي تعلمها من مدرسة الإمام الحسين عليه السلام بقوله: (والسيرة العطرة لحياة سيد شباب أهل الجنة، واستشهاده الذي لم يسجل التاريخ شبيها له، كانا عنوانا صريحا لقيمة الثبات على المبدأ، وعظمة المثالية في أخذ العقيدة وتمثلها، فغدا حبه كثائر واجبا علينا كبشر، وحبه کشهيد جزءا من نفثات ضمائرنا، فقد كان عليه السلام شمعة الإسلام أضاءت ممثلة ضمير الأديان إلى أبد الدهور، وكان درعا حمى العقيدة من أذى منتهكيها، ودفع عنها خطر الاضمحلال، وكان انطفاؤه فوق أرض کربلاء مرحلة أولى لاشتعال أبدي، كمثل التوهج من الانطفاء، والحياة في موت)(1)

بهذه الكلمات والعبارات يمهد الباحث المسيحي (بارا) الطريق أمام الحديث عن عقيدة الفداء في النهج الحسيني، ومن هنا، فقد كتب الأستاذ (بارا) قائلا تحت عنوان (فداء الحسين في الفكر المسيحي): (وبمقياس الجود بالنفس الواحدة مقابل سلامة العقيدة أو بعثها من البدء، فإن الأنبياء موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام والشهداء زکریا ویحیی وعلي والحسن والحسين والعباس( بن علي عليه السلام ) وغيرهم.. أدوا رسالتهم الكاملة بما يرضي الله سبحانه تعالى كما رسمها لهم، وكانت أنفسهم الطاهرة هي القربان الذي قدموه على مذبح الشهادة)(2)

ولكن لا يظن القارئ الكريم أن هذا الكلام هو غاية ما أراد الأستاذ (بارا) قوله لنا بشأن فداء الحسين عليه السلام، بل ها هو يتوسع في شرحه لنا حول هذه النقطة الهامة التي

ص: 448


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص65
2- نفس المصدر السابق ص80

ينظر إليها من منظور مسیحی تارة، ومن منظور إنساني عام تارة أخرى.

ولذلك، دعونا إذن نصغي إليه وهو يقول متابعا: (فإذا كانت الأديان السماوية تنزل ويفدى لها بنفس رسولها، وتنشر فيفدى لها بنفس ناشرها، وتحمي

فيفدى لهابنفس حاميها.. فبأي وصف أو مقياس يمكن لنا ولأجيال المؤمنين من بعدنا أن نقيس ثورة الحسين عليه السلام التي قدم فيها عترة آل البيت وصحبه الأخيار، وكان ثمن دفاعه عن انحراف العقيدة ثلاثا وسبعين نفسا طاهرة هي أسرة النبي الذي أنزلت الرسالة به... فهل يمكن قياسها بمقياس ما قدمت، أم بمقياس ما زالت تقدمه؟!)(1).

ولأن الفداء له أهميته العظمى في العقيدة الدينية المسيحية، فقد رأى الأستاذ (بارا) أن فداء السيد المسيح عليه السلام للبشرية لا يعادله إلا فداء آخر... إنه فداء الحسين.

ولو وقفنا الآن سوية وطلبنا من الأستاذ (بارا) قائلين:

هل يمكنك أيها الباحث المسيحي المؤمن بفداء المسيح عليه السلام أن تلخص لنا ماتريد أن تقوله للناس عن فداء الإمام الحسين عليه السلام وأهدافه؟!

وما من شك في أن الجواب سيكون حاضرا على مرمى أسماعنا، وذلك لأن

الجواب على سؤالنا موجود بالفعل في العديد من صفحات کتابه الذي ذكرناه سابقا.

وعلى أي حال، ها هو الجواب قد أتانا، وهو يقول فيه بلهجة المتسائل العارف بالحقائق: (فإذا الله جل شأنه فدى إسماعيل من الذبح بعد أن صدق أبوه الرؤيا... فهل يرضى سبحانه بذبح الحسين ابن بنت نبيه؟! وكم كان غضبه عظيما حين ذبح فداء للحق الإلهي، وهو الصادق الأمين على هذا الحق، وعلى سنة الله في خلقه؟!

وكم هو حري بنا نحن البشر الضعفاء أن نقف بقلوب حزينة وعيون دامعة أمام

ص: 449


1- نفس المصدر السابق ص80

أحداث هذا الذبح الذي لم تسجل الأديان والتواريخ ما يعدله سمو معنی، وسمو ذات وعلو شأن..؟!

فهو ذبح فدى البشرية جمعاء، وصان دين الله الواحد من الانتهاك.

وهو ذبیح أرسى للبشرية مجدها الذي ترتفع في نعمته الآن، وإلى أبد الدهور)(1).

وفي الواقع، علينا ألا نستغرب هذه الأقوال عن فداء الإمام الحسين عليه السلام من قبل هذا المفكر والباحث المسيحي (أنطون بارا)، فهناك الكثير من المفكرين والمثقفين المسيحيين، ومن غير المسيحيين أيضا، لا تختلف آراؤهم كثيرا عن آراء الأستاذ (بارا) الذي لم يدخر جهدا في دراسة وتحليل ومقارنة فاجعة كربلاء مع بقية الفواجع العالمية الكبرى التي ألمت بالرموز الإنسانية على مر العصور والدهور.

وكمثال آخر من الأمثلة التي يمكن أن نستحضرها عن الكلام بشأن فداء الحسين عليه السلام في الفكر المسيحي، هو الفيلسوف والأديب والشاعر (جبران خليل جبران)، إنه ذلك الرجل الموسوعي الذي سحر الغرب بكتاباته الأدبية وأدهشهم بأفكاره الفلسفية وفتنهم بقصائده الشعرية، إذ لا يمكننا وصفه إلا بأنه روح الشرق المهاجرة إلى جسد الغرب.

ومن المعروف عن هذا الأديب الفيلسوف أنه كان مسيحيا ولكنه كان ثائرا على رجال الدين الذين يتعمدون الفهم الخاطئ لتعاليم السيد المسيح عليه السلام النقية، وعلى الرغم من أنه كان مسيحيا صادقا بالفطرة مع ذاته، فقد ناصب الكنيسة العداء واعتبر تعاليمها مشوهة لحقيقة السيد المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام ، وليس هذا فحسب، بل إن الفكر المستنير الذي كان يحمله (جبران)في سراج عقله كان يدفعه باستمرار لقراءة

ص: 450


1- نفس المصدر السابق ص56

فكر التيارات والأديان والمذاهب الأخرى، ولذلك فقد فتح (جبران) نوافذ فكره على ثقافة (الآخر) ونهل منها ما أراد، ولا ريب في أن المتتبع لسيرة حياة (جبران) سیلاحظ، وبوضوح تام، أن هذا المفكر والفيلسوف المسيحي قد كان على اتصال وثيق مع الشيعة والفكر الشيعي في لبنان.

وقد ذكر الأستاذ (ثروت عكاشة) هذه الحقيقة في المقدمة التي وضعها لكتاب (النبي) الذي كتبه (جبران) باللغة الإنكليزية ثم ترجم لاحقا إلى اللغة العربية وإلى كل اللغات العالمية الحية الأخرى(1)

إذن، لقد بين الأستاذ الأديب (عكاشة) أثر الفكر الإسلامي الشيعي في فكر (جبران) وانعكاس ذلك الأثر في مؤلفاته الأدبية ذات الطابع الفلسفي والتي تبحث عن حقيقة الوجود وعن معاني مفردات الحياة وطبيعة النفس وحقيقة الإنسان وعالم الروح.

ونظرا للتأثير الفلسفي الشيعي البارز في فكر (جبران)، فقد كتب مقالا مطولا

عن النزعة الإسلامية الشيعية في فكر ذلك الفيلسوف المسيحي، وقد نشر ذلك المقال في مجلة (النور) الصادرة في لندن في شهر آذار (مارس) عام / 2001/(2).

وعلى كل حال، ومنعا للإطالة في الحديث، كان (جبران) قارئا جيدا للفكر

الإسلامي مثلما كان قارئا متفهما للفكر المسيحي وللفكر الهندي بكل أطيافه أيضا.

ص: 451


1- المزيد من الاطلاع على تأثر (جبران خليل جبران) بالفكر الإسلامي الشيعي، راجع المقدمة التي وضعها الأستاذ (ثروت عكاشة) لكتاب (النبي) لجبران، والكتاب صادر عن دار طلاس. دمشق، ط1984/1 ، راجع من الصفحة /52/ حتى الصفحة /54/ من المقدمة
2- راجع مقالة: راجي أنور هيفا، النزعة الإسلامية في فلسفة جبران، مجلة النور، العدد /118/، عدد شهر آذار (مارس)، 2001، تصدر عن مؤسسة النور. لندن، ص74. 75

وما من أحد يستطيع أن يشك في أن لجبران اطلاعات جيدة أيضا على الكثيرمن الأحداث الإسلامية الهامة، وعلى أبرز الشخصيات الإسلامية التي كان لها الدور الأكبر في صنع تلك الأحداث المهمة، وبطبيعة الحال، فإن فاجعة كربلاء إحدى أهم تلك الأحداث المفصلية في تاريخ الرسالة الإسلامية.

فكيف كانت نظرة (جبران) إليها، وكيف رأي مسألة فداء الحسين عليه السلام وأثرها على الإنسانية المعذبة ؟!

في الحقيقة، كانت نظرة (جبران) لفاجعة كربلاء، نظرة استثنائية تتجاوز في مفهومها حدود الحركة والصورة، إنها النظرة الباطنية العميقة التي تستطيع سبر أغوار الحدث والوصول إلى ترجمته الحقيقية الكامنة وراء تلك الصور والحركات التي لا يصعب تخيلها وكأنها تحدث أمامنا متخطية حدود الزمان والمكان.

فلا ريب في أن (جبران) كان قادرا على تخيل ما حدث على ساحة کربلاء من قتل وتمزيق لأجساد، وتقطيع لأوصال، وحرق وسلب ونهب، وسبي وتهجير واستخفاف بكل فضيلة ومكرمة وخصلة حميدة، نعم، لقد كان (جبران) قادرا على تخيل كل ذلك واستحضاره أمامه، ولكن (جبران) الفيلسوف لم يشأ أن ينظر إلى فداء الإمام الحسين عليه السلام من خلال الحركة والصورة وفظاعة المشهد فقط، بل أراد أن يغوص بنور بصيرته إلى أعمق أعماق ذلك الحدث المأساوي الذي جعله يقوم بعملية مقارنة جادة بين فداء الحسين عليه السلام وبين فداء كل الرسل والأنبياء والقديسين والمصلحين الذين قدموا للبشرية ما يستطيعون تقديمه.

وبعد تلك الدراسة والمقارنة، ماذا كانت النتيجة ؟!

وكيف رأى (جبران) أبعاد الفاجعة وأثرها على الإنسانية جمعاء؟!

ص: 452

لقد اختصر (جبران خليل جبران) رؤيته للفاجعة نظرته لقضية الفداء العظيم الذي قدمه الإمام الحسين عليه السلام على أرض كربلاء، برؤيته النابعة من رهافة مشاعره وسلامة منطقه وعمق فكره وثقافته، تلك الرؤية التي تختصر الكثير من المعاني والعبر، بل والكثير من الدروس العظيمة أيضا، إنها رؤية (جبران) المسيحي التي يقول ويؤكد جبران من خلالها أنه لم يجد في تاريخ الإنسانية الطويل من ضحى وقدم للإنسانية المعذبة ما قدمه الحسين عليه السلام ، فبالدم الحسيني تحققت عزة الإنسانية ومجدها(1).

إنها رؤية خالدة في معانيها، وعميقة في مراميها، وكم يحلو لي أن أكرر ذكرها في غالبية ما يخطه قلمي من كتب وأبحاث عن علاقة جبران بفكر علي والحسين عليه السلام .

ولئن سبق لي أن ذكر هذه الرؤية (الجبرانية) عن مكانة فداء الإمام الحسين عليه السلام في فكر (جبران) في أكثر من مكان ومناسبة، فإن هدفي من ذلك هو أن ترسخ هذه العبارة القصيرة والموجزة في ذهن القارئ الكريم، وأن يعمل على دراستها وتحليلها حتى يصل، بنور بصيرته، إلى ما وصل إليه ذلك الفيلسوف المسيحي النقي.

وحتى لا نقع داخل دائرة الاتهام بقلة إعطاء الأمثلة عن معاني الفداء الحسيني في الفكر المسيحي، دعونا نتوقف مع مثال آخر من الأمثلة التي يمكن لها أن تزيد الرؤية وضوحا والفكرة سطوعا، وليكن مثالنا التالي هو المطران الدكتور (برتلماوس عجمي) صاحب الصدر الرحيب والفكر الحضاري المستنير.

لقد كتب هذا المطران، الدكتور (عجمي)، عن تضحيات الإمام الحسين عليه السلام الكلمة تلو الكلمة والسطر تلو السطر، فجاءت كلماته مؤيدة بروح القدس لكل حرف

ص: 453


1- راجع مجلة (الموسم)، العدد /3/، المجلد /4/، صدر العدد في هولندا عام 1992، ص354

خطته يده عن تضحيات الحسين عليه السلام في محراب العشق الإلهي، وكان من جملة ما قاله سيادة المطران الدكتور (عجمي) عن ذلك، هو ذلك الكلام البليغ الذي جاء تحت عنوان( الحسين شهيد للمسيحية كما هو شهيد للإسلام)، والذي يقول فيه بكل صراحة ووضوح: (فمن أجدر من الحسين علیه السلام لأن يكون تجسيدا للفداء في الإسلام؟! ومن أجدر من الفكر المسيحي لأن يفهم رموز ومعاني هذا الفداء (الذي هو) الركن الأول في المسيحية ؟!... فالحسين من وجهة نظر مسيحية، هو شهيد للمسيحية كما للإسلام، وكما لغيرها أيضا لأن فداءه ذو أهداف إنسانية شمولية لا تختص بفرد دون آخر)(1)

ولا أعتقد، بشكل شخصي، أن هناك عاقلا ذا بصيرة يمكن أن يختلف مع ما قاله سيادة المطران (عجمي) حول تضحية سيد الشهداء في ساحة الفداء، فالإمام الحسين عليه السلام بمسيرته الفدائية - كما يصفه الكثير من أرباب الفكر - قد صافح السيف، وعانق الرماح، وقدم الضحية تلو الضحية، وقرب القربان تلو القربان من أجل كلمة الحق وكرامة الخلق، وبذلك يكون قد حقق وحظي بالنصيب الأوفر من التضحية والفداء، من زمن سيدنا إسماعيل وحتى عهد سيدنا المسيح علیه السلام.

ويذهب الكثير من المفكرين أيضا إلى أن يوم عاشوراء ليس للشيعة فحسب ولا للسنة أيضا، وإنما هو للناس أجمعين لأنه جهاد وتضحية وفداء وصراحة وحق وحكمة ونور بصائر، وليس لهذه الفضائل دین خاص ولا مذهب خاص ولا وطن خاص ولا حتى لغة خاصة بها (2).

ص: 454


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص358
2- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، مصدر سابق ص207

وهنا يمكن أن نسأل أنفسنا قائلين:

ماذا بعد درس الفداء العظيم، وهل هناك من دروس أخرى؟!

ويأتي الجواب واضحا من الأدباء والمفكرين: إن دروس کربلاء تكاد لا تنتهي، وإن عبرها وآثارها تفوق حدود التصور والحصر عند كل من يتعمق في دراستها وفي تحلیل جزئياتها بالشكل المنهجي المطلوب.

فالمستشرق الفرنسي (هنري کوربان) يقول - على سبيل المثال -: (نستطيع أن نسعي للبحث في ثنايا الفكر الشيعي عن رؤية واضحة ونهج معنوي، رؤية تتفوق على الإحباط واليأس الذي يساور البشرية اليوم،وتزيلهما)(1)، وهذا يعني أن الفكر الإسلامي الشيعي هو فكر بعيد كل البعد عن اليأس والخنوع والإحباط، وعن القبول بالذل والاستكانة والقبول بسياسة (الأمر الواقع) السيئة.

وهنا يحق لنا أن نسأل الأستاذ (کوربان) السؤالين التاليين:

من أين اكتسب الفكر الشيعي هذه القوة الهائلة القادرة على إلحاق الهزيمة

باليأس والقنوط والإحباط ؟!

وما هو المقصود بأن الفكر الشيعي قادر على أن يكون هو الدواء الشافي

لأمراض البشرية اليوم، وكيف يكون ذلك؟!

في الحقيقة، إن الجواب على هذه الأسئلة واضح بالنسبة للمستشرق (کوربان)، ويمكن الوقوف على آرائه ووجهات نظره من خلال قراءة مؤلفاته العديدة عن الإسلام وعن تياراته الفكرية العديدة، وبالتالي، يمكن لنا أن نقول إن ذلك المستشرق الفرنسي

ص: 455


1- السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالة التشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي کسار، مؤسسة أم القرى، ط1418/1 ه-، ص46

یولي ما حدث في كربلاء أهمية كبيرة، ويرى أن الفكر الإسلامي الشيعي قد اكتسب قوة كبيرة وفعالية عظيمة بعد أحداث الفاجعة الأليمة، وبالطبع، فإن الأستاذ (کوربان) لم يغفل عن ذكر فكرة هامة أخرى كان لها الدور البارز أيضا في التغلب والسيطرة على كل أشكال الاستكانة واليأس، إنها فكرة وجود الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه الشریف) الذي سيعيد الحق إلى نصابه ويجتث الباطل من جذوره.

وبما أن الشعور بالإحباط والاستكانة يولد في نفس الإنسان الشعور بالذل والمهانة، في حين أن الشعور بالأمل والإيمان يولد فيها الشعور بالعزة والكرامة، فمن أجل سحق المهانة والذل في نفس الإنسان قاتل الإمام الحسين عليه السلام ومن أجل الحفاظ على العزة والكرامة قتل الإمام الحسين عليه السلام.

ألم يقل الإمام الحسين عليه السلام قبيل استشهاده: ( هيهات منا الذلة...)؟!

ثم، ألم يؤكد هذه الفكرة المفكر (رینر برونر) (Rainer Brunner) في كتابه (The Twelver Shia In Modern Times) (الشيعة الاثنا عشرية في العصر الحديث) عندما ذكر هذا المؤلف قول الإمام الحسين عليه السلام ، وهو يصف الموقف العصيب في كربلاء، أنه بات بين السلة والذلة، ثم يورد تعليقا على ذلك، فيقول: (... وجد الحسين نفسه يحارب على جبهتين، فهو يجاهد لعدم القبول بحكم يزيد المنافي للقرآن، ويجاهد أيضا لعدم القبول بالذل والهوان اللذين أراد عدؤه أن يحلا به، فهو لذلك يدافع عن كرامته، والدفاع عن الكرامة هو القضية البارزة في المراحل النهائية لنضال الإمام)(1). وإذا كان هذا المفكر الغربي قد رأى في مسألة الكرامة أنها القضية الأبرز في ثورة

ص: 456


1- Raimer Burnner, The Twelver Shia in Modern TimesBrill 2001P.162

الإمام الحسين عليه السلام على الحكم الأموي الجائر، بحيث جعلها القيمة الثورية الأسمى في النهضة الحسينية، فإن هناك الكثير من المفكرين والباحثين الآخرين في الشرق والغرب لا يعترضون على هذا الكلام مطلقا ولكنهم - بنفس الوقت أيضا - يرون أن الثورة كانت تحمل في رحمها الخصيب الكثير من القيم العليا الأخرى والتي لا تقل شأنا عن تلك القيمة الأخلاقية النبيلة التي ركز المفکر (برونر) على ذكرها في معرض حديثه عن معاني الفاجعة ودروس الحسين عليه السلام .

فالباحث والرجل العرفاني الموسوعي، الدكتور (أسعد علي) الذي يعمد في كل مؤلفاته الفكرية والأدبية إلى الإبحار عميقا في عوالم الكشف والإشراق، يرى في کربلاء عوالم من الرؤى الإشراقية الملونة بالدماء الحسينية والتي لا يمكن لأحد أن يراها على حقيقتها التامة وصورتها الكاملة ما لم يكن متخرجا من (جامعة الحسين). فالدكتور العارف (أسعد علي) (حفظه الله) يرى أن (ثورة الحسين كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلط في عصره، ليخترق جدران العبودية، مطلقا هواء الحرية بالفداء في فضاء الزمان، ليصل الهواء النقي ببعضه، من ماض وحاضر وآت ... (أشهد أن لا إله إلا الله) عنوان جامعة الشهادة، أي الحرية، لأن هذه العبارة تعني عدم الخضوع لغير الله، والخضوع لله حرية لأن من يخضع لله يتقوى بقوته ويتحول بحوله، والشهداء خريجو هذه الجامعة التي تصنع الأحرار، وتدعو عشاق الحرية، في كل سبيل)(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الدكتور الفيلسوف (علي) يضيف إلى ما سبق من قول

ص: 457


1- الدكتور أسعد علي، جامعة الإمام الحسين عليه السلام من أجل الإنسانية، مجلة (الموسم)العدد /12/ المجلد /3/، مصدر سابق ص52

تأكيده على أن (الحسين حس علي للإسلام، لذلك آمن الحسين بتجربة أبيه الفدائية:

فدى أبوه رسول الله بالنوم، فكان نومه تنويما تاريخيا للمشركين، وإيقاظا تربويا للموحدين، فكان فتى الإسلام، (لا فتى إلا علي)، آمن الحسين بتجربة أبيه ففدى أمةجده بالنفس، فكان استشهاده تنفسا للحرية، خرق الحسين جدار العبودية أيام كربلاء، فانعتق هواء الشهادة)(1)

وإذا كان الدكتور العارف (أسعد علي)، وغيره الكثير من المفكرين والباحثين، قد رأوا أن الفداء والحرية والإيثار هي أهم الدروس والعبر المستخلصة من الفاجعة الكربلائية، فإن هناك البعض الآخر من الباحثين والمفكرين،وحتى المستشرقين أيضا، يرون أن الإمام الحسين عليه السلام قد خرج بالفعل من أجل تحقيق هذه المبادئ والقيم المذكورة، ولكن المبدأ الأسمى والقيمة الأعلى التي خرج الإمام الحسين لتحقيقها هي العدالة الاجتماعية في صفوف الرعية.

وها هو المستشرق الفرنسي (لويس ماسينيون)، على سبيل المثال فقط، يقول في كتابه (سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران) إن الإمام الحسين أخذ على عاتقه مصير روح الرسالة الإسلامية، وأنه (غدا ليقتل في سبيل العدل في کربلاء)(2)

وقد جاء كلام الباحث الإنكليزي المعروف (جون أشر) مطابقا لما قاله المفكر

ص: 458


1- نفس المصدر السابق ص48
2- لويس ماسينيون، سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران، ترجمة الدكتور عبد الرحمن بدوي، وهذا الكتاب جزء من مجموعة كتب أخرى قام الدكتور بدوي بترجمتهاوتصنيفها في كتاب أطلق عليه عنوان (شخصيات قلقة في الإسلام)، وقد صدر الكتاب عن وكالة المطبوعات في الكويت عام 1978، راجع مقولة ماسينيون عن الإمام الحسين عليه السلام في الصفحة 45.

والمستشرق الفرنسي (ماسینیون) بشأن مسألة العدل الاجتماعي الذي سعى إليه الإمام الحسين عليه السلام في ثورته، وها هو الأستاذ (أشر) يؤكد على مصداقية ذلك بقوله في كتابه (رحلة إلى العراق): (إن مأساة الحسين بن علي تنطوي على أسمى معاني الاستشهاد في سبيل العدل الاجتماعي)(1).

وبما أن الإمام الحسين عليه السلام كان قد خرج بالفعل من أجل إحياء معالم دین جده الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، ومن أجل كل هذه القيم والمبادئ التي تحدثنا عنها في ما سبق من سطور وصفحات، لذلك كان من الطبيعي تماما أن تتسع دائرة محبة الإمام الحسين عليه السلام في قلوب الناس أفرادا وجماعات.

وقد انتبه العديد من الباحثين والمفكرين إلى هذه المسألة واعتبروا أن أحد أهم الانتصارات التي حققها الإمام الحسين علیه السلام بخروجه واستشهاده هو بلورة الفكر الإنساني الذي كان يناضل من أجله.

وكمثال على ذلك، يرى المستشرق الألماني (كارل بروكلمان) في كتابه (تاریخ الشعوب الإسلامية) أن الإمام الحسين عليه السلام استطاع أن يحقق الكثير من الأهداف من خلال استشهاده في كربلاء، وقد عبر (بروكلمان )عن النصر الفكري الذي حققه الإمام الحسین علیه السلام بخروجه واستشهاده بالقول: (الحق إن ميتة الشهداء التي ماتها الحسين ابن علي قد عجلت في التطور الديني لحزب علي، وجعلت من ضريح الحسين في کربلاء أقدس محجة)(2) وقد أيد هذا الرأي المستشرق الإنكليزي المعروف (رینولد نیکلسون) عندما أكد على أنه (خلال بضع سنوات فقط من مصرع الحسين أصبح

ص: 459


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص51
2- نفس المصدر السابق ص51

ضريحه في كربلاء محجا تشد إليه الرحال)(1).

فباستشهاد الإمام الحسين عليه السلام بتلك الطريقة المأساوية المروعة من أجل تلك الفضائل والمبادئ الإنسانية العامة، أصبح الحسين عليه السلام رمزا أخلاقيا لكل المؤمنين من جهة، ولكل الناس الآخرين الذين أدركوا لاحقا قيمة المبادئ التي كان يسعی التحقيقها من جهة أخرى، نعم، لقد تعاظم، بعد وقوع الفاجعة، دور فكر أهل البيت عليهم السلام على الساحة الإسلامية، وذلك لأن الأحداث الدامية التي جرت على أرض الواقع أكدت لعموم المسلمين أن الدم النبوي المقدس الذي قدمه آل بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يكن من أجل هدف دنيوي أبدا، وإنما كان من أجل الإنسان، ومن أجل دين الإنسان وعزته وكرامته، فمن دم الإمام الحسين عليه السلام - كما يقول المفکر المسيحي (سليمان كتاني) - أصبح لفكر أهل البيت عليهم السلام المتمثل بالشيعة صيحة جديدة لم تزل تدوي حتى اليوم مطالبة بثارات الحسین(2)

وفي الحقيقة، إن هذا الكلام من أولئك المستشرقين والمفكرين يذكرنا بكلام مماثل من المفكر والمستشرق (ستانلي لين بول) عندما تحدث عن نتائج استشهاد الإمام الحسين عليه السلام في معركة كربلاء في كتابه (Studies In a Mosque) قائلا: (ونتج عن مقتل الحسين تشیع كثير من الموالي، فقد اعتبروا الحسين مثلا أعلى للتضحية وتحمل العذاب والشدائد من أجل البشرية، وكانت طبيعة الفرس تميل نحو إنكار الذات، ولذا كانت تضحية الحسين تساير الاستعداد الطبيعي للفرس)(3)

ص: 460


1- نفس المصدر السابق ص55
2- سليمان كتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، مصدر سابق ص455.
3- الدكتورة سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول، نشر البطحاء، إيران، د.ت، راجع الصفحة 29.

ومما يمكن أن نستنتجه من كل ما سبق من آراء ووجهات نظر هو أن هناك نهوضأ واضحا في صفوف المسلمين وأن هناك أيضا صحوة ويقظة في ضمائرهم تجاه ما حدث لآل بیت نبيهم علیهم السلام مما دفع الكثيرين منهم إلى إعادة حساباتهم الروحية والالتفاف من جديد تحت ظلال رايتهم التي كان يمسك بها سيد الشهداء نيابة عن جده الرسول المصطفى صل الله علیه واله وعن بقية أفراد ذلك البيت النبوي الطاهر الذي كان مصيرهم المحتوم هو أن لا يكون منهم إلا مقتول أو مسموم.

فالإمام الحسين عليه السلام أصبح بثورته رمزا للخلاص، وتحول هو إلى مخلص ومنقذ للإنسانية من كل مفردات الشر والكفر والرذيلة والضلال، ومما يؤكد ويعزز صدق هذا الكلام هو رأي الباحث والأديب المسيحي (يوسف عبد المسيح ثروت) الذي يقول لنا من خلاله: (وإذا كان الحسين سيقتل وهو مقتول حتما بسبب الظروف الغريبة في الكوفة فإن العبرة ليست في مقتل الحسين، وإنما العبرة فيمن قتلوه ولماذا قتلوه؟ فالعبرة في الثأر الأعظم، ثأر الحسين، في الثأر من كل سفاح مهما يكن ومن تابعه من قتلة الحسين على مدى التأريخ الذي وضع أبو عبد الله أساسا جديدا له ببعد نظره وحكمته وأصالة إيمانه بحق الفقراء والضعفاء الذين ظلوا ينتظرون مخلصا من السماء قرونا وقرونا، فجاء استشهاد أبي عبد الله تعبیرا جديدا لهذا الخلاص)(1)

وما بين الإمام الأول علي بن أبي طالب عليه السلام إلى العاشر من محرم يوم استشهاد الإمام الحسين عليه السلام ، مرحلة تمضي في التاريخ ليبدأ بها التاريخ، وبهذه الكلمة يبدأ الدكتور (أنطوان کرم) رأيه بواقعة الطف، ثم يقول: (وفيها ينتهي الإنسان لتحيا

ص: 461


1- يوسف عبد المسيح ثروت، ثورة الحسين، مجلة (الموسم)، العدد /13، المجلد /4/، مصدرسابق ص26

الفكرة)(1).

إذن، لقد تحول الإمام الحسين عليه السلام إلى مخلص للإنسانية ومنقذ للبشرية، وقد تحولت مبادئ ثورته وأهدافها إلى فكرة، تلك الفكرة التي تنمو وتكبر وتورق وتتبرعم، ثم تزهر وتثمر، فالحسين عليه السلام لم يمت لأنه كان شهيدا، والشهيد حي مرزوق عند ربه، ولم يمت الحسين عليه السلام لأنه كان مثلا والمثل حي باق يضيء مع العدل ويرتفع مع الحق.

وقد أصاب وأجاد المفكر المصري، الدكتور( إبراهيم سلامة) عندما أكد على حقيقة ذلك بقوله في مقال له بعنوان (الحسين فكرة سامية): (لم يمت الحسين لأنه كان فكرة، ومن طبع الفكرة السمو فلا ينالها أحد وإنما ينال صاحبها، وتسمو الفكرة بعد موت صاحبها فتنتقل من روحه إلى روح أمته... إذن، كان الحسين شهيدا ومثلاوفكرة وعقيدة، والتراث الذي خلفه من نصيب المسلمين جميعا، ومن واجب المسلمين جميعا المحافظة على هذا التراث)(2)

فكربلاء الحسين عليه السلام لم تعد ملكا للشيعة، ولا حتى لعموم المسلمين، بل إنها أصبحت إرثا عالميا وتراثا إنسانيا لكل الأجيال البشرية بمختلف أطيافها الدينية والقومية.

ولذلك، فعندما يحدثنا الباحث المسيحي (حنا عبود) عن العلاقة بين التراث والإبداع، فإننا نراه يركز على أن التراث، كان وسيبقى، طريقا هاما وسببا مباشرا لعملية الإبداع في الفكر والآداب والفنون عند جميع الأقوام والشعوب.

ص: 462


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين عليه السلام ، مصدر سابق ص59
2- الدكتور إبراهيم سلامة، الحسين فكرة سامية مجلة (الموسم)، العدد /13/ المجلد /4 / مصدر سابق ص114

ولم يغب عن ذهن هذا الباحث ما للتراث الديني من دور هام في تفعيل وتفجير الروح الإبداعية عند رجال الفكر والأدب على مر العصور، وقد اعتبر الأستاذ (عبود) أن التراث الديني ملك مشاع لأنه، في نهاية الأمر، يشتمل على الكثير من التجارب والخبرات الإنسانية التي تصبح مع مرور الأيام مبعثا لاستلهامات وإبداعات كثيرة في مختلف ميادين الفكر والثقافة والعلوم الإنسانية.

وقد أكد ذلك الباحث المسيحي على أن التراث الديني ليس لفئة دون أخرى،وليس لزمن دون آخر، وذلك بقوله: (إن التراث الديني يلعب دوره الهام والكبير في العديد من الميادين، لذلك لا يقتصر الاستلهام الشعري على ناحية واحدة، فأي ظاهرة دينية، لها أكثر من دلالة، فقد تكون نفسية واجتماعية وفنية ودينية معا، وقد تقل عن ذلك حتى تكتفي بواحدة... وكربلاء ليست فقط حادثة تاريخية، وليست فقط حربا دينية، فقد انخلعت کربلاء عن محدودیتها، لتغدو رمزا إنسانيا شموليا)(1)

وبالطبع، فإن الأستاذ الأديب والباحث (حنا عبود) كان محقا في كل ما قاله عن علاقة التراث بالإبداع من جهة، وعن علاقة الإرث العالمي بفاجعة كربلاء من جهة ثانية.

ومما يعزز الكلام عن مسألة اعتبار أن كربلاء قد أضحت رمزاإنسانيا شموليا عاما، هو تبني الفكر المسيحي المعاصر للحقيقة القائلة: (المظلومون والمضطهدون والمقهورون والمروعون من كل المذاهب والبقاع يتجهون في كل رغباتهم إلى جوهر ثورة الحسين عليه السلام ، ففي اتجاههم الفطري ورود إلى منبع الكرامة والإنصاف والعدل

ص: 463


1- حنا عبود، التراث والإبداع، وهو عبارة عن مقال مطبوع ضمن كتاب بعنوان: (جريدة حمص في يوبيلها الماسي 1909. 1985)، مطابع ألف باء الأديب . دمشق، 1985، ص46.

والأمان.

وما دامت قد تحددت ماهية ثورة الحسين عليه السلام بهذه الأطر، أفلا يجدر اعتبار الحسين شهيدا للإسلام والمسيحية واليهودية، ولكل الأديان والعقائد الإنسانية الأخرى)(1)؟!

ولهذا، فقد كان الإمام الحسين عليه السلام فبس هداية، ومشكاة طهر، ومثال الخير والحق والفضيلة، فكان حقا جوهر الأديان وصوت الله في ضمير الإنسان إلى يوم البعث والنشور.

فسيرة الإمام الحسين علیه السلام ، من مهده إلى لحده، هي السيرة التي تثير الحماسة

والبطولة والكرامة في نفوس الأحرار الأباة في كل أصقاع العالم من مسلمين ومسيحيين ويهود و صابئة وهندوس وغيرهم، وإن ثورته الكربلائية هي مصدر إلهام للعديد من الثورات اللاحقة التي قام بها رجال أحرار في بقاع مختلفة من العالم.

وقبل أن ندخل في هذه النقطة الحساسة لشرحها ومناقشتها، علينا أن لا نغفل عن ذکر نقطة جوهرية تتعلق أيضا بطبيعة الثورة الحسينية وبمكوناتها البشرية.

وتتجلى هذه النقطة الجوهرية من خلال سؤالنا التالي:

من كان مع الإمام الحسين عليه السلام في واقعة كربلاء؟!

ويأتينا الجواب واضحا من أرض المعركة:

كان مع الحسين عليه السلام الطفل الرضيع، والشاب الذي تستمد الورود لونها من لون دمه الثائر في شرايينه الفتية الغضة، وكان مع الإمام الحسين عليه السلام أيضا الشيخ الطاعن في السن، وكانت معه المرأة الثائرة أيضا، فمن هؤلاء، كانت الثورة الحسينية

ص: 464


1- أنطون بارا ، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص71.

تستمد مكوناتها البشرية.

فعبد الله الرضيع لم يكن إلا مجرد طفل صغير يمثل براءة الطفولة وطهارتها، وحبيب بن مظاهر لم يكن إلا ذلك الشيخ الطاعن في السن الذي أبى إلا أن يجعل الآخرة أمامه والدنيا وراءه، أما السيدة زينب علیها السلام فلم تكن إلا رمزا حيا للمرأة المؤمنة الحرة التي تستطيع أن تهز عروش الظلم بيسارها مثلما تهز مهد الطفولة بيمينها.

هذا من جهة، أما من جهة أخرى، فإننا نری مع الحسين عليه السلام العنصر العربي وغير العربي ونرى معه أيضا الأبيض والأسمر والأسود، ولكل واحد من هؤلاء دور عليه أن يؤديه بصدق وأمانة على مسرح الفاجعة.

لقد اجتمعت كل مراحل العمر وكل الألوان في جيش الإمام الحسين عليه السلام الذي بلغ عدده سبعين ونيف فقط مقابل الآلاف في جیش یزید بن معاوية، حتى لكأن الله سبحانه وتعالى شاء أن يجعل من جيش الحسين رمزا للإنسان الحقيقي بعمره ولونه و قومیته وجنسه، ليقول له بعد ذلك إن الإسلام فوق كل هذه الحواجز، وليقول له أيضا إثر ثورة الإمام الحسين عليه السلام لم تكن إلا من أجل إزالة هذه الحواجز والحدود، فللصغير دوره، وللكبير دوره أيضا، وللمرأة - بدورها - دورها الحيوي الذي لا يقل شأنا عن بقية الأدوار أبدا وهذا يعني أن من ثمار ثورة الحسين عليه السلام أنها خلقت تکاملا في الأدوار والمهمات بين الأفراد والجماعات من أجل الحفاظ على دين النبي المصطفی صلی الله علیه و آله وسلم اول(1)

وعندما وقف . على سبيل المثال - (جون بن حوي النوبي) المعروف ب- (جون

ص: 465


1- راجي أنور هيفا، كربلاء من تراجيديا الصورة إلى فلسفة الحركة، مجلة (النبأ)، العدد /66/ تصدر عن المستقبل للثقافة والإعلام. بیروت، محرم، 1423ه-. 2002م، ص102.

مولى أبي ذر) وهو عبد أسود اللون، أمام الإمام الحسين عليه السلام يستأذنه في القتال، لم يقل له الإمام الحسين عليه السلام : اذهب، فلا حاجة لنا بك، ولا بلونك الأسود أيها العبد، بل أعطاه الإمام الحسين عليه السلام الإذن بالقتال والنزال، فلم يزل يقاتل قتال الأسود البواسل حتى قتل - كما جاء في بعض الروايات - مايقارب سبعين رجلا قبل أن يقتل، فلما قتل وقف الإمام الحسين عليه السلام ونظر إليه وقال: «اللهم بيض وجهه وطيب ريحه واحشره مع محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعرف بينه وبين آل محمد صلی الله علیه و آله وسلم» ، فكان من يمر بالمعركة يشم منه رائحة طيبة أزكى من المسك)(1)، وهكذا، فإن لون الإنسان يسقط أمام الحركة الحسينية مثلما تسقط جنسيته ولغته وجنسه وعمره لأن الجميع قد و حدوا دماءهم من أجل وحدة هدفهم الذي رسمه لهم الإمام الحسين عليه السلام قبل خروجهم جميعا إلى مسرح الفاجعة.

وليس هذا فحسب، بل إن الدارس لفاجعة كربلاء أو المحلل لمجريات أحداثها الدقيقة يستطيع أن يكتشف أن ثورة كربلاء قد استطاعت أن تحقق أكثر مما ذكرناه للتو بكثير، فقد عبرت تلك الثورة الإنسانية الخالدة عن عطش الناس - على مختلف عقائدهم وأديانهم - إلى العدالة والكرامة، ولذلك، حتى أصحاب العقائد والأديان المختلفة قد توحدوا تحت راية الإمام الحسين عليه السلام أيضا.

وكان ممن اشترك في تلك الثورة أبطال غدوا من أبرز شهدائها وهم من غير المسلمين ولعل أبرزهم الشهيد (زهير بن القين) الذي كان عثمانيا في مذهبه ولكنه كان مسلما صادق الإسلام وقد رثاه الإمام الحسين عليه السلام وبكاه حين استشهد أمامه، ويحدثنا التاريخ أنه كان للمسيحية حضور في الثورة من خلال أسرة مسيحية تتكون

ص: 466


1- لبيب بيضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مصدر سابق ص258

من أم وابنها وزوجته، وكان الرجل أحد شهداء کربلاء وكانت أمه إحدى شهیداتها(1)، ولم تكن تلك المؤازرة العلنية بعيدة عن السياق التاريخي للمسيحية العربية التي انضمت في وقت سابق إلى جيوش الإمام علي عليه السلام عند محاربته في صفين.

فسيرة الإمام الحسين عليه السلام - كما يصفها المفكر المسيحي البارز (کرم قنصل) - هي سيرة مبادئ ومثل وثورة، وهي (لأعظم من حصرها ضمن الأطر التي حصرت بها، وعلى الفكر الإنساني عامة، لا الفكر المسلم والمسيحي فحسب.. أن يعيد تمثلها واستنباط رموزها من جديد، لأنها سر سعادة البشرية وسر سؤددها.. وست حریتها)(2).

نعم، فمما لا شك فيه أبدا، أن كربلاء كانت لكل الأعمار والأجناس وكانت أيضا

لكل القوميات والشعوب والأديان، وهي بالفعل - سرعزة البشرية وسر حريتها في حال الاستفادة من إعادة استنباط رموزها وفهم معانيها وأبعادها.

فالزعيم الوطني الهندي (جواهر لال نهرو) ( J. Nehru) (1889- 1964) الذي يعتبر أحد بناة الهند الحديثة، يقول في كتابه (اكتشاف الهند) إن الكثير من الشعب الهندي الذي يعتنق الديانة الهندوسية قد تحول من ديانته الهندوسية إلى الديانة الإسلامية، وقد رد الزعيم الهندوسي (نهرو) السبب في ذلك إلى أن الإسلام في حقيقته وجوهره هو دين العدل والإخاء والمساواة(3)

ولا ريب في أن هذا الكلام صحيح في خطوطه العريضة، ولكن ماذا عن تفاصيله، ونقصد بذلك السبب المباشر لدخول الكثير من أبناء الديانة الهندوسية في صفوف الإسلام؟

ص: 467


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص59.
2- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، مصدر سابق ص365
3- جواهر لال نهرو، اكتشاف الهند ، دار العلم للملايين . بيروت، 1959، ص164

يمكننا أن نقع على الجواب الشافي والكافي على هذا السؤال المطروح، من خلال قراءة ما كتبه المستشرق الفرنسي الدكتور (جوزف) عن سبب تحول الهندوس إلى الإسلام.

يقول الدكتور (جوزف) إن استذكار الأحداث الكربلائية واستعادتها من خلال إقامة المآتم والتذكير بأهدافها هو السبب المباشر لدخول الكثير من الهنود في صفوف المسلمين الشيعة(1)

وليس هذا فحسب، بل إن الدكتور (جوزف) يضيف إلى ذلك قائلا: (وهؤلاء مصنفو أوروبا الذين ذكروا في كتبهم تفصيل مقاتلة الحسين وأصحابه وقتله - مع أنهم لا يعتقدون بهم - إلا أنهم يذعنون بالمظلومية لهم ويعترفون بظلم وتعدي قاتليهم وعدم رحمتهم، ولا يذكرون أسماءهم إلا مشمئزين)(2)

وهكذا، فإن الدكتور والمستشرق الفرنسي (جوزف) يربط بين كربلاء ودخول العديد من الهندوس إلى الإسلام في الهند من جهة، وبين كربلاء وتعاطف المفكرين المسيحيين مع الإمام الحسين عليه السلام في القارة الأوروبية من جهة أخرى، فلفاجعة کربلاء أثر عظيم في ضمير الإنسانية على مختلف عقائدها وجنسياتها وأديانها.

وبما أننا قد قاربنا على الانتهاء من هذا الفصل، بل من الكتاب بكامله، أرى من المناسب هنا أن نتوقف مع درس جديد ومع أثر جدید من آثار الثورة الحسينية على المستوى المحلي والعالمي.

فهل خطر على بالنا السؤال التالي:

ص: 468


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص58
2- نفس المصدر السابق ص58

ما هو تأثير ثورة كربلاء على الثورات المعاصرة؟!

وربما يأتي هذا السؤال المطروح بشكل سياق آخر:

هل للحس الثوري الحسيني أثر في نفوس ثوار اليوم؟!

قبل الإجابة بشكل مفصل على هذا السؤال، نود أن نورد قولا مهما للأديب والمفكر المصري المعروف (إبراهيم عبد القادر المازني) (1890- 1949)، ذلك الأديب الذي كان عضوا من أعضاء المجمع العلمي العربي بدمشق ومجمع اللغة العربية بالقاهرة، وصاحب الكثير من المؤلفات الفكرية والأدبية الهامة.

يقول الأستاذ (المازني): (لا يزال مصرع الحسين بعد أربعة عشر قرنا يهز العالم الإسلامي هزا عنيفا، ولست أعرف في تاريخ الأمم قاطبة حادثه مفردة كان لها هذا الأثر العميق على الزمن في مصائر دول عظيمة وشعوب شتى)(1)

ماذا يعني هذا الكلام؟!

إنه يعني، في أبسط مستوياته، أن لتلك الثورة أثرا قويا على مصائر دول كبری وعلى شعوب من قوميات وجنسيات مختلفة، وأن ذلك الأثر الحسيني الثوري لا يضعف ولا ينقطع على مر الأزمان، وقد رأى الكثير من أصحاب الفكر وأرباب الثقافة والأدب أن هذه الفكرة حقيقة ثابتة ولا يختلف على مصداقيتها أحد.

وعلى سبيل المثال، يرى المفكر الفرنسي المعاصر (یان ریشار) أن ثورة کربلاء

كانت وستبقى الثورة المثالية لكل الأحرار والمعذبين في الأرض، وقد عزز الأستاذ (ریشار) وجهة نظره هذه بالقول: (وكان أثر مذبحة كربلاء غير متناسب مع ما حدث فيها، وكل ما حدث هو أن معركة بين الأنداد، دامت نهارا واحدا، وقتل فيها بعض

ص: 469


1- راجع مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص376

العشرات، ولكن الوجدان الإسلامي هز هزا عنيفا بالمصير المأساوي الذي صار إليه حفيد النبي محمد صلی الله علیه و آله وسلم بعد أن عزم على القتال حتى النهاية ضد السلطة التي كانت تدوس أخلاق الإسلام الأول، ومبادئه، لكن الحسين الشهيد صار نموذجا مثاليا لكل نضال من أجل الحرية، ولكل معذبي الأرض)(1).

إذن، لقد تحول الإمام الحسين عليه السلام من خلال استشهاده البطولي في سبيل الحق والعدل، إلى رمز لكل نضال من أجل الحرية، وقد تحولت كربلاء - بدورها - إلى نموذج الثورة الإنسانية الشاملة التي تمثل رسالة الخلاص لكل المعذبين والمستضعفين في شتى أصقاع الأرض.

وهنا تحديدا، قد يسأل سائل ما: هل هناك من أمثلة على أن لكربلاء وللمبادئ الحسينية أثرا واضحا على بعض الثورات المحلية، عربيا وإسلاميا، وعلى بعض الثورات العالمية ؟!

إنه - بلا شك - سؤال جدير بالطرح وبالإجابة، ولذلك، دعونا الآن نجيب على هذا السؤال المطروح من خلال العرض التاريخي التالي الذي سنبدأ الكلام عنه بدءا من ذكر بعض الثورات المحلية وانتهاء بذكر بعض الثورات والحركات النهضوية العالمية

التي تنتمي، نسبيا، إلى العصر الحديث.

فنحن لا شأن لنا هنا، في هذا الكتاب، بالثورات العديدة التي تأثرت بطريقة أو بأخرى بثورة الإمام الحسين عليه السلام ، والتي تبتعد عنا زمنيا بمسافات زمنية طويلة تمتد إلى العديد من القرون، فكلامنا سيقتصر هنا على الثورات والحركات النهضوية القريبقة منا زمنيا، علما أن تلك الثورات البعيدة والمتقدمة زمنيا تستحق أن يكتب عنها

ص: 470


1- يان ريشار، الإسلام الشيعي، مصدر سابق ص54

الكثير من الكتب والمجلدات، ويكفي أن نقول، من باب التأكيد على ذلك: إن المستشرق المعروف (آدم متز) قد بين في كتابه (الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري) كيف أن مجرد ذكر سيرة الإمام الحسين عليه السلام كان يلهب نفوس الثوار ويثير حمية المقاتلين في الثورات الإسلامية المبكرة التي أعقبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام واستشهاده فيها(1).

وعلى كل حال، وحتى لا نطيل في المقدمات، دعونا ندخل إلى جوهر موضوعنا بشكل واضح ومباشير، فعندما يقول المفكر المصري، الدكتور (أحمد راسم النفيس): (والأمة الآن، وهي تعيش لحظات حرجة في تاريخها، بحاجة لاستلهام هذه الروح الحسينية والاقتباس من نورها لعلنا نتمكن من إضاءة هذا الظلام الحالك، إننا في أمس الحاجة لاستلهام ذلك النور الحسيني لإضاءة هذه الظلمات وتحديد طريق المسير، ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور)(2)، فعندما يقول الدكتور (النفيس) هذا الكلام، فهذا يعني أن الأمة في أوضاعها الراهنة هي أمة واهنة ومتهالكة، بل هي أمة قد أصيبت بالعمى والضعف نتيجة ابتعادها عن نهج أهل البيت عليهم السلام، وبشكل خاص عن النهج الثوري (العلوي - الحسيني) الذي كان يجاهد على الدوام من أجل الحفاظ على روح الإسلام العملي الذي نادی به رسول الإنسانية محمد صلی الله علیه و آله وسلم

فما من مجتمع عربي أو إسلامي انتهج نهج الإمام الحسين عليه السلام في ثورته على الظلم والفساد والاستكبار إلا وكان حليفه الانتصار المصحوب بكل قيم العزة

ص: 471


1- آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري أو (عصر النهضة في الإسلام)، ترجمة: محمد عبد الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي . بيروت، د.ت، ج2 ص147.
2- الدكتور أحمد راسم النفيس، على خطى الحسين، مصدر سابق ص118

والمجد والكرامة.

فمن المعروف عن الثورة الإسلامية في إيران - وهي مثالنا الأول - أنها الثورة الأعظم في القرن العشرين، وهناك إجماع عالمي على ثبوت هذه الحقيقة، لدرجة أن الكثير من رجال السياسة وعلم الاجتماع اعتبروا أن (الإمام الخميني )(رحمه الله) هو رجل القرن العشرين، باعتباره هو المفجر لتلك الثورة الإسلامية في إيران.

فكيف استطاع الإمام الخميني (قدس سره) تحقيق ذلك الانتصار الساحق على أقوى طاغية في الشرق وقتذاك ؟! ذلك الطاغية الذي أخذ على عاتقه تحویل بلاده إلى بلد ذلیل خاضع بكل مقدراته وكرامته لأكبر نظام رأسمالي في العالم، أي لنظام الولايات المتحدة الأمريكية التي تحاول على الدوام أن تثبت وجودها وتقوي اقتصادها على حساب سفك دماء الشعوب وافتعال الفتن وحبك المؤامرات في العديد من البلدان بهدف تحويلها إلى بؤر توتر ساخنة بعيدة عن كل أشكال الأمان والاستقرار ولم يكتف ذلك الطاغية بذلك، بل عمد إلى إبعاد شعبه عن القيم الأخلاقية الإسلامية وعن مبادئ أهل البيت عليهم السلام تحديدا، تحت شعارات مختلفة وحجج شتی

وبكل بساطة، لقد استطاع ذلك الإمام المجاهد الانتصار على تلك القوة الديكتاتورية الضاربة من خلال السير على خطى أهل البيت علیهم السلام، وبشكل خاص على نهج الإمام الحسين عليه السلام الذي انتهجه في كربلاء.

وقد أكد الكثير من المحللين السياسيين الذين كتبوا عن الحياة السياسية للإمام الخميني أن حركة الإمام الخميني الجهادية اتصفت بعدة صفات، ومن أهم تلك الصفات هي أن (حركة الإمام كانت مستلهمة أصلا من فكر أهل البيت عليهم السلام

ص: 472

وأساسها هو العقيدة الإسلامية، وهي سائرة على نهج القرآن ودستوره وعلى خطی الرسول وأهل بيته عليهم السلام(1)

وكان من الطبيعي جدا أن يربط الأدباء والشعراء بين ثورة الإمام الخميني (قدس سره) وبين ثورة كربلاء المجيدة، وها هو أحدهم يقول وقد رفرف النصر بجناحيه فوق سماء إيران:

نحن دمرناقدیما خیبرا *** وغوى الناس، فكانت کربلاء

نحن أسرجنا قناديل الورى *** وربطنا الأرض في حبل السماء

فاقبسوا منا النجيع الأحمرا *** عزة الإسلام تبنی بالدماء(2)

إذن، ففي ظل الثورة الحسينية، لم تمت الشخصية المسلمة الأبية، بل بقيت شخصية عزيزة معبأة بدماء كربلائية تتدفق في نفس الاتجاه الذي أراده لها الإمام الحسين عليه السلام ، وهاهو شاعر عربي آخر يقول، وقد تهاوى عرش ربيب أمریکا وإسرائيل: فانظر طلائع آل البيت كيف طوت *** طي الصحائف آفاقا وأزمانا

تأبطت کربلاء في مظاهرة *** عبر القرون إلى (صقين) إيرانا

لتسترد دیوانأمن معاوية *** ومن (یزید) ومن (حجاج) طهرانا(3)

وبالطبع فإن المقصود هنا من (یزید) و(حجاج طهران) هو الشاه المخلوع وأزلامه وجلاوزته ممن أهانوا البلاد واستعبدوا العباد، وباختصار شديد، فقد كان

ص: 473


1- محمد حسن رجبي، الحياة السياسية للإمام الخميني ، دار الروضة . بيروت، ط1993/1 ،ص234
2- جعفر حسین نزار، الخميني والثورة في الشعر العربي، دار الرأي العربي . بيروت،1984 ،ص 140
3- نفس المصدر السابق ص141

انتصار الثورة الإسلامية في إيران امتدادا لانتصار الحق على الباطل في موقعة كربلاء.

أما المثال الثاني عن امتدادات ثورة الإمام الحسين عليه السلام وتأثيرها على العديد من الثورات والثوار في العصر الحديث، فسيكون من صفحات التاريخ العربي السوري المعاصر، فمن من العرب لا يعرف البطل السوري (يوسف العظمة) الذي شغل منصب وزير الدفاع السوري في بدايات القرن الماضي؟!

لقد خاض هذا البطل السوري السني معركة ضارية وغير متكافئة في القوی ضد الجيش الفرنسي بقيادة الجنرال (غورو) في موقعة شهيرة تعرف باسم موقعة ميسلون، وقد استشهد في هذه المعركة الضروس البطل (العظمة) مع جيشه الصغير جدا دون أن يبدي أي مظهر من مظاهر الخوف أو الاستكانة أو الاستسلام.

ففي عام / 1920/ قامت الجيوش الفرنسية بتركيز قواتها الجرارة المدعومة بكافة صنوف الأسلحة الثقيلة بالقرب من دمشق، فما كان من البطل (العظمة) إلا أن أعلن النفير العام لمواجهة المعتدين القادمين، وعلى الرغم من ضعف التسليح وقلة الأفراد إلا أن ذلك لم يضعف من همة ذلك القائد البطل، فقاد ذلك الجيش الصغير وواجه به العدو على أرض ميسلون وبقي يقاتل على رأس الجيش، وهو الذي كان وزيرا للدفاع، بكل شجاعة وبسالة إلى أن استشهد هو ومعظم أفراد جيشه في تلك الموقعة الشهيرة والتي لعبت لاحقا دورا معنويا عظيما في طرد المعتدين وتحرير سوريا من الاستعمار الفرنسي البغيض.

فكيف أقدم هذا البطل القائد على الخروج إلى أرض ميسلون مع ذلك العدد الصغير من المقاتلين لمواجهة الآلاف من جيش المعتدين مع معرفته المسبقة بما ستنتهي إليه الأمور؟!

ص: 474

ألا يذكرنا هذا الخروج إلى ميسلون بخروج الإمام الحسين عليه السلام إلى كربلاء؟! وما تفسير ذلك؟!

في الواقع، وهذا مما لا يعرفه الكثير من القراء، إن ذلك البطل السني (يوسف العظمة) كان محبا للإمام الحسين عليه السلام وكان من المتأثرين بأفكاره ومبادئه وبنهجه الجهادي الثوري في مواجهة الفساد والظلم والاستبداد.

وحتى لا نطيل الكلام في هذه النقطة التي تبدو جديدة بمعلوماتها، دعونا نكتفي بالقول إن ذلك البطل الذي كان يشغل - كما ذكرنا سابقا - منصب وزير الدفاع لم يقف مكتوف اليدين أمام جحافل الغزاة، ولم يجلس وراء مكتبه أو في غرفته ليكتفي بتوجيه الثوار والمجاهدين وإعطائهم التعليمات العسكرية عن بعد، وإنما خرج هو بنفسه ليقود ذلك الجيش الصغير المؤمن في ساحة المعركة، وليقوده بعد ذلك أيضا إلى عالم الجنان والخلود.

ولا أعتقد أننا نبالغ عندما نقول إن ذلك البطل السوري المقدام كان من المتأثرین بسيرة سيد الشهداء عليه السلام حيث إنه أراد أن يقتدي به قولا وعملا وشهادة، فكان مثال التلميذ المخلص لمعلمه العظيم.

فالشهيد البطل (يوسف العظمة) كان على علاقة وثيقة وقوية مع العلامةالإمام (عبد الحسین شرف الدين الموسوي) صاحب المؤلفات العظيمة، وعلى رأسها کتاب (المراجعات) المشهور، وكان كثير التردد على مجالس ذلك العلامة الجليل الذي لم تكن مجالسه - بطبيعة الحال - تخلو من ذكر الإمام الحسين عليه السلام وما قام به في كربلاء من بطولات لا توصف، كما أن البطل (العظمة) كان شديد الإعجاب بالعلامة (شرف

ص: 475

الدين) وبمبادئه ومواقفه(1)

ولذلك، فمن الطبيعي أن ما قام به البطل (یوسف العظمة) في ميسلون إنما هو

عمل ناتج عن تأثره بسيرة الإمام الحسين عليه السلام من خلال مجالس الإمام (شرف الدين) ومن خلال الاطلاع على مواقفه ومبادئه ومؤلفاته الإسلامية المتنوعة التي تتناول في مجملها العام كبرى القضايا الإسلامية، وتدرس فکر ونهج أهل البيت علیهم السلام وسيرتهم التي غالبا ما تنتهي بهم إلى عالم الشهادة والفداء على دروب العدل والحق والإنسانية المعذبة والكفاح ضد الظالمين.

وإذا كانت الخصال الأخلاقية والوطنية التي كان يتحلى بها القائد (یوسف العظمة) من جهة، وتأثره بسيرة الإمام الحسين عليه السلام وبمبادئه وثورته من جهة ثانية، هما العاملان الأساسيان في خروجه مع جيشه الصغير الباسل إلى أرض ميسلون واستشهاده هناك إلى جانب معظم أفراد جيشه كخطوة أولى على طريق تحرير سوريا من براثن الأعداء، فإن لدينا مثالا آخر أكثر وضوحا وأعمق دلالة على تأثر الحركات والثورات المعاصرة بنهضة الإمام الحسين عليه السلام وبحركته الكربلائية الخالدة والتي لا يزال لهيبها حيا دائما وأبدا في نفوس الثوار.

كلنا يعرف أن الكيان الصهيوني، أو ما يعرف بدولة إسرائيل، قد قام في العقود الأخيرة من القرن الماضي بالكثير من الاعتداءات الخطيرة على الجمهورية اللبنانية وقد قامت قواته باحتلال أراض عديدة في منطقة الجنوب لما يزيد عن العقدين من الزمن.

ص: 476


1- الإمام عبد الحسین شرف الدين الموسوي، النص والاجتهاد، منشورات قسم الدراسات الإسلامية . طهران، 1458ه-، راجع المقدمة بقلم العلامة السيد محمد صادق الصدر، راجع ص16.

ولكن بعد تلك الفترة من الاحتلال القاسي والحياة المريرة التي عاشها سكان الجنوب اللبناني، والذي يتكون في غالبيته العظمى من المسلمين الشيعة، فقد انقلب كل شيء رأسا على عقب وتبدلت معطيات المعادلة في المنطقة.

فكيف حدث ذلك؟! وكيف استطاع أهل الجنوب، ومن وقف معهم أن يهزمواأقوى وأكبر قوة عسكرية في الشرق الأوسط، والجيش الرابع على مستوى العالم.

في الحقيقة، كان للثورة الحسينية دور بالغ الأهمية في تحرير الجنوب اللبناني من براثن الاحتلال الصهيوني وفي كسر شوكة غطرسته واستعلائه، ففي بادئ الأمر انطلقت العديد من المنظمات والأحزاب السياسية في محاولات جادة وصادقة الإخراج العدو الصهيوني من الأراضي اللبنانية الجنوبية، وقد تم تقديم الكثير من الشهداء في سبيل تلك الغاية المرجوة، ولكن للأسف فقد كانت القوات المعادية وأسلحتها الفتاكة أقوى من أن تهزم أمام ضربات أولئك الرجال المؤمنين بعدالة قضيتهم.

ولكن، وفي غفلة من عين الزمن، ولدت المقاومة الإسلامية من رحم الآلام المريرة والمصائب الكثيرة التي حلت بأهل الجنوب السليب، وقد ولدت تلك المقاومة الإسلامية بعد إرهاصات فكرية وسياسية عديدة فرضتها بعض المتغيرات المحلية والدولية في المنطقة، وعلى الرغم من وجود عدة حركات وتنظيمات داعمة للمقاومة الإسلامية في لبنان، إلا أن القوة الضاربة الأساسية في تلك المقاومة اتخذت من عبارة (حزب الله )اسما لها وعنوانا لانطلاقاتها وغاياتها، وقد استطاع ذلك الحزب تحقيق العديد من الانتصارات الساحقة على آلة القتل الإسرائيلية، وتمكن من إذلال جيش تلك الدولة الصهيونية التي كانت تزعم على الدوام أن جيشها لا يقهر .

ص: 477

ولم يصدق العالم ما كان يراه على شاشات القنوات التلفزيونية الفضائية من فرار الجنود الصهاينة وتخليهم عن مواقعهم القتالية والانسحاب إلى عمق الأراضي الإسرائيلية تحت ضربات رجال المقاومة الذين كانوا يغرسون رایات حزب الله على رأس كل موقع يحررونه من يد الأعداء، وقد فوجئ العالم أيضا بتحرير أراضي الجنوب اللبناني على يد تلك المقاومة الإسلامية الشيعية التي استطاعت بإيمانها وبصدقها مع الله ومع نفسها أن تحقق ما عجزت كل جيوش الأمة العربية عن تحقيقه في صراعها مع ذلك الكيان الصهيوني الدخيل لمدة تزيد عن نصف قرن.

ويرى الباحثون والمحللون السياسيون (أن المجاهدين في لبنان كانوا دائما قبل اقتحامهم للمواقع الإسرائيلية يهتفون: يا إمام، يا أبا عبد الله، مستحضرين، سواء في عملياتهم العسكرية الجهادية أو الاستشهادية، روح وقيم الفداء التي جسدها الحسين، مستمدين منها القوة)(1)

وقد أشار الباحث الهولندي (ماوريتز بیرخر)، وهو الباحث المتخصص في الدراسات العربية والقانونية، إلى تلك الروح البطولية الاستشهادية التي كان ينقذها رجال حزب الله بكل قوة وبسالة ضد العسكريين الأمريكيين والإسرائيليين والفرنسيين، ملمحا بنفس الوقت إلى أن تلك الهجمات الاستشهادية البطولية كانت تحمل في طياتها نزعة إنسانية لأنها كانت موجهة فقط تجاه العسكريين وليست تجاه المدنيين البعيدين عن ساحات القتال(2).

وهنا أريد أن أتوقف قليلا مع ما لمسته شخصيا من علاقة عشق قوية وعميقة بين

ص: 478


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء لابد أن يستلهم معاني الجهاد، مجلة النور العدد (107)، مصدر سابق ص77
2- ماوريتز بيرخر، دفاعا ضد أنفسنا، ترجمة: غياث جازي، دار إيمار . دمشق، 2004، 42

حزب الله وبين الإمام الحسين عليه السلام وثورة کربلاء.

فخلال وجودي في بيروت، ومن خلال دراستي الشرعية في معهد الرسول الأكرم صلی الله علیه و آله وسلم في الضاحية الجنوبية، تلك المدرسة التي ابتدأت بها عام / 1993/، كان لي شرف اللقاء مع العديد من كبار المراجع الإسلامية الشيعية، بالإضافة إلى حضور خطب و مجالس كبار الرجال القياديين في حزب الله، وما من مرة حضرت فيها خطبة أو مجلسا إلا وشعرت أن الإمام الحسين عليه السلام كان حاضرا بيننا، وما من مرة من تلك المرات إلا وكنت أشعر فيها بالقوة والعزم والإيمان والنية الصادقة لطلب الحق أينما وجد، ومد يد العون والمساعدة لكل المظلومين والمستضعفين في كل مكان دون تمييز بين لون أو دين، ولكن - بنفس الوقت - فإن الشيء الذي كان على الدوام يثير بداخلي الحزن والرغبة في البكاء، هو أنني كنت دائما أتخيل الإمام الحسين عليه السلام جالسا معنا وهو مخضب بالدماء ومقطوع الرأس وينام على صدره ابنه عبد الله الرضيع علیه السلام

وعلى كل حال، لا أريد الآن أن أذرف المزيد من الدموع ولا أن أطلق الكثير من الآهات السجينة في صدري، بل كل ما أريد أن أذكره الآن هو لقائي الشخصي والخاص مع سماحة الشيخ( عبد الكريم عبيد)، الأسير المحرر من إسرائيل وأحد الرجال القياديين البارزين في حزب الله.

ففي تاريخ 2007/7/26 م دعيت إلى إلقاء كلمة في مهرجان الإمام علي عليه السلام العالمي السابع، ولقد لبيت الدعوة وألقيت الكلمة وسط حشد هائل من الحضور الإسلامي والمسيحي، وقد لاقت تلك الكلمة التي كانت تحمل عنوان (السلم واللاعنف بين النظرية والتطبيق في نهج الإمام علي عليه السلام ) الكثير من القبول

ص: 479

والاستحسان لدرجة أن العديد من القنوات الفضائية قد عرضتها بالكامل مرات عديدة وعلى فترات متباعدة، هذا بالإضافة إلى ما كتب عنها وعن المهرجان في بعض الصحف والمجلات العربية التي نوهت إلى التعليقات الهامة التي وردت في نص الكلمة(1)

وفي نهاية المهرجان، ألقى سماحة الشيخ (عبد الكريم عبيد) كلمة مطولة ومفيدة ذكر فيها الكثير من مناقب الإمام علي عليه السلام في السلم والحرب، وقد ختم كلمته بالكلام عن الأوضاع السياسية في المنطقة وعن التغيرات المتوقعة فيها وعن دور حزب الله البطولي في قلب موازين القوى وتغيير المعادلات التي كانت مرسومة للمنطقة بأكملها.

وعلى كل حال، بعد الانتهاء من إلقاء الكلمات والاجتماع بالفعاليات الثقافية والفكرية وتبادل وجهات النظر والانطباعات العامة عن المهرجان المذكور، جلست مع سماحة الشيخ (عبيد) أمام المركز الثقافي العربي في منطقة المزة بدمشق - وهو مكان المهرجان - وقد تبادلنا أطراف الحديث إلى أن وصلنا في حديثنا إلى حادثة کربلاء وأبعادها المتنوعة.

ولما أخبرته عن كتابي (فاجعة كربلاء في الضمير العالمي) وعن بعض النقاط المفصلية الهامة فيه، استحسن الفكرة جدا وأثنى على الجهد الذي أبذله من أجل ذلك، وقد أبدى استعداده لتقديم كل ما يلزم من أجل إنجاز هذا العمل الجديد.

ولما أخبرته أنني لا أريد شيئا سوى إعطائي فكرة شاملة عن دور ثورة الإمام

ص: 480


1- فادية مصارع، السلم واللاعنف منهج وسلوك عند الإمام علي، راجع مجلة (رؤى الحياة)،العدد / 21/. دمشق، عدد آب 2007، ص21.

الحسين عليه السلام في الانتصار الذي حققته المقاومة الإسلامية في لبنان، ممثلة بحزب الله، على أعتى وأشرس جيوش العالم، ابتسم وقال: لولا الإمام الحسين عليه السلام لما استطعنا أن نختصر الزمان و نحقق هذه الانتصارات الحاسمة والمتلاحقة بوقت قصير إذا ما قيس بطول كفاح ونضال الكثير من بقية الشعوب.

ولما استفاض سماحته في كلامه عن دور الحسين عليه السلام وكربلاء بتحرير الجنوب، وكان قد استغرق كلامه الشيق أكثر من ساعة، طلبت منه أن يكتب لي على عدة أوراق إجاباته عن أسئلة كانت قد وردت على خاطري أثناء استماعي لحديثه، وقد أخبرته أن هذه الأسئلة والأجوبة سأذكر بعضها في كتابي (فاجعة كربلاء في الضمير العالمي) ولذلك أريد أن تكون الإجابات على الورق کي تبقى بشكل وثيقة رسمية موقعة بخط يده الكريمة.

وبالفعل، فقد كان ما أردت تماما، وها أنا أذكر الآن بعض الأجوبة التي كتبهاسماحته بشكل مختصر عن الأسئلة المطروحة.

فعندما كتبت له سائلا: ماذا تمثل کربلاء بالنسبة لسماحتكم، وأنتم في هذاالموقع القيادي البارز في حزب الله؟

وكان جوابه: (كربلاء هي النهضة التي تتولد من رحمها كل ثورة تريد الحق في كل أرض وعاشوراء هو كل يوم ينصر فيه الحق، وكل ما عندنا في لبنان، وقبلها في إيران، وبعد ذلك حتى صاحب الزمان (عجل الله تعالی فرجه الشریف)، هو من كربلاء لأن كربلاء حياة الإسلام، ولولاها لمات الإسلام واندثر).

أما السؤال الثاني، وهو السؤال الأخير الذي يمكن أن نستفيد منه هنا، هو التالي: ما هو دور کربلاء في حزبكم مع إسرائيل؟

ص: 481

وكان الجواب: (كل شهدائنا وكل مجاهدینا، بل كل رجالنا ونسائنا، كانت کربلاء لهم القدوة والمدرسة، وعليه، فقد كان الحسين هو القائد وكانت زينب هي القدوة، وكل ما قدمناه كان ثمرة لكربلاء، فكل طفل هو طفل الحسين، وكل شاب هو علي الأكبر، وكل شيخ هو حبیب بن مظاهر، وكل امرأة هي زينب، وبكلمة مختصرة، كانت کربلاء حية فينا وستبقى كذلك حتى ظهور القائم وزوال الغاصب)(1)

وهكذا نرى أن الانتصارات المجيدة التي حققها (حزب الله ) إنما هي ثمرة التمسك بنهج أهل البيت عليهم السلام من جهة، وبالاقتداء قولا وعملا بالمسيرة الجهادية الحسينية من جهة أخرى.

فيوم الحسين عليه السلام يوم مشهود في تاريخ الإنسانية لأنه اليوم الذي تبادلت فيه الأرض والسماء دوريهما على مسرح الفاجعة، فالله، بفضله ورحمته، يجعل السماء ترسل المطر هدية إلى الأرض لتتجدد الحياة عليها على الدوام، أما في فاجعة كربلاء فقد أخذت الأرض دور السماء، فأرسل الإمام الحسين عليه السلام قطرات دمه ودماء أهله وبنيه وأصحابه هدية منه إلى السماء وأهل السماء، إنها هدية الحسين عليه السلام التي تحیی رسالات الله بها وتتجدد معالمها الروحية والأخلاقية من خلالها على الدوام.

إن ذلك اليوم المشهود . كما تصفه الكاتبة والأديبة المصرية المعاصرة (سنية قراعة) - (یوم رهيب... يوم فاجع... قد سقط الفارس الشجاع وسيفه في يده، سقط صريع الحق، وفي سبيل الحق، سقط وحوله بنوه وذوو قرباه، وامتلأت ساحة كربلاء بجثث الأطهار المغاوير الذين ما تخاذلوا عن نصرة الحسين على قلة عددهم، ولا هم

ص: 482


1- من نص الوثيقة بخط يد الشيخ عبد الكريم عبيد التي كتبها لي بتاريخ 2007/7/26

فكروا في ترکه وحده وقفوا إلى جواره وسقطوا إلى جانبه)(1)

فما حدث بالأمس، یعاد حدوثه اليوم من أجل الحق أما الآن فدعونا ننتقل إلى مأساة العرب الكبرى في عصرنا الراهن، دعونا ننتقل سوية إلى فلسطين التي لا تزال تستصرخ الضمير العربي منذ ما يزيد عن نصف قرن من الزمان.

فمنذ عام /1948/ والمسجد الأقصى - أولى القبلتين - أسيرا بيد الصهاينة، شذاذ الآفاق، ومنذ ذلك الوقت وحجارته تصرخ في صمتها المهيب: وا إسلاماه... وا محمداه... واعلياه، أما من خیبر جديدة ؟!

وعلى كل حال، دعونا نستعرض الآن شيئا من العلاقة بين فلسطين وكربلاءكما

يراها أبناء فلسطين من المجاهدين والأدباء المفكرين.

فلشعر الأرض المحتلة وقع خاص في النفوس، وله أثر بالغ على المشاعر والقلوب، ولذلك سوف نتوقف الآن مع بعض شعراء الأرض المحتلة الكبار لنرى كيف ربطوا في شعرهم ما بين الأرض الفلسطينية وأرض کربلاء.

ولنبدأ الآن مع الشاعر الفلسطيني (أحمد دحبور)، ذلك الشاعر المولود في (حيفا) عام / 1964/ والذي عمل في إعلام المقاومة منذ عام /1968/، ولهذا الشاعر المقاوم العديد من الأعمال الشعرية المطبوعة، مثل: (الضواري وعيون الأطفال)، (حكاية الولد الفلسطيني)، (طائر الوحدات)، (اختلاط الليل والنهار)، (واحد وعشرون بحرا)، وبعض الأعمال الأدبية الأخرى.

وفي إحدى قصائده التي تحمل عنوان (العودة إلى كربلاء)، يقول الشاعر

ص: 483


1- سنية قراعة، نساء في التاريخ العربي (سلسلة كتاب العربي)، العدد / 75/ الكويت، يناير 2009ص186

(دحبور):

(آت، ويسبقني هواي

آت، وتسبقني يداي

آت علی عطشي، وفي زوادتي تمر النخيل

فليخرج الماء الدفين إلي، وليكن الدليل

یا کربلاء تلمسي وجهي بمائك،

تكشفي عطش القتيل

وذكرت أنک لي، وأن الكون يأكل من ثمارك

ما عداي

فأتيت يسبقني هواي)(1)

فكما نرى، إن الشاعر هنا يريد العودة إلى كربلاء بكل جوارحه ومشاعره وأحاسيسه، فالعطش والجوع والقتل الذي يعاني منه شعبه في فلسطين يذكره بالجوع والعطش والقتل الذي لحق بشهداء کربلاء، وعلى رأسهم الإمام الحسين عليه السلام .

ولكن ماذا يقصد الشاعر بقوله في الجزء الأخير:

(وذكرت أنك لي... فأتيت يسبقني هواي)؟!

في الحقيقة، هذا هو جوهر القصيدة الطويلة التي اقتصرنا على ذكر هذا المقطع الوحيد منها، ولذلك، نقول - وباختصار شديد - إن المقصود بالجزء الأخير من المقطع المذكور هو أن الشاعر قد أدرك في نهاية المطاف أن كل الأمم والشعوب تستفيد من

ص: 484


1- أحمد دحبور، العودة إلى كربلاء، مجلة (الموسم)، العدد /12/ المجلد/3/ مصدر سابق ص 345

دروس الإمام الحسين عليه السلام ومن ثورته المظفرة في كربلاء، فالكل يستفيد من ثمارها إلا الشعب الفلسطيني الذي هو الأكثر جدارة بالاستفادة من التجربة الكربلائية في كيفية تحقيق الانتصار على كل الطغاة والمفسدين في الأرض.

فعلى الشعب الفلسطيني أن يتخذ من الإمام الحسين عليه السلام مثلا أعلى له في نهجه وسلوكه وعمق إيمانه وأهدافه من أجل ضمان تحرير أرضه وعزة نفسه وقهر عدوه إلى يوم الدين، فالعودة إلى دروس کربلاء واجب لا بد منه.

ولو انتقلنا الآن إلى شاعر آخر من شعراء الأرض المحتلة، فسوف نرى مدى التطابق الكبير في الآراء بين (أحمد دحبور) وشاعرنا الجديد الذي سنأتي على ذكره الآن.

إن شاعرنا الذي سنتحدث عنه الآن هو في الحقيقة الشاعرة الفلسطينية البارزة (دعد كيالي)، تلك الشاعرة التي تعتبر من ألمع الشاعرات الفلسطينيات المعاصرات اللواتي كرسن أعمالهن الأدبية للنكبة وقد غنت الشاعرة (كيالي) لفلسطين في معظم شعرها، وقد نظمت هذه القصيدة التي سنذكر منها بعض الأبيات لدى زيارتها إلى مدينة النجف الأشرف وزيارة العتبات المقدسة فيها.

وقد قرنت في قصيدتها هذه بين نکبة القدس وفاجعة الطفوف، مستلهمة من کربلاء صمود الإمام الحسين عليه السلام وتضحيته بأغلى ما يملك من دماء ونفوس.

وتفتتح الشاعرة الفلسطينية (كيالي) قصيدتها (كربلاء.. آهة الشعر ودمعة الفن)

بقولها مخاطبة الفتيات العربيات:

يا فتاة العرب ابكي واندبي *** يوم عاشوراء واستبكي ونوحي

کربلا، أي مآس هجت لي *** فغدا قلبي كالطير الذبيح!!

ص: 485

کربلا، أي دماء أهرقت *** فوق كثبانك يامهد جروحي!!

کربلا، یا آهة الشعر ويا *** دمعة الفن ويا أنة روحي

وبعد هذه المقدمة المليئة بالعواطف والشجون، تنتقل الشاعرة إلى مرحلة الشكوى من ضياع القدس من أيدي العرب والمسلمين، وهنا تشتكي الشاعرة إلى الإمام الحسين عليه السلام ما حل بالعرب من ضعف وهوان وخنوع واستسلام مما تسبب بضياع وفقدان الأراضي المقدسة، وتبدأ الشاعرة شكواها إلى الإمام الحسين عليه السلام بقولها إن القدس ضاع ولم أجد من يفديه من العرب إلا بالخطب الجوفاء الرنانة، ثم تتابع قائلة: كلهم يهتف (فليحيى) وقد *** صارواموتاه من أهل القبور

ضاع من عرب وهم في لهوهم *** يضربون الطبل، لا طبل النفير

وبعد تقريعها اللاذع للعرب الذين فرطوا بمقدساتهم ولم يقتدوا بالإمام الحسين عليه السلام وبتضحياته العظيمة في كربلاء، تنتقل الشاعرة (كیالي) إلى اختتام قصيدتها الطويلة بقولها عن ختام رحلتها لضريح الإمام الشهيد عليه السلام ولكربلاء (بنت الرزایا والصروف):

جئت أستوحي ضريحا ظاهرا *** وبقلبي ذكرة الماضي الأسيف

ثم ودعت وروحي ذاهل *** وعلى ثغري صدى الروح اللهيف

آه ياذكري فؤاد ذاب من *** ضيعة القدس ومأساة الطفوف

إيه يامن ألهمتني مبدئي *** إيه يابنت الرزایا والصروف

افهمي الأعراب أن الحق لا *** شيء یعليه سوى الحرب العنيف(1)

ص: 486


1- دعد كيالي، كربلاء.. آهة الشعر ودمعة الفن، مجلة (الموسم) العدد /13/ المجلد /4/ مصدرسابق ص330

وللحقيقة أقول إن هذه الشاعرة قد أبدعت إبداعا حقيقيا في تصويرها للمأساة المريرة التي لحقت بالقدس الشريف نتيجة تخاذل العرب وتهاونهم في ملاقاة العدو ومجابهته بكل قوة وإيمان وعزم وتصميم، وقد كان إبداعها الأقوى في طبيعة وأسلوب الشكوى التي بثتها بين يدي الإمام الحسين عليه السلام وفي حضرته الشريفة، تلك الشكوى التي لم نذكرها كلها هنا وذلك لضيق الوقت والمكان.

ومهما يكن من أمر، فإن هذا النوع من الشعر الثوري هو الشعر القادر على إيقاظ الهمم والنفوس، وذلك من خلال طرح الكثير من الأسئلة والاستفسارات عن عدم القدرة على النهوض مجددا من تحت رماد النكبة وحطام الانكسار وتحويل تلك النكبات والانكسارات إلى نقاط انطلاق جديدة في الحركات الثورية بحيث يولد الانتصار من رحم الانكسار.

ومن هنا يأتي صواب ما قاله الشاعر العالمي المعاصر (أدونيس) عندما كتب عن

الشعر الثوري قائلا: (إن الشعر الثوري هو الذي يرتبط بالحركة لا بالوضع، هو الذي يتخطى لا الذي يعكس، هو الذي يطرح الأسئلة ويكون الأفق والنار)(1)

وبما أننا لا نزال في دائرة الحديث عن علاقة كربلاء بفلسطين وبالشعر الثوري، دعونا ننتقل سوية على علم من أشهر أعلام الشعر الثورة الفلسطيني، دعونا نتوقف - ولو للحظات قليلة - مع هذا الشاعر الملتزم، مع الشاعر الراحل (محمود درویش) (1941- 2008) الذي بلغ بشهرته حدايجعلنا نستغني عن تقديمه للقارئ، خاصة وأن رحيله عنا لم يتجاوز إلا عدة من الشهور فقط.

ويقول هذا الشاعر الكبير، من جملة ما يقوله عن كربلاء:

ص: 487


1- أدونيس، زمن الشعر، مصدر سابق ص126.

(وحين أحدق فيک

أری کربلاء

وأثيوبيا

والطفولة

وأقرأ خارطة الأنبياء).

وقد علق الباحث الموسوعي، الدكتور (أسعد علي) على هذا المقطع الصغير والجميل من قصيدة الشاعر الفلسطيني (درويش)، بقوله في مقال له بعنوان (بین کربلاء وفلسطين في شعر محمود درویش): (كربلاء.. قضية تأريخية.. هي قضية الحق والباطل في كل العصور من تاريخ البشر.. لا في العصر الأموي من التأريخ العربي وحده...

وفي فلسطين أيضا، حق يغتصب من أصحابه، وانحراف إلى ظلم الإنسان خطير،

والشاعر الفلسطيني يرى بعين قلبه وعين خياله كربلاء الحديثة)(1)

وفي نهاية تعليقه على هذا المقطع الشعري، يختتم الدكتور (علي) حديثه قائلا: هذه علاقة كربلاء بنفس شاعر مشرد عن وطنه.. يرى أن استعادة ذكراها استنهاضا لنفسه المروعة لتطالب بالحق ولو كانت الشهادة في سبيل الحق هي النتيجة.

ثم ينتهي المقال عند الدكتور (أسعد علي )بهذا السؤال المنبثق أساسا من ربط

العبارتين التاليتين: (أری کربلاء

وأقرأ خارطة الأنبياء)

ص: 488


1- الدكتور أسعد علي، بين كربلاء وفلسطين في شعر محمود درويش، (الموسم)، العدد /12/ مصدر سابق ص76.

والسؤال هو: ماذا حل في خارطة الأنبياء غير استنهاض الهمم، لتكون النفوس

عاشقات للحق، وباذلات ذواتها له.. في كل أرض من كل جنس؟!

وعلى الرغم من المعرفة الواضحة بالجواب، إلا أن طبيعة السؤال تأتي أحيانا

بصيغة التأكيد على صحة المعلومات الواردة في سياق السؤال ذاته.

وعلى كل حال، فإن البعض يخطئ عندما يعتقد أن كربلاء تستنهض همم المسلمين الشيعة فقط، بل الصحيح إن كربلاء تستنهض ضمائر الأحرار وهممهم في كل مكان من هذا العالم، فالمستشرق الألماني المعاصر (جرهارد کونسلمان) يقول - على سبيل المثال - :

(وصار مصرع الحسين عند كربلاء هم حدث في مجرى التاريخ بالنسبة للشيعة وظل هذا الشهيد رمزا للشيعة حتى يومنا هذا، فشباب الشيعة الذين يشتركون في المعارك المشتعلة في الشرق الأوسط يتخذون قضية الحسين قدوة لهم، ويعتبرون الجهاد واجبهم الأسمى وتذكر الحسين يحث المحاربين على الإصرار والتضحية بالنفس، فالحسين نبع القوة لشيعة اليوم)(1)

وبالطبع، فإن هذا الكلام ليس دقيقا بما فيه الكفاية، فمما لا شك فيه أن للإمام الحسين عليه السلام دورا كبيراجدا في انتصارات الشيعة وفي تحقيق قوتهم في كل الميادين التي تتطلب تقديم أعظم وأغلى التضحيات، ولكن هذا لا يعني أن دروس الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء كانت امتیازا خاصا للمسلمين الشيعة دون غيرهم من بقية المذاهب والأديان.

وعلى ما يبدو، فإن هذا المستشرق الألماني المعاصر (کونسلمان) قد انتبه لهذه

ص: 489


1- جرهارد کونسلمان، سطوع نجم الشيعة، مصدر سابق ص59

الحقيقة، وربما هذا ما جعله يعدل فكرته عن أثر کربلاء على الشيعة وحضر أثرها عليهم مما دفعه إلى القول والتأكيد على أن استشهاد الإمام الحسين عليه السلام مع أهل بيته قد أدى لاحقا إلى أن تصير سلالة محمدصلی الله علیه و آله وسلم وعلي عليه السلام وآل بيتهما حية دائما في ضمائر الكثير من عموم المسلمين، وذلك لأن آل البيت عليهم السلام هم (أنبل جنس عاش يوما ما على أرض الدولة الإسلامية)(1). وبالفعل، فإن الساحة الإسلامية قد تأثرت عموما بما حدث في كربلاء، ولا تزال هذه الآثار سارية المفعول حتى يومنا هذا بما في ذلك المرحلة الحاسمة التي تشهدها ساحة الكفاح الفلسطيني هذه الأيام، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يكون مخطئا كل من يعتقد أنه ليس لثورة كربلاء أثراعلى ساحة الكفاح الفلسطيني، سواء على المستوى الفكري أو على المستوى الجهادي والاستشهادي.

وبما أننا قد تحدثنا منذ قليل عن أثر کربلاء في الفكر والأدب الشعري الفلسطيني دعونا الآن، إذن، نتحول للكلام عن الشق الآخر من الكفاح الفلسطيني، ونقصد بذلك الكلام عن الكفاح الجهادي المرتبط بالتحرك على خط الشهادة والاستبسال.

ومثالنا الأول في الحديث عن هذا النوع من الكفاح هو الشيخ السيد (حسين بركة)، أحد مؤسسي وقادة حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وأحدمسؤوليها ورموزها الفاعلين الذين كان لهم دور متميز في تشکيل تيار إسلامي واع وثوري.

ومن المعروف عن السيد (بركة)، المولود عام / 1956/ في إحدى قرى مدينة (غزة)، أنه كان أحد أهم المعلمين البارزين في بناء جيل إسلامي كان له الدور الطليعي في العمل الجهادي وفي تفجير الانتفاضة الإسلامية الشاملة في فلسطين، وبالإضافة

ص: 490


1- نفس المصدر السابق ص59

إلى دوره الجهادي الواضح على أرض الواقع، إلا أنه يصنف أيضا كواحد من أبرز رجال الفكر الثوري والثقافة الواعية الملتزمة في فلسطين.

ويقول هذا المفكر والمجاهد في كتابه (فهل أنتم مسلمون؟!) مبينادور الإمام الحسين عليه السلام في عمليات الإصلاح والتغييرات الثورية: (إن أهم أسباب قوة وصلاحية الاجتهاد الإسلامي الشيعي اليوم للثورة والتغيير أنه يختزن في عمق كل مفردة من مفرداته روح وعمق الموقف المعارض، أو موقف صاحب الإصلاح وطالب التغيير والثورة، وبالتالي حين يقول الإمام الخميني رضی الله عنه : (كل ما لديكم فهو من الحسين عليه السلام )، فهو يعني أن كل هذا العنفوان الثوري العظيم، وكل هذه الحيوية، وكل هذه الصلابة، وكل هذا الصمود والتضحيات ما كان من السهل أن تحدث اليوم لولا موقف زعيم الثوار الأكبر في التاريخ، أبو الأحرار الحسين عليه السلام حين وقف يردد مقولته الشهيرة: «إذا كان دين محمد صل الله عليه واله لا يستقيم إلا بقتلي فيا سيوف خذيني»)(1) وبالاستناد على هذه المعطيات الحسينية، فقد دأب السيد (بركة) على تربية الجيل الحديث من الشباب الفلسطيني تربية حسينية ثورية، وتثقيفه الثقافة الروحية والأخلاقية القادرة على شحن ورفع معنوياته القتالية في صراعه الطويل والأليم مع المحتلين الصهاينة الذين لا ينتهون عن انتهاك الحرمات وتدنيس المقدسات ومحاربة الإسلام في بلد السلام

وبالطبع، فإن حديثنا لا يتوقف عند حدود الكلام عن هذا المجال والمفكر الفلسطيني البارز الشيخ السيد (حسين بركة)، بل إننا سنأتي بمثال آخر لا يقل أهمية عن المثال الأول المذكور، إن مثالنا الثاني هو القائد الفلسطيني الشهيد (فتحي

ص: 491


1- الشيخ السيد حسين بركة، فهل أنتم مسلمون،؟ دار الفكر الإسلامي. بيروت، 1996، ص68

الشقاقي) (رحمه الله) الأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي فی فلسطين.

لقد كان الشهيد (الشقاقي) تلميذا بارا بمعلمه الإمام الحسين الذي علمه كيف يحيا ومن أجل ماذا يموت، لقد أكد الشهيد (الشقاقي) لكل من كان حوله من الأهل والأصدقاء والأتباع أنه اختار طريق الإمام الحسين عليه السلام للوصول إلى هدفه الأسمى، ذلك الهدف الذي يتجلى في صون الدين وحفظ الكرامة وتحرير الأرض ومقدساتها من أيدي الكفار الغاصبين، قتلةالنبيين وأعداء الرسل والصديقين.

وقد تحدث الكاتب والباحث المصري (رفعت سيد أحمد)، مدیر مرکز يافا للدراسات، عن تأثير ثورة الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء على العديد من الثورات المعاصرة، وقد ذكر عدة أمثلة على ذلك، وكان من جملة ما قاله الأستاذ الباحث (سید أحمد) عن علاقة المناضل القيادي (فتحي الشقاقي) بثورة الإمام الحسين عليه السلام ، هو التالي:

(المثال الثالث: هو الشهيد الدكتور فتحي الشقاقي، الذي كان يذوب عشقا في الإمام الحسين، فاستشهد في (مالطة) عام / 1996/ غريبا مثل الحسين الذي استشهد غريبا في كربلاء، كما أسس حركة الجهاد على أسس حسينية، أخذت من معاني التضحية لدى أهل البيت عنوانا ثابتا لفلسفتها الجهادية وأدائها العسكري)(1)

وهكذا نرى أن كربلاء تظاهرة صارخة ضد كل ظلم وطغيان يمارس بحق الشعوب وحرياتها، ولم تكتسب کربلاء صفتها الخالدة إلا من وهج دم الإمام الحسين عليه السلام ودم أهله وأصحابه الأحرار المخلصين، وبالتالي، فلو لم يكن الحسين عليه السلام قد فعل ما فعل في كربلاء لما كان لكربلاء اسم یذکر.

ص: 492


1- رفعت سيد أحمد، الاحتفال بعاشوراء لابد أن يستلهم معاني الجهاد، مصدر سابق ص77

وباستشهاد الإمام الحسين عليه السلام على ترابها، أصبح لها ذلك الدوي الهائل،وصارت ذات معنى لا يحاط وصفه.

وقد صدق الأستاذ والباحث اللبناني السيد (حسن نور الدين) عندما قال: (وما من ثورة ضد الظلم والعبودية إلا وكان صوت الحسين حاديها وباعثها، لقد استلهم الأحرار في كل مكان من كربلاء الفداء والإباء، ولن يحل الأمن والسلام في العالم، ولن تسود روح الحق والمساواة إلا إذا انتصرت القيم العظيمة التي رفع لواءها الحسين عليه السلام في كربلاء، حيث إن ثورته لم تكن عرضية عابرة، إنما كانت للتاريخ كله، ومن أجل الأجيال بأسرها، وهي تؤكدلنا يوما بعد يوم أن كل أمة يخلو تاريخها وضميرها ووجدانها من عاشوراء ليست أمة نابضة حية)(1)

وكتأكيد على صدق هذا الكلام وعلى صوابيته، نرى من المناسب الآن أن ننتقل إلى دائرة أوسع وأشمل من الدائرة الثورية الإسلامية التي كنا في معرض الحديث عنها منذ قليل.

لقد تحدثت في أعمالي الفكرية السابقة عن دور فكر أهل البيت عليهم السلام في تحرير أمريكا ذاتها من الاستعمار الإنكليزي، فالروح الثورية التي بثها الإمام علي عليه السلام في ذريته من خلال أقواله وأفعاله وتعاليمه المستمدة من جوهر رسالة ابن عمه الرسول المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، قد لعبت دورا عظيما في استقلال أمريكا عن بريطانيا.

وقد يبدو هذا الكلام غريبا على القارئ بعض الشيء، ولكن لابأس فقصة

الاستقلال الأمريكي عن بريطانيا يمكن أن توجز بكلمات قليلة ومركزة.

ص: 493


1- السيد حسن نور الدين، عاشوراء في الأدب العاملي المعاصر، الدار الإسلامية . بيروت، 1988، ص64

فالأديب والفيلسوف الأمريكي (إمرسون) (Emerson) كان قد تعرض على كلمات أمير المؤمنين علي عليه السلام سنة / 1832/، وقد ذكر ذلك الفيلسوف الأمريكي مدى تأثره بكلمات الإمام علي عليه السلام وذلك في مقالتين شهيرتين له، وهما (الذات الحق) و(الذات العليا).

والعملان الفكريان - كما يقول أستاذنا الدكتور (أسعد علي) - خلاصة لما

استلهمه ذلك الفيلسوف من مثالية حكيم الإسلام عليه السلام (1)

والحقيقة، فإن هذا الفيلسوف هو أحد المنظرين البارزين لعملية الاستقلال الأمريكي، وهو أيضا أحد الذين مهدوا الطريق فكريا لعملية الاستقلال تلك، وكان تأثير فكر الإمام علي عليه السلام عليه قويا جدا، وخاصة الفكر الثوري ضد الظلم والاستبداد والطغيان، ذلك الفكر المتجدد الذي تميز به عموم أهل البيت عليهم السلام في مسيرة حياتهم جميعا. فالإمام الحسين عليه السلام هو ابن علي عليه السلام وتلميذه، وهو المترجم العملي لأفكاره الثورية ولمبادئه الإنسانية، ولذلك فإن تأثر أي شخص بفکر محمد صلی الله علیه و آله وسلم أو علي علیه السلام، هو بلا شك - تأثر بفكر الإمام الحسين عليه السلام وبثورته الكربلائية وبمبادئ تلك الثورة الإنسانية الشاملة.

ولذلك، فعندما قرأ (إمرسون) أفكار الإمام علي عليه السلام وأقواله، وبشكل خاص مقولته الشهيرة التي يقول فيها: (رب همة غيرت أمة)، عندئذ قرر (إمرسون) أن يكون هو صاحب تلك الهمة التي ستغير حال تلك الأمة الأمريكية وتنقلها من التبعية

ص: 494


1- د. أسعد علي، الكنز المهجور وآثاره الإنسانية، راجع كتاب (نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر)، تأليف مجموعة من الأدباء والباحثين،إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق، 1993، ص76

والهوان إلى التحرر والاستقلال.

وبالفعل، فقد كان ما كان واستقلت أمريكا عن بريطانيا بفضل تلك الروح الثورية التي تميز بها فكر أهل البيت عليهم السلام، والتي كانت ثورة كربلاء إحدى تجليات تلك الروح التي لعبت دورا بارزا في العديد من الثورات العالمية، حيث كانت عملية استقلال أمريكا عن بريطانيا واحدة من ثمرات ذلك الفكر الإسلامي الثوري العظيم الذي صیغ على يد أمير المؤمنين علي عليه السلام وابنه الإمام الحسين عليه السلام

ومن التعليقات الجميلة على تأثير فكر الإمام علي عليه السلام الثوري، وفكر أبنائه الثوار من بعده، على الحركات الثورية المعاصرة في شتى أصقاع العالم، هو تعليق الدكتور العلامة (أسعد علي) الذي يقول فيه: (من حسن الحظ أن الكوفة لم تبتلع صوت علي عليه السلام ، ولم تكن قضيته المثلی محصورة في مسجد الكوفة الضيق... بل كانت قضية الإنسان في كل مكان وزمان...

كان أمير المؤمنين يتحدث في مكان ضيق، لكنه - وهو أبو التراب - كان يعتقد

اعتقادا جازما بأن هذا الكلام سيتلقاه أهل الذوق من أبناء التراب في كل مكان)(1)

وبعد هذا العرض الموجز والسريع عن استقلال أمريكا عن بريطانيا، دعونا ننتقل الآن للحديث عن استقلال شبه القارة الهندية عن الاستعمار الإنكليزي أيضا.

فمن المعروف للجميع أن الهند، ذلك البلد الذي يكاد أن يكون قارة بمفرده، قد وقع يوما فريسة في فم الاستعمار الإنكليزي، شأنه في ذلك شأن الكثير من البلدان التي راحت ضحية لتلك الإمبراطورية الإنكليزية المترامية الأطراف والتي لم تكن الشمس تغيب عن أراضيها الشاسعة.

ص: 495


1- نفس المصدر السابق ص79

وبالرغم من قوة وضخامة تلك الإمبراطورية، إلا أنها راحت تتفكك تحت تأثیر العديد من الحركات الثورية في مستعمراتها، وكانت الهند إحدى تلك الدول الكبيرة التي استطاعت أن تتحرر من سلطة الحكم الإنكليزي، فكيف حدث هذا؟! وكيف العب فکر أهل البيت علیهم السلام الثوري - ممثلا بالإمام الحسين عليه السلام - دوره في تحريرالهند من القرصنة الإنكليزية؟!

فمن المعروف أن الزعيم الهندوسي (غاندي) قد لعب الدور الأكبر في عملية استقلال الهند، وكان هو الوجه الأبرز في دفع الثوار الهنود لإعلان العصيان المدني في وجه المستعمرين الإنكليز.

وكان يرى ذلك الزعيم الهندوسي أن الهند ستنتصر يوما على عدوها، ولكن ذلك الانتصار سيكون شاملا وكاملا إذا اقتدى أبناء الهند بالإمام الحسين عليه السلام وبطبيعة وأهداف ثورته الإنسانية النبيلة.

فالمهاتما غاندي - كما يقول عنه من درس شخصيته والعوامل التي أثرت فيها - قد تأثر بالفكر الإسلامي الإنساني، ولكن تأثره الأكبر كان بأفكار ومبادئ الإمام الحسين عليه السلام من خلال إدراكه أن الحسين عليه السلام كان مدرسة متكاملة الجوانب والأبعاد للحياة الكريمة، وكان المثال الأكمل للمسلم القرآني الذي يحمل في ذاته كل القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية التي تجعل منه مقياسا و میزان للحق)(1)

ومن الواضح بالنسبة لكل الدارسين لحياة ذلك الزعيم الهندوسي أنه لم يكن متدينا لديانة آبائه وأجداده الهندوس فقط، بل كان متدينا لديانة أهل الإنجيل والقرآن أيضا، وقد صام أكثر من نصف عام على فترات كي يحمل الهندوس والمسلمين في

ص: 496


1- عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية، في الفكر العالمي، مصدر سابق ص44.

الهند على الإخاء، وبذلك فقد رفع السياسة إلى مستوى القداسة.

وإذا كان البعض يرى أن الزعيم المهاتما( غاندي) قد ولد إنسانا ومات قديسا، فإن هذا الإنسان القديس قد استطاع أن يحرر بإنسانيته وبقداسته كل بلاده من سطوة الاحتلال ومن براثن الظلم والطغيان، ولكننا، لو سألناه - بنفس الوقت - قائلين:

كيف استطعت أن تحقق كل ذلك، وكيف تعلمت فعله؟!

فسيجيبنا قائلا بكل روية وهدوء، بل وبابتسامته الحزينة المعهودة:

(تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوما فأنتصر)(1)

إذن، فمن خلال نهضة اللاعنف في ثورة الإمام الحسين عليه السلام ، استطاع المهاتما (غاندي) أن يتعلم الكثير من مبادئ تلك الثورة، واستطاع بنفس الوقت أن يستثمر تلك المبادئ خیر استثمار وأن يعمل لاحقا على ترجمة تلك المبادئ إلى واقع عملي يحقق من خلاله تحرير البلاد وبناء الإنسان ولذلك، فليس من الغريب أن يشبهه بعض المفكرين والأدباء بالرسل والأنبياء، وأن يتحدثوا عن تأثير فكر أهل البيت عليهم السلام عليه في أقواله وأفعاله.

وها هو أمير الشعراء (أحمد شوقي) يصفه قائلا في إحدى قصائده:

قریب القول والفعل، من المنتظر المهدي

شبيه الرسل في الذوډ عن الحق وفي الزهد

لقد علم بالحق وبالصبر وبالقصد

دعا الهندوس والإسلام للإلفة والود

ص: 497


1- راجع ما جاء في أ. رضي منصور العسيف، سفن النجاة، دار المحجة البيضاء. بيروت، 2003، ص86 ب. عبد الله المنتفكي، الثورة الحسينية في الفكر العالمي، مصدر سابق ص45

بسحر من قوى الروح حوى السيفين في غمد(1)

ولعل العالم والفيلسوف الألماني (ألبرت أينشتاین) قد أصاب عندما تحدث عنه

قائلا:

(سوف يتعذر على العالم بعد ألف عام أن يصدق أن مثل هذا الرجل كان يمشي

بين الناس يوما ما)(2)

إذن، إن هذا المناضل الذي استطاع أن يحرر الهند، والذي لن يصدق الناس أنه كان يوما ما - على حد تعبير أينشتاین - يمشي على الأرض كإنسان عادي، لم يكن في حقيقة الأمر إلا تلميذا في مدرسة الإمام الحسين عليه السلام ، بل وفي مدرسة أهل البيت علیهم السلام عموما أيضا.

وحتى لا يدركنا الوقت، سنتوقف الآن عند بلد جديد وفي قارة جديدة لنتعرف علی آثار ثورة الإمام الحسين عليه السلام في تحريرها وتطهيرها من رجس الطغاة والمحتلين.

فالبلد الأوروبي الذي ستتوقف عنده الآن هو (ألبانيا)، إنه الآن بلد جمهوري في منطقة البلقان، وتبلغ مساحته ( 28،748 )كم مربع فقط، وغالبية سكانه من

المسلمين.

ومن المعروف عن هذا البلد أنه تعرض للاحتلال العسكري من قبل القوات

العسكرية الإيطالية عام / 1939/.

ولكن، ومع سقوط الزعيم (موسوليني)، قامت الجيوش الألمانية بالسيطرة على

ص: 498


1- الدكتور عادل العوا، بعض عظمة غاندي، مجلة المعرفة، العدد (93)،وهذا العدد مخصص للكلام عن غاندي في ذكراه المئوية، طبع وزارة الثقافة . دمشق، 1969، ص7.
2- نفس المصدر السابق ص7

ألبانيا في خريف عام /1943/، وقد تمكن الشعب الألباني الباسل من تحریر کامل بلاده من الاستعمار الألماني في عام / 1944/.

ولكن، علينا أن نعرف بنفس الوقت أيضا، أن المسلمين الألبان لم يكونوا على خير حال مع المسلمين العثمانيين الأتراك وذلك بسبب شعورهم أن الأتراك العثمانيين يعاملونهم كمواطنين من الدرجة الثانية بالرغم من الخدمات العظيمة التي قدمها الألبان للدولة العثمانية في أيام أمجادها الأولى حيث كانت من أكبر الإمبراطوريات في العالم ومن أغناها ثروة.

وعلى كل حال، لقد أدرك الأدباء والشعراء الألبان المتقدمون أن بلدهم ألبانيا لن تتحرر من الاستعمار، بكل أشكاله وأنواعه، وعلى مر الأجيال القادمة، ما لم تتخذ تلك الأجيال القادمة من ثورة الإمام الحسين عليه السلام ومن کربلائه وتضحياته قدوة ومثالا.

فالشاعر الألباني (نعیم فراشري) (1846- 1900) الذي تحدثنا عنه بشكل كاف في الفصل المخصص للحديث عن كربلاء في الشعر العالمي، يرى أن الله - سبحانه وتعالی - غني عن عبادة جميع عباده، وبالتالي: ما هي العبادة التي يريدها الله من العباد؟!

ويجيب (فراشري) على هذا السؤال بقوله في الفصل الأخير، الخامس

والعشرين، في ملحمة (كربلاء):

العبادة هي الإنسانية لدينا،

هي الصراحة وحب الخير

فمن يحب الإنسان،

ص: 499

يكون قد أحب الله

وبالروح نفسها، يعبر الشاعر (نعيم) عن مقولته الأساسية:

لا يؤمن بالله

من لا يحب الإنسانية(1)

ولأن هذا الشاعر يؤمن إيمانا عميقا بالإنسانية، فهو يكره الاستعماروالمستعمرين، ويكره أيضا كل ما من شأنه أن يسيء إلى الإنسان أو أن ينتقص من قدره أو من قدر دينه أو لغته أو قوميته وعقائده الخاصة.

ومن هذا المنطلق، كان (نعيم) يحض أبناء ألبانيا من المعاصرين له ومن الأجيال التي ستأتي لاحقا، إلى صون ألبانيا وتحريرها من كل الغزاة، وإلى الثورة على الظلم والطغيان والاقتداء كليا بالمبادئ التي نادى بها الإمام الحسين عليه السلام في ثورته الإنسانية في كربلاء.

وبهذه الروح الثورية العالية يختتم (نعیم) ملحمته التي ألهبت نفوس الألبانيين، بمحاولة ناجحة منه في الربط بين كربلاء وألبانيا، فهو يريد. كما يقول عنه الدكتور محمد موفاكو أن يعمد كل ألباني إلى استلهام معاني كربلاء لمصلحة وطنه وقوميته وإنسانيته.

ومما يؤكد هذا الكلام، تلك الخاتمة التي يقول (نعيم) فيها محرضا أبناء ألبانياعلى الثورة الدائمة ضد أي احتلال وظلم وطغيان:

(یا الله، لأجل كربلاء،

ص: 500


1- د. محمد موفاكو، ملحمة كربلاء من روائع الأدب الألباني، مجلة الموسم، العدد /2-3/، عام 1989، ص587.

لأجل الحسن والحسين،

لأجل الأئمة الاثني عشر،

الذين عانوا ما عانوه في الحياة

لا تترك ألبانيا

تسقط أو تدمر،

بل لتبقى خالدة

وليكن لها ما تريد

ليبق الألباني بطلا كما كان

ليحب ألبانيا،

ليمت في سبيل وطنه

كما مات (المختار) في سبيل (الحسين)،

وليشرف ألبانيا)(1)

وخلاصة القول، إن هذا النموذج من الشعر الذي يتقد حماسا وثورة، سواء من قصائد الشاعر (نعیم) أو من غيره من كبار شعراء ألبانيا على مدى العديد من العقود الماضية، هو أحد أهم العوامل المباشرة في عملية الاستماتة دفاعا عن كرامة ألبانيا وشرف الألبانيين الذي يجب أن يبقى مقرونا دائما وأبدا بشرف الإمام الحسين عليه السلام وبكرامة مبادئه ونبل أخلاقه وقيمه الإنسانية النادرة.

ص: 501


1- أ. نفس المصدر السابق ص588. ب . محمد موفاكو، کربلاء في الأدب الألباني، مجلة المعرفة، العدد /213، دمشق، 1979، ص110. ج. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص153

ويكفي أن نذكر هنا أن ألبانيا جزء من دول البلقان، ومن المعروف عن تلك المنطقة تاريخيا أنها منطقة حروب ساخنة على الدوام، ولم تكن ألبانيا بمنأى عن تلك الحروب الشرسة أبدا، ولذلك فقد وقعت تلك الدولة المسلمة فريسة أطماع الدول الأوروبية المجاورة في بداية القرن العشرين.

فكيف لعبت ثورة الإمام الحسين عليه السلام دورها في تحرير ألبانيا من ذلك الاحتلال في تلك الفترة المتقدمة وقبل الإجابة على هذا السؤال، علينا أن نعرف ما يلي: في أعقاب حرب البلقان الكبرى والتي انهزمت فيها القوات العثمانية وخسرت بذلك الدول والمناطق التابعة لها في البلقان، احتلت الجيوش الأوروبية معظم أراضي ألبانيا، وهي الدولة الإسلامية الوحيدة في المنطقة، بينما بقيت مدينة (فلورا) الألبانية بعيدة عن الاحتلال، مما حدا بعدد من القادة الألبانيين إلى الاجتماع فيها وإعلان استقلال بلادهم من تلك المدينة بتاريخ ( 1912/11/28 ).

وقد اعترفت الدول الأوروبية المجاورة - بضغط من إمبراطورية النمسا. بذلك الاستقلال الألباني لكن على أن تظل ألبانيا تحت الرقابة المباشرة والجماعية للدول الكبرى، وأن تقطع ألبانيا كل صلاتها بالسلطة العثمانية.

وبناء على ذلك، قامت أول حكومة ألبانية ملزمة باتباع سياسة قطع كل الصلات، ليس فقط مع العثمانيين، بل ومع الدين الإسلامي أيضا، وقد ألغت تلك الحكومة أيضا الحروف العربية وأحلت محلها الحروف اللاتينية، علما بأن التراث الثقافي الألباني مکتوب كله بالحروف العربية ولمدة أربعة قرون، كما ألغت الحكومة الوظائف الدينية وعطلت القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية الإسلامية.

وكانت هذه الإجراءات اللادينية سببا في إثارة غضب وسخط الشعب الألباني

ص: 502

المسلم الذي رفض أن تلغي هويته الإسلامية ويلغى ارتباطه بتراثه المكتوب بالعربية وقد بلغ السخط الشعبي ذروته في بداية عام / 1914/ حيث اندلعت ثورة إسلامية شعبية ضد تلك الإجراءات التعسفية الظالمة، واستمرت الثورة عدة أشهر حتى أذعنت لها تلك الحكومة كما أذعنت لها أيضا الدول الأوروبية المسيطرة على المنطقة والتي كانت تحرك وتوجه الحكومة الألبانية كالدمية بين يديها.

ولذلك، فقد تم تعيين أمیر مسلم بدلا من الأمير الأوروبي السابق الذي عينته الدول الأوروبية المحتلة، كما عادت الأبجدية العربية بشكل رسمي، وتم إعطاء المفتي الأكبر صفة رسمية مع صلاحيات للمحافظة على الطابع الإسلامي للدولة.

وهنا يبرز دور الثورة الحسينية جليا في تلك الثورة الشعبية التي أعادت للألبانيين کرامتهم وعزتهم، بل وهويتهم القومية الأوروبية على أكمل وجه، فمن المعروف تماما أن البطل المجاهد والقائد المسلم الذي قاد تلك الثورة الألبانية الشعبية هو أحد كبار علماء الدين من محبي أهل البيت عليهم السلام، إنه الشيخ المسلم الشيعي (موسی الكاظمي)، الذي كان يشغل منصب المفتي العام لمدينة (تیرانا)(1)

وقد أحدث انتصار هذه الثورة المشبعة بالأفكار الإسلامية الحسينية ذعرا كبيرا في الأوساط الغربية المجاورة لألبانيا، ووصفوها بالخطر الإسلامي المهدد لأوروبا، فقامت الجيوش اليونانية باجتياح الأراضي الألبانية عام / 1914/ بغية القضاء على هذه الثورة الإسلامية التي أسست حكومة وطنية في مدينة (دورس) عاصمة ألبانياسابقا.

ص: 503


1- راجع مقال: ماذا تعرف عن الشيخ موسى الكاظمي؟ المنشور في مجلة (أهل البيت علیهم السلام )، العدد /44/، إصدار رابطة أهل البيت علیهم السلام الإسلامية العالمية. لندن، آذار، 1998، ص20

لكن القوات اليونانية لم تفلح في هدفها، فقامت القوات العسكرية الصربية عام / 1915/ باجتياح ألبانيا من الشمال، فاجتمعت القوات اليونانية والصربية للقضاء على تلك الثورة الإسلامية في ألبانيا، واحتلت تلك القوات الكبيرة العاصمة (دورس) واعتقلت قادة الثورة وأعضاء الحكومة بعد مقاومة عنيفة أبداها هؤلاء مع أتباعهم الثوار في مواجهة القوات الأوروبية الجرارة.

وبعد تلك المقاومة المستميتة في الدفاع عن كرامة الأرض وعزة الدين و شرف الإنسان فقد تم اعتقال زعماء تلك الثورة الشعبية بعد إصابتهم بجراح بليغة، وعلى رأسهم أيضا الشيخ القائد (موسى الكاظمي)، وقد أجريت لهم محاكمة شكلية انتهت بإعدامهم جميعا دون أدنی رحمة(1)

.ولكن دماء هذا القائد الحسيني ودماء رفاقه من القادة والثوار لم تذهب هدرا، بل كانت هي المنارة لكل الأجيال اللاحقة كي تستكمل ما بدأه ذلك القائد الذي سار على نهج الحسين عليه السلام في التصدي لكل مظاهر الضعف والذل والهوان التي عصفت بالبلاد، وكانت ثورته هي الوقود التي أشعلت نار المقاومة لاحقا ضد المستعمرين الجدد، فثاروا على نهجه واقتدوا بمبادئه، فكان النصر وكان الخلاص.

وهنا، وبعد هذه الرحلة الطويلة مع آثار الفاجعة ودروسها، أرى أن نختتم هذا

الفصل الطويل ببعض المقتطفات الشعرية لكبار الشعراء الذين لخصوا دروس الفاجعة بأبيات شعرية مؤثرة، وقد عبروا من خلالها عن عمق إيمانهم بالحسين علیه السلام

ص: 504


1- راجع ما جاء في : أ. ماذا تعرف عن الشيخ موسى الكاظمي؟ مجلة أهل البيت عليهم السلام ، العدد /44/، مصدر سابق ص20. ب. محمد موفاكو، الثقافة الألبانية في الأبجدية العربية، مصدر سابق ص75

وبالأهداف والغايات الإنسانية التي جسدتها ثورته الخالدة على مدى الأجيال.

فها هو الشاعر المسيحي (يوسف أبي رزق) يجد في الإمام الحسين عليه السلام أملا حقيقيا يحقق وحدة الوطن، ومصباحا متألقا ينير داجيات الليالي، ودرسا عظيما أطل على الإنسانية من سماء الخلود ليعلمها دروس التضحية والفداء:

فيا سبط الرسول أنردجانا *** وأشرق في الليالي الحالکات

فأنت والك الأبرار صرتم *** قرابين العلي والمحرقات

أطل من الخلود علی تراثنا *** وعلمنادروس التضحيات

وحقق وحدة الوطن المفدى *** وجنبه شرور الحادثات(1)

وهذا الشاعر المسيحي الآخر (حليم دموس)، الذي تحدثنا عنه سابقا، يحدثنا عن ضرورة المداومة على إحياء ذكرى الإمام الحسين عليه السلام ، وذلك لأن إحياء ذكراه يعني إحياء كل المعاني الإنسانية السامية التي استشهد من أجلها في كربلاء

وها هو يقول:

هذا ابن فاطمة الزهراء مفخرة *** لكل شعب بذكر الحق نجواه

لولا الشهادة لم تعرف مكانته *** ولم يفز بالعلى لولا ضحاياه

فکرموا كل عام في محافلكم *** من مقلة الله في الجنات ترعاه

د م زكي طهور لا يعادله *** دم سفكناه أو دمع سفحناه

من جده (المصطفی) المختار من قدم *** ومن أبوه (علي) كيف ننساه؟

ومن یکن کحسين في عقيدته *** هيهات تنسی عروس الشعر ذكراه(2)

ص: 505


1- محمد سعيد الطريحي، شعراء مسيحيون في رحاب الحسين، مصدر سابق ص6
2- نفس المصدر السابق ص6

أما الشاعر المحلق في رحاب أهل البيت عليهم السلام، ونقصد بذلك الأديب والفيلسوف الشاعر (بولس سلامة)، فقد أصر في ملحمته الشعرية الخالدة (عيد الغدير) على أن دم الإمام الحسين عليه السلام هو زيت سراج ثورات الإنسانية في كل زمان و مکان:

دمه السمح جلل الدهر فخرا *** وجرى في كل العصور خصبا وريا

کلمااعوزالمیامین عزم *** لمسوه فعاد غضاطریا(1)

وحتى لا يتهمنا القارئ الكريم بالإكثار من الشواهد الشعرية للشعراء المسيحيين، دعونا نتوقف الآن، وبعد هذه الرحلة الشاقة والشيقة، مع الشاعر الصابئي المعروف (عبد الرزاق عبد الواحد)، ذلك الشاعر الذي قال: (يظل الحسين عليه السلام رمزا يستوحى.. في كل مواقفه.. ترعدني منها اللحظة التي قرر فيها أن يقاتل وهو يعلم أنه مقتول ومعه أولاده وأهل بيته جميعا... إنها عندي ذروة الاستشهاد من أجل قضية يؤمن بها الإنسان). ولأن هذا هو إيمان هذا الشاعر الصابئي بالإمام الحسين عليه السلام وبثورته، لذلك فقد قال فيه مختتما قصيدته الرائعة (في رحاب الحسين):

قدمت وعفوك عن مقدمي *** مزيج من الدم والعلقم

كأنك أيقظت جرح العراق *** فتیاره كله في دمي

ألست الذي قال للباترات: *** خذيني، وللنفس: لا تهزمي

وطاف بأولاده والسيوف *** عليهم سوار على معصم

كذا نحن یاسیدی یا حسین *** شداد على القهر لم نشکم

ص: 506


1- بولس سلامة، عيد الغدير، مصدر سابق ص307

تدور عليناعيون الذئاب *** فنحتار من أيها نحتمي

فيا سيدي ياسَناكربلاء *** یلالي في الحلك الأعتم

تشع منائره بالضياء *** وتذخربالوجع الملهم

ويا عطشا، كل جدب العصور *** سينهل من ورده الزمزم

سأطبع ثغري على مؤطئيك *** سلام لأرضك من ملثم

سلام لأرضك من ملثم(1)

وهكذا أيها الأحبة الكرام، ها قد وصلنا الآن إلى نهاية رحلتنا الطويلة مع سيد الشهداء، الإمام الحسين عليه السلام (مصباح الهدى وسفينة النجاة)، وأرجو أن أكون قد وفقت في تقديم كل ما يمكن تقديمه من أفكار وشواهد عن عظمة الحسين عليه السلام ، وعن نهضته وأهدافها ودروسها وآثارها.

ولا يخفى على القارئ الكريم كم عانيت من مصاعب ومتاعب في جمع ودراسة وتحليل ذلك الكم الهائل من المقولات الفكرية والنصوص المسرحية والقصائد الشعرية والمؤلفات النثرية التي تتحدث عن فاجعة كربلاء، باللغتين العربية والإنكليزية لكبار المفكرين والأدباء والشعراء من كافة المذاهب والأديان الحية في العالم.

وبهذا، أرجو أن أكون قد قدمت للقراء الكرام، على مختلف أطيافهم، کتابا فريدا

من نوعه، شاملا في تحليلاته، متكاملا في موضوعاته، ومقنعا لقرائه.

وليس لي الآن إلا أن أضع قلمي المتعب على الطاولة وأدعه يستريح قليلا بعد

ص: 507


1- راجع الموقع الإلكتروني التالي: تاريخ الدخول ( 2008/3/6 )،WWW. Yahosein. Com. /vb/showthread. Php?t = 63239

رحلته الطويلة معي في رحاب كربلاء وفي ظلال واحات الحسين عليه السلام

وليس لي أنا أيضا في هذه الليلة العاصفة، حيث تتراقص ألسنة الصواعق فوق البحر، وتضرب حبات المطر الثقيلة نافذتي بكل قوةٍ، ليس لي إلا أن أرفع يدي إلى الله العلي القدير ضارعا متوسلا بحق محمد وآل محمد أن يتقبل هذا العمل مني وأن يجعله زادا لي في سفري و غربتي ووحشتي ويوم ألقاه بقلبٍ سليمٍ، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله أجمعين.

ص: 508

مناجاة الروح للنور

سيدي يا أبا عبد الله الحسین...

يا زهرة العمر في عمر بلا ربيع

یا شمعة الروح الملتهبة في محراب العشق الإلهي

ويا قطرة الندى التي غفت قليلا على رمال الصحراء

فاجتبتها شمس الحقيقة إليها فأعادتها إلى موطنها

في ملكوت السماء

سیدی یا حسین..

یا وارث الرسل والأنبياء

یا وارث أسرار الأوصياء،

أشهد انك أنت وجدك وأبوك

وأمك وأخوك، سر الوجود

وأنكم مبدأ كل موجود

وأنكم أنتم ينابيع الفيض والجود

سيدي يا حسين

یا تاج الأسياد ويا سيد الشهداء،

یا من أحلت الدم المسفوح

ص: 509

إلى شفقٍ من شعاع الروح

يا من أعدت رسم خارطة الأنبياء

بأوصالك الممزقة، وأوردتك المقطعة،

وأعدت تلوينها بکوثرك المطلول

على رمال الغربة، في ساحات الشدة، وفي ساعات العطش والوحشة والوحدة أشهد أنك أنت الوفاء والإخلاص

وبک، غدا، يكون الخلاص

وها أنا الآن يا سيدي

أقف وحيدا في هذا الليل

في محراب عشقك المتجدد،

وقد أعطيت لرهبة الموقف من قلبي الخشوع

ومن عيني الدموع

ومن جوارحي الخضوع...

وأعرف أنك، يا سيدي، تسمعني الآن... وتراني الآن

وتعرف أنت، يا سيدي، كم تعبت وعانيت في إنجاز هذا الكتاب

الذي هو الآن بين يدي، لأقدمه هدية خالصة إليك

ومع ذلك، أقسم لك صادقا

والذي نفس محمدصلی الله علیه و آله وسلم بيده،

إنني أشهد وأقر بأن كل ما قدمته، وكل تعب تعبته من أجل ذلك

لا يساوي قطرة دم واحدة من دمك العلوي المحمدي الأقدس.

ص: 510

وإن كل عام من الأعوام العديدة التي مضت من حياتي في كتابة هذا الكتاب عنك لا يساوي لحظةً واحدةٌ من لحظات العطش التي عاشها طفلك (عبد الله الرضيع).وإن ذلك التعب كلُّه لا يساوي لحظة خوفٍ واحدة من لحظات الخوف التي عاشتها يتيمتك الصغيرة (رقية) - روحي لها فداء.

وأشهد بالحق أن كل ذلك لا يساوي أيضا نظرةً واحدةً من نظراتك الحزينة وأنت ترقب عند المساء ساحة الفداء وقد ازدانت بالأضاحي العظيمة من أهلك وأحبابك وأصحابك.

فَلا والله يا سيدي، إن كل ما قدمته، وما سأقدمه، لا يساوي شيئا أمام عطاياك ياإمام العبر ويا شهيد العبرات،

وإن صبري طوال هذه الأعوام الماضية لا يعادل لحظة صبرٍ من صبرك أمام مرارة تلك الفاجعة الرهيبة.

ولَئِن حُرمت من نعمة الدفاع عنك في الأمس بالسيوف

فأحمد الله الذي مكنني اليوم من التعويض عما فات،

بالدفاع عن مبادئك وفضائلك وقضيتک بسلاح الحروف

سيدي يا حسين...

سأبوح لك بشيء يؤلمني في داخلي:

آهٍ يا سيدي، ما أصعب أن يعيش من يعرفك في مجتمعٍ يجهلك أو يتجاهلك، إنه الاحتراق بلا ضوءٍ ولا نور

اللهم اهدهم فإنهم لا يعلمون

وأخيرا يا سيدي...

ص: 511

اقبل عملي المتواضع هذا،

واجعله زادي في سفري وشفيعي في محشري

واغفر لي تقصيري بحقوقك

یا من غفرت ل- (الحر) العظيم ما كان منه بحقك

وأرجوك يا سيدي و يا مولاي

أن تذكرني بخير عند جدك رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم،

فإني أرى أن اللقاء قريب

خادمك

راجي أنور هيفا

20 صفر المظفر 1430ه- 2009/2/15 م

ص: 512

المراجع المستخدمة في الكتاب حسب تسلسل استخدامها

1- أبو المؤيد الموفق بن أحمد المكي (أخطب خوارزم) الحنفي، مقتل الحسين،مطبعة الزهراء - النجف، 1948.

2- محمد بن جرير الطبري، تاريخ الأمم والملوك، تحقیق: محمد أبو الفضل إبراهيم، دار سویدان - بیروت، د.تا

3- خليل عبد الكريم، الإسلام بين الدولة الدينية والدولة المدنية، سينا للنشر - القاهرة، 1995.

4- أنطون بارا، الحسين في الفكر المسيحي، دار العلوم - بیروت، 2006م

5۔ سلیمان کتاني، الإمام الحسن الكوثر المهدور، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990.

6- بيير - هنري سیمون، الفكر والتاريخ، ترجمة: د. عادل العوا، المجلس الأعلى

لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية - دمشق، 1963.

7- أحمد بهاء الدين، المثقفون والسلطة في عالمنا العربي (كتاب العربي)،الكويت. أكتوبر، 1999.

8- شهاب الدين أحمد بن حجر الهيثمي، الصواعق المحرقة، المطبعة الميمنية بمصر، 1312 ه-.

9- الحافظ أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري الشهير بالحاكم، مستدرك

ص: 513

الصحيحين، مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية، حیدرآباد ۔ دکن، 1324ه-

10- الإمام محمود بن عمر الزمخشري، تفسير القرآن المسمى بالكشاف، مطبعة

مصطفى محمد بمصر، 1354 ه-.

11- الإمام جلال الدين السيوطي الشافعي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور،المطبعة الميمنية بمصر، 1314 ه-.

12۔ المتقي الهندي الحنفي، کنز العمال، مطبعة دائرة المعارف النظامية، حیدرآباد، دکن، 1312 ه-.

13- الإمام مسلم، صحیح مسلم، مطبوعات محمد علي صبيح وأولاده، مصر.

14- الإمام أحمد بن حنبل، المسند، المطبعة الميمنية بمصر، 1313 ه-.

15- المحب الطبري، الرياض النضرة، مطبعة الاتحاد المصري، ط 1/ القاهرة.

16- الحافظ أبو نعيم أحمد بن عبد الله الأصبهاني، حلية الأولياء، مطبعة السعادة

بمصر، 1351 ه-.

17۔ الحافظ أبو بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد، مطبعة السعادة بمصر، 1349 ه-.

18- الحافظ أبو جعفر أحمد بن عبد الله (المحب الطبري)، ذخائر العقبی، مکتبة

القدسي - القاهرة، 1354 ه-.

19۔ الحافظ زین الدین عبد الرؤوف المناوي الشافعي، كنوز الحقائق، مكتبة الزهراء - القاهرة، 1985.

20۔ الحافظ نور الدين علي بن أبي بكر الهيثمي، مجمع الزوائد، مكتبة القدسي -

ص: 514

القاهرة، 1352 ه-.

21- خليل فرحات، في محراب علي، طبع بیروت، د.ت.

22- العلامة سليمان القندوزي الحنفي، ينابيع المودة، مؤسسة الأعلمي - بيروت،

د.ت.

23۔ الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، إحياء الميت بفضائل أهل البيت،منشورات معاونية العلاقات الدولية، طهران، 1988.

24 - السيد مرتضى الرضوي، آراء المعاصرين حول آثار الإمامية، مطبوعات النجاح بالقاهرة، ط 1979/1 .

25- نصري سلهب، في خطى علي، دار الكتاب اللبناني - بيروت، 1973.

26 - الإمام علي علیه السلام، نهج البلاغة، شرح: محمد عبده، الدار الإسلامية -

بیروت، ط1/ 1992.

27۔ کریم جبر الحسن، الإمام السجاد علیه السلام، مؤسسة البلاغ - بیروت، 1990. 28- بولس سلامة، عيد الغدير، دار الكتاب اللبناني - بيروت،1986.

29- الإمام الشافعي، ديوان الشافعي، تحقيق: صلاح الدين أبو الجهاد، مكتبة المستقبل - حلب، 1999.

30۔ حامد حسن، المكزون السنجاري بين الإمارة والشعر والتصوف والفلسفة، منشورات دار مجلة الثقافة بدمشق، الطبعة الأولى 1972.

31- صهيب سعران، مقدمة في التصوف، دار المعرفة - دمشق، 1989.

32- عبد الباقي العمري، الترياق الفاروقي، دار النعمان، النجف الأشرف، 1964

ص: 515

33- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الخصال، مؤسسة الأعلمي، بیروت، ط1990/1 34- ابن بابويه القمي (الصدوق)، الأمالي، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، 1980.

35- الإمام أحمد بن محمد إبراهيم الثعلبي، قصص الأنبياء (عرائس التيجان)،

المكتبة الشعبية - بیروت، د.ت.

36- الإمام بديع الزمان سعيد النورسي، مجموعة اللمعات من كليات رسائل النور، ترجمه عن اللغة التركية: الملا محمد زاهد الملا زكردي، منشورات دار الآفاق الجديدة - بیروت، 1985.

37۔ سلیمان کتاني، الإمام الحسين في حلة البرفير، دار الكتاب الإسلامي - قم، .1990

38۔ محمد بن عيسى الترمذي، صحيح الترمذي، مطبعة بولاق بمصر، 1292ه-.

39- الشيخ العلامة عبد الله العلايلي، الإمام الحسين، دار مكتبة الحياة - بيروت، 1986

40. أليكس جورافسكي، الإسلام والمسيحية (عالم المعرفة)، العدد/ 215/، ترجمة الدكتور خلف محمد الجراد، المجلس الوطني للثقافةوالفنون والآداب.

41- جان موريون، لويس ماسينيون، ترجمة: منى النجار، المؤسسة العربية للدراسات - بیروت، 1981.

42 - الحافظ أحمد بن شعيب النسائي، خصائص مولانا أمير المؤمنين علي علیه السلام ، مطبعة التقدم العلمية بمصر، د.ت.

ص: 516

43- یان ریشار، الإسلام الشيعي، ترجمة: حافظ الجمالي، دار عطية - بيروت،1996 44- توفيق أبو علم، الحسين بن علي، دار المعارف بمصر، ط 2/ 1982.

45- توفيق أبو علم، الحسن بن علي، دار المعارف بمصر، ط 3/ 1990.

46- الدكتور طه حسين، الفتنة الكبرى، دار المعارف بمصر، 1978.

47 - محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، نشر دار الكتب الإسلامية - طهران، 1388 ه-.

48- الشيخ عبد الغني النابلسي، ديوان الحقائق و مجموع الرقائق، دار الجيل - بیروت، د.ت.

49- سعيد عقل، الأعمال الكاملة، المجلد السادس (كما الأعمدة - الوثيقة التبادعية)، طبع نوبلیس ۔ بیروت، د.ت.

50- عبد الرحمن الشرقاوي، الحسين ثائرا، شهيدا، دار العصر الحديث - بیروت،1985

51- محمد رضا الأنصاري، مختارات من الأحاديث النبوية، نشر معاونية العلاقات الدولية - طهران، 1986.

52- عباس محمود العقاد، أبو الشهداء الحسين بن علي (كتاب الهلال)، دارالهلال - القاهرة، أيلول، 1951.

53- مجموعة من المؤلفين، أعلام الأدب العربي الحديث، وزارة التربية - دمشق،

1996

54- سامح كريم، إسلاميات، دار القلم - بیروت، 1982.

ص: 517

55۔ نجيب الكيلاني، إقبال الشاعر الثائر، مؤسسة الرسالة - بيروت، 1988.

56۔ مجموعة من المفکرین، نداء إقبال، دار الفكر بدمشق، 1986.

57- محمد إقبال، دیوان جناح جبریل، تعريب: عبد المعين ملوحي، دار طلاس ۔

دمشق، 1987.

58 - عبد المسيح الإنطاكي، ملحمة الإمام علي عليه السلام ، مؤسسة الأعلمي -

بیروت، ط 2/ 1991.

59- جرجي زيدان، غادة كربلاء، منشورات دار مكتبة الحياة - بیروت، د.ت.

60- إميل حبشي الأشقر، فاجعة كربلاء، دار الأندلس - بیروت، 1965.

61- عبد الحميد جودة السحار، حياة الحسين، مكتبة مصر - القاهرة،ط 2/ 1977. 62- عبد الحميد جودة السحار، أهل بيت النبي، دار مصر للطباعة - القاهرة،

د.ت.

63- لويس غارديه، أهل الإسلام، ترجمة: صلاح الدين برمدا، وزارة الثقافة -

دمشق، 1981.

64- العلامة میرزا جواد ملکي التبريزي، السير إلى الله، ترجمة وشرح: السيد

ياسين الموسوي، دار التعارف للمطبوعات - بیروت، 1990.

65۔ خالد محمد خالد، أبناء الرسول في كربلاء، مطبوعات دار الشعب - القاهرة،

ط1968/1.

66. عبد اللطيف المشتهري، سيد الشباب الإمام الشهيد الحسين، طبع اللاذقيةط 2/ 1379 ه-.

ص: 518

67 - أنور الجندي، الإسلام والحضارة، دار الاعتصام - القاهرة، 1977.

68- مونتغمري واط، أثر الحضارة العربية الإسلامية على أوروبا، ترجمة: جابر

أبي جابر، طبع وزارة الثقافة . دمشق، 1981.

69- روجيه غارودي، ما يعد به الإسلام، ترجمة قصي أتاسي وميشيل واكيم، طبع دار الوثبة - دمشق، د.ت.

70- تامر میر مصطفی، بشائر الأسفار بمحمد وآله الأطهار، الغدیر - بیروت،.1998

71- يوهان غوته، الديوان الشرقي للمؤلف الغربي، ترجمة الدكتور عبد الرحمن

بدوي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت، 1980.

72- العلامة خليل ياسين، محمد عند علماء الغرب، مؤسسة الوفاء - بيروت،.1983

73. ج.ن. راغهافان، تقديم الهند، تعريب: عبد الحق بن شجاعت علي،إصدار

المجلس الهندي للعلاقات الثقافية، نيودلهي، ط 3/ 1983.

74۔ لویس فیشر، غاندي الثائر القديس (کتاب الهلال)، ترجمة: صوفي عبد الله،

العدد (8)، دار الهلال - القاهرة، 1952.

75۔ ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة، مؤسسة الحلبي - القاهرة، د.ت.

76- ابن المغازلي الشافعي، مناقب علي بن أبي طالب عليه السلام ، المكتبة الإسلامية - طهران، د.ت.

77۔ ابن قرناس، ستة الأولين، دار الجمل - ألمانيا، ط2006/1

78۔ سلیمان کتاني، فاطمة الزهراء وتر في غمد، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990.

ص: 519

79. د. نظمي لوقا، أبو بكر (کتاب الهلال)، دار الهلال - القاهرة، آذار، 1971.

80- خليل عبد الكريم، قریش من القبيلة إلى الدولة المركزية، سينا للنشر - القاهرة، 1993.

81- خليل عبد الكريم، شدو الربابة بأحوال مجتمع الصحابة، سينا للنشر - القاهرة، ط1/ 1997.

82- أحمد عباس صالح، اليمين واليسار في الإسلام، المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بیروت، 1973.

83 - عبد الفتاح عبد المقصود، الإمام علي بن أبي طالب، مكتبة العرفان - بیروت، د.ت.

84- د. حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية،ط 1964/7 . 85- نبيل فياض، يوم انحدر الجمل من السقيفة، منشورات Exact ليماسول -

قبرص، د.ت.

86- جورج جرداق، موسوعة الإمام علي صوت العدالة الإنسانية، منشورات

مكتبة الحياة - بیروت، 1970.

87- دوایت رونلدسن، عقيدة الشيعة، ترجمة: عبد المطلب الأمين، مؤسسة المفيد . بیروت، 1990.

88- دومينيك وجانين سوردیل، الحضارة الإسلامية في عصرها الذهبي، ترجمة

حسني زينة، دار الحقيقة - بيروت، ط1/ 1980.

89- جرهارد کونسلمان سطوع نجم الشيعة، ترجمة: محمد أبو رحمة، مكتبة

ص: 520

مدبولي - القاهرة، 1992.

90۔ سلیمان کتاني، الإمام زين العابدین عنقود مرصع، دار الروضة - بيروت.1993 91- سامي سليمان شيا، أقوال مأثورة، دار النهار - بیروت، 1981.

92- الحافظ شمس الدين بن محمد (الذهبي)، میزان الاعتدال، مطبعة السعادة - مصر، 1325ه-.

93 - الحافظ شهاب الدين العسقلاني (ابن حجر) تهذيب التهذيب مطبعة مجلس

دائرة المعارف النظامية، حیدر آباد ۔ دکن، 1325 ه-.

94- السيد محمد بن عقيل بن عبد الله بن عمر العلوي، النصائح الكافية لمن يتولى معاوية، طبع دار الثقافة . قم، 1412ه-.

95 - ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، داء إحياء الكتب العربية - القاهرة، ط 1959/1

96- يوليوس فلهاوزن، تاريخ الدولة العربية، ترجمة: الدكتور محمد هادي أبوريدة، نشر لجنة التأليف والترجمة والنشر في دار الثقافة العامة - القاهرة، 1968

97.- جان جاك سیدیو، خلاصة تاريخ العرب، ترجمة: محمد أفندي بن أحمد عبد الرزاق، دار الآثار - بیروت، ط 1400/2ه-.

98- دومينيك سوردیل، الإسلام في القرون الوسطى، ترجمة: علي المقلد، دار

التنوير - بیروت، 1983.

99- راجي أنور هيفاء الإسلام والغرب بين حوار الحروف وصدام السيوف، دار

ص: 521

العلوم - بیروت، 2004م.

100۔ سلیمان الخش، الفتح العربي الإسلامي، دار ریاض نجيب الريس، لندن،ط1/ 1994.

101- محمد الغزالي، ركائز الإيمان بين العقل والقلب، مكتبة الأمل - الكويت،1967

102۔ محمد الغزالي، نظرات في القرآن، دار الكتب الحديثة - القاهرة، 1962.

103۔ سبط ابن الجوزي الحنفي، تذکرة الخواص، منشورات الشريف الرضي -

قم، 1418 ه-.

104- کمال الدین محمد بن طلحة الشافعي، مطالب السؤول في مناقب آل الرسول، مؤسسة البلاغ - بیروت، 1999.

105- ابن الصباغ المالكي، الفصول المهمة، مؤسسة الأعلمي - طهران، د.ت.

106- مؤمن الشبلنجي الشافعي، نور الأبصار، دار الفكر - بیروت، د.ت.

107 - الحافظ جلال الدين السيوطي الشافعي، تاریخ الخلفاء، دار الفكر - بیروت، د.ت. 108- محمد رضا (المصري)، الحسن والحسين، المكتبة العصرية - صيدا،ط2004/1 109- غريغوريوس الملطي (ابن العبري)، مختصر تاريخ الدول، مؤسسة نشر

منابع الثقافة الإسلامية . قم، د.ت.

110- أسعد وحيد القاسم، حقيقة الشيعة الاثني عشرية، نشر رابطة أهل البيت علیهم الاسلام العالمية - لندن، ط1/ 1991.

ص: 522

111- محمد جواد فضل الله، صلح الإمام الحسن علیه السلام ، دار المثقف المسلم ۔ قم، د.ت.

112- محمود أبو رية، شيخ المضيرة أبو هريرة، دار المعارف بمصر، ط 3/ 1969.

113- هنري ماسیه، الإسلام، ترجمة: بهيج شعبان، منشورات عويدات - بیروت، 1960.

114- آية الله العظمی محمد حسين فضل الله، حديث عاشوراء، دار الملاك -

بیروت، ط1/ 1997.

115- محمد زكي عبد القادر، الحرية والكرامةالإنسانية، مكتبة الخانجي ۔ القاهرة، 1959.

116- محمد عبده، مختارات، إعداد ونشر وزارة الثقافة - دمشق، 2005.

117 - السيد جواد القزويني، يزيد في محكمة التاريخ، مطبعة أمير - قم، 1999. 118- کلود کاهن، تاريخ العرب والشعوب الإسلامية، ترجمة: د. بدر الدين

القاسم، دار الحقيقة - بیروت، 1972.

119۔ فان فلوتن، أبحاث في السيطرة العربية، ترجمة الدكتور إبراهيم بیضون،

وهذا الكتاب ملحق بكتاب الدولة الأموية والمعارضة تأليف المترجم نفسه، طبع المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر - بیروت، 1985.

120- جورج شکور، ملحمة الحسين، طبع شركة ساب إنترناسيونال - بيروت، ط 2003/1 .

121- الشيخ كاظم حمد الإحسائي النجفي، السفينة السائرة في فضائل العترة

ص: 523

الطاهرة، مؤسسة الهادي - بيروت، 1999.

122- الدكتور نظمي لوقا، محمد الرسالة والرسول، الشركة العربية للطباعة -

القاهرة، 1959.

123- عبد البديع مجازي، المساواة والاشتراكية في الإسلام، مطبعة الإرشاد - اللاذقية، 2005م.

124-

Philip Hitti, History Of The ARABS, Macmillan, New

York, 1958

125- د. إسرائيل ولفنسون، تاريخ اليهود في بلاد العرب في الجاهلية وصدر الإسلام، طبع دار النافذة - القاهرة، ط 2006/1 م.

126- الشهيد السيد حسن الشيرازي، كلمة الله، دار الصادق - بیروت،1969.

127۔ محمد شاكر عضيمة، كنت مفتشا في المملكة العربية السعودية، مطبعة

الكشاف . اللاذقية، 1969.

128- ليوبولد فایس، منهاج الإسلام في الحكم، ترجمة: منصور ماضي، دارالعلم للملايين - بیروت، 1957.

129 - الدكتور نوري جعفر، الصراع بين الأمويين ومبادئ الإسلام، مطبوعات

النجاح - القاهرة، 1978.

130- محمد عبد الباقي سرور نعیم، الثائرالأول في الإسلام، طبع القاهرة - مصر، د.ت. 131- الدكتور صادق جلال العظم، الاستشراق والاستشراق معكوسا، دارالحداثة - بیروت، 1981.

ص: 524

132- آية الله السيد محمد الحسيني الطهراني، لمعات الحسين عليه السلام ، طبع

دمشق، 2002.

133۔ عبد الحميد الجوهري، الشفاء بالتنويم المغناطيسي والطاقة الروحية، نشر

إفريقيا الشرق، الدار البيضاء - المغرب، 1988.

134- آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي، أجوبة المسائل العلوية

مؤسسة المجتبی ۔ بیروت، 2003.

135 - الدكتورة عائشة عبد الرحمن، السيدة زينب، دار الكتاب العربي - بيروت،

1985

136- جمال الدین محمد الزرندي الحنفي، نظم درر السمطين، مكتبة نينوى الحديثة - طهران، د.ت.

137- الشيخ عرفان حسونة الدمشقي، الحسين حفيدا وشهيدا، المكتبة العصرية - بيروت وصيدا، 2005.

138 - الدكتورة عائشة عبد الرحمن، تراجم سيدات بيت النبوة، دار الكتاب العربي - بيروت، د.ت.

139- لبيب بیضون، خطب الإمام الحسين على طريق الشهادة، مطابع ابن زيدون

. دمشق، 1974.

140 - محمد رضا، الإمام علي بن أبي طالب، دار الكتب العلمية - بیروت، د.ت. 141- جون کیهو، العقل الباطن، ترجمة: د. مصطفى دليلة، دار الحوار - اللاذقية،

.2001

142 - جميل جبر، من الأدب الألماني، دار الريحاني للطباعة والنشر - بیروت،

ص: 525

د.ت

153- کاتارینا مومزن، غوته والعالم العربي (سلسلة عالم المعرفة)، ترجمة: د.

عدنان عباس علي، إصدار المجلس الوطني للثقافة الكويت، عدد شباط، 1995

.1990

144- توفيق فتح الله، عاشوراء وكلمات خالدة، انتشارات لاله کویر - یزد،1421ه-. 145 - الشيخ محمد بن علي الصبان الشافعي، إسعاف الراغبين، دار الفكر - بیروت، د.ت.

146- محمد أحمد جاد المولى، قصص القرآن، دار الهجرة - 1984.

147- الشيخ الصدوق، علل الشرائع، مؤسسة الأعلمي - بيروت، 1988.

148- محمد جواد مغنية، الحسين وبطلة كربلاء، انتشارات الشريف الرضي - قم،

1417 ه-.

149- العلامة أحمد محمد حیدر، الحيرات، دار الشمال - طرابلس، لبنان،1991

150- الحافظ رجب البرسي، مشارق أنوار اليقين، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، د.ت. 151 - العلامة عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، الغدير في الكتاب والسنة

والأدب، دار الكتب الإسلامية - طهران، 1374 ه-.ش.

152 - الشيخ عبد الزهراء الكعبي، الحسين قتيل العبرة، دار الذخائر - قم،

1411ه-.

ص: 526

153- أبو الحسن الندوي، قصص النبيين، مؤسسة الرسالة . بیروت،ط20/ 1996. 154- محمد بن إسماعيل البخاري، صحيح البخاري، المطبعة الخيرية بمصر،

1320 ه-.

155- عبد الرحمن الشرقاوي، علي إمام المتقين، مكتبة غريب - القاهرة، د.ت.

156- أحمد مظهر العظمة، علي بن أبي طالب، مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي بدمشق، 1956.

157- محمد إبراهيم الأحمد، رابع الخلفاء علي بن أبي طالب، دار الرضوان -

حلب، 2004.

158- علي فكري، أحسن القصص، دار الكتب العلمية - بيروت، ط1975/5.

159- السيد محسن الأمين، أعيان الشيعة، مطبعة الإنصاف ۔ بیروت،ط4/ 1960. 160- السيد نعمة الله الجزائري، قصص الأنبياء، دار البلاغة - بیروت، ط 2/ 1993

161- أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، مؤسسة الأعلمي - بيروت،

1980

162- مارسيل بوازار، إنسانية الإسلام، ترجمة: الدكتور عفيف دمشقية، دار

الآداب - بیروت، 1980.

163- السيد مرتضى الرضوي، مع رجال الفكر في القاهرة، مطبوعات النجاح -

القاهرة، 1979.

ص: 527

164- محمد عبد الله المنفلوطي، ريحانة أهل البيت السيدة زينب الكبری، مکتبة

الإيمان - القاهرة، 2007.

165- السيد عبد الرزاق المقرم، مقتل الحسين، مطبعة النجف، ط1963/3.

166- آية الله السيد محمد تقي المدرسي، الإمام الحسين مصباح الهدى وسفينة

النجاة، انتشارات المدرسي - طهران، 1414 ه-.

167- الشيخ يوسف بن إسماعيل النبهاني، الشرف المؤبد لآل محمد، مکتبة دار

المستقبل - حلب، ط2006/1 .

158- السيد هادي المدرسي، کتاب عاشوراء، دار ومكتبة الهلال - بیروت، د.ت. 169- آية الله السيد عبد الحسین دستغيب، الثورة الحسينية، دار التعارف ۔

بیروت، د.ت.

170 - الأمير أحمد حسین بهادرخان الهندي، تاريخ الأحمدي، أشرف على الترجمة: السيد محسن الخاتمي، مركز الدراسات والبحوث العلمية - بیروت، 1988.

171- عباس محمود العقاد، حياة قلم، دار الكتاب العربي - بيروت، 1969.

172 - أبو ریحان البيروني، الجماهر في الجواهر، نشر مكتب التراث المخطوط -

طهران، 1995.

173- جواد شبر، أدب الطف، مؤسسة التاريخ العربي -بيروت، 2001.

174- علي محمد علي دخيل، أروع ما قيل في الإمام الحسين عليه السلام ، دار

المرتضی - بیروت، 2004.

175۔ سلمان هادي طعمة، أم البنين، دار البقيع . طهران، 1996.

ص: 528

176- السيد نور الدين الجزائري، الخصائص الزينبية، منشورات الشريف الرضي

- قم، 1998.

177- عبد الرزاق کيلو، السيدة زينب بنت علي، دار المنارة - اللاذقية، 1995. 178- حسين الشاهرودي، يتيمة الحسين عليه السلام، مؤسسة السيدة زينب الخيرية -

بیروت، 1998.

179 - الشيخ عباس القمي، نفس المهموم، طبع دمشق، د.ت.

180- متري هنري، سفر الجامعة، ترجمة: القمص مرقس داود، مكتبة المحبةالقبطية الأرثوذكسية - القاهرة، 1924.

181- کارين أرمسترونغ، الإسلام في مرآة الغرب، ترجمة: محمد الجورا، دار

الحصاد . دمشق، 2002.

182- الميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل، مؤسسة آل البيت . قم، 1408ه-

183- نیکوس کازانتزاکیس، تقرير إلى غریكو، ترجمة: ممدوح عدوان، الجندي للطباعة والنشر - دمشق، د.ت.

184۔ محمد قرة علي، سنابل الزمن، مكتبة نوفل - بيروت.

185- السيد أحمد الفهري، دروس في التفسير، الدار الإسلامية - بیروت،1988

186- الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، مكتبة الصدر - طهران، 1416ه-.

187- الشيخ عباس القمي، مفاتیح الجنان والباقيات الصالحات، نشر أنصاریان -

قم، 1419ه-.

ص: 529

188- لويس معلوف، المنجد في الأعلام، انتشارات ذوي القربی - إيران،1423ه-

189۔ ابن نما الحلي، مثير الأحزان، دار العلوم - بیروت، ط 2004/1

190- ابن طاوس، اللهوف على قتلى الطفوف، مطبعة العرفان - صيدا، ط 2/ 1929.

191- أبو الفتح الشهرستاني، الملل والنحل، دار دانية - بيروت ودمشق، ط1/ 1990.

192- أحمد الرحماني الهمداني، فاطمة الزهراء بهجة قلب المصطفی، مؤسسة

البدر - طهران، 1410 ه-.

193۔ سلیمان کتاني، الإمام علي نبراس ومتراس، دار المرتضی ۔ بیروت، 1990. 194- علي رضا برازش، مجمع الأنوار، منظمة الإعلام الإسلامي - طهران،

ط 1988/1 .

195 - محمد مهدي النراقي، جامع السعادات، المؤسسة العلمية - بيروت.

196- أنور الرفاعي وسعد الدين القواص، تاريخ الدولة العربية منذ الخلافةالأموية حتى العهد العثماني، مطبعة الترقي بدمشق، 1953.

197- غسان حنا، أبجدية التجلي، دار الينابيع - دمشق، ط 2004/1

198۔ الحافظ أبو عبد الله محمد بن يوسف الكنجي الشافعي، كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، دار إحياء تراث أهل البيت عليهم السلام، طهران/ 1404ه-.

199- هادي المدرسي، الدين هو الثورة، دار التعارف للمطبوعات - بیروت،

ص: 530

200 - Gul Hasan, Solomon's Ring, Translated and

selected

by: Hasan Askari, Altamira Press, 1998

201 - Michael Antony Sells Early Islamic Mysticism

press

202 -

Christian Von Dehsen Philosophers and Religious

Leaders Green Wood

203- محمد عبد الرحيم، أربعون حديثا في فضل الشهيد والشهادة، طبع الحكمة

. دمشق، 1995.

Encyclopedia Britanica. CD - Rom. 2003-204

205- ليليان هيرلاندز (وآخرون)، دليل القارئ إلى الأدب العالمي، ترجمة:محمد الجورا، دار الحقائق . بيروت ودمشق، ط 1/ 1981.

206- ل. دوغارد بيتش، تشارلز دیکنز، ترجمة: رجا حوراني، مكتبة لبنان - بیروت، 1974.

207 - الأستاذ علي رضا، محاكمة سقراط، طبع حلب، ط1/ 1981.

208 - الإمام شمس الدين محمد المقدسي الحنبلي، الآداب الشرعية والمنح المرعية، بیروت، د.ت.

209- الشيخ منصور البيات القطيفي، النظرات الإلهية في الممادح المحمدية، مؤسسة الأعلمي ۔ بیروت، 1974.

-210 Dagobert

Runes Treasury of world Literature

Philosophical Library NewYork, 1971

ص: 531

211- بربارة يونغ، هذا الرجل من لبنان، ترجمة: سعيد سابا، دار الأندلس - بیروت، 1964.

212- راجي أنور هيفا، مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام ، مؤسسة الفكر

الإسلامي - بيروت، 2003.

213- الدكتور نذير العظمة، جبران خليل جبران في ضوء المؤثرات الأجنبية، دار

طلاس - دمشق، 1987.

214- جبران خليل جبران، کتاب النبي، ترجمة وتقديم: ثروت عكاشة، دارطلاس - دمشق، 1984.

215- ألبير مطلق (وآخرون)، في ذكری جبران، مكتبة لبنان - بیروت، ط1981/1 . 216- روکس بن زايد العزيزي، الإمام علي أسد الإسلام وقدیسه، دار الكتاب

العربي - بيروت، 1979.

217- میرزا حسن الإحقاقي الحائري، رسالة الإنسانية، مؤسسة البلاغ - بیروت، ط1/ 1988.

218- العلامة محمد علي إسبر، الإسلام وبناء المجتمع، دار التعارف ۔ بیروت، ط2002/1

219 - الدكتور محمد غلاب، أدب الثورة، مطابع جريدة المصري - القاهرة،1953

220- إميل حبشي الأشقر، خيانة وغدر، دار الأندلس - بیروت، 1979.

221- خليل هنداوي (وآخرون)، زیاد ابن أبيه، مكتبة دار الشرق - بیروت، د.ت .

ص: 532

222 - السيد محمد حسين الطباطبائي، الشيعة (نص الحوار مع المستشرق کوربان)، ترجمة: جواد علي کسَّار، مؤسسة أم القرى - بیروت، ط 2/ 1418 ه-.

223 - الدكتور أحمد راسم النفيس، على خُطى الحسين، الغدیر - بیروت، ط1/ 1997.

224- سعد رستم، الفرق والمذاهب الإسلامية، دار الأوائل . دمشق، ط2005/3

225- محمد الريشهري، میزان الحكمة، دار الحديث - إيران.

226- الدكتور جرجس جرجس، بدائع الحكمة العربية في الأدب العربي القديم،

نشر: مختارات بیروت، 1991.

227- یوسف سامي اليوسف، ما الشعر العظيم؟، اتحاد الكتاب العرب - دمشق،

1981

228- أدونيس، زمن الشعر، دار العودة - بيروت، ط 2/ 1978.

229- عبد الرزاق عبد الواحد، 120 قصيدة حب، وزارة الثقافة - دمشق، 2007. 230- أحمد خيري باشا، ديوان المدائح الحسينية، مطبعة الاعتماد - القاهرة، 1953

231- حسن العلوي، الجواهري ديوان العصر، وزارة الثقافة . دمشق، ط 1986/1 232- دیوان عمر أبو ريشة، طبع دار العودة - بیروت، 1986

233- دیوان بدر شاكر السياب، طبع دار العودة - بیروت، 1989.

ص: 533

234. فؤاد أفرام البستاني، أحمد شوقي، (اجتماعيات منتخبة)، دار المشرق -

بیروت، 1968.

235. جاسم عثمان مرغي، الشيعة في مصر، مؤسسة الوفاء - طهران، 1412ه-.

236. محمد إقبال، یا أمم الشرق، ترجمة: محمود أحمد غازي وصاوي شعلان، دار الفكر - دمشق، ط 1988/1

237- محمد إقبال، في السماء، ترجمة: الدكتور حسين مجيب المصري، نشر

مكتبة الأنجلو المصرية - القاهرة، 1973.

238. الدكتور علي حسون، فلسفة إقبال، دار السؤال - دمشق، ط 2/ 1968.

239-

Nagib Ullah Islamic Literature Washington Square era

Press New York, 1963

240-

Stanley Lane - Poole, Turkey, Khayats, Beirut, 1966

241- یوهان غوته، الشعر والحقيقة، ترجمة: محمد جديد، وزارة الثقافة . دمشق، 1992

242. الدكتور علي شريعتي، الحسین وارث آدم، ترجمة الدكتور إبراهيم دسوقي شتا، دار الأمير للثقافة والعلوم، بیروت، ط2004/1

243- الدكتور محمد موناكو، الثقافة الألبانية، في الأبجدية العربية (سلسلة عالم المعرفة)، العدد /68/ ، المجلس الوطني للثقافة الكويت، آب 1983. 244- نیکوس کازانتزاکیس، المسيح يصلب من جديد، ترجمة: شوقي جلال،

دار طلاس، دمشق، ط 1996/3.

245. د. جمال الدین سید محمد، الأدب اليوغسلافي المعاصر (عالم المعرفة)،

ص: 534

العدد/ 81/ ، الكويت أيلول 1984.

264- محمد عثمان عثمان، محمد في الآداب العالمية المنصفة، دمشق، 2006.

247 د. مکارم الغمري، مؤثرات عربية وإسلامية في الأدب الروسي (عالم

المعرفة)، العدد/ 155/ - الكويت، تشرين الثاني، 1991.

248 - الشيخ شوقي الحداد، أعلام الأدباء والشيوخ في جبال بهراء وتنوخ، طبع دمشق، 2006.

249. هند هارون، بين المرسى والشراع، وزارة الثقافة - دمشق، 1984. 250 - الدكتور يوسف مراد، علم النفس في الفن والحياة (سلسلة كتاب الهلال)،العدد / 187/، دار الهلال - القاهرة، 1966.

251- د. علي الراعي، المسرح في الوطن العربي (عالم المعرفة)، العدد/ 248/ الكويت، آب، 1999.

252۔ وليد فاضل، الحسين (ملحمة تراجيدية)، مطبعة اليمامة . حمص، 1998.

253. عبد الزهراء عثمان محمد، سيرة المصطفى صلی الله علیه و آله وسلم، مكتبة الشهيد الصدر - قم، 1984.

254. الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة بشرح الشيخ صبحي الصالح، دار الكتاب اللبناني - بيروت، 1982.

255. د. محمود المقداد، تاریخ الدراسات العربية في فرنسا (عالم المعرفة)،

العدد/ 167/ ، الكويت، 1992.

256- د. محمد عزیزة، الإسلام والمسرح (کتاب الهلال)، العدد (243)، ترجمه إلى العربية، الدكتور رفيق الصبان، دار الهلال - القاهرة، نیسان 1971.

ص: 535

257۔ الزبيدي الحنفي، تاج العروس، منشورات مكتبة الحياة - بيروت.

258 - الدكتور أنطوان معلوف، المدخل إلى المأساة والفلسفة المأساوية،

المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر، بيروت، ط1/ 1982.

259۔ مولوین میر شنت و کلیفور دلیتش، الكوميديا والتراجيديا (عالم المعرفة)، العدد/ 18/، ترجمة: د. علي أحمد محمود، الكويت، حزيران، 1979.

260. كونستانس جيورجيو، نظرة جديدة في سيرة رسول الله، ترجمة الدكتور محمد التونجي الدار العربية للموسوعات - بیروت، 1983.

261. لويس غارديه وج. قنواتي، فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية، ترجمة: د. صبحي الصالح والأب الدكتور فرید جبر، دار العلم للملايين -

بیروت، 1967.

262۔ البارون کارا دوفو، مفكرو الإسلام، ترجمة عادل زعيتر، الدار المتحدة

للنشر - بیروت، ط 1979/1 .

263- د. زكي مبارك، المدائح النبوية في الأدب العربي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر - القاهرة، 1935.

264- أحمد محمد خالد، مسرح العرب بين نص الإسلام وسيرورته، وزارة

الثقافة . دمشق، 1997.

265 -

Toby M.Howarth, The Twelver Shia as a Muslim

Minority in India, Routledge,2005.

266 - الدكتور فرج فودة، الحقيقة الغائبة، دار الفكر للدراسات . القاهرة، 1988.

267. الدكتور حسن إبراهيم حسن، تاريخ الإسلام، مكتبة النهضة المصرية .

ص: 536

القاهرة، 1964.

268. جبران مسوح، الاشتراكية البسيطة، دار القلم - بیروت، 1954.

269 - الشيخ عبد الله الشبراوي الشافعي، الإتحاف بحب الأشراف، المطبعة

الأدبية بمصر، 1316 ه-.

270 - الشيخ عبد الرحمن النجار، خواطر مؤمنة، دار الرائد العربي -بيروت، 1982

271 - السيد محمد حسين الطباطبائي، رسالةالتشيع في العالم المعاصر، ترجمة: جواد علي کسار، مؤسسة أم القرى، ط1418/1 ه-.

Rainer Burnner The Twelver Shia in Modern TimesBrill211 272

273. لويس ماسينيون، سلمان الفارسي والبواكير الروحية للإسلام في إيران، ترجمه إلى العربية د. عبد الرحمن بدوي، ثم ألحقه بمجموعة مقالات أخرى لبعض المستشرقين وجمعهم في كتاب (شخصيات قلقة في الإسلام)، وكالة المطبوعات في الكويت، 1978.

274. الدكتورة سميرة مختار الليثي، جهاد الشيعة في العصر العباسي الأول، نشرالبطحاء - إيران، د.ت. )

275. مجموعة من الأدباء، جريدة حمص في يوبيلها الماسي، 1909- 1985،مطابع ألف باء، دمشق، 1985.

276 - جواهر لال نهرو، اکتشاف الهند، دار العلم للملايين - بیروت، 1959. 277. آدم متز، الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري، ترجمة: محمد عبد

ص: 537

الهادي أبو ريدة، دار الكتاب العربي - بيروت، د.ت.

278 - محمد حسین رجبي، الحياة السياسية للإمام الخميني، دار الروضة -

بیروت، 1993.

279. جعفر حسین نزار، الخميني والثورة في الشعر العربي، دار الرائد العربي - بیروت، 1984.

280. الإمام عبد الحسین شرف الدين الموسوي، النص والاجتهاد، منشورات

قسم الدراسات الإسلامية - طهران، 1458 ه-.

281۔ ماوريتز بیرخر، دفاعا ضد أنفسنا (سلسلة الترجمات الهولندية)ترجمة:

غیاث جازي دار إيمار - دمشق، 2004.

282- سنية قراعة، نساء في التاريخ العربي (سلسلة كتاب العربي)، العدد/ 75/، الكويت، يناير، 2009.

283 - الشيخ السيد حسين بركة، فهل أنتم مسلمون؟، دار الفكر الإسلامي -

بیروت، 1996.

284 - السيد حسن نور الدين، عاشوراء في الأدب العاملي المعاصر، الدار

الإسلامية - بيروت، 1988.

285- مجموعة من الأدباء، نهج البلاغة والفكر الإنساني المعاصر،المستشارية الإيرانية الثقافية بدمشق، 1993.

ص: 538

أسماء الجرائد والنشرات والمجلات المستخدمة:

286- مجلة النور، الأعداد (107 -176 -118)، إصدار دار النور - لندن. 287- جريدة الوحدة (العدد الصادر بتاريخ2006/2/9 )مؤسسة الوحدة -

فرع اللاذقية.

288. مجلة الثقافة الإسلامية ( العدد 50)، إصدار المستشارية الثقافية الإيرانية بدمشق.

289. مجلة المنبر الحسيني (العدد 2)، إصدار دار السيدة زينب في بيروت. 290. نشرة الغدير (العدد59)، إصدار مركز الإمام الخوئي في لندن.

291- مجلة أهل البيت علیهم السلام، الأعداد (44- 50)، إصدار رابطة أهل البيت عليهم السلام الإسلامية العالمية في لندن.

292. مجلة رسالة الثقلين (العدده 55) تصدر عن المعاونية الثقافية - طهران. 293- نشرة أجوبة المسائل الشرعية المطابقة لفتاوی آیة الله السيد صادق

الحسيني الشيرازي (العدد 122)، إصدار مؤسسة الإمام الشيرازي العالمية. 294- مجلة (النشرة)، العدد (3) المجلد (119)، إصدار مجمع السينودس

الإنجيلي الوطني في سوريا ولبنان.

295- جريدة الحياة (العدد الصادر بتاريخ 11 نیسان 2007)، تصدر في بيروت.

ص: 539

296- مجلة الآداب الأجنبية (العدد 65)، إصدار اتحاد الكتاب العرب بدمشق. 297. مجلة المعرفة الأعداد (93-213)، وزارة الثقافة بدمشق.

298- مجلة الناقد العدد (69)، تصدر عن دار ریاض نجيب الريس، بيروت

لندن.

299. مجلة الهلال (العددا )، السنة 79، تصدر عن دار الهلال في القاهرة. 300. مجلة الآداب (العدد 5-6) بتاريخ أيار - حزيران، 1999 تصدر في بيروت.

301- جريدة الثورة، ملحق العدد الصادر بتاريخ1999/5/23 تصدر في

دمشق.

302- مجلة النبأ (العدد66)، تصدر عن المستقبل للثقافة والإعلام في بيروت. 303- رؤى الحياة (مجلة) (العدد 21) تصدر في دمشق.

304- مجلة الموسم الأعداد (2-3) + العدد (12) المجلد الثالث + العدد (13) المجلد الرابع تصدر عن أكاديمية الكوفة في هولندا.

ص: 540

عناوين المواقع الإلكترونية المستخدمة:

http: H//en. Wikipedia.org/wiki/ Husayn - ibn - Ali -300 http: Www. 14Masom. Com/ mostabsiron F101. htm .309 www.yahosein.com/vb/showthread. Php?t = 63239 -307

تاريخ الدخول 2008/3/6

www.al - islam. Org/ al - Serat. 308

www. Atyaf - alnoor - net.309

310. ويمكن إضافة إلى كل ما سبق من مراجع و مواقع، وثيقة خاصة من سماحة الشيخ المجاهد (عبد الكريم عبيد)، أحد قياديي حزب الله، سلمني إياها في دمشق بتاریخ 2007/7/26 م

ص: 541

ص: 542

الفهرس

الحسين علیه السلام وارث الأنبياء عليهم السلام ...5

فلسفة الإيمان والشهادة في نهج الحسين عليه السلام...62

كربلاء في الفكر الإنساني والأدب الروائي ...126

ملحمة كربلاء في الشعر العالمي ...193

فاجعة كربلاء في المسرح العالمي ...311

دروس الفاجعة وآثارها ...400

مناجاة الروح للنور...509

المراجع المستخدمة في الكتاب حسب تسلسل استخدامها...513

الفهرس ...543

صدر للمؤلف ...544

ص: 543

صدر للمؤلف

1- صفحات من الفكر - لندن 2002.

2- مقدمة في معرفة الإمام علي عليه السلام - بيروت، 2003.

3- الإسلام والغرب بين حوار الحروف وصدام السيوف . بیروت، 2004.

4- نظرية اللاعنف في الإسلام (بحث مقدم إلى هيئة الأمم المتحدة بتكليف من

مركز الإمام الشيرازي للدراسات)، 2004.

5. الإمام علي عليه السلام في الفكر المسيحي المعاصر - بیروت، 2005.

6- فاجعة كربلاء في الضمير العالمي الحديث - بیروت، 2009.

قيد الإنجاز

7- سلاما يا زهراء (المرأة الكاملة في الإسلام).

8- خيوط الشمس وعبق الشرق (شعر).

9- فلسفة الموت في الشرق والغرب.

10- رؤى في فلسفة الحب والجمال.

التنضيد والإخراج الفني

الكوثر

Agsatri@yahoo.com

ص: 544

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.