فكر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة

هوية الکتاب

رقم الإيداع في دار الكتب والوثائق العراقية 3005 لسنة 2018 مصدر الفهرسة : IQ-KaPLI ara IQ-KaPLI rda رقم تصنيف : LC BP38.09.H3 U73 2018

المؤلف الشخصي : العريض، جليل منصور – مؤلف.

العنوان : فكر الامام علي بن ابي طالب عليه السلام كما يبدو في نهج البلاغة / بيان المسؤولية : تأليف الدكتور جليل منصور العريض ؛ تقديم السيد نبيل الحسني.

بيانات الطبع : الطبعة الأولى.

بيانات النشر : كربلاء، العراق : العتبة الحسينية المقدسة، مؤسسة علوم نهج البلاغة، 2018 / 1439 للهجرة.

الوصف المادي : 784 صفحة ؛ 24 سم.

سلسلة النشر : (العتبة الحسينية المقدسة ؛ 478).

سلسلة النشر : (مؤسسة علوم نهج البلاغة، 148 سلسلة الرسائل الجامعية - تونس ؛ 28).

تبصرة ببليوجرافية : يتضمن ارجاعات ببليوجرافية. يتضمن هوامش، لائحة المصادر (الصفحات 751 - 782

موضوع شخصي : الشريف الرضي، محمد بن الحسين، 359 - 406 للهجرة – نهج البلاغة.

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – احاديث.

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – نظريته في السياسة.

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – نظريته في علم الاجتماع.

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – نظريته في علم الكلام.

موضوع شخصي : علي بن ابي طالب (عليه السلام)، الامام الأول، 23 قبل الهجرة- 40 للهجرة – بلاغته.

مصطلح موضوعي: البلاغة العربية.

مؤلف اضافي : الحسني، نبيل قدوري، - 1965 -- مقدم.

اسم هيئة اضافي : العتبة الحسينية المقدسة (كربلاء، العراق). مؤسسة علوم نهج البلاغة – جهة مصدرة.

عنوان اضافي : نهج البلاغة.

تمت الفهرسة قبل النشر ي مكتبة العتبة الحسينية

ص: 1

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

فِكرُ اِلإمَامِ عَليً ابِن ابی طالِبٍ

كَما يَبدو في نَهجِ البلاغَةِ

ص: 2

سلسلة الرسائل الجامعية - تونس وحدة الدراسات العقدية (28)

فِكرُ اِلإمَامِ عَليً ابِن ابی طالِبٍ كَما يَبْدُو فِی نَهْجِ البَلاغَةِ

تَالِیفُ الدّکتورجلیل منصور العریض

اِصدَار مُؤسَسَةَ عُلُومَ نَهِج اِلبَلَاغة فِی العَتبة الحُسَينية المَقَدسَّةِ

ص: 3

جميع الحقوق محفوظة للعتبة الحسينية المقدسة الطبعة الأولى 1439 ه - 2018 م العراق: كربلاء المقدسة - شارع السدرة - مجاور مقام علي الأكبر علیه السلام مؤسسة علوم نهج البلاغة هاتف: 07728243600 - 07815016633 الموقع:

www.inahj.org Email: Inahj.org@gmail.com

تنويه:

إن الأفكار والآراء الواردة في هذا الكتاب تعبر عن وجهة نظر كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر العتبة الحسينية المقدسة

ص: 4

مقدمة المؤسسة

الحمد لله على ما أنعم وله الشكر بما ألهم والثناء بما قدم، من عموم نعم ابتدأها وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن والاها، والصلاة والسلام على خير الخلق أجمعين محمد وآله الطاهرين.

أما بعد:

فلم يزل كلام أمير المؤمنين علیه السلام منهلاً للعلوم من حيث التأسيس والتبيين ولم يتقصر الأمر على علوم اللغة العربية أو العلوم الإنسانية، بل وغيرها من العلوم التيتسير بها منظومة الحياة وإن تعددت المعطيات الفكرية، إلا أن التأصيل مثلما يجري في القرآن الكريم الذي ما فرط الله فيه من شيء كما جاء في قوله تعالى:﴿مَا فَرَّطْنَا فِی الْكِتَابِ مِنْ شَیءٍ﴾ ، كذا نجد يجري مجراه في قوله تعالى:﴿وَكُلَّ شَیءٍ أحْصَيْنَاهُ فِی إمِامٍ مُبيِنٍ﴾ ، غاية ما في الأمر أن أهل الاختصاصات في العلوم كافة حينما يوفقون للنظر في نصوص الثقلين يجدون ما تخصصوا فيه حاضراً وشاهداً فيهما، أي في القرآن الكريم وحديث العترة النبوية علیهم السلام فيسارعون وقد أخذهم الشوق لإرشاد العقول إلى تلك السنن والقوانين والقواعد والمفاهيم والدلالات في القرآن الكريم والعترة النبوية.

من هنا ارتأت مؤسسة علوم نهج البلاغة أن تتناول تلك الدراسات الجامعية

ص: 5

المختصة بعلوم نهج البلاغة وبسيرة أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام وفكره ضمن سلسلة علمية وفكرية موسومة ب(سلسلة الرسائل الجامعية) التي يتم عبرها طباعة هذه الرسائل وإصدارها ونشرها في داخل العراق وخارجه، بغية إيصال هذه العلوم الأكاديمية الى الباحثين والدارسين وإعانتهم على تبين هذا العطاء الفكري والانتهال من علوم أمير المؤمنين علي علیهم السلام والسير على هديه وتقديم رؤى علمية جديدة تسهم في إثراء المعرفة وحقولها المتعددة.

وما هذه الدراسة الجامعية التي بين أيدينا لنيل شهادة الدكتوراه إلا واحدة من تلك الدراسات التي وفق صاحبها للغوص في بحر علم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام فقد أذن له بالدخول إلى مدينة علم النبوّة والتزود منها بغية بيان أثر تلك النصوص العلوية في الإثراء المعرفي والتأصيل العلمي فبزغ مكنزاً علمياً اتخذ من فكر أمير المؤمنين علیه السلام منبعاً لما اشتمل عليه من معارف تحاكي المجتمع لتكون له بلسماً، وتقرأ التاريخ لتكون عليه شاهداً؛ إذ نهل الباحث من سطور كتاب نهج البلاغة محطّات فكرية تعد من أساسيات بناء المجتمع في كل زمان ليقرأ، الفكر السياسي بنضجه اليانع، والفكر الاقتصادي بسمته النافع، والفكر الأخلاقي بصوته الدافق، فبرزت آليات ومعالجات إذا ما اتبعت كان النجاح حليف متبعها كيف لا ومصدرها سيد البلغاء وإمام المتقين.

فجزى الله الباحث خير جزاء المحسنين والحمد لله رب العالمين.

السيد نبيل الحسني الكربلائي رئيس مؤسسة علوم نهج البلاغة

ص: 6

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام (ت 40 ه) من أبرز أعلام التاريخ الإسلامي، كلّفه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالكثير من جلائل المهمات المتعلقة بروح الدعوة، فأثبت جدارته وصدق إيمانه، وسعة اطلاعه، كما عوّل أبو بكر وعمر وعثمان على الأخذ بمشورته في الكثير من القضايا السياسية، واعتمدوا على فتاويه الفقهية، بالإضافة إلى توليه الخلافة لفترة دامت خمس سنوات(35 - 40 ه / 656 - 661 م) كان خلالها سيفاً مسلطاً على الفتنة الكبرى التي أودت بحياة عثمان بن عفان، ومن ثم قسّمت المسلمين إلى فرق متناحرة، فكانت حياته ضحية لذلك التناحر، وهو إلى جانب كل ذلك منبع النحلة الشيعية، والبطولات الأسطورية، والمثال المحتذى في الفصاحة والبلاغة.

ولقد تناولت كثير من الدراسات شخصه بالبحث والدراسة، إلا أنها لم تتمكن من الإلمام بكل جوانبه، ولا سيما الجوانب الفكرية التي تضمنها كتاب (نهج البلاغة) الجامع لما أُثر عنه علیه السلام من خطب ورسائل وعهود وحكم، وذلك ما حدا بي إلى اختيار(فكر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام كما يبدو في نهج البلاغة)

ص: 7

موضوعاً لدراستي.

فمن المعلوم أن هدف الشريف الرضي (ت 406 ه) من جمعه لنهج البلاغة تبيان فصاحة الإمام علي علیه السلام ومقدرته البلاغية، فقد وصفه في مقدمته بأنه (مشرع الفصاحة وموردها ومنشأ البلاغة ومولدها).

وبسبب ما حواه النهج من نصوص صرّح الإمام علیه السلام فيها بأحقيته في خلافة المسلمين دون غيره من الصحابة، وما تضمنته نصوص أخرى من وصف لأمور مستقبلية ومن تجسيد رائع وبراعة أسلوبية في وصف بعض الحشرات والطيور والحيوانات، فقد شك بعض الدارسين في نسبته إلى الإمام علي علیه السلام واتهموا الشريف الرضي بتلفيقه، كما قال بعضهم إن الكتاب من وضع أخيه الشريف المرتضى، وزعم آخرون أنه من صنع بعض علماء الشيعة فتصدى دارسون آخرون لدفع التهم عن (النهج) بإرجاع ما ورد فيه من نصوص إلى اصولها بتصحيح نسبتها إلى علي علیه السلام من ناحيتي المتن والإسناد، بإثبات سلسلة الرواة، والمصادر التي استخرجت تلك النصوص منها، وتوضيح ما طرأ على رواياتها من تصحيف وتحريف بسبب تقادم العهد بين قائلها وناسخها، وتعدد رواتها مما لا يقدح في نسبة جلّها إن لم يكن كلّها إلى علي بن أبي طالب علیه السلام.

فبالإضافة إلى ما يمكن الاطلاع عليه من لمحات توثيقية من جامع

(النهج) لنصوص قليلة فيه، فقد بذل ابن أبي الحديد (ت 656 ه) جهداً كبيراً في توثيق الكثير منها كما بذل ميثم البحراني (ت 679 ه) جهداً لا بأس به في ذلك الصدد، كما تصدى الكثير من الدارسين المحدثين لعملية التوثيق تلك، منهم عبد الحسين الأميني في كتابه (الغدير) وامتياز عليخان العرشي في كتابه (استناد نهج البلاغة) والهادي كاشف الغطاء في القسم الثاني من كتابه (مستدرک نهج

ص: 8

البلاغة)، وعبد الله نعمة في كتابه (مصادر نهج البلاغة) وعبد الزهراء الحسينيفي كتابه (مصادر نهج البلاغة وأسانيده).

أما الدراسات التي قامت على (نهج البلاغة) وأنشئت حوله، فقد اقتصرت على شروحه، وتوضيح أساليبه اللغوية، ودراسة لبعض جوانبه البلاغية، دون الوقوف على ايحاءاتها وتأثيراتها، ودون الالتفات لما تحويه نصوصه من قضايا سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية وتربوية، ودون ربط الأشكال التعبيرية بالمواقف والقرارات والأحكام التي أُثرت عن الإمام علي علیه السلام.

فمن الشروح القديمة لنهج البلاغة: (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) لسعيد بن هبة الله الرواندي (ت 573 ه) وهو لا يعدو كونه شرحاً لمفرداته اللغوية مع ذكر بعض الحوادث التاريخية الجزئية المتعلقة ببعض النصوص.

ومنها: شرح ابن أبي الحديد (ت 656 ه) وهو من أطول الشروح القديمة، وقد غلبت عليه الصبغة التاريخية لاستئثار تفصيل الحوادث وشرح المعاني بمعظمه، مع الخوض في بعض القضايا اللغوية والبلاغية الجزئية، ومقارنة أسلوب الإمام علي علیه السلام بأسلوب قدامى الشعراء والناثرين، بغرض تبيان سيطرته على اللغة، وحسه في اختيار الاساليب الملائمة لمقتضى الحال، هذا بالإضافة إلى وقوف الشارح وكان معتزلياً عند النصوص التي توافق آراء المعتزلة، مسهباً في شرحها وتقليب معانيها ومقارنتها بما جاء عند الشيعة من تأويلات لها.

أما (شرح نهج البلاغة) لميثم البحراني (ت 679 ه) فيغلب عليه الطابع الصوفي الوعظي، مما يجعله بعيداً في معظمه عن دارسة فكر الإمام علي علیه السلام.

هذا وقد تصدى الكثير من الدارسين المحدثين للبحث في (نهج البلاغة) بتحقيقه وشرحه وفهرسته، وتبيان ما حوته نصوصه من معانٍ، إلا أنهم لم يبحثوا

ص: 9

في جوانبه الفكرية الثرَّة، إما لاختيارهم منهجاً سريعاً مبسطاً وإما لاقتصارهمعلى النظرة التاريخية دون التعمق في ملابستها، وإما بسبب المطالعة السريعة في نصوصه أثناء البحث فيها، وإما بسبب تغلب العاطفة المذهبية على المنهج العلمي.

فشرح الشيخ محمد عبده لنهج البلاغة، هو تفسير مختصر لمفرداته اللغوية دون دراسة النصوص أو حتى التعليق عليها الا فيما ندر.

أما (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) لميرزا حبيب الله الخوئي، فهو استعراض لما سبق من شروح، حاول فيه المؤلف إبداء وجهة نظره في معظم ما ورد في تلك الشروح من آراء خاصة ما ورد منها عند ابن أبي الحديد، هذا بالإضافة إلى اهتمامه بالاعراب والوقوف على الكثير من المسائل الفقهية وإبداء الرأي فيها من وجهة نظر الشيعة الإمامية وترجمة النصوص للغة الفارسية، ولم يتعرّض الشارح بصورة مباشرة إلى فكر الإمام علیه السلام الا في لمحات خاطفة، لاعتماده اساساً على الشرح والتفسير، والاستناد في استنتاجه إلى ما جاء عند الشراح السابقين.

ومن شروح النهج الحديثة أيضا: (في ظلال نهج البلاغة) لمحمد جواد مغنية، وهو عبارة عن تفسير لمفرداته، وإعراب لبعض جمله، وشرح معانيها والربط - في بعض - الأحيان بين إيحاءات النصوص وواقع الأمة الإسلامية المتفكك اليوم، مركزاً على قيمة نصوص النهج من حيث حفز الهمم، وبث اليقظة في النفوس، لذا لم يتناول الشارح قضايا الفكر، إلا بشكل هامشي، لأنه أراد لشرحه الانتشار بين جميع طبقات القراء في الأمة الإسلامية ليحقّق هدفه في إيقاظها، بإثارة الحمية وبثّ الحماس، كما أشار في مقدمته.

ومن أحدث الدراسات التوثيقية وأضبطها: (نهج البلاغة) بضبط المقدمة

ص: 10

وفهرسة أستاذنا الشيخ صبحي الصالح رحمه الله، لتميّز الدراسة بمقدمةضافية عن تاريخ النهج، وقيمته العلمية والأدبية، وما انتاب نسخه المخطوطة من تصحيف وتحريف، مع تعريف بالنسخ الموثقة التي اعتمدها الدارسون المحدثون ممن سبقه في شروحهم، إلى غير ذلك من ملاحظات ذات صلة وثيقة بالتحقيق. والدراسة في مجملها ذات فائدة لبحثنا في النهج وكيفية استخراج نصوصه، الا أنها لا تمدنا بشيء على الاطلاق مما نحن بصدد دراسته من أفكار وآراء في النهج.

ومن الكتب التي تعرضت لدراسة بعض جوانب النهج: (دراسات في نهج البلاغة) لمحمد مهدي شمس الدين، وهي على العموم دراسة جادة، بَحَثَ المؤلف من خلالها بعض القضايا الاجتماعية وأخرى اقتصادية وسياسية، ولكن اهتمامه بالشرح والتفسير والوعظ دون التحليل حال دون تعمّقه في دراسة النصوص التي اختارها لدراسته، هذا بالإضافة إلى الاختصار الشديد التي تميزت به أحكامه، واللّهجة الحماسية الخطابية التي طغت على أسلوبه لكون الدراسة جاءت من وجهة نظر شيعية.

أما دراسة علي آل ابراهيم: (في رحاب نهج البلاغة) فلا تتعدى كونها شرحاً لبعض نصوص النهج، عزّزه المؤلف بآيات من القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، والشعر والتاريخ، لكنه لم يتعرض فيما اختاره من نصوص لما حوته النصوص من أفكار، إضافة إلى طغيان العاطفة الشيعية على كثير من جوانب الدراسة، لأن صاحبها هو أيضاً من الشيعة الإمامية.

علاوة على ذلك فإنني - بحسب إمكاناتي المتاحة في مجال البحث لم أجد في

ص: 11

سجلات الجامعات العربية التي تسنى لي الاطلاع عليها، رسالة علمية أو بحثاً جامعياً في (نهج البلاغة) أو في فكر الإمام علي علیه السلام مما حفّزني على المضي فيما انابصدده من البحث فيما تضمنه نهج البلاغة من فكر، واضعاً في الاعتبار ما ينتاب المكتبة العربية من نقص في الدراسات النثرية التطبيقية، إذ لا تتعدى معظم الدراسات التي قامت حول النص النثري القديم مجال الوصفية، والوقوف عند القضايا الجزئية، أو الهامشية المبنية على أحكام مسبقة في أغلب الأحيان بالنظر في فحوى النصوص على ظاهر معانيها، دون إجالة النظر فيها، مع تبني أحكام ذات طابع استشراقي في غالب الاحيان، تحتاج إلى تثبت وتمحيص وقد وقفت عند الكثير من تلك الأفكار في مواضعها محاولاً مناقشتها.

وبالنسبة للتاريخ فقد كان تعويل الدراسة عليه، لا كمجرد وقائع مسرودة في اطارها الزمني الذي حدثت فيه، بل كعنصر اضاءة لكشف واقعٍ بالإمكان تلمّسه وادراك ابعاده من خلال ومضات سريعة في ركام سرد الحوادث المفتعل الذي تصوَّر وجهات نظر معينة، غايتها إسباغ الشرعية على أحداث لدعائم نظام معين أو تثبيته، لذلك خَفَتَ ضمن ذلك السرد صوت الشعوب، وغابت في خضمّ عبارات التمجيد آلام المستضعفين، في حين ان نهج البلاغة في الكثير من نصوصه، وقف على كشف جوانب من هذه الحقيقة التي تهمّ معظم ميادين السياسة والاجتماع والأخلاق والتربية، لكون نصوصه صادرة عن شاهد عيان ثقة، عايش أحداث تاريخ صدر الإسلام معايشة مباشرة منذ بزوغ الدعوة حتى الوقت الذي تمخّض بالنقلات الحضارية الخطيرة التي كان مؤدّاها في نهاية المطاف تحول الخلافة الإسلامية إلى مُلك وراثي.

تتركب رسالتنا من خمسة أبواب:

ص: 12

اختص الباب الأول بدراسة ما دار حول نصوص نهج البلاغة من جدل في مدى صحة نسبتها لعلي علیه السلام على أساس أن الدراسة في هذا الباب هي المرتكزالأساسي الذي يمكننا الانطلاق منها نحو الأبواب الأربعة الأخرى، من خلال النظّر في النصوص مصدر الدراسة، ومحاكمتها في ضوء الآراء المثبتة والآراء النافية التي دارت حولها، تمكنت الدراسة من إثبات نسبة جلها -ان لم تكن كلها - لعلي علیه السلام وكانت خاتمة الباب دراسة مقتضبة في قيمة نهج البلاغة الأدبية والتاريخية والفكرية متبوعة بجدولة تضمنت مطالع نصوصه بحسب ورودها فيما أمكننا العثور عليه من نسخ متداولة مشهورة، مع محاولة توثيق النصوص من المصادر المعتبرة السابقة للشريف الرضي، والمعاصرة له، والمتأخرة عنه، مع محاولة تلافي ما وقع فيه الموثقون السابقون من عيوب توثيقية.

وعرض الباب الثاني لدراسة الفكر السياسي في نهج البلاغة، وذلك في ثلاثة فصول:

أنفرد الفصل الأول بدراسة مفهوم الإمامة في فكر علي علیه السلام، مع عرض لفكر الحكومة واهميتها، ونشأتها والفرق بين مفهومها ومفهوم الدولة، ومن ثم علاقة الدين بالدولة من وجهة نظر الإسلام في ضوء ما ورد من نصوص في النهج.

اما الفصل الثاني فقد انصبت الدراسة فيه على مواقف علي علیه السلام الفكرية تجاه عصره وعلاقته بالخلفاء الثلاثة قبله، وموقفه من المناوئين لحكومته أثناء خلافته، وذلك بهدي النصوص المتعلقة بذات الموضع في نواحيه المتشعبة.

واتخذ تصور علي علیه السلام لمؤسسات الدولة مكانة في الفصل الثالث، وعرض البحث في هذا الفصل إلى مفهوم الدولة وعلاقتها بالحكومة، وما يتولد عن اندماج المفهومين من قضايا سياسية تتعلق بالولاة والوزراء والجيش والقضاء

ص: 13

وبيت المال والعمال، وإدارة الدواوين والرقابة مع تعليق ختامي حول فكر علي علیه السلام السياسي بين المثال والواقع.

أما الباب الثالث من الدراسة، فقد خصصناه لفكر علي علیه السلام الاجتماعي وتناولناه بالدراسة في ثلاثة فصول أيضا:

أوقفنا الفصل الأول منه على دراسة حالة المجتمع الإسلامي عامة والمجتمع الكوفي على وجه الخصوص، وذلك في ضوء ما ورد من نصوص في النهج.

وعرضنا في الفصل الثاني لدراسة القيم الخلقية كما أوردها النهج، مع التركيز على دعائم خلقية ثلاث هي: العدل والحق والتقوى.

كمنابع أخلاقية أصيلة لجميع القيم الخلقية التي انبثت في جميع نصوص النهج تقريباً.

وقد أخذت التربية مكانة هامة في النهج، مما دعا إلى افراد الفصل الثالث لها وفيه حاولنا تحليل ما عرض له علي علیه السلام من أفكار تربوية فردية واسرية واجتماعية، مع محاولة الكشف عما حوته من مضامين خلقية واخرى تعليمية يحتاجها المجتمع لخلق نشء كفء من حيث الأخلاق ومن حيث الشعور بالمسؤولية، وقد ختمنا هذا الباب بوقفة تأملية سريعة حاولنا من خلالها التعرف على خلاصة الفكر الاجتماعي في النهج ومدى استجابة الطبقات الاجتماعية المختلفة لمثالية هذه الافكار.

وفي الباب الرابع تناولنا بالدراسة والتحليل الجانب الكلامي وما احتوى عليه نهج البلاغة من تأملات كونية وذلك في ثلاثة فصول فسلطنا الضوء في الفصل الأول منه على القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة في اربعة محاور رئيسة عرضت لها نصوص النهج وهي:

المقدمة

ص: 14

الخالق - الملائكة - الرسل - الإنسان.

وأفردنا الفصل الثاني لدراسة الفكر التأملي وتداعي الأفكار والغيبيات كماعرض لها (نهج البلاغة) فأخذت الأوصاف الطبيعية مكانتها، كما استوعبت دراسة تداعي الأفكار في تفسير آيات القرآن الكريم قسماً مهماً بجانب القضايا الغيبية، كما عرضت الدراسة في هذا الفصل إلى فكرة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) المشهورة كما عالجها النهج.

وفي الفصل الثالث عرضنا إلى نظرة علي علیه السلام إلى الحياة كما رسمت نصوص (نهج البلاغة) ملامحها، فكان لابد من تعمق فيها وصف به النهج من فكر صوفي وتحليل لمعنى الزهد بالتفريق بينه وبين التصوف مع اجلاء لمفهوم الزهد كما ورد في النصوص والتحليل المنطقي لذم الدنيا باستقراء ما أورده النهج في هذا الشأن.

أما الباب الخامس فقد خصصناه لدراسة الاساليب التعبيرية في نهج البلاغة، على اعتبار أن تلك الأساليب هي البوتقة الجامعة لتفرعات ذلك الفكر في شتى ميادينه، وقد بحثناها في ثلاثة فصول:

درسنا في الفصل الأول ما اسميناه تجوّزاً (الأنواع الأدبية التي وردت في النهج) وما تميز به كل نوع من هذه الأنواع من خصائص تفرد بها، إلى جانب سائر الأنواع المتداولة الأخرى المعروفة لدى العرب من أمثال وحِكم.

وطرحنا على بساط البحث - في الفصل الثاني - أبرز الخصائص الأسلوبية التي تميزت بها نصوص النهج، فكانت وقفتنا عند خصائص الجملة وكيفية آدماجها في النص وقيمتها كوحدة أساسية ضمن نسيجه في حالتي الفصل والوصل، إلى غير ذلك من خصائص ومميزات تكن في طريقة التنقل بين الأساليب الإنشائية

ص: 15

والأساليب الخبرية، وخصائص الجمل الاعتراضية والاخرى الحالية، ومميزات الجمل الشرطية.

أما الدراسة في الفصل الثالث فقد أوقفناها على أبرز الخصائص الفنية ممثلة في الصورة وقيمتها التأثيرية، وأبرز الخصائص التركيبية في الجرس والوقع والوزن.

هذا وقد سلكت في دراستي لفكر علي علیه السلام بمختلف شعبه منهجاً تكامليا فكان لتوثيق النصوص والتاريخ والدراسة الفنية جميعاً في الباب الأول، كما استوعب المنهج التاريخي في تحليل النصوص الباب الثاني من الدراسة، وأخذ المنهج الاجتماعي مكانته في الباب الثالث، وتصدرت قضايا الفلسفة والعقيدة مكانتها في الباب الرابع، وعولت في الباب الخامس على المنهج الفني بقضاياه الاسلوبية والبلاغية، وحاولت جاهداً أن أناغم بين تلك المناهج المختلفة بتوظيفها في كل متكامل ومتجانس.

هذا وقد كانت رحلتي شاقة وشائكة وعسيرة: شاقة لكونها انبنت على نص تضاربت الآراء حول صحته، وكان لابد من التحقيق في تلك القضية من جميع جوانبها وقد اقتضى ذلك مني النظر في كثير من المصادر والمراجع المخطوطة والمطبوعة.

وشائكة لأن من ضمن الموضوعات التي تعرض نهج البلاغة إليها قضية علاقة الدولة بالدين وقضية الإمامة واحقية علي علیه السلام فيها، وبعض قضايا العقيدة كالغيبيات، وفكرة المهدي المنتظر (عجل الله فرجه) وكان لابد من الوقوف عندها ومناقشتها في ضوء النصوص التي وردت في (نهج البلاغة) وما دار حول تلك الأفكار من جدل لها أو عليها وعسيرة لكثرة المصادر والمراجع،

ص: 16

وندرة ما فيها من المعلومات، وقلة الدراسات التطبيقية في مجال النثر التي كانت تساعدنا في تلمّس طريقنا فيما لو وجدت، بالإضافة إلى تشعب موضوعاتالبحث وتعدد مناحيها من حيث المعالجة، ومن ثم جمع تلك التشعبات في كل متجانس.

إلا أنني قد حاولت وبذلت ما في وسعي، فأرجو أن أكون قد وفقت، مع إيماني الراسخ بأن ما بذلته من جهد طوال خمسة أعوام، لم يكن إلا بداية لطريق طويل قد بدأته راجيا أن يتواصل في (نهج البلاغة) ذلك المنبع الثر والأصيل في مجالي البلاغة والفكر، راجيا قبول اعتذاري عن كلما بدر مني من تقصير. والله الموفق.

ص: 17

ص: 18

الباب الأول: نهج البلاغة

اشارة

- التعريف به

- توثيقه ودفع الشبهات عنه

- منهج الشريف الرضي ي تصنيف مواده

- قيمته:

- البلاغية والأدبية

- التاريخية

- الفكرية

ص: 19

ص: 20

التعريف بنهج البلاغة

لم ينل كتاب في العربية من الشهرة والانتشار ما ناله كتاب (نهج البلاغة) الذي جمع الشريف الرضي بين دفتيه الكثير مما أثر عن الإمام علي علیه السلام من خطبووصايا وعهود ورسائل وحكم ومواعظ. اما سبب تسميته ب (نهج البلاغة) فلأنه كما يقول جامعه «يفتح للناظر فيه أبوابها أي أبواب البلاغة ويقرب عليه طلابها»(1) ، لأن ما حواه ذلك الكتاب (عليه مسحة من العلم الالهي وفيه عبقة من الكلام النبوي)(2) . وجاء من بعد الشريف من تناول محتوى الكتاب بالشرح(3) فقال هبة الله الراوندي عن محتواه إنه (دون كلام الله

ص: 21


1- الشريف الرضي - خطبة كتاب نهج البلاغة
2- الشريف الرضي - خطبة كتاب نهج البلاغة
3- بشأن شروح (نهج البلاغة) قال محسن الامين في اعيان الشيعة 9/ 218: (لاقى من الشهرة والقبول ما هو أهله، و حُ بشروح كثيرة تنبو عن الاحصاء) وقال الهادي كاشف الغطاء في كتابه (مستدرك نهج البلاغة) ص 192 (شرح هذا الكتاب الجليل من فطاحل العلماء وجهابذة الفن ما يناهز الاربعين فاضلا بشروح موجزة ومسهبة وعربية وفارسية)، اما صاحب (مصادر نهج البلاغة) عبد الزهراء الحسيني، فقد وصف مئة وواحداً من الشروح القديمة والحديثة للنهج، مع ايراده ترجمة مقت ضبة لكل شارح من أولئك 1/ 202 - 254. وقد استعان في ذلك بموسوعة (الذريعة إلى تصانيف الشيعة) لمؤلفها: آغا بزرك الطهراني الذي ترجم في 10 / 111 وما بعدها لمئة وثلاثين شارحاً ولنهج البلاغة في العربية والفارسية والاردوية، كما أورد في 4/ 144 وما بعد ها ما يقارب من خمسة عشر ترجمة أردوية وفارسية للنهج. وفي معرض الحديث عنالنهج يقول حسن الامين في دائرة المعارض الإسلامية 3/ 437 (حظي هذا الكتاب من الأهمية والشأن ما لم يحظ به كتاب غيره على مر العصور واصبح ما له من الشروح ما بلغ (75) شرحاً في حساب بعض المؤلفين و (101) من الشروح في حساب مؤلف آخر. كما ذكر عبد اللطيف الكوهكمري في مقدمة تحقيقه ل (منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة) للراوندي (ت 573) - 36/1 - 49 - مئة واثني عشر شرحاً للنهج بين عربي وفارسي واردوي - واللغة الاوردوية مشتقة من (أردو) كلمة تركية الاصل معناها: الجيش وأول ما أطلق هذا الاسم على اللغة المعروفة، كان في أيام العاهل المغولي شاه جهان المتملك سنة 1037 ه ولكن اللغة نفسها كانت مستعملة قبل هذا العصر وكان يطلق عليها أكثر من اسم دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 4/ 47. وهذا اللغة قريبة في كتابتها من الفارسية وتحتوي على الكثير من الكلمات العربية مثلها في ذلك مثل اللغة الفارسية

ورسوله وفوق كلام البشر)(1) ، وفي نفس السياق قال عنه ابن أبي الحديد هو (دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق )(2) لقد فتح الشريف الرضي - بتأليفه النهج الباب واسعاً لدراسات متعددة الجوانب فلاقى كل طالب علم بغيته وكل صاحب نحلة ما يتناسب وعقيدته. فاهتم بحفظه «حملة العلم والحديث في العصور المتقدمة حتى اليوم، يتبركون بذلك الحفظ كحفظ القرآن والحديث الشريف، وعد من حفظته في قرب عهد المؤلف القاضي جمال الدين محمد بن الحسين بن محمد القاساني، فإنه كان يكتب نهج البلاغة من حفظه»(3) وجانب

ص: 22


1- الرواندي منهاج البراعة 1/ 4
2- ابن أبي الحديد شرح النهج 1/ 24
3- عبد الحسين الأميني الغدير 4/ 186

ثالث من الدراسات يتثمل في نظم بعض الشعراء للكثير من معاني النهج(1) اضافة إلى العديد من الدراسات التي اتخذت من بعض جوانبه منهجاً للدراسة، كشرح (الخطبة الشقشقية)(2) أو شرح «عهد الإمام للأشتر النخعي»(3) حين ولاه مصر، إلى غير ذلك من نصوص استقطبت آراء الباحثين والمفكرين لكن نهج البلاغة في رحلته الطويلة التي ربت على الالف عام، لم تكن طريقه خلواً من العراقيل، فمكانته في نفوس الشيعة، وما حواه من نصوص تصف واقع عصرها إلى غير ذلك من موضوعات تأملية واخرى فكرية، كل ذلك جعل مدونته موضع شك لدى طائفة من دارسي الأدب في القديم والحديث، وكان ذل الشك مثار جدل قامت عليه كثير من الدراسات والدراسات المضادة، مما يحتم علينا معرفة ما حوته تلك الدراسات من اراء وافكار تكننا من دراسة ما ورد في النهج من فكر بكل اطمئنان.

ص: 23


1- أشار إلى ذلك صاحب الذريعة إلى تصانيف الشيعة في موضعين 14 / 137،24 / 314
2- الخطبة الشقشقية المشهورة المشروحة بشروح كثيرة مستقلة الذريعة إلى تصانيف الشيعة 7/ 203 وقد ذكر لها محمد رضا الحكيمي في كتابه (شرح الخطبة الشقشقية) عشرة شروح، كما تحدث عنها وعن شروحها بإسهاب عبد الزهراء الحسيني في (مصادر نهج البلاغة) 1/ 309 حتى 324
3- ذكر آغا بزرك الطهراني عدة شروح لعهد الأشتر أثناء ذكره لشروح نهج البلاغة المختلفة في كتابه الذريعة 14 / 144 ، 146 ، 159 . كما شرح العهد في كتاب مستقل توفيق الفكيكي أسماه (الراعي والرعية) ومن أحدث الشروح للعهد كتاب (نظرية الحكم والادارة في عهد الإمام علي علیه السلام للأشتر) لعبد المحسن فضل الله. ولأستاذنا محمد خلف الله أحمد رحمه الله دراسة قيمة في توثيق العهد وقيمته السياسية وهي بعنوان (وثيقتان من الأدب الإسلامي السياسي في وظيفة الراعي ومسؤولياته ص 25 44) ذكرت ضمن كتاب (في العروبة وآدابها) من منشورات معهد البحوث التابع للمنظمة العربية للتربية والثقافة و العلوم

ص: 24

توثيق نهج البلاغة

تاريخ الشك ي نصوص نهج البلاغة:

أنهى الشريف الرضي (ت 406) جمعه لنصوص (نهج البلاغة في شهر رجب سنة اربعمئة للهجرة كما أشار في نهاية الكتاب(1) ، وصدر أول شرح له في حياته لمعاصره علي بن ناصر (ت القرن الرابع) بعنوان (أعلام نهج البلاغة)(2) ، ويبدو أن هناك شرحاً آخر لأبي الحسن علي بن القسم البيهقي (ت 565)(3) يعني كل ذلك انتشار النهج وشروحه على نطاق واسع أثناء حياة جامعه وأن شهرته تلك سببت له القيل والقال من لدن من كانوا يناصبون الشيعة العداء على الرغم من اطلاعهم على مصادره التي استقى الشريف الرضي مادته منها بشهادة الجاحظ ان (هذه خطب رسول الله محفوظة ومخلدة مشهورة وهذه خطب أبي بكر وعمر

ص: 25


1- راجع خاتمة نهج البلاغة في أية طبعة من طبعاته
2- محسن الأمين - اعيان الشيعة 8/ 363 ، عبد الزهراء الحسيني -مصادر النهج 1/ 203
3- راجع ترجمته: الحموي معجم الأدباء 13 / 219 وقد ذكر شرحه الذي اسماه (معارج نهج البلاغة) ص 225

وعثمان وعلي علیه السلام(1) .

إلا أن الشك في النهج كان يجري في الهمس دون الإجهار به، حتى جاء عصر ابن خلكان (ت 681)، فأثار القضية جهاراً(2) ، وذلك في كتابه (وفيات الأعيان) الذي فرغ من تأليفه سنة اثنتين وسبعين وستمائة ، أما القول الذي جهر به تجاه النهج فهو «قد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة) المجموع من كلام علي بن أبي طالب علیه السلام، هل هو من جمعه أو من جمع أخيه؟ وقد قيل: إنه ليس من كلام علي علیه السلام وإما الذي من جمع ونسبه إليه هو الذي وضعه»(3) فابن خلكان هو أول من جهر بقضية الشك في النهج وذلك بعد مرور ما يقارب من مئتين واثنتين وسبعين سنة من جمعه، أي بعد أن اتلفت الفتن المتلاحقة

ص: 26


1- البيان والتبيين 1/ 201
2- راجع ترجمته ومصادرها في مقدمة كتاب (وفيات الأعيان) 1/ 5 بتحقيق إحسان عباس ويرى الكثير ممن ألّف في (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) ان الشك في نصوصه قد بدا في القرن السادس الهجري - عليخان العرشي استناد نهج البلاغة ص 3، ومنهم من يلصق تهمة الشك في ابن خلكان - عبد الزهراء الحسيني مصادر النهج 1/ 102 ، عبد الله نعمه مصادر النهج ص 22 . ونحن لا نوافقهم على ذلك، لأننا نعتقد ان قضية الشك في نسبة (نهج البلاغة إلى علي بن أبي طالب علیه السلام أبعد بكثير من عصر ابن خلكان، ونرجح ظهورها في الخفاء دون الإعلان عنها منذ بداية صدوره ابان حياة جامعه. ولكن ابن خلكان هو أول من روج لذلك مجاهرة وفي مقولته ما يؤيد صحة راينا، ومما يعضد ما نذهب إليه أيضاً محاولة الراوندي (ت 573) في (منهاج البراعة) ذكر أسانيد بعض خطب النهج، كما ناقش ابن أبي الحديد (ت 655) تهمة الشك في موضعين من شرحه: 1/ 205 ، 128/3، ووثق كثيراً من نصوص أيضاً. وكلا المؤلفين قد سبقا ابن خلكان (ت 681) بتأليف شرحيهما وعليه فإن نسبة الشك لم تكن من اختراعه وانما هو المروج لها في العلن. وفيات الاعيان 7/ 258
3- السابق

على بغداد وحواضر العالم الإسلامي جل المكتبات، وبعد أن قضى التتار على ما خلفه الفكر الإسلامي من كتب في هجومهم على بغداد، وهذا بطبيعة الحال يحدو بنا إلى التروي، وعدم أخذ الأمور على علاتها قبل الشروع في مناقشة تلك القضية الخطيرة.

بغض النظر عما قيل عن سيرة ابن خلكان(1) يجدر بنا أن نقف على عصره وندرس خلفيات ذلك ليتسنى لنا البت فيما ألصقه بنهج البلاغة من اتهام، إذ إننا لا نستبق الحوادث إذا قلنا إننا لا نشك إطلاقا في نسبة نصوص النهج لعلي بن أبي طالب علیه السلام، ولو لا ذلك لما اقدمنا على دراستها كمنبع لفكر ذلك الصحابي الجليل.

عاش ابن خلكان في ظل الدولة الأيوبية، ومماليكها البحرية، فهو قاضي القضاة بمصر والشام(2) في عهد الظاهر بيبرس، الذي قال عنه ابن العماد (لو لا ظلمه وجبروته في بعض الأحايين لقدر من الملوك العادلين)(3) علمًا بأن نهاية الفاطميين الشيعة كانت على يد الأيوبيين ومماليكهم، فعلى يد صلاح الدين الأيوبي كانت نهاية الخلافة الفاطمية في مصر بعد أن قطع الخطبة في الديار المصرية للعاضد لدين الله (ت 567) وأقامها للمتقي العباسي (4) فكانت بداية التنكيل بالشيعة في مصر (فقد غالى الأيوبيون في القضاء على كل

ص: 27


1- راجع الكتبي فوات الوفيات 1/ 113. وتزيين الأسواق في اخبار العشاق للانطاكي 2/ 337 فقد عداه عشاق الغلمان
2- راجع السابق 1/ 110
3- شذرات الذهب 5/ 350
4- راجع ابن الأثيرالكامل في التاريخ 9/ 111

أثر للشيعة في مصر)(1) .

في تلك البيئة المشحونة بالعداء ضد الشيعة عاش ابن خلكان مما جعله يقلب كثيراً من الحقائق التاريخية. ففي الوقت الذي تشيد فيه المصادر التاريخية باهتمام الفاطميين بالعلم والأدب يقول هو «لما ملك السلطان صلاح الدين الديار المصرية لم يكن بها شيء من المدارس، فإن الدولة المصرية كان مذهبها الإمامية فلم يكونوا يتولون بهذه الأشياء»(2) متناسياً الأزهر الشريف ودوره القيادي في نشر العلم بالقاهرة المعزية، فلقد خصص الفاطميون فيه «لكل مذهب من المذاهب الإسلامية كرسيا لتدريس ذلك المذهب، وقد كان عدد الطلاب يتفق مع انتشار ذلك المذهب في مصر والبلاد العربية »(3) ، مما يعني تَرْك الفاطميين للسنة حرية تدريس مذاهبهم فشجع ذلك العلماء على اختلاف مذاهبهم على الرحلة إلى مصر واستيطانها و التدريس فيها، فممن قاموا بالتدريس في الأزهر على عهد الفاطميين من فقهاء الشافعية أبو الفضل محمد بن عيسى البغدادي (ت 441)(4) وأبو الفتح سلطان بن إبراهيم المقدسي (ت 518)(5)، وأبو الحجاج يوسف بن عبد العزيز (ت 523)(6) . ومن فقهاء المالكية عبد الوهاب بن علي (ت 422) وقد ذكر العماد الحنبلي كيفية تحوله إلى مصر(7) والفقيه أبو

ص: 28


1- خفاجي - الأزهر في ألف عام 1/ 58 الشيعة والحاكمون ص 191
2- وفيات الأعيان 7/ 206
3- الأمين دائرة المعارف الإسلامية الشيعية 11 / 359
4- العماد الحنبلي - شذرات الذهب 3/ 267
5- السابق 4/ 58
6- السابق 4/ 67
7- السابق 4/ 223

بكر الطرطوشي (ت 520)(1) وغيرهم كثير، فقد «كان في مصر والشام كثيرمن الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية، وكانوا لا يرون التشيع»(2) .

ويحدثنا ناصر خسرو عن الحركة الثقافية في عهد المستنصر الفاطمي، وذلك أثناء وصفه لجامع عمر وبن العاص فيقول «يقيم بهذا المسجد المدرسون والمقرئون، وهو مكان اجتماع سكان المدينة، ولا يقل من فيه في أي وقت عن خمسة آلاف من طلاب العلم والغرباء والكتاب»(3) فلم تقتصر الحركة العلمية في العهد الفاطمي على الجوانب الدينية بل شملت جميع حقول الثقافة. فاهتمام الفاطميين بالطب جعلهم يغدقون عليه بسخاء، وتقلد الأطباء المناصب العالية في الدولة، ومما ساعد على تقدم دراسته «إنه أصبح يدرس نظرياً وعملياً في المارستانات»(4) . كما افسح الفاطميون المجال لعلوم الفلك ومن أبرز مظاهراهتمامهم بذلك المرصد الذي شيده الحاكم بأمر الله الفاطمي (ت 411) على جبل المقطم(5) ويطول بنا البحث لو استعرضنا انجازات الفاطميين في حقل الثقافة والعلم. فمكتبات العهد الفاطمي من أهم معالم الحضارة الإسلامية فقد قيل إن في مكتبة العزيز الفاطمي «من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلدات ويسير من المجردات منها في الفقه على سائر المذاهب، والنحو واللغة وكتب الحديث والتواريخ وسير الملوك والنجامة، والروحانيات

ص: 29


1- السابق 4/ 62
2- أحمد أمين ظهر الإسلام 1/ 197
3- سفرنامه 102 ترجمة يحيى الخشاب
4- حسن إبراهيم تاريخ الإسلام السياسي 3/ 441
5- جرجي زيدان تاريخ التمدن الإسلامي 3/ 212

والكيمياء، من كل صنف....»(1) فقول ابن خلكان بعدم اهتمام الفاطميين بالمدراس والثقافة فيه اجحاف بحقهم ويرجع ذلك - في اعتقادنا - إلى تعصبهالشديد ضد التشيع، وهو في هذا يعكس وجهة نظر أسياده من الأيوبيين والمماليك تجاه الفكر الشيعي بمحاربته بشتى الوسائل لطمس معالمه. من ذلك اتلافهم الكتب التي بذل الفاطميون الأموال الكثيرة لاستجلابها من جميع أرجاء المعمورة. فبعد ضعف الدولة الفاطمية وانتقال السلطة الفعلية للأكراد والمماليك أصاب خزائن الكتب تلك (من الاحن بتوالي الفتن ما اصاب مكتبة الإسكندرية... فألقي بعض كتبها في النار، والبعض الآخر في النيل، وترك بعضها في الصحراء فسفت عليها الريح حتى صارت تلالا عرفت بتلال الكتب، واتخذ العبيد من جلودها نعالا مما يطول شرحه، وبالاجمال فقد طرح ما بقى منها، عند دخول الأكراد للبيع في أواسط القرن السادس)(2) . فموقف صحاب (وفيات الاعيان) من

(نهج البلاغة) لا يحتاج إلى تأويل، فما هو إلا جزء من تلك الحملة الشعواء ضد الشيعة وضد كل ما يمت إليهم بصلة في مصر بعد أفول نجم الفاطميين، ولما كانت مقولته تلك قد فتحت باب القول بالشك في نسبة (نهج البلاغة) لعلي بن أبي طالب علیه السلام عند من تناوله بالدرس من بعده، فلابد من الوقوف عندها لمناقشتها.

فمن الملاحظ أن تلك المقولة انبنت على ثلاث نقاط:

الأولى: قد اختلف الناس في كتاب (نهج البلاغة).

الثانية: هل هو جمعه - أي الشريف المرتضى - أم جمع أخيه الرضي.

ص: 30


1- المقريزي 1/ 409
2- جرجي زيدان السابق 3/ 229

ثالثة: وقد قيل انه ليس من كلام الإمام علي علیه السلام، وإنما الذي جمعه ونسبه إليه(1) هو الذي وضعه.

بالنسبة إلى النقطة الأولى: لم يذكر ابن خلكان أولئك الناس أو حتى بعضاًمنهم، إذ كان من المفروض وهو يطرح مثل تلك القضية الخطيرة أن يسمي ولو واحداً من أولئك الناس الذين اختلفوا في )نهج البلاغة( خاصة وأنه لم يعودنا في كتابه على ذلك، حيث كان يستعمل أساليب الإسناد المختلفة مثل (حدثني، سمعت، قال لي....)، في المواضع التي تحتاج إلى ذلك، فتركه هذا الموضع بالذات في كتابه من دون اسناد يجعله موضع اتهام بالتعصب.

وبالنسبة إلى النقضة الثانية: لا نعتقد ان ابن خلكان ومن دار في فلكه(2) لم يقرأوا مقدمة (نهج البلاغة) ليعرفوا جامعه، وان لم يتيسر لأحدهم ذلك فلا نعتقد أن أحدا منهم لم يطلع على مؤلف من مؤلفات الرضي المتداولة في ذلك العصر، جاء في مقدمة النهج) إني كنت في عنفوان السن وعضاضة الغصن،

ص: 31


1- يقول ابن خلكان في وفيات الاعيان 3/ 313 إن جامع (نهج البلاغة) هو الشريف المرتضى وليس الشريف الرضي، وقد أخذ بذلك الزعم كل من اليافعي (ت 768) في مرآة الجنات 3/ 55 وابن العماد الحنبلي (ت 1089) في شذرات الذهب 2/ 257 ، وقال الذهبي (ت 748) في سير أعلام النبلاء 17 /589 «قلت هو - أي الشريف المرتضى جامع كتاب (نهج البلاغة) المنسوبة ألفاظه إلى الإمام علي علیه السلام ولا أسانيد لذلك، وبعضها باطل، وفيه حق ولكن فيه موضوعات حاشا للأمام النطق بها ولكن أين المنصف؟ وقيل بل جمع أخيه الشريف الرضي» وقد أخذ بنفس العبارة تقريباً ابن حجر العسقلاني (ت 852) في (لسان الميزان) 4/ 233 . كما أخذ بالرأي ذاته - من المحدثين: بروكلمان تاريخ الأدب العربي 2/ 64 ، جرجي زيدان تاريخ آداب اللغة العربية 599/2
2- المصدر السابق

ابتدأت بتأليف كتاب في خصائص الأئمة علیهم السلام)(1) وكتاب (خصائص الائمة) الذي ذكرته المقدمة من مؤلفات الرضي التي لا يشك فيها، كما أن امتياز عليخان العرشي يذكر أنه «توجد (من خصائص الأئمة) نسخة ثمينة قديمة في مكتبة رامبور، في ختامها إن كاتبه عبد الجبار بن عبد الحسين بن أبي القاسمالفراحاتي، فرغ من كتابتها سنة 553 ه وكتب الكاتب نفسه بخطه: كتاب خصائص الأئمة الإثني عشر علیهم السلام من تصنيف السيد الإمام الرضي ذي الحسبين أبي الحسن محمد بن الحسين بن موسى الموسوي رضي الله عنه »(2) ثم أن كتب الشريف الرضي التي بين ايدينا تؤيد صحة نسبة جمع (نهج البلاغة) إليه من ذلك قوله في المجازات النبوية (ويبين ذلك قول أمير المؤمنين علي علیهم السلام في كلام له: تخففوا تلحقوا، وقد ذكرنا في كتابنا الموسوم (بنهج البلاغة) الذي أوردنا فيه مختار جميع كلامه صلى الله عليه وعلى الطاهرين من أولاده)(3). كما انه قد أشار إلى كتابه (المجازات النبوية) في نهج البلاغة بقوله (وقد تكلمنا على هذه الاستعارة في كتابنا الموسوم بمجازات الآثار النبوية)(4) وفي ذلك دلالة واضحة على الرابطة الوشيجة بين الكتابين، لأنهما يعالجان موضوعاً واحداً هو البلاغة وأنهما لمؤلف واحد هو الشريف. مما يؤكد أن جامع النهج هو الشريف الرضي وليس أخاه الشريف المرتضى(5) فجميع من ترجموا للمرتضى لم يذكروا

ص: 32


1- مقدمة الشريف الرضي لنهج البلاغة
2- استناد نهج البلاغة ص 7
3- المجازات النبوية ص 41 وقد تكررت الإشارة إلى نهج البلاغة أيضاً في ص 140 ، 171
4- وردت العبارة أثناء تعليقه على الحكمة رقم 475 في نهج البلاغة
5- يلاحظ أننا قد استعملنا كلمة (جامع) وليس كلمة (مؤلف) لازالة اللبس الذي اختلقه شوقي ضيف في قوله (يذهب النجاشي المتوفي سنة 450 للهجرة في كتابه (الرجال) إلى ان مؤلف الكتاب وهذا صحيح بشهادة الرضي نفسه وشهادة شراح كتابه، فقد ذكر في كتابه (مجازات الاثار النبوية) ونجد ابن أبي الحديد المتوفي سنة 655 في شرحه للكتاب يعترف بأن خطبته من عمل الشريف الرضي، ويذهب ابن ميثم البحراني إلى أنه من تأليف الشريف الرضي. إذن فالكتاب من عمل الشريف الرضي وصنعه ويظهر أنه لم يؤلفه جميعاً فقد أضاف قبله كثير من أرباب الهوى وفصحاء الشيعة خطباً وأقوالاً إلى علي بن أبي طالب علیه السلام ويدل على ذلك ما جاء في مروج الذهب للمسعودي 2/ 431 إذ يقول: (الذي حفظ الناس عن علي علیه السلام من خطبه فيسائر مقاماته أربعمائة خطبة ونيف وثمانون خطبة يوردها على البديهة تداول الناس ذلك عنه قولاً وعملاً) وكان الشريف الرضي وجد مادة صاغ منها كتابه، وهي مادة بنيت على السجع وفي ذلك نفسه ما يدل على كذب نسبتها إلى علي علیه السلام، وليس من الطبيعي أن يسجع علي في خطابته بينما ينهى الرسول الكريم صلی الله علیه و آله وسلم ويتحاشاه أبو بكر وعمر وعثمان في خطابتهم) الفن ومذاهبه في النثر العربي، ص 62 . فالشريف الرضي لم يقل إن كتاب (نهج البلاغة) من صنعه وتأليفه كما زعم شوقي ضيف في ابتساره العبارة وقولبتها لتناسب احكامه البعيدة عن الموضوعية والنزاهة، فالإضافة لما أوردناه في المتن من كتاب المجازات النبوية، يقول الشريف الرضي في الجزء الخامس من كتابه (حقائق التأويل) ص 67 (من أراد أن يعلم برهان ما أشرنا إليه من ذلك فلينعم النظر في كتابنا الذي الفناه ووسمناه (نهج البلاغة) وجعلناه يشتمل على مختار جميع الواقع إلينا من كلام أمير المؤمنين علیه السلام في جميع الأغراض). فهو لم ينسب مادة الكتاب إلى نفسه كما تقوّل شوقي ضيف عليه، وإنما نسب إلى نفسه الجمع ليس غير، وفي هذا الصدد نشير إلى أن أخلاق الشريف الرضي ومنزلته الاجتماعية ومكانته العلمية، كل ذلك يحول بينه وبين الكذب والافتراء، وفي سيرته من الشواهد الكثيرة المؤيدة لذلك (راجع ذلك بالتفصيل الباب الأول من (التفجع في شعر الشريف الرضي) أطروحة التعمق في البحث سنة 85 ، مقدمة إلى كلية الاداب بالجامعة التونسية، من عمل جليل منصور العريض. كما أنه لا يخفى على الناقد اللبيب الفرق الشاسع بين أسلوب (نهج البلاغة) وأسلوب الشريف الرضي الفني، فبالمقارنة بين الرسائل الفنية المتبادلة بين الشريف الرضي وبين الصابي بما جاء في (نهج البلاغة) من رسائل، يتبين لنا أثر الصنعة التي اتسم بها أسلوب الترسل في القرن الرابع الهجري (راجع رسائل الصابي والشريف الرضي ص 63 رسالته في تعزية أبي اسحاق في ابنه سنان، و ص 73 وما بعدها موضوعها: نسخة عهد كتبه الشريف الرضي للخليفة الطائع) فنظرة سريعة في فحوى الرسالتين الفنيتين وغيرهما من الرسائل التي وردت في الكتاب المذكور ومقارنة أسلوبهما بما ورد في النهج من أساليب يتبين لنا أن الرضي مع احترامنا لباغته وشاعريته مهما أوتي من بيان ومهما بذل من جهد في رفع مستوى أسلوبه فلن يتمكن من محاكاة أساليب النهج، ناهيك عن ذلك علماء الشيعة الذين عزا إليهم شوقي ضيف المشاركة في الوضع إذ (لا مفر من الاعتراف بأن (نهج البلاعة) له أصل والا فهو شاهد على ان الشيعة كانوا أقدر الناس على صياغة الكلام البليغ زكي مبارك عبقرية الشريف الرضي 1/ 223 . أما بشأن المقولة التي اجتزاها شوقي ضيف من كتاب مروج الذهب فهي عليه لا له فقد ورد عن الجاحظ في البيان والتبيين 7/ 201 ما يعضدها، راجع الصفحة السابقة، واما استنكاره لما ورد في المنهج من سجع ومحسنات لفظية فيمكن مراجعته في ص 32 من هذا البحث أيضاً

ص: 33

(نهج البلاغة) ضمن مؤلفاته(1) التي ذكروها كاملة.

وتمثل النقطة الثالثة أدق المراحل خطورة على محتويات النهج بأنها موضوعة على علي بن أبي طالب علیه السلام طبقا لقول ابن خلكان (وقد قيل: إنه ليس من كلام علي علیه السلام وإنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه)(2) ، ولا يمكن قبول ذلك القول لسببين:

الأول: عزو القول لمجهول باستخدامه الفعل (قيل) وهو أسلوب من أساليب التضليل لأن شؤون البحث والدراسة لا يعول فيها على أي قائل، إذ من المتوجب عليه ان يذكر لنا القائل لنتمكن من دراسة حاله ومدى الوثوق من امانته العلمية، خاصة وان علم رجال السند قد وصل إلى ذروته في حال معرفة

ص: 34


1- إذا استثنينا من ذكرنا في الهامش رقم 3 ص 31 من هذا المبحث سنجد ان جميع من ترجموا للشريف المرتضى (ت 436 ه) لم يذكروا (نهج البلاغة) ضمن مؤلفاته، راجع على سبيل المثال: الطوسي الفهرست ص 120، ياقوت معجم البلدان 7/ 146 الخوانساري روضات الجنات 4/ 301 الأمين أعيان الشيعة 8/ 219 ، محمد أبو الفضل إبراهيم مقدمة تحقيق أمالي المرتضى 1/ 12 وما بعدها، رشيد الصفار مقدمة تحقيق ديوان المرتضى 1/ 117
2- وفیات العلایان

الرجال في العصر الذي ألّف كتابه فيه.

الثاني: التناقض في عبارة (إنما الذي جمعه ونسبه إليه هو الذي وضعه)، إذ كيف يمكن التوفيق بين جامع الكتاب وواضعه في شخص واحد، فإما ان يكون ذلك الشخص جامعاً وإما أن يكون واضعاً، ولكن التعبير قد خان المؤلف في محاولة الإيهام تلك. وعلى كل فلقد فتحت تلك المقولة باب الشك في نسبة (نهج البلاغة) على مصراعيه فصارت من المسلمات التي لا تحتاج إلى مناقشة عند منعول على (وفيات الأعيان) في ترجمة الشريف المرتضى فأخذ بعضهم بنصها وأضاف إليها البعض الآخر، بحيث يمكننا من تلك الإضافات التعرف على نقاط الاتهام الموجهة لمادة النهج وهي(1) :

1 - افتقار معظم نصوص (نهج البلاغة) إلى الإسناد وعدم ذكر المصادر.

2 - التعريض بصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في بعض نصوصه.

3 - الطول المفرط في بعض الخطب والعهود بما لا يتناسب وأدب صدر الإسلام.

4 - الوصف الدقيق المستوفي لجميع أجزاء الموصوف.

5 - وجود تعبيرات فلسفية ظهرت بعد تدوين العلوم في العصر العباسي.

6 - استخدام التقسيم في شرح المسائل ووصفها.

7 - ورود كثير من المغيبات في ثنايا بعض نصوص النهج.

8 - ورود كثير من النصوص في الحث على الزهد والتصوف وذكر المسيح.

9 - وصف الحياة الاجتماعية وصفاً دقيقاً وانتقاد سلوك بعض الولاة

ص: 35


1- سنشير إلى مصدر كل نقطة عند طرحها للمناقشة

وأخلاقهم.

10 - نسبة بعض نصوص النهج لغير علي علیه السلام في مصادر أخرى.

11 - ورود كلمة وصي وهي مصطلح شيعي ذكره رسول الله (صلی الله علیه و آله وسلم)وذكر في أكثر من مواضع النهج.

12 - ذكر الإمامة على لسان علي علیه السلام واحقيته فيها في مواضع كثيرة من النهج وهو ما لم يحدث منه على الإطلاق.

13 - السجع المفرط والاناقة اللفظية في كثير من نصوص نهج البلاغة ويمكن مناقشة تلك النقاط فيما يلي:

1 - افتقار معظم نصوص نهج البلاغة إلى الاسناد وعدم ذكر المصادر(1) :

قد يكون ذكر الاسناد محاولة لإضفاء الصدق على النصوص والأخبار المنقولة واعطائها قيمة في نفوس المطلعين عليها، كفعل أبي الفرج الاصفهاني (ت 360) في كتاب الأغاني الذي حشاه بالأسانيد (واكثر تعويله كان في تصنيفه على الكتب المنسوبة الخطوط)(2) كما قد يكون ذكر الإسناد ضروريا لو كان مؤلفه يرمي من ورائه خدمة النواحي الدينية ودراسة العقيدة، ولكن الشريف الرضي في جمعه لنصوص (نهج البلاغة) لم ينزع إلى شيء من ذلك، لأن السبب الوحيد

ص: 36


1- قال الذهبي في سير أعلام النبلاء 17 / 589 (هو جامع كتاب (نهج البلاغة) المنسوبة الفاظه إلى الإمام علي علیه السلام ولا أسانيد لذلك) ويعتبر الباقوري الشريف الرضي حاطب ليل إذ يقول فيه (إن الطعن في نسبة هذه الكلمات إلى الإمام علیه السلام لا يعني النيل من الشريف الرضي بنسبته إلى افتراء الكذب على الإمام علیه السلام ولكن الشريف أخذ خطب الإمام وكلماته من أفواه معاصريه أو من صحافتهم التي كتبوها - علي امام الائمة ص 60)
2- ابن النديم الفهرست ص 128

الذي من أجله جمع كلام الإمام علیه السلام هو: الاستحسان الذي أظهره أصحابه لما ورد في الفصل الأخير من (خصائص أمير المؤمنين) ضمن كتابه (خصائص الائمة) فقد كان ذلك الفصل يحوي نماذج مقتضبة لما أثر عن علي علیه السلام من مواعظ وحكم وأمثال، فسأله أولئك الصحاب أن يؤلف كتاباً «يحتوي على مختار كلام مولانا أمير المؤمنين علیه السلام في جميع فنونه ومتشعبات غصونه: من خطب، وكتب ومواعظ وأدب، علماً بأن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة وغرائب الفصاحة، وجواهر العربية، وثواقب الكلم الدينية والدنيوية»(1) .

فبلاغة الإمام علیه السلام وسمو أسلوبه هما الأساس الذي من أجله جمع الرضي تلك النصوص، لذلك فإن ذكر الأسانيد والمصادر في مثل هذه الكتب تعتبر من نافلة القول.ولو أراد الرضي هدفاً غير البلاغة لجاءت النصوص بين دفتي النهج متكاملة، ولكن مما يؤسف له ان المنهج الذي اختطه الشريف لنفسه فرض عليه التقيد باختيار النماذج البلاغية حتى لو أحال النص الذي بين يديه إلى أشلاء متناثرة في ثنايا الكتاب وبين صفحاته لأنه يريد «النكت واللمع ولا يقصد التتالي والنسق»(2) .

ومنهج الرضي في اختيار نصوص النهج، هو ذات المنهج الذي اختطه لنفسه فيما اختاره من أحاديث رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في كتابه (مجازات الأحاديث النبوية) إذ لم يعول إلا على الأحاديث التي تتضمن مجازاً، أو حتى على الجزء الذي يوفر له

ص: 37


1- مقدمة الشريف الرضي لكتاب نهج البلاغة
2- السابق

الشاهد من ذلك الحديث(1) ، ولم يذكر الأسانيد، الا فيما ندر، ومع ذلك لم يثر كتاب (المجازات النبوية) ما أثاره النهج من أقاويل.

إنّ انتقاء الشريف الرضي للشاهد البلاغي من كلام علي بن أبي طالب علیه السلام حتم عليه اجتزاء جمل قصيرة من خطب متعددة وضمها إلى بعضها بعضاً، وقد أشار شراح النهج إلى الكثير من ذلك، يقول ابن أبي الحديد في تعليقه على أحد نصوص النهج «هذه فصول أربعة لا يمتزج بعضها ببعض، وكل كلام منها ينحو به أمير المؤمنين علیه السلام نحواً غير ما ينحوه بالآخر وإنما الرضي رحمه الله التقطها من كلام لأمير المؤمنين علیه السلام طويل منتشر قاله بعد وقعة النهروان»(2) ،ونص ابن ميثم البحراني على ذلك في عدة مواضع من شرحه للنهج(3) . إلا أن ذلك لا يعني أن الشريف قد سكت تماماً عن ذكر الأسانيد والمصادر في مختاراته تلك، إذ إنه في عرضه لبعض النصوص ذكر إسنادها، من ذلك خطبة (الاشباح)(4) التي ذكر أنها من رواية مسعدة بن صدقة، عن جعفر الصادق علیه السلام(ت 148)، كما ذكر في كثير من المواضع مناسبة النص والمكان الذي قيل فيه

ص: 38


1- لاحظ ان معظم ما ورد من أحاديث نبوية في الكتاب من دون إسناد، ثم انه في كثير من مواضع الكتاب يقتصر على ذكر شاهده من الحديث الشريف، راجع على سبيل المثال لا الحصر الصفحات: 27 ، 57 ، 60 ، 67 ، 69 ، 102 ، 103
2- شرح النهج 2/ 384 وجاء بمثله في 2/ 298 ، 3/ 165 ، 8/ 278 ، 288
3- راجع شرح ميثم 1/ 285 ، 289 ، 2/ 145
4- راجع نهج البلاغة أو أحد شروح خطبه رقم 90 ، أما مسعدة بن صدقة الذي روى الخطبة عن الصادق فلا ندري عن سنة ولادته، وهو من أصحاب الرواية عند الإمامية راجع الذريعة 191/7

مما یقربه من التوفیق(1) ،على أن ذكر مصادر بعض النصوص موجود في ثنايا الكتاب ولكن بقلة. هذا وقد تنبه الشراح بعد الرضي إلى أهمية التوثيق وذكر المصادر بعد انتشار النهج وازدياد قيمته، وابتداء الشك في نسبة نصوصه.

ما وصلت إليه عملية توثيق نهج البلاغة منذ القرن السادس الهجري حتى العصر الحديث:

1 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - للراوندي (573 )(2) :

ذكر المؤلف ضمن شرحه أسانيد الخطب الخمس الأول من النهج متصلة بالإمام علي علیه السلام، علماً بأن من ضمن تلك الخطب الخمس ذكر اسناد الخطبة (الشقشقية)(3) التي تعد من النصوص التي اثارت موجات الشك حول مختارات النهج، إلا أن الراوندي لم يستمر في توثيقه واعتقد ان تجزئة النصوص فيما بعد حالت بينه وبين ذلك.

2 - شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد (ت 656):

يبدو إن ابن أبي الحديد قد عايش موجة الشك التي أخذت في التفاقم في النصف الثاني من القرن السادس الهجري مما جعله يتصدى لذلك في موضعين(4) من شرحه الكبير. إلا أن أهم ما قام به في هذا الصدد محاولتهلتوثيق الكثير من نصوص النهج إما بذكر المصدر واما بذكر المناسبة وإما بتحديد تاريخ القول. وكان أكثر اعتماده في التوثيق على الكتب التي أرّخت لعصر صدر

ص: 39


1- راجع على سبيل المثال خطب 5، 6، 6/ 256
2- راجع الخطب الخمس متوالية في الجزء الأول عنده
3- منهاج البراعة 1/ 131
4- شرح ابن أبي الحديد 1/ 205 ، 10 / 128 التراث

الإسلام وعلى الكتب التي اهتمت بجمع خطب الإمام علي، ككتاب (الجمل) للوط بن يحي بن مخنف الأسدي (ت 15)(1) ، وكتاب (صفين) لإبراهيم بن ديزيل الهمذاني(2) ، وكتاب (خطب علي علیه السلام لهشام بن محمد بن السائب الكلبي (ت 206)(3) ، وكتاب (الجمل) و(صفين) لمحمد بن عمر الواقدي (ت 207)(4) ، وكتابي (الجمل) و (خطب علي علیه السلام وكتبه إلى عماله) لعلي بن محمد بن عبد الله المدائني (ت 215)(5) وكتاب (صفين) لإبراهيم بن محمد الهلالي

ص: 40


1- راجع السابق 1/ 205 ، 305 ، 309 ، 2/ 187 . وقد وردت ترجمة لأبي مخنف عند ابن النديم الفهرست ص 105 ، ياقوت معجم البلدان 17 / 41
2- السابق 2/ 310 ، 5/ 254 ، ولم أعثر على تاريخ وفاته، قال عنه الطهراني في الذريعة 15 / 52 «ينقل عنه بن مزاحم في كتاب صفين». ونصر بن مزاحم من طبقة أبي مخنف الذي كانت سنة ولادته قريبة من (120) كما رجح ذلك عبد السلام هارون في مقدمة تحقيقه لكتاب (صفين) لنصر بن مزاحم ص 9، وعلى هذا فإن إبراهيم بن ديزيل من نفس الطبقة تقريباً
3- راجع شرح النهج السابق: 1/ 308 ، 2/ 143 ، وقد وردت ترجمة لهشام الكلبي عند ابن النديم - الفهرست 108
4- راجع الشرح السابق 2/ 140 ، 149 ، 4/ 95 ، وقد وردت ترجمة للواقدي في فهرست السابق ص 111
5- راجع الشرح السابق 6/ 134 ، 7/ 284 ... وقد وردت ترجمة للمدائني في الفهرست ص 113

(ت 283)(1) وكتاب (السقيفة) لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري(2) وكتاب (الأوائل) لأبي هلال العسكري(3) وقد اضربنا عن ذكر المصادر التي رجع إليها ابن أبي الحديد والتي ما زالت مستخدمة حتى يومنا هذا(4) .

وهذا وقد ظهر مجهود ابن أبي الحديد التوثيقي في الباب الخاص برسائل الإمام علي علیه السلام وعهوده، وبالذات في الرسائل المتبادلة بين علي علیه السلام ومعاوية، حيث أعاد إلى رسائل الإمام علیه السلام ما حذفه الرضي منها. ولما كان معظم تلك الرسائل أجوبة وردوداً على رسائل كتبها معاوية لعلي علیه السلام فإن ابن أبي الحديد أورد رسائل معاوية تلك، مشيراً إلى مناسباتها التي اقتضتها بتوثيقها من كتب التاريخ والأدب.

ص: 41


1- بالرغم من ضياع كتاب (الغارات) لابراهيم بن محمد بن سعيد الهلالي إلا أنه يمكننا تجيمع جزء كبير منه بثه ابن أبي الحديد في ثنايا شرحه، حيث اعتمد عليه اعتمادا اساسيا في روايته للغارات التي شنها معاوية على أطراف البلاد الإسلامية الخاضعة لعلي علیه السلام وموقف علي علیه السلام من تلك الغارات والخطب التي خطبها في أصحابه يستحثهم على الجهاد، أما ترجمة الهلالي فقد وردت عند صاحب موسوعة الذريعة إلى تصانيف الشيعة 5/ 52
2- راجع الشرح السابق: 2/ 44 ، 4/ 70 ، 6/ 5، 8/ 252 . ويروي في كتابه السقيفة عن محمد بن زكريا الغلابي (ت 296) ويعتقد أنه من رجال النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، سكتت المصادر عن سنة وفاته - عباس القمي 2/ 146 - الطهراني - الذريعة 12 / 216
3- راجع الشرح السابق 1/ 196 ، 238 ، 2/ 271 . وردت ترجمة لابي هلال العسكري عند ياقوت من ضمنها «اما وفاته فلم يبلغني فيها شيء، غير أني وجدت في آخر كتاب علیه السلام (الأوائل) من تصنيفه فرغنا من أملاء هذا الكتاب يوم الأربعاء لعشر خلت من شعبان سنة خمس وتسعين وثلاثمائه» معجم الأدباء 8/ 264
4- من ذلك كتاب صفين لابن مزاحم، وكتب الجاحظ (ت 255) وكتب ابن قتيبة (ت 276) وكتب المبرد (ت 285) وتاريخ الطبري (ت 310) وكتب ابن الأثير (ت 630)...

وبناء على ما أوردته المصادر التي اعتمدها ابن أبي الحديد في توثيق نصوص النهج يمكننا قبول مقولة المسعودي (ت 346) السابق الذكر(1) التي أشارإليها أيضاً الجاحظ(2) .

3 - شرح نهج البلاغة لميثم البحراني (ت 679):

يكاد يكون شرح البحراني للنهج تحقيقا بالمفهوم الحديث، فبالإضافة إلى اهتمامه بالنواحي البلاغية، وتركيزه على الجانب الزهدي في نصوص النهج، وشرحها شرحاً صوفياً، بالإضافة إلى كل ذلك فقد اختط الشارح لنفسه خطا محايداً أدى به إلى رفض شرح أي نص لم يجزم به ويغلب على ظنه انه من كلام الإمام علي علیه السلام(3) وتلك الخطة العلمية حتمت عليه توخي الصحيح.

أما فيما يتعلق بتنسيقه لمادة النهج في شرحه، فقد كانت بين يديه عدة نسخ من النهج وشروحه، لأنه بعد إيرداه للخطبة رقم (84) بين اختلاف موضعها في نسخ النهج المتعددة، والسبب الذي دعاه إلى الاعتماد على بعض تلك النسخ دون الأخرى(4) .

ص: 42


1- راجع ص 31 وما بعدها
2- أشرنا إلى مقولة الجاحظ في ص 31 وما بعدها من هذ البحث
3- راجع شرح النهج 1/ 251
4- يقول في هذا الصدد «من ها هنا اختلفت نسخ النهج، فكثير منها تكون هذه الخطبة فيها أول المجلد الثاني منه، بعد الخطبة المسماة بالقاصعة، ويكون عقيب كلامه للبرج بن مسهر الطائي قوله: ومن خطبة له علیه السلام الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد ولا تحويه المشاهد، وكثير من النسخ تكون هذه الخطبة فيها متصلة بكلامه علیه السلام للبرج بن مسهر، وتتأخر تلك الخطبة فتكون بعد قوله: ومن كلامه له علیه السلام وهو يلي غسل رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ويتصل ذلك إلى تمام الخطبة المسماة بالقاصعة.ثم يليه قوله باب المختار من كتب أمير المؤمنين ورسائله وعليه جماعة الشارحين كالإمام قطب الدين أبي الحسن الكيدري، والفاضل عبد الحميد بن أبي الحديد ووافقتهم هذا الترتيب لغلبة الظن باعتمادهم على النسخ الصحيحة». شرح ميثم للنهج 3/ 413 ، أما الكيدري (ت 573) فعنوان شرح للنهج: حدائق الحقائق في تفسير دقائق أوضح الخلائق، وهو من الشروح المفقودة - الذريعة 6/ 285

بالنسبة لذكر المصادر والأسانيد لم نجده قد اهتم بها كاهتمام سابقه ابن أبي الحديد ولكن ليس معنى ذلك أنه أغفلها إغفالا تاماً، ولأنه لم يشأ أن يكرر ما أورده ابن أبي الحديد فقد أعاد إلى بعض النصوص ما تعمّد الرضي حذفه مشيراً إلى ذلك كما في قوله «هذا الفصل ملتقط ملفق من خطبة له علیه السلام لما بلغه أنطلحة والزبير قد خلعا بيعته، وهو غير منتظم، وقد أورد السيد منها فصلا آخر وسنذكرها بتمامها إذا انتهينا إليه إن شاء الله »(1) كما أنه ذكر مناسبة(2) بعض الخطب والرسائل، وفي مواضع أخرى ذكر الأسانيد(3) أو المصادر وذلك بحسب الامكانات المتاحة في عصره. تلك هي الجهود التي بذلت لتوثيق النهج من خلال الشروح التي وصلت الينا:

توثيق (نهج البلاغة) في العصر الحديث من المعلوم أن جزءاً كبيراً مما ورد في النهج من نصوص، قد وردت في كتب الحديث الاربعة(4) التي يعول عليها الشيعة الإمامية في عقائدهم وعباداتهم

ص: 43


1- شرح ميثم 1/ 285 ، وايضاً ورد مثلها في 1/ 297 ، 2/ 115
2- راجع السابق 1/ 276 ، 295 ، 2/ 99
3- راجع السابق 2/ 77 ، 3/ 195 ، 5/ 185
4- كتب الحديث الأربعة المعتمدة عند الشيعة الإمامية هي: أ - الكافي - أصوله - وفروعه لأبي جعفر محمد بن يعقوب الكليني (ت 329 ه). ب - من لا يحضره الفقيه - لأبي جعفر بن علي بن بابوية القمي، الملقب بالصدوق (ت 381). ج - تهذيب الأحكام - لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي (ت 460). د - الاستبصار في أحاديث الأحكام - للطوسي أيضاً

ومعاملاتهم، مع ملاحظة اختلاف الروايات التي لا تخل بالمعاني فيما بينها وبين ما ورد في نهج البلاغة من كلام، مما يرجع عدم اعتماد الرضي في جمع مادته على تلك الكتب التي لم يذكرها لا ابن أبي الحديد ولا ميثم من ضمن مصادرها أيضاً: ولما كان تكذيب مادة النهج تعني تكذيب ما ورد فيه من أحاديث شريفة، خاصة أن الشيعة الإثني عشرية يعتبرون رواية الائمة الإثني عشر من ولد فاطمة هي رواية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لأنه علمهم من علمه، لذا فقد تصدت طائفة من فقهائهم وادبائهم لدحض تهمة الوضع عن النهج، وذلك بالبحث عن أصوله في المصادر المعتمدةالتي أوردت تلك المأثورات أو أجزاء منها، إضافة إلى أن هناك من علماء السنة وأدبائهم ممن أوردوا في دراساتهم للنهج من الملاحظات ما يدعم صحة نسبة مادة النهج لعلي g، مما يحتم علينا الوقوف على ما ورد في تلك الدراسات التوثيقية المختصة. والاطلاع على ما حوته الملاحظات التي عرضت لنفس الموضوع.

1 - مستدرك نهج البلاغة، للهادي كاشف الغطاء(1) :

يبدو أن مقولة محمد حسين آل كاشف الغطاء «عسى أن يوفق الله لأفراد كتاب يجمع أسانيد (نهج البلاغة) من كتب الفريقين، فإني أحس بشدة الحاجة إلى ذلك»(2) ، قد بعثت عملية التوثيق في العصر الحديث، وذلك لمواجهة

ص: 44


1- صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب على ما اعتقد سنة 1935 م/ 1354 ه بالنجف واعتمدنا في دراستنا على الطبعة الثالثة
2- محمد حسين آل كاشف الغطاء المراجعات الريحانية 2/ 112 بواسطة عبد الزهراء الحسيني - مصادر نهج البلاغة 1/ 7

حملات التشكيك المتزايدة، مما حدا بالهادي كاشف الغطاء إلى القيام بما يمكن اعتباره المحاولة الأولى لتوثيق النهج في هذا العصر. مع ملاحظة أن توثيق نصوص النهج لم يكن الموضوع الرئيسي في الكتاب، فالعنوان (مستدرك نهج البلاغة) وهذا يعني أن المؤلف يهدف أولا وقبل كل شيء إلى استدراك ما فات الرضي من أقوال أثرت عن الإمام علي علیه السلام؛ يقول في مقدمة الكتاب «كنت فيما سلف من غابر الأيام عازماً على جمع ما تيسر لي مما لم يروه السيد في نهجه من المختار من كلام أمير المؤمنين»(1)، وهذا - بطبيعة الحال ما جعله يقتفي أثر الشريف الرضي في تنسيق نصوصه، فمستدركه «يدور على أقطاب ثلاثة: (أولها)الخطب والأوامر (ثانيها) الكتب والوصايا (ثالثها) الحكم والآداب»(2) . لذا لم يستوعب التوثيق سوى اربعاً وسبعين صفحة من صفحات الكتاب المئتين والاثنتين والستين. ومعظم صفحات التوثيق تلك كانت للرد على ما أثير حول النصوص من تشكيك.

أما من حيث ذكر المصادر فلم يتمكن المؤلف من توثيق سوى:

ثمانين نصاً من مئتين وأربعة وأربعين نصاً في باب الخطب.

ثمانية وعشرين نصاً من تسعة وسبعين نصاً في باب الرسائل والعهود.

أربع وأربعين حكمة من مجموع أربعمئة وتسع وثمانين.

وبطبيعة الحال فإن ذلك العمل الضئيل بالنسبة لما ورد في النهج لا يعتبر توثيقاً بالمعنى الدقيق لكلمة توثيق لأنه «غير واف بتمام الغرض ولا قاطع من .

ص: 45


1- الهادي كاشف الغطاء مستدرك النهج، ص 6، 8
2- الهادي كاشف الغطاء مستدرك النهج، ص 6، 8

لسان الخصم»(1). ولقد وعدنا المؤلف بإتمام عملة ولكن المنية حالت بينه وبين ذلك. وأهم ما يؤخذ على توثيقه بالإضافة إلى ضآلته:

1 - ذكر مصدر النص وسكوته عن الصفحة والجزء، علماً بأن بعض نصوصه مصدرها تاريخ الطبري أو كامل ابن الأثير.

2 - لم يذكر الطبعات التي استخدمها في توثيقه وتاريخ صدورها، كما انه لم يذكر في خاتمة الكتاب ثبتاً بمصادره.

3 - لم يرتب مصادر النصوص ترتيباً تاريخياً في نهاية كل نص وثقه.

4 - لم يشر أثناء التوثيق إلى الاختلاف في رواية النص بين النهج والمصدر الموثق منه وأيهما السابق تاريخياً.إلا أن أهم ما يحتسب للمؤلف في هذا المجال تعبيده الطريق لمن اقتفى أثره وسار على نهجه.

2 - منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة لميرزا حبيب الله الخوئي(2) :

سنقصر دراستنا في هذا الموضوع على الجانب التوثيقي من الكتاب مرجئين التعرض لمادته إلى حين دراستنا الجوانب الفكرية بحسب المواضيع المناسبة لذلك أثناء الدارسة. فقد حاول المؤلف أن يوثق الكثير من نصوص النهج، خاصة المتعلق منها بالجوانب التاريخية، معتمداً في ذلك على المصادر، إما بالوساطة كسابقه الهادي كاشف الغطاء، وذلك بالتعويل على مصادر ابن أبي

ص: 46


1- مستدرك النهج السابق، ص 259
2- يعتبر هذا الشرح من اكبر شروح النهج في العصر الحديث إذا بلغ واحدا وعشرين جزءا ولو ان مؤلفه الخوئي اتمه لصار اكبر من ذلك. صدرت طبعته الأولى من ايران 1378 1958 ، واعيد تصوير الطبعة في بيروت باصدار مؤسسة الوفاء 1983 واعتمدنا على طبعته المصورة

الحديد وميثم البحراني، أو بالرجوع إلى المصادر دون ذكر أرقام الصفحات أو الأجزاء التي رجع إليها في عملية التوثيق.

والشيء المميز لعملية التوثيق في الكتاب، ذكر النص بتمامه بعد ذكر مصادره مع تبيان الاختلاف والاتفاق بين رواية المصدر وبين رواية (نهج البلاغة)، إضافة إلى تنبيهه للنقص في النص بعد اجتزاء الرضي منه شاهده، بإيراده من مصدره كاملاً تحت فصل في الكتاب بعنوان (تكملة).

وأهم ما يؤخذ على عملية التوثيق في الكتاب:

1 - اعتماده على مراجع وثقت النصوص من مصادر ليست مفقودة، فكان الاحرى به الرجوع في توثيقه إلى تلك المصادر مباشرة.

2 - عدم الالتزام بالترتيب التاريخي للمصادر التي يوثق منها نصوصه.

3 - الاضراب عن ذكر الأجزاء والصفحات أثناء التوثيق، أما اجمالي ما وثقهمن نصوص النهج فهو:

1 - إثنان وثمانون نصاً من باب الخطب.

2 - ستة وعشرون نصاً من باب الرسائل والعهود.

3 - لم يوثق شيء في باب الحكم والمواعظ بسبب وفاة الشارح قبل اتمام الكتاب(1) .

ولكن رغم مآخذنا على الكتاب في مجال التوثيق إلا أننا نحد عذراً لمؤلفه الذي قصد به الشرح لا التوثيق الذي يمكننا اعتباره جهداً مشكوراً على طريق تكامل التوثيق.

ص: 47


1- توقف شرح المؤلف عند النص رقم 228 من الجدولة راجع 15 / 9 واتم الشرح من بعده الحسن بن عبد الله الطبري الآملي راجع 7/ 15 من الشرح نفسه

3 - استناد نهج البلاغة لامتياز عليخان العرشي(1)

مؤلف هذا الكتاب أحد علماء السنة الهنود، فمن بعض الإشارات الخاطفة في الكتاب من استخدام المؤلف عبارة (كرم الله وجهه) للإمام علي علیه السلام بدلا من عبارة علیه السلام التي يستخدمها في الغالب الشيعة فلقد حاول مقدم الكتاب وناشره وهو شيعي استبدال العبارة الثانية بالأولى في الكتاب، إلا أن السهو، وتردد اسم الإمام علي علیه السلام في معظم الصفحات حالا دون ذلك(2) .

يقع هذا الكتاب في ثمان وسبعين صفحة من الحجم العادي، وينقسم على قسمين احتوى القسم الأول على شبهات المشككين في النهج والرد عليها، واختص القسم الثاني بتوثيق النهج وفي هذا المجال تمكن مؤلفه من توثيق:

1 - مئة وخمسة نصوص من باب الخطب.

2 - سبعة وثلاثين نصاً من باب العهود والرسائل.

3 - سبع وسبعين حكمة من باب الحكم والكلمات القصيرة.

والملاحظة التي يجدر الانتباه إليها هنا: أن التوثيق في باب الحكم مازال

ص: 48


1- ألّف هذا الكتاب باللغة الانجليزية ثم صدرت ترجمته بالعربية بقلم عامر الأنصاري سنة 1359 - 1978، عن المطبعة العلمية بقم، إلا أنني أعتقد أن هذا الكتاب كان معروفاً في الأوساط العلمية قبل ذلك بسنوات، لأن صاحب كتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) عبد الزهراء الحسيني قد اعتمده من ضمن مراجع كتابه الذي صدرت طبعته الأولى سنة 1968
2- راجع على سبيل المثال ص 13 من الكتاب، كما ورد في المقدمة ما يشير إلى ذلك في قوله «كتاب نهج البلاغة.... وهو يحتوي على نخبة من خطب سيدنا علي بن أبي طالب علیه السلام ورسائله حكمه، ومما يضاعف أهمية الكتاب، أن علي بن أبي طالب علیه السلام كان على بلاغته المبتكرة، أحد الخلفاء الراشدين، أو إماما معصوما عند طائفة من المسلمين» استناد نهج لبلاغة 112

ضئيلاً بالنسبة لما اختاره الشريف الرضي لعلي علیه السلام في هذا الباب، ولكن يمكننا اعتبار ذلك خطوة تخصصية مهمة على طريق توثيق النهج وتبديد ما دار حول نصوصه من شبهات، خاصة أن المؤلف أول من ذكر الجزء والصفحة من بين أولئك الذين سبقوه ممن حاولوا توثيق النهج، كما أنه استخدم بعض المخطوطات(1) ، واستعان في مواضع كثيرة بتوثيق ابن أبي الحديد، أما أهم ما يؤخذ على توثيقه فعدم الالتزام بالترتيب التاريخي في ذكر مصادره، خاصة وان لذلك اهمية كبيرة في عملية التوثيق، فجهده بقي محتاجاً إلى من يتمه، وهذا بالفعل ما قام به صاحب كتاب (مصادر نهج البلاغة واسانيده).

4 - مصادر نهج البلاغة لعبد الزهراء الحسيني(2)

صدر الكتاب في أربعة مجلدات، عرف المؤلف في مقدمته مقصوده من

(المصادر) التي سيعتمدها في دراسته التوثيقية فقد ينقل «من مصدر لم يره الشريف الرضي ولم يسمع بذكره ولكن المقصود: أن الكلام من محتويات النهج»(3) ، وهو ما فعله سابقوه وإن لم ينصوا على ذلك، لأن البحث في مصادر الشريف الرضي يعد ضرباً من المستحيل بعد أن أصاب المكتبة العربية جراء فتن بغداد وحملات التتار والصليبيين من كوارث، وما حدث للفكر الشيعي منمحاربة على أيدي الأيوبيين والمماليك في كل من مصر والشام والعراق(4) .

ص: 49


1- راجع على سبيل المثال الكتاب ص 11 ، 18 ، 19 ، 33.....
2- صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب عام 1968 ببغداد واعتمدنا في دراستنا الطبعة الثانية 1975
3- مصادر نهج البلاغة واسانيده 1/ 19
4- لقد عرضنا لذلك في ص 27 وما بعدها من هذا البحث

هذا وقد قسم الحسيني دراسته التوثيقية تلك إلى ستة فصول:

1 - محور هذا الفصل دراسة في (مصادر نهج البلاغة)، ذكر فيه المؤلف اقسام المصادر التي اعتمدها في تحقيق نسبة ما في (نهج البلاغة) من نصوص إلى الإمام علي علیه السلام وقسم تلك المصادر إلى أربعة اقسام(1)

- الأول: مصادر الفت قبل سنة (400 ه) وهي سنة جمع نصوص (نهج البلاعة) وقد نقل عنها المؤلف مباشرة.

- الثاني: مصادر الفت قبل صدور (النهج) ولكن المؤلف نقل عنها بالوساطة لضياعها.

- الثالث: كتب صدرت بعد وفاة الرضي ولكنها روت كلام علي علیه السلام المروي في (نهج البلاغة) بإسناد متصل، ولم تمر في طريقها على الرضي ولا على كتابه.

- الرابع: كتب صدرت بعد الرضي أيضاً ولكنها روت كلام الإمام علي علیه السلام بصورة تختلف عما في (النهج) ولم تشر إليه من قريب أو من بعيد.

2 - خصص هذا الفصل لتعريف (نهج البلاغة) وما قيل فيه من مدح وتقريظ قديماً وحديثا(2) .

3 - عرض في هذا الفصل لما اثير حول (نهج البلاغة) من شكوك وحاول تفنيدها(3) .

4 - أطلق المؤلف على هذا الفصل اسم (مكتبة نهج البلاغة) ذكر ضمنه فضل

(النهج) على المكتبة العربية، بما أمدها به من شروح ودراسات منذ تأليفه

ص: 50


1- راجع مصادر نهج البلاغة واسانيده 1/ 29 - 88
2- السابق 1/ 89 - 99
3- السابق 1/ 100 - 201

في القرن الرابع الهجري حتى العصر الحديث، كما ذكر ضمن ذلك الفصل الكتب التي ألفت حول النهج في اللغات الاخرى(1) .

5 - خصص المؤلف صفحات هذا الفصل لدراسة حياة الشريف الرضي، جامع (نهج البلاغة)(2) .

6 - شرع عبد الزهراء في هذا الفصل في توثيق (النهج) معتمداً ترتيب الشريف الرضي، إلا أن ما يميز دراسته التوثيقية عن دراسة سابقه العرشي:

أنه ذكر نصوص (نهج البلاغة) متكاملة بينما اكتفى سابقه بذكر النص، أو بجزء منه تمكن من توثيقه كما أن أهم ما يميز هذه الدراسة توثيقها لجل نصوص (نهج البلاغة):

1 - فمن باب الخطب تمكنت من توثيق مئتين وثلاثين نصاً

2 - ومن باب المختار من الرسائل والوصايا وثق فيها ثلاثة وسبعون نصاً.

3 - ومن باب المختار من الحكم والمواعظ وثق أربعمئة وخمسة وسبعون حكمة وعبارة قصيرة.

وقد تميز التوثيق في مصادر نهج البلاغة وأسانيده بالخصائص التالية:

1. الدقة في تتبع نصوص النهج في المصادر التي أثرت على المؤلفين السُنةّ والشيعة إذ لم يعول المؤلف في توثيقه على على كتب الشيعة فقط خاصة في النصوص التي حامت الشبهات حول نسبتها، كما أنه أعطى أهمية لمصادرالسنة أكثر من اهتمامه برواية الشيعة، ووصلت الدقة بالمؤلف إلى توثيق بعض الفقرات أو حتى الجمل التي وردت في نصوص طويلة، وقد استلزم منه ذلك

ص: 51


1- السابق 1/ 202 - 273 وقد اعتمد في هذا الفصل على موسوعة الذريعة إلى تصانيف الشيعة
2- السابق 1/ 274 - 279

استخدام أكثر من مصدر لتوثيق فقرة قصيرة في بعض الأحيان.

2. المقارنة بين نصوص النهج وبين مثيلاتها في المصادر الأخرى وتبيان الاختلاف في الروايات، خاصة في حالة تعذر الحصول على مصدر أقدم من النهج للتوثيق منه(1) .

3. التزام الترتيب التاريخي في سرد المصادر، وقلما أخل المؤلف بذلك(2) .

4. النصّ على ذِكْر الاجزاء وأرقام صفحات المصادر التي وثق منها، واقتضت الامانة العلمية من المؤلف أن يذكر المصادر التي وثق منها بالوساطة مع النص على المصدر أو المرجع الذي استعان به في ذلك.

5. ذكر أسانيد النصوص التي أمكن الحصول عليها مع تذييل الصفحات بترجمات قصيرة لرجال السند كلما دعت الضرورة(3) .

6. أعاد ما اجتزأه الرضي من فقرات وعبارات قصيرة إلى نصوصها الأصلية كلما واتته الفرصة لذلك، كما اجتهد في جمع شتات بعض الخطب التي نثرها الرضي في أنحاء متفرقة من كتابه، وقد اعتمد في ذلك على ملاحظات ابن أبي الحديد وميثم البحراني والخوئي بالإضافة إلى مجهوداته. كما لم يَفتْه أن يذكر

ص: 52


1- راجع على سبيل المثال النص رقم 93 الوارد عنده في 2/ 182 وما بعدها ولإدراك دقته في المقارنة بين الروايات راجع على سبيل المثال رقم 108 من باب الخطب 2/ 227 وما بعدها
2- التزام الموثق بالترتيب التاريخي يكاد يكون الشائع عنده، راجع نص رقم 25 من باب الخطب 378/1 ، العهد رقم 27 من باب الرسائل 3/ 26 وما بعدها، العبارة رقم 302 من باب الحكم 233/4
3- راجع على سبيل المثال تعليقاته على رواة النص 17 من باب الخطب 1/ 357 وما بعدها

مناسبة النص وتاريخ قوله إذا مكنته مصادره من ذلك(1) . إلا أن ذلك العمل الكبير لم يخل من بعض المآخذ منها:

أ - إرجاء توثيق النصوص المتقدمة وذكر مصادرها أثناء توثيقه لنصوص متأخرة في النهج(2) لارتباط كثير من النصوص بعضها ببعض ارتباطاً عضوياً، إذ كان من الأفضل منهجيا أن يذكر المؤلف المصادرأثناء استعراضه للنصوص المتقدمة، ثم يحيل القارئ على تلك المصادر في النصوص المتأخرة، ولكن المؤلف فعل العكس في مواضع كثيرة من كتابه مما أدى إلى إرباك الباحث أثناء بحثه عن مصادر بعض النصوص، وقد وقع ذلك بالخصوص أثناء عرضه لبعض النصوص في باب الخطب والإحالة على مصادرها في باب الحكم، إذ كان الأولى به منهجيا ان يذكر المصادر في الاصل وهي الخطب ثم يحيل عليها في الفرع وهي الحكم التي تعد جزءاً من تلك الخطب.

ب - تعسف توثيق النصوص(3) التي لم يجد مصدرا لها وذلك بإيراد عبارات حولها ذكرها ابن أبي الحديد أو غيره من الشراح أثناء شرحهم وتعليقهم على تلك النصوص مع أن مثل تلك التعليقات والعبارات لا تمت في اعتقادنا - إلى التوثيق بأية صلة.

ص: 53


1- لاحظ على سبيل المثال تعليقه على النص رقم 18 وعلاقته بالنص رقم 17 من باب الخطب 362/1 وما بعدها
2- مثال على ذلك ما قاله عند توثيقه النص رقم 105 من باب الخطب «سيأتي الكلام على مصادر هذه الخطبة بحول الله وقوته في الحكمة المرقمة 274 ( 4/ 214) وسنعرف هناك ان هذه الخطبة والكلمات القصار31 ، 32 ، 274 ، 276 ، (4/ 27 ، 29 ، 214 ، 216) من خطبة واحدة في مقام واحد 2/ 217 ، وراجع أيضاً نص 149 خطب 2/ 334»
3- راجع على سبيل المثال استنتاجه لتوثيق النص رقم 94 من باب الخطب 2/ 186

ج - يحاول المؤلف إيهام قارئه بأنه سيذكر مصادر النصوص التي لم يتمكن من توثيقها في خاتمة كتابه(1) مع أن تلك الخاتمة لا تتعدى أن تكون مجرد اعتذار وشكر واعتراف بفضل من اقتبس منهم.

د - قد لا يذكر المؤلف أجزاء المصادر وصفحاتها أثناء توثيقه لبعض النصوص(2) وإن كان ذلك نادراً بالإضافة إلى الاضطراب في إحالته من نص إلى نص آخر ضمن الكتاب

ه - عدم ذكره المصادر مباشرة أثناء توثيقه لبعض النصوص(3) .

وذلك بسبب السرد الطويل الممل الذي لا علاقة له بالتوثيق مما يضيع وقت الباحث في طلب بغيته، خاصة وإن المؤلف لم يلتزم منهجاً محدداً وخطة معينة في إيراده للمصادر(4) ، فتارة يسردها مرقمة بعد النص مباشرة، وتارة أخرى يذكرها في ثنايا الفقرات وهو يعلق على النص، أضف إلى ذلك إشارته السريعة إلى اسماء تلك المصادر باختصارها أو بالاقتصار على ذكر مؤلفيها.

ص: 54


1- «الكلام على هذا الفصل في كلمة الختام» تلك العبارة استخدامها عند تعذر عثوره على مصدر للنص الذي يريد توثيقه كما في 2/ 365 ، 3/ 72 ، 118 ، ولم يشر إلى شيء من ذلك في كلمة الختام تلك
2- مثال ذلك استطراده الطويل أثناء توثيقه نص رقم 3 من باب الخطب 1/ 309 - 324 وتعليقه الطويل على النص رقم 5 باب الخطب وكيفية ذكره المصادر بإطناب لا داعي له 1/ 329 وايضاً 344/1 348 أثناء توثيق النص رقم 13 باب الخطب
3- يراجع السابق
4- لاحظ طريقته في توثيق النص رقم 225 من باب الخطب 3/ 170 ، ولاحظ توثيقه للنص رقم 6 من باب الرسائل فإنه سرد مصادره بعد استطراد طويل وكان الأولى به أن يذكر المصادر أولا كما يفعل أثناء توثيقه لمعظم النصوص

لكن كل ذلك لا يغضى من جهده العظيم في توثيق ذلك الكم الهائل مننصوص (نهج البلاغة) بالرجوع إلى مئات المصادر، مما جعل من اتى بعده من الموثقين عالة عليه لأنهم لم يقدموا جديداً في ذلك المجال بل وقصروا عن الوصول لما وصل إليه كعبد الله نعمة.

5 - مصادر نهج البلاغة - لعبد الله نعمة(1)

يقع هذا الكتاب في ثلاثمة واربع وثلاثين صفحة من الحجم العادي وينقسم على قسمين: اختص القسم الأول بالحديث عن نهج البلاغة وما أثير حوله من اقوال، ثم تفنيدها فيما يقرب من مئة وثمان وعشرين صفحة، اما القسم الثاني فقد اختص بالتوثيق وقسمه المؤلف إلى ثلاثة فصول: ذكر في الفصل الأول مصادر ما عقده الشريف الرضي للمختار من خطب الإمام علي علیه السلام وذكر في الفصل الثاني مصادر ما اختاره الرضي من رسائل علي علیه السلام ووصاياه، اما الفصل الثالث فقد جعله لذكر مصادر الحكم والكلمات القصار.

يرى المؤلف أنه بكتابه ذاك قد سد «فجوات عديدة، كانت تنفذ من خلالها اتهامات أولئك المتهمين، وشكوك أولئك الشاكين، من أدباء وعلماء، ومؤرخين، وأن يجد فيه هؤلاء خيوطاً من ضياء تبدد كثيراً من تهمهم وشكوكهم. وذلك حين يجدون فيه حوالي (180) خطبة وموعظة من أصل (242)، وحوالي (60) كتاباً ورسالة ووصية من أصل (78) وحوالي (200) كلمة من الحكم والأمثال وما إليها من أصل (498) كلمة، قد أرجعتها إلى أصولها وربطتها

ص: 55


1- طبع هذا الكتاب على مطابع دار الهدى ببيروت 1972 وبالرجوع إلى ثبت المصادر والمراجع في نهايته نرى أن من بين تلك المراجع كتاب (مصادر نهج البلاغة وأسانيده) لعبد الزهراء الحسيني، مما يؤكد أنه قد ألف بعده

بمصادرها»(1) .

وعلى هذا فإن المؤلف لم يستطع أن يقدم لنا في مجال توثيق (نهج البلاغة)، أكثر مما قدمه سابقه، الذي استطاع أن يوثق (نهج البلاغة)، فيما عدا بضع خطب ورسائل وحكم، بالإضافة إلى ذلك فإن مصادره هي مصادر سابقة باختلاف في الصفحات لاختلاف في الطبعات. ونجد بنظرة سريعة في ثبت المصادر والمراجع عند كلا المؤلفين أن مصادر نعمة ومراجعه لا تتعدى المئة والخمسة،بينما بلغت المصادر والمراجع التي اعتمد سابقه عليها مئتين وخمسة وثمانين مصدراً، لذا فإنه لمن نافلة القول المقارنه بين توثيق النصوص عند كليهما، بالإضافة إلى عدم التزام الثاني بالترتيب التاريخي في سرده للمصادر أثناء التوثيق، مما ارجعنا القهقرى بعد ان كدنا نبلغ بالتوثيق غايته، وحبذا لو بدا المؤلف من حيث انتهى سابقه بإكمال التوثيق، وحسبه في ذلك عناء خدمة للنهج. وبناء على ما سبق يمكن اجمال عملية التوثيق من خلال الكتب المتخصصة الثلاثة الأخيرة في الجدول التالي:

المادة الخطب والأوامر الكتب والوصايا الحكم والمواعظ عدد نصوص كل باب من أبواب (نهج البلاغة) 489 79 244 عدد النصوص التي وثقها العرشي من كل باب في النهج 77 37 150 عدد النصوص التي وثقهاالحسيني في كل باب في النهج 475 73 230

ص: 56


1- عبد الله نعمة مصادر نهج البلاغة ص 5

عدد النصوص التي وثقها عبدالله نعمة من كل باب في النهج 200 60 180 بالإضافة إلى ما سبق توجد إشارات لكثير من الدارسين المحدثين الذين تناولوا (نهج البلاغة) بالشرح والتحليل، تكاد تكون بمثابة الدليل على صحة نسبة نصوصه لعلي علیه السلام فالشيخ محمد عبده في تقديمه للكتاب وبعد تبيانه لما حواه من أساليب تتناسب وموضوعاتها من حيث المباني والمعاني يقول «ذلك الكتاب الجليل هو جملة ما اختاره الشريف الرضي رحمه الله من كلام سيدنا ومولانا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام(1) .

كما أنه لم يشر إلى الشك في النهج ضمن تلك المقدمة، وسكوته عن ذلك ثم شرحه لنصوص الكتاب والتعليق عليها بحواش طويلة، يدل على ترجيح اقتناعه بصحة نسبة تلك النصوص لعلي علیه السلام.

أما زكي مبارك فيرى أن الشك في نصوص (نهج البلاغة) ومحاولة نسبتها إلى علماء الشيعة لا سيتند إلى دليل علمي، علاوة على ذلك فإن تلك النسبة تجعل من أولئك العلماء عباقرة في اللغة، لمقدرتهم الفائقة على صوغ مثل تلك الأساليب البيانية الرفيعة لذلك فإنه يرى أن «الذين نسبوا نهج البلاغة إلى الرضي يحتجون بأنه وضعه لأغراض شيعية، فلم لا نقول من جانبنا بأن تهمة الوضع جاءت لتاييد خصوم الحملات الشيعية»(2) .

ويقف الشيخ صبحي الصالح رحمه الله وقفه طويلة مع (نهج البلاغة) تتلخص في تحقيقه وفهرسته، فهرسة تكاد تكون مكتملة، ويقينه بصحة نسبه

ص: 57


1- مقدمة محمد عبده لشرح النهج 1/ 10 ، طبعة الأندلس
2- النثر الفني 1 / 81

نصوص النهج لعلي علیه السلام هو الذي دعاه إلى القيام بذلك المجهود الكبير، وفي محاولته لدحض جانب من جوانب الشك في النهج يقول «قد اشتمل كلامه على أوصاف عجيبة لبعض المخلوقات، حملت روعتها ودقة تصويرها بعض النقاد على الارتياب في عزوها إلى أمير المؤمنين، كما في تصويره البارع للنملة والجرادة ولا سيما للطاووس. ولابد من تحقيق هذا الأمر في غير هذه المقدمة العجلى، وهو ما نسأل الله التوفيق لبيانه في كتاب مستقل اكتملت بين ايدينا معالمه، وسنصدره قريباً بعون الله»(1) . ولو كان لديه أدنى شك في نسبة تلك النصوص لبينه، ولما حول معالجتها في كتاب منفرد - لم يصدر حتى الآن - بعد أن عرض لها في فهرسته.

ذلك ما تمكنا من تتبعه من دراسات توثيقية للنهج، ونعتقد أن فيها من الدلالات القوية على صحة نسبة كل ما ورد فيه من نصوص لعلي علیه السلام، ولقد حاولنا من جانبنا - وبالاستعانة بدراسات من سبقنا عمل جدولة بجميع نصوص النهج تمكن الباحث من الحصول على أي نص في أية طبعة من طبعاته وذلك من خلال ما تيسر لنا من طبعات مشهورة منع محاولة توثيق كل نص من تلك النصوص من مصدر يمكن الباحث من المقارنة بين روايته وبين رواية النهج(2) لذلك النص، ومن خلال ذلك كله يمكننا اعتبار توثيق نصوص نهج البلاغة قضية مفروغاً منها، بحيث تبدو المطاعن الاخرى مصطنعة، الهدف منها النيل من قيمته الفكرية، لذلك لابد من مناقشتها.

ص: 58


1- مقدمة تحقيق صبحي الصالح لنهج البلاغة ص 12
2- راجع جدولة ا لنهج في نهاية هذه الدراسة

2 - التعريض بصحابة رسول الله k في بعض من نصوصه(1) :

تنحصر مشكلة ما سمي بالتعريض بصحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيما اثارته الخطبة المسماة (الشقشقية)(2) من قضايا خطيرة تتعلق بالولاية والإمامة، إذ يمكن اعتبار تلك الخطبة من أهم النصوص المشكوك في نسبتها إلى الإمام علي علیه السلام، ولقد فند ذلك الزعم كثير من الدارسين للنهج، فالراوندي وثق تلك الخطبة بسند متصل بعبد الله بن عباس الذي تعزى إليه الرواية(3) ، ثم ان ابن أبي الحديد قد أفرد فصلاً كاملاً في شرحه للحديث عن تلك الخطبة والمصادر التي حفظتها قبل الرضي(4) ، ونص ميثم البحراني في شرحه على أنه لم يقبلها ضمن نصوص النهج الا بعد تأكده من نسبتها إلى علي علیه السلام دونما أي شك(5) ، ولو انصف الدارس لتاريخ علي علیه السلام وعصره لما شك في نسبتها إليه فهي «خير مثال يصور لنا نفس علي علیه السلام الشاكية»(6) . وما ورد في تلك الخطبة من شكوى مرة هو

ص: 59


1- قال بذلك الذهبي (ت 748) في ميزان الاعتدال 3/ 124 وفي سير أعلام النبلاء 17 / 589، وابن حجر العسقلاني (ت 852) في لسان الميزان 4 / 223، والحوفي في بلاغة الإمام علي علیه السلام ص 121، وأحمد حسن الباقوري في علي إمام الأئمة ص 70
2- النص رقم (3) في باب الخطب دارت حوله دراسات كثيرة تحدث عنها بالتفصيل محمد رضا الحكيمي في كتابه (شرح الخطبة الشقشقية) وسميت بالشقشقية لقول الإمام علي علیه السلام لابن عباس في نهايتها (تلك شقشقة هدرت ثم قرت) والشقشقة وشقشق الفحل شقشقة: هدر لسان العرب المحيط 2/ 343
3- راجع منهاج البراعة 1 / 131 وما بعدها
4- شرح نهج البلاغة 1/ 205 وما بعدها
5- شرح نهج البلاعة لميثم 1/ 251 وما بعدها
6- صبحي الصالح: مقدمة تحقيق نهج البلاغة ص 10

ما اعتبره المشككون (تعريضا)، ويرجع ذلك إلى أحكام مسبقة، مصدرها عدم تجرد بعض الباحثين من ترسبات الماضي أثناء دراسة الحوادث التاريخية مما ادى بهم إلى عدم التفريق بين التعريض والنقد.

فالتعريض لغة خلاف التصريح وهو «التورية بالشيء عن الشيء، وفي المثل وهو حديث مخرج عن عمران بن حصين، مرفوع: أن في المعاريض لمندوحة عن الكذب - أي سعة»(1) .

ويفهم من ذلك أنه نوع من الكذب المغلف المستساغ وليس أدل على ذلك من قول عمر بن الخطاب «أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب»(2) . ولو حاولنا تطبيق معنى التعريض على ما ورد في (نهج البلاغة) من اقوال في بعض الصحابة، سنجد أن معاني تلك الاقوال من الوضوح والصراحة ما ليس في حاجة إلى تورية أو تزوير، فاتسامها بالوضوح ينأى بها عن التعريض، كما يبعدها عن الشتم، فمما لا يتناسب ومنزلة علي بن أبي طالب علیه السلام قول عبد الزهراء الحسيني «ليتني أدري لماذا يمتنع على علي علیه السلام شتم خصومه وأعدائه الذين شتموه ونكثوا بيعته، وبغوا عليه وتألبوا لقتاله ؟ وأي إنكار على (نهج البلاغة) إذا نقل فيه شيء من ذلك»(3) ، لأن مقولة الإمام «مَنْ نَصَبَ نَفْسَهُ للناّس إمَاماً فَلْيَبدأ بتِعليمِ نَفْسَهُ قَبَل تَعْليمِ غَيْهِ، وَليَكُنْ تأدِيبُهُ بسِيرَتهِ قَبْلَ تَأدِيبهِ بلِسَانهِ»، هي إحدى دعامات شخصيته الفذة في التعامل مع من حوله من الناس، فإذا كان هو لا يلتزم بتلك المقولة فكيف يسوغ له

ص: 60


1- ابن منظور لسان العرب المحيط 2/ 743 ، الزبيدي تاج العروس 18 / 412
2- ابن منظور، السابق 2/ 344
3- مصادر نهج البلاغة واسانيده 1/ 118

أن يقول لأصحابه الذين سمعهم يسبون أعداءه من أهل الشام «إنّی أكْرهُ لَكُمْ أنْ تَكونُوا سَبَّابيِنَ، وَلكنِكُمْ لو وَصَفتُمْ أعْمَالَهمْ وَذَكرتُمْ حَالَهمْ كَانَ أصوَبَ في القَولِ وَ أبْلغَ فِی العُذْرِ»(1) . وما نصح به اتباعه وشيعته من أهل الكوفة، هو ذاته ما قاله في الصحابة وهو ما لا يمكن تسميته بالتعريض أو الشتم، لأن وصف الأعمال على حقيقتها وإظهار أوجه الحسن والقبح فيها هو ما يسمى بالنقد البناء، وهو ماكان علي علیه السلام يعمل به ويدعو أصحابه إلى العمل به أيضاً. فالنقد كتعبيرعن الفكر الحر ظاهرة ليست جديدة أو مبتدعة في الفكر الإسلامي، إذ إنها ولدت بمولد رسالة الإسلام، فعمربن الخطاب ينتقد تصرف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في تنازله لقريش في صلح الحديبية(2) ، ويعارض طلب الرسول الدواة والكتف حين وفاته صلی الله علیه و آله وسلم(3) ، ومهما تأولنا ذلك وجعلنا له مخارج، فإنه نقد لتصرفات الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الذي «وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى»(4) ، فقد بلغ ذلك النقد في بعض الأحيان حد الصلافة من ذلك قول الخويصرة لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «يا محمد، قد رأيت ما صنعت في هذا اليوم فقال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أجل، فكيف رأيت، فقال: لم ارك عدلت»(5) . كما كان الصحابة أنفسهم ينتقدون بعضهم البعض، وليس أدل على ذلك من قول الخليفة الثاني في الستة الذين رشحهم لإمامة المسلمين(6) ، ولو كان يقصد بذلك تجريحهم أو

ص: 61


1- الجدولة - خطبة رقم 200
2- راجع موقف عمر بن الخطاب من صلح الحديبية - تاريخ الطبري 2/ 634 وما بعدها
3- راجع ما أورده ابن سعد في ذلك الشان الطبقات الكبرى 2/ 243 - 244
4- النجم/ 3
5- ابن هشام - 4/ 138
6- في حوار دار بين عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس فيمن يستخلفه عمر لإمامة الناس من بعده قال ابن عباس «فقلت له: أين أنت عن عبد الرحمن بن عوف ؟ فقال ذلك رجل ممسك وهذا الأمرلا يصلح الا لمعط في غير سرف ومانع في غير اقتار. قال فقلت: سعد بن أبي وقاص ؟ قال:مؤمن ضعيف، قال فقلت: طلحة بن عبيد الله ؟ قال: ذلك رجل يناول الترف والمديح، يعطي ماله حتى يصل إلى مال غيره، وفيه بأو وكبر. قال فقلت: فالزبير بن العوام فهو فارس الإسلام؟ قال: ذلك يوم انسان ويوم شيطان، وعفة نفس، ان كان ليكادح على المكيلة من بكرة إلى الظهر حتى يفوته الصلاة. قال عثمان بن عفان ؟ قال: ان ولي حمل ابن أبي معيط وبني أمية على رقاب الناس وأعطاهم مال الله... تاريخ اليعقوبي 2/ 158

الغض من مكانة احدهم لما رشحه لذلك المنصب الخطير، ويكفي دلالة على ذلك قوله في علي علیه السلام «لو وليهم تحملهم على منهج الطريق، فاخذ المحجة الواضحة، إلا أن فيه خصالا:ً الدعابة في المجلس، واستبداد الراي، والتبكيت للناس مع حداثة السن»(1) وبسبب نقد كثير من الصحابة لسياسة عثمان فقد حظر عليهم حتى الكلام، وقد رأى القدماء ان ضربه لعبد الله بن مسعود(2) ولعمار بن ياسر(3) ، ونفيه لابي ذر(4) الا بسبب ذلك. فالنقد مشروع في الإسلام، لذلك لا نستبعدان ينتقد علي علیه السلام الصحابة، وما قاله في خشونة عمر قد سبقه إليه طلحة بن عبيد الله حين علم باستخلاف أبي بكر لعمر وذلك في قوله «استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وانت معه ؟ وكيف به إذا خلا بهم وانت لاق ربك»(5) ، كما ان ما قاله علي علیه السلام في عثمان هو عين ما قاله عمر فيه(6) .

ص: 62


1- اليعقوبي، السابق 2/ 158 ، 170
2- اليعقوبي، السابق 2/ 158 ، 170
3- راجع ابن عبد البر الاستيعاب بهامش الإصابة 2/ 477
4- راجع اليعقوبي، السابق 2/ 171
5- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 292 ويمكن مقارنته بما جاء في الخطبة 3 من وصف لعمر في النهج
6- راجع الهامش رقم 5 من هذا الصفحة مع مقارنة قول عمر في عثمان بما جاء في الخطبة رقم 3 فقرة 2، نهايتها

اما الشتم والتعريض فهو أسلوب أولئك الذين يحرصون على الحفاظ على مصالحهم الذاتية ولو أدى بهم ذلك إلى التضحية بقيم الإسلام وتعاليمه، وهو ما يصوره قول عمر بن عبد العزيز «كان أبي إذا خطب فنال من علي علیه السلام تلجلج فقلت: يا أبت إنك تمضي في خطبتك فإذا أتيت إلى ذكر علي علیه السلام عرفت منك تقصيراً، قال: أو فطنت لذلك، قلت: نعم، فقال: يا بني إن الذين حولنا لو يعلمون من علي علیه السلام ما نعلم تفرقوا عنا إلى أولاده»(1) .

ثم إن مشروعية نقد الرجال في الإسلام ولدت ما يسمى بعلم «الجرحوالتعديل» فهل في ذلك من غضاضة من عدم الأخذ من أبي هريرة وهو صحابي «إلا ما كان من ذكر جنةّ أو نار»(2) ، أو أن يقال عن فلان صادق وفلان متروك، وفلان مدلس ما دامت تلك الصفات صحيحة. وعليه فانا متى نظرنا إلى ما ورد في النهج عن الصحابة بنظرة الناقد النزية، فسنجد أن ذلك يتناسب وواقع الفترة التي عاشها علي علیه السلام في جميع مراحل حياته وليس أدل على ذلك من قول عمر لابن عباس «والله يا بن عباس أن علياً ابن عمك لأحق الناس بها ولكن قريشاً لا تحتمله»(3) . علاوة على ذلك فإن نقد الرجال في النهج وإن كان شديداً مؤلماً في بعض الأحيان، إلا أنه في أحيان أخرى يتسم باللين والرفق كما جاء في وصف أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(4) ، وكما ورد في النص الذي قرظ خلافة عمر في رأي ابن أبي الحديد وفي خلافة أبي بكر في رأي ميثم البحراني(5) ، وكما ورد في نص

ص: 63


1- ابن الاثير: الكامل 4/ 154
2- ابن أبي الحديد - شرح النهج 4/ 68
3- اليعقوبي - السابق، 2/ 159
4- راجع نص رقم 96 من باب الخطب الفقرة الخامسة بوصف أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم
5- راجع نص 225 باب الخطب وتفسيره عند كل من ابن أبي الحديد وميثم

ثالث من مدح للأنصار(1) . وفي كلتا الحالتين الشدة واللين كان ذلك النقد ينطلق من موضوعية وصراحة لا مجاملة فيها ولا تعريض وذلك يجعلنا ننزل كلام الإمام علي علیه السلام الوارد في النهج المنزلة التي يعنيها الإمام مع عدم تحميل الكلمات أبعاداً أخرى بفعل ترسبات كامنة في النفوس، وإذا ما فعلنا ذلك فسنجد الحقيقة واضحة جليّة من خلال ما أسميناه تعريضاً وهو في الحقيقة نقد.

3 - الطول المفرط في بعض الخطب والعهود بما لا يتناسب وادب صدر الإسلام:

يجب أن يكون دارس الأدب موضعيا أثناء دراسته لأية فترة من فتراتالأدب. والموضوعية تقتضي منه أن يدرس الملابسات التي تحيط بالنصوص موضوع الدراسة بنظرة محايدة ثم يصدر فيما بعد أحكامه. فظاهرة الطول في الأدب نثراً كان أو شعراً لم تكن من اختراع الإمام علي علیه السلام

، فلقد تميز الشعر الجاهلي مع خطابيته بذلك الطول، إذ بلغت معلقة امرئ القيس تسعين بيتاً وبلغت معلقة طرفة ابن العبد مئة وعشرين بيتاً(2) ، وبلغت معلقة لبيد تسعة وثمانين بيتاً(3) ، كما يمكن اعتبار الحوار الذي دار بين عبد المطلب ممثلاً لوفد قريش وبين سيف بن ذي يزن من النصوص الطويلة(4) ، كما أن راجع نص رقم 117 من باب الخطب.

ص: 64


1- راجع أبا زيد القرشي جمهرة اشعار العرب 114 ، 304 ، 237
2- راجع أبا زيد القرشي جمهرة اشعار العرب 114 ، 304 ، 237
3- راجع أبا زيد القرشي جمهرة اشعار العرب 114 ، 304 ، 237
4- راجع ابن عبد ربه العقد الفريد 2/ 24 ، 31 وما بعدها. فإذا ما دخل الشك في خطب الجاهلية تلك، فإن خطب وفود العرب بين يدي الرسول وكتاب صلح الحديبية يمكن اعتبارها من النصوص الجاهلية

خطب وفود العرب بين يدي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وما تخللها من مناقشات حول الدين الجديد، تعد من النصوص الطويلة نسبياً(1) .

ويعد الإطناب من خصائص القرآن الكريم، فإذا ما استثنينا السور الطويلة التي اشتملت على آيات الأحكام نجد بغيتنا في السور الطويلة ذات الموضوع الواحد كسورة يوسف وسورة الكهف.

والطول أيضاً من الظواهر التي تميزت بها بعض خطب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من ذلك ما روي «عن أبي زيد الأنصاري، قال: صلى بنا رسول الله a صلاة الصبح ثم صعد المنبر فخطبنا حتى حضرت العصر، ثم نزل وصلى العصر، فصعد المنبر فخطبنا حتى غابت الشمس، فحدثنا ما كان وما هو كائن فأعلمناوأحفظنا»(2) ثم أن الكتاب الذي كتبه صلی الله علیه و آله وسلم بين المهاجرين والانصار ووادع فيه اليهود وعاهدهم،وهو أول عهد كتب في الإسلام(3) ، يفند مقولة عدم تناسب الطول لخطابة صدر الإسلام وعهوده.

والمتأمل في تلك النصوص التي أشرنا إليها يدرك أن الطول والقصر سواء أكان ذلك في الكتابة أم في الخطابة تفرضه المناسبة والحاجة، فالوضع القائم أثناء ذلك هو العنصر الأساسي الذي يحدد الطول والقصر، لذا فإن من يحاول المقارنة في أساليب الخطابة والعهود، بين عهدي أبي بكر وعمر وبين عهد علي علیه السلام دون دراسة الظروف والملابسات التي حدثت في كل عصر فانه بذلك يلغي أثر الحوادث في مجرى التاريخ.

ص: 65


1- المصدر السابق
2- البنا الفتح الرباني 21 / 372 والحديث مروي في مسند أحمد بن حنبل
3- راجع ابن هشام السيرة 2/ 147 150

فعصر علي علیه السلام يختلف اختلافًا جذرياً عن عصر من سبقه، فإنه وان كانت المدة الزمنية بين عهدوهم وعهده قصيرة جداً في حساب التاريخ الا ان تغير العقلية العربية وتفتحها بعض الشيء على طابع الجدل بفعل التفاعل الحضاري، أدى بالعربي ابن الصحراء إلى التساؤل عن الخطأ والصواب في مجرى الحوادث في محاولة لمعرفة ابعادها ومشروعيتها من وجهة نظر الإسلام، وهذا بطبيعة الحال فتح باب الجدل على مصراعيه. فهل كان من الحق قتل عثمان ؟ ومدى مشروعية محاربة طلحة والزبير ومعهما عائشة لعلي علیه السلام ولماذا استحل الإمام علیه السلام قتالهم ولم يستحل سبيهم وتقسيم اموالهم كغنيمة حرب؟ وهل كان معاوية على حق في تمسكه بدم عثمان بتنصيب نفسه ولياً لذلك بالاعتماد على قوله تعالى «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا»(1) ؟. وما مدى الصواب فياستخدام الخوارج شعار«لا حكم الا لله»؟(2) .

فاعتماد المسلمين على القرآن والسنة دون تأويلهما هو ما كان معمولا به قبل خلافة علي علیه السلام اما وقد بدأ الفكر العربي في التطور، وأخذت روح الجدل تتبوأ مكانتها، فلابد من اتساع نطاق القول لقرع الحجة بالحجة. فاستشهاد عمار بن ياسر رضوان الله عليه ضمن جيش علي علیه السلام كاد أن يثير فتنة في جيش معاوية اعتمادا على قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لعمار«تقتلك الفئة الباغية»(3) . وقد تدارك معاوية ذلك بقوله «إنما قتله من أتى به»(4) . وحكاية الكوفي، وادعاء الشامي في جمله،

ص: 66


1- الإسراء / 33
2- تاريخ الطبري 5/ 55
3- ابن هشام السيرة 2/ 142
4- تاريخ الطبري 5/ 41 ، وراجع تعليق الإمام علي على تلك المقولة، خطبة رقم 140

وحكم معاوية للشامي على حساب حق الكوفي(1) تحمل من دلالات التضليل أكثر مما تحكيه من طرافة. أضف إلى ذلك قول علي علیه السلام إلى ابن عباس حين أرسله إلى مناظرة الخوارج «لا تخاصمهم بالقرآن فانه حمال ذو وجوه ولكن حاكمهم بالسنة»(2) . فذلك يبين بوضوح مدى ما بلغه الجدل في عصر علي علیه السلام. كما ان اعتزال بعض الصحابة علياً ومعاوية قد طرح كثيراً من التساؤلات التي لابد من ايضاحها. ولا يتأتى معالجة كل تلك المشاكل الا بالأقوال الواضحة المبنية على الحجج المقنعة، لكشف أساليب التضليل، وفضح التأويلات الباطلة وهذا ما جعل علياً وهو قطب رحا المعركة يراوح بين الطول والقصر في خطبه حسبما تقتضيه الظروف.

فالمناسبة والظرف المحيط بها - وليس العصر- هما اللذان يحددان نوعية الكلام، فقد لا يؤدي الكلام الموجز في بعض المواقف ما تحتاجه المناسبة منإطالة وشرح يمكن اعتباره في عرف الأدباء إيجازاً، لأن الإيجاز لا يعني قصر العبارة بل يعني ملائمة المقال لمقتضى الحال، فالإيجاز بمعنى الاختصار «ليس بمحمود في كل موضع وبمختار في كل كتاب بل لكل مقام مقال، ولو كان

ص: 67


1- الحكاية كما يرويها المسعودي في مروج الذهب 3/ 41 - ان رجلا من أهل الكوفة دخل على بعير له في دمشق في حالة منصرفهم من صفين فتعلق به رجل من دمشق فقال: هذه ناقتي أخذت مني بصفين، فارتفع امرهما إلى معاوية واقام الدمشقي خمسين رجلا بينة يشهدون أنها ناقته فقضى معاوية على الكوفي، وأمر بتسليم البعير إليه، فقال الكوفي: اصلحك الله انه جمل وليس بناقة، فقال معاوية: هذا حكم قد مضى، ودس إلى الكوفي بعد تفرقهم فاحضره وساله عن ثمن بعيره، فدفع إليه ضعفه وبره وأحسن إليه، وقال له: أبلغ علياً اني اقاتله بمائة الف ما فيهم من يفرق بين الناقة والجمل
2- نهج البلاغة وشروحه رسالة رقم (77)

الإيجاز محموداً في كل الأحوال لجرده الله تعالى في القرآن، ولم يفعل ذلك، ولكنه اطال تارةً للتوكيد وحذف تارةً للإيجاز، وكرر تارةً للإفهام»(1) .

لذلك فإن القول بعدم تناسب بعض الخطب والعهود المأثورة في النهج عن علي علیه السلام وعصر صدر الإسلام، لا يتفق وروح الأدب، لأن قائله لم يضع في عتباره ما ابتلي به الإمام علیه السلام في عصره من مشاكل ومحن، خاصة ان تلك النصوص التي قيل عنها انها طويلة لو وضعت في مكانها الصحيح من التاريخ الإسلامي لتمكنا من خلالها من استلهام «نظراته الثاقبة، وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة، وأساليب، حكم الرعية، وإدارة شؤونها، والحرص على دفع الفتن عنها حتى تعيش في بحبوحة العز والرخاء»(2)

4 - الوصف الدقيق المستوفي لجميع أجزاء الموصوف(3)

إن وصف علي علیه السلام للخفاش وللطاووس هو أساس تلك التهمة، فأحمد الحوفي على ما يبدو قد قبل ما جاء من وصف للنملة في النهج سوى طريقة أكلها (4) ،كما انه قد تجاوز عن وصف الجرادة سوى ما جاء في وصف عينيها(5) ، واستبعد نسبة وصف الخفاش لعلي علیه السلام خاصة وصف أجنحته(6) ، كما واستبعد أيضاً

ص: 68


1- ابن قتيبة - أدب الكاتب ص 19
2- صبحي الصالح - مقدمة تحقيق نهج البلاغة، ص 11
3- من جملة الشكوك التي وجهها أحمد أمين لنصوص النهج قوله «هذا إلى ما فيه من معان دقيقة على أسلوب لم يعرف الا في العصر العباسي كما نرى في الطاووس » فجر الإسلام ص 149
4- محمد عبد المنعم خفاجي بلاغة الإمام علي ص 104 ، 105 ، 106
5- المصدر نفسه
6- المصدر نفسه

نسبة وصف الطاووس لعلي علیه السلام خاصة ما ورد في وصف السفاد(1) كما لم يقبل ما جاء من وصف دقيق «لجسم الطاووس وريشه وساقيه وتحليله لصياحه»(2) ويمكن تقسيم الوصف المشكوك في نسبته لعلي علیه السلام من تلك الأوصاف إلى قسمين:

1 - ما هو مقبول جزئيا.

2 - ما هو مرفوض كليا.

ان قبول جزء من كلام ما وحذف جزء اخر منه، دونما دراسة دقيقة لذلك، لا يتسق وطبيعة البحث في النصوص الأدبية. إذ يفترض في الدارس أثناء معالجته للجزء المقبول والجزء المرفوض ان يلاحظ ما اسماه عبد القاهر الجرجاني بنظرية النظم المتمثلة في دراسة العلاقة بين المفردات والجمل في البنية الأساسية للنص، لأن النظم ليس (سوى تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب بعض)(3) . فإذا ما تمكن الباحث من تحليل نسيج النص قيد البحث، ودرس علاقات الألفاظ فيه دراسة مقارنيه، بعده يمكنه إصدار حكمه. إذ لا يمكن في مجال تلك الدراسات ان نصف فصاحة تلك النصوص «وصفاً مجملاً، ونقولفيها قولاً مرسلاً، بل لا تكون معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتسميتها شيئا شيئا »(4) ، وبعد ذلك إذا ما لوحظ ثمة تفاوت أو اختلاف بين الجزئين فلا مجال للموافقة على النص بأكمله بسبب دخول الزيف في نسيجه،

ص: 69


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- دلائل الاعجاز المقدمة (ص 30 - 31)
4- دلائل الاعجاز المقدمة (ص 31)

وإلا فإن الأحكام العامة غير المعللة لا يمكن قبولها في مجال البحث.

فقد جاء في وصف النملة بين المقبول والمرفوض في نهج البلاغة: «انْظُرُوا إلِی الَّنمْلَةِ فِی صِغَرِ جُثَّتهِا، وَلَطَافَةِ هَيْئَتهِا، لا تَكَادُ تُنَالُ بلِحْظِ الْبَصَر، وَلا بمِسْتَدْرَكِ الْفِكَرِ، كَيْفَ دَبَّتْ عَلَ أَرْضِهَا، وَصَبَتْ عَلَ رِزْقِهَا، تَنْقُلُ الَحبَّةَ إلِی جُحْرِهَا، وَتُعِدُّهَا فِی مُسْتَقَرِّهَا. تَجمَعُ فِی حَرِّهَا لبِردِهَا، وَفِ وُرُودِهَا لصِدَرِهَا، مَكْفُولٌ برِزْقِهَا، مَرْزُوقَةٌ بوِفْقِهَا، لا يُغْفِلُهَا الَمنَّانُ، وَلا يَحرِمُهَا الدَّيَّانُ، وَلَوْ فِی الصَّفَا الْيَابسِ، وَالَحجَرِ الَجامِسِ! وَلَوْ فَكَّرْتَ فِ مَجارِي أُكْلهِا، وَفِی عُلْوهَا وَسُفْلهِا، وَمَا فِ الجَوْفِ مِنْ شَراسِيفِ بَطْنهِا، وَمَا فِی الرَّأسِ مِنْ عَيْنهِا وَأُذُنِهاَ، لَقَضَيْتَ مِنْ خَلْقِهَا عَجَباً، وَلَقِيتَ مِنْ وَصْفِهَا تَعَباً! فَتَعَالَ الَّذِي أَقَامَهَا عَلَ قَوَائمِهَا، وَبَنَاهَا عَلَ دَعَائِمِهَا! لَ يَشْركْهُ فِ فطِررَتَها فَاطِرٌ، وَلَ يُعِنْهُ عَلَ خَلْقِهَا قَادِرٌ»(1) .

فبالتمعن فيما اجتزانا من وصف للنملة، نلاحظ انه لا يكتمل معناه ولا تتم الغاية منه، الا إذا وضعناه في سياقه الاصلى، لكونه جزءاً صغيراً من كل متكامل، الا ان الدراسة اقتضت ذلك. فلو رجعنا للنص ثانية وحذفنا من سياقه ما هو مشكوك فيه من كلام وقلنا:

«انظروا إلى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تنال بلحظ البصر...

إلى قوله: ولو في الصفا اليابس والحجر الجامس ثم انتقلنا بعد حذف ما هو مشكوك فيه إلى قوله: لقضيت من خلقها عجباً... بقية النص»، لوجدنا ان البناء الداخلي للنص يختل بحيث يأبى العقل قبوله، بسبب النقلة المفاجئة بين وصف النملة غير المكتمل والتفكر في قدرة الله تعالى، هذا من حيث المعاني في السياق.

أما من حيث نسق الجمل وجرس الألفاظ فيجدر ملاحظة الأمور التالية:

ص: 70


1- خطب 233 ، فقرة 3

الجزء المقبول الجزء المشكوك فيه انظروا إلى النملة:

في صغر جثتها ولطافة هيئتها لا تكاد تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر.

كيف دبت على أرضها وصبت على رزقها تنقل الحبة إلى جحرها وتعدها إلى مستقرها تجمع في حرها لبردها وفي وردها لصدرها لو فكرت في مجاري أكلها في علوها وسفلها وما في الجوف من شراسيف بطنها وما في الرأس من عينها وأذنها

1 - بناء النص في كلا جزئيه على الجمل القصيرة ذات الطابع التأملي العميق الهادئ والاعتماد على حروف الجر وضمير الغائبة، مما يعني صدورها من مجرى نفسي واحد.

2 - التناسق التام في العلاقة الترابطية بين الجمل باستخدام الفصل والوصل، ويتضح ذلك من ربط كل جملتين مشتركتين في ابراز معنى جزئي بواو العطف، مثل ذلك: «لا تنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر»، و«ما في الجوف من شراسيف بطنها، وما في الرأس من عينها وأذنها»، مع ملاحظة أن الفصل في كلا القسمين لا يكون إلا في الانتقال من فكرة جزئية إلى فكرة أخرى تكون في خدمة المعنى العام للنص، إذ لم يستخدم العطف أو بالأحرى الوصل الا بين الجمل التي تتكامل في معانيها، ولم يستخدم الفصل إلا في الانتقال بين الأفكار

ص: 71

الجزئية التي تكون العناصر العامة لبناء النص متكاملاً، هذا ولم يخالف مؤلف النص ذلك النسق إطلاقاً وفي جميع الفقرات رغم طول النص وتنوع الأفكار فيه.

3 - التجانس التام بين جرس الألفاظ من حيث مخارج حروفها وتكامل معانيها مما يجعل المواءمة بين القسمين واحدة لا انفصام فيها.

أما ما ورد في النهج من وصف للجرادة فهو «وَإنِ شِئْتَ قُلْتَ فِ الَجرَادَةِ، إذِ خَلَقَ لَها عَيْنيَنْ حَمرَ اوَيْنِ، وَأَسْرجَ لَها حَدَقَتَيْن قَمْرَاوَيْنِ، وَجَعَلَ لَها السَّمْعَ الَخهْفِيَّ، وَفَتَحَ لَها الْفَمَ السَّوِيَّ، وَجَعَلَ لَها الِحسَّ الْقَوِيَّ، وَنَابَيْن بِمِها تَقْرِضُ، وَمِنْجَلَيْن بِمِها تَقْبضِ، يَرْهَبُهَا الزُّرَّاعُ فِ زَرْعِهمْ، وَلا يَسْتَطيِعُونَ ذَبَّها، وَلَوْ أَجْلَبُوا بجِمْعِهِم، حَتَّى تَرِدَ الَحرْثَ فِ نَزَوَاتِها، وَتَقْضِ مِنْهُ شَهَوَاتِها، وَخَلْقُهَا كُلُّهُ لاَ يُكَوِّنُ إِصْبَعاً مُسْتَدِقَّةً»(1) .

فالمشكوك فيه كما يرى الحوفي هو العناصر التالية: «اذ خلق لها عينين...

حتى قوله: منجلين تقبض بهما ». وعلى هذا يصير المقبول من وصف الجرادة «وان شئت قلت في الجرادة يرهبها الزراع في زرعهم، ولا يستطيعون دبها...

إلى آخر الفقرة ». وهذا بطبيعة الحال لا يتسق ووصفه السابق لشكل النملة ولا لوصف بقية الظواهر الطبيعية التي وردت في سياق النص، فالتفصيل والدقة في تلك لا تناسب والاختصار في هذه.ثم إن علاقة علي علیه السلام بالجرادة -سواء أكان بالمدينة أم بالكوفة - كانت علاقة مباشرة فلقد كان بالمدينة - على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وعهد أبي بكر وعمر وعثمان -

ص: 72


1- خطب 233 فقرة 5

يمارس مهنة الزراعة(1)د، كما كان ولّ أمر المسلمين حين أقام بالعراق تلك البيئة الزراعية، فلا بد انه صادف في حياته تلك زحف أسراب الجراد وما يحدثه من كوارث كانت موضع اهتمامه كما كانت موضع اهتمام الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قبله. من ذلك دعوته صلی الله علیه و آله وسلم على الجراد بقوله

«اللهم أقتل كباره، واهلك صغاره واقطع دابره، وخذ بأفواهها عن معايشنا وارزاقنا، إنك سميع الدعاء»(2) . وعلى هذا فإن احتكاكه المباشر بالجرادة في كلتا البيئتين أتاح له التأمل في خلقتها، فتولد عنه ذلك الوصف الذي شك في نسبته إليه.

فإذا ما عدنا بعد هذا إلى ما ورد من وصف للجرادة عند علي علیه السلام لنضعه في مكانه من الخطبة التي اجتزناه منها، سنلاحظ اندماجه التام مع الأفكار الأخرى التي بنيت عليها من حيث الوصف والغاية، إضافة إلى ذلك فإن جمل نص وصف الجرادة وعباراته تكاد تكون جزءاً من بناء متكامل من حيث مقاطع الجمل وترتيب الفواصل فيما بينها، مما يجعلها تتناغم في جرس مخارج ألفاظه متزنة في بناء كلماته، فمطلع النص:

الحمد لله الذي لا تدركه الشواهد(3)

ولا تحويه المشاهد

ولا تراه النواظر

- الجزء الثاني في الصلاة على النبي:

ص: 73


1- من ذلك انه حفر عين أبي نيزر بيده كما جاء في معجم البلدان 4/ 176
2- ابن الأثير جامع الاصول 8/ 274
3- يمكن ملاحظة ذلك من قراءة الخطبة السابقة كاملة بفقراتها الست. والآية من سورة الرعد 15/

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الصفي

وأمينه الرضي

- الجزء الثالث في معنى التأمل في قدرة الله وعظمته وقد ورد الوصف ضمنه:

لو فكروا في عظيم القدرة

وجسيم النعمة، لرجعوا إلى الطريق

ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدحولة

ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقة...

وصف النملة: انظروا إلى النملة في صغر جثتها...

وصف الكون: وكذلك السماء والهواء، والرياح والماء...

وصف الجرادة: وإن شئت قلت في الجرادة...

خاتمة النص: فتبارك الله الذي يسجد له «من في السماوات والأرض طوعاً وكرهاً» فجعل النص ومقاطعه تتبع في نسقها نظاما واحداً مبنيا على التتابع الموسيقي المصطلح عليه بلاغياً بالازدواج، فلكل جملتين متعاطفتين نسقاً موسيقياً واحداً مع ارتكاز تام على الجمل القصيرة الهادئة، التي لا يزيد طول الواحدة منها في أغلب الأحيان على الثلاث كلمات، وتتابع تلك الجمل داخل النص أتاح لواو العطف لأن تكون الرابط الرئيسي في حركة الوصل. إذ تكون من مئة واحدى وعشرين جملة في ست فقرات استخدمت واو العطف خلالها مئة مرة وواحدة.

أضف إلى ذلك الترابط الوثيق بين الأفكار والمتمثل في التنقل بين أساليب الخطاب من الحديث عن جمع الغائبين إلى الحديث عن المفرد الغائب فالمفرد

ص: 74

المخاطب، وتجنب الوعظ المباشر لثقل وطأته على النفوس، ومحاولة الأخذ بفكر المستمع في رحلة تأملية في واقع الخلق وعظمة الخالق تؤدي في نهايتها إلى الغاية المطلوبة من الخطبة، كل تكل العناصر مجتمعة تدل دلالة قاطعة على التوحد في أسلوب الخطبة وصدورها من مجرى نفسي واحد مما يبعد بعض فقراتها عن الشك.

2 - ما هو مرفوض كليا من نصوص في نهج البلاغة ويتمثل في:

أولا: وصف الخفاش(1) :

رغم إننا لم نعثر على مصدر للخطبة التي ورد وصف الخفاش ضمنها إلا أننا نرجح نسبتها إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، لأن وصف الخفاش لم يكن بدعاً في الإسلام، فلقد جاء في تفسير قوله تعالى «أَنِّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّ أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْر فَأَنْفُخُ فيِهِ فَيَكُونُ طَيْرا بإِذِنِ الله»(2) ان الطير المذكور في الآية هو الخفاش، فقد «ذكر انه لما اراد ان يخلق الطير من الطين سألهم أي الطير أشد خلقا فقيل له الخفاش»(3) ، «ويقال: إنما طلبوا خلق الخفاش لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه انه لحم ودم، يطير بغير ريش، ويلد كما يلد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطيور فيكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل وانما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس ساعة، وبعد طلوع الفجر ساعة، ويضحك كما

ص: 75


1- راجع الخطبة رقم 155
2- آل عمران / 49
3- تفسير الطبري 3/ 9

يضحك الإنسان ويحيض كما تحيض المرأة»(1) . فبالمقارنة بما ورد من وصف للخفاش في تفسير الذكر الحكيم وما جاء من وصف له في (نهج البلاغة) لانجد ثمة اختلاف الا في الصياغة والأسلوب في محاولة لتجسيد الصورة لإبراز ما في ذلك الحيوان العجيب من إبداع للتدليل على قدرته سبحانه خاصة ان ذلك الوصف لم يرد في النهج إلا ضمن سياق خطبة وعظية تأملية.

ثم إنه بدراسة أسلوب النص وتحليل معانيه، سنجد أنه لا يكاد يختلف عما ورد في النهج من نصوص وعظية تعمد إلى التأمل وتتسم بالنظرة الواقعية، وتمتاز بكثرة الفواصل بحيث يمكن آدماج النص في بناء الوعظ المتكامل الوارد في النهج دون ان يحدث أي نشاز في المجرى العامل لتلك النصوص، لأن البناء الكلي يهدف إلى غاية واحدة تكمن في محاولة تأكيد قدرة الخالق والايمان به في نفوس بدأت الحياة المادية تجرفها. فلو اجتزانا وصف الخفاش من سياقه ووضعناه مكان وصف النملة أو حتى بجانبه لوجدنا ان منبع كلا النصين واحد «كالجسيم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية»(2)

ثانياً: وصف الطاووس(3) :

لم نتمكن من العثور على مصدر قبل النهج للخطبة التي ورد وصف الطاووس ضمنها، الا ان ما يرجح نسبتها إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، ورود

ص: 76


1- القرطبي - الجامع لاحكام القرآن 4/ 94
2- ابن أبي الحديد - شرح النهج - 10 / 28
3- ورد وصف الطاووس ضمن خطبته رقم 166

جزء منها في (ربيع الأبرار)(1) ، كما فسر غريبها في عدة مواضع من (النهاية في غريب الحديث)(2) ، الذي جعلنا نميل إلى تصحيح نسبتها: نص كلا المؤلفين على نسبتها إلى علي علیه السلام بما لا يدعو إلى الشك، وعدم استخدامها العبارات الترجيحية أثناء إيراد أجزاء من الخطبة على الرغم من استخدامهاتلك العبارات عند شكهم في نسبة نص إلى قائله أو جهلهما لذلك القائل(3) ، علاوة على ذلك تعديل كليهما عند علماء الرجال، لأخذهما في كتبهما بالروايات الصحيحة، وتحريهما الدقة في النقل(4) .

ذاك عن توثيق النص من المصادر المعتبرة، أما من حيث الأسلوب فالنص لا يكاد يختلف في معانيه عما ورد في وصف النملة والجرادة والخفاش، إلا بما يتناسب والحيوان الموصوف من مفردات لغوية، فالقاموس اللغوي العام هو هو لا يكاد يتغير الا بما يتناسب وجانب الرؤية، والجرس اللفظي لم يتغير من حيث تدفقه النابض بالإيمان العميق النابع من أعماق نفس عاشت معاني القرآن الكريم لتخرج منه بتلك الأوصاف التي يمكن اعتبارها ظلاً وارفاً

ص: 77


1- الزمخشري 1/ 293
2- راجع ابن الاثير: 1/ 37 ، 2 / 140 ، 3/ 238 ، 307 470 ، 4/ 144 ، 5/ 123
3- مثال ذلك ما ورد عند ابن الأثير في غريب الحديث 31/5« منه حديث علي، وقيل عمر». لأنه لم يتاكد من نسبة الحديث. وكذلك 32/5« : منه حديث عمر وقيل علي ». وقال ابن أبي الحديد عن الزمخشري «مذهبه الاعتزال ونصرة أصحابنا معلوم وكذلك في انحرافه عن الشيعة وتسخيفه لمقالاتهم» شرح النهج 9/ 280
4- قال ياقوت عن الزمخشري معجم الأدباء 19 / 26 «كان إماما في التفسير والنحو اللغة والأدب، واسع العلم كبير الفضل متفننا» وقال ابن خلكان عن ابن الأثير «إماما في حفظ الحديث ومعرفته وما يتعلق به وخبيراً بأنساب العرب وأخبارهم» وفيات الأعيان 3/ 348

لمعاني التنزيل، جاهد علي علیه السلام بكل طاقاته اللغوية والبلاغية لإسباغه على الحياة ليلتجئ إليه اللاهثون من تعب الجري وراء حياة لا محالة من زوالها.

والوصف مهما بلغ من الدقة لم يكن علي علیه السلام أول من ابتكره، فقد سبق الجاهليون إليه والشعراء منهم خاصة، فوصف طرفة بن العبد لناقته ضمن معلقته، قد بلغ من الدقة ما ادى بطه حسين إلى الشك في نسبته إليه بسببما حواه ذلك المقطع من الغريب بما لا يتناسب وسهولة المفردات التي تميزت بها بقية المعلقة(1) ، لكن المتأمل في ذلك الوصف ومحاولة دمجه في موقف الشاعر، يخلص إلى أن الوحدة المعنوية لموضوع المعلقة هو ما جر الشاعر إلى انتهاج ذلك الوصف الدقيق الوعر وعورة نفسه المتألمة، فالمعلقة بأكملها تصور الحياة من وجهة النظر القائلة، بأنها لا يمكن ان تكون على وتيرة واحدة. كما يتجلى لنا روعة وصف الطبيعة عند لبيد(2) ضمن معلقته عاكسة خيبة امله وتألمه لما احدثه الزمن من تشويه في ربوع كانت عزيزة على نفسه.

على أن الأمثلة من الشعر الجاهلي قد لا تحقق غايتنا المرجوة للتدليل على ما نحن بصدده من دقة وصف أثر عن علي علیه السلام في (نهج البلاغة)، لأن ذلك الشعر ابن بيئته، ولم يصف شيئا من خارج تلك البيئة، اما الطاووس فبعيد كل البعد

ص: 78


1- مطلع وصف ناقة طرفة (طويل): واني لأمضي الهم عند احتضاره بعوجاء مرقال تروح وتغتدي جمهرة القرشي 308
2- راجع ما قاله طه حسين عن ناقة طرفة حديث الاربعاء 1/ 58

عن بيئة علي علیه السلام كما يرى كثير من الشاكين، الا ان الوصف عند الجاهليين يقربنا مما نحن بصدد اثباته، لأننا لا نريد المقارنة بين الوصفين الجاهلي ببيئته ووصف الإمام علي علیه السلام للطاووس الا من حيث الدقة التي تحتاج إلى عين ثاقبة في الأشياء ونفس متأملة شفافة يمكنها ملاحظة كل صغيرة وكبيرة في المحيط الموصوف لتوظيفها فيما يتيح استكمال الصورة من جميع جوانبها، علماً بأن عنصر دقة الملاحظة لا يمكنه أن يؤدي المطلوب الا إذا دعم بثقافة عميقة متعددة النواحيويكون للبيئة أثر كبير في بلورة تلك الثقافة وصيغها بسماتها، التي عادة ما تكون بارزة في النتاج الأدبي الذي ينتمي إليها، وهذا ما جعلنا لا نقتنع بالمقارنة بين ما ورد من وصف عند الجاهليين وبين ما ورد من وصف منسوب في النهج لعلي علیه السلام، الا في حدود عنصر الدقة، مما يعني اختلاف الوصف في النهج من حيث المضامين والاساليب والاهداف التي تتناسب والإسلام في صورته الناصعة، ومن هنا يمكننا ان نقول: بأن القرآن الكريم لم يترك صغيرة ولا كبيرة تتعلق بالحياة الا وتناولها بالوصف المفصل أو المجمل اللماح، وفي كلتا الحالتين فتح باب التأمل والتفكر مشرعاً للمسلم ليزداد من خلال ذلك التأمل ايماناً وليقوى يقيناً بنظراته إلى الحياة نظرة شاملة بتأملها في الذرة الصغيرة المتمثلة في الخردلة إلى الإنسان في نفسه بنفسه فمن الوصف البالغ الدقة في القرآن الكريم قوله تعالى:

﴿وَلَقَدَ خَلَقْنَا الانِسْانَ مِنْ سُلَلَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِی قَرَارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا المْعضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْناَ الْعِظَامَ لحما الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا حْسَنُ ناَهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أنشْأ مْا ثُمَّ أ

ص: 79

الخالقِينَ﴾(1) . فذلك الوصف المتناهي في الدقة يدعو صادق الإيمان الی إلى التأمل منطلقا من نفسه إلى ان يشمل تأمله المخلوقات الاخرى، خاصة إذا كان المتأمل قد رضع الإسلام وشم ريح الوحي وتربع في احضان النبوة. لذافإن وصف الطاووس هو انعكاس الألوان زاهية استلهم علي علیه السلام معانيها من أوصاف الجنة التي وردت في القرآن الكريم، ثم ان وصف صياحه تألماً، ليس الا إثباتاً بأن الكمال لله سبحانه. فمهما بلغ المخلوق من الحسن والجمال فانه بعيد المنال عن الكمال، إذ لو حاولنا تتبع مصدر ذلك الوصف الدقيق في النهج فسنخرج بنتيجة فحواها: ان تلك الأوصاف لن يقدر على تصويرها في أسلوبها الرائع ذاك الا من عايش كتاب الله معايشة عميقة ومباشرة، وهو ما ينطبق على حال علي علیه السلام، الذي وصفه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بأنه «اكرمهم سلماً، واكثرهم علماً واعظمهم حلماً»(2) فلقد «اعطى القرآن عزائمه ففاز منه برياض مؤنقة»(3) . ثم ان الوصف من الموضوعات التي اهتم النبي صلی الله علیه و آله وسلم بها، فقد جاء في صحيح مسلم باب خاص مأثورعن النبي في «الجنة وصفة نعيمها واهلها»(4) ، اضافة إلى ذلك وصفه صلی الله علیه و آله وسلم للفتن واشراط الساعة7(5). لذا فإنه لا يستبعد ان تكون موضوعات الوصف المذكورة في (نهج البلاغة) من كلام علي بن أبي طالب ،علیه السلام خاصة أنها لم تكن مقصودة لذاتها فتوظيفها المحكم في قضايا الإيمان والتوحيد تؤكد تلك النسبة.

ص: 80


1- المؤمنون/ 14
2- المحب الطبري ذخائر العقبى ص 78 - 79
3- المحب الطبري ذخائر العقبى ص 78 - 79
4- مسلم بن الحجاج - 4/ 2174 حتى 2206 - 2207
5- المصدر السابق نفسه

5 - في نهج البلاغة تعبيرات فلسفية ظهرت بعد تدوين العلوم في العصر العباسي(1):

وردت في نهج البلاغة نصوص عالجت قضايا التوحيد، ونفي الصفات عن الخالق سبحانه وبسبب اختلاف المذاهب الإسلامية في هذا الصدد انكر بعضالدارسين نسبة تلك النصوص إلى علي g بحجة عدم تناسب تلك الأفكار وروح عصر صدر الإسلام، لأنهم يرون ان الجدل حول التوحيد والعدل ونفي الصفات، وغيرها من القضايا التي تتعلق بالخلق والخالق لم تظهر الا في فترات متأخرة، إلا أنه إذا ما ثبت توثيق بعض من تلك النصوص بصحة نسبتها إلى علي علیه السلام، فإن ذلك يدحض تلك المقولة، وهذا ما سنحاول اثباته قبل مناقشة القول من جوانبه الاخرى.

يعتبر النص الأول من باب الخطب في النهج من أطول النصوص واشملها حيث ابتدأ بخلق السماء والارض، وخلق آدم، واشتمل على جوانب هامة وكثيرة من علم التوحيد، وتنزيه الخالق عن الصفات، وخلق السماء الأرض وقصة آدم، ومعصية إبليس، وهبوط آدم إلى الأرض ثم تكليف الرسل، واختتام الرسالة بمحمد صلی الله علیه و آله وسلم ثم وصف القرآن الذي أنزل على الرسول وما حواه الكتاب الكريم من علوم، وعلاقة ذلك بالسنة النبوية الشريفة، ثم ختم الخطبة بذكر الحج. فالخطبة من النصوص الطويلة نسبياً التي أوردها الشريف الرضي، الا انه لم يذكر إسنادها ولا المصدر الذي أخذ منه. وهي الخطبة التي حامت حولها

ص: 81


1- أشارإلى ذلك العقاد في عبقرية الإمام ص 43 بقوله «ربما وقع الشك في نسبة بعض الكلمات إلى علي - رضي الله عنه - لأنها تجمعت بعد عصره بزمن طويل وامتزج بها ما لابد ان يمازجها من علوم القرن الثالث وبعده»هذا وقد توسع الحوفي في كتابه بلاغة الإمام وركز في شكه على النص الذي قمنا بتوثيقه، راجع الكتاب المذكور ص 26 وما بعدها

الشكوك في سياقها بالتفصيل، فهي المثال الذي يتخذه أولئك ذريعة لاتهامهم جانب التوحيد والعدل في النهج. ولكن بتتبعنا لها في المصادر الاخرى تأكد لنا انها مما أثر عن علي علیه السلام، خاصة الجزء المشكوك فيه منها.

فمن ذلك ذكر الراوندي إسندها المتصل بعلي بن أبي طالب علیه السلام وتعقيبه على ذلك الاسناد بقوله «ولو اردت ذكر ما حذفه الرضي من هذه الخطبة لطال هذا الكتاب »(1) ، كما ورد الجزء الخاص بنفي الصفات عن الله سبحانه عند أبي علي السكوني (ت 717)(2) ، هذه وان كانت وفاته بعد الشريف الرضي (ت 406) جامع النهج، الا ان الاختلاف في الرواية عند كلام المؤلفين يؤكد بأن مصدر السكوني غير مصدر الرضي، اضف إلى ذلك ان الزمخشري قد أورد جزءا من الخطبة في باب «السماء والكواكب»(3) ، وجزءا اخرفي باب(الملائكة)(4) باختلاف يسير أيضاً في روايته، وهذا يؤكد صحة نسبة الخطبة لعلي علیه السلام على ما اعتقد، ثم انه يؤكد نسبة ما ورد في النهج مثلها إذا ما وضعنا في اعتبارنا المقارنة بين أساليب النصوص والتشابه التام في نظمها.

وعليه فإن المصطلحات التي وردت في النهج لعلي علیه السلام هي من ابتكاره، والذين ينكرون وجود مثل تلك الكلمات الجديدة في عصر صدر الإسلام انما يحاولون الغاء التطورالذي أحدثه الإسلام في اللغة العربية بتأثير القرآن

ص: 82


1- منهاج البراعه 1/ 109
2- راجع عيون المناظرات ص 182 حتى 184 وقارن ذلك بما ورد في نص رقم 1 من باب الخطب في النهج
3- راجع ربيع الأبرار للزمخشري 1/ 114 ، 115 ، 372 وقارن ذلك بما ورد في نص رقم 1 باب الخطب
4- المصدر نفسه

الكريم، كتغيير لبعض المفاهيم العربية كمعنى (زكاة، وصلاة)(1) ثم أنهم ينكرون الاشتقاق والنحت مما يجعلهم يشكون في قدرة المسلمين الأوائل على توليد كلمات مثل (العلة والمعلول، والسبب والمسبب، والأزل والأزلية،

ص: 83


1- بشأن تغير المعنى يتغير الظرف، يقول ابن فارس في الصاحبي من فقه اللغة ص «38 كان العرب في جاهليتها على إرث من آبائهم في لغاتهم ونسائهم وقرابينهم، فلما جاء الله جل ثناؤه بالإسلام،حالت أحوال ونسخت ديانات وأبطلت أمور، ونقلت من اللغة ألفاظ من مواضع إلى مواضع أخر بزيادات زيدت... »، أما بشأن ما استخدث في اللغة من جديد في الإسلام فيحدثنا ابن دريد في المجتنى ص 21، فيقول «قال علي رضوان الله عليه: ما سمعت كلمة عربية إلا وسمعتها من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. سمعته يقول «مات حتف انف» وما سمعتها من عربي قبله صلی الله علیه و آله وسلم. وورد في المزهر للسيوطي 1/ «302 وفي الصحاح قال أبو عبيد: الصير في الحديث انه شق الباب، ولم يسمع هذا الحرف، وقال:والزمّارة في الحديث انها الزينة، قال أبو عبيد: ولم اسمع هذا الحرف الا في الحديث، ولا أدري من أي شيء أخذ. وفي ذلك دلالة على ان اللغة تتطور بتطور الظروف، كما ان الاختراع في اللغة لم يكن مقصورا على عرب الجاهلية بدلالة ما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وعلي بن أبي طالب علیه السلام ربيب الرسول وتلميذه، فلا غرابة ان ياتي في اللغة بالمخترع الجديد. وقد أشار إلى بعض من ذلك الرضي أثناء تعليقه في النهج على قول الإمام «علیه السلام فما عدا مما بدا» بقوله «وهو علیه السلام أول من سمعت منه هذه الكلمة». ثم ان قول الحوفي في كتابه بلاغة الإمام علي ص 127« بان كلمة الازل غير عربية» يفتقر إلى الدقة والنزاهة العلمية، لأن معنى «الازل بالتحريك: القدم، أزلي. ذكر بعض أهل العلم ان أصل هذه الكلمة قولهم للقديم: لم يزل، ثم نسب إلى هذا فلم يستقم إلا بالاختصار فقالوا: يزلي ابدلت الياء، الفاً لأنها اخف، فقالوا: ازلي كما قالوا في الرمح المنسوب إلى ذي يزن: أزني، ونصل أثربي»، ابن فارس (ت 395) مجمل اللغة 1/ 94 ، 95 ، الجوهري (ت 398) الصحاح 4/ 1622 ، ابن منظور (ت 711) لسان العرب المحيط 1/ 57 ، الفيروز ابادي (ت 817) القاموس 1/ 57 بترتيب الزاوي

والأين، والكيف( والسبب في شكهم أنهم لم يجدوا لها شواهد في كلام العرب، فهل وجدوا شواهد في كلام العرب لكل ما جاء به القرآن الكريم(1)؟ وهل يريدون ان تقف العبقرية اللغوية عند الشاهد اللغوي لا تتعداه ؟ لأن عدم وجود الشاهد اللغوي لا يعني عدم ابتكار كلمات أو مصطلحات جديدة فطاقات اللغة لا يحدها زمن، الا ان الناس بالنسبة إلى الابتكار فيها «رجلان:رجل شغل بالفرع فلا يعرف غيره، واخر جمع الأمرين معاً، وهذه الرتبة العليا، لأن بها يعلم خطاب القرآن والسنة، وعليها يعول أهل النظر والفتيا، وذلكان طالب العلم اللغوي يكتفي من اسماء الطويل باسم الطويل لا يضيره الا يعرف الأشق والأسق»(2) لذا فإن كل ما ورد في النهج مما سمي بالمصطلحات الفلسفية، هو من بابا الاشتقاق مما لا يدعو إلى الريبة في صدروه عن علي علیه السلام، أو عن غير علي علیه السلام من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ممن لهم الباع الطويل في فهم القرآن فهماً عميقاً.

اما البحث في الوجود والكون والخلق والخالق فلم يكن وقفاً على العصر الأموي أو العصر العباسي، لأنه وان كان بسيطاً في بدايته فهو معرق في القدم،

ص: 84


1- وردت في القرآن الكريم كلمات عربية كثيرة لم يرد لها شوهد في الشعر الجاهلي من ذلك قوله تعالى:«أَيُّها الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا» الحجرات/ 6، قال ابن الأعرابي لم يسمع في كلام الجاهلية في شعر ولا كلام (فاسقا) قال وهذا عجب، كلام عربي ولم يأت شعر جاهلي - ابن فارس مجمل اللغة: 3/ 731 ، كما ورد قوله تعالى: « ثُمَّ لَيقضُواْ تَفَثَهُمْ الاية الحج/ 29» والتفث: ما كان من نحو قص الأظافر والشارب، وحلق الراس والعانة، وزمي الجمار، ونحر البدن، قال أبو عبيد: ولم يجيء فيه شعر يحتج به صحاح الجوهري 1/ 274 . وبالامكان مراجعة ذلك وامثاله كثير عند السيوطي في المزهر 1/ 294 وما بعدها
2- السيوطي - المزهر 1/ 5

من ذلك ما ورد في الذكر الحكيم عن بحث إبراهيم علیه السلام عن الحقيقة في قوله تعالى:

﴿وَكَذَلكِ نرُي إبِرْاهِيمَ مَلكوتَ السَّمَاوَاتِ وَالارْضِ وَلَیكُونَ مِنَ المْوقنِيِنَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ حِبُّ ًفَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) ًفَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78)﴾(1) . كما «كان للعرب قبل ظهور القرآن شيء من النظر العقلي في بعض النواحي الفلسفية، وان لم يكن ذلك قائماً على أساس أو منهج معروف محدد»(2) ، فقول طرفة بن العبد (طويل):

فذرني أروي هامتي في حياتها *** مخافة شرب في الحياة مصرد

كريم يروي نفسه في حياته *** ستعلم ان متنا عدا اينا الصدي

ارى الموت يعتام الكرام ويصطفي *** عقيلة مال الفاحش المتشدد

ارى الدهر كنزاً ناقصا كل ليلة *** وما تنقص الأيام والدهر ينفد (3)

فوقفته تلك تعكس وجهة نظر فلسفية بسيطة، تتناسب ونزق الشباب والحياة اللاهية، مما يجعلها تختلف عن تأمل اكثم بن صيغي في الحياة والموت في تعزيته لعمرو بن هند في اخيه بقوله: «ان أهل الدار سفر لا يحلون عقد

ص: 85


1- الانعام / 74
2- محمد يوسف موسى القرآن والفلسفة ص 17
3- القرشي - جمهرة اشعار العرب 327 - 330 وهامتي: رأسي، والمصرد: للمقلل والصدي: العطشان، ويعتام: يختار، ويصطفي: ياخذ صفوته وخيرته، وعقيلة المال: أكرمه وأحسنه وأنفسه، والفاحش السيء الخلق، والمتشدد: البخيل

الرحال الا في غيرها، وقد أتاك ما ليس بمردود عنك، وارتحل عنك ما ليس براجع اليك، وأقام معك من سيظعن عنك ويدعك»(1) . وهذا التأمل البسيط في الحياة والموت هو ما حدا بالعربي في صحرائه للبحث عن حقيقة الوجود وسر الحياة فتمثل الجن، وأخذ بنصح الكهان، حتى جاء الإسلام، فطرح في القرآن الكريم مشكلة الخلق والخالق، فكان التوحيد أول أركان الإسلام، وتقبل المسلمون ذلك في بداية الأمر ببساطة، ودونما أية مناقشة، لانشغالهم بنشر الدعوة، ولكن ما لبثوا بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حتى أخذوا في التساؤل عن آي القرآن الكريم وعن صفات الخالق، من ذلك ان يهوديا حضر مسجد المدينة على عهد أبي بكر وقال له «اريد ان اسالك عن اشياء لا يعلمها الا نبي أو وصي نبي، فقال أبو بكر: سل عما بدا لك، قال اليهودي: اخبرني عما ليس لله، وعما ليس عند الله، وعما لا يعلمه الله، فقال أبو بكر: هذه مسائل الزناقة يا يهودي، وهَمّ أبو بكر والمسلمون باليهودي، فقال ابن عباس رضي الله عنهما: ما انصفتم الرجل... فقام أبو بكر ومن حضر معه حتى أتوا علي بن أبي طالب علیه السلام... فقال علي: ما تقول يا يهودي، فرد اليهودي المسائل. فقال علي علیه السلام اما ما لا يعلمه الله فذلك قولكم يا معشر اليهود ان العزير ابن الله، والله لا يعلم ان له ولداً، واما قولك اخبرني بما ليس عند لله، فليس الله عنده ظلم للعباد، واما قولك اخبرني بما ليس لله، فليس له شريك»(2) ، وتلك مرحلة من مراحل الجدل الفلسفي البسيط على ما نعتقد. وشبيه منه سؤال رجل لعلي علیه السلام «اين كان ربك قبل ان يخلق السماوات والارض؟»(3) . لأن القرآن الكريم قد حث الإنسان على

ص: 86


1- ابن عبد ربه العقد الفريد، 3/ 307
2- ابن دريد المجتنى ص 45
3- السكوني عيون المناظرات 138

استعمال العقل لاستنباط الأشياء وعدم قبول الأمور على علاتها. قال تعالى:

﴿«وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)»﴾(1) ، فالغفلة هي عدم البحث عن الحقيقة المؤدية إلى الإيمان التام.

ان الاسئلة التي طرحها اليهودي على أبي بكر، والسؤال الذي طرحه الرجل على علي علیه السلام كلها تصب في مجرى واحد هو البحث في قضية الكون، وخالقه، وهي القضايا التي لم ينفك علي علیه السلام يتحدث فيها كلما واتته المناسبة، لإدراكه العميق بأهميتها بالنسبة لبقاء الإيمان الصادق ثابتاً وقويا في النفوس، فلشعوره بتزعزع قيم الإسلام الروحية أما القيم المادية التي نتجت عن الفتوح واختلاط المسلمين بغيرهم، وبسبب الأهمية التي يوليها علي علیه السلام للتوحيد، فقد جعله العنصر الاساسي في وصيته لإبنه الحسن علیه السلام بقوله «وان ابتدأك بتعليم كتاب الله وتأويله وشرائع الإسلام واحكامه وحلاله وحرامه، ولا اجاوزك إلىغيره، ثم اشفقت ان يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من اهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له احب الي من اسلامك إلى أمر لا آمن عليك فيه الهلكة»(2) .

إذن فالقول بعدم خوض علي علیه السلام في قضايا التوحيد والعدل والتنزيه يحتاج إلى دليل يدعمه، فلم يكن في سيرته ما يشير إلى عقابه لسائل عن تلك القضايا كما لم يؤثر عنه ترك مجادلة القدرية في عصره، فالمواقف التاريخية كلها تشير إلى

ص: 87


1- الاعراف/ 179
2- رسائل 31 ، فقرة 6

معالجته لذلك، فالنصوص المأثورة عنه في غير النهج(1) تبطل زعم القائلين «بظهور أثر الصنعة - في أقواله - ظهوراً يساير ما كان قد نشأ في دولة بني العباس من ثقافة اليونان وطرائق تفكيرهم»(2) . فنسبة ما ورد في نهج البلاغة إلى المعتزلة يتعارض مع رواية ابن النديم «حدثنا أبو الهديل العلاف، قال: أخذت الذي انا عليه من العدل والتوحيد، عن عثمان الطويل، قال أبو الهديل: واخبرني عثمان انه أخذه عن واصل بن عطاء، وان واصلاً أخذه عن أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية وان عبد الله أخذه من ابيه محمد بن الحنفية، وان محمداً اخبره انه أخذه عن ابيه علیه السلام، وان أباه أخذه عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم»(3) ، فإقرار رؤوس المعتزلة بأخذهم التوحيد والعدل والتنزيه عن علي بن أبي طالب علیه السلام يؤيد صحة ما نسب إليه من ذلك، كما ان ما أثر عن ائمة أهل البيت من اقوال في ذلك الشأن(4) يعضد تلك النسبة، خاصة ان التوحيد والعدل من الاصول التي يعتمدها الشيعة الإمامية في مذهبهم(5) اقتداء بعلي علیه السلام واولاده من الأئمة

ص: 88


1- حول القضاء والقدر ومناظراته مع القدرية، راجع: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 146، عيون المناظرات ص 176، وحول التنزيه ونفي الصفات عن الخالق جل شأنه، راجع اقوالعلي علیه السلام في: العقد الفريد 4/ 76 ، ترجمة الإمام علي علیه السلام في تاريخ دمشق 3/ 232 ، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 146 ، عيون المناظرات من ص 245 حتى 178
2- الباقوري علي امام الأئمة ص 36
3- ابن ا لنديم الفهرست 202
4- راجع على سبيل المثال ما ورد عند الكليني اصول الكافي 1/ 72 وما بعدها
5- عن ذلك يقول الزنجاني في كتاب عقائد الإماميه الإثني عشر 1/ « 25 ان الله تعالى واجد الوجود بذاته ولذاته وفي ذاته، ومنزه عن التجسيم والحلول والتركيب والنقائص ومستجمع لجميع صفات الكمال من العلم والقدرة والارادة والعدل ونحوها وان صفاته الحقيقية عين ذاته وهو الواحد الاحد لا شريك له...»

الإثني عشر.

6 - استخدام التقسيم في شرح المسائل ووصفها(1) :

ان التقسيم العددي ليس هو الباعث الحقيقي على الشك في بعض نصوص النهج لأنه قديم قدم اللغة، والذين قالوا بذلك يدركون تمام الادراك بأنه موجود في الشعر الجاهلي، فقد كان عمر بن الخطاب يتعجب من قول زهير (وافر):

فان الحق مقطعه ثلاث *** أداء أو نفار أو جلاء(2)

ومن التقسيم أيضاً قول الاعشى ميمون بن قيس (خفيف):

ظللنا ما بين شاو وذي قد *** ر وساق ومسمع محفال(3)

ومنه أيضاً في الشعر الجاهلي قول طرفة بن العبد (طويل):

فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى *** وجدّك لم احفل متى قام عودي

فمنهن سبق العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزيد

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب *** ببهكنة تحت الخباء المعمد

وكري إذا نادى المضاف محنباً *** كسيد الغضا ذي السورة المتورد

ومما جاء من تقسيم في النثر الجاهلي قول قبيصة بن نعيم حين وفوده وقومه ص: 89


1- قال بهذا الرأي أحمد أمين في فجر الإسلام ص 149
2- ابن رشيق - العمدة 1/ 55 .) ) ) أبو زيد القرشي جمهرة اشعار العرب 234، محفال: يجتمع الناس لسماع غنائه لجمال صوته
3- السابق 326 ، 327 العود: الزوار عند المرض، العاذلات: اللوم، الكميت: الخمر التي تضرب إلى السواد، تعل بالماء: تخلط بالماء، تعصير يوم الدجن: تخصيص يوم المطر، ببكهنة: الحسنة الخلق، الخباء: بيت الشعر، المضاف: المحرج الذي احيط به، محنباً، المحنب: الذي بدت عظامه من الجوع والاعياء، والسيد: الذئب، شجر صحراوي وذئابه من أخبث الذئاب، ذي السورة:البالغ العطش، المتورد: بلغ ورد الماء

على أمرئ القيس ومنه «فأحمد الحالات في ذلك ان تعرف الواجب عليك في احدى خلال: اما ان اخترت من بني أسد أشرفها بيتاً وأعلاها في بناء المكرمات صوتاً، فقدمناه إليك بنسعه تذهب مع شفرات حسامك قصدته فيقول رجل:

امتحن بهلك عزيز فلم تستل سخيمته الا بتسكينه من الانتقام، أو فداء بما يروح من بني أسد من نعمها فهي الوف تجاوز الحسبة، فكان ذلك فداء رجعت به القضب إلى اجفانها لم يردده تسليط الاحن على البرءاء، وأما أن توادعنا حتى تضع الحوامل فنسدل الازر ونعقد الخمر وفق الرايات... »(1) .

وفي صدر الإسلام ورد التقسيم في الحديث الشريف، فمما أثر عنه صلی الله علیه و آله وسلم في ذلك قوله «احلت لنا ميتتان ودمّان، فاما الميتتان فالسمك والجراد، واما الدمّان فالكبد والطحال»(2) ، ومن التقسيم في حديث أبي بكر قوله «ثلاث من كن فيه، كن عليه: البغي والنكث والمكر، قال تعالى: ﴿إنِمَا بَغْيُكُمْ عَلىَ أنْفُسِكُمْ﴾،وقال تعالى ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإنِمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾ وقال تعالى ﴿وَلَ يَحِيقُ هْلِهِ﴾»(3) . ومنه في حديث عمر قوله «ثلاث قد ضمنهن الله تعالى ولا خلف فيهن: ان الله لا يضيع أجر المحسنين، إن الله لا يهدي كيد

ص: 90


1- الأصفهاني الاغاني 9/ 101 ، خلال: خصال، النسع: السير الذي تقاد به الدابة وهوهنا كناية عن الانقياد والطاعة، حسامك: سيفك، السخيمة: الحقد، نعمها: حيواناتها ودوابها، القضب: السيوف، أجفانها: أغمادها، الإحن: الحقد، تضع الحوامل: تلد النساء والعبارة وما بعدها كناية عن طلب مهلة أو هدنة
2- الثعالبي برد الاكباد في الاعداد ص 104 - 114
3- الثعالبي - السابق

الخائنين، ان الله لا يصلح عمل المفسدين»(1) . ومنه في حديث عثمان قوله «أصلح الأعمال ثلاث: خوف الله تعالى في السر والعلانية، والحكم بالعدل في حال الرضى والغضب، والاقتصاد في الغنى والفقر»(2) . ولو أردنا استقصاء ذلك لطال بنا المقال. وعليه فلا مجال للشك في نسبة ما ورد من تقسيم عددي في النهج لعلي بن أبي طالب علیه السلام. فالشك الذي قيل عن التقسيم العددي موجه بالذات إلى رسالة علي علیه السلام التي كتبها لقاضيه شريح عندما بلغه انه اشترى داراً بثمانين ديناراً(3) وكتب بذلك عهداً اشهد فيه شهوداً فكتب له الإمام علیه السلام بذلك عهداً ينعى عليه فعلته، وما ورد في ذلك العهد من تقسيم وتحديد هو الباعث الحقيقي لذلك الشك، لأنه لم يؤثر عن الصحابة نص نسج على منواله، لكن ابن أبي الحديد قد اتخذ من شرط الإمام علي علیه السلام الذي كتبه لشريح دلالة على أن مثل ذلك الشرط كان معمولاً به في زمن الصحابة، الا ان احداً منهم لم ينقل الصيغة الفقهية إلى المعنى الوعظي سوى الإمام علي علیه السلام. والشاكون في هذا النص يأخذون عليه التحديد الدقيق للشرط الفقهي بادعاء أن مثل ذلك لم يتبلور بعد في عصر صدر الإسلام. ويدحض ذلك الزعم ما ورد في القرآن الكريم من دقة متناهية في كتابة الشروط كما ورد في قوله تعالى:

ص: 91


1- الثعالبي السابق
2- الثعالبي السابق
3- يقول أحمد أمين في فجر الإسلام ص « 148 ... نهج البلاغة وهو يشتمل على كثير من الخطب والأدعية... وقد شك في مجموعها النقاد...كالذي فيه من وصف الدار وتحديدها بحدود وهي أشبه بتحديد الموثقين... .» ) ) ) راجع شرح النهج 14 / 30 - 31

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ»(1) ،فشروط الدين كما ينص القرآن الكريم عليها هي من الدقة المتناهية بحيث يمكن اعتبارها نموذجاً يحتذى به في كتابة العقود الفقهية الاخرى التي ضاعت في خضم ما ضاع من التراث الإسلامي. أضف إلى ذلك ما قام به عثمان بن حنيف من مسح لسواد العراق بتكليف من عمر بن الخطاب بعد فتح فارس(2)، فيه دلالة على معرفة المسلمين الأوائل بعمليات المسح وتحديد الاراضي، لأن مسح تلك المساحات الشاسعة وتحديد حدودها الجبائية من قبل احد الصحابة يعني بدهياً انه لا يعوز علي علیه السلام - وهو أفقه الأمة وأقضاها - أن يملي شرطاً مماثلاً لشروط ابتياع الأملاك.

ثم ان ذلك الشرط يتناسب تماماً والزهد الذي التزمه علي علیه السلام - وحث قضاته وعماله عليه فهو قد اقتبس من شرط تحديد العقار شكله، اما المضمون فقد نحا

ص: 92


1- البقرة/ 282
2- راجع أبو عبيد: الأموال ص 68 وما بعدها، وراجع أيضاً: البلاذري فتوح البلدان ص 268 ، فقد ورد فيه «ان عمربن الخطاب بعث عثمان بن حنيف الأنصاري يمسح السواد فوجده ستة وثلاثين ألف ألف جريب»

به نحواً زهدياً الهدف منه الوعظ.

ومما يجعلنا أكثر اطمئناناً في نسبة ا لنص لعلي علیه السلام، وروده باختلاف في روايته عند الصدوق (ت 361) في أماليه(1) كما ورد أيضاً أيضاً باختلاف في بعض عباراته وسند متصل بالشعبي عند سبط ابن الجوزي (ت 654)(2) بحيث لا يمكن الشك في نسبة النص لعلي علیه السلام، ولا فيما ورد من تقسيم عددي منسوب إليه في النهج كما نعتقد.

7 - ورود كثير من المغيبات في ثنايا بعض نصوص النهج(3) :

أورد الشريف الرضي في (نهج البلاغة) نصوصاً تحكي حوادث مستقبلية تأولها كل حسب تصوره واعتقاده، من ذلك وصف التركمان، أو شعوب ما وراء النهر أو المغول حسب تفسير البعض(4) ، كما وردت نصوص مأثورة عن علي علیه السلام يتنبأ فيها بما سيحدث من فتن وما سيصيب الناس جراء تلك الفتن من جوع وقتل وتشريد(5) إلى غير ذلك من أمور كظهور المهدي(6) وحكم بني

ص: 93


1- أمالي الصدوق - المجلس 51 ص 256 ، وراجع في ترجمة الصدوق الكنى والألقاب 1/ 212
2- تذكرة خواص الأمة ص 149
3- يقول العقاد في عبقرية الإمام ص «126 من المحقق الذي لا خلجة فيه من الشك عندنا ان النبوءات التي جاءت في نهج البلاغة عن الحجاج بن يوسف وفتنة الزنج وغارت التتار وما إليها هي من مدخول الكلام عليه. ومما أضافه النساخ إلى الكتاب بعد وقوع تلك الحوادث بزمن قصير أو طويل»
4- راجعها جميعا حسب ترتيبها في المتن الخطب النصوص رقم: (128) (151،138،107،100)، (160،97)، (115)، (14)
5- المصدر السابق نفسه
6- المصدر السابق نفسه

أمية وما سيصيب الكوفة من إذلال بفعل الحجاج(1) وغرق البصرة(2) .

كل ذلك جعل بعض الدارسين يشكك في نسبتها لعلي علیه السلام، وينظرون إلى ذلك من زاويتين:

الأولى - تاريخية:

وتتمثل في التنبؤ بالمغول وما سيحدثونه من رعب في أرض الإسلام وهذا يتنافى ومنطق التاريخ لبعد الشقة الزمنية بين علي علیه السلام وبين حملات التتار على دولة الإسلام إذ سقطت بغداد سنة 656 ه بينما كانت وفاة علي علیه السلام سنة 40 ، مما يجعل أولئك الشاكين يجزمون بأن مثل ذلك قد أضيف على النهج في فترة متأخرة بعد وفاة جامعه الشريف الرضي ويمكن الرد على هذا الزعم من ناحيتين:

1 - بخصوص ما زعم من اضافات إلى (النهج) بعد الشريف الرضي، ويدحض ذلك النسخة التي كانت بخط الشريف الرضي، والنسخ التي نقلت عن تلك النسخة في عصره، أي قبل بدء حملات التتار فكل تلك النسخ تذكرالنص الذي حامت حوله الشكوك بسبب ورود أوصاف تلك الشعوب ضمنه، وغزوهم دولة الإسلام، ونسخة الرضي تلك من النسخ التي عول ابن أبي الحديد عليها في شرحه، ويؤيد ذلك إشارته إليها في مواضع متفرقة من ذلك الشرح. كما ان نسخ (نهج البلاغة) المخطوطة منها والمطبوعة على كثرتها لا تكاد تختلف الا في ترتيب بعض النصوص بالتقديم والتأخير، وقد أشار إلى

ص: 94


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه

ذلك ميثم البحراني في شرحه(1) فلو كانت هناك أية إضافات لكانت بعض النسخ أقصر من الأخرى إذ «كان طبيعياً بعد ان استفاضت شهرة الكتاب وطبقت الافاق، وتواتر متنه على ألسنة الأدباء والفضلاء ان يقل الاختلاف في نصه، وان ينتقل من جيل إلى جيل برواية تكاد تكون واحدة. واذا اضفنا إلى شهرته الأدبية ما احيط به من معاني التعظيم بل التقديس ولا سيما لدىاخواننا علماء الشيعة الكرام، لم نعجب لسلامته من الزيادة والنقصان، وندرة ما وقع فيه من التحريف والتصحيف(2) . اضافة إلى ذلك فانه بمناسبة الذكرى الألفية الوفاة الشريف الرضي فقد قام السيد عبد العزيز الطباطبائي بدراسة لحياته ومؤلفاته(3)، وقد وقف طويلًا عند (نهج البلاغة) وذكر بعضاً من مصادره، وتعرض أيضاً لذكر مخطوطاته الباقية في المكتبات منذ عصر الرضي حتى القرن الثامن الهجري، وقد عرض إلى مخطوطة سنة تسع وستين واربعمئة لناسخها الحسين بن الحسن بن الحسين المؤدب وهو من أعلام القرن الخامس الهجري، وقد عاصر الشريف الرضي فيما يعتقد، وتعتبر النسخة من أقدم النسخ المخطوطة للنهج وأنفسها، وقد قامت لجنة الاحتفال بتصويرها وتمكنا من الحصول على صورة من تلك المخطوطة وبتصفحنا إياها وجدنا الخطبة مثارالشك موجودة ضمن نصوصها مع ملاحظة أن النسخة قد فرغ من كتابتها قبل سقوط بغداد بمئة وتسع وثمانين سنة. لذا فإن الإدعاء بالزيادة في نهج البلاغة بعد الشريف الرضي - في اعتقادنا - ضرب من المكابرة.

ص: 95


1- راجع شرح نهج البلاغة لميثم 3/ 413
2- صبحي الصالح مقدمة تحقيق النهج ص 18
3- راجع مجلة تراثنا، العدد 5 السنة الأولى 1406 - 1985 ،ص 55 وما بعدها

2 - ان ما مورد من وصف في (نهج البلاغة) لتلك الشعوب، فقد ينطبق على المغول أو على غيرهم من شعوب القوقاز الأخرى التي غزت البلاد الإسلامية وتسلطت على الخلافة، فالنص في اعتقادنا لا يحدد جنساً معيناً أو بالأحرى لا يعني التتار بالذات ولم يضف إلى النهج بعد غزوهم لبغداد، فمن الدلالات المؤكدة على وجود النص في نهج البلاغة قبل سقوط بغداد سنة 656 وجوده في نسخ نهج البلاغة التي اعتمدها ابن أبي الحديد في شرحه، وكما هو معلوم انابن أبي الحديد قد شرع فيه قبل سقوط بغداد فقد تم تصنيف الشرح «في مدة قدرها أربع سنين وثمانية أشهر وأولها غرة رجب سنة أربع وأربعين وستمائة، وآخرها سلخ صفر من سنة تسع وأربعين وستمائة»(1) ، كما أن الشارح قد توفي سنة 655 أي قبل سقوط بغداد بعام بحيث يمكن القول ان النص لم يضف إلى النهج بعد حملة التتار على بغداد.

ثم إن الوصف الذي ورد في (نهج البلاغة) لتلك الشعوب، هو ذات الوصف الذي أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فيها، من ذلك قوله صلی الله علیه و آله وسلم «ينزل الناس من امتي بغائط يسمونه البصيرة عند نهر يقال له دجلة، يكون عليه جسر، يكثر أهلها وتكون من أمصار المهاجرين وفي رواية أخرى المسلمين - فإذا كان آخر الزمان جاء بنو قنطورا، عراض الوجوه، صغار الاعين حتى ينزلوا على شط النهر، فيتفرق أهلها ثلاث فرق...»(2) ، وما ذكر في النهج من وصف لا يكاد يختلف في مضمونه عما ورد في الحديث الشريف.

ص: 96


1- ابن أبي الحديد - شرح النهج 20 / 349 - دار احياء التراث
2- ابن الأثير - جامع الأصول 10 / 403 ، وقد جاء في صحيح مسلم 4/ 2233 ممثلة تحت رقم 66-62

الثانية: عقائدية:

فالغيب لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى، وما ورد في (نهج البلاغة) من مغيبات يتنافى وقوله تعالى «قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ»(1) ، وقد عرضنا لمفهوم علي بن أبي طالب علیه السلام للغيب في موضع اخر من هذا البحث(2) ولكن الذي نريد أن نسجله هنا أن ما أثر من استكناه لبعض الأمورالمستقبلية لم يكن قصراً على علي بن أبي طالب علیه السلام دون غيره من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الذين أخذوا ذلك كله عنه صلی الله علیه و آله وسلم. فلو رجع من قال بالشك فيما وردفي بعض النهج من استكناه لأمور مستقبلية إلى الصحاح الستة لوجد ان كل النصوص التي تعرضت للمغيبات في النهج تتماشى مع ما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من ذلك الشأن(3)، بالإضافة إلى ذلك فقد أثر عن عمر بن الخطاب ما هو أدق تفصيلاً مما ورد في النهج منه قوله لابن عباس عن خلافة علي علیه السلام «أما أنه سيليها بعد هياط ومياط ثم تزل قدمه فيها، ولا يقضى منها اربه، ولتكونن شاهداً ذلك يا عبد الله، ثم يتبين الصبح لذي عينين»(4) ، ومنه ما رواه ابن الأثير في ذكره لفتح (فسا، ودار بجرد) من فارس، إذ «دهم المسلمين أمرعظيم وجمع كثير واتاهم الفرس من كل جانب، فرأى عمر فيما يرى النائم تلك الليلة معركتهم في ساعة من النهار، فنادى الغد الصلاة جامعة، حتى إذا كان في الساعة التي رأى فيها ما رأى خرج إليهم، وكان ابن زنيم والمسلمون بصحراء، إن أقاموا

ص: 97


1- النمل / 65
2- راجع القضايا الكلامية في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام ضمن هذا البحث ص 505 وما بعدها
3- راجع جامع الأصول 4/ 429 في قتل عثمان، 431 في وقعة الجمل، 432 في الخوارج، 442 في أمر الحكمين 445 في ذكر بني مروان 446 في ذكر الحجاج
4- شرح ابن أبي الحديد 12 / 80

فيها احيط بهم، وان استندوا إلى جبل خلفهم لم يؤتوا الا من وجه واحد، فقم وقال: يخطب يا سارية بن زنيم الجبل الجبل، ثم اقبل عليهم وقال: ان لله جنوداً ولعل بعضها ان تبلغهم، فسمع سارية ومن معه الصوت، فلجئوا إلى الجبل، ثم قاتلوهم من وجه واحج فهزمهم الله، واصاب المسلمون مغانمهم»(1)، فمن الملاحظ ان عمر بن الخطاب قد تمكن من انقاذ جيش المسلمين وتوجيهه إلى النصر بفارس عن طريق حلم، ثم نداء في ساعة معينة من المعركة من على منبر المدينة المنورة التي بينها وبين ارض المعركة مسافات شاسعة.

واحتمال تصديق مثل ذلك والاعتقاد به، يستوجب احتمال تصديق ما أثر عن الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة من مغيبات، والا فإن الشك يشمل كل ما أثر عن الرسول وصحابته الكرام في هذا الشأن، اضافة إلى ذلك فإن المغيبات المأثورة عن علي علیه السلام لم يكن ليقتصرعليها (نهج البلاغة) فقط، فقد ورد الكثير منها عند المبرد(2) وعند أبي حنيفة الدينوري(3) ، وكل ذلك بجعلنا نميل إلى الرأي القائل باحتمال صحة نسبة تلك النصوص إلى علي بن أبي طالب علیه السلام.

8 - ورد في النهج الكثير من النصوص التي فحواها الوهد والتصوف وذكر المسيح:

يمكن ان نشك فيما ورد من نصوص زهدية في النهج، لو انها لا تتناسب وسرة من نسبت إليه تلك النصوص، ولكن واقع الحال يخالف ذلك، ففي سيرة

ص: 98


1- ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 21 - 22
2- راجع الكامل في الأدب 1/ 303
3- راجع الأخبار الطوال ص 151 ، 152

علي علیه السلام من الأمثلة الكثيرة التي تؤكد أن ذلك المنحى من طبيعته، بحيث لا يمكن فصله اطلاقا عن سيرته، من ذلك ما أورده أحمد بن حنبل على لسانه «لقد رأيتني مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وإني لأربط الحجر على بطني من الجوع، وان صدقتي اليوم لأربعون الفاً»(1) ، ومنه أيضاً قول معاوية بن أبي سفيان «لو كان لعلي علیه السلام بيت من تبن وآخر من تبر لأبعد التبر قبل التبن»(2) . هذا وقد دار حديث حول الزهاد في مجلس عمر بن عبد العزيز «فقال قائلون: فلان، وقال القائلون: فلان فقال عمر بن عبيد العزيز: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب علیه السلام»(3)، ويكفي دلالة على زهد علي علیه السلام قول ضرار «فاشهد لقد رايته في بعض مواقفه وقد ارخى الليل سدوله وهو قائم في محرابه، قابض على لحيته، يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين ويقول: يا دنيا يا دنيا، اليك عني، أبيّ تعرضت؟ أم إليّ تشوقت؟ لا حان حينك، هيهات: غرّي غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها، فعيشك قصير، وخطرك يسير وأملك حقير، آه من قلة الزاد، وطول الطريق، وبعد السفر، وعظيم المورد»(4) . فالزهد جبلة زرعها الإسلام في أعماق علي علیه السلام بفعل عيشه في كنف أعظم الزهاد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم واقتدائه به في جميع شؤون حياته، فقد ورد في الأثر «عن ابن عباس، أن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم دخل عليه عمر، وهو على حصير قد أثر في جنبه، فقال يا نبي

ص: 99


1- البناالفتح الرباني، 19 / 106
2- ابن عساكر ترجمة علي من تاريخ دمشق 3/ 158 من تحقيق محمد باقر المحمودي
3- ابن عساكر - السابق 3 / 202
4- ورد هذا الخبر في كثير من المصادر منها - المسعودي - مروج الذهب 2/ 433 ، القالي المالي 143/2 ، الحصري القيرواني - زهر الآداب 1/ 40 ، ابن عبد البر - الاستيعاب بهامش الإصابة 44/3 ، الابشيهي - المستطرف 1/ 210

الله، لو اتخذت فراشاً أوثر من هذا، فقال: ما لي والدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا الا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار ثم راح وتركها»(1) . لذلك فإن محاولة الدس فيما ورد من زهد في النهج بالقول باثر المسيحية فيه لا يستند لأية حجة، لأن ما اسماه اولئك بمنهج المسيح - بسبب ذكر المسيح في نص واحد من (نهج البلاغة) قد أثر الكثير منه عن صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فافرد أحمد بن حنبل فصلاً كاملاً بما أثر عنهم في «زهد عيسى علیه السلام ومواعظه»(2) ، ومما أثر عن أبي هريرة في ذلك قوله «كان عيسى بن مريم علیه السلام يقول لأصحابه: اتخذوا المساجد مساكن، والبيوت منازل، وكلوا من بقل البرية وانجوا من الدنيا بسلام... واشربوا الماء القراح»(3)، ومنه ما روي عن مالك بن أنس، قال «بلغني ان عيسى بن مريم علیه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسوا قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم ارباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، وإنما الناس رجلان: مبتلى ومعافى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا أهل العافية»(4) .

وبالمقارنة بين ما ورد في النهج وبين ما روي عن الصحابة في زهد المسيح علیه السلام نلاحظ ان لا اختلاف بين هذا وذاك الا في صياغة الألفاظ مع انطلاق المعاني ودورانها في رحاب الإسلام بعيدة كل البعد عن رهبانية المسيحية بالانزواء عن الدنيا وترك ملذاتها. إضافة إلى ذلك فإن ما اسماه أولئك بمنهاج المسيح، لم يتعدَّ

ص: 100


1- البنا الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد 19 / 102
2- كتاب الزهد 1/ 176 حتى 203
3- ابن مبارك كتاب الزهد ص 198
4- السابق ص 44

في (نهج البلاغة) الأربعة أسطر وردت ضمن خطبة وعظية(1) ، ذكر فيها زهد النبي صلی الله علیه و آله وسلم وغيره من الرسل علیهم السلام، وذلك يجعلنا لا نرتاب في نسبتها هي وغيرها من النصوص الأخرى إلى علي علیه السلام، لأن الزهد في كل تلك النصوص يتطابق تماماً ونهج الإسلام لانطلاق ذلك الزهد من ذم الدنيا ولهوها، فهو مبني على:

- ما ورد في القرآن الكريم كما في قوله تعالى:

﴿وَمَا الحیاه الدُّنْيَا إلِّاَ مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾(2) .

- وما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»(3) .

- ومن وصف عمر بن الخطاب لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «لقد رأيت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يظل اليوم يتلوى، ما يجد دقلاً يملا به بطنه»(4)

أضف إلى ذلك ما روته المصادر عن زهادة علي علیه السلام وخشونة لباسه وجشوبة طعامه(5) .

9 - وصف الحياة الاجتماعية وصفا دقيقا وانتقاد سلوك بعض الولاة واخلاقهم(6) :

ان الشاكين في نسبة نصوص نهج البلاغة التي تعرضت بالنقد لسلوك الولاة وفضح أعمالهم لعلي بن أبي طالب علیه السلام، إنما ينكرون فترة خلافته التي ص: 101


1- راجع باب الخطب، نص رقم 161
2- الحديد 20 وال عمران: 185
3- صحيح مسلم 4/ 2273
4- السابق 4/ 2285 ، والدقل: بفتح الدال والقاف أراد التمر صحاح الجوهري 4/ 1698
5- راجع أحمد بن حنبل كتاب الزهد 2/ 47 وما بعدها
6- راجع أثر الشيع في الأدب، ص 60 - 61

امتدت من 35 ه الى 40 ه ولم تشهد حياته خلالها الاستقرار، حيث بدأت القيم تتغير بغلبة النزعة المادية على النزعة الروحية في طبيعة الإنسان المسلم، ووجود علي علیه السلام في خضم فترة الانتقال تلك جعله يحس للوهلة الأولى من توليه الخلافة، ان الإمارة قد أصبحت مغنماً مادياً في نظر كثير من الصحابة، فها هو معاوية يشترط في بيعته لعلي علیه السلام ان يقره والياً على الشام(1) ، والزبير بن العوام يطلب منه ولاية البصرة(2) ، كما يبدي طلحة بن عبيد الله رغبته في ولاية الكوفة(3) .

ولما كانت مبادئهُ تأبى عليه المصانعة، كان لابد له من حسم الأمر منذ البداية - وان كلفه بذلك الكثير مما جعل أولئك يتظاهرون عليه ويؤلبون الأمة على الثورة بقصد نقض خلافته(4) ، مع ملاحظة أن من أولويات الأمور التي قام بها طلحة والزبير عند دخولهما البصرة الاستيلاء على بيت المال(5). وإذا ما تركنا ذلك جانباً، نجد أن بعض ولاته لم يكونوا في مستوى المسؤولية التي أناطها بهم في الفترة الانتقالية تلك، من ذلك أن أبا موسى الأشعري واليه علىالكوفة كان «كارهاً للقتال مخذلا الناس عن نصرة امامهم»(6) ، كما «لم تكن طاعة مصقلة - والي أذربيجان - لعلي علیه السلام طاعة الرجل الذي يصدر في كل ما يأتي

ص: 102


1- راجع ابن قتيبة الإمامة والسياسة 1/ 117، البلاذري انساب الاشراف 2/ 293
2- راجع تاريخ 4/ 429 ، 438
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع السابق 4/ 475 - قول عبد الله بن الزبير لحكيم بن جبلة في أمر عثمان بن حنيف «لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلى سبيل عثمان بن حنيف حتى يخلع علياً»
5- راجع البلاذري أنساب الأشراف 2/ 133 ففي قول الزبير لما دخل بيت مال البصرة
6- طه حسين علي وبنوه 34

عن معرفة الحق والايمان»(1) ، اضافة إلى العصبية القبلية التي كانت تنضح بها نفوس بعض ولاته كالأشعث بن قيس(2) ، لكنه بالرغم من كل تلك المصاعب لم يتهاون إطلاقا في إحقاق الحق، فقد «كان شديد المراقبة لعماله، يشدد عليهم في الحساب، وفي سيرتهم العامة والخاصة وأنه كان يرسل الارصاد والرقباء ليطلعوه على سيرة العمال»(3) . فمن يقوم بتلك الأعباء الثقيلة دون هوادة، في عصر مضطرب، لا يعوزه القول إذا كان يملك بجانب الشجاعة والجرأة، الورع وقوة البيان. وعليه فإن ما ورد في (نهج البلاغة) من وصف للمجتمع، ونقد لاذع لسلوك بعض الرجال كمعاوية(4) ، وطلحة والزبير(5) ، وعبد الله بن عباس(6) والاشعث بن قيس وغيرهم، هو من كلام علي علیه السلام ويؤيد ذلك، وقائع التاريخ وورود تلك النصوص باختلاف في رواياتها في المصادر التاريخية السابقة للنهج.

ص: 103


1- السابق 116
2- راجع ابن مزاحم صفين 20 وما بعدها، وراجع أيضاً قول الإمام في الاشعث الاغاني 19/21
3- أحمد محمود صبحي نظرية الإمام 284
4- راجع ابن مزاحم السابق ص 29 ، 57 وما بعدها
5- عما قاله في ذم طلحة راجع العقد الفريد 4/ 314 ، اما عما قاله الإمام علي علیه السلام في علاقته بالزبير فراجع منه ابن الأثير أسد الغابة 3/ 243
6- أخذ عبد الله بن عباس اموالًا طائلة من بيت مال البصرة التي هو وال عليها من قبل علي علیه السلام فلما علم علي علیه السلام بذلك كتب إليه في هذا الشأن يهدده ويوبخه وقد دارت بينهما مشادة سجل جزاء منها البلاذري انساب الاشراف 2/ 170 وما بعدها

10 - نسبة بعض نصوص النهج لغير علي علیه السلام في مصادر اخرى(1) :

ان النصوص التي وردت منسوبة لغير علي علیه السلام في بعض المصادر، بينما نسبها الرضي في (نهج البلاغة) لعلي علیه السلام، تكاد تكون من القلة بحيث يمكن مناقشة كل نص منها على حدة، ففي باب الخطب وردت اربعة نصوص وهي:

1 - الخطبة رقم «32 أيها لناس انا قد اصبحنا في دهر عنود». وقد علق الشريف الرضي عليها بقوله «هذه الخطبة ربما نسبها من لا علم له إلى معاوية، وهي من كلام المؤمنين علیه السلام الذي لا يشك فيه»(2) ، ثم أورد تعليق الجاحظ الذي حقق في نسبتها بقوله «وفي هذه الخطبة ابقاك الله - ضروب من العجب:

منها ان الكلام لا يشبه السبب الذي من اجله دعاهم معاوية، ومنها ان المذهب في تصنيف الناس في الأخبار عما هم عليه من القهر والاذلال، ومن التقية والخوف، اشبة بكلام علي علیه السلام ومعانيه وحاله منه بحال معاوية، ومنها انا لم نجد معاوية في حال من الحالات يسلك في كلامه مسلك الزهاد»(3) ، هذا وقد وثق عبد الزهراء الحسيني(4) النص بما يثبت صحة نسبته إلى علي علیه السلام من كتاب (مطالب السؤول لمحمد بن طحلة الشافعي) الذي ذكر مكان الخطبة بعد ان مهد لها بما يثبت انه لم يأخذها من نهج البلاغة، وفيما ورد من تعليقات كل من الجاحظ والشريف الرضي بالإضافة إلى توثيق النص ما يؤيد نسبته إلى علي علیه السلام.

ص: 104


1- أحمد زكي صفوت ترجمة الإمام علي ص 122 بواسطة عبد الزهراء الحسيني مصادر نهجالبلاغة 1/ 113
2- راجع النص رقم 32 باب الخطب
3- الجاحظ البيان والتبيان 2/ 61
4- مصادر نهج البلاغه 1/ 417

2 - الخطبة رقم « 46 اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر...»(1) ، قال عنها الرضي «وابتداء هذا الكلام مروي عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وقد قفاه أمير المؤمنين بأبلغ كلام وتممه أحسن تمام من قوله: ولا يجمعهما غيرك»(2) ، وبالفعل فإن من يراجع كتب الحديث الشريف(3) يلاحظ ما ذيل به الإمام علي علیه السلام ذلك الدعاء المأثور عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، مما لا يدعو إلى الشك بأن الإضافة كانت لعلي علیه السلام، وفي ذلك دلالة اكيدة على أمانة الشريف الرضي العلمية وحرصه على ابعاد الشك عن مختاراته لعلي علیه السلام في (نهج البلاعة).

3 - الخطبة رقم « 110اما بعد فإني احذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة...»(4) .سكت الرضي عن التعليق عليها، وأوردها إيراد المسلمات بنسبتها لعلي علیه السلام، مما يدل على أنه قد أخذها من مصدر يثق في روايته، ولو وجد حولها أي شك لما سكت عن ذلك. ولكن الجاحظ(5) ، وابن قتيبة(6) وابن عبد ربه(7) قد نسبوا الخطبة إلى قطري بن الفجاءة وقد علق بن أبي الحديد على نسبة الجاحظ لها لقطري بقوله «واعلم ان هذه الخطبة ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتابه (البيان والتبيان) ورواها لقطري بن الفجاءة، والناس يروونها لأميرالمؤمنين علیه السلام، وقد رأيتها في كتاب (المؤنق) لأبي عبد الله المرزباني مروية لأمير

ص: 105


1- يمكن الرجوع إلى النص وتعليق الرضي عليه من خلال النهج باب الخطب
2- يمكن الرجوع إلى ا لنص وتعليق الرضي عليه من خلال النهج باب الخطب
3- راجع ابن الأثير جامع الاصول 5/ 86
4- راجع جدولة النهج باب الخطب
5- البيان والتبيان 2/ 126
6- عيون الأخبار 2/ 250 نتفة من الخطبة
7- العقد الفريد 4/ 141

البلاغة المؤمنين علیه السلام، وهي بكلام أمير المؤمنين أشبه، وليس يبعد عندي أن يكون قطري قد خطب بها بعد أن أخذها عن بعض أصحاب أمير المؤمنين علیه السلام فإن الخوارج كانوا أصحابه وأنصاره، وقد لقي قطري أكثرهم»(1) ، وفي سكوت الرضي عن التعليق على النص، وتعليق ابن أبي الحديد على نسبته بعد توثيقه ما يجعل ترجيح نسبته إلى علي علیه السلام أقرب.

4 - الخطبة رقم «197 أيها الناس إنما الدنيا دار مجاز والآخرة دار قرار...»(2) ، جعل الرضي نسبة هذا النص إلى علي علیه السلام من المسلمات بعدم التعليق عليه كعادته في كل نص يحوم حوله الشك، الا ان ابن أبي الحديد قد نبهنا إلى ان المبرد قد نسبه إلى اعرابي نقلاً عن رواية الاصمعي معلقا على ذلك بقوله «واكثر الناس على ان هذا الكلام لأمير المؤمنين علیه السلام، ويجوز ان يكون الاعرابي حفظه فأورده كما يورد الناس كلام غيرهم»(3) . فسند رواية المبرد(4) الأصمعي «والعلاقة بين العلويين والأصمعي لم تكن مرضية، فقد قطع علي بن أبي طالب علیه السلام يدَ جَدِّ الأصمعي في سرقة شن رخيص، ولم يتمكن من التغلب على هذه العقدة(5) ، فلا اعتقد أن الاصمعي وهو الخبيربكلام العرب لا يعرف هذه نسبة الخطبة لعلي علیه السلام، ولكن ما يحمله من بغض للعلويين وللإمام علي علیه السلام على وجه الخصوص جعله لا يصرّح بذلك، وما تخطئته للكميت في قوله

(كامل):

ص: 106


1- شرح النهج 7/ 236 وراجع التعليق على الخطبة بأكمله
2- راجع جدولة النهج - باب الخطب
3- شرح النهج 11 / 3 - 4
4- الكامل في الأدب 4/ 108
5- داود سلوم الكميت 1/ 31

أرعد وأبرق يا يزيد *** فما وعيدك لي بضائر

إلا محاولة تخطئة علي بن أبي طالب علیه السلام(1) بطريق غير مباشر في قوله «وقد أرعدوا وأبرقوا ومع هذين الفشل»(2) ، فرواية الأصمعي لا يعتد بها في هذا الموضع. علاوة على ذلك فقد روى الصدوق في أماليه منسوباً إلى علي علیه السلام بزيادة واختلاف في بعض العبارات مما يؤكد أن الشريف الرضي لم يأخذه عنه(3) وعليه فإن هناك مصدراً ثالثاً أخذه عنه الرضي وهذا يؤكد نسبته إلى علي علیه السلام مما لا مجال للشك فيه.

القسم الثاني

ويقتصر على النص رقم 297 من باب الحكم «كان لي فيما مضى أخ في الله...»(4) ، وقد أورده الرضي دون التعليق عليه مما يعني تاكده من نسبته إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، كما لم يشر ابن أبي الحديد إلى الشك في نسبته أيضاً، لكن وجود النص بعينه عند عبد الله بن المقفع(5) ، ملتحمًا بنسيج الموضوع الذي أورده فيه أثار شكوك البعض، لأن بن المقفع لم ينسبه إلى قائله. لكن

ص: 107


1- راجع تعليق داود سلوم حول تخطئة الأصمعي للكميت، هامش 1/ 225 - 226 من شعرالكميت فقد أورد فيه قول الأصمعي ورأي المعري في ذلك القول
2- نص 9 من باب الخطب، وراجع تعليق ابن أبي الحديد على النص أيضاً.
3- أمالي الصدوق ص 97
4- جدولة النهج باب الحكم والكلمات القصار
5- الأدب الكبير، ص 133

المتأمل في النص ومعانيه، يجد تفاوتاً كبيراً بينه وبين أسلوب ومعاني الفصل الذي أدرج فيه، إذ يغلب على عبارات ابن المقفع الواقعية المتسمة بالجفاف فيبعض المواضع، بينما يغلب على عبارات النص المقحم في الفصل، المثالية المتسمة بالروحانية التي لا يمكن لابن المقفع ان يعبر عن مثلها لا لقصور في أدواته التعبيرية، ولكن لبعده روحياً عن شحنات العاطفة العميقة الجياشة التي تسري في شرايين تلك المعاني الهادئة السلسلة عليها مسحة من إيمان عميق يبلغ في بعض من تعابيرها حد التصوف. فلنلاحظ الفجوة بين الأسلوبين ليصبح ما نقول أكثر وضوحاً، إذ يقول ابن المقفع: «قد رأينا من سوء المجالسة أن الرجل تثقل عليه النعمة يراها بصاحبه، فيكون ما يشتفي بصاحبه، في تصغير أمره وتكدير النعمة عليه، ان يذكر الزوال والفناء والدول كأنه واعظ وقاص، فلا يخفي ذلك على من يعني به ولا غيره ولا ينزل قوله بمنزلة الموعظة والابلاغ، ولكن بمنزلة الضجر من النعمة إذا راها لغيره، والاغتمام بها والاستراحة إلى غير روح»(1) ، فابن المقفع في الفقرة السابقة يصف واقع التحاسد في مجتمع يتكالب أفراده على المادة ويغلي في نفوس أبنائه الحسد بعبارات سهلة وأسلوب علمي اقرب منه إلى الأسلوب الأدبي لخوه من الخيال والمحسن اللفظي. ثم فجأة ينقلنا إلى جو مشبع بالمثالية، بأسلوب يكاد يكون روحانياً في قوله «واني مخبرك عن صحاب لي، كان من اعظم الناس في عيني، وكان رأس ما أعظمه في عيني صغر الدنيا في عينيه، وكان خارجاً من سلطان بطنه، فلا يشتهي ما لا يجد، ولا يكثر إذا وجد، وكان خارجاً من سلطان فرجه فلا يدعو إليه ريبة، ولا يستخف له رأياً ولا بدناً، وكان خارجاً من سلطان لسانه، فلا يقول ما لا

ص: 108


1- السابق، ص 132

يعلم، ولا يتنازع فيما يعلم، وكان خارجاً من سلطان الجهالة...»(1) ، فهنا في هذه الفقرة يختلف الوضع من حيث التزاوج بين الأفكار من حيث السلاسة والهدوء في انسياب المعاني، وتناغم الفواصل، والتصوير الفني المنسجم تماماوواقع الموضوع، كالكناية عن زهد الصديق في نظرته إلى الدنيا باستصغار وان للبطن واللسان والفرج قوة جامحة ولكنها مكبوحة الجماح. فالنفس في هذا الفقرة تختلف تماما عنها في الفقرة السابقة من حيث هيئتها واسلوبها ومثاليتها، وعليه فإن الصديق الذي تحدث عنه ابن المقفع كمثال، لا يمكن أن يكون ذا علاقة به حتى يتمكن من عيش روحه وسبر أعماق نفسه ليترجم إحساساته وكأنه يكتب عن نفسه ويصف حاله، لأن ابن المقفع ذاته كان قريب عهد بالاسلام(2) ولما تتشبع روحه بنورانيته حتى يمكنه ان ينقل عن صاحبه الكامل الإيمان مثل ذلك الوصف المشبع بالروحانية وبأخلاق سامية اختلف الناس فيمن تكون «فقال قوم هو رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم... واستبعده قوم... وقال قوم هو أبو ذرالغفاري واستبعد قوم... وقال قوم هو المقداد بن عمرو المعروف بالمقداد بن الاسود... وقال قوم انه ليس إشارة إلى اخ معين»(3) .

فلو كان النص لابن المقفع - وقد فات الرضي ذلك فلن يسكت ابن أبي الحديد عنه وهو الذي ناقش في شرحه الكبير جل نصوص النهج وما دار

ص: 109


1- الأدب الكبير،ص 133
2- عبد الله بن المقفع «اسمه بالفارسية روزبه... يكنى قبل إسلامه أبا عمر، فلما أسلم اكتنى بأبي محمد، والمقفع ابن المبارك وإنما تقفع لن الحجاج بن يوسف ضربه بالبصرة في مال احتجنه من مال السلطان» ابن النديم الفهرست ص 132
3- ابن أبي الحديد شرح النهج 19 / 184

حولها من خلاف. ثم ان ابن قتيبة(1) قد نسب النص للحسن بن علي بن أبي طالب علیهم السلام، ولا يستبعد ان يكون الحسن علیه السلام قد سمعه من أبيه وأورده في مناسبة ما إيراد المسلمات، هذا وقد أشار ابن ميثم البحراني أثناء تعليقه على النص إلى ان ابن المقفع(2) قد نسب ذلك القول للحسن علیه السلام الا اننا لم نجد ذلك في النسخ المطبوعة، فلربما يكون قد اطلع عليه في نسخة خطية لم تصلنا ولربما حذف الاسم بفعل التحريف، كما روى الكليني(3) النص منسوباً إلى الحسن بن علي علیه السلام باختلاف يسير في روايته عما أورده كل من ابن المقفع والشريف الرضي،كما نسب الزمخشري النص إلى الإمام علي علیه السلام أيضاً وعليه فإن الارجح عندنا نسبته إلى علي علیه السلام(4) .

11 - ورود كلمة (وصي): وهي مصطلح شيعي مستحدث في أكثر من موضع في النهج(5) :

من أسباب الشك في بعض نصوص (نهج البلاغة) لعلي علیه السلام، ورود كلمة (وصي) بالمعنى السياسي الذي يرمي منه الشيعة اسباغ الشرعية على الدعوى القائلة بأحقية علي بن أبي طالب علیه السلام بالخلافة دون غيره من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

فمصطلح (وصي) من وجهة نظر أولئك المشككين، هو من اختلاف الشيعة في عصورمتأخرة بعد بروز الشيعة الموالين لعلي علیه السلام كحزب معارض تبلورت

ص: 110


1- عيون الأخبار 2/ 335
2- شرح النهج 5/ 389
3- الاصول من الكافي 2/ 237
4- ربيع الابرار 1/ 305
5- راجع محمد سيد كيلاني أثر التشيع في الأدب العربي، ص 66. وحول إنكار كلمة وصي فيما أثرعن النبي صلی الله علیه و آله وسلم واتهام الشيعة بتلفيقها، راجع أحمد أمين: فجر الإسلام ص 267

افكاره ومعتقداته(1) . والمتأمل فيما ورد في النهج من نصوص لا يجد كلمة وصي بمعناها السياسي الا في موضع واحد هو «لهم خصائص الولاية وفيهم الوصية والوراثة»(2)، والمعنى بالضمير في (لهم وفيهم) آل البيت علیهم السلام. فإذا ما أردنا إثبات صحة نسبة تلك الخطبة، أو بالاحرى تلك العبارة القصيرة التي وردت فيها لعلي علیه السلام، فمن المتوجب ان نثبت بأن مصطلح وصي قد ورد في المأثوراتالنبوية بنفس المعنى الذي تعنيه عقيدة الشيعة له، وذلك بتتبعه تاريخياً. فأول ما تصادفنا كلمة (وصي) بمعناها الاصطلاحي في علي علیه السلام، في بداية تباشيرالدعوة الإسلامية، إذ انه لما نزل قوله تعالى:

﴿وَأنذْرْ عَشِيرَتكَ الاقْرَبيِنَ﴾(3) أمر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم علياً بأن يدعو عشيرته ويعد لهم طعاماً، وبعد ان تجمعوا وفرغوا من طعامهم قال لهم صلی الله علیه و آله وسلم «اني قد جئتكم بخير الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله تعالى أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصي وخليفتي فيكم؟ قال علي:فأحجم القوم عنها جميعاً قلت: وإني لأحدثهم سنا، وأرمصهم عيناً، وأعظمهم بطناً وأحمشهم ساقاً، أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: ان هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا»(4) .

وبصدد كلمة وصي، سأل سلمان الفارسي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم«يا رسول الله ليس

ص: 111


1- راجع أحمد محمود صبحي: نظرية الإمامة لدى الشيعة ص 28 وما بعدها، فقد عرض لنشأة التشيع
2- خطب 12
3- الشعراء 214
4- تاريخ الطبري 2/ 321 ، ابن الا ثير الكامل في التاريح 2/ 42

من نبي إلا وله وصي وسبطان، فنوصيك وسبطاك؟... فلما صلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم الظهر، قال: ادن يا سلمان... فقال: سالتني عن شيء لم يأتني فيه أمر، وقد اتاني ان الله قد بعث اربعة الاف وصي، وثمانية الاف سبط، فو الذي نفسي بيده لأنا خير النبيين، وان وصيي لخير الوصيين، وسبطاي خيرالاسباط»(1) .

وقد تكررت كلمة وصي من النبي صلی الله علیه و آله وسلم وفي علي علیه السلام بالذات في مواطن متعددة، منها قوله صلی الله علیه و آله وسلم «إن لكل نبي وصياً وإن علياً وصيي ووارثي»(2) ، وفي موطن آخر قال صلی الله علیه و آله وسلم «وصيي ووارثي يقضي ديني وينجز موعدي علي بن أبي طالب علیه السلام»(3) . وفي وصية منه صلی الله علیه و آله وسلم في علي بن أبي طالب علیه السلام«اوصي من آمن بالله وصدقني، بولاية علي بن أبي طالب علیه السلام، من تولاه، فقد تولاني ومن تولاني فقد تولى الله، ومن احبه فقد احبني ومن احبني فقد احب الله عزو جل»(4) .

كما وردت كلمة (وصي) بمعناها السياسي، وفي علي علیه السلام أيضاً في شعر صدرالإسلام كما في قول شاعر الأنصار النعمان بن عجلان في رده على عمرو بن العاص حين هجا الأنصار بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم: (طويل):

وكان هوانا في علي وانه *** لأهل لها يا عمر من حيث لا تدري

وصي النبي المصطفى وابن عمه *** وقاتل فرسان الضلالة والكفر(5)

ومنه أيضاً قول حسان بن ثابت الانصاري (طويل):

ص: 112


1- ابن اسحاق السيرة ص 105
2- المحب الطبري ذخائر العقبى، ص 71
3- المحب الطبري ذخائرالعقبى ص 71
4- الزبير بن بكارالأخبارالموفقيات ص 312
5- المصدر السابق، ص 593

جزى الله عنا والجزاء بكلفه *** أبا حسن عنا ومن كابي حسن

حفظت رسول الله فينا وعهده *** اليك ومن أولى به منك من ومن

الست اخاه في الهد ى و وصيه *** واعلم منهم بالكتاب وبالسنن(1)

وفي نفس السياق يقول أبو الاسود الدؤلي (وافر):

احب محمداً حبا شديداً *** وعباساً وحمزة والوصيا(2)

ومن ذلك أيضاً ما ورد في خطبة الحسين بن علي علیهما السلام قبل استشهاده يوم عاشوراء (اما بعد، فانسبوني، فانظروا من انا، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها، فانظروا هل يحل لكم قتلي، وانتهاك حرمتي؟ الست ابن بنت نبيكم a وابن وصيه وابن عمه»(3) .

تلك إذاً كلمة (وصي) بمعناها السياسي، كما وردت في الحديث النبوي الشريف، وفي الشعر وفي الخطابة، وهي تدحض ما زعم بإن الشيعة هم الذين ابتدعوا وألبسوها ذلك المعنى لذلك فإن وجودها في (نهج البلاغة) مأثورة عن علي بن أبي طالب علیه السلام مما لا ريب فيه.

12 - ذكر الإمامة على لسان علي علیه السلام وأحقيته فيها في مواضع كثيرة من النهج هو ما لم يحدث منه على الإطلاق(4) :

عرض (نهج البلاغة) لأحقية علي بن أبي طالب علیه السلام في خلافة المسلمين دون

ص: 113


1- الزبير بن بكار الأخبار الموافقيات، ص 598
2- المبرد الكامل 3/ 205
3- تاريخ الطبري 5/ 424
4- راجع أثر التشيع في الأدب العربي، السابق ص 65

غيره من قرابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وصحابته في أربعة عشر نصاً(1). وهذا ما دعا بعض الدارسين إلى الشك في نسبة نصوص النهج لعلي علیه السلام، أو على الأقل الشك في نسبة تلك النصوص الاربعة عشر، على اعتبار ان علياً علیه السلام بايع من قبله طوعاً ولم يدع لأحقيته في الخلافة. ولكن الباحث المحايد في تاريخ صدر الإسلام سيجد ما يناقض تلك المقولة، إذ ما نفك يذكر احقيته في الخلافة طيلة حياته ابتداء من اليوم الأول الذي بويع فيه لأبي بكر. يحدثنا ابن قتيبة عن ذلك فيقول «ثم ان علياً علیه السلام أتي به إلى أبي بكر، وهو يقول: انا عبد الله وأخو رسول الله، فقيل له: بايع، فقال: أنا أحق بهذا الأمر منكم لا أبايعكم وأنتم أولى بالبيعة لي»(2) وقد يرى أولئك الشاكون ان ذلك القول مختلق على علي علیه السلام، ولكن الذي يؤيده ويثبت صحته ما ورد على لسان أبي بكر عند وفاته «إني لا آسي على شيء فيالدنيا إلا على ثلاث فعلتهن ووددت اني تركتهن، وثلاث اني تركتهن ووددت اني فعلتهن، وثلاث وددت اني سالت رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم عنهن، فإما الثلاث اللاتي فعلتهن ووددت اني تركتهن: فوددت ان لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وان كانوا أغلقوه على حرب»(3) ، وكشف بيت فاطمة علیها السلام الذي تمنى أبو بكر انه لم يفعله يعني ضمنا معارضة علي علیه السلام، ثم يعني ان علياً علیه السلام، اكره على بيعة أبي بكر بعد اخراجه من بيت فاطمة بالقوة، فقول علي علیه السلام وما صاحبه من أمر على البيعة بالإضافة إلى الوق بكشف بيت فاطمة، كل ذلك يعني معارضة علي علیه السلام وانه لم يؤد البيعة لابي بكر الا مكرها، فشعوره بالغبن الذي وقع عليه بعد وفاة

ص: 114


1- راجع الخطب: 212،180،173،163،152،99،73،66،37،26،4،3،2 والحكمة رقم 187
2- ابن قتيبة - الإمامة والسياسة 1/ 11
3- ابن عبد ربه - العقد الفريد 4/ 268

الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هاجس ظل يلاحقه، إذ ما فتيء يذكر ذلك بالم ومرارة في كل مناسبة تقتضيه، حتى بعد ان بويع بالخلافة، فمن ذلك قوله في أول خطبة بعد ان بويع له «قد كانت لكم امور ملتم علي فيها ميلة لم تكونوا عندي فيها بمحمودين ولا مصيبين. أما إني لو أشاء لقلت، عفا الله عما سلف، سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همه بطنه...»(1) .

ويتضح من النصوص التي بين أيدينا أن شكواه من ذلك كانت من المرارة والألم بحيث رواها عنه حتى المنابذين له، فعن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال:

قال علي بن أبي طالب علیه السلام «ما لقي أحد من هذه الأمة ما لقيت، توفى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأنا أحق الناس بهذا الأمر فبايع الناس أبا بكر واستخلف عمر، فبايعت ورضيت وسلمت، ثم بايع الناس عثمان فبايعت ورضيت وسلمت، وهم الآنيميلون بيني وبين معاوية»(2)، كما ان القول بأحقيته في الخلافة قبل انعقاد الشورى(3) ، وعلى الملأ يوم بويع لعثمان مشهور(4) ، وأيضاً مناشدته الصحابة بسماعهم حديث الغدير(5) عن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فيه من الدلالات الأكيدة: على

ص: 115


1- الجاحظ البيان والتبيان 2/ 50
2- البلاذري أنساب الأشراف 2/ 77
3- راجع قوله لعمه العباس بعدما رشحه عمر للخلافة ضمن الستة أصحاب الشورى تاريخ الطبري 4/ 229 ، 230
4- راجع قوله لعبد الرحمن بن عوف بعد أن بايع لعثمان ابن الأثير الكامل 3/ 37
5- الغدير - غدير خم: بين مكة والمدينة بينه وبين الجحفة ميلان معجم البلدان 4/ 188 . وهوالموضع الذي اعلن فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على الملأ بعد حجة الوداع قوله «من كنت مولاه فهذا علي مولاه...» وقد أورد أحمد بن حنبل مناشدة علي صلی الله علیه و آله وسلم الصحابة عن سمعاهم حديث الغدير ورواه في مسنده بسبعة طرق مختلفة راجع الفتح الرباني 23 / 25 / 27 /، كما رد ابن عساكر تلك المناشدة بثلاث عشر رواية مختلفة ترجمة علي من تاريخ دمشق 1/ 5- 30

قوله بأحقيته بالخلافة، لذا فإن ما ورد في (نهج البلاغة) من مثل تلك النصوص المنسوبة إليه، ما هي الا غيض من فيض أثر عنه، مما لا يدع إلى الشك في صحة نسبتها، وان جل تلك النصوص موثقة من مصادر إما إنها قد الفت قبل الشريف الرضي، واما انها قد وردت فيها باختلاف في رواياتها(1) يدل على أنها أخذت من مصادرغير الصادرالتي اعتمدها الرضي.

13 - السجع المفرط والأناقة اللفظية في كثير من نصوص (نهج البلاغة)(2)

من أسباب الشك في نسبة كثير من نصوص (نهج البلاغة) لعلي بن أبي طالب علیه السلام، شيوع السجع والازدواج في الكثير منها، على اعتبار ان الأناقة اللفظية قد دخلت النثر الفني العربي في وقت متأخر، بعد تفاعل الحضارة العربية الإسلامية بالحضارات المجاورة بفعل التأثير والتأثير(3) ، إلا أننا نعتقد ان تلك الفكرة مصيبة لبعدها عن الواقع، إلا إذا كان القصد من القول: الزخرفة اللفظية الخارجية التي يعمد إليها الأديب، لاهتمامه بالسجع كغايةيهدف إليها على حساب المضامين.

فالنثر الجاهلي وان لم يصلنا منه سوى النزر القليل، إلا إننا نعتقد انه قد بلغ حد الاتقان والروعة، لأن نزول القرآن الكريم بأساليبه التعبيرية المعجزة وموسيقاه الرائعة المبنية بإحكام لا يمكن محاكاتها، فيه الدلالات البعيدة والأكيدة على ان العرب في جاهليتهم قد كانوا على دراية تامة بأساليب العربية، وذوق بلاغي

ص: 116


1- راجع مصادر النصوص الاربعة عشر
2- راجع أحمد امين: فجر الإسلام ص 149، شوقي ضيف: الفن ومذاهبه في النثر ص 62
3- راجع أحمد أمين: السابق

رفيع، وما تحديه لهم بآياته إلا لأنهم قد بلغوا مكانة سامقة من الصياغة الأدبية، تحتاج إلى نماذج معجزة تفحمهم وتتحداهم في اعز ما يتملكونه ويفخرون به.

فالقران الكريم «في بلاغته انما كان يخاطب قوماً يفهمونه ويتذوقونه، وفهم القرآن وتذوقه لا يمكن ان يقع اتفاقاً وبلا استعداد»(1) .

فإذا ما سلمنا بمعجزة القرآن البلاغية، فلابد ان تكون موسيقاه اللفظية جزءا لا يتجزأ من تلك المعجزة. وعليه فالسجع بصوره الواردة في كتاب الله «طابع اصيل في اللغة تطور مع تطور الزمن»(2) دولقد أشار أبو هلال العسكري لذلك بقوله «لو استثنى كلام عن الازدواج، فكان القرآن الكريم،د لأنه في نظمه خارج من كلام الخلق وقد كثر الازدواج فيه»(3) . كما ان قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم «اسجعاً كسجع الكهان»(4) يؤكد وجود نوع من السجع الجاهلي المستكره بجانب السجع المقبول المحبب للنفس، ولولا ذلك لما ورد السجع في أحاديثه صلی الله علیه و آله وسلم التي منها «يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام(5) . يعلق الجرجانيعلى الحديث الشريف بقوله «فانت لا تجد في جميع ما ذكرت لفظاً اجتلب من أجل السجع وترك لما هو احق بالمعنى منه وأبر به وأهدى إلى مذهبه»(6) .

فإحساس النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالقيمة الموسيقية للفظ في بعض الأحيان

«ربما غير الكلمة

ص: 117


1- زكي مبارك: النثر الفني 1/ 55
2- السابق 1/ 54
3- أبو هلال العسكري كتاب الصناعتين 260
4- السابق 161
5- اسرار البلاغة 12
6- اسرار البلاغة 13

عن وجهتها للموازنة بين الألفاظ واتباع الكلمة أخواتها كقوله صلی الله علیه و آله وسلم: «أعيذه من الهامة والسامة وكل عين لامة. وإنما أراد ملمة»(1) .

إذن فالسجع والازدواج وغيرهما من المحسنات البديعة، خصائص اصيلة في النظم العربي إذ لم تدخل فيه جراء تأثيرات حضارية وافدة، وعليه فإن ما ورد من سجع وازدواج وغير ذلك من موسيقى لفظية ومحسنات بديعية في (نهج البلاغة) أصيلة في نسبتها إلى علي علیه السلام لأنها لا تتعدى في بنائها وانسجامها السير في ظلال القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف من غير افراط ولا تفريط، بحيث يمكننا تقويمها ونقدها من خلال ما يمكن استنباطه من قواعد واصول شيد عليها البناء الفني في الذكرالحكيم والمأثورات النبوية، لبعدها عن التكلف، والانسجام في تناغم الفاظها من حيث المخارج، واتساقها في نصوصها لخدمة المعاني في جوها الذي قيلت فيه، مما ينأى بها عن الافتعال لأنها صادرة في صخبها وهدوئها عن عاطفة صادقة في تمثليها لروح العصرالذي قيلت فيه، بدلالة احساسنا من خلال العبارات في جرسها عن نبض صادق لا يمكن لآية نفس مهما اوتيت من ملكة بلاغية ان تنقله بالصورة الحية تلك الامن خلال معايشته في واقعه، لأن ترجمة انفعالات الآخرين وأحاسيسهم إلى أفكار من الصعوبة والتعقيد، بحيث لا يمكن أن يعبر عنها إلا صاحبها، وهذا ما يمكن أن نعيشه بالفعل، عند دراستنا للأساليب التعبيرية في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام(2) .

ان (نهج البلاغة) بنصوصه المتكاملة واشلاء الخطب المتناثرة وما ورد فيه

ص: 118


1- كتاب الصناعتين، ص 161
2- يمكن استخلاص ذلك من قراءة في الباب الخامس من هذا البحث ص 601 وما بعدها

من رسائل وعهود وحكم وكلمات قصار، هو بناء متكامل ومنسجم «امتزج فيه أدب وفلسفة وفروسية وسياسية امتزاجاً لا نستطيع معه ان نسل عنصراً منها لنقيمه وحده بعيداً عن سائرالعناصر»(1) . وذلك الاعتبار في حد ذاته يعني صدور النهج من مجرى واحد في بنائه بحيث لا يمكن بأي حال من الأحوال أن نرى في هندسته صدعاً أو في تناغم أصواته نشازاً لأنه كل متكامل وان حاول الشريف الرضي توزيع نصوصه على شكل منهج معين ارتاه فكره.

ص: 119


1- زكي نجيب محفوظ: المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري،ص 29

ص: 120

منهج الشريف الرضي في تصنيفه

لنصوص (نهج البلاغة)

بلغ عدد النصوص التي اختارها الشريف الرضي للإمام علي علیه السلام ضمن كتاب (نهج البلاغة) ثمان مئة واثني عشر نصاً، بين صغير لا يتعدى الجملة المكونة من الكلمتين أو الثلاث والمتوسط المتكون من فقرة أو فقرتين، والكبير الذي بلغ عدة صفحات وقد صنفت في الكتاب حسب الجدول التالي:

الخطب وما يجري مجراها الرسائل الوصايا العهود الحكم والكلمات القصار 244 61 14 4 489 اما المنهج الذي اختطه الشريف الرضي لتوزيع المادة في المنهج ف «يدورعلى ثلاث اقطاب:

- أولها: الخطب والأوامر.

- وثانيها: الكتب والرسائل.

ص: 121

- ثالثها: الحكم والمواعظ(1) .

وعلى هذا فقد ضم الكتاب، مقدمة وثلاثة ابواب:

1 - المقدمة:(2) وقد بين فيها الشريف الرضي الأسباب التي دعته إلى جمع ما تيسر من مأثورات الإمام علي علیه السلام، والمنهج الذي ارتآه في تنسيق مادته، مع الاشادة بعبقرية الإمام علي علیه السلام في مجال البلاغة وغيرها من العلوم، كما ذكرضمن تلك المقدمة سبب تسمية الكتاب ب «نهج البلاغة» ثم تلا ذلك ابواب الكتاب:

2 - الباب الأول: المختار من محاسن خطب الإمام علي علیه السلام، وقد احتوى على مئتين وأربعة وأربعين نصاً بين صغير وكبير، متنوعة المضامين، منها السياسية ومنه الاجتماعية ومنها التأملية التي تبحث في شؤون الخالق والخلق ومنها الزهدية إلى غير ذلك من أدعية وتفسير لبعض من آيات القرآن الكريم.

3 - الباب الثاني: المختار من محاسن كتبه وعهوده ووصاياه، وعدد نصوص هذا الباب تسعة وسبعون نصاً، يمكننا من خلالها دراسة أسلوب علي علیه السلام الاجتماعي والسياسي وطرق تعامله مع أعدائه وعلاقاته بعماله من قضاة وجباة خراج وقادة وولاة، ونظرته إلى طبقات الأمة، وكيفية التعامل مع كل طبقة من خلال علاقة الحاكم بالمحكوم، إلى غير ذلك من وصايا أخلاقية تتعلق بشؤون الدنيا والدين(3) .

3 - الباب الثالث: المختار من محاسن حكمه وما أثرعنه من أقوال قصيرة

ص: 122


1- مقدمة الشريف الرضي للنهج - ملحق رقم 1
2- راجع المقدمة السابقة
3- المصدر نفسه

ويتكون هذا الباب من أربع مئة وتسعة وثمانين نصاً تقريباً، وهو من الثراء بحيث لا يمكن حصر مضامينه في موضوعات معينة، إذ بالإمكان عدّه شاملاً لجميع شؤون الحياة.

إضافة إلى المجهود الكبير الذي بذله الشريف الرضي في جمع المادة وانتقاء شواهده منها وتبويبها، فقد تجلت قدرته كمؤلف بارع ذي ثقافة موسوعية، أثناء عرضه لكثير من النصوص بالتعليق عليها، اما لغاية التوثيق، أو لتبيانقيمة بلاغية دقيقة(1) ، وأما لشرح بعض الغريب(2) ، أو لمناقشة مسألة فقهية عرض إليها النص(3) ، إلى غير ذلك من مسائل كلامية أو سياسية. ولما كانت الغاية البلاغية هي الهدف من جمع تلك النصوص(4) ، فقد أدى ذلك إلى تجزئتها، وتفريقها على فصول مختلفة ومتباعدة داخل الكتاب(5) ، أضف إلى ذلك اجتزاءه بعض العبارات من خطب لم يذكرها، مما يصعب معه فهم تلك العبارات فهماً دقيقاً وأدى إلى كثرة التأويلات حولها(6) ، ومنه أيضاً ورود فقرات متتالية في فصل واحد من خطب متعددة(7) ، والشريف الرضي إذ يقوم بذلك فانه على وعي تام بما يفعل، يقول في المقدمة «ربما جاء فيما اختاره من ذلك فصول غير متسقة، ومحاسن كلم غير منتظمة لأن أورد النكت واللمع ولا

ص: 123


1- راجع على سبيل المثال الخطبة رقم 21
2- راجع على سبيل المثال تعليقه على النص رقم 3، باب الخطب، والخطبة 42، والخطبة 48
3- راجع تعليق الرضي على الحكمة رقم 263
4- راجع مقدمة الشريف الرضي للنهج
5- لقد أشرنا إلى ذلك في ص 37 من هذا البحث
6- راجع ص 37 وما بعدها من هذا البحث
7- وسبق وان اشرنا إلى ذلك في ص 37 وما بعدها من هذا البحث

اقصد التتالي والنسق»(1) .

كما أن الهاجس البلاغي الذي ملك على الرضي إحساسه أثناء تنسيق المادة أوقعه في كثير من المعاني المكررة وعذره في ذلك «أن روايات كلامه - أي الإمام علي علیه السلام - تختلف اختلافاً شديداً: فربما اتفق المختار في روايته فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعاً غير موضعه الأول، إما بزيادة مختارة، أو لفظ أحسن عبارة، فتقتضي الحال أن يعاد، استظهاراً للاختيار، وغيرة على عقائل الكلام، وربما بعد العهد أيضاً بما اختير فاعيد بعضه سهواً أو نسياناً لاقصداً واعتماداً»(2) .

وما يمكن استخلاصه مما سبق، أن منهج الشريف في تنسيقه مادة (نهج البلاغة) قد انبنى على محورين:

- الأول: أساسي وهو البلاغي.

- الثاني: ثانوي وهو تصنيف النصوص حسب الموضوعات.

وسيطرة المحور الأول على فكر الرضي أدت إلى تجزئة كثير من النصوص لتسليط الضوء على الجانب البلاغي فيها، وقد أوقعه ذلك في أخطاء لابد من ذكرها:

أولا:ان التركيزعلى الجانب البلاغي واجتزاءه من النص دون المراعاة لمعناه التام في سياقه، حال دون فهم بعض الجوانب الفكرية التي انطمست معالمها بسبب ذلك مما فتح الباب للتخمين والافتراضات حول معاني تلك النصوص(3) .

ص: 124


1- الشريف الرضي مقدمة النهج
2- المصدر نفسه
3- يقول ابن أبي الحديد في شرحه للنهج 8/ 294 اثناء تعليقه على الخطبة رقم «133 فاما قوله: (وكتاب الله) إلى قوله: (لا يخالف بصاحبه عن الله) ففصل آخر مقطوع عما قبله ومتصل بما لم يذكره جامع (نهج البلاغة)»

ثانيا: إن إيراد فقرات متتابعه في فصل واحد، أدى إلى التناغم الأسلوبي بين الفقرات، والتنافر في سياقها المعنوي كفصل منتظم، مما يوقع الدراس في حيرة، خاصة إذا اعتمد في دراسته على (نهج البلاغة) دون شروحه المطولة كشرح ابن أبي الحديد وشرح ميثم البحراني أو منهاج البراعة للخوئي، لأن تلك الشروح هي التي حاولت معالجة مثل تلك الفصول بإسهاب(1) معتمدة على المصادرالسابقة على النهج.

ثالثاً: توزيع النص الواحد في فصول متفرقة متباعدة داخل الكتاب، حال دون الوحدة العضوية التي أرادها الإمام علي علیه السلام من النص.

رابعاً: قد نتغاضى عن التكرار الذي أورد الرضي له عذراً في مقدمته، ولكن هناك نصوصاً كررها الرضي بعينها دون أية زيادة جديدة فيها وأشار إلى ذلك التكرار عند إيرادها(2) .

خامساً: عالج بعض ما ورد من غريب في كلام الإمام علي علیه السلام ضمن باب الحكم والكلمات القصار، في ثمانية نصوص(3) ، استأنف بعدها الباب المذكور، وحبذا لو افرد لها باباً خاصاً توسع فيه، لأن الغريب لم يقتصر على تلك النصوص الثمانية في مختاراته الكثيرة المتنوعة.

ص: 125


1- عرضنا لنماذج من ذلك في ص 37 وما بعدها من هذا البحث
2- على سبيل المثال راجع الفقرة الأخيرة من الخطبة رقم 173 وقارنها بالنص رقم 212 من باب الخطب - جدولة النهج
3- للتثبت من ذلك، راجع باب الحكم ابتداء بالحكمة رقم 260 وانتهاء بالحكمة رقم 268

على أن كل ذلك لا يغض من المجهود الكبير الذي بذله الشريف الرضي في حفظه هذا الكم الوافر من التراث الإنساني الذي أثر عن علي علیه السلام كما أنه لا ينقص من قيمة النهج كأثرأصيل يمدنا بفيض زاخر من عبقرية تراثنا الفكري في مجال السياسة والاجتماع والأخلاق والفلسفة والأدب والبلاغة.

ص:126

قيمة نهج البلاغة

من خلال دراسة متعمقة في نصوص (نهج البلاغة) نظهر بنتيجة مفادها أن تلك النصوص، وإن تنوعت في موضوعاتها، إلا أنها تكاد تكون متكاملة من حيث أساليبها ونبعها الفكري، فهي تمثل «الجمع العجيب - الجميل - في رجلواحد، بين ان يكون الفارس الذي يجيد القتال بسيفه وجواده، وهو السياسي الذي يجادل ويقاول، وهو الأديب الذي كيف صياغة اللفظ في أروع ما تكون الصياغة... وهو الفيلسوف الذي ينزع بفلسفته إلى ضم الكون كله في أحكام موجزة مركزة نافذة إلى صميم الحق»(1) ، وتلك الاشعاعات المتفرعة من ذلك الكل المتكامل هي التي منحت (نهج البلاغة) الثراء من حيث:

1 - القيمة الأدبية والبلاغية:

عرفنا مما سبق أن الهدف البلاغي هو الأساس الذي من أجله جمعت نصوص

(نهج البلاغة) ولا أعتقد أن الشريف الرضي حين قام بذلك الجمع - وهو الأديب الشاعر ذو الذوق الرفيع - قد غفل عما سيحدثه الكتاب من ضجة في الأوساط الأدبية، وما سيناله من مكانة رفيعة عند المهتمين بالبلاغة والأدب،

ص: 127


1- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري ص 54

خاصة أنه قد ألفه وجمع شتاته بناء على رغبة المتأدبين من أبناء عصره(1) ، كما ان اطلاعه على أثر تلك النصوص في بلاغة من سبقه من الكتّاب(2) كان حافزاً له على ذلك الجمع، أضف إلى ذلك معايشته لتلك النصوص أثناء الاختيار منها فببراعته وحذقه بصناعة الكلام تمكن من اختيار درر الكلم، التي أصبحت من بعده قطب رحى الدراسات والشروح فما أن ظهر الكتاب إلى الوجود حتى تناولت الأقلام نصوصه بالشروح الكبيرة والصغيرة(3) ، وتناقلتها الألسن في لغاتها المختلفة(4)، فأصبحت معانيها ميداناً تتبارى العقول في إظهار عجائبها، وشرح غريبها، والوقوف عند أسرار بلاغتها، بحيث شكلت تلك الدراسات والشروح مكتبة تكاد تكون متكاملة(5). أضف إلى ذلك الدراسات التي ألفت حول النهج وعلى هامشه، فقلما صدرت دراسة أو ترجمة للإمام علي علیه السلام وحياتهإلا وتعرضت لبلاغته، مشيرة في ذلك لما حواه النهج من روائع، كما أنه من النادر جداً أن يترجم للشريف الرضي دون ذكر نهج البلاغة وموضوعاته وما دار حولها من جدل له أو عليه.

ولم تقتصر الدراسات في (نهج البلاغة) على القديم، بل ما زالت مستمرة،

ص: 128


1- راجع مقدمة الشريف الرضي للنهج
2- لا بد أنه قد أطلع على ما روي عن عبد الحميد بن يحيى الكاتب (ت 132 ه) حين سئل «ما الذي مكنك من البلاغة، وخرجك فيها؟ قال: حفظ كلام الأصلع: يعني أمير المؤمنين الجهشياري الوزراء، والكتاب ص 182، كما قد أثر عن استاذه ابن نباتة الفارقي (ت 374 ه) قوله «حفظت من الخطابة كنزاً لايزيده الانفاق إلا سعة وكثرة، حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب علیه السلام»، ابن أبي الحديد: شرح النهج 1/ 24
3- لقد تعرضنا لذلك في ص 19 وما بعدها من هذ البحث
4- لقد تعرضنا لذلك في ص 19 وما بعدها من هذ البحث
5- لمعرفة ذلك بالتفصيل: راجع عبد الزهراء الحسيني مصادر نهج البلاغة وأسانيده 1/ 220 وما بعدها

فمحمد عبده في معرض اشادته بالكتاب يوصي «الطالبين لنفائس اللغة، والطامعين في التدرج لمراقيها، ان يجعلوا هذا الكتاب أهم محفوظهم، وافضل مأثورهم، مع تفهم معانيه في الاغراض التي جاءت من اجلها. وتأمل الفاظه في المعاني التي صيغت للدلالة عليها»(1) . فبلاغة نصوص النهج واساليبها الرفيعة، شحذت عقول الدارسين وحيرت افهامهم لا لأنها اتخذت من القوالب الجمالية غاية، بل لأن العقلية الفذة التي صاغتها استطاعت توظيف البلاغة العربية في طبيعتها الخالصة لمعالجة موضوعات الحياة، معالجة تتسم بالحيوية والصدق، فأذابت الفروسية والسياسة والأخلاق والفلسفة والزهد في قوالب محكمة من المتعذر الفصل بين عناصرها وإقامة أي عنصر منها «وحده بعيداً عن سائر العناصر»(2) . وعلى ذلك فإن عنصري البلاغة والأدب في (نهج البلاغة) وان كانا هما السبب المباشر في جمع نصوص الكتاب إلا أنهما لم يكونا عنصري القيمة الوحيدين، لأن معالجة تلك النصوص لجوانب متعددة من الحياة منحها القيمة العالية على اعتبارها أثراً إنسانياً له مكانته من حيث القيمة التاريخية.

2 - القيمة التاريخية:

إذا كان مؤرخو فترة صدر الإسلام يذكرون الحوادث التاريخية متسلسلة اعتماداً على روايات أخذت سماعاً، فإن في (نهج البلاغة) نصوصاً كثيرة تؤرخ لمعظم تلك الحوادث عن مشاهدة وعيان، لأن قائلها طرف أصيل في تلك الحوادث في بداية الدعوة الإسلامية، وبعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. وقطب رحى تلك الحوادث بعد مقتل عثمان بن عفان. وبناء عليه فإن نصوص النهج إذا ما نظرنا فيها بحيدة هي من أصدق الوثائق التاريخية التي أرخت لتلك الفترة ومن أهمها مقدمة .

ص: 129


1- شرح نهج البلاغة ص 12 من طبعة دارالأندلس
2- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري ص 29

أيضاً. وتتجلى أهمية تلك الوثائق التاريخية، في عدم اقتصارها على سرد الحوادث ووصف المشاكل التي عرضت للمجتمع الإسلامي، بل في مناقشتها لتلك المشاكل من جيمع الوجوه مع محاولة لوضع الحلول المناسبة لها، فالنصوص التاريخية المأثورة في النهج عن علي علیه السلام «تعطي صورة واضحة عن نظراته الثاقبة وآرائه البعيدة في مبادئ السياسة وأساليب حكم الرعية وإدارة شؤونها والحث على دفع الفتن عنها»(1) . ثم أن الدراس للحوادث التاريخية من خلال النهج يمكنه أيضاً متابعه التاريخ الإسلامي في انعطافته الكبيرة التي عبر عنها حديثاً ب «الفتنة الكبرى»(2) التي تمكن دارس تلك الحقبة من معرفته الأسرارالخفية الدقيقة التي بسببها استحالت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض.

لذلك فإن أية دراسة لتاريخ صدر الإسلام، لا تتخذ من (نهج البلاغة) مصدراً من مصادرها تعتبرفي عتقادنا قاصرة، خاصة أن التاريخ العام لتلك الفترة لا يحلل الحوادث كتحليل نصوص النهج لها من واقع معايشتها حيث يرى الباحث من خلال العبارات «أن حروباً قد شبت وغارات شنت... والحق منتصر، والباطل منكسر، ومرج الشك في خمود، وهرج الريب في ركود»(3) . فالحوادث التاريخية في النهج لا تحتسب من النوافل، وإنما هي من أسسه التي لم تكن الصياغة إلا خادمة لها لإجلاء وجهها ورفع غبار الزمن عنها لتبدو جلية واضحة تجعل الباحث يعيش التاريخ ويحلل الحوادث بعيداً عن أية تأثيرات خارجية.

ص: 130


1- صبحي الصالح: مقدمة تحقيق نهج البلاغة ص 11
2- أرخ طه حسين لفترة عثمان ثم لفترة علي علیه السلام في كتابين منفصلين بعنوان «الفتنة الكبرى» وقد أرخ في ذينك الكتابين إلى ما أصاب الدولة الإسلامية من شرخ عميق أحالها في نهاية الأمر إلى ملك وراثي
3- محمد عبده: مقدمته لشرح نهج البلاغة ص 10 من طبعة الأندلس

3 - القيمة الفكرية لنهج البلاغة:

تعد النواحي الفكرية من الركائز التي انبنى عليها كثير من نصوص (نهج البلاغة) التي عرضت لمعالجة قضايا العدل، والتوحيد، وعلم الأخلاق والسياسة والمجتمع إلى غير ذلك من موضوعات ما ورائية تتعلق بالحياة والموت، وذلك ما جعل النهج مصدراً مهماً وأساسياً بالنسبة لجميع الفرق الإسلامية على اختلاف مشاربها:

فمن ذلك تعويل الشيعة على نصوصه كمصدر لعقائدهم وبالأخص العدل والتوحيد على أساس «أن أصول التوحيد والعدل مأخوذة من كلام أمير المؤمنين صلوات الله عليه وخطبه فإنها تتضمن ما لا زيادة عليه ولا غاية وراءه»(1) .

كما يمكن للباحث أن يتعرف على كثير من العناصرالأولية التي انبنت عليها آراء الخوارج وعقائدهم في الإمامة وأحكام القرآن وغير ذلك من الآراء التي تدور حول الإيمان والكفر، وذلك من خلال الجدل الذي دار بين الإمام علي علیه السلام وبينهم بعد قضية التحكيم، وقد حفظ لنا النهج طرفاً كبيراً من ذلك النزاع.

أما تأثر المعتزلة وعلماء الكلام بأقوال علي علیه السلام وخطبه فواضح باعتراف شيوخهم(2) وقد أدى ورود بعض الكلمات التي استعملها المعتزلة وعلماء الكلام كمصطلحات في بعض من نصوص النهج، إلى الشك في نسبة تلك النصوص لعلي علیه السلام.

هذا وقد اعتمد الأشاعرة في كثير من حججهم الكلامية وعقيدتهم في الخلق

ص: 131


1- الشريف المرتضى: اماليه 1/ 140
2- راجع: ابن انديم الفهرست ص 202

والخالق على ما أثر عن علي بن أبي طالب علیه السلام من خطب وأقوال(1) .

كما اتخذ المتصوفة من اقواله في الزهد والتقشف وصفات المؤمنين ما يتناسب وأفكارهم، حتى لقد أول أحد الشارحين بعض نصوص النهج تاويلاً صوفياً(2) ، كما أفرد شارح آخر فصولاً طويلة لدحض تلك الأفكار والرد عليها(3) .

فالمتصفح لشروح (نهج البلاغة) المطولة، يجد كل تلك الأفكار مبسوطة فيه، وذلك بناء على تأويل النصوص بما يتناسب وكل عقيدة على اعتبار أن ما ورد فيه من كلام هو «عند أهل الفطنة والنظر دون كلام الله ورسوله، وفوق كلام البشر واضحة مناره، مشرقة آثاره، لا يستبعد في هذا الدهر أن يلتبس شيء من مشكلاته على من يقتبس إما من ألفاظه الغرائب أو معانيه العجائب»(4) .

فعلى ضوء ما سبق يمكننا اعتبار (نهج البلاغة) نصاً متكاملاً تندرج موضوعاته تحت عناوين «ثلاثة هي نفسها الموضوعات الرئيسية التي ترتد إليها محاولات الفلاسفة قديمهم وحديثهم على السواء ألا هي: الله والعالم والإنسان»(5) ، وهي أيضاً المحاورالأساسية التي سترتكز عليها دراستنا في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام كما يبدو من خلال نهج البلاغة.

ص: 132


1- راجع ما قاله ابن أبي الحديد في ذلك شرح النهج 1/ 17 ، هذا وقد اعتمد الاشاعرة في الكثيرمن مناظراتهم على ما أثر عن علي بن أبي طالب علیه السلام من خطب وأقوال، وقد ذكر أبي علي عمرالسكوني في كتابه عيون المناظرات أحدى عشرة مناظرة من ص 167 حتى 184
2- راجع على سبيل المثال شرح ميثم البحراني للنص رقم 216 من باب الخطب
3- عرض الخوئي للصوفية وتسفيه مذهبهم في منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة 13 / 133 . حتى 417 ، 2/14 حتى 24 وذلك في استطرد طويل أثناء تعليقه على ما ورد من زهد في الخطبة رقم 203
4- الراوندي: منهاج البراعة 1/ 4
5- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري ص 30

الباب الثاني: فكر علی بن أبي طالب علیه السلام السياسي كما يبدو في نهج البلاغة

اشارة

- الفصل الأول: مفهوم الإمامة ي فكر علي علیه السلام.

- الفصل الثاني: فكر علي بن أبي طالب علیه السلام في مجربات السياسة في عصره.

- الفصل الثالث: مؤسسات الدولة وسياستها الإدارية في فكر علي علیه السلام.

ص: 133

ص: 134

الفصل الأول: مفهوم الإمامة ي فكر علي علیه السلام

1 - سياسة الدولة ي الإسلام:

من خلال نظرة شاملة ومتعمقة لتصرفات النبي صلی الله علیه و آله وسلم. ندرك انه قد كانبجانب تبليغه الدعوة يضع أسس الدولة التي ستحتضن الدين، ولم يكن ذلك التصرف منه اجتهاداً شخصياً، استناداً لقوله تعالى:

﴿وَمَا آتَاَكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾(1) ، فالأمرالسماوي في الآية الكريمة يشمل جميع التصرفات القولية والفعلية لا يفرق في التشريع بين العقائد والعبادات، لذلك فأننا نعتقد ان «جميع الآيات القرآنية الكريمة التي نزلت لتشريع حكم من الأحكام التي تتعلق بموضوع الدولة وشؤونها جاءت على أساس قيام دولة شرعية في المجتمع الإسلامي»(2)

لكون الإسلام كلاً متكاملاً لا يمكن تجزئته بين عمل دنيوي وآخراخروي للترابط الوثيق بينهما، فالدين «هو الحياة باسرها وهو روحها الناطقة الحية

ص: 135


1- الحشر/ 7
2- عبد الرزاق الفضلي: الدولة الإسلامية ص 12

ومحركها الرئيسي وقوتها الدافعة وهو الفهم والشعور والوعي والفكر والنظر والادراك»(1) . فالرابط بين الدين والدولة في الإسلام ينطلق من منظوران الحياة بالنسبة للمسلم، مسلك يعبره من خلال معاملاته وعلاقاته الإنسانية، ليصل إلى النعيم المقيم الدائم في الآخرة، لأن «مقصود الشارع بالناس صلاح آخرتهم، فوجب بمقتضى الشرائع حمل الكافة على الأحكام الشرعية في أحوال دنياهم واخرتهم»(2) وبسبب الترابط التلازمي بين الدين والدولة، نجد أن سياسة الدولة في الإسلام مرتبطة ارتباطاً تتابعياً، يكون الدين قائداً والسياسة مقودة، ويمكن ملاحظة ذلك من تتبعنا لتكوين الدولة في الإسلام.

2 - تكوين الدولة في الإسلام:

مما لا شك فيه أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد تمكن من بعد بيعة العقبة الثانية(3) من وضع اللبنة الأساسية للمجتمع الإسلامي، نواة الدولة لأنه صلی الله علیه و آله وسلم بهذه البيعة قد

ص: 136


1- أبو الأعلى المودودي: الحكومة الإسلامية ص 13
2- ابن خلدون المقدمة ص 238
3- بيعة العقبة الثانية: العقبة: موضع بين منى ومكة، بينها وبين مكة نحو ميلين وعندها مسجد، ومنها ترمى حجارة العقبة، وكان من حديثها أن النبي صلی الله علیه و آله وسلم كان في بدء امره يوافي الموسم بسوق عكاظ وذي المجاز ومجنة، ويتتبع القبائل في رحالها يدعوهم إلى أن يمنعوه ليبلغ رسلات ربه، فلا يجد احداً ينصره، حتى إذا كانت سنة احدى عشرة من النبوة لقي سته نفر من الاوس عند هذه العقبة، فدعاهم صلی الله علیه و آله وسلم إلى الإسلام وعرض عليهم ان يمنعوه... فآمنوابه وصدقوه... فانصرفوا إلى المدينة وذكروا أمر رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فأجابهم ناس وفشا فيهم الإسلام، ثم لما كانت سنة إثنتي عشرة من النبوة وافى موسم الحج إثنا عشر رجلاً فآمنوا وأسلموا (فسميت بيعة العقبة الأولى) فلما كانت سنة ثلاث عشرة من النبوة اتى منهم سبعون رجلاً وامراتان وبايعوا الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على المنعة، وهي بيعة العقبة الثانية ياقوت معجم البلدان 4/ 43

تمكن من وضع اثنتين من أهم ركائز الدولة الإسلامية:

الركيزة الأولى: الحصول على الحماية والمنعة التي كان محتاجاً إليها لتأمين حياة أصحابه ولتمكين الدعوة من الاستقرار ليتاح لها الانتشار، ففي قوله صلی الله علیه و آله وسلم للمبايعين ليلة العقبة «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»(1) دلالة على الجهد العظيم الذي يسعى من أجله لإقرار الدعوة داخل سياج أمين قوي، لأن ما طلبه من حماية ليس بالسهل اليسيرعلى العربي الذي يرى في العرض وصيانته أغلى القيم وامنعها. هذا بالإضافة إلى ان تلك المعاهدة ستعرضهم إلى ما لا قبل لهم به من عداوة قريش وسخطها لما لها من قوة ونفوذ في القبائل العربية بحكم مكانتها الدينية.

الركيزة الثانية: وتتمثل في هجرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مع من آمن به إلى المدينة بأمرمن الله تعالى لقوله:

﴿فَلَ تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ َاوْلیِاءَ حَتَّی يُهَاجِرُوا فِی سَبِيلِ الله﴾(2)، فحماية المؤمن أوموالاته لا تكون فرضاً على المؤمنين حتى يهاجروا من دار الكفر إلى المدينة المنورة دار الإيمان آنذاك لقوله تعالى:

﴿وَالَّذينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَيَتِهِمْ مِنْ شَیءٍ حَتَّی يُهَاجِرُوا﴾(3) ، هذا وقد وردت «الهجرة» والحض عليها بالمعنى الذي نقصده في ثلاثة وعشرين موضعاً من القرآن الكريم(4) ، مما يدل على اهميتها في بناء

ص: 137


1- ابن هشام - السيرة 2/ 89
2- النساء / 89
3- الأنفال / 72
4- البقرة / 218 - آل عمران/ 195 - النساء/ 89 ، 97 ، 100 - الانفال/ 72 ، 74 ، 75 التوبة/ 20 ،100 ، 117 - النحل/ 41 ، 110 - الحج/ 58 ، - النور/ 22 الاحزاب/ 6، 50 - الحشر/ 8، 9 الممتحنة/ 10

الدولة الجديدة لكونها تدعو إلى تجمع بشري يعتمد العقيدة أساً في بناء العلاقات الإنسانية.

بعد أن دخل ذلك التجمع مرحلة التنفيذ بتوافد المسلمين إلى المدينة امتثالاً لأمر الله سبحانه وتعالى، دخلت الدولة الفتية مرحلة وضع القوانين التي تربط مختلف الفئات التي كانت تقطن المدينة بالجماعة الوافدين إليها، خاصة انها لم تكن بعد حكراً على المسلمين، فقد كان يستوطنها بجانبهم اليهود، والكفار، فكان كتاب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بين المهاجرين والأنصار وموادعة اليهود(1) . والمتمعن في محتوى ذلك الكتاب يجد انه اختصار دقيق وشامل لما ورد في القرآن الكريم من تبيان للعلاقات بين المسلمين وعلاقة المسلمين بغيرهم في حالتي السلم والحرب من جهة اخرى، ومعالجة لتلك القضايا وما ينجم عنها من مغانم ومغارم، ووجوب رجوع سكان المدينة من مسلمين وغيرهم إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في كل الأمور السياسية، وعدم إبرام أية معاهدة الا بعلم منه. والمتصفح للقران الكريم سيجد في آياته تاييداً لكل شرط من شروط ذلك الكتاب، ومن المعلوم ان الكتاب قد كتب في بداية السنة الأولى من الهجرة، أي قبل نزول معظمآيات التشريع، وليس يعني هذا ان القرآن قد كان ينزل بحسب رغبة النبي صلی الله علیه و آله وسلم أو ترجمة لأفكاره، وإنما يعني في أعتقادنا أن تصوره لذلك الكتاب من قبيل المعجزة الالهية، حيث تمكن صلی الله علیه و آله وسلم أن يرسم الخطوط العريضة للدولة دون سابق تجربة أو ممارسة، وعليه يمكننا القول أن الأساس الذي قامت عليه دولة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو الوحي الإلهي، وحتى المسجد النبوي الشريف (مقر حكومة

ص: 138


1- راجع ابن هشام: السيرة 2/ 147 ، فقد ذكر نص الكتاب وعرض لتفسير غريبه

النبي صلی الله علیه و آله وسلم) لم يكن باختيار احد، فعلى الرغم من العروض الكثيرة التي عرضها اهالي المدينة على الرسول صلی الله علیه و آله وسلم

للسكنى في جوارهم والأخذ بزمام ناقته فقد قال للجميع «انها مأمورة، خلوا سبيلها...فانطلقت حتى بركت في محل من محلات بني النجار، وذلك في محل المسجد»(1) .

ثم ان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بعد كتاب الموادعة ذاك، سارفي بناء الدولة خطوة هامة الهدف منها محاولة إنشاء مجتمع اسلامي متكامل، وجعل المدينة نواة الدولة بوتقة ذلك الانصهار باذابة الفوارق، وتبديد هاجس الغربة من نفوس النازحين إليها، بزرع مواطنة جديدة اساسها العقيدة واخوة الإسلام، تجعل من الأرض والمال شيئاً ثانوياً، فكانت مؤاخاته بين المهاجرين والانصار، فقد «آخى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بين أصحابه حين نزلوا المدينة ليذهب عنهم وحشة الغربة، ويؤنسهم من مفارقة الاهل والعشيرة، وشد ازربعضهم البعض»(2) واستمرت تلك المؤاخاة بشموليتها لكل شيء بما في ذلك الميراث، حتى تمكن الإسلام من النفوس، واطمأن المسلمون في وطنهم الجديد، بعد ان ذابت الفوارق ولم تعد الغربة تشكل هاجساً مقلقاً للنفوس المؤمنة، فنزل القرآن الكريم لفسخ الجانب المادي من تلكالمؤاخاة لجعلها روحية خالصة لوجه الله تعالى، ففي قوله جل شأنة

﴿وَأوْلَو الارْحَامِ بَعْضُهُمْ أولیُ بِبَعضٍ فِی كِتَابِ الله إِنَّ الله بكِلِّ شَیءٍ عَلِيمٌ﴾(3) ، قصر سبحانه التوارث على القرابة من الأهل بعد أن كانت مؤاخاة

ص: 139


1- الحلبي: السيرة الحلبية 2/ 245
2- السهيلي: الروض الانف. عن السيرة لابن هشام 2/ 150 الهامش 4
3- الأنفال / 75

«النبي صلی الله علیه و آله وسلم بين أصحابه وبينه وبين علي علیه السلام في النصرة والميراث»(1) ، وبقيت المؤاخاة بين المسلمين - دون الارث - على حالها لقوله تعالى:

﴿إنِّمَا المْؤْمِنُونَ إخِوَةٌ﴾(2) ، فالقصر في الآية على المؤمنين يؤكد بقاء تلك الاخوة واستمراريتها. فإذا كانت الدولة «هي جمع من الناس مستقرون في اقليم معين الحدود ويستقلون بحكم أنفسهم وفق نظام خاص»(3) ، فإن ما قام به الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من خطوات يكاد يطابق ما حدده ذلك التعريف للدولة، كما ان ذلك الكيان الجديد لم يكن من اجتهاد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، لأن الوحي كان يسايرعمله صلی الله علیه و آله وسلم خطوة بخطوة كما لاحظنا سابقاً.

ثم إن نظم الجهاد وقواعد الحرب وما يترتب على ذلك من غنم أو غرم هو من وحي السماء، فعن الإذن بمحابة الكفار واعداء الإسلام بعد ان قامت الدولة، يقول سبحانه:

﴿«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾(4) ،ويقول سبحانه في أهلية القيادة:

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5)﴾(5) ، وعن الاستعداد للحرب من أجل اقرار السلم والعدل يقول سبحانه:

ص: 140


1- مغنية التفسير الكاشف 3/ 516
2- الحجرات / 10
3- يوسف خياط: معجم المصطلحات العلمية والفنية 245
4- الحج / 39
5- القصص / 5

﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾(1) ، وعن الجنوح إلى السلم يقول سبحانه:

﴿ًوَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾(2) ، ومبايعة المؤمنين للرسول صلی الله علیه و آله وسلم على الموت كشرط سياسي هي مبايعة لله سبحانه وتعالى وفقاً لقوله الكريم في بيعة الرضوان(3) ،

﴿ًإِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ﴾(4) . وفي قضية الاسرى وهي منالمشاكل السياسية المتولدة عن الحرب، يقول سبحانه:

﴿ً«مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾(5) ،فالرای الراجح في سبب نزول هذه الآية بعد عزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة، انه كان عتاباً من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلی الله علیه و آله وسلم المعنى: «ما كان ينبغي لكم ان تفعلوا هذا الفعل الذي اوجب ان يكون للنبي صلی الله علیه و آله وسلم اسرى قبل الاثخان ولهم هذا الأخبار بقوله:

ص: 141


1- الأنفال / 60
2- الأنفال / 61
3- بيعة الرضوان: كانت تحت شجرة سمرة بالحديبية، وكان الصحابة الذين بايعوا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يومئذ، قيل ألفاً وثلاثمئة، وقيل أربعمائة وقيل خمسمائة والأوسط أصح: تفسير ابن كثير 5/ 343. والحديبية: قرية متوسطة ليست بالكبيرة وسميت ببئر هناك عند مسجد الشجرة التي بايع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم تحتها... وبينها وبين مكة مرحلة وبينها وبين المدينة تسع مراحل... وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم ياقوت: معجم البلدان 2/ 229
4- الفتح / 10
5- الأنفال/ 67 ، والاثخان في الشيء المبالغة فيه والإكثار منه والمراد المبالغة في قتل الكفار

﴿ترُيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا﴾، والنبي صلی الله علیه و آله وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب، فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجها بسبب من أشار على النبي صلی الله علیه و آله وسلم بأخذ الدية»(1) ، والمستخلص من ذلك ان القرار السياسي الذي اتخذه بعض المسلمين في أسرى بدر كان مخالفاً لحكم الإسلام ولم يسكت القرآن الكريم عن ذلك، مما يؤكد رابطةالدين بالدولة، لأن قواعد الحرب وما يترتب عليها من معاهدات بشأن السلم والتسلح والأسرى وغير ذلك من امور عسكرية وأخرى اجتماعية لا يمكن ان تكون ذات فاعلية إلا في مجتمع مستقر تحكمه القوانين.

ثم إن جميع آيات التشريع، جاءت لتنظم العلاقات الاجتماعية والسياسية بين المسلمين أنفسهم، وبين المسلمين وغيرهم من أهل الذمة، وبين المسلمين والكفار، علاوة على ذلك، فقد أحكم القرآن الكريم طريقة التعامل مع من يمتنع عن الدخول في الإسلام من الافراد والجماعات، فحكم السيف في رقاب الكفار من قاطني شبه الجزيرة العربية، بينما ترك حرية العبادة لأصحاب الديانات السماوية شريطة دفع الجزية. ولو امعنا النظر في صلح الحديبية(2) الذي تنازل

ص: 142


1- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 8/ 45 ، 46
2- صلح الحديبية: كان في ذي القعدة من السنة الخامسة لهجرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، خرج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم معتمراً لايريد حرباً ومعه جماعة من المهاجرين والأنصار ومن تبعه من الأعراب ألف وأربعمائة... فلماسمعت قريش بمسيره اجتمعت على منعه من دخول مكة، فلما استقر به المقام في الحديبية أخذ يفاوض قريش، فانبثق عن تلك المفاوضات صلح الحديبية شروطاً خمسة قد تبدو من حيث الظاهرانها مجحفة بحق الإسلام والمسلمين، الا انها قد كانت في باطنها ذات فوائد عظيمة من عدة نوح: أولا: اعتراف قريش بدولة الرسول كقوة يمكنها التفاوض من مركز قوة، كما يمكنها ادخال أي تحالف قبلي تحت حمايتها ثانياَ: فترة السلام التي تعاهد الطرفان عليها أتاحت للناس التفكير في أمن واستقرار، فكان ذلك من أهم عوامل انتشار الإسلام، فقد دخل فيه تلك الفترة مثل ما دخل فيه قبل ذلك وأكثر. ثالثا: ثم إن شرط عدم قبول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم مسلمة قريش الا بموافقتها، قد طلبت قريش من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الغاءه وعدم العمل به، بعد ان فر عتبة بن اسيد الثقفي وهو مسلم من سجنه لم يقبله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم امتثالاً للمعاهدة، ففر هو وسبعون رجلاً بإسلامهم إلى ذي المروة على ساحل البحرعلى طريق قريش إلى الشام، فضيقوا على قريش، يعترضون قوافلهم التجارية، فارسلت قريش إلى النبي يناشدونه الرحم لما أرسل إليهم فمن أتاه فهو آمن، فآواهم رسول الله، وبذلك صارت الهجرة إلى المدينه آمنة دون أية معارضة من قريش، فتحولت جميع بنود الصلح لصالح الإسلام مما أتاح له الانتشار في قبائل العرب راجع بشأن ذلك: ابن هشام السيرة 3/ 321 ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 135 ، ياقوت معجم البلدان 2/ 1229

فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم عن كثير من صلاحياته، إلى حد جعل عمر يقول للرسول صلی الله علیه و آله وسلم«يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: بلى، قال: اولسنا بالمسلمين؟ قال: بلى، قال أوليسوا بالمشركين؟، قال: بلى، قال: فعلام نعطي الدنية في ديننا؟، فكان رد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على ذلك بقوله: انا عبد الله ورسوله، ولن اخالف امره ولن يضيعني»(1) ، فصلح الحديبية بناء على قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد كان بوحي من الله.

وبعث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم رسله إلى ملوك الممالك المجاورة في السنة السادسة للهجرة يدل على ان البعد السياسي في الدولة تابع للبعد الدينی(2) ، لأن فحوى كتبه لأولئك الملوك أما الدخول في دين الإسلام، أو الخضوع لإرادة دولة الإسلام امتثالا لقوله تعالى:

ص: 143


1- تاريخ الطبري 2/ 643
2- جرت كتب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم تاريخ الطبري 2/ 643 إلى الموك وغيرهم بدعوتهم إلى الإسلام فإن أبَو فالجزية، وذلك كان يوصي أمراء جيوشه وسراياه، وللاطلاع على نماذج من هذه الكتب، راجع: أبو عبيد الأموال ص 20 وما بعدها

﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾(1) ، فلم تكن بعوثه تلك َ بوحي من الله. فبناء الدولة في الإسلام بجميع مؤسساتها جزء اصيل من الدين، لأنها لم تكن خارجة عن نطاق الوحي، بحيث يمكننا القول بأن الركائز الأساسية قد تم وضعها باكتمال الدين واتمام النعمة، وقد سارت سياسة الدولة بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في نفس الاتجاه الديني في ظل تشريع القرآن وسنة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

لم يتغير شيء من سياسة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الا بعد التغيرات الاجتماعية التي حدثت للمتجمع العربي أثر تغير خريطة الدولة الإسلامية بعد الفتوح الواسعة وانتشار الإسلام، فكان من جراء ذلك التغيير محاولة العرب الانحراف بالسياسة الدينية نحو المصاحل الدنيوية، وقد بدأ ذلك الانحراف يأخذ طريقة إلى نفوس القرشيين في الخفاء منذ حكم عمر بن الخطاب(2) ، ثم تكشفت معالمه في حكم عثمان(3) وأسفر عن وجهه في خلافة علي علیه السلام الذي عايش ظروف ذلك المنعطف الخطير في السياسة الدينية بكل إحساساته، وحاول جاهداً إعادتها إلى الجادة التي رسمها صاحب الرسالة، ولكن بعد فوات الأوان بانطلاق الشهوات المادية من عقالها، وخفوت جذوة القيم الرويحة، فكان على علي علیه السلام ان يعيد التمثل بالسياسة الدينية على اعتبار انه الممثل الشرعي للنبي صلی الله علیه و آله وسلم في توكيد تلك السياسة ومحاولة احيائها بتبديد ما اثير حولها من شكوك، لذلك نجده في خطبته الأولى التي اعلن فيها سياسته، يقرر بأن حكومته ما هي الا امتداد

ص: 144


1- سبأ 28
2- راجع مقتل عمر ص 289 من هذا البحث
3- راجع مقتل عثمان ص 290 - 291 من هذا البحث

لحكومة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كما يبدو من قوله «الا وان بليتكم قد عادت كهيئتها يوم بعث الله نبيكم صلی الله علیه و آله وسلم، والذي بعثه بالحق لتبلبلن بلبلة، ولتغربلن غربلة ولتساطن سوط القدر، حتى يعود اسفلكم اعلاكم، واعلاكم اسفلكم»(1) ، فالظاهرمن تشبيهه عصره بعصر بداية البعثة النبوية انه عازم على اعادة تلك السياسة التي نبذتها قريش إلى نصابها، لذا فانه يقول للمسلمين في خطبة أخرى «ولكم علينا العمل بكتاب الله تعالى وسيرة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والقيام بحقه ونعش سنته»(2) ، ومن هذا المنطلق يمكننا دراسة الساسة الدينية في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام.

3 - السياسة الدينية في فكر علي علیه السلام ومقارنتها بالسياسة الإسلامية:

بعد ان استشرى في النفوس حب السلطة جريا وراء نفعها المادي بجمع الأموال واقتناء الضياع والاماء والعبيد والجواري(3) ، أخذت السياسة طريقها في الاستقلال عن الدين شيئا فشيئا، وقد صور لنا علي علیه السلام واقع المتكالبين على السلطة تصويراً دقيقاً في مواضع متعددة من النهج فصنفهم إلى أربعة أصناف:

- الصنف الأول: هو المتقاعس عن طلب السلطان لا لشيء، إلا لشعوره بحقارة نفسه وضعفه عن مقارعة المتنافسين بسبب قلة الأعوان وعدم امتلاك الثروة فهو «لا يمنعه من الفساد في الأرض إلا مهانة نفسه وكلالة حده ونضيض

ص: 145


1- خطب 16
2- خطب 170
3- بشأن ما كان يمتلكه بعض الصحابة من ثروات راجع: طبقات بن سعد 3/ 109 ، 222 ومروج الذهب 2/ 242 ، 342 ، ومعجم البلدان 5/ 138 ، والعقيدة والشريعة للمتشرق جولد سهير121

وفره»(1) .

- الصنف الثاني: المتمثل في الإنسان الحاقد الذي يبتغي للشر أية وسيلة بتنحية القيم الإنسانية جانبا، وتحكيم السيف في رقاب العباد من أجل إرضاء غرور النفس في حب التسلط فهو «المعلن بشره المجلب بخيله ورجله قد أشرط نفسه وأوبق دينه لحطام ينتهزه أو مقتب يقوده أو منبر يقرعه»(2) .

- الصنف الثالث: هو المنافق الذي يظهر خلاف ما يبطن، برفع الشعارات البراقة واتخاذ الدين وسيلة للوصول إلى السلطة، بالتصنع في الأقوال والأفعال «قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمر عن ثوبه، وزخرف من نفسه الأمانة، واتخذ ستر الله ذريعة إلى المعصية»(3) .

- الصنف الرابع: هو الذي اقعده عن طلب السلطة اقتناعه الداخلي بأنهليس أهلاً لها لعدم قدرته على التعامل مع الناس، وهروباً من ذلك تزيا بزي الزهاد، واتخذ القناعة ستاراً فهو الذي «أبعده عن طلب الملك ضُؤولة نفسه، وانقطاع سببه، فقصرته الحال عن حاله فتخلى باسم القناعة وتزين بلباس أهل الزهادة، وليس من ذلك في مراح ولا مغدى»(4) .

فالسلطة في عرف الفئات الأربع مطمع دنيوي لا يمت للدين بصلة، وبسبب نجوم تلك الفئات المتسلقة وقع الحيف على عامة الناس الذين استحالوا جراء أطماع أولئك إلى «خائف مقموع، وساكت مكعوم، وداع مخلص، وثكلان

ص: 146


1- خطب 32
2- المصدر نفسه
3- المصدر نفسه
4- خطب 32

موجع، قد أخملتهم التقية، وشملتهم الذلة فهم في بحر أجاج، أفواههم ضامرة، وقلوبهم قرحة، قد وعظوا حتى ملوا، وقهروا حتى ذلوا، وقتلوا حتى قلوا»(1) . فكما يبدو من تصنيف علي علیه السلام للفئات الأربع المتسلقة، فإن الدين والسلطة ليسا خطين متوازيين، بل إنهما خطان متداخلان يشكل الدين فيهما أساس التداخل المنظم للعلاقات في اطار تمازجهما، ونلمس ذلك من خلال دراستنا لعلاقة السلطة بالدين في فكر علي علیه السلام.

4 - السلطة والدين في فكر الإمام علي علیه السلام:

لقد عرفنا من القول بإن سياسة علي علیه السلام امتداد لسياسة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وعلى ذلك الأساس، فمن المرجح أن الركيزة الأساسية في فكر علي علیه السلام السياسي هي خضوع السلطة المدنية للسلطة الدينية خضوعاً مطلقاً، لذلك ارتأى ان في محاربته الخارجين على سلطته بعد ان ولي الخلافة واجباً دينياً، وان المهادنة معأولئك كفر بما جاء به محمد صلی الله علیه و آله وسلم استناداً لقوله «وقد قلبت هذا الأمر بطنه وظهره حتى منعني النوم، فما وجدتني يسعني الا قتالهم أو الجحود بما جاء به محمد صلی الله علیه و آله وسلم فكانت معالجة القتال اهون علي من معالجة العقاب، وموتات الدنيا اهون علي من موتات الآخرة»(2) فعلي علیه السلام يرى من واجبه كامام للأمة أن لا يتهاون ولا يهادن على حساب ما شرعه الإسلام، لأن غاية السلطة تحقيق العدالة في ظل شريعة السماء.

ومن منطلق إسلامي بحت بنى أيضاً سياسته المالية، فلا محاباة ولا مفاضلةالمصدر

ص: 147


1- السابق بنفه
2- خطب 54 ، وجاء مثله أيضاً في الخطبة رقم 43

بين طبقات المجتمع في توزيعه لأن «المال مال الله»(1) وقد عايش هو جميع الصحابة تصرف الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في المال، فطلحة والزبير وغيرهما من المسلمين ليس لهم في المال إلا بقدر ما شره الإسلام لكل فرد لذلك فإنه يقول لطلحة والزبير لما عتبا عليه مساواتهم بغيرهم من المسلمين «أما ما ذكرتما من أمرالأسوة، فإن ذلك أمر لم أحكم أنا فيه برأي، ولا وليته هوى مني، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قد فرغ منه، فلم احتج إليكما فيما فرغ الله من قسمه وأمضى فيه حكمه، فليس لكما والله عندي ولا لغيركما في هذا عتبى»(2) . ثم إن ممارسته للسلطة تقوم على السياسة الدينية نستشف ذلك مما قاله لطلحة والزبير حين احتجا على سياسته في تسيير الأمور دون مشورة منهما «لما افضت الي نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به، فاتبعه وما أستن النبي فأقمته، فلم احتج إلى رأيكما ولا رأي غيركما»(3) . فأسلوب الحكم في فكر علي علیه السلام لا يقاس نجاحه برضى العامة وإنما يقاس بمدى مطابقته لما جاء في الشريعة الإسلامية، فوجهات النظر المختلفة حول التطبيق الصحيح لأساليب الحكم والمعاملة هوما حدا بعلي إلى القول لمن بايعه «ليس أمري وأمركم واحداً، أني أريدكم إلى الله وأنتم تريدونني لأنفسكم»(4) . فالقيادة في فكر علي علیه السلام مبنية في الأساس على الدين، ومهمة الخليفة أو الإمام بتطبيق الشرع على جميع شؤون الحياة، لذلك فإن الطاعة التي يتوخاها في جمهور المسلمين ليست لشخصه، وانما هي لمصلحة المطيعين، لأن قيادته لهم قيادة هداية وصلاح، وفي هذا الصدد يقول لأهل

ص: 148


1- خطب 126
2- خطب 199 ، والعتبى: العتاب واللوم
3- خطب 199
4- خطب 136

البصرة «فإن أطعتموني فإني حاملكم إن شاء الله على طريق الجنة، وان كان ذا مشقة شديدة ومذاقة مريرة...»(1) ، فالقيادة الحقة هي التي تؤدي إلى الجنة وهي غاية الإسلام من الحكم كما يراها علیه السلام مما يؤكد الارتباط الوشيج بين الدين والدولة في النظام الإسلامي «لان الإسلام دين وليس قانوناً أخلاقياً ولا مذهباً فلسفياً»(2) ، وذلك على أساس المفهوم الواسع لمعنى الدين في شموليته على اصول الشرائع وفروعها بما تنطوي عليه من اعتقادات وعبادات، وممارسات متعلقة بجميع شؤون الدين والدنيا فوصف الدين على أنه:

أ - ممارسة شعائر وطقوس معينة.

ب - الاعتقاد في قيمة مطلقة لا تعدلها أية قيمة.

ج - ارتباط الفرد بقوة روحية عليا(3) .

يقصره على العبادات والطقوس وهو ما يتنافى وشمولية الإسلام الذي وصفه علیه السلام بأنه «التسليم والتسليم هو اليقين، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار هو الأداء، والأداء هو العمل»(4) المطلق اللامحدود بزمان أو مكانلبناء خير الإنسانية «لان لفظ العمل يشمل الاعتقاد والنطق باللسان وحركات الاركان... كل ذلك عمل وفعل»(5) وهذا يبطل الزعم بعدم وجود فرق بين الإسلام والمسيحية، من حيث الحكم والسياسة على اعتبار«ان الإسلام دين

ص: 149


1- خطب 156
2- عبد المجيد النجار: العقل والسلوك في البيئة الإسلامية ص 23
3- خياط: معجم المصطلحات العلمية والفنية، ص 247
4- حكم 122
5- ابن أبي الحديد، السابق 18 / 314

يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويوجه إلى الخير ويبعد عن الشر... ولا تزيد المسيحية على هذا ولا تنقص منه، ولامر ما قال عيسى علیه السلام للذين جادلوه من بني اسرائيل: اعطوا ما لقيصر وما لله لله»(1) . لأن مفهوم «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» كمصطلح ديني في الإسلام لا يمكن افراغه اطلاقا من مضمونه الثوري الذي بثه الإسلام فيه، فتصوره على انه مجرد نصح وارشاد وتبشير يبعده عن مفهومه السياسي كمبدا من مبادئ الثورة على الظلم وهدم الفساد، وقد منحه المسلمون في كثير من العصور ذلك البعد السياسي الذي أراده الإسلام له، فمما يؤثر عن الحسين بن علي علیه السلام في خطبته لاهل الكوفة عند خروجه على يزيد قوله «أيها الناس، ان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: من رأى سلطاناً جائراً لحرم الله، ناكثا لعهد الله، مخالفا لسنة رسول الله، يعمل في عياد الله بالاثم والعدوان، فلم يغير عليه بفعل ولا قول كان حقا على الله ان يدخله مدلخه، الا وان هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان وتركوا طاعة الرحمن، واظهروا الفساد وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء واحلوا حرام الله، وحرموا حلاله وأنا أحق من غيَّر»(2) .

ثم ان الاستشهاد بمقولة المسيح بحسب مفهومها الذي وردت في سياقه(3)

ص: 150


1- طه حسين: الفتنة الكبرى عثمان ص 27
2- تاريخ الطبري 5/ 403
3- يبدو ان المقولة قد صدرت عن المسيح علیه السلام لأولئك الهيرودسيون الذين حاولوا ان ينتزعوا اعترافاً منه بالتمرد على السلطة القائمة حين قالوا له «يا معلم، نعلم انك صادق وتعلم طريق الله بالحق لا تبالي باحد، لأنك لا تنظر إلى وجوه الناس، فقل لنا ماذا تظن. ايجوز ان نعطي جزية، لقيصر أم لا؟ فعلم يسوع خبثهم، وقال: لماذا تجربونني يا مراؤون، أروني العملة التي تدفع بها الجزية، فقدموا ديناراً. فقال لهم: لمن هذه الصورة والكتابة؟ قالوا: لقيصر، فقال لهم: اعطوا إذا ما ليقصر ليقصر، وما لله لله...، عن كتاب تاريخ الأفكار السياسية 1/ 157 نقلاً عن أنجيل متّى الاصحاح الثاني والعشرون/ الآية 16 - 22 .الاية 16 - 22 . فمفهوم مقولة المسيح علیه السلام في السياق الذي وردت فيه تعني الخضوع للسلطة الدنيوية حتى وان كانت ظالمة وهذا لا يتناسب ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كعنصر فعال من عناصر السياسة الدينية في الإسلام، يهدف إلى دفع الأمة نحو الاحسن والاصلح، بنسف الفساد وفضح أساليب الالتواء والغش، ويكفي في هذا الصدد بأن «كلمة حق عند سلطان جائر» هي من لب قاعدةالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

تتناقض ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الدين الإسلامي، لأن معناها «أنه يجب الإذعان إلى الضرورات السياسية، إذ لا قيمة لها يجب دفع الضريبة الرمز الخالد للطاعة المدنية وذلك بالتحديد لأنها لا تخص الله»(1) فالفكر السياسي معدوم تماماً في الديانة المسيحية على اعتبار ان السياسة من اختصاص المجتمع الدنيوي وأن «أمورالمجتمع الدنيوي تدرك بأنها مختلفة اختلافاً جذراياً عن أمورالمجتمع السماوي»(2) ، فالتبشيرالمسيحي مبني على أساس تثبيت الوضع القائم، وإقرار بالواقع الدنيوي بكل عيوبه، وهو موجه بالذات إلى المنبوذين والمعدمين لمحاولة إقناعهم بأن «الهناءة الحقيقية في نظام ملذات الأرض وأنه يجب تحمل حالات التعاسة الأرضية أو الاجتماعية أوالجسدية»(3) بعكس نظرة الإسلام للدين، حيث يرى فيه «أنه أساس المواطنة، فالدين هو بالماهية، قيمته من طبيعته السياسية، لا بل هو القيمة الحقيقية الوحيدة لهذه الطبيعة السياسية»(4) ، لذلك فإن ما زعم من دنيوية السياسة في .

ص: 151


1- تاريخ الأفكار السياسية 1/ 148
2- المصدر نفسه/ 149
3- المصدر نفسه/ 148
4- المصدر نفسه/ 191

الإسلام استناداً على تنازع المسلمين على خلافة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«لأنه توفي من غير أن يسمي أحداً يخلفه من بعده»(1) تنبني على ركيزتين:

1 - رفض نظرية الإمامة(2) عند الشيعة.

2 - الاعتماد على مقولات فقهاء السنة في الإمامة والمستخلصة في وصف الواقع وتبريره دون محاكمته.

أولاً: رفض نظرية الإمامة عند الشيعة، ودراستها لغاية نقدية هجومية على الرغم من استقرائها ادلتها وبراهينها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ثانياً: الإعتماد على مقولات فقهاء السنة في الإمامة، والتي لم تكن سوى وصف لما حدث بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في محاولة لرفع الملام عن تصرف الصحابة وذلك في القديم وتأييداً لدنيوية الحاكمية في الإسلام في العصر الحديث، على الرغم مما يكتنف تلك المقولة من تناقضات.

الوصفية التبريرية تكمن في قولهم بشرطي صحة انعقاد الإمامة وهما:

1 - اختبار أهل العقد والحل.

2 - بعهد الإمام من قبل(3) .

فعلى ضوء ما حدث في سقيفة بني ساعدة من مجلات انتهت بإشهار بيعة أبي

ص: 152


1- راجع: خالد محي الدين: والاشتراكية ص 162 ، علي عبد الرزاق: الإسلام واصول الحكم ص 181، ممدوح حقي: التعليق على كتاب الإسلام واصول الحكم ص 187
2- حول نظرية الإمامة عند الشيعة، راجع ص 166 من هذا البحث
3- راجع كيفية انعقاد الإمامة عند: عبد القاهرالبغدادي: اصول الدين ص 279 ،الماوردي:الأحكام السلطانية ص 6، ابن حزم: الفصل في الملل والنحل 4/ 167

بكر(1) انبثق شرط اختيار (أهل الحل والعقد) وصار شرطاً أساسيا في صحة انعقاد الإمامة. ثم ان شرط جواز قبول الإمامة بعهد الإمام من قبل فهو أيضاً تبرير لعهد أبي بكر في عمر(2) ، ثم في حصر عمرالخلافة في ستة يتفقون فيما بيتهم لاختيار احدهم خليفة(3) .

أما تبرير الواقع، فهو القبول والتسليم بما حدث في الثلاث حالات على أنه من من الأمورالسياسية المقطوع بصحتها، بناء على صحة انعقاد الحكم باختيارفئة معينة هم (اهل الحل والعقد) أو بعهد من الخليفة السابق للخليفة اللاحق، مما اتاح فيما بعد للفقهاء ابتكار تبريرات أخرى جديدة تؤيد نظم الحكم التي فرضت نفسها بالقوة على دولة الإسلام.

وافتقار كلا الشرطين إلى الدليل الشرعي هو ما أتاح القول بانفصال الحكم عن الدين رغم الاقرار أن «الخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها. إذ أحوال الدنيا ترجع كلها عند الشارع إلى اعتبارها بمصالح اللآخرة، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(4)، فالتعريف كما يبدو ينص على ان الخلافة منصب ديني الهدف منه حمل الناس كافة على موائمة الأعمال الدنيوية، لتتناسب وأعمال الآخرة التي ترضي الله. وقد يبدو التعريف من وجهة نظرنا - متوازنا من الناحية الدينية، لولا اسناده اختيار صاحب ذلك المنصب الخطير

ص: 153


1- راجع ص 180 من هذا البحث
2- راجع ص 180 من هذا البحث
3- راجع ص 180 من هذا البحث
4- ابن خلودون: المقدمة 239

لاهل الحل والعقد مما يجعل الجانب الديني في بعض نواحية يخضع إلى الجانب الدنيوي، الذي عادة ما تؤثر فيه العواطف الذاتية والانفعالات الشخصية من عصبية وموالاة، وحب، وكره وهو ما يتنافى في مجال التطبيق باعتراف المشرعين الإسلاميين كما يبدو من المقولة بأن «الأنظمة السياسية في الإسلام تتصف بأنها إسلامية أو بالأحرى دينية»(1) ، وما دام الدين هو القيم على السياسة في الإسلام فلابد أن يكون للإمامة - الحارسة لتلك السياسة والمنفذة لها - شروطها المعتبرة مما يحتم عليها التعرض لها من حيث الوجوب وشروطه في الفكر الإسلامي، ومدى تطابقه وما جاء في فكر علي علیه السلام كما يبدو في نهج البلاغة.

مفهوم الإمامة:

1 - اللغوي: تجمع المعاجم اللغوية(2) على أن مفهوم كلمة إمام: هو القدوة أو المثال أو النموذج الذي يحتذى، كما يفهم من ذلك ان كلمة إمام لا يقتصر إطلاقها على الإنسان فقط، إذ قد يكون الكتاب إماماً، كما في قوله تعالى:

﴿وَمِنْ قَبْلهِ كتِابُ مُوسَ إمِامًا﴾(3)، «ويقال أن الخيط الذي يجمع الخرزإمام»(4) والإمام «المثال، وما يتعلمه الغلام في المكتب... وخيط البناء،

ص: 154


1- أحمد محمود صبحي: نظرة الإمامة ص 17
2- راجع: الجوهري: الصحاح 5/ 1865، ابن فارس: مجمل اللغة 1/ 82، ابن منظور: لسان العرب 1/ 151
3- هود/ 17
4- ابن فارس: مجمل اللغة 1/ 82

وخشبة البناء، والطريق»(1) . وعلى هذا فإن تحديد معنى الكلمة ومعرفة نوعها وطبيعتها يمكن استخلاصه من السياق الذي ترد فيه سواء أقُصِدَ من ذلك المدح كما في قوله تعالى:

﴿َوَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا﴾(2) أم الذم كما في قوله تعالى:َ

﴿َوَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ﴾(3) ، وقد ترد في السياق لغرض بلاغي كما في قوله تعالى:

﴿وَكُّل شَیءٍ أحْصَيْناَه فِی إمِامٍ مُبيِنٍ﴾(4) ، فالمقصود امام كما يبدو في السياق الكناية عن «معلومات الله سبحانه على التفصيل»(5) ولما كانت معاني مفردة (امام) تنحصر في المثال والقيادة سواء أكانت معنوية أو مادية، فقد تولد عن ذلك المعنيان: الاصطلاحي، والسياسي، لكون السياق التعبيري منحهما ذلك.

2 - المعنى الاصطلاحي: لا يمكن تحديد الفترة الإسلامية لمصطلح إمام، الا أننا كان في فترة مبكرة جداً لارتباط المعنى ارتباطاً وثيقا بالصلاة التي فرضت على المسلمين في السنة الأولى من البعثة النبوية(6) ، وللأهمية التي يوليها المسلمون للمعنى الاصطلاحي لكلمة (إمام) فقد اختلف السنة والشيعة في

ص: 155


1- ابن منظور: لسان العرب 1/ 61
2- الأنبياء / 73
3- القصص/ 41
4- يس / 12
5- الطبري: مجمع البيان 22 / 12
6- راجع في شأن ذلك رواية صلاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بخديجة وعلي علیهما السلام عند البيت العتيق بمشهد من العباس ابن عبد المطلب وهي كما نعتقد أول امامة للصلاة في الاسلام تاريخ الطبري 2/ 311

أمر امامة المسلمين في الصلاة أثناء مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الذي توفي فيه في السنة الحادية عشرة من هجرته(1) .اذ يرى السنة ان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد استناب أبا بكرعنه في الصلاة بالناس، بينما يرى الشيعة ان صلاة أبي بكر بالناس أثناء مرض الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كانت بأمر من عائشة، حتى تمكن له من السلطة فيما بعد. وهذا الاختلاف يدل على انبثاق المعنى السياسي الذي سيبرز بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم.

وللاحتراز من الخلط بين المعنى الاصطلاحي وبين المعنى السياسي وجب تقييد أحدهما فوجدوا إنه من الاجدى تقييد المصطلح الديني بإضافته فقد «قال قوم أن اسم الإمامة قد يقع على الفقيه والعالم وعلى متولي الصلاة بأهل مسجد ما، قلنا نعم، لا يقع على هؤلاء الا بإضافته لا بالإطلاق، فيقال: فلان إمام الدين، وإمام بني فلان، فلا يطلق لأحدهم اسم الإمامة بلا خلاف»(2) . وعلى

ص: 156


1- قال الزهري: حدثي حمزة بن عبدالله عن عمران عن عائشة قالت «لما استعز برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: مروا أبا بكر فليصل بالناس...ابن هشام السيرة النبوية 4/ 301 ، وفي رواية أخرى عن عبد الله بن زمعة عن الاسود بن المطلب بن اسيد قال «لما استعز برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأنا عنده في نفرمن المسلمين قال: دعاه بلال إلى الصلاة، فقال: مروا من يصلي بالناس - السابق 4/ 303 . ومن الملاحظ أن الرواية الأولى تنص على تكليف أبي بكر بالصلاة بينما لم تعين الرواية الثانية فرداً بعينه. ويحتج الشيعة بالرواية الثانية على «أن ذلك القول كان من عائشة لبلال: قل لأبي بكر يصلى بالناس، فلما أفاق صلی الله علیه و آله وسلم وقد سمع مقالتها قال: انكن صويحبات يوسف، ثم خرج صلی الله علیه و آله وسلم متوكئا على علي علیه السلام والفضل بن العباس...وتقدم فصلى بالناس» ابن شاذان الايضاح ص 183، وراجع أيضاً استخلاف الصلاة بالتفصيل برواية الشيعة عند المفيد الإرشاد ص 97 ، على أننا نعتقد ان صلاة أبي بكر لم تكن السبب المباشر لمبايعته في سقيفة بني ساعدة ولكن احتجاجه بالحديث «الأئمة من قريش» هو ما احدث البلبلة في نفوس الأنصار، راجع ص 204 - 202 من الحديث
2- ابن حزم: الفصل في الملل والنحل: 4/ 90

هذا الأساس اكتسبت لفظة إمام (مطلقة) معناها السياسي.

3 - المعنى السياسي: إذا ما اطلقنا كلمة (إمام) على شخص ما دون تقييدها فأنها بالمفهوم الإسلامي تعني القائد الديني والسياسي للأمة لأن الإمامة «موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا»(1) ونطلق على متقلدها لقب (إمام) لأهليته واعتباره قدوة في أفعاله وأقواله، وقد اعتبرصحة انعقادها في صدرالإسلام قياساً على إمامة الصلاة، اعتباراً بقول كل من عمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة «لا والله لا نتولى هذا الأمر عليك، فإنك أفضل المهاجرين وثاني اثنين إذ هما في الغار، وخليفة رسول الله على الصلاة، والصلاة افضل دين المسلمين... ابسط يدك نبايعك»(2) ، إذ صارت امامة أبي بكر للمسلمين في الصلاة من أهم المزايا التي أهلته لامامتهم في تدبير شؤون دنياهم. ولكن هذا لا يعني ان المضمون السياسي لكلمة امام وليد اجتماع السقيفة.

بالإضافة إلى ذلك فإن الإمامة ليست من «الألقاب المستجدة للخليفة أثناء الدولة العباسية بالعراق»(3) ، بدلالة ورودها بمضمونها السياسي في القرآن الكريم، باتفاق المفسرين على أن قوله تعالى:

﴿وَ نَجعَلَهُم اَئِمَّهً﴾ من قوله:

﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ َ

ص: 157


1- الماوردي: الأحكام السلطانية، ص 5
2- تاريخ الطبري 3/ 221
3- القلقشندي: مآثر الأنافة 1/ 21

الْوَارِثِينَ(5)﴾(1) ، أي نجعلهم «ولاة وملوكاً»(2) . كما أثر المعنى السياسي للامام عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم في قوله «الأئمة من قريش»(3)، وقد رجح احتجاج أبي بكربنص الحديث السابق، على مطالبة الأنصار بالخلافة في سقيفة بني ساعدة(4) .

فالإمامة بالمعنى السياسي يمكن اعتبارها من اقدم التعريفات لولي الأمر في الدولة الإسلامية، كما انها الانسب من حيث تداخل المهام الدينية بالمهام الدنيوية في اختصاصاته كقائد وقدوة وقيم على الدين، لذلك فمن المرجح، ان اختيارالشيعة للامامة كمصطلح سياسي يطلقونه على «الرياسة العامة على جميع الناس»(5) هو من باب الاختيار الدقيق لجمع السلطتين الدينية والدنيوية في شخص الإمام على أساس الترابط الوشيج، استيحاء من القرآن الكريم، والحديث الشريف، وما أثر عن علي بن أبي طالب علیه السلام في نهج البلاغة(6) على أنه بجانب لقب امام، فإن هناك لقبين اخرين مساويين له في القيمة، استخدمهما المسلمون للتعريف القائم بأمور المسلمين بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وهما:

ص: 158


1- القصص / 5
2- راجع تفسير الطبري 20 / 19، الطبرسي: مجمع البيان 20 / 163، القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13 / 349
3- مسند الإمام أحمد (الفتح الرباني 23 / 6)
4- راجع العقد الفريد، 4/ 258
5- الطريحي: مجمع البحرين 6/ 15
6- وردت كلمة امام بالمفهوم السياسي عن علي بن أبي طالب علیه السلام في (نهج البلاغة) اثنتين وسبعين مرة، تسعة وثلاثون اسماً صريحاً وثلاثة وثلاثون ضميراً راجع على سبيل المثال:الخطب: 18 ، 104، 152، والرسالة 6، لمعاوية بن أبي سفيان

1 - خليفة رسول الله

2 - أميرالمؤمنين

لقب خلفية رسول الله:

يعرف أبو البقاء الكفوي الخلافة بأنها «النيابة عن الغير اما لغيبة المنوب عنه، واما لموته، واما لعجزه»(1) ويكون الاستخلاف اما للجدارة والقدرة و «اما لتشريف المستخلف، وعلى هذا استخلف الله عباده في الأرض»(2) ، فالخليفة، بهذا المعنى هو الذي يقوم مقام من هو قبله في تدبير الأمور المناطة بالمستخلف. ومنه تولد المعنى السياسي بتعريف الخلافة بالإمامة الكبرى(3) والخليفة بأنه «السلطان الأعظم»(4) أو الحاكم، كما ورد في قوله تعالى:

﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾(5)

أي «ملكاً لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر فتخلف من كان قبلك من الأنبياء، والائمة الصالحين»(6) ، كما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بشأن الخلافة بالمعنى السياسي قوله «لا يزال هذا الأمر عزيزاً إلى اثنى عشر خلفية كلهم من قريش»(7) .

يقال إن أول من اتخذ لقب خليفة في الإسلام هو أبو بكر، حين وافق

ص: 159


1- الكليات 2/ 299
2- السابق
3- راجع ابن خلدون: المقدمة ص 239
4- ابن منظور: لسان العرب المحيط 1/ 882
5- سورة ص / 26
6- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 15 / 188
7- صحيح مسلم 3/ 1403

على ان يسمى بخليفة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم منكراً على من سماه بخليفة الله لأنه «انما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى باق موجود على الأبد لا يغيب ولا يموت»(1) . ويرى أحمد بن حنبل وجوب اطلاق اسم خليفة على الراشدينالأربعة والحسن بن علي علیه السلام دون غيرهم استناداً لقول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «الخلافة في امتي ثلاثون سنة، ثم ملك بعد ذلك»(2) ، على أساس احتساب مدة خلافة الراشدين والحسن بن علي علیه السلام والمقدرة بثلاثين سنة، إلا أن رأي أحمد بن حنبل ذلك ومن تابعه من الفقهاء، لم يمنع من اطلاق لقب خليفة على كل من تمكن من السلطة سواء بالعهد أو بالقهر، وذلك لتجويز بعض الفقهاء تسمية أي متسلط بخليفة «وان كان مخالفاً لسيرة أهل العدل»(3) .

أمير المؤمنين: الأمر بمعناه المطلق - ما لم يخرج عن صيغته الاصلية لغرض بلاغي هو طلب الشيء على سبيل الاستعلاء ومنه سمي الامير ملكاً «لنفاذ أمره والجمع أمراء وأمر الرجل يأمر إمارة إذا صار عليهم أميراً... والتأمير تولية الإمارة، وأولو الأمر الرؤساء وأهل العلم(4) .

وإضافة أمير إلى المؤمنين من الألقاب المستحدثة في خلافة عمر بن الخطاب، كما يرى أهل السنة والسبب في ذلك استثقال لقب (خليفة خليفة رسول الله) فاطلق عليه المسلمون لقب (أمير المؤمنين) وقيل ان أول من اسماه بذلك أبو

ص: 160


1- القلقشندي: مآثر الأنافة 1/ 15
2- بذل المجهود في حل أبي داود 18 / 170 ، القلقشندي: ماثر الانافة 1/ 12
3- مآثر الأناقة 1/ 14
4- لسان العرب المحيط 1/ 97 ، 98

وبرة(1) وعلي بن أبي طالب علیه السلام، وفي رواية ثانية، ان أول من طلق عليه ذلك اللقب عمرو بن العاص، حين دخل عليه يستأذنه في دخول لبيد بن ربيعة وعدي بن حاتم(2) ، بعد قدومهما من عامله على العراق، بعد ان طلب عمر من ذلك العامل ان يرسل إليه برجلين عارفين بأمور العراق(3) . أما الشيعة الإمامية فيرون ان لقب (أمير المؤمنين) هو من مستحدثات عصر النبوة، وانالرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد اختص به علياً «لم يسم به احداً قبله ولم يسم بعده»(4) فعن انس، قال: قال رسول الله « صلی الله علیه و آله وسلم يا أنس أول من يدخل من هذا الباب أميرالمؤمنين وسيد المسلمين وقائد الغر المحجلين وخاتم الوصيين، قال انس «قلت اللهم اجعله رجلاً من الأنصار وكتمته. إذ جاء علي علیه السلام فقال: من هذا يا أنس؟ فقلت: علي فقال مستبشراً فاعتنقه...»(5) .

ص: 161


1- أبو وبرة: هكذا ورد الاسم في مآثر الانافة 1/ 26 ، 27 ولم اعثر له على ترجمة
2- عدي بن حاتم: بن عبد الله بن سعد بن الحشرج: أبوه حاتم هو الجواد الموصوف بالجود...اسلم وحسن اسلامه. ورى عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم أحاديث كثيرة، كان جواداً شريفاً في قومه، معظماً عندهم وعند غيرهم... كان منحرفاً عن عثمان... شهد بعض الفتوح الإسلامية وشهد صفين مع علي علیه السلام، توفي سنة سبع وستين من الهجرة وله من العمر مائة وعشرون سنة. راجع أسد الغابة 8/1 ، 9، 10
3- حول هذا الأمر راجع: مآثر الأنافة 1/ 26 ، 27
4- الطريحي: مجمع البحرين 3/ 211
5- أبو نعيم الاصفهاني: حلية الأولياء 1/ 63 ، وعن المفيد في الارشاد ص 28 : عن بريدة بن خصيب الأسلميأنه قال «ان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أمرني وأنا سابع سبعة فيهم أبو بكر وعمر وطلحة والزبير، فقال: سلموا على علي بامرة المؤمنين فسلمنا ذلك ورسول الله صلی الله علیه و آله وسلم حي بين أظهرنا» وورد مثل ذلك عند: الطبرسي - الاحتجاج ص 157 ، والمجلسي - بحار الانوار 37 / 290 وما بعدها (باب ما أمر به النبي صلی الله علیه و آله وسلم من التسليم عليه بامرة المؤمنين» ونحن نرجح مقولة الشيعة في تلقيب علي ب(أمير المؤمنين) منذ عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم استناداً إلى الوقائع التاريخية المرتبطة بذلك. فعن أبي نيزر قال «جاءني علي بن أبي طالب وانا اقوم بالضيعتين: عين أبي نيزر والبغيبغة، فقال لي هل عندك طعام ؟ فقلت طعام لا أرضاه لأمير المؤمنين علیه السلام، قرع من قرع الضيعة بإهالة سنخة (الإهالة: ما أذيب من الشحم، والسنخة: المتغيرة الرائحة)، فقال: علي به، فقام إلى الربيع وهو جدول فغسل يده، ثم أصاب من ذلك شيئا، ثم رجع إلى الربيع فغسل يده بالرمل حتى انقاها، ثم ضم يديه كل واحدة منهما إلى اختها، وشرب بهما حساً من ماء الربيع، ثم أخذ المعول وانحدرفي العين، فجعل يضرب، وأبطأ عليه الماء، وقد تفضج عرقاً، فانتكف العرق عن جبينه، ثم أخذ المعول وعاد إلى ا لعين، فاقبل يضرب فيها وجعل يهمهم، فانثالت كأنها عنق جزور، فخرجمسرعاً، فقال: أشهد أنها صدقة، عليَّ بدواة وصحيفة، قال فجعلت بهما إليه فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. هذا ما تصدق به عبد الله علي أمير المؤمنين... »المبرد الكامل 3/ 208 ، البكري معجم ما استعجم 2/ 657 ، ياقوت معجم البلدان 4/ 175. فمن المعلوم أن علياً قد اشترى الضيعتين على ما ذكرت تلك المصادر في حياة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من الصحابي عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الذي استوبأهما وكره العيشة فيهما، وقد وردت عبارة (أمير المؤمنين) ضمن الرواية مرتين: الأولى على لسان أبي نيزر قبل أن يبدأ علي بحفر عين، والثانية عندما كتب علي علیه السلام صك الصدقة المتزامن مع تفجر ماء العين في نفس اليوم كما يستنتج من قول علي علیه السلام بعد تفجر الماء مباشرة (أشهد أنها صدقة عليَّ بدواة وصحيفة). ومن المرجح أن يكون حفر العين قبل تولي علي الخلافة، لأنه بعد ما بويع له بالخلافة انشغل تماما بإعادة أمور الدولة إلى نصابها في محاولة منه لإخماد الفتنة وإخراج الثوار من المدينة وتوزيع عماله على الأمصار، مما يحول بينه وبين العمل في الضيعتين اللتين هما في ينبع خارج المدينة، علما بأن المدة بين بيعته وبين وقعة الجمل التي بارح بسببها مدينة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى العراق اربعة اشهر، لأنها وقعت في منتصف جمادى الاخرة سنة ست وثلاثين هجرية، أما البيعة له بالمدينة فقد كانت في الرابع والعشرين من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين هجرية، وعليه فليس بإمكانه في هذه المدة القصيرة المليئة بالأحداث والفتن أن يترك شؤون الدولة ليذهب إلى العمل في ضيعته، ثم أنه لم يعد إلى المدينة إطلاقا بعد مغادرته إياها، إذ بقي في العراق حتى اغتيل سنة أربعين هجرية، لذلك فالأرجح أن حفر العين وكتابة صك الصدقة قد تّا قبل أن يبايع له بالخلافة سواء أكان ذلك في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أو في عهد أبي بكر وعمر، مما يرجح أن اللقب قد أطلقه عليه أبو نيزر قبل توليه الخلافة، وهذا يعني من وجهه نظرنا أنه من الألقاب التي خصه بها الرسول صلی الله علیه و آله وسلم خاصة أن الضيعتين كانتا تدران أموالا وفيرة على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم استناداً لرواية أحمد بن حنبل في كتاب الزهد (ص 51) عن علي قوله «لقد رأيتني مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأني لأربط الحجرعلى بطني من الجوع وأن صدقتي اليوم لأربعون الف دينار». ثم إن قول المبرد «بأن وقف الضيعتين لسنتين من خلافته» لا يتناسب والتزامنية التي وردت في الرواية لأن علياً علیه السلام في ذلك التاريخ لم يكن متواجداً في المدينة حتى يقوم بالحفر ويكتب صك الوقف، لذلك فقد يكون ما عناه المبرد بالوصية، ليس صك الوقف، ولكن وصيته العامة في كيفية تصريف في أمواله التي ذكرها الشريف الرضي في نهج البلاغة (الرسالة رقم 24)

ص: 162

وجوب الإمامة: من اعظم انجازات البشرية في مراحل تطورها الحضاري، ابتكار الحكومة كحاجة ملحة لتنظيم علاقات الافراد، ووضع الأمن في نصابه، فضرورة التجمع الإنساني ولدت الحاجة إلى التكامل في ايجاد الوسائل الضرورية لتهيئة أسباب العيش، وهذا من جانب آخر ولد التنافس وتعارض المصالح مما ادى إلى محاولة تسلط ذوي القدرة على المستضعفين من ابناء المجتمع في سبيل امتلاك الأسباب وتسخيرها لمصالح فردية، فالاجتماع «اذا حصل للبشر...تم عمران العالم بهم فلا بد من وازع يدفع بعضهم عن البعض لما في طباعهم الحيوانية من العداوات والظلم»(1) ، ووجوب الوازع هو السبب المباشر في انبثاق الحكومة التي اطلق المسلمون عليها الإمامة العظمى. فقد اتفقت جميع الفرق الإسلامية على «وجوب الإمامة... وانه لابد للمسلمين من

ص: 163


1- مقدمة ابن خلدون ص 55

أما ينفذ أحكامهم، ويقيم حدودهم ويغزي جيوشهم... وخالفهم شرذمة من القدرية(1) كأبي بكر الأصم(2) وهشام الفوطي(3) )(4) .

فوجوب الإمامة يعدّ نقطة التقاء الفرق الإسلامية، ولكنها سرعان ما تفترق في طريقة الوجوب إذ بينما يرى الأشاعرة والسنة أنها مدرك شرعي

ص: 164


1- القدرية: لقب أطلقه أهل السنة والأشاعرة على المعتزلة، وقد نفى المعتزلة ذلك عن أنفسهم لقول القاضي عبد الجبار(ت 415 ه) «ان هذا اللقب لم يثبت لنا... لأننا نزعم ان ذلك اللقب لمن يخالفنا في الحق، ونزعم ان افعال العباد من خلق الله وانها بقضائه وقدره... فأا القدرية فهم الذين يزعمون ان الله تعالى قدر المعاصي، وجعلوا ذلك كالعذر للعاصي حتى اعتقد بعضهم انه لا يقدر ولا يصح منه غير ما قدر الله تعالى... وأصحابنا نفوا المعاصي عن الله وهم اثبتوه، فيجب ان يكون اللقب لهم لازماً »فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 167 ، وحسب المفهوم العلمي فإن القدرية «هم الذين يؤمنون بكون الأشياء محددة مدبرة في الأزل حيث تصبح لا مناص من وقوعها» يوسف خياط معجم المصطلحات العلمية ص 521
2- أبو بكر الاصم (ت 200 ه) كان من المعتزلة المعدودين، وفيه ميل على أمير المؤمنين علي علیه السلام، وبذلك كان يعاتب، فأخرجه المعتزلة من جملة المخلصين وله كتب كثيرة - ابن النديم الفهرستص 214، وبشان وجوب الإمامة كان يزعم «ان الناس لو كفوا عن الظلم لاستغنوا عن الإمام» عبد القاهر البغدادي - أصول الدين ص 271
3- هشام بن عمرو الفوطي: كان من أصحاب أبي الهذيل فانحرف عنه فعتم عليه المعتزلة وانحرفوا عنه... وكان من أهل البصرة وسافر إلى عدة بلدان من البحر وكان داعية إلى الاعتزال. لم تذكر وفاته - ابن النديم - ص 214 ويتمثل رأيه في الإمامة: «الأمة إذا اجتمعت كلها على الحق احتاجت حينئذ إلى الإمام، وأما إذا عصت وفجرت وقتلت الإمام لم يجب على أهل الحق منهم حينئذ إقامة الإمام» عبد القاهرالبغدادي - أصول الدين 272
4- اصول الدين السابق ص 271 وتكاد جميع مصادر السنة التي تناولت الموضوع تتفق على ذلك. راجع: المارودي - الأحكام السلطانية ص 5، ابن حزم -الفصل في الملل والنحل 4/ 87

يشاركهم في ذلك معتزلة البصرة(1) ، يرى الشيعة أنها «تدرك بالعقل لا بالأوامر السمعية»(2) . وقد أخذ بالمدرك العقلي أيضاً معتزلة بغداد بالإضافة إلى الجاحظ من معتزلة البصرة(3) .

وتكاد تنحصر نقطة الخلاف بين الدليل الشرعي وبين الدليل العقلي - في اعتقادنا - في تاريخية ابتداء الإمامة، فمن البحث في دليل القائلين بالمدرك الشرعي، نجد أنهم ينظرون من واقع ما حدث في سقيفة بني ساعدة يوم وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فابن خلدون حين يقول «إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين»(4) ويعني بالوجوب ما تم يوم السقيفة باتفاق بعض الصحابة. ومن هنا يتضح الخلط في فكر القائلين بالمدرك العقلي، بين الحكومة ساعة انتخابها، وبين وجودها كواقع موجود بالفعل في أحقاب متأخرة من تاريخ الإنسانية السياسي. والسبب المباشر في ذلك الخلط يرجع إلى عدم وجود نظرية محددة متكاملة للامامة عند السنة، لعدم الحاجة إلى مثل ذلك بالنسبة لهم كسلطة قائمة تمارس الحكم، ولأن النظريات في العادة تتولد من فكر«احزاب المعارضة التي لا تكتفي بموقف سلبي من الحكم القائم، وانماتقدم نظرية متسقة في اصول الحكم»(5) لذلك يمكن عدّ ما قيل من قبل السنة حول نظرية الإمامة، هو مجرد رد فعل.

ص: 165


1- راجع ابن أبي الحديد، السابق 2/ 308
2- الحلي - الالفين ص 27
3- راجع ابن أبي الحديد، السابق 2/ 308
4- المقدمة ص 240
5- محمد محمود صبحي: نظرية الإمامة ص 23

والشيعة حين يتفقون مع المعتزلة بالقول بالمدرك العقلي في وجوب الإمامة فانهم يختلفون معهم لأن المعتزلة «يوجبون الرياسة على المكلفين من حيث كان في الرياسة مصالح دنيوية، ودفع ومضار دنيوية»(1) ، أما الشيعة الإمامية فيوجبونها على الله تعالى. ثم أنهم حين يقولون بالمدرك العقلي، انما يصفون الحكومة منذ نشأتها كواقع ينظم حياة الافراد بناء على «اتفاق العقلاء في كل صقع وفي كل زمان على إقامة الرؤساء»(2) وهو الأساس الذي يبنون عليه دليلهم العقلي، لكونه أسبق من الدليل الشرعي، لأن الشرع من وجهة نظرهم لا يمكن الاخذ به كقانون ملزم الا بمدرك عقلي وهبه الله للانسان ليتمكن من حرية الاختيار والارداة في الاخذ بالخير وتجنب الشر، فلو لم تكن الإمامة من الملكات العقلية «لكان الله تعالى مخلا بالواجب في أكثر الناس، لأنه ان امتنع الفعل وكان من فعله، كان إلجاء وهو ينافي التكليف»(3) والقول بوجوب الإمامة عقلاً من الأفكار التي يمكن تلمس ملامحها عند علي بن أبي طالب علیهم السلام في (نهج البلاغة)،على اعتبار ان ازمة الاستخلاف، وما دار حولها من جدل كانت من اصعب مراحل حياته الفكرية.

وجوب الإمامة في فكر علي علیهم السلام:

بطبيعة الحال لا نتوقع الحصول على تعريف فلسفي محدد في الإمامة ووجوبها، فيما أثر عن علي بن أبي طالب علیهم السلام من أقوال في (نهج اليلاغة) ولكن ذلك لا يعني سكوته عن الموضوع بصفته قطب رحى المعارضة التي استدارت

ص: 166


1- ابن أبي الحديد، السابق 2/ 308
2- الحلي، الألفين ص 15 ، 16 ، والالجاء: الاضطرار والجأه اضطره لفعل ما لم يكن مقتنعا به
3- المصدر السابق نفسه

حولها نظرية الإمامة. فعلي علیهم السلام في هذا المجال لم يكن منظراً، بل كان مطبقاً لنظرية متكاملة الجوانب فإذا «كان علاج أبي بكر وعمر (لقضية الإمامة) علاجاً مؤقتاً، لدرء فتنة متوقعة، دون وضع أسس كاملة لنظام الحكم»(1) فقد حاول علي علیهم السلام - كما يبدو من (نهج البلاغة) - أثناء خلافته القصيرة المليئة بالأحداث والفتن، ان يضع تلك الأسس على ضوء القرآن والسنة، كما أفهمها له الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2) . فالإمامة في فكر علي علیه السلام واجبة وضرورية، ولا يمكن على الإطلاق ان يسود النظام بدونها وينعم الناس بالأمن وتستقر الحياة، وفي هذا المجال يقول لما سمع قول الخوارج «لا حكم الا لله» : «كلمة حق يراد بها باطل، نعم انه لا حكم الا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة إلا لله، وأنه لابد للناس من أمير بر أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ فيها الأجل، ويجمع به الفيء ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل، ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر»(3) ، فنص علي علیه السلام السابق يرتكزعلى ثلاث نقاط:

- الأولى: الالتباس في فكر الخوارج بين الأحكام التشريعية والإمارة بمعناها القيادي، المناط بها تطبيق شريعة السماء.

- الثانية: وجوب الإمارة مطلقة.الثالث: الغاية المطلقة من الإمارة.

1 - لالتباس في فكر الخوارج بين الأحكام الشرعية وبين الإمارة: إذ يفهم من

ص: 167


1- محمد محمود صبحي نظرية الإمامة ص 26
2- أرجع قول علي علیه السلام عن نفسه في هذا الشأن، الخطبة رقم 240
3- خطب 40

قول علي علیه السلام إن الخوارج قد خلطوا بين التشريع وبين نفي الإمارة، بعدم قبولهم التحكيم، لعدم وجود نص يدعم أو ينفي ذلك القبول، إذ يفهم من قولهم (لا حكم الا لله) «بأنه لا حكم كلي ولا جزئي لمجتهد أو أمير أو أي إنسان كائناً من كان إلا في الأشياء المنصوص عليه كتاباً وسنة، ما غير المنصوص عليها فيترك امرها إلى الله»(1) ولكن المنطق والعقل يأبيان ذلك لأن «أكثر الأحكام الفرعية غير المنصوص عليها مع انها أحكام الله، بل تكون منتزعة بحسب الاجتهاد وساير طرقها لمن كان أهلاً لذلك»(2) . فقولهم بأن (لا حكم الا لله) قد نفوا الإمرة لغير الله مع أن الاستنباط العقلي يقول بضرورة الحاكم الذي تستقيم به مصالح الناس واحوال الرعية.

2 - وجوب الإمارة مطلقة: فعلي علیه السلام قد قال بوجوب (الإمارة) أو السلطة أو الإمامة كرادع، يقيم أود المجتمع، إلا أنه قد قال بإطلاقها، فهو لا يريد من القول إمارة معينة في وقت معين، ذات طبيعة خاصة، فقوله «لابد للناس» تعني أي ناس يتفقون فيما بينهم لتأمير أحدهم عليهم ليصون مصالحهم، لذلك جاء في السياق «بر أو فاجر» . وهنا يجدر الأخذ بعين الاعتبار ان علياً علیه السلام قد جعل الإرادة الحرة المتمثلة في العقل هي الأساس في وجوب الإمارة باعتبارها وليدة التفكير الجماعي، أما عدم ربطه إياها بالدين كما يتبين من النص فلأنه قد نظرإليها من حيث الاطلاق كإمارة، وليست إمامة محاطة بسياج من التشريعالإسلامي، فليس مجال النص ما طرحه ابن أبي الحديد أو الخوئي من كون

ص: 168


1- مغنية في ظلال نهج البلاغة 1/ 753
2- ميثم البحراني شرح نهج البلاغة 2/ 102

مناقشة الإمامة كمنصب ديني(1) ،، فهو يعني - كما يبدو من النص - الإمارة بمعناها المطلق في مجالها التاريخي العام دون تحديدها أو ربطها بتشريع إلهي.

ثم إن الدليل العقلي على وجوب الإمامة في فكر علي علیه السلام يمكن استنتاجه من كلام قاله لرسول قوم ارادوا منه استطلاع «حقيقة حاله من أصحاب الجمل، لتزول الشبهة من نفوسهم فبين له علیه السلام من إمرة معهم ما علم انه على حق، ثم قال له: بايع، فقال: إني رسول قوم، ولا أحدث حدثاً حتى ارجع إليهم، فقال علیه السلام: أرأيت لوأن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم متساقط الغيث، فرجعت إليهم واخبرتهم عن الكلأ والماء، فخالفوا إلى المعاطش والمجاذب، ما كنت صانعاً؟ قال: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء فقال علیه السلام فامدد اذاً يدك، فقال الرجل: فو الله ما استطعت ان أمتنع عند قيام الحجة علي فبايعته»(2) .

فقد طلب علي علیه السلام بيعة الرجل من وجهة عقلية مبنية على الإرادة التامة في حرية الاختيار، بعد أن أوضح له الطريق، فاستجابة الرجل هنا لم تكن مبنية على نصوص تشريعية بقدر ما هي مبنية على اقتناع داخلي بأن موقف علي علیه السلام هو الحق، وذلك من خلال توظيف علي علیه السلام للصورة العقلية، ولو أن الرجل رفض بيعته فباختياره المحض أيضاً، لأن الحق لا يعرف بالرجال، ولكن الرجال تعرف بالحق، لذلك فقد قال علي علیه السلام للحارث بن حوط(3) حين سأله عن أصحاب الجمل، أكانوا على حق أم كانوا على ضلال، قال: «يا حارث إنك نظرت تحتك

ص: 169


1- راجع ابن أبي الحديد 2/ 308، الخوئي منهاج البارعة 4/ 178
2- خطب - 171
3- الحارث بن حوط، بالحاء المهملة. ويقال: إن الموجود في خط الرضي «ابن خوط » بالخاء المعجمة - المضمومة ابن أبي الحديد 19 / 148 يبدو أنه من أصحاب الإمام علي علیه السلام، لم أعثر له على ترجمة

ولم تنظر فوقك فحرت، إنك لم تعرف الحق، فتعرف أهله، ولم تعرف الباطل فتعرف من أتاه»(1) أي انك «نظرت إلى طلحة والزبير من خلال صحبتهما لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وإلى عائشة من خلال حرمة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(2) ، والحق لا يمكن إدراكه بالوجاهة والمركز وإنما من خلال أعمال العقل بالتأمل في ماجريات الأمور تأملاً متروياً وعميقاً، وعليه فإن الاخذ بما حدث في السقيفة بأنه تشريع أو نص قانوني، لأن بعضاً من صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد أقروا به، لا يمكن قبوله من وجهة نظر علي علیه السلام .

3 - إما من حيث الغاية من الإمارة: فقد قصرها علي علیه السلام على الشؤون الدنيوية العامة لكونه يتحدث عن ضرورة السلطة لحفظ نظام لاستتباب امن المجتمع سواء أكان اسلاميا أو غير اسلامي، لذلك لا يمكننا استكمال صورة الإمامة ووجوبها من الناحية الشرعية في فكر علیه السلام الا بالتعرض إلى الشروط التي يجب توفرها من وجهة نظر الفرق الإسلامية ومن ثم مقارنتها بما رود عند الإمام علي علیه السلام في ذات الموضوع.

4 - شروط استحقاق الإمامة من وجهة تظر الفرق الإسلامية: تكاد الفرق الإسلامية كلها تتفق على شروط معينة من الواجب توفرها، فيمن يستحق الإمامة العظمى ويحصرها فريق في أربعة، بينما يرى الماوردي حصرها في سبعة شروط هي:

1 - العدالة على شروطها الجامعة.

2 - العلم المؤدي إلى الاجتهاد في النوازل.

ص: 170


1- حكم 270
2- مغنية في ظلال النهج 4/

3 - سلامة الحواس من السمع والبصر واللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها.

4 - سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة وسرعة النهوض.

5 - الرأي المفضي إلى سياسة الرعية وتدبير المصالح.

6 - الشجاعة والنجدة المؤدية إلى حماية البيضة وجهاد العدو.

7 - النسب، وهو أن يكون من قريش، لورود النص فيه وانعقاد الإجماع عليه»(1) .

«وزادت الشيعة في هذا الشروط العصمة من الذنوب»(2) . ويكاد شرط العصمة يكون هو الأساس في استحقاق الإمامة عندهم، وهم لا يقصدون بالعصمة الاضطرار إلى الطاعات والامتناع عن المعاصي لا إراديا، وإنما العصمة عندهم قوة إرادية يزود الله سبحانه بها المعصوم لاختيار الفضائل وتجنب المعاصي بكابح داخلي ذاتي، مع الاقتدارعلى فعل المعاصي بالاختيار الحرالخالي من كل إلجاء، فالعصمة في اعتقاد الشيعة «هي اللطف الذي يفعله الله تعالى فيختار العبد عنده الامتناع من فعل القبيح»(3) . وعلى اعتبار ان العصمة من خصوصيات الإمام عند الشيعة دون سائر البشر، فانهم لا يقصدون بشرطية العلم والعدالة وغيرهما من الشروط على المحمول اللفظي لتلك المعاني، لأنهم

ص: 171


1- الماوردي: الأحكام السلطانية ص 6، واتفق عبد القاهر البغدادي في أصول الدين ص 277 وابن خلدون في المقدمة ص 241 على ان الشروط التي يجب توفرها في مستحق الإمامة أربعة هي «العلم والعدالة والكفاية وسلامة الحواس، واختلف في شرط خامس وهو النسب القرشي» بينما ذكرالقلقشندي في مآثر الأنافة 1/ 31 ، 39 ، أربعة عشر شرطاً هي «الذكور، البلوغ، العقل، البصر، السمع، النطق، سلامة الأعضاء، الحرية، الإسلام، العدالة، النجدة، العلم المؤدي إلى الاجتهاد، صحة الرأي، التدين، سلامة النسب» وأخذنا بقول الماوردي في المتن لأنه الأخصر والأشمل
2- أصول الدين ص 277
3- الشريف المرتضى: أمالي المرتضى 2/ 377

يوجبون في الإمام «ان يكون أفضل زمانه دينا وورعاً وعلما وسياسة»(1) فأفعل التفضيل «أفضل» هنا يقصد به، ان العلم والعدالة والاجتهاد وحدها لا تكفي، لأن الجدارة والاستحقاق للأفضل والأقوى.

فشروط الفريقين في استحقاق الإمامة، وإن بدت متفقة في الظاهر فيما عدا العصمة الا انها بأفعل التفضيل الذي جعله الشيعة الشرط الرئيس للاستحقاق قد باعد بين الرأيين. وهذا ما سنحاول طرحه في موضوع عقد الإمامة بين النص، والاختيار وولاية العهد وذلك بعد محاولتنا تلمس الشروط التي يجب ان تتوفر في مستحق الإمامة في فكر علي علیه السلام.

شروط استحقاق الإمامة في فكر الإمام علي علیه السلام:

الإمامة في فكر علي علیه السلام كما يبدو في النهج، ولاية مطلقة عامة، يتحمل الإمام بمقتضاها مسؤولية صيانة الاعراض والدماء والأموال، وتطبيق الشريعة بمقتضى الانصاف والعدل اللذين نص القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة عليهما، فلا «ينبغي ان يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وامامة المسلمين، البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل فيضلهم بجهله، ولا الجافي فيقطعهم بجفائه ولا الحائف للدول فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق، ويقف فيها دون المقاطع، ولا المعطل للسنة فيهلك الامة»(2) . فالإمامة ليست منصباً تشريفيا يتوصل عن طريقه الفرد لتحقيق مارب خاصة على حساب حقوق العباد الدينية والدنيوية، لأنها في جوهرها

ص: 172


1- الحلي: الألفين 41
2- خطب - 131 ، 175

رعاية مصالح المؤمنين بما يؤمن لهم الحياة السعيدة في الدنيا والنعيم الدائم في الاخرة، فالأسس التي يجب ان تقام الإمامة عليها هي الكرم والعدل والنزاهة في تنفيذ الأحكام بما يصون حقوق الأفراد، لذلك يرى علي علیه السلام«ان أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمرالله»(1) فقد حصر الاستحقاق في شرطين هما:

1 - الأقوى على الأمر.

2 - الأعلم بأمر الله.

أما شرط الأقوى على الأمر فيمكن اعتباره جامعاً مانعاً لكل ما يمكن توفره من شروط الإستحقاق المدينة، إذ يجب أن يكون المستحق «هو الأكمل قدرة على السياسة، والأكمل علما بمواقعها وكيفية تدبيرالمدن والحرس وذلك يستلزم كونه أشجع الناس»(2) .

وبالشرط الثاني تستكمل حلقة الاستحقاق في فكر الإمام علي علیه السلام، لأن الاعلم بأمر الله يجب ان يكون محيطاً إحاطة تامة ومتناهية في الدقة بأصول الدين وفروعه ليتمكن من معالجة المستجدات في الحياة بما يتناسب تماما والشريعة الإسلامية.

ومن الملاحظ ان علياً قد استخدم في ذكره لشرطي الاستحقاق افعل التفضيل «الأحق والأقوى»، وقد علق ابن أبي الحديد على ذلك بقوله «وهذا لا ينافي مذهب اصحابنا البغداديين في صحة امامة المفضول، لأنه ما قال: ان إمامة غير الأقوى فاسدة، ولكنه قال: أن الأقوى أحق»(3) . وكما يبدو لنا من

ص: 173


1- السابق
2- ميثم البحراني شرح النهج 3/ 340
3- ابن أبي الحديد 9/ 328

السياق، ان الشرطين لا يحتاجان إلى تأويل بحسب فكرة الزيدية(1) ، وبعضالمعتزلة، والقائلة (بجواز إمامة المفضول مع وجود الأفضل)، لأن علياً يعني ان المؤهل الوحيد المستحق للإمامة هو: الأقوى والأعلم، ويمكن تفسير ذلك بناء على ما ورد في موضع اخر من النهج «ان أولى الناس بالأنبياء اعلمهم بما جاءوا به»(2) ، فلاحق للناس بنيابة الأنبياء والقيام مقامهم، الا للعالمين برسالاتهم العاملين بها الناصرين لها في جميع المواطن، فلا مجال للمفاضلة في الأسلوب إذ يمكننا القول باقتصار فكر علي علیه السلام في الاستحقاق على الأقوى والأعلم دون غيره من الناس فالقول بتقديم المفضول مع وجود الأفضل من الحجج الكلامية التي يقول بها الزيدية وبعض المعتزلة، هو من باب الاحتجاج باقتضاء المصلحة بتقديم أبي بكر وعمر وعثمان على علي علیه السلام من أجل الإسلام والخوف من فتنة قريش إذا ولي علي علیه السلام مع انه الأفضل في نظر أولئك، لكن السنة والاشاعرة يرفضون الفكرة، وبناء على رفض المقولة يقول أبو الحسن الاشعري بوجوب كون «الإمام أفضل أهل زمانه... ولا تنعقد الإمامة لاحد مع وجود من هو

ص: 174


1- الزيدية: هم اتباع زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب علیه السلام، ساقوا الإمامة في أولاد فاطمة علیها السلام ولم يجوزوا ثبوت الإمامة في غيرهم، إلا أنهم جوزوا أن كل فاطمي عالم شجاع سخي خرج بالإمامة أن يكون إماما واجب الطاعة سواء أكان من أولاد الحسن أو من أولاد الحسين علیه السلام... وكان من مذهب زيد «جوزإمامة المفضول مع قيام الأفضل فقال: كان علي بن أبي طالب علیه السلام أفضل الصحابة، الا أن الخلافة فوضت إلى أبي بكر لمصلحة رأوها وقاعدة دينية راعوها من تسكين ثائرة الفتنة وتطييب قلوب العامة» الشهرستاني الملل والنحل 1/ 155 وكذلك قال بهذا الرأي معتزلة بغداد راجع ابن أبي الحديد 9/ 328 ، وأحمد محمدود صبحي الزيدية ص 225
2- حكم 96

افضل منه فيها»(1)، وعلى هذا فإن ترتيب الخلفاء كان بحسب الافضلية، وان جوزوا المفاضلة فلا تدخل فيها خلافة أبي بكر ولا خلافة عمر إذ تنحصر المفاضلة عندهم بين عثمان وعلي علیه السلام(2) فوضع المفاضلة في الخلافة - من وجهة نظرالاشاعرة والسنة - يتخذ من التسلسل التاريخي نصاً شرعيا، لكون جمهورمن الصحابة قد اقروه واتفقوا عليه. كما يرفض الشيعة الإمامية القول بتقديم المفضول مع وجود الافضل لمصلحة اقتضتها الظروف، لما في القول من منافاة لمنطق العقل، لأن عدم قبول الأفضل من لدن فئة معينة تقدم مصلحتها الذاتية على مصلحة الأمة باكملها مما يأباه العقل ولا يقره القرآن الكريم، لأن «العقل يقبح تقديم المفضول وإهانة الفاضل، ورفع مرتبة المفضول وخفض مرتبة الفاضل، والقرآن الكريم، قد نص على إنكار ذلك، فقال تعالى:

﴿أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾(3) . ثم إن علياً علیه السلام ذاته لا يقبل المفاضلة، إذ يجد لَكُمْ نفسه الأحق والأفضل، يقول لمعاوية ضمن رده على احدى رسائله «زعمت ان افضل الناس في الإسلام فلان وفلان... وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس... فدع عنك من مالت به الرمية فإنا صنائع ربنا، والناس صنائع لنا»، إذ لا فضل لأحد علينا سوى فضل الله سبحانه، اما فضلنا فقد

ص: 175


1- عبد القاهر البغدادي - أصول الدين ص 252 ، وراجع أيضا: ابن حزم - الفصل في الملل والنحل 105/4 فقد رفض القول بالمفاضلة وشنع على القائلين بها، وقال بأفضلية بحسب ترتيبهم في خلافتهم
2- راجع عبد القاهر البغداد اصول الدين ص 293
3- المطهر الحلي: نهج الحق ص 188 والآية موضع الشاهد من سورة يونس/ 35

عم جميع الناس لأنهم اهتدوا بنا إلى الإسلام. وعلى نفس المعنى يمكن حمل قوله في موضع آخر من النهج «اين الذين زعموا أنهم الراسخون في العلم دوننا كذباً وبغياً علينا، أن رفعنا الله ووضعهم، وأعطانا وحرمهم، وادخلنا واخرجهم، بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى»(1) . فهو رد صريح على أولئك الذين يقولون بالمفاضلة على أهل البيت علیهم السلام، فالعلم المؤهل للهداية والقيادة هو المتمثل فيه، وفي عترة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من صلبه فموقفه على ما يبدو من قضية جواز تقديم المفضول على الافضل هو موقف الرافض، بحيث يمكن القول تجازواً باسبقيته إلى نفي تلك المقولة قبل ان تبرزعلى سطح السياسة الإسلامية.

فاستخدامه لاسم التفضيل (أحق وأعلم) يعني حصر استحقاق الإمامة في من يتوفر الشرطان فيه دون أية مفاضلة، واستخدامه في السياق (إنّ) المشددة التي تعني التوكيد.

فشروط الاستحقاق التي حصرها السنة والاشاعرة ومعتزلة البصرة في (العلم والعدالة والكفاية) تكاد تتفق في مضامينها مع ما أثر عن علي علیه السلام في (نهج البلاغة) من قول، إلا إنها تختلف مع فكر علي علیه السلام في الكيفية التي تحدد تلك الشروط، إذ بينما يقول أولئك بوجوب كون الإمام أفضل رعيته، فانهم يكتفون من ذلك بكونه (عالماً، عادلا،ً كفؤاً)(2) ، فلا يحددون المقياس الذي صار به الإمام هو الافضل. بينما يرى علي علیه السلام ان مستحق الإمامة يجب ان يكون (الأعلم، والأعدل والأكفى)، وبذلك صارالافضل لتفرده بتلك المزايا دون سواه من افراد امته، ومن هذا النبع استقى الشيعة الإمامية نظريتهم في الإمامة،

ص: 176


1- خطب - 144
2- راجع شروط انعقاد الإمامة عند السنة والاشاعرة ص 170 - 171 من هذا البحث

ثم بعد ذلك بينوا الكيفية التي يمكن معرفة الافضل بها.

اما شرط وجوب «الأئمة من قريش» الذي يكاد يكون لا خلاف عليه لتواتره عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فوجهة نظر علي علیه السلام فيه الحصر لا الاطلاق لقوله «ان الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح الولاة من غيرهم»(1) ، فالإمامة ليست دولة في قريش، بل يجب حصرها في البطن الهاشمي الذي منه جاء النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فقد أثر عنه صلی الله علیه و آله وسلم قوله «ان الله اصطفى كنانة من ولد اسماعيل واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بين هاشم»(2) ، وبناء على ما ورد في الحديث الشريف فإن بني هاشم هم المصطفون من قريش، لذلك فإن علياً علیه السلام يرى ان «لهم خصائص حق الولاية»(3) دون غيرهم كما خصهم الله سبحانه بالنبوة دون غيرهم.

اما شرط (العصمة) الذي انفرد به الشيعة، فيمكن تلمسه في فكر علي علیه السلام في مواضع عدة من (نهج البلاغة)، فتميزعلاقته بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم دون سائر قرابته وصحابته منذ طفولته، غرس في نفسه المثل العليا فراض نفسه على الصدق قولاً وعملاً منذ نعومة اظافره ويمثل ذلك قوله «قد علمتم موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالقرابة القريبة والمنزلة الخصيصة وضعني في حجره وأنا وليد، يضمني إلى صدره، ويكتنفني في فراشة... وما وجد لي كذبة في قول ولا خطلة في فعل»(4) ، ولكن تعلقه بالفضيلة ومتناعه عن الرذيلة لم يكن

ص: 177


1- خطب - 144
2- صحيح مسلم 4/ 1782
3- خطب - 2
4- خطب - 190

عن تقليد، كما لم يكن تصرفاً آلياً لا خيار له فيه مما يعد من قبيل الالجاء ولكن تحكمه في نفسه بضبط ارادته هو ما حال بينه وبين الآثام بتصرف إرادي حر(1) ، ويقول ضمن إحدى خطبه «إني لست في نفسي بفوق أن أخطئ، ولا آمن ذلك من فعلي، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني»(2) ، فالخطأ والصواب من طبائع البشر، وهو أيضاً من البشر، الا ان امتلاكه لزمام نفسه يحول بينه وبين مواقعة الخطأ مهما كان ضئيلاً، بفضل قوة ايمانه ورسوخ يقينه، فقوله ذلك لا يعني اعترافاً منه بعدم عصمته على سبيل التواضع كما يقول بذلك شارحان لنهج البلاغة(3) ، ولكنه يعني العصمة الإختيارية بحمل الإستثناء في قوله (إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك مني) على قوله تعالى على لسان يوسف:

﴿«وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي﴾(4) على اعتبار«ما رحم ربي: في موضع نصب بالإستثناء. وهو استثناء منقطع، لأنه استثناء المرحوم بالعصمة من النفس الأمارة بالسوء»(5) . وقول علي علیه السلام

ص: 178


1- مما يدل على التصرف الارادي الحر في فكر علي علیه السلام قوله «انما هي نفسي أروضها بالتقوى لتاتي امنة يوم الخوف الاكبر، وتثبت على جوانب المزالق، ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي» رسائل 45
2- خطب 211
3- راجع: شرح ابن أبي الحديد 11 / 108، وشرح ميثم البحراني 4/ 48
4- يوسف / 53
5- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 9/ 210 ، واعتبر المستثني في الاية منقطعاً على أساس انه ليسبعضاً من المستثنى منه ويمكن تقدير الا بلكن

بالعصمة لا يعني اقتصارها على نفسه دون سواه من ولده من أهل البيت الذين وصفهم بأنهم «أزمة الحق، واعلام الدين، ولسنة الصدق فأنزلوهم بأحسن منازل القرآن»(1) ، والقرآن كتاب الله الذي:

﴿لَ يأَتيِهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْن يدَيْهِ وَلَ مِنْ خَلْفِهِ﴾(2) . وإنزال آل البيت علیهم السلام منازل القرآن يعني الإقرار بعصمتهم، لذلك جاء امره إلى المكلفين «بأن يجروا العترة في اجلالها واعظامها والانقياد لهاو الطاعة لأوامرها مجرى القرآن»(3) . فقول بعض المعتزلة باختصاص علي علیه السلام بالقصمة دون سواه من آل البيت(4) لا يتسق واستخدامه للعترة ضمير جمع الغائب (هم أنزلوهم). وعليه فإن العصمة كشرط من شروط استحقاق الإمامة، لم يكن من ابتكار متكلمي الشيعة، وفقهائهم لأنهم كما يبدو قد أخذوه عن علي علیه السلام، الذي يرى ان الإمامة نيابة عامة ومطلقة عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في كل ما يتعلق بالدنيا والدين، وعلى ضوء ذلك يمكننا دراسة فكره في كيفيه انعقاد الإمامة، ورأيه في الأفكار التي طرقت المجال ذاته.

عقد الإمامة: حصر القلقشندي(5) طرق عقد الإمامة عند السنة في ثلاث:

ص: 179


1- خطب - 86
2- فصلت/ 42
3- ابن أبي الحديد 6/ 376
4- راجع ابن أبي الحديد 6/ 376 ، فقد قصر العصمة على علي علیه السلام دون سواه
5- اخترنا القلقشندي: مآثرالانافة 1/ 39 وما بعدها لحصره جميع الآراء التي قيلت في الموضوع تقريباً، ولأن السابقين عليه قد حصروا العقد في طريقتين، كما نص على ذلك عبد القاهر البغدادي في (أصول الدين 279) إذ قصره على النص أو اختيار أهل الحل والعقد، وكذلكفعل الماوردي في (الأحكام السلطانية ص 6) وما بعدها، وقد تحدث ابن خلدون في المقدمة ص 262 عن ولاية العهد، ولم يتطرق لشرط اختيارأهل الحل والعقد، وذلك على أساس انه شرط مفروغ من صحته وثباته، وذلك لأنه قد ذكره عند المبادرة إلى بيعة أبي بكر في فصل (اختلاف الأمة في حكم منصب الإمامة وشروطه) المقدمة ص 239. اما عن القهر والاستيلاء فقد ضمنه فصل (انقلاب الخلافة إلى ملك) المقدمة ص 253

الأولى: في انعقاد الإمامة باجتماع أهل الحل والعقد واتفاقهم على عقدها فيمن يستجمع شروطها «وعلى ذلك كانت خلافة أبي بكر بعد وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(1) .

الثانية: تنعقد الإمامة لشخص الإمام بعهد من الإمام الذي قبله «والأصل في ذلك ما رويأنه لما مرض أبو بكر مرضه الذي مات فيه»(2) عهد بالإمامة من بعده لعمر فصحت بيعته.

الثالثة: تنعقد الإمامة «للمتغلب عليها بالقهر والاستيلاء إذا جمع شرائطها من غير عهد إليه ولا بيعة، وجوز أصحاب الشافعي امامة المتغلب وان كان فاسقاً»(3) .

أما الشيعة الإمامية فيرون «ان الإمامة... من جملة ما هو أعظم أركان الدين وان الإيمان لا يثبت بدونها»(4) لذلك لا يجوز على الخالق اسنادها لاختيار المكلفين «لأن القصد من نصب الإمام، امتثال الخلق لأوامره ونواهيه، والانقياد إلى طاعته، وسكون ثائرة الفتن ولإزالة الهرج والمرج، وإبطال التغلب

ص: 180


1- مآثر الانافة 1/ 40 ، 48
2- السابق
3- السابق 1/ 58
4- المطهر الحلي: الألفين 36

والمقاهرة»(1)، فلو أسند الاختيار إلى المكلفين لتدخلت الأهواء وتغلبت المصالح الذاتية مما يتنافى والقصد من الإمامة لذلك «ذهبت الإمامية كافة إلى ان الطريق إلى تعيين الإمام أمران:

- النص من الله تعالى أو نبيه، أو إمام تثبتت إمامته بالنص.

- ظهور المعجزات على يده لأن شروط الإمامة العصمة، وهي من الأمور التي لا يعلمها إلا الله تعالى»(2) .

وفكرة المكانة الدينية العالية في نيابة الإمام عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في حمل العباد على النهج القويم، لم تكن مقصورة على الشيعة، فقد وردت عند ابن خلدون عن مكانة الخليفة «إن الله سبحانه إنما جعل الخليفة نائباً عنه في القيام بأمور عباده ليحملهم على مصالحهم ويردهم على مضارهم»(3) ، فابن خلدون وان لم يقر بمقولة الشيعة (بالنص) إلا أنه يعطي للخليفة مكانة قدسية في نيابته عن الله في خلقه، وهو بذلك يدحض زعم القائلين ان فكرة الشيعة في الإمامة غريبة عن روح الإسلام(4) ، لكونها تقول بمنزلة الخليفة الدينية التي - فيما

ص: 181


1- السابق ص 38
2- المطهر الحلي: نهج الحق وكشف الصدق 168
3- المقدمة 245
4- يقول خالد محي الدين، في الدين والاشتراكية ص « :61 إننا إذا استعرضنا كل التيارات الفكرية، والفرق الإسلامية لم نجد غير الشيعة الإمامية الذين يمكن ان يقترب فكرهم حول (الإمامة) من نظرية الحق الإلهي، فهم يرون اقامة (الإمام) واجباً على الله وليس واجباً على الناس، وان الله قد حدد اشخاص الأئمة، وان الرسول قد اوصى بذلك في (علي علیه السلام) وبينه، ونحن نتفق معه في كل ما جاء به من عقائد الشيعة في الإمامة ونتفق معه أن المذاهب الأربعة ومعظم الفرق الإسلامية ترفض القول بالوصية في علي علیه السلام وأولاده، مع أنها تقر بوصية أبي بكر في عمر، ولكننا لا نتفق معه في أن الشيعة الإمامية يقولون بأن الخليفة «نائب الله» لانه يناقض ما جاء عندهم ان «الإمامة عبادرة عن خلافة شخص من الاشخاص للرسول صلی الله علیه و آله وسلم في اقامة قوانين الشرع وحفظ حوزة الملة على وجه يجب اتباعه على الأمة كافة الالفين ص 12». أما تفسيره لقول الله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِ الْكِتَابِ مِنْ شَیءٍ﴾ بإضافة «من أمور الدين» إلى الآية، فهو فيما نعتقد عدم ادراك من الباحث ان القرآن الكريم لم يقتصرعلى العبادات التي كان يقصد بها (امور الدين) ولكنه كتاب تشريع وعبادة وانكاره ذلك لا يغير من كلون الإسلام بعيداً كل البعد عن الاسقاطات الايديولوجية الحديثة من اشتراكية وغيرها من اطروحات حاول الكاتب الباسها ثوب الإسلام، ومقولة ان الخلافة ظل الله التي نسبها الاستاذ إلى الشيعة هي من ابتكار بعض الخلفاء السنة الذين حاولوا الباس خلافتهم صبغة دينية ويمكن مراجعة مثل ذلك المعنى فيما جاء على لسان زياد بن ابيه في خطبته البتراء العقد الفريد 4/ 112 ، وما أثر عن أبي جعفر العباسي العقد الفريد 4/ 99 . اضافة إلى ذلك فإنه لم يؤثر مثل هذا القول عن علي علیه السلام أو عن الأئمة الإثني عشر كما لم يقل فقهاؤهم بأن الإمام نائب الله في الأرض، بل قالوا فيما نعتقد نائب للرسول

نعتقد أيضاً تتفق مع ما ورد عند الماوردي، بأن «الإمامة موضوعة لخلافة النبوةفي حراسة الدين وسياسة الدنيا»(1)، والاختلاف ينحصرأساساً في طريقة تعيين الإمام، إذ يتمسك السنة بالجانب الدنيوي المتمثل في اختيار العباد، على الرغم من انهم يقولون بأن الإمامة منصب ديني ودنيوي، بينما يرى الشيعة أن الناس مهما بلغت بهم المعرفة والعلم، فإنهم ليسوا في مستوى الاختيار النزيه البعيد عن الميل إلى جانب دون الجانب الآخر، لما في الطباع البشرية من ميل نحو المصالح الشخصية والمكاسب المادية، وجنوح نحو الأثرة والأنانية، لذلك فإن من لطف(2) الله بالعباد فقد أوجب النص على الإمام ليكون حجة عليهم

ص: 182


1- الأحكام السلطانية ص 5
2- للطف في عرف المتكلمين ما يقرب من الطاعات وبيعد عن المعاصي، ولا حظ له في التمكين ولا يبلغ الايجاد لمنافاة التكليف... وهو من المصطلحات التي يعول عليها الشيعة، راجع: مجمع البحرين 5/ 120

أمام الله، وقد تعرض الإمام علي علیه السلام إلى معظم آراء انعقاد الإمامة في ثنايا خطبه ورسائله، اما على سبيل الاحتجاج على خصومه السياسيين، وأما لتوضيح وجهنظره التي يؤمن بها ويتبناها وهي هذه.

طريق انعقاد الإمامة في فكر الإمام علي علیه السلام كما يبدو في نهج البلاغة:

لم تكن مقولات الإمام علي علیه السلام عن طريق انعقاد الإمامة لمجرد الإدلاء برأية في قضية شرعية بقصد التنظير، خاصة وان تلك المقولات تمسه مباشرة لاعتقاده بأنه صاحب حق وقطب من أقطاب سياسة عصره، لذلك لم يقبل مقولة: انعقاد الإمامة باتفاق أهل الحق والعقد لأنها فكرة استحدثت لتبرير الواقع، بل وإنها أيضاً لم تكن مستكملة الجوانب لأن معظم رؤوس أهل الحل والعقد الذين كانوا في المدينة كانوا غير متواجدين أثناء انعقاد البيعة لأبي بكر في سقيفة بني ساعدة، فقد انعقدت تلك البيعة حسب معظم المصادر(1) بخمسة هم: عمربن الخطاب، وأبو عبيدة بن الجراح، وأسيد بن حضير(2) ، وبشير بن سعد(3) ،

ص: 183


1- راجع القلقشندي: مآثر الأنافة 1/ 42 فقد أورد مقالة غيره من المصادر في القضية ذاتها
2- اسيد بن حضير: بضم الهمزة والحاء... الانصاري الاوسي الاشهلي... اسلم قبل سعد بن معاذ على يد مصعب بن عمير بالمدينة، وكان اسلامه بعد العقبة الأولى وقبل الثانية، وكان أبو بكر يكرمه ولا يقدم عليه واحداً... آخى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بينه وبين زيد بن حارثة. توفي في شعبان من سنة عشرين أسد الغابة 1/ 111 وما بعدها
3- بشير بن سعد بن ثعلبة بن كقب بن الخزرج... شهد العقبة الثانية وبدراً واحداً والمشاهد بعدها يقال انه أول من بايع ابابكر يوم السقيفة من الأنصار وقتل يوم عين التمر مع خالد بن الوليد بعد انصرافه من اليمامة سنة اثنتي عشر - أسد الغابة 1/ 231

وسالم مولى أبي حذيفة(1) ، ولمجرد الاحتجاج وتسجيل الموقف على تلك البيعة يقول علي علیه السلام «واعجباه أتكون الخلافة بالصحابه، والقرابة؟ وروي له شعر في هذا المعنى - (طويل):

فإن كنت ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيب

وإن كنت بالقربى حجبت خصيمهم *** فغيرك أولى بالنبي وأقرب(2)

فإذا كان مقياس صحة انعقاد الإمامة لأبي بكر، كما يراها عمر، هي صحبته لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في جميع الموطن، فالأولى بها القريب اللحمة ومن صحبه صلی الله علیه و آله وسلم منذ نعومة أظافره حتى اليوم الذي الحده صلی الله علیه و آله وسلم في قبره، اما الاحتجاج «بالاختيارورضا الجماعة»(3) فلم يثبت لغياب جل الصحابة عن السقيفة حين انعقدت البيعة، اما الاحتجاج بانعقاد البيعة قرابة الرحم من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حسب قول أبي بكر يوم السقيفة بشأن قريش «هم اولياؤه وعشيرته، واحق الناس بهذا الأمر بعد»(4) ، فعلى ذلك المقياس بالقرابة القريبة من عترة آل البيت علیها السلام هم احق واولى بالأمر دون سائر قريش.

ثم إن علياً علیها السلام في مجال رده على معاوية حين امتنع عن بيعته بحجة افتقاد

ص: 184


1- سالم مولى أبي حذيفة وهو سالم بن عبيدا بن ربيعة... من أهل اصطخر... هاجر إلى المدينة قبل النبي صلی الله علیه و آله وسلم...آخى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بينه وبين معاذ بن ماعض... شهد المشاهد كلها، قتل يوم اليمامة سنة احدى عشرة من الهجرة - أسد الغابة 2/ 416
2- حكم - 187
3- ابن أبي الحديد السابق 18 / 416
4- تاريخ الطبري 3/ 220

شرط الاجماع على خلافته، يقول «لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى يحضرها عاملة الناس فما إلى ذلك من سبيل»(1) ، فشرط الاجماع الذي اتخذه معاوية ذريعة للامتناع عن البيعة، لم يكن الا من باب طلب المستحيل، لذلك يجب على معاوية وامثاله من الذين امتنعوا عن البيعة الانقياد إلى ما تعارف الناس عليه منذ حكم أبي بكر بالرجوع إلى أهل الحل والعقد الذين «يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد ان يرجع ولا للغائب ان يختار»(2) . وفي اعتقادنا ان كل ما ورد عند الإمام علي علیه السلام عن انعقاد الإمامة بالقرابة أو باتفاق أهل الحلوالعقد أو بالشورى كان لمجرد الاحتجاج على من يحاولون تبرير الواقع بعد ان تم اقراره «لأن الشورى التي قيل باستخلاف أبي بكر بمقتضاها، أو نظر إليها على انها الأساس المقرر لاختيار الخلفاء فإنها مبدأ لاحق مسبوق لم ينشأ ساعة الإستخلاف بل طرأ من بعد على الأذهان»(3) ، إذ يبدو للمتتبع للنصوص المتعلقة بالإمامة في (نهج البلاغة) ان ما قيل من اتفاق أهل الحل والعقد لم يكن الا محاولة من سياسيي العصر لإضفاء شرعية على واقع فرض بالقوة، كما ان الشورى التي لاكتها الأفواه ما هي الا «مجرد اسم تلعب به الشفاه، أفرغ من مضمونه»(4) . اضف إلى ذلك بأن علياً علیه السلام لم يكن ليقيم للقرابة أية صلة بعقد الإمامة لأنه يعتقد «ان ولي محمد من اطاع الله وان بعدت لحمته، وان عدو محمد من عصى الله وان قربت قرابته»(5) ، وهو كما نلاحظ رد على القرشيين الذين

ص: 185


1- خطب 175
2- المصدر السابق نفسه
3- عبد الفتاح عبد المقصود - السقيفة ص 146 ، 264
4- المصدر السابق
5- حكم 94

احتجوا على الأنصار يوم السقيفة بزعمهم انهم أولى بالخلافة لقرابتهم من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم و سلم. فعلي علیه السلام وان نوه بالقرابة في استحقاق الإمامة، الا انه لم يكن يقصد من ذلك سوى إقامة الحجة على من اتخذ القرابة ذريعة، لذلك فإنه «لم يضع قرابته من النبي صلی الله علیه و آله وسلم مزية ترشحه للخلافة من بعده»(1) .

فمن خلال ترتيبنا لنصوص (نهج البلاغة) التي عالجت شروط انعقاد الإمامة، نجد ان علياً علیه السلام يقرر بما لا يدعو إلى الشك إلى أن الأرض لا تخلو (من قائم لله بحجة، اما ظاهراً مشهوراً، أو خائفاً مغموراً، لئلا تبطل حجج اللهوأنبيائه»(2) ، ووجود الحجة في الفكر الشيعي لطف من الله بعباده يقربهم من ا لطاعات ويبعدهم عن المعاصي، وعليه بنى الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله «لو لم يبق في الأرض اثنان لكان احدهما الحجة»(3) ، لذلك يعد علي علیه السلام نفسه مبلغاً عن النبي علیه السلام، قائما مقامه قائلا بلسانه، يقول لاصحابه «والله ما اسمعكم الرسول شيئاً الا وها أنا ذا اليوم مسمعكموه، وما اسماعكم اليوم بدون اسماعكم

ص: 186


1- العقاد - عبقرية علي ص 111
2- حكم - 145 ، فقرة 6، وقد علق ابن أبي الحديد على قول علي علیه السلام ذاك بأنه «يكاد يكون تصريح بمذهب الإمامية، على ان اصحابنا أي المعتزلة يحملون على ان المراد به الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عن انهم في الأرض سائحون» شرح النهج 18 / 351 ، ويرى ميثم البحراني شرح النهج 5/ « 336 انه تصريح منه علیه السلام بوجوب الإمام بين الناس في كل زمان ما دام التكليف قائماً »، ونحن نميل إلى رأي ميثم لخلوه من التاويل ولان علياً علیه السلام في كثير من نصوص (نهج البلاغة) يعتبر نفسه وآل البيت علیهم السلام هم الحجة على الخلق عند الخالق سبحانه من ذلك قوله «أنا حجيج المارقين وخصيم الناكثين -خطب 74» وقوله أيضاً «بقيه من بقايا حججه وخليفة من خلائف أنبيائه خطب 189»
3- الكليني اصول الكافي 1/ 179

بالامس»(1) ، وهو حين يقوم بذلك الا لأنه يعتقد بأن مكانته في الإسلام تاتي تالية بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في المنزلة استناداً لروايته عنه صلی الله علیه و آله وسلم حين ابتداء نزول الوحي إذ قال له «انك تسمع ما اسمع، وترى ما أرى، الا انك لست بنبي، ولكنك لوزير، وانك لعلى خير»(2) . إذ يفهم مما أثر عنه من اقوال انه حين يقوم بامرالمسلمين، فليس لأنه خليفة منتخب من قبل جمهورالمسلمين، ولكن لكونه يعتقد بأنه امام منصوص عليه من قبل الله سبحانه، كما يتضح مما ورد في وصيته لعماله على الصدقات «ارسلني اليكم ولي الله وخليفته، لآخذ منكم حق الله في اموالكم»(3) ، فنصه على أنه ولي الله يلقي ضوءًا على تفكيره في ان الإمامة لاتكون مطلقة يرشح لها أهل الحل والعقد من يرونه صالحاً لها، لأن رؤيتهم مهما اتسعت في شموليتها فهي دون رؤية الخالق سبحانه في مصالح عباده، فالأئمة في فكر علي علیه السلام «قوّام الله على خلقه وعرفاؤه على عباده، لا يدخل الجنة الا من عرفهم وعرفوه، ولا يدخل النار الا من انكرهم وانكروه»(4)، وهنا يستوقفنا تفسير المقولة بين المعتزلة والشيعة، فابن أبي الحديد من المعتزلة يؤولها في ضوء

ص: 187


1- خطب - 88
2- خطب - 90 ، فقرة 27 . ويروى ابن أبي الحديد لعلي علیه السلام 20 / « 216 انا من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كالعضد من المنكب، وكالذراع من العضد، كالكف من الذراع، رباني صغيراً، وآخاني كبيراً ولقد علمتم اني كان لي منه مجلس سر لا يطلع عليه غيري، وانه اوصى لي دون أصحابه وأهل بيته، ولأقولن ما لم اقله لاحد قبل هذا اليوم، سألته مرة ان يدعو لي بالمغفرة فقال: افعل، ثم قام فصلى، فلما رفع يده للدعاء استمعت إليه، فإذا هو يقول: اللهم بحق علي عبدك اغفر لعلي، فقلت: يارسول الله، ما هذا ؟ فقال أو أحد اكرم منك عليه فاستشفع به إليه؟
3- رسائل - 25
4- خطب - 152 فقرة 2

قوله تعالى:

﴿يوَمَ ندَعُوا ناَسٍ بإِمِامهِمِ﴾(1) ، أي «ينادي كل قوم باسم امامهم»(2) .

اما ميثم البحراني من متكلمي الشيعة فيرى ان كلام علي علیه السلام يعني به نفسه والأئمة من ولده، وقد استند في رأيه ذاك على نقطتين(3) :

الأولى: ان الشريعة بما حوته من اوامر ونواه محتاجة إلى من يوضح كيفية العمل بها لتسلك بالانسان طريق الخير والجنة، ولا يتأتى ذلك الا بمعرفة من يعمل بها، وهم الأئمة الواجب الإفتداء يهديهم.

الثانية: وهو المشهور عن علي علیه السلام ان الأئمة الذين يريدهم هم أهل بيته علیهم السلام ومعرفة امامتهم ركن من اركان الدين يؤدي إلى الجنة ويبعد عن النار. ولعل رأي ميثم هو الارجح، فالأئمة الذين يعنيهم علي علیه السلام - كما نعتقد - هي العترة من آل بيت النبوة، على اعتبار انهم احق الناس بولايته دون الخلق اجمعين في كل منقول معقول، لأنه «لا يقاس بآل محمد صلی الله علیه و آله وسلم من هذا الأمة احد، ولايسوى بهم من جرت نعمتهم عليهم ابداً، هم أساس الدين، وعماد اليقين... ولهم خصائص حق الولاية، وفيهم الوصية والوراثة»(4) . وقد تأول ابن أبي الحديد الولاية في الشاهد بأنها «حق ولاية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على الخلق»(5) ، فلا يقصد بها الإمامة كما تزعم الشيعة، وتأول (الوصية والوراثة) بأنها ليست «النص والخلافة ولكن

ص: 188


1- الإسراء / 71
2- ابن أبي الحديد 9/ 152
3- راجع شرح نهج البلاغة 3/ 235 ، 236
4- خطب 2 فقرة 3
5- ابن أبي الحديد 1/ 139

أموراً أخرى لعلها - إذا لمحت - أشرف واجل»(1) ، ومع تجاوزنا عن قول ابن أبي الحديد، فإنه «لا يعدم كل أحد أن يستنبط من كل كلام ما يوافق غرضه وإن غمض»(2) ، فعلى أي محمل يمكن تأويل قول علي علیه السلام بعد كلامه السابق، وفي نفس الفقرة «الآن إذ رجع الحق إلى أهله ونقل إلى منتقله»(3) ، فالحق الذي رجع إلى أهله باتفاق جميع تفاسير النهج هو الخلافة(4) ، والسياق يشير لذلك ولا مجال فيه إلى التأويل. ثم اننا لو قبلنا قول ابن أبي الحديد بأن المقصود من الوراثة وراثة العلم، فعلى أي محمل يمكننا تأويل قول علي علیه السلام«كانت في ايدينا فدك، من كل ما اظلته السماء، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله»(5) فعلي علیه السلام يؤكد حقهم في فدك(6) مما

ص: 189


1- المصدر السابق نفسه 1/ 140
2- المصدر نفسه - 8 / 266
3- خطب - 2
4- راجع الراوندي - منهاج البراعة 1/ 114 ، ابن أبي الحديد 1/ 140 ، فقد فسر الحق بالخلافة ثم تأول المعنى حسب القائلة بجواز تولية المفضول مع وجود الافضل، ميثم البحراني شرح النهج 248/1 ، محمد عبده شرح النهج 1/ 38 ، الخوئي منهاج البراعة 2/ 343 ، مغنية في ظلال النهج 1/ 82
5- رسائل - 45
6- فدك: قرية بالحجاز، بينها وبين المدينة يومان، وقيل ثلاثة، افاؤها الله على رسوله صلی الله علیه و آله وسلم في سنة سبع صلحاً معجم البلدان 4/ 238 . وجاء في كتاب فضائل الخمسة في صحاح الستة للفيروز آبادي 3/ 168 عن السيوطي في (الدر المنثور) في ذيل تفسير قوله تعالى: علیها السلام «وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ»... قال: وأخرج البزاز وأبو يعلى وابن أبي حاكم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت هذه الآية...دعا رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم فاطمة علیه السلام فاعطاها فدكا. وبعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم جاءت فاطمة علیه السلام حينئذ تطلب صدقة النبي صلی الله علیه و آله وسلم بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر: ان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قال: لا نورث ما تركناه صدقة... فأبى أبو بكران يدفع إلى فاطمة علیها السلام منها شيئا، فوجدت عليه حتى توفيت طبقات ابن سعد 2/ 315 . ويبدو من كلام علي علیه السلام خلاف ما أثر عن أبي بكر وانه كان يقول بتوريث النبي صلی الله علیه و آله وسلم كل ما يورثه المسلم لاهله لتفصيل ذلك وتضارب الآراء فيه، راجع: ابن أبي الحديد 16 / 205 وما بعدها الطبرسي الاحتجاج ص 90 ، وراجع أيضاً تعليقات شراح النهج لقول علي علیه السلام عند دفنه السيدة فاطمة علیها السلام«وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها، فاحفها السؤال واستخبرها الحال، هذا ولم يطل العهد، ولم يخل منك الذكر» خطب - 196

يجعل مقولة اقتصار وراثة آل البيت علیهم السلام على العلم دون سواه من لوازم الوراثة - الأخرى في فكر علي علیه السلام غير مقبولة، وان لم تكن الوراثة هي الحجة التي اعتمد عليها علي علیه السلام في المطالبة بالخلافة، لأنه في اعتقاده أن النص هو الأساس وهو ما اعتمده كحجة لا تقبل الجدل، فلا يجوز له وهو أول من آمن برسالة محمد صلی الله علیه و آله وسلم ان يكذب عليه ويدعي ما ليس له، فلو لم يكن واثقا ان الخلافة من حقه بالنص لما جادل دونها ولما طالب بها، وما قوله

«اتراني اكذب على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم؟ والله لانا أول من صدقه، فلا اكون أول من كذب عليه، فنظرت في امري، فإذا طاعتي قد سبقت بيعتي واذا الميثاق في عنقي لغيري»(1) ، وتكاد تتكرر كلمة الحق في الخلافة بمرارة في ثنايا الكثير من خطبه من ذلك قوله «فو الله ما زلت مدفوعاً عن حقي مستأثراً علي منذ قبض الله نبيه صلی الله علیه و آله وسلم حتى يومنا هذا»(2) ، وفي معرض رده على احدى رسائل معاوية إليه يقول «وقلت اني كنت أقاد كما يقادالجمل المخشوش، حتى ابايع، لعمر الله لقد اردت ان تذم فمدحت وان تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة في ان يكون مظلوماً ما لم يكن شاكاً في

ص: 190


1- خطب - 37 ، 6
2- المصدر السابق نفسه

دينه، ولا مرتاباً بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني اطلعت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها»(1) ، فالشاهد يوضح بجلاء - كما نعتقد - ان علياً علیه السلام كان يطالب بحق، لا يرتاب في انه له، وان تنازله عن ذلك الحق لم يكن بمحض ارادته وسكوته عن ذلك لا يعني اقتناعه بصلاحية حكم من سبقه بدلالة قوله «لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيرت اشياء»(2)، فالأشياء التي كان يتوق إلى تغييرها هي وضع قائم لابد من نسفه واحلال مكانه ما يراه الاصلح من وجهة نظر دينية بحته.

ويبدو التناسق في الربط بين النبوة والولاية في فكر علي علیه السلام من خلال محاولة تجسيده لمنزلة آل البيت علیهم السلام الدينية بتبيان علاقتهم الروحية بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم وما لذلك من تأثير على المكلفين من حيث السعادة والشقاء في الدنيا والاخرة.

فمن خلال تنسيق النصوص المتعلقة بآل البيت علیه السلام في (نهج البلاغة) يمكننا ادراك الرابط الوشيج بين الرسالة والولاية في تفكير علي علیه السلام، فعلى الرغم منكثرة تلك النصوص(3) ، وتعدد مناسباتها، الا انه بالامكان تشكيلها في وحدة متكاملة من حيث السياق الفكري، من ذلك على سبيل المثال قوله «اعلموا انكم لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تاخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه، ولن تمسكوا به حتى تعوفوا الذي نبذه، فالتمسوه عند أهله، فانهم عيش العلم، وموت الجهل، هم الذين يخبركم حكمهم عن

ص: 191


1- رسائل - 35 ، فقرة 4
2- حكم 280
3- بلغ عدد النصوص التي وردت في ذكر آل البيت علیهم السلام في نهج البلاغة خمسة عشر نصاً - من الخطب 2، 4، 92 ، 95 ، 98 ، 142 ، 145 ، 150 ، 152 ، 187 ، 188 ، 237 ، والحكمة 137 ، هذا ما عدا ما ورد في ثنايا الرسائل متفرقا

علمهم وصمتهم عن منطقهم»(1) ، فهو يعني نفسه وآل البيت علیه السلام من ولده بحيث يمكن متابعة السياق في قوله «نحن شجرة النبوة، ومحط الرسالة، ومختلف الملائكة، ومعادن العلم، وينابيع الحكم، ناصرنا ينتظر الرحمة، وعدونا ومبغضنا ينتظر السطوة» لأن الله سبحانه قد «خلق فينا راية الحق، من تقدمها مرق، ومن تخلف عنها زهق، ومن لزمها لحق... الا ان مثل ال محمد صلی الله علیه و آله وسلم كمثل نجوم السماء، إذا خوى نجم طلع نجم، فكأنكم قد تكاملت من الله فيكم الصنائع واراكم ما كنتم تاملون»(2) . فالتفاوت بين موسيقى النصوص بين هدوء وصخب، وتعدد مناحيها وتباعد مناسباتها لا يحول بيننا وبين ادراجها في سياق واحد، تمثل خلاصته الفكرية ان حق قيادة الناس وهدايتهم، يجب ان تنحصر من بعد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم في آل بيته علیه السلام من دون سواهم حتى قيام الساعة، لتميزهم عن الخلق بالعلم الواسع المتطابق وشريعة الله المنزلة على محمد صلی الله علیه و آله وسلم، فإذا ما حولنا الربط بين قول علي بالوصية والولاية، وبين المنزلة الدينية التيخص بها آل البيت علیهم السلام من دون غيرهم من سائر المسلمين فيما أثر عنه من اقوال فسنجد ان ذلك الفكر مبني علي ان الإمامة قد كان النص عليها في آل البيت علیه السلام من قبل وفاة النبي صلی الله علیه و آله وسلم فلم يكن يمر في روع علي علیه السلام أو يخطر على باله «ان العرب تزعج هذا الأمر بعده صلی الله علیه و آله وسلم عن أهل بيته»(3) .

فإذا كان الكميت (ت 126) أول من تكلم في الإمامة وفصل القول فيها

ص: 192


1- خطب - 147 فقرة 3
2- السابق 99 ، فقرة 6
3- رسائل 62 ، فقرة 1

في هاشمياته(1) وان عيسى بن روضة (ت 158) أول من ناظر في الإمامة(2) وان أول من «الف في ذلك علي بن اسماعيل بن ميثم»(3) ، المعاصر لواصل بن عطاء (ت 131)(4) فإن جميع أولئك على ما نعتقد لم يبدأوا من فراغ اقوالهم في الإمامة وتفريعاتها لأن الخطب والرسائل والعهود والكلمات القصار التي أثرت عن علي علیه السلام وكان كل أولئك قريبي عهد بها كانت بمثابة الزاد الفكري الذي مهد لهم الطريق وفتق لهم الكلام. فقد راينا من اشلاء الخطب والرسائل التي وصلتنا ضمن (نهج البلاغة) كيف طرح علي علیه السلام قضية الإمامة التي ما فتئ يكرر حقه وحق آل بيته علیهم السلام فيها، طوال عهده وعهد مَن قبله، مما يجعلنا نرجح بأن البراهين الكلامية التي بنى عليها الشيعة نظريتهم في الإمامة قد كانت وليدة عصر صدر الإسلام، حيث وضع أسسها الفكرية علي بن أبي طالب علیه السلام، ثم جاء من بعده متكلمو الشيعة وبسطوا القول فيها، مقتفين اثره، مما يجعلنا نرفض ما قال به جولد سهير من تأثر الشيعة بفكر المعتزلة(5) ، في هذا المجال.

ص: 193


1- جاء عند السيوطي - في شرح شواهد المغني 1/ 28 عن الكميت «كان جدلًا، وهو أول من ناظر في التشيع»
2- عيسى بن روضة التابعي مولى بني هاشم صاحب أبي جعفر العباسي (ت 158) أول من صنف في علم الكلام. له كتاب في الإمامة، وبقي إلى عصر أبي جعفر العباسي، لم أعثر على سنة وفاته اعيان الشيعة 8/ 383
3- ابن النديم الفهرست ص 323
4- راجع ترجمته في السابق، ص 202
5- يقول جولد سهير في كتاب العقيدة والشريعة ص « 200 مما يسترعي النظر ان علم الكلام الشيعي يتجه بصفة خاصة نحو المعتزلة، لأنه يستند فيما يسوقونه من براهين لتاييد نظرية الإمامة على قواعد اعتزالية بحته، فالحاجة إلى وجود امام لكل عصر، وما يجب ان تمتاز به هذه الشخصية من عصمة وقداسة، وقد ربطها الشيعةلا شك في طابعها الاعتزالي »، وقد سقنا من النصوص المأثوةر عن علي علیه السلام في مواطنها من هذا الفصل ما يؤيد مقولة الشيعة من غير تاثيرات خارجية.علما بأن المهدي كاعتقاد موجود عند جميع الفرق الإسلامية راجع ا لفتح الرباني لترتيب مسند أحمد بن حنبل 24 / 49 وما بعدها، بذل المجهود في حل أبي داود 17 / 190 وما بعدها، فضائل الخمسة في الصحاح الستة 3/ 398 وما بعدها. والاختلاف حول المهدي المنتظر عند الفرق الإسلامية ليس في وجود كمعتقد، بل فيكيفية وجود المهدي. إذ بينما يقول السنة وغيرهم من الفرق الإسلامية بأنه لم يخلق بعد ويغلق متى شاء الله، يعتقد الشيعة الإمامية بأنه امامهم الثاني عشر الذي غاب عن الأنظار وسيظهر في اخر الزمان فأصل عقيدة المهدي مأخوذة من الاحاديث النبوية الشريفة ولا دخل في تأثر الشيعة بالمعتزلة في اثباتها بالحجج الكلامية

واذا كان علي علیه السلام يعتقد بأحقيته في الإمامة التي أقصي عنها فلا بد ان يكون له موقف فكري محدد تجاه أولئك الذين حالوا بينه وبين ممارسة حقه، وهذا ما سنحاول تتبعه من خلال نصوص نهج البلاغة التي عرضت لذلك.

ص: 194

الفصل الثاني: فكر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في مجريات السياسة في عصره

اشارة

فقبل الدخول في فكر الإمام علي علیه السلام في مجريات عصره يجدر النظر في نقطتين يرتكز عليهما ذلك الفكر كما يبدو من خلال تتبعنا لنصوص نهج البلاغة:

- الأولى: واجب الحاكم في نظر الإمام علي علیه السلام.

- الثانية: الإستقلالية في فكر الإمام علي علیه السلام.

1 - واجب الحاكم ي نظر الإمام علي علیه السلام:

من الممكن ادراك الغاية من الحكم في فكر الإمام علي علیه السلام من خلال نظرته الزاهدة في الحياة بحيث لا يمكن الفصل بين تصرفه الخارجي في معاملاته مع الناس، وبين إيمانه الداخلي، فهو ذو شخصية واحدة تمقت التلون وتنأى عن الازدواجية، فلا يأمر بطاعة الا ويوجبها على نفسه اولا،ً ثم يطبقها على غيره بعد ذلك، ولا ينهى عن معصية الا وهو القدوة في تجنبها(1) ، وعلى ذلك فهو فرد

ص: 195


1- راجع خطب - 177 ، فقرة 2

من افراد الأمة مساو في المنزلة لأي فرد من افرادها مهما كانت منزلته الاجتماعية لا لشيء الا لأنه قدوة، والقدوة مثال يجب ان يحتذى من قبيل الشرائح الواسعة بين طبقات الأمة، وبطبيعة الحال فإن الفقراء والمعدمين هم الكثرة الغالبة فمن المتوجب «على ائمة العدل ان يقدروا أنفسهم بضعفة الناس كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(1) . ومساواة الإمام نفسه بأفقر طبقات الأمة - كما يرى الإمام علي علیه السلام فرض من الله وليس محاولة لإرضاء شريحة من شرائح المجتمع، للتقرب إليها بالتزيّ بزيّا. لذلك يمكن اعتبار زهده وتقشفه من مستوجبات الإمامة، لأن في مقدوره وهو القائم بالأمر في الأمة الإسلامية ان يستمتع بملذات الحياة، فيأكل مصفى العسل مع الخبز المصنوع من لباب القمح ويلبس ألين الملابس وأفخرها(2) ، ولكن شعوره بالمسؤولية يأبى عليه ذلك، فليس من العدل فيمفهومه ان يشار إليه بالقول «هذا أميرالمؤمنين ولا (يشارك امته) في مكاره الدهر، أو (يكون) اسوة لهم في جشوبة العيش»(3) فمن خلال التزامه بمبادئ الإسلام يرى ان الإمامة ليست منصباً تشريفيا غايته الملك والسطوة كما أثر عن معاوية في قوله لأهل الكوفة «اتروني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحج، وقد علمت انكم تصلون وتزكون وتحجون ولكن قاتلتكم لأتأمر على رقابكم»(4) .

فقضية الإمامة أو بمعنى أصح، التحكم في رقاب العباد - كما يرى ذلك علي علیه السلام إذا لم تصدر عن اقتناع بمبادئ الإسلام، مع خلوها من أية اطماع دنيوية، أو أية مزايا شخصية، مثلها في ذلك مثل أي شكل من اشكال المادة الزائلة، التي لا

ص: 196


1- خطب - 203 ، ويتبيغ: يهيج به
2- راجع في ذلك قوله لعثمان بن حنيف عامله على البصرة - رسالة رقم 45
3- رسائل 45 - فقرة 3 وجشوبة العيش: خشونته
4- ابن أبي الحديد 16 / 75

جدوى من امتلاكها مادامت لا تحقق الهدف المرجو منها، وهو سعادة الناس في ظل عدالة اجتماعية شاملة. لذلك فقد اعتبر على علیه السلام ثورة أبي سفيان المفتعلة(1) في سبيل حق الهاشميين وعلى رأسهم الإمام علي علیه السلام بعد ان بويع لابي بكر، ما هي الا فقاعات زبد القصد منها اشعال نار الفتنة وتبديد شمل المسلمين، من أجل أمر تافه لن ينقص من قيمة علي علیه السلام، ولن ينال من مكانة الهاشميين، لأن الخلافة كمنصب القصد منه التسلط وشهوة الملك ما هي الا «ماء اجن، ولقمة يغص بها آكلها»(2) .

فالغاية من الحكم في فكر الإمام علي علیه السلام، بقاء قواعد الإسلام قوية حتى ولو كان ذلك على حساب اهتضام حقه المشروع. يقول لأصحاب الشورى لما عزموا على مبايعة عثمان «لقد علمتم اني احق بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمتامور المسلمين ولم يكن فيها جورالا علي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة»(3) فلا يهم ان يكون مظلوماً ما دام الإسلام مصاناً، لأن نظرته الشمولية المتعمقة لمجريات الاحداث بعد وفاة الرسول علیه السلام حتمت عليه ان يبقى في الظل نائياً بمبادئه من ان تمس، أو ان يحور اصراره على المطالبة بالحكم بأنه شهوة حب التسلط في رقاب العباد لأن اقتناعه التام بتكامل طرفي الإسلام، كعبادة واسلوب حياة، لا مجرد طقوس وشعائر، هو ما جعله ينبه لأحقيته في الحكم كوصي منصوص عليه معللاً ذلك التنبيه وتلك المطالبة ليست من أجل اشباع رغبة التسلط والامتلاك، ولكنها من أجل

ص: 197


1- راجع ص 263 من هذا البحث، فقد فصلنا القول في ذلك
2- خطب 5،73
3- المصدر السابق نفسه

حماية الدين واعادة نصاعته إليه بإصلاح ما افسدته المادة واعادة الحقوق إلى نصابها بقمع الظلم والظالمين(1) .

وما دامت شرائع الإسلام كما يراها علي علیه السلام - تؤدى على الوجه المرضي، فلن تكون غضاضة عليه، في السكوت عن حقه، متربصاً باي زيغ تحدثه السلطة، إذ لم يكن وقوفه في الظل الا وليد نظرة واقعية في مجريات الأمور في فترة كان الدين فيها مازال طرياً اخضر العود لما تشتد بعد علیه السلام(2) ، على هذا يمكن قياس موقف الإمام علي علیه السلام الفكري تجاه الرجال والأحداث في عصره.

2 - الاستقلالية السياسية في فكر الإمام علي علیه السلام:

ان اعتقاد الإمام علي علیه السلام بالنص عليه كوصي للنبي صلی الله علیه و آله وسلم حدد فكره المتعلق بسياسة الدولة في حدود القرآن والسنة دون غيرهما، لذلك رفض الوصاية على تلك السياسة، التي انبنت عليها كصاحب مبدأ يجب ان يدافع عنه مهمابلغت التضحيات في سبيله، فلقد كان بإمكانه ان ينال الخلافة بعد مقتل عمر حين دعاه عبد الرحمن بن عوف إليها بشرط العمل «بكتاب الله وسنة رسوله وسيرة الشيخين من بعده»(3) ، ولكنه رفض الشرط قائلًا «أرجو أن أفعل

ص: 198


1- راجع خطب، 136 ، فقرة 2
2- ذلك بناء على قول علي علیه السلام في رسالته لاهل مصر «فوالله ما كان يلقى في روعي، ولا يخطر ببالى ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده صلی الله علیه و آله وسلم عن أهل بيته، ولا انهم منحوه عني من بعده، فما راعني الا انثيال الناس على فلان يبايعونه، فامسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين محمد صلی الله علیه و آله وسلم، فخشيت ان لم انصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلماً، أو هدماً تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولايتكم... فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه...» رسالة رقم 62
3- العقد الفريد 4/ 279

وأعمل بمبلغ علمي وطاقتي»(1) ، فلو كانت الخلافة في حد ذاتها طلبته لقبل العمل بسيرة الشيخين، حتى وإن كان القبول بالقول، إلا أنه لم يرض بذلك، لأنه يرفض الإلتواء ولأنه يحج أحقيته بأن يؤخذ برأيه، لا أن يأخذ برأي غيره، لأنه انما يعمل بعلم علمه أياه النبي صلی الله علیه و آله وسلم ودعا له بأن يعيه صدره، وتضطم عليه جوانحه(2) . فهو إذ ما وضع بين اختيارين مصلحته أو مصلحة الإسلام فإنه يختار ما فيه مصلحة الإسلام، مهما عظمت خسارته الشخصية، لذلك لم يكن من السهل قبوله منصب الخلافة بعد مقتل عثمان، الا بعد الحاح شديد من الناس، واشتراط منه على المبايعين، القبول بالحكم كما يعلمه هو لا كما يريدون، وفي هذا الصدد يقول «اعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب»(3) .

ولما أفضت إليه الخلافة، كان عليه ان يتصدى للاضطرابات التي سادت أرجاء ما أحدثه عمال عثمان من فتن أسخطت صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وجرأةالعامة على قتل عثمان، فأشار عليه المغيرة بن شعبة أن يقر ولاة عثمان حتى يستتب الوضع له، ثم يعزلهم، أو على الأقل يقر معاوية على ولايته إلى فترة ما، لأنه لم تكن له حجة في اقرار بقية ولاة عثمان، فإن حجته في إقرار معاوية على الشام، بأن عمر قد أقره من قبل، فلم يكن غريباً ان يرفض اقتراح المغيرة رفضاً قاطعاً بقوله «لا أداهن في ديني ولا أعطي الدني من أمري... ولا استعمل

ص: 199


1- السابق
2- راجع نهاية الخطبة رقم 128
3- خطب - 91

معاوية يومين ابداً»(1) ثم ان طلحة والزبير حين بايعاه كانا يرجوان ان تكون لهما الحظوة دون غيرهما، وقد روي انهما قالا له حين البيعة «نبايعك على اننا شركاؤك في هذا الأمر، فقال لهما: لا ولكنكما شركاي في الفيء، لا استأثرعليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم ما دونه، لا انا ولا ولداي هذان»(2) .

فالمواقف الصلبة في ذات الله جعلت من فكر الإمام علي علیه السلام السياسي، منهجاً صلباً لا يقبل المناورة والمداورة، وقد أشار عمر بن الخطاب إلى ذلك التفرد السياسي في شخص علي علیه السلام بقوله «لو وليتهم يحملهم على منهج الحق، فاخذ المحجة الواضحة، الا ان فيه خصالا:ً الدعابة في المجلس، واستبداد الرأي، والتبكيت للناس»(3) . وبرغم ما في المقولة من تناقض كما يتراءى لنا بين الاستبداد بالرأى، وهو نوع من الشعور بتضخم الشخصية والتعالي، وبين الدعابة التي تعني التبسط والهزل(4) ، الا اننا نلمس فيها أيضاً مانحن بصدده من قول حول شخصية علي علیه السلام السياسة، فمنهج الحق الذي يقصده عمر، هو ما يعنيه علي علیه السلام بقوله لطلحة والزبير حين طلبا منه ان يوليهما

ص: 200


1- تاريخ الطبري 4/ 440 ، كامل ابن الأثير 3/ 101 وقد ذكر المصدران حوار علي علیه السلام مع المغيرةبأكمله
2- ابن أبي الحديد 7/ 42
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 159
4- ما قيل عن استبداد علي علیه السلام برأيه ودعابته وتبكيته للناس يخالف تمام ما وصفه أصحابه الذين عاشروه به من ذلك ما أثر عن ضرار الضابي حين طلب معاوية منه وصف علي قوله «وكان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سالناه، وينبئنا إذا استنبأناه، ونحن مع تقريبه ايانا وقربه منا لا نكاد نكلمه لهيبته ولانبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله ولاييأس الضعيف من عدله» الحصري القيرواني زهر الاداب 1/ 41

«اعلما اني لا اشرك في امانتي الا من ارضي بدينه وامانته من اصحابي ومن قد عرفت دخيلته»(1) لأن مقياس علي علیه السلام السياسي في الولاية، البعد عن كل شهوة مادية، وطلحة والزبير ممن لا يرتضي أمانتهما، لأنه يعرف دخيلتهما وحرصهما على الامارة من أجل دعم مصالحهما الشخصية اما ما أشار إليه عمر من طبيعة استبدادية في شخص علي علیه السلام، فليس الا لأنه يرى أن المنزلة التي حظي بها عند الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم تتغير حتى بعد وفاته صلی الله علیه و آله وسلم وإقصائه عن الخلافة، فهو يسير على نهجه ويتقفى خطاه صلی الله علیه و آله وسلم، إذ يقول في هذا الصدد «الا ان موضعي من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعد وفاته، كموضعي منه أيام حياته، فامضوا لما تؤمرون به وقفوا عندما تنتهون عنه»(2) ، فتمسك علي (برأيه، نابع من ايمانه وتصوره لنهج الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بأن الدين والدولة كل لا يتجزأ.

وعلى هذا الأساس يمكن دراسة مواقفه السياسية تجاه رجال عصره واحداثه، فما وافق الدين فهو رضا بالنسبة إليه، لذلك فإن وقوفه في الظل طيلة السنوات التي اقصي عما يعتقده حقه، لم يحل بينه وبين المشاركة في سياسة الدولة إذا ما طلب منه ذلك، فمن خلال ما سميناه بواجب الحاكم والاستقلالية السياسية يمكننا الدخول إلى فكر علي g في ماجريات عصرهكما رسمها (نهج البلاغة).

يمكن تقسيم فكر علي علیه السلام في ماجريات عصره السياسية إلى مرحلتين

- المرحلة الأولى: وهي مرحلة ما بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وما قبل خلافته علیه السلام، وتمتد من السنة الحادية عشرة للهجرة، حتى مقتل عثمان بن عفان سنة خمس

ص: 201


1- ابن أبي الحديد 1/ 231
2- ابن أبي الحديد 7/ 37

وثلاثين، ويمكن دراسة فكر علي علیه السلام في هذه المرحلة من خلال الوقائع التاريخية التالية:

1 - مؤتمر سقيفة بن ساعدة.

2 - حكم أبي بكر.

3 - حكم عمر بن الخطاب.

4 - الشورى.

5 - حكم عثمان بن عفان.

- المرحلة الثانية: وهي التي تمثل فترة خلافته وتمتد من سنة خمس وثلاثين هجرية حتى سنة اربعين، ويمكن دراسة فكره في هذه المرحلة من خلال الوقائع التالية:

1 - أصحاب الجمل - أو - الناكثون

2 - معاوية وبنو أمية أو القاسطون

3 - الخوارج المارقون

4 - إرادة قريش.

المرحلة الأولى:

و المتمثلة في فترة ما بعد وفاة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم

1 - مؤتمر سقيفة بني ساعدة في فكر الإمام علي علیه السلام:

ص: 202

لم يكن علي وآل بيت الرسول وجل المهاجرين حضوراً في اجتماع السقيفة، لأنهم كانوا في شغل بتجهيز الرسول صلی الله علیه و آله وسلم والاعداد لدفنه، فلم يعلموا بخبرها الا بعد ان «بويع أبو بكر واقبلت الجماعة التي بايعته تزفه زفاً إلى مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(1) ، فلم يكن إلا ذهولًا اصاب النفوس، إذ كيف تسنى لأولئك ان يبرموا أمراً في مثل ذلك اليوم العصيب دون ان يستشار جميع أولي الأمر، وعلى ذلك الأساس بنى علي علیه السلام فكرته فيما أثر عنه من قول لأبي بكر (طويل):

فإن كنت بالشورى ملكت أمورهم *** فكيف بهذا والمشيرون غيب(2)

فعلي علیه السلام - على ما يبدو - لا يعتقد ان ثمة شورى في انعقاد البيعة لأبي بكر، لأن الشورى تقتضي حضور جميع من يهمهم الأمر، اما وجهة نظره في مؤتمرالسقيفة فقد بناها على تفنيد منطق كل من الأنصار والمهاجرين الذين حضروا السقيفة ذلك اليوم. فالإسلام لا يجيز للأنصار الادعاء بخلافة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم على اعتبار انهم موصى بهم من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ومن يوصى به لا يجوز لا عقلاً ولا شرعاً ان يكون قائداً، وبناء على ذلك قال لما بلغته أنباء السقيفة «ما قالت الأنصار؟، قالوا: قالت منا أمير ومنكم امير، قال علیه السلام: فهلا احتججتم عليهم بأن رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أوصى بأن يحسن إلى محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، قالوا: وما في هذه الحجة عليهم؟، فقال علیه السلام: لو كانت الإمامة فيهم لم تكن الوصية بهم»(3) .

ص: 203


1- الزبير بن بكار - الأخبار الموفقيات ص 578
2- حكم: 187
3- خطب - 66

أما طرف السقيفة الثاني، وهم قريش، فقد احتجوا بقرابتهم من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كما ورد في قول عمر بأنهم «أولياؤه وعشرتهُ»(1) ، وهم بحجتهم تلك لا يستحقون الإمامة أيضاً من وجهة نظر علي علیه السلام وذلك بناء على قول الله تعالى:

﴿وَأوْلَوالْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾(2) ، فإذا كان مقياس استحقاقهم الأمر لقرابتهم البعيدة من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فالأولى به أن يكون في رحمه القريب وعترته، ويمثل وجهة نظر علي علیه السلام تلك قوله «ماذا قالت قريش؟ قالوا: احتجت بأنها شجرة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، فقال علیه السلام: احتجوا بالشجرة واضاعوا الثمرة»(3) ، فالثمرة وهي النتاج الأصلي للشجرة أولى بأن يكون لها الحق دون غيرها من سائر الفروع، و على ذلك بنى علي علیه السلام فكره من خلافة أبي بكر، كراي مضاد الهدف منه اقامة الحجة.

2 - موقف علي علیه السلام من حكم أبي بكر:

لم يحسم أمر البيعة بالحكم لأبي بكر حسماً تاماً في مؤتمر السقيفة كما تصوره لنا المصادر التاريخية، إذ يبدو من خلال فلتات المؤرخين في ثنايا سردهم للحوادث ان صراعاً خفياً قد احتدم وان المسلمين قد تحزبوا إلى فرقتين إذ يمكن ان يستنتج من القول بأن «اسلم اقبلت بجماعتها حتى تضايقت بهم السكك فبايعوا، فكان عمر يقول: ما هو الا ان رأيت اسلم فأيقنت بالنصر»(4) ، أي

ص: 204


1- تاريخ الطبري 3/ 220
2- الانفال/ 75
3- خطب - 66
4- تاريخ الطبري 3/ 222 وأسلم اسم يطلق على عدة بطون وقبائل، والذين يعينهم عمر - كما اعتقد - هم اسلم بن افصى: بطن من خزاعة وهم: بنو اسلم بن افصى بن حارثة بن عمرو من القحطانية،من قراهم وبرة قرية ذات نخيل من اعراض المدينة كحالة معجم قبائل العرب 1/ 2

أن فوز أبي بكر لم يتحقق بسهولة ويسر، إذ لو كان الأمر كذلك لما قال «فأيقنت بالنصر» مما يعني ان الرؤية قد كانت غامضة قبل مبايعة اسلم، فاليقين هنا يتبع شكاً، والوجل والخوف من الفشل، كما ان كلمة (النصر) في السياق تنم عن الصراع الخفي الذي كاد ان ينفجر ليرجح كفة على اخرى. فما ان استقر أمرالسقيفة لابي بكر جراء الجدل الذي أخذ القوم على غرة، وتنبه أولئك المجتمعون للسرعة المذهلة التي تمت فيها تلك البيعة، حتى «ندم قوم كثير من الأنصار على بيعته ولام بعضهم بعضاً، وذكروا علي بن أبي طالب علیه السلام، وهتفوا باسمه، وانه في داره فلم يخرج إليهم، فجزع لذلك المهاجرون، وكثر في ذلك الكلام»(1) ، ثم ان المنافرات بين الأنصار والمهاجرين كادت ان تحدث فتقا في الإسلام، بإثارة النعرات القبلية، لو لا تدارك بعض الصحابة للأمر بسد افواه موتوري قريش على الأنصار وعلي علیه السلام، لما فعلوه بآبائهم وأجدادهم وأخوانهم في حروبهم معهم في الجاهلية بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم(2) . ثم ان هناك كثير من رؤوس المهاجرين ممن امتنع عن بيعة أبي بكر من أمثال: الزبير بن العوام، والمقداد بن عمرو وأبي ذر الغفاري، وعمار بن ياسر، وسلمان الفارسي، ولم يدلوا بيعتهم(3) الا مكروهين «وكان إبان بن سعيد أحد من تخلف عن بيعة أبي بكر

ص: 205


1- الزبير بن بكار - الأخبار الموفقيات 583
2- راجع ذلك بالتفصيل عند الزبير بن بكار، السابق من ص 595 حتى ص 602
3- راجع سليم بن قيس الهلالي الكوفي (ت في حدود 90 ه) - كتاب سليم بن قيس ص 89 ومابعدها، وقد ذكر الكتاب وصاحبه ابن النديم الفهرست ص 275 في اخبار فقهاء الشيعة وما صنفوه من الكتب، راجع ايضا: تاريخ اليعقوبي 2/ 124

لينظر ما يصنع بنو هاشم فلما بايعوا بايع»(1) ، وكان إبان في موقفه ذاك تبعاً لأخيه الأكبر خالد بن سعيد بن العاص الذي أسلم وأبو بكر في يوم واحد(2) ، وقيل ان أبا بكر قد أمر خالداً ذاك على جيوش الشام، فاعترض عمر على ذلك قائلاً «أتولي خالداً وقد حبس عنك بيعته، وقال لبني هاشم ما قد بلغك؟ فو الله ما أرى ان توجهه»(3) فامتثل أبو بكر لذلك فعزله وولى مكانه يزيد بن أبي سفيان وأبا عبيدة بن الجراح(4) . لذلك فمن المرجح ان البيعة لأبي بكر لم تتم ولم يستقر له الأمر الا بعد ان بايعه علي بن أبي طالب علیه السلام، وتبعه بنو هاشم إذ تحدثنا بعض المصادر التاريخية عن المحاولات التي بذلتها قريش لاضعاف جانب علي علیه السلام وارغامه علي البيعة «من ذلك توجه أبي بكر وعمر بن الخطاب وأبي عبيدة بن الجراح والمغيرة بن شعبة إلى منزل العباس بن عبد المطلب ليلاً ليجعلوا له في الحكم «نصيباً يكون له ولعقبه من بعده»(5) ، ليفتوا من عضد علي علیه السلام ولكنهم لم يفلحوا في اقناع العباس بذلك، وبقي علي علیه السلام ومن تبعه من آل بيته علیهم السلام وأشياعه «ستة أشهر لم يبايعوا حتى ماتت فاطمة علیها السلام فبايعوا»(6) .

ويبدو مما أثر عن علي علیه السلام من نصوص في (نهج البلاغة)، وما دار حولها من شرح وتعليقات أن علياً علیه السلام قد حاول في الأيام الأولى من مبايعة أبي

ص: 206


1- ان الأثير أسد الغابة 1/ 47 ، وراجع ترجمة ابان في المصدر نفسه
2- السابق 2/ 97 ، 98 ، وترجمة خالد هناك أيضاً
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 133
4- راجع السابق 2/ 133
5- راجع الحادث باكلمله عند ابن قتيبة الإمامة والسياسة 1/ 15 ، وتاريخ اليعقوبي 2/ 124 وما بعدها
6- ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 224

بكر أن يسترجع ما كان يعتقده حقه، وقد وقفت زوجته السيدة فاطمة علیها السلام بجانبه(1) ولكنه لم يفلح، من ذلك ما أثر عن معاوية في إحدى رسائله لعلي علیه السلام قوله «لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ورمت افساد امره، وقعدت في بيتك، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخروا عن بيعته»(2) ، فمعاوية يتهم علياً علیه السلام بالإفساد والتعدي والتحريض لإفشال بيعة أبي بكر ومهما انطوت تلك المقولة على مكر وخديعة بقصد الإساءة لعلي علیه السلام، فإنها تضيء جوانب من موقف علي علیه السلام وكثير من الصحابة إزاء بيعة أبي بكر مما يجعلنا نعتقد بأن تلك البيعة قد احدثت في بدايتها نوعاً من التشتت الفكري في مصداقية الإسلام في نفوس أولئك الذين لما تتمكن مبادئ الإسلام منها، إذ وجدت في اختلاف صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ذريعة للتمرد على الدين(3) . لذلك لم يجد علي علیه السلام بداً من اتخاذ موقف حاسم إزاء هذه المتناقضات التي كادت ان تحدث شرحاً في الإسلام، حتى لو كان ذلك على حساب حقه، لأن مصلحة الإسلام تقتضي منه التضحية(4) وكانت بيعته لأبي بكر الذروة في هذه التضحية، الا ان تلك البيعة لم تأت عن طواعية ولم تحدث الا بعد جدل طويل سجلت لنا بعض المصادر

ص: 207


1- راجع ما قاله سليم بن قيس في كتابه بشأن حمل علي فاطمة الزهراء على حمار وأخذه بيدي ابنيه الحسن والحسين علیهم السلام وذهابه إلى بيوت أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يناشدهم الله في حقه ص 82 - 83
2- رح ابن أبي الحديد 15 / 186
3- نعني بذلك ارتداد بعض القبائل عن الإسلام وامتناع القبائل الاخرى عن دفع الزكاة، يمكن مراجعة ذلك في تاريخ الطبري 3/ 301 وما بعدها
4- بشأن امتناع علي علیه السلام عن بيعة أبي بكر، والسبب الذي جعله فيما بعد يبايع، راجع قول علي علیه السلام في رسائل 62 ، فقرة 1

التاريخية جانباً منه(1) ، مقتصرة على السرد، لذلك لم نتمكن من تمثيل الصورة الصادقة لمعاناته النفسية أثناء مجادلته عن ذلك الحق ولكن (نهج البلاغة) قد نقل الينا بعض مأثورات علي علیه السلام التي توضح بعض الجوانب من تلك المعاناة، من ذلك قوله في شأن من نقلوا حقه لغيره بتأويلات مفتعلة تنم عن نكوصهم عما اوصى به الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«حتى إذا قبض الله رسوله صلی الله علیه و آله وسلم رجع قوم على الاعقاب، وغالتهم السبل واتكلوا على الولائج، ووصلوا غير الرحم، وهجروا السبب الذي امروا بمودته ونقلوا البناء عن اساسه، فبنوه في غير موضعه»(2) ، ويبدو من المقولة كما نعتقد ان علياً علیه السلام يختلف مع الشيخين اختلافاً بشأن قضية الاستخلاف وما امتناعه عن البيعة لأبي بكر مدة ستة اشهر(3) ، الا تعبير واضح عن ذلك، ثم ان بعض المصادر الأدبية تذكر لعلي علیه السلام نصوصاً يقول فيها بمنزلته من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم واحقيته دون غيره بالخلافة، من ذلك ما رواه له الجاحظ من عتاب وجهه لمن امال الخلافة عنه من جمهور المسلمين(4) ، كما ان ما دار من جدل بين علي علیه السلام وبين أبي بكر في اليوم الثاني بعد بيعة السقيفة، يدل على الخلاف العميق بين وجهتي نظر كليهما، ولكنه خلاف «يقف عند حد النقاش والحوار وقرع الحجة بالحجة»(5) ، لاعتقاد علي علیه السلام بأن الاحتكام إلى السيف في مثل تلك الظروف العصيبة لن يكون في صالح الإسلام، فكان صراع

ص: 208


1- راجع على سبيل المثال الإمامة والسياسة لابن قتيبة 1/ 12 ، 13 ، ابن اعثم: الفتوح 1/ 12 ، 13
2- خطب - 148
3- أكثر المصادرترجح ان بيعة علي لأبي بكر لم تحدث الا بعد ستة اشهر - راجع: تاريخ الطبري208/3 ، العقد الفريد 4/ 260 ، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 220
4- راجع البيان والتبيين 2/ 50 ، 51
5- مغنية - في ظلال النهج 2/ 305

بين العاطفة والعقل بالنسبة لعلي علیه السلام، حيث حسم ذلك الصراع لصالح العقل،فأقرعلي علیه السلام بالتسليم على اهتضام حقه، وألم ممض فاضت به أعماقه(1) .

فاعتقاده بأحقيته بالخلافة بعد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو المحور الأساس الذي اعتمده في مواجهة من جادله من الصحابة بشأن ذلك، يقول له أبو عبيدة بن الجراح حين حاولوا ارغامه على التسليم لأبي بكر بالبيعة «يا ابن عم، إنك حديث السن، وهؤلاء مشيخة قومك ليس لك مثل تجربتهم، ومعرفتهم، ولا أرى أبا بكر الا اقوى على هذا الأمر منك»(2) فكان رده على تلك المقولة «يا أبا عبيدة، اطال عليك العهد فنسيت، أم نافست فأنسيت؟ لقد سمعتها ووعيتها فهلا رعيتها»(3) فمن الملاحظ ان علياً علیه السلام لم يتطرق إلى مسألة الاحقية بالسن التي أثارها أبو عبيدة لإدراكه - كما نظن - بأن عامل السن من العوامل المستحدثة ضمن ذلك الجدل لافتقار الطرف المقابل إلى الحجة، لأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم حين أمر أسامة، وهو الحدث، على المهاجرين الأولين لم يضع السن مقياساً لذلك التأمير.

لذلك فإننا لو أخذنا مسألة الخلافة من منظور الإمام علي علیه السلام كما هو منصوص عليها في (نهج البلاغة)، فسنخلص إلى أنه قد كان يرى أنها حقه المنصوص عليه من قبل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم سلب منه عنوة إذ ما فتيء يكرر ذلك في كل مناسبة، يقول في خطبته المسماة بالشقشقية «اما والله لقد تقمصها فلان، وإنه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل، ولا يرقى إلى الطير»(4) .

ص: 209


1- راجع خطب 3، فقرة 1
2- الإمامة والسياسة 1/ 12
3- ابن أبي الحديد 20 / 307
4- خطب 3، فقرة 1

إلا أن ما حمله في نفسه من ضيم لم يحل بينه وبين تقديم العون والمشورة كلما دعت الحاجة لذلك، «فقارب وسدد حسب استطاعته على ضعف وحد كانا فيه»(1) ، لذلك لم يبخل برأيه، ولم يتردد في ابداء موقفه بصدق وأمانة وحماس كلما لجأ أبو بكر إليه، فحين عزم على ارسال الجيوش الإسلامية لغزو الروم شاور كثيراً من الصحابة «فقدموا واخروا، فاستشار علي بن أبي طالب علیه السلام، فأشار عليه ان يفعل، فقال: إن فعلت ظفرت»(2) فأخذ بمشورته فكان الظفرللإسلام، لم يكن الإمام علي علیه السلام ينظر إلى شخص أبي بكر في حد ذاته الا من خلال نظرته الشمولية إلى مصلحة الإسلام، فالطاعة والاستجابة هنا ليست امتثالاً لشخص أبي بكر، لذلك يمكننا القول بأن حياة الإمام علي علیه السلام في عهد أبي بكر لم تكن سوى المناصحة والطاعة المقرونة بالإيمان، والانتظار المقرون بالأمل عسى ان يعود الحق إلى نصابه، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «تولى أبو بكر تلك الأمور، فيسر وسدد، وقارب واقتصد، وصحبته مناصحاً واطعته فيما اطاع الله فيه جاهداً، وما طمعت ان لو حدث به حادث وانا حي ان يرد الي الأمر الذي نازعته فيه، طمع مستيقن، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه، ولولا خاصة ما كان بينه وبين عمر لظننت انه لا يدفعها عني، فلما احتضر بعث إلى عمر فولاه فسمعنا واطعنا وناصحنا»(3) ، فمسألة مركز الخلافة الإسلامية في فكر الإمام علي علیه السلام وان كان ذو اهمية عظيمة الا انه مسالة ثانوية، مادام الإسلام مصاناً وحقوق العباد مؤداة في ظل الشرع من غير عسف ولا ارهاق وعلى ذات النهج

ص: 210


1- شرح ابن أبي الحديد 20 / 218
2- تاريخ اليعقوبي 2/ 133
3- ابن أبي الحديد 20 / 218

يمكننا تتبع موقفه من شخص عمر بن الخطاب وتحديد فكره من سياسته.

3 - موقف الإمام علي علیه السلام من خلافة عمر:

ليس ثمة شك في ان تثبيت بيعة أبي بكر وتقويم أمر سلطته يرجعان إلىجرأة عمر ومبادرته بالمبايعة له في السقيفة على رؤوس الاشهاد، فلقد جاهد جهاداً مستميتاً في سبيل ذلك إلى الحد الذي جعله يعد الخلافة معركة وفوز أبي بكر بها نصراً شخصياً له بعد أن بايعت قبيلة أسلم كما أسلفنا القول في ذلك.

وتحدثنا المصادر التاريخية بأنه قد حاول إرغام سعد بن عبادة على البيعة لأبي بكر بالإكراه، لولا تصلب سعد في امتناعه وتدخل بشير بن سعد الأنصاري حسماً للنزاع وتجنباً من الفتنة(1) . ولاعتداد عمر بمنزلته فقد اعتبر مبايعته لابي بكر ملزمة للمهاجرين، إذ إنها تعادل من وجهة نظره كما نعتقد - بيعة الأنصار كافة(2) . ولم يأل جهداً لترسيخ دعائم تلك البيعة بملاحقة المتخلفين عنها(3) . واستمرعمر يشد من أزر أبي بكر ويقوم مقامه طيلة خلافته، فقد كان يصلي بالناس نيابة عنه أثناء تغيبه عن المدينة، كما كان أبو بكر لا يمضي امراً دون مشورة عمر، وكان يرجح رايه في كثير من الأحيان على آراء جماعة

ص: 211


1- راجع ذلك بالتفصيل: تاريخ الطبري 3/ 222 ، العقد الفريد 4/ 258 وفي ص 260 ذكر ابن عبد ربه الكيفية التي اغتيل بها سيد الخزرج سعدبن عبادة الانصاري، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 224
2- راجع في ذلك الصدد ما قاله عمر للمهاجرين في مسج المدينة بعد ان تمت بيعة السقبفة في الإمامة والسياسة 1/ 11 /، وراجع حضّه على إتمام البيعة لأبي بكر في اليوم الثاني في تاريخ الطبري 203/3
3- بشأن معاملة عمر المتخلفين عن بيعة أبي بكر راجع ابن أبي الحديد 1/ 174

المسلمين(1) ، فمواقف عمر تلك المكانة التي تبوأها في عهد أبي بكر جعلت علي علیه السلام ينظر إليه ومنذ البداية على أنه المؤهل للأمر بعد أبي بكر، وهو ما يمكن استخلاصه من قول علي علیه السلام حين قال له عمر «إنك لست متروكاً حتى تبايع، فقال له علي: احلب حلباً لك شطره، واشدد اليوم امرره يردده عليك غداً»(2) .والتحليل المنطقي للحوادث يكاد يعزز ما قاله علي علیه السلام فقد حزم أبوبكر امره منذ الوهلة الأولى التي تسلم فيها على تجريد الهاشميين من كل ما يمكن وراثته عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم، بما في ذلك الخلافة بوضعها في قريش عامة وفي عمر بن الخطاب على وجه الخصوص، فقول عمر لعبد الله بن عباس «لولا راي أبي بكر في بعد موته لأعاد أمركم إليكم» يتضمن الاختيار المسبق لعمر والابعاد المتعمد لآل البيت علیهم السلام عن حقهم بدلالة قوله «أمركم إليكم»(3) ، فالإضافة في السياق تعني الاختصاص والأحقية. ثم أن عهد أبي بكر لعمر يؤكد مقولة الاستخلاف للنص فيه على «أما بعد فإني قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب»(4) مما يتعارض مقولة الترشيح الذي لا يمكن تحوله إلى استخلاف إلا بعد موافقة المسلمين(5) ، إذ لا يمكن استخلاص أية عبارة تنم على الترشيح من سياق العهد المذكور حتى ولو حاولنا التعسف في تأويل العبارات، لثبات نص الاستخلاف في سياقها، اضافة إلى ذلك فإن قول أبي

ص: 212


1- راجع على سبيل المثال موقف أبي بكر من طلب كل من عيينه بن حصين والاقراع بن حابس ورد عمر على ذلك الموقف وما قاله لهما أبو بكر بشأن رد عمر شرح بن أبي الحديد 12 / 58
2- الإمامة والسياسة 1/ 11
3- ابن أبي الحديد 1/ 190. وقد أورد مثله باختلاف الطبري في تاريخه 4/ 222
4- تاريخ الطبري 3/ 428 ، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 292
5- راجع: طه حسين الشيخان ص 48

بكر للمسلمين «فإني ما استخلفت عليكم ذا قرابة واني قد استخلفت عليكم عمر فاسمعوا له واطيعوا»(1) يبين تلميحاً - على ما نعتقده - بأن هناك سابقة استخلاف بالقرابة يحاول أبو بكر ابعاد مثلها عن نفسه، كما وان الأمر بالسمع والطاقة للمستخلف هو بعيد عما قيل من شورى، إذ لو كان أبو بكر يبغي من قوله الشورى لجعل الاستخلاف في صيغة اقتراح لا في صيغة أمر مؤكد متبوعبالسمع والطاعة.

وإذا ما حاولنا ترتيب عهد أبي بكر لعمر ترتيباً زمانيا، فسنجد المصادر التاريخية التي ارخت لذلك تكاد تتفق جلها على التالي:

أولا: ان سؤال أبي بكر لكل من عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان قبيل كتابة عهد الاستخلاف كان محصوراً في شخص عمر(2) دون غيره من الصحابة مما يعني فيما نظن ان أبا بكر قد بنى امره على النص لعمر وما ذاك السؤال الا من قبيل التمهيد.

ثانياً: ان ذاك السؤال من قبل أبي بكر لم يأت فيما نعتقد الا بعد ايمانه التام بكفاءة عمر، فهو يقول لعبد الرحمن بن عوف عن غلظة عمر«لو أفضي الأمرإليه لترك كثراً مما هو عليه»(3) .

ثالثا: محاولة أبي بكر التكتم على قضية الاستخلاف وحصر خبرها في اثنين دون الهيئة المكونة من العشرة من الصحابة الذين حصرت بعض المراجع مجلس

ص: 213


1- تاريخ الطبري 3/ 428 ، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 292
2- راجع ذلك في المصدرين السابقين في موضوع (ذكر استخلاف عمر)
3- المصدر السابق

الشورى فيهم(1) ، مع ملاحظة ان أولئك العشرة فيما نظن لم يصيروا هيئة استشارية الا بعد ان حصرعمربن الخطاب الخلافة في ستة منهم أثناء وفاته(2) وذلك بعد موت ثلاثة منهم رابعهم عمر بن الخطاب، اضف إلى ذلك فإن تلك الهيئة الاستشارية لم تجتمع بأكملها قط للتداول في أمر الخلافة أو غيرها من شؤون الحكم، كما ان التاريخ لم يحدثنا اطلاقاً عن اتفاق حتى نصف نصابها على شأن من شؤون الأمة، بل هو تحاشي أبي بكر وكتمانه أمر الاستخلاف عن بعض أفرادها(3) ، كما حدث أمر علي بن أبي طالب علیه السلام وهو زعيم الهاشميين واحد

ص: 214


1- العشرة هم: أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب علیه السلام وطلحة بن عبيد الله، والزبيربن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وسعيد بن زيد، وعبد الرحمن بن عوف، وأبوعبيدة بن الجراح، وقد وردت فيهم احاديث عن سول الله صلى الله عيله واله وسلم بتبشيرهم بالجنة، الا ان تلك الاحاديث لم تتضمن انهم أهل الحل والعقد ولا انهم أهل الشورى، راجع ما روي فيهم من احاديث عند: المحب الطبري الرياض النضرة في مناقب العشرة 1/ 31 حتى 38
2- راجع الشورى في فكر علي علیه السلام ص 221 من هذا البحث
3- تذكر المصادر التاريخية ان أبا بكر لما اراد ان يعقد بالخلافة لعمربن الخطاب «دعا عبد الرحمن بن عوف، فقال: اخبرني عن عمر، فقال: ياخليفة رسول الله، هو والله افضل من رايك فيه من رجل... فقال أبو بكر:... لا تذكر يا أبا محمد مما قلت لك شيئا، ثم دعا عثمان بن عفان، قال: اخبرني عن عمر، قال: انت اخبر به، فقال أبو بكر: علي ذاك يا أبا عبد الله، قال اللهم علمي به ان سريرته خير من علانيته... قال أبو بكر: رحمك الله يا أبا عبد الله، لا تذكر مما ذكرت لك شيئا» تارخ الطبري 3/ 428 ، ابن الأثيرالكامل في التاريخ 2/ 291 ، 292 ، فمن الملاحظ ان استشارة أبي بكر قد اقتصرت على اثنين فقط من أهل الشورى دون غيرهما، وتحديد الاستشارة في عمر بالذات وتبرير غلطته مما يعني إنها تمهيد لعقد الخلافة في شخص عمر وليس استشارة، ويعزز ذلك الاعتقاد محاولة أبي بكر التكتم على الخبر حتى لا تتم معارضته قبل أن يتم

من عدّ في الشورى، مما يعني تشكيل تلك الهيئة من اختراع المؤرخين المحدثين بناء على استنتاجات تاريخية لا تمت للواقع بصلة، فأبو بكر كما يرى علي علیه السلام لم يتسلم الخلافة الا بتعضيد من عمر ودون علم معظم من سموا بهيئة الشورى وعلى رأسهم علي بن أبي طالب علیه السلام، الذي كان متواجداً مع أبي بكر في بيت النبي صلی الله علیه و آله وسلم حين جاء عمر وأسرّ لأبي بكر خبر اجتماع السقيفة(1) دون غيره ممن كانوا حول النبي صلی الله علیه و آله وسلم في تلك الساعة.

رابعا: إن سرية العهد لم تحل دون علم بعض الصحابة ومن ثم اعتراضهم عليه، من ذلك قول طلحة بن عبيد الله التيمي - أحد أفراد هيئة الشورى لأبي بكر«استخلفت على الناس عمر، وقد رأيت ما يلقى الناس منه وأنت معه، وكيفبه إذا خلا بهم وانت لاق ربك»(2) ، فلو كان الاستخلاف متولداً عن مشورة لما جاءت مقولة طلحة لأبي بكر المريض بهذه الحدة المتضمنة التهديد بعقاب الله، ثم أن أبا بكر ذاته يؤكد استخلافه لعمر ضمن رده على طلحة في قوله «أباللهِ تخوفني؟ إذا لقيت ربي فسألني قلت: استخلفت على أهلك خير أهلك»(3)، علماً بأن الحوار الحاد الذي دار بين أبي بكر وطلحة يأتي في ترتيبه الزماني الأول قبل كتابة العهد، وقبل أمر أبي بكر المسلمين بالسماع والطاعة لعمر، مما يرجح أن الاستخلاف قد كان وارداً قبل المداولات التي جرت فيما بعد أسباغ الشرعية عليه، إذ يمكن الاستنتاج مما أثرعن الإمام علي علیه السلام في نهج البلاغة أن اتفاقاً مسبقاً(4) قد أدى بالخلافة إلى عمر ولولا ذلك لما تعداه أبو بكر.

ص: 215


1- راجع تاريخ الطبرس 3/ 219 ، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 222
2- الكامل في التاريخ 2/ 292
3- السابق
4- راجع خطب 3، فقرة 1، وطابقه بالمحاجة التي دارت بين عمر وعلي علیه السلام بشأن البيعة في الإمامة والسياسة 1/ 11

بناء على ما سبق لا يمكن قبول قول من قال «بأن خلافة عمر لم تتم بعهد من أبي بكر»(1) لأن القائل قد بنى استنتاجه ذاك على أساس انه ليس من حق الخليفة ان يعهد لمن بعده، لكن ذلك يتعارض مع قول من تحدثوا في الإمامة من فقهاء السنة، لأنهم قد جوزوا عهد الخليفة لمن بعده(2) وبشأن اهمية الاستخلاف العظيمة تقول عائشة لعبد الله بن عمر حين بلغها الاعتداء على عمر بن الخطاب في المسجد «يا بني أبلغ عمر سلامي وقل له: لا تدع أمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم بلا راع، استخلف عليهم، ولا تدعهم بعدك هملاً فإني اخشى عليهم الفتنة»(3) . فمحاولة الباس عهد استخلاف عمر ثوباً من الديمقراطية بالقول باشتراك المسلمين في اتخاذه، ومشاورتهم فيه، لا ينفي كونه قراراً فردياً في نظرعلي بن أبي طالب علیه السلام كما ورد في النهج «حتى مضى الأول لسبيله فأدلى به إلى فلان من بعده»(4) فقد اتفق شراح النهج على تفسير (ادلى بها) في سياق الخطبة طبقاً للقول (ادلى ما له إلى الحاكم، إذا دفعه إليه رشوة»(5) ، وخرج ابن أبي الحديد العبارة طبقاً لقوله تعالى:

﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ﴾(6) ،«ای تدفعوها لهم رشوة... لما كان علیه السلام يرى ان العدول بها عنه إلى غيره اخراج لها إلى

ص: 216


1- فتحي عبد الكريم الدولة والسيادة ص 247
2- راجع ص 180 من هذا البحث
3- الإمامة والسياسة 1/ 23
4- خطب، 3
5- الراوندي - منهاج البراعة 1/ 124
6- لبقرة / 188

غير جهة الاستحقاق»(1) .

ومهما بلغت الحدة في نقده لخلافة أبي بكر ومن بعده خلافة عمر فهي في اعتقادنا لا تخرج عما ذكره التاريخ في شخصيهما، فالإختلاف هنا يكمن في طريقة التناول، فعلي علیه السلام قد عبر عن نقده باسلوب ساخط ممزوج بالألم، وإلا فإن أبا بكر قد قال في مطلع حكمه مستقيلاً عبء الخلافة زاهد فيها «لا حاجة لي في بيعتكم اقيلوني بيعتي»(2) ، وقد تناول الإمام علي علیه السلام ذات التعبير في معرض الاستغراب والتعجب من التناقض بين القول والفعل، إذ بينما يظهرأبو بكرالزهد في الخلافة أثناء حياته، يراه علي علیه السلام يحرص بالوصية في عقدها لعمر بن الخطاب بعد وفاته معبراً عن ذلك بقوله: «فيا عجباً، بينا هو يستقيلها في حياته، إذ عقدها لآخر بعد وفاته»(3) ، لأن المفروض وجهة نظر علي علیه السلام فيمن «يستقيل من أمر على ظاهر الحال، يجب أن يكون زاهداً فيه متبرماً منه...

ومن عقده لغيره ووصى به إلى سواه فهو على غاية التمسك به»(4) .

فإذا كان علي علیه السلام ينكر على أبي بكر ذلك، فإنه في ذات الوقت ينتقد شخص المعقود له حين يصفه بالخشونة وعدم الثبات في الأحكام، بحيث أصبح عهده من حيث الفتيا والقضاء لا يلتزم منهجاً معيناً، فقد كان عمر«ما يحكم بالأمر ثم ينقضه، ويفتي بالفتيا ثم يرجع عنها، ويعتذر مما أفتى به»(5) من ذلك انه

ص: 217


1- شرح النهج 1/ 163
2- الإمامة والسياسة 1/ 14
3- خطب 3، ويستقيلها يطلب الاعفاء منها
4- الراوندي: منهاج البراعة 1/ 125
5- ابن أبي الحديد 1/ 171 ، 181

قضى في توريث «الجد مع الأخوة قضايا كثيرة مختلفه، ثم خاف من الحكم في هذه المسالة، فقال: من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه»(1) ،

هذا بالاضافة إلى حدة مزاجه وسرعة غضبه، وقد تمثل علي علیه السلام كل تلك الصفات في خطبته المسماة (بالشقشقية)(2) ، وبغض النظرعما حواه أسلوب الخطبة من حدة، فمن المرجح ان ما ورد فيها من نقد لا يخرج عما قاله التاريخ فيه ووصف به نفسه. فعبد الرحمن بن عوف يقول لابي بكر حين ساله عن عمر «فيه غلظة»(3) . وفي خطبته الأولى بعد توليه الحكم يقول عمر«اللهم اني غليظ فليني لاهل طاعتك... اللهم اني شحيح فسخني في نوائب المعروف، اللهمارزقني خفض الجناح ولين الجانب للمؤمنين...»(4) ، فما قاله علي علیه السلام في عمرلا يتعدى ما قاله عمرعن نفسه، فهو ليس سب ولا تعريض، وإنما هو نقد خال من كل ما يسيء. فالغلظة والجفاف وسرعة الغضب من طبع عمر حتى قيل انه «اذا غضب على بعض أهله لم يسكن غضبه حتى يعض يده»(5) ، الا أن ذلك لم يكن ليثلم في متانة ايمانه وصدق عزيمته في النصح للاسلام واهله، لذلك فبالرغم من الاختلاف في وجهات النظر بينه وبين علي علیه السلام، فلم يكن عمر ليتردد في استشارة علي علیه السلام، كما لم يبخل علي علیه السلام من اسداء المشورة والنصح بروح ملئوها التسامح والصدق، لأن الغاية بقاء الإسلام قوياً عزيزاً.

لقد حفظت لنا كتب التاريخ والأدب كثيراً من المشاركات القضائية

ص: 218


1- السابق
2- راجع خطب 3، فقرة 2
3- تاريخ الطبري 3/ 428، ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 29
4- العقد الفريد 4/ 65 ، ابن أبي الحديد 12 / 31 ، وقد أوردها باختلاف
5- الزبير بن بكار - الموفقيات ص 602

والفقهية(1) التي ساهم علي علیه السلام في عهد عمر الذي كان «يتعوذ بالله من معضلة ليس لها أبو الحسن»(2) ، ومن الاقوال المأثورة عن عمر في حق علي علیه السلام«لولا علي لهلك عمر»(3) .

مما اسلفنا من مناقشات يمكن أن نخلص إلى فكرعلي علیه السلام السياسي تجاه حكم عمر من خلال نصوص (نهج البلاغة)، فإذا كان علي علیه السلام قد تحدث عن غلظة عمر وخشونته فانه في الجانب الثاني قد قدم له من الاراء السياسية ما فيه دلالة على عمق نظرته لوقائع الأمور كما تنبئ عن اخلاصه وصدق اجتهاده في النصح، ففي النهج ثلاثة نصوص يمكننا اعتبارها في غاية الأهمية من الناحيةالسياسية:

الأول منها: في تبيان الصلاحية الشرعية التي تخول للحاكم استخدام الأموال الخاصة لتجهيز الجيوش الإسلامية، وتنطلق وجهة نظرعلي علیه السلام في هذا الشأن من أحكام القرآن وسنة النبي صلی الله علیه و آله وسلم في أحكام توزيع المال ووضعه في المواضع التي خصصها له الشرع «فلا يجوز التصرف في شيء من الأموال والمنافع الا باذن شرعي»(4) ، وعلى هذا الأساس لما استشارعمر علياً علیه السلام في تجهيز جيوش المسلمين بما كان في الكعبة من حلي ومال، قال له «ان القرآن أنزل على النبي صلی الله علیه و آله وسلم والأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في

ص: 219


1- راجع بعض مشاركات علي علیه السلام القضائية في عهد عمر عند: المحب الطبري الرياض النضرة في مناقب العشرة 3/ 163 ، 164 ، 165 وسبط ابن الجوزي تذكرة الخواص ص 135 وما بعدها
2- ابن عبد البرالاستيعاب بهامش الإصابة 3/ 39
3- المصدر السابق نفسه
4- ابن أبي الحديد 19 / 278

الفرائض، والفيء فقسمه على مستحقيه، والخمس فوضعه حيث وضعه، والصدقات فجعلها الله حيث جعلها، وكان حلي الكعبة فيها يومئذ، فتركه الله، ولم يتركه نسياناً، ولم يخف عليه مكاناً، فاقره حيث اقره الله ورسوله»(1) ، فالقضية الأساسية التي من أجلها أراد عمر التصرف في حلي الكعبة سياسية، حيث أراد تجهيز جيوش المسلمين بتلك الأموال، ولكن علياً علیه السلام اعتبرها فرعية إزاء الحكم الشرعي، مما يعني من وجهة نظره عدم تجويز التصرف في أي ملك من ممتلكات الدولة الإسلامية الا في ظلال الشرع، وعلى ما نعتقد من خلال موقف علي علیه السلام ذاك إن «الفرق بين الشريعة والسياسة من وجهة نهايتهما ان نهاية السياسية هي الطاعة للشريعة»(2) لذلك فقد عمل عمر بمشورة علي علیه السلام دونغيره من المسلمين الذين أشارواعليه بالتصرف، فترك حلي الكعبة على حاله قائلاً لعلي علیه السلام «لولاك لافتضحنا»(3) .

أما النصّان الآخران فتتمحور الاستشارة في كليهما حول القيادة لجيوش الإسلام فحين أراد عمر ان يقود جيوش المسلمين لغزو الروم(4) وقتال الفرس(5) استشارعلياً علیه السلام في ذلك، فأشار عليه في كلتا الحالتين ألا يخرج بنفسه ويكلف من ينوب عنه من أهل الخبرة والدراية بالحرب ويبعث معه من ذوي الرأي من رجال المسلمين ممن يعتمد عليهم وعلى ما يبدو فإن عمر قد أخذ

ص: 220


1- حكم - 278
2- أفلاطون في الإسلام ص 200 بتحقيق عبد الرحمن بدوي
3- حكم - 278
4- راجع خطبة 134 وخطبة 146
5- المصدر السابق نفسه

بمشورة علي علیه السلام في حرب فارس(1) ألا انه لم ياخذ برأيه في حرب الشام(2) .

فإذا ما اعتبرنا الاستشارة مجرد اختيار من حق المستشير قبولها أو رفضها فإن ذلك يجعل علياً علیه السلام لا يجد أية غضاضة في نفسه حين لم يعمل عمر بمشورته، بل بقي أمينا على عهده صادقاً في نصحه طيلة خلافته.

فمن خلال وقفة تأمل في النصوص التي أثرت عن علي علیه السلام في (نهج البلاغة) إبان حكم عمر نجدها تحمل في طياتها معاني التعاطف والتسامح المشبعين بروح إسلامية عميقة لا يشوبها زيف ولا يكدرها رياء، لأنها تعبير صادق عن عناصر الأصالة التي فاضت بها حنايا علي علیه السلام تجاه كل مخلص للإسلام، رغم معاناته وتألمه لحقه المضاع، ولكن تلك المعاناة الشخصية لم تكن لتؤثر على تصرفاته كوريث لحكمة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعمله في جعل الإسلام ورفعته هي الغاية، لذلك كاننصحه لعمر نابع من اقتناعه بضرورة تقديم المصلحة العليا للأمة الإسلامية على الخلاف الذي كان بينهم في سلب حقه، فكان يعطي النصيحة باخلاص إلا أنه بجانب ذلك الاخلاص، فقد حز في نفسه أن يرى حقه في الخلافة يؤول للمرة الثالثة بعد عمر لغيره، دون أدنى حق الا المفاضلة المبنية على العصبية التي مقتها الإسلام وفي هذا الصدد يقول: «وتولى عمرالأمر فكان مرضي السيرة ميمون النقية حتى إذا احتضر فقلت في نفسي لن يعدلها عني ليس بدافعها عني فجعلني سادس ستة فما كانوا لولاية أحد منهم كراهة لولايتي عليهم وكانوا يسمعون عند وفاة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لجاجة أبي بكر وأقول يا معشر قريش إنا أهل

ص: 221


1- بشأن موقف عمر من المشورتين راجع تاريخ الطبري 3/ 608 ، 4/ 125
2- المصدر السابق نفسه

بيت أحق بهذا الأمر منكم»(1) فمن خلال علاقته بالستة الذين رشحهم عمر - أثناء احتضاره - لاختيار واحد منهم لخلافته، يتحدد الاتجاه الذي انبنت عليه سياسة عمر في ذلك الاختيار فيما سمي في التاريخ الإسلامي بالشورى.

4 - الشورى في فكر علي علیه السلام كما تبدو في نهج البلاغة:

لما أصيب عمر بن الخطاب سنة ثلاثة وعشرين وأحس بدنو أجله، حصر اختيار الخليفة من بعده في احد ستة من الصحابة، هم: عثمان بن عفان الأموي، وعلي بن أبي طالب الهاشمي علیه السلام، وعبد الرحمن بن عوف الزهري، وسعد بن أبي وقاص الزهري، وطلحة بن عبيد الله التيمي، والزبير بن العوام الأسدي، وقد فوض إليهم الاتفاق فيما بينهم على احدهم لذلك المنصب الخطير، اما سبب ترشيحه لأولئك الستة دون سواهم فلكون الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد مات وهو راض عنهم. ويبدو من خلال دراستنا لتاريخ الفترة ان ذلك الاختيار من قبل عمر لم يكن وليد ساعته. فلقد احس عمر بما يدبر في الخفاء أثناء خلافته حين نمى إلىسمعه «أن الزبير قال: لو قد مات عمر لبايعنا علياً علیه السلام»(2) وكان قوم يقولون «لوقد مات أمير المؤمنين اقمنا فلاناً، يعنون طلحة بن عبيد الله»(3) وجاء مثل ذلك في رواية عن المغيرة بن شعبة(4) ، وبطبيعة الحال، فلقد وقف عمر من ذلك موقف المتشدد لقطع دابر تلك النوايا في خطبته بالمدينة بعد قفوله من اخر

ص: 222


1- ابن أبي الحديد: 6/ 96
2- القسطلاني: ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري 10 / 19
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع: العقد الفريد 4/ 281

حجة له بقوله «انه بلغني ان قائلاً منكم يقول: لو قد مات أميرالمؤمنين بايعت فلاناً، فلا يغرن امرؤ ان يقول: ان بيعة أبي بكر فلتة»(1) ، فما حدث في بيعة أبي بكر من استعجال وسرعة لا يرغب عمر ان يتكرر مرة اخرى، مما يعني انه قد كان يفكر جدياً فيمن سيخلفه، من ذلك كثرة سؤاله عن الشخص المؤهل الذي ترتضيه قريش لنفسها من بعده، فقد «روي عن عبد الله بن عباس قال: طرقني عمر بن الخطاب بعد هدأة من الليل، فقال: أخرج بنا نحرس نواحي المدينة، فخرج وعلى عنقه درته حافياً حتى اتى بقيع الغرقد فاستلقى على ظهره، وجعل يضرب اخمص قدميه بيده وتأوه صعداً، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما أخرجك إلى هذا الأمر؟ قال: أمر الله يا ابن عباس، قال: إذا شئت اخبرتك بما في نفسك، قال: غص غواص، ان كنت لتقول فتحسن، قال: ذكرت هذا الأمر بعينه، والى من تصيره، قال صدقت»(2) ، ثم تذاكر الرهط الستة الذين رشحهم عمرفيما بعد لاختيارالخليفة فيما بينهم، ويبدو ان عمر قد انتقد انه كان يميل كل واحد منهم مما يثلم في أهليته للخلافة(3)، ولكن ينتابنا شعور انه كان يميل إلى جانب عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف أكثر من ميله إلى الاربعة الباقين فممايرون في شأن عثمان، عن حذيفة بن اليمان «أنه قال: قال لي عمر: من ترى الناس يؤمِّرون بعدي؟ قال: قلت سموا لها عثمان، قال: فسكت»(4) حتى قيل ان أمرعثمان قد اشتهر وطارت به حداة الابل وعمر ما زال حياً، «روي عن حارثة بن

ص: 223


1- تاريخ الطبري 3/ 285
2- راجع الحديث باكمله في تاريخ اليعقوبي 2/ 158
3- المصدر السابق نفسه
4- القاضي عبد الجبار - المغني 20 /القسم الثاني/ 30 وقد جاء في انساب الاشراف 2/ 214 عن حارث قال «حججت مع عمر فسمعت حادي عمر يحدو: ان الامير بعده ابن عفان

مضروب قال: سمعت الحادي يقول: الا ان الأمير بعده ابن عفان»(1) .

كان عمر يميل إلى عثمان، وقد شعر علي بن أبي طالب علیه السلام بذلك الميل، واحس منذ الوهلة الأولى التي قبل فيها ان يكون ضمن رجال الشورى، ان الخلافة ستؤول إلى عثمان، فمما يؤثرعنه في ذلك قوله لبني هاشم «ان اطيع فيكم قومكم فلن يؤمروكم ابداً، وتلقاه العباس فقال له: عدلت عنا، قال له: وما اعلمك، قال:

قرن بي عثمان، ثم قال: ان رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلاً، فكونوا من الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، فسعد لا يخالف ابن عمه عبد الرحمن وعبد الرحمن صهر عثمان، لا يختلفون، فلو كان الاخران معي ما نفعاني»(2) ، ولا نعتقد أن عمر حين قسم أصحاب الشورى ذلك التقسيم كان لا يدرك أن الأمر سيؤول إلى عثمان، لداريته بأهمية القرابة والعصبية في تشكيل المواقف عند العرب فَصِلة القرابة التي تربط عبد الرحمن بن عوف بسعد بن أبي وقاص وبعثمان بن عفان، تجعل علياً علیه السلام في الكفة الخاسرة، هذ على افتراض وقوف طلحة والزبير بجانبه، مع ملاحظة ان طلحة وان كان غائباً يوم الشورى فإنه من المستبعد ان يكون في الكفة التي ترجح علياً علیه السلام بسبب معارضة هذا الاخير لبيعة أبي بكر التيمي نفس الفرع القرشيالذي ينتمي إليه طلحة، لذلك تحقق ما كان علي علیه السلام يتوقعه، وبويع لعثمان بعد ان فوض الاختيار لعبد الرحمن بن عوف الذي اخرج نفسه من الشورى كي يصبح الاختيار في يده(3) ، ولمعرفة عبد الرحمن بأسلوب علي ومبدئه بالإضافة إلى موقفه

ص: 224


1- القاضي عبد الجبار - المغني 20 / القسم الثاني/ 30 وقد جاء في انساب الاشراف 2/ 214 عن حارثة قال «حججت مع عمر فسمعت حادي عمر يحدو: ان الامير بعده ابن عفان»
2- العقد الفريد 4/ 276
3- السابق 4/ 277

الحاسم من خلافة الشيخين، فإنه لم يزو الأمر عنه، إنما اشترط عليه فيما لو بويع له بالخلافة فإن عليه «عهد الله وميثاقه ليعملن بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخليفتين من قبله»(1) ، وقد رفض علي علیه السلام النقطة الثالثة من الشرط، لاعتقاده بأحقية اتباع الشيخين له لا باتباعه سيرة الشيخين، فالنقطة تلك موضوعة في الأساس على ما نعتقد - لعلي علیه السلام، لأن عثمان لن يعترض عليها لأنه لم ير فيه منافساً للشيخين، ولم تؤثرعنه أية معارضة لخلافتهما، لذلك فقد تحققت مقولة عمر في علي علیه السلام من كراهة قريش اجتماع النبوة والخلافة في بني هاشم(2)، كما ان قريش حسب تعبيرعمر- لا تحتمل علياً علیه السلام «ولئن وليهم ليأخذنهم بمر الحق لا يجدون عنده رخصة»(3) ، فالشورى بحسب تخطيط عمر لها، لم تكن رضاً بالنسبة لعلي علیه السلام كما يبدو من قوله «حتى مضى لسبيله جعلها في جماعة زعم إني أحدهم فيا لله ويا للشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأول منهم حتى صرت أقرن إلى هذه النظائر، ولكني أسففت إذ اسفوا، وطرت إذ طاروا فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره مع هنٍ وهنٍ»(4) . فتبرم علي علیه السلام بالشورى وعدم رضاه عنها يبدو واضحاً من خلال تعبيراته الهادرة بالغضب، لما اصاب منزلته من استصغار بقبوله الدخول ضمن تلك الشورى وذلك حين قرنه بستة ليس فيهم من يتمكنمن القيام مقامه أو يساويه في منزلته، مع انه يعتقد في قرارته أنه أحق بالأمر من

ص: 225


1- العقد الفريد 4/ 279
2- راجع العقد الفريد 4/ 280 ، ابن أبي الحديد 12 / 9
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 159
4- خطب - 3، واسف الرجل: إذا دخل في الأمر الدنيء واصله من اسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه، والضغن: الحقد ومع هن وهن أي مع امور يكنى عنها ولا يصرح بذكرها واكثر ما يستعمل في الشر

أبي بكر. لقد قبل علي علیه السلام بمحض إرادته أن يدخل في الأمر بدافع المطالبة بحقه، لكن تدخل عامل القرابة في الشورى، وتشبع نفس احدهم بالحقد والضغينة(1) ، بالإضافة إلى امور متفق عليها في الخفاء لم يكشف على علیه السلام النقاب عنها(2) كل تلك العوامل أدت إلى افلات الخلافة منه للمرة الثالثة. كما ان الشورى في حد ذاتها قد احدثت شرخاً عميقاً في الصف الإسلامي، حين اوجدت في الساحة السياسية متنافسين على الخلافة لم يكونوا كذلك من قبل، الا ان ترشيح عمرلهم أعطى كل فرد منهم الثقة في نفسه، وجعله ومن ورائه عشيرته، يعتقد أهليته وصلاحيته للمنصب الخطير، مما احال المنافسة بينهم إلى صراع دام كلف المسلمين الكثير«فلم يشتت بين المسلمين، ولا فرق اهواءهم ولا خالف بينهم حسب قول معاوية الا الشورى التي جعلها عمر إلى ستة نفر... لم يكن رجل منهم الا

ص: 226


1- يقول ابن أبي الحديد: ان علياً علیه السلام يعني بالحاقد «طلحة... فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضراً يوم الشورى، فإن صحت فذو الضغن سعد بن أبي وقاص، لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس، والضغينة التي عنده على علي علیه السلام من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم وتقلد دماءهم... 1/ 189 ، 190
2- اعقتد ان الأمورالتي لم يكشف عنها علي علیه السلام وكنى عنها ب «هنٍ وهنٍ» هي الاتفاق فيما بين عبد الرحمن وعثمان ان يرجع الأمر إليه فيما بعد كما يروي صاحب العقد الفريد 4/ 279«ان علياً علیه السلام قد قال لعبد الرحمن بن عوف: حبوته محاباة، ليس باول يوم تظاهرتم فيه علينا، اما واللهما وليت عثمان الا ليرد الأمر اليك» وقد نشب خلاف بين عبد الرحمن بن عوف وعثمان ادى إلى القطيعة فيما بينهما، وقد ارجع اليعقوبي ذلك الخلاف وتلك القطيعة إلى الأسلوب الذي حاول به عثمان ان يعهد بالخلافة لعبد الرحمن إذ «روي أن عثمان اعتل علة اشتدت به، فدعا حمران بن ابان، وكتب عهداً لمن بعده، وترك موضع الاسم ثم كتب بيده: عبد الرحمن بن عوف، وربطه وبعث به إلى أم حبيبة بنت أبي سفيان، فقراه حمران في الطريق، فأتى عبد الرحمن فاخبره، فقال عبد الرحمن وغضب غضباً شديداً: استعمله علانية ويستعملني سرا» تاريخ اليعقوبي 2/ 169

رجاها لنفسه ورجاها له قومه... ولو ان عمراستخلف عليهم كما استخلف أبو بكر ما كان في ذلك اختلاف»(1) . وبرغم الافرازات الخطيرة التي تنبأ بها علي علیه السلام جراء الشورى إلا أنه من أجل وحدة المسلمين بايع طائعاً بعد ان قال في محضرمن جماعة الشورى وحشد من المسلمين «لقد علمتم اني احق بها من غيري، والله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين ولم يكن فيها جور الا على نفسي خاصة، التماساً لأجر ذلك وفضله، وزهداً فيما تنافستموه من زخرفة وزبرجة»(2) ، وعلى أساس بيعته الطوعية تلك يمكننا تتبع فكره أثناء حكم عثمان.

5 - موقف الإمام علي علیه السلام من حكومة عثمان:

يبدو ان الدسائس قد لعبت دورها لتفرق بين عثمان وعلي علیه السلام، كما مهدت السبل لاغتيال الثالث في ظروف يمكن معها اقصاء علي علیه السلام من المسرح السياسي، وتهيئ الجو المناسب لاستمرارية السلطة في الأمويين عشيرة عثمان، فلقد حاولت فئة من أصحاب المصالح تثويرعثمان على علي علیه السلام فأفلحت إلى حد بعيد(3) وتباين المواقف الفكرية في العصر الحديث من علاقة علي علیه السلام بعثمان

ص: 227


1- العقد الفريد 4/ 181
2- خطب - 73
3- من ذلك إقبال عثمان على عبد الله بن عباس بقوله «مالي ولكم يا ابن عباس، ما اغراكم بي واولعكم بتعقب امري، اتنقمون علي أمر العامة؟ اتيت من وراء حقوقهم أم امركم، فقد جعلتهم يتمنون منزلتكم، لا والله لكن الحسد والبغي وتثوير الشر واحياء الفتن... فقال ابنعباس: على رسلك يا أميرالمؤمنين، فوالله ما عهدتك جهراً بسرك ولا مظهراً ما في نفسك، فما الذي هيجك وثورك؟ أنا لم يولعنا بك أمر، ولا نتعقب أمرك بشيء، أتيت بالكذب وتسوف عليك بالباطل... فما دعاك إلى هذا الأمر الذي كان منك؟ قال دعاني إليه ابن عمك علي بن أبي طالب علیه السلام فقال ابن عباس وعسى أن يكذب مبلغك. قال عثمان: انه ثقة. قال ابن عباس: انه ليس بثقة مع بلغ واغرى» الزبير بن بكار - الأخبار الموفقيات 604 و 605

تعكس تلك الصورة، فقد اعتبر احد المستشرقين ما حدث بين علي علیه السلام وعثمان من مشادات كلامية بداية تشكل معارضة علي بن أبي طالب علیه السلام(1) بينما اتهم دارس اخر علياً علیه السلام وبعض الصحابة ببغض عثمان والكيد له، والنقمة عليه حين اعتبر علياً علیه السلام وطلحة والزبير «على رأس الناقمين على عثمان»(2) ، واعتبر دارس ثالث علياً علیه السلام من الذين وقفوا من عثمان موقفاً محايداً «فلم يدافع عنه ولم يعن عليه»(3) ، ويرى آخر انه «كان علیه السلام مخلصاً لعثمان مدافعاً عنه ملبياً لدعوته ماداً إليه يده ومعونته عند الحاجة»(4) ، وهناك أيضاً رأي خامس يعتبر علياً علیه السلام «ناقداً لسياسة عثمان وبطانته التي حجبته عن قلوب رعاياه، ناصحاً للخليفة بإقاصاء تلك البطانة، وتبديل السياسة التي تزينها له وتغريه بإتباعها»(5) .

واذا ما استفتينا (نهج البلاغة) لمحاكمة تلك الاراء المتضاربة فسنجد ان الرايين الاخيرين المتمثلين في نصح عثمان والمدافعة عنه ونقد سياسته، هما اللذان ينطلق منهما فكرعلي علیه السلام السياسي تجاه عثمان وحكومة، إذ لم يؤثرعن علي علیه السلام الجنوح إلى السلبية في مواقفه السياسية على اعتبار ان النصح للدين مبدأ لا يحيد عنه، وذلك ليس من باب المعارضة أو الثورة طمعاً في السلطة، إذ لو كان السلطة .

ص: 228


1- راجع بلا شيرتاريخ الأدب العربي 1/ 14
2- نبيه عاقل: خلافة بني أمية ص 14
3- عبد الكريم الخطيب: علي بن أبي طالب علیه السلام ص 287
4- محمد رضا: الإمام علي بن أبي طالب ص 51
5- عباس العقاد: عبقرية علي، ص 63

غايته لقبلها بشرط عبد الرحمن بن عوف «العمل بسيرة الشيخين»(1) ، حين عرضت عليه قبل المبايعة لعثمان على اعتبارها حيلة سياسية، ولكن الغاية في فكر علي علیه السلام وضع تعاليم الإسلام في مسارها الصحيح في ضوء القرآن والسنة، ففي رده على رسالة وردت إليه من معاوية يتهمه فيها بالتأليب على عثمان والمشاركة في قتله يقول «وما كنت لاعتذر أني كنت أنقم عليه أحداثاً، فإذا كان الذنب إليه ارشادي وهدايتي له، فربّ ملوم لا ذنب له: (طويل) وقد يستفيد الظنة المتنصح»(2) .

وما اردت الا الاصلاح ما استطعت، ﴿وَمَا تَوْفِيقِی إلِّا باِلله عَلَيْهِ تَوَكَّلتُ وَإِلَیهِ أنِيبُ﴾(3) ، فاللوم الموجه لعلي علیه السلام - كما يبدو من قوله لم - يكن بسبب تخليه عن عثمان أو لكراهيته له أو معارضة خلافته، ولكنه بسبب نصحه لعثمان، ومحاولة ارشاده، وفضح أساليب بطانته التي استغلت اموال المسلمين لأجل مصاحلها الذاتية. فلو قبل من الأموال ما قبله غيره وتعامى عما احدثه ولاة عثمان في الامصار الإسلامية، لما وجه إليه أي اتهام، ويمثل وجهة نظره تلك قوله لأبي ذر لما وجهه عثمان إلى الربذة(4) المتضمن اشادة علي علیه السلام بثبات أبي ذرعلى مواقفه الرافضة لكل المغريات المادية ومهاجمته العنيفة لسياسة البذخ التي كان الأمويون يتبعونها بموافقة الحاكم، وتنبع إشادة علي علیه السلام تلك من مبدئه

ص: 229


1- راجع ص 198 وما بعدها من هذا البحث
2- هو عجز لبيت صدره: وكم سقت في آثاركم من نصيحة. قائله مجهول: المبرد: الكامل 4/ 126
3- رسائل - 28 فقرة 7 والآية في السياق من سورة هود / 88
4- راجع خطب - 130 ، والربذة بفتح الراء والباء والذال: من قرى المدينة، راجع معجم البلدان24/3

الفكري والتزامه الأخلاقي الذي قد يتحمل في سبيله كل التضحيات إذا ما دعت الحاجة بذلك وكان يعيب على عثمان امرين هما:

1 - الولاة وأحداثهم في الأمصار الإسلامية.

2 - طريقة عثمان في التصرف في الأموال العامة.

وهما الأمران اللذان نعيهما عليه كثير من الصحابة وثوار الامصار.

فعن مراقبة الولاة وأخذهم بالحزم والشدة، صيانة للعدل، وحفاظاً على مصالح المسلمين يقول عثمان لعلي علیه السلام:«أنشدك الله يا علي، هل تعلمان المغيرة بن شعبة ليس هناك؟ قال: نعم، قال: فتعلم ان عمر ولاه؟ قال: نعم، قال: فلم تلومني ان وليت ابن أبي عامر في رحمه وقرابته؟ قال علي علیه السلام: ان عمر يطأ صماخ من ولى ان بلغه عنه حرف جلبه، ثم بلغ به اقصى العقوبة، وانت لا تفعل، ضعفت، ورفقت على اقربائك... قال عثمان: هل تعلم ان عمر ولى معاوية، فقد وليته، فقال علي علیه السلام: أنشدك الله، هل تعلم ان معاوية كان اخوف لعمر من يرفأ غلام عمر له؟ فقال: نعم، قال علي علیه السلام: ان معاوية يعطي الأمور دونك ويقول للناس هذا أمرعثمان وأنت تعلم ذلك فلا تغيرعليه؟»(1) فتولية عثمان قرابته وتساهله معهم، وغضه عن كثير من تصرفاتهم، جعلهم يستغلون حبه لهم بالتنمر على الطبقات المستضعفة من المسلمين، مما حدا بألقاء اللوم عليه شخصياً وانتقاده، فعلي علیه السلام لا يرى مجالاً للمقارنة بين سياسة عمر تجاه ولاته، وبين سياسة عثمان تجاه ولاته، وان كان احدهم وهو معاوية، قد ولي الشام من قبل عمر فأقره عثمان عليها، فمراقبة عمر لولاته غاية في الحزم، بحيث بلغت

ص: 230


1- ابن الاثير: الكامل في التاريخ 3/ 76

في كثير من الأحيان ايقاع العقاب عليهم(1) ، ومصادرة بعض ثرواتهم التي يجمعونها أثناء عملهم له(2) ، وهذا ما لم يفعله عثمان مع احد ولاته قط، وذلك ما نعاه علي علیه السلام على سياسة عثمان في ادارة الولايات بتعيين ولاة من أهله.

اما من حيث السياسة المالية، فقد تصرف عثمان وولاته باموال المسلمين تصرفاً لم يؤثرعن النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولا عن الشيخين من بعده من ذلك انه أعطى «عبد الله بن خالد بن اسيد صلة مقدارها أربعمائة الف، وتصدق رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بمهزورموضع سوق بالمدينة على المسلمين، فأقطعها الحارث بن الحكم اخا مروان واقطع فدك مروان وهي صدقة لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وافتتح افريقية وأخذ خمسه فوهبه لمروان»(3) كما اعتبر سعيد بن العاص والي عثمان على العراق ما افاء الله على المسلمين من ضياع لقريش وحدهم وذلك في قوله في جمع من قراء الكوفة «السواد بستان قريش، فما شئنا أخذنا منه وما شئنا تركناه»(4) ، لذلك لم يكن بوسع علي علیه السلام ولا غيره من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ان يسكتوا عن هذه السياسة بعد ان زكمت الأنوف رائحتها، وانتشر التبرم منها بين عامة المسلمين، فاول من وجه اللوم لعثمان على تلك السياسة عبد الرحمن بن عوف الذي بايع له بالخلافة، فدخل عليه معاتباً بقوله «انما قدمتك على ان تسير فينا بسيرة أبي بكر وعمر، فخالفتها وحاببت أهل بيتك، وأوطأتهم رقاب المسلمين، فقال: ان عمر كان يقطع قرابته في الله وانا أصل قرابتي في الله، قال عبد الرحمن:

ص: 231


1- لمعرفة ما يوقعه عمر بن الخطاب من عقاب على المنحرفين عن الجادة من عماله راجع: ابن أبي الحديد 12 / 26
2- حول مصادرات عمر لعماله، راجع ابن أبي الحديد 12 / 42 - 43
3- ابن عبد ربه: العقد الفريد 4/ 284
4- راجع تاريخ الطبري 4/ 323 ، ابن الاثير: الكامل في التاريخ 3/ 70 ، ابن أبي الحديد 3/ 21

البلاغة لله علي الا اكلمك أبدا»(1) . فإذا كان موقف عبد الرحمن بن عوف من سياسة عثمان موقفاً سلبياً اتخذ جانب السكوت والمقاطعة، فإن علياً علیه السلام لم يجد في ذلك ما يعود على اللأمة بالصلاح، وعلى الخليفة بالرشاد، فاتبع أسلوباً ناقداً، مما ادى في كثير من الأحيان إلى المجابهات الكلامية بينه وبين عثمان الذي لم يفلح في اسكاته بإغرائه المال(2) .

فنقد علي علیه السلام لسياسة عثمان عامة وسياسته المالية على وجه الخصوص، نابع من مبدأ اسلامي هو لب السياسة الإسلامية والمرتكز الذي تعتمد عليه في بناء شخصية الفرد المسلم ذي الفكر الحر، فيقول الحق بصراحة وصدق دونما رهبة ولا رغبة، ذلك هو مبدأ «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»(3) .

والحقيقة التي لا مراء فيها ان عثمان كان كثيراً ما يستجيب لنصح علي علیه السلام، ويستمع لنقده، ويحاول العمل بمشورته، الا ان وقوعه تحت تأثير مروان ومن شايعه من بين أمية، هو ما يحول بينه وبين ذلك، وقد التفت العباس بن عبد المطلب إلى ضعف شخصية عثمان وتأثير أهله عليه بقوله «ما هذا يعني عثمان ... من أمره من شيء»(4) ، لذلك بدت الهوة سحيقة جداً بين وجهة نظر علي علیه السلام ووجهة نظرعثمان، بحيث يستحيل التوفيق بينهما حتى قيل أنه «لا سبيل إلى صلحهما»(5) . فبعد احداث الحصار ومقتل عثمان والمبايعة لعلي علیه السلام

ص: 232


1- العقد الفريد 4/ 280
2- راجع الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات ص 612 ، فقد تحدث عما عرضه عثمان على علي علیه السلام من مال في سبيل ارضائه ورفض علي علیه السلام ذلك المال، وما قام به عثمان تجاه علي علیه السلام حين رفضه
3- راجع ص 368 - 369 من هذا البحث
4- الأخبار الموفقيات ص 611 ، 617
5- السابق

بالخلافة، يستعرض في أول خطبة له بالمدينة تاريخ الخلافة في عجالة، ثم يقفعند عثمان، ناعياً عليه تصرفه في اموال المسلمين ووضعه اياها في غير استحقاقها مشبها اياه بالغراب في قوله «سبق الرجلان، وقام الثالث كالغراب همته بطنه، يا ويحه لو قص جناحاه، وقطع راسه لكان خيرا له»(1) ، وقص الجناح وقطع الرأس لا يعني التحريض على القتل كما يظن ولكنه يعني كما نعتقد المعالجة الحكيمة لسياسة التصرف في المال، بقطع دابر القيل والقال، والنأي بالنفس عن الشبهات، ووضع الأموال في المواضع التي أرادها الله، دون تمايز في توزيعها، لأن الحاكم في مركزه ذلك لا يمثل عشيرته وقومه، وانما يمثل الأمة بأسرها، مما يحتم عليه ان يسمو بنفسه عن العصبية العشائرية فتتساوى الناس عنده في الحقوق والواجبات، فالقص والقطع في النص - كما نفهمها - انما يقصد منهما انه كان من المتوجب على عثمان النظر إلى مكانته كراس للمسلمين لا كراس لبني أمية، وهو ما لم يكن عثمان يدرك ابعاده من خلال تامله في مركزه الجديد بعد ان بويع له بأن يكون حاكما فاختلطت عليه الأمور «وقام معه بنو ابيه يخضمون مال الله خضم الابل نبتة الربيع، إلى ان انتكث عليه فتله، واجهز عليه عمله»(2) ، إذ يفهم من ذلك ان الذي أودى بحياة عثمان ليس الثوار الذين حصروه، لأن أولئك لم يكونوا سوى افرازات لسياسة مدبرة لم يكن الحاكم المقتول يعي أبعادها، لأن البطانة التي احاطت به قد حجبت عنه الحقيقة وحالت بينه وبين سماع صيحات السخط من حوله. وقد بذل علي علیه السلام كل طاقته لإيصال تلك الصيحات إلى سمع الحاكم، ولكن نفسية عثمان لم تكن مهيأة لسماع أية نصيحة،

ص: 233


1- الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 51 ، العقد الفريد 4/ 67 ، وقد ورد في الخطبة الشقشقية خطب 3 فقرة 2، من النقد ما هو اشد من ذلك
2- خطب - 3

خاصة من علي علیه السلام، لما نمته إليه بطانة السوء حوله بأن علياً علیه السلام انما يقوم بدورالناصح حسداً ونكاية لإظهار عيوب الحاكم للناس لتثويرهم حتى يتسنى له الوصول إلى السلطة، وما تمثل به عثمان من شعر في احدى خطبه مومئاً لعلي علیه السلام فيه دلالة على ذلك الاعتقاد الذي بلغ من عثمان حداً لا يمكن معه ازالته من نفسه: (طويل)

توقد بنار اينما كنت واشتعل *** فلست ترى مما تعالج شافيا

تشط فيقضي الأمر دونك أهله *** وشيكا ولا تدعى إذ كنت نائيا(1)

فالتمثيل بالبيتين يدل على موقف عثمان الرافض لكل نصح أو نقد أو استشارة مصدرها علي علیه السلام، اما الخلافة فلن ينالها علي علیه السلام وسوف يقضي فيها أهل الحل والعقد، دون ان يكون علي علیه السلام طرفاً فيها، ولا حتى في المشاورات التي على اساسها يبايع للحكم.

الا ان التصلب من ناحية عثمان كان يقابله اللين والرفض من جانب علي علیه السلام الذي لم يمتنع من الوقوف بجانب الحاكم أثناء محنته العصيبة حين حصره الثوار، فقد تحمل السفارة بينه وبينهم، ينقل مطالبهم والتفاوض عنهم في محاولة منه لمنع انتشار الفتنة، من ذلك قوله لعثمان «ان الناس ورائي، وقد استسفروني

ص: 234


1- الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات ص 603، وقد ذكر البيتين ضمن خطبة لعثمان مشحونة بالسخط والغضب على منتقدي سياسته المالية. «وكأنه يومي فيهما إلى علي علیه السلام» بحسب رواية الزبير بن بكار، ثم ان ما دار من جدل بين عثمان وبين عبد الله بن عباس حول فحوى الخطبة بعد فراغ عثمان منها ورجوعه إلى بيته يرجح ان معاني الخطبة كانت موجهة إلى الهاشميين عامة والى علي علیه السلام على وجه الخصوص، راجع ذلك الجدل الذي بلغ حد النزاع الزبير بن بكار الأخبارالموفقيات ص 604 وما بعدها

بينك وبينهم، ووالله ما ادري ما اقول لك، ما اعرف شيئاً تجهله، ولا ادلك على أمر لا تعرفه... فلا تكونن لمروان سيقة يسوقك حيث شاء، بعد جلال السن وتقضي العمر... (فقال عثمان مستجيباً لسفارته كلم الناس ان يؤجلوني حتىاخرج إليهم في مطالبهم»(1) ، الإ أن البطانة التي التفت حول عثمان قد حالت بينه وبين الاستماع إلى شكاوى الناس وتظلماتهم، بل تمادت بعض الايدي الخفية - في دسها على الحاكم - ان تزور كتاباً إلى عامله على مصر ينقض كتاب الحاكم في عزل ذلك الوالي استجابة لأهالي مصر، ودبرت من المكر ما يمكن معه ان يقع الكتاب في ايدي أولئك الثوارالقافلين إلى ديارهم بعد ان حصلوا على مطالبهم، وذلك بقصد ارباك الحاكم والايقاع به لتشتيت أمر المسلمين وتفتيت وحدتهم حتى يفلت زمام السلطة من ايديهم، مع ان الضامن لما في كتاب عثمان الأصلي من شروط هو علي بن أبي طالب علیه السلام بشهادة بعض الصحابة، فلما واجه علي علیه السلام عثمان بالكتاب المزورعليه والمختوم انكر ان يكون قد كتبه، وقد صدقه علي علیه السلام ومن معه وعرفوا من الخط ان كاتبه مروان هو الذي زوره على الحاكم، فطالبوا عثمان بتسليمه إليهم لاستجوابه، وكان عنده في الدار، ولكن عثمان أبى عليهم ذلك وأصرعلى عدم تسليمه إليهم، فغضب علي علیه السلام ومن معه من الصحابة(2) فتركوه وشأنه مع الثوار فشددوا حصارهم على داره، وبعض افراد

ص: 235


1- خطب - 165 ، وجاء مثله في تاريخ الطبري 4/ 337 ، العقد الفريد 4/ 308
2- توسط علي علیه السلام بين عثمان وبين الثوار من اهالي مصر وذلك بطلب من عثمان نفسه على ان ياخذ علي علیه السلام منه عهداً غليظا وميثاقا مؤكداً بأن يستجيب لكل طلب عادل ومعقول يطلبونه وبالفعل فقد افلحت وساطة علي علیه السلام وتولد عنها كتاب فحواه «بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب من عبد الله عثمان بن عفان لجميع من نقم عليه من أهل البصرة والكوفة واهل مصر، ان لكم علي ان اعمل فيكم بكتاب الله عز وجل وسنة نبيه محمد صلی الله علیه و آله وسلم وان المحروم يعطى والخائف يؤمن والمنفي يرد، وان المال يرد على أهل الحقوق وان يعزل عبد الله بن سعد بن أبي السرح عن أهل مصر ويولى عليهم من يرضون، قال أهل مصر: نريد أن تولي علينا محمد بن أبي بكر، فقال عثمان: لكم ذلك، ثم أثبتوا في الكتاب «وأن علي بن أبي طالب علیه السلام ضمن بالوفاء لهم بما في هذا الكتاب، شهد على ذلك الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله وسعد بن أبي وقاص، ابن أعثم الكوفي الفتوح 410/2 . أما عن طلب عثمان وساطة علي علیه السلام بينه وبين الثوار، وكيف استطاع مروان بن الحكم أن يثني عثمان عما وعد الناس به من وعود فراجع تاريخ الطبري 4/ 358 وما بعدها وراجع أيضاً تاريخ الطبري 4/ 180 حول طلب عثمان من علي علیه السلام مساعدته في رد الناس عنه بعد أن ضيقوا عليه الحصار، ثم عدوله عما اشترطه على نفسه بعد أن فك الثوارالحصار عن داره

قريش يساعدونهم في الخفاء على ذلك(1) ، الا ان غضب علي علیه السلام وسخطه من تصرف عثمان بشأن مروان لم يمنعه من تقديم النصح إليه، فقد كان عثمان يظن وهو محصوران من الأسباب التي البت الناس عليه وجود علي علیه السلام تحت اعينهم بالمدينة، خاصة وان كثيراً من الثوار المحاصرين لدارالحاكم قد كانوا يهتفونباسم علي علیه السلام، للخلافة(2) ، مما ادى بعثمان إلى الحيرة بتصرفه إزاء علي علیه السلام، فتارة يطلب منه مبارحة المدينة وتارة أخرى يدعوه للقدوم حين تدعو الحاجة لطلب المعونة في الذب عنه، حتى ان علياً علیه السلام قد ضاق ذرعاً من تصرفات عثمان تلك، فقال لعبد الله بن عباس متبرما لما قدم إليه بأمرعثمان بمبارحة المدينة «ما يريد عثمان الا ان يجعلني جملا ناضجاً بالغرب، اقبل وادبر، بعث الي ان اخرج، ثم بعث الي ان اقدم، ثم هو الان يبعث الي ان اخرج، والله لقد دفعت عنه حتى خشيت ان اكون اثماً»(3) ، لقد حاول علي علیه السلام جاهداً ان يدفع عثمان ولكن تيار

ص: 236


1- راجع موقف طلحة بن عبيد الله من عثمان وهو محصور وما أمر به الثوار الكامل في التاريخ 87/3
2- راجع مقدمة الخطبة - 165
3- خطب - 215 . وورد مثل ذلك القول عند ابن عبد ربه في العقد الفريد 4/ 310 بزيادة منها «فخرج علي علیه السلام إلى ينبع فكتب إليه عثمان حين اشتد الأمر: اما بعد فقد بلغ السيل الزبى وجاوزالحزام الطبيين، وطمع في من كان يضعف عن نفسه» (طويل والبيت لامرئ القيس): فإنك لم يفخر عليك كفاخر *** ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب فأقبل الي على أي أمر احببت، وكن لي أم علي، صديقاً كنت أم عدواً (طويل والبيت للمزق العبدي): فإن كانت مأكولاً فكن خيراً *** كل وإلا فادركني ولما أمزق

العنف كان اقوى من ان يصد.

فنقد علي علیه السلام لعثمان ولسياسته، وارتياب عثمان في نوايا علي علیه السلام الصادقة تجاهه لم يمنع علياً علیه السلام من الدفاع عن عثمان، ولكن السياسة الملتوية ابت الا ان تلصق دم عثمان بعلي علیه السلام وذلك بعد البيعة له بالخلافة مباشرة، لأن مصلحة من اذكوا نار الفتنة من بني أمية وغيرهم من القريشيين تقتضي ذلك، فمما يؤثرعنمروان بن الحكم قوله «ما كان في القوم احد ادفع عن صاحبنا من صاحبكم يعني علياً علیه السلام عن عثمان قال: فقلت له: فمالكم تسبونه على المنابر؟ قال: لا يستقيم الأمر إلا بذلك»(1) . فمناهضة علي علیه السلام ورفض نقده ومحاولة اخماد صوته أثناء حكومة عثمان كان الهدف منه على ما نعتقد محاولة اقصائه عن الحياة السياسية، وعدم تمكينه من الخلافة، ولكن الظروف السياسية أبت إلا أن يكون رجل الساعة المنقذ بالنسبة للفئات المغلوبة على أمرها من عامة المسلمين مما يتعارض مع ما كانت الارستقراطية القرشية تبتغيه، وذلك بزعامة بني أمية عشيرة عثمان، فعملت جاهدة على إفشال مخطط علي علیه السلام السياسي بتوجيه الاتهامات الباطلة إليه، وهذا ما يمكن تتبعه من دراستنا لفكر علي علیه السلام السياسي في تعامله مع المناهضين لحكومته والناقمين على سياسته.

ص: 237


1- ابن عساكر - ترجمة الإمام علي علیه السلام من تاريخ دمشق 3/ 99

ص: 238

المرحلة الثانية: سياسةالإمام علي علیه السلام أثناء خلافته

- البيعة لعلي علیه السلام بالخلافة:

لم يكن بوسع احد من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم ان يتحمل عبء الخلافة وتركاتها الثقيلة، بعد مقتل عثمان بن عفان، لأن الحياة في المدينة قد آلت إلى الفوضى والاضطراب بحيث لم يعرف أي فرد موضع قدمه، كما ان اختلاطالأمور جعل الكثير لا يميز بين الصح والخطأ، فلقد ملك الثوارعلى الناس كل مسلك، وفقدت الخلافة قدسيتها وهيبتها، وظلت المدينة في الأيام الخمسة التي تلت مقتله بدون امام(1) ، واستتر رؤوس الصحابة في بيوتهم هروباً من الاتهام بالتحريض والفتنة، وظل جثمان عثمان ثلاثة أيام دون ان يوارى الثرى خوفاً من سخط الثوار، ولما سمع بعض الثائرين عليه بأنه سيدفن «قعدوا له في الطريق بالحجارة... فلما خرج به على الناس، رجموا سريره، وهموا بطرحه»(2) ، فكل

ص: 239


1- يروي الطبري في تاريخه ان المدينة بقيت «بعد قتل عثمان خمسة أيام واميرها الغافقي بن حرب يلتمسون من يجيبهم إلى القيام بالأمر فلا يجدونه» 432/4
2- تاريخ الطبري 4/ 412

تلك الاحداث تعني ان وضع الأمة الإسلامية قد تعقد للغاية بحيث لم يعد بوسع احد ان يتصدى لتلك الفتنة، وإعادة الأمور إلى نصابها، بالقود للحاكم المقتول، وتأمين أهل المدينة مما اعتراهم من خوف وهلع، فلابد لذلك الظرف الدقيق الحساس من رجل حازم، يستطيع ان يقود الأمة إلى بر الأمان، فوقع اختيارهم على علي علیه السلام. لقد تردد علي علیه السلام كثيراً قبل ان يستجيب لنداءات الناس الملحة من كل صوب(1) واضعاً نصب عينيه أمرين:

الأول: مسؤول إخماد الفتنة والقود من قتلة عثمان وتأمين الناس.

الثاني: العدل في العطاء.

ويحتاج الأمر الأول إلى الحكمة والتؤدة وسعة الصدرلاستلال ما في نفوس العامة من غيظ، مع الصبر في معالجة القضايا حتى تنكشف الجوانب المبهمة، لمعاقبة الجناة والعودة بالحياة إلى طبيعتها. ولكن رفض طرفي النزاع الجاني وأهل المجني عليه لتلك السياسة المرحلية المتأنية سيؤدي إلى وضع الأمة علىطريق غامض مظلم، لتعارض اهداف طرفي النزاع، مما يعني ان قتل عثمان لم يكن الا بداية خطيرة كامنة في النفوس.

اما الأمرالثاني في تحقيق العدالة، فهو وان كان مطمع الثواروالفئات المستضعفة الناقمة على سياسة عثمان، الا أنه يتعارض تماما وطموحات القرشيين من امثال طلحة والزبير(2) الذين اذكوا نار الفتنة ضد عثمان لما وجدوا ان بين

ص: 240


1- راجع تاريخ الطبري 4/ 427 ، 428
2- من أجل معرفة دور الزبير وطلحة في فتنة عثمان راجع قولهما في ص 253 وما بعدها من هذا البحث

أمية قد استأثروا دونهم بالمال، لأن سعيهم في الخفاء، وان كان في الظاهر من أجل الحرص على مصالح الناس، فقد كان من أجل مصالحهم الذاتية، ثم ان قبولهم بالحق سيعرضهم للعقاب لأنهم، وان لم يباشروا قتل عثمان، فإنهم قد هيأوا الظروف المناسبة لقتله بتأليب الثوارعليه. لذلك حاول علي علیه السلام رفض الخلافة مبيناً وجهة نظره في مستقبل الأمة بعد ان عايش ما انتاب المجتمع الإسلامي من هزات عنيفة عقيب مقتل عثمان، مما ادى إلى تهرب جميع الصحابة من المسؤولية التي عبر عنها في احدى خطبه بالغموض، لتعدد وجوهها، وتشكل الوانها، مما جعل العقول لا تستوعبها لما اكتنفها من تشويش، حجب الحقيقة خلف غيوم كثيفة داكنه(1) .

وفي مثل هذا الجو المضطرب، لابد من منقذ يخرج الأمة من مأزقها الخطير، ولابد ان يكون ذلك الإنسان مرضيا عند جميع عامة المسلمين، لا عند فئة معينة من الأستقراطية القرشية. لذلك فمن الارجح ان تردد علي علیه السلام في قبول الخلافة، هو خشيته من عدم اتفاقة في الرأي من حيث سياسة توزيع المال مع تلك الفئة، التي لن ترضى بسياسة تتعارض ومصالحها. وحتى يحتاط لنفسهمن الدخول مع تلك الفئة القرشية في مواجهة، فيما لو اضطر لقبول الخلافة، امتثالا لالحاح عامة المسلمين، كان قوله «واعملوا اني ان اجبتكم ركبت بكم ما اعلم، ولم اصغ إلى قول القائل وعتب العاتب»(2) ، ولقد قبلت تلك الفئة شرطه ذاك على دخن، بينما قبلته عامة الناس بابتهاج وسرور، ولكن علياً علیه السلام لم يرَ بداً من التريث والنظر في واقع الأمة نظرة المتأمل، المتفكر في عواقب قبوله

ص: 241


1- راجع خطب - 91
2- راجع خطب91

لقيادتها(1) ، الا ان الحاح الجماهير كما يبدوكان اقوى من تريثه وتردده، فكانت البيعة له بالخلافة رغم امتناعه كما وصف ذلك في قوله «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها»(2) . فالبيعة لعلي علیه السلام انعقدت له باقتناع تام وطواعية وسرور«وكان أول من صعد المنبر طلحة فبايعه... ثم بايعه الزبير وسعد واصحاب النبي جميعاً»(3) . ويستنتج من وصف علي علیه السلام لبيعته أن أكثرالناس استبشار بها، الطبقات المستضعفة من المسلمين الذين وجدوا فيه الضامن لحقوقهم من غير محاباة لقريب أو تمييز بين مسلم وآخر بالأسبقية والصحبة، كما كانت استجابة الامصار الإسلامية لبيعته سريعة فيما عدا الشام(4) التي كانت تحت ولاية معاوية، مما يدحض القول بأن اكتفائه ببيعة الثوار واهل المدينة دون

ص: 242


1- جاء عند ابن أعثم الكوفي في الفتوح 2/ 432 أنه لما رضي جمهور الناس بالبيعة لعلي علیه السلام بالخلافة قال لهم «أخبروني عن قولكم هذا رضينا به طائعين غير كارهين، أحق واجب هذا من الله عليكم أم رأي رأيتموه من عند أنفسكم؟ قالوا: بل هو واجب أوجبه الله عزوجل علينا، فقال علي علیه السلام فانصرفوا يومكم هذا إلى غد... فلما كان من الغد أقبل الناس إلى المسجد، وجاء علي بن أبي طالب علیه السلام فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس إن الأمر أمركم فاختاروا لأنفسكم من أحببتم، وأنا سامع مطيع لكم... فصاح الناس من كل ناحية وقالوا: نحن على ما كنا عليه بالأمس» فلقد أعطى علي علیه السلام لنفسه فرصة للتفكر كما أعطى للناس فرصة لمراجعةأنفسهم قبل الإقدام على بيعته كما نلاحظ من الرواية
2- خطب - 226 المطلع
3- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/ 47 ، وراجع أيضاً ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2/ 431 ، العقد الفريد 4/ 310
4- راجع موضوع: تفريق علي علیه السلام عماله على الامصار بتاريخ الطبري 4/ 442، وراجع أيضاً ابن أعثم الكوفي 2/ 435 وما بعدها

سائر الامصار هو السبب في عدم الاعتراف بخلافته(1) فالقضية التي كانت تشغل علياً علیه السلام وتقلقه، ليست بيعة الأمصار كما نرى ولكن كيفية التعامل مع رجال السياسة من الصحابة وغيرهم من علية القوم، الذين يرون لأنفسهم احقية التفضل ماديا ومعنويا على غيرهم من افراد الامة، خاصة ان سياسته التي اعلن عنها، في خطبته الأولى، بعد المبايعة له لا تتناسب وطموحات تلك الفئة فقوله «ان الله سبحانه انزل كتاباً هادياً، بين فيه الخير والشر، فخذوا الخيرتهتدوا، واصدفوا عن سمت الشر تقصدوا... الفرائض الفرائض ادوها إلى الله تؤد بكم إلى الجنة، ان الله حرم حراماً غير مجهولٍ واحل حلالا غير مدخولٍ»(2) .

يعني الغاء الامتيازات والمفاضلة، والالتزام التام بالعمل بما جاء في الكتاب والسنة والمساواة التامة بين جميع المسلمين في الحقوق والواجبات، لأن الإسلام مسؤوليه التزامية، تعني اندماج طبقات المجتمع، في كل متكامل يزيل التمايز ويعطي لكل حق حقه، وذلك بالطبع لا يرضي أصحاب الطموحات المادية من القرشيين الذين يريدون خليفة يحافظ على امتيازاتهم ومكاسبهم أو على الأقل يترك لهم في ايديهم ما جنته من مغانم واستأثرت به من مال على حساب المستضعفين باسم الصحبة لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والقرابة منه، ولكن تصميم علي علیه السلام

ص: 243


1- يقول شلبي أبو زيد في كتابه: الخلفاء الراشدون ص «156 لم ينتظر علي علیه السلام حتى بايعه أهل الامصار ظنا منه ان بيعة أهل المدينة والثوار كافية في جعل أهل الامصاريعترفون بخلافته» وقدتناسى المؤلف ان الخلفاء الراشدين الثلاثة قد انعقد لهم البيعة وصحت خلافتهم ببيعة أهل المدينة، كما انه تجاهل في تحليله للاحداث ان جميع الامصار الإسلامية قد ارسلت ببيعها للخليفة في المدينة فيما عدا الشام
2- خطب - 168 ، فقرة 1

على تجريد أولئك مما غنموه من أموال وضياع من غير استحقاق(1) ، والمحاولة من حد اطماعهم جعلهم يتألبون عليه ويحرضون الناس على محاربته لعرقلة سياسته تلك، وقد استخدموا شتى الوسائل للوصل إلى غايتهم من ذلك:

- مطالبتهم إياه بالاقتصاص من قتلة عثمان في حينه، أي بعد توليه الخلافة مباشرة، لادراكهم ان ذلك لا يمكن تحقيقه الا بعد ان تهدا النفوس وتنجلي الحقيقية(2) .

- التغاضي عما حققه الأمويون من مكاسب على حساب المسلمين أثناء حكم عثمان وهو ما لا يتسق والسياسة الدينية التي ترى الحق حقاً، والباطل باطلاً، مما جعله يرفض مطالبهم في اقراره لهم ما جنوه من اموال في حكم عثمان مقابل اقرارهم بالولاء له(3) ، ومحاولة طرف ثان جنى مكاسب مادية على حساب الاقرار له بالخلافة كطلب طلحة والزبير الولاية(4) ، وطلب معاوية اقراره على ولاية الشام(5) وهو ما يتعارض في اختيار ولاته ممن يرتضيه لدينه، لذلك لما يئس أولئك من حصولهم على ما يبتغون لجأوا إلى الحل المسلح علهم يدركون من علي علیه السلام ما لم يدركوه منه بالاحتيال «فنكثت طائفة ومرقت اخرى، وقسط آخرون»(6) .

ص: 244


1- راجع مقولته في رد قطائع عثمان - خطبة 15
2- راجع مقولته في ذلك خطب 169
3- راجع ص 257 من هذا البحث وما بعدها
4- راجع ص 253 من هذا البحث وما بعدها
5- راجع ص 270 من هذا البحث
6- خطب 3

وقد تتبعت نصوص (نهج البلاغة) الفئات الثلاث التي ذكرها علي علیه السلام في خطبته السابقة وهي: الناكثون والقاسطون والمارقون.

أولا: الناكثون - أي أصحاب الجمل:

النكث بفتح الفاء - لغة: هوالمخالفة بعد اظهار الاتفاق و «نكث العهد والحبل فانتكث، أي نقضه فانتقض»(1) والناكثون الذين يعنيهم علي علیه السلام«هم أهل وقعة الجمل لأنهم كانوا بايعوه ثم نقضوا بيعته وقاتلوه»(2) ، إذ لم يقبل طلحة والزبير سياسة علي علیه السلام التي لا تتفق ومصالحهما التي من اجلها ثورا الناس على عثمان، ومهدوا لقتله، لاستئثار اسرته بالثروات وولاية الامصار، ثم ان علياً علیه السلام لم يحقق لهما ما كان يطمحان إليه من ولاية فاستنجدا «في محاربته وتاليب الناس عليه بعائشة»(3) بحجة استبداده بالحكم دون مشورة المسلمين، وإيوائه قتلة عثمان، فكان التظاهرعليه بقصد خلعه ورد الأمر شورى ليختارالمسلمون خليفتهم(4) ، والثأر لعثمان، ولكن أبعاد القضية - كما يراها علي علیه السلام - ليست حسب ما يدعيان، لأن الهوى، وعدم التبصر في العواقب هو الذي جعلها العوبة في يد الشيطان،«فركب بهم الزلل وزين لهم الخطل»(5) . وتسيير امور الناس والحكم فيهم في فكر علي علیه السلام لا يكون وليد تحقيق الرغبات الجامحة والميول الذاتية، لأن

ص: 245


1- صحاح الجوهري 1/ 295
2- ابن منظور: لسان العرب المحيط 3/ 714
3- أحمد امين: يوم الإسلام ص 57
4- راجع بشأن ذلك ما ورد عند ابن قتيبة في الإمامة والسياسة 1/ 68
5- خطب 7

أية سياسة تنبني على رغبات فئة معينة همها المحافظة على امتيازاتها ومصالحها، تؤدي بالمجتمع إلى التناقضات الطبقية التي ينجرعنها في نهاية الأمر تصدع في بنيته الأساسية. فتغليف الفتنة بشعارات براقة لا يغير من كونها فتنة القصد منها تفتيت وحدة المجتمع بضرب فئاته بعضها ببعض. فموقف الناكثين من وجهة نظر علي علیه السلام ليس موقفاً اجتهاديا لأنهم قد سبق أن طلبوا منه الاقتصاص من قتلة عثمان، فوافقهم على ذلك، وطلب المهلة حتى يستتب الامن، وتعود الأمور إلى مجاريها، فينجلي الغموض، وتتبدد غيوم الفتنة كيلا يؤخذ البريء بالمذنب(1) ، الا انهم فيما يبدو لم يكونوا جادين فيما طلبوه، لأن القصد الحقيقي من سخطهم كما يقول علي علیه السلام طلب «هذه الدنيا حسدا لمن افاءها الله عليه»(2) .

فطلحة والزبير حين بايعا علياً علیه السلام، كانا يظنان انه سيستجيب لرغباتهما في الإمرة، ولكنه رفض شرطهما عارضاً عليهما ان يكونا شريكاه «في القوة والاستقامة و(عوناه) على العجز والاود»(3) ، لأن المشاركة في الإمامة غير مقبولة لا عقلاً ولا شرعاً إذ «لا يجوز الاشتراك فيها»(4) . كما ان دوافعهما شخصية، فحين لم يحقق رغبتهما اظهرا التأليب عليه، بحجة انهما بايعا مكرهين(5) ، وان كانت الوقائع التاريخية تشكك في ذلك، فالزبيرمن وجهة نظرعلي علیه السلام قد أضمر في بيعته غير ما كان يظهر. وهو ادعاء متهافت إذا ما وضع في صور مناظرة، لأن الحجة تكون عليه لا له، وفي ذلك يقول علي علیه السلام

ص: 246


1- راجع في ذلك الخطبة - 169
2- خطب 170 - فقرة 2
3- حكم 200
4- الأحكام السلطانية ص 9
5- راجع ما قالاه بشأن ذلك في تاريخ الطبري 4/ 426 ، وايضاً في كامل ابن الأثير 3/ 98

«يزعم أنه قد بايع بيده، ولم يبايع بقلبه، فقد اقر بالبيعة، وادعى الوليجة فليأت عليها بأمر، والا فليدخل فيما خرج منه»(1) لأن من واجب المدعي اثبات صحة ادعائه، وإلا فإن ما يدعيه باطل، فبيعة الزبير لعلي علیه السلام ملزمة وصحيحة، وما دام مقرا بها فمن المحتم عليه ان يقبل الحق، واذا ما احتمى كل من الزبيروطلحة بالسلطة التي يسعيان في الحصول عليها، فانهما سينأيان بنفسهما كما يبدو من قول علي علیه السلام من العقاب لمشاركتهما في دم عثمان(2)، ولما لم يتمكنا من ذلك، اختلقا شبهة تلبس على الناس ما اقترفاه في حق عثمان تبرئهما من دمه، فالسياسة في مثل هذه الظروف تقتضي التمويه، فلم يكن بداً من الحرب، بعد ان حاول علي علیه السلام ان يثنيهما عن ذلك بالتفاهم وتحكيم العقل بقوله «واني لراض بحجة الله عليهم وعلمه فيهم...»(3) ولكنهما أبيا إلا الحرب.

فوقعة الجمل لم تنشب بسبب عدم انعقاد البيعة لعلي علیه السلام كما يزعم القائل «لا تكون البيعة الا باتفاق أهل الحل والعقد»(4) لأن ما أثر عن علي علیه السلام من أقوال تؤكد بيعة طلحة والزبير له بالخلافة(5) ، ويعضد تلك الأقوال ما ذكرته المصادر التاريخية بشأن بيعتهما(6) ، بالإضافة إلى ذلك فإن صاحب المقولة، لم يعرف أصحاب الحل والعقد، وكم عددهم آنذاك والكيفية التي يتم على

ص: 247


1- خطب 8
2- رجع خطب 22 ، فقرة 2
3- السابق
4- فتحي عبد الكريم: الدولة والسيادة ص 257
5- راجع: رسائل - 6، 9، 54 ،
6- راجع بشأن بيعة الزبير وطلحة لعلي علیه السلام: ابن أعثم الكوفي: الفتوح 1/ 431 ، ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة 1/ 47 ، ابن الاثير: الكامل 3/ 98

اساسها اجتماعهم، فطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص من أصحاب الشورىالذين بقوا على قيد الحياة، وقد بايعوا علياً علیه السلام كما بايعه كافة الأنصار سوى عدد قليل منهم(1) ، ثم ان جميع الامصار الإسلامية تبع المدينة، فالبيعة لعلي علیه السلام قد انعقدت بمبايعة من سموا بأهل الشورى، وأهل المدينة، ومن حضر من ثوار الامصار، ولم يحدث حدثاً يبطل خلافته، ولكن اصرار أصحاب الجمل على نكث بيعته، هو العامل الذي ادى إلى اضرام نار الحرب، بقتلهم المسلمين صبراً، واستيلائهم على بيت مال البصرة. يلخص علي علیه السلام ما احدثوه بالبصرة قبل قدومه إليها قائلاً «قدموا على عمالي، وخزان بيت مال المسلمين الذي في يدي، وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي، وعلى بيعتي فشتتوا كلمتهم، وافسدوا على جماعتهم، ووثبوا علي شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدراً، وطائفة عضوا على أسيافهم فضاربوا بها حتى لقوا الله صادقين»(2) .

فبرغم تراكم الاحداث والغموض المحيط بالجو السياسي، فلقد كانت رؤية علي علیه السلام واضحة فكان يسير بخطوات ثابتة ومدروسة، يقول في هذا الصدد «ان معي لبصيرتي، ما لبست على نفسي، ولا لبس علي»(3) . يقابله في الاتجاه الثاني التخبط حيث يقول الزبير قبل بدء المعركة «ما كنت في موطن منذ عقلت الا وأنا أعرف فيه أمري، غير موطني هذا»(4) مما يرجح عدم اثبات أصحاب الجمل على قاعدة صلبة في خروجهم على علي علیه السلام إذ لم يكونوا صادقين حتى مع بعضهم، فقد أثر عن المقربين منهم القول «والله لو ظفرنا لافتتنا، وما خلى الزبير بين طلحة والأمر، ولا

ص: 248


1- راجع في ذلك الشأن قول ابن الأثير: الكامل في التاريخ 4/ 98
2- خطب 213
3- خطب 10
4- تاريخ الطبري 4/ 455 ، 502

خلى طلحة بين الزبير والأمر»(1) فهم حسب قول علي علیه السلام قد «أتلعوا أعناقهم إلىأمر لم يكونوا أهله فوقصوا دونه»(2) .

فعلي علیه السلام لم يكن راغباً في الحرب، ولم يبدأها، وتكاد معظم المصادر التاريخية تتفق في ذلك مع ما أثر عن علي من أقوال، إلا أن الطرف المقابل هو الذي كان يصر عليها لذلك فإن التعويل على الروايات الضعيفة التي تدعي أن إشعال تلك الحرب قد بدأ «من ذوي الاغراض الخبيثة من جيش علي علیه السلام، وهم أولئك الذين اشتركوا في حصارعثمان... فخافوا على أنفسهم إذا ما تم الصلح»(3) لا يثبت حجة، لأن الذين مهدوا لقتل عثمان هم المطالبون بالثأر له «فلم يكن احد من أصحاب النبي صلی الله علیه و آله وسلم أشد على عثمان من طلحة»(4) كما كانت عائشة من أكبر المحرضين على قتله وهي القائلة قبل خروجها من المدينة إلى مكة أثناء حصر عثمان «اقتلوا نعثلاً فقد كفر»(5) .

فوقعة الجمل كحدث مريع، أحدث صدعاً عميقاً في الصف الإسلامي، ولم يكن مقبولاً بحقائقه الأليمة، لأن في ذلك مسّاً بقدر الصحابة وحطاً من مكانة عائشة، ومن أجل تبرئة أولئك، عول على أسطورة (ابن سبأ أو ابن السوادء)(6) التي تفرد الطبري بروايتها، اعتماداً على سند ضعيف مصدره

ص: 249


1- السابق
2- خطب 214
3- محمد الطيب النجار: علي بن أبي طالب نظرة عصرية ص 90
4- العقد الفريد 4/ 299 ، وقد أثر عنه لما صيب في وقعة الجمل بالسهم القاتل «اللهم خذ لعثمان مني حتى ترضى» الكامل في التاريخ 3/ 124
5- تاريخ الطبري 4/ 459
6- ابن السوداء، أو عبد الله بن سبأ: «تنسب إليه الطائفة السبئية، وهم الغلاة من الرافضة، اصله من أهل اليمن، وكان يهوديا من أمة سوداء، فأظهر الإسلام، طاف ببلاد المسلمين ليلفتهم عن طاعة الائمة، ويلقى بينهم الشر، وكان قد بدا اولا بالحجاز ثم بالبصرة، ثم بالكوفة، ثم دخلدمشق في أيام عثمان بن عفان، فلم يقدرعلى ما يريد عند احد من أهل الشام، فاخرجوه حتى اتى مصر فاعتمر فيهم واظهر مقالته بينهم ابن بدران» تهذيب تاريخ ابن عساكر 7/ 431 وقد وردت الاشارات عن عبد الله بن سبا وانسياحة في البلاد أيام عثمان وعلي علیه السلام في تاريخ الطبري (ت 310 ه) 4/ 283 ، 326 ، 331 ، 340 ، 349 ، 398 ، 493 ، 505 . وتاريخ الطبري هو مصدر الاسطورة كما نعتقد وقد أخذها عنه الكثير من المؤرخين الذين اتوا من بعده، فسند الرواية التي عول ابن عساكر (ت 571) في شأن عبد الله بن سبأ هو «روى سيف بن عمر بن أبي حارثة، وأبي عثمان قالا...» ابن بدران تهذيب تاريخ ابن عساكر7/ 432 ، وهو سند رواية الطبري عن سيف، أم ابن الاثير (ت 630) فقد ذكر اعمال عبد الله بن سبأ والسبأية في حكم عثمان ومن ثم في خلافة علي علیه السلام الكامل في التاريخ 3/ 57 ، 72،77،120 ، دون اسناد، لكنه ذكر في مقدمة تاريخه 1/ 5 بأنه في تأليفه قد ابتدأ «بالتاريخ الكبير الذي صنفه الإمام أبوجعفر الطبرس... (فأخذ) ما فيه من تراجمة لم (يخل) بترجمة واحدو منها»، ويعرض ابن خلدون (ت 732) (الرواية عبد الله بن سبأ في موضوع «أمرالجمل» تاريخ ابن خلدون 2/ 606 ، ثم يقول في نهاية الرواية 2/ 622 «هذا أمر الجمل ملخص من كتاب أبي جعفرالطبري اعتمدنا للوثوق بسلامته»، واذا ما رجعنا إلى الطبري في مقدمة تاريخ 1/ 8 فإنه يقول «فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه أو يستشنعه سامعه من أجل انه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وانما اتي من قبل بعض ناقليه الينا، وانا انما ادينا ذلك على نحو ما ادي الينا» فهو يبريء ساحته ويلقي بالمسؤولية التامة على من أخذ عنهم من الرواة واذا ما عدنا إلى سند رواية عبد الله ابن سبأ كما أوردها الطبري، فسنجد أن مصدرها هو سيف بن عمر الضبي، الذي قال عنه الرازي (ت - 327) في كتاب الجرح والتعديل 4/ 278 «ضعيف الحديث.. متروك الحديث، يشبه حديثه حديث الواقدي»، وقال فيه ابن حجر (ت 852) في كتاب تهذيب التهذيب 4/ 495 «سيف بن عمر البرجمي، ويقال السعدي، ويقال الضبعي، ويقال الاسدي الكوفي، صاحب كتاب الردة والفتوح... ضعيف الحديث، ليس خير فيه... قال أبو داود: ليس بشيء. وقال النسائي والدار قطني: ضعيف... وقال ابن حيان: يروي الموضوعات عن الاثبات... وقالوا: انه كان يضع الحديث... وقال الحاكم: اتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط... مات زمن هارون»، فسند الرواية متهافت، اضافة إلى ذلك، فإن كتب الطبقات والتاريخ المعول عليها والسابقة في تاليفها لتاريخ الطبري قد سكتت تماما عن ابن سبأ واعماله الشنيعة تجاه الإسلام، فابن سعد (ت 230) في الطبقات الكبرى 3/ 19 وما بعدها و 53 وما بعدها في سيرتي علي علیه السلام وعثمان؛ لم يات على ذكرابن سبأ واسطورته أثناء ذكره لحوادث عصر كلا الخليفتين، كما لم يذكر ذلك أيضاً البلاذري (ت 279) في انساب الاشراف 2/ 305 وما بعدها، فالاسطورة كما نعتقد من نسج خيال سيف بن عمر ومن شايعه من مرتزقة الرواة ونتفق مع طه حسين بأن «اكبر الظن... ان خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد الله بن سبأ هذا، ليشككوا في بعض ما نسب من الاحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على علي علیه السلام من ناحية اخرى، فيردوا بعض أمرالشيعة إلى يهودي اسلم، كيداً للمسلمين»، الفتنة الكبرى - عثمان 1/ 134

ص: 250

سيف بن عمر(1) ، ولكن ذلك لا يعيّ من الواقع، لأن الذين خرجوا إلى علي علیه السلام من أهل الكوفة لم يلبوا دعوته الا بعد جدل طويل وأخذ ورد، بمعنى انهم كانوا في بداية امرهم مترددين، وقد سجل التاريخ جانباً من ذلك الجدل(2) ، وعليه فإن من خرج منهم إلى علي علیه السلام خرج مقتنعاً، ولو كانت هناك ايد خفية خائفة لسمع صوتها وبان تأثيرها في ذلك الجدل الذي اشترك فيه كل من عمار بن ياسر والحسن بن علي علیه السلام، وهاشم بن عتبه(3) ، وصعصعة بن صوحان(4)،

ص: 251


1- راجع الهامش السابق
2- بشأن ذلك الجدل راجع تاريخ الطبري 4/ 481
3- هاشم بن عتبه صحابي من أصحاب علي علیه السلام استشهد في صفين راجع ترجمته في أسد الغابة 377/5
4- صعصعة بن صوحان العبدي، كان مسلما على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ولكنه لم يره، وهو من سادات عبد القيس - كان من أصحاب علي علیه السلام توفي في أيام معاوية - أسد الغابة 3/ 21

وأبي موسى الاشعري(1) ، ومالك الأشتر(2) ومحمد بن أبي بكر(3) . ثم ان جيش علي علیه السلام - كما تحدثنا المصادر التاريخية - قد كان تحت قيادته المباشرة، ملتزما بتعليماته، من ذلك انه قال للأشتر وقد كان على ميمنته يوم الجمل «احمل فحمل في اصحابه، فكشف من بازائه، ثم قال لهاشم بن عتبه... وكان على الميسرة أحمل فحمل في المضرية، فكشف من بازائه فقال علي علیه السلام لأصحابه، كيف رايتم ميسرتي وميمنتي»(4) ، وفي ذلك ما يدل على انضباط قيادته، وائتمارجنده بإمرته، مما لا يدع مجالاً للدس بينهم، خاصة وان ساسته الحربية تعتمد الدفاع في أية حرب يجبر على خوضها، بالرغم من اعتقاده بسلامة موقفه لأنه يرى ان بدء العدو بالحرب حجة عليه لكونه البادئ، لذلك كان يوصي جنده في كل موطن قتال بقوله «لا تقاتلوا القوم حتى يبدأوكم، فإنكم بحمد الله على حجة، وترككم إياهم حتى يبدأوكم حجة أخرى لكم عليهم»(5) ، فالقتال -

ص: 252


1- أبو موسى الاشعري - عبد الله بن قيس - صحابي استعمله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على ربيد وعدن واستعمله عمرعلى البصرة وأقره عثمان عليها ثم عزله، وكان أحد الحكمين (ت 42 ه) أسد الغابة 3/ 36
2- مالك الأشتر - أحد أشراف الأبطال المذكورين، كاد يهزم معاوية في صفين لولا رفع المصاحف لما رجع من صفين جهزه علي علیه السلام واليا على مصر، فمات في الطريق مسموما سنة ثمان وثلاثين راجع سير أعلام النبلاء، 4/ 34
3- محمد بن أبي بكر من أصحاب علي علیه السلام ولاه مصر، لما رجع معاوية من صفين جهز له جيشاً، فانهزم محمد وقتل واحرق جثمانه سنة ثمان وثلاثين. راجع ترجمته عند العماد الحنبلي شذرات الذهب 1/ 48
4- العقد الفريد - 4/ 325
5- تاريخ الطبري 5/ 10 ، رسائل - 14

من وجهة نظر علي علیه السلام - هو الملاذ الاخير الذي يلجأ إليه مضطراً بعد ان تنفذ كل جهوده السليمة، لأنه يرى نفسه هادئا ومصلحاً لا متسلطاً يسعى إلى الحكم بأية وسيلة(1) .

فحرب الجمل قد خاضها علي علیه السلام مضطراً ليس بفعل المندسين في جيشه، ولكن أراده طلحة والزبير ومعهما عائشة، هي التي حتمت عليه خوضها، خاصة ان اقطاب حرب الجمل الثلاثة قد ادركوا ان المساومة مع علي علیه السلام على حساب المباديء لن تجدي، فلجأوا إلى الحل المسلح لإقصائه حتى يتمكنوا من تحاشي تهمة تالبيهم على عثمان فيما لو استقر الوضع، وكي يصلوا إلى تحقيقهدفهم المادي المشترك المتمثل في تمكنهم من السلطة فيما لو انتصروا عليه.

فطلحة بن عبيد الله التيمي، قد كان من اكبر المؤلبين على عثمان، فهو الذي أمر الثوار بتشديد الحصار عليه، ومنع الماء عنه، كما استولى على مفاتيح بيت المال أثناء الحصر(2) ، وقد حاول علي علیه السلام ثنيه عن كل ذلك، ولكنه ظل مصرا على موقفه(3) ولما قتل عثمان ووجد اقبال الناس على علي علیه السلام بايعه معتقداً انه سينال الخظوة عنده بحكم صحبته فطلب منه ان يوليه البصرة(4) ، فأبى عليه ذلك.

والزبير بن العوام كان من أكبر المعاضدين لعلي علیه السلام، والمساندين لحقه في المطالبة بالخلافة منذ اليوم الذي تمت فيه البيعة لأبي بكر(5) حتى الوقت

ص: 253


1- راجع قول علي علیه السلام عن موقفه من الحرب خطب 54
2- راجع العقد الفريد 4/ 299 وتاريخ الطبري 4/ 379 ، 407 ، والإمامة والسياسة 1/ 38
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع قول طلحة بشأن ذلك - تاريخ الطبري 4/ 405
5- راجع موقفه من بيعة أبي بكر في: الإمامة والسياسة 1/ 11

الذي انعقدت فيه لجنة الشورى، فلقد كان من ضمن الستة الذين رشحهم عمر للخلافة، فتنازل عن حقه في تلك اللجنة لعلي علیه السلام(1) ، إلا أنه غيرموقفه من علي علیه السلام بعد ان تمت البيعة له بعد مقتل عثمان، ويعزى ذلك التغيير فيما نعتقد إلى عدة عوامل، في مقدمتها العامل المادي، إذ لم يكن الزبير راضيا عن نظام المساواة لتعارضه مع مصلحته الذاتية(2) ، كما ان علياً علیه السلام لم يحقق له رغبته في توليته الكوفة(3) ، إذ يبدو من حواره مع علي علیه السلام حول طلب الولاية، ان العامل المادي هو الذي اسخطه على عثمان، إذ يقول هو وطلحة لعلي علیه السلام بعد ان بايعاه «قد رايت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، وعلمت رأي عثمان في بني أمية، وقد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض اعمالك»(4) ، ولما امتنع علي علیه السلام عن الإستجابة لما طلباه، قال الزبير متذمراً «هذا جزاؤنا من علي علیه السلام، أقمنا له في أمر عثمان حتى أثبتنا عليه الذنب، وسببنا له القتل، وهو جالس في بيته، وكفي الأمر، فلما نال ما اراد جعل دوننا غيرنا»(5) ، أضف إلى ذلك تأثير ولده عبد الله ابن اسماء شقيقة عائشة عليه، فلقد كان الطموح إلى الإمارة يملأ حنايا الابن، بحيث لم يترك لأبيه مجالا للتفكير في عاقبة مجابهة علي علیه السلام ونكث بيعته، ولإدراك علي علیه السلام مدى تأثير الابن على ابيه روي عنه قوله «ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى نشأ ابنه المشؤوم عبد الله»(6) . ولقد

ص: 254


1- راجع ذلك عند - ابن عبد ربه - العقد الفريد 4/ 278
2- راجع ص 148 من هذا البحث
3- راجع أنساب الأشراف 2/ 218
4- شرح ابن أبي الحديد 1/ 231
5- ابن قتيبة - الإمامة والسياسة 1/ 51
6- حكم - 461

بذل علي علیه السلام كل ما في وسعه لصد الزبيرعما عزم عليه متبعاً أسلوب الملاينة المقرون بعنصر القرابة، ولكن كل ذلك لم يجد نفعاً، من ذلك أنه قبل بدء القتال قال لابن عباس حين أرسله للتفاهم مع أصحاب الجمل «لا تلقين طلحة، فإنك إن تلقه تجده كالثور، عاقصاً قرنه، يركب الصعب، ويقول: هو الذلول، ولكن الق الزبير، فإنه لين العريكة، فقل له: يقول لك ابن خالك: عرفتني بالحجاز، وانكرتني بالعراق، فما عدا مما بدا»(1) لكن الزبير لم يثب إلى رشده ويعتزل القتال، إلا بعد أن نشب القتال.

عائشة: بدأ صوتها يعلو في أيام حكم عثمان متخذا جانب المعارضة فكانت «أشد الناس تأليباً عليه وتحريضاً»(2) ، والسبب المادي كما يتهيأ لنا هو الدافع وراء ذلك، لأن عثمان قد صيرها «اسوة غيرها من نساء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم»(3) بعدأن كان عطاؤها في عهد عمر يزيد عليهن بألفي درهم(4) ، فدخلت معه في منافرات، وحرضت على قتله(5) ، وكانت تتمنى لوحل في مكانه، طلحة بن عبيد الله التيمي(6) على اعتبار انها تيمية أيضاً فلما قتل عثمان ووصلها خبر مبايعة الناس علي علیه السلام، ادركت ان طموحتها في إرجاع الخلافة تيمية أصبح بعيد المنال(7) ، هذا بالإضافة إلى ما كانت تحمله في نفسها على علي علیه السلام، فكتب السيرة

ص: 255


1- خطب - 31
2- ابن الأثير أسد الغابة - 3/ 591
3- تاريخ اليعقوبي 2/ 175 ، وورد مثله عند ابن أعثم الكوفي في الفتوح 2/ 419
4- راجع سير اعلام النبلاء 2/ 187
5- راجع ص 249 من هذا البحث
6- راجع مقالتها بشأن - طلحة تاريخ الطبري 4/ 407
7- راجع مقالته بشأن مبايعة علي علیه السلام - تاريخ الطبري 359 ، الإمامة والسياسة 1/ 25 ، الكامل في التاريخ 3/ 106

تحدثنا بأنها لم تكن تحب حتى ذكر اسمه(1) .

لقد تهيأت لأصحاب الجمل كل الظروف التي تتيح لهم محاربة علي علیه السلام، حين توفرت لهم الطاعة، والسخاء، والشجاعة، وقد اجمل علي علیه السلام تلك المزايا في قوله «اني منيت بأربعة: ادهى الناس، وأسخاهم طلحة، واشجع الناس الزبير، واطوع الناس في الناس عائشة»(2) والرابع يعلى بن منية(3) الذي وصفه علي علیه السلام بأسرع الناس إلى اشعال الفتن.

فقضية حرب الجمل قد كانت محسومة بالنسبة لعلي علیه السلام، فهولا يجد مبرراً في الخروج على السلطة ما دامت تسير بامور المسلمين بما يتماشى مع القرآن والسنة وتحقيق العدل للجميع فالتصدي للفتنة واخمادها واجب ديني في حالة عدم جدوى النصح، وهو ما يمكن استخلاصه مما أثر عنه علیه السلام من اقوال، فبصدد كشفه أساليب التضليل التي حاول بها أصحاب الجمل تمويه الحقيقة يقول «انا فقأت عينالفتنة، ولم يكن ليجترئ عليها احد غيري، بعد ان ماج غيهبها واشتد كلبها»(4) ، والاجتراء الذي يقصده علي علیه السلام هو تبصره بملابسات الفتنة ومعالجتها بمقتضى الشرع. فإن تكن واقعة الجمل قد احدثت انقساما في الصف الإسلامي، الا ان نتائجها لم تخل من ايجابيات، لم تكن لتعرف لولا تلك المعركة، لأن علياً علیه السلام قد

ص: 256


1- راجع سيرة ابن هشام 4/ 298 ، وتاريخ الطبري 3/ 189
2- ابن عبد البر - الاستيعاب بهامش الإصابة 2/ 221
3- يعلى بن منية - وهو اسم امه واسم ابيه أمية، استعمله عمر على بعض اليمن وكان على الجند باليمن حين بلغه قتل عثمان، فأقبل لنصره، ولكنه لم يدركه، فقدم مكة بعد انقضاء الحج، وأخذ يحرض على الثأر من قتلة عثمان، راجع ترجمته في أسد الغابة 5/ 523
4- خطب - 92

عامل أصحاب الجمل بعد هزيمتهم معاملة تكاد تختلف تماماً عما عهده المسلمون في معاملتهم للمهزومين، حيث يجعلون من اراضيهم واموالهم غنيمة للمحاربين، ومن نسائهم واطفالهم واسراهم سبايا يحق بيعهم واسترقاقهم، ولكن علياً علیه السلام في حرب الجمل لم تأخذ بذلك الاسلوب، مما جعل أصحابه يستغربون تصرفه وينكرونه عليه بقولهم «تحل لنا دماءهم، ولا تحل لنا نساءهم؟ فقال: كذلك السيرة في أهل القبلة، فخاصموه، قال: فهاتوا سهامكم واقرعوا على عائشة...

ففرقوا وقالوا نستغفر الله»(1) ، فحرب الجمل ونتائجها من وجهة نظر علي علیه السلام، مسألة فقهية، وضحت واستبانت حين باشرها بنفسه «اذ لم يكن المسلمون قبلها يعرفون كيفية قتال أهل القبلة»(2) ، فقد أثر عن الشافعي قوله «لولا علي لما عرف شيء من أحكام أهل البغي»(3) ، الا أنها وان حسمت في صالح علي علیه السلام فإنها لم تكن سوى تمهيد لحرب تزعّمها من أسماهم علي علیه السلام القاسطين.

ثانيا: القاسطون - أي بنو أمية:

والقاسطون في اللغة هم الجائرون الباغون، وقد جاء في القرآن الكريم ﴿وَأمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانوُا لَحجهَنَّمَ حَطَبًا﴾(4) ، «لذلك قيل: قسط الرجل:

إذا جار واقسط: إذا عدل»(5) . وفي التفريق بين معنى المفردتين يقول ابن

ص: 257


1- المتقي الهندي - كنز العمال - 11 / 337
2- شرح ابن أبي الحديد 9/ 331
3- المصدر السابق نفسه
4- الجن / 15
5- الراغب الاصفهاني - المفردات في غريب القرآن 608

منظور «اقسط يقسط، فهو مقسط إذا عدل، وقسط يقسط، فهو قاسط إذا جار، فكأن الهمزة في اقسط للسلب كما يقال شكا إليه واشكاه»(1) . ومفردة قاسط التي تعني الجور كمصطلح سياسي، قد اطلقت على الأمويين ومن شايعهم لخروجهم على علي علیه السلام ومحاربتهم له في صفين، فقد أثر عنه قوله «عهد إلي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم أن أقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين»(2) ، وذلك يكشف لنا عن موقف علي علیه السلام المتشدد تجاه الأمويين عامة وتجاه معاوية بن أبي سفيان على وجه الخصوص لم يكن بدافع العصبية أو حب التسلط، وإنما هو موقف تابع من اعتقاد ديني بحت، وان حاولت السياسة الباسه ثوب العصبية، ذلك الوتر الذي حاول الأمويون العزف عليه للوصول إلى ماربهم فكان البدء مطالبتهم الخليفة بالاقتصاص من قتلة عثمان الأموي، فجانب العصبية قد يكون له قيمته العالية في لقضية إذا ما نظرنا إليه من الزاوية الأموية، فقد حتموا بذلك كشعارمن أجل معارضتهم لخلافة علي علیه السلام حين وضعوه كشرط لاقرارهم بخلافته وذلك منذ الأيام الأولى التي انعقد فيها الأمر له، فقد تخلف عن البيعة بعضالأمويين، فبعث إليهم ليكلمهم في ذلك، فتكلم الوليد بن عتبة فقال «يا أبا الحسن، إنك وترتنا بأجمعنا، أما أنا فقتلت أبي صبراً يوم مكة، وخذلت أخي عثمان فلم تنصره، وأما سعيد بن العاص فقتلتَ أباه يوم بدر... وأما مروان فسحقت أباه عند عثمان لما رده إلى المدينة وضمنه إليه، ونحن نبايعك على ان تقتل من قتل صاحبنا... وعلى انك تسوغنا ما يكون منا وعلى انا ان خفناك على

ص: 258


1- لسان العرب المحيط 3/ 86
2- ابن الأثير أسد الغابة 4/ 115 ، لسان العرب المحيط 3/ 86 ، ويمكن مراجعة تخرجيات أخرى للحديث في: فضائل الخمسة من الصحاح الستة لمرتضى الحسيني الفيزو أبادي 2/ 396 وما بعدها

أنفسنا لحقنا بالشام عند ابن عمنا معاوية»(1) فالشروط التي وضعها أولئك الرهط من الأمويين لم تكن في مجملها ذات طابع اسلامي، وانما هي مبنية على العصبية الجاهلية والمادة، وبعيدة عن مفهوم السياسة الدينية(2) ، لذلك فهي تتعارض وفكرعلي علیه السلام، وهذا ما ادى إلى رفضها جملة وتفصيلاً ويكمن ذلك في رده عليهم بقوله «اما ما ذكرتم اني وترتكم فإن الحق وتركم، واما وضعي عنكم ما يكون منكم فليس لي ان اضع عنكم حقا لله تعالى قد وجب عليكم، واما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني اليوم قتلهم لقتلتهم امس، واما خوفكم اياي فإني اؤمنكم مما تخافون»(3) . فالجدل الذي دار بين علي علیه السلام وبين أولئك الأمويين يكشف تباين المواقف الفكرية عند كلا الطرفين، إذ بينما ينطلق فكر علي علیه السلام من قاعدة دينية اساسها الحق والمساواة، وينطلق فكر أولئك من قاعدة اساسها المصلحة الذاتية المتكونة من عناصر مادية واخرى عصبية.

لقد حاول الأمويون كبح جماح رغباتهم في فترة صدر الإسلام، وان لم يخفوا بعض تطلعاتهم التي كانت تصطرع في نفوسهم، فعثمان بن عفان وهومن الصحابة السابقين الأولين الذين دخلوا الإسلام طواعية وعن اقتناع، قد جاء إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم هو وجبير بن مطعم(4) لما قسّم صلی الله علیه و آله وسلم سهم ذوي القربى بين

ص: 259


1- ابن أعثم الكوفي - الفتوح 2/ 441
2- راجع ص 195 وما عبدها من هذا البحث فقد فصلنا القول في واجب الحاكم في فكر علي علیه السلام
3- ابن أعثم الكوفي، السابق 2/ 441
4- جبير بن مطعم من حلماء العرب وساداتهم، يؤخذ عنه النسب لقريش وللعرب قاطبة، كان له عند رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يد، وهو أنه كان أجار رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لما قدم من الطائف حين دعا ثقيفاً إلى الإسلام، وكان أحد الذين قاموا بنقض الصحيفة التي كتبتها قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب، وكان إسلامه بعد الحديبية، وقبل الفتح، توفي سنة سبع وخمسين من الهجرة ابن الأثير: أسد الغابة 1/ 323

بني هاشم وبني عبد المطلب، فقال له «يا رسول الله، هؤلاء بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم، أرأيت بني عبد المطلب؟ أعطيتهم ومنعتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة»(1) ، ونحن إذ نورد هذا الشاهد لا نشك في اخلاص عثمان للإسلام وبذله الأموال الطائلة في سبيل إعلاء كلمته ولكن مبادرته الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بذلك القول تعني التماس السؤدد بالإندماج فيمن خصهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالخمس من ذوي قرباه.

لقد فقد الأمويون كل امتيازاتهم التي كانوا يتمتعون بها في الجاهلية بعد دخولهم الإسلام كرها فعدوا من الطلقاء، بعد ان سن عليهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم يوم الفتح(2) ، ولا بد أن يكون ذلك قد ترك أثراً عمياقاً في نفوسهم، وإن حاولوا اضماره والاندماج في المجتمع الجديد، كما حاول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بدوره استلال النقمة من نفوسهم بتألفهم بالمال، فأعطى أبا سفيان من غنائم حنين «مائة بعير وأربعين أوقية، كما أعطى سائر المؤلفة قلوبهم وأعطى ابنيه يزيد ومعاوية»(3) ، كما استعمل صلی الله علیه و آله وسلم منهم في بعض اعماله من ارتضى دينه ووثوقه من حسن اسلامه مثل إبان بن سعيد بن العاص(4) الذي ولاه صلی الله علیه و آله وسلم البحرين بعد أن «عزل عنها

ص: 260


1- أبو عبيد: الأموال 341
2- سموا بالطلقاء نسبة إلى قول رسول الله يوم الفتح في السنة الثامنة «يا معشر قريش ويا أهل مكة، ما ترون إني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً، أخ كريم، ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء»، سيرة ابن هشام 55/4 ، تاريخ الطبري 61 المسعودي مروج الذهب 2/ 297
3- ابن عبد البر - الاستيعاب بهامش الإصابة 2/ 190
4- إبان بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس، اسلم قبل خيبر وشهدها مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وكان شديداً على رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم والمسلمين قبل إسلامه، اسلم بعد أن عرف حقيقة النبي صلی الله علیه و آله وسلم من راهب بالشام واستعمله الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على البحرين، وكان أحد من تخلف عن بيعة أبي بكر لينظر ما يصنع بنو هاشم، فلما بايعوا بايع، اختلف في سنة وفاته، فقيل سنة اثنتي عشر وقل سنة اربع عشرة بعد الهجرة... وقيل توفي سنه تسع وعشرين. أسد الغابة 1/ 47

العلاء ابن الحضرمي»(1) ، وبعث خالد بن سعيد بن العاص(2) عاملًا على صدقات اليمن ولم يزل على عمله حتى توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، واستعان بعثمان بن عفان على كتابة الوحي(3) وبخالد بن سعيد ومعاوية بن أبي سفيان في كتابة حوائجه(4) ، كل ذلك - على ما نعتقده في سبيل تأليف نفوس الأمويين، وادماجهم ي الحياة الجديدة، فخبت طموحاتهم بعض الشيء وإن كانت لتظهر من الشاذين منهم على شكل تصرفات عدائية بقصد الاستهزاء بالإسلام، الإساءة إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بسبب عدم مقدرتهم على التفاعل مع القيم الإنسانية التي حطت من مكانهم الاستعلائية لتفضل عليهم من كانوا عبيداً وسوقة من الفقراء، وذوي الأنساب الخاملة. فعبد الله بن أبي السرح أخو عثمان في الرضاعة، قد ارتد مشركاً وكان من كتبة الوحي «وصار إلى قريش بمكة فقال لهم: إني كنت أصرف محمداً حيث أريد، كان يملي علي عزيز حكيم، فأقول: أو

ص: 261


1- أسد الغابة 1/ 47
2- خالد بن سعيد بن العاص، من السابقين الأولين في الإسلام لم يتقدم عليه في ذلك سوى علي علیه السلام وأبو بكر وزيد بن حارثة وسعد بن أبي وقاص، هاجر إلى الحبشة فيمن هاجر إليها من المسلمين،شهد مع النبي صلی الله علیه و آله وسلم بعض غزواته، وبعثه عاملا على صدقات اليمن، ولم يزل بها حتى توفي الرسول صلی الله علیه و آله وسلم فرجع وأخواه عمرو وإبان عن أعماهلم، وتاخروا عن بيعة أبي بكر حتى بايعت بنوهاشم، استشهد في وقعة اجنادين سنة ثلاث عشرة من الهجرة أسد الغابة 2/ 98
3- راجع الجهشياري الوزراء والكتاب ص 12
4- السابق

عليم حكيم؟ فيقول: نعم، كل صواب»(1) ، وقد أهدر الرسول صلی الله علیه و آله وسلم دمه يوم الفتح لو لا الحاح عثمان بالشفاعة فيه(2) . ومن ذلك أيضاً طَرْدَه صلی الله علیه و آله وسلم الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس من المدينة، بسبب محاولته إيذاء الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالاستهزاء عليه، وتصنته على بيوته ونقل اخباره «إلى كبار أصحابه من مشركي قريش وسائرالكفار والمنافقين»(3) .

فمن الملاحظ أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد سار في الأمويين بسيرة الترغيب تارة باستئلافهم وتقريب المؤمنين منهم، وباغداق الأموال على الذين لم يثبت الإسلام في نفوسهم، والترهيب تارة أخرى بالقتل والنفي، مما جعل أولئك الذين دخلوا في الإسلام كرها أن يتقبلوا الحياة الجديدة على مضض مع بذلهم كل ما في وسعهم من طاعة مشاركة تخفف عن كواهلهم وطأة الاستصغار الذي لحق بهم جراء دخولهم الإسلام مرغمين(4) ، وحاولوا جاهدين كبح جماح طموحاتهم وإضمارها في أعماقهم، لذلك فما ان انتقل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى الرفيق الاعلى وانعقدت البيعة لأبي بكر حتى ارتفع صوت أبي سفيان بن حرب قائلاً لعلي علیه السلام «مال هذا الأمر في أقل حي من قريش، والله لئن شئت لأملأنها عليه خيلاً ورجالاً»(5) ، إذ تبدو العبارة وكأنها صادرة عن حمية جاهلية أو قل عصبية عشائرية يقصد به صيانة حقوق الهاشميين، ولكن الحقيقة من وجهة

ص: 262


1- أسد الغابة 3/ 259
2- المصدر السابق نفسه
3- الاستيعاب بهامش الإصابة 1/ 317 ، وراجع ترجمته هناك أيضا
4- لمعرفة شعور الأمويين بعد دخولهم الإسلام راجع قول هند وأبي سفيان لابنهما معاوية حين استعمله عمر على مكة - العقد الفريد 4/ 365
5- تاريخ الطبري 3/ 209

نظر علي علیه السلام ليست كذلك، لأنها وان كانت عصبية في ظاهرها، فما هي سوى فتنة اراد بها رأس الأمويين شق عصا المسلمين، لذلك بادره علي علیه السلام بالقول «يا أبا سفيان طالما عاديت الإسلام واهله فلم تضره بذلك شيئاً، إنا وجدنا أبا بكر لها هلاً»(1) ، فعلي علیه السلام أدرى بما يضمره الأمويون للإسلام، فلو كانت مقولة أبي سفيان تلك تعبيراًعن عصبية خالصة، لما سكت عندما خلى له أبو بكر ما كان في يده من الصدقات التي كلفه رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بجمعها قبل وفاته وذلك امتثالاً لنصيحة عمر بأن «هذا قد قدم وهو فاعل شراً، وقد كان النبي صلی الله علیه و آله وسلم يستألفه على الإسلام، فدع ما بيده من الصدقة، ففعل، فرضي أبو سفيان وبايعه»(2) . مع ملاحظة التباين بين موقف علي علیه السلام، وبين موقف أبي بكر من تصرف أبي سفيان، فكلتا الشخصيتين تدركان تزعزع إيمان رأس الأمويين مع التباين في أسلوبهما في معالجة ذلك، فقد استخدم أبو بكر العامل المادي لقطع دابر الفتنة، ولكنه بذلك قوى العزم وانعش الأمل في نفوس الأمويين في تعويض ما افتقدوه من سلطان في ظل الإسلام، وذلك باتباعهم ذات الأسلوب ولكن بطرق مختلفة قد تكون أكثر احكاما ودهاء، اما علي علیه السلام فقد حسم الأمر بفضح أساليب أبي سفيان وكشف نواياه الحقيقة تجاه الإسلام، في محاولة منه لواد أية طموحات غير مشروعة تعود بالضرر على الإسلام، خاصة وأن الإسلام لم يعد في حاجة إلى استئلاف المنافقين وضعفاء الإيمان، بعد ان اشتد عوده وكثرت اعوانه بشهادة عمر بن الخطاب في قوله «كان يتألفكم والإسلام يومئذ ذليل وان الله قدأعز الإسلام»(3) ، فلم تعد الحاجة إليه، لأن المنافقين ومن تابعهم من ضعفاء

ص: 263


1- المصدر السابق نفسه
2- العقد الفريد 4/ 257
3- ابن أبي الحديد 12 / 59

الإيمان أصبحوا قلة لا يشكلون أية خطورة على الإسلام.

ففي نفس الوقت الذي كان فيه الشيخان الأول والثاني قد ارتابا في نوايا أبي سفيان تجاه الإسلام في مطلع حكم أبي بكر كما اسلفنا، فإنهما قد قلدا الأمويين بعض الاعمال المهمة، وذلك على اعتبار ان الإسلام قد ازال ما في نفوس الأمويين(1) من عصبية جاهلية، ولكن الخليفة الرابع لم يثق قط بمعظم الأمويين، خاصة أولئك الذين تأخر دخولهم في الإسلام من الفرعين السفياني والمرواني، إذ يقسم في أحد المواقف تأكيداً لمقولته «والذي فلق الحبة، وبرأ النسمة ما أسلموا ولكن استسلموا وأسروا الكفر فلما وجدوا أعوانا أظهروه»(2) .

فوثوق أبي بكر وعمر بالأمويين عامة وبمعاوية على وجه الخصوص لا يعني سلامة موقفهم بحيث يرتضيهم علي علیه السلام في معاونته على اعباء الحكم، فمعاوية الذي رفع راية العصيان في وجه علي علیه السلام، لابد انه كان يتعجل موت عمر ويتمناه، وقد كان يتكلف ما يرضي عمر، لذلك فلقد تنفس الصعداء حين بلغة نبأ وفاة عمر وهو مازال على ولاية الشام، إذ اعتبر بقاءة في الولاية تزكية له فهو يقول لمن نفاهم إليه عثمان من اعيان أهل الكوفة حين عابوا سياسته وطالبوه بالاعتزال عن ولاية الشام «لقد رأى ذلك عمر بن الخطاب، فلو كان غيري اقوى مني لم يكن لي عند عمر هوادة ولا لغيري، ولم أحدث من الحدث

ص: 264


1- لمعرفة رأي علي علیه السلام في الأمويين راجع: البلاذري - أنساب الأشراف 2/ 103 ، صفين لابنمزاحم ص 215 ، خطب 24 ، 76 ، 91
2- ابن مزاحم 215 ، رسائل - 16

ما ينبغي لي أن أعتزل عملي»(1) ، ثم إن عثمان قد احتج بتلك الحجة(2) على علي علیه السلام حين ناقشه في شأن ولاته وبالاخص معاوية الذي كان يقطع الأمور باسم عثمان الذي لا ينكر عليه ذلك.

لقد وضحت نوايا الأمويين بجلاء في إبان حكومة عثمان، إذ لم يكن في مقدورهم اعتبار الحكم في ظل الشريعة الإسلامية على انه خلافة، بل ملك، فقد استغل الأمويون قرابتهم من عثمان وحبه الشديد لهم اسوأ استغلال فأخذوا «يخضمون مال الله خضمة الابل نبتة الربيع»(3) ، فسعيد بن العاص والي عثمان على الكوفة يرى ان سواد العراق «بستان لقريش»(4) اما مروان بن الحكم(5) فإنه يرى ان الخلافة الإسلامية لن تخرج من البيت الأموي الا بالدم معتبراً إياها سلطانا وملكاً لا خلافة، وذلك بقوله وفي محضر من المسلمين في مسجدهم والحاكم حاضر «أما والله لا يرام ما وراءنا حتى تتواصل سيوفنا وتتقطع أرماحنا»(6) .

فالتسلط والمال هما الهدفان اللذان كان الأمويون يرمون إليهما، وهم في سبيل ذلك مستعدون لدوس القيم الإنسانية، باستخدام أساليب الزيف والتضليل،

ص: 265


1- تاريخ الطبري 4/ 325
2- راجع ص 229 وما بعدها من هذا البحث فقد فصلنا القول في شأن ولاة عثمان هناك
3- خطب - 3.
4- تاريخ الطبري 4/ 323
5- مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية. وهو ابن عم عثمان بن عفان، لم ير النبي صلی الله علیه و آله وسلم لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى اباه الحكم، وكان مع ابيه بالطائف حتى استخلف عثمان فردهما واستكتب عثمان مروان أسد الغابة 5/ 144
6- الزبير بن بكار: الأخبار الموفقيات 618 . وقد ورد مثله في تاريخ الطبري 4/ 334

بحيث وصلت بمعاوية الجرأة ان يوهم طلحة والزبير بأنه بايع لهما بالخلافة على الشام شريطة استظهارهما طلب الثأر لعثمان والتمرد على خلافة علي علیه السلام لنقضها(1) ، غير آبه بما سيراق من دم، وبما سيحل بالاسلام من الكوارث، قد تؤدي إلى تمزيقه وتشتيت وحدته، كل ذلك في سبيل البقاء في السلطة، بعد أن عرف عزم علي علیه السلام على تجريده وبني أمية من المكاسب التي اجتنوها في عهد عثمان، لكونها من وجهة نظر الإسلام ثروات غير مشروعة، إذ يؤثر عن علي علیه السلام قوله في هذا الصدد «ألا ان كل قطيعة اقطعها عثمان، ومال من مال الله فهو رد على المسلمين في بيت مالهم، والله لو رأيناه نكح به النساء، وتفرق به في البلدان، لرددناه، لأن الحق قديم لا يخلق، وأن لكم في الحق سعة، ومن ضاق عنه الحق فالباطل أضيق»(2) .

فالعنصر المادي الذي حاول علي صلی الله علیه و آله وسلم تجريد الأمويين منه، كان هو السبب المباشر في التصدي للتيار الديني الداعي إلى المساواة المتمثل في سياسته التي أعلنها في الأيام الأولى من قبوله الخلافة(3) . وهو ما يدعونا إلى طرح مقولة ابن خلدون «بأن الفتنة بين علي علیه السلام ومعاوية، وهي مقتضى العصبية، كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، ولا لايثار باطل...

وانما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفه كل واحد منهم نظر صاحبه...»(4)

على بساط المناقشة، فمفهوم العصبية في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام - كما يبدو لنا يختلف اختلافاً جذرياً عن مفهومها عند ابن خلدون، الذي يرى ان الدعوة

ص: 266


1- راجع رسالة معاوية إلى كل من طلحة والزبيرشرح ابن أبي الحديد 1/ 231
2- خطب 15 . أورد الرضي القسم الأخير منهاوأخذناها بتمامها من أبي هلال العسكري:
3- راجع خطب 16
4- المقدمة 1/ 269

الدينية لا يمكن ان تتكلل بالنجاح ما لم تعتمد على عصبية قومية(1) ، بانيا نظريته على الحديث الشريف «ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه»(2) ، بينما يرى علي علیه السلام إن الذين أرادوا الكيد بالاسلام وإطفاء نوره هم قوم النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعشيرته من قريش إذ يقول في إحدى رسائله لمعاوية «فأراد قومنا قتل نبينا واجتياح أصلنا، وهموا بنا الهموم وفعلوا بنا الأفاعيل وأحلسونا الخوف، واضطرونا إلى جبل وعر، وأوقدوا لنا نار الحرب»(3) ، فالدين في نبذه للعصبية

ص: 267


1- السابق 1/ 199 ، 200
2- السابق 1/ 199 والحديث كما ورد بنصه عند أحمد بن حنبل الذي انفرد بروايته المسند 2/ 533 قال صلی الله علیه و آله وسلم: قال لوط: لو ان لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، قال: قد كان ياوي إلى ركن شديد، ولكنه عنى عشيرته، فما بعث الله عزوجل بعده نبيا الا في ذروة قومه، قال أبوعمر: فمابعث الله عز وجل نبيا الا في منعة من قومة» فمن الملاحظ أن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لم يقل «في منعة» ولكنه قال «في ذروة قومه» باضافة ذروة إلى قومه «وذروة كل شيء اعلاها»، ابن دريد الجمهرة 2/ 312 ، والذروة هنا كما اعتقد يقصد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بهاعلو النسب وعراقته، وقد كان اعلى قريشاً نسباً واطيبها ارومة، الا انه لم يكن الاقوى ولا الاغنى، بالاضافة إلى ان القول «في منعة من قومه» لم يكن كما يبدو لنا في حديث النبي صلی الله علیه و آله وسلم وإنما كان تعقيباً من الرواي على قوله صلی الله علیه و آله وسلم كما ان الحديث بمفهوم العصبية التي أرادها ابن خلدون، لا يتسق مع ما ورد في القرآن الكريم من ايات بشأن وضع الابناء في اقوامهم، من ذلك قوله تعالى: ﴿ًوَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ﴾ هود/ 89 ، فسياق الاية يدل على ان العصيان والشقاق تجاه دعوات الرسل يأتي عادة من ذوي البأس والقوة في اقوامهم. انظرالأعراف / 148 والتوبة/ 70 وهود/ 60 وق/ 12 ... ولو ان النبي a قد كان في منعة منقومه لما اضطرته قريش هو صلی الله علیه و آله وسلم وآل بيته من الهاشميين والطالبين إلى الشعب ولما عرض نفسه على القبائل الاخرى في مواسم الحج، ولما اضطرته قريش إلى الهجرة عن موطنه في نهاية المطاف
3- رسائل - 9

يجيز مقاومة العشير وقتلهم بدافع الجهاد في سبيل الله وهو فحوى فكر علي علیه السلام الذي يعبر عنه بقوله «لقد كنا مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وان القتل ليدور بين الاباء والأبناء والأخوان والقرابات، فما نزداد على كل مصيبة وشدة إلا إيماناً ومضياً على الحق»(1) . فالعصبية في مفهوم علي علیه السلام كما يتهيأ لنا هي مجموعة من القيم الأخلافية تعني التوق إلى بناء مجتمع مثالي يسير في ظل المبادئ الإسلامية. أما العصبية الأموية فهي مبنية على القيم الجاهلية التي تعتمد على النظرة الضيقة المحصورة في نطاق مصلحة العشيرة، كما أن العصبية الأموية لم تكن في اعتقادنا مبنية على أسس الاقتناع النفسي لكونها غلافاً خارجياً يقصد به المحافظة على المكاسب المادية، لذلك فإن ما اسماه ابن خلدون باجتهاد معاوية لا يتسق مع معنى الاجتهاد في الشريعة وهو «إعمال الرأي في التماس الحكم الشرعي»(2) في حالة عدم وجود نص الحكم لا في الكتاب ولا في السنة، ولكن القضية التي نشب النزاع بسببها بين علي علیه السلام ومعاوية حكمها ثابت شرعاً، كما يتهيأ لنا، لأن الدعوة الأساسية التي عمد معاوية إلى تضليل جمهور أهل الشام والسذج من المسلمين، وطلاب الدنيا من ذوي المصالح، هي الثأر لعثمان من قتلته، وهي دعوى متهافتة من جميع جوانبها كما يتبين لنا من خلال ما تبودل من رسائل بين علي علیه السلام ومعاوية. فمعاوية من الناحية الشرعية ليس هو الولي بدم عثمان حتى يطالب بالثأر من قتلته لأن أبناء عثمان وأخوته أولى منه بذلك(3) ، ثم ان علياً علیه السلام يفترض أنه لو قبل ولاية معاوية في المطالبة بدم عثمان على أساس القرابة، فعلية أولا:ً أن يدخل فيما دخل فيه عموم الناس من بيعة ملزمة، ومن

ص: 268


1- خطب - 121
2- محمد تقي الحكيم: مقدمة كتاب النص والاجتهاد ص 43
3- راجع رسالة علي علیه السلام إلى معاوية: ابن أبي الحديد 3/ 89

ثم يحاكم القتلة أمام القائم بالأمر(1) ، إذ لا يحق شرعاً لأي فرد من أفراد الأمة مهما علت منزلته أن يقتص من مجرم وأن يقيم حداً على زان أو أن يقتل قاتلاً في حالة وجود سلطة شرعية يمكنها القيام بذلك، لأن محاكمة الجناة في الإسلام وفي غيره من الشرائع السماوية والوضعية من اختصاص الحاكم، فقوله تعالى:

﴿وَمَنْ قُتلِ مَظْلوُمًا فَقَدْ جَعَلْنَا لوِلِّیهِ سُلْطَاناً فَلَ يسُرفْ فِی الْقَتْلِ﴾(2) ، وهي الآية التي اعتمد عليها معاوية في تضليله في المطالبة بالاقتصاص من قتلة عثمان، لا تعني في تفسيرها: قيام أهل القتيل وقرابته من الاقتصاص له من قتلته بأنفسهم، بل عليهم أن يمثلوا ومن اتهموه بالقتل أمام الحاكم «فإن حكم بالحق استقيمت حكومته، وإلا فسق وبطلت إمامته»(3) ، لذلك فإن ادعاء معاوية بالتظاهر من أجل دم عثمان، هو في تصور علي علیه السلام مثله مثل «خدعة الصبي عن اللبن في أول الفصال»(4) ، تلك الخدعة التي حاول معاوية التستربها للبقاء في ولاية الشام طيلة حياته وبدون أي التزام تجاه خلافة علي علیه السلام(5) ، مما يعني استعداده للسكوت عن عصبيته في المطالبة بالثأر من قتلة عثمان، فيما لو استجاب علي علیه السلام لطلبه.

فالغرض الدنيوي الذي حاول ابن خلدون تبرئة معاوية منه هو لب ثورته المفتعلة وهو في الوقت نفسه السبب المباشرالذي جعل علياً علیه السلام يقف منه موقف

ص: 269


1- راجع قول علي علیه السلام لمعاوية في شأن عثمان وقتلته الرسالة رقم 64
2- الاسراء/ 33
3- ابن أبي الحديد 18 / 21
4- رسائل - 64 ، الفقرة الأخيرة
5- في طلب معاوية ولاية الشام من علي علیه السلام بتلك الشروط راجع: ابن مزاحم - صفين 470

المتصلب، من أجل افشال مخططات الأمويين وعلى رأسهم معاوية الذي «قاد لمة من الغواة وعمس عليهم الخبر»(1) فجعلهم لا يعرفون من يحاربون(2) .

فمأرب معاوية من العصيان وتجريده الجيوش لمقاتلة علي علیه السلام كما نرى هو مأرب دنيوي، بينما نرى أن موقف علي علیه السلام المتشدد تجاه معاوية ومن شايعه من الأمويين موقف ديني بحت هدفه المحافظة على نصاعة تعاليم الإسلام، لأن الحزم عنده «أن يخطر أمر الدين ثم لا يفكر في الموت»(3) .

فسياسة معاوية كما تبدو من وجهة نظر علي علیه السلام مبنية على التلون حسب مقتضيات الظروف، مع استخدام جميع الأساليب المتاحة التي تمكنه من غرضه، فتارة يطالب بدم عثمان واخرى يلح على علي علیه السلام بإقراره على الشام، تم أنه يهدد تارة ثالثة بالحرب، ويأمر بقتل النساء والأطفال وترويع الآمنين(4) ، في الوقت نفسه الذي ينادي فيه بإنها الحرب، لما احدثته من خسائر في الأرواح والأموال مستجيراً في ذلك برابطة الرحم(5) . على ان موقف علي علیه السلام من كل تلك الاساليب المتلونة واحد لم يتغير، وهواعتبارمعاوية فرداً من أسرة هدفها جعل الإسلام مطية لتحقيق أغراضها، فوجودهم ضمن المجتمع الإسلامي فتنة

ص: 270


1- خطب - 15
2- لقد مارس معاوية مع أهل الشام كل أساليب التضليل التي تنأى بهم عن معرفة حقيقة علي علیه السلام راجع على سبيل المثال: ابن الاثير: الكامل في تاريخ 3/ 159
3- المبرد: الكامل في الأدب 1/ 206
4- قول على علیه السلام« وقد بلغني ان الرجل منهم يدخل على المرأة المسلمة والاخرى المعاهدة... الخطبة» خطب 27 . هو من الصور البشعة التي كان جنود معاوية يمارسونها أثناء غارتهم على اطراف بلاد الإسلام في خلافته
5- يمكن استنتاج ذلك من رسالة رقم 17 وهي رد على رسالة من معاوية

شغلت حيزاً واسعاً من فكر علي علیه السلام، فتكرر ذكرهم في نهج البلاغة ما يقارب من اربع وخمسين مرة في ثمانية وثلاثين نصا أثرت عن علي علیه السلام(1) ، مما يعني استيعاب قضيتهم لمساحة واسعة من فكره السياسي، ليس بصفتهم معارضة هدفها اثراء الحوار الفكري والسياسي، ولكن لكونهم خطراً يهدد الإسلام من الداخل، ويحاول تقويض دعائمه الرويحة، لذلك فإن من أهم الأسباب التي جعلت علياً علیه السلام يقبل الخلافة، في وقت لم تكن فيه الا مجرد مشكلة سياسية معقدة تجلب المتاعب والمحن لمن يتقلدها، الا لخوفه من استحواذ بني أمية عليها مما يتيح لهم تصريف شؤون الدين بحسب أهوائهم(2) .

لقد شكل الأمويون خطراً حقيقياً على الإسلام سبب لعلي علیه السلام قلقاً فكرياً، باستخدامهم الأساليب الملتوية للوصول إلى غاياتهم دون مراعاة لأية قيمة دينية، فمعاوية يعقد صفقة بينه وبين عمرو بن العاص حين يجعل مصر - التي لم تكن تحت إمرته - طعمة لعمرو بن العاص طيلة حياته في سبيل استمالته إلى جانبة ضد علي علیه السلام(3) ، ثم أنه يعقد صفقة ثانية مثلها مع خالد بن المعمر(4)

ص: 271


1- راجع الخطب: 43، 51، 55، 74، 76، 82، 85، 91، 95، 99، 103، 105، 136، 156، 160، 162، 164، 168، 178، 198، 236، والرسائل: 6، 9، 10، 15، 16، 27، 31، 32، 36، 43، 53، 57، 63، 69، والحكم: 120، 464، مع ملاحظة أنه تارة يعبرعن ذلك ببني أمية، وتارة أخرى بأهل الشام وثالثة بمعاوية ويقصد من ذلك الأمويين على ما نعتقد
2- راجع قول علي علیه السلام في ذلك عند: البلاذري، أنساب الأشراف: 2/ 103
3- راجع الإمامة والسياسية 1/ 97
4- خالد بن المعمر الدوسي، كان رئيس بكر بن وائل في عهد عمر، وكان خالد مع علي علیه السلام يوم الجمل وصفين م امرائه، وعلى ما يبدو لم يكن مخلصاً لعلي علیه السلام بدلالة قوله الشاعر لمعاوية (طويل) وقائله مجهول: معاوي أمر خالد بن معمر *** فإنك لولا خالد لم تؤمر وقد أمّره معاوية على أرمينية فوصل إلى نصبين فمات بها ابن حجر - الإصابة 1/ 461

قائد ميمنة علي علیه السلام ورأس من رؤوس ربيعة بصفين يجعل فيها خراسان طعمة له فيما لو تراجع عن مسيرته «وقد شارفوا أخذه»(1) ، كما كان يستخدم أساليب الكذب والتضليل فيما لو أعيته الحيل من استمالة الرجال، من ذلك ما ادعاه من دخول قيس بن سعد بن عبادة (2) - والي مصر من قبل علي علیه السلام - في طاعته بعد ان يئس من استمالته، مما أدى بعلي علیه السلام إلى عزله رغم اخلاصه، وذلك بإلحاح من بعض رجاله الذين انطلت عليهم خدعة معاوية وشكوا في نزاهة سعد وصدقة(3) ، وهو ما كان معاوية يرمي إليه من وراء كذبته تلك، كما أنه استغل المال أبشع استغلال لشراء ضمائر ذوي الأطماع، فقد أخذ في مكاتبة وجوه أهل العراق، كالأشعث بن قيس وغيره، والبذل لهم بسخاء في سبيل تخذيل الناس عن علي علیه السلام، وبلغ به القول عن بذل الأموال في سبيل ذلك «والله لأستميلن بالأموال ثقات علي علیه السلام ولأقسمن فيهم المال حتى تغلب دنياي على آخرته»(4) .

لكن كل تلك الأساليب الملتوية التي اتبعها الأمويون بقيادة معاوية لم تكن لتخفى على علي علیه السلام، ولا على أولي العزم من أصحابه الذين عاشروا الأمويين

ص: 272


1- ابن أبي الحديد 5/ 228
2- قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري الخزرجي من فضلاء الصحابة، وهو من ذوي الرأي والمكيدة في الحرب، مع النجدة والشجاعة، وكان من النبي صلی الله علیه و آله وسلم بمنزلة صاحب الشرطة من الأمير، مما يلي من أموره، صحب علياً علیه السلام لما بويع له بالخلافة، واستعمله على مصر، فكايده معاوية فلم يظفرمنه بشيء، فكايد علياً علیه السلام وأظهر أن قيساً قد صار معه يطلب بدم عثمان، فبلغ الخبرعلياً علیه السلام، فلم يزل به محمد بن أبي بكر وغيره حتى عزله، صار مع الحسن بعد مقتل علي علیه السلام توفي سنة تسع وخمسين أسد الغابة 4/ 424
3- راجع البلاذري - أنساب الأشراف 2/ 288 ، ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 138
4- ابن مزاحم - صفين ص 319 وص 436

وخبروا نواياهم، فكان قول عمار بن ياسر«والله ما طلبتهم بدمه أي دم عثمان ولكن القوم ذاقوا الدنيا فاستحبوها واستمروءها وعلموا ان الحق ان لزمهم حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من دنياهم»(1) انعكاساً لفكر علي علیه السلام تجاه الأمويين، بحيث اعتبرهم فتنة لابد من استئصالها من جذورها، أو على الأقل تبصير المسلمين بمدى خطورتها لأنها «فتنة عمياء، مظلمة عمت خطتها، وخصت بليتها وأصاب البلاء من أبصر فيها وأخطأ البلاء من عمي عنها»(2) .

لقد بذل الأمويون كل ما في وسعهم من جهد لزحزحة علي علیه السلام عن موقفه الفكري تجاههم، فلم يتمكنوا من تغيير سياسته تجاههم، قيد أنملة، فاستمرت مقاومته، لا تجاههم المادي بكل ضراوة سواء أكان ذلك باللسان أم بالسيف، فلما احسوا بعدم قدرتهم على مقاومته وان نهايتهم قد قربت في صفين، لجأوا إلى حيلة رفع المصاحف(3) ، كورقة يدرأون بها الهلاك عن أنفسهم، مما فتح لعلي علیه السلام جبهة معارضة ثالثة، تولدت هذه المرة من بين أصحابه الذين حارب بهم أصحاب الجمل، والأمويين في صفين، فاضطر غير راغب إلى مواجهة تلك المعارضة التي أطلق على رجالها: لقب المارقين.

ثالثا: المارقون، أي الخوارج:

المروق هو الخروج من غير مدخله، والمارقة «الذين مرقوا من الدين لغلوهم

ص: 273


1- السابق
2- خطب - 92
3- راجع ذلك مفصلا عند نصر بن مزاحم - صفين ص 478 وما بعدها وتاريخ الطبري 5/ 48 وما بعدها، وكامل ابن الأثير 3/ 160

فيه»(1) ، ولقد أطلق لقب المارقين على الخوارج لغلوهم في الدين، وتكفيرهم كل من يخالف عقيدتهم(2) وسموا أيضاً بالمحكمة الأولى لرفضهم صحيفة التحكيم(3) بعد أن أجبروا علياً علیه السلام على قبول عرض أهل الشام بتحكيمالقرآن، إثر رفعهم المصاحف حين أوشكت أن تحل الهزيمة بهم، وأدركوا أن لا مفر من القيام بعمل يفت من عزيمة أصحاب علي علیه السلام، ويحول بينهم وبين النصر المحقق.

1 - موقف علي علیه السلام من قضية رفع المصاحف:

قد يقال إن قضية رفع المصاحف في صفين، هي من وحي ساعة الهزيمة كما تذكر معظم المصادر التاريخية(4) ، ولكن المرجح غير ذلك، لأن المفروض في أية قيادة عسكرية قبل عزمها على مواجهة عدوها أن تضع في حسبانها احتمالي النصر والهزيمة، وتضع لكلا الاحتمالين خطته المناسبة. لذلك فمن المعتقد ان قضية رفع المصاحف كانت محسوبة تماماً، ومخطط لها من قبل، باتفاق قد يكون مجرد فكرة في البداية، ولكن استطالة أمد الحرب، جعل ذلك الاتفاق شبه مؤكد بالنسبة لمعاوية، والمخذلين في جيش علي علیه السلام، خاصة أن المصادر التاريخية تطلعنا

ص: 274


1- لسان العرب المحيط 3/ 472
2- راجع عقائد الخوارج عند الاشعري، مقالات الإسلاميين ص 86 وما بعدها
3- راجع: الشهرستاني: الملل والنحل 1/ 115
4- راجع ذلك عند: البلاذري: انساب الأشراف 2/ 323 ، الدينوري: أخبار الطوال ص 188 اليافعي: مرآة الجنان 1/ 138 ، أما ابن مزاحم - صفين، ص 477 فيرى ان قضية رفع المصاحف قد أعد لها من قبل

على جوانب كثيرة من الحوار المتبادل بين طرفي النزاع فجاء أثناء فترات الهدنة(1) .

ثم أن فكرة تحكيم القرآن - في حد ذاتها - ليست جديدة أو مفاجئة بالنسبة لكلا طرفي النزاع، فلقد سبق ان عرضها علي علیه السلام على أصحاب الجمل، ولكن قبل نشوب المعركة كحل يتفادى به احتكام المسلمين إلى السيف(2) ، وليس عرضه على معاوية الدخول فيما دخل فيه الناس، ثم محاكمة قتلة عثمان بالقرآن(3) ، إلا من قبيل حقن الدماء، لذلك فليس من المستبعد ان يعلم أهل الشام بما فعله علي علیه السلام «من رفع المصاحف لأهل الجمل ففعلوا مثله»(4) .

فالمفاجأة لا تكمن في رفع المصاحف، ولكنها تكمن في توقيت رفعها، وهو مما أوقع كثيرٌ من فرق الجيش المنتصر في الإرتباك والحيرة، ثم توقفها عن مقاتلة من لجأوا إلى القرآن حكماً. وهنا في هذا الموقف الدقيق والمحير تتجلى رباطة جأش علي علیه السلام وبعض أصحابه المخلصين، بإصرارهم على مواصلة القتال حتى النهاية، لا لأنهم لا يريدون النزول إلى حكم القرآن، ولكن مواصلة القتال كما يقول «ليدينوا بحكم القرآن، فإنهم عصوا الله فيما أمرهم، ونقضوا عهده، ونبذوا كتابه»(5) ، إلا أن استطالة امد الحرب، وما احدثته المفاجأة من تشتت فكري، حال بين علي علیه السلام وبين اقناع أولئك المتمردين بالمضي في الحرب حتى

ص: 275


1- راجع على سبيل المثال: الرسالتين المتبادلتين بين علي علیه السلام ومعاوية في صفين شرح ابن أبي الحديد 250/17 ، بشأن تداخل طرفي النزاع وتسامح بعضهما عن بعض راجع: صفين ص 332 ، 334 ، 335، 366، 368، 385
2- راجع ذلك عند الطبري: تاريخ الرسل والملوك 4/ 511، ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2/ 477
3- راجع قول علي علیه السلام لمعاوية بشأن ذلك: رسائل 64 ، فقرة 5
4- أنساب الأشراف 2/ 323
5- ابن مزاحم - صفين، ص 489 - 490

نهايتها، في مقابل إصراره «جاءه زهاء عشرين الفاً مقنعين في الحديد شاكي السلاح سيوفهم على عواتقهم... فنادوه باسمه، لا بإمرة المؤمنين: يا علي علیه السلام أجب القوم إلى كتاب الله إذا دعيت إليه، والا قتلناك»(1) . مع ملاحظة أن ذلك الحماس الجامح لم يكن عن اقتناع إيماني، وإنما هو وليد عاطفة آنية، ناجمة عن نظرة سطحية في مجريات الحوادث.

فمحاربتهم لمعاوية ومن ناصره من أهل الشام، قد كانت نابعة من اعتقاد ديني هدفه ارجاعهم عن ضلالهم، وها هم قد ثابوا إلى رشدهم، واستجابوالما يراد منهم لذلك فمن الملزم الاستجابة لطلبهم بالنزول إلى حكم القرآن في قضية الحاكم المقتول (عثمان). وقد حاول علي علیه السلام جاهداً ثنيهم عن عزمهم، وحثهم على مواصلة القتال بتبصريهم بحقيقة الأمويين من خلال مرارة تجربته معهم، فهم من وجهة نظره «ليسوا بأصحاب دين ولا قرآنٍ... والله ما رفعوها - أي المصاحف - إنهم يعرفونها ويعلمون بها، ولكنها الخديعة والوهن والمكيدة»(2) ، فما اقدموا عليه بعد شعورهم بالهزيمة، كما يقول علي علیه السلام «ظاهره إيمان وباطنه عدوان، وأوله رحمة وآخره ندامة»(3) لذلك فمن واجب أهل العراق، المضي فيما هم عليه من جهاد العدو حتى النهاية «دون الإلتفات إلى ناعق نعق، ان أجيب أضل وان ترك ذل»، لكن جهوده في إقناعهم لم تفلح فأوقهم تقديرهم المرتجل في شرك الخديعة التي حذرهم علي علیه السلام منها، والتي يمثل توقيت رفع المصاحف الجانب الأول منها، تلاه

ص: 276


1- السابق
2- المصدر السابق
3- خطب - 121 ، فقرة 2

اختيار من يمثل الطرفين في الحكم بالقرآن، في القضية المختلف فيها.

2 - اختيار الحكمين وموقف علي علیه السلام من ذلك:

بعد أن أجبر علي علیه السلام على وقف القتال، تبرع الأشعث بن قيس(1) بالوساطة بين علي علیه السلام ومعاوية، فاتفق هو ومعاوية على اختيار حكمين(2) ، مهمتهما فض نزاع الطرفين حسب شروط يتفق عليها. وقد حزم معاوية أمره على أن يكون عمرو بن العاص ممثلاً له في ذلك التحكيم(3) ، وتلافياً من وقوعه فيما لا يحمد عقباه من نتائج حاول ان يسد الباب في وجه علي ،علیه السلام ويحول بينه وبين اختيار من يرتضيه حكماً، فاقترح على الأشعث، بطريقغير مباشرة، أبا موسى الأشعري ليقوم بمهمة تمثيل أهل العراق في التحكيم، وذلك بعد ان أجال فكره في رجال علي علیه السلام، قال للأشعث، على

ص: 277


1- الأشعث بن قيس واسمه معدي كرب بن قيس، أسلم في السنة العاشرة من الهجرة، كان ممن ارتد بعد النبي صلی الله علیه و آله وسلم، فسير أبو بكر الجنود إلى اليمن، فأخذوا الأشعث أسيراً، فأحضر بين يديه فقال له: استبقني لحربك وزوجني أختك، فأطلقه أبو بكر وزوجه أخته... توفي بعد علي علیه السلام بأربعين ليلة سنة اربعين من الهجرة أسد الغابة 1/ 118 . قال الطبري في التاريخ 3/ 338 : كان الأشعث «يلعنه المسلمون، ويلعنه سبايا قومه، وسماه نساء قومه: عرف الناركلام يمان يسمون به الغادر»، وقال عنه ابن أبي الحديد 1/ 297 «كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي علیه السلام وهو في أصحاب أمير المومنين علیه السلام كما كان عبد الله بن سلول في أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه
2- راجع صفين ص 498 ، 499
3- المصدر السابق نفسه

سبيل الاقتراح المتضمن النصح «إن الناس قد ملوا هذه الحرب، ولم يرضوا إلا رجلاً له تقية، وكل هؤلاء لا تقية لهم يعني رجال علي علیه السلام المخلصين ولكن انظروا اين انتم من أصحاب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، تأمنه أهل الشام، وترضى به أهل العراق، فقال عتبة: ذلك أبو موسى الأشعري»(1) ، فوجد الاقتراح قبولا عند الأشعث، فكان لمعاوية ما أراد. فعلي علیه السلام على الرغم من انحراف أبي موسى الاشعري عن علي علیه السلام الا ان الاشعث وبقية اليمانية(2) في جيشه، بالإضافة إلى القراء، قد ألزموه على قبوله رغم محاولاته المستميتة في رفضه، وتنبيه أولئك المتمردين بمغبة اختيارهم، علهم يتركون له مجال ترشيح من يراه أهلاً لمواجهة دهاء عمرو بن العاص. لكن إرادته لم تفلح للمرة الثانية، فاستقر راي الفريقين على الحكمين برضا معاوية، وسخط علي علیه السلام، ولم يبق الا الاتفاق على شروط التحكيم وكتابتها.

3 - شروط التحكيم وما تنطوي عليه من أبعاد:

لقد تم بين قيادة العراق المتمثلة في الخلافة الشرعية وبين قيادة الشام المتمثلة

ص: 278


1- ابن قتيبة الإمامة والسياسة 1/ 129. أما عتبة الذي ذكر أبا موسى الاشعري تعقباً على حديث معاوية، فهو عتبة بن بي سفيان (ت 44 ه) أخو معاوية - ترجمته في أسد الغابة 3/ 560، اما الاقتراح بترشيح أبي موسى الاشعري بالذات فلأنه منحرف عن علي علیه السلام، ثم انه ضعيف الشخصية بإزاء دهاء عمرو بن العاص. راجع بذلك الشأن ما قاله علي علیه السلام عنه في صفين ص 499 وما أورده ابن عبد البرعن انحراف الأشعري عن علي علیه السلام في: الاستيعاب بهامش الإصابة 372/2 وعن الخلل في شخصية أبي موسى الاشعري. راجع وصية معاوية لعمر بن العاص حين توجه إلى مكان التحكيم عند: ابن عبد ربه العقد الفريد 4/ 347
2- إصرارا اليمانية على أبي موسى الاشعري لأنه يماني - راجع صفين ص 500

في الإمارة المتمردة، على صيغة التحكيم وشروطه التي من أهمها: رضا أهل العراق واهل الشام النزول «عند حكم القرآن، والوقوف عند أمره، وأن لا يجمع

(بينهم) الا ذلك (وأنهم) جعلوا كتاب الله فيما بينهم حكماً فيما (اختلفوا) فيه من فاتحته إلى خاتمته»(1) . فالإختلاف الأساسي بين الطرفين هو مطالبة معاوية الاقتصاص من قتلة عثمان ليس غير، والقضية محسومة سلفاً من وجهة نظر علي علیه السلام، الذي لا يرى في مطالبة معاوية تلك أي مبرر للخروج على الخلافة الشرعية. وهذا ما جعل الحقيقة تتكشف لأولئك الذين اغتروا برفع المصاحف من أصحاب علي علیه السلام، فثابوا إلى رشدهم، ولكن بعد أن تم توقيع الصحيفة، مما لا يمكن معه نقضها أطلاقا على الأقل من وجهة نظر علي علیه السلام لما تتضمنه من التزام خلقي فحواه المحافظة على العهد والتمسك بالمواثيق.

فلقد عاد أولئك الذين أرغموا عليا علیه السلام على ايقاف الحرب، يطالبونه باستئنافها مقرين بخطئهم، وبمشاركته الذنب معهم حين استجاب لهم، متأولين بذلك الاقرار بالذنب والتوبة عما بدر منهم(2) ، لكن علياً علیه السلام لم يقبل عذرهم، ولا طلبهم باستئناف القتال - لا لأنه لا يرغب في مواصلتها - ولكنه ملتزم بعهد لا يمكنه نقضه، لأن في ذلك نقضاً لقوله تعالى:

﴿وَأ وْفُوا باِلْعَهْدِ إنِ الْعَهْدَ كَنَ مَسْئُولًا﴾(3) مما يخالف منهجه الإسلامي.

ص: 279


1- صفين ص 499 وما بعدها
2- راجع السابق ص 513 وما بعدها
3- الإسراء / 34

خلاف علي علیه السلام مع الخوارج وما ولده من جدل:

إن المواجهة بين علي علیه السلام والخوارج تكمن في اختلاف وجهتي نظرهما من نواحٍ عدة فكرية تضمنتها صحيفة التحكيم بعد إقرارها، ويمكن تبيان ذلك الخلاف من خلال نقاط ثلاث هي:

1 - مفهوم تحكيم القرآن كما نصت عليه الصحيفة: فقد تأول الخوارج ما جاء في صحيفة التحكيم بشأن رجوع الحكمين إلى القرآن فيما اختلف طرفا النزاع فيه، على أنه تطاول على القرآن بقبول علي علیه السلام تحكيم الرجال فيه والوصاية عليه(1) . وهو تأويل ينم عن قصور في نظرتهم الفكرية تجاه استنباط الأحكام من القرآن الكريم. وقد حاول علي علیه السلام ان ينبههم لذلك بقوله «أنا لم نحكم الرجال، وإنما حكمنا القرآن، وهذا القرآن هو خط مستور بين الدفتين، ولا ينطق بلسان، ولا بد له من ترجمان، وانما ينطق عنه الرجال... وقد قال الله سبحانه:

﴿فَإنِ تَنَازَعْتُمْ فِی شَیءٍ فَرُدُّوهُ إلِی الله وَالرَّسُولِ﴾، ورده إلى الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ان نأخذ بسنته»(2) .

فصحيفة التحكيم لم توكل للحكمين الوصاية على كتاب الله، بل جعلتهما ناطقين فيما اختلف الفريقان عليه، مما يعني الخطأ في فهمهم لمقولة «لا حكم الا الله» لأن الله سبحانه قد امضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع باستنباط الأحكام مما نص القرآن عليه.

ص: 280


1- راجع بذلك الشأن الدينوري: الأخبار الطوال ص 196 ، 197
2- خطب 125 . والاية من سورة النساء/ 59

إسقاط علي علیه السلام حقه في الخلافة بتخليه عن لقب أمير المؤمنين في الصحيفة:

ويرى علي علیه السلام ان موافقته على محو اللقب من تلك الوثيقة لا يغير من واقع كونه الخليفة الشرعي وهو بعملة ذلك انما أخذ بسابقة حدثت للرسول صلی الله علیه و آله وسلم من قبل، فقد وافق صلی الله علیه و آله وسلم من محو لقب (رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من صحيفة صلح الحديبية، نزولاً عند رغبة الكفار، مما يعني ضمنا اعتبار علي علیه السلام بني أمية في عداد المنافقين الذين اظهروا الإسلام واسروا الكفر، مثلهم مثل الكفار الذين كتب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم معهم صحيفة صلح الحديبية(1) .

3 - موافقة علي علیه السلام على شرط الهدنة التي نصت الصحيفة عليها:

فقد نعي الخوارج على علي علیه السلام التزامه بفترة الهدنة التي نصت الصحيفة عليها - مما يعني من وجهة نظرهم - تساهله في طلب الحق، وقد بين لهم، أن سبب قبوله فترة الهدنة تلك، لا يعني تراخيه وفتوره عن مطالبة الحق، لكنه يعني افساح المجال للطرف المقابل في التفكير «ليتبين الجاهل ويثبت العالم، ولعل الله أن يصلح في هذه الهدنة أمر هذه الأمة، ولا تؤخذ بأكظامها فتعجلعن تبين الحق»(2) .

ولكن إسقاط الحكمين رغبتهما الذاتية في فحوى التحكيم، بعد فترة الهدنة أدى إلى توسيع هوة الخلاف بابتعادها عن مناقشة جوهر الخلاف الكامن فيما نصت عليه

ص: 281


1- راجع محو النبي صلی الله علیه و آله وسلم اسمه من صحيفة الحديبية، نزولا عند رغبة قريش وقوله لعلي (لتبتلين بمثلها). ابن الأثير الكامل في التاريخ 2/ 138 ، ثم راجع موقف علي علیه السلام من كتابة وثيقةالتحكيم، والجدل الذي دار بينه وبين عمرو بن العاص حين وافق على محو امرة المؤمنين من اسمه. صفين 508 ، الأخبار الطوال ص 194 ، شرح ابن أبي الحديد 2/ 532
2- خطب 125 . والأكظام جمع كظم: مخرج النفس: والاخذ بالأكظام: المضايقة

الوثيقة من شرط فحواه، جعل القرآن حكماً في ما اختلف الطرفان فيه. فكلا الحكمين قد جاء إلى مكان التحكيم حاملاً خلفيات مسبقة، لا تمت لقضية الخلاف بصلة.

فوثيقة التحكيم لم تنص اطلاقا على مناقشة تغيير الخليفة، أواستحقاق الخلافة، ثم انها لا تخول الحكمين حق التثبيت والخلع، فأهل الشام كانوا قد بايعونا معاوية على الأخذ بالثأر من قتلة عثمان(1) ، وكان ذلك مطلبهم حتى اليوم الذي توقف القتال فيه، مما يعني أن الخلاف الذي يجب أن يعرضه الحكمان على كتاب الله هو الحكم في (مقتل عثمان)، اما رغبة أبي موسى الاشعري في احياء سيرة عمربن الخطاب(2) ، ورغبة عمرو بن العاص في تثبيت معاوية حاكماً(3) ، فذلك من وجهة نظرعلي علیه السلام خروج عن روح الصحيفة، ونبذ لكتاب الله بتحكيم الرغبات والأهواء(4) لذلك فليس ثمة خدعة فيما صدرعن الحكمين من حكم، فقد تكون الخديعة في توقيت ايقاف الحرب المفاجئ، وفي ترشيح أبي موسى الأشعري ممثلاً عن أهل العراق، وقد حاول علي علیه السلام تلافي كل ذلك في ابانه، الا ان نتيجة التحكيم لم تكن مفاجئة بالنسبة لعلي علیه السلام ولأصحابه المخلصين لعلمهم بدخيلة كلا الحكمين.

لقد أحدثت نتيجة التحكيم شرخاً عميقاً في صفوف رجال علي علیه السلام، إلا انها لم تغير من موقفه الصلب تجاه معاوية في معاودة الكرة لإزالته ومن شايعه من القرشيين، لذلك فقد بذل كل ما في وسعه من جهد لإقناع الخوارج بالعودة إلى الجماعة، محاولاً توضيح ما وقعوا فيه من لبس بخلطهم بين مفهومي الحكومة والتحكيم. وجره ذلك إلى الدخول معهم في صراع فكري ثري وعميق، اتخذ

ص: 282


1- راجع ابن مزاحم - صفين ص 32 ، 541 وما بعدها
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- راجع خطب 125

مسارب متعددة يمكننا من خلالها استكناه فكره في محاربته لأهل الملة(1) ، وحقيقة الكفر والايمان ومعنى التوبة(2) . ويبدو أن تلك المناظرات الفكرية قد بلغت من الاتساع الحد الذي ادى بالخوارج إلى اللجوء إلى تأويل آيات القرآن الكريم بما يتناسب وميولهم الفكرية، مما حد بعلي علیه السلام إلى أن يوصي ابن عباس أثناء مناظرته مع الخوارج أن يعتمد على السنة دون القرآن بقوله «لا تخاصمهم بالقرآن، فإن القرآن حمال، ذو وجوه، تقول ويقولون...، ولكن حاججهم بالسنة، فإنهم لن يجدوا منها محيصا»(3) ، وكاد ذلك الجدل أن يؤتى ثماره، حين عاد الخارجون عن الجماعة إلى صفوف أصحاب علي علیه السلام بعد ان اقنعهم بالاستغفار والتوبة(4) .

موقف الأشعث بن قيس من عودة الخوارج:

لم تكن عودة الخوارج وانتظام أمر الإمام علي علیه السلام في صالح الأشعث ومن

ص: 283


1- راجع المناظرات التي دارت بين الخوارج وعلي علیه السلام عند: السكوني: عيون المناظرات ص 169، 180، 181
2- المصدر السابق نفسه
3- رسائل - 77
4- يقول ابن أبي الحديد 2/ 280 : حاول علي علیه السلام أن يسلك مع الخوارج مسلك التعريض والمواربة من ذلك أنهم قالوا له: تب إلى الله مما فعلت، كما تبنا ننهض معك إلى حرب أهل الشام فقال لهم كلمة مجملة مرسلة، يقولها الأنبياء والمعصومون وهي قوله: استغفر الله من كل ذنب، فلم يتركه الأشعث، وجاء إليه مستفسراً وكاشفاً، وهاتكاً ستر التورية... ولم يستفسره عنها الا بحضورمن لا يمكنه أن يجعلها معه هدنة على دخن... والجأه بتضييق الخناق عليه، أن يكشف ما في نفسه، فانتقض ما دبره وعادت الخوارج إلى شبهتها الأولى

شايعه من أصحاب المصالح الخاصة الذين يعملون لمعاوية في الخفاء. لذلك فما ان سمع الأشعث بنبأ عودتهم حتى أخذ يلح على علي علیه السلام، كي يجعله يفصح عن موقفه الذي حاول تعميته سياسة منه لاستمالة الخوارج، مما جعله في نهاية المطاف يصرح بما أضمره(1) ، ويعترف بتمسكه بكل شروط وثيقة التحكيم، وانه لن يعدل عنها، ولن يعاود محاربة معاوية، إلا بعد انقضاء الهدنة وظهور نتيجة التحكيم، فكان لذلك العمل المتعمد من الاشعث أثره في انسلاخ الخوارج عن جماعة الإمام علي علیه السلام مرة ثانية، فاستجد الجدل بينه وبينهم، وتمكن من اقناع الكثير منهم(2) ولكن بقي عدد منهم لا يستهان به على موقفهم المتصلب من سياسته، مما حتم المواجهة الدامية معهم.

المواجهة الدامية وأسبابها:

لما يئس الإمام علي علیه السلام من اقناع البقية الباقية من الخوارج، تركهم وما هم عليه، متجنباً الدخول معهم أية حرب، فأجرى لهم الأرزاق مثلهم مثل غيرهم من المسلمين الداخلين في طاعته، شريطة ألا يثيروا أي مشاكل(3) ، وكان غرضه تحييدهم، حتى يتسنى له التفرغ إلى معاوية مصدر الخطر الرئيسي على دولة الإسلام. لكن اصرارهم على المكابرة وتماديهم في العصيان والتأليب،

ص: 284


1- انظر الهامش السابق
2- بشأن جدل علي علیه السلام مع الخوارج الذي على أثره اقتنع بعضهم بالعودة إلى صفوفه راجع: ابن أعثم الكوفي: الفتوح 2/ 251 ، 252
3- بشأن إجراء أرزاق الخوارج، راجع قول علي علیه السلام عند البلاذري أنساب الأشراف 2/ 359

ومقاطعته أثناء صلاته(1) ، ووصمهم إياه بالكفر في ملأ المسلمين(2) ، جعله ينذرهم مصوراً ما سيؤولون إليه، إن هم لم يرتدعوا(3) ، لكنه في النهاية لم يجد بداً من الدخول معهم في معركة كادت تستأصلهم(4) ، بعد أن أحدثوا أحداثاًتأولوها لا يمكن السكوت عنها(5) .

موقف علي علیه السلام من الخوارج بعد فراغه من محابتهم:

إن محاربة علي علیه السلام الخوارج وانتصاره عليهم، لم يسلبهم حقوقهم الشرعية في الوقت الذي كان يحض فيه على مقاومة الأمويين، فقوله «لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه»(6) ، هو من قبيل المقارنة بين موقفه من الخوارج اللذين «لم يطلبوا الباطل بكونه باطلاً، بل طلبوا الحق بالذات، فوقعوا بالباطل، ومن لم يكن غرضه الا الحق لم يجزقتله»(7) ، وبين معاوية المشار إليه في المقولة (بمن طلب الباطل فأدركه).

ص: 285


1- حول مقاطعته في صلاته راجع ابن أبي الحديد 2/ 268 و 311، أما بشأن اتهامه بالكفر، فراجع استنكاره عليهم ذلك في خطب 57، وتعقيب الخارجي على حديث علي علیه السلام في حكم 428 وبشأن تحذيره لهم راجع خطب 36
2- انظر الهامش السابق
3- المصدر السابق
4- كان ذلك في معركة النهروان سنة سبع وثلاثين هجرية. راجع تاريخ الطبري 5/ 84 وما بعدها
5- راجع مثلًا تأولهم قتل عبد الله بن خباب، وقتلهم الخنزير: أنساب الأشراف 2/ 367 وما بعدها
6- خطب 60
7- ميثم البحراني: شرح النهج 2/ 155

موقف الإمام علي علیه السلام من مناوئيه عامة:

اتخذت سياسة علي علیه السلام من مناوئيه موقفين مختلفين، فقد اعتبر محاربته لأصحاب الجمل ولأهل الشام من الفئة القرشية من قبيل ازاحة الباطل واحقاق الحق بالعودة بتعاليم الإسلام إلى أصالتها التي كانت على عهد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. أما محاربته لمناوئيه من الخوارج، فلقد كانت من أجل تطهير صفوفه وتوحيد جبهته الداخلية للتفرغ للعودة لأهل الشام. وهو ان استطاع ان يحسم قضيته مع الخوارج جزئيا، الا انه لم يتمكن من الوصول إلى غايته من مواجهته لقريش،التي كانت إرادتها ان تكون جبهة واحدة تتصدى لكل من يعرض مصالحها الذاتية للخطر كائناً من كان.

رابعاً إرادة قريش كما تبدو في فكر علي علیه السلام:

رابعاً إرادة قريش(1) كما تبدو في فكر علي علیه السلام:

على الرغم من صعوبة الحياة، وجفاف الأرض وقلة المطر في ارض

ص: 286


1- قريش: قبلية عربية عظيمة تتكون من تحالف عدة بطون ينتمون لأب واحد على ما ذهب إليه جمهور النسابين اما ما قيل في تسميتهم بقريش يمكن الرجوع إليه في المظان الاصلية وتنقسم القبيلة إلى قسمين عظيمين: قريش البطاح وهم الذين ينزلون الشعب بين اخشبي مكة، وقريش الظواهر وهم الذين ينزلون خارج الشعب. ويرجع الفضل في اعزاز جانب قريش إلى قصي بن كلاب، فهو الذي جمعهم من متفرقات مواطنهم من شبة جزيرة العرب، واستعان بمن اطاعه من احياء العرب على حرب خزاعة التي كانت تهيمن على البيت العتيق، فطردهم عنه وتولاه وتراس على قومه بعد دماء غزيرة بينهم وبين خزاعة التي اقرت لهم بالسيادة على مكة في نهاية الأمر. ولما كانت قريش سكان الحرم وحماته، ولم يكن لهم زرع ولا ضرع فقد كانوا يميرون في الشتاء والصيف آمنين والناس يتخطفون من حولهم، فلا يتعرض الناس لهم، وبذلك اشتهرت قريش بالتجارة، حتى قيل أنها سميت بقريش اشتقاقا من القرش أي الاكتساب، وقد اكتسبت قريش مكانتها بين العرب في الجاهلية لكونها محط البيت مجمع آلهتهم ومحط أسواقهم التجارية والأدبية، ثم انها اكتسبت مكانتها في الإسلام لكونها القبيلة التي ولد النبي صلی الله علیه و آله وسلم فيها راجع: القرطبي: الجامع لإحكام القرآن 20 / 202 وما بعدها، القلقشندي: نهاية الأدب في معرفة انساب العرب ص 364 وما بعدها، عمر رضا كحالة: معجم قبائل العرب 3/ 947 وما بعدها

الحجاز فلقد تمكن القرشيون من تكوين مجتمع مستقر حول بيت الله الذي كانت العرب تؤمه من كل حدب وصوب وبفضل ذلك الاستقرار وقدسية الأرض تبوأت الحجاز مكانة ستراتيجية هامة، إذ أصبحت همزة وصل لأهم طرق التجارة الصحراوية بين الشام واليمن والحبشة وفارس، فانتعشت الحياة في مكة، فقد افادها الاستقرار في نمو تجارتها الخاصة المعتمدة على أسواقها الموسمية(1) التي يحضرها العرب لشراء ما يحتاجونه ومقايضة سلعهم بسلع اخرى، بالإضافة إلى عرضهم على قريش ما جادت به قرائحهم من أشعار،والتحاكم إليها وإلى قبائل العرب الأخرى بشأنها(2) . ولأهمية التجارة في حياة قريش، فقد عقدت اتفاقيات سلام مع كل الممالك والامبراطوريات المجاورة، «فكان هاشم يؤلف ملك الروم، أي يأخذ منه حبلاً وعهداً يأمن به تجارته إلى الشام، واخوه عبد شمس كان يؤلف إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن ونوفل إلى فارس»(3) فتدقعت بسبب ذلك الثروات على الحجاز مما جعل قريشاً في بحبوحة من العيش والرخاء، فتولد عن ذلك التفاوت في طبقات المجتمع، فانقسم «في القرن السادس للمسيح إلى ثلاث فئات: الأولى قريش ولها كل الحقوق، والثانية حلفاء قريش وهم اناس من العرب، والثالثة العبيد الذين لا يملكون شيئا حتى أنفسهم»(4) وعادة ما يؤدي مثل ذلك الانتعاش الاقتصادي إلى الميل إلى الاستقرار والدعة وتجنب التغيير، كما ان الميل إلى

ص: 287


1- حول تعامل قريش واسواقها، راجع: كحالة: معجم قبائل العرب 3/ 949
2- من ذلك قول ابن قتيبة: الشعر والشعراء 1/ 101 «كان النابغة يضرب له قبة حمراء من آدم بسوق عكاظ، فتاته الشعراء فتعرض عليه اشعارها»
3- القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 20 / 204
4- مغنية: التفسير الكاشف 7/ 612

المادة والتمرس بأعمال التجارة يتعارض والتقلبات الاجتماعية. لذلك رفض القرشيون الإسلام رفضاً قاطعاً، وقاوموه بضراوة، وتتبعوا مؤيديه والمؤمنين به بالتعذيب والقتل والسجن والتشريد، كل ذلك في سبيل ابقاء المجتمع المكي مستقراً في حياته الرتيبة التي ورثها الأبناء عن الآباء أجيالاً متعاقبة، خاصة ان عقلياتهم التجارية التي تضع المادة نصب العين كانت ترى في الرسالة زعزعة للاستقرار وتغييراً في التركيبة الاجتماعية تفقدهم مكانتهم التي تبواتها كعقيدة دينية سمحة من أهم مبادئه المساواة بين الناس بمحو التفاضل والتفاخر وازالةالتفاوتات الاجتماعية بالاتجاه نحو عبادة إله واحد، هو رب لكل البشر، مما يعني ان رعايتهم لما في الكعبة من اصنام سيزول، وستزول معه وصايتهم على أديان العرب، لذلك وقفت في وجه الإسلام جبهة متحدة، وقاومته بالمال والحرب مقاومة شعواء منذ بزوغ نوره، ولم تسلم بالأمر الواقع إلا بعد أن رأت جيوش الإسلام قد أحاطت بشعاب مكة، فكان دخولها الإسلام رهبة لا رغبة، فخمدت العصبية القرشية وبقيت جذوتها في النفوس متقدة نقمة على الهاشميين، وبالأخص النبي صلی الله علیه و آله وسلم وآل بيته علیهم السلام متحينة الفرصة ولو بعد حين.

لقد خسرت قريش كثيراً في مواجهتها المباشرة للنبي صلی الله علیه و آله وسلم، ففقدت كثيراً من أبطالها، ومن ثم مكانتها كمركزاستقطاب للقبائل العربية، ورضخت في نهاية الأمر مرغمة لإدارة الله فأكسبتها تلك الحوادث الأليمة تجارب قيمة، فلم ترتد عن الإسلام حين ارتدت الكثير من قبائل العرب(1) ، ثم انها دعمت أبا بكر وساندت تثبيت حكمه حين وجدت مصلحتها تقتضي ذلك(2)

ص: 288


1- راجع ابن الاثير: الكامل في التاريخ 2/ 220
2- بشأن موقف قريش من بيعة أبي بكر ومعاضدتها حكمه، راجع ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 11/1 وما بعدها

وتعاونت مع عمر بن الخطاب بحذر شديد وفي حدود مصلحتها فلما احست بخطره على طموحاتها، وتأكد لها أنه سيجعلها اسوة بغيرها(1) دبرت اغتياله - فيما نعتقد - بيد غريبة، وهي بمنأى عن الاتهام(2) ، ثم تعاونت مع عثمان واظهرت له الود والاخلاص حين سمح لها بما لم يسمح به عمر من الإنسياح في الامصار الإسلامية واقتناء الضياع وامتلاك العبيد، وجمع الثروات، وبناء الدور الفخمة(3) ، ولكن تفضيله فئة قرشية على أخرى جعله موضع سخط .

ص: 289


1- جاء عند الطبري في تاريخه 4/ 397 ان عمر«لم يمت ملته قريش»، وروى اليعقوبي في تاريخه 154/2 قول عمر في اخر سنة من حكمه «ان عشت هذه السنة ساويت بين الناس، فلم افضل أحمر على أسود، ولا عربياً على عجمي وصنعت كما صنع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأبو بكر»
2- إن اغتيال عمر بن الخطاب على يد أبي لؤلؤة، ذلك العبد الذي قيل عنه أنه ربما كان مجوسياً أو مسيحيا، وتحت سمع المسلمين وبصرهم في مسجد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لِمنَ الأمورالتي تبعث على الشك، وتطرح كثيراً من التساؤلات، إذ كيف تسنى لذلك العبد ان يقدم على الدخول إلى المسجد دون ان يلفت إليه الانظار، في وقت يقتضي تواجد جل المسلمين فيه، ثم ان الحوارالذي دار بين عمر والعبد لا يشكل دافعاً لقيام العبد بذلك العمل الجريء، اضافة إلى ذلك فإننا نستبعد ان يكون ا لاغتيال بدافع الشعوبية، لأن القاتل لم يكن في مستوى النضج الفكري بحيث يشكل عنده الدافع القومي هاجساً ينزع به إلى القتل، اضف إلى ذلك ان المصادر التاريخية لم تحدثنا ان القاتل مصاب بلوثة أدت به إلى الإقدام على ذلك، مما جعلنا نعتقد ان قريشاً هي التي دبرت مقتل عمر، فأغرت به ذلك العبد وهيأت له الظروف المناسبة بطريقة محكمة وذكية، لأنها احست بتهديد عمر لمصالحها المادية بالعودة بنظام توزيع الأموال كما كان عليه في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وأبي بكر بشأن موقف عمر من قريش في آخر حياته راجع تاريخ الطبري السابق، أما بشأن اغتيال عمر فراجع أحداث السنة الثالثة والعشرين هجرية في جميع المصادر التاريخية
3- بشأن معاملة عثمان اللينة لقريش راجع تاريخ الطبري 4/ 397

الفئة المفضولة(1) ، وتربص الفئة المفضلة(2) التي لا تهمها سوى امتيازاتها، فاتحدت الفئتان في الاهداف، فكانت النتيجة اغتيال الحاكم الثالث في منأى من اتهام قريش أيضاً. ولكنها أخطأت التقديرحين واجهت علياً علیه السلام في وقعة الجمل، مما جعلها تعود لمراجعة حساباتها ثانية، فتتخفى وراء سياج متين من سياسة الخداع، بالالتواء على النص القرآني وتأويله بما يتناسب ومصلحتها، فكان لها ما أرادت في صفين، حين استطاعت ان تقف حائلاً دون عودة الصف الإسلامي إلى وحدته في كنف السياسة الدينية المتمثلة في الخلافة.

ان اغتيال عثمان احدث ارباكاً في صفوف القرشيين المتربصين به، فطلحة الذي كان يتهيأ للأمرلم يتمكن من التحرك السريع لاحتواء القضية، وعائشة التي كانت تبارك طموحات طلحة، كانت غائبة عن ساحة الاحداث، هذا بالإضافة إلى الوجوم والهلع الذي حل بالناس أثر ذلك العمل المريع، فلم يعد زمام المبادرة في المرة الرابعة بيد قريش، التي عادة ما توجه السياسة الإسلامية في المدينة حيث تريد، لذلك توجه المسلمون المتواجدون المدينة عن بكرة أبيهم إلى علي علیه السلام لمبايعته، الأمر الذي لم يكن يخطر ببال قريش لأن زعامتها تدرك جيداً انه لو وليهم «لم تخرج من بني هاشم أبداً، وما كانت في غيرهم من قريش»(3) .

وقد ترتضي قريش علياً علیه السلام أو غيره من أفراد بني هاشم خليفة، فيما لو ترك لما ما تريد، الا ان زعماتها لم تنس مقولة عمر بن الخطاب لعلي علیه السلام قبيل وفاته «إنك

ص: 290


1- راجع ص 230 وما بعدها من هذا البحث
2- بشأن موقف معاوية من مقتل عثمان، راجع تاريخ الطبري 4/ 368 ، وراجع أيضاً رسائل 37
3- تاريخ الطبري 4/ 233

أحرى القوم أن وليتها أن تقيم على الحق المبين والصراط المستقيم»(1) ، فقريش لا تريد من الحق الا الذي يكون في صالحها. وذلك يتعارض تماما مع مباديء علي علیه السلام في سياسته للناس، لذا «اجتهدت قريش كلها من مبدأ الأمر في اخماد ذكره وستر فضائله»(2) .

فقريش عن بكرة ابيها لا تنكر فضل علي علیه السلام وسابقته وشجاعته وتشدده في ذات الله الا انها لا ترضى بتطبيق ذلك عليها. يقول عمرو بن العاص لمعاوية ضمن حوار دار بينهما حول تآمرهما على افشال خلافة علي علیه السلام«أما علي فلا تسوي العرب بينك وبينه في شيء من الاشياء، وأن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش، قال معاوية: صدقت، وانما نقاتله على ما في أيدينا، ونلزمه دم عثمان، فقال عمرو: وإن أحق الناس أن لا يذكر عثمان لا أنا ولا أنت، أما أنا فتركته عيانا وهربت إلى فلسطين، أما أنت فخذلته ومعك أهل الشام(3) .وفي الجانب الآخر من قريش تألبت على خلافته عائشة ومن ورائها طلحة والزبير وغيرهم من موتوري قريش من ذوي الثراء، لأنه لم يكن ليرخص لهم أن يثروا على حساب عامة المسلمين خاصة بعد أن عرفوا عزمه الأكيد على رده كل ما اقتطعه عثمان لأهله من قطائع وأموال من بيت مال المسلمين(4) ، لذا «لم يحارب علياً علیه السلام من العرب أحد إلا قريش ما عدا يوم النهروان»(5) ، وحتى يوم

ص: 291


1- ابن قتيبة: الإمامة والسياسة 1/ 25
2- ابن أبي الحديد 8/ 18
3- انساب الاشراف 2/ 287
4- راجع خطبة 15
5- ابن أبي الحديد 10 / 221

النهروان وان لم يتقابل فيه علي علیه السلام قريشاً وجهاً لوجه، إلا أن من حاربهم في تلك الموقعة، قد خرجوا عليه بتدبيرومكيدة من قريش في صفين(1) ، فالخوارج نتيجة طبيعية لما دبرته قريش لعلي علیه السلام، فلقد كانت إرادتها ان تبدأ القتال مع علي علیه السلام متى تشاء وبالأسلوب التي تشاء، وتنهي القتال بالطريقة التي ترتئيها في صالحها دون مراعاة لأية قيمة اسلامية، مما أودى بحياة آلاف من المسلمين في صفين(2) ، كل ذلك في سبيل السلطة والمال.

لقد كانت شكوى علي علیه السلام من تألب قريش عليه وعلى حكومته ممضة ومؤلمة، فهي قد أضمرت لرسول الله صلی الله علیه و آله وسلم «ضروبا من الشر والغدر»(3) ، فلما لم تتمكن من إصابته بشر ودخلت الإسلام مرغمة، صبت جام حقدها على آل بيته علیهم السلام في الوقت الذي كانت تتخذ من اسمه صلی الله علیه و آله وسلم «ذريعة إلى الرياسة، وسلماً إلى العزوالإمرة»(4) ، ولولا حصولهم على تلك الامتيازات لما «عبدوا الله بعد موته يوماً واحداً ولارتدت في حاضرتها»(5) . فمباهاة قريش بالإنتماء إلى النبي صلی الله علیه و آله وسلم وتصريحهم بحبه في الملأ، ما هو - في رأي علي علیه السلام - الا طلاء خارجي ليحققوا الثراء في الوقت الذي يطؤون فيه رقاب آل بيت علیهم السلام هويحاولون اخماد ذكرهم(6) .

ص: 292


1- راجع ص 274 وما بعدها من هذا البحث
2- انفضت وقعة صفين عن سبعين ألف قتيل، خمسين ألفاً من أهل الشام، وعشرين ألفاً من أهل العراق - العقد الفريد 343
3- ابن أبي الحديد 20 / 298
4- ابن أبي الحديد 20 / 298
5- المصدر السابق نفسه
6- أثرعن علي علیه السلام قوله ضمن المأثورات التي جمعها ابن أبي الحديد 20 / 308 «مالنا ولقريش يخضمون الدنيا باسمنا ويطأون على رقبانا، فيا لله وللعجب، من اسم جليل لمسمى ذليل»

لذلك كان اصرار علي علیه السلام على مواجهتهم والحد من اطماعهم ووضعهم في المنزلة التي أرادها الإسلام لهم، فقريش الامس من وجهة نظر علي علیه السلام هي قريش اليوم، لم تتغير الا من حيث المظهر الخارجي، فالحمية الجاهلية مازالت مستكنة في نفوسهم لم يهذبها الإسلام، يقول لأخيه عقيل الذي اخبره بتسلل القرشيين من المدينة إلى معاوية تهافتاً على المادة «قد اجمعوا على حربي كإجماعهم على حرب رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم قبلي»(1) ، إذ يفهم من القول السابق أن علياً علیه السلام يرى المبرر قوياً لقتال قريش، غير آبه بما يقال فيهم، وما يدعونه لأنفسهم من قرابة وصحبة، لا تخولهم امتلاك رقاب الناس، فإذا ما أرادوا فرض إرادتهم بالقوة، فإن القوة هي العلاج للحد من غلوائهم، يقول في إحدى خطبه عند خروجه لملاقاة أصحاب الجمل «مالي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين»(2) .

فقتاله لهم هو من أجل «استقامتهم على الدين ورجوعهم إلى الحق، عند الضلال»(3) . فقريش كما يراه علي علیه السلام تقيس الحق بما يتلاءم ومصلحة ابنائهما،لذلك حالت بينه وبين حقه محاولة اكراهه على النزول عند رغبتها بتصرفها في حقه في الخلافة كما تشاء، كما في قوله «اللهم إني استعديك بك على قريش ومن اعانهم، فانهم قطعوا رحمي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي أمراً هو لي، ثم قالوا إن في الحق أن تأخذه وفي الحق أن تتركه»(4) . ويجدر بنا أن نقف

ص: 293


1- رسائل - 35
2- خطب - 33
3- شرح ميثم 2/ 75
4- خطب 173 ، فقرة 2. ويذكر ابن أبي الحديد بإسناده أن مثل هذه العبارة قد تكررت من علي علیه السلام مرات عديدة

عند مفهوم الحق في هذا الموضوع الذي يرمي علي علیه السلام إليه، فابن أبي الحديد يخرج معنى الحق في المقولة على تأويل الافضلية لأن «جملة الاستحقاق بالنص تكفير أو تفسيق لوجوه المهاجرين والأنصار»(1) . لكن الذي نفهمه نحن من القول بأن في السياق بعني الخصوصية التي لا يمكن تأويلها على أساس الأفضلية لأنه لو كان يقصد الأفضلية لذاتها لقال: أنا أفضلهم أو أنا أقربهم، أو أنا حقهم بالأفضلية مما يعني ان الحق مطلقا دون الإضافة كما نفهمه يعني الاختصاص بالأمرة دون غيره بدلالة قوله في السياق «أجمعوا منازعتي أمراً هو لي» لما فيه من توكيد الاحقية التي لا تحتاج إلى تأويل، فالقضية هنا لا يمكن اجراؤها كما يرى ابن أبي الحديد «مجرى الآيات المتشابهات التي لا يعمل بها ابداً»(2) ، لأن «المتشابه من القرآن: ان أشكل تفسيره لمشابهته بغيره، اما من حيث اللفظ أو من حيث المعنى»(3) ، ومقولة علي علیه السلام واضحة وجلية من ناحيتي الألفاظ والمعاني، خاصة ان علياً علیه السلام قد اتبع مقولته لمفهوم الحق عند قريش بالتصرف فيه «كما تشاء، بالأخذ والترك... وهذه شكاية ظاهرة لا تأويل فيها»(4) . إلاان علياً علیه السلام - كما يبدو في النهج - لم يكن يحمل لقريش أية ضغينة أو حقد لأن أخلاقه الإسلامية تسمو بروحه العالية عن ذلك، وهو الداعي إلى الحب بتؤدة والبغض بتؤدة أيضاً في قوله «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما»(5) . فعلى

ص: 294


1- ابن أبي الحديد - 9/ 307
2- السابق 9/ 307
3- الراغب الأصفهاني - المفردات في غريب القرآن ص 373
4- شرح ميثم - 3/ 331
5- حكم - 276

الرغم من مواقف قريش العدائية تجاهه وتجاه حكومته، واستماتتهم في افشال امره، لم يحابهم الا مضطراً، بعد أن نفذت جميع أسلحة التفاهم معهم(1) ، يقول متألما لمصارعهم حين نظر إلى قتلاهم في وقعة الجمل «والله لقد كنت أكره أن تكون قريش قتلى تحت بطون الكواكب»(2) .

فمن مأثورات الإمام علي علیه السلام يمكن الاستنتاج أن المواجهة بينه وبين قريش قد ابتدأت منذ اليوم الذي انتقل فيه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم إلى الرفيق الأعلى واستمرت حتى بلغت ذروتها إبان خلافته، حين حاول التصدي لها والحد من طموحاتها، لكنه لم يفلح في مساعيه، لأنها استطاعت أن تخلق له المشاكل ما حال بينه وبين تنفيذ سياسته ومن ثم التدبير لاغتياله بيد احد ممن خرجوا عليه من أصحابه، بعد أن أفلحت في تدبير قضية التحكيم تلك المأساة التاريخية الفظيعة، مما يعني أن قريشاً لا يمكنها أن تحقق إرادتها بالمواجهة المباشرة، لذلك كانت كثيراً ما تلجأ - للوصول إلى مآربها - بوضع يد غيرها في النار ثم تقف متفرجة لتقطف ثمرة غيرها، إلا أن الظروف المعقدة التي اختلقتها قريش لتعطيل أفكار علي صلی الله علیه و آله وسلم السياسية لم تحل بينه وبين جهاده المستميت لتحقيق تلك السياسة.

ص: 295


1- راجع ص 249 وما بعدها من هذا البحث
2- خطب 217

ص: 296

الفصل الثالث: مؤسسات الدولة وسياستها الإدارية

اشارة

في فكرالإمام علي بن أبي طالب علیه السلام

بين الدولة والحكومة والسياسة

قد يتبادر إلى الأذهان ونحن نقرأ في (نهج البلاغة) بأن المفاهيم: دولة وحكومة وسياسة، تعني في مجملها معنى واحداً، لذلك لابد لنا من الوقوف عند كل مفهوم من المفاهيم الثلاثة على حدة.

أ - الدولة:

تمكن النبي صلی الله علیه و آله وسلم سنة 622 ميلادية من وضع أسس الدولة الإسلامية، في مجتمع متجانس، أساس المواطنة فيه المؤاخاة بين أفراده، فالرسول صلی الله علیه و آله وسلم وإن لم يؤثرعنه أي تعريف لمفهوم الدولة، الا انه بالإمكان استنتاج مثل ذلك من الخطوات العملية التي باشرها بحيث نستطيع القول بأن دولة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد خلقت مجتمعاً قوياً تمكن من نشر الإسلام في فترة قصيرة جداً بفضل التجانس البشري الكامن من أخوة الإسلام والإخلاص الصادق الذي انبنت عليه تلك الاخوة،

ص: 297

ولكن ذلك التجانس قد بدأ في التداعي جراء الثروات المتدفقة بغزارة على ذلك المجتمع بعد الفتوحات الإسلامية العظيمة، فأخذت الطبقية في التبلور. ولمتكن مقولة عمر بن الخطاب، بعد ان عرضت عليه غنائم فارس، وفيها من أطايب الأطعمة التي لم يخبرها العرب من قبل «يا معشر المهاجرين والأنصار ليقتلن منكم الابن أباه والأخ أخاه على هذا الطعام»(1) ، والا احساس صادق بقرب ذلك. فقد تسلم علي علیه السلام مقاليد الدولة الإسلامية، وهي في طريق الانهيارلافتقاد المسلمين روح المؤاخاة، أساس المواطنة الإسلامية ويرجع سبب ذلك إلى الاتجاه المادي البحت، ونجوم النعرة القبلية ثانية بعد ان خمدت وكادت جذوتها تنطفئ.

تسلم علي علیه السلام مقاليد الدولة الإسلامية في السنة الخامسة والثلاثين هجرية، بعد تفكرعميق، وأخذ ورد(2) ، لإحساسه بثقل مسؤولية اعادة بناء النسيج الداخلي من جديد، لأن التصور الواضح للدولة في فكرعلي علیه السلام - طبقا لنصوص النهج - هو الرجوع بالمواطنة داخل المجتمع الإسلامي إلى النهج الذي اختطه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. فلقد دخل علي علیه السلام الكوفة سنة ست وثلاثين هجرية وهي مقسمة إلى اسباع، بحسب الانتماء القبلي، والرابطة الاقليمية التي اختطها سعد بن أبي وقاص في السنة السابعة عشرة هجرية، حين باشر بتمصيرها(3) ، هذا بالإضافة إلى غير العرب من المسلمين وغيرهم الذين استوطنوها، مما يعني في طياته افتقاد المواطنة الإسلامية داخل المجتمع الكوفي، الذي يمكن اعتباره

ص: 298


1- المحب الطبري: الرياض النضرة 2/ 386
2- راجع ص 268 وما بعدها من هذا البحث
3- راجع تمصير الكوفة: تاريخ الطبري 4/ 44 ، 45 ، وما سنيون: خطط الكوفة ص 10

صورة مصغرة للمجتمع الإسلامي. فالتكتل الطبقي بين سكانها أعاد المؤاخاة الإسلامية فيها إلى ولاء قبلي، بالامتثال للزعامة القبلية ولرؤساء العشائر، فكان علي علیه السلام إذا ما أراد للدولة أن تستمر كما أراد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم لها والإسلام أنينتشر، أن يقوم بإعادة بناء هيكل المواطنة المثالي بمجانسة أفراد المجتمع المتنافرعن طريق إعادة الأخوة الإسلامية إلى النفوس، وفك الهيمنة القبلية بتحويل الولاء للدولة، فهو في نفس الوقت الذي اضطر فيه إلى التعامل مع الزعامة القبلية بما يتماشى وروح الإسلام، قد بذل جهداً كبيراً في التنبيه للخطر الذي تشكله تلك الزعامات، والتحذير من مغبة الامتثال لها، لما في ذلك من هدم للمثل والقيم الإنسانية، من ذلك قوله «الا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم وكبرائكم الذين تكبروا عن حسبهم، وترفعوا فوق نسبهم، القوا الهجنة على ربهم... فإنهم قواعد أساس العصبية، ودعائم اركان الفتنة، وسيوف اعتزاء الجاهلية... لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، وخلطتم بصحتكم مرضهم وأدخلتم في حقكم باطلهم»(1) . فالدولة في فكرالإمام علي علیه السلام يجب أن تقوم على التجانس الإنساني داخل المجتمع، بصهر الطبقات في بوتقة المساواة، وإذابة فوارق الجنس، والتعصب للأخلاق الحميدة وهو ما يمكن ان نلمسه ضمن قوله لأبناء مجتمع الكوفة «فليكن تعصبكم لمكارم الخصال، ومحامد الافعال، ومحاسن الأمور التي تفاضلت فيها المجداء والنجداء من بيوتات العرب، يعاسيب القبائل، بالأخلاق الرغيبة والأحلام العظيمة، والأخطار الجليلة والآثار المحمودة، تعصبوا لخلال الحمد من الحق للجوار، والوفاء بالذمام، والطاعة للبر، والمعصية للكبر، والأخذ بالفضل، والكف عن

ص: 299


1- خطب 240 ، فقرة 8

البغي والاعظام للقتل، والانصاف للخلق، والكظم للغيظ، واجتناب الفساد في الأرض»(1) ، فمن تلاحق العبارات وتتابع الجمل، بعطف بعضها على بعض، نحس ان علياً علیه السلام قد كان مشحوناً غيظاً بسبب ما الت إليه بنية المجتمع من تصدع، بحيث لم يعد للحكومة أية قيمة في ظل نظام قبلي، لا يرى الدولة ولا يفهم مقوماتها الا في حدود منظاره الضيق المتمثل في مصلحة القبيلة، مما يحول دون الانسجام بين افراد المجتمع الواحد، والدولة «كيما تضمن لمرافقها العامة اقصى مردودها

(يجب) ان تعمل على تأمين انسجامها مع الاوضاع الخاصة بالحياة المحلية وبالأدوات الاقليمية ذات المصالح المشتركة»(2) .

لذلك كانت نظرة علي علیه السلام إلى الدولة نظرة مختلفة تماماً عن نظرة زعماء القبائل. فالمجتمع الكوفي - بل الإسلامي بأكمله - لم يكن قصراً على المسلمين العرب فهو مكون من خليط من اقوام غير متجانسة، منها فئات عربية ترى نفسها حاكمة لفضلها في نشر الإسلام، فمن حقها الاستئثار بكل الامتيازات، ومنها فئات غير عربية، دخلت الإسلام فراراً من الاضطهاد، وبحثاً عن العدالة والمساواة وفي ظل التعصب العربي لم تحصل على ذلك، ثم ان الفئات العربية داخل بنيتها الاجتماعية غير متجانسة أيضاً بسبب العصبية القبلية وتفاضل بعضها على بعض، هذا بالإضافة إلى عدم تجانسها أيضاً مع الفئات غير العربية، بسبب النظرة الإزدرائية لأولئك الاجانب، لذلك فإن الزعامات القبلية في المجتمع الكوفي ترى ان جميع امكانات الدولة يجب أن تكون تحت تصرفها ورهن إشارتها، حتى الحاكم رأس الدولة وقدوتها لكونه عربياً يجب أن يكون قصراً على العرب

ص: 300


1- خطب 240 ، فقرة 16
2- دوفابر - الدولة 91

في القيام بمصالحهم واعطائهم دون غيرهم، على العكس من نظرة علي علیه السلام الذي يرى أن الانتماء الإسلامي أقوى وأمتن من انتمائه العربي(1) من ذلك «أن الأشعث قال له وهو على المنبر: غليتنا عليك هذه الحمراء، فقال علي علیه السلام: من يعذرني من هؤلاء الضياطرة، يتخلف أحدهم على فراشه وحشاياه كالعير، ويهجر هؤلاء للذكر، أأطردهم؟ إني إن طردتهم لمن الظالمين، والله لقد سمعتهأي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم يقول: والله ليضربنكم على الدين عوداً كما ضربتموهم بدءا»(2) إذ يبدو ان علياً علیه السلام يرى من منظوره الإسلامي بأن التجانس داخل الدولة لا يعني الانتماء إلى جنس مميز على غيره، ولهذا السبب بين للأشعث ولغيره من زعماء القبائل بأن احتواءه لأولئك غير العرب لتمسكهم بالدين بمعناه الصحيح واسلوبه القويم، فمقياس المواطنة كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام هو الاخوة في الدين، يقول رداً على المرأة العربية التي طلبت منه ان يفضلها في عطائها على غير العربية «قد قرات ما بين اللوحتين، فما رأيت لولد اسماعيل على ولد اسحاق علیه السلام فضلاً ولا جناح بعوضة»(3)، إذ يمكن ان نستنتج من ذلك القول ان اندماج الاجناس في الدولة في كل متكامل، هو السياج المتين الذي يحفظ كيانها، ويوحد بين مواطنيها، مما يعني ان التصورالسياسي لمفهوم الدولة وضح على ما نعتقد في فكر علي علیه السلام، وان لم يضعه في قالب اصطلاحي، لذلك

ص: 301


1- راجع حكم 94
2- ابن الاثير: النهاية في غريب الحديث 1/ 438 باب حمر، 3/ 87 باب ضطر، وابن أبي الحديد 124/19 ، ويعني بالحمراء: العجم والموالي، والضياطرة جمع ضيطر: الضخم الذي لا تنفع فيه والحمراء أي الفرس، لحمرة لونهم
3- البلاذري - انساب الاشراف 2/ 141

فإن مفردة (دولة)(1) في نهج البلاغة لا تخرج في معانيها عما أورده القاموس اللغوي من (تحول أو نصرة أو استيلاء أو تسلط)(2) ، الا ان المتعمق الدقيق لا يعدم الحصول على ما تعنيه المفردة بمفهومها الاصطلاحي كما في قوله «فإذا أدت الرعية إلى الوالي حقه... طمع في بقاء الدول»(3) ، فالدول - على ما نظن - تعني في السياق العلاقات الترابطية بين الحاكم والمحكوم داخل اطار معين.

ولكن أكثر ما ترد مفردة دولة في السياق - عند علي علیه السلام بمعنى التسلط والحكم،كما في قوله للأشتر حين ولاه مصر «اني قد وجهتك إلى بلاد، قد جرت عليها دول قبلك»(4) ، أي سُلط وحكومات مختلفة في احقاب متعاقبة، مع ملاحظة استخدامه لمفردة بلاد عوضاً عن اقليم أو دولة، الا ان ذلك لا يعني التداخل بين مفهومي دولة وحكومة في فكرعلي علیه السلام، فقد بينا فيما سبق مفهومه للدولة، مما يحتم علينا تبيان مفهوم حكومة عنده.

ب - الحكومة:

إذا كانت الدولة «هي البنية السياسية لما لها من عادات وتقاليد وبما تقتضيه

ص: 302


1- وردت مفردة دولة في النهج بصيغة المفرد والجمع في سبعة مواضع: خطب 4 وفي نهايتها وخطب 131 فقرة 2 وخطب 210 ورسائل 53 فقرة 4 ورسائل 69 نهاية الفقرة الأولى، ورسائل 72، وحكم 346
2- راجع باب - دول - في: لسان العرب المحيط 1/ 1034، الطريحي: مجمع البحرين 5/ 57 ، المعجم الوسيط 1/ 304
3- خطب 120 ، وقد جاء في بعض الطبعات: طمع في بقاء الدولة
4- رسائل رقم 53 ، الفقرة 4

من العلاقات بين الحكام والمحكومين»(1) ، فإن الحكومة هي المؤسسة التي تنظم العلاقات داخل الدولة، فالدولة كيان موجود بالفعل، أما الحكومة كمؤسسة موجودة بالقوة للحاجة الماسة إليها(2) .

وقد ورد مفهوم (حكومة) في نهج البلاغة بما لا يختلف عن مفهومها المتعارف عليه وان ورد استخدام الإمامة(3) في كثير من المواضع بدلًا من (الحكومة) بتسمية القائم بالأمر(إمام) عوضاً عن تسميته (حاكما) لما في معنى الإمامة من جمع بين شؤون الدنيا والدين، ولقد استوعب مفهوم الحكومة بكل مشمولاته مساحة واسعة من فكر علي علیه السلام، فتحدث عن اهميتها، وعن مكانة الحاكم بالنسبة للدولة وعن الصفات التي يجب ان تتوفر فيه، وعن المسؤولياتالمناطة بالحكومة.

فعن أهمية الحكومة ووجوبها ومسؤولياتها كان حديثه مع الخوارج(4) ، أما عن أهمية الحاكم ومنزلته كقائد الدولة فيمثله قوله «مكان القيم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه ويضمه»(5) ، فمحاسبة مركز الحاكم في فكر علي علیه السلام دقيقة للغاية على اعتبار أنه قلب الأمة والخيط الجامع لها، ولخطورة ذلك المنصب بالنسبة لصلاح الامة، فقد كان علي علیه السلام حريصاً على صيانته عن كل ما يسيء.

فلقد عرض عليه معاوية إقراره على ولاية الشام في سبيل عدم مقاومته والتأليب

ص: 303


1- ما كيفر: تكوين الدولة ص 50
2- راجع ص 163 من هذا البحث
3- راجع مفهوم الإمامة ص 154 وما بعدها من هذا البحث
4- راجع ص 166 من هذا البحث
5- خطب 146 ، الفقرة 1

على سلطته فكان رده «حاشى لله ان تلي للمسلمين بعدي صدرا أو وردا أو اجري لك على احد منهم عقدا أو عهدا»(1) . فالتسلط - في فكر علي علیه السلام - لا يكسب صاحبه الشرعية في تولي رقاب الناس، مهما بغلت قوته، لأن الحاكم من وجهة نظره من يستطيع امتلاك زمام نفسه وينأى بها عن شهوة الامتلاك لغاية إشباع رغبة جامحة في استعباد الناس والتصرف في حقوقهم، ولن يتأتى ذلك إلا لمن تتوفر فيه مزايا يستطيع من خلالها مباشرة الحكم، ومن تلك المزايا يتولد الرضا عن الحكومة، لأن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست علاقة قهر وانما هي علاقة تبادل حقوق، فالحاكم على هذا الأساس مثله مثل أي فرد في الدولة وليس متميزاً على أحد إلا بكونه يحمل من التبعات ما لا يستطيع غيره تحملها، فمن منظور علي علیه السلام الديني «إن الله تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهمبضعفة الناس، كيلا يتبيغ بالفقير فقره»(2) ، فمسؤولية الحكومة في فكرعلي علیه السلام تكمن في امرين اساسيين: اقامة الحق بمفهومه الإسلامي ودفع الباطل، فإذا لم تتمكن الحكومة من الوفاء بذينك الشرطين فلا قيمة لها ولا جدوى من ورائها «قال عبد الله بن عباس... دخلت على أمير المؤمنين علیه السلام بذي قار، وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذا النعل؟ فقلت: لا قيمة لها، فقال علیه السلام: والله لهي احب الي من امرتكم، الا ان اقيم حقاً أو ادفع باطلاً»(3) ، وإقامة الحق ودفع الباطل تعنيان في مضمونهما - كما نعتقد - تنظيم العلاقات بين الافراد بأسلوب قويم ومحكم اساسه الحياة السعيدة لكل فرد من افراد الأمة، تقوم الحكومة بالتخطيط له ومن ثم تنفيذه، وذلك الأسلوب هو ما نعنيه بالسياسة.

ص: 304


1- رسائل 65
2- خطب - 203 ، ويقدروا - يقيسوا، ويتبيغ - يهيج به ألم الفقر
3- خطب - 33

ج - السياسة كما تبدو في نهج البلاغة:

تعني السياسة بالمفهوم الإصطلاحي: المنهاج أو الخطة التي تتبعها الحكومة لتدبير مصالح الناس وطريقة التفاهم معهم، والسياسية بمفهومها العام هي «القيام على الشيء بما يصلحه، واشتهرت عند أهل العصر في العمل لأمورالدولة داخلها وخارجها»(1) ، فهي إذن أسلوب تضعه الحكومة على أساس خطة محكمة تتفق ووضع الدولة من حيث الاقتصاد والاجتماع والامن، وتتلاءم مع المحيط الدولي الذي توجد الدولة ضمنه، ومن الملاحظ ان مفهوم السياسة ذاك يتعلق بالشؤون الدنيوية فقط، أما السياسة بالمفهوم الإسلامي فتعني في اعتقادنا ارتباطها ارتباطاً وثيقاً بالدين، لكونها من وجهة نظراسلامية خطة أخلاقية تقوم على «استصلاح الخلق بإرشادهم إلى الطريق المنجي في العاجلوالآجل»(2) ، فهي بهذا المعنى تبع للدين، تسير في خطاه، وتستنير بهديه، وعلى ذلك يمكن التفريق بين السياسة بالمفهوم الأخلاقي، وبين السياسة بالمفهوم الانتهازي، المرتبط بالمصالح الذاتية لفئة معينة من الناس، والمبنية في مجملها على الاحتيال والخداع والمراوغة باتخاذ الدين وسيلة لما يقارب من الدنيا(3) ، بإلباس الشهوات صبغة دينية تبرر المآرب المعوجة، فالدين «شيء والسياسة شيء آخر لو أريد من السياسة الغدر والنفاق والكذب والخداع»(4) .

ص: 305


1- أحمد رضا: معجم متن اللغة 3/ 247
2- أبو البقاء الكفوي: الكليات 3/ 31
3- راجع حكم -413
4- باقر القرشي: النظام السياسي في الإسلام ص 60

وإذا ما أردنا الدخول في فكر علي علیه السلام السياسي، في ضوء ما ورد في النهج من نصوص يجب ان نضع في اعتبارنا أننا نبحث في سياسة دينية، الأخلاق دعامتها، والمبادئ السامية سياجها، فالنظرة الشمولية المتعمقة منحت المسؤولية في فكرالإمام علي علیه السلام اتساعاً لا يقتصرعلى العلاقات الإنسانية بين الحاكم والمحكوم فحسب، بل شملت كل ما يتعلق بالإنسان في محيطه، فضمن عرضه لسياسته في أوائل خلافته يقول «اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم»(1) ، فالمسؤولية في السياق تعني الالتزام الذي يترتب عليه حال تركه أو اهماله المحاسبة والعقاب، أما المجتمع فقد استوعب جل فكر علي علیه السلام السياسي لكونه الركن الأساس الذي تقوم عليه دعائم الدولة. فبإلقاء نظرة على ما ورد في خطبه ورسائله من وصايا إنسانية سنجد ان قضايا المجتمع قد كانت شغله الشاغل، كما أن استخدامه بكثرة المفردات (أمة، جماعة، رعية)(2) لدليل واضح على قيام سياسته على قواعد اجتماعية مرتبطة بالقاعدةالمكونة من السواد الأعظم من الناس الفقراء والمعدمين، وهو كما نلاحظ يعول على تلك الطبقات ويستمد منها القوة الحقيقة لبقاء الدولة، ودلالة ذلك قوله لمالك الاشتر حين ولاه مصر«إن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وان سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس احد من الرعية اثقل على الوالي مؤونة في الرخاء وأقل معونة في البلاء وأكره للإنصاف... من أهل الخاصة

ص: 306


1- خطب 168
2- من خلال احصائية قمنا بها في نصوص النهج وجدنا أن: كلمة أمة قد تكررت في ما يقارب تسعة وأربعين موضعاً، وأن كلمة جماعة قد تكررت في ما يقارب من خمسة وعشرين موضعاً، اما كلمة رعية فقد وردت في اربعة وتسعين موضعاً تقريباً

وإنما عماد الدين وجماع المسلمين والعدة للأعداء العامة من الامة»(1) . لذا فقد سارت سياسته الاقتصادية إلى جانب أولئك المعدمين، برعاية شؤونهم، وتدبير مصالحهم، وعدم تمكين الفئات المتسلطة من التسلق على حسابهم، فالمال مال الجميع ليس لاحد فضل فيه على أحد، فحين طلب منه بعض أصحابه اسلاف بعض الزعامات القبلية وأشراف قريش بالمفاضلة في العطاء قال لهم «لا والله لا أفعل ما طلعت شمس...ثم سكت واجماً ثم قال: الأمر اسرع من ذلك، قالها ثلاث مرات»(2). فعلي علیه السلام يدرك تماما انه يستطيع تحقيق النصرالشخصي في قضية الحكم بتوظيف المال توظيفاً سياسيا معوجاً، ولكن ذلك سيكون على حساب المبادئ والقيم فوجومه ثم تكراره عبارة «الأمر أسرع من ذلك» تحمل في طياتها على ما نعتقده شعوره بالألم لانزلاق القيم وترديها بأسرع مما يتصوره إنسان، علاوة على ما تتضمنه العبارة من ترهيب وتخويف من كتاب الخالق سبحانه، مما جعله يتشدد في تسوير سياسته بسياج أخلاقي متين، ليتمكن - على الاقل - من ابقاء جذوة المبادئ متقدة في مواجهة ذلك التيار المتنامي للتكالبعلى السطلة وجمع الثروات واقتناء الضياع والاماء والعبيد على حساب الفئات

ص: 307


1- رسائل - 53 ، فقرة 7، وسخط: تبرم وعدم رضاً، ويجحف: يذهب ويزيل
2- أخذنا هذا النص من ابن أبي الحديد 2/ 203 عن رواية علي بن محمد المدائني، وقد ورد هذا النص باختلاف في بعض عباراته في نسخ نهج البلاغة في باب الخطب تحت رقم 126 . فقد ورد في نص النهج «والله لا اطور به ما سمر سمير، وما أَمَّ نجمٌ في السماء نجماً بدلا من قوله عند ابن أبي الحديد: والله لا افعل...»، ثم أن الشريف الرضي لم يورد الزيادة التي أوردها ابن أبي الحديد وهي قول علي ثلاث مرات «الأمر أسرع من ذلك» وأما معنى لاح أي ظهر وبان، وواسيت ساويت، وأطور به لا أقر به، ما سمر سمير: السمير: الدهرأي أبد الدهر ما قام وما بقي، وما أَمَّ نجم: أي قصد وتقدم

المستضعفة، فمن خلال نظرة فاحصة في المصطلح السياسي، في فكر علي علیه السلام، سنجد أن المفاهيم الأخلاقية في تلك النماذج تكاد تتقابل بين الإيجاب والسلب أو بمعنى أوضح، بين القيم الأخلاقية، وبين العيوب والسلبيات التي نجمت في المجتمع، مع ملاحظة تركيزه على الجوانب السلبية، مما يعني استفحال ذلك بين متسلقي السلطة في عصره، وبتحول السياسة عند أولئك إلى مفهوم فارغ من أية قسمة أخلاقية، واهتبال الفرص للوصول إلى الغاية المنشودة بأية وسيلة، فالغدر والاحتيال، والخيانة، واشاعة الفتن، ذكاء وفطنة وفهم. ففي معرض المقارنة بين مفهوم السياسة عنده، ومفهومها عند سياسي عصره يقول علي علیه السلام «أيها الناس، ان الوفاء توأم الصدق، ولا اعلم جنة اوفى منه، وما يغدر من علم كيف المرجع، ولقد اصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً ونسبهم أهل الجهل إلى حسن الحيلة، مالهم، قاتلهم الله، قد يرى الحُوّلُ القُلّب وجه الحيلة، ودونها مانع من أمر الله ونهيه، فيدعها رأي العين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في الدين»(1) ، فالحيلة والخداع والغدر والكذب لا تعني إلا هدراً للأخلاق وهدما للدين في قاموس علي علیه السلام السياسي، لأن مقياسهلرجل السياسة الصحيح هو الاتفاق بين ما يظهر وبين ما يبطن، لأنه هو ذاته «من تماسك الشخصية بحيث لا يتناقض أبداً، وهو من سلامة وأصالة الفكربحيث لا يتعارض»(2) ، لاقتران القول بالفعل في كل تصرفاته، وهو القائل

ص: 308


1- خطب -41 التوأم: الذي يولد مع الآخر في حمل واحد، والوفاء والصدق قرينان في المنشأ والجُنة بضم الجيم: الوقاية، والمرجع - بكسر الجيم -: العودة لله سبحانه للحساب، الكيس بفتح الكاف: العقل، والحول القلب بضم الأول وتشديد الثاني وفتح في اللفظين: البصير بتحول الأمور وتقلبها، والحريجة: التحرج والاحتراز
2- جورج جرداق: علي صوت العدالة الإنسانية 1/ 168

«من لم يختلف سره وعلانيته، وفعله ومقالته، فقد أدى الأمانة، وأخلص العبادة». فالإخلاص في القول وفي الفعل قيمتان خلقيتان مرتبطتان في فكر علي علیه السلام السياسي بالأمة والعبادة(1) . ومن ذلك المنطلق الأخلاقي يقول عن سياسته إزاء سياسة معاوية «والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس، ولكن كل غدرة فجرة، وكل فجرة كفرة، ولكل غادر لواء يعرف به يوم القيامة»(2) . فمن ذلك نستنتج ان علياً علیه السلام قد كان على دراية تامة بما يحدث على الساحة الإسلامية من مراوغات وألاعيب سياسية في عصره، وكان بإمكانه ان يتخذ من أساليب سياسته ما يثبت سلطته، ولكنه كان «ملجما بالورع عن جميع القول والفعل إلا ما هو لله عز وجل، رضاً، وممنوع اليدين من كل بطش الا ما هو لله رضا»(3) . ففكر علي علیه السلام السياسي كما يبدو في نهج البلاغة يتمثل في محاولة إصلاح ما فسد في دولة الإسلام، بإرجاع الحقوق إلى نصابها، وبناء المجتمع المثالي القائم على المؤاخاة في الله والتسامح والتعاون، فكان ان خطط للمؤسسات التنفيذية في حكومته ما يمكنها من تحقيق تلك السياسة.

ص: 309


1- رسائل 26 ، الفقرة الأولى
2- خطب 194 . ويفجر: يفسق ويكذب
3- ابن أبي الحديد 10 / 229

ص: 310

مؤسسات الدولة في فكرالإمام علي علیه السلام

اشارة

فی كما يبدو ي نهج البلاغة

من خلال قراءة متأنية في نهج البلاغة، يمكننا القول، إن الجهاز الحكومي الذي اعتمد عليه علي علیه السلام في تسيير شؤون الدولة الإسلامية يميل إلى البساطة، وإن هذا الجهاز مبني في الأساس على قيم أخلافية عالية تضع في الاعتبار مصلحة عامة الناس قبل خاصتهم، فهو جهاز اجتماعي أخلاقي مكون من:

أولا: الخلافة :

أولا: الخلافة(1) :

أعلى مركز سياسي ديني في الدولة الإسلامية، وقد استحوذ على مساحة واسعة من فكر علي علیه السلام، فتكرر مصطلحها في النهج ما يقارب من إثنين وسبعين مرة باسم (الإمامة) ومشتقاتها، كما تكررما يقارب من خمس وأربعين مرة اسم (خليفة) مشتقاته، ولو راجعنا النصوص التي عالج علي علیه السلام فيها مسألة الخلافة، فسنجد انه قد عالجها من جميع جوانبها من شروط استحقاق(2) ،

ص: 311


1- لمعرفة أهمية هذا المنصب وخطورته راجع ص 163 وما بعدها من هذا البحث
2- راجع ص 172 من هذا البحث

وطريقة انعقاد(1) ، هذا بالإضافة إلى حديثه بإسهاب عن المهام المناطة بالخليفة في عدة نصوص بحسب مقتضيات مناسباتها. فمن اساسيات تلك المهام عنده، رعاية «الجند والمصر، وبيت المال وجباية الأرض، والقضاء بين المسلمين والنظر في حقوق المطالبين»(2) ، فالمهام المناطة بالخليفة من وجهة نظر علي علیه السلام شاملة لجميع شؤون الدنيا والدين، لذا يجب ان يكون متقلد ذلك المركز قدوة لجميع افراد الأمة في القول والفعل، فلا يستأثر بشيء دون أفقر الناس(3) ، ولا يقوم بما لا يرضاه لأي فرد طبقا لقوله «إني والله ما أحثكم على طاعة الا واسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية الا وأتناهي قبلكم عنها»(4) ، وعلى ذلك النهج الأخلاقي تبلور فكره في اختيار ولاته لكونهم يمثلونه ويقومون مقامه في ولايات الدولة.

ثانيا: الوالي:

يحتل الوالي مكانة كبيرة في حكومة الإمام علي علیه السلام، ويمكن اعتباره نائب الخليفة والقائم بمهامه في إدارة شؤون ولايته، ورعاية مصالح العباد فيها، ولأهمية الوالي كمنفذ لسياسة الحكومة - في فكر علي علیه السلام - فقد تكررت كلمة (والي وولاية) في النهج ما يقارب من خمس وثمانين مرة.

ومن خلال قراءة متمعنة في تلك النصوص يمكننا تلمس الأسلوب الدقيق

ص: 312


1- راجع ص 183 من هذا البحث
2- خطب 118
3- راجع ص 195 من هذا البحث
4- خطب 177 ، الفقرة الأخيرة

الذي يتبعه علي علیه السلام في اختيار ولاته، فمن الأولويات التي يضعها في اعتباره فيمن يرشحه للولاية «اللياقة الذاتية للحكم حسب سلوكه الطبيعي والاجتماعي، وحسب ايمانه العقائدي»(1) ، مما يعني دراسة حالته دراسة مستفيضة، من حيث مسلكه الإنساني وتصرفاته الاجتماعية، ومدى اخلاصه للعقيدة، على ان تكون الدراسة متبوعة بمراقبة دقيقة أثناء ممارسة مهام الولاية، لكون علي علیه السلام يرى انه «إذا قوي الوالي في عمله حركته ولايته على حسب ما هو مركوز في طبعه من الخير والشر»(2) ، مما يعني في طياته ان الطبع بغلب التطبع، فما دام الإنسان بعيداًعن واقع العمل فقد تصدق الفراسة فيه، وقد تخون، خاصة إذا حاول التزيي بما ليس في طبعه، إذ سرعان ما ينكشف حين يباشر ما أوكل إليه من أعمال فتتبدى طموحاته في الظهور لتبين ما في دخيلته من ميول خيرة أو شريرة، لذا لم يرشح للولاية إلا من لدينه(3) ، واضعاً شروطاً تكاد تكون نادرة الا في القليل من الرجال، لأن طبعه المثالي وحبه للإنسانية جعلاه يتوق دائماً إلى المثال في كل ما يتعلق بالإنسان ويمكن حصر الشروط التي يتوخاها على علیه السلام في الوالي المثالي في النقط الثمان التالية:

1 - الإيمان القوي التام(4)

2 - الورع والنزاهة(5)

ص: 313


1- مهدي محبوبة: ملامح من عبقرية الإمام ص 83
2- ابن أبي الحديد 20 / 269
3- راجع ص 198 وما بعدها من هذا البحث
4- راجع رسائل 38 - الفقرة الثانية في وصفه علیه السلام لمالك الأشتر
5- المصدر السابق نفسه

3 - الخوف المؤدي إلى محاسبة النفس على كل حقير أو عظيم(1)

4 - العدل بمعناه الشامل لكل الأشياء ولجميع أفراد الولاية الفقير قبل الغني والضعيف قبل القوي(2)

5 - ثقافة واسعة تمكن الوالي من الدراية التامة بأحوال البلاد وما مرعليها وعلى مواطنيها من حكومات سابقة اتصفت بالعدل أو بالجور لمقارنة حكمه بحكم أولئك وتلمس الطريق الأصوب والأسلم في سياسته، من ذلك قوله للأشتر «اعلم يا ملك، أني قد وجهتك إلى بلاد قد جرت عليها دول قبلك، من عدل وجور، وان الناس ينظرون من أمورك في مثل ماكنت تنظر فيه من امورالولاة قبلك، ويقولون فيك ما كنت تقول فيهم، وانما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده»(3)

6 - الشجاعة والقوة والجرأة، ف «لا ينام أيام الخوف، ولا ينكل عن الاعداء ساعات الروع»(4)

7 - الإئتمار التام بأمر خليفة في كل ما يعترضه من مهام خطيرة تتعلق بالبلاد والعباد قبل ان يتخذ رأيه فيها(5)

8 - ان يكون قدوة في القول والفعل بالنسبة لمواطني ولايته(6) ، متبعاً

ص: 314


1- المصدر السابق نفسه
2- راجع رسائل 26 ، الفقرة الأولى، ورسائل 76
3- رسائل 53 ، الفقرة الرابعة وما بعدها
4- رسائل 38
5- راجع السابق الفقرة الثانية
6- راجع رسائل 45 ، الفقرة الثانية

الصراحة بمكاشفتهم بالأمور المتعلقة بمصالحهم(1) ، إضافة إلى ذلك الحلم وسعة الصدر(2) والتعويل على استشارة أولي الألباب في المهمات(3) ، وحضورالبديهة عند كل ملمة، والنظر في مجريات الأحداث بحذرواناة ومعالجتها بما يتناسب والشرع حتى ولو كان في ذلك اجحاف بالحكومة واضرار بمصالحها الدنيوية(4) .

وهو إذ يضع تلك الشروط الدقيقة فيمن يتوخاه لتحمل أعباء الولاية، لأنه يعتبره شريكه فيما اوكل إليه من امانة، يقول لعبد الله بن عباس واليه على البصرة «أربع أبا العباس، رحمك الله، فيما جرى على لسانك ويدك من خير وشر، فإنا شريكان في ذلك»(5) ، والشراكة التي يقصدها علي علیه السلام، تعني أن مهام الوالي في ولايته تكاد تكون نفس مهام الخليفة، أي بمعنى أوضح انها ولاية اختياريةعامة(6)، حسب ما وضحه الماوردي الذي جعل اختصاص الوالي العام في سبع نقاط هي:

1 - النظر في تدبير الجيوش.

2 - النظر في الأحكام وتقليد القضاة.

3 - جبابة الخراج وقبض الصدقات وتقليد العمال فيهما، وتفريق ما استحق منها.

ص: 315


1- راجع رسائل 53 ، الفقرات 4، 13 ، 32
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه
5- رسائل 18 ، وأربع: أي أرفق عند حدود ما تعرف
6- راجع الأحكام السلطانية، ص 27

4 - حماية الدين والذب عن الحريم.

5 - إقامة الحدود في حق الله.

6 - الإمامة في الجمع والجماعات.

7 - تسيير الحجيج(1) .

ولو نظرنا فيما أورده الإمام علي علیه السلام من اختصاصات الوالي فسنجدها تشمل إضافة إلى ما أورده الماوردي النظر في العلاقات الإنسانية بين الناس، والسترعلى عيوب الرعية ما أمكن(2) ، ورعاية كل طبقة بما يصلحها(3) ، بالإضافة إلى الطريقة المثلى في السياسة اتجاه العدو في وقت الحرب والسلم(4) ، من صلح وكتابة معاهدات، إلى غير ذلك من شؤون تتعلق بمصلحة البلاد والعباد، وهو بذلك جعل مهمة الوالي متسعة باتساع ولايته، إذ يدخل ضمنها كل بيت من بيوتها، وتشمل الرعاية كل شخص، بل حتى البقاع وما يدب عليها من حيوان، وعلى ذلك فإن الشروط التي أرادها في شخص واليه في منتهى المثالية والندرةولكنها هي المؤهلات لصاحبها للقيام بمهام الولاية طبقا لمعاني الحق في فكرعلي علیه السلام الذي يدرك تماماً بأن «الحق كله ثقيل، قد يخصه الله على اقوام طلبوا العافية، فصبروا أنفسهم ووثقوا بصدق موعود الله لهم»(5) . وبطبيعة الحال فإن الاختصاصات الواسعة التي أوكلها علي علیه السلام لواليه تحتاج إلى جهاز إداري

ص: 316


1- السابق
2- راجع رسائل 53 ، الفقرات: 8، 14 ، 33
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه
5- رسائل 53 ، فقرة 26

محكم، حتى يتمكن من القيام بمسؤوليته على اكمل وجه.

ثالثا: جهاز الدولة الإداري، كما يبدو في النهج:

اشارة

تعتمد الحكومة في تسيير شؤون الدولة ومصالح الناس كما يبدو في النهج على جهاز اداري مكون من(1) :

1 - الوزارة.

2 - الجيش.

3 - القضاة.

4 - بيت المال.

5 - العمال.

6 - الدواوين.

7 - الرقابة الإدارية.

1 - الوزارة:

1 - الوزارة(2) :

يختلف مفهوم الوزارة عند علي علیه السلام عنه عند الماوردي، فالماوردي يجعل الوزير في مرتبة ثانية بعد الخلفية، ويضع للوزارة شروطاً تكاد تكون مقاربة لشروط

ص: 317


1- سنشير إلى مصدر كل نقطة عند طرحها للمناقشة
2- رسائل 53 ، فقرة 10 . والوزير لغة هو المساعد والمعين وفي التنزيل «وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي»....طه/ 29»أي معينا ومساعداً

انعقاد الإمامة فيما سوى النسب(1) . أما علي علیه السلام فيضع الوزير في مرتبة المستشارالذي لا تتعدى صلاحياته الاستشارة ويأتي في مرتبته دون الوالي، ويستدل على ذلك من قوله لمالك الأشتر«إن شر من كان للأشرار قبلك وزيراً»(2) ، مما يعني ضمنيا تفويض علي علیه السلام للوالي أمر اختيار المستشارين والوزراء الذين يعول على آرائهم وحكمتهم، وقد وردت مفردة (وزير) ومشتقاتها - كمصطلح سياسي في النهج - ما يقارب من اثنتين وعشرين مرة وهي تدل في معظم سياقاتها على ان أهمية الوزير تأتي دون اهمية الوالي، ولا تتعدى صلاحياته وصلاحيات المستشارسوى النصح، وإبداء الرأي إذا طلب منه، من ذلك قوله للناس لما ارادوا مبايعته على الخلافة بعد مقتل عثمان «أنا لكم وزيراً خير لكم مني اميراً»(3) أي معاوناً ومستشاراً لكم، امدكم بالآراء التي تصلحكم في اموردينكم ودنياكم كما كنت في أيام الحكام السابقين، مع ملاحظة أن مصطلح (وزير) بمعنى النيابة العامة والمكانة المرموقة قد ورد في النهج في موضع واحد، على لسان الرسول صلی الله علیه و آله وسلم في شخص علي علیه السلام بقوله صلی الله علیه و آله وسلم«إنك تسمع، وترى ما أرى، إلا أنك لست بنبي، ولكنك لوزير»(4) في شركك إياي في المعاونة والقوة وتثبيت دعائم الدين.أما الشروط التي يجب أن تتوفر في المستشار أو الوزير كما حددها علي علیه السلام فهي:

1 - أن لا يكون بخيلاً أو جبانا أو حريصاً لأن «البخل والجبن والحرص

ص: 318


1- راجع الأحكام السلطانية ص 20 ، وطرحه لمفهوم الوزارة ذاك - مبني على ما تصوره - في العصورالإسلامية المتأخرة وخاصة الأعصر العباسي
2- رسائل 53 ، فقرة 10
3- خطب 91
4- خطب 240 ، فقرة 27

غرائز شتى بجمعها سوء الظن بالله»(1) .

2 - أن يكون ذا ماضٍ مشرف ونظيف ولم يشارك الأشرار في حكومات سابقة، حتى ولو كان مؤهلاً لذلك المنصب(2) .

3 - ان يكون شديداً في أمر الله لا ينافق في الحق ولا يعرف سواه طريقا(3) .

2 - الجيش.
اشارة

من خلال قراءتنا في نصوص النهج المتعلقة بالجند والحرب، نجد أن عليا علیه السلام قد أعطى المؤسسة العسكرية من الأهمية ما يضعها على رأس الطبقات التي يوصي عماله بها خيراً، يقول للأشتر «الجنود بأذن الله، حصون الرعية، وزين الولاية، وعز الدين، وسبل الامن، وليس تقوم الرعية الا بهم»(4) ، فالجند في فكر علي علیه السلام للبناء والسلام والجهاد والمحافظة على الاستقرار والامن، مما يعني ضمنا أن لهم مؤسستهم الخاصة القائمة بذاتها التي عادة ما تكون تحت إشراف الوالي المباشر، ومن أهم الشروط التي يجب أن تتوفر لها كي تقوم بتأدية واجبها على أسس أخلاقية متينة:

- أن يكون الانخراط فيها تطوعيا، لأنها مؤسسة ذا طابع أخلاقي، هدفها الأسمى تثبيت القيم، وإزهاق الباطل، ويجدر بالمنتسب إليها أن يكون مؤمنا بذلك. وأن تكون المادة عنصراً ثانويا بالنسبة إليه، لأن الجهاد بمعناه العقائدي يكون بقوة الإيمان بالقيم التي تدفع الإنسان إلى الاستشهاد في سبيلها، لذلك

ص: 319


1- رسائل 53 ، فقرة 9
2- راجع السابق، فقرة 10
3- المصدر السابق نفسه
4- السابق، فقرة 15

فقد وردت جميع الخطب الداعية إلى الجهاد في النهج، خالية من أية إغراءات مادية دنيوية.

- أن يكون الترابط بين الجند وقادتهم محكماً، لذلك فقد عول علي علیه السلام على قاعدة في اختيار قادة الجيوش قوامها الكفاءة القتالية المقرونة بالأخلاق العالية، يقول للأشتر «فولِّ من جندك أنصحهم في نفسك لله، ولرسوله، ولإمامك، وأنقاهم جيباً، وأفضلهم حلماً، ممن يبطئ عند الغضب، ويستريح إلى العذر ويرأف بالضعفاء، وينبو على الاقوياء»(1) ذلك من الناحية الأخلاقية.

- أما اختيار القادة من حيث الخيرة فيبلورها فكر علي علیه السلام في ذوي النسب والشرف السامق والمجد من الشجعان الكرام(2) الذين لا يبطرهم المركز لكونه لا يرفع من منزلتهم ولا يزيدهم شرفاً، وكما نلاحظ أن الخبرة والاخلاق عنصران متلازمان ومتداخلان عنده، بحيث يستعصي الفصل بينهما.

- ان تكون العلاقة بين قادة الجند وجندهم علاقة انسانية، تحكمها الرأفة والعطف والحب، بعيدة عن روح التسلط، فأفضل قادة الجند عند علي علیه السلام«من (واسى جنده) في معونته وافضل عليهم من جدته»(3) .

- إن انخراط الجندي الطوعي في الجيش لا يعني حرمانه من المادة، فقد يتبادر إلى الذهن ان علياً علیه السلام لم يكن يضع للمادة أي اعتبار أو أي أثر في اصلاح الجند، ولكن الذي نقرأ في النهج يخالف ذلك، فعلي علیه السلام لم يقصر الدخول في الجندية على العمل المجاني، بل جعل التطوع في المقام الأول لكونه واجباً دينيا، يحتم

ص: 320


1- رسائل 53 ، فقرة 15 . وأنقاهم جيبا: أطهرهم صدراً، وينبوا عليهم: يشتد عليهم
2- راجع السابق فقرة 17
3- السابق، الفقرات 16 ، 17 ، 18 ، وواساهم: ساعدهم وجدته بكسر الجيم وفتح الدال: كرمه

على كل مسلم قادر مباشرته إذا دعت الحاجة إلا أنه في الوقت نفسه قد وضعللمادة اعتبارها، وتأثيرها في الروح القتالية بالنسبة للجند فهو يرى ان إعطائهم «ما يسعهم ويسع من وراءهم من خلوف أهلهم»(1) يجعلهم يدركون أن من ورائهم حكومة تتفقد أمورهم الدنيوية بما يكفل لهم ولأولادهم ونسائهم وعجزتهم الحياة الكريمة، فيكون في ذلك اخلاصهم فيما كلفوا به من قتال في وقت الحرب، وتفانيهم في بث الطمأنينة واشاعة الامن بين الناس وقت السلم حيث «لا تظهر مودتهم الا بسلامة صدورهم»(2).

- ثم انه لما كان للحوافز المادية أثرها الفعال في اخلاص الجند، فقد جعل لها علي علیه السلام مكانة، في فكره العسكري، بوصيته ولاته وامراء جنده ان يعرفوا «لكل امرئ ما ابلى»، مع تجنب المحاباة على أساس المكانة والنسب حال تقسيم مثل تلك الحوافز إذ يجب ان يأخذ كل جندي حقه كاملاً، يقول ضمن عهده للأشتر «ولا يدعونك شرف امرئ أن تعظم من بلائه ما كان صغيراً، ولا ضعة امرئ ان تصغر من بلائه ما كان عظيماً»، هذه بالنسبة لتكوين الجيش في فكر الإمام علي علیه السلام أما سياسته العسكرية فيمكن حصرها في محاور أربعة هي:

1 - علاقة الخليفة أو القائد العام بأمراء الجيوش.

2 - علاقة أمراء الجيوش بالجند.

ص: 321


1- رسائل 53 ، الفقرات 16 ، 17 ، 18 ، خلوف - بضم الخاء واللام -: جمع خلف، بفتح الخاء وسكون اللام، وهو ما يتركه الجند وراءهم من نساء واطفال وعجزة
2- المصدر السابق نفسه

3 - الطلائع والعيون.

4 - الصفات التي ينبغي للجندي أن يتحلى بها.

1 - علاقة الخليفة بأمراء الجيش:

يبدو أن علاقة ولي الأمر أو الخليفة بقادة الجند تنبني على تبادل الحقوق، في فكر علي علیه السلام الذي يرى ان من حق القادة الاطلاع على جميع أسرار الدولة العسكرية والأمنية، الا فيما يختص بحرب أو يتعلق بحكم من الضروري كتمانه حتى حينه، كما أن على الخليفة أو من يقوم مقامه ان لا يفضل قائداً على اخر في رتبته الا بما يمتاز به من بلاء ويلتزم أيضاً بأداء جميع حقوقهم المالية والقانونية كاملة، فإذا ما استوفوا كل ذلك فمن حق الخليفة عليهم «الطاعة، وأن لا ينكصوا عن دعوة ولا يفرطوا في صلاح وان يخوضوا الغمرات إلى الحق»(1) .

2 - علاقة أمراء الجيوش بالجند:

من واجب أمير الجيوش - في فكر علي علیه السلام - أن يراعي راحة جنده ولا يرهقهم بالقيام بمجهودات شاقة تحول بينهم وبين تأدية الواجب على أتم وجه، ففي أثناء سيرهم نحو معركة ما أو لإخماد فتنة في اقليم ما، يجب عليه ان يختار الاوقات المناسبة، ففي وصيته لأحد أمراء جيوشه يقول «لا تقاتلن الا من قاتلك وسر البردين، وغوّر بالناس ورفه في السير، ولا تسر أول الليل، فإن الله جعلة سكناً، وقدره مقاما، فأرح فيه بدنك وروّح عن ظهرك، فإذا وقفت حين

ص: 322


1- رسائل 50 ، فقرة 3. بتصرف في النص بتحويل تاء المخاطبين إلى ياء المضارعة

ينبطح السحر، أو حين ينفجر الفجر، فسرعلى بركة الله»(1) .

فالراحة البدنية والترويح عن الجنود، تجعلهم في حالة نفسية مرتفعة أثناء الحرب، ولكن ليس معنى ذلك استخدام الليونة التي تؤدي بالجندي إلى التهالك على ملذات الدنيا ومن ثم الانهيار، فعلي علیه السلام يرى ان من مميزات رجل الحرب ان يتحمل خشونة العيش وصعوبة الحياة(2) ، والتعود على البعد عن الاهل، فكان إذا شيع جيشاً لحرب أو حشر جنداً في معسكر استعداداً لحرب، يوصيهم من ضمن نصائحه بقوله «اعذبوا عن النساء ما استطعتم»(3) . إذنفراحة الجنود التي يرمي علي علیه السلام إليها، هي الاطمئنان النفسي والراحة الجسدية المبنيتان على الرأفة والرحمة بجانب عدم التهالك على الشهوات المادية تهالكاً يؤدي بالجندي إلى الانهيار.

وعن علاقة القائد بجنده حين ملاقاة العدو، يرى علي علیه السلام، ان من واجبه ان ينظم صفوفه باتخاذه الموقف الوسط من جنده ويضبط نفسه، ويكبح جماح حماسه باستخدام العقل، فلا يدنو من عدوه «دنو من يريد ان ينشب الحرب ولا (يتباعد) عنهم تباعد من يهاب البأس»(4) ، ولا يغامر بالدخول مع العدو في

ص: 323


1- رسائل 12، وسر البردين: أي وقت برودة الأرض والهواء من حر النهار بمعنى أن السير يكون إما في الصباح أو في العصر، وغوّر بالناس: أي أنزل بهم وقت القائلة في منتصف النهار حين يشتد الحر، ورفه: أي هو ن ولا تتعب نفسك ولا جندك ولا دابتك، وينبطح: أي ينبسط وهو مجاز عن استحكام الوقت بعد مضي مدة منه أو بقاء مدة منه
2- راجع مقولة علي علیه السلام في ذلك الشأن ضمن: رسائل 45 الفقرة الثالثة
3- حكم 266 . ومعناها كما يقول الشريف الرضي: اصدفوا عن ذكر النساء وشغل القلب بهن وامتنعوا عن المقاربة لهن، لأن ذلك يفت في عضد الحمية، ويقدح في معاقد العزيمة
4- رسائل 12

حرب حتى يتلقى أمر القائد العام أو الخليفة(1)، أما إذا اضطره العدو لذلك، فمن واجبه - إيثاراً للسلم - وحفاظاً على الأرواح.

- أن يدعوهم لما فيه خير وأمن البلاد والعباد، ولا يلجأ إلى الحرب إلا بعد أن يستنفذ كل ما لديه من أعذار سلمية(2) ، لأن سلامة أرواح الناس عند علي علیه السلام - فوق كل اعتبار، ما لم يتعارض ذلك مع الغاية النبيلة المتمثلة في احقاق الحق وتقوية دعائم الدين، فالقائد بالنسبة لجنوده أبٌ رحيم(3) ، وبالنسبة لأعدائه داعية سلام. أما الحرب فهي العلاج الأخير.

3 - الطلائع والعيون:

المخابرات العسكرية من أهم الدعائم التي اعتمدتها الدول لحفظ امنها منذ أقدم العصور(4)، إذ عن طريقها تعرف تحركات العدو، وما يمتلكه من سلاح وعتاد، ومواضع الضعف والقوة في دفاعاته، ورسم الخطط والخطط المضادة لهجوماته المباغتة. لذلك فقد اهتم بها علي علیه السلام اهتماماً عظيماً وجعلها ضمن مخططات مؤسسته العسكرية، فاستخدم العيون والطلائع فقد كانت له عيون بالشام ترصد له تحركات معاوية(5) ، كما كانت له بعض العيون في

ص: 324


1- المصدر السابق نفسه
2- المصد السابق نفسه
3- راجع رسائل 53 ، الفقرة 16
4- للاطلاع على قدم أنشطة الاستخبارات العسكرية - راجع عبد الله مناصرة الاستخبارات العسكرية في الإسلام، ص 15 وما بعدها
5- راجع ابن مزاحم: صفين ص 65 وما بعدها ورسائل 33

جيش معاوية بصفين(1) ، هذا بالإضافة إلى الطلائع التي كان يرسلها في مقدمة جيوشه كما فعل في صفين، يقول ضمن وصيته لجيش من جيوشه «اعلموا ان مقدمة القوم عيونهم وعيون المقدمة طلائعهم»(2) ، وذلك يعني ان علياً علیه السلام قد كان على علم واسع بالشؤون العسكرية.

والجوسسة كعمل مشروع يراد منه الحفاظ على مصالح الأمة وحماية الإسلام، لم يقصرها علي علیه السلام على الناحية العسكرية من دون غيرها من النواحي الامنية الأخرى، ففي كتاب له لقثم بن العباس(3) واليه على مكة، يقول «أما بعد فإن عيني بالمغرب كتب إليّ يعلمني أنه وجه إلى الموسم أناس من أهل الشام»(4) .

لكن علياً علیه السلام لم يحاول استخدام الجوسسة لقمع على الإطلاق، لأنه كان يستنكف الإساءة لأي إنسان في سبيل توطيد سلطته، فهو كقائد يتحلى بروح الفروسية في أنبل معانيها يجد أن «ألأَم الناس من سعى بإنسان ضعيف إلى سلطان جائر»(5) .

4 - الصفات التي ينبغي للجندي ان يتحلى بها في نظر الإمام علي علیه السلام:

مما أثر عن علي علیه السلام من توجيهات ونصائح كان يزود جنده بها أثناء توجههم

ص: 325


1- راجع ابن مزاحم: السابق ص 468
2- رسائل 11 ، والنص يحوي نصائح عسكرية جليلة رغم صغر حجمه
3- قثم بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، استعمله علي علیه السلام واليا على مكة فلم يزل واليا عليها حتى قتل علي علیه السلام، سار أيام معاوية إلى سمرقند فمات بها شهيداً أسد الغابة 392/4
4- رسائل 33
5- ابن أبي الحديد 20 / 303

إلى أية معركة يمكننا التعرف على صفات الجندي المثالي عنده.

فعلي علیه السلام كما عرفنا لم يبدأ بحرب قط(1) و «لم يقاتل يوما من أهل القبلة ممن خالفه حتى يدعوهم»(2) إلى الاحتكام للعقل، لذلك فقد أراد لجنده أن يقتدوا به ويأخذوا بنهجه في ضبط نفوسهم وتحكيم عقولهم، ولا يبادروا بمقاتلة أعدائهم إلا إذا بدأوا هم بذلك، وينطلق من نظرية تلك على اعتبار أن في بدء القتال عدوانا، واستصغاراً للقيم، وانهزاما داخليا للنفس المعتدية يؤدي بها إلى الانهيار، جاء في نصحه لابنه الحسن علیه السلام قوله «لا تدعون إلى مبارزة، وان دعيت فأجب، فإن الداعي باغ، والباغي مصروع»(3) لاعتداده بشجاعته وقوته دون ارتكازه على قاعدة خلقية يؤدي به إلى الغرور فتكون هزيمته حتمية.

أما إذا اضطر الجند للدخول في مواجهة حتمية مع العدو، فمن واجب كل جندي ان يعرف موقعه، ويلتزم بتوجيهات قيادته، ليدفع عن نفسه الهلاك، ويحقق النصر. فقبل نشوب أية معركة يجب على جميع المقاتلين أن يلتزموا بقاعدة عسكرية فحواها تقدم أصحاب الدروع من الجند، وتأخر الحاسرين ممن ليس لديهم ما يدرأ عنهم ضرب السيوف وطعن الرماح(4) .

هذا من ناحية التحرك العسكري في مواجهة العدو في أثناء بدء المعركة، أما من ناحية درء الجندي خطر الموت باتقاء الضربات القاتلة أثناء احتدام القتال،

ص: 326


1- راجع ص 252 وما بعدها من هذا البحث
2- أبو يوسف: كتاب الخراج ص 214
3- حكم 232
4- راجع خطب 124. وقد ورد ضمنها نصائح عسكرية أخرى تتعلق بالرايات وكيفية حملها ومن هو المؤهل لتلك المهمة الخطيرة الصعبة

فيرى علي علیه السلام أنه من الأجدى بالجند في أثناء التحامهم بالأعداء، أن يعضوا على أضراسهم بشدة(1) كي تمنح تلك العملية جماجمهم صلابة وقوة قد تحول دون سيوف الاعداء والقطع، ثم ان العض على الاضراس يزيد من شدة المقاتل في ضرب القطع، لما لتك العملية من تأثير نفسي وجسمي في حشد القوة لمواجهة الصعوبات والتغلب عليها بإصرار. ويجب على الجند ان يتحاشوا رماح الأعداء أثناء اشتجارها بيقظة وانتباه واستخدام لياقتهم البدنية للإنعطاف عن اسنتها في خفة وحذق يجنبهم إصابتها(2) .

ومن عوامل النصر - من وجهة نظر علي علیه السلام العامل النفسي المتمثل في طرد الخوف والاقبال على القتال بقلوب قوية عزيمة صادقة، لذلك فمن الاجدى للجنود في أثناء احتدام القتال، غض أبصارهم عما تهرق من دماء، وتزهق من ارواح لأن ذلك كما يقول «أربط للجأش وأسكن للقلوب»(3) ، إضافة إلى التزام السكينة والهدوء طرداً للفشل(4) .

ولما كان تعاون الجند فيما بينهم من أهم عوامل النصر فلقد ركزّ عليه علي علیه السلام واضعاً نصب عينيه احتمال ان يصاب الجندي بأنهيار نفسي في أثناء مشاهدته الموت من حوله، وفي مثل هذه المواقف يجب على أخيه الجندي أن يقف بجانبهويشد أزره ليمنحه الإحساس بالاطمئنان، فيكون ذلك دافعاً له على مواصلة القتال، وفي ذلك يقول علي علیه السلام«وأي امرئ منكم أحس من نفسه رباطة جأش

ص: 327


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه
3- خطب - السابق
4- المصدر السابق نفسه

عند اللقاء، ورأى من أحد إخوانه فشلاً فليذب عن اخيه بفضل نجدته التي فُضّل بها عليه كما يذب عن نفسه»(1) .

ومن أهم الصفات التي يجب أن يتحلى الجند بها - من وجهة نظر علي علیه السلام - التزام أخلاق الفرسان بتجنبهم كل ما يحط من القيمة الأخلاقية، في أثناء المعركة وبعد أن تحسم لصالحهم، ويمثل ذلك قوله «اذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح، واذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبراً، ولا تكشفوا سراً، ولا تدخلوا دارا، ولا تأخذوا من اموالهم شيئاً ولا تهيجوا امرأة بأذى، وإن شتمنَ أعراضكم وسببنَ أمراءكم وصلحاءكم»(2) .

ففكر علي علیه السلام العسكري فكر تكاملي من حيث ممازجته بين السياسة العسكرية بشقيها الإداري والتربوي وبين الأخلاق المتمثلة في الإيمان بالقيم والتعاون والبناء، والأخذ بالأساليب الإنسانية في مواجهة الأعداء، لأن خبرته العسكرية وشجاعته «هما بمنزلة التعبير عن الفكرة، أو بمثابة العمل من الادارة، لأن (محورها) الدفاع عن طبع في الحق وايمان بالخير»(3) .

3 - القضاء:
اشارة

«كان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرون بأنفسهم»(4) ، ويرجع ذلك إلى الأهمية التي أولاها الإسلام له، وأسوة بالنبي صلی الله علیه و آله وسلم الذي كان يقضي بين المسلمين في المدينة بنفسه، ويرسل من يتوخى فيهم العلم والدراية والإنصاف من

ص: 328


1- خطب 122
2- رسائل 14
3- جورج جرداق: علي علیه السلام صوت العدالة الإنسانية 1/ 80
4- المصدر السابق

صحابته للقضاء بين الناس في الولايات البعيدة، ومن أولئك الذين اعتمد عليهم صلی الله علیه و آله وسلم في القضاء «علي بن أبي طالب علیه السلام وهو من أجل القضاة»(1) . وقد اهتم علي علیه السلام بالقضاء في دولته لسبيين:

- الأول: مكانة القضاء كمنصب ديني يهم الناس كافة، بالفصل في الخصومات، وأخذ الحق للمظلوم وردع الظالم، وإقامة الحدود بما يتطابق واحكام القرآن والسنة.

الثاني: مباشرته القضاء بنفسه على عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم وعهد الحكام الثلاث من بعده. وتمرسه في ذلك جعله على دراية تامة بخبايا تلك الوظيفة الحساسة، وما تحتاجه من علم وخبرة، وسعة اطلاع في طبائع البشر، لمعرفة ألاعيب المحتالين، إلى غير ذلك من أمور يحتاجها القاضي في أثناء مزاولته القضاء، فمن خلال تجربته في مباشرة ذلك المنصب يقول علي علیه السلام«لو يعلم الناس ما في القضاء، ما قضوا في ثمن بعرة، ولكن لا بد للناس من القضاء»(2) ، لذلك يرى علي علیه السلام: ان على القاضي ان يتحرى الحق وان يحكم بالعدل دون أي التباس، لأن القاضي الجائر والقاضي المخطئ وان كانت نيته العدل كلاهما في النار من وجهة نظر علي علیه السلام(3) .

ويبدو ان الاغراءات المادية والسعي وراء الشهرة في صدر الإسلام أدى بكثير من الناس إلى الجري وراء ذلك المنصب، مما جعل علي علیه السلام يحمل حملة شعواء على مثل أولئك المتطفلين على الوظيفة، وقد ورد ذلك في نصين في النهج:

ص: 329


1- مقدمة ابن خلدون ص 375
2- وكيع: اخبار القضاة 1/ 5، 21
3- راجع السابق 18

- الأول منهما يبين خطورة القاضي الجاهل بعلم القضاء، وما ينجر عن جهله من كوارث على الناس، جاء في خاتمته «جاهل خباط جهالات، عاش ركاب عشوات، لم يعض على العلم بضرس قاطع... لا يحسب العلم في شيء مما انكره، ولا من وراء ما بلغ مذهباً لغيره، وإن أظلم عليه أم أكتتم به لما يعلم من جهل نفسه، تصرخ من جور قضائه الدماء وتعج منه المواريث»(1) .

- اما النص الثاني فيتمثل في اختلاف الفتيا بين القضاة في قضية واحدة بعينها بحيث يحكم فيها كل قاض بخلاف حكم الآخر، ثم يجتمعون عند من «استقضاهم فيصوب آراءهم جميعاً، وإلههم واحد، وكتابهم واحد. أفأمرهم الله - سبحانه - بالاختلاف فأطاعوه، أم نهاهم عنه فعصوه»(2) .

لذلك وضع شروطاً شاملة ودقيقة فيمن يصلح لتولي ذلك المنصب المهم وهي:

1 - شروط أخلاقية.

2 - شروط ثقافية.

3 - شروط نفسية.

أولاً - الشروط الأخلاقية:

وحصرها في وجوب كون القاضي من حيث اختياره، من أفضل الرعية عند

ص: 330


1- خطب 17، فقرة 2. تعج: يرتفع صوتها مولولة، ويقول محمد عبده أن «صراخ الدماء وعج المواريث، تمثيل لحدة الظلم، وشدة الجور» راجع نهج البلاغة بشرح محمد عبده ص 61 الأندلس
2- خطب 18 ، الفقرة الأولى

ولي الأمر أخلاقا(1) وصورة هذه الأخلاق تتجلى في:

الصبر والتأني والثبات فلا «تضيق به الأمور»(2) في مجلس القضاء وأن لا يكون اعسر الخلق لجوجاً، حتى يمكنه تجنب استخدام أساليب الضغط في أثناء طلبه من أحد المتخاصمين الإدلاء بحجته، فهو بهذه الخصيصة الأخلاقية «ممن لا تمحكه الخصوم»(3) . وإذا ما زل على أحد المتخاصمين وشعر بذلك فمن الواجب عليه أن يراجع نفسه فلا «يتمادى في الزلة»(4) ، وإذا ما أخطأ واستبان فلا يصرعليه «ولا يحصر من الفيء إلى الحق إذا عرفه»(5) .

ثانيا - الشروط الثقافية:

بالإضافة إلى تبحر القاضي في الشريعة الإسلامية يجب أن يكون مزوداً بثقافة موسوعية عامة، فلا يقصر نظره في قضايا الناس على ما يستبين له من براهين لأول وهلة، بل يجب أن يستقصي في دراسته لتلك البراهين كل الادلة الشرعية الناتجة عنها «فلا يكتفي بأدنى فهم دون اقصاه»(6) . وقد تشتبه الأمورعليه ويلتبس الحكم، وفي هذه الحالة يجب أن يتحرز من الوقوع في الشبهات،

ص: 331


1- راجع رسائل 53 فقرة 20
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع رسائل 53 ، فقرة 20
5- المصدر السابق نفسه
6- المصدر السابق

ولا يبت في حكم إلا بعد أن يطمئن إلى عدالته(1) . ثم أنه يجب أن يكون ممن يعتمد في قضائه على سماع جميع أقوال المتخاصمين(2) ، ويزنها بميزان العدل بإرجاعها إلى الأصول المعتبرة، ومقارنتها بمثيلاتها، ومن ثم يصدر حكمه بناءعلى قوة الحجج، لا من حيث الجدال والمماحكة، وقوة الأسلوب، ولكن من حيث قوة المنطق ومطابقته للحق(3) .

ثالثاً - الشروط النفسية:

إن النفس الإنسانية التي تجعل من المال هدفاً وغاية، قد تضطر إلى التخلي عن التزاماتها في سبيل ذلك، لذا فقد رأى علي علیه السلام ان يكون المؤهل لمنصب القضاء ممن لا «تشرف نفسه على طمع»(4) . كما أن التبرم والضيق لا يتفقان وطبيعة العمل القضائي. فمن خاصية القاضي أن يكون منشرح الصدر يستمع إلى الخصوم بإصغاء دونما ملل «من مرجعة الخصم»(5) ويتحلى بضبط النفس «حتى تتكشف الأمور»(6) ، ويجب ان يتمتع بمزايا الشجاعة والجرأة والصرامة في الوقوف بجانب الحق «عند اتضاح الحكم»(7) . وينأى بنفسه عن الخيلاء

ص: 332


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق
6- المصدر السابق
7- المصدر السابق

وينبذ النفاق والتزلف «فلا يزدهيه اطراء ولا يستميله إغراء»(1) .

وعلي علیه السلام حين يضع لمنصب القضاء تلك الشروط المثالية، فهو على وعي تام بأن الحصول على مثل أولئك الرجال قليل(2) ، ولكن قلتهم لا تمنع من البحث عنهم بين الناس لحاجة المجتمع إليهم، إلا أنه في الوقت نفسه واحترازاً من الوقوع في الخطأ، واطمئنانا على حقوق الناس اوجب على ولي الأمر مراقبة القضاة، ومراجعة احكامهم من حين إلى حين(3) .

وحين يجنب القضاة الانزلاق في هاوية الحاجة بقبول الرشاوي والاغراءات المادية فقد أوصى لهم من المال «ما يزيل (غلتهم) وتقل معه (حاجتهم) إلى الناس»(4) .

ولاستقلالية القضاء مكانة عالية في فكر علي علیه السلام، لأنه كما نتصور يرى إبعاد القاضي من أي ضغط من شأنه التأثير في نزاهة الحكم بالإرهاب، أو بأية وسيلة أخرى، وحتى يكون حكم القضاة نافذاً في كل الأوقات، وعلى جميع الناس، فقد أوصى أولياء الأمور ممن يوكل إليهم اختيار القضاة، أن يكون أصحاب أولئك المناصب تحت إشرافهم المباشر(5) ولا يوكلوا أمر الإشراف عليهم من قبل هيئة معينة. وذلك حتى يقوى مركزهم، ويشعرون بأن وراءهم قوة تسندهم في حال ابتلائهم بقوة تحد من سلطتهم وتعطل احكامهم، وبذلك

ص: 333


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- المصدر السابق

يمكن القول ان علياً علیه السلام قد وضع دستوراً مثاليا متكاملاً، يتناسب ومثاليته المتناهية في حب الإنسان والإنسانية.

4 - بيت المال:
اشارة

لا يكاد نهج البلاغة أن يمدنا بشيءٍ كثيرٍ عن المؤسسة المالية في فكرعلي علیه السلام اعتماد جامع نصوصه منهجاً انتقائياً معيناً، حال بينه وبين نقل جميع ما أثر عن علي علیه السلام وقد أشار إلى ذلك في مقدمته(1) . إلا أننا لا نعدم الخطوط الأساسية العريضة لتلك المؤسسة من خلال الإشارات الخاطفة التي يرسلها علي علیه السلام في خطبه أو ضمن بعض رسائله ووصاياه وحكمه خاصة عهده للأشتر الذيوصلنا كاملاً وضمنه علي علیه السلام كثيراً من أفكاره في بناء الدولة وسياستها. فمن ذلك النص والنصوص الأخرى يمكننا استنتاج أهم موارد الخزينة (بيت المال) وطريقة جبايتها، والوجوه التي تصرف فيها، فأهم موارد الدولة المالية في عهد علي علیه السلام كما يتهيأ لنا هي:

1 - الزكاة(2) .

ص: 334


1- راجع مقدمة نهج البلاغة في أية نسخة من نسخ نهج البلاغة وراجع أيضاً ص 123 من هذا البحث
2- الزكاة أوالصدقة، يفترق الاسم ويتفق المسمى، ولا يجب على المسلم في ماله حق سواها، الأحكام السلطانية ص 99، ويقول محمد جواد مغنية: الفقه على المذاهب الخمسة ص 166:ان الشيعة الإمامية والمالكية يوجبون الزكاة على الكافر كما يوجبونها على المسلم، ويوجب الشيعة الإمامية الخمس في كل ما يفضل عن مؤونة سنة الإنسان وعياله مهما كانت مهنته ومن أي نحو حصلت فائدته، سواء أكان من التجارة أو الصناعة أو الزراعة أو الوظيفة أو العمل اليومي، أو من الاملاك أو من الهبة أو من غيرها، ولو زاد على مؤونة سنته قرش واحد أو ما يعادله فعليه أن يخرج خمسه - الفقه على المذاهب الخمسة، السابق ص 187. أما مذاهب السنة فيحددون الخمس في الأموال التي تجبى من الكفار من فيئ وغنيمة، كما يبدو من كلام الماوردي في الأحكام السلطانية ص 110 . وقد عرضنا إلى اختلاف المذاهب الإسلامية في توزيع الخمسضمن هذا البحث

2 - الجزية(1) .

3 - الخراج(2) والعشر(3) .

4 - التجارة والصناعة.

ويمكننا مما يبن أيدينا من نصوص استنتاج ملامح فكر علي علیه السلام في الكيفية التي اختطها لجميع تلك الضرائب، والسياسة التي يتبعها في صرف الأموال في وجوهها المستحقة والوازنة بين الداخل والخارج وحساب المستقبل.

1 - الزكاة:

أو الصدقة، وينبع الاهتمام بها في الإسلام لكونها ضمن العبادات، وهي

ص: 335


1- الجزية: ضريبة مالية «موضوعة على الرؤوس، وتؤخذ مع بقاء الكفر وتسقط بحدوث الإسلام... وتجب على الرجال الأحرار» الأحكام السلطانية ص 127
2- الخراج: هو ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها. والخراج يؤخذ على الكفروالإسلام بمعنى أن الأرض الخراجية تبقى على حالها من حيث اداء الضريبة المقررة عليها بغض النظر عن دخول مالكها الإسلام، أو شرائها من قبل مسلم. راجع السابق ص 124 ، 127
3- العشر: هو ما يوظف على الأرض الميتة إذا ما احياها مسلم بمدها بالماء، وتعهد تربتها، واستغلال مواردها، فإن الإسلام يملكها له استناداً على قول الرسول « صلی الله علیه و آله وسلم من أحيا أرضاً مواتا فهي له». الأحكام السلطانية السابق ص 153، وذلك التمليك يكون بشروط معتبرة في كتب الفقه راجع السابق - وفيما لو أحيا أحد المسلمين أرضاً مواتاً فهي ملك له شريطة أن يدفع لولي الأمرعشر ما تدره الأرض كضريبة سنوية - راجع السابق

الركن الثالث في الإسلام، استناداً لقول النبي صلی الله علیه و آله وسلم«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت، وصوم رمضان»(1) . وقد أعطى علي علیه السلام للزكاة مكانة هامة، جعلته يتتبع جمعها من المسلمين منذ بداية العملية حتى اللحظة الاخيرة من توزيعها على مستحقيها.

وجمع الزكاة في فكر علي علیه السلام، يقوم على دعامة أخلاقية متينة، تحول بين جامعيها والقسرة في جبايتها، لأنها في الأساس تطهير للنفس من الشح، وابعادها عن حب الذات بالتكالب على المادة، ولن يتأتى ذلك الا إذا كان المزكي ذا قلب سليم ونفس سمحة، فمن وصيته لعماله على الصدقات بأمرهم بالقول «عباد الله، ارسلني اليكم ولي الله وخليفته، لأخذ منكم حق الله في اموالكم، فهل في أموالكم من حق فتؤدوه إلى وليه، فإذا قال قائل: لا، فلا تراجعه، وان انعم لك فانطلق معه»(2) . ثم أن على ذلك العامل ألا يأخذ من المتصدق أكثر من حق الله المفروض في ماله(3) . ولا يأخذ من المال إلا ما هو رضاً لصاحبه(4) إذ ليس تعني الموافقة على دفع الزكاة، بأن تقوم السلطة بمحاسبة المزكي محاسبة دقيقة باستخدام العسف والإرهاب، لذا يجب على العامل أن يأخذ ما أعطي، اعتماداً على صدق المزكي، وإخلاص إيمانه، وفي حالة امتلاك المتصدق إبلاً أو ماشية فعلى العامل أن لا يدخل إليها إلا بإذنه لأن «أكثرها له... فإذا أتيتها فلا تدخل عليها دخول متسلط عليه ولا عنيف به، ولا تنفرن بهيمة ولا تفزعها، ولا تسوءن صاحبها فيها، واصدع المال صدعين ثم خيره، فإذا اختار، فلا

ص: 336


1- صحيح مسلم 1/ 45
2- رسائل 25 . وأنعم: أجاب بنعم
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه

تعرضن لما اختاره، ثم أصدع الباقي صدعين ثم خيره، فإذا اختار فلا تعرضن لما اختاره، فلا تزال كذلك حتى يبقى ما فيه وفاء لحق الله في ماله فإن استقالك فأقله ثم اخلطهما ثم أصنع مثل الذي صنعت حتى تأخذ حق الله في ماله»(1) .

فالمثالية - كما نلاحظ قد بلغت الذروة، فلم تقتصر عند علي علیه السلام على الموافقة على اداء الزكاة بل تعدتها إلى التخيير المتناهي في عدالته، وشملت أيضاً طريقة التعامل مع المال والحيوان، إلا أن ذلك لا يعني في فكر علي علیه السلام القبول بأي شيء لا يتناسب ومصلحة مستحقي الصدقة، ففي زكاة الحيوان، على سبيل المثال، يجب عدم قبول المعيب أو المريض(2)، إذ من واجب عامل الزكاة أن لا يقبل إلا ما هو صالح للناس.

ثم إن علياً علیه السلام في مثاليته، يسير مع عامله على الصدقات خطوة بخطوة خلال رحلته الشاقة، فينصحه بأن لا يوكل بما اجتمع عنده من مال المسلمين «إلا ناصحا شفيقاً أميناً حفيظاً، وغير معنف ولا مجحف ولا ملغب ولا متعب»(3) . كما يجب عليه أن يراعي الله فيما اجتمع عنده من حيوانات، حتىتصل إلى مستقرها، فتقسم على مستحقيها وهي سليمة غير متعبة(4) .

فإذا اكتملت عملية جمع الزكاة في كل ولايات الدولة، واستقرت الأموال في بيوتها، فعلى القائم بالأمر أن يباشر بتقسيمها على السبعة الذين خصهم الله تعالى في قوله:

ص: 337


1- السابق. وأصدع: أقسم، واستقالك: أي ظن في نفسه سوء الاختيار فطلب منك أن تعيد عملية القسمة
2- المصدر السابق نفسه
3- السابق. وملغب: المعي من التعب
4- المصدر السابق نفسه

﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِی الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِ سَبِيلِ الله وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله﴾(1) ، ولا أن يتعدى المسؤول في توزيعها أولئك السبعة. وكما يبدو من كلام علي علیه السلام في وصية أخرى إلى عماله على الصدقات، أن المتولي على جمع صدقات البقعة أو الحي، هو الذي يقوم بتوزيع ما اجتمع عنده على المحتاجين، والضعفاء، وذوي الفاقة، من أهل المنطقة ذاتها، كما ان على المتولي ان لا يأخذ حقه من الصدقات الا بإذن ولي الأمر، وبالمقدارالذي يفرضه له، وفي ذلك يقول لعامله على الصدقات «ان لك في هذه الصدقة نصيباً مفروضا وحقاً معلوماً وشركاء أهل مسكنة وضعفاء وذوي فاقة، وإنا موفوك حقك فوفهم حقهم»(2) . وعلى ذلك فإنه لا يرجع إلى بيت المال المخصص للزكاة الا ما زاد عن حاجة فقراء المنطقة التي جمعت منها، وهو ما يشير حسب فهمنا ان علياً علیه السلام قد خصص مقداراً معينا لكل مستحق في دولة الإسلام، لأنه عادة ما يأمر ولاته بتوزيع الزكاة على مستحقيها، ثم يرسل ما تبقى عنده منها إلى عاصمة الدولة ليقوم الخليفة بتقسيمة بما يقيم التوازن بين الولايات كلها، إذ لا بد ان تكون الزكاة في ولاية ما أكثر منها في ولاية اخرى، لذا فقداوجب على ولي الأمر أن يراعي ذلك أثناء جمع الصدقة وتوزيعها، واننا وان كنا لا نملك نصا صريحاً بذلك في النهج، إلا أنه يمكن استنتاجه من قوله إلى قثم(3) بن العباس عامله على مكة «انظر إلى ما اجتمع عندك من مال الله فأصرفه إلى من قبلك من ذوي العيال والجماعة، مصيباً مواضع الفاقة والخلات، وما فضل عن

ص: 338


1- التوبة/ 60
2- رسائل 26 ، فقرة 3
3- راجع ترجمته في ص 325 من هذا البحث

ذلك فاحمله الينا لنقسمه فيمن قبلنا»(1) ، والتقسيم فيمن قبله على ما نعتقد لا يعني الكوفة عاصمة الخلافة بالذات، بل يعني محاولة العدل في التوزيع بين فقراء المسلمين في كل بقاع الدولة.

2 - الجزية:

في اعتقادي أن أثر هذه الضريبة في موارد الدولة - على عهد علي علیه السلام كان ضئيلاً نسبياً، لكون كثيرا ممن كانوا يدفعونها قد دخلوا الإسلام، إما تخلصاً من دفعها، فلم يبق من دافعيها إلا قلة من اليهود والمسيحيين فيما عدا التغلبيين(2) ، لذلك لا نرى للجزية أي ذكر في نصوص النهج، أو قد يكون ضمن النصوص التي لم تدخل ضمن اختيارالجامع(3) .

3 - الخراج والعشر:

أو ضريبة الأرض، وقد أهتم المسلمون بها أهتماماً بالغاً لكونها المصدر الرئيس لتمويل مشاريع الدولة، وصرف مرتبات الجند والقضاة والعمال وغيرهم من الموظفين، ومن دواعي الاهتمام بها فقد دخلت تلك الضريبة في

ص: 339


1- رسائل 67 ، الفقرة الثانية، وقبلك بكسر ففتح : أي عندك، والفاقة: شدة الفقر والخلة بفتح الخاء-: الحاجة
2- صالح عمر بن الخطاب نصاري بني تغلب أن يضاعف عليهم الزكاة عوضاً عن الجزية شريطة الا يشتركوا في حرب ضد المسلمين وأن لا ينصروا أولادهم. راجع الخراج لأبي يوسف ص 120
3- راجع ص 123 وما بعدها من هذا البحث

كتب الفقه الإسلامي كموضوع قائم بذاته، فافرد لها أبو يوسف(1) (ت 182) فصولاً عرفها فيها، بالإضافة إلى كيفية جمعها من الفلاحين وملاك الأرض، والنواحي التي تصرف فيها تلك الاموال. كما عالج ضريبة الأرض أيضاً أبو عبيد القاسم بن سلام(2) (ت 224)، وحظيت أيضاً باهتمام يحي بد آدم(3) (ت 370 ه)، وعرض الماوردي لها(4) ، كما افرد الحافظ عبد الرحمن بن أحمد الحنبلي (ت 795 ه) كتاباً، خاصاً بالخراج أسماه (الاستخراج في أحكام الخراج)، ولو رجعنا للنهج لنستقرئ فكر علي علیه السلام في ضريبة الأرض تلك، فسنجد إن اهتمامه قد انصب أولا وقبل جباية الأموال على العامل أو الفلاح، ومن ثم على الأرض التي يعملون عليها، وهما كما نلاحظ دعامتا الثروة الرئيستان في المجتمع الزراعي، الذي كانت الدولة الإسلامية تعتمد عليه في معيشة سكانها، وفي إدارة دفة الحكم. يقول علي علیه السلام في عهده للأشتر«وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه وصلاحهم، صلاحاً لمن سواهم، ولا صلاح لمن سواهم الا بهم لأن الناس كلهم عيال على الخراج»(5) ، فالخراج في النص كناية عن الأرض، وليست الضريبة المفروضة عليها، ثم ان أهل الخراج هم الفلاحون وتفقدهم يعني اصلاح حالهم وتعهدهم بإنشاء القنوات، ومد الجسور، وحفر الآبار، واستصلاح الأرض، والوقوف إلى جانبهم في وقت الكوارث الطبيعية، من جفاف أو فيضان أو جراد، فإن كل ذلك يمكن الفلاح من زيادة انتاجه، ويعني

ص: 340


1- راجع كتاب الخراج ص 33، 47، 63، 133
2- راجع كتاب الأموال ص 73، 79، 83، 102، 524
3- راجع كتاب الخراج ص 22، 63، 84
4- راجع الأحكام السلطانية ص 124 وما بعدها و ص 153 وما بعدها و ص 167 وما بعدها
5- رسائل 53 ، فقرة 22

في نهاية المطاف الزيادة في دخل الخراج، ومن أجل ذلك يقول علي علیه السلام للأشتر«وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك الا بالعمارة، ومن طلب الخراج بغير عمارة، اخرب البلاد واهلك العباد ولم يستقم امره الا قليلاً»(1) ، لأن العمال والفلاحين سيهجرون الأرض وبذلك تكثر المجاعات وينهدم الاقتصاد فيختل الامن، مما يدعو في النهاية إلى زوال نظام الحكم، فالعمران - كما يبدو في فكر علي علیه السلام - هو ما ينمي الدخل «وانما يؤتى خراب الأرض من اعواز أهلها، وانما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع، وسوء ظنهم بالبقاء وقلة انتفاعهم بالعبر»(2) وهو ما يعني ضمنا ان حكام السياسة المتعلقة لا يكمن في ارهاق العباد بفرض الضرائب وجمع الأموال لملء خزينة الدولة لأن دخل الدولة الحقيقي ورصيدها المالي هو الإنسان ذاته، فإذا صلح الإنسان وصلحت حاله، تمكن من العطاء بما يعود عليه وعلى البلاد بالخير العميم، وفي تاريخ الإنسانية من العبر الكثيرة التي يمكن للحكام الانتفاع بها لو تأملوها بعين العقل. على تلك الأسس الإنسانية المتينة باشر علي علیه السلام سياسته المالية تجاه الأرض مصدر الرزق الاساسي في عصره، فمن وصية له إلى عماله على الخراج يقول «ولا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء ولا صيف، ولا دابة يعتملون عليها، ولا عبداً، ولا تضرب أحداً سوطاً لمكان درهم ولا تمسن مال احد من الناس مصل ولا معاهد، الا ان تجدوا فرسا أو سلاحاً يعدى به على الإسلام»(3) ، إذ لا يمكن ان تؤخذ الضريبة من الإنسان

ص: 341


1- المصدر السابق
2- رسائل 53، فقرة 22. اعواز أهلها: جعلهم في حاجة مستديمة، اشراف: تطلع
3- رسائل 51

على ضرورياته الحياتية «من غذاء أو كساء أو أثاث أو الة أو حيوان»(1) . وبهذا الأسلوب المثالي السمح تدفقت الضرائب من خراج وعشر على بيت مال الدولة مما جعل العطاء يزيد ويكثر(2) إلى الحد الذي أدّى بعلي علیه السلام إلى اطعام اليتامى والمساكين العسل(3) .

4 - التجارة والصناعة:

هما من مصادر الدولة المهمة في عصر صدر الإسلام وان لم تكونا في مستوى الخراج اهمية. فقد كان عمر بن الخطاب يستوصي بالتجار، ويسهرعلى راحتهم، حتى بلغ به الأمر حراستهم وحراسة اموالهم بنفسه، فمما يؤثرعنه انه «كان يعس ليلاً، فنزلت رفقة من التجار بالمصلى، فقال لعبد الرحمن بن عوف، هل لك ان نحرسهم الليلة من السرق؟ فباتا يحرسانهم ويصليان ما كتب الله لهما»(4) ، ولأهمية التجارة في حياة الأمة وفي انتعاش اقتصاد الدولة، فقد أفرد لها علي علیه السلام مساحة من فكره الاقتصادي يمثله قوله لمالك الأشتر «ثم استوص بالتجار، وذوي الصناعات واوص بهم خيرا، المقيم منهم والمضطرب ماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب المرافق، وجلابها من المباعد والمطارح، في برك وبحرك وسهلك وجبلك حيث لا يلتئم الناس لمواضعها ولا يجترئون عليها»(5) . فالتجارة بما يكتنفها من المخاطر والمغامرة بالأموال

ص: 342


1- مغنية: في ظلال النهج 4/ 41
2- راجع انساب الاشراف 2/ 136 وما بعدها
3- المصدر السابق نفسه
4- ابن أبي الحديد 12 / 14
5- رسائل 53، فقرة 24، والمضطرب بماله: الذي لا يستقر في بلد ما، والمترفق ببدنه: المتكسب من عمل يده من بناء ونجار وغيره، والمرافق: ما ينتفع بها من ادوات، جلا بها: الذين يأتون بها

من قبل التجار، إلا أنها ضرورية بل وأساسية في حياة الناس، لأنها توفر ما يحتاجونه من اله وكساء وطعام، هذا بالإضافة إلى ما تدره على بيت المال مندخل يتمثل في جباية الأسواق بالإضافة إلى الضرائب التي يدفعها التجارمقابل ما يجلبونه من مؤن وبضائع إلى البلاد، لذا من واجب الحكومة ان ترعاهم بما يكفل لهم الربح المعقول، وتجنبهم الخسارة، بتوفير الامن والحماية لهم، إذ لا يمكن أن تستقر تجارة إلا في مجتمع مستقر، ولا يمكن للتاجر أن يستثمرأمواله إلا إذا شعر بالأمان، لما في طبعه من حذر وحيطة وجبن، فالتجارعلى العموم - من وجهة نظر علي علیه السلام-«سلم لا تخاف بائقته وصلح لا تغشى غائلته»(1) .

لكن علياً علیه السلام لم يترك الحبل على غاربه للتجار، بحيث يمكنهم التصرف في الاسواق كما يشاؤون، فهو في الوقت نفسه الذي أحاطهم فيه بالرعاية، فإنه قد نبه إلى ان «في كثير منهم ضيقاً فاحشاً وشحاً قبيحًا، واحتكارًا للمنافع وتحكما في البياعات»(2) ، لذا فمن وجب ولي الأمر والسوق مفتوحة للجميع - ان يراقب الاسعار ويحول بين التجار والاضرار بالناس(3) فالتجارة وإن كانت ضرورية، ومصدراً مهماً من مصادر الدخل - كما تبدو في فكر علي علیه السلام - إلا أنها مقننة بما يتماشى ومثاليته المتناهية في تطبيق شرائع الإسلام طبقا للكتاب والسنة.

أما الصناعة والصناع الذين وصى واليه الأشتر بهم خيراً(4) ، فإن الذي يقصده من وصيته تلك - كما نستخلص من سيرته(5) - أنه يريد بذلك حمايتهم

ص: 343


1- السابق، وبائقته: داهيته ومكره، وغائلته: عصيانه وتمرده
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- راجع السابق، مطلع الفقرة
5- راجع ابن أبي الحديد 2/ 199 طريقة علي علیه السلام في تقسيم ما في بيت المال

وحماية صناعتهم من الانقراض، حتى لا يتضررالناس ويتأثرالاقتصاد، فإن قلة الحاجة إلى بعض الصناعات في وقت ما لا يعني إهمالها وعدم رعايتها، فقدتكون تلك الصناعة متوفرة في اقليم ونادرة في إقليم آخر، فتعهدها وحمايتها يعني التكامل الاقتصادي فيما بين اقاليم الدولة المختلفة لأن «اختصاص بعض الأمصار ببعض الصنائع تدون بعض، وذلك أنه من البين أن أعمال أهل مصر يستدعي بعضها بعضاً لما في طبيعة العمران من التعاون»(1) . لذا كان علي علیه السلام - فيما نعتقد - يأخذ ضمن الجزية والخراج والزكاة، بعض الصناعات المتداولة في عصره. يقول أبو يوسف «كان علي بن أبي طالب علیه السلام فيما بلغنا يأخذ منهم (أي أهل الذمة) في جزيتهم الإبر والمسال ويحسب لهم من خراج رؤوسهم»(2) .

وقد ورد عند البلاذري أن علياً علیه السلام كان «يقسم العطور بين نسائنا»(3)

كما كان يقسم بينهن الإبر التي كان يأخذها «من اليهود مما عليهم من الجزية»(4) وهو بعمله ذاك انما يهدف إلى تشجيع الصناعات والابقاء عليها باعتبارها احد مصادر الدولة. تلك هي اذن مصادرالمؤسسة المالية وكيفية جبايتها - كما تبدو في فكرعلي علیه السلام - فما هي سبل صرفها؟

سياسة التصرف في موارد الدولة المالية كما تبدو في النهج:

يخلص القارئ المتسرع في سيرة علي علیه السلام أنه لم يكن يتمتع بفكر اقتصادي

ص: 344


1- مقدمة ابن خلدون 472
2- الخراج ص 122 ، المسال: ابر الخياطة الكبيرة التي يخاط بها الخيش:
3- أنساب الأشراف 2/ 137
4- المصدر السابق نفسه

قويم ولا بسياسة ماليه محكمة، لعدم اهتمامه بالمال، فقد اشتهرعنه انه لا يرتاح وتطمئن نفسه حتى يقسم كل الأموال الواردة(1) . إلى بيت المسلمين، ثم ينضح ارضه بالماء ويصلي فيه(2) كما أثر أنه قد اقترح على عمر بن الخطاب، لما وردت إليه أموال الفتوح أن يقسمها في الناس حتى لا يبقى منها شيء(3) ، ويروي أبو الاسود الدؤلي: أن علياً علیه السلام قد قسم كل ما وجد في بيتمال البصرة على أصحابه بعد وقعة الجمل(4) . وتلك تصرفات لا تنم عن حنكة سياسية، وتمرس بأساليب الحكم لما فيها من عدم حساب للمستقبل، وإهمال لمشاريع الدولة، وتعطيل لأجهزتها، بسبب وفاض الخزينة من المال الذي تحتاجه لكل ذلك.

ولكن المتأمل فيما أثر عن علي علیه السلام في النهج يرى عكس ذلك، إذ يبدو ان بيت المال في أثناء خلافته كان مقسماً على أقسام ثلاثة هي:

الأول: ديوان الزكاة: وهو مؤسسة مالية قائمة بذاتها تختص بجمع الزكاة ثم توزيعها على مستحقيها بالعدل في جميع ارجاء الدولة الإسلامية تحت إشراف الخليفة واموال هذا الديوان لا يبقي علي علیه السلام منها شيئا لكونها من المنصوص عليه في القرآن الكريم.

الثاني: ديوان العطاء: وهو مؤسسة مالية قائمة بذاتها أيضاً استحدثت

ص: 345


1- راجع أبا عبيد: الأموال ص 384 ، فقد روى ان علياً علیه السلام يفرض العطاء أكثر من مرة في العام
2- راجع البلاذري - انساب الاشراف 2/ 132
3- راجع ابن أبي الحديد 12 / 94
4- السابق 1/ 250

في عهد عمر بن الخطاب(1) ويدخل فيه أربعة أخماس(2) ما يجبى من الغنيمة(3) والفيء(4) وتقسم في الجند بالسوية(5) ، وهو ما كان يتصرف فيه علي علیه السلام بإعطاء كل ذي حق حقه بالعدل بموجب ما يدخل فيه من مال وثمر وعسل وغيره من الصناعات. وجميع أموال هذا الديوان لا تدخل ضمن الصرف على مشاريع الدولة، لذلك يقوم علي علیه السلام بتقسيم جميع أمواله حتى لا يُبقي فيه شيئا.

الثالث: بيت المال: أو خزينة الدولة، ومن مهامه الصرف على ديوانالجند وما يتعلق بمشاريع الدولة من اصلاحات واعمار، ودفع مرتبات الولاة والقضاة والعمال وغيرهم من موظفي الدواوين. ومصادرهذا الديون خراج مالم يأخذه المسلمون من الكفارلا عنوة ولا صلحاً(6) ، وبالإضافة إلى الخمس(7) الخامس من مال الفيء والغنيمة، وذبك بعد اقتطاع سهم ذوي

ص: 346


1- راجع أبا عبيد، السابق ص 236، وابن أبي الحديد 12 / 75
2- راجع يحي بن آدم: الخراج ص 18
3- الغنيمة: ما غلب عليه المسلمون بالقتال حتى يأخذوه - السابق ص 17
4- الفيء: ما صولحوا عليه دون قتال - السابق
5- راجع السابق ص 18
6- وهو ما هرب عنه أهله من مال وضياع، وتركوه من غير قتال، السابق ص 17
7- يلاحظ هنا اختلاف المذاهب الإسلامية في سهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من الخمس بعد وفاته «فذهب من يقول بميراث الأنبياء إلى انه موروث عنه مصروف إلى ورثته. وقال أبو ثور: يكون ملكاً للإمام بعده لقيامه بأمور الأمة مقامه، وقال أبو حنيفة: قد سقط لموته، وذهب الشافعي إلى ان يكون مصروفاً في مصالح المسلمين. والسهم الثاني سهم ذي القربى، زعم أبو حنيفة انه قد سقط حقهم منه اليوم، وعند الشافعي حقهم ثابت» الماوردي الأحكام السلطانية ص 110 ، 111 ويتفق الشيعة الإمامية من وجهة النظر القائلة بتوريث نصيب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من الخمس لآل بيته علیهم السلام استناداً لقول جعفر الصادق علیه السلام «الخمس لنا فريضة» الحر العاملي وسائل الشيعة 6/ 337. وهم إذ يقولون ذلك يعتقدون بعصمة الإمام مما يجعله يضع الخمس في صالح الإسلام وأهله، لذلك يرى الخميني في كتاب الحكومة الإسلامية ص 25 أن «الخمس مورد ضخم إنما هو من أجل تسيير شؤون الدولة الإسلامية، وسد جميع احتياجاتها المالية، وأن هذه الأموال الطائلة ليست لرفع حاجات سيد أو طالب علم... بل لسد احتياجات امة بأكملها »لكون الخمس من وجهة نظر الشيعة اوسع في مفهومه مما هو عند السنة، راجع صفحة 334 من هذا البحث وما بعدها

القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحسب ما ورد في قوله تعلى:

﴿ًوَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(1) مع ملاحظة ان سهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد دخل ضمن اختصاصات ولي الأمرالقائم بشؤون الدولة، يصرفه حيث تقتضي مصلحة الإسلام. وبيت المال هذا هو ما يمكننا ان نطلق عليه تجوزاً (وزارة المالية) وهو أيضاً ما يمكننا ان نستنتج منه سياسة علي علیه السلام المتعلقة بتصريف الشؤون المالية إبان حكمه.

فمما يبدو من عهده لمالك الأشتر أن ميزانية الدولة عنده مقسمة كالتالي:

أولا: الصرف على المشاريع العمرانية من طرقات وجسور وقنوات وتعهد للأراض. وقد وضع ذلك كشرط أساس في العهد(2) ، مما يعني ضمنا أن العمران من أول واجبات الحكومة نحو البلاد.

ثانيا: إفراد ميزانية خاصة بالمؤسسة العسكرية(3) ، يصرف منها على الجند

ص: 347


1- الأنفال / 41
2- راجع رسائل 53 - الفقرة 1، 22
3- راجع السابق، الفقرات 17 ، 20 ، 21 ، 25

ورجال الامن، مع توفير ما تحتاجه الدولة من عتاد وسلاح.

ثالثا: إفراد ميزانية خاصة لدفع مرتبات الموظفين، من قضاة وعمال ومراقبين وكتبة، وكل ما يتعلق بالدواوين الحكومية من خصوصيات(1) .

رابعا: تخصيص ميزانية للصرف على العجزة والمسنين وذوي العاهات من مسلمين أو معاهدين يعيشون في كنف دولة الإسلام(2) .

ثم ان فكر علي علیه السلام الاقتصادي لم تقتصر على جمع الأموال وصرفها بعد ذلك في وجوهها المستحقة، بل وضع في الاعتبار كما نعتقد ما يسمى في العصر الحديث بموازنة الداخل بالخارج، والحساب للمستقبل حتى تتجنب الحكومةأية ضائقة مالية، وتتفادى أية ازمة اقتصادية، وذلك انطلاقاً من فهمنا لقوله «ان من لم يحذر ما هو صائر إليه لم يقدم لنفسه ما يحرزها»(3) ، أي أن من لم ينظربعين العقل إلى المستقبل ولم يحسب لعواقب الأمور، لم يستطع ان يجنب نفسه اللجوء إلى الحاجة والوقوع في الكوارث. وعلى هذا الأساس يمكن ان يقال فيما نظن ان سياسة علي علیه السلام المالية بما تضمنت من افكار مثالية، فهي أيضاً مبنية على نهج علمي وتخطيط سليم، انطلاقاً من لا إسراف ولا تقتير امتثالاً لقوله تعالى:

﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا﴾(4) .

ص: 348


1- المصد السابق نفسه
2- المصد السابق نفسه
3- رسائل 51 ، الفقرة الأولى
4- الاسراء / 29
5 - العمال:

نعني بالعمال أولئك الذين يباشرون جمع الزكاة وجباية الخراج، ومراقبة الأسواق، وقد اهتم الفرس قبل الإسلام بالخراج، فوضعوا له الديوان بعد ان مسحوا الأرض واحصوا الأنفس، وعرفوا ما يمكن جبايته من كل فرد(1) ، وقد خصصوا رجالا ذوي كفاءة لجمع الضرائب واشترطوا فيهم الرأفة بالعباد، والأمانة للمحافظة على ما يجبون من اموال(2) ، ولما فتح المسلمون فارس، اقتبسوا ذلك النظام من الفرس(3) ، فوضعوا على كل أرض ما يناسبها من خراج، وعلى كل إنسان لا يرغب في الدخول في الإسلام أن يدفع مقداراً معيناً من المال أُطلق عليه (الجزية). وقد وكلت جباية الأموال في بدايتها إلى الولاةوتقديراتهم(4) ، ومن ثم اختص بها موظفون خاصون تحت إشراف الخليفة أو الوالي، اقتداء بعمل الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(5) . ولعمال الخراج، وغيرهم من مراقبي الاسواق، أهمية كبيرة في فكر علي علیه السلام، لاتصالهم المباشر بالناس على مختلف طبقاتهم، هذا بالإضافة إلى اطلاعه الواسع في أحوال الفرس، والنظام المالي

ص: 349


1- راجع الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 4
2- راجع السابق ص 6
3- راجع: دانيل دينيث: الجزية في الإسلام ص 45 وما بعدها
4- راجع ابن أبي الحديد 2/ 42 ، 43 ، فقد جعل عمر بن الخطاب أبا هريرة عاملا على هجر واليمامة وأقاصي البحرين بالإضافة إلى جباية أموالها وكذلك كان استعماله لعمرو بن العاص على مصر
5- من ذلك استعماله صلی الله علیه و آله وسلم«خالد بن سعيد عاملًا على صدقات اليمن وقبل على صدقات مذحج» ابن الأثير أسد الغابة 2/ 98

عندهم، وأساليبهم في فرض الضرائب، وذلك عن طريق احتكاكه(1) بهم، بمجالسته اياهم في مجتمع الكوفة، فأضاف ذلك رافداً ثريا إلى زاده الثقافي العميق الذي اكتسبه من الإسلام بمعاشرته الروحية للنبي صلی الله علیه و آله وسلم(2) . خاصة وان علياً علیه السلام قد كان يوصي ولاته بدراسة ماضي الأمم التي يتولون رعايتها، وما حدث عليها من عدل أو جور في ظل الحكومات المتعاقبة عليها(3) ، حتى يتسنى لهم تفادي سخط الناس، مما يعني انه كان يعمل بذلك. وعليه فإن علمه الواسع بشرائع الإسلام واستلهامه أحوال الماضين من خلال قصص القرآن الكريم وعِبَه، بالإضافة إلى اطلاعه على أحوال العناصرالأجنبية في مجتمع الكوفة، منحه كل ذلك زاداً فكرياً في معرفة أحوال الناس وطبائعهم، وطرق التعامل معهم، فأتاح له بذلك اختطاط سياسة ترتكز على التعامل مع الجميع على أسس إنسانية عمادها الأخلاق، فكان اختياره للعمال نابعاً من تلك الأسس الإيمانية والاقتناع الفكري حين وضع شروط اختيارهم وصفاتهم، وكيفية التعامل معهم، لأنهمكما يقول «خزان الرعية، ووكلاء الأمة وسفراء الأئمة»(4) . وأهم الشروط التي وضعها فيمن يتوخاه من رجال لهذا الجهاز المالي الدقيق هي:

الاعتماد على النزاهة في تعيين افراده، بالبعد عن المحاباة والأثر والوساطة(5) مع تجنب الاستجابة لأي فرد يلح على العمل في هذا الجهاز، لأن من يتهالك

ص: 350


1- أشرنا إلى ذلك في ص 389 وما بعدها من هذا البحث
2- راجع قول علي علیه السلام في علاقته بالرسول صلی الله علیه و آله وسلم: خطب 240، فقرة 26، 27
3- راجع رسائل 53 ، فقرة 4، 38
4- رسائل 51
5- راجع رسائل 53 ، فقرة 21

في الحصول على مثل هذه الوظيفة دون غيرها - في فكر علي علیه السلام - ليس الا لأن في طبعه «جماع من شعب الجور والخيانة»(1) ومحاولة الثراء على حساب الأمة.

لذلك لا يصلح لمثل هذه الاعمال إلا «اهل التجربة والحياء من أهل البيوتات الصالحة، والقدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقاً وأصح اعراضاً، وأقل في المطامع إشرافاً وأغلب في عواقب الأمور نظراً»(2)، لأن ارتواء نفوسهم وعمق تجربتهم ورسوخ أقدامهم في الإسلام، كل ذلك يجعلهم على فهم واسع لطبيعة الناس الذين سيتعاملون معهم، بالإضافة إلى ان التدين، وطيب العنصر، ومتانة الأخلاق من المزايا التي تردع صاحبها عن قبول الرشوة، والتعامي عن الحق، والجور على الناس.

أما الكيفية التي يجب على ولي الأمر التعامل بها مع أولئك الموظفين فإنها تتمثل - كما يراه علي علیه السلام - في منع نفوسهم من النظر إلى ما في أيدي الناس وتجنيبهم الاغراءات المادية التي تجعلهم عرضة للسقوط، وذلك بتوفير الرزق الكافي لهم «فإن ذلك قوة لهم على استصلاح أنفسهم، وغنى لهم»(3) عن الاختلاسوالسرقة والنهب. وحتى إذا ما ارتكبوا خيانة اصبح ذلك «حجة عليهم»(4) في التنكيل بهم. ولكن العطاء المجزي ليس وحده كافيا، بل من واجب الدولة أن تتفقد أعمالهم ببث «العيون من أهل الصدق والوفاء»(5) لأن في شعورهم بالرقابة، رادع لهم لتفادي أي مسلك معوج يؤدي إلى العقاب.

ص: 351


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه
3- رسائل 53 ، فقرة 21
4- المصدر السابق نفسه
5- المصدر السابق نفسه
6 - الكتاب:

اولى المسلمون الكتابة اهتماماً بالغاً، ففي صدر الإسلام وعلى عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم باشر كثير من الصحابة الكتابة بين يديه، فقد كان «علي بن أبي طالب علیه السلام وعثمان بن عفان يكتبان الوحي، فإن غابا كتبه أبي بن كعب وزيد بن ثابت، وكان خالد بن سعيد بن العاص ومعاوية بن أبي سفيان يكتبان بين يديه في حوائجه»(1) .

ولأهمية الكتابة والكتب في الفكر الإسلامي، أفردت كتب الأدب أبواباً خاصة لدراسة أحكام تلك الصناعة وأهميتها وأثرها في العام والخاص من جمهور الناس(2) ، كما أنفردت كتب خاصة أخرى بأدب الكتاب ومعالجة أساليب الكتابة، إلى غير ذلك من أمور أسلوبية ولغوية وبلاغية تتعلق بشؤون المهنة(3) ، إذ يبدو أنه كان للكتّاب عندهم «احكام بينة كأحكام القضاة، يعرفون بها وينسبون إليها ويتقلدون سياسة الملك بها»(4) ومن أشهر رسائل الأدب العربي التي عرضت للكتاب وشؤونهم «رسالة عبد الحميد بن يحي الكاتب»(5) (ت 132 ه) الشهيرة، وقد عرض فيها لكل ما يتعلق بالكتاب

ص: 352


1- الجهشياري: الوزراء والكتاب ص 12
2- راجع على سبيل المثال موضوع «ادوات الكتابة والكتاب» عند: ابن عبد ربه - العقد الفريد 155/4 وما بعدها، وراجع أيضاً الجهشياري السابق - مقدمة الكتاب ص 1 وما بعدها وابن النديم - الفهرست ص 7، وما بعدها
3- من اشهر الكتب: أدب الكاتب لابن قتيبة، والاقتضاب في شرح أدب الكتّاب - للبطليوسي (ت521 ه)
4- العقد الفريد 4/ 160
5- للاطلاع على نص الرسالة راجع الجهشياري، السابق ص 73 وما بعدها

من آداب، بحيث عدت دستوراً متكاملاً للكتّاب من حيث المضمون والشكل. وإذا ما نحن رجعنا إلى بلاغة عبد الحميد الكاتب فإنها - على ما نعتقد - رافد من روافد بلاغة علي علیه السلام فقد قيل لعبد الحميد «ما الذي مكنك من البلاغة، وخرجك فيها؟ فقال: حفظ كلام الأصلع، يعني أمير المؤمنين علیه السلام»(1) . لذلك فلا عجب أن تأتي رسالته إلى الكتّاب كما نتصورها عبارة عن شرح مفصل لما عرضه علي علیه السلام من فكر عن مهنة الكتابة وأهميتها، وما يجب أن يتصف به الكتّاب من مواصفات والأسس التي ينبني عليها اختيارهم. مع الوضع في الاعتبار أن علياً علیه السلام «من أهل هذه الصناعة»(2) إذ لم يقتصر عمله الكتابي في عهد الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على كتابة الوحي، بل زاول أيضاً كتابة العهود. فهو كما تحدثنا كتب السير والتاريخ - الذي كتب معاهدة صلح الحديبية(3) بين يدي رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وعليه فإن ما جاء في عهده للأشتر بشأن الكتاب نابع من تجربة واقتناع تام بمكانة الوظيفة. فوضع شرط الأخلاق الفاضلة على رأس شروط اختيارالكتاب(4) لما يحسه من شعور بأهمية مركزهم الذي يدخل ضمنه اسرارالدولة ومصالحها العامة، وكيفية التواصل بين القيادة والمصالح في طول البلاد وعرضها(5) ، إلى غير ذلك من مهام بالغة في الدقة، لا يؤتمن عليها سوى الكتاب الشرفاء، الذين يعول على إخلاصهم، لشعورهم بأنهم ينطقون بلسان

ص: 353


1- السابق ص 82
2- العقد الفريد: 4/ 161
3- راجع على سبيل المثال: ابن هشام - السيرة 3/ 331 ، تاريخ الطبري 2/ 632 ، وقد عرضنا لصلح الحديبية في ص 142 الهامش (2) من هذا البحث
4- راجع رسائل 53 ، فقرة 23
5- المصدر السابق نفسه

الحكومة في كل ما يصدر عنهم من قريب أو بعيد(1) . ومن مميزات المؤهل للوظيفة في فكر علي علیه السلام هو من يكون «ممتنا بكرامة»(2) من يعمل في خدمته، متجنباً الإجتراء عليه في خلاف حول موضوع ما «بمحضر ملأ»(3) .

ومن يكون ذكيا نبيها لا يغفل أو يتساهل في مراجعة مكاتبات العمال «وإصدار جواباتها على الصواب»(4) بما يتماشى والسياسة التي يرسمها له ولي الأمر.

من يكون حازماً، ذا خبرة تامة بأساليب الكتابة التي لا يدخلها الخلل من حيث المنافذ القانونية، ولديه قدرة فائقة في التحكم بأساليب اللغة فلا «يضعف عقدا إعتقده ولا يعجز»(5) عن حل عقد يرى فيه مضرة لأمته وإمامه.

من يكون عارفاً بقدر نفسه، واثقاً من مقدرته على إداء ما يناط به من مهام كتابية، معتقداً بعلو مكانته عند من يباشر خدمته «لأن الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»(6) .

وتلك الشروط في مجملها تعني عند الإمام علي علیه السلام عدم الاعتماد على الفراسة وحسن الظن أثناء اختيار الكتاب، لأن التصنع والتظاهر بما ليس

ص: 354


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه
5- المصدر السابق نفسه
6- المصدر السابق نفسه

في الطباع من الأساليب التي يتبعها كثير من البشر للوصول إلى غاياتهم(1) ، لذلك فمن واجب المسؤول، وقبل ترشيحه مثل أولئك الذين يرغبون في الالتحاق بالخدمة، أن يباشرأولا بدارسة ماضيهم الوظيفي واختيارهم بناء على «ما ولوا للصالحين»(2) قبله، لأنه بذلك يتمكن من توظيف «احسنهم كان في العامة أثرا وأعرفهم بالأمانة وجهاً»(3) .

ولضبط الجهاز الوظيفي في الدولة ضبطاً حكيماً، يجب تحديد المسؤوليات بتعيين رئيس لكل شعبة، ويكون ذلك الرئيس ذا شخصية قوية متمرساً في وظيفته «لا يقهره كبيرها ولا يشت عليه كثيرها»(4) ، وبذلك يضمن نجاح الجهاز الوظيفي وتتجنب الدولة ما لا يحمد عقباه.

7 - الرقابة الإدارية:

مهما بلغت مؤسسات الدولة من الجدية والاحكام والاخلاص، فإنها لا يمكنها الاسمرار في السير في الطريق السليم ما لم تكن تحت إشراف الخليفة(5) مباشرة، ولا يمكن للخليفة أو الحاكم أن يلم بكل التبعات الثقيلة الا بمعاونة من جهاز يمكن الاعتماد عليه في معرفة سير دواليب الدولة سيراً متوازناً وسليماً، لذلك على ما نعتقد استخدم على الرقابة الإدارية كمؤسسة قائمة

ص: 355


1- المصدر السابق
2- المصدر السابق
3- المصدر السابق
4- المصدر السابق
5- راجع السابق فقرة 27

بذاتها، يمكنه من خلال موظفيها معرفة سير الولاة واحوال الولايات، إذ يبدو من كثير مما ورد في النهج من نصوص أنه، وعن طريق أولئك الرقباء، قد كشف كثيراً من ألاعيب الولاة واختلاساتهم(1) وقد بلغ من دقة أولئك المراقبين من اطلاعه حتى على فحوى الرسائل الخاصة التي كانت تصل إلى بعض عماله من اعدائه ومناوئيه(2) . ويبدو أن جهاز المراقبة، عند علي علیه السلام، لا يقتصر على مراقب واحد لكل إقليم أو مؤسسة، لأن في ذلك على ما نعتقد اجحافاً بحق الوالي أو المسؤول، مما يجعل الحكم في حقه جائراً، فكان تعدد المراقبين من أجل تفادي ذلك، كما أننا نفهم من سياق النصوص أن علياً علیه السلام قد اعتمد في اختياره للمراقبين(3) الإداريين عدم معرفة بعضهم البعض(4) ، حتى يتجنب الاتفاق فيما بينهم على باطل، وقد اشترط مسبقاً أن يكونوا من «أهل الصدق والوفاء»(5) ، حتى إذا اجتمع رأيهم عند ولي الأمر على اتهام مسؤول بالتقصيرأو الخيانة فإنه «يكتفي بذلك شاهداً»(6) لمعاقبة الجاني بما يستحق، وبذلك ضمن لنا علي علیه السلام كما يتهيأ لنا سياسة عادلة هدفها سعادة الإنسان، وبث الطمأنينة في نفسه ووضعه في المكانة المناسبة لإنسانيته، له من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات.

ص: 356


1- راجع على سبيل المثال: رسائل 3، 20، 40، 41، 43
2- راجع رسائل 44
3- راجع رسائل 53 ، فقرة 24
4- المصدر السابق نفسه
5- المصدر السابق نفسه
6- المصدر السابق نفسه
سياسة الإمام علي علیه السلام بين المثال والواقع:

النجاح والفشل في عالم السياسة امران نسبيان، فقد يكون النجاح اخفاقاً من وجهة نظر معينة، وقد يكون العكس من وجهة نظر أخرى، ويرجع ذلك إلى مفهوم السياسة عند كلا وجهتي النظر، فالذي يرى ان السياسة تسلط ومكر واحتيال ودهاء، لا يقيم للأخلاق الفاضلة ولا للعدل أي وزن، باعتقاده أن أية سياسة لا تتفق مع مصلحته ومصلحة فئة معينة من الأمة محكوم عليها بالفشل، وجهة النظر تلك عادة ما تأخذ من فشل السياسة الأخلاقية على صعيد الواقع في كثير من الأحيان مثالا.ً أما أولئك الذين ينظرون إلى السياسة نظرة أخلاقية وينزهون أساليبها عن كل التواء، فإنهم لا يعتبرون إخفاق السياسي المثالي في تطبيق سياسته المثالية اخفاقاً للمثالية. والمتأمل في سياسة علي علیه السلام سيجد انها من النوع المثالي الذي لا يرى في التسلط أو شهوة الحكم غاية يركب إليها أية وسيلة، فقوله «لا يقيم أمرالله سبحانه، الا من لا يصانع ولا يضارع ولا يتبع المطامع»(1) نابع من فكره الذي يؤمن به ويتبناه، ويسعى إلى تحقيقه على صعيد الواقع ويرجع ذلك - في اعتقادنا - إلى الانسجام التام في شخصيته بين الداخل والخارج، ولقد بذل كل ما في وسعه لخلق مثل ذلك الانسجام في أصحابه المقربين اولا ومن ثم في رعيته عامة، ولكن الحظ لم يحالفه، لا لعيب في أساليب التوصيل عنده ولكن العيب في اختلاف نفوس المسلمين في عصره، وقد شعرهو - ذاته - بذلك التغيير إلا انه لم يقبل لنفسه أن تتلون وفق مقتضيات الظروف، لارتكازه في سياسته على دعائم

ص: 357


1- حكم 109، ويضارع المضارعة المشابهة ويضارع يتشبه في عمله بالمبطلين

راسخة ومتينة، يقول لأصحابه «اني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى أصلاحكم بإفساد نفسي»(1) ، لأن الاقتناع الذاتي بأساليب الاصلاح في فكرعلي علیه السلام يختلف عما يريده أصحابه لكونهم يتصورون ان الاصلاح فيمايرغبون فيه.

لقد أراد لأولئك الأصحاب أن يكونوا بالنسبة إليه مثل أصحاب الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالنسبة للرسول صلی الله علیه و آله وسلم في اخلاصهم وتفانيهم للإسلام، دونما مقابل أو اجر، لكنه لم يستطع ان يحقق ذلك المجتمع، لأن الرجال الذين كانوا حول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كانوا ذوي نفوس مختلفة عن الرجال الذين كانوا حوله علیه السلام، لذلك راح علي علیه السلام شهيداً ضحية سياسته المثالية، ولكنه لم يخفق كما نعتقد في تخليد مبادئه من خلال التزامه السياسي الثابت في مجتمع مضطرب لأن «الالتزام بروح المبادئ التي ينطلق منها الحاكم، وتجسيدها على الصعيد العملي، وعدم التلاعب بمضمونها، هو النجاح في نظر الأخلاق ومقياسها وان خسر الإنسان جولة أو أكثر في سبيل ذلك»(2) .

ص: 358


1- خطب 68، وأودكم: اعوجاجكم
2- أحمد الوائلي: علي بن أبي طالب علیه السلام - نظرة عصرية حديثة ص 105

الباب الثالث: فكر علي علیه السلام كما يبدو في نهج البلاغة

اشارة

* الفصل الأول: المجتمع وحالته كما يبدو في فكرعلي علیه السلام

* الفصل الثاني: القيم الخلقية كما تبدو في فكر علي علیه السلام.

* الفصل الثالث: التربية ي فكر علي علیه السلام كما تبدو في نهج البلاغة.

ص: 359

ص: 360

الفصل الأول: المجتمع وحالته ي فكر علي علیه السلام

اشارة

لا نتوقع ونحن نبحث في فكر الإمام علي علیه السلام الاجتماعي الحصول على تعريف نظري للمجتمع لأنه لم يكن منظراً. ولكن من خلال مزاولته للحكم ومما أثر عنه من أقوال، يمكننا تصور الملامح الأساسية لذلك الفكر المستنير بهدي القرآن الكريم والسائر في خطى السنة النبوية الشريفة. فالقرآن الكريم يدعو ضمن آياته إلى التجمع البشري ويشيد بالرابطة الإنسانية كما في قوله تعالى:

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾(1) والآية بما تضمنته من معان سامية، دعوة لبناء مجتمع إنساني واحد أساسه العدل والتعاون والمحبة دون أي تمايز بين أفراده إلا بالعمل المثمر الذي يعود على الإنسانية بالخير العميم وما تكرر كلمة (الناس) في القرآن الكريم في مئتين وأربعين(2) موضعاً الا دلالة على أن هدف الإسلام الأساسي هو بناء المجتمع المثالي «أمل الصفوة

ص: 361


1- الحجرات / 13
2- راجع المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم مادة (ن و س)

من المفكرين وحلم المصلحين»(1) . وقد تمكن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم بالفعل من تحقيق ذلك الأمل في فترة وجيزة، حينما باشر في وضع اسس(2) ، وذلك في السنة الأولى من الهجرة النبوية، بالمؤاخاة بين المهاجرين والوافدين على المدينة وبين الأنصار سكانها الاصليين، ثم بكتابة الوثيقة التي تنظم علاقات السكان منمهاجرين وأنصار ويهود. فبغض النظر عن التعرفيات النظرية يمكننا القول، بأن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من خلال قيامه بذلك العمل العبقري الجبار، قد كان على دراية تامة بأهمية التجمع البشري في بناء المجتمع ولذلك فُرضت الهجرة إلى المدينة(3) . واذا ما تمعنا في النصوص القرآنية والاحاديث النبوية، نخلص إلى نتيجة قوامها ان المجتمع في الفكر الإسلامي، يعني في الأساس تأمين الحياة الفردية والاجتماعية بأسلوب يتسم بالتوازن الذي يقتضي الا يكون الفرد أساساً في التشريع والحكم ولا يكون المجتمع هو الأساس الوحيد الذي تنبني عليه تشريعات الدولة، فالفرد بما له من خصائص إنسانية، هو عضو ضمن جماعة من الناس تتيح له ابراز تفرده وخصائصه على ان لا يكون ذلك التفرد على حساب الآخرين، فقول الرسول « صلی الله علیه و آله وسلم مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم، وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى سائر الجسد بالسهر والحمى»(4)

يعني أن الرابطة الاجتماعية في البناء الإسلامي تجعل من الفرد جزءاً من كل متكامل من حيث التعاون والتعاضد والمساواة لأن «مفهوم المجتمع في الإسلام يقوم على امرين: التعادل بين الفرد ذاته وبين الفرد الآخر، والثاني: التوازن بين

ص: 362


1- محمد جواد مغنية - التفسير الكاشف 7/ 147
2- راجع ص 136 وما بعدها من هذا البحث
3- السابق
4- صحيح مسلم 4/ 999

الفرد والمجتمع»(1) ولو تتبعنا الفكر الاجتماعي عند علي علیه السلام لوجدناه ينطوي على تلك الثنائية بمعناها الشامل، فالإنسان السوي في فكر علي علیه السلام هو من لديه القدرة على فهم نفسه، حتى يتمكن من التعايش مع غيره لأن «الجاهل بقدر نفسه يكون بقدر غيره أجهل»(2) ، ومعرفة النفس تحقيق لمكانتها، ومتىاستطاع الفرد أن يتحقق من مكانته في مجتمعه، فستكون علاقته بالآخرين سوية لا تشوبهما شائبة ولا يعكر صفوها كدر وسيجنب نفسه التباغض والتحاسد محاولا الدفع بالحياة إلى الإمام للرفع من مستوى المجتمع بوضع يده في يد الآخرين عن اقتناع جاعلاً نصب عينيه أن «من يقبض يده عن عشيرته فإنما تقبض منه عنهم يد واحدة وتقبض منهم عنه ايد كثيرة»(3) ، إذ لا يستطيع الإنسان العيش بمفرده دون تعاون الآخرين معه مهما بلغت امكاناته(4) . فإذا تم التعاون بين الأفراد ينهض المجتمع، وتتوسع المسؤوليات لتشمل كل ما يحيط بالإنسان ويتعلق به من طبيعة وحيوان(5) ، ومن خلال مباشرة الفرد لتلك المسؤوليات الواسعة يتحقق التوازن بين الفرج والمجتمع، ولكن ذلك التوازن لا يمكن ان يستقر ويستمر الا إذا أحيط بسياج من النظم تحمي حقوق الافراد وتصون مصالحهم المشتركة، وحتى لا يستغل القوي الضعيف فكانت فكرة الحكومة كرادع اجتماعي.

ص: 363


1- سيد عبد الحميد مرسي - النفس البشرية ص 30
2- رسائل - 53 فقرة 23
3- خطب - 23 الفقرة الثالثة
4- راجع بذلك الشأن ضرورة التجمع البشري - مقدمة ابن خلدون ص 54
5- راجع خطب - 168 الفقرة الاخيرة

ضرورة الحكومة في فكرعلي علیه السلام

تجنباً لتكرار ما عرضنا له بشأن ضرورة الحكومة في فكر الإمام علي علیه السلام(1) يجدر بنا أن نشير إلى أن موضوع الحكومة وأن أُدرج في فكر علي علیه السلام السياسي، الا ان الجانب الاجتماعي هو الغالب عليه لكون سياسة علي علیه السلام اجتماعية بحتة، هدفها بناء المجتمع على أسس التكافل والتضامن والعدل، فلا القرابة تعطي لاحد حق الافضلية(2) ، ولا تكون الصداقة مدعاة لإعطاء ما لا حقله فيه(3) ، ولا الانتماء إلى جنس معين يعطي لأحد في التمايز على غيره(4) والحكومة العادلة هي التي تضمن كل ذلك فهي على هذا الأساس ضرورية، يقول علي علیه السلام: «لابد من إمارة ولا يزال أمرنا متماسكاً ما لم يشتم آخرنا أولنا، فإذا خالف آخرنا أولنا وأفسدوا هلكوا وأهلَكوا»(5) فالحكومة - كما يتضح من قول علي علیه السلام - مؤسسة اجتماعية هدفها تنظيم العلاقات، ومتى اختل النظام بين المؤسسة وبين أفرادها جراء انحراف في أحد الطرفين، فإن ذلك يؤدي حتماً إلى الفوضى واختلال النظام، لأن الحكومة - في فكر علي علیه السلام - لم تنشأ لحماية حقوق فئة معينة، ولا يمكنها أن تكون أداة توازن بين جميع فئات المجتمع إلا

ص: 364


1- راجع ص 166 وما بعدها من هذا البحث
2- راجع خطب - 221 - الفقرة الثانية ما جاء فيها بشأن معاملة علي علیه السلام لأخيه عقيل حين استماحه شيئا من أموال المسلمين
3- راجع خطب - 225 بشأن رد علي علیه السلام على صاحبه عبد الله بن زمعة حين استماحه العطاء من أموال المسلمين
4- راجع ص 241 وما بعدها و ص 300 وما بعدها من هذا البحث
5- رواه ابن مزاحم في صفين ص 15 وليس في نهج البلاغة

إذا وضعت في حسبانها أن النظام والقانون يطبقان على الجميع دون استثناء لأن الحكومة في الإسلام تقيم العلاقات بين الناس وتنظمها لصالح «الجميع بلا استثناء، إن أمكن، وإلا قدم صالح الأغلبية على الأقلية»(1) فالحكومة بتلك الصورة تجعل الحاكم مراقباً لتصرفات الفئات المستغلة للحد من جموحها في التمادي في اقتناء الثروات على حساب الفئات المستضعفة لذلك رأى علي علیه السلام أن يوضح الصورة لأولئك المترفين حين عرضوا عليه الخلافة بعد مقتل عثمان وذلك في قوله «ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غَمَرتهم الدنيا فاتخذوا العَقار وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة، واتخذوا الوصائفَ الرَّوِقَة، فصارذلك عليهم ناراً وشَناراً، إذا ما مَنعَتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك وينكرونه ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا»(2) وعليه فإن أسس العلاقات الاجتماعية بين الحاكم والامة في فكر علي علیه السلام تنحصر في نقطتين:

الأولى - بالنسبة إلى الحكومة:

أ - العدل واجتناب الظلم من قبل أولي الأمر وفقاً لقوله للأشتر «أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك ومن لك فيه هوى من رعيتك فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده»(3)

ولأهمية العدل العظيمة في فكر الإمام علي g لم يجعل مسؤولية ممارسته قصراً

ص: 365


1- محمد جواد مغنية - في ظلال النهج: 4/ 97
2- رواها ابن أبي الحديد شرحه 7/ 37 وليست من ضمن نصوص نهج البلاغة
3- رسائل - 53 فقرة - 6

على أولي الأمر، فهو أيضاً من وجهة نظره - من مسؤولية العلماء - أي المثقفين اليوم - فردع الظالم والدفاع عن المظلوم طبقا لقوله «ما أخذ الله على العلماء، أن لا يقاروا كُظة ظالم ولا سغب مظلوم»(1) .

ب - التواضع وتجنب التكبر، والنأي بالنفس عن حب الاطراء، والفخروعلي علیه السلام يرى «أن من أسخف حالات الولاة عند صالح الناس أن يظن بهم حب الفخر، ويوضع مرهم على الكبر»(2) لذلك فإنه يدعو أصحابه قائلًا «فَلَا تُكَلِّمُونِ بَمَ تُكَلَّمُ بِهِ الَجبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بمِا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخالطِونِی بالُمصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِی اسْتِثْقَالاً فِ حَقّ قِيلَ لِی»(3) فالحاكم من وجهة نظر علي علیه السلام خادم للمجتمع، وما يؤدي من أعمال لصالح الناس هي من واجباته الأساسية التي لا تدعوا إلى شكره والثناء عليه، حتى لا يظن أن ما قامبه من الواجبات، إن هي الا تفضل منه فيغتر بذلك، وتتعالى نفسه ويتجبر ثم ينسى واجباته في خضم الشعور بتضخم الذات.

ج - المبادرة بإنجاز حقوق الناس دون تعطيل أو تسويف، حتى تتجنب الحكومة سخط عامة الناس الذي قد يؤدي إلى إفشال مخططاتها، ويخل بالنظام.

فحين وسط الثوار علياً علیه السلام كي يعرض مظالمهم على عثمان قال له: «كلم الناس في أن يؤجلوني، حتى أخرج إليهم من مظالمهم» فقال علي علیه السلام: «ما كان في المدينة فلا أجل فيه وما غاب فأجله وصول أمرك إليه»(4) وذلك يعني أن من واجب

ص: 366


1- خطب 3 - فقرة 2 - والكظة بضم الكاف - التخمة، والسغب - الجوع
2- خطب 210 فقرة 2 - 3
3- المصدر السابق نفسه
4- خطب 165، الفقرة الاخيرة

الحكومة الاسراع في إنجاز حاجات الناس وحل مشاكلهم.

د - على الحاكم أن يستخبرعن أحوال الناس(1) ، لمساعدتهم في حل مشاكلهم، خاصة الفقراء والمحتاجين «ممن تقتحمه العيون وتحقره الرجال»(2) بتكليف رجال اكفاء يوثق بهم لتقصي أحوالهم ودراسة أوضاعهم، ثم المباشرة في حل مشاكلهم بما يتماشى والحق، مع تجنيب تقصي عورات الناس، واستخدامها كوسيلة من وسائل الارهاب، لأن في تجنب مثل تلك الاساليب إرساء لدعائم الثقة بين الحاكم والحكومة، ومحافظة على القيم الإنسانية التي اوصى الإسلام بها من نبذ للتجسس والغيبة لما تنطويان عليه من تفتيت لأواصر المجتمع وفي ذلك يقول للأشتر «ان في الناس عيوباً، والوالي أحق من سترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها فإنما عليك تطهير ما ظهر لك... فاستر العورة ما استطعت يستر الله منك ما تحب ستره من رعيتك»(3) فعلي علیه السلام يدرك أن أي مجتمع لايخلو من العيوب، فعلى الحكومة صيانة كرامة الأفراد، وعدمك التشهير بهم، لأن للحاكم عيوبه أيضاً، فمتى شرع في البحث عن سقطات الناس، فإن الناس سيقتفون اثره في البحث عن سقطاته(4) ، وفي ذلك مدعاة لهدم الشقة بين الحاكم والمحكوم، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى انهيار المجتمع، وتصدع قيمه.

ه - وعلى القيَّم بالأمر والحاكم أن لا يستغل سلطته ليولي رقاب الناس أهله وقرابته، ليستمد منهم القوة على عامة الناس، فلابد له ان يلزم «الحق من

ص: 367


1- راجع ما ورد بشأن ذلك في رسالة رقم 53 الفقرة 24
2- المصدر السابق نفسه
3- السابق فقرة - 8
4- السابق

لزمه من القريب والبعيد»(1) ويضع قرابته واصحابه في مواضعهم المناسبة من المجتمع وبذلك ينأى بالحكومة عن مواضع التهم ويجنب أجهزتها مزالق المفاضلة بين الناس على أساس من الوساطة والمحسوبية والقرابة.

الثانية: بالنسبة للمجتمع:

أ - إطاعة أولي الأمر، والامتثال لأوامر الحكومة ونواهيها فيما تسنه من نظم وقوانين تنظم العلاقات الاجتماعية بين مختلف الفئات، شريطة أن تفي الحكومة بكل التزاماتها تجاه الأمة، وفي هذا الصدد يقول علي علیه السلام متمثلاً ما لأولي الأمر من حقوق على المجتمع «أما حقي عليكم فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب، والإجابة حين ادعوكم والطاعة حين آمركم»(2) وهو بهذا يتمثل جميع الواجبات المفروضة على المجتمع تجاه الحكومة. إذ لا يمكن للحكومة ان تؤدي واجبها على أكمل وجه دون تجاوب من المحكومين، على أن تكون تلك الاستجابة متمشية مع الحق والشرع، وقد أدرج علي علیه السلام ذلك الشرط في كتابه إلى أهل مصر حين ولى الأشتر عليهم وذلك في قوله «أطيعوا أمره فيما يوافق الحق»(3) فطاعة أولي الأمر أو الحكومة مقرونة في فكر علي علیه السلام بالتزام الحكام العدل قولا وفعلاً وفقا لقول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«لا طاعة لمن لم يطع الله»(4) .

ب - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: يرى علي علیه السلام أن الأمر بالمعروف

ص: 368


1- المصدر السابق فقرة - 31
2- خطب 34 الفقرة الأخيرة
3- رسائل 38 الفقرة الثانية
4- مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/ 213

والنهي عن المنكر من صميم واجبات كل فرد من أفراد الأمة وليس قصراًعلى الحكومة أو على فئة معينة، لذلك فمن واجب كل قادر ان يباشر بالإصلاح في مجتمعه قولا وعملاً قدر استطاعته وبالأسلوب المتاح له وقد يتردد الفرد عن قول الحق خوف التنكيل أو البطش والغيلة، سواء أكان ذلك من لدن السلطة المتعسفة، أم من لدن أفراد متسلطين لهم وجاهتهم لدى السلطة، لكن علياً علیه السلام بمنطقة الثوري الحاسم لا يرى في التردد والسكوت والخوف أية جدوى «لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من وجهة نظره لا يقربان من أجل»(1) أي أن السكوت عن قول الحق والرضوخ للباطل لن يقدما أو يؤخرا أجل الإنسان المقدر له، ولأهمية ذينك العنصرين في فكر علي علیه السلام فقد عدهما من دعائم الجهاد على اعتبار انهما فرض كفاية كما في قوله «الجهاد على أربع شعب، على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصدق في المواطن، وشنان الفاسقين، فمن أمر بالمعروف شد ظهور المؤمنين، ومن نهى عن المنكر،أرغم أنوف الكافرين...»(2) وقد اعتبرهما من الجهاد لكونهما تضحية بالنسبة للإنسان في بحياته وبماله، إذا باشرهما على أصولهما، خاصة في المجتمعات الفاسدة، لأنهما يمسان القاعدة العريضة بين أبناء المجتمع، ويؤثران في تصرفاتالناس وأخلاقهم «فالأمر بالمعروف مصلحة للعوام والنهي عن المنكر ردع للسفهاء»(3) وعلى ذلك فإن تركهما أو التغاضي عنهما يعني الاختلال في بنية المجتمع بانتشار الظلم واستفحال الفساد، وهو ما يتنافى ومبادئ الإسلام التي

ص: 369


1- حكم، 380
2- حكم، 31 ، والمواطن: المواضع، ويقصد بها في السياق مواطن القتال في سبيل الحق والشنآن - البغض
3- حكم، 251

أرادت للإنسان الكرامة في مجتمع متضامن يصون حقوق جميع الناس، وعلي علیه السلام يصر على زرع هذين المبدأين في نفوس الجميع لأنه يدرك تماماً ان في تركهما انهياراً حتمياً في قيم المجتمع خضوعاً للفرد واستسلامه للواقع بكل سيئاته مما يتيح للانتهازيين والظلمة التسلق على اكتاف المستضعفين وهضم حقوقهم، فتنقلب أوضاع المجتمع وتتدهور قيمه وتعمه الفوضى. يقول علي علیه السلام«ان أول ما تغلبون عليه من الجهاد، الجهاد بأيديكم، ثم بألسنتكم، ثم بقلوبكم، فمن لم يعرف بقلبه معروفاً، ولم ينكر منكرا، قلب فجعل اعلاه اسفله واسفله اعلاه»(1) فكلمة الحق الصادقة والنصيحة المخلصة من أهم الأسس التي تنبني عليها شخصية الفرد في فكر علي علیه السلام، وأفضل النصح وأعزه وأقومه عنده يتجسد في «كلمة عدلٍ عند إمامٍ جائرٍ»(2) .

فإذا ما التزمت الحكومة بواجباتها تجاه الأمة وأدّت الأمة ما عليها من واجبات «صلح بذلك الزمان وطمع في بقاء الدولة»(3) ويبدو من نصوص نهج البلاغة ان حكومة علي علیه السلام قد ادت كل ما عليها من التزامات تجاه الأمة، إلا أن الأمة لم تؤد التزاماتها، فانقلب الوضع كما يقول علي علیه السلام« لقد أصبحت الأمم تخاف ظلم رعاتها، وأصبحت أخاف ظلم رعيتي»(4) مما يعني في طياته، انحدار المجتمع الإسلاميفي هاوية التمزق، ولكن قبل الدخول في وصف الحالة الاجتماعية في مجتمع الكوفة - من منظور علي علیه السلام يجدر بنا التعرف على الشرائح التي تكون ذلك المجتمع منها.

ص: 370


1- حكم، 381
2- حكم، 380
3- خطب 26 الفقرة الثالثة
4- خطب، 96 ، الفقرة الأولى

الشرائح التي تكون منها مجتمع الكوفة:

الكوفة مدينة استحدثها المسلمون في السنة السابعة عشرة للهجرة في عهد عمر بن الخطاب وذلك فيما يبدو بعد انتصارهم على الفرس في معركة جلولاء(1) ، وكان الغرض من انشائها في بداية الأمر عسكريا، وذلك «ان عمر بن الخطاب كتب إلى سعد بن أبي وقاص يأمره ان يتخذ للمسلمين دار هجرة وقيروانا وان لا يجعل بينه وبينهم بحراً... فتحول إلى الكوفة فاختطها، واقطع الناس المنازل، وانزل القبائل منازلهم»(2) ومعنى ذلك ان الكوفة اصبحت قاعدة لإمداد المسلمين بالجيوش، ومقراً للغنائم التي يغزونها من الجانب الشرقي وبطبيعة الحال، فإن ذلك ساعد على وفود كثير من العناصر غير العربية، وسرعان ما تحول ذلك المعسكر البسيط إلى مدينة عامرة، تعج بالناس على مختلف ثقافاتهم ومستوياتهم المعيشية، فاتسعت اتساعاً عظيماً في مدة قصيرة، فتحول المعسكر البسيط إلى ولاية ذات أهمية، تحسب الدولة لسكانها ألف حساب، ويستجاب لمطالبهم تفاديا لسخطهم وثورتهم، بحيث اصبح عمر بن الخطاب، برغم ما أثر عنه من حزم، يشكو من ذلك المجتمع، فقد أثر عنه قوله «من عذيري من أهل الكوفة ان استعملت عليهم القوي، فجروه وان وليت عليهم الضعيف حقروه»(3) . والسبب كما نعتقد هو ان

ص: 371


1- جلولاء: مقاطعة من مقاطعات «السواد في طريق خراسان، بينها وبين خانقين سبعة فراسخ... وبها كانت الوقعة المشهودة على الفرس سنة 16 ، فاستباحهم المسلمون فسميت جلولاء الوقيعة، لما أوقع بهم المسلمون» معجم البلدان ح/ 156
2- البلاذري - فتوح البلدان ص 387
3- السابق

مجتمعها يعيش مرحلة انتقالية تفرض على الفرد ان يتعايش مع أجناس مختلفة في العادات والتقاليد والدين واللغة، وقد يساعد على كشف ذلك اطلالة سريعة على الأجناس التي تكون منها ذلك المجتمع إذ يمكن اجمالها في خمسة:

1 - الأرستقراطية العربية.

2 - الموالي.

3 - العرب البدو والذين يعتمدون على الولاء القبلي.

4 - الفرس والنبط والسريان وغيرهم ممن ظلموا متمسكين بديانتهم.

5 - العرب غير المسلمين من نصارى تغلب ونجران.

ومن الملاحظ من التقسيم السابق فقدان الرابطة الإنسانية التي دعا الإسلام إليها بين الاجناس، فمن خلال دراستنا لكل فئة على حدة يمكن الكشف عن العلاقات الاجتماعية في الكوفة.

1 - الأرستقراطية العربية:

لقد قسمت الكوفة منذ نشأتها الأولى على أساس قبلي، إذ يقال ان سعد بن أبي وقاص لما أراد تمصير الكوفة وجد ان جانبها الشرقي خير من الجانب الغربي، وتفاديا للفتنة والنزاعات القبلية في جيشه المكون من قبائل يمنية واخرى نزارية، فقد أقرع فيما بينهم، فصارت القرعة في صالح أهل اليمن «فصارت خططهم في الجانب الشرقي، وصارت خطط نزار في الجانب الغربي»(1) ، ثم استحدث داخل ذلك التقسيم تقسيما آخر كان الغرض منه تسهيل توزيع

ص: 372


1- السابق ص 388

الغنائم على القبائل فقسمت إلى سبعة أسباع، وأنزلت كل قبيلة منزلتها من ذلك التقسيم(1) «بحسب النسب والحلف»(2) ويلاحظ أن تعداد رجال تلك القبائل في بداية استيطانها الكوفة، لا يزيد على العشرين ألف رجل(3)، وقد انبثقت من زعامة هذه القبائل الأرستقراطية العربية، فاستقر في نفوس أولئك وأبنائهم بأنهم أشرف مقاماً، وأصرح نسباً من القبائل الأخرى، ثم الاستعلاء بالمقام والأفضلية على الأجناس الأخرى المستضعفة.

2 - الموالي:

الولي هو الحليف، والمولى ابن العم، والمولى: «المعتق انتسب إلى نسبك، ولهذا قيل للمعتقين الموالي»(4) وعلى هذا فإن الولاء ينقسم على قسمين: ولاء الحلف، وولاء العتاقة(5)حلف بالعتاق أي الإعتاق، وهو ان يعتق السيد عبده فيتحالف ذلك العبد معه وينضوي تحت - حمايته راجع لسان العرب المحيط 2/ 687 وراجع أيضاً بشأن ولاء العتاقة: احسان النص العصبية القبلية ص 67(6). ويأتي على ضربين:

الأول منهما: وهو ولاء العربي للعربي، وهذا النوع من أقدم الأنواع التي تعاقدت عليها القبائل العربية منذ الجاهلية. وقد تقسمت القبائل العربية

ص: 373


1- راجع السابق ص 387
2- راجع ماسنيون - خطط الكوفة ص 9
3- عن الشعبي قال: «كنا - يعني أهل اليمن) اثني عشر ألفاً، وكانت نزارثمانية آلاف، الا ترى أنا أكثر أهل الكوفة، ولقد خرج سهمنا بالناحية الشرقية فلذلك صارت خططنا بحيث هي» فتوح البلدان ص 389
4- لسان العرب المحيط 3/ 985
5- حلف بالعتاق أي الإعتاق، وهو ان يعتق السيد عبده فيتحالف ذلك العبد معه وينضوي تحت - حمايته راجع لسان العرب المحيط 2/ 687 وراجع أيضاً بشأن ولاء العتاقة
6- : احسان النص العصبية القبلية ص 67

بعد صلح الحديبية في تحالفها مع بعضها البعض على قسمين: قسم تحالف مع قريش(1) والقسم الثاني تحالف مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم(2) ، وقد ورد في الحديثالشريف ان «كل حلف كان في الجاهلية فلا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا حلف في الإسلام»(3) .

الثاني: الولاء الذي يعقد بين العرب وبين الداخلين في الإسلام من العناصر الاجنبية «وهذا الضرب من الولاء انما هو صورة جديدة من ولاء الحلف المعروفة في الجاهلية»(4) وهو ما نرمي إليه أيضاً في دراستنا هذه، إذ لما استوطنت القبائل العربية بالكوفة تحالفت معها بعض العناصر الفارسية من جميع الطبقات الاجتماعية التي دخلت الإسلام، وقد استمد ذلك التحالف قيمته ومتانته من خلال المكانة الاجتماعية التي ينضوي المتحالفون تحتها.

فالدهاقين(5) الذين دخلوا الإسلام طواعية «لم يعرض لهم عمر بن الخطاب ولم يخرج الأرض من تحت ايديهم، وازال الجزية عن رؤوسهم»(6)، وقد شكل أولئك، فيما نعتقد طبقة خاصة من الموالي لها امتيازاتها باحتفاظ اصحابها باقطاعاتهم وما عليها من عبيد، ولا بد انهم قد تحالفوا مع بعض القبائل العربية الفاتحة للمحافظة على اموالهم، وفي محاولة من أولئك المالي لتحسين مركزهم

ص: 374


1- تحالفت بنو بكر مع قريش ودخلوا في عهدهم - راجع - السيرة، لابن هشام 3/ 332
2- دخلت خزاعة في حلف مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم - راجع السابق
3- ابن أبي الحديد 18 / 67
4- احسان النص - السابق ص 67
5- لدهاقين - دهقان، بكسر الدال أو فتحها: التاجر - فارسي معرب لسان العرب المحيط 1/ 1025، وقيل: زعيم فلاحي العجم، ورئيس الاقليم الزاوي ترتيب القاموس المحيط 2/ 222
6- فتوح البلدان السابق ص 370

المالي، فقد استطاعوا ان يكونوا لهم مكانة اجتماعية مرموقة، ولكنها دون المكانة التي تسنمتها الارستقراطية العربية. هذا بالإضافة إلى اربعة الاف من خاصة الجند في الجيش الفارسي، الذين اعتزلوا الفرس بعد انهزام قائدهم رستم فيالقادسية(1) ، ودخلوا الإسلام وشاركوا المسلمين في فتح المدائن(2)، بعد ان استأمنوا «على ان ينزلوا حيث احبوا ويفرض لهم في العطاء، فأعطوا الذي سألوه، وحالفوا زهرة بن حوية السعدي من بني تميم، وانزلهم سعد بحيث اختاروا، وفرض لهم الف الف (درهم) وكان لهم نقيب»(3) يتولى شؤونهم.

وقد شكل أولئك أيضاً طبقة خاصة من المحاربين الموالي لهم من الحقوق ما للنخبة العربية، ولكنهم دونهم في المستوى الاجتماعي، هذا بالإضافة إلى الحرفيين، والصناع والتجار والفلاحين الذين «كانوا يحالفون العرب ويدخلون في ولائهم لحمايتهم، ويعدونهم ساداتهم»(4) .

ص: 375


1- القادسية: منطقة «بينها وبين الكوفة خمسة عشر فرسخاً لها عدة اسماء وفيها كان يوم القادسية بين المسلمين والفرس في أيام عمر بن الخطاب في سنة 16 هجرية وكان الفتح للمسلمين وقُتل رستم جازويه، ولم يقم للفرس بعده قائمة، معجم البلدان 4/ 291
2- المدائن: قاعدة ملك الأكاسرة الساسانية، كان كل واحد منهم إذا ملك يبني لنفسه مدينة إلى جنب التي قبلها، وكان فتح المدائن كلها على يد سعد بن أبي وقاص في صفر سنة 16 في أيام عمر بن الخطاب... فلما ملك العرب ديار الفرس واختطت الكوفة والبصرة انتقل إليهما الناس عن المدائن معجم البلدان 5/ 74
3- فتوح البلدان ص 594 وزهرة بن حوية السعدي بفتح جاء حوية وكسر الواو، وفد على النبي صلی الله علیه و آله وسلم من قبل ملك هجر فاسلم... وكان على مقدمة سعد في قتال القادسية... عاش حتى كبر، وقتله شبيب بن يزيد الخارجي... أيام الحجاج أسد الغابة 2/ 260
4- أحمد أمين فجر الإسلام ص 181

ومن الملاحظ مما سبق، إن تركيبة الجنس الفارسي التي شكلت الموالي قد كانت مقسمة في داخلها إلى طبقات تحكمها وتحدد امتيازاتها مكانة الطبقة الاجتماعية من منظور النخبة العربية الحامية لكل تلك الطبقات، مما جعل صراع ذلك الجنس يتسم بالازدواجية، فهو من ناحية صراع داخلي بين الفرس أنفسهم، وهو من ناحية أخرى صراع المغلوب للغالب العربي.

3 - العرب البدو والذين يعتمدون على الولاء القبلي:

ويشكل أولئك الغالبية العربية في المجتمع الكوفي، فقد هجروا الصحراء فراراً من شظف العيش، وطمعاً في الثراء الذي كانوا يرجونه من وراء الجهاد، إلا أنهم قد أصيبوا بخيبة أمل لكونهم لم يحققوا ما كانوا يطمحون إليه بسبب فئة معينة من النخبة العربية بالقسط الوافر من الفيء والغنيمة، مما أحال أولئك البدو إلى التبلبل وعدم الثبات في مواقفهم، فأصبح ولاؤهم مساومة المنتفعين من زعامة العرب، ومن الطبيعي ان يولد ذلك حقداً في نفوس أولئك البدو على الزعامة العربية المتمثلة في قريش «فعدوها غاصبة وتمنوا زوال سيادتها واعلنوا ان اموال الفيء والغنائم هي لهم وليست للحكومة فهي اموال المسلمين»(1) وقد بين علي صلی الله علیه و آله وسلم خطورة أولئك البدو الذين اغتالوا عثمان، وملكوا على الناس كل مسلك في المدينة(2) .

4 - الفرس والنبط والسريان وغيرهم ممن ظلوا متمسكين بدياناتهم:

وأولئك هم الذين يشكلون الطبقة المسحوقة، وهم الغالبية في العراق

ص: 376


1- النعمان القاضي - الفرق الإسلامية في الشعر العربي ص 35
2- راجع خطب 169

ويطلق عليهم أهل السواد(1) لاشتغالهم بالزراعة، وهم خليط من الفرس عبدة النار، ونبط السواد من بقايا الأرمانيين»(2) والسريان(3) من بقايا أسرى جند يسابور(4) ، والنازحين من أهالي حران(5) ونصيبين(6) ، ويمكننا النتف التاريخية التي بين أيدينا استنتاج ان سواد العراق قد كان مشحوناً بالفتن، ومصدر قلق للسلطة، ومن ذلك انه «شكا أهل السواد إلى علي علیه السلام فبعث مئة فارس فيهم ثعلبة بن يزيد الحماني، فلما رجع ثعلبة قال في مسجد بني حمان: علي أن لا أرجع إلى السواد مما أرى فيه من الشر»(7) ففي الشاهد ما ينبئ عن غليان تلك الطبقة،

ص: 377


1- سواد كل شيء: كورة ما حوله من القرى والرساتيق (جمع رستاق بضم الراء القرى) واهلالسواد: الفلاحون وساكنوا القرى راجع مادة (سود) في تاج العروس 8/ 228
2- تاريخ الطبري 1/ 611 وقد ورد ذكر انباط السواد أيضاً في فتوح البلدان ص 366 وذلك يرجع كثرتهم في قرى العراق ابان الفتح الإسلامي وسموا بالارمانيين نسبة إلى أرم مدينتهم وللاطلاع على تاريخ الأنباط ولمعرفة أصولهم راجع: كارل بروكلمان - تاريخ الشعوب الإسلامية ص 20 - 21 وجرجي زيدان - العرب قبل الإسلام ص 95 وما بعدها
3- بشأن السريان راجع: دى بور- تاريخ الفلسفة الإسلامية ص 19 وما بعدها
4- جند يسابور: مدينة بخورستان بناها الملك الفارسي سابور بن أردشير فنسبت إليه واسكن فيها سبي الروم، وطائفة من جنده - معجم البلدان ح/ 170
5- حران: قصبة ديار مضر، بينها وبين (مدينة) الرها، وبين الرقة يومان، وهي على طريق الموصل والشام، كانت منازل الصابئة، وهم الحرانيون معجم البلدان 2/ 235 ، وبشأن عقائد الصائبة راجع الشهرستاني الملل والنحل 2/ 5 وما بعدها
6- نصيبين: مدينة عامرة من بلاد الجزيرة على جادة القوافل من الموصل إلى الشام بينها وبين الموصل ستة أيام، كانت تابعة للروم ثم افتتحها كسرى أنوشروان وافتتحها المسلمون صلحاً سنة سبع عشرة هجرية بعد تمصير الكوفة - معجم البلدان 5/ 288
7- أبو يوسف - الخراج ص 37 ، وثعلبة بن يزيد الحماني الكوفي، كان على شرطة علي علیه السلام وكان غاليا في التشيع، قال البخاري: في حديثه نظر، لا يتابع وقال عنه النسائي: ثقة ابن حجر تهذيب التهذيب 2/ 26 وراجع ترجمته أيضاً في اعيان الشيعة 4/ 25 ، فقد سرد المصادرالتي ترجمت إليه ولم يورد سنة وفاته

بعد ان فاضت مرارة العسف بها، وألهب نفوس أبنائها الاضطهاد الموجه من قبل السادة الفاتحين، أو من يقوم مقامهم من الدهاقين أو جامعي الضراب، ويبدو أن استخدام العسف والتعذيب لتحصيل الخراج قد كان منذ عهد عمر بن الخطاب، رغم الوصايا التي كان يزود بها عمال الخراج، باستخدام الرأفة واللين والرحمة أثناء استجلابه(1) ، من ذلك أنه قد مر بطريقه إلى بيت المقدس سنة خمس عشرة هجرية بقوم «اقاموا في الشمس يعذبون، فقال عمر: ما بال هؤلاء يعذبون؟ فقيل:

عليهم خراج»(2) وقد انكر الخليفة ذلك وأمر بإطلاق سراحهم لعدم قدرتهم على اداء ما عليهم، امتثالاً لروح الإسلام بالرحمة والرأفة بالعباد.

5 - العرب غير المسلمين من نصارى الحيرة ونجران وتغلب:

يحدثنا البلاذري عن وجود كثير من الأديرة(3) بالقرب من الكوفة قبلتمصيرها، علاوة على ذلك فإنها متاخمة للحيرة(4) ، قاعدة الملوك اللخميين(5)

ص: 378


1- راجع بشأن استجلاب الخراج في فكر عمر: يحيى بن آدم - الخراج ص 76 - 77
2- الواقدي - فتوح الشام 1/ 237
3- راجع البلاذري - فتوح البلدان ص 397 ، 398
4- الحيرة: مدينة على ثلاثة أميال من الكوفة على موضع يقال له النجف، زعموا ان بحر فارس كان يتصل به - معجم البلدان ح/ 328
5- للاطلاع على نسب اللخميين - راجع ابن حزم الأندلسي جمهرة أنساب العرب ص 422 وما بعدها

العرب الذين انضووا في «آخر الأمر تحت لواء المسيحية»(1) بالإضافة إلى أولئك فقد نزح إلى العراق نصارى نجران، بعد ان اجلاهم(2) عمر بن الخطاب عن شبه الجزيرة العربية امتثالا لوصية رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بذلك. وقد استوطنوا العراق «قرية تدعى نهرابان... من كورة البهقباذ من طاسيج الكوفة»(3) ولقد عُد أولئك النصارى من أهل ذمة وفرضت عليهم الجزية. اما نصارى بني تغلب فقد كان لهم وضع خاص، يختلف عن بقية أهل الذمة يحدثنا ابن قيم الجوزية انهم انتقلوا «في الجاهلية إلى النصرانية، وكانوا قبيلة عظيمة لهم شوكة قوية، واستمروا على ذلك حتى جاء الإسلام وصولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم عوضاً عن الجزية»(4) شريطة ان لا ينصروا اولادهم ولا يمنعوا احداً منهم رغب في الإسلام. بالإضافة إلى قلة من اليهود، الذين اجلاهم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم

ص: 379


1- بروكلمان - تاريخ الشعوب الإسلامية ص 28
2- بشأن اجلاء عمر بن الخطاب لنصارى نجران عن ارض اليمن بشبه جزيرة العرب راجع: 1 - أبو عبيد: الأموال ص 108 وما بعدها. 2 - أبو يوسف: الخراج ص 71 وما بعدها. 3 - ابن قيم الجوزية: أحكام أهل الذمة 1/ 177 وما بعدها
3- ياقوت - معجم البلدان 5/ 269 ، والبهقباذ - بالكسر فالسكون فالضم - فارسي معرب اسم لثلاث كور ببغداد من اعمال سقي الفرات، منسوبة إلى قباذ بن فيروز والد كسرى انوشروان.وتقع القرية التي استوطنها النجرانيون بعد نزوحهم عن نجران اليمن في البهقباذ الاسفل الذي تقع فيه كورة الكوفة، والطسوج - بفتح الطاء وتضعيف السين وضمها فارسي معرب - الناحية والجمع طاسيج - تاج العروس 6/ 86
4- ابن قيم الجوزية - أحكام أهل الذمة 1/ 75 ويمكن مراجعة الشروط التي صالحهم عليها عمر في المصدر نفسه ص 76 وما بعها أما مساكن تغلب فكانت بالجزيرة الفراتية بجهات سنجار ونصبين، وتعرف بديار ربيعة كحالة - معجم قبائل العرب1/ 120

عن قراهم بالمدينة(1) . وأجلاهم عمر بن الخطاب عن شبه الجزيرة العرب امتثالاً لوصية الرسول صلی الله علیه و آله وسلم. ذلك هو إذن مجتمع الكوفة حين قدم إليها علي علیه السلام بعد وقعة الجمل.

مجتمع الكوفة في فكر علي علیه السلام:

دخل علي علیه السلام الكوفة «يوم الاثنين لإثنتي عشرة مضت من رجب سنة ست وثلاثين»(2) ليتخذها عاصمة له فاستقبله القراء والأشراف(3) واهل السواد(4) ، فاستطاع من تلك اللقاءات ان يستطلع الوضع عن كثب ويتعرف على مجريات الأمور، إذ كان يدرك تململ الناس من السيادة العربية، واستئثار الاشراف بالأموال دون الفقراء، والعسف في استخراجها من أهل السواد، وما السبب في مقتل عثمان، الا استئثار بني أمية بالأموال دون غيرهم(5) ، ثم إن ثورة أهل الجمل المفتعلة ومناهضتهم إياه، الا لأنه أراد أن يحرمهم الامتيازات التي استأثروا بها ويساويهم بعامة المسلمين في الحقوق والواجبات(6) فإذا ما نحن استقرانا فكره بشأن طبقات مجتمع الكوفة، فسنجد انه قد كان على دراية تامة بمشاكل كل فئة وما يداخل نفوس أبنائها من آمال وآلام، وقد حاول أن

ص: 380


1- بشأن إجلاء رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بعض اليهود عن المدينة راجع طبقات ابن سعد 2/ 29 وبشان اجلاء اليهود عن شبة جزيرة العرب في عهد عمر بن الخطاب راجع أحكام أهل الذمة 1/ 183
2- ابن مزاحم - صفين ص 3
3- السابق ص 3
4- المصدر السابق ص 14
5- راجع ص 230 وما بعدها من هذا البحث
6- راجع ص 148 وما بعدها من هذا البحث

يضع النقاط على الحروف بالحد من غلواء المتمادين، والوقوف بجانب حقوق المستضعفين، فكان معه «العبيد والموالي والأعراب والمحرومون. وهؤلاء كانوا خائفين متبرمين لا يرضون عن حظهم من العيش»(1) . وحتى يحقق علي علیه السلام الانسجام الذي يتوخاه لذلك المجتمع، فقد استخدم أسلوب الاصلاح التدرجي. فبدأ أولا بمعالجة داء العصبية المستشري في اعضاء الزعامة القبلية.

1 - موقف علي علیه السلام من العصبية القبلية:

استشرت العصبية في مجتمع الكوفة وفي غيره من المجتمعات الإسلامية، وقد اجج لهيبها وأحياها في النفوس، ما احدثه ولاة عثمان الأمويون من احداث في الأمصار حين عدوا أنفسهم طبقة خاصة لها امتيازاتها(2) ، فاستحالت العصبيات القبلية إلى تيار جارف لا يمكن الحد منه والتصدي له، إذ انها اسدلت بحجبها المقيته على الحق كل سبيل. فالأشعث بن قيس(3) ، احد زعماء اليمانية في الكوفة، يقوده التعصب الأعمى ليمانيته إلى فرض أبي موسى الاشعري ليمثل أهل العراق في التحكيم لأنه يماني ليس غير، ولا تهمه بعد ذلك النتائج التي سينجرعنها ذلك الاختيار، فحين رشح علي علیه السلام عبد الله بن عباس للتحكيم عارضه الاشعث مقسما «لا والله لا يحكم فيها مضريان... والله لأن يحكما ببعص ما نكره وأحدهما من أهل اليمن، احب الينا من ان يكون

ص: 381


1- النعمان القاضي - الفرق الإسلامية في الشعر الأموي ص 47
2- راجع ص 230 وما بعدها من هذا البحث
3- راجع ترجمته في هامش ص 277 من هذا البحث

بعض ما نحب في حكمها وهما مضريان»(1) . ثم ان التنافس على المكانة الأثيرة عند الخليفة والنزول على طاعته مرتبط عند الزعامات بالعصبية القبلية. إذ لما حاول معاوية اشعال نارالفتنة بالبصرة لإخراجها عن طاعة علي علیه السلام سنة ثمان وثلاثين(2) ، انقسمت فيها القبائل العربية على قسمين أحدهما ظل على بيعته لعلي علیه السلام، والآخر انضم إلى معاوية، وقد انحازت قبيلة تميم إلى جانب معاوية، وعاضدت رسوله وعامله عبد الله بن الحضرمي(3) على زياد بن ابيه(4) ، عامل علي علیه السلام على البصرة نيابة عن عبد الله بن عباس في أثناء غيابه عنها، فلما أحس التميميون في الكوفة بنية علي علیه السلام على ارسال قوة معظم رجالها من الأزد لإخماد الفتنة، أرسلوا إليه شبث بن ربعي التميمي(5) ليحول دون ذلك بوصفه الإزد

ص: 382


1- ابن مزاحم - صفين ص 500
2- راجع بشأن ذلك - تاريخ الطبري 5/ 110 وما بعدها، وابن أبي الحديد 4/ 34 وما بعدها
3- عبد الله بن عامر بن الحضرمي استعمله عثمان على مكة وبقي والياً عليها حتى قتل عثمان سنة خمس وثلاثين، وهو من اوائل لذين استجابوا لعائشة في تحريضها على نكث بيعة علي علیه السلام، شارك في حرب الجمل، ثم لجأ بعد الهزيمة إلى معاوية الذي أرسله سنة ثمان وثلاثين لأثارة الفتنة بالبصرة لإخراجها عن طاعة علي علیه السلام، فلقي حتفه هو وجماعة من أنصاره حرقاً على يد جارية بن قدامة السعدي أحد أصحاب علي علیه السلام المخلصين. راجع ابن الأثير الكامل في التاريخ 3/ 95، 106، 182
4- زياد بن أبيه: وقيل تارة زياد بن امه، ولما أستلحقه معاوية قال أكثر الناس زياد بن أبي سفيان، وكان قيل استلحاقه ينسب لأبيه عبيد، الذي كان عبداً، وبقي حياً حتى أيام زياد في الرق، فابتاعه واعتقه، كان زياد شجاعاً فصيحاً، وتجلت مواهبه منذ أيام عمر بن الخطاب واستعمله علي علیه السلام على إقليم فارس تحول إلى معاوية إثر مقتل علي علیه السلام، بعد أن أستلحقه، وولاة العراقين، البصرة والكوفة وبقي فيها حتى وفاته في سنة 53 هجرية راجع ترجمة كاملة عند: ابن عبد البر الاستيعاب بهامش الإصابة 1/ 567، وشرح ابن أبي الحديد16 / 179
5- شبث بن ربعي التميمي اليربوعي: بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة أحد الأشراف الفرسان، كان ممن خرج على علي علیه السلام وانكر التحكيم، ثم تاب وأناب توفي سنة سبعين هجرية وكان فيمن قاتل الحسين بن علي علیه السلام في كربلاء الإصابة 2/ 162

بالبعداء البغضاء، فلم يتمالك مخنف بن سليم الأزدي(1) - وفي محضر علي علیه السلام - ان يرد عليه بقول «ان البعيد البغيض من عصى الله وخالف أمير المؤمنين، وإن الحبيب القريب من أطاع الله ونصر أمير المؤمنين وهم قومي وأحدهم خير لأمير المؤمنين من عشرة من قومك»(2) فمن تلك المشادة يمكن استخلاص ما تنضح به نفوس الزعامة القبلية عصبية، ومحاولة الاستئثار بالمكانة السامية في نفس الخليفة عن طريق الخدمات المغموسة حتى نهايتها في تلك العصبية المقيتة.

لقد بلغت العصبية ذروتها وكشرت عن أنيابها في أواخر خلافة علي علیه السلام. بحيث «كان الرجل يخرج من منازل قبيلته فيمر بمنازل أخرى، فينادي باسم قبيلته: يا للنخع مثلاً، أو يا لكندة، نداءً عالياً يقصد به الفتنة واثارة الشر»(3) .

لقد بذل علي علیه السلام كل ما في وسعه من جهد لإخماد تلك العصبية، والعودة بالعرب إلى ما جاء به الإسلام من أخوة، واستخدم من أجل ذلك كل ما لديه

ص: 383


1- مخنف بن سليم الأزدي: له صحبة، وكان نقيب الأزد بالكوفة، استعمله علي بن أبي طالب علیه السلام على مدينة أصفهان، وشهد معه الجمل وصفين، وكانت معه راية الأزد يوم صفين وقد حدد الزركلي وفاته في سنة ست وثلاثين في وقعة الجمل والصواب انه توفي بعد معركة صفين أي بعد سنة سبع وثلاثين لأن ابن مزاحم في صفين ص 8 يذكر وجوده ضمن أشراف الكوفة حين دخلها علي بعد حرب الجمل. وجاء في ص 104 كتاب من علي علیه السلام إلى مخنف بن سليم يدعوه فيه إلى القدوم إليه بالكوفة ليسير ضمن جيشه الذي جهزه لمحاربة معاوية. راجع: أسد الغابة 5/ 128 ، وأعلام الزركلي 7/ 194
2- ابن أبي الحديد 4/ 45
3- السابق 3/ 166 ، وقد رد علي علیه السلام تلك الأفعال بخطبة بليغة حلل فيها معاني العصبية اطلق عليها (القاصعة)، ذكرنا فقرات منها في ص 299 وبعدها من هذا البحث

من الاساليب المتاحة المشروعة من ذلك محاولته الغاء المواطنة المبنية على أساس الانتماء القبلي، بفك العلاقة بين الفرد وبين الزعامة القبلية عن طريق المساواة بين الناس في الحقوق(1) ، وبالدعوة إلى مقاومة تلك الدعوات الهدامة، وإبادتها من النفوس بالقوة كما في قوله «إذا رأيتم الناس بينهم الثائرة، وقد تداعوا إلى العشائر والقبائل، فاقصدوا لمهامهم ووجوههم بالسيف حتى يفزعوا إلى الله وإلى كتابه وسنّة نبيه، فأما تلك الحمية من خطرات الشيطان فانتهوا عنها»(2) .

ولإحساسه الملح بالحاجة إلى تلاحم الأمة الإسلامية في ظروفها الصعبة التي تعيشها، وهي على مفترق الطريق بين الخلافة الدينية وبين الملك العضوض لجأ أيضاً إلى كتابة حلف بين أهل اليمن، وبين ربيعة من أهم بنوده «أنهم على كتاب الله، يدعون، ويأمرون به، ويحيون من دعا إليه وأمر به، ولا يشترون به ثمناً قليلاً، ولا يرضون به بديلاً، وانهم يد واحدة...»(3) . ويبدو ان أسلوبه في مناهضة الزعامات القبلية ومواقفته لطموحاتها لم يرق للكثير، فأخذوا يتسللون(4) إلى معاوية جريا وراء المادة، وإشباع غرور التسلط الذي مكنهم منه معاوية ولكناعلياً علیه السلام - كما يبدو- وقد نجخ نجاحاً جزئيا في مساعيه للقضاء على تلك العصبية، فقد تمكن بعد كفاح مرير أن يجمع شتات المجتمع مرة ثانية ويعدهم للمسيرإلى معاوية، إذ يحدثنا التاريخ أنه في أيامه الأخيرة، قد أفلح في جمع كلمة المسلمين، وتوحيد صفوفهم، ومكنه ذلك من أن يعقد «للحسين علیه السلام في عشرة آلاف، ولقيس بن سعد في عشرة آلاف، ولأبي أيوب الأنصاري في

ص: 384


1- راجع ص 317 - 318 من هذا البحث
2- ابن أبي الحديد 4/ 45
3- رسائل - 74
4- راجع رسائل - 70

عشرة آلاف ولغيرهم على أعداد أخر، وهو يريد الرجعة إلى صفين، فما دارت الجمعة حتى ضربه... ابن ملجم... فتراجعت العساكر (فكانت) كالأغنام التي فقدت راعيها، تتخطفها الذئاب من كل مكان(1) .

2 - موقف علي علیه السلام من الموالي ومن أهل السواد:

حين استقر العرب بالعراق بعد فتح فارس كونوا لهم مجتمعاً خاصاً بهم ولم يكونوا ليسمحوا لغيرهم ممن دخل الإسلام من الامم الاخر بمحاربتهم، فوضعوا الحواجز الاجتماعية بينهم وبين الموالي، على اعتبار أنهم دونهم في المكانة فلم يسمحوا بالإختلاط بهم وتجنبوا مجالستهم، واعتبروا الصلاة وراءهم تواضعاً وتقرباً إلى الله(2) ، وحالوا دون التزاوج معهم، خاصة بالنسبة للرجال منهم، حيث حالوا بينهم وبين الزواج من العربيات، من ذلك أن سلمان

ص: 385


1- خطب 184 تعليق راويها في نهايتها، أما أبو أيوب الأنصاري فاسمه خالد بن زيد الأنصاري الخزرجي النجاري شهد سائر المشاهد كلها مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، وكان مع علي بن أبي طالب علیه السلام ومن خاصته، شهد معه الجمل وصفين، وكان على مقدمته يوم النهروان، غزا أيام معاوية ارض الروم مع يزيد بن معاوية سنة احدى وخمسين وتوفي عند مدينة القسطنطينية أسد الغابة 25/6 . وعبد الرحمن بن ملجم المرادي، خارجي كان ضمن ثلاثة من الخوارج تعاقدوا في مكة على قتل علي علیه السلام ومعاوية وعمرو بن العاص، وتعاهدوا على القيام بذلك في شهر رمضان في الليلة التي قتل فيها علي علیه السلام وكان عبد الرحمن بن ملجم هو المتكفل بقتل علي علیه السلام، واستطاع ان يصل إلى غرضه، اما صاحباه وهما، البرك بن عبد الله التميمي، المتكفل بقتل معاوية وعمرو بن بكر التميمي المتكفل بقتل عمر و بن ا لعاص، فلم يفلحا، وقتل عبد الرحمن بن ملجم بعد وفاة علي علیه السلام سنة أربعين مقاتل الطالبيين ص 43 وما بعدها
2- راجع العقد الفريد 3/ 413

الفارسي(1) ، وهو من كبار الصحابة المقربين إلى رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، خطب ابنة عمر بن الخطاب «فوعده بها، فشق ذلك على عبد الله بن عمر، فلقي عمرو بن العاص، فشكا إليه ذلك، فقال له: سأكفيكه، فلقي سلمان، فقال له: هنيئالك يا أبا عبد الله، هذا أمير المؤمنين يتواضع لله عز وجل في تزويجك ابنته، فغضب سلمان وقال: لا والله لا تزوجت إليه ابدا»(2) وكان عبد الله بن عمر يستنكف من ان يناسب سلمان لكونه فارسياً، وفي ذلك دلالة على تجنب العربي من تزويج ابنته لغير العربي مهما بلغت منزلته وسمت مكانته، وقد بلغ التعصب بالعرب إزاء الموالي إلى القول «لا يقطع الصلاة الا ثلاثة: حمار، أو كلب، أو مولى»(3) كما أثر عن معاوية، أنه لما وجد كثرة الموالي، خطرت له فكرة ابادة قسم منهم، وترك قسم اخر لإقامة السوق وعمارة الطريق»(4) وقد ثناه الاحنف بن قيس(5) عن فكرته تلك. لذلك فلا عجب أن تلتف

ص: 386


1- سلمان الفارسي: أبو عبد الله ويعرف بسلمان الخير، اصله من فارس وكان مجوسيا، رحل إلى الشام وتحول إلى النصرانية هنالك، اسلم على يد رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم بالمدينة، أول مشاهده مع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم الخندق، ولم يتخلف عن مشهد بعد الخندق، كان من خيار الصحابة وزهادهم وفضلائهم، وذوي القرب من رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم توفي سنة خمس وثلاثين في اخر خلافة عثمان ابن الأثير أسد الغابة 2/ 417 وما بعدها
2- ابن عبد ربه العقد الفريد 6/ 90 وجاء عند أبي نعيم الحافظ (ت 430) في كتابه حلية الأولياء 186/1 - ان الذي رفض الزيجة عمر بن الخطاب وليس ابنه عبد الله
3- العقد الفريد 3/ 413
4- المصدر السابق نفسه
5- الأحنف بن قيس: والاحنف لقب له، لحنف (اعوجاج) كان برجله ادرك النبي صلی الله علیه و آله وسلم ولم يره، كان أحد الحكماء الدهاة العقلاء، وكان فيمن اعتزل الحرب بين علي علیه السلام وعائشة، وشهد صفين مع علي علیه السلام، وبقي إلى امارة مصعب بن الزبير على العراق وتوفي سنة سبع وستين - أسد الغابة 1/ 68

أولئك الحمراء(1) حول الإمام علي علیه السلام، والقعود إليه والاستماع لوعظه، فقد وجدوا في شخصه المنقذ والمنفذ الحقيقي لمبادئ الإسلام على أصولها، خاصة بكسره طوق العادات الجاهلية بتزويج ابنه الحسين سبط رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم من احدى بنات كسرى(2) اللواتي سبين في عهد عثمان بن عفان، وقد عرضنا فيما سبق لرد علي علیه السلام الغاضب على مقولة الاشعث بن قيس «غلبتنا عليك هذه الحمراء»(3) فقد كان علي علیه السلام يجالسهم ويتحادث معهم ويستقرئهم أحوال ملوكهم السابقين وسياستهم(4) بما يشعرهم بقيمتهم الإنسانية مثلهم مثل أي مسلم آخر، فاحبوه، واخلصوا له وانعكس ذلك الحب فيما بعد على احفاده الذين بلغوا مكانة سامقة في نفوس أهالي فارس(5) .

فإذا كان الموالي وهم من المسلمين، قد لقوا من العرب الهوان والذل، فما بالك بأهل السواد من غير المسلمين، ولا خالني اجانب الصواب، إذا قلت إن العرب قد عدوا أولئك من رقيق الأرض مثلهم مثل أي متاع يباع ويشتري، ويعمل به سادته ما يشاؤون، مما جعل نفوس أولئك تمتلئ بالحقد والضغينة، والألم لأنهم خرجوا من ربقة الذل في ظل الحكم الفارسي إلى الرق والامتهان

ص: 387


1- الحمراء لقب كان يطلق على الموالي من الفرس - راجع ص 301 من هذا البحث
2- أم علي بن الحسين هي (سلافة) من ولد يزدجرد، معروفة النسب وكانت من خيرات النساء، وكان يقال لعلي بن الحسين علیه السلام، ابن الخيرتين، لقول «رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم» لله من عباده خيرتان، من العرب قريش ومن العجم فارس - المبرد - الكامل في الأدب 2/ 120 ، 121
3- راجع ص 301 من هذا البحث
4- راجع بن مزاحم - صفين ص 14
5- راجع - جليل منصور العريض - التفجع في شعر الشريف الرضي ص 34

والتعذيب في ظل النظام الإسلامي الداعي إلى المساواة خاصة انهم قد وجدوا ان دخولهم الإسلام لم يغير من اوضاعهم الاجتماعية كطبقة منبوذة من عبيد الأرض، لا حول لها ولا قوة، واجبها الوحيد خدمة السادة الجدد، وتوفيرالراحة لهم. ولو ان التاريخ الإسلامي قد اغفل وصف تبرمهم وثوراتهم لكونه تاريخ حكام لا تاريخ شعوب إلا أن ذلك التبرم والضيق يمكن تصوره من خلال مواقفهم المعادية للتسلط العربي منذ البداية، خاصة تجاه بني أميةالذين حاولوا بينهم وبين الدخول في الإسلام طمعاً في الجزية التي يؤدونها، والتي ستسقط لا محالة عنهم بإسلامهم(1) ، لذلك اعتمد المختار(2) عليهم اعتماداً اساسيا وانتصر بهم في عدة مواجهات(3) ضد عبد الملك بن مروان، الا ان المختار بتقريب أولئك منه ألب على نفسه الارستقراطية العربية التي تضررت مصالحها، بفعله، فتسببت في نهاية الأمر إلى سقوطه(4) .

فحين دخل علي علیه السلام الكوفة كان على دراية تامة بما آلت إليه حال أهالي

ص: 388


1- راجع بشأن وصية عمر بن عبد العزيز إلى عامله على خراسان تاريخ الطبري 6/ 559 ، وبشأن عسف عمال بني أمية وظلمهم للرعية راجع فحوى رسالة عمر بن عبد العزيز إلى عامله على الكوفة - تاريخ الطبري 6/ 569 . بشأن أخذ الأمويين الجزية ممن اسلموا - راجع أحكام أهل الذمة 1/ 59
2- المختار بن أبي عبيد مسعود الثقفي، ولد عام الهجرة، وليست له صحبة، وكان قد خرج يطلب بثأر الحسين بن علي علیه السلام، واجتمع عليه كثير من الشيعة بالكوفة فغلب عليها، وطلب قتلة الحسين فقتلهم وقتل بالكوفة سنة سبع وستين، وكانت امارته على الكوفة سنة ونصف السنة - أسد الغابة 5/ 122 ، 123
3- راجع - الدينوري - الأخبار الطوال ص 293 و 299 وما بعدها
4- المصدر السابق

السواد من بؤس وشقاء وتبرم ينذر بثورة، لذلك كان من الأولويات الهامة التي باشرها أن «حشرأهل السواد، فلما اجتمعوا اذن لهم، فلما رأى كثرتهم»(1) وعدم استطاعته من الاستماع إلى شكاواهم وتظلماتهم طلب منهم ان يسندوا أمرهم إلى أرضاهم في نفوسهم، كل ذلك من أجل وضع الحلول المناسبة لمشاكلهم بما يرضي الله، ويتماشى مع عدالة الإسلام، وبالفعل فقد باشر ذلك بصفة مستمرة طيلة عهده، فمما يؤثر في ذلك أنه كتب إلى كعب بن مالك(2) وهو احد عماله «أما بعد فاستخلف على عملك وأخرج في طائفة من اصحابكحتى تمر بأرض السواد كورة كورة فتسالهم عن عمالهم، وتنظر في سيرتهم حتى تمر بمن كان فيما بين دخلة والفرات»(3) .

كما ان احتكاكه المباشر بهم مكنه من التعرف على اساليبهم الملتوية في التهرب من اداء ما عليهم من الخراج والجزية، مما جعله يستعمل معهم سياسة العطف والرحمة الممزوجة بالحزم حتى لا يفلت زمامهم من يده، فهو في الوقت الذي يأمر فيه عماله بالحزم والشدة على أولئك الفلاحين والصناع الا انه لا يرضى ان

ص: 389


1- ابن مزاحم - صفين - ص 14
2- كعب بن مالك الأنصاري، كناه الرسول صلی الله علیه و آله وسلم أبا عبد الله، شاعر مشهور، شهد العقبة وبايع بها، وتخلف عن بدر وشهد ما بعدها، وتخلف عن تبوك، وهو أحد الثلاثة الذين تاب الله عليهم، وقد أخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني سند شامي فيه ضعف وانقطاع، أن حسان بن ثابت وكعب بن مالك والنعمان بن بشير دخلوا على علي علیه السلام، فناظروه في شأن عثمان، وأنشده كعب شعرا في رثاء عثمان ثم خرجوا من عنده فتوجهوا إلى معاوية فأكرمهم ابن حجرالإصابة 3/ 307 والراجع بشأن كعب أنه صحب علياً علیه السلام وولاه بعض سواد العراق، كما ورد عند القاضي أبي يوسف، في كتاب الخراج 118 ، وتوفى كعب في حكم معاوية
3- القاضي أبو يوسف - الخراج ص 118

يؤخذ منهم سوى ما يمكنهم دفعه قدراستطاعتهم(1) ، وتلك هي عين العدالة الاجتماعية في الإسلام.

فالحزم مطلوب - في فكر علي علیه السلام الاجتماعي ولكن الرأفة والرحمة مطلوبتان أيضاً فكفر أولئك لا ينقص من حقوقهم الإنسانية، شكا إليه بعض أهل السواد من رؤساء الفلاحين غلظة احد ولاته فكتب إليه «أما بعد فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة واحتقاراً وجفوة، ونظرت فلم أرهم لأن يدنوا لشركهم ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلباباً من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداوك لهم بين القسوة والرأفة...»(2) .

فمن الملاحظ في فحوى الرسالة ان علياً علیه السلام قد جعل اللين جلباباً للوالي وجعل الشدة طرفاً من ذلك الجلباب، وتلك اعلى مراتب التربية الاجتماعية، لكون الارخاء واللين إذا لم يحاط بالحزم في أي أمر يتعلق بالنظام، فإنه لا محالة يؤديان إلى الفوضى والانفلات، سواء على المستوى الفردي أو الجماعي، مع الوضع في الاعتبار اشارة علي علیه السلام إلى كون أولئك كفاراً لا يعني على الاطلاق سلبهم حقوقهم الاجتماعية في العيش كمواطنين، مثلهم مثل أي إنسان لأن الناس من وجهة نظر علي «صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق»(3) ويجب التعامل معهم على ذلك الأساس، وقد نبع موقف علي علیه السلام من

ص: 390


1- راجع بشأن ذلك حكاية علي علیه السلام مع الرجل الثقفي الذي استعمله على عكبرا وهي بلدة من نواحي دجيل بينها وبين بغداد عشرون فرسخاً - معجم البلدان 4/ 142 عند ابن القيم الجوزية في أحكام أهل الذمة 59
2- رسائل - 19
3- رسائل - 53 فقرة 3

أهل السواد على أنهم من الصنف الثاني، الذي يجب أن ترعى حقوقه من أجل الرابطة الإنسانية، ومن أجل احترام ارادة الله سبحانه وتعالى في خلقه.

3 - موقف الإمام علي علیه السلام من العرب البدو:

يصف ابن خلدون البدو «بطبيعة التوحش الذي فيهم، أهل انتهاب وعبث، ينتهبون ما قدروا عليه من غير مغالبة ولا ركب خطر... (وأنهم) إذ تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، والسبب في ذلك انهم امة وحشية، باستحكام عوائد التوحش واسبابه فيهم، فصار خلقا وجبلة، وكان عندهم ملذوذاً، لما فيه من الخروج عن ربقة الحكم وعدم الانقياد للسياسة، وهذه منافية للعمران»(1) ، وذلك الوصف الواقعي لم يأت عند ابن خلدون من فراغ، إذ لابد أنه قد عايش البدو واحتك بهم وعانى منهم جراء رحلاته الطويلة(2) وتقلبه في مناصب القضاء(3) بالإضافة إلى احتكاكه المباشر بالمغول(4) كما تحدثنا سيرته، ثم ان قراءته في التاريخ وسبر اغوار احداثه، جعله يمعن الفكر في الاجتماع البشري بعين الباحث الدقيق(5)، فاستطاع ان يصور الحقيقة بأمانة وصدق، ودراستنا لحال الأعراب الذين كانوا يستوطنون الكوفة دليل على ذلك، ان أولئك رغم انتقالهم من الصحراء إلى المجتمع الحضري، فإن ذلك الانتقال لم يغير من طبائعهم

ص: 391


1- مقدمة ابن خلدون ص 186، 187
2- حول رحلات ابن خلدون المتعددة راجع تاريخه 7/ 437، 548، 557، 648، 657
3- بشأن تولي ابن خلدون منصب القضاء راجع تاريخه 7/ 563، 714، 741
4- بشأن مقابلة ابن خلدون التتار أو المغول راجع تاريخه 7/ 728، أما بشأن التتار وكيف بدأت هجماتهم على البلاد الإسلامية فراجع - ابن أبي الحديد 8/ 2 وما بعدها
5- لمعرفة منهج ابن خلدون في فلسفته لتاريخ الشعوب والأمم - راجع المقدمة ص 6 وما بعدها

بسبب تقوقعهم على أنفسهم عن طريق التكتل القبلي، فلم تعمل الحضارة في حياتهم وعاداتهم، لكونهم قد انتقلوا من الصحراء على شكل جماعات، وحملوا معهم طباعهم وعاداتهم التي ورثوها فأصحبت جبلة فيهم لا يمكن تغييرها، الا بالاحتكاك المباشر بالحضارة وهذا ما لم يفعلوه لتعارضه واساليبهم في الغزووالاستيلاء والنهب، فعلى سبيل المثال، عدم تعريقهم بين الحملات العسكرية المراد منها إعادة أولئك المحاربين من البدو ما أبداه علي علیه السلام تجاه أهل البصرة من تسامح بعد وقعة الجمل سنة وست وثلاثين، فقد احل علي علیه السلام لجيشه الاستيلاءعلى كل ما في معسكر المناوئين له، دون اسر الرجال وسبي النساء، أو مصادرة ما حوته مساكنهم من اموال، فقد كان علي علیه السلام ينظر لأولئك نظرة الخارجين عن الصف الإسلامي، لا نظرته إلى الكافرين أو المرتدين، وذلك امتثالا لما ورد في الذكر الحكيم:

﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا﴾(1) وقد عمل علي علیه السلام بحكم الآية الكريمة بتمامه، فحاول الاصلاح بين الفئتين على أساس أن كلتيهما تدينان بالإسلام، ولكن أولئك الأعراب الذين ملكت المادة عليهم كل سبيل لم يقبلوا ذلك منه، بقولهم باستنكار«ما أحل لنا دماءهم وحرم علينا اموالهم»(2) لأنهم لم يشربوا الإسلام في قلوبهم، وأقصروا نظرتهم على الجانب المادي، ومن المعتقد أن الجدل قد استمر بينهم وبين علي علیه السلام ولم يقتنعوا بوجهة نظره إلا بعد أن قال لهم «هذه عائشة رأس القوم

ص: 392


1- الحجر/ 9
2- العقد الفريد 4/ 331

أتتساهمون عليها؟(1) . يبدو أن الطابع البدوي قد غلب المجتمع الكوفي، بحيث أثر في أخلاق المجتمع وسار بالقيم نحو التداعي، مما جعل علي علیه السلام يتصدى له بكل قوة متبرماً من ذلك «اعلموا أنكم صرتم بعد الهجرة اعراباً، وبعد الموالاة أحزاباً، لا تعقلون من الإسلام إلا اسمه، ولا تعرفون من الإيمان إلا رسمه تقولون النار ولا العار، كأنكم تريدون ان تكفئوا الإسلام على وجهه، انتهاكاً لحريمه، ونقضاً لميثاقه الذي وضعه لكم حرما في أرضه» (2) . لقد كان أولئك الأعراب يعرضون ولاءهم على من يغدق عليهم وكان علي علیه السلام على دراية تامة بأساليبهم في تقربهم إلى الولاة والحكام، لذلك لاحقهم وتتبع تحركاتهم، خاصة ان انتقالهم إلى المجتمع المدني لم يشذب اخلاقهم، ولم يغير من عادتهم، فعنصر الغزو الذي تشبعت به نفوسهم، قد شذب الإسلام بعض جوانبه، إلا أنه ما برح يراود نفوسهم، لذلك سلكوا أسلوباً آخر للكسب على حساب الأمة بإغراء ولاة الاقاليم بتبينهم فمن خلال رسالة كتبها علي علیه السلام إلى واليه علي أردشير خرة (3) نستنتج ان ذلك العامل بما تحمله نفسه من روح البداوة كان يغدق العطاء من اموال المسلمين على من اعتامه من اعراب قومه، لذلك كتب إليه علي بأسلوب مشحون بالغضب يتهدده متوعداً «فو الذي فلق

ص: 393


1- السابق
2- خطب - 240 ، فقرة 23
3- أردشير خرة: بفتح الأف وسكون الراء وفتح الدال وكسر الشين وياء ساكنة في (اردشير): وخاء مضمومة، وراء مفتوحة مشددة وها (خره)، وهو اسم فارسي مركب معناه بهاء اردشير، واردشير اسم لملك من ملوك الفرس، واردشير خره من أجل كور فارس وتدخل ضمنها كثير من المدن الهامة كشيراز وكازرون وغيرها معجم البلدان 1/ 146 ، أما عامل علي علیه السلام عليها فقد كان مصقلة بن هبيرة الشيباني فسترد ترجمته في ص 396 هامش (2) من هذا البحث

الحبة، وبرا النسمة، لئن كان ذلك حقا، لتجدن لك علي هوانا، ولتخفن عندي ميزانا»(1) . وقد ظل أولئك الأعراب عقبة كأداء في خطط علي علیه السلام الإصلاحية، خاصة بعد أن انضوى معظمهم تحت راية الذين خرجوا على علي علیه السلام بعد قضية رفع المصاحف في صفين، وبعد مهزلة التحكيم، واحدثوا احداثاً منافية للروح الإسلامية(2) ولم يتمكن الإمام علي علیه السلام من اعادة صف المجتمع الكوفي الا بعد قضائه على معظمهم في وقعة النهروان(3) سنة تسع وثلاثين، ولكن لم يحالفه الحظ في إتمام خطه الاصلاحي حين استشهد على يد واحد من أولئك الخوارج في السنة الاربعين هجرية.

4- موقف الإمام علي علیه السلام من العرب غير المسلمين من نصارى تغلب ونجران:

لا نكاد نعثر على أي نص في نهج البلاغة يتعلق بموقف علي علیه السلام من نصارى

العرب، وان مجمل ما ورد في النهج يتعلق بأهل الذمة والمعاهدين وكل ذلك يندرج تحت وصاياه، بالرأفة بهم وتجنب تكليفهم بما لا يطيقون إلى غير ذلك من وصايا انسانية (4) الا اننا لا نعدم نصوصاً في المصادر الأخرى تضع أقدامنا على الطريق، في مجال التعرف على موقف علي علیه السلام من أولئك العرب. فإذا كان

ص: 394


1- رسائل - 43
2- بشأن فتنة الخوارج في خلافة علي علیه السلام والسبب في محاربته اياهم راجع: الدينوري - الأخبار الطوال من ص 202 حتى ص 207
3- النهروان: واكثر ما يجري بها على الالسنة بكسر النون، وهي كورة واسعة بين بغداد وواسط من الجانب الشرقي، حدها الأعلى متصل ببغداد، وفيها عدة بلاد متوسطة، وكان بها وقعة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام مع الخوارج مشهودة - معجم البلدان 5/ 324 ، 325
4- راجع رسائل - 51 و 53 فقرة 4

علي علیه السلام عاملهم معاملة إنسانية أساسها العطف والرحمة، فإن ذلك لا يعني انه قد ترك لهم الحبل على الغارب يعملون ما يشاؤون، فقد جعلهم تحت بصره وسمعه، لأنه يدرك بحسه العربي، ما يصطرع في نفوس أولئك العرب من قهر وضيم وصغار وقوعهم تحت طائلة القانون الذي يحرمهم من مزاولة الكثير من عاداتهم وتقاليدهم، ولا يسمح بها إليهم الا في حدود ما عوهدوا عليه في سبيل ابقائهم على نصرانيتهم (1) . ونفسية العربي عادة ما يراودها التمرد، مما جبل عليه من إباء وشيم ينفرانه من الخضوع والاستكانة، وأولئك النصارى مثلهم مثل القبائل العربية الأخرى لكونهم أبناء بيئة واحدة، فتمردهم على السلطة لابد أن يكون حتما، وان اتخذ أساليب مختلفة تنأى بهم عن الغزو والسبي، خاصة وانهم وجدوا ان علياً لم يكن دون غيره ممن سبقه في حزمه تجاههم، فقد شاهدوه وهو يحرق بيده قرية مسيحية في سواد الكوفة اشتهر ت بصناعة الخمر وهو بعمله ذاك ينفذ شريعة الإسلام على اعتبار «أن الخبيث يأكل بعضه بعضاً »(2) ، فكما يبدو أن نصارى تغلب قد احسوا بانشغال المسلمين ببعضهم البعض بفتنة عثمان بحرب الجمل وبالمشادات الكلامية ومن ثم العسكرية بين علي علیه السلام ومعاوية ففسخوا ما عاهدوا عليه عمر بن الخطاب، بأن يدفعوا ضعف الزكاة بدلا من دفعهم الجزية شريطة ألا ينصروا أولادهم، لأن علياً علیه السلام قد كان منشغلاً عنهم، ولن يطالهم عقابه، ولكنه كان على علم بنقضهم العهد إذ أثر عنه بشأن نصارى تغلب قوله «لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي:

لاقتلن مقاتلتهم، ولا سبين ذراريرهم، فقد نقضوا العهد وبرئت منهم الذمة

ص: 395


1- بشأن الشروط المفروضة على أهل الذمة راجع ابن القيم أحكام أهل الذمة 2/ 657 وما بعدها
2- السابق 2/ 729

حين نصروا أولادهم »(1) فلما أحسوا بموقف علي علیه السلام، منهم، أخذوا يكيدون له في الخفاء، بالوقوف بجانب معاوية كيلا يمكنوه من التفرغ لهم، فعمل كثير منهم جواسيس لمعاوية في الكوفة، من ذلك أن مصقلة بن هبيرة الشيباني (2)، لما هرب من علي علیه السلام ولجأ إلى معاوية كتب لأخيه نعيم بن هبيرة (3) «مع رجل من نصارى تغلب... أما بعد، فإني كلمت معاوية فيك فوعدك بالكرمة، وهناك بالإمارة فاقبل ساعة تلقي رسولي»(4) فاطلع نعيم علياً على الكتاب وخبر الرسول التغلبي، فكانت نهاية ذلك الرسول الهلاك بعد ان قطع علي علیه السلام يده جزاء فعلته تلك وعلى العموم فقد نال نصارى تغلب حظوة عند الأمويين فيما بعد مكافأة على مواقفهم السابقة، فأباحوا لهم كل ما عوهدوا على تحريمه(5)

ص: 396


1- أبو عبيد: الأموال ص 24 وجاء مثله في أحكام أهل الذمة 1/ 79
2- مصقلة بن هبيرة الشيباني: كان من رجال علي بن أبي طالب علیه السلام ثم هرب إلى معاوية بعد أن اشترى سبي بني ناجية من عامل علي علیه السلام واعتقه، فلما طالبه علي علیه السلام ببقية المال بعد أن دفع قسطاً منه، لم يتمكن من سداده ففر إلى معاوية وكان في صفين قتل ومعظم جيشه في فتح طبرستان - راجع نسبه وخبره مع بني ناجية عند ابن أبي الحديد 3/ 127 . أما ترجمته فراجعها عند الزركلي الأعلام 7/ 249
3- نعيم بن هبيرة الشيباني: من أهل بيت وعدة في جاهلية والاسلام - راجع بشأن نسبه: جمهرة انساب العرب لابن حزم الاندلسي ص 321 - كان شيعيا ولعلي علیه السلام مناصحاً، وهو ممن شاركوا في ثورة المختار للثأر من قتلة الحسين علیه السلام، قتل سنة ست وستين في معركة دارت في الكوفة بين أصحاب المختار وبين شيعة الأمويين، وكان قائداً لتلك المعركة، راجع: تاريخ الطبري 5/ 130 و 6/ 24 ، 25
4- شرح ابن أبي الحديد 3/ 146
5- بشأن انحياز بعض نصارى تغلب إلى معاوية ضد علي علیه السلام راجع - البلاذري - أنساب الأشراف 469/2 . ويروى ان الاخطل التغلبي يجاهر بطلب شرب الخمر في مجلس عبد الملك بن مروان فلا يناله أي عقاب ثم أنه يمدح عبد الملك وهو سكران فيغدق عليه الخفية الأموي ويزيد في جائزته - وفي ذلك مثل على تساهل الأمويين مع التغلبيين النصارى، راجع الأغاني 8/ 293 ويشجع الأمويون غير المسلمين على البقاء في دياناتهم بفرض الجزية عليهم وان دخلوا في الإسلام وهذا بطبيعة الحال ساعد أولئك النصارى على تنصير أولادهم وهو ما يتنافى وشروط عمر بن الخطاب على التغلبيين راجع أحكام أهل الذمة 1/ 59 و ص 263 من هذا البحث

من قبل من سبق أمير المؤمنين علیه السلام من قبل.

أما نصارى نجران فلم يكن لهم من الحقوق مثل ما كان لنصارى تغلب، فقد كانوا يدفعون الجزية مثل بقية أهل الذمة إلا أن الذي بقي أثره في نفوسهم، ولم يستطيعوا نسيانه، قيام عمر بإجلائهم عن موطنهم نجران اليمن فأخذوا يتحينون الفرصة للعودة إلى بلادهم، فظنوا انها مؤاتية بتولي علي علیه السلام الخلافة، وكأنهم بذلك يريدون - بدهاء وخبث - ان يرد علي علیه السلام على عمر ذاك بالسماح لهم بالعودة، فطلبوا منه ان يكتب لهم عهداً بذلك شاكين إليه تصرف عمر، فبادر علي علیه السلام إلى زعيمهم بالقول «فلم يرجعهم إلى ديارهم»(1) . فالنصارى العرب وان لم يرد لهم ذكر في نهج البلاغة الا ان دورهم فيما يبدو كان منحصراً في الكيد للإسلام في الخفاء، وانتهاز الفرص لنقض العهود مما ادى بعلي علیه السلام إلى موافقتهم لمنعهم عما يرمون إليه.

ذلك إذن موقف الإمام علي علیه السلام من الفئات التي تكون مجتمع الكوفة منها، وهو - كما رأينا - مجتمع متباين في عاداته وفي تقاليده مختلف الديانات، غير منسجم في العلاقات بين أفراده. وقد عاشه علي علیه السلام بكل إحساساته فبذل كل ما في وسعه من جهد لإعادة بنيته المتداعية، التي شبهها بالثوب البالي، الذي كلما خيط من

ص: 397


1- راجع أبو يوسف الخراج ص 74،

ناحية تهزع وتمزق من ناحية أخرى(1) ، فكان وصفه لحالة ذلك المجتمع وليد معاناته في تقويم ما انتابه من اعوجاج، أو بالأحرى محاولة مستميتة وصبورة لإعادة بنائه بفضح عيوبه لاطلاع الناس عليها وتبصرهم بخطورتها.

حالة المجتمع كما تبدو في فكر علي علیه السلام

عايش علي علیه السلام مجتمع الكوفة بكل فئاته لإحساسه التام بمسؤوليته كحاكم، من الواجب عليه أن يلم بجميع المشاكل ويضع لها الحلول المناسبة. ومن خلال احتكاكه المباشر أمكنه التعرف على حالة المجتمع من جميع جوانبها، كما مكنه ذلك من الدخول في نفوس الناس وسبر أغوارهم إزاء تيار المادة الجارف، الذ ادى بكل فرد - من ذلك المجتمع- إلى النظرة للحياة من الزاوية التي يرى فيها مصلحته لغض النظر في معظم الأحيان عن القيم والأخلاق، فشاع في جنبات ذلك المجتمع الاستغلال والفساد والقهر والمغالبة، فأحال ذلك الوضع المزري الناس كما يرى علي علیه السلام إلى «كلاب عاويةٍ، وسباع ضارية، يهر بعضها على البعض، ويأكل عزيزها ذليلها، ويقهر كبيرها صغيرها، نعم معقلة، وأخرى مهملة قد أضلت عقولها، وركبت مجهولها، سروح عاهة، بواد عث، ليس لها راع يقيمها ولا ميسم يسيمها»(2) فالصورة التي رسمها

ص: 398


1- راجع: خطب - 68
2- رسائل 31 - الفقرة 19 . وضارية مولعة بالافتراس، يهر بكسر الهاء أو بضمها: أي يمقت ويكره، ومعقله - بتشديد القاف: - مشدودة بالعقال، وهو حبل يربط به رجلا الناقة الاماميتان للحد من سرعتها أثناء السفر عليها، وكنى على الابل المعقلة عن الضعفاء من أبناء المجتمع الذين لا حول لهم ولا قوة، والمهملة: المطلق سراحها، وهي كناية عن الأقوياء الجبابرة، وأضلت عقولها: أضاعت عقولها وتخبطت في الطريق المجهول، والسّوح - بضم السين جمع سرح بفتح فسكون: وهو المال، السائم من إبل وحيوان وعاهة: آفة ومرض، أي أنهم يسرحون برعي المتاعب، والوعث: الرخو اللين الذي يصعب السير فيه

علي علیه السلام لحالة المجتمع الإسلامي في عصره تبدو قاتمة، ولكنها واقعية - على الأقل - من وجهة النظر المثالية التي تبناها علي علیه السلام، وسار على هديها للقضاء على الفساد الاجتماعي وليس أدل على ذلك من مقارنته بين ماضي الإسلام المفعم بالحب والاخلاص للمبادئ، وبين الواقع المؤلم المليء بالرزايا والمحن وانعدام الأخلاق. فرجال الأمس في صدقهم لم يكونوا كرجال اليوم في كذبهم ونفاقهم، يقول علي علیه السلام بأسلوب ملؤه الأسى والتحسر «اين خياركم وصلحاؤكم، وأين أحراركم وسمحاؤكم، وأين المتورعون في مكاسبهم المتنزهون في مذاهبهم، أليس قد ظعنوا جميعاً... وهل خلفتم إلا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغاراً لقدرهم وذهاباً عن ذكرهم»(1) . فامتزاج الأسى بالازدراء لم يتولد في نفس علي علیه السلام لولا حبه غير المحدود للإنسانية، وايمانه الصادق المتين بقيم الإسلام الأخلاقية، فما فعله من كشف لعيوب المجتمع وسلبياته، ووصفه ما آلت إليه حاله من تدهور، لم يكن يقصد من ورائه سوى النقد البناء، بفضح ما يعتور الطبقات الاجتماعية من عيوب، وعادات هدمة، وليس ثمة سبيل للقضاء عليها الا بإشهارها، وتبصير الناس بما يكتنفها من اخطار لعلهم يعون وينظرون فيها نظرة واقعية، ويعرفون على ضوء كل ذلك السبيل القويم الذي أرداه الإسلام للمجتمع. لقد استمر علي علیه السلام في نقده العنيف للمجتمع وكشف عيوبه بإصرار دؤوب ليس له حدود، ونعتقد أن ذلك النقد قد انبنى على خمسة محاور، كل محور منها نتيجة للذي قبله وهي:

ص: 399


1- خطب - 129 ، والحثالة - بضم الحاء الردئ من كل شيء

1-استفحال الجهل والاستبداد بالرأي:

الجهل عاهة اجتماعية مزمنة وخطيرة فإذا ما طبقت على مجتمع ما، فنهايته الحتمية الزوال والاندثار، لكون كل فرد من أفراد ذلك المجتمع وبسبب جهل - يركب رايه ويتخبط في ضلاله بجانب تخبط الاخرين من ابناء مجتمعه، في ظلمة دامسة وذلك يؤدي، بطبيعة الحال، إلى التقوقع دخل الذات والتشبث بالراي محافظة على الكيان الفردي. ومعظم فئات مجتمع علي علیه السلام من ذلك النوع الجاهل بعواقب الأمور، مما أدى إلى تشعب الطرق بينه وبينهم، فانعدمت مقدرته على التفاهم مع جهلهم لأنهم «يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات، المنكر عندهم ما أنكروا، مفزعهم في المعضلات أنفسهم، وتعويلهم في المبهمات على آرائهم، وكان كل أمري إمام نفسه، قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات، واسباب محكمة»(1) والاستجابة لشهوات النفس والنزول على رغباتها من اكبر معاول الهدم لكيان الفرد ركيزة المجتمع الأساسية، فإذا ما افتقد الفرد توازنه، انعكس ذلك الاختلال على المجتمع بقدر دوره وفاعليته، ما يؤدي في نهاية الأمر إلى شيوع الفوضى وانعدام رابطة التعاون.

2 - شيوع الفوضى وانعدام رابطة التعاون:

النظام من أهم العوامل الحضارة، وشيوعه في مجتمع ما يحتاج إلى مستوى ثقافي معين، والتزام خلقي يجعل من كل إنسان نغمة متجانسة في جوقة المجتمع بكل فئاته، فالفردية وإن كانت تلزم صاحبها بالإحساس بكيانه وتفرده، الا

ص: 400


1- خطب 87، والمعضلات: الشدائد المغلقة، والتعويل: الفزع والاعتماد

أنها في الجانب الآخر يجب ان تذوب في كيان المجتمع وتتفاعل معه بالأخذ والعطاء، ولا يتأتى ذلك لمجتمع جاهل، لأن الجهل ضد النظام، لذلك فقد صور علي علیه السلام مجتمعه الجاهل بانفلاته من النظام «كالإبل ضل رعاتها، فكلما جمعت من جانب انتشرت من آخر»(1) فالإبل هم عامة الناس الذين يجهلون مصائرهم بانقيادهم إلى زعاماتهم بالتعصب لهم ولآرائهم عن جهل لأن أولئك الزعماء، والقادة الذين يجرون وراء مطامعهم الشخصية، إنما يقودونهم لتحقيق ماربهم الشخصية، فالمجتمع بفئاته المتفككة الأوصال في صوب، والقيادة المستنيرة في صوب آخر، والمداراة والتؤدة في معالجة الاوضاع من لدن تلك القيادة لا تجديان نفعاً، ولا تعودان بفائدة في مجتمع لا تكاد نظرة جل أفراده أن تتخطى ذواتهم في نطاق دائرة الانتماء الضيقة التي حصروا فيها نفوسهم، مما جعل رابطة التعاون بين الفئات المختلفة، مبنية على أسس من المصالح الذاتية البحتة التي في معظمها لا تراعي القيم، ولا تأخذ من النظم إلا ما يتناسب وهواها، فتستحيل تلك النظم والقيم إلى أساليب جوفاء مائعة باعماد تفسيرها من قبل أفراد المجتمع تفسيراً معكوساً، ومخالفاً عما تنطوى عليه من معان سامية هدفها سعادة الجميع.

3 - تقهقر المثل وانقلاب أوضاعها:

إن التراجع في مثل المجتمع وتحويرها لتلائم فئة معينة، ما هي في الحقيقة الا نتيجة حتمية لشيوع الفوضى وانعدام روح التعاون في بنيته، لأن غلبة الذاتية تجعل كل فرد ينظر إلى القيم الاجتماعية من الزاوية التي تتمشى ومصلحته، فإذا تعذر عليه

ص: 401


1- خطب 34

الوصول إلى غايته، وحالت النظم الاجتماعية بينه وبين تحقيق رغباته، فإنه يلجأ إلى لي تلك النظم وتمويه الحقيقة(1) بما يكسب أفعاله الشرعية، على الأقل من الوجهة الخارجية، بإلباس الحق ثوباً شفافاً من الباطل، والمزج بين القيم الإنسانية والأفعال اللاإنسانية، فيلتبس الأمر على عامة الناس من الجهال فينقلب الحق باطلاً، والباطل حقاً، وقد عانت حكومة علي علیه السلام من استفحال هذه الظاهرة في المجتمع الإسلامي، فعبر عنها بقوله «انا قد اصبحنا في دهر عنود، وزمن كنود، يعد فيه المحسن مسيئاً، ويزداد فيه الظالم عتوا، لا ننتفع بما علمنا، ولا نسأل عما جهلنا، ولا نتخوف من قارعة حتى تحل بنا»(2) فالانقياد الأعمى والإصرار على الجهل، ما هو إلا قلب لموازين القيم، وعدم تدبر العواقب والحساب لها، فإذا ما وقعت فجأة، قام الناس وقعدوا في محاولة منهم لمصانعتها والاحتيال عليها، هروباً من حلها حلاً جذرياً يلزم كل فرد بنظام معين أساسه التعاون والصدق ووضع الحق في نصابه، مما لا يتلاءم والمصالح الفريدة التي لا يمكن أن تتحقق إلا في ظل التفكك الاجتماعي للنفاق فيه مكان الصدارة فنتهزع القيم وتضيع الحقوق.

4 - غلبة النفاق وبروز ظاهرة العصيان وانعدام الرحمة:

ونتيجة لتقهقر القيم فلقد غلب على المجتمع الإسلامي - في عهد علي علیه السلام النفاق والخضوع الكاذب، والتملق للزعماء ذوي العصبية القبلية، المتظاهرين بالإصلاح، كأصحاب الجمل(3) ، ومعاوية ومن شايعه من المؤلفة قلوبهم(4)

ص: 402


1- راجع خطب 41
2- خطب 32 الفقرة الأولى، والعنود: الجائر، والكنود: الكفور، القارعة: الخَطب والمصيبة
3- راجع ص 245 وما بعدها من هذا البحث
4- راجع ص 257 وما بعدها من هذا البحث

الذين ألبوا الناس على العصيان وألبسوا على المسلمين أمورهم - كل ذلك رغبة في الوصول إلى قلوبهم، وتحقيق المطامع المادية من السير في ركابهم، والنفاق كظاهرة اجتماعية سيئة ممجوجة، تقود الفرد إلى التعامل مع مجتمعة بشخصيتين متناقضتين، لأن ما يعبر اللسان عنه، يختلف تمام عما يضمره في داخله، فيكون الكذب هو أساس المعاملة بين مختلف فئات المجتمع، فتنعدم روح الإخلاص فيما بينهم، أما لرهبة، أو لرغبة، فيترتب على ذلك غربة المصلحين وضياع جهودهم، بغلبة الرياء والمداهنة، وقد اكتوى علي علیه السلام بذلك فجسده نقداً عنيفاً في قوله «اعلموا رحمكم الله أنكم في زمان، القائل فيه بالحق قليل، واللسان عن الصدق كليل، واللازم للحق قليل، أهله معتكفون على العصيان، مصطلحون على الإدهان فتاهم عارم، وشائبهم آثم، وعالمهم منافق، وقارئهم معاذق، لا يعظم صغيرهم كبيرهم، ولا يعول غنيهم فقيرهم»(1)، ومجتمع بمثل تلك الصفات، جُبِل أفراده على الأعمال السيئة، والصفات الرديئة، يفتقر إلى الحب والاحترام والتعاون وتبنى العلاقات فيه على المداهنة والغش والبغض لابد أن يكون خلوا من روح التكافل الاجتماعي.

5 - انعدام روح التكافل الاجتماعي:

الاخوة في الإسلام تعني السلام والحب بأوسع معانيهما، والتكافل في جميع ميادين الحياة بين مختلف الفئات الاجتماعية، فأساس قوة المجتمع من وجهة نظر الإسلام التعاون على فعل الخير، ونبذ الشر طبقا لقوله تعالى:

ص: 403


1- خطب 23 -الفقرة الثانية وكليل ضفيف غير قاطع، معتكفون مداومون ومستمرون، الإدهان الغش، وإظهار الشيء على غير حقيقته، العارم الخبيث الشرير، معاذق غشاش ومذق اللبن خلطه بالماء، يعول يطعم ويكسي

«تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ»(1) وهي دعوة صريحة لا لبس فيها يهدف الإسلام منها تماسك البنية الاجتماعية بشد بعضها البعض، ولكن المجتمع الذي عاش علي علیه السلام ضمنه - فيما يبدو - لم يعرف أكثر أفراده من الإسلام الا اسمه(2)، فأصبحت النفوس تنضح بالخبث، واستكن السوء والشر والاستغلال في ضمائر الأقوياء، فانعدمت بسبب ذلك مقومات التكافل الاجتماعي المبني على حاجة الناس لبعضهم البعض، لكون طبيعة العمران تقتضي ذلك التعاون(3)، مما يعني ضمنا أن الترابط الاجتماعي ظاهرة فطرية في الإنسان، ولا يستطيع معرفة مدى قوتها أو ضعفها الا من خلال ممارسة الفرد لها داخل البناء الاجتماعي الذي يؤثر فيها سلباً ويجاباً، ويعتبر التجانس(4) من أهم العناصر التي تؤكد التكافل الاجتماعي في الفرد، ولما كان التجانس أنواعاً من حيث القومي ومن حيث اللغة، ومن حيث الطبقة الاجتماعية، فقد تصور علي علیه السلام - كما يبدو لنا - إن أنواع التجانس تلك كلها جانبية إزاء مفهوم الإسلام للتجانس الوارد في الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات، فالآية الكريمة تقر في مضمونها بأنواع التجانس، ولكنها تضعه كمقياس للرابطة الاجتماعية، لأن التعاون الذي هو أساس التكافل الاجتماعي هو القاعدة التي يرتكز عليها الإسلام في بناء المجتمع ويؤيد ما ذهب إليه من تفسير سياق الآية في قوله تعالى:

ص: 404


1- المائدة / 2
2- راجع خطب - 240 فقرة 20
3- راجع ص 362 وما بعدها من هذا البحث
4- راجع المواطنة في مفهوم علي علیه السلام ص 317 من هذا البحث

«إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ»(1) .وإذا ما نحن تحولنا بفكرتنا تلك،

لنسبر على ضوئها فكر علي علیه السلام إزاء الأسباب التي أدت إلى فصم عرى التكافل في مجتمعه، فسنجد ان ذلك يكمن في التناقض بين معرفة الأخوة الإسلامية وبين تطبيقها على صعيد الواقع، خاصة بالنسبة لأولئك العرب الذين يرون أنفسهم أفضل من غيرهم، ويمكننا استخلاص ذلك من قوله «إنما أنتم اخوان على دين الله، ما فرق بينكم الا خبث السرائر، وسوء الضمائر، فلا توازرون، ولا تناصحون ولا تباذلون ولا توادون»(2) فأولئك الناس الذين يتحدث علي علیه السلام إليهم، يعرفون حقيقة الإسلام الاجتماعية، ولكنهم لا يعملون بتعاليمه، لأنها كما يتهيأ لهم - تنقص من مصالحهم، وتحد من طموحاتهم، ولا تمكنهم من فرض نفوسهم كأسياد كل حسب منزلته الاجتماعية(3) .

لقد ولد ذلك التفتت في بنية المجتمع الإسلامي في عهد علي علیه السلام - ظواهر اجتماعية خطيرة من ظلم وجوع وفقر واستبداد، فانجر عن تفشي تلك الظواهر بروز طبقة عريضة من عامة الناس الذين اسماهم علي علیه السلام بالهمج الرعاع لأنهم «أتباع كل ناعق يميلون مع كل ريح»(4) وأولئك الناس يشكلون البنية التحتية للمجتمع من عمال وفلاحين وصناع وبنائين وخبازين ونساجين،وتوفير الفراغ لأولئك وعدم مراقبتهم في اعمالهم فيه مضرة للمجتمع، وهدم

ص: 405


1- الحجرات/ 13
2- خطب 122، الفقرة الثانية - وتوازرون - بفتح التاء والواو - تتعاونون، وتباذلون بفتح التاء والباء، تنفقون الأموال في الله على بعضكم البعض
3- راجع تصنيف الناس في فكر علي علیه السلام وطريقة تفكير كل صنف، خطب 32 الفقرة الثانية والثالثة
4- حكم- 145

أركانه بنقص احتياجاته لأنهم كما يرى علي علیه السلام«اذا اجتمعوا ضروا»(1) لما يحدثوه باجتماعهم من فوضى تسبب في زعزعة الأمن، واختلال النظام، وتعطيل الخدمات العامة، وحتى نجنب المجتمع ما ينجم عن اجتماعهم منمضرة، يتحتم على الحكومة تفريقهم لأنهم إذا تفرقوا نفعوا، لرجوع كل منهم إلى مهنته «فينتفع الناس بهم »(2) .ولكن ذلك لا يعني أن علياً علیه السلام برأيه ذاك يريد أن يجعل من أولئك طبقة دنيا همها الوحيد تهيئة احتياجات الطبقات العليا والسهر على مصالحها فهو لا يقصد من تفريقهم تفتيت الرابطة الاجتماعية، والقضاء على روح التعاون بين الفئات المختلفة، ولكنه يرمي من وراء ذلك التفريق اشغال كل فرد بتأدية واجبه تجاه غيره في مجتمع يصون الحقوق، وعلى ذلك فإن النظام ويحافظ على مصالح الجميع دون استثناء ولا تفضيل على ذلك فإن النظام الطبقي بمفهومه التمايزي يختلف اختلافاً جذرياً عن المفهوم الإنساني للطبقات الاجتماعية عند علي علیه السلام.

ص: 406


1- حكم - 197
2- حكم - 197

الفصل الثاني: القيم الخلقية كما تبدو في فكر علي علیه السلام

اشارة

إذا ما أردنا الدخول في فكر علي علیه السلام الأخلاقي - كما ورد في نهج البلاغة - يجب أن نضع جانباً التعريفات والنظريات الفلسفية لعلم الأخلاق لأننا لن نجد فيما أثر عن علي علیه السلام أي تعريف فلسفي، لكون النهج يعرض علينا من خلال نصوصه، ما أثر عن علي علیه السلام من مأثورات تتعلق مباشرة بالقيم الخلفية التي يجب ان تمارس على ارض الواقع في المجتمع، فإذا كان الفلاسفة والأخلاقيون قد حاولوا تعريف القيمة فإن علياً علیه السلام قد باشر من خلال مسؤولياته كقائد اصلاح، في وضع القيمة موضع التنفيذ، بحث يتعذر علينا فهم أبعداها وآثارها إلا من خلال الممارسة التطبيقية لها لا من خلال دراستها دراسة(1) نظرية بمقارنتها

ص: 407


1- يقسم الأخلاقيون علم الأخلاق على قسمين: نظري وعملي، والأخلاق النظرية كما أعتقد هي تعريف فلسفي للفضائل وعلاقتها بعضها ببعض ودراسة تاريخها من حيث أزليتها، ووصف آثارها في النفس الإنسانية وهي كما نلاحظ دراسة فلسفية محضة المراد منها التعرف على القيم بوصفها وصفا خارجيا عن طريق التعريفات النظرية.مع الإدراك بأن هذه التعريفات لا تعلم الإنسان الأخلاق، ما لم يباشر الفضائل مباشرة عملية، راجع على سبيل المثال معاني العادة والخير في الباب الأول والثاني والثالث من الكتاب الأول من (علم الأخلاق لأرسطو) وبصدد الفصل بين الأخلاق النظرية والأخلاق العملية يقول (أمانويل كانت) في كتابه (تأسس ميتافيزيقيا الأخلاق) ص 9 (أما والقانون الخلقي في نقائه واصالته - وعلى هذين يعول السلوك العملي - يمكن البحث عنه في غير فلسفة نقية خالصة فلابد لهذه الميتافيزيقية أن تسبقه وتتقدم عليه، وبغيرها لن تقوم لفلسفة أخلاقية وجود، بل إن الفلسفة التي تخلط تلك المبادئ الخالصة بالمبادئ التجريبية لا تستحق أن تسمى فلسفة «فالمقولة تعول على الدراسة في أصل القانون الخلقي دراسة ما ورائية، ومن ثم فإنها تفصل بين المبادئ الخالصة التي اعتقد إنها المثال الذي يبحث الإنسان عنه ويتوق إليه والمبادئ التجريبية التي تنتج عن راسة الأخلاق كما تلحظ مباشرة الإنسان لها مع ملاحظة أن (كانت) في تسميته للأخلاق العملية بالتجريبية لأنها «تتناول بالبحث فكرة ومبادئ إرادة خالصة ممكنة» بل «تتناول أفعال وشروط فعل الإرادة الإنسانية بوجه عام »ص 11 وهذا في حد ذاته فصل بين الأخلاق النظرية المتمثلة في الفلسفة، والأخلاق العملية كواقع محسوس في حياتنا العملية، ومن الذين قسموا الأخلاق إلى هذين القسمين محمد عبد الله دراز في كتابه )(دستور الأخلاق في القرآن) فقد أفرد باباً للأخلاق العملية، اقتصر فيه على نصوص من القرآن الكريم من ص 725 حتى ص 771 .وبشأن تقسيم الأخلاق إلىنظري وعملي راجع أيضاً منصور رجب تأملات في فلسفة الأخلاق ص 38 وما بعدها

بمثيلاتها أو بما يقابلها من أفعال، يجدر التنبيه بأن فلاسفة الأخلاق أنفسهم، يدركون تماما بأن دراساتهم ونظرياتهم لن تجدي نفعا ولن تؤتي ثمارها إلا إذا طبقت، يقول أرسطو «في الشؤون العملية ليس الغرض الحقيقي هو العلم نظرياً بالقواعد، بل هو تطبيقها، ففيما يتعلق بالفضيلة، لا يكفي أن نعلم ما هي، بل يلزم زيادة على ذلك رياضة النفس على حيازتها»(1) وفي نفس المساق يأتي

ص: 408


1- علم الأخلاق 1/ 10

يقول علي «العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل »(1) فالعلم النظري في فكر علي علیه السلام ليس بذي قيمة ولا تأثير إذا لم يقرن بالتطبيق، ومن هذا المنظور كان يباشر بتطبيق ما يقوله مبتدئا بنفسه لأنه القدوة والرائد طبقا لقوله «إني والله لا أحثكم على طاعة الا وأسبقكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها»(2) وهذا يعني أننا في دراستنا للجوانب الأخلاقية في فكر علي علیه السلام كما بثها في مأثوراته سنتناولها بالبحث باعتبارها أخلاق عملية محاطة بسياج متين من الدين، مع دراسة لظروف تحصيلها من حيث الغريزة والاكتساب، ومن ثم نوعية اختصاصها بالفرد وبالمجتمع وبالتالي المرتكزات الأساسية لتلك القيم ومدى ملائمتها لواقع الإنسان.

1-العلاقة بين الأخلاق والدين في فكر علي علیه السلام:

يكاد الكثير من علماء الأخلاق أن يميزوا بين الأخلاق الدينية وبين الأخلاق في القانون الوضعي(3) ، ولكنا بدراستنا للأخلاق الإسلامية لا نجد «ثمة تمييز بين القانون والواجب الخلقي(4) .فإذا كان أولئك ينظرون إلى الدين نظرة تجريدية، فإن بنظرتهم تلك لا يمكن تطبيقها على الإسلام لأنه «على العكس م ذلك، ظاهرة مجسدة تماماً وينبغي ان يدرك بكليته وخارج حدود الزمان»(5) .

ص: 409


1- حكم -372
2- خطب 177 فقرة 3
3- للاطلاع على تلك الآراء كاملة من الناحيتين التاريخية والفلسفية راجع وليام ليلي المدخل إلى علم الأخلاق ص 445 وما بعدها ترجمة علي عبد المعطي أحمد
4- مارسيل بوازار إنسانية الإسلام ص 18
5- المصدر السابق ، ص، 38

فالقيمة الأخلاقية من المرتكزات التي انبنت عليها دعائم الإسلام منذ بداية ظهوره وانتشاره، فحين سأل نجاشي الحبشة الذي لجأوا إلى بلاده من المهاجرين الأولين عن دينهم الذي فروا به من اضطهاد قريش، أجابه جعفر بن أبي طالب(1) بالقول «كنا قوما أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام... حتى بعث الله إلينا رسولا منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافة، فدعانا إلى الله نوحده ونعبده، ومخلع ماكنا نعبد واباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وامرنا بصدق الحديث واداء الامانة وصلة الرحم وحسن الجوار، واكلف عن المحارم، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات... »(2) فالعقائد والعبادات ليست مجرد طقوس إليه يمارسها المسلم، إذ يجب أن تدرك معانيها وأن تطبق تطبيقاً عملياً كيلا تكون معان مجردة، فمعنى الإيمان كما يقول علي علیه السلام: «معرفة بالقلب، وإقرار باللسان، وعمل بالأركان »(3) فهناك تلازم تام بين المعرفة والقول والعمل، فقول علي علیه السلام على سبيل المثال للإنسان «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً »(4) مبنية على مضمون عملي يكمن في العبادات المتمثل في قول المسلم

ص: 410


1- جعفر ابن أبي طالب بن عبد المطلب بن هشام القرشي الهاشمي، ابن عم رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم وأخو علي ابن أبي طاب علیه السلام لأبويه، وهو جعفر الطيار، كان أشبه الناس برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم خَلقا وخُلقاً، اسلم بعد إسلام أخيه علي علیه السلام بقليل، روي ان أبا طالب رأى النبي صلی الله علیه و آله وسلم وعلياً علیه السلام يصليان، وعلي علیه السلام عن يمينه، فقال لجعفر: صل جناح ابن عمك وصل عن يساره، وله هجرتان: هجرة إلى الحبشة، وهجرة إلى المدينة، استشهد في غزوة مؤتة سنة ثمان هجرية راجع: أسد الغابة 1/ 341 وما بعدها
2- ابن هشام السيرة 1/ 359 ، 360
3- حكم 225 وراجع أيضاً الحكمة 122
4- رسائل 31 فقرة 21

في صلواته الخمس يوميا «الله أكبر، ومعناه أن العقل الفاعل إذا تفكر في عمقالمقولة سيجد نفسه قد اوصد الباب في وجه كل عبودية... وانه اعلن نفسه وحقق ذاته حراً بشكل أساسي(1) وهذه الحرية المؤمنة تعطي الإنسان احساساً بالأمان فيندفع إلى الاصلاح والبناء داخل المجتمع نفس مطمئنة دون رهبة من أية قوة مهما عظمت، ومن خلال ذلك الاعتقاد الحر ينبني اقتناعه على «أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خلقان من خلق الله وانهما لا يقربان من أجل ولا ينقصان من رزق»(2) لاعتقاده القوي الراسخ بأن المحيي والرزاق هو الله سبحانه.فالقاعدة الأخلاقية الإسلامية كما نستخلصها من فكر علي(3) مشيدة على «معاير الهي وعقلي وتنطلق منه إلى التطبيق العملي» فالشيء يوصف بأنه لقي أو غير خلقي، وعطي قيمته من هذه الناحية أو تلك، من خلال ممارسته كواقع، ويشمل ذلك كما يرى علي علیه السلام كل ما نص علیه السلام من عقائد وعبارات وأوامر ونواهي، ويمكن استنتاج ذلك من قوله «فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك، والصلاة تنزيها عن الكبر، والزكاة تسبباً للرزق، والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق، والحج تقربه للدين، والجهاد عزا للإسلام، والأمر بالمعروف مصلحة للعوام، والنهي عن المنكر ردعاً للسفهاء، وصلة الرحم منماة للعدد، والقصاص حقنا للدماء، وإقامة الحدود إعظاما للمحارم، وترك شرب الخمر تحصيناً للعقل، ومجانبة السرقة إيجاباً للعفة، وترك الزنا تحصيناً للنسب، وترك اللواط تكثيراً للنسل، والشهادة استظهاراً على المجاحدات، وترك الكذب تشريفاً للصدق والسلام اماناً من المخاوف، والامانات نظاماً للأمة، والطاعة

ص: 411


1- إنسانية الإسلام السابق ص 116
2- خطب 156 الفقرة 50
3- محمد جواد مغنية فلسفة الأخلاق في الإسلام ص 21

تعظيما للإمامة»(1) فشمولية النص قائمة على نظام محكم من التلازمات الدينية ونتائجها الاجتماعية بحيث لا يمكن بأية حال من الأحوال تجزئة المضمون إلى وحدات دينية وأخرى أخلاقية، وهذا يوصلنا - كما نعتقد -إلى نتيجة مفادها، ان فكر علي علیه السلام الأخلاقي بما حواه من شمولية وثراء نابع في الأساس - من معتقد ديني راسخ على قواعد متينة مرتكزاتها أن «لا تمييز في العقيدة الإسلامية بين الواجب القانوني والواجب الخلقي»(2) وقد توحي كلمة واجب في السياق على الالزام الآلي اللاواعي بالنسبة للأخلاق، مما يحيل القيم إلى قوانين قسرية، لا دخل للإرادة الواعية في رفضها لكونها نابعة من إرادة إلهية، فإلى أي مدى يصدق ذلك على فكر علي علیه السلام الأخلاقي؟

2- الإلزام الأخلاقي كما يبدو في فكر علي علیه السلام:

من خلال دراستنا للأخلاق الإسلامية كما وردت في القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة، يمكن أن نخلص إلى ان مباشرة المسلم لها والسير على هديها ينبع من اقتناع داخلي يلزمه بالتقيد بالقيم ويفرض عليه احترام الأخلاق بحيث يجعل من نفسه خصماً وحكماً في الوقت نفسه، فقول الرسول صلی الله علیه و آله «إذا أراد الله بعبدٍ خيرا جعل له واعظا من نفسه يأمره وينهاه »(3) يعني بأن الإنسان مزود بقدرات ربانية خفية تتحكم في سلوكه، وتبصره بالطريق السوي دون أي توجيه خارجي قسري، بناء على الحرية المستنيرة التي وهبها الله للإنسان، وهي التي

ص: 412


1- حكم - 251
2- انسانية الإسلام السابق ص 18
3- المتقي الهندي كنز العمال - 11 / 95

تحدد له واجبه الذي في مقدوره مباشرته أو غير مباشرته بمحض إرادته أما قول القائل: «صار واجباً بالإيجاب، حديث محض، فإن ما لا غرض لنا آجلاً وعاجلاً في فعله وتركه، فلا معنى لانشغالنا به، اوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه »(1). ولو رجعنا إلى نظرة علي علیه السلام إلى معنى الالزام الأخلاقي، لوجدناه لا يحيد عن النظرة السابقة، فالإنسان هو الذي يلزم نفسه، وبإرادته الحرة باختيار السبيل السليم و «من كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ »(2) فالمراقبة مستمرة في كل وقت وكل مكان، منعقدة بكامل اعضائها انى سلكت بنا السبل، كما نفهمه من قوله «اتقوا معاصي الله في الخلوات، فإن الشاهد هو الحاكم»(3). فالمسؤلية الأخلاقية هي التي تؤدي بحكم الفاعل على نفسه حيث يستحيل إلى سائل ومسؤول في ان واحد، ويمكن استخلاص ذلك من قول علي علیه السلام«الكلام في وثاقك ما لم تتكلم به، فإذا تكلمت به صرت في وثاقه »(4)، فالإلزام الخلقي - في فكر علي علیه السلام يكمن ان صح التعبير في الوجوب الاختياري، بمعنى أن النهج السوي المؤدي إلى السعادة يمكن للإنسان تمييزه واختياره، فالأوامر الإلهية لا تتسم بالإلزامية القسرية، فالخالق جل شأنه قد «أمر عباده تخييراً، ونهاهم تحذيرا»(5)، وعلى هذا الأساس الأخلاقي المبني على الاقتناع الفكري، لم يلزم على علیه السلام احدا بالبقاء في جانبه، لا عن طريق الإرهاب، ولا عن طريق الاغراءات المادية وقد ترك لكل فرد في حكومته أن يختار طريقه بحرية بناء على الوازع

ص: 413


1- الغزالي - احياء علوم الدين 4/ 4
2- حكم - 87 ، 332
3- حكم - 87 ، 332
4- حكم - تنسق الحكم 387 ، 76
5- حكم - تنسق الحكم 387 ، 76

الأخلاقي الكامن في اعماقه، ورسالته إلى واليه على المدينة سهل بن حنيف، حين اعلمه بتسلل بعض رجاله خفية إلى معاوية، خير مثال لما نحن بصدده (1) مما يرمي إليه علي علیه السلام من وراء الغرض الوارد في صدر النص.

ولما كان الأمر والنهي الأخلاقيان نابعين من اختيار الفرد واقتناعه فلابد لنا من معرفة المنابع التي تستقي منها الافراد والجماعات قيمها، كما ورد في فكر علي علیه السلام.

3- منابع القيم الخلقية في فكر علي علیه السلام كما تبدو في نهج البلاغة:

لكي نتمكن من معرفة القيم الأخلاقية في فكر علي علیه السلام، فلابد لنا أولا أن نقرر ما إذ كانت الأخلاق من وجهة نظر علي علیه السلام نظرية أم مكتسبة (2)، وهنا تستوقفنا الآراء الإسلامية فيما يتعلق بذلك الشأن، فقد ورد في الذكر الحكيم «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهًمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»(3) . وتفسير أهل السنة للآية - كما يبدو - يتفق والنظرة القائلة، بأن الأخلاق فطرية في الإنسان وعلى ذلك يجمع المفسرون بأن «الله تعالى خلق في المؤمن تقواه وفي الكافر فجوره ،»(4) ، اما الشيعة فيرون ان الأخلاق اكتساب على أساس التفسير القائل بأن الله تعالى عرف النفس «طريق الفجور والتقوى وان احدهما قبيح والآخر حسن،

ص: 414


1- راجع رسالة رقم 70
2- للأخلاقيين آراء متضاربة حول القول بفطرية الأخلاق واكتسابها يمكن الاطلاع عند: مسكويه - تهذيب الأخلاق ص 51 وما بعدها، ومحمد بيضار العقيدة والاخلاق ص 226 وما بعدها
3- الشمس/ 7، 8
4- تفسير الرازي 31 / 93 / وراجع أيضاً تفسير القرطبي 20 / 75 ، 76 ، وتفسير ابن كثير 6/ 420

ومكنها من اختيار ما شاء منهما»(1) فالقدرة على الاختيار متساوية في كلا الاتجاهين «وإنه خلق سبحانه في نفس الإنسان الاستعداد للفجور والتقوى معاً لأن الإنسان إنما يكون إنساناً بحريته وارادته »(2) ويكاد المعتزلة يتفقون مع الشيعة في الاكتساب، مع فارق في تحديد معنى الارادة عند الإنسان (3)، اما إذا ما تركنا التفسير القرآني جانباً لنستقرئ فكر الأخلاقيين المسلمين فسنجد مسكويه يقسم الأخلاق على قسمين: طبيعي ومكتسب (4) ، الا اننا نعتقد بأن وجهة نظره تتمثل في ان الاكتساب هو الجانب الرئيسي في عملية اقتناء الأخلاق لأننا بمقارنتنا بين تعريف الغزالي للأخلاق وبين تعريف مسكويه لها نجد ان التعريفين يتفقان بأن الأخلاق «هيئة في النفس راسخة تصدر عنها الافعال بسهولة من غير حاجة إلى فكر ولا رؤية»(5) ويعرفها مسكويه بأنها «حال للنفس داعية لها إلى افعالها من غير فكر ولا رؤية»(6) ولو حاولنا فهم فحوى التعريفين من وجهة نظر الغزالي فسنجد ان قوله «هيئة في النفس راسخة» تعني ان النفس الإنسانية مزودة بجهاز غامض يمكنها من التقبل والاكتساب، وليس أدل على ذلك من تقسيمة هيئة الإنسان في اقتناء الأخلاق إلى اربعة اقسام:

«الأول فعل الجميل والقبيح (معاً).

ص: 415


1- الطبرسي - جوامع الجامع 2/ 850
2- محمد جواد مغنية - التفسير الكاشف 7/ 571
3- راجع ص 166 وما بعدها من هذا البحث وراجع معنى اللطف الذي يعول عليه الشيعة ص 183 من هذا البحث
4- راجع تهذيب الأخلاق ص 51
5- إحیاء علوم الدین 3/ 52
6- تهذيب الأخلاق ص 51

الثاني - القدرة عليمها (معاً).

الثالث - المعرفة بهما.

الرابع - هيأة النفس بها تميل إلى أحد الجانبين»(1) .

فالشروط الاربعة بحسب ترتيبها تدل على القدرة والاختيار وهما عنصرا الاكتساب. أما ما ورد في التعريفين من قول بأن الأفعال «تصدر من غير حاجة إلى روية أو فكر »فليس المقصود منها - كما نعتقد العمل الآلي غير المدبر، وانما يقصد بها التلقائية المتعلقة، لكون الإنسان في نظر الغزالي يستطيع التظاهر بالكرم وهو غير كريم، فالتظاهر هنا مدبر عن غير اقتناع، أما الكرم التلقائي فهو المدبر باقتناع ويصدر من الإنسان دون أي تعقيد أو ربط بالمظاهر الخارجية المقصود منها تبيان أثر الفعل »(2) ، وعليه فإن أغلب الأخلاقيين المسلمين يقولون بالاكتساب الأخلاقي، ثم أن للرسول صلی الله علیه و آله من الأحاديث الشريفة ما يؤيد القول باكتساب الأخلاق من ذلك ما روي عنه صلی الله علیه و آله«مثل الجليس الصالح والجليس السوء مثل صاحب المسك، وكير الحداد، لا يعدمك من صاحب المسك، اما تشتريه أو تجد ريحه، وكير الحداد يحرق بيتك أو ثوبك أو تجد منه ريحا خبيثة»(3) ورحم الله البوصيري حيث يقول (بسيط):

والنفس كالطفل ان تهمله شب * على حب الرضاع وأن تفطمه ينفطم (4) فالأخلاق ممارسة واكتساب، وهو ما يمكن استخلاصه من فكر علي علیه السلام،

ص: 416


1- احياء علوم الدين 3/ 52
2- راجع السابق
3- كنز العمال 9/ 9
4- ديوان البوصيري ص 191

ليس في نهج البلاغة فحسب، فقد ورد عند ابن عبد البر القرطبي «قال علي رضي الله عنه في قوله عز وجل «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنوُا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا»...علموهم وادبوهم»(1) فالوقاية من النار في فكر علي علیه السلام لا تكون الا عن طريق التعليم والتأديب، والتعليم عملية اكتساب كما يفهم من سياق الأمر في تعليقه على الآية الكريمة، ثم ان قوله «ان لم تكن حليما فتحلم»(2) يعني ان التخلق هو البداية في طريق اكتساب الاخلاق، بمحاولة تدريب النفس على تقبلها بإيمان واخلاص. ولكون «الحكمة ضالة الؤمن(3) في فكر علي علیه السلام، فإنه يحض على اصطيادها والافادة منها عن أي طريق ومن أي شخص حتى وان كان منافقاً «فإن الحكمة تكون في صدر المنافق فتلجلج في صدره، حتى تخرج فتسكن إلى صواحبها في صدر المؤمن»(4) . ومصادر اكتساب الأخلاق متعددة واهمها:

أ- الوراثة والبيئة:

تعرف الوراثة علمياً بأنها «انتقال صفات مميزة للفرد من جيل إلى جيل»(5) ويقسمها علم النفس على نوعين:

1- بيولوجية: وهي «ما تنتقل من الوالدين إلى المواليد بواسطة المورثات»(6)

ص: 417


1- بهجة المجالس 1/ 112
2- حكم - 205
3- حكم ، 77
4- حكم، 78
5- يوسف خياط - معجم المصطلحات العلمية ص 715
6- فاخر عاقل - معجم علم النفس ص 52. والبيولوجية، Biologic هي الأحيائية ومشتقة من علم الأحياء المصطلح على تسميته Biology

اجتماعية: وهي «انتقال العادات والافكار عن طريق الاحتكاك الحضاري»(1) .

وعلى ذلك فإن الاكتساب هو العنصر الرئيسي في كلا النوعين، وقد ورد في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة ما يؤيد الاكتساب الوراثي، إذ يمكن استخلاص فكرة الاكتساب البيولوجي من قول رسول الله صلی الله علیه وآله«تزوجوا في الحجز الصالح فإن العرق دساس»(2) وروي عنه أيضاً صلی الله علیه وآله قوله «اختاروا لنطفكم »(3). كما يمكن استخلاص الاكتساب بالوراثة الاجتماعية من قوله تعالى «قَالُوا إنِّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَی أُمَّةٍ وَإنِّا عَلَی آَثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ»(4) فالسير على طريق الأجداد وانتهاج سبيل الاباء في الأخلاق والعادات من الموروثات الاجتماعية.

وإذا ما استفتينا فكر علي علیه السلام في نهج البلاغة، فلن نجد أثراً للمورث البيولوجي، لا لأن علياً علیه السلام - كما نعتقد - لم يتحدث في ذلك، ولكن اختيار نصوص النهج على أسس بلاغية، جعل جامعه يغفل كثيراً من النصوص التي لا تدخل ضمن منهجه (5) . على أننا لا نعدم النصوص الكثيرة التي تقول بأثر المجتمع في تشكيل عادات الفرد وأخلاقه. فالشر كخلق سيء يتولد في نفس الفرد جراء احتكاكه بالأشرار، فكما يقول ضمن نصيحة له «إياك ومصاحبة

ص: 418


1- فاخر عاقل - معجم علم النفس ص 52
2- المتقي الهندي- كنز العمال 16 / 296
3- الكليني: فروع الكافي 5/ 332
4- الزخرف 22
5- راجع ص 37 ، 38 ، 123 وما بعدها من هذا البحث

الفساق فإن الشر بالشر ملحق»(1). فالعادات والتقاليد والاخلاق مورثات اجتماعية تنتقل بين الافراد مثلها مثل الوراثة المادية، كما يتبين من قول علي علیه السلام بأن «الضغائن تورث كما تورث الأموال»(2) أي تنتقل بين الأبناء جيلًا بعد جيل، فالبيئة الاجتماعية من العوامل الهامة التي تشكل اخلاق الفرد، وهي وان لم تستطع التشكيل الكلي، فقد تترك اثرها البالغ «فإذا احسست من رايك بإكداد ومن تصورك بفساد فاتهم نفسك بمجالستك العامي أو السيء الفكر، وتدارك اصلاح مزاج تخيلك بمكاثرة أهل الحكمة، ومجالسة ذوي السداد، فإن مفاوضتهم تريح الرأي المكدود، وترد ضالة الصواب المفقود»(3) فمن المقولة نخرج بنتيجتين هما:

1- ان الإنسان في فكر علي علیه السلام - يكتسب الكثير من العادات واخلق ممن يخالطهم من ابناء مجتمعه.

2- انه يمكنه التحكم في تلك المكتسبات بقبول الصالح ولفظ الطالحبإعمال الفكر.

واذا كان للوراثة الاجتماعية اثرها البين في اخلاق الفرد فإن للبيئة الطبيعية أثرها أيضاً على سلوكه وتصرفاته.

والبيئة أو المحيط كمصطلح علمي «يشمل كل الحوادث الفيزيائية والكيميائية والبيولوجية والاجتماعية التي تؤثر من الخارج على العضويات»(4) والذي

ص: 419


1- رسائل - 69 - المقطع الاخير
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 302 ، 339
3- شرح بن أبي الحديد 20 / 302 ، 339
4- معجم علم النفس ص 40

نرمي إليه هنا البيئة الطبيعية (الفيزيولوجية). إذ يرى علماء الاجتماع والأخلاق العرب أن لتلك البيئة اثرها في ترقيق الأخلاق وخشونتها (1) . ومن الطريف في هذا المجال ان الشاعر علياً بن الجهم(2) قدم من البادية إلى بغداد لمدح المتوكل العباسي(3)، قال فيه متمثلًا صور البادية واخلاقها: (حفيف)

انت كالكلب في حفظك للود وكالتيس * في قراع الخطوب

انت كالدلو لا عدمناك دلوا * من كبار الدلا كثر الذنوب (4)

وقد انكر عليه الحضور ذلك، ولكن المتوكل ادرك ان امامه شاعراً جيداً يحتاج إلى صقل حضاري فهيأ له كل اسباب البيئة الحضرية من نعيم وخضرة

ص: 420


1- راجع على سبيل المثال: رسائل اخوان الصفا 1/ 302 ، مقدمة ابن خلدون ص 109 وما بعدها
2- على بن الجهم: من شعراء العصر العباسي المجيدين، له اختصاص بالمتوكل العباسي (ت 247 ) اشتهر بانحرافه عن علي بن أبي طالب، كان من ناقلة خراسان إلى العراق، ثم نفاه المتوكل إلى خراسان سنة اثنين وثلاثين ومائتين لأنه هجاه، ثم رجع إلى العراق ثم خرج إلى الشام، وحاول العودة إلى العراق بعد ان بارح حلب، فخرجت عليه جماعة من بني كلب وقتلته في شعبان سنة تسع واربعين ومئتين راجع ابن خلكان وفيات الاعيان 3/ 355
3- جعفر بن المعتصم الملقب بالمتوكل عاشر حكام بني العباس، تولى الخلافة بعد اخيه هارون بن المعتصم الملقب بالواثق في سنة ثلاث وثلاثين ومئتين، وكان شديد الانحراف عن آل علي علیه السلام ... وقال من يعتذر له، انه كان كاخيه المأمون في الميل إلى بني علي علیه السلام، وانما كان حوله جماعة منحرفون عن أهل البيت علیه السلام فكانوا دائماً يحملونه على الوقيعة بهم. كان بينه وبين ابنه محمد الملقب بالمنتصر - مباينة وكان كل منهما يكره الآخر، فتآمر الابن مع جماعة من الأمراء على قتل المتوكل وكبير أمرائه الفتح بن خاقان، فهجموا عليهما في مجلس شراب وفتكوا بهما واشاعوا ان الفتح بن خاقان قد قتل المتوكل، فقتلوه به وذلك في سنة سبع واربعين مئتين. راجع ترجمته في السابق 1/ 350
4- راجع بشأن الابيات والحكاية بتمامها ابن عربي - محاضرات الابرار 2/ 8

وزهور، واختلاط بالطبقات الرفيعة، وبعد ستة اشهر من ذلك انشد المتوكل قصيدته المشهورة (طويل)

عيون المهابين الرصا ف ة والجسر * جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري(1)

وفي ذلك من الدلالات على أثر البيئة في اخلاق الفرد وتصرفاته واسلوب تعامله. والقرآن الكريم كما نعتقد يشير إلى ذلك ففي قوله تعالى:

«وَالْلَدُ الطَّيَّبُ يَخْرُجُ نبَاَتُهُ بإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِی خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلِّا نَكِدًا»(2)

ما يوضح ما نحن بصدد تبيانه، دون تحميل النص القرآني على النظريات الحديثة، إذ نلاحظ من خلال التفسير المأثور ان معنى الآية عبارة عن تمثيل لقب المؤمن والكافر والبر والفاجر بالأرض التي خلق الجميع منها (3) مما يعني ان البيئة لها دخل في تشكل خلق الفرد، وفي مأثورات الرسول صلی الله علیه و آله ما يشير إلى ذلك في قوله صلی الله علیه و آله«ان الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود، وبين ذلك، والسهل والحزن، والخبيث والطيب، وبين ذلك»(4)، فكما يبدو من الحديث الشريف ان للوراثة والبيئة اثرهما في الشكل الخارجي للإنسان بالإضافة إلى تأثيراهما في

ص: 421


1- راجع بشأن الابيات والحكاية بتمامها ابن عربي - محاضرات الابرار 2/ 8
2- الاعراف / 58
3- محمد جواد مغنية - التفسير الكاشف 3/ 343 ، وقد أورد خلاصة ما في التفاسير المأثورة - راجع على سبيل المثال: القرطبي الجامع لأحكام القرآن 7/ 231 ، الطبري مجمع البيان 7/84 رواجع أيضاً - محمد رشيد رضا تفسير المنار 8/ 482 فقد علق على الآية الكريمة بأنها تشير إلى الوراثة، وهو - بحسب رايه - ما قال به علماء الاجتماع والفلاسفة العرب وما اثبتته التجار من بعد
4- المتقي الهندي - كنز العمال 6/ 128

تصرفاته واخلاقه، على اعتبار ان التربية هي الاصل وان «جميع الأرض»مختلف البيئات الطبيعية. وذلك بطبيعة الحال احتمال يمكننا على ضوئه الدخول في فكر علي علیه السلام، لمعرفة موقفه من ذات الموضوع الذي نحن بصدده، فلقد أورد جامع نهج البلاغة نصا يكاد يستلهم معانيه مما ورد في الحديث الشريف السابق، مما يعني ان علياً علیه السلام قد كان ينهل من معين الرسالة النبوية، فقوله «انما فرق بينهم مبادئ طينهم، وذلك انهم كانوا فلقة من سيخ ارض وعذبها، وحزن تربة وسهلها، فهم على حسب قرب ارضهم يتقاربون، وعلى قدر اختلافها يتفاوتون... »(1) ما هو الا تفصيل وتوضيح لمجمل ما ورد في السنة النبوية الشريفة، مما يحدو بنا إلى الاعتقاد، بقول علي علیه السلام علیه السلام بتأثير البيئة الطبيعية ممتزجة بالوراثة الكامنة في الطينة الاصلية التي شكل الله سبحانه وتعالى منها الإنسان.

ب - ترويض النفس:

ان الحرية التي اودعها الله سبحانه، الإنسان، تمده بطاقات عظيمة، تمكنه من أقلمة حياته في أية بيئة ينتقل إليها، مهما كانت مميزاتها الطبيعية والقانونية والاخلاقية، وقد يجد في نفسه في البداية بعض الصعوبات التي تعيقه عن تحمل الجديد، ولكنه سرعان ما يجد نفسه قد انقادت إلى ما تعاقدت عليه الجماعة سواء ابت أم رضيت، مما يعني ان بإمكان الفرد ان يتحكم في ارادته ويعود نفسه على نمط معين من العيش إذا ما اراد لذلك، بترويضها، وجعل ما تشتهيه، أو ما تسول به له، تحت سلطان العقل، الذي هو بمثابة الكابح والمنظم لكل الشهوات كي تتناسب والقانون الاجتماعي للوسط الذي يعيش فيه، وقد

ص: 422


1- خطب -231

جاء في الذكر الحكيم من الآيات التي تؤيد القول بمقدرة الإنسان على ترويض نفسه والتحكم في الحد من شهواتها (1) ، كما في قوله تعالى:

«وَالْكَظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافيِنَ عَنِ الناَّسِ» (2). فالغيظ وهو «درجة متعاظمة من الغضب»(3) يمكن للإنسان إذا ما غلب عقله على عاطفته ان يطفئ ثائرته ويقبرها داخل نفسه بردعها وتصبيرها وتهوين الوقع عليها، لذلك فإن قوة الإنسان الحقيقية من وجهة نظر الإسلام ان يتمكن من التصدي لرغباته، وجعلها في المستوى المعقول الذي أراده الله لها فإن «خير الأمور اوسطها»(4) . ويفهم مما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله، ان ليست الشجاعة في قوة الجسم والبطش، ولكن الشجاعة الحقة تكمن في القدرة الفائقة على التحكم في النفس وكبح جماحها (5) لترضخ لنداء العقل وتستجيب للوازع الأخلاقي الذي يهيء لها جو التعايش ضمن المجتمع باتزان. وبشأن ترويض النفس - كما يبدو في فكر علي صلی الله علیه و آله - يقف سائلاً إياها «متى اشفي غيظي إذا غضبت؟ أحين أعجز عن الانتقام فيقال لي: لو صبرت؟ أم حين أقدر عليه فيقال لي:

لو عفوت؟»(6) وهنا تنتابنا فكرة الصبر الاجباري، والعفو الاختياري، إذ في كلا الموقفين يتجلى صراع العاطفة والعقل، وفي كلا الموقفين يتضح

ص: 423


1- كما في قوله تعالى: «وَأمَّا مَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَ النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فإَنِّ الْجَنَّةَ هَی الْمَأْوَی»ونهي النفس ردعها وترويضها، النازعات / 40 ، 41
2- ال عمران / 134
3- معجم علم النفس ص 94
4- من حديث شريف رواه الراغب الاصفهاني محاضرات الأدباء 1/ 449
5- راجع قول الرسول صلیالله علیه و آله«ليس الشديد... الحديث »كنز العمال 3/
6- 521حكم - 192

الترويض النفسي، ولكن الترويض في حالة الاجبار والقسرة لا يكون انتصاراً ولكنه انكسار ينكبت في الاعماق، ويتحول إلى شهوة في الانتقام حال الشعور بالقوة، اما في حالة العفو الاختياري، فيشعر الإنسان بالراحة والطمأنينة بنزع شهوة الانتقام من النفس تلقائياً لا عن طريق الضغط الخارجي وبهذا يتمكن الإنسان من تعويد نفسه على ما يطابق الخير والواقع في آن واحد. وقد تبنى علي علیه السلام، ومن منطلق قوة الاختيار الثاني، فهو الخليفة الذي تجرى بين يديه ثروات الدولة الإسلامية يقول مقسماً «وأيم الله - يمينا أستثنني فيها بمشيئة الله - لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص، إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما، ولأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينهما»(1) ، وهو حين يعاهد نفسه على ترويضها، لا يقصد تجويعها أو ايذاءها، ولكن الرياضة في مثل موقفه ذاك مسؤولية تجاه من ولي امرهم من الفقراء والمستضعفين، حين يرى ان من الواجب عليه ان لا يقنع بالمنصب دون ان يشارك جميع طبقات الأمة آلامهم، فالجوع هنا جانب من الجوانب الخلقية التي ارتضاها لنفسه في محاولة منه لترويض نفوس الطبقات الفقيرة حتى يتمكن من تعديل حالهم، لذلك نجده في كثير من وصاياه، وحكمه (2) ، يحض على الترويض النفسي، منه قوله

ص: 424


1- رسائل 45 فقرة 5. وتهش: أي تنبسط وتفرح من شدة الحرمان، ومطعوماً حال من القرص أي مأكولا، ومأدوماً، حال من الملح: أي ما يؤدم به القرص، لأدعن مقلتي كعين ماء نضب معينها: أي لأتركن عيني مثل عين غار معينها أي ماؤها الجاري، ويقول محمد عبده: «اي ابكي حتى لا تبقى دمع »شرح النهج ص 509 الاندلسي - ونحن لا نتفق معه في ذلك لعدم اتفاق السياق مع ما رمى إليه، ونعتقد ان علياً علیه السلام قد اراد بالقول: استفراغ كلما في العين من نظرات الطمعوالقناعة بأقل القليل
2- راجع خطب 75 ، 82 فقرة 8، 86 الفقرة الأولى، وايضا شرح ابن أبي الحديد 20 / 258 حكمة رقم 25 ، و ص 296 حكمة رقم 382

«من كان له من نفسه واعظ، كان عليه من الله حافظ»(1) فالواعظ المنطلق من داخل النفس ذاتها يجنبها كل المداحض والمزالق وضمن وصيته لابنه الحسن علیهالسلام يقول «اخي قلبك بالموعظة، وامته بالزهادة، وقوه باليقين، ونوره بالحكمة...

ومرارة اليأس خير من الطلب من الناس، والحرقة مع العفة خير من الغنى مع الفجور... »(2) فالخير كامن في اعماق الإنسان وإثارته فيه لا يكفي مالم تروض النفس عليه بإظهار كفعل وتصرف، وان احتاج إلى مشقة وجهد، فبالتكرار يستحيل إلى عادة وينغرس كجبلة، يتوق الإنسان إلى مزاولتها كلما عاش نشوة مردودها في نفسه وفي الناس، فيستحيل الفعل إلى قدرة يتمثلها الناس في تصرفاتهم وافعالهم.

ج- القدوة الحسنة:

القدوة هو المثال أو النموذج والاقتداء، هو النظر في اقوال وافعال ذوي الأخلاق الفاضلة والاعمال الحميدة، والاخذ بأحسنها، فلكل انسان، مهما عظم شأنه، قدوة، حتى النبي صلی الله علیه و آله، فقد جاء في قوله تعالى:

«أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ»(3) فالآية الكريمة، أمر الله سبحانه إلى رسوله صلی الله علیه و آله، بأن يأخذ بمسلك من سبقه من الرسل، والسير على نهجهم، والاسلام يلزم الفرد المسلم بالاقتداء بالنبي صلی الله علیه و آله، في أقواله وأفعاله

ص: 425


1- حكم - 97
2- رسائل 31 ، فقرة 22 ، 4
3- الانعام/ 90

وأخلاقه، فقد أثر عن الرسول صلی الله علیه وآله«فمن اقتدى بي فهو مني ومن رغب عني فليس مني»(1) ، لذلك فقد اتبع علي علیه السلام الرسول صلی الله علیه وآله«اتباع الفصيل أثر امه»(2) . فكان صلی الله علیه وآله قدوته ومثله الأعلى الذي لم يحد عن سنته ما في قوله إلى طلحة والزبير ضمن حوار بينه وبينهما بعد توليه الخلافة «لما أفضت إلي، نظرت إلى كتاب الله وما وضع لنا وأمرنا بالحكم به فاتبعته، وما استن النبي فاقتديته»(3) . ولقد كان من أهم أهدافه أن يسير بالأمه على الدرب الواضح الذي اختطه الرسول صلی الله علیه وآله، فما أثر عنه في ذلك قوله «اقتدوا بهدي نبيكم فإنه افضل الهدى، واستنوا بسنته فإنها أهدى السنن »(4) . فمن خلال معايشته للنبي صلی الله علیه وآله وممارسته العملية لأخلاقه والارتواء من معينها الصافي الثر، تكون لديه اقتناع تام بتأثير القدوة في تصرفات الفرد، ويبدو ذلك ضمن وصيته لابنه الحسن علیه السلام بقوله «واعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إليّ من وصيتي، تقوى الله والاقتصارعلى ما فرضه الله عليك، والاخذ بما مضى عليه الأولون من آبائك، والصالحون من أهل بيتك»(5) فالاقتداء بالمثال الجيد يمد الأخلاق بشمولية واتساع، مثلها في ذلك مثل الإفادة من تجارب الآخرين يتأملها بإمعان ومن ثم إضافة خلاصتها إلى التجربة الخاصة، فتصير أكثر عمقاً، وأشد احكاماً لذلك فلابد ان يكون «لكل امام مأثور يقتدي به ويستضيء بنوره »(6) فمن الاجدى ان يختار الفرد

ص: 426


1- مسند الإمام أحمد 5/ 409
2- خطب - 240 - الفقرة - 26
3- خطب - 199
4- خطب - 109
5- رسائل - 31 الفقرة 7
6- رسائل - 45 - فقرة 2

قدرته الصالحة التي تستطيع أن تمده بروافد غنية من مخزونها الأخلاقي الذي يعود عليه بالسعادة ويجعله منسجماً مع أفراد مجتمعه.

جماع القيم الخلقية في فكر الإمام علي علیه السلام

علاوة على ذلك، يتضمن النهج أيضاً أساليب أخرى يمكن اعتبارها من المصادر الهامة في اكتساب الاخلاق، كالنظر في سير الماضين والاتعاظ بما حدث لهم إذ يعد علي علیه السلام العيش بالروح والفكر مع أولئك الماضين جزءً هاماً من تجاربه الحياتية الخصبة. ويمكن استخلاص ذلك من قوله ضمن وصيته لابنه الحسن «اي بني، وان لم اكن عمرت عمر من كان قلبي، فقد نظرت في اعمالهم، وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى غدوت كأحدهم، بل كأني بما انتهى الي من امورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره ونفعه من ضرره»(1) . وبتبصره ذاك، وعمق نظرته في مجريات الحوادث، يرى أن من اللازم على الإنسان المتدبر في أمور الحياة، أن يجول بعقله في التاريخ، ليتعظ بحوادثه ويتأملها بروية وعمق، لأنه يستمد منها الكثير من الخبرات والقيم الإنسانية التي تكون له زاداً فكرياً يعول عليه في مسيرة حياته، فمن منطلق تجربته يقول لابنه الحسن «آخ قلبك بالموعظة... وأعرض عليه أخبار الماضين، وذكره بما أصاب من كان قبلك من الأولين، وسر في ديارهم وآثارهم، فأنظر فيما فعلوا، وعما انتقلوا، واين رحلوا ونزلوا، فإنك تجدهم قد انتقلوا عن الأحبة، وحلوا ديار الغربة وكأنك عن قريب قد صرت كأحدهم»(2) فالتأمل

ص: 427


1- رسائل 31 - الفقرة - 6،4
2- رسائل 31 - الفقرات - 6، 4

في التاريخ - كما يفهم من كلام علي علیه السلام - يمنح الفرد دفعات من الإيمان المتأني، الذي يكسبه حب الخير للناس، والتفاني في خدمتهم لأن تشبع روحه بالإيمان يجعله يدرك انه لا يملك مما تحت يديه شيئاً الا ما كتب له التصرف فيه، حتى حياته. فخلاصة العبرة تأمل استبطاني عميق في مجريات الحوادث لكسب الخبرة العملية التي هي بمثابة الزاد العقلي والروحي الذي يغذي روح الإنسان، ويحافظ على اتزانها إزاء مغريات الحياة، وينحو بها إلى التعايش في المجتمع بما يتناسب والمثل العليا التي يطمح علي علیه السلام إلى إرسالها. ثم إن هناك الاكتساب الخلقي عن طريق النصيحة المباشرة التي يحتاجها جل الناس، ولكن لا يعيها من وجهة نظر علي علیه السلام الا العقلاء، أما «البهائم لا تتعظ الا بالضرب »(1) .

تلك إذن هي أهم المصادر التي يكتسب منها الفرد قيمة الخلفية، كما يبدو في فكر علي علیه السلام، وهذا ينقلنا بدوره إلى تأمل تلك القيم. والحقيقة التي يجب ان توضح في هذا الجال ان ما ورد في النهج من نصوص قد بني على دعائهم أخلاقية هدفها كرامة الإنسان وتوفير السعادة له، بحيث لا يمكن لدراستنا الإلمام ببحث كل تلك القيم، فمن مكارم الأخلاق التي عرض لها النهج «السخاء، والحياء، والصدق، والأمانة، والتواضع، والغيرة، والشجاعة، والحلم، والصبر، والشكر»(2) ويتحدث علي علیه السلام عن اهمية بعض القيم الخلقية فيقول «الجود حارس الأعراض، والعلم فدام السفيه، والعفو زكاة الظفر، والسلو عوضك عمن غدر، والاستشارة عين الهداية... والصبر يناضل الحدثان، والجزع من أعوان الزمان، واشرف الغنى ترك المنى... ومن التوفيق حفظ التجربة، والمودة

ص: 428


1- رسائل 31 - الفقرة 24
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 375

قرابة مستفادة، ولا تأمنن ملولا»(1) فتلك إذن بعض القيم الخلقية التي نجدها مبثوثة في تضاعيف نصوص النهج القصيرة والطويلة، خطب كانت أم رسائل أم وصايا أم حكم، وهي تارة ما تكون موجهة إلى فرد بعينه، وتارة أخرى نجدها موجهة إلى جميع أفراد الأمة، ولكن بتأملنا في تلك القيم الخلقية مجتمعة يمكننا اجمالها - كما يتهيأ لنا - في ثلاث هي: العدل، والحق، والتقوى.

1- العدل:

يعد حكماء اليونان العدل من الفضائل الأربع الرئيسية (2) ، والثلاث الباقية عندهم هي: الحكمة، والشجاعة، والعفة ويعرفه أرسطو (ت 322 ق.م) على أنه «ذلك الكيف الأخلاقي الذي يحمل الناس على اتيان اشياء عادلة والذي هو العلة في فعلها وفي ارادة فعلها»(3) فالعدل عند أرسطو - على ما يبدو - ليس ملكة فطرية لأنه حالة أو كيف، يمكن إدراكه من الأمور المضادة له، أي من الظلم، وهو على كل حال تعريف فلسفي، يكاد يقترب في مفهومه من التعريف اللغوي القائل بأن العدل «هو ما قام في النفوس أنه مستقيم وهو ضد الجور»(4) فهو إذاً إحساس أو حالة داخلية، وقد عرفه المعجم بما يقابله في اللغة، ولم يحاول ان يبين لنا أنواع العدل، أما التعريف الكلامي فلا يمت إلى دراستنا عن العدل الأخلاقي بأية صلة، لأن العدل عند المتكلمين يبحث

ص: 429


1- حكم - 209
2- راجع خياط معجم المصطلحات العلمية والفنية ص 434
3- علم الأخلاق 2/ 55
4- لسان العرب - مادة عدل

«في العلوم المتعلقة يتنزه الباري عن فعل القبيح والاخلال بالواجب»(1) ، ولكن من خلال تعريفهم يمكن ان نخلص إلى ان العادل هو الذي يحاول تجنب فعل القبيح، وينأى بنفسه عن الاخلال بالواجب (2) ، الا اننا مازلنا ندور في فلك التعريف الفلسفي للعدل، والتقصير على التنظير، علاوة على ذلك فإننا لم نتمكن من معرفة الميادين الأخلاقية التي توصلنا إلى ادراك مفهوم العدل كقيمة خلقية، مما يلجئنا إلى الاستعانة بالتعريف الشرعي، فقد يكون أكثر تحديداً ووضوحاً بقوله ان العدل «عبارة الاستقامة على طريق الحق بالاختيار عما هو محظور ديناً»(3) فالعدل من وجهة نظر اسلامية قيمة خلقية ذات اهمية كبيرة جدا بالنسبة للفرد والمجتمع على السواء، حتى لنكاد نتصور استحالة الحياة في مجتمع يفتقر إلى ابسط قواعد العدل، وهو على ما يبدو من خلال ممارسته «نوعان: نوع يوصف به الفرد فيقال انسان عادل، ونوع يوصف به المجتمع والحكومة»(4) . وقد امرنا القرآن الكريم بمباشرة العدل في جميع مجالات الحياة، ونظراً لقيمته الأخلاقية الهامة والكامنة اولا وقبل كل شيء في تفاهم الفرد مع نفسه كما في قوله تعالى:

«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لله وَلَوْ عَلَی أَنْفُسِكُمْ»(5) ويبرز العدل أيضاً كمنظم للمجتمع في مجال العلاقات الاسرية، حيث يرى

ص: 430


1- الطريحي - مجمع البحرين 5/ 420 ، 421
2- راجع - الشريف المرتضى - رسائل الشريف المرتضى 3/ 12 ، القاضي عبد الجبار فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 348
3- مارسيل بوزار - إنسانية الإسلام ص 130
4- أحمد أميين - كتاب الأخلاق 220
5- النساء / 135

الإسلام استحالة تحقيقه، إذا ما تفرعت الميول وتعددت الاتجاهات ففي مجال تعدد الزوجات جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى:

«وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النَّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»(1)

فاستحالة تحقيق العدل في العلاقات الاسرية ينتج، كما يبدو من فهمنا للآية الكريمة، من تحكيم العاطفة وتغليبها على العقل، لذلك جاء الأمر بالعدل حتى في الأقوال مهما كانت النتائج المترتبة على ذلك دون وضع أي اعتبار لأية صلة في قوله تعالى:

«وَإذِاَ قُلْتُمْ فَاعْدِلوُا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَی«(2) ، وإذا ما تركنا العدل الأخلاقي في نطاق الاجتماعي الضيق المحصور في الأسرة، فإن الإسلام يوسع من دائرته لجعله يشمل جميع العلاقات الإنسانية بأوسع معانيها، ففي مجال القضاء والحكم يقول عز وجل:

«وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا باِلْعَدْلِ»(3) ، ولم يقصر الإسلام

طلب العدل على القضاة وحدهم، بل جعله من مسؤولية الشهود أيضاً كما ورد في الذكر الحكيم:

«وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقيِمُوا الشَّهَادَة لله»(4) . ثم ان العدل يجب

أن يكون العنصر الأساسي في المعاملات بين الناس، بضبطها ضبطاً محكماً، تحت إشراف عدول لا يزيغ بهم الهوى كما في قوله تعالى:

ص: 431


1- النساء / 129
2- الانعام / 152
3- النساء/ 58
4- الطلاق / 2

«وَلْیَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ باِلْعَدْلِ»(1) . والكتابة هنا تشمل - كما نعتقد جميع المعاملات التجارية والصنعية والاقتصادية وحتى الاتفاقيات السياسية، وكل ما يربط الإنسان بأخيه الإنسان من علاقات ومعاملات. والعدل الساسي في الإسلام يقتضي أيضاً التصدي للمعتدى وإن كان مسلماً، وردعه بالوقف في صف العدل، دونما تحيز لفئة لإرضاء فئة أخرى كما في قوله تعالى:

«وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِینَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَی الأُخْرَی فَقَاتِلُوا الَّتِی تَبْغِی حَتَّی تَفِیء إِلَی أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَیْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ یُحِبُّ الْمُقْسِطِینَ»(2) . ولكن ليس معنى هذا ان الإسلام يقصر العدل على المسلمين دون المشركين، لأن العدل في المفهوم الإسلامي «حق طبيعي للإنسان يستمده بمقتضى كونه انساناً لا بمقتضى انه مسلم، ونظر فيه إلى الحق الاناني العام من غير نظر إلى لون أو جنس أو دين»(3) . فالحكم بمقتضى الشريعة الإسلامية ينص على ان العدل ليس قصرا على فئة اجتماعية معينة، فقوله تعالى:

«حَکَمْتُم بَیْنَ النَّاسِ أَن تَحْکُمُواْ بِالْعَدْلِ»(4) شامل لجميع الناس، واذا كان أفلاطون قد عد ان «الفضيلة في النفس هي العدالة»(5) فإن الإسلام قد احكم العمل بتلك الفضيلة، فقد ورد العدل في القرآن الكريم في معظم الحالات

ص: 432


1- البقرة/ 282
2- الحجرات/ 9
3- محمد أبو زهرة - المجتمع الإنساني في ظل الإسلام ص 201
4- النساء/ 58
5- جمهورية افلاطون 9

بصيغة الأمر مما يعني في حد ذاته وجوب العمل به في كل الأحوال وعلى جميع المستويات، لذلك رفض النبي صلی الله و آله وسلم رفضاً قاطعاً توسط اسامة بن زيد في شان المرأة المخزومية التي سرقت(1) ، لكونها شريفة جاعلًا العدل يأخذ مجراه.

واذا ما استفتينا فكر علي بن أبي طالب علیه السلام بشأن فضيلة العدل، فسنجد انها قيمة أخلاقية تتسع لتشمل جميع النواحي الإنسانية، وهو في هذا المجال يسير في ظل النص القرآني وعلى نهج السنة النبوية الشريفة، مع محاولاته في إعطاء المفهوم قيمته الإنسانية المتناسبة وعصره، لذلك لم يأت العدل في قوالب الأمر لسن تشريعات، ولكنه ورد ضمن النصوص التطبيقية لتلك التشريعات، ويبدو لنا من النصوص التي بين ايدينا ان علياً علیه السلام يعد العهد من الدعامات الأخلاقية الهامة التي يقوم المجتمع عليها، فإذا ما اختلت تلك الدعامة أو تضعضعت «كَثُر الإدغال في الدين، وتركت محاج السنن، وفعل بالهوى، وعطلت الأحكام وكثرت علل النفوس، فلا يستوحش لعظيم حق عطل، ولا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الابرار وتعز الأشرار»(2) لذلك فقد باشر بتنفيذ العدل من ذ الوهلة الأولى التي تسلم فيها مقاليد الخلافة غير آبه بما سيجره ذلك عليه من فتن فد تزعزع السلطة من تحت رجليه، فرد إلى بيت مال المسلمين كل القطائع التي اقتطعها عثمان لبني أمية وغيرهم قائلاً بكل حزم «والله لو وجدته قد تزوج به النساء وملك به الاماء، لرددته، فإن في العدل سعة، ومن ضاق عليه العدل فالجور اضيق»(3) فمفهوم العدل في فكر علي علیه السلام - لا يمكن إدراكه -

ص: 433


1- راجع الخبر في: سنن النسائي 8/ 72 وما بعدها، سنن ابن ماجه 2/ 85
2- خطب - 210 فقرة 2
3- خطب - 15

كما نعتقد - إلا من خلال مباشرته العملية له قولاً وفعلاً، لأنه جزء لا يتجزأ من تصرفاته الحياتية سار معه رحلته الطويلة منذ مقتبل العمر حين زاول القضاء على عهد رسول الله صلی الله علی و آله، حتى آخر ساعة في حياته وهو يوصي بالتعامل مع قاتله بالعدل (1) ، لذلك فنظرته الثاقبة إلى العدل تتمثل في قوله «العدل صورة واحدة، والجور صور، لهذا سهل ارتكاب الجور، وصعب تحري العدل، وهما يشبهان الإصابة في الرماية والخطأ فيها، وإن الإصابة تحتاج إلى ارتياض وتعهد، والخطأ لا يحتاج إلى شيء من ذلك »(2) فالعمل بالعدل في فكرعلي علیه السلام - صعب والسير في طريقه شاق، لأنه يحتاج إلى ترويض النفس على نبذ شهواتها، وتبصيرها الطريق القويم، وحثها على السير فيه، بعكس الجور الذي لا يحتاج فعله إلى أي مجهود فطرقه كثيرة وسهلة ومحببة إلى النفوس في الغالب. لذلك فإن ترحي العدل في مجتمع ذي طرق متشعبة وأساليب ملتوية يغدو ضرباً في المخاطرة، فلا نستغرب إذن من «تبني الفكر الشيعي مفهوم العدل الاجتماعي، وارتكاز على العقلانية »(3) لأن ذلك الفكر - على ما نعتقد منبثق «من فهم - صحيح للروح الإسلامية»(4) ، التي تميز آل البيت علیه السلام وعلى رأسهم علي علیه السلام الذي نجد للعدل في فكره ميداناً واسعاً منه:

1- العدل مع النفس: ويقصد منه المصالحة مع النفس بالنحو بها منحاً مستقيماً يوازن علاقتها بالآخرين بحيث لا تأخذ أكثر مما تستحق ولا تفرط في حقوقها على سبيل إرضاء الغير فقوله لابنه الحسن علیه السلام«اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك

ص: 434


1- راجع رسائل 47 فقرة 8، 9
2- شراح ابن أبي الحديد 20 / 276
3- محمود اسماعيل - سوسيولوجيا الفكر الإسلامي 1/ 141
4- المصدر السابق

وبين الآخرين»(1) يعني بناء النفس من الداخل على أسس موضوعية تتقبل العطاء بنفس الروح التي ترغب بها في الاخذ، فتؤدي ما عليه وتأخذ ما إليها بكل رحابة صدر، فالعدل في المصالحة مع الذات كما نفهمه من خلال فكر علي علیه السلام - ينطوي على كل القيم الخلفية من صدق، وأمانة واخلاص، ووفاء، وشجاعة، لأن الإنسان العادل هو الذي يمكنه أن يوازن بين الحق نفسه وبين حقوق الآخرين من حوله وفق معايير أخلاقية ثابتة قوامها الخير والحب للجميع.

2- العدل الاجتماعي: العدل في فكر علي علیه السلام - كما سبق صورة واحدة (2) ليس فيه ثمة تدرجات تفاضلية، لا بد ان نشير هنا ان العدل الاجتماعي، ما هو الا امتداد للخط المستقيم الذي تسير سياسته فيه، لأن العمل العادل هو الذي «يضع الأمور في مواضعها»(3) والامور في السياق تعني الشمولية والاتساع لتجعل من «العدل سائساً عاما»(4) يهدف إلى تحقيق السعادة والخير والحب لجميع الناس. والعدل الذي يتوق علي علیه السلام إلى تحقيقه، يشمل حتى الحيوان فضمن وصيته إلى عمال الصدقات، فيمن يولونه مسؤولية حراسة ما يجبى من إبل ومواشي يشترط فيه «الا يحول بين ناقة وفصيلها، ولا يمصر لبنها فيضر ذلك بولدها، ولا يجهدها ركوباً، وليعدل بين صواحبها في ذلك»(5) .

ويصل العدل ذروته في قوله «والله لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت

ص: 435


1- رسائل - 31 فقرة 13
2- راجع ص 433 من هذا البحث
3- حكم - 446
4- حكم - 446
5- رسائل - 25 وفصيل الناقة: ولدها وهو رضيع، ويمصر: يقلل يبالغ في حلبها حتى يقل اللبن في ضرعها

أفلاكها على أن أعصي الله في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت»(1) فالعدل قيمة أخلاقية واحدة في موطن من مواطن الحياة، لا يمكن تجزئتها، أو العمل بمضمونها حسب نسب متفاوتة وهي في فكر علي علیه السلام، كما نلاحظ في نصوص النهج - نابعة من اقتناع ذاتي وإيمان راسخ وتام لا يمكن زعزعته تحت أية ظروف، ويمثل ذلك قوله «والله لأن أبيت على حَسَكِ السعدان مسهداً، واجر في الاغلال مصفداً احب الي من ان القى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد»(2) لذلك فقد جاهد قولًا وفعلًا من أجل وضع فكره العادل موضع التنفيذ سواء في معاملاته الخاصة أو العامة أو على مستوى الحكم في الاقاليم الإسلامية.

أ- فعلى المستوى القضائي، فقد وضع شروطاً متناهية في دقتها فيمن يرشح لمنصب القضاء (3) ، ثم انه جعل المراقبة دائمة ومتسمرة(4) ، كما أنه باشر القضاء بنفسه ابان خلافته في كثير من المواطن، انطلاقاً من اقتناعه التام بأن العدل يجب ان يأخذ مجراه مهما كانت الظروف(5) .

ب - وعلى المستوى الاجتماعي العام فقد باشر بإقامة العدل مبتدئاً بالأسواق

ص: 436


1- خطب - 221 - الفقرة الثانية، وجلب شعيرة: قشرتها
2- خطب - الفقرة الأولى، وحسك السعدان: شوكه، والسعدان نبت صحراوي له شوك ترعاه الابل، والسهاد: السهر، الاغلال: السلال توضع في الأعناق، المصفد: المقيد
3- راجع ص 328 وما بعدها من هذا البحث
4- راجع السابق
5- راج حكايته مع المرأة التي اتته متظلمه من قسوة زوجها وموقفه من ذلك عند: ابن شهر آشوب مناقب آل أبي طالب 1/ 374 ، وراجع أيضاً قوله في عهده للأشتر بأن افساح المجال للضعفاء للتظلم عنده مباشرة، من دون أية مراقبة أو حجاب - رسائل 53 - الفقرة - 26

المحك الحقيقي لشرائح المجتمع والميزان الذي تتنافس الاطماع فيه، لامتلاك زماما المادة على حساب الكادحين والمستضعفين، فقد كان يجوب الاسواق بنفسه (1) ، لمراقبة الاسعار وفض الخصومات من أجل ارساء دعائم العدل، كما كان يتشدد في تنبيه ولاته على القيام بذلك كما في قوله للأشتر «وليكن البيع سمحا بموازين عدل»(2) . واهتمام علي علیه السلام بالعدل في الأسواق لأنها الاماكن التي تتواجد فيها كل الطبقات الاجتماعية للتعامل فيما ببنها بالأخذ والعطاء، ولا يتأتى ذلك الا في جو يتميز بالأمن والطمأنينة والثقة، والعدل هو الذي يمنح تلك الميزات للمتعاملين، لأن تطبيقه يكسبهم الراحة النفسية، وعدم الشعور بالغبن أثناء المعاملات والمبادلات.

3- العدل في ميدان السياسة: من العسير علينا ونحن نبحث في فكر علي علیه السلام الأخلاقي، ان نقول بوجود عدل اجتماعي وآخر سياسي، لأن سياسة علي علیه السلام في الاصل سياسة اجتماعية، تضع مصلحة عامة الناس من الطبقات الفقيرة في مقدمة الأولويات(3) ، حتى لنكاد نشعر بالصعوبة إذا ما حاولنا الفصل بين عنصر السياسة وعنصر الاجتماع في ميدان الأخلاق الا ان ذلك لا يحول بيننا وبين تسلط الضوء على الفكر الأخلاقي العادل الذي يغلب الطابع السياسي عليه. فمن أهم ما يجب ان يتميز به الحاكم العادل في سياسته للرعية - ان يعمل بالعدل في كل صغيرة وكبيرة من أفعالة، حتى في النظر إلى رعيته، فلا يميل به الهوى إلى النظر بازدراء إلى الفقير لفقره، والبشاشة والترحاب بالغني لكثرة

ص: 437


1- راجع البلاذري - انساب الاشراف 2/ 129
2- رسائل - 53 - الفقرة 24
3- راجع السابق - الفقرة 7

امواله وعلو منزلته، إذ يجب ان تكون نظرته لكلا الطرفين متماثلة، يقول لمحمد بن أبي بكر في عهده إليه حين ولاه مصر «اخفض لهم جناحك، والن لهم جانبك، وابسط لهم وجهك، واس بينهم في اللحظة والنظرة، حتى لا يطمع العظماء في حيفك لهم، ولا ييأس الضعفاء من عدلك عليهم»(1) فالسياسة العادلة - في مبدأ علي علیه السلام - ان لكل المواطنين اما القانون سواء، مسلمين وغير مسلمين وعدم دخول هؤلاء الإسلام لا يفقدهم حقوقهم الإنسانية (2) ، فالناس كما يقول علي علیه السلام ضمن عهده للأشتر: صنفان «اما اخ لك في الدين أو شبيه لك في الخلق(3) . فالحكومة الحقيقية هي التي تقدس العدل (4) ، وتختار لحكمها رجالاً يعرفون طريقه ويسيرون على نهجه. ولن يتأتى لهم ذلك - كما يرى علي علیه السلام - الا إذا عرفوا أن يأخذوا العدل من نفوسهم، ومن خاصة أهلهم واقاربهم (5) لله ولجميع الناس، ومن لم يؤد ذلك تاماً ففقد ظلم نفسه وظلم عباد الله «وكان الله حرباً حتى ينزع أو يتوب»(6) . فعلي علیه السلام يأمر واليه بالعدل بين رعيته، يكلم فيه الضمير ويرحك داخله الوازع النفسي مصدر القيم الخلقية، فهو لم يتهدده بالعقاب المادي المتمثل في العزل وفي المصادرة، لابل يلجأ إلى الترهيب النفسي المتمثل في قدرة الله سبحانه بإنزال العقاب الدائم المستمر على الجور

ص: 438


1- رسائل - 27 - الفقرة الأولى
2- راجع رسائل - 19
3- رسائل - 35 - الفقرة 4
4- راجع السابق - الفقرة 26
5- راجع السابق - الفقرة 6
6- السابق - فقرة 4 وفقرة 6

والجائر(1) ، فالعدل - في فكر علي علیه السلام - ميزان الأخلاق، الذي يعدل كل مائل في المجتمع سواء أكان مادياً أم معنوياً، وهو على سعة ميادينه، فإن منبعه الإيمان بقدرة الإنسان على تمييز الصواب من الخطأ، والسير في طريق الصواب المتضمن كل القيم الأخلاقية، وهو في جوهر توأم الحق.

2- الحق:

الحق من اسماء الله الحسنى ويعني «الموجود المتحقق من وجوده والهيته »(2) وللحق معان متعددة يمكن معرفتها من خلال السياقات التي ترد فيها، فعلم القانون - على سبيل المثال - يعرف الحق «بأنه مصلحة ذات قيمة مالية يحميها القانون»(3) ، فهو يحصره في النواحي المادية، ويربطه بالقانون سواء اكان وضعي أم تشريقي وقد يعرف «فلسفياً ما طابق الذهن والواقع ويقابل الباطل »(4) ، «وحقائق الإيمان، أركانه وهو التصديق بوجود الله تعالى وبوحدانيته واعتبار اسمائه الحسنى»(5) ، ويأتي بمعنى المطابقة والموافقة والثبوت(6) ، ويطلق الحق أيضاً «على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب»(7) على أساس أنها تتضمن

ص: 439


1- يناسب ذلك قوله «اذكر عند الظلم عدل الله فيك، وعند القدرة قدرة الله عليك »شرح ابن أبي الحديد 20 / 328
2- الطريحي - مجمع البحرين 5/ 148
3- عبد الزاق السنهوري - مصادر الحق في الفقه الإسلامي 1/ 9
4- يوسف خياط - معجم المصطلحات العلمية والفنية ص 171
5- الطريحي، السابق 5/ 148
6- راجع: أحمد رضا - معجم متن اللغة 2/ 132
7- منصور رجب - تأملات في فلسفة الأخلاق ص 342

ذلك، «والحقيقة في مصطلح العلماء ما قابل المجاز»(1) ، ويأتي الحق أيضاً بمعنى العدل كما في قوله تعالى:

«يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ»(2) ، ويأتي بمعنى الصدق كما في قوله تعالى:

«حَقِیقٌ عَلَی أَن لاَّ أَقُولَ عَلَی اللهِ إلاَّ الْحَقَّ»(3) ،

ويأتي الحق بمعنى المنزلة والقيمة المعنوية كما في قوله تعالى:

«وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِیعًا قَبْضَتُهُ یَوْمَ الْقِیَامَهِ»(4) .

فالحق كقيمة خلقية يكون جماع من الصدق، والعدل، والرضاء، والنأى بالنفس عن الأنانية، وتجنب الشح، فمرونته تجعل معانيه تتضمن الاخذ والعطاء. واذا كان العدل يهدف إلى ارساء الطمأنينة في النفس فإن الحق بشموليته على العدل وتضمنه معاني التبادل الذاتي، هو العامل المحرك للفرد والمجتمع في طريق التفاهم والبناء، إذ لا يمكن لأي فرد أو أية فئة ان تطالب بحقوق معينه، الا في مقابل تأديتها لواجبات تترتب على تلك الحقوق.

وهذا التبادل بمفهومه العملي، هو ما يرمي إليه علي علیه السلام من مفهومه للحق، فقوله «الحق واسع الأشياء في التواصف واضيقها في التناصف»(5) يعني ان الحق كنظرية متمثلة في الوصف القولي، هو من الاتساع بحيث لا

ص: 440


1- الطريحي، السابق 5/ 148
2- ص / 26
3- الاعراف/ 105
4- الزمر / 67
5- خطب - 210 - الفقرة الأولى

يقاس ولا يحيد، ولكن سرعان ما يضيق وتنكر كل صفاته إذا ما اريد له يوجد في حيز التطبيق. ويريد علي علیه السلام من وراء تبيانه لتلك الخاصية، الحق العملي البعيد كل البعد عن الاقوال كما في قوله بأن الحق «لا يجري لأحد الا جرى عليه، ولا يجري عليه الا جرى له»(1) فهو أخذ وعطاء مستمران باستمرارية الحياة، وبين جميع البشر، وعلى جميع المستويات الاجتماعية لأنه دستور حياة، ولا يمكن لأي فرد مهما علت منزلته وسمت مكانته، ان تكون له حقوق، دون ان تكون عليه واجبات تسمى حقوقاً بالنسبة للغير، و «لو كان لاحد ان يجري له ولا يجري عليه، لكان ذلك خالصا لله سبحانه وتعالى دون خلقه لقدرته على عباده ولعدله في كل ما جرت عليه صروف قضائه»(2) هو ما لم يلزم به الله عباده لتدبروا معنى الحق في علاقتهم ومع نفوسهم لذلك «جعل حقه على العباد ان يطيعوه، وجعل جزاءهم مضاعفة الثواب»(3) فالحق - كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام - ليس مجرد ألفاظ جوفاء أو معنى خالٍ من مضمونه العملي لذلك فهو لا يعرف بالرجال كما يتراءى للبعض من خلال منطقهم أو ما يحدثنا به التاريخ من سيرهم، ولكن الرجال يعرفون بالحق(4) أثناء مباشرتهم له، وفهمهم ابعاده، ونزولهم عند حدوده، بإيمان وصدق عزيمة لأنه «ثقيل مرئ»(5) ، ثقيل لأن النفس تأباه إذا تعارض مع مصالحها ولكنه حسن العاقبة، لأنه يكبح من جماح شهواتها، ويحد من تمردها، ويجعلها تحت

ص: 441


1- خطب - 210 - الفقرة الأولى
2- السابق
3- السابق
4- راجع حكم - 270
5- حكم 382

سلطان العقل، لذلك فعلى سبيل الجدل تجنباً للرذيلة يقول علي علیه السلام«إلا وأنه من لا ينفعه الحق يضره الباطل»(1) ولا مراء فإن الباطل وان حسن مظهره، فإن مباشرته لا بد وان تؤدي إلى مضرة، وفي المقابل لا يعني ان العمل بالحق لا يعود بالنفع على مباشرته، لأن الحق في حد ذاته غايته الخير بمعناه الواسع.

وبتتبعنا للحق كمنبع من منابع القيم الخلقية - في فكر علي علیه السلام - سنجد أنه بمثابة الحزم الضوئية المنبعثة من مصدر واحد يلم في داخله كل ما أمكنه من المعاني الخيرة التي تهدف إلى بناء الإنسان وسعادته بتكوينه تكويناً متوازناً مع نفسه ومتسقاً في علاقاته بالآخرين. والحقوق التي يتعين على الفرد مزاولتها لتكتمل سعادته - كما يرى علي علیه السلام - متعددة منها:

أ- حق الله:

يتجلى الرب على عباده في جميع نواحي الحياة المتعلقة بمعيشتهم على الأرض، وقد عرض علي علیه السلام في نهج البلاغة إلى كثير من هذه الحقوق التي منها: حقه سبحانه وتعالى على عباده في التعرف على ذاته وقد اوكل علي علیه السلام تلك المعرفة إلى القرآن الكريم والى السنة النبوية الشريفة، يقول لمن سأله عن وصف الرب سبحانه «فانظر أيها السائل، فما دلك القرآن عليه من صفته فأتم به واستضئ بنوره، وما كلفك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضه، ولا في سنة النبي صلی الله علیه و آله وسلم وائمة الهدى اثره، فكل علمه إلى الله سبحانه، فإن ذلك منتهى حق الله عليك»(2) فمن حق المسلم ان يفكر في الذات الإلهية،

ص: 442


1- خطب 28
2- خطب - 90 - الفقرة 2

ولكن في حدود ما رسمه الدين بمصدريه الرئيسيين، وذلك حسماً للخلاف وتجنباً من المروق، فمن حق الله عليك حتى تعبده حق عبادته ان تعرفه. واذا كان ذلك حقه سبحانه نحو ذاته القدسية فإن من حقوقه على العباد نحوهم، مراعاة بعضهم البعض، بالتناصح فيما بينهم، وبذل العون إلى محتاجهم وضعيفهم، والعلم بما سنه الله من حقوق دون الاخلال بشيء منها(1) ومن حقوقه سبحانه، ما فرضه على عباده من نصيب فيما رزقهم من مال، وهو حق من الأهمية بمكان، لأن صيانة المجتمع من الانزلاق في هاوية الشح والفوضى والتسلط والحسد تتوقف على أدائه فهو في أساسه تطهير للنفس بالنسبة للمعطي والسمو بها عن التكالب الدؤوب على شهوات الدنيا، وهو في ذات الوقت طمأنة لنفس الفقير بتحسيسه بأن هناك ثمة من يعطف عليه ويحاول التخفيف من محنة الفقر التي يعيشها، وبهذا الحق الإلهي يزول الحقد والحسد، باستجابة النفس لنداء الواجب والحب فيأمن الغني على ماله ويطمئن الفقير على حاله، لذلك نجد علياً علیه السلام ومن منطق اسلامي سمى الزكاة (حق الله)، فضمن وصيته لعماله على الصدقات، يأمر كل منهم إذا وصل إلى مكان عمله وتجمع الناس حوله بالقول «أرسلني إليكم ولي الله وخليفته، لأخذ منكم حق الله في أموالكم، فهل لله في أموالكم حق فتؤدونه»(2) والسؤال في السياق يدل كما يبدو، أن الزكاة في فكر علي علیه السلام، وإن كانت واجبة على كل مسلم في ماله نصاب يستحق إخرجها، إلا أنها لا تؤخذ منه كرهاً لأن في إخراجها بطريق الإكراه ما يفقدها قيمتها الأخلاقية، فالاقتناع الداخلي من لدن الإنسان بأنها

ص: 443


1- يمكن استخلاص كل ذلك من - الخطب 98 فقرة 9، 178 فقرة 5، 192 فقرة 3، 210 فقرة 3، 211 فقرة 1، 239 فقرة 3، والحكمة رقم 243
2- رسائل - 25

حق الهي هو المحرك لقيمتها الأخلاقية، فحق الله سبحانه على الإنسان، يجب أن ينبع من فكر الإنسان، والاقتناع الذاتي بذلك الحق دون أي تأثير خارجي كما يرى علي علیه السلام وهو القائل «من عرف نفسه فقد عرف ربه»(1)

ب- حق النفس:

النفس الإنسانية، منبع كل خير وحكمة وعلم وهي في الوقت نفسه «مثار الجهل والضلال والشقاء والشر»(2) والقائد المحرك لكلا المتقابلين فيها، إحساس الفرد الداخلي بالمسؤولية، وهذا الإحساس هو مصدر الحق الذي خوله الله سبحانه وتعالى الإنسان، فإذا ما أراد التعايش في مجتمع تحكمه الأخلاق فعليه أولا أن يبدأ بنفسه لأن «معلم نفسه ومؤدبها أحق بالإجلال من معلم الناس ومؤدبهم»(3) فالحق الأولي والرئيسي البدء بالنفس، وقد اجمل علي بن الحسين زين العابدين علیه السلام حقوق النفس في قوله «وأما حق نفسك عليك، فإن تستوفيها في طاعة الله، فتؤدي إلى لسانك حقه، وإلى رجلك حقها، وإلى بطنك حقه، وإلى فرجك حقه، وتستعين بالله على ذلك»(4). فالملاحظ هنا أن حق النفس يشمل كل ما يصدر عن الإنسان من قول أو فعل أو تصرف، وحتى التفكير الذي يسبق الاقدام على عمل ما، هو حق من حقوق النفس، فتجنب الغرور والزهو من حقوقها «لأن الشيء الذي لا يحسن أن يقال وإن كان حقا

ص: 444


1- ابن أبي الحديد 20 / 292
2- حسن السيد علي القبانجي - شرح رسالة الحقوق 1/ 72
3- حكم - 71
4- ابن شعبة الحراني - تحف العقول ص 185

مدح الإنسان نفسه»(1) ، وحفظ اللسان في جميع المواطن حق من حقوقها لأنه «ما شيء أحق بطول سجن من لسان»(2) كما يقول علي علیه السلام، لأن سجن اللسان فيه صيانة للنفس من التلف، وتجنب الكوارث، وحفظ الأعراض، فرب «قول أنفذ من صول»(3) . ولكل الحواس أهميتها في ضبط حقوق النفس، فإذا كان لكبح جماح اللسان قيمته الأخلاقية فإن للسمع والرؤية - كما يرى علي علیه السلام - قيمتها في التفريق بين ما هو حق وما هو باطل، من ذلك قوله «انه ليس بين الحق والباطل إلا أربعة أصابع، الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت»(4) .

وكما نلاحظ فإن المقولة تحوي صورة من اروع الصور الحسية القريبة من تصور كل انسان، إذ بوضع أصابع الكف الأربع على الخد بين الأذن والعين يعرف الحق من الباطل، فالرؤية في مجال الشهادة حق، أما السماع فباطل. ففكر علي علیه السلام تجاه حق النفس ينطلق - كما نعتقد - من كون الإنسان فرد في مجتمع تؤثر علاقته مع نفسه على علاقاته بالآخرين سلباً وإيجاباً بمدى معرفته لنفسه وما عليه من حقوق نحوها.

ج- حق الوالد وحق لولد:

اذا تمكن الإنسان من ايفاء نفسه حقها بإنزالها المنزلة التي تستحقها، استطاع أيضاً من ايفاء حق الآخرين عليه ابتداء بمحيطه الاسري. فمن

ص: 445


1- ابن أبي الحديد 20 / 297
2- السابق 20 / 263
3- حكم - 402
4- خطب - 141

الحقوق الأخلاقية الواجبة على الإنسان تجاه اسرته، حق الولد على الوالد، ولا نعني بالحق هنا تهيئة الملبس والمسكن، فتلك حقوق مفروغ من تأديتها تجاه من نعولهم، ولكن ثمة حقوق أخلاقية الهدف من ورائها اعداد الفرد ليتحمل مسؤوليته في المجتمع، وهي الحقوق التي يرمي علي علیه السلام إلى توضيحها من خلال فكره الأخلاقي حين يقول «حق الولد على الوالد أن يحسن اسمه ويحسن ادبه ويعلمه القرآن»(1) . فحقوق الابن على أبيه تتمثل في إعداده للحياة، وتهيئة نفسه تهيئة سوية. فتحسين الاسم يعني في مضمونه تجنيبه الانفعالات النفسية،من مضايقات الناس، الذين يجنحون إلى كل ما هو حسن وجميل، وينفرون من كل ما هو قبيح في منظره وفي تسميته، ثم ان الأدب المتضمن جميع القيم الخلقية والمعاملات الإنسانية، يكسب الإنسان القبول والاحترام في مجتمعه، اما العلم فهو السلاح الذي يستطيع به دفع غائلة الزمن بتخطي صعوبات الحياة، ويلاحظ ان علياً علیه السلام قد قصر واجب الأب على التعليم الأساسي ابتداء بالقرآن الكريم، لكون ذلك التعليم الابتدائي يأتي من الاكتساب المفروض والمقرون بالمراقبة، لأن سن المتعلم تتطلب ذلك، اما اكتساب التعليم التالي لتلك المرحلة فينبع من ذات الفرد، وإقناعه الفكري بتوجيه نفسه بنفسه. وفي المقابل أيضاً فإن للوالد على الولد حقوقاً يجب أن يستوفيها كلامة من أهمها، في فكر علي ،علیه السلام الطاعة، «في كل شيء إلا في معصية الله سبحانه»(2) وتأدية الطاعة بمفهومها الشامل لا تعني - كما نعتقد رد -الجميل على ما بذله الوالد تجاه ولده، لأن ما أعطاه الأب لابنه، هو في جوهره حق من حقوقه الإنسانية، وأما ما يقوم به

ص: 446


1- حكم - 407
2- حكم - 407

الابن تجاه أبيه من طاعة فهو حق من حقوق الأب الطبيعية، لأن الأب في أوامره ونواهيه، إنما يضع مصلحة الابن فوق مصلحته الذاتية، وتتمثل القيمة الحقيقية للابن في نفس الأب في قول علي علیه السلام لابنه الحسن ضمن وصيته له «... وجدتك بعضي، بل وجدتك كلي، حتى كأن شيئاً لو أصابك أصابني وكان الموت لو أتاك أتاني»(1) فالحقوق التي يعنيها علي علیه السلام ويوجب على الابن تأديتها، إنما يعني قبوله للنصح وتمثله للأخلاق، علاوة على ذلك البر به وبأمه واحترام التقاليد الأسرية، فمتى صار التجاوب بين الأطراف داخل المجتمع الصغير منسجماً بتأدية حقوق كل لكل، فإنه لا محالة من انعكاس ذلك التجاوب على جميع محاورالمجتمع الكبير ابتداء بالأصدقاء.

د- حق الصديق:

الصداقة من العلاقات المقدسة التي حض الإسلام على التمسك بها وتعهدها ورعايتها(2) ، وقد أولاها آل البيت أهمية كبيرة وجعلوا لها من الحقوق ما يصعب حصره ويثقل تحمله إلا على أولي العزم من المخلصين في إيمانهم، الذين يتحلون بأعلى درجات الكمال الأخلاقي، فمما يؤثر عن الإمام جعفر الصادق علیه السلام قوله في حق الصديق «أن تحب له ما تحب لنفسك وتكره له ما تكره لنفسك... وأن تتجنب سخطه وتتبع مرضاته وتطيع أمره... وأن تعينه بنفسك ومالك ولسانك ويدك ورجلك... وأن تكون عينه ودليله ومرآته...

ص: 447


1- رسائل - 31 فقرة 2
2- للأهمية التي أولاها الإسلام للصداقة فقد عد الرسول صلی الله علیه و آله أن من بر الابن بوالديه في حياتهما ومماتهما إكرام أصدقائهما - راجع مسند الإمام أحمد بن حنبل 3/ 498

ان لا تشبع ويجوع، ولا تروى ويظمأ، ولا تلبس ويعرى... ان يكون لك خادم وليس لأخيك خادم، فواجب ان تبعث خادمك فيغسل ثيابه ويصنع طعامه ويمهد فراشه... ان تبر قسمه، وتجيب دعوته وتعود مريضه، وتشهد جنازته، واذا علمت ان له حاجة تبادره إلى فضائها ولا تلجئه ان يسألكها، ولكن تبادره مبادرة»(1) . وقد تكون تلك الحقوق فوق طاقة الإنسان العادي، الا انها تهدف إلى ارساء دعائم مجتمع قوي متضامن لو أخذ بمعظمها، وفكر جعفر الصادق علیه السلام تجاه الصديق لم يكون سوى رافد من روافد فكر جده علي علیه السلام في تقديسه للصداقة (2) التي أجمل حقوقها في قوله «لا يكون الصديق صديقاً حتى يحفظ اخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته»(3) فالحقوق التي ذكرها على علیه السلام تحوي جميع القيم الخلفية التي يحتاجها الفرد في بناء علاقات قوية ومتينة يشعر من ممارسته لها بإنسانية، فيعمل بتلقائية ورحابة صدر على تعميق جذورها، فتمتد لتشمل جميع الناس، في مجتمع مثالي يرتكز على الحب والخير والصلاح، فلا أنانية، ولا استئثار يضيع الحقوق اتكالا على ما بين الأصدقاء من علاقات (4) .

فالصداقة إذا ما بنيت على دعامة أخلاقية راسخة وقوية فستبقى ثابتة تحت أية ظروف. والصديق الذي يتوخاه علي علیه السلام لنفسه، ويريد من جميع الناس ان يكونوه، هو الذي بادر برسمه وعدد مزاياه في نص متكامل اراد من خلاله ان

ص: 448


1- الكليني - أصول الكافي 2/ 169
2- راجع ص 486 من هذا البحث
3- حكم - 132
4- راجع رسائل 31 - فقرة 23

يجسد صورة الصديق المثالي الذي يتوخاه (1) ، فحقوق الصداقة في جوهرها حقوق أخلاقية، حاول علي علیه السلام جاهداً ترسيخها في نفوس الناس، توقاً لبناء مجتمع سليم تحكمه الأخلاق وتقيده القيم.

ه- حق المجتمع:

تتكون العلاقات الاجتماعية السليمة من توازن الفرد مع نفسه ومن ثم مع محيطه الأسري فمعارفه وصداقاته، فينعكس ذلك التوازن على المجتمع، لأن الإنسان وفي خضم اختلاطه وتعامله يدرك بما لديه من خلفيات أخلاقية مكتسبة، حقوق الآخرين عليه، ومن ثم يعرف ان مركزه الاجتماعي يجب ان يتولد من دوره داخل المجتمع، فلا يرضى بالوساطة أو المحسوبية للوصول إلى المركز، لأن لكل فرد حق، وحقه هو أن يأخذ نصيبه وافيا شريطة أن لا يكون على حساب حقوق الآخرين لأن «بلوغ أعلى المنازل بغير استحقاق أكبر أسباب الهلكة»(2) . والهلكة التي يرمي علي علیه السلام إليها - كما نعتقد - هي الانهيارالأخلاقي الذي يصيب المجتمع بتفشي الرشوة والتفسخ الأخلاقي، وشيوع الفوضى والجهل بين من أنيطت بهم مسؤوليات بناء المجتمع لافتقارهم إلى الكفاءة التي تؤهلهم للقيام بمهامهم، ولاتقاء ذلك يرى علي علیه السلام أن من حق المجتمع عليك أن تدقق في الأمور وأن تضع كل شيء في موضعه المناسب بالأخذ والعطاء المتكافئين طبقاً للإمكانات المتاحة من علم وخبرة وإدراك واطلاع، بحيث يكون الدافع الداخلي هو المحرك لكل فرد في معرفة قدراته

ص: 449


1- راجع حكم - 297
2- ابن أبي الحديد - 20 / 287 ، 321

دون الميل إلى هوى النفس وذلك هو المؤهل الاجتماعي الحقيقي، كما نفهمه من قول علي علیه السلام«انظر ما عندك فلا تضعه إلا في حقه، وما عند غيرك فلا تأخذه إلا بحقه»(1) فقوله (عندك وعند غيرك) يعني العلاقة الاجتماعية الترابطية بين الفرد والمجتمع المتمثل في الغير، وهذه العلاقة - كما يتهيأ لنا من المقولة - لا تقتصر على النواحي المادية، بل تتعداها إلى جميع الحقوق الاجتماعية والاخلاقية.

والحقوق الاجتماعية والاخلاقية في فكر علي علیه السلام كما هي مبثوثة في النهج - متنوعة بتنوع أساليب الحياة. ومنها:

و- حق العلم:

العلم - في فكر علي علیه السلام - من الأمور العقلية التي تحتاج إلى ممارسة ومران دائمين، ومن حقه على الفرد صيانته من التدنيس، ورفعه فوق مستوى المادة، وعدم استخدامه في مضرة الآخرين، أو حتى اتاحته للذين يجهلون قيمته ولا يعرفون مدى خطورته، فيتخذونه سلماً للوصول إلى غاياتهم الدنيئة ويمكننا إدراك ذلك من قوله «لا تحدث بالعلم السفهاء فيكذبونك، ولا الجهال فيستثقلونك، ولكن حدث به من يتلقاه من أهله بقبول معهم... فإن لعلمك عليك حقا، كما ان في مالك عليك حقاً»(2)، فالعم بالنسبة للعالم، كالمال بالنسبة لأي انسان يمتلكه، يجب ان يراعيه بصيانته ووضعه في مواضعه السليمة التي لا تجلب للناس المضرة والشر. ومن حقوق العلم الأخلاقية أيضاً، حق العالم على المتعلم، وكما يبدو في فكر علي علیه السلام، فإن ذلك الحق يجب أن ينبع من ذات

ص: 450


1- ابن أبي الحديد - 20 / 287 ، 321
2- السابق

المتعلم باقتناعه بأهميته في عملية التحصيل فالتحصيل العلمي الخالص لوجه العلم - يجدر بطالبه أن يراعي حق من يأخذ عنه «بألا يكثر عليه السؤال، ولا يعنته في الجواب، ولا يغتاب عنده احدا، ولا يطلب عثرته...»(1) بالإضافة إلى تعظيمه وتوقيره، طالما صان ذلك العالم علمه وراعى فيه حدود الله.

حق الأمة وحق الوالي

لكن الحياة لا تستقر، والإنسان لا يطمئن، والأعراض لا تصان والعلم لا ينتشر إلا إذا ضمنت الحكومة حقوق الناس، وضمن الناس حقوق الحكومة، وتبدو هذه الحقوق المتبادلة من أهم الحقوق الأخلاقية في فكر علي بن أبي طالب علیه السلام، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «وأعظم ما افترض سبحانه من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية وحق الرعية على الولي فريضة فرضها الله - سبحانه - لكل على كل، فجعلها نظاماً لإلفتهم وعزاً لدينهم... فإذا ادت الرعية إلى الوالي حقه، وأدى الوالي إليها حقها عز الحق بينهم، وقامت مناهج الدين، واعتدلت معالم العدل... فصلح بذلك الزمان»(2) فالعمل بالدين، وانتشار العدل وصلاح المجتمع كلها عناصر خلقية، تعتمد في الدرجة الأولى على تبادل حقوق التزاميه تفرضها طبيعة الحياة على كلا الطرفين لأنهما يكملان بعضهما بعضاً ابتغاء الخير والسعادة للإنسان والإنسانية، وهذه الحقوق - كما يراها علي علیه السلام - هي:

ص: 451


1- السباق 20 / 273 ، 269
2- خطب -210 فقرة 2 وراجع أيضاً ضمن الخطبة ما سيؤول إليه المجتمع من انهيار في حالة تضييع الوالي لحق الرعية وتضييع الرعية لحق الوالي في نفس الفقرة

اولاً - حق الأمة على الوالي:

لن نعرض هنا الا للحقوق المتصلة اتصالاً مباشراً بالجانب الأخلاقي(1) ، المتمثل - أولا وقبل كل شيء - في وجوب تواضع الحاكم للمحكومين، وعدم الترفع عليهم وازدرائهم بالنظر إليهم من عمل بحكم مركزه السياسي، يقول علي علیه السلام بشأن الحقوق المفروضة على الوالي «أن لا يغيره على رعيته فضل ناله ولا طول خص به، وأن يزيده ما قسم الله له من نعمة دنوا من عباده وعطفا على إخوانه»(2) ويترتب على ذلك رفع الظلم عن كاهل المستضعفين برد الحقوق وإنصاف المظلوم والانتصاف من الظالم (3) ، دون اعتبار لقرابة أو صداقة أو محسوبية بإلزام «الحق من لزمه من قريب أو بعيد»(4) بالإضافة إلى ذلك فمن حق الأمة على الوالي إرشادهم بالنصيحة الخالصة، وإزالة الجهل من نفوسهم، وزرع الفضيلة ونشرها فيما بينهم (5) باللين والعطف أو بالقوة إن اقتضت الضرورة لذلك فإذا ما تأكدت تلك الحقوق من قبل الحكومة تجاه المحكومين، وجب على المحكومين في المقابل تأدية ما عليهم من الحقوق تجاه الحكومة.

ص: 452


1- لأننا عرضنا للحقوق من الناحية السياسية في ص 364 وما بعدها من هذا البحث
2- رسائل - 50
3- راجع الخطبة - 136
4- رسائل - 53 الفقرة 31
5- راجع الحقوق التي فرضها علي علیه السلام لرعيته على نفسه ضمن الخطبة 34 ، الفقرة 2

ثانياً - حق الوالي أو الحكومة على الأمة:

ويكمن ذلك الحق - كما يبدو في فكر الإمام علي علیه السلام - في ثلاثة بنود يجمعها قوله «الوفاء بالبيعة، والنصيحة في المشهد والمغيب والاجابة حين (يدعون) والطاعة حين (يؤمرون») (1) ذلك على أساس أن الحكومة قد أدت حقوقها وقامت بالتزاماتها تجاه الأمة.

فالحق بمعناه الخلقي في فكر الإمام علي علیه السلام - كما يبدو في نهج البلاغة واسع وعميق ومتعدد الميادين التي يصول الإنسان فيها ويجول، آخذاً في طريقه بجميع القيم الإنسانية التي يحتاجها الفرد كزاد يغذي الروح لتتمكن من الثبات بإحكام في مواجهة مغيرات الحياة، متفاعلة مع مجتمعها تفاعلاً ايجابياً يعود بالخير العميم على كل الشرائح الاجتماعية. ولكن لن يتأتى للعدل والحق أن يصانا إلا إذا جعلا من التقوى سياجاً لهما.

ثالثاً - التقوى:

يفسر المعجم اللغوي التقوى بالحذر والخوف (2) ، وهو بذلك لا يعطي للمعنى بعده الأخلاقي، اما المعنى الشرعي للتقوى فهو «حفظ النفس مما يؤثم بترك المحظور»(3) وهو تعريف يتفق مع التعريف الأخلاقي الحديث لهما، والمتمثل في القول بأنها «سلطة تطالب من اعماق القلب، بتقديم حسابات، ويقوم اساسها الأول ذو الجوهر الديني في النفس الإنسانية التي لا تنفك تنفذ

ص: 453


1- خطبة 34 الفقرة 2
2- راجع لسان العرب المحيط 3/ 971 ، المعجم الوسيطة 2/ 1052
3- الراغب الاصفهاني المفردات في غريب القرآن ص 833

وتراقب»(1) ، فالتقوى على هذا الأساس شعور داخلي تكمن فيه «قوة من غريب امرها انها تجمع بين هذه السلطات الثلاث: السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية والسلطة القضائية» (2) فعن طريق هذا الشعور تميز بين الخير والشر، وبها أيضاً تنزع إلى طريق الصواب، فبالتقوى يتمكن الفرد من الحكم على صحة الطريق الذي يسلكه في معاملات وتصرفاته، فهي تعاقب عقاباً معنوياً قوامه وخز الضمير، وتثيب ثواباً معنوياً أساسه الاطمئنان وراحة الضمير. فالتقوى بمفهومها هذا، أصل الأخلاق، فلو تصورنا أن القيم الخلقية مجموعة من الفروع والأعصان المورقة والمغدقة فإن التقوى ستكون لا محالة الجذع الذي تنبثق من أصوله تلك الأغصان وتتغذى منه، فهي الشريان الحيوي الذي يمد الأخلاق بالنبض ويجعلها في كفاح دائم ومستمر ضد كل أساليب الحياة الملتوية، في كل زمان، وفي أي مكان، لأنها «عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي، وفعل ما يستطاع من الطاعات... واتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن القوم»(3) فهي على ذلك ضابطة ومنظمة لحياة الإنسان في جميع نواحي الحياة الدنيوية، وإعداده لثواب الآخرة بتبصيره بالموبقات في الحياة الدنيا، وليس ادل على ذلك من قوله تعالى:

«لَیْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَکُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لکِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ الْیَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِکَهِ وَ الْکِتابِ وَ النَّبِیِّینَ وَ آتَی الْمالَ عَلی حُبِّهِ ذَوِی الْقُرْبی وَ الْیَتامی وَ الْمَساکِینَ وَ ابْنَ السَّبِیلِ وَ السّائِلِینَ وَ فِی الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاهَ

ص: 454


1- مارسيل بوازار - انسانية الإسلام ص 60
2- منصور وجب - تأملات فی فلسفة الأخلاق 228
3- محمد رشيد رضا - الوحي المحمدي ص 213

وَ آتَی الزَّکاهَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصّابِرِینَ فِی الْبَأْساءِ وَ الضَّرّاءِ وَ حِینَ الْبَأْسِ أُولئِکَ الَّذِینَ صَدَقُوا وَ أُولئِکَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»(1) . فالتقوى، كما عدد القرآن الكريم مناحيها - ايمان صادق وتضحية بلا حدود، وقيم أخلاقية شاملة، فهي شعور مختلط يكمن فيه الدين بجميع وأبعاده وقيمه. لذلك عدّها علي علیه السلام، هي والورع «مخ الإيمان... وهما من افعال القلوب»(2) لأنهما ينبعان من ذات الإنسان، وبهما يتمكن من موازنة حياته مع نفسه ومع الجماعة من حوله.

لقد ركز علي علیه السلام على التقوى كأساس لكل المعاملات الإنسانية والعلاقات الاجتماعية، حتى غدت من السعة والانتشار في نصوص النهج بحيث نشعر بنبضها ونحس حيويتها في كل تعبير أخلاقي حاول علي علیه السلام بثه في رعيته، وحض ولاته على الأمصار من خلاله، فوردت التقوى بصيغة الأمر المفرد والجمع، وبوصف قيمتها ومردودها الأخلاقي فيما يقارب من ثمانية وثمانين موضعاً (3) . وهو وإن لم يصف التقوى بالهيئة التي وصفها القرآن الكريم بها،

ص: 455


1- البقرة/ 177
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 347
3- راجع الخطب: 3 الفقرة 2، 16 الفقرة الأولى في موضعين، والفقرة الثانية، 24 ، 27 الفقرة الأولى، 32 الفقرة الثالثة، 40 الفقرة الاخيرة، 41 ، 63 في موضعين، 79 ، 82 الفقرة الثانية والسادسة في موضعين والثامنة والتاسعة والعاشرة، 93 ، 97 ، 109 الفقرة الأولى والثانية، 110 ، 113 الفقرة الثانية والثالثة والرابعة، 115 الفقرة الأولى، 119 ، 130 ، 132 الفقرة الثانية، 144 الفقرة الثالثة، 145 الثانية، 151 الثانية والثالثة، 158 الثالثة في موضعين، 162 الثانية 168 الرابعة، 175 الثالثة 178 السادسة، 184 الخامسة، 185 الثالثة في ثلاثة مواضع، 187 صدر الكلام في موضعين، 188 الثانية 189 الرابعة، 190 الثانية، 192 الثانية في ثلاثة مواضع والثالثة، 193 الثانية، 198،225،227 الأولى: 236 الأولى، 238 الثالثة، 239 الثالثة في ثلاثة مواضع 240 الثانية. ورسائل: 12 ، 25 ، 26 ، 27 ، الثانية 30 ، 31 الثالثة والسابعة، 32 ، 41 ، 45 الثانية والسابعة، 47 الأولى والثانية، 53 الثانية، 55 ، 56 . حكم: 93 ، 111 ، 201 ، 208 ، 241 ، 268 ، 350 ، 376 ، 377 ، 395 ، 418

إلا أنه قد عدّها علاجاً للقلب وللروح والجسد والنفس كما في قوله «فإن تقوى الله دواء داء قلوبكم وبر عمى أفئدتكم وشفاء مرض أجسادكم، وصلاح فساد صدوركم، وطهور دنس أنفسكم وجلاء عشاء أبصاركم، وأمن فزع جأشكم وضياء سواء ظلمتكم»(1) فباستيعاب دقيق وشامل قد ضمن التقوى في المعاني الإنسانية التي يحتاجها الفرد والمجتمع كزاد روحي هدفه السعادة والخير ونكران الذات، بتجنب الانانية والبغضاء والحسد على اعتبار انها علاج كل داء أخلاقي فردي كان أم اجتماعي، أما تركه لوصف فروع التقوى، وتركيزه على مفعلوها فلأن - كما نعتقد - يدرك ان من يستمعون إليه، يفترض فيهم معرفة معاني القرآن الكريم، لأنهم مسلمون، لذلك ترك أمر التفصيلات داخل التقوى إلى القرآن مركّزاً على آثارها الأخلاقية. فالتقوى هي «الفضيلة الأم التي تتكاثف فيها كل الوصايا»(2) الأخلاقية، كما تبدو في فكر علي علیه السلام، وهي أيضاً الأساس الذي يربط الإنسان بمختلف علاقاته الاجتماعية كما في قوله «لا يهلك على التقوى سنخ أصل ولا يظمأ عليها زرع قوم»(3) فهي منبع كل حقيقة أخلاقية، وهي المعول عليها في فكر علي علیه السلام، لبقاء شجرة القيم في ورائها وأصالتها، تظلل الإنسانية بفيئها، وتعتمد على عمقها في النفس لتثبيت كل ما

ص: 456


1- خطب - 192 - فقرة 2، جلا كشف واظهار - عشاء، يعشو، عشوا، ساء يصره ليلًا أو نهاراً، جأشكم - خوفكم
2- محمد دراز - دستور الأخلاق في القرآن ص 681
3- خطب 16 فقرة 2 - والنسخ الأصل والمثبت لكل شيء

هو خير، لذلك فإن انطماس معالمها في نفوس الناس، ينجر عنه تفشي النفاق، والضلال والزلل، والتلون والفتنة والكيد والحسد، فيحل الدمار والدموع والظلم والباطل بأساليبه المختلفة (1) وذاك هو الانهيار الحقيقي الذي ليس بعده قائمة، لأن «التقى رئيس الاخلاق»(2) والموجه لها والمتحكم في زمامها.

لقد عرض الإمام علي علیه السلام في خطبه ورسائله ووصاياه وحكمه لجميع القيم الخلقية من شجاعة، وصدق وامانة ووفاء وكرم وتواضع وحلم... إلا أنه قد جمع تلك القيم في العدل والحق اللذين يرتضعان من أم الأخلاق التقوى فجمعا معها كل المعاني الإنسانية والقيم الخلقية التي تهدف في الأساس إلى تنشئة الإنسان وتربيته تربية مثالية.

ص: 457


1- راجع خطب 118 فقرة 2
2- حكم - 418

ص: 458

الفصل الثالث: التربية ي فكر علي بن أبي طالب علیه السلام كما تبدو في نهج البلاغة

التربية ومراميها الأساسية

التربية عملية معقدة تتداخل ضمنها عدة علوم انسانية ترمي «الى مساعدة الطفل والمراهق والبالغ على تكوين شخصيتهم وتنميتها»(1) من حيث العقل والسلوك والوجدان والعلاقات الاجتماعية، وهي من وجهة نظر إسلامية، موازنة الفرد نفسه بين المطالب الدنيوية والمطالب الأخروية طبقاً لقوله تعالى:

«وَابْتَغِ فيِمَا آتَاَكَ الله الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا»(2) .

وذلك التوازن الدقيق يقتضي، بطبيعة الحال، تدريب ومران، على يد جهات عدّة، إذ لا يتأتى للفرد أن يعلم نفسه بنفسه، ولابد له على الأقل في البداية من يأخذ بيده ويضعه على الطريق، وذلك العمل من أولويات الواجبات التي تناط بالأسرة في الإسلام، فمن واجب الآباء أن يراعوا أبناهم في كل مرحلة من

ص: 459


1- يوسف خياط - معجم المصطلحات العلمية ص 261
2- القصص/ 77

مراحل نموهم، ويغذوهم بما يحتاجونه من زاد ثقافي وأخلاقي بما يتناسب كل مرحلة، فبصدد مراحل النمو وعلاقتها بالتربية يقول جعفر الصادق علیه السلام«يثغر الغلام لسبع، ويؤمر بالصلاة لتسع، ويفرق بينه في المضاجع لعشر، ويحتلم لأربعة عشرة سنة، ومنتهى طوله لاثنتين وعشرين سنة، ومنتهى عقله لثمان وعشرين سنة الا التجارب»(1) فالتربية كما نلاحظ متمشية مع نمو الفرد، بحيث لا تنفك عن مراقبته منذ طفولته الأولى حتى سن المراهقة، ومن ثم تزويده بالخبرات التي تمكنه من العيش في محيطه الذي ينشأ فيه، ذلك من ناحية السلوك الاجتماعي وعلاقته بتطور السن، الا ان السلوك لا يكون كافياً ما لم يكن مقروناً بالثقافة ومرحلية توصيلها، وهنا أيضاً يستوقفنا قول الإمام جعفر الصادق علیه السلام«الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلم الكتاب سبع سنين، ويتعلم الحلال والحرام سبع سنين»(2) وقد يبدو العلم في المقولة مقصوراً على العلوم الدينية، الا اننا بتوسعنا في الكلام عن التربية سنجد ان جده علي بن أبي طالب علیه السلام قد كان يعني بالعلم في مقولاته المتعددة جميع المعارف الدينية والدنيوية، فقوله «تعلموا العلم، ولو لغير الله فإنه يصير لله»(3) يعني به - كما نعتقد - جميع اصناف العلوم العقلية والنقلية، والتي إذا ما استخدمت لمصلحة الإنسان فهي لله سبحانه وتعالى. فالأهداف الأساسية في التربية الإسلامية تنشئة فرد متزن السلوك حسن الخلق صحيح الجسم سليم العقل مثقف، وفي مجال عمله على وجه الخصوص، وهذه المسؤولية الخطيرة كما تبدو في فكر علي علیه السلام- ليست قصرا على الأسرة وحدها، لأنه يرى - كما نعتقد - ان تهيئة الحياة السعيدة وإزالة

ص: 460


1- الكليني - فروع الكافي 6/ 46 ، 47 ، ويثغر - تسقط أسنانه لتنبت مكانها أسنان أخرى
2- المصدر السابق نفسه
3- شرح ابن أبي الحديد 20 / 267

الجهل من النفوس، والمحافظة على القيم، هي من حقوق الأمة التي يجب ان تلتزم بها الحكومة، ففي تبيانه الحقوق الملزم بأداتها تجاه من يحكمهم يقول «اما حقكم علي فالنصيحة لكم، وتوفير فيئكم، وتعليمكم كيلا تجهلوا، وتأديبكم كيما تعلموا»(1) فالتوجيه والتعليم والتأديب هي ركائز التربية التي الزم بها نفسه كحقوق واجب عليه الوفاء بها نحو الأمة، وللاهتمام البالغ الذي اولاه للتربية، فقد اعتبرها انبل الصناعات، على اعتبار أن «لكل شيء صناعة، وحسن الاختيار صناعة العقل»(2) أي تنشئة الإنسان بتنمية مداركه، وتقويم أخلاقه، منذ نعومة أظافره. ويمكن دراسة الجوانب التربوية - كما تبدو في نهج البلاغة - في عنصرين متكاملين، يهدفان إلى نتيجة واحدة غايتها الإنسان وسعادته.

العنصر الأول: وينصب على تنمية شخصية الفرد

بهدف بنائها بناء تكاملياً يتناسب وظروف العصر الذي يعيش الفرد فيه، انطلاقاً من قوله إلى الآباء «لا تقسروا أولادكم على آدابكم فإنهم مخلوقون لزمان غير زمانكم»(3) وهو لا يعني بمقولته بأن يترك الحبل على الغارب للأبناء كما يشاؤون متنكرين لأصالتهم، نابذين تقاليدهم، فالهدف الذي يرمي إليه علي علیه السلام من المقولة - كما نعتقد - هو محاولة الآباء التفاهم مع العصر الذييعيشه الأبناء بما يتماشى والتطورات العصرية التي تحدث فيه، شريطة عدم التنكر للأصالة، فإيمانه بمزايا تطور العصر فيه تربية الأبناء، لم يحجب رؤاه

ص: 461


1- خطب - 34 - الفقرة 2
2- شرح بن أبي الحديد 20 / 334
3- شرح بن أبي الحديد 20 / 267

الفكرية عن ان «من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه، وحنينه إلى اوطانه، وحفظ قديم اخوانه»(1) فالتطور - كما يبدو في فكر علي علیه السلام - يجب أن يكون نابعاً من الدخول مع الارتباط بالجذور، التي تمنح الإنسان هويته المتميزة من حيث التفرد بخصائص معينة تمنحه الاستقلالية، في الوقت نفسه الذي تمده فيه بميزات مشتركة مع بقية أبناء مجتمعه، تجعل منه فرداً عاملاً. فانسجام التمايزات الفردية مع الخصائص الاجتماعية العامة تجعل الفرد متوازنا من حيث متطلباته الفردية وضروراته الاجتماعية، إلا أن نصوص نهج البلاغة لا تمدنا بنظريات مباشرة ومحددة في مجال التربية المتخصصة بتنمية الشخصية، واعدادها للحياة، ولكن بتتبعنا لما ورد ضمن تلك النصوص من نصائح عملية تتصل بمسؤوليته كولي أمر لجميع عامة المسلمين، يمكن ان نستنتج كثيرا من المتطلبات التربوية التي تهدف إلى تنمية الشخصية تنمية متزنة، وأهم ما أمكننا التوصل إليه في الشأن يتمثل في أربعة محاور:

الأول - التربية البدنية:

يعطي الإسلام أهمية كبيرة جداً، لسلامة جسم الفرد، ويعتبرها من المميزات الرئيسية فيمن يناط به أي عمل، لاعتباره سلامة الأعضاء، وصحة جسم، احد عنصري الكفاءة والقيادة، وفي قوله تعالى:

«إنِّ الله اصْطَفَاهُ عَليْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِی الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ»(2) ما يوحي، بأن المؤهل لخدمة الناس يجب ان يتمتع بالكفاءة العلمية بمعناها الشامل

ص: 462


1- السابق 20 / 274
2- البقرة/ 247

بالإضافة إلى صحة الجسم وسالمة الاعضاء، لذلك فقد حرص الرسول صلی الله علیه وآله وسلم على إقران التربية الدنية بالتربية العلمية كما جاء في قوله صلی الله علیه وآله وسلم«حقُّ الولد على والده أن يعلمه الكتابة والسباحة والرماية»(1) ويعد الفقهاء المسلمون سلامة أعضاء الجسم وحواسه من الشروط الرئيسية التي يجب أن تتوفر فيمن يرشح لمنصب الخلافة (2) . واذا ما رجعنا إلى نهج البلاغة لنستفتيه بشأن التربية البدنية، فسنجد ان كل ما ورد فيه من نصوص تكاد تعالج الموضوع من نواح ثلاث هي:

أ- ناحية وقائية: يرمي الإمام علي علیه السلام من ورائها إلى تبصير الناس بكيفية المحافظة على اجسامهم من تقلبات الجو كما في قوله «توقوا البرد في أوله، وتلقوه في آخره، فإنه يفعل في الأبدان كفعله في الأشجار، أوله يحرق وآخره يورق»(3)

وقد بنى استنتاجه ذاك - كما يتهيأ لنا - من خلال تأملاته الطبيعية أثناء مباشرته العمل في زراعة الأرض، ورؤيته عن كثب أثر التقلبات الجوية في الطبيعة.

ب - ناحية نفسية: وتعالج ما أصاب المجتمع من هزات عنيفة جراء تدفق الثروات، والتي أدت بالفرد إلى التكالب على الدنيا باقتناء الضياع وجمع الأموال»(4) والنظر إلى ما في أيدي غيره من الناس(5) ، مما أشاع الجشع والحسد والحقد كأمراض نفسية تزعزع كيان الفرد وتحطم معنوياته من الداخل، لعدم قدرته على نيل ما يتمناه، مما يحيل حياته إلى جحيم دائم، وعذاب مستمر،

ص: 463


1- المتقي الهندي كنز العمال 6/ 443
2- راجع ص 170 - 171 من هذا البحث
3- حكم - 126
4- راجع ص 101 وما بعدها من هذا البحث
5- راجع خطب - 23 - فقرة 1

لابد من تأثيره على صحته وتصرفاته بتفشي السرقة (1) والرشوة، وارجع الإمام علي علیه السلام كل ذلك إلى الحسد الذي نبه إلى خطورته في مواضع متعددة من النهج من ذلك قوله «العجب لغفلة الحساد عن سالمة الأجساد»(2) وهو يرى في موضع آخر من النهج ان «صحة الجسد من قلة الحسد»(3) .

ج - ناحية عسكرية: وتتمثل وجهة نظر علي علیه السلام تلك، من تصور عميق لحالة الانهيار التي أشرف المجتمع عليها، جراء تمرغ أفراده في النعيم، ونبذهم الحياة الجادة وراء ظهورهم، بالتكالب على اقتناص الملذات، والجلوس حول الموائد المليئة بما لذ وطاب من المأكولات (4) ، والتهرب بكل الوسائل من الدفاع عن البلاد في حالة الدعوة لذلك (5) ، وفي نهج البلاغة من الأمثلة التي حاول علي علیه السلام من خلالها علاج هذه المشكلة بإثارة النخوة الإسلامية (6) وإرجاع روح الفروسية العربية إلى نفوس شغلها حب الحياة عن أداء الواجب. وأوضح نص تربوي يبين فكر علي علیه السلام العسكري، المبني على تربية الاجسام على الخشونة وتعويدها حياة القوة المقرونة بجشوبة العيش قوله لمن عاب عليه أسلوبه في المأكل والملبس «ألا وإن الشجرة البرية اصلب عودا، والروائع الخضر أرق جلودا، والنباتات البدوية أقوى وقودا، وأبطأ خمودا»(7) فالصورة تعني تعويد

ص: 464


1- راجع رسائل - 40 ، 41 ، 43
2- حكم - 223
3- حكم - 255
4- راجع رسائل - 45 - الفقرة 1
5- راجع على سبيل المثال خطب - 29
6- راجع علي سبيل المثال - خطب 27 ، 34 ، 96 ، 109
7- رسائل - 45 - الفقرة 3

الابدان الخشونة حتى تتمكن من التأقلم مع كل وضع، وتستطيع مواجهة غائلات الزمن بكل رحابة صدر وتتصدى لإغراءات المادة بكل حزم، اما النعيم والترف فيحيل الأجسام إلى لليونة والترف، فتميل إلى الدعة والاتكالية «فتذهب خشونة البداوة، وتضعف العصبية والبسالة»(1) فتكون النهاية الحتمية التي كان علي علیه السلام يحاول تجنيبها الأمة بتربية الأجيال تربية تعتمد البساطة أسلوباً، وهو وان لم يستطع التصدي للتيار الجارف، فقد ترك فكرا يمكننا عده زاداً تربوياً تنبني عليه أفكار الأجيال اللاحقة بما يتناسب وتطور الحياة.

الثاني - تربية عقلية:

شرف الله سبحانه العقل وأعلى من شأنه، وجعله من اعظم ما خلق من الأشياء، من ذلك ما رواه الكليني من حديث قدسي عن جعفر الصادق علیه السلام عن الرسول صلی السلام قال «لما خلق الله العقل أستنطقه ثم قال له اقبل، فأقبل، ثم قال له:

ادبر فأدبر، ثم قال له: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك، ولا أكملتك لا فيمن أحب، أما أني إياك آمر، وإياك أنهى، وإياك أعاقب، وإياك أثيب»(2) لذلك فقد أمرنا الله سبحانه بإعمال العقل للوصول إلى الإيمان به، كما ورد في قوله تعالى:

«قُلْ سِيرُوا فِی ال الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» (3) ، كما حثنا سبحانه

بالرجوع إلى العقل كما في قوله:

ص: 465


1- مقدمة ابن خلدون ص 176
2- الكليني - اصول الكافي 1/ 10
3- العنكبوت/ 20

«كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاَتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلوُنَ»(1) ، ويرى الرسول صلی الله علیه و آله أن قيمة الإنسان تكمن في حسن تصرفه وصلاح عقله، كما في قوله: «إذا بلغكم عن رجل حسن حالٍ فانظروا إلى حسن عقله فإنما يجازى بفعله»(2) لذلك اهتم آل البيت علیهم السلام بتربية العقل، على رأسهم الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام، فمن مأثوراته التي بين فيها صفات العاقل ما رواه الكليني «إن من علامة العاقل أن يكون فيه ثلاث خصال: يجيب إذا سُئل وينطق إذا عجز القوم عن الكلام، ويشير بالرأي الذي يكون فيه صلاح أهله، فمن لم يكن فيه من هذه الخصال الثلاث شيء، فهو أحمق»(3) ، فالعاقل على ذلك الأساس هو من يتمكن من العمل بجميع المزايا الإنسانية والأخلاقية ويتمكن أيضاً من تأدية التزاماته تجاه ربه وتجاه نفسه، وتجاه مجتمعه بصدق واخلاص، والعقل بكل ما اودعه الله فيه من طاقات وملكات لا حدود لها، فإنه يستطيع ان يمد الإنسان بالإرادة على فعل كل ما فيه مصلحته ومصلحة من حوله، شريطة ان يراعي بالتنمية وبالتوجيه السليم الذي يعود على الفرد وعلى المجتمع بالصلاح والسداد، لذلك فقد جعل علي علیه السلام للتربية العقلية مكانة في فكره التربوي، من ذلك انه اعتبر العقل وبطريقة عملية الموجه الحقيقي الصادق لكل تصرفات الإنسان المتعلقة بوجوده وبجميع شؤون حياته. فالعقل - في الإمام فكر علي علیه السلام - موجه عادل ومتزن فهو «لا يغش من أستنصحه» (4) وبالتالي فإن العقلانية هي السمة التي

ص: 466


1- الروم / 28
2- الكليني - أصول الكافي 1/ 12 - أي يجازى بأعماله بقدر عقله، فكل من كان عقله أكمل، كان ثوابه اجزل
3- السابق 1/ 19
4- حكم - 289

تميز الإنسان عن سائر الحيوانات، لأن العقل يتعلم ويتعظ بالآداب «والبهائم لا تتعظ الا بالضرب»(1) فالتهذيب والتعليم بالكلام وبالممارسة يجديان فيمن يُعمل عقله ويتأمل في الأشياء ومردوداتها، فيكون تعامله معها مبني على أسس موضوعية قوامها التفكير المتأني المتعقل، فالعقل كما يراه علي علیه اسلام، هاد ودليل (2) يمكن الاعتماد عليه في جميع مسالك الحياة، فهو يؤدي إلى الإيمان القوي الراسخ بالخالق سبحانه، فيما لو أعمل الإنسان عقله، وتأمل فيما حوله، واستبطن ذاته، وتفكر في نشأته، ونشأة الكون من حوله، وقد استخدم علي علیه اسلام في كثير من نصوص نهج البلاغة، الأساليب المثيرة للتفكير والداعية للتأمل (3) ، كوسيلة من وسائل التربية المؤدية إلى الإيمان من ذلك قوله في نشأة الإنسان «أيها المخلوق السوي، والمنشأ المرعي في ظلمات الارحام، ومضاعفات الاستار، بدئت من سلاله طين، ووضعت في قرار مكين إلى قدر معلوم... فمن هداك لاجتراء الغذاء من ثدي مك؟ وعرفك عند الحاجة مواضع طلبك وإرادتك...»(4) ، والإجابة عن الاسئلة تقتضي التفكير الموصل لا محالة إلى وجود خالق مدبر، يجدر بالإنسان شكره وطاعته والإيمان به، وهي زاوية من زوايا التربية العقلية في فكر علي علیه السلام.

ونظرة الإنسان إلى نفسه بعين العقل والتفكير، قبل الإقدام على أي عمل، والوقوف عند المجهول دون حيرة أو تردد (5) ، كل ذلك يجعل من الفرد قوة

ص: 467


1- رسائل - 31 - الفقرة 24
2- راجع على سبيل المثال: رسائل 78 ، حكم 38 ، 96 ، 289
3- راجع علي سبيل المثال خطبة - 220 - وما تضمنته من اسئلة تأملية
4- خطب - 164 فقرة 3
5- راجع رسائل 31 - الفقرة - 4، 7

دافعة تكبح الشهوات، وتنأى بالنفس عن المزالق، فمن مستلزمات انسانية الإنسان ان يحذر في كل تصرف إزاء نفسه وإزاء غيره «حذر الغالب لنفسه، المانع لشهوته، الناظر بعقله»(1) لأن الاستجابة لنداء النفس شهوة، والشهوة نوع من أنواع العشق «ومن عشق شيئاً أعشى بصره، وأمرض قلبه، فهو ينظر بعين غير صحيحة، ويسمع بأذن غير سميعة، قد حرقت الشهوات عقله»(2) ، وحتى بتفادى الإنسان ما تجلبه النفس من وبال الشهوات، عليه ان يقمعها، ولن يتأتى ذلك - كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام التربوي - الا بالاعتماد على هدي العقل، إذ يقول «كفاك من عقلك ما أوضح لك سبيل غيك من رشدك»(3) .ومعيارية العقل في فكر علي علیه السلام التربوي، ترى ان بإمكان الفرد ان يتفاعل مع مجتمعه ويعيش مع جميع فئاته عيشة يسودها الحب والاحترام إذا ما عول على فكره في تكوين علاقاته، واضعاً في اعتباره امكانية التعامل مع كل فرد بحسب مستواه العقلي، وتتمثل وجهة نظر علي علیه السلام حول تلك الفكرة في ان «التودد نصف العقل»(4) .

وواقع الحياة كما يبدو في فكر علي علیه السلام - سعي انساني دؤوب من أجل العيش الكريم، في ظل علاقات متكاملة بين المخلوق وربه، وبين الفرد ونفسه، وبين الفرد ومجتمعه، ثم ان الفرد محتاج أثناء رحلته الحياتية الشاقة - إلى جانب من الراحة الجسمية والعقلية، لدفع الملل والسأم والرتابة عن حياته، ويمكن

ص: 468


1- خطب - 162 فقرة 3
2- خطب - 108 - فقرة 3
3- حكم - 429
4- حكم - 140

للإنسان تهيئة متطلباته تلك تهيئة سليمة وعادلة بإعمال العقل، ونستطيع استخلاص ذلك من قوله «ليس للعاقل ان يكون شاخصا الا في ثلاث، مرمة لمعاش، أو خطوة في معاد، أو لذة في غير اثم(1) .وخلاصة التربية العقلية - كما تبدو في فكر علي علیه السلام - ان على الإنسان ان يحرص على استغلال كل طاقاته الفكرية للتفاعل مع مجتمعه بالمساهمة البناءة والإفادة من تجارب الآخرين إفادة عملية، لأنه يرى ان «العقل حفظ التجارب، وخير ما جربت ما وعظك» (2) أي ما أفدت منه، فالعقل العالم العامل، هو الحريص على الإفادة من كل ما اكتسبه من الحياة من تجارب و «الشقي من حرم نفع ما أوتي من العقل والتجربة » (3) . فالتربية الجسمية والتربية العقلية هما العنصران الرئيسيان لبناء الشخصية - كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام التربوي لأن العقل السليم في الجسم السليم، وإذا ما أتيح للعقل أن يعمل فإنه سيكون أرضاً خصبه للتربية العلمية.

الثالث - تربية علمية:

يضع الإسلام العلم في منزلة سامقة، لما له من أهمية في حياة الأفراد والأمم، وتتجلى هذه الأهمية في أن آية نزلت من السماء، قد اسندت العملية التعليمية إلى الله سبحانه وتعالى في قوله:

ص: 469


1- حكم - 396 - المقطع الثاني
2- رسائل - 31 - فقرة 22
3- رسائل - 78

«اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ»(1) .ولأهمية العلم في حياة البشر فقد كرم الله العلماء، ورفع من مكانتهم لقوله تعالى لا:

«يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ»(2) .الدرجات جعلت مقارنتهم بغيرهم من بقية الناس في غير مكانها لقوه تعالى:

«قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ»(3) وبطبيعة الحال فإن الاستفهام في الآية يتضمن نوعاً من التهكم، مما يعني ضمنا تعذر المقارنة بين منزلة العالم وغيره من بقية الناس، لأن المسؤولية المناطة بالعلماء جداً خطيرة في جميع مجالات الحياة، لكونهم العقل المدبر الذي يخطط لجميع ميادين الحياة، بحيث يمكن عدّهم صناع الحضارة والقادة الحقيقيين للبشرية وبناة العقول الذين يعول على علمهم في انتشال العقول من براثن الجهل ووضع الإنسانية على الطريق الصحيح، لذلك فقد عدهم الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«ورثة الأنبياء»(4) والوراثة العلمية أغلى وأندر من جميع الموروثات المادية الآيلة إلى الزوال حتما مهما طال مكثها وبقي اثرها، وبسبب اهتمام الإسلام بالعملية التعليمية، فقد حاول العلماء المسلمون وضع الخطوط الرئيسية للمزايا والشروط التي يجب ان تتوفر في شخصية العالم الحق، مستلهمين ذلك من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، وما أثر عن الصحابة والتابعين من اقوال وافعال، واهم هذه الشروط هي:

ص: 470


1- العلق / 3، 4، 5
2- المجادلة / 11
3- الزمر/ 9
4- سنن ابن ماجة 1/ 81

1- النأى بالنفس عن حب الظهور، وتجنب الاطراء «إذ ينبغي ان يكون تعليمه لوجه الله تعالى، لا يريد بذلك رياء ولا رسما ولا عادة ولا زيادة ولاجاه»(1) .

2- نبذ التكبر عامة وتجاه المتعلمين على وجه الخصوص «بإجراء المتعلم منه مجرى بنيه»(2) .

3- عدم الجري وراء المادة والتكالب على حب المال «بقطع الطمع عن المتعلمين والرفق بهم في التعليم والتواضع لهم والعطف عليهم وتقريب الفقير لفقره»7(3) .

4- الإخلاص في التعليم بأن «لا يدخر نصحه عن المتعلم، وزجره عن الأخلاق الردية بالتعريض أو التصريح، ومنعه أن يتشوف إلى رتبة فوق استحقاقه» (4) .

5- اطلاعه الواسع في أساليب التربية والعمل بكل أسلوب في موضعه، فلا يقيم أسلوب التصريح مقام أسلوب التعريض، ولا الفعل موضع القول إذا كان القول يجدي، ويأتي بالثمرة المطلوبة (5) .

6- مراعاة متطلبات الوضع وحاجة المجتمع، إذ ينبغي من العالم ان يكون ملماً بحاجات العصر، فيوجه المتعلمين الوجهة الصحيحة، بالأساليب المقنعة مع الوضع في عده «ما يهم الطالب في الحال اما معاشه أو معاده، ويعين له ما

ص: 471


1- طاش كبرى زادة مفتاح السعادة 1/ 39 ، 40
2- طاش كبرى زادة مفتاح السعادة 1/ 39 ، 40
3- السابق 1/ 41 ، 42
4- السابق 1/ 41 ، 42
5- راجع السابق 1/ 42

يليق بطبعه من العلوم»(1) .

7- الإلمام التام بأساليب العملية التعليمية من حيث التدرج في توصيل المعلومات بحسب السن، وبحسب المستوى الثقافي، والتقبل الفكري(2) .

8- الاتزان الشخصي بعدم مخالفة القول للفعل، لأن العالم قدوة لذلك يجب ان تكون «عنايته بتزكية اعماله أكثر منه بتحسين علمه ونشره »(3) .

9- ضبط النفس وكظم الغيظ، وتجمل خرق المتعلمين، ومحاولة توصيل المعلومات لهم بالإعادة لهم والشرح، مع مراعاة مستوياتهم الإدراكية (4) .

تلك اذن هي خلاصة الشروط التي يجب ان تتوفر في المتصدر لتعليم الناس في الفكر الإسلامي. واذا ما حاولنا استفتاء فكر علي علیه السلام بشأنها، فلن نجد في نصوص نهج البلاغة ما يوضح ذلك مباشرة، لأن علياً علیه السلام قد تكلم عن التعليم بخطوط عريضة ترسم لنا فكره الذي يمكننا من خلاله استنتاج، إن سياسته التربوية ما هي إلا جزء لا يتجزأ من سياسته العامة في إدارة شؤون الدولة، بحيث لا يمكن الفصل بين أقواله وبين المجتمع الذي قبلت فيه، لتوحد شخصيته، واندماجها في ذلك المجتمع ومعايشتها مشاكله بكل أبعادها، لذلك فإن شخصية العالم في فكر علي علیه السلام - كما تبدو في نهج البلاغة يمكن إدراك ملامحها وتكوين فكرة شبه متكاملة عنها من خلال وصفة لإيجابيات عصره وسلبياته.

فمن حديثه عن صفات المتقين الذين يعول عليهم في هداية الناس وتبصرهم

ص: 472


1- السابق 1/ 43
2- راجع السباق ص 44
3- السابق 1/ 48
4- راجع السابق 1/ 51 وما بعدها

بشؤونهم الدينية والدنيوية يقول «فمن علامة أحدهم، انك ترى له قوة في دين، وحزما في لين، وإيماناً في يقين، وحرصا في علم، وعلما في حلم»(1) ومن الملاحظ ان قوة الدين تجعل الفرد تقياً ورعاً يبذل علمه لكل من يطلبه دون الجري وراء شهرة، ثم ان الحزم المشوب باللين يجعل تربيته للمتعلمين متوازنة لا هي إلى الافراط تميل ولا إلى التفريط ترجح، والايمان اليقيني بقدرته تجعله في موضع حصين عن النقد والتجريح، لأنه سيعتمد على تلك القدرة المؤمنة في التوصيل، دونما تحميل نفسه فوق طاقتها، وجعلها موضع اتهام وإزدراء المتعلمين، كما ان الإيمان بمحدودية طاقة النفس يشعرها دائماً بالنقص، مما يؤدي بها إلى الحرص الدائم على الجري نحو الكمال في طلب العلم، والجري وراء الاستزادة شعور بالنقص، مما يؤدي بدوره إلى التواضع، وهنا تستوقفنا مقولة لعلي علیه السلام تتعلق بشخصيات العلماء وعلاقتها من حيث التكبر والتواضع بالانتماء الاجتماعي وهي ان «السفلة إذا تعلموا تكبروا... والعلية إذا تعلموا تواضعوا»(2) وهي لا يقصد بالسفلة والعلية - كما نعتقد - انه يضع سلما اجتماعيا يصنف به الناس إلى درجات تفاضلية، لأن السفلة في السياق تعني (الانتهازيين)، ذوي النفوس المريضة، والإيمان المتزعزع، الذين يجعلون من العلم وسيلة يركبونها للوصول إلى مآربهم الشخصية، وغاياتهم الدنيئة، وهؤلاء من وجهة نظر علي علیه السلام ليسوا بعلماء الا في مفهوم أشباه الناس(3) ، وهم أولئك الذين لا يفقهون معنى العلم، ولا يدركون ابعاده وخطورته، لأنهم ينبهرون بالتشدق بالعبارات الرنانة الغامضة، التي تبلغ بالفرد المدعي من الغرور غاية لا «يرى من وراء

ص: 473


1- خطب - 187 - فقرة 3
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 290
3- راجع - خطبة 17 - الفقرة الثانية

ما بلغ مذهبا لغيره، فإن اظلم عليه أمر اكتتم به، لما يعلم من جهل نفسه»(1) فالغرور والاصرار على الخطأ كما يقول علي علیه السلام - يجعلان من «العالم المتعسف شبيه بالجاهل المتعنت»(2) والتعنت جماع من مساوي الأخلاق، المتمثلة في التكبر، والتسلط والاصرار على الخطأ والتمادي في طريقه، وعدم الشعور بالنقص للاستزادة، كل تلك المساوئ تجعل المتعلم ينبذ العالم وعلمه.

والتعويل على العالم وعلمه في فكر علي علیه السلام من المهمات الأساسية في الحياة الإنسانية، إذ يستطيع العالم إذا ما أخلص لعلمه، أن يجعل منه منقذا وهادياً في مجال تخصصه، أما زلته فيعدها «كانكسار السفينة تغرق ويغرق معها خلق»(3) فالعالم واستعماله علمه استعمالاً قويماً - مع إدراك تام منه بمسؤولية العملية التعليمية - في اعتبار علي علیه السلام، من أولويات مقومات الدين والدنيا الأربعة، ويمثل ذلك قوله «قوام الدين والدنيا بأربعة: عالم مستعمل علمه، وجاهل لا يستنكف ان يتعلم، وجواد لا يبخل بمعروفه، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا ضيع العالم علمه، استنكف الجاهل أن يتعلم، وإذا بخل الغني بمعروفه، باع الفقير آخرته بدنياه»(4) . وتضييع العالم لعلمه، يتمثل في بذله لمن لا يستحقه، وتمريغه على اعتاب السلاطين جرياً وراء الشهرة والمال، والبخل به على محتاجيه من بقية الناس، واستغلاله في تدمير الإنسانية، وتلك الصفات هي التي غلبت

ص: 474


1- السابق الفقرة نفسها
2- حكم - 328
3- شرح ابن أبي الحديد 20 / 343
4- حكم - 378

على علماء عصره وشكلت خطراً مخيفاً على المجتمع (1) فخوف علي علیه السلام على الأمة في عصره لم يكن مما اعلن عن اعدائه ووضع سيفه على عاتقه جرياً وراء المركز والمادة، فإن مثل ذلك عدو ظاهر لا تخشى غائلته ويمكن صده، ولكن الذي يخاف منه ولا يمكن معرفته بسهولة ورد كيده في الحال هو «كل منافق الجنان عالم للسان»(2) مما يعني ان شخصية العالم هي التي توجه العلم وترسم طريقه، ونعتقد أن لعنصر المادة دوره الكبير في تشكيل أخلاق العلماء في عصر علي علیه السلام، مما حدا به إلى عقد مقارنة بين قيمة العلم، وقيمة المال، وكأنه يريد من رواء تلك المقارنة، أن يطهر شخصية العالم من دون المادة ولينأى بعلمه عن كل منزلق لا أخلاقي، وضمن هذه المقارنة يقول «العلم خير من المال، العلم يحرسك وانت تحرس المال، والمال تنقصه النفقة، والعلم يزكو بالإنفاق، وصنيع المال يزول بزواله»(3) فالمال في فكر علي علیه السلام - كما يظهر - مقود، والعلم هو القائد، لأن المال عادة ما يكون بيد مالكه، يمكنه صرفه حيث يشاء وكيف يشاء، بالإضافة إلى أنه عرض زائل لا يمكن للإنسان المحافظة عليه أو صيانته مهما بلغ حذره، أما العلم الحقيقي، فهو الذي يخلق صاحبه، ويبنيه بناء داخلياً يجعل منه انساناً يستطيع أن يخلق ويبتكر، فيضفي على الإنسانية الحياة، فكلما كان استغلاله لعلمه قوياً كلما اتسع افقه، فنشر العلم وبذله يزيده نماء بلا حدود.

ويضع الإمام علي علیه السلام سلطان العلم في مواجهة سلطان المال ويعقد مقارنة بينهما يبين من خلالها أثر كل منها في تشكيل شخصية الفرد فيقول «معرفة العلم

ص: 475


1- ذكر ابن أبي الحديد في شرحه 4/ 63 بعضا ممن باعوا علمهم على معاوية من الصحابة والتابعين
2- رسائل - 27
3- حكم 145 الفقرات 2، 3، 4، 5

دين يدان به، يكسب الإنسان الطاعة في حياته، وجميل الأحدوثة بعد وفاته، والعلم حاكم، والمال محكوم عليه... هلك خزان الأموال وهم احياء، والعلماء باقون ما بقي الدهر، اعيانهم مفقودة، وامثالهم في القلوب موجودة»(1) فاعتباره العلم دين، يقتضي من العالم ان يجمع في شخصه كل ما يعنيه الدين من معان سامية خاصة وان «فضل العلم خير من فضل العبادة»(2) كما يقول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم مما يعني ان العالم بمكانته في المجتمع وتأثيره في حياة الناس، افضل من المتعبد القابع في زاوية، همه طلب النجاة لنفسه بالصيام والقيام، فمكانة العالم وشخصيته تكمنان في علمه، وهو الذي يحدد قيمته ومركزه الاجتماعي الذي يبقى فيه مادام مخلصاً لعلمه، وتدوم استمراريته بعد وفاته فيما ترك من فكر مصان بالأخلاق ومحاط بالرعية ممن يحملونه عنه فيستمر في الزكاء بالتنقل في الزمن بين الاجيال. فالمقارنة بين الفكر والمادة - عند علي علیه السلام - متولدة من حاجة ماسة إلى علماء يستطيعون اداء واجباتهم التعليمية بإخلاص، وذلك بعد أن قاست نفسه آلام الغربة في مجتمع لم يضع معظم علمائه القيمة الحقيقة للعلم، ولم يحاولوا صيانته، فعلى سبيل المثال باع بعض العلماء والمحدثين فتاواهم (3)

ص: 476


1- حكم 145 الفقرات 2، 3، 4، 5
2- الماوردي - أدب الدنيا والدين ص 38
3- من ذلك ما روي، ان معاوية بن أبي سفيان قد «بذل لسمرة بن جندب مئة الف درهم حتى يروي ان هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب علیه السلام «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْاَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَ يُحِبُّ الْفَسَادَ»البقرة/ 204 ، 205 ، وان الآية الثانية نزلت في ابن ملجم، وهي قوله تعالى «ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله »... البقرة/ 207 ، فلم يقبل، فبذل له مائتي الف درهم فلم يقبل، فبذل له ثلاثمائة الف فلم يقبل، فبذل له اربعمائة الف فقبل، وروي ذلك شرح ابن أبي الحديد 4/ 73

وسخروا علمهم إلى من يريده بالقدر الذي يناولونه من امواله.

ومن أهم مميزات شخصية العالم في فكر علي علیه السلام - أن يكون عاملاً بعلمه، لأن العلم والعمل - من وجهة نظره - قرينان متلازمان، إذ لا جدوى من علم لا يستفاد منه، فالعلم كما يراه علي علیه السلام«يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل»(1) إذ لا جدوى ولا طائل من كون العالم حافظاً للتجارب، عارفاً بتفاصيلها، ملماً بدقائقها، وانما العالم الحقيقي من استفاد وأفاد، وانتفع ونفع، وتمكن من تطبيق علمه، ويمكن استخلاص ذلك حسب فهمنا - من قول علي علیه السلام«وناظر قلب اللبيب به يبصر أمده، ويعرف غوره ونجده»(2) . ويرى علي علیه السلام ايضا، انه لا جدوى على الإطلاق من عمل بغير علم، وتتمثل وجهة نظره تلك في ان «العامل بغير علم كالسائر على غير طريق، فلا يزيده بعده عن الطريق الواضح الا بعداً عن حاجته، والعامل بالعلم كالسائر على الطريق الواضح »(3) .

فالتربية العلمية في فكر علي علیه السلام تهدف إلى جعل العالم والمتعلم مثالاً متكاملاً من حيث العطاء والأخذ في جميع ميادين الحياة العملية والأخلاقية والإنسانية، على أساس أن العلم هو المحور الذي به تستقيم الحياة وتنمو ولا يمكن أن يتطور ويثمر الا إذا صانته أيد أمينة ووجهته نحو خير البشرية، لذلك فقد كان حريصاً كل الحرص على تعليم الناس، وحثهم على سؤاله في كل وقت فلم يكن «أحد من الناس يقول سلوني غير على بن أبي طالب»(4) ، وقد كان دائمًا يطلب المزيد، فحين

ص: 477


1- حكم - 372
2- خطب 154 - فقرة - 1
3- خطب 154 - فقرة، 3
4- ابن عبد البر - جامع بيان العلم وفضله 1/ 114

سأله بعض الصحابة عن السبب في غزاره علمه قال «كنت إذا سألت أعطيت، واذا سكت ابتديت، وبين الجوانح علم جم فاسألوني»(1) ، فقد كان مثال شخصية العالم والمتعلم الذي يريد من العلماء الاحتذاء حذوه بإثراء العقل وتزويده بالعلوم والخبرات على الدوام، وبذل العلم في كل وقت لمن طلبه وسار نحوه.

الرابع - تربية إنسانية:

نعني بالتربية الإنسانية، كل العناصر التربوية التي تهدف لانتشال الإنسان من مهاوي الخوف والسمو بالنفس وصيانة الكرامة والتبصير باساليب الحق، والتربية الإنسانية - في فكر علي علیه السلام - بمفهومها الذي نهدف إلى تسليط الضوء عليه، هي في الحقيقة جانب من جوانب فكره الأخلاقي المتوحد، مع نظرته المؤمنة بقيمة الإنسان كمخلوق حر، محفوظ الكرامة مصان الحقوق، سواء اكان مسلماً أم كافراً، عربياً أم أعجمياً، قرشياً أم غير قرشي، وقد ركز علي علیه السلام تركيزاً بالغاً على هذا الجانب التربوي، كل ذلك في محاولة منه لكسر حاجز الخوف، الذي فرضته قريش على بقية العرب(2) بتسلطها واستئثارها، ومن ثم امتهان العرب واحتقارهمللأجناس غير العربية الأخرى (3) ، على اعتبار فضلهم في نشر الإسلام، وفي طرق ثالث تسلط المسلمين على غير المسلمين (4) من الأجناس الأخرى واعتبارهم رقيق ارض فاستحال المجتمع إلى نظام هرمي، تتسلط فيه كل فئة على الاخرى،

ص: 478


1- تفسير الفخر الرازي 31 / 221
2- بشأن حالة العناصر المكونة للمجتمع في عصر علي علیه السلام وعلاقتها بعضها ببعض راجع هذا البحث ص 371 وما بعدها
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه

مما ولد التكبر والازدراء والاحتقار والاستغلال في مقابل الخضوع والاستكانة والخوف، فالعلاقات الإنسانية لم تعد مبنية على أسس من المساواة والحب، بل على الاستبداد والاستغلال التدرجي كل حسب منزلته الاجتماعية، فامتهنت كرامة الإنسان، وضاعت حقوقه، وأخذت المبادئ الإسلامية في التراجع، لتحل محلها الرغبات الذاتية. عاش علي علیه السلام هذه المشاكل بكل أحاسيسه، وكان يشعر في قرارة نفسه أنه لا بد من مواجهة التيار إذا ما أريد أن تعود للإسلام نصاعته، بتنبيه الأمة إلى الخطر المحدق بها، ومحاولة الرفع من المعنويات وبث روح النخوة والحماس، وقد أكثر من مثل تلك الأساليب في خطبه الجهادية (1) ، وما تقريعه المستمر لأصحابه بسبب تقاعسهم عن صد غارات معاوية (2) ، وتنصلهم من القيام بواجب الجهاد، إلا صورة من صور التربية الإنسانية التي كان المجتمع في مسيس الحاجة إليها في عصره، إذ يمكننا من خلال تعمقنا في فهم مضامين هذه الخطب أن نعيش آلام علي علیه السلام النفسية بسبب ما أصاب المجتمع من تخاذل وجبن واتكالية، فمن باب التقريع واللوم بقصد إثارة الحمية وبث الحماس، والتبصير بقيمة الإنسان الحقيقية يقول «أيها الناس، لو لم تتخاذلوا عن نصر الحق، ولم تهنوا عن توهين الباطل، لم يطمع فيكم من ليس مثلكم، ولم يقو من قوي عليكم»(3)

ص: 479


1- راجع على سبيل المثال خطب 25 ، 27 ، 29 ، 34 ، 51 ، 55 ، 67 ....
2- هي حروب خاطفة شنها معاوية على اطراف البلاد الخاضعة لحكم علي علیه السلام، وكان ذلك بعد القفول من صفين واختلاف الحكمين، وكان قصد معاوية من ورائها بث الرعب والفزع في أصحاب علي علیه السلام وشغلهم عن الالتفاف حوله حتى لا يعود لمحاربته مرة ثانية، وبشان هذه الغارات وما احدثه فيها أصحاب معاوية من قتل ونهب ودمار، راجع: البلاذري - انساب - الاشراف - 2/ 437 وما بعدها
3- خطب - 167 - فقرة 3

فكما يرى علي علیه السلام، فإن انهزامية نفوس أصحابه لم تتولد عن قوة العدو المقابل، لأن ذلك العدو لم يكن في قوتهم، ولكنها متولدة من تراجع النفوس عن قيمتها الاصلية في معرفة الحق والتصدي للباطل فخلاصة التعبير أن علياً علیه السلام كان يريد ان يعيد إلى أصحابه الثقة في أنفسهم ببنائها بناءً انسانياً يقتضي معرفة الإنسان لقيمته الذاتية دون الاعتماد على الغير في تقييمها حسب معايير اجتماعية متميزة، تتناسب والمصلحة الشخصية لذلك الغير، ومحاولة بناء شخصية الإنسان، وتربيته تربية أخلاقية تقوم على المبادئ والقيم، في العصر الذي استخلف علي علیه السلام فيه، هي من أعسر الأمور التربوية وأصعبها، لا لكون القيم الإنسانية التي نادى علي علیه السلام بها غريبة على مجتمعه أو جديدة عليه، ولكنها في مجملها تتعارض والتطلعات المادية التي جلبتها الفتوح، فركن الإنسان إلى الدعة وانطفأت في نفسه جذوة الفروسية، ولم يعد يعبأ بالجهاد الذي اعتبره الإسلام من أوجب واجبات الإنسان المسلم، فالمادة قد هدمت ما بناه الإسلام، ومنطق العقل يرى أن الهدم أيسر وأسرع من البناء، خاصة إذا كان ذلك البناء يتعارض وتطلعات الإنسان الذاتية، فإنسان عصر علي علیه السلام، يدرك تماماً أن ما يرمي إليه علي علیه السلام من إصلاح هو الصواب، ولكن ذلك الادراك لا يعدو ان يكون ومضات سريعة، يعدو بعدها إلى الانجذاب نحو بريق المادة والركون إلى حياة الدعة والراحة، مما يحيل القيم الأخلاقية إلى عبء ثقيل، وهذا بدوره يجعل محاولة اعادة بناء تلك القيم وزرعها في النفوس عسيراً جداً، ويفهم ذلك من التوبيخ الحاد الذي طالما وجهه علي علیه السلام لأصحابه كما في قوله «قبحاً لكم وترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم ولا تغيرون، وتُغْزَون ولا تَغْزُون، ويعصى الله وترضون، فإذا أمرتكم بالسير إليهم في أيام الحر، قلتم:

هذه حمارة القيظ، أمهلنا يسيخ عنا الحر، وإذا أمرتكم بالسير إليهم في الشتاء قلتم:

هذه صبارة القر، أمهلنا حتى ينسلخ عنا البرد، كل هذا فرارا من الحر والقر،

ص: 480

فإذا كنتم من الحر والقر تفرون، فأنتم، والله، من السيف أفر»(1) فعلى عهد الرسول صلی الهعلیه و آله وإبان الفتوحات الإسلامية على عهد أبي بكر وعمر، لم تكن العوامل الطبيعية لتحول بين الفرد المسلم والجهاد، ولكن الركون إلى الدعة هو الذي أدى به إلى ذلك الاتجاه، فلم يعد يعرف معنى الكرامة التي تدفعه للذود عن حياضه وصيانة مبادئه، مما أحال كثيراً من أساليب التربية الإنسانية - عند علي علیه السلام - إلى ضربات عنيفة، حاول بها استنهاض الفرد بإثارة مشاعرة، ومحاولة تحسيسه بقيمته كإنسان(2) ، مع تجنبه كثيراً من السلبيات التي - قد يعدها - بعض ساسة عصره من أساسيات البناء، فعلي علیه السلام لم يرض لنفسه بأن تكون أساليبه التربوية مشادة على التناقضات والزيف، لأنه يتعامل مع الواقع بشخصية واحدة ترمي إلى اقناع الإنسان بإنسانيته من داخل نفسه، بدون تغذيتها بأية عناصر خارجية تضفي عليها نوعا من الطلاء الخارجي الزائف. على اعتبار ان البناء الحقيقي للفكر الإنساني الحر لا يمكن ان يكون في اتجاهين مضادين، وبمعنى اوضح، فإن الاصلاح لا يمكن أن ينبثق من نفس فاسدة، إلا إذا كان زيفاً، من ذلك قوله لأصحابه «إني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم، ولكني لا أرى إصلاحكم بإفساد نفسي»(3) .

وإذا ما تركنا جانباً التربية الإنسانية في خطب علي علیه السلام الجهادية، وبحثنا عنها في

ص: 481


1- خطب - 27 فقرة 2. تَرَحاً - بالتحريك - أي هماً وحزناً، والغرض - ما ينصب ليرمى بالسهام ونحوها، ويعصى الله - اشارة إلى ما ان يفعله جيش معاوية من نهب وسلب وقتل في المسلمين والمعاهدين، حمارة القيظ - بتشديد الراء - شدة الحر، يسيخ بالخاء المعجمة يخف، صبارة الشتاء - بتشديد الراء - شدة برده، والقر - البرد
2- راجع على سبيل المثال الفقرة الثالثة من الخطب السابقة، ومدى ما فيها من تقريع حاد المراد به الاستنهاض وإثارة الحمية
3- خطب - 68

مأثوراته الأخرى في نهج البلاغة فسنجد أنها في مجملها تنبني على قاعدتين:

أ- نظرة الإنسان إلى نفسه من الداخل والوقوف عند الموقف الذي يصونها ويحسسها بقيمتها في الوسط الاجتماعي الذي تعيش فيه وذلك من عدة جوانب أهمها:

- تحسيس الإنسان بكرامته، بنبذه للذل والجبن: فتربية النفس على الأنفة والإباء من الأسس التربوية التي أنبنى عليها فكر علي علیه السلام كما في قوله «لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً»(1) والحرية التي يعنيها علي علیه السلام هي كرامة الإنسان وحفظ ماء وجهه ونأيه بها عن كل ما يهينها، بإكرام نفسه ورفعها عن الدنايا مهما كانت المغيرات، وبذلك يشعر في قرارته بالعزة والإباء فلا يقبل أي امتهان، لأنه «لا يمنع الضيم الذليل»(2) فالشعور بعزة النفس يطلق الإنسان من سجن ذاته، ويكسر جدار الخوف، ويتفاعل مع بقية أفراد مجتمعه كندٍّ، لا كخادم ذليل، فيقدم على اقتحام صعاب الحياة بثقة مؤمنة غير جامحة.

- فلا تلجئه الحاجة إلى الخضوع، ولا الثراء إلى احتقار الناس، فمن أقبح الصفات التي تثلم شخصية الإنسان «الخضوع عند الحاجة، والجفاء عند الغنى»(3) .

- ولا يركبن في سبيل الوصول إلى غايته طرق النفاق والتلون والزيف لأن «نفاق المرء ذلة»(4) والذل يعني المهانة وفقدان الإنسان اعظم نعمة منحها الله

ص: 482


1- رسائل - 31 - فقرة 21
2- خطب - 29
3- رسائل 31 - فقرة 24
4- ميثم البحراني - شرح المئة المختارة للجاحظ ص 112

له وهي الحرية خاصة وان «عبد الشهوة أذل من عبد الرق»(1) في فكر علي علیه السلام.

- والوفاء بالعهد من أهم مزايا التربية الإنسانية في فكر علي علیه السلام، لأنه يرى أن من واجب الإنسان حتى يصون عرضه ويحفظ مكانته في مجتمعه أن لا يَعدَ بشيء لا يستطيع الإيفاء به فإن «المسؤول حر حتى يَعد»(2) مما يعني أن حريته المعنوية وحريته الأخلاقية مرتبطتان كل الارتباط بفكره ولسانه فما دام قد وعد بشيء فقد صار رهناً لما وعد به، ولا يستطيع الفكاك من أسره إلا بعد أن يفي به.

- وحتى لا يتورط أو يقع فيما ليس في مقدوره الوفاء به، بالإضافة إلى تجنبه كل ما يمس ذاته فعليه ان يراقب نفسه، ولا يخطو بها خطوة الا بعد ان يعرف موضع قدميه بغض النظر عما يفعله الآخرون، لأن كل فرد معني بذاته تجاه تصرفاته وأخلاقه، ويمكن استخلاص ذلك من قول علي علیه السلام «حاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»(3) .

- ثم ان مجالسة الفرد لبعض من الناس، قد يشعره بأنه دونهم في السمو فتسول له نفسه، مقاربتهم للوصول إلى نفوسهم باستصغار نفسه، محاولاً ابتداع الحكايات اللافتة للانتباه والقيام بتصرفات تحط من القدر، وتلافياً لذلك يقول علي علیه السلام«إياك ان تذكر من الكلام ما يكون مضحكا وان حكيت عن غيرك»(4) فان قيمة المرء تكمن في احترامه لنفسه.

- واحترام النفس هو محاولة النأي بها عما يجلب لها الدمار جراء الارهاب

ص: 483


1- السابق، 117
2- السابق، 152
3- خطب - 219 - فقرة 2
4- رسائل - 31 - فقرة 24

الفكري، الذي يحيل الإنسان إلى تناقضات تدمر حياته، لأن ذلك يجبره على التخلي عن فكره من أجل الحفاظ على نفسه، لذلك يرى علي علیه السلام ان من واجب الفرد، عند عزمه على ابداء وجهة نظره، أو نشره لفكر ما، مراعاة جو التقبل، وليكن على حذر من التفوه بشيء من ذلك «في مجالس الخوف فإن الخوف يذهل العقل الذي منه نستمد، ويشغله بحراسة النفس عن حراسة المذهب الذي تروم نصرته»(1) فالفكر الحر لا يمكن له ان يترعرع وينتشر في بيئة يسودها الخوف.

- والإنسان في فكر علي علیه السلام طاقات من العمل المرتبط بوقت محدد لا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه، فالتربية الإنسانية، إيمان راسخ بقيمة الوقت، ويمكن أن نستنتج ذلك من قوله «امض لكل يوم عمله، فإن لكل يوم ما فيه»(2) .

- فإذا شعر الإنسان بقيمة نفسه، وصانها عن كل الدنايا وحافظ على كرامته بالانفلات من ربقة الذل وكسر حواجز الجبن والخوف، وحافظ على كلمته ووفى بوعده، وادى عمله بصدق واخلاص ونزاهة في وقته. فقد استطاع - كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام - أن يحقق إنسانيته بتصالح ذاته مع ذاته.

ولكنه أيضاً محتاج إلى خصائص تربوية أخرى تحقق وجوده ضمن مجتمعه بإقامة علاقات سوية ومتوازية بالتعاضد السوي مع محيطه.

ب - نظرة الإنسان إلى نفسه ضمن مجتمعه: ونقصد من وراء هذا المحورتبيان فكر علي علیه السلام لتربية الإنسان من خلال علاقاته الإنسانية ضمن الجماعة التي يعيش فيها، وما يجب عليه نحو هذه الجماعة من أخلاقيات روحية لا تمت

ص: 484


1- شرح ابن أبي الحديد 20 / 281
2- رسائل - 53 - فقرة 27

للمادة بأية صلة، فلا دخل لها في رابطة ولا الاحتياج لأننا بصدد الفكر المنصب على تربية النفس، بتعويدها التوازان السوي الممكن لها من التصالح مع محيطها بتحقيق علاقات تحفظ لكل فرد في المجتمع مكانة مهما كانت منزلته الاجتماعية من المنظورات المادية، أو العرقية أو القبلية أو حتى الدينية، ويمكن استخلاص هذا الجانب التربوي من قوله لابنه الحسن علیه السلام«يا بني إجعل نفسك ميزانا فيما بينك وبين غيرك، فأحب لغيرك ما تحب لنفسك، وأكره له ما تكره لها، ولا تظلم كما لا تحب أن تظلم، وأحسن كما تحب أن يحسن اليك»(1) ، فلقد وضع علي علیه السلام بتصويره لميزان العلاقات البشرية الخطوط الرئيسية للتربية الإنسانية من وجهها الثاني المتمثل في علاقة الفرد بالجماعة. ومن خلال تتبعنا لنصوص نهج البلاغة المتعلقة بالمحور التربوي الذي نحن بصدده نخلص إلى أنه ينبني على علاقات ثلاث:

الأولى - علاقات أسرية: وترمي إلى جعل الأسرة - نواة المجتمع - بيئة يشيع في جنباتها الحب، حيث يكون رب الأسرة باراً بها، معينا لأفرادها على تحمل اعباء الحياة، موسعا عليهم بقدر استطاعته، موزعاً حبه على الجميع بعدل وانصاف، نائياً بنفسه عن كل بغض وحقد وكراهية، وقد ورد في الخبر عن رسول الله صلی الله علیه وآله قوله «خيركم خيركم لأهله وانا خيركم لأهلي»(2) والخير في سياق الحديث الشريف يعني - كما يبدو لنا - جماع معاني التربية الاسرية، وقد جاء النهي في قول علي علیه السلام«لا يكن أهلك أشقى الخلق بك»(3) ، ليلقي ضوءاً على ما حواه

ص: 485


1- رسائل - 31 - فقرة 13
2- المتقي الهندي - كنز العمال 16 / 371
3- رسائل -31 - فقرة 23

الحديث الشريف من معان بعيدة الأثر في بلورة علاقات الفرد، لأن الإنسان الذي لا يتمكن من تكوين علاقات منسجمة مع أهله أقرب الناس إليه لا يمكنه على الإطلاق من إقامة علاقات متوازنة مع محيطه خارج نطاق أسرته.

الثاني - علاقات تحكمها الصداقة: حظيت الصداقة بمكانة عظيمة في فكر علي علیه السلام التربوي، حتى ان المتتبع لموضوعها في النهج وفي غيره من النصوص التي أثرت عن علي علیه السلام، يكاد يشعر بأنه يضعها في مرتبة أعلى من مرتبة الأخوة الحقيقية حين يقول «الصديق نسيب الروح والأخ نسيب الجسم»(1) والعلاقات الروحية عادة ما تكون أوثق واقوى من رابطة الدم، لما تشتمل عليه من تبادل في العواطف وتوافق في الأفكار، وانسجام في التصرفات، والصداقة بمعناها الحقيقي الذي يريده علي علیه السلام، توقٌ جسّده في نص متكامل، نحت فيه بفكره الصفات الحقيقية التي كان يطلبها في الصديق(2) ، إلا أن تلك الصفات قد تبدو نادرة إن لم تكن مستحيلة التحقيق، إلا أن الواقعية التي يتميز بها فكر علي علیه السلام عامة والتربوي على وجه الخصوص، قد مكنته من التعامل مع واقعه في بلورة الهيكل التربوي الذي يجب أن تنبني عليه علاقة الصداقة كمطلب اجتماعي ملح بالنسبة للإنسان لقوله «أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجز منه من ضيع من ظفر به منهم»(3) فعده عدم القدرة على تكوين الصداقة عجزاً، وتضييعها بعد اكتسابها اعجز العجز، يوحي بضرورتها وأهميتها بالنسبة للإنسان السوي المتزن، القادر على التفاعل مع محيطه بأسلوب

ص: 486


1- شرح ابن أبي الحديد - 20 / 300
2- راجع حكم - 297
3- حكم - 12

يمكنه من إذابة الهواجس والشكوك، وتغليب النية الحسنة في علاقة الصداقة قولاً وفعلاً فمن المفروض على من يعرف معنى الصداقة الحق، ويحرص على استدامتها أن لا يتعجل باتخاذ القرارات التي تثلم من قيمتها الروحية، إلا بعد أن يتيقن بأن الطرف المقابل ليس في مستوى تلك العلاقة السامية، بحيث يكون حرصه على التواصل امتن واقوى واوكد من القطيعة، يقول علي علیه السلام«ضع أمر أخيك على أحسنه، حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سواء، وأنت تجد لها في الخير محملاً»(1) أي كن ذا نفس سمحة وجد المبررات الخيرة لكل تصرف منه، مهما كان وقعه على نفسك، حتى تتأكد مما يقصده، ومن ثم اتخذ موقفك المتعقل المناسب تجاهه، كما أن من حق الصداقة إيجاد المخرج السليم لحديث الصديق وتأويلة تأويلاً خيرا، فلا يعطي الإنسان للنميمة والوشاية أية طريق للحط من قيمة الصداقة لأن «من أطاع الواشي ضيع الصديق»(2) .

لقد وضع علي علیه السلام دستورا متكاملا لعلاقة الصداقة ضمن الوصية التي كتبها لابنه الحسن علیه السلام ويمكن بلورته وتوضيحه في النقاط التالية:

1- يجدر بالصديق من أجل المحافظة على الصداقة والوفاء لعهدها - ان يراعي صديقه في كل الأحوال، وأن يجد له من المبررات والأعذار ما يبقى على حبل الود متصلا مهما كانت الظروف وفي هذا القول «إحمل نفسك من أخيك عند صرمه على الصلة، وعند صدوره على اللطف والمقاربة، وعند جموده على البذل، وعند تباعده على الدنو، وعند شدته على اللين، وعند جرمه على

ص: 487


1- الكليني - أصول الكافي 2/ 262
2- حكم: 238

العذر حتى كأنك له عبد، وكأنه ذو نعمة عليك»(1) شريطة أن يكون مثل ذلك الصديق ممن يعرف قيمة الصداقة، ويصون حقوقها، ويلتزم بمبادئها، ولا يستغلها في تحقيق مآرب شخصية، وفي هذا يقول علي علیه السلام«إياك أن تضع ذلك في غير موضعه، أو أن تفعله بغير أهله»(2) .

2-اجتناب صداقة من يَكنُّ البغض والعداوة لأحد الأصدقاء المخلصين حتى لا تسوء نفسه، وتكون موضع تهمته، أو قد تسمع من ذلك الشانئ من السعاية ما يوغر صدرك أو يفت من قوة صداقتك وذلك يقول «لا تتخذن عدو صديقك صديقا فتعادي صديقك»(3) .

3-استعمال الصراحة والصدق في بذل النصيحة دون أدنى تحفظ أو مجاملة، مهما كان وقعها على نفسه، لأنه إذا كان صديقاً حقيقياً، فستكشف له بصيرته مدى حبك له وخوفك عليه ويكمن ذلك في قول الإمام علي علیه السلام«امحض أخاك النصيحة حسنة كانت أو قبيحة»(4) .

4- صيانة حقوق الصديق المادية والمعنوية، وعدم التفريط في شيء منها اعتماداً على متانة العلاقة، لأنه «ليس لك بأخ من أضعت حقه»(5) .

5- عدم البدء بقطيعة الصديق مهما كانت الظروف، مع محاولة بذل كل جهد لإبقاء العلاقة متواصلة، بتحمل الإساءة منه ومحاولة مقابلتها بالإحسان ابقاء

ص: 488


1- رسائل 31 فقرة 23
2- السابق
3- السابق
4- السابق
5- السابق

على الود، وتمكينا لدوامها متينة وقوية، وفي حالة الاضطرار إلى قطعها، فليبق على بعض الود ما يمكن من خلاله عودتها إلى حالها يوماً ما (1) .

6- والصداقة إخلاص في المغيب والمحضر، ورعايتها تتطلب من الفرد أن يحافظ عليها في مال الصديق وعرضه وعهده لأن «الصديق من صدق غيبه»(2) .

فالصداقة كجانب من جوانب التربية الإنسانية في فكر الإمام علي علیه السلام - هي - كما - نلاحظ - باب مشرع على مصراعيه نحو المجتمع، فإذا ما استطاع الفرد استلهام مبادئها وتشبعت روحه بمثلها فأحاط نفسه بصداقات متينة ومتنوعة استطاع ان ينفتح بروحه نحو المجتمع، وأن يتفاعل مع بقية أفراده بروح مشبعة بالعزم والثقة والاطمئنان.

الثالثة - تربية إنسانية تحكمها العلاقات الاجتماعية: السلطة في فكر الإمام علي علیه السلام نموذج للتربية الإنسانية التي تجسد العلاقات الاجتماعية على أسس من التكافل ونبذ شهوة التسلط وعدم استغلال المركز الوظيفي استغلالاً سلطوياً يسيء إلى كرامة الإنسان، بإشعاره أنه في منزلة لا تتناسب وما فرضه الله له من حقوق. ففي منصرفة إلى صفين استقبله في الطريق دهاقين الأنبار (3) فترجلوا له خاشعين مسرعين، فسألهم باستغراب «ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خلق منا نعظم به أمراءنا، فقال: والله ما ينتفع بهذا أمراؤكم، وإنكم لتشقون على أنفسكم في دنياكم، وتشقون به في آخرتكم، وما أخسر المشقة وراءها العقاب،

ص: 489


1- راجع السابق
2- السابق
3- الأنبار - مدينة على الفرات في غربي بغداد - راجع معجم البلدان 1/ 257

وأربح الدعة معها الأمان من النار»(1) فتعظيم غير الله مذلة تحط من قيمة الإنسان في الدنيا لاستصغار نفسه، وتورده العقاب في الآخرة، ولا تزيد في قيمة الشخص المعظم، ولا ترفع من قدره، لذلك فقد نهاهم عما لا يجدي نفعاً ولا يزيد من مكانته، في الوقت نفسه الذي يؤدي بهم إلى المذلة وازدراء النفس والحط من قيمتها.

وبذات الأسلوب يتعامل علي علیه السلام مع (حرب بن شرحبيل الشبامي(2) حين ترجل يتبعه وهو راكب، فقد قال له «ارجع فإن مَشيَ مثلك مع مثلي فتنة للوالي ومذلة للمؤمن»(3) لأن ذلك الفعل من أحد سادات العرب وأشرافهم يشعر الراكب بالزهو والخيلاء والغرور، ويشعر المترجل بين يديه بالمهانة والاستصغار، وهذا يتعارض وأساليب التربية التي ينبني فكر علي علیه السلام عليها، وبذلك الأسلوب كان يوصي عماله في تعاملهم مع كل الناس، من ذلك قوله ضمن عهده لبعض عماله على الصدقات «آمره أن لا يجبههم، ولا يعضههم، ولا يرغب عنهم تفضلا بالإمارة عليهم، فإنهم الإخوان في الدين والأعوان على استخراج الحقوق»(4) .

فالمكانة مهما سمت وعظمت، فإنها لا تعطي لصاحبها الحق في امتهان كرامة

ص: 490


1- حكم - 37
2- حرب بن شرحبيل الشبامي - بكسر الشين المعجمة وفتح الباء بعدها - نسبة إلى شبام موضع باليمن - راجع معجم البلدان 3/ 318 ، لم أعثر له على ترجمة، اعتبره الأمين في أعيان الشيعة 4/ 611 من شيعة علي علیه السلام، على اعتبار ان الشباميين قد كانوا يتشيعون لعلي علیه السلام
3- حكم -330
4- رسائل - 26 فقرة 3، وجبهه - ضرب جبهته إذلالًا وازدراء، وعضهه: عامله بخشونه، ولا يرغب عنهم - لا يتجافى عليهم ويتكبر

غيره والحط من قدره، لأن الناس في الحق سواء وإن التكبر والنظر إلى الناس من عل من مركبات النقص التي يحاول بها الشخص مواراة عيوبه كما يقول علي علیه السلام انه «لما عرف أهل النقص حالهم عند أهل الكمال، استعانوا بالكبر،ليعظم صغيرا، ويرفع حقيرا، وليس بفاعل»(1) .

فالإنسان السوي - من وجهة نظر علي علیه السلام - هو المقتدر على التعامل مع مجتمعه على أسس أخلاقية تصون مكانته كإنسان من خلال احترامه لنفسه بمحافظته على كرامة غيره، على أساس أن التربية الإنسانية هي محاولة انسجام دائم ومستمر بين كل الناس وفي كل الأوقات لقوله «خالطوا الناس مخالطة، إن متم معها بكوا عليكم، وإن عشتم حنوا إليكم»(2) وهو عين ما قاله فيه أصحابه المخلصون بعد أن افتقدوه إذ يصف ضرار الضابيء(3) علاقة علي علیه السلام بأصحابه فيقول «كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبئنا إذا استتبأناه، ونحن مع تقريبه إيانا وقربه منا، لا نكاد نكلمه لهيبته، ولا نبتدئه لعظمته، يعظم أهل الدين ويحب المساكين، لا يطمع القوي في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله»(4) .

ص: 491


1- شرح ابن أبي الحديد - 20 / 327
2- حكم - 9
3- ضرار بن ضمرة الضبائي أو الضابئ لم نعثر له على ترجمة، قال عنه المسعودي، في مروج الذهب 433/2 انه «كان من خواص علي علیه السلام»كما أشار عبد الزهراء الحسيني في مصادر: نهج البلاغة 50/1 الهامش انه «مولى أم هاني بنت أبي طالب»
4- الحصري القيرواني - زهر الآداب 1/ 41 ، وراجع النص أيضاً في مروج الذهب السابق

العنصر الثاني - الأساليب التربوية التي كما تبدو في فكر علي علیه السلام:

يحتوي نهج البلاغة على بعض النصوص التي تمكن الدارس من التعرف على كثير من الأساليب التربوية كما تبدو في فكر علي علیه السلام وذلك إذا ما أضفنا إليها بعضا من مأثوراته التي حفظتها لنا المصادر الأخرى، ويمكن تقسم تلك الاساليب على قسمين:

القسم الأول: أساليب تربوية تختص بالمعاملة:

وقد ابتدأنا بها لأنها في اعتقادنا الأساس الأول في العملية التربوية، لأنها تختص بتشكيل شخصية المتعلم، وإعداده لتقبل العلم. وتتحدد مسؤوليتها كما نستخلصها من فكر علي علیه السلام، في الأسرة أولا، وفي المعلم من ناحية ثانية، فبالنسبة للأسرة يرى علي علیه السلام - كما نفهم مما لدينا من نصوص - أن توصيل العلم والأخلاق للحدث في نطاق الأسرة يحتاج إلى مستوى معين من الثقافة التربوية التي تتطلب من ولي الأمر أو الأب، أن يجعل من نفسه طفلا في مرحلة ما وصديقاً وصاحباً في مرحلة أخرى، حسب اعمار ابنائه الذين يقوم بتربيتهم، فقوله «من كان له ولد صبا»(1) أي نزل إلى مستواه، وتحدث إليه بمقدار فهمه حتى يتمكن من كسب ثقته وحبه، والتعرف على مشاكله عن كثب، ومحاولة حلها معه بالتوجيه السليم والاخلاق الحميدة. وتصابي الاب لابنه يحتم عليه ان يعيش عصره، وينظر بمنظار زمان ذلك الابن، ويفكر بعقليته، أي لا يكون جبارا مستبدا بفرض افكاره، إذ يجب عليه ان يضع في اعتباره ان الأفكار التي

ص: 492


1- الكليني - الفروع من الكافي 6/ 50

يتبناها ويعتقدها قد لا تتناسب مع عصر ابنائه فالأبناء كما يبدو في فكر علي علیه السلام - ليسوا صوره طبق الاصل مكررة من الآباء حتى يتقبلوا منهم كل أفكارهم، فكما ان الإنسان يتطور من حيث السن والادراك والعقل، فإن العصر أيضاً يتطور، فما كان بالأمس مقبولا في عرف الاباء فليس بالضرورة قبوله اليوم في عرف الأبناء، لذلك يرى علي علیه السلام انه من الضروري ان لا يقسر الآباء ابناءهم على عاداتهم لأنهم «مخلوقون لزمان غير زمانهم»(1) ، فالإنسان بفكره وروحه ابن عصره الذي يعيش فيه لأن «الناس بزمانهم اشبه منهم بآبائهم»(2) أي «ان نفوسهم أكثر انفعالا واطوع لأخلاق زمانهم وعاداتهم وزيهم وحالاتهم منها لعادات الآباء وحالاتهم»(3) . وكما يولي علي علیه السلام اهمية لدور الأسرة والاب على وجه الخصوص في العميلة التربوية، فانه يعطي للمعلمين دورا، يكاد لا يقل عن دور الاب ويسلط الضوء في هذه الناحية على أساليب العقاب سواء كان بالضرب أم بالكلام، فقوله «لا تستعمل الفعل حيث ينجح القول»(4) يعني عدم استخدام العقاب البدني كأسلوب في التربية، الا بعد استنفاذ كل أساليب النصح والاقتناع مع المتعلم، فإذا ما انصاع المتعلم لأمر معلمه بالكلام فلا داعي بعد ذلك للوم والتقريع فما «عفا عن الذنب من قرع به»(5) . والعقاب كرادع تأديبي يرجى من ورائه الاصلاح، يجب ان لا يعمل به الا بعد ان يستنفذ المؤدب كل وسائل التفاهم، التي بينها، اعطاء المذنب فرصة للتفكير والمراجعة،

ص: 493


1- شرح ابن أبي الحديد 20 / 267
2- ميثم البحراني - شروح المئة كلمه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام من جمع الجاحظ ص 94
3- السابق
4- شرح ابن أبي الحديد 20 / 278 ، 342
5- شرح ابن أبي الحديد 20 / 328 ، 311

وفي هذا المجال يقول علي عيه السلام «لا تتبع الذنب بالعقوبة واجعل بينهما وقتا للاعتذار»(1) ثم ان أساليب المعاملة في فكر علي علیه السلام درجات متفاوتة، يجب على المربي أن يكون على دراية تامة بها، كما يجب ان يكون عارفا بنفس من يتصدر لتهذيبهم واضعا في اعتباره انهم نماذج بشرية مختلفة الامزجة والطباع، فمنهم الخير الذي قد لا يستحق من العقاب الا ما هو في حدود التلميح، وفي حالات نادرة جداً، ومنهم من لا يجدي معه الا أسلوب الترغيب والترهيب، ومنهم من لا يردعه سوى العقاب الصارم، ومن خصائص الوظيفة التربوية ت كما يرى علي علیه السلام - ان يعامل «الاحرار بالكرامة المحضة، والاوساط بالرغبة والرهبة، والسفلة بالهوان»(2) إلا أن ذلك لا يعني التمادي في الشدة إلى اقصى غاياتها، إذ من واجب العربي أن يكون متعقلا في عقابه متزنا في عتابه لأن التمادي في العقاب قد يخرج المعاقَب عن التزانه فيتمادى في خطئه بإصرار وعناد، لذلك يقول علي علیه السلام للمربي «اذا عاتبت الحدث، فاترك له موضعا من ذنبه، لئلا يحمله الاخراج على المكابرة»(3) . ثم ان العفو عن المذنب والتغاضي عن هفواته يجب ان يكونا نافذين، حال العمل بهما، وعلى هذا يجدر بالمربي ان لا يعاود المعاتبة على ذنب مضى وصدر عفو فيه، لأنه «ما عفا عن الذنب من قرع به»(4) واذا اراد المعلم تبصير المتعلم بأخطائه، وتوجيه النصح له وارشاده، فمن الاجدى ان يختار الوقت المناسب والمكان المناسب، فلا يحاول اعطاء نفسه قيمة بإظهار سلطته في توجيه المواعظ والكشف عن عيوب المتعلم في ملأ من الناس لأن

ص: 494


1- السابق
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 333 ، 342
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه

«النصح بين الملأ تقريع»(1) كما يقول علي علیه السلام، فخلاصة فكر علي علیه السلام في هذا الجانب التربوي هو المام المربي بأساليب المعاملة قبل ان يكون عالماً حتى يتمكن من التقرب من المتعلمين ليوصل إليهم علمه.

القسم الثاني - أساليب تربوية تختص بالعملية التعليمية:

العميلة التعليمية جانب هام من جوانب التربية في فكر علي علیه السلام، فهو يرى ان أجدى التعليم وأثبته وأقواه ما بدئ به في الصغر، لأن «قلب الحدث كالأرض الخالية، ما القي فيها من شيء قبلته»(2) وعليه يجب على المربين المبادرة بحرث هذه الأرض وزرعها بالمجدي من العلوم، ونعتقد ان لدى علي علیه السلام اقتناع تام بأهمية التعليم منذ الصغر، فإذا كان قد شبه قلب الطفل بالأرض البكر، فانه قد شبه الطفل أيضاً بالطينة الطبيعية التي يمكن للصانع تشكيلها ونقش ما شاء فيها، وشبهه بالغصن اللدن الذي يقبل الماء والتربة، فيمد جذوره وتورق براعمه، ويتجلى ذلك ضمن قوله «اطبع الطين مادام رطبا، واغرس العود ما دام لدنا»(3) . ونستطيع أن نستخلص مما ورد في نهج البلاغة بشأن العملية التعليمية، بأنها يجب أن تكون متناسبة وحاجة الوضع القائم بالابتداء بتعليم ما هو ضروري للحياة، وما يتناسب ومقتضى الحال كما في قوله ضمن وصيته لابنه الحسن علیه السلام «رأيت حيث عناني من أمرك ما يعني الوالد الشفيق واجمعت عليه من أدبك ان يكون ذلك وأنت مقبل العمر، ومقتبل الدهر، ذو نية سليمة، ونفس صافية، وأن

ص: 495


1- ميثم البحراني - شرح المئة كلمة ص 150
2- رسائل - 31 فقرة 5
3- شرح ابن أبي الحديد 20 / 315

ابتدئك بتعليم كتاب الله عز وجل، وتأويله، وشرائع الإسلام واحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره، ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم مثل الذي التبس عليهم، فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك إليه أحب الي من اسلامك إلى أمر لا آمن عليك به الهلكة»(1) فالذي يمكن استنتاجه - حسب فهمنا للنص - أن الظروف وحاجة المجتمع هما اللذان يقرران نوعية التعليم، ويجب على المربين مراعاة ذلك أثناء وضع خططهم ورسم مناهجهم، فتخصيص علي علیه السلام العلوم الدينية بتقديم الأهم على المهم ليس إلا أنه يراعي حاجة العصر، لذلك فنحن لا نتفق مع الشيخ محمد جواد مغنية في قوله بأن «الإمام يوصي بوجه عام أن يلقن الطفل أولا أصول الإسلام الضرورية، ويمرن على السلوك الشرعي حتى إذا تقدمت به السن تعلم القرآن والشريعة»(2) ؛ لأن ما عده تلقيناً للطفل من علوم، لا يمكن أن تكون في مستوى سهولة تعلم القرآن، وقد نص كثير من المفكرين المسلمين ممن اهتموا بالتربية على الابتداء بتعليم الطفل القرآن كأساس لجميع العلوم الدينية (3) ، وكما يبدو من المقولة، فقد أراد علي علیه السلام ذلك بالفعل إلا أنه قد رجع عن إرادته تلك آخذاً بتعليم ابنه من العلوم التي تمكنه من التعايش بين الناس في مجتمعه. ولكن ذلك لا يعني - في فكر الإمام علي علیه السلام - إكراه المتعلم على الأخذ بنمط من التعليم يتعارض مع ميوله، فبجانب احتياجات العصر يجب أن يضع المربون في اعتبارهم استعدادات المتعلم وميوله فإن «للقلوب شهوة، وإقبالاً وإدباراً فأتوها من قبل

ص: 496


1- رسائل -31 فقرة 6
2- في طلال نهج البلاغة 3/ 493
3- راجع مقدمة ابن خلدون ص 470

شهوتها واقبالها، فإن القلب إذا أكره عمي»(1) . علاوة على ذلك فإن هناك الكثير من الملاحظات التربوية الجديرة باهتمام المربين منها:

محاولة تحبيب العلم وتقريبه إلى نفوس المتعلمين بالمراوحة بين ما هو مفيد وبين ما هو طريف ومحبب إلى النفوس، لأن الجد المتواصل، يكد الفكر ويتعب النفس، فينتابها الملل والسأم فتأبى التقبل، فالأذهان تحتاج إلى الراحة كما تحتاج إلى ذلك الابدان وهو ما يمكن استخلاصه من قول علي علیه السلام«ان هذه القلوب تمل كما تمل الابدان، فابتغوا لها طرائف الحكمة»(2) .

ويجب على المربين ان يعرفوا - كما يبدو في فكر الإمام علي علیه السلام - ان العلم لا يتمثل في الحشو الكثير، والمطولات المملة أو المختصرات المخلة، بل يجب ان تكون قواعده في أساليب واضحة، ومحددة، لا تشتت ذهن المتعلم لأنه «اذا ازدحم الجواب خفي الصواب»(3) ، أي انه كلما كانت الاجابات على المسالة والقضية العلمية متعددة الجوانب متشعبة الطرق كلما خفيت الحقيقة المرجوة منها. ومما يجب على المربي ان يأخذ به كما يبدو في فكر علي علیه السلام - تعويد المتعلمين على المناظرة بإزالة عقد الخوف والخجل من نفوسهم، فلسان المرء كما يقول علي علیه السلام - بضعة منه «لا يسعده القول إذا امتنع، ولا يمهله النطق إذا اتسع»(4)

ومرجع ذلك الامتناع أو الاتساع إلى العادة التي يربى الإنسان عليها منذ بداية حياته في مراحل التعليم الأولى، حين يحتاج إلى توضيح ما يبهم عليه بطريق

ص: 497


1- 191 ، 89
2- 191 ، 89
3- حكم - 242
4- خطب - 320 الفقرة الأولى

السؤال والمناقشة، وحتى يستطيعوا ذلك، فإن عليا علیه السلام يحبذ تعويدهم منذ حداثة سنهم على «المراء والجدل»(1) كي تنفك عقدة السنتهم.

ومن المهام المناطة بالمربي - كما يبدو في فكر علي علیه السلام - أيضاً - تعويد المتعلم على البحث فيما هو مكلف به ومسؤول عنه، بمعرفة كل ما يحيط به من سلبيات وايجابيات، وتحديد كل ذلك في إطاره السليم، والقيام بأدائه كاملاً بثقة وصدق واخلاص وذلك ما يمكن استخلاصه من قوله لابنه الحسن علیه السلام«اعلم يا بني أن أحب ما أنت آخذ به إلي من وصيتي تقوى الله والاقتصار على ما فرضه الله عليك»(2) ، أي ما انت مسؤول عنه ومكلف بأدائه من واجبات مقرونة بجماع الأخلاق المتمثلة في التقوى تلك اذن هي بعض الملامح التربوية التي امكن استقصاؤها من فكر علي علیه السلام كما بدت لنا وهي - كما نعتقد - لم تكن مقولات نظرية لآراء خالية من مضمونها العملي، لأن عليا علیه السلام قد باشر في تطبيقها.

ويمكن ملاحظة ذلك من السياقات التي وردت فيها تلك المقولات مع الأخذ بعين الاعتبار مناسباتها.

فنظرة علي علیه السلام إلى المجتمع - كما نتصورها - نظرة شاملة وعميقة في الوقتذاته وملتحمة أيضاً التحاماً تاماً بسياسته العامة التي تهدف إلى السعادة والحياة الأفضل، فالإنسان الذي يمكننا نتصوره من خلال نهج البلاغة «كائن مصانة حقوقه... مطمئن إلى ان حكومته لا تجفو فتقطعه عنها وعن المجتمع بهذا الجفاء، وهو مطمئن إلى انه مساو لجميع المواطنين... وهو واثق بأن حقوقه

ص: 498


1- شرح ابن أبي الحديد 20 / 385
2- رسائل - 31 فقرة 7

صغيرها وكبيرها، قليلها وكثيرها لن تذهب عنه إلى سواه»(1) الا ان ذلك المجتمع المتكامل الذي اراد له علي علیه السلام الوجود، لم يتسن له تحقيقه ليس لأن سياسته الاجتماعية جديدة بالنسبة للمجتمع، لأن الرسول صلی الله علیه و آله قد باشر في تطبيقها وعمل على تدعيم قواعدها إلا أن إرهاصات التغيير المتمثل في تهيئة العرب إلى تقبل تحويل الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض، يعتمد على سياسة بذل المال في غير حقوقه بسخاء كان أقوى وأشد من أن تقف المبادئ في وجهه لصده. ولكن ذلك لا يعني فشل سياسة علي علیه السلام الاجتماعية لأن مقياس الفشل والنجاح بالنسبة للأفكار بخلودها في انتظار تطبيقاها.

ص: 499


1- جورج جرداق - على علیه السلام صوت العدالة الإنسانية 2/ 278

ص: 500

الباب الرابع:القضايا الكلامية والتأملات الكونية کما تبدو ي نهج البلاغة

اشارة

- الفصل الأول: القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة.

- الفصل الثاني: التأمل وتداعي الأفكار والغيبيات كما تبدو في فكر علي علیه السلام.

- الفصل الثالث: نظرة علي علیه السلام إلى الحياة كما تبدو في نهج البلاغة.

ص: 501

ص: 502

إن تأمل الإمام علي علیه السلام العميق في معاني القرآن، واستلهامه الدقيق لجوانب كثيرة من تاريخ البشرية، أمدا ما ورثه عن رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم من علم بروافد ثرة في مجال ما سمي فيما بعد بالقضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة، علاوة على أثرها الجلي فيما أثر عنه من وصف الطبيعية وتأملات كونية. على أن هذه الموضوعات الفكرية، لم يتناولها علي علیه السلام لمجرد التنظير، أو لطرح قضايا من أجل الجدل، فليس ثمة ما يدعوه إلى ذلك وهو المشغول إلى أخمص قدميه بأعباء السياسة والحكم وتجهيز الجيوش، واعادة بناء المجتمع، ولكن حاجة العصر الملحة للكلام في مثل هذه القضايا، وتو ضيح، ما أبهم على المسلمين منها، هو ما حتم عليه القول فيها بكثرة لاقتناعه بأهمية العصر لها، فلقد كانت تلك القضايا وخاصة ما يتعلق بالعقيدة منها، شغله الشاغل، والهاجس الذي ظل يلح عليه حتى آخر لحظة من حياته، وأول هذه القضايا التي اولاها علي علیه السلام جانباً كبيراً من اهتماماته، القضايا المتعلقة بالعقيدة.

ص: 503

ص: 504

الفصل الأول: القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة الخالق - الملائكة - الرسل - الإنسان

اشارة

الكلام في الاصطلاح الفلسفي، هو كل صياغة لغوية تنبني على أسس منطقية أو جدلية، ويختص في أغلب الأحيان بمعالجة المسائل الاعتقادية (1) ، ويعزو الشيعة والمعتزلة أصول هذا العلم إلى علي بن أبي طالب علیه السلام، فالتوحيد والعدل وغيرهما من الأصول الاعتقادية ما عرفت - كما يرى كل من الشريف المرتضى (ت 436 ه-)(2) وابن أبي الحديد (ت 655 ه-)(3) - الا عند الإمام علي علیه السلام دون غيره من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله و سلم، وبشأن ذلك يقول العقاد أيضاً «عنه أخذ الحكماء الذين شرعوا علم الكلام قبل ان يتطرق إليه علم فارس أو علم يونان»(4) . لكن تلك الاقوال لا تعني ان عليا علیه السلام بتطرقه في خطبه

ص: 505


1- راجع - دي بور - تاريخ الفلسفة في الإسلام ص 95 وما بعدها
2- راجع أمالي المرتضى 1/ 148 وما بعدها
3- راجع شرح النهج 6/ 346
4- عبقرية الإمام علي علیه السلام ص 31

إلى أمور العقيدة، يعتبر من المتكلمين بالمعنى الاصطلاحي الذي تحمله الكلمة في جوانبها المنطقية أو الفلسفية، لأن كلامه في العقيدة - كما نعتقد - ما هو الا امتداد لفكره الشامل لقضايا السياسة والاجتماع والاخلاق والتربية، لكون ذلك الفكر نابعا من الدين، ويسير في ظلاله، وقضايا العقيدة هي أصل الدين، مما يحتم على كل مسلم الإلمام بها بالقدر الذي يستوعبه عقله من فهم يؤدي به إلى الإيمان الصحيح وهو ما كان علي علیه السلام يرمي إليه من النصوص التي اثرت عنه بشأن قضايا الخالق، والملائكة والرسل والإنسان، وعلي علیه السلام من خلال هذه النصوص، يحاول أن يتحدث مع العقل ليقنعه بالتمسك بطريق الإيمان بالله، فكيف عالج تلك القضايا الأربع: الخالق - الملائكة - الرسل الإنسان.

أولا - الخالق

اشارة

تتفق جميع الفرق الإسلامية على أن معرفة الله سبحانه وتعالى، هي ركن الإيمان الاساسي والاول، فالفرق بين المسلم والكافر شهادة «أن لا إله إلا الله » وتقتضي تلك الشهادة معرفة حقيقية بالخالق. وعلى الرغم من أن هذه المعرفة من الأمور التي يمكن للإنسان الاهتداء إليها بفطرته من خلال تأملاته فيما حوله من ابداعات كونية، الا انها قد تزعزع ايمانه وتؤدي به إلى مهاوي الكفر والالحاد، فيما لو حاول قياس ما اهتدى إليه من معرفة، بنفسه ككائن مقتدر له من الصفات والمزايا والطاقات ما يشعره بالتفرد وتقديس الذات، مما يجعله يلغي من ذاكرته وجود إله قادر، وقد يؤدي به فكره إلى المقارنة بين الموجودات وموجودها إما عن جهل، وإما عن مكابرة لشعور بتضخم الذات، وفي كلتا الحالتين يطلق على الله سبحانه وتعالى أوصافاً حسية، وقد عرض علي علیه السلام إلى

ص: 506

قضية الصفات ضمن كثير من نصوص النهج يمكننا من خلالها استخلاص فكره في هذا الجانب.

صفات الخالق في فكر علي علیه السلام:

يبدو أن علياً علیه السلام قد سلك نهجاً فكرياً واحداً فحواه نفي كل الصفات التي تخطر على بال العبد، أثناء تصوره للخالق جل شأنه لقوله أن «كمال الإخلاص (الله) نفي الصفات عنه»(1) وينبني فكره ذاك على أن الصفات المتخيلة لا يمكن أن تكون إلا للأعراض التي تمكن الناظر إليها من مقارنتها بما حوله من مرئيات، فالتصدي لوصف ذات الخالق سبحانه يعني مقارنتها بتصورات مشابهة لها، فتبني على ذلك نتائج خطيرة تنفي فكرة التوحيد أساس العقيدة الأول، وفي هذا المجال يقول علي علیه السلام«فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه، ومن قرنه، فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه، ومن جزأه فقد جهله، ومن جهله فقد أشار إليه، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده»(2) ، فالملاحظ أن المقولة مبنية على أسباب تؤدي إلى نتائج فكرية طبيعية بسيطة، مصوغة في قوالب بعيدة عن أية تعقيدات فلسفية، لأنها تأخذ من واقع المستمع إليها أمثلة للبرهنة عليها، مع وضع الثقافة الدينية للمتلقي في الاعتبار، وهي في نهايتها تقول بالتوحيد.

التوحيد كما يمكن إدراكه من فكر علي علیه السلام:
اشارة

تتفق جميع الفرق الإسلامية على أن التوحيد، هو الركن الأول في العقيدة

ص: 507


1- خطب - 1- فقرة 1
2- المصدر السابق نفسه

الإسلامية، بشهادة قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم«بني الإسلام على خمسة. على ان يوحد الله، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان والحج»(1) ويرى الشيعة الإمامية ان قول كلمة التوحيد بإخلاص وصدق تدخل الجنة، ويروون في ذلك عدة احاديث نبوية منها قوله صلی الله علیه و آله وسلم«من قال لا إله إلا الله مخلصا دخل الجنة، وإخلاصه أن تحجزه لا إله إلا الله عما حرم الله عز وجل»(2) . وقد وضعت بعض فرق المرجئة التوحيد في مرتبة سامقة جعلته كل الإيمان ومنتهاه «وان العبد إذا مات على توحيده لا يضره ما اقترف من الآثام واجترح من السيئات»(3) .

وفي اعتقادنا ان علياً علیه السلام هو أول من فصل القول في التوحيد بعد ان كان مجملاً في القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، إذ كان معناه مقصوداً على الشهادة بالوحدانية، وعدم الشرك بالله.

وبالتمعن فيما أثر عن علي علیه السلام من نصوص، نجد أن فكره قد امتد ليبرز لمسلمي عصره جل ما ينطوي عليه التوحيد من معان فكرية تؤدي إلى الاقتناع الخالص المتين به وفي محاولة منا لفهم ذلك، تمكنا من الاهتداء إلى مقاصد ثلاثة للتوحيد في فكر علي علیه السلام:

الاول توحيد الذات:

ينفي علي علیه السلام عن الله سبحانه العددية لقوله «الأحد بلا تأويل عدد»(4) لأن

ص: 508


1- صحيح مسلم - 1/ 45
2- الصدوق - التوحيد - ص 28
3- الشهرستاني - الملل والنحل 1/ 140
4- خطب 152 - فقرة 1

العددية تعني في مضمونها كما يرى علي علیه السلام - القلة والكثرة والتجزئة فالواحد بطبيعة الحال أول الأعداد وهو أقل من الإثنين، ويمكن تجزئته، وهو ما يستحيل تطبيقه على الله سبحانه.

ثم ان توحيد الذات يعني، أن لا شريك لله ولا مثيل له ولا يتصور شبهه كما في قوله «أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له»(1) ، فاعتبار أولويته ونهايته مطلقة تقتضي بذاته الدوام الأبدي، لأنه سبحانه «لو سبقه العدم وانتهى إليه لكان حادثاً، ولابد لوجود الحادث من سبب»(2) فإذا لم يكن سبب وجوده ذاتياً فلابد من احتياجه إلى غيره، ولابد لغيره أن يحتاج في وجوده إلى غيره... وهكذا إلى أن ننتهي إلى سبب الأسباب المتمثل في الذات التي تؤثر ولا تتأثر وهو ما يمكننا استخلاصه من قول علي علیه السلام«الأول لا شيء قبله، والآخر لا غاية له»(3) .

الثاني - توحيد الصفات:

يطلق العقل الإنساني على الله سبحانه صفات متعددة كالعدل، والقدرة، والحلم، والعلم، والقوة... وتعداد هذه الصفات لا يعني وجود كل صفة في ذات الله منفردة، إذ لو كانت كذلك لتباينت في ضعفها وقوتها ولظهر أثر ذلك التباين على ما في الكون من مخلوقات، لذلك يرى علي علیه السلام ان هذه الصفات إنماهي في حقيقتها صفات ذهنية من ابتكار العقل الإنساني، لذلك فإن كل الصفات

ص: 509


1- خطب - 84 - فقرة 1
2- محمد جواد مغنية في ظلال النهج 1/ 419
3- خطب - 84 - فقرة 1

مهما تناهت في التعداد والمثالية فهي موحدة في ذاته سبحانه، لأن «التعدد إنما هو نوع من أنواع الكمال لا في ذات الكامل المطلق الذي هو المبدأ الأول لكل كمال»(1) ويمكن فهم ذلك من قول علي خطب - 84 - فقرة 1، بأن «كل عزيز غيره ذليل، وكل قوي غيره ضعيف، وكل مالك غيره مملوك، وكل عالم غيره متعلم، وكل قادر غيره يقدر ويعجز»(2) . مما يعني ان كل تلك الصفات عين ذاته لا تناقض بينها ولا تعددية فيها، فقولنا: الله سبحانه، نعني به القوي العزيز الجبار المتكبر....

الثالث توحيد الأفعال:
اشارة

ونقصد به تأثير الله سبحانه في الوجود، فهو سبحانه الذي خلق الإنسان والهمه خاصية التفكير، واقدره على الاختيار، وخلق النار ومنحها خاصية الاحتراق، وخلق الشمس والقمر، ومنحها خاصية الإنارة، فالأفعال وعللها نابعة من توحيد ذاته سبحانه وتعالى فهو وحده الذي لا يفتقر إلى معونة أحد، ونخلص إلى ذلك من قول علي علیه السلام«المنشئ أصناف الأشياء بلا روية فكر آل إليها... فتم خلقه بأمره وأذعن لطاعته، وأجاب إلى دعوته، لم يعترض دونه ريث المبطئ، ولا اناة المتلكئ، فأقام من الأشياء أودها... وفرَّقها أجناساً مختلفات في الحدود والأقدار والغرائز والهيئات»(3) . مما يعني توحد الأفعال في القدرة الإلهية من جميع جوانبها وبدقائق تفاصيلها.

وقد يبدو الفكر متناقضا، بين قول علي علیه السلام بحرية الإنسان في اختيار أفعاله

ص: 510


1- محمد جواد مغنية - فلسفة التوحيد والولاية ص 49
2- خطب 64
3- خطب - 90 فقرة 3

فيما سبق (1) وبصنع الله سبحانه وتعالى أفعال العبد هنا مما يوحي بالإلجاء المؤدي إلى فكرة القضاء والقدر اللازمين على الفرد، ولإزالة هذا اللبس، يجب ان ندرك أن توحيد الافعال بالنسبة للإنسان، لا يعني أنه سبحانه قد ألجأ الإنسان إلى انتهاج طريق محدد في افعاله، فخلق الافعال هنا يعني ان الله سبحانه قد خلق افعال العبد واقدره على اختيار الأصلح منها بالتمييز بينها، والأخذ بما شاء منها، مما يعني أن القدر ليس لازماً، وإلا بطل الثواب والعقاب وهو ما يمكن إدراكه من قول علي علیه السلام لمن سأله «أكان مسيرنا إلى الشام بقضاء من الله وقدر »(2) فأجابه علي علیه السلام بالإنعام على سؤاله «فقال الشيخ، عند الله أحتسب عنائي، ما لي أجر»(3) أي أنني كنت مرغما على ذلك وليس بمحض اختياري، فبادره علي علیه السلام بما يزيل لبسه ويطمئن نفسه، بما في معناه، أن القدر الذي يعنيه ليس بلازم للعبد،(4) لأنه لو كان كذلك لما كان أي معنى للعقاب والثواب، إذ لا جدوى من المحاسبة ما دمنا مرغمين بالسير في طريق مرسوم معين، فالله سبحانه وتعالى خلق الأفعال وخلق لها الأسباب وأودع في الإنسان مقدرة التمييز والاختيار، وبموجب ذلك الاختيار يحاسب، أي بمعنى أن أفعال العباد وأسبابها مقدرة، خالقها واحد هو الله. هذا بالنسبة للإنسان، أما بالنسبة للظواهر الطبيعية الأخرى فقد خلقها الله وأودعها خواصها المتمايزة عن غيرها، إذ لا يمكن الفصل بين الجسم، وخاصيته، وتتضح تلك الفكرة من قول علي علیه السلام

ص: 511


1- راجع ص 202 من هذا البحث
2- أمالي المرتضى 1/ 150 ، السكوني - عيون المناضرات - ص -177
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع حكم - 76 . وقد اقتصر الرضي على الجزء الذي أوضحنا معناه، أما بقية الرواية فيمكن مراجعتها في المصدرين السابقين

«جعل شمسها آية مبصرة لنهارها، وقمرها آية ممحوة من ليلها وأجراهما في مناقل مجراهما وقد ر سيرهما في مدراج درجهما ليميز بين الليل والنهار»(1) .

ولو تأملنا في مقاصد التوحيد الثلاثة التي استنبطناها من مأثورات النهج، لوجدنا انها كلها في حقيقتها ترمي إلى هدف واحد كان علي علیه السلام يلح على تثبيته في النفوس، وهو تنزيه الله سبحانه وتعالى عن الصفات ويجمل ذلك كله في قوله «التوحيد ان لا تتوهمه»(2) أي لا تطلق عليه من الصفات المتخلية المستوحاة من التصورات الإنسانية، وتأكيداً لفكرة التوحيد تلك، فقد عالج قضية نفي الصفات من جميع وجوهها.

نفي الصفات عن الخالق جل شأنه:

إن نفي الصفات عن الله سبحانه وتعالى يقتضي - أولا إزالة ما تنطوي عليه العقول من أوهام وتصورات تجعل منه شكلاً معيناً، وفي هذا يقول علي علیه السلام«لا تنعقد القلوب منه على كيفية»(3) لأن الكيف أو الشكل هما «هيئة قارة في محل»(4) مما يعني امكانية تجزئتها وتحديد مكانها، وهذا لا يجوز على الله سبحانه، فهو تعالى، بعيد عن الأوهام التي لا تدرك إلا ما كان ذا وضع معين، أو مادة مشكلة، والباري، كما يقول علي علیه السلام«لا تقع الأوهام له على صفة»(5)

ص: 512


1- خطب - 90 - فقرة 4
2- حكم - 479
3- خطب - 84 - فقرة 1
4- الخوئي - منهاج البراعة - 6/ 116
5- خطب - 84 - فقرة 1

لأنه مجرد عن كل الصفات الزائدة التي تتصف بها الأوضاع المادية. فوجوده ليس محدثا لكون المحدث هو ما يتولد عن العدم، والله كما يقول علي علیه السلام«كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم، مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا مزايلة»(1) فهو واجب الوجود بالذات، ووجوب وجود ذاته تقتضي أن يكون في كل مكان ومع كل شيء، فقول علي علیه السلام في دعائه «اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل لا يجمعهما غيرك... »(2) هو تعبير عن فكرة نفي الحيز من جسميةٍ وجهةٍ عن الخالق. لأن جمع علي علیه السلام بين حكمي الخلافة والاستصحاب ينزهان الله عن الجهة والجسمية، وقد بنى فكرته تلك على توع من البرهان العقلي البسيط، خلاصته عدم إمكانية الإنسان من أن يكون موجوداً في مكان ما ومصاحباً للآخرين في مكان آخر في وقت واحد (3) ، وهذا يقتضي ان يدرك الإنسان ان قدرة الله فوق كل قدرة، فهو «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله، والآخر الذي لم يكن له بعد فيكون شيء بعده»(4) . فالزمانية التي نتصورها في الظرفين (قبل، بعد) ما هي إلا معان ابتكرها العقل الإنساني لوصف الزمن المتعلق بحياته، ولا يمكن ان يوصف بهما الله الذي «ما اختلف عليه دهر فيختلف منه الحال، ولا كان في مكان فيجوز عليه الانتقال»(5) أي ان وجود الله اعظم من ان يقرن بالدهر أو يوصف بالزمانية، مما يعني الثبات في دوامه، والاتحاد في مكانه.

ص: 513


1- خطب - 1 فقرة 1
2- خطب - 46
3- راجع السابق
4- خطب - 90 - فقرة 1
5- المصدر السابق نفسه

ونفي الجسمية والزمانية والمكانية عن الخالق يقتضي أن «لا يوصف بشيء من الاجزاء ولا بالجوارح والاعضاء ولا بعرض من الاعراض»1) والمقولة واضحة بحيث لا تحتاج إلى تحميلها ابعادا فلسفية أو وضعها ضمن براهين منطقية، فهي في مجملها تعني ان الله منزه عن كل ما يتصف به الإنسان من أعضاء وحواس مضمرة تقتضي التفكير والتخطيط والحركة للشروع في أي عمل يريد انشاءه، إذ يقول علي علیه السلام انه سبحانه قد «خلق الخلق من غير روية، إذ كانت الرويّات لا تليق الا بذوي الضمائر، وليس بذي ضمير في نفسه»(1) فالإضمار يعني التفكير والاجالة، وذلك من طبيعة المخلوق، وعلي علیه السلام هنا يريد ان ينفي عن الله سبحانه كل صفه أودعها خلقه. فهو سبحانه لا يجري عليه الاعياء كما يجري على ذوي الاوصال والاعضاء من الحيوانات، لأنه سبحانه ليس بذي جسم حتى يجهده العمل، وفي هذا يقول علي علیه السلام«لم يؤده خلق ما ابتدأ ولا تدبير ما ذرأ»(2) ثم أن إبلاغه سبحانه أوامره ونواهيه إلى مخلوقاته، لا تتكون من أصوات ولا ألفاظ لأنه سبحانه ليس بذي لسان، فالخالق كما يقول علي علیه السلام«يخبر لا بلسان ولهوات ويقول لا بلفظ»(3) فالكلام المكون من أصوات مسموعة ذات حروف ملفوظة لا يصدق في حق الله لانتفاء الية الكلام المتكونة من لسان ولهوات عنه جلت قدرته.

فقدرته سبحانه لا تحدها حدود، وصفته بعيدة كل البعد عن تصورات

ص: 514


1- خطب - 107 - فقرة 1
2- خطب - 64
3- خطب - 234 - فقرة 1، واللهوات - جمع لهاة بفتح اللام: اللحمة المشرفة على الحلق وتساعد على النطق

عقولنا الكلية وعمله ليس له أمد ولا نهاية، إذ يقول علي علیه السلام في ذلك «قد علم السرائر، وخبر الضمائر، له الإحاطة بكل شيء»(1) فعلمه بالأشياء عند حدوثها هو عين علمه بها قبل حدوثها، لأنه سبحانه قد خلقها وقدر لها ذلك فهو سبحانه «الأول الذي لم يكن له قبل فيكون شيء قبله والآخر الذي ليس له بعد فيكون شيء بعده»(2) فهو كما نلاحظ قد وظف فعل الكينونة توظيفا استمراريا بصياغته في المضارعة وتكراره بالإيجاب والسلب حتى يتمكن من خلال تلك الصياغة من التعبير عن فكرته التي تعني أزلية الخالق وتنزيهه عن أية اعتبارات اضافية تحدثها العقول.

فالاستدلال عليه وعلى وجوده - سبحانه - لا يمكن تقديره الا من خلال التأمل في الوجود وما يحويه من آيات عظيمة تدل عليه فندرك بقلوبنا عظمته ونهتدي بعقولنا إلى قدرته، فقد «دلت عليه اعلام الظهور»(3) .

فعلي علیه السلام لا يحاول اخضاع الخالق - جلت قدرته - للعقل بتحويله إلى مادية جدلية، كما هو عند المتكلمين والفلاسفة، لأن هدفه الاساسي من كل ما ذكره من أفكار بشأن الخالق، هو توعية مسلمي عصره إلى حقيقة الإيمان، وذلك بعد ان أخذت الهواجس تنتاب النفوس، والشكوك تتلاعب بها، فوجد لزاماً عليه محاولة إزالة تلك الحيرة (4) بتوضيح السبيل إلى الإيمان الروحي التام

ص: 515


1- خطب - 85 - فقرة - 1
2- خطب - 90 - فقرة 1
3- خطب - 49
4- يمكن استخلاص انشغال علي علیه السلام بقضية الإيمان بالخالق من قوله من وصيته لابنه الحسن «رأيت حيث عناني من امرك... ان ابتدئك بتعليم كتاب الله... لا اجاوزك إلى غيره ثم أشفقت أن يلتبس عليك ما اختلف الناس فيه من أهوائهم وآرائهم الذي التبس فكان أحكام ذلك على ما كرهت من تنبيهك له أحب الي من اسلامك إلى أمر لا امن عليك به الهلكة »، رسائل 31 - فقرة 6

بالقدرة الإلهية، التي تنحسر العقول وترتد عنها خاسئة، إذا ما حاولت البحث في كنهها، وهو في كل ذلك يستقي معاني النص القرآني الذي يجمع كل تلك الأفكار في قوله تعالى:«لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَیْءٌ»(1) .

ثانياً- الملائكة:

الإيمان بالملائكة من صلب العقيدة الإسلامية لقوله تعالى:

«آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلِیْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باِلله وَمَلَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»(2) علما بأنه لا سبيل إلى معرفة حقيقتهم إلا عن طريق القرآن الكريم، فمن يؤمن بما جاء به القرآن الكريم من أخبار يتحتم عليه الإيمان بالملائكة. وقد أشار علي علیه السلام إلى عجز الإنسان عن وصف الملائكة، وذلك على سبيل تحدي قدرته ضمن قوله «إن كنت صادقا أيها المكلف لوصف ربك، فصف جبريل، وميكائيل... والملائكة المقربين»(3) ، لذلك لم يؤثر عنه وصف أشكالهم وهيئاتهم، إلا في حدود ما أورده القرآن الكريم عنهم.

فعن خلقهم فقد جعل زمنه سابقاً لخلق آدم، وهو ما يتناسب وما ورد في قوله تعالى:

«فإَذِاَ سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِی فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ»(4) فالأمر صادر

ص: 516


1- الشورى/ 11
2- البقرة/ 285
3- خطب - 184 - فقرة 4
4- الحجر / 29

من الله إلى ملائكته بالسجود لآدم، وذلك يقتضي عقلا ان يكونوا قد خلقوا قبله، ثم إن عليا علیه السلام قد نفى عنهم الصفات الإنسانية في تكاثرهم «فلم يسكنوا الأصلاب، ولم يضمّنوا الأرحام، ولم يخلقوا (من ماء مهين) ولم يتشعبهم (ريب المنون(1) وكل ذلك مستنبط من آيات متعددة تنفي في مجملها صفات الإنسان عن الملائكة (2) . وقد قسمهم من حيث اختصاصهم بالله سبحانه على أربعة أقسام هي:

1- المختصون بعبادة الله سبحانه وتسبيحه وذلك في قوله: «منهم سجود لا يركعون وركوع لا ينتصبون، وصافون لا يتزايلون، ومسبحون لا يسامون، ولا يغشاهم نوم العين، ولا سهو العقول... »

2- القائمون بأمر الوحي وتبليغ الرسالات، وقد وصفهم بقوله «ومنهم أمناء وحيه، وألسنة رسله»(3)خطب - 1- فقرة 3 وصافون: قائمون صفوفا، لا يتزايلون: لا يتفارقون(4) .

3- القائمون بحفظ العباد من المخاطر والمهالك، والمراقبون لأعمالهم، وخدم الجنة وقد قال فيهم «ومنهم الحفظة لعباده، والسدنة لأبواب جنانه» (5) .

ص: 517


1- خطب - 108 - فقرة 2 وقد تضمن المقولة من القرآن الكريم، وحسب ترتيب الورود في السياق: السجدة/ 8،الطور 30
2- راجع: الأنعام/ 9، الإسراء/ 40 ، 90 ، الزخرف/ 19
3- خطب - 1- فقرة
4- . يرى محمد عبده في شرحه للنهج ص 28 الإحالة أن هؤلاء هم الامناء على وحي الله لأنبيائه، وأنهم الألسنة الناطقة في افواه رسله، والمختلفون بالأقضية إلى العباد، وبهم يقضي الله على من يشاء بما يشاء
5- المرجع السابق. ويرى محمد عبده ان هذا الفئة من الملائكة هم حفظة العباد كأنهم قوى مودعة في أبدان البشر ونفوسهم، ويحفظ الله الموصولين بها من المهالك والمعاطب، ولولاهم لكان العطب ألصق بالإنسان من السلامة، كما أنهم من خدمة الجنة، يحفظون ما عهد إليهم، ويوقومون على خدمته

4- القائمون بحمل العرش: كأنهم القوة العامة التي افاضها الله في العالم الكلي، فهي الماسكة له الحافظة لكل جزء منه»(1) وقد ورد ذكرهم في قوله:

«ومنهم الثابتة في الأرضين السفلى اقدامهم، والمارقة من السماء العليا اعناقهم والخارجة من الاقطار اركانهم والمناسبة لقوائم العرش اكتافهم»(2) .

والتقسمات الأربعة السابقة لا تعدو كونها تفصيلا لمجمل ما ورد في القرآن الكريم، صاغه علي علیه السلام بأسلوب تصويري يهدف منه إيقاظ الإيمانفي النفوس، دون اللجوء إلى الماروائيات البعيدة عن روح الدين. أما قضية المفاضلة بين الملائكة وآدم، التي أثارت جدلا واسعا في أوساط الفقهاء والمتكلمين المسلمين»(3) ، فلم نجد لها أي صدى فيما أقر عن علي علیه السلام من نصوص في النهج.

ص: 518


1- محمد عبده - شرح النهج ص 28 ط - الأندلس
2- خطب - 1- فقرة 3، والعرش بحسب التأويل كناية «عن العز والسلطان... وعرش الله ما لا يعلمه البشر على الحقيقة الا بالاسم، وليس كما تذهب إليه اوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له تعالى عن ذلك لا محمولا... وقوله تعالى «ذُو اَلعَرْشِ المَجِيدِ... » البروج/ 15)... وما يجري مجراها - قيل هو اشارة إلى ملكه وسلطانه»، الراغب الاصبهاني - المفردات في غريب القرآن ص 493 - 494 - وعلى هذا المحمل يمكن تأويل العرش عند علي علیه السلام لأنه ينفي عن الله كل الصفات مكانية وزمانية ويمكن استخلاص ذلك مما ورد عند الكليني في اصول الكافي 129/1 وما بعدها
3- بشأن الملائكة واختلاف الاقوال فيهم وفي خلقهم يراجع تفسير الرازي 2/ 174 وما بعدها، وقد تطرق إلى الموضوع أيضاً محمد جواد مغنية في تفسير الكاشف 1/ 82

ثالثاً - الرسل والأنبياء

اشارة

عرض علي علیه السلام في كثير من خطبه إلى الرسل والرسالات وقد استحوذ النبي محمد صلی الله علیه وآله على النصيب الأوفى من فكره، وقد ركز على عدة جوانب اعتقادية يمكن حصرها في أربعة هي:

الأولى: أهمية الرسول والمهام المناطة بهم:

يستنتج من كلام علي علیه السلام الذي تناول فيه واجبات الرسل، أن الله سبحانه وتعالى حين خلق الإنسان، واسند إليه خلافة الأرض، أخذ عليه وعلى ذريته ميثاقاً بتوحيده، والايمان به، بفطرته التي فطره الله عليها دون حاجة إلى هاد يرشده، وقد اودع الله ذلك الميثاق عقل الإنسان بهدايته إلى التأمل فيما حوله من آيات وامثال وعلامات تدل على عظمة الخالق وقدرته والفكرة كما نعتقد - تتسق وما ورد في قوله تعالى:

«وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِ آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَی

أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَی»(1) . وقد استجاب الإنسان في بداية

أمره لذلك الميثاق الإلهي، الا انه سرعان ما استحكمت الشهوات بنفسه، وملكت عليه ملذات الدنيا لُبّه، فأدار ظهره لذلك الميثاق فنسيه، بمرور الأزمان وتعاقب الأجيال، فكان لابد من تذكيره، وإقامة الحجة عليه قبل محاسبته، وإيقاع العقاب عليه، ومن أجل ذلك كما يقول علي علیه السلام «بعث (الله) فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته ويذكروهم منسي

ص: 519


1- الأعراف/ 172

نعمته، ويحتجوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول، ويروهم الآيات المقدرة... »(1) فأهمية الرسل تكمن في تبصير الناس وتذكيرهم بواجباتهم نحو خالقهم سبحانه، فهم هداة البشرية، ينتشلون النفوس من براثن الجهل ويأخذون بالأيدي إلى الخير والصلاح والعدل، ويبصّون الناس سبيل الفلاح بإثارة العقل والتأمل في خلق الله.

ولأهمية دور الرسل بالنسبة لهداية الإنسانية في أحقابها المختلفة يرى علي علیه السلام ان الله سبحانه «لم يخل... خلقه من نبي مرسل، أو كتاب منزل، أو حجةلازمة، قائمة»(2) فاستمرارية تواتر الرسل في فترات مختلفة لحاجة البشرية إليهم كهداة، من الدعامات الرئيسية التي انبنى عليها فكر علي علیه السلام الاعتقادي، ولأهمية مكانتهم، فقد تطرق علي علیه السلام إلى قضية تنزيههم.

الثاني: تنزيه الأنبياء والرسل:

اسبغ علي علیه السلام على الأنبياء صفات أخلاقية هي الغاية في مثاليتها - لكونها كما يرى، القدرة المحتذاة، فاختيارهم كهداة للبشرية من لدن الله سبحانه وتعالى، جعله يتعهدهم برعايته ويحيطهم بعنايته، منذ نشأتهم الأولى، وفي ذلك يقول علي علیه السلام«استودعهم في افضل مستودع، واقرهم في خير مستقر، تتناسخهم كرائم الاصلاب، إلى مطهرات الارحام، كلما مضى منهم سلف، قام منهم بدين الله خلف»(3) فهم على هذا الحال، منزهون عن كل الدنايا التي تسيء إلى

ص: 520


1- خطب - فقرة5 - ويستأدوهم يطلبوا منهم أداء الميثاق الذي أخذه الله على آدم من قبل
2- المصدر السابق
3- خطب - 93 - فقرة 2

اصولهم، محاطون برعاية الأهمية في مختلف اطوار حياتهم التكوينية، فأصالهم معرقة في الكرم وطيب العنصر، يتنقلون في الاجيال حتى يبعثهم الله سبحانه، وتستمر رعايته لهم في الدنيا منذ يوم ولادة كل واحد منهم فيزودهم بآداب الهية، واخلاق قدسية، تقوم الملائكة برعايتها، وتعهدها، وفي ذلك يقول علي علیه السلام بشأن رعاية الله للرسول علیه السلام«لقد قرن الله به علیه السلام من لدن ان كان فطيما، أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم، ومحاسن اخلاق العالم ليله ونهاره»(1) ، وهو ما يمكن ان نطلق عليه تجوزا معنى العصمة، لأن التربية المرعية من قبل الملائكة لا بد ان تحيط صاحبها بسياج من الأخلاق التي تحول بينه وبين مواقعة الخطأ منذ نشأته الأولى وعلى ذلك السبيل يمكن الاعتقاد بقول علي علیه السلام بتنزيه الأنبياء.

الثالث - علاقة الزهد بالنبوة:

إن الأخلاق المتناهية في سموها ومثاليتها، تردع نفوس أولئك النخبة من البشر عن الرضوخ إلى الاهواء والجري وراء اللذات، فالزهد في كل ما هو زائل من نعيم الدنيا من أبرز سمات الأنبياء الأخلاقية كما يرى علي علیه السلام،فموسى «كان يأكل بقلة الأرض، ولقد كانت خضرة البقل ترى من شفيف صفاق بطنه لهزالة وتشذب لحمه»(2) كما بلغ الزهد بنبي الله داود إلى درجة انه «كان يعمل سفائف الخوص بيده، ويقول لجلسائه: ايكم يكفيني بيعها ويأكل

ص: 521


1- خطب - 240 - فقرة 26
2- خطب - 11 فقرة 6، 7، 8، 9، الصفاق على وزن كتاب: هو الغشاء الرقيق الذي تحت الجلد، والتشذب، التفرق

قرص الشعير من ثمنها»(1) اما عيسى علیه السلام فقد «كان يتوسد الحجر، ويلبس الخشن ويأكل الجشب»(2) اما الرسول صلی الله علیه وآله وسلم فقد «قضم الدنيا قضما، ولم يعرها طرفا، أهضم أهل الدنيا كشحا، وأخمصهم من الدنيا بطنا»(3) وهذا التناهي في الزهد لم يكن - كما يرى علي علیه السلام - تسليماً لأمر واقع، لأنه اختيار فيه تثبيت لحقيقة رسالاتهم، وصدق اخلاصهم، لأنه «لو اراد الله سبحانه لأنبيائه حيث بعثهم، ان يفتح لهم كنوز الذهبان ومعادن العقيان، ومغارس الجنان لفعل»(4) ولو انه سبحانه هيأ لهم كل ذلك النعيم الدنيوي، ومنحهم السلطة والهيمنة على الناس، لبطل الثواب والعقاب، لأنهم سيستخدمون الرهبة والرعبة في تثبيت دعائم رسالاتهم، وهذا يتنافى وجوهر الإيمان الفطري المبني على الاقتناع الذاتي، البعيد عن أية تأثيرات خارجية. فالزهد والقناعة وقوة الإرادة، كل ذلك من دلائل النبوة، كما يرى علي علیه السلام، وفي ذلك يقول ان «الله سبحانه جعل رسله اولي قوة في عزائمهم، وضعفة فيما ترى الاعين من حالاتهم، مع قناعة تملا القلوب والعيون غنى، وخصاصة تملأ الابصار والاسماع اذى»(5) .

ص: 522


1- السابق، والسفائف جمع سفيفة: منسوجات الخوص
2- السابق، والجشب بكسر الشين: الغليظ الخشن
3- السابق، ويقضم يأكل على اطراف اسنانه، أي لم يملأ منها فمه، واهضم على وزن افعل من الهضم، وهو خمص البطن أي خلوها وانطباقها، والكشح، ما بين الخاصرتين إلى الضلع الخلفي، واخمصهم: اخواهم واخلاهم
4- خطب 240 - فقرة 11
5- المصدر السابق
الرابع - المعجزات وأهميتها بالنسبة للرسل:

زود الله سبحانه وتعالى رسله بالإضافة إلى قوة ايمانهم ومتانة اخلاقهم وقدرتهم الخارقة على تحمل المشاق بالقدرة على الاتيان بأعمال خارقة للعادة، متعذر على الإنسان العادي القيام بمثلها، مهما كانت قوته العقلية، والغاية منها إدهاش النفوس وإثارة العقول وتأكيدا لنبوة أولئك الرسل، وهي وإن ظهرت على أيدي أولئك فإنها خارجة عن حكم طبعاهم الإنسانية لأنها مستوحاة من قدرة الله، مما ينأى بها عن معاني السحر وغيرها من امور الشعوذة، فالفرق بين المعجزة على حقيقتها، والسحر بما يغلفه من كذب وزيف ينحصر في وجهين، كما يرى الماوردي(1) .

الأول: ان الشعبذة كذب وزيف وتضليل يمكن للعقلاء كشفه وإظهار زيفه ولا يمكن ان ينطلي الا «على الغر والجهول، فتخالف المعجزة التي تذهل لها العقول» .

الثاني: ان الشعبذة والسحر يمكن اكتسابهما بالتعلم والممارسة والمران و «المعجزة مبتكرة لا يتعاطها غير صاحبها ولا يعارضها أحد بمثلها».

واذا ما عدنا لفكر علي علیه السلام لنستفتيه في المعجزة، كدليل من دلائل النبوة، فسنجد انه قد عرض لها بجميع تفاصليها السابقة، لا على أساس البحث فيفحواها، ولكن على أساس روايتها كشاهد لا كفقيه أو متكلم. فبالإضافة إلى معجزة القرآن التي زود الله بها رسوله علیه السلام في مواجهته لتحدي الكفار، فقد ظهرت على يديه معاجز طبيعية واخرى على شكل تنبوءات مستقبلية شاهد

ص: 523


1- یراجع - اعلام النبوة ص 21، 22

علي علیه السلام قسما منها، ورواها بدقائق تفصيلاتها في مجال حديثه عن علاقته برسول الله صلى الله عيله واله وسلم وتصديقه برسالته، كمعجزة الشجرة واستجابتها لأمر الرسول صلى الله عيله واله وسلم بالانقلاع والانشطار والتحرك(1) وذلك بناء على طلب الرهط من قريش، تدعيما للقول بنبوته، وكان قبل قوله صلى الله عيله واله وسلم لهم متنبئا بمآلهم، وبما سيقومون به تجاه رسالته من اعمال عدائية «أتؤمنون وتشهدون بالحق، قالوا: نعم، قال: فإني سأريكم ما تطلبون، وإني لأعلم أنكم لا تفيئون إلى خير، وأن فيكم من يطرح في القليب ومن يحزب الأحزاب»(2) .

فالرسل والرسالات من القضايا التي استحوذت على جانب هام من فكر علي علیه السلام الاعتقادي، الا انه لم يفلسف تلك القضايا في قوالب كلامية لمجرد الجدل، فهو قد آدمج كل ما يتعلق بالأنبياء والرسل من افكار ضمن خطبه ووصاياه، للتذكير بجلائل اعمالهم والحض على الاخذ بمنهاجهم والاقتداء بسيرهم. وقد يكون فعله ذاك دافعا لاستنباط بعض الجوانب الفلسفية والاخرى الكلامية المتعلقة بالرسل والرسالات.

رابعا - الإنسان

اشارة

استوعبت قضايا خلق الإنسان ونشاته، ووصف انفعالاته ومصيره، على جزء كبير من فكر علي علیه السلام، وقد عالجها من منظور اسلامي بحت، وذلك تمشيا

ص: 524


1- راجع خطب - 240 فقرة 27
2- المصدر السابق نفسه، ويطرح في القليب - أي يقتل في بدر ( 2ه-)، ويعني بالقليب - بئر بدر، ويحزب الاحزاب - أي يحرض اعداء الإسلام ويمدهم بالقوة والمال سعيا في اخماده ويعني بذلكغزوة الاحزاب ( 5ه-)

مع منهجه الارشادي كقائد ومرشد، ويمكن استنتاج هذا الجانب من فكره بتتبعنا النقاط التالية:

أ- خلق الإنسان

أ- خلق الإنسان(1) :

لا يكاد فكر علي علیه السلام يخرج عن المنهج الذي رسمه القرآن الكريم لخلق الإنسان، الا في بعض التفاصيل التي يمكن اعتبارها تفسيرات وتوضيحات لجوانب أجملها القرآن الكريم، منها انه جعل خلق الأرض اسبق من خلق الإنسان كما في قوله «ثم جمع من حزن الأرض وسهلها وعذبها وسبخها تربة سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجعل منها صورة ذات احناء ووصول واعضاء وفصول، اجمدها حتى استمسكت واصلدها حتى صلصلت لوقت معدود، وامد معلوم. ثم نفخ فيها من روحه، فتمثلت انسانا ذا اذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها، وجوارح يختدمها، وادوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل»(2) فعلي علیه السلام قد اقتبس كل افكاره من الذكر الحكيم كما استعار أيضاً بعض الفاظه، كما في قوله «سنها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت»(3) فكثير من الفاظه مستعار من قوله تعالى:

«وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ»(4) وقوله تعالى:

ص: 525


1- حول قضية ابتداء خلق البشر في رأي فلاسفة المسلمين القدامى وغيرهم من أصحاب الديانات الاخرى يمكن مراجعة شرح ابن أبي الحديد 1/ 30 وما بعدها
2- خطب - 1 - فقرة - 4
3- خطب - 1 فقرة - 4
4- الحجر / 26

«إنِّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَزبٍ»(1) ويمكن الاستنتاج من تقديم علي علیه السلام لخلق الأرض على خلق الإنسان عدة معان، منها ما هو مبني على اختلاط انواع التربة التي خلق الله منها الإنسان وقد بينا جانبا من ذلك فيما سبق (2) . ومنها ما هو مستخلص من قوله بالوان التربة التي عجنت منها طينة الإنسان (3) ، وهو السبب في تباين الوان الجنس البشري. ومنها ما هو مبني على فكرة خلق الله سبحانه وتعالى البيئة الملائمة لكل مخلوق من مخلوقاته، فالبيئة الصالحة لعيش الإنسان، هي الأرض التي عجن من طينها.

ب - أصل العصبية:

إن قصة سجود الملائكة لآدم، بناء على أمر الله، وتمرد إبليس على ذلك الأمر، قد ذكرها القرآن الكريم بتفاصيلها، وقد عزا إبليس عدم امتثاله لأمر السجود، إلى أنه مخلوق من نار فهو افضل من آدم المخلوق من طين، مع ان الله سبحانه لم يقل بالتفريق في حكمه بين خلقه كما يقول علي علیه السلام، فإن «حكمه في أهل السماء، واهل الأرض لواحد»(4) لذلك اعتبر قول إبليس بالمفاضلة هو مصدر العصبية واصل الحمية التي يمقتها الرب، فإبليس في فكر على علیه السلام هو «امام المتعصبين، وسلف المستكبرين، الذي وضع أساس العصبية»(5) -

ص: 526


1- الصافات/ 11
2- راجع ص 422 من هذا البحث
3- راجع المعنى في: خطب 1 - فقرة 4
4- خطب - 240 - فقرة 5، 2
5- المصدر السابق

وتعصبه ذلك جعله يمقت آدم، ويحقد عليه منزلته عند الله، فأغواه وزين له المعصية فالعناصر الرئيسية للقصة موجودة في القرآن الكريم، إلا أن علياً علیه السلام قد وظّفها توظيفاً فكريا فحواه ان العصبية للجنس خارجة عن طبيعة الإنسان الخيرة وقد اكتسبها من جريه وارء اهوائه المتمثلة في إبليس.

ج - إهباط آدم إلى الأرض:

إن ما يمكن استنتاجه من فكر علي علیه السلام، هو أن أمر الله آدم بالنزول إلى الأرض، لم يكن جزاء الزلة التي اقترفها بمعصيته لله سبحانه، لأنه سبحانه قد تاب عليه قبل امره بالنزول، وهذا ما يمكن فهمه من قوله: «ثم بسط الله سبحانه له في توبته، ولقاه كلمة رحمته، ووعده المرد إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية»(1) ، وهو التفسير المنطقي السليم لما وورد بشأن ذلك في القرآن الكريم - كما نعتقد - لا كما قال ابن أبي الحديد «أن ذلك أحد قولي المفسرين»(2) لأنه قد عد الأمر الأول بالإهباط في قوله تعالى:

«وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ کُمْ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِی الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ»(3) انه قد حدث قبل التوبة، ولكن الآية الكريمة في سياقها التام، بضمها إلى ما قبلها توحي بأن لا تناقض بينهما وبين غيرها من الآيات التي قالت بحدوث التوبة قبل الأمر بالإهباط بدليل قوله تعالى:

«فَتَلَقَّ آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * قُلُناَ

ص: 527


1- خطب - 1- فقرة 4
2- شرح ابن أبي الحديد 1/ 102
3- البقرة / 36

اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا(1) وهو على تأويل الفخر الرازي «إن آدم وحواء، لما أتيا الزلة، أُمرا بالهبوط فتابا بعد الأمر بالهبوط. فأعاد الله تعالى الأمر بالهبوط مرة ثانية، ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزلة... بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة، لأن الأمر كان تحقيقاً للوعد المتقدم عليه في قوله:

«إِنِّی جَاعِلٌ فِی الْأَرْضِ خَلِيفَةً»(2) . وعلى هذا فاهباط آدم إلى الأرض -

كما يبدو في فكر علي علیه السلام - هو متسق مع فكرته القائلة بخلق الإنسان من مختلف تربة الأرض، لتلائم عيشه في كل بيئاتها المتخلفة، هذا بالإضافة إلى ان نظرة علي علیه السلام المؤمنة لا تتسق والقول: بأن الاهباط إلى الأرض هو لمجرد المعقاب، لأن العقاب لا يستحقه الا المذنب ذاته، ولا دخل لذريته ممن لم يرتكب اثما لتشملهم نتيجة الذنب، لأن ذلك يتنافى وعدل الباري الذي مثله قول علي علیه السلام «ارتفع عن ظلم عباده»(3)

د- مميزات الإنسان:

يتميز الإنسان في فكر علي علیه السلام بظاهرتين متقابلتين هما القوة والضعف.

فهو من ناحية أولى، يعتبره من أقوى مخلوقات الله على وجه الأرض، إذا ما قورنت امكاناته العقلية والجسدية بكل ما في الوجود من خلق، بما في ذلك قوى الطبيعة، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «أشد الأشياء الإنسان، لأن أشدها - فيما يرى - الجبل والحديد ينحت الجبل، والنار تأكل الحديد، والماء يطفئ النار،

ص: 528


1- البقرة، 37 ، 38
2- تفسير الفخر الرازي 3/ 28 والآية ضمن المقولة: البقرة/ 30
3- خطب - 33 - فقرة - 1

والسحاب يحمل الماء، والريح تفرق السحاب، والإنسان يتقي الريح»(1) أي بإمكانه السيطرة على كل شيء في الطبيعة، وتسخيره لحاجته، وذلك بقوة عقله، ولولا ذلك ما استطاع ان يحافظ على بقائه عبر العصور المختلفة، ولكان مصيره الانقراض، فالقوة بمعناها العام كما نستخلصها من مقولة علي علیه السلام هي حاجة غريزية وضرورية، لإثبات الوجود والمحافظة على بقاء النوع، والتدرج في مراقي الكمال.

وفي مقابل هذه القوة، فإن الإنسان من الضعف بحيث لا يمكنه دفع غائلة الموت عن نفسه، ليس ادل على ذلك من أن أتفه الأشياء واحقرها تؤثر فيه، وقد تقضي عليه، وفي هذا يقول علي علیه السلام«مسكين ابن آدم، مكتوم الأجل، مكنون العلل، محفوظ العمل، تؤلمه البقة وتقتله الشرقة وتنتنه العرقة»(2) .

وهذا التقابل بين القوة والضعف، ليس خارجا عن طبيعة الإنسان لأنه - كما يرى علي علیه السلام - قد خُلق وجوانحه تنطوي على أنواع مختلفة من التضاد العجيب، لأن النفس الإنسانية لا تستقر على حال ولا يرضيها نمط معين من العيش، ويعبر علي علیه السلام عن فكره ذاك بقوله «لقد عُلّق بنياط هذا الإنسان بضعة هي اعجب ما فيه، وذلك القلب، وله مواد من الحكمة واضداد من خلافها فإن سمح له الرجاء أذله الطمع، وان هاج به الطمع أهلكه الحرص، وان ملكه اليأس قتله الأسى وان عرض له الغضب اشتد به الغيظ، وان اسعده الرضى نسي التحفظ...»(3) وهكذا، فالنفس الإنسانية في شغل دائم، وجهد مستمر

ص: 529


1- شرح ابن أبي الحديد 20 / 280
2- حكم - 427
3- حكم - 107

بين أمل ورجاء وحزن وفرح، مع محاولة حثيثة لمعرفة المصير، والجري وراءه في ذهول أو محاولة التهرب منه بالتغافل عنه ولكن لابد من موافاته، لأنه القدر الحتمي كما نستخلص ذلك من فكر علي علیه السلام.

ه- المصير:

يقول علي علیه السلام ضمن وصيته لابنه الحسن علیه السلام«اعلم يا بني أن أمامك طريقا ذا مسافة بعيدة، ومشقة شديدة، وأنه لا غنى بك فيه عن حسن الارتياد، وقد بالغك من الزاد مع خفة الظهر، فلا تحملن على ظهرك فوق طاقتك، فيكون ثقل ذلك وبالاً عليك»(1) فالدنيا - كما تبدو في المقولة - معبر مفروض على الإنسان اجتيازه، وتحمّل مشاقه، ولكي يعبره الإنسان دون عناء، ولا مشقة فمن الواجب عليه ان لا يحمّل نفسه فوق طاقتها، وان يتزود من ذلك الطريق بما يقيم اوده، ويصلح عيشه، تاركا لغيره ان يعيش، فالنهاية حتمية والفرار منها موافاتها وفي ذلك يقول علي علیه السلام«كل امرئ لاق ما يفر منه في فراراه والاجل مساق النفس، والهرب منه موافاته»(2) .

ومعرفة حقيقة الموت بعيدة المنال عن فكر الإنسان العاجز عن معرفة حقيقة ذاته، فلا مجال اطلاقا للبحث فيها، لأن ذلك لن يوصل إلى أية غاية، ويجسد فكرته تلك في قوله عن نفسه «كم اطردت الأيام أبحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله، الا اخفاءه! هيهات علم مخزون»(3) فالأمر الذي حاول علي علیه السلام

ص: 530


1- رسائل - 31 - فقرة 15
2- خطب - 149 فقرة 1
3- خطب - 149 فقرة 1،2

معرفته هو سر الموت، ولكن فكره بما اشتمل عليه من طاقات علمية عميقة لا حدود لها، قد وقف دون الإحاطة إزاء هذا السر الإلهي، لذا فإن أقل ما يمكن أن يستفيده المرء من تجربة الموت في حياته هو النظر في الموت ذاته من خلال غيره، وفي ذلك أكبر العظات وأعظمها لو تأمل فيها الإنسان، وتعبيرا عن تلك الفكرة يقول علي علیه السلام وهو في النزع الأخير قبيل وفاته «إنما كنت جارا جاوركم بدني أيام، وستعقبون مني جُثَّ خلاء، ساكنة بعد حراك وصامتة بعد نطق، ليعظكم هدوئي، وخفوت إطراقي، وسكوت أطرافي، فإنه أوعظ للمعتبرين من النطق البليغ والقول المسموع»(1) .فإمعان الفكر والتأمل الواعي هو سبيل الإنسان للوصول إلى الإيمان، وهو ما يمكننا تلمسه في الفصل التالي.

ص: 531


1- المصدر السابق نفسه

ص: 532

الفصل الثاني: التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي علیه السلام

اشارة

إن قضية الإيمان بالله وتوحيده من أهم المحاور التي دارت حولها الأفكار في النهج، حتى أننا نكاد نلمحها في كل نص من نصوصه، فمن النادر جداً، أن نجد نصا تخلو مقدمته من تمجيد لله، والحض على شكره ببيان نعمه وأفضاله، إلا أن هناك نصوصا قائمة بذاتها قد اختصت بمعالجة قضية الإيمان، أودعها علي علیه السلام كثيراً من طاقاته الفكرية التي يرمي من ورائها إلى إبقاء جذوة الإيمان متفقدة، بعد أن كادت تخمد في النفوس جراء انفتاح الإسلام على أفكار الأمم الأخرى، والانشغال بالمادة، والركون إلى البذخ، والابتعاد، في كثير من الأحيان، عن روح النص القرآني، بمحاولة البحث في ذات الله بالجدل، إلى غير ذلك من عوامل استحدثتها ظروف النقلة المفاجئة، وأدت بإيمان الفرد إلى التقهقر. فانبثق لدى علي علیه السلام اقتناع بمعالجة القضية من جذورها بشتى وسائل الاقناع، من ذلك طرح قضية الإيمان من خلال الحديث المباشر عن الخالق، ونفي الصفات عنه وخلق الملائكة والكون، وأهمية الرسل، وقد عرضنا لذلك

ص: 533

فيما سبق، ومن وسائل المعالجة أيضاً التي أخذ بها، أسلوب إثارة الحواس والفكر نحو التأمل، بإجمال فكرة التوحيد في مقولات عامة، ثم محاولة تقربيها إلى الأذهان بتوظيفها في أمثلة تأملية تقربها من ذهن المسلم، فكانت الأوصاف الطبيعية احدى تلك الوسائل

أ- الأوصاف الطبيعية والغاية منها في فكر علي علیه السلام

اشارة

إن عنونة الشريف الرضي لبعض خطب النهج بعناوين موضوعات الوصف التي عرض إليها علي علیه السلام لا يعني على الإطلاق، أن عليا علیه السلام قد أورد ذلك الوصف كغاية في حد ذاته، بمعنى آخر أن موضوعات الوصف تلك لا تشكل نصوصا قائمة بذاتها من حيث بنائها الفني، فهي مدرجة ضمن نصوص دينية الغاية منها التوعية وترسيخ العقيدة، فاقتطاع تلك الأوصاف من سياقتها، يفقدها وظائفها التأملية، لأنها - كما نعتقد - امثلة عملية تطبيقية الغاية منها تقريب ما أجملته مطالع الخطب التي وردت فيها، من أقوال في التوحيد، إلى اذهان المستمعين، ليتسنى الاقتناع بها، والتأثر بما ورد فيها، باستثارة العقل، فموضوع وصف الطبيعة وبعض الكائنات، من العناصر الهامة لتقريب قضية الإيمان، وهو في النهج من جنس المثل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة (1) .

ص: 534


1- مما جاء في القرآن الكريم من وصف للجنة قوله تعالى:«مَثَلُ اَلْجَنَّةِ اَلَّتِي وُعِدَ اَلْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ عُقْبَى اَلْكافِرِينَ اَلنّارُ»محمد / 15 ، كما ان اوصاف الجنة في الاحاديث المروية عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم كثيرة يمكن ادركها من قوله صلی الله علیه و آله وسلم:«قال الله عز وجل: اعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» صحيح مسلم 4/ 2174

فمن خلال ملاحظتنا للبناء المحكم الذي تميزت به نصوص النهج - رغم الحذف الذي أجراه الرضي على كثير منها نرى أن نسيجه الأسلوبي من الترابط بحيث لا يمكن فصل هذا الجانب التأملي من فكر علي علیه السلام، عن البناء العام لفكره، فما انساب في تلك النصوص من اوصاف جمالية، مرتبطة في سياقه العام بالفكر الاجتماعي المتبلور في احد جوانبه بمعالجته لظاهرة تغلب الطابع المادي على الطابع الروحي، الذي على اساسه قاس علي علیه السلام إيمان أفراد المجتمع حين قسمهم من حيث العبادة إلى ثلاثة أقسام ضمنها قوله «أن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار»(1) فالتقسيم في المقولة يعكس من أحد جوانبه الحالة الاجتماعية وعلاقتها بالتطلعات المادية، وهذا ما يمكن تطبيقه - من وجهة نظرنا - على ما ورد من أوصاف جمالية ضمن نصوصها التي وردت في سياقاتها، الغاية من روائها التأمل في أقرب الأشياء، وأحقر الأشياء، وأعجب الأشياء، ليصل العقل في النهاية إلى إدراك الخالق العظيم من خلالها. فالثلاث فئات التي ذكرها علي علیه السلام في مقولته تعبد الله ولكن بتفاوت. تحكمه ظروف المستمع النفسية التي ترجع في الأساس إلى الطبيعة التي جبل عليها كل فرد، ولا بد من التحدث إليه ضمن الفئة التي ينتمي إليها بالأسلوب الذي يناسبه وإلا فلا جدوى من التحدث إليه، فقد عالج علي علیه السلام قضية الإيمان من أجدى زواياها بأسلوب التوصيل الذي يصلح لإقناع كل فئة على حدة، ويمكن إدراك أساليبه تلك من تبعنا لما عرض إليه من أوصاف جمالية في سياقاتها:

ص: 535


1- حكم - 236
أولاً - أسلوب الترغيب (عبادة التجار):

جبلت النفس الإنسانية على حب الذات والجري وراء كل ما فيه متعة ولذة وجمال فهي عادة ما تنبسط وتستجيب إذا ما أحست بما يدفعها نحو راحتها ويثير فيها كوامن الحوافز نحو هدفها، وكلما نجحت في الحصول على ما تشتهي سعى بها ذلك إلى طلب المزيد، ومن ورائها الدافع المنطوي على المغريات يحثها فالترغيب في الشيء البعيد المنال هو حافز طبيعي للإنسان يجري وراءه، ويثابر في الحصول عليه، لذلك ورد مثل ذلك الأسلوب الترغيبي ضمن آيات كثيرة في القرآن الكريم بتصوير الجنة، وما يحف بها من حدائق غناء تجرى خلالها انهار من خمر وعسل ولبن (1) ، إلى غير ذلك من مغريات مادية تجعل الفرد يستجيب لنداء ربه عن طريق الترغيب، وقد ورد مثل ذلك أيضاً ضمن كثير من الأحاديث النبوية الشريفة وقد انعكس هذا الأسلوب الترغيبي على ما أثر عن علي علیه السلام من خطب، فمن أبرز النصوص التي تجلى فيها عنصر الترغيب، الخطبة التي ضمنها وصف الطيور عامة، والطاووس منها على وجه الخصوص لما في خلقه من ابداعات تجتذب النفوس وتحير العقول، وفي اعتقادنا، ان اختيار علي علیه السلام الطاووس كمثال دون غيره من الطيور ذوات الألوان الزاهية، هو غاية في التوفيق، خاصة أنه ركز على الناحية الجمالية فيه، بوصف ألوانه وصفا رائعا ودقيقا من أجل تهيئة النفوس، وإعداد العقول لموضوع الإيمان الذي من أجله أورد علي علیه السلام ذلك الوصف، الذي استفرغ فيه كل ما أمكنه من طاقات لغوية، مستلهما معاني القرآن الكريم مستنجدا بأساليبه ليستجيب ذلك المثل لما يرمي إليه من أهداف دينية. مع ملاحظة أن الخطبة التي نحن بصددها ليست بكاملة،

ص: 536


1- أنظر في القرآن الكريم - محمد/ 15

لأنها لم تبدأ بالتحميد والصلاة على الرسول صلی الله علیه آله وسلم، حيث ابتدأت بالوصف مباشرة إذ جاء في مطلعها «إبتدعهم خلقا جديدا من حيوان وموات، وساكن وذي حركات، واقام من شواهد البينات على لطيف صنعته وعظيم قدرته»(1) فمطلع النص ناقص من حيث استيحائه للفكرة القائم عليها، والتي تبدو ومعالمها منخلال السياق الترغيبي المتمثل في أسلوب الاستدراج المرحلي، من وصف عام للطيور مع تركيز على اشكالها، وعجيب ألوانها بأسلوب يدعو إلى التأمل كما في قوله «ونعقت في اسماعنا دلائله على وحدانيته وما ذرأ من مختلف صور الأطيار التي اسكنها أخاديد الأرض وخروق فجاجها، ورواسي أعلامها، من ذوات أجنحة مختلفة وهيئات متباينة... كونها بعد إذ لم تكن في عجائب صور ظاهرة... ونسقها على اختلافها في الأصابيغ بلطيف قدرته، ودقيق صنعته، فمنها مغموس في قالب لون لا يشوبه غير لون ما غمس فيه...»(2) ثم يمضي في أسلوب الاستدراج بعد الوصف العام إلى تخصيص الوصف في الطاووس مركزا على عجيب شكله، وجمال الوانه مفتتحاً ذلك الوصف بقوله «ومن أعجبها خلقا الطاووس، الذي أقامه في أحسن تعديل، ونضد ألوانه في أحسن تنضيد بجناح أشرج قصبه، وذنب أطال مسحبه، إذا درج إلى الأنثى نشره من طيه وسما مطلا به على رأسه»(3) ويمضي في وصف حركاته، وإبداع الخالق في

ص: 537


1- خطب - 166 - الفقرة 1
2- السابق وذرأ: خلق، واأخاديد - جمع أخدود: الشق في الأرض، والخروق: الأرض الواسعة تخترق فيها الرياح، والفجاج - جمع فج: الطريق الواسع، والاعلام: جمع علم وهو الجبل، ونسقها: رتبها، والأصابيغ، مفرده صبغ وهو اللون وما يصبع به
3- السابق، نضد: نظم ورتب، واشرح قصبه، أي داخل بين آحاده ونظمها على اختلافها في الطول والقصر، إذا درج إلى أنثاه: إذا مشى إليها نشر ذلك الذنب بعد أن كان مطويا يسحبه لطوله

تنسيق ألوانه، مستلهما البيئة في تشبيهاته، حتى إذا احس بانشداد مستمعه إليه بعد ان أخذه في رحلة تأملية عاد به إلى الواقع المرجو من كل ذلك الوصف في قوله «فسبحان الذي بهر العقول عن وصف خلق جلاه للعيون، فأدركته محدود ومؤلفا ملونا، وأعجز الألسن عن تلخيص صفته، وقعد بها عن تأدية نعته»(1) .

ثم يستطرد في تسبيحه مستعرضا في عجالة خاطفة خلق أصناف أنواع أخرى من الحيوان، حتى إذا أحس من مستمعه الاقتناع الممزوج بالتأمل، دخل به إلى غرضه الرئيسي، وهو الإيمان عن طريق الترغيب بعد ان هيأ نفسه إلى ما يريد بثه فيها متابعا نهجه الاستدراجي التأملي وذلك بالانتقال إلى وصف الجنة في قوله «فلو رميت ببصر قلبك نحو ما يوصف لك منها، لعزفت نفسك عن بدائع ما أخرج إلى الدنيا من شهواتها ولذاتها وزخارفها، ولذهلت بالفكر في اصطفاق أشجار غيبت عروقها في كثبان المسك على سواحل أنهارها، وفي تعليق كبائس اللؤلؤ الرطب في عساليجها وأفنانها، وطلوع تلك الثمار مختلفة في غلف أكمامها...»(2) كل ذلك أعده الله سبحانه كما يقول علي علیه السلام: لقوم «لم تزل الكرامة تتمادى بهم حتى حلوا دار القرار، وآمنوا نقلة الأسفار، فلو شغلت قلبك أيها المستمع بالوصول إلى ما يهجم عليك من تلك المناظر المؤنقة، لزهقت

ص: 538


1- المصدر السابق نفسه. بهر العقول: قهرها وردها، جلاله بتشديد اللام وفتحها: كشفه
2- السابق - فقرة 5- وعزفت: نبذت وكرهت، اصطفاقي الأشجار: حفيفها، والكثبان - جمع كثيب: التل، عساليجها - جمع تكسير مفرده عَسلج بضم فسكون فضم، أو عسلوج: وهو الغصن اللدن الناعم، أفنانها - جمع تكسير مفرده فنن: الغصن، وغلف - بضمتين جمع غلاف - هو الوعاء النباتي الذي يحفظ طلع النخلة فيها، والإكمام - جمع كم بكسر الكاف - وهو غطاء النوار، والمؤنقة: المعجبة

نفسك شوقا إليها، ولتحملت من مجلسي هذا إلى محاورة أهل القبور استعجالا بها. جعلنا الله واياكم ممن يسعى بقلبه إلى منازل الابرار برحمته»(1) ، فالرحلة التاميلية التي أخذ علي علیه السلام بلب مستمعه إليها جذابة ومغرية، والوصف كان محورها والنفس الطامعة في نعيم الله كانت الجائلة في ربوعها، ونعيم الفردوس هو جزاء تلك النفس على ايمانها لله.

ثانياً - أسلوب الترهيب (عبادة العبيد):

استنار علي علیه السلام بهدي القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة في توظيفه وصف بعض مخلوقات الله كأمثلة ضمن أساليب الترهيب التي حاول من خلالها دحض مزاعم من انكر وجود الخالق، وكفر بنعمه العميمة، وقد تجلى ذلك بوضوح في خطبته التي ضمنها وصف النملة والجرادة ومخلوقات اخرى، وقد وظف ذلك الوصف - لغرضه الترهيبي توظيفا محكما، يتعذر معه فصله عن سياقه، وتشريحه كجزء منفرد، بتركيز الضوء على ما فيه من دقة متناهية لأن هذا الوصف لم يكن مقصودا لذاته، ثم ان تميزه بالجمال والشمولية، يمنح السياق الذي ادرج فيه بعدا تأملياً، القصد منه هز النفوس بجعلها تجنح إلى التفكر في المصير من خلال امعان النظر فيما اودعه الخالق في هذا الكون من ابداع يحار منه العقل وتذهل له النفس، فساق في جادة الإيمان متحاشية العذاب، ومقرة بالربوبية.

فبعد تحميد الله، وتنزيه ذاته عن كل الصفات العقلية المتخيلة، وبعد الصلاة على الرسول صلی الله علیه و آله، وذكر بعض فضائله، يدخل علي علیه السلام في موضوع الوصف، بعد ان يقدم له بمقدمة مقتضبة، يمكن اعتبارها الحمة الرابطة بين فكرة التوحيد التي

ص: 539


1- المصدر السابق نفسه

وردت في الصدر، وبين الوصف التالي لها إذ يكمن ما اجمله سابقا ويريد عرضه لاحقاً بضرب الامثلة التي تثبت صحة فكره وتعضده من الناحية الإقناعية فيقول «ولو فكروا في عظيم القدرة، وجميم النعمة لرجعوا إلى الطريق، وخافوا عذاب الحريق، ولكن القلوب عليلة، والبصائر مدخولة، الا ينظرون إلى صغير ما خلق»(1) ، ثم يباشر بالدخول في وصف جسم النملة واستشعاراتها، وحركتها في جريها وراء تحصيل رزقها في أوقات تدرك بقدرة من الله أوانها، فتعمل جاهدة في جمع قوتها وادخاره لفصول يتعذر فيها العمل (2) ، ثم ينتقل إلى مقارنة سريعة بين النملة في صغر حجمها وبين النخلة في كبر حجمها وهيئتها وشكلها، دون الدخول في تفاصيل جزئية، لأنه يرمي من وراء ذلك اطلاق العقل لتأمل التفاصيل وكشفها بمفرده، وفي ذلك يقول «ولو ضربت في مذاهب فكرك لتبلغ غاياته، ما دلتك الدلالة الا على أن فاطر النملة هو فاطر النخلة لدقيق تفصيل كل شيء وغامض اختلاف كل حي، وما الجليل واللطيف، والثقيل، والخفيف، والقوي والضعيف في خلقه الا سواء»(3) .

إلا أن الاضطراب سرعان ما يسود فقرات الوصف، حين يتقدم وصف الكون على وصف الجرادة، مع ملاحظة أن الترتيب المنطقي للأفكار يحتم الانتقال من العام إلى الخاص، كما عهدنا ذلك في الخطبة التي حوت وصف الطاووس، أو من الصغير إلى الكبير بالتدرج، ونعتقد أن هذا التقديم والتأخير في ترتيب الأفكار ضمن كثير من نصوص النهج لم يكن من فعل علي علیه السلام لأنه لا يتناسب

ص: 540


1- خطب - 233 فقرة 3 ومدخولة معيبة
2- راجع السابق - نفس الفقرة
3- راجع السابق

والتسلسل الفكري الذي عهدناه فيما وصلنا عنه من خطب ورسائل ووصايا متكاملة البناء (1) ، مع ترجيحنا ان ذلك من فعل جامع النهج، الذي أشار في مقدمته إلى مثل ذلك الأسلوب في تنسيق المادة (2) لتتفق ومنهجه الانتقائي.

فالجرادة هي المثل الثاني الذي عرض علي علیه السلام إلى وصفه للتدليل على قدرة الله وعظمته، وقد ضمنه فيما نعتقد نوعا من عقاب الله المبطن في وصفه لما تحدثه الجرادة في الزرع من دمار، ووقوف الإنسانية إزاء ذلك المخلوق الصغير مكتوفة الايدي، وهو مجرد اعتبار وتأمل، في نوعية العذاب الذي يمكن لله صبه على من يجحد نعمه، مهيئاً لذلك أتفه الأسباب واحقرها، ويمكن استخلاص ذلك من قوله «يرهبها الزراع في زرعهم، لا يستطيعون ذبها ولو أجلبوابجمعهم، ترد الحرث في نزواتها وتقضي منه شهواتها، وخلقها كله لا يكون إصبعا مستدقة»(3) .

ويلي وصف الجرادة والحديث عنها، حديثه عن السماء والكون وذلك في عجالة تأملية غايته منها بثّ الرهبة والخوف في نفوس مستمعيه من غضب الله وعذابه ونقمته بانياً حديثه على قاعدة متينة من الإيمان العقلي الممزوج بما يناسب المخاطب من تهديد ووعيد، لإنكاره وجود الخالق، مع أن الشواهد الكونية من حوله لو تأملها بعين عقله، واستلهم مكوناتها ببصيرته دون أية مكابرة لتوصل إلى فكرة الخالق الواحد، وفي ذلك يقول علي علیه السلام «فالويل لمن أنكر المقدر، وجحد المدبر، زعموا أنهم كالنبات ما لهم زارع، ولا لاختلاف

ص: 541


1- راجع على سبيل المثال - خطب 3، 240 ورسائل - 31 ، 53
2- راجع ص 38 ، 123 وما بعدها من هذا البحث، فقد عرضنا لذلك بالتفصيل
3- خطب - 233 - فقرة 5، وذبها: دفعها، ونزواتها - وثباها ونزا على الشيء وثب عليه

صورهم صانع، ولم يلجأوا إلى حجة فيما ادعوا، ولا تحقيق لما اوعوا. وهل يكون بناء من غير بان، أو جناية من غير جان»(1) وبهذا يصل علي علیه السلام بالوصف إلى غايته المطلوبة، بزرع الخشية في النفوس لتجنيبها مغبة الانزلاق في مهاوي الكفر بكفرانها الخالق وجحود نعمه.

ثالثاً - أسلوب الإقناع الذاتي (عبادة الأحرار):

من ناحية ثالثة، وفي سياق التوعية إلى وجود الخالق سبحانه، ونفي الصفات عنه وتوحيده، اتبع علي علیه السلام أسلوب الوصف كعامل ايقاظ للفكر بتأمل الكون، ولكنه لم يقرن ذلك الوصف باي عامل ترغيبي أو ترهيبي، لأنه في هذا الجانب يتحدث إلى عقول تواقة إلى المعرفة من أجل المعرفة لذاتها، فالتأمل في مثل حالات أولئك يحتاج إلى المثير العقلي الذي يدهش، وهو في الوقت نفسه قريب من تناول الفكر، وقد وجد علي علیه السلام في توظيف وصف الخفاش لمثل تلك الشريحة الإنسانية بغيته، لأن خلقه يدعو إلى التأمل ويثير الاستغراب، فتصرفاته تختلف في شكلها وطبيعتها عن بقية مخلوقات الله الاخرى الموجودة في الكون وتحت نظر المخاطبين.

فبعد الحمد له والقول بعجز العقول عن وصفه، وادراك كنهه ينتقل علي علیه السلام إلى فقرة ثانية يسترسل فيها بالحديث عن عظمته جل شأنه يبدؤها بقوله «هو الله الحق المبين، احق وابين مما ترى العيون، لم تبلغه العقول بتحديد فيكون مشبها، ولم تقع عليه الاوهام بتقدير فيكون ممثلا»(2) ويمضي في أساليب التنزيه تلك (3) .

ص: 542


1- المصدر السابق نفسه، ولم یلجأوا: لم یستندوا، واوعوا: حفظوا
2- المصدر السابق نفسه، ولم يلجأوا: لم يستندوا، واوعوا: حفظوا
3- خطب - 155 - فقرة 2

حتى يبلغ الغاية في شد الأفكار إليه بالتأمل في فحوى المعاني القدسية المطلقة، إلى أن يصل إلى قضية الخلق، ذلك المشكل الذي استعصى على العقل البشري إدراكه ومعرفة سره، مدمجا إياه في البناء الفكري لموضوع التوحيد، مبنيا ضمن ذلك القدرة الربانية في خلق الأشياء بلا نماذج تماثلها، دون استعانة بفكر يتأملها ولا معاونة من شريك يقاسم الخالق في فطرتها «فتم خلقه بأمره، وأذعن لطاعته، وأجاب ولم يدافع، وانقاد ولم ينازع»(1) .

وحثّا للعقول نحو التأمل، ينزل علي علیه السلام بمستمعه من المطلق إلى الواقع متخذا من عجائب خلق الخفاش مثالا على القدرة الربانية، وتتمثل جوانب الاستثارة والاستغراب في خلق هذه الحيوانات كما يرى علي علیه السلام:

1- أنها لا تتمكن من الطيران والسعي وراء رزقها الا في المساء عند غروب الشمس، بعكس مخلوقات الله الاخرى خاتما بهذه الفكرة بقوله «فسبحان م جعل الليل لها نهارا ومعاشا والنهار سكنا وقرارا»(2)

2- وأن هذه الخفافيش يمكنها الطيران مثلها في ذلك مثل بقية خلق الله من الطيور ولكن أجنحتها كما يصفها علي علیه السلام«من لحمها تعرج بها عند الحاجة إلى الطيران كأنها شظايا الأذان»(3) فهي ليست برقيقة ولا غليظة ومترابطة فيما بينها بعروق رقيقة، وهي ليست مكونة من ريش، فهي لا تحتاج في طيرانها إلى قوادم وخواف.

3- ومن العجيب في خلقتها أيضاً كما يقول علي علیه السلام إنها «تطير وولدها

ص: 543


1- خطب - 155 - الفقرات، 3
2- المصدر السابق فقرة 2
3- المصدر السابق

لاصق بها، لاجئ إليها، يقع إذا وقعت، ويرتفع إذا ارتفعت، لا يفارقها حتى تشتد أركانه، ويحمله للنهوض على جناحه، ويعرف مذاهب عيشه ومصالح نفسه»(1) .

وبعد رحلة التأمل تلك من خلال وصف عجيب خلق الخفاش، يعود علي علیه السلام بمستمعه إلى موضوع الإيمان الذي هو بصدد محاورة العقول في فحواه، وكأنه يريد ان يقول لمستمعه من خلال ما عرض له من وصف، انك متى أنعمت النظر فيما حولك، وتأملت بقلب واع الكون وما فيه من كائنات، لابد ان تصل إلى الإيمان الفطري بعظمة الخالق وتوحيده.

فالإيمان هو القضية الكبرى التي عالجها علي علیه السلام بمختلف الاساليب الفكرية، فكان الوصف والتأمل أحد تلك الأساليب.

فقضية الإيمان كجانب فكري رئيسي يجب أن ينظر إليها في النهج في اطارها المتكامل، والوصف جزء متمم لها، أو بعبارة أوضح، موظف توظيفا محكما لإضاءة الجوانب الفكرية في النص. هذا بالإضافة إلى جانب ثان يتمثل فيتداعي الأفكار في تفسير الآيات القرآنية الذي يمكن عده رافد فكرياً آخر من روافد معالجة قضية الإيمان في فكر علي علیه السلام.

ب - تداعي الأفكار في تفسير آيات القرآن الكريم

المتعلقة بمعاني الحياة والموت والإيمان

تكاد معظم كتب الرجال التي ترجمت لعلي علیه السلام تجمع على القول بغزارة

ص: 544


1- خطب - 155 - الفقرات 2، 3

علمية في مجال الفقه والفرائض والقضاء والتفسير (1)، فما يروى عن ابن عباس في ذلك قوله «قسم عِلْم الناس خمسة أجزاء فكان لعلي علیه السلام منها أربعة أجزاء ولسائر الناس جزء وشاركهم علي علیه السلام في الجزء فكان أعلمهم»(2) وفي مجال علوم القرآن يقول علي علیه السلام عن نفسه «والله ما نزلت آية إلا وقد علمت فيم أنزلت وأين أنزلت »(3) ، كما يرى الشيعة أنه أول من صنف في التفسير(4) ، وقد حفظ لنا نهج البلاغة ثلاثة نصوص في التفسير هي:

1- ما قاله بعد تلاوته:«أَلْهَاکُمُ اَلتَّکَاثُرُ*حَتّى زُرْتُمُ اَلْمَقابِرَ»(5) .

2- ما قاله عند تلاوته: «يسبح له فيها بالغدو والاصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله»(6) .

3- ما قاله عند تلاوته:«یَا أَیُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّکَ بِرَبِّکَ الْکَرِیم»(7) .

ويمكن عد استرسال علي علیه السلام في التعليق على تلك الآيات، نموذجا من نماذج تفسيره للآيات المتعلقة بالجانب التأملي المنطوي على معاني الإيمان والحياة والموت، والمبني في أساسه على الأساليب البيانية التي تعمد إلى تفتيق المعاني،

ص: 545


1- راجع سبط بن الجوزي - تذكرة الخواص ص 51 - الكنجي - كفاية الطالب ص 179 المحب الطبري - ذخائر العقبى ص 77
2- ابن عساكر - ترجمة الإمام علي علیه السلام من تاريخ دمشق 3/ 45 - بتحقيق محمد باقر المحمودي
3- أبو نعيم الحافظ - حلية الأولياء 1/ 68 وجاء مثله عند ابن عبد البر - الاستيعاب بهامش الإصابة 43/3
4- راجع: حسن الصدر - تأسس الشيعة لفنون الإسلام ص 316 وما بعدها
5- خطب - 218 والآية من سورة التكاثر/ 1، 2
6- خطب - 219 - والآية من سورة النور / 36 ، 37
7- خطب - 220 - والآية من سورة الانفطار/ 6

وتجسيدها في صور تطلق للفكر العنان لينساح في سبحات دينية تتناسب وما يكمن في الآيات المفسرة من تعبيرات عميقة. وعلي علیه السلام لی حين يتناول هذا الجانب القرآني بالتحليل لا يقف عند حدود المعاني القاموسية بل يضرب بفكره في اعماق الكلمة، متأملا طاقاتها شاحذا اياها كي تستجيب للمعاني التي يريد من خلالها تجسيد كل ما يهز الاعماق ويثير الاحساس ويطلق للعقل عنان التفكير فيما وراء المحسوس ويكفي ان تأخذ الآية الأولى كنموذج لذلك النوع من التفسير التأملي.

فكلمة المقابر وعلاقتها بالبشر في قوله تعالى:

«أَلْهَاکُمُ اَلتَّکَاثُرُ*حَتّى زُرْتُمُ اَلْمَقابِرَ»(1) لم تقصر على المعنى الظاهر للموت، بل سلكت ايحاءاتها تأملاً عميقا في معنى الحياة، واستبطاناً في فحوى الموت، لتجسد ما تزخر به الآية الكريمة من طاقات معنوية تسلك طريقها إلى النفوس، وتوقظ الاحاسيس بسيطرة أساليب الانشاء على النص التفسيري، حين ورد التعجب في صدره ليلقي بالمستمع في بحر متلاطم من الاستغراب الذي يشد الانتباه، ويجذب الاسماع ويطلق للعقول عنان التأمل كما في قوله بعد عرض الآية على الأسماع مباشرة «يا له مرماً ما أبعده وزوراً ما أغفله، وخطوا ما أقطعه، لقد استحلوا منهم أي مذكر، وتناوشوهم من مكان بعيد»(2) ، فقد بنى علي علیه السلام السياق الفكري لمطلع التفسير على مقولة فحواها عدم جدوى فخر الأحياء بأسلافهم من الموتى، والتخلي عما استطعموه من أفعال وآثار خلفوها وراءهم، والأجدى لأولئك الأحياء التأمل في حالهم ومآل مصيرهم، بالاتخاذ

ص: 546


1- التكاثر/ 1، 2
2- خطب - 218 - فقرة -1

من حال أولئك الموتى في مقرهم الابدي عظات وعبر، وتمكنهم من تلافي ما فرط منهم من اعمال لا يرضاها الله قبل مباغتة الموت لهم.

فالتقريع على تفريط الفرد فيما وهبه الله من نعم مقابل الإيمان، والتباهي بعصبية الأنساب والأصول هو المعنى العام للآية، إلا أن علياً علیه السلام لا يكتفي بذلك المعنى حين يقرر بأسلوب تأملي مناسب، أن لا جدوى من التفاخر بالأنساب من خلال أولئك الموتى، ولا طائل من التباهي بما خلفوه من آثار تركوها بعد فراقهم، لأن الأجدى من وجهة نظره «لأن يكونوا عبرا من أن يكونوا مفتخرا»(1) .

ومن خلال عبارات تأملية تتداعى أفكار علي علیه السلام لتأخر بألباب مستمعيه في رحلة استبطانه عبر المقابر ليستنطقها حال أولئك المفتخر بهم من الموتى وعلاقتهم الحقيقية بأولئك الذين يفتخرون بهم، فتجيب قائلة «ذهبوا في الأرض ضلالا، وذهبتم في أعقابهم جهالا، تطأون في هامهم، وتستثبتون من أجسامهم، وترتعون فيما لفظوا، وتسكنون فيما خربوا، وإنما الأيام بينكم وبينهم بواك ونوائح»(2) فالتصاعد الأسلوبي يصل بالتأمل إلى ذروته حين ينتقل علي علیه السلام بفكره، من استنطاق الجماد إلى تصوير رحلة الموت الرهيبة في بطن الأرض، حيث تعبث الدود في أجساد لتوها قد أودعت التراب، وأخرى محا معالمها التراب، وهتكها البلى، بتقادم العهد عليها، بحيث يعجز

ص: 547


1- راجع السابق
2- خطب - 218 - فقرة - 1. والضلال - بضم الضاد وتشديد اللام وفتحها - جمع ضال - أي ضائع وتائه غير مهتد. وتطأون هامهم: تدرسون وتمشون عن رؤوسهم، والهام جمع هامة أعلى الرأس، وتستثبتون من أجسادهم أي تبنون وتنشؤون من تراب أجسادهم، وترتعون فيما لفظوا: أي تأكلوه وتتلذذون بما طرحوه وخلفوه

شرح معاني الموت في رحلته التأملية الطويلة كما صورها فكر علي علیه السلام.

على أن علياً علیه السلام لا يترك مستمعه وحيدا في خضم تأملاته العميقة تلك دون ان يشركه في تصوره للموتى في قبورهم في قوله «فلو مثلتهم بعقلك، أو كشف عنهم محجوب الغطاء لك، وقد ارتسخت اسماعهم بالهوام فاستكت، واكتحلت أبصارهم بالتراب فخُسفت، وتقطعت الألسنة في أفواههم بعد ذلاقتها... لرأيت أشجان قلوب، وأقذاء عيون، لهم في كل فظاعة صفة حال لا تنتقل، وغمرة لا تنجلي، فكم أكلت الأرض من عزيز جسد، وأنيق لون...»(1) فالحال قد تبدل، والسعي الدؤوب وراء مقتنيات الدنيا قد توقف، والجمال قد تشوه، وقد ران الهدوء الأبدي على كل شيء من حولهم، فلم تعد العواطف توقظهم ولا تغير الأجواء يململهم من سباتهم العميق، فلا جديد يغير من حالاتهم في مقامهم الأدبي حتى يوم يبعثون.

على أن استرسال علي علیه السلام في تصور حال الموتى في قبورهم من خلال تداعي معاني الآية الكريمة، هو امتداد لدورة الحياة المستمرة كما تصورها فكره، فالبداية والنهاية متعاقبتان في دورة مستمرة لا تتوقف، ويمكن للمتأمل أن ينظر إليهما في تعاقبهما من أية زاوية يشاء، لذلك لم يتقيد في عرضه للحياة والموت، بالترتيب العقلي المتصور، حين بدا تفسيره بأسلوب التقريع عن طريق اثارة مستمعه من خلال أساليب التعجب التأملية المتعاقبة تلا ذلك باستنطاق الأرض عن حالها

ص: 548


1- السابق - فقرة - 4 وارتسخت، مبالغة في الرسخ أي نضوب مستودع قوة السمع، وذهاب مادته بفعل عوث الديدان والهوام فيه، واستكت الأذن: صمخت، وخسفت العين: أي انفقأت وتشوهت بفعل التراب وذلاقة الالسن: قوة نطقها

إزاء الموتى، ثم بوصف الموتى في أجداثهم، وأثناء عبورهم البرزخ 1(1) ، خاتما تأملاته الفكرية في معاني الآية الكريمة بوصف بداية نهاية الإنسان وما يعتبر من أوصاب وعلل ونكسات صحية تتلوها سكرات الموت ومن ثم الفراق الأبدي فيقول علیه السلام في خاتمة ذلك «فبينما هو كذلك على جناح من فراق الدنيا، وترك الأحبة، إذ عرض له عارض من غصصه، فتحيرت نوافذ فطنته، ويبست رطوبة لسانه، فكم من مهم من جوابه عرفه فعيي عن رده ودعاء مولم بقلبه سمعه فتصام عنه! من كبير كان يعظمه أو صغير كان يرحمه»(2) . فتفسير علي علیه السلام هذه الجوانب الماورائية وربطها بالواقع، لم يعد مجرد توضيح المعاني من خلال شرح مقتضب، فقد استحال إلى طاقات من المعاني الإيحائية الموجهة توجيها فكريا عًمقياً وواعيا، الهدف منها ايقاظ حس الإنسان بالتحدث إلى نفسه لزرع الإيمان والخشية في اعماقها، والأخذ بيده إلى الصلاح والخير عن طواعية واقتناع. ولو تأملنا في تفسيره للآيتين الأخريين لوجدنا أنهما لا تبتعدان في مهجهما الفكري عما

ص: 549


1- وردت كلمة البرزخ عند علي علیه السلام ضمن التفسير في قوله عن الموتى انهم «سلكوا في بطون البرزخ سبيلا سلطت الأرض عليهم فيه »وقد فسر ابن أبي الحديد البرزخ بتفسيرين: بمعنى القبر، وما بين الدنيا والاخرة من وقت الموت إلى البعث شرح النهج 11 / 145، أما ميثم فقد أخذ بالمعنى الثاني المتمثل فيما بين الدنيا والآخرة من وقت الموت إلى البعث شرح ميثم 4/ 59 ورجح المعنى الثاني أيضاً الخوئي في منهاج البراعة 14 / 217 ، 218 . وأخذ كل من محمد عبده في شرحه ص 416 ط الأندلس، ومحمد جواد مغنية في ظلال النهج 3/ 289 المعنى الأول المتمثل في القبور، ونحن نرجح ان معنى البرزخ هو ما أخذ به كل من ميثم والخوئي وهو المدة الزمنية التي يقطعها الميت بين وفاته حتى يوم بعثه على اعتبار قول علي علیه السلام سلكوا والسلوك معناه المشيء، ولو أنه عنى القبر لقال سلكوا بطون البرازخ بصيغة الجمع ليتفق مع الفعل سلكوا
2- خطب - 218 - فقرة 4 في نهايتها، ونوافذ فطنته: افكاره الصائبة وعي: عجز

أورده فيما عرضنا له إلا بالقدر المؤدي إلى الغاية الأساسية التي يتوجه بها النص القرآني من معان إيحائية، حيث تكون الآية هي المنطلق للتعبير الفكري عن معاني الإيمان والحياة والموت والعقيدة وغير ذلك من موضوعات تأملية أخرى. هذا وقد عرضت نصوص النهج من ناحية ثالثة إلى عدة قضايا غيبية، كالحديث عن مصير الخوارج مستقبلا (1) والفتنة التي سيحدثها الأمويون (2) ، وما ستصير إليه البصرة (3) ، وما سيؤول إليه الوضع الإسلامي على أيدي الترك وغيرهم (4) ، إلى غير ذلك من تنبؤات، يجدر الوقوف على حقيقتها من وجهة نظر علي علیه السلام.

ج - القضايا الغيبية في فكرعلي علیه السلام

اشارة

إن الإيمان بالغيب هو من صلب العقيدة الإسلامية وهو من المسلمات التي لا تقبل الجدل كما في قوله تعالى في وصف المؤمنين حقيقة:

«الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ»(5) .

والمقصود بالغيب، كما نفهمه هو كل ما لا يمكن للحواس معرفته، ولا للتجارب الوصول إلى غايته، «فالإيمان بالغيب هو الاعتقاد بموجود وراء المحسوس»(6) وعلم الغيب بمعناه الماورائي من اختصاص الخالق سبحانه من دون غيره من

ص: 550


1- راجع خطب - 36 ، 57 ، 58 ، 59
2- راجع خطب - 92 فقرة 2
3- راجع خطب - 13 وفي تنبئه بما سيحصل بالكوفة مستقبلا راجع خطب 47
4- راجع خطب - 128
5- البقرة/ 3
6- تفسير المنار 1/ 127

المخلوقات مهما تسامت مكانتها وذلك بناء على قوله تعالى:

«قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إلِّاَ الله»(1) وعلى ذلك فإن جميع الرسل والانبياء لا يعلمون الغيب، وفي قوله تعالى لرسوله صلی الله علیه و آله وسلم:

«وَمِنْ أهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَی النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ»(2) ما يؤكد عدم احاطة الأنبياء بعلم الغيب، لأن فحوى الآية يؤكد عدم اطلاع الرسول صلی الله علیه و آله وسلم على خبايا المنافقين في المدينة من حوله رغم أنهم أقرب الناس إليه، كما ورد في القرآن ما مفاده ان قريشا قد طلبت من الرسول صلی الله علیه و آله وسلم ان يعلمها - إذا كان رسولا حقا - بأوقات الرخص والغلاء، والخصب والإجذاب، فكان رد النبي صلی الله علیه و آله وسلم على طلبهم من خلال قوله تعالى:

«قُلْ لا أَمْلِکُ لِنَفْسی نَفْعاً وَ لا ضَرا اِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ کُنْتُ أَعْلَمُ الْغَیْبَ لاَسْتَکْثَرْتُ مِنَ الْخَیْرِ وَ ما مَسَّنِیَ السُّوءُ»(3) . إلا ان ذلك لا ينفي ان يلطع الله سبحانه أنبياءه على بعض الجزئيات الغيبية، كبراهين تعضد صدق رسالاتهم كما في قوله تعالى:

«عالِمُ الْغَیْبِ فَلا یُظْهِرُ عَلی غَیْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارْتَضی مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ یَسْلُکُ مِنْ بَیْنِ یَدَیْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً»(4) فالرسول صلی الله علیه و آله وسلم قد كان يعرف بعض الجزئيات الغيبية بإيحاء من الله سبحانه مما يعني ان معرفته تلك مكتسبة،

ص: 551


1- النمل / 65
2- التوبة/ 101
3- الاعراف/ 188 وراجع سبب نزول الآية عند: الطبري مجمع البيان 9/ 78
4- الجن/ 26،27

وقد ذكر الماوردي جانبا من المعرفة المكتسبة تلك (1) ، التي يمكن من خلالها الدخول إلى موضوع الغيبيات في فكر علي علیه السلام.

لقد حاول بعض الدارسين لشخصية علي علیه السلام، تحليل بعض جوانبها النفسية لتعليل القضايا الغيبية التي صدرت عنه (2)، كما حاول فريق آخر منهم الغاء ذلك الجانب الغيبي فيما أثر عن علي علیه السلام من نصوص لاعتقادهم بأنه مدسوس عليه (3) ، الا اننا نرجح صحة ذلك الجانب من الاقوال المنسوبة إليه، أو على الاقل الجزء الاكبر منها، ويؤيد ترجيحنا ذلك قرائن منها:

أولا - تأليه علي علیه السلام:

إذ تكاد كثير من كتب السير التي ترجمت لعلي علیه السلام تذكر انه قد احرق قوماً الهوه (4) ، وقد بقيت عقيدة تأليهه في فرق بعد مماته ذكرها الشهرستاني (5) ، وتقديس الفرد بجعله في مرتبة الإله لا يتولد عند الناس من فراغ، ولولا مشاهداتهم لصدق بعض نبوآته، وظهور بعض الخوارق في أفعاله وأقواله لما

ص: 552


1- راجع أعلام النبوة ص 106 وما بعدها
2- راجع بشأن ذلك ما قاله في علي علیه السلام عبد الفتاح عبد المقصود - الإمام علي 94/1 علیه السلام وراجع ما قاله بشأن تحليل علم علي علیه السلام بالمغيبات - الخوئي - منهاج البراعة 3/ 140 ، ومغنية في ظلال - النهج 1/ 109 ، ويؤيد ذلك ويعضده ما قاله ابن خلدون في كرامات أهل البيت علیهما السلام في مقدمتهص 416
3- راجع بشأن ذلك - العقاد - عبقرية الإمام علي علیه السلام ص 140 ، وأحمد الحوفي - بلاغة الإمام علي علیه السلام ص 98
4- راجع ابن عساكر - ترجمة الإمام علي علیه السلام من تاريخ مدينة دمشق 3/ 179 بتحقيق المحمودي
5- راجع - الملل والنحل 1/ 175 وما بعدها

غلوا فيه، ولا نظن ان قوله «سيهلك في صنفان: محب مفرط يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغض مفرط يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالا النمط الاوسط فالزموه»(1) الا وليد استنتاجاته مما يدور حول شخصه من حب بلغ التقديس وبغض بلغ حد الكراهية والحقد.

ثانياً: تكرار دفع تهمة الكذب عن نفسه:

إن تكرار دفع تهمة الكذب (2) عن نفسه في مواضع عدة من النهج لم ترد عرضا ودونما أسباب، فلولا إحساسه بذلك الاتهام الموجه إلى شخصه، لما حاول تفنيد كل مقولة تمس بمصداقية أقواله، التي لم تصل عقول كثير منهم إلى مرتبة إدراك أبعادها في ظل فهمهم لظواهر القضايا، دون التعمق فيها بأفكارهم للاطلاع على ما يكتنف خلفياتها من أخطار مستقبلية تتهددهم، ويمكن ادراك ذلك من قوله موبخا من كذبه من أهل العراق «لقد بلغني أنكم تقولون: علي يكذب، قاتلكم الله تعالى فعلى من أكذب؟ أعلى الله؟ فأنا أول من آمن به أم على نبيه؟ فأنا أول من صدقه كلا والله ولكنها لهجة غبتم عنها، ولم تكونوا أهلها»(3) فاللهجة التي غاب عنها أولئك، هي بعض قضايا الغيب التي كان يحدثهم بها وهي التي أدت بجزء منهم إلى تكذيبه لعدم استيعاب عقولهم لها.

ص: 553


1- خطب - 127 فقرة 1
2- راجع على سبيل المثال - خطب -16- فقرة 1 وخطب - 37 ، وحكم - 155
3- خطب - 70
ثالثاً - معنى الغيب في فكر علي علیه السلام:

عرض علي علیه السلام في أحد أحاديثه لأصحابه إلى ما سيحدث بالبصرة من فتن دموية جراء الاضطهاد والظلم الذي سيقع على الفقراء والمستضعفين من سكانها، كما تحدث عن فتن سيحدثها جنس من الاتراك في فترة من فترات الإسلام، فقال له رجل كلبي من أصحابه «لقد أعطيت يا أمير المؤمنين علم الغيب، فضحك علیه السلام، وقال للرجل يا اخا كلب، ليس هو بعلم غيب، وانما هو تعلم من ذي علم، انما علم الغيب، علم الساعة، وما عدده الله سبحانه بقوله «إِنَّ الله عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَّزِلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِی الْأَرْحَامِ»من ذكر أو انثى، وقبيح وجميل، وسخي وبخيل وشقي وسعيد... فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وما سوى ذلك فعلم علمه الله نبيه، فعلمنيه، ودعالي بأن يعيه صدري، وتضطم عليه جوانحي»(1) فعلم الغيب كما يبدو من قول علي علیه السلام، هو العلم بالكليات دون الاستعانة بمعلم، أي انه ذاتي ولا يجوز العلم الذاتي الا في الله سبحانه، لأن كل عالم غيره متعلم فعلي علیه السلام يقر بأن علمه مكتسب، والعلم المستفاد من الغير لا يجوز ان يسمى غيباً «وإن كان إطلاقا على أمر غيبي لا يتأهل للاطلاع عليه كل الناس»(2) وإقرار علي علیه السلام بصحة اكتسابه تؤيده نصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، من ذلك ما جاء في تفسير قوله تعالى:

«لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ»(3) فقد قال جُل المفسرين، أنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم«سألت الله أن يجعلها أذنك يا علي، قا

ص: 554


1- خطب - 128 والآية من سورة لقمان / 34
2- ميثم البحراني - شرح النهج 1/ 84
3- الحاقة / 12

علي علیه السلام: فما نسيت شيئا بعد ذلك، وما كان لي أن أنسى»(1) ، كما ورد على لسان علي علیه السلام في نهج البلاغة قول رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم له: «إنك تسمع ما أسمع، وترى ما أرى إلا أنك لست بنبيّ»(2) فالذي نفهمه مما وورد بشأن الغيبيات في فكر علي ،علیه السلام أن اكتساب بعض الجزئيات الغيبية عن طريق التعلم من متلقي الوحي صلی الله علیه و آله وسلم، لا يكسب المتعلم صفة عالم الغيب. فهو على هذا لم يقل بعلمه الغيب، إلا أنه حاول توظيف ما تلقاه عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من علم، في قضية التوعية إلى ما سيؤول إليه مصير المجتمع فيما لو انحاز أبناؤه عن جادة الحق بظلم بعضهم بعضاً، وميلهم به عن أصحابه والمؤهلين له، ومنهم شخصه كوارث لعلم النبي صلی الله علیه و آله وسلم وحكمته، وقد ورد شيء كثير من ذلك في حق نفسه خاصة، وآل بيته على وجه العموم (3) ، ومن ذلك ما ورد بشأن المهدي المنتظر علیه السلام.

د - المهدي المنتظر علیه السلام كما يبدو في فكر علي علیه السلام

من ضمن قضايا التنبؤ بالمستقبليات التي عرض إليها علي علیه السلام في النهج، وصف مُصلح يظهر بعد فتن تنشب في كل مكان يستغيث الناس من شرورها، حيث تسفك الدماء، وينبذ القرآن، ويعمل بالرأي، ويتبدد المسلمون هلعا وخوفا في أقاصي البلاد، من ذلك قوله «يعطف الهوى على الهدى، إذا عطفوا الهدى على الهوى ويعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، حتى

ص: 555


1- تفسير الرازي 30 / 107 وجاء مثله عند: القرطبي - الجامع لأحكام القرآن 18 / 264 وعند ابن كثير - تفسير القرآن العظيم 6/ 255
2- خطب - 240 ، فقرة 27
3- يمكن ملاحظة ذلك في - خطب - 2 فقرة 2، 86 فقرة، 3، 4، و -1

تقوم الحرب بكم على ساق، باديا نواجذها، مملوءة اخلافها، حلوا رضاعها، علقما عاقبتها، إلا وفي غد - وسيأتي غد بما لا تعرفون يأخذ الوالي من غيرها عمالها على مساوئ أعمالها، وتخرج له الأرض أفاليذ كبدها، وتلقي إليه سلما مقاليدها، فيريكم كيف عدل السيرة ويحي ميت الكتاب والسنة»(1) . فكل من تناول فحوى المقولة من شراح النهج متفق على أن عليا علیه السلام يقصد منها، وصف أمام منتظر، أو قائم ينادي العمل بالقرآن، وأحياء السنة (2) إلا أن وجهة نظر الشيعة حول ظهور ذلك القائم تختلف عنها عند المعتزلة الذين يرون كما يقول ابن أبي الحديد «أن في ذلك إشارة إلى إمام يخلقه الله تعالى في آخر الزمان»(3) ، بينما يرى الشيعة الإمامية أنه قد عنى بذلك الإمام المنتظر فحسب، وهو عندهم الثاني عشر الغائب، والموجود بين ظهراني الناس(4) ، والذي لابد من أن يعلن عن نفسه يوما ما ليملأ الدنيا عدلا، بعد ان ملئت ظلما وجورا، فالمهدية

ص: 556


1- خطب - 137 - فقرة 1، 2، ويعطف الهوى على الهدى يقهر الهوى وهو العمل بالراي ويثنيه ويجعله منقادا إلى العمل بهدي القرآن والسنة وكذلك قوله: يعطف الرأي على القرآن - أي يقهره بتغليب حكم القرآن عليه، والساق الشدة، والنواجد أقضى الأضراس وهو كناية عن بلوغ الحرب شدتها، ومملوءة اخلافها، والاخلاف جمع خلف: حلمات ضرع الناقة، وهو كناية عن اشتداد الفتن، وعلقم عاقبتها: أي مرة نهايتها والعاقبة هي النهاية، وقوله «يأخذ الوالي... أعمالها» أي أن الإمام المنتظر علیه السلام يأخذ العمال والأمراء على سوء أعمالهم ويعاقبهم بها، والأفاليذ جمع فلذ، وهو كناية عن الكنوز التي تظهر للقائم
2- راجع - الراوندي - منهاج البراعة 2/ 62 ، شرح ابن أبي الحديد 9/ 40 ، شرح ميثم البحراني 168/3 - محمد عبده - شرح النهج هامش 249 ط الأندلس
3- شرح النهج 9/ 40
4- للاطلاع على عقيدة الإمامية في المهدي المنتظر علیه السلام، راجع - رسائل الشريف المرتضى 2/ 293 حتى 297

كعقيدة، موجودة في فكر علي علیه السلام كما نعتقد، خاصة انه يرى ان الائمة المصلحين موجودون في كل عصر، بهدف تبصير الناس بأمور دينهم ودنياهم، حتى لا تكون للناس حدة على الله، من ذلك قوله، «اللهم بلى، لا تخلوا الأرض من قائم بحجة، إما ظاهرا مشهورا، أو خائفا مغمورا»(1) ، ومهما يكن أولئك الذين يعنيهم علي علیه السلام، سواء أكانوا الأئمة عند الشيعة، أم أنهم «الأبدال الذين وردت الأخبار النبوية عنهم، أنهم في الأرض سائحون، فمنهم من يعرف ومنهم من لا يعرف»(2) كما يرى المعتزلة حسب تفسير ابن أبي الحديد، فإن الفكرة تتضمن تصريح بوجوب الإمامة في كل زمان حتى قيام الساعة، فإذا ما أخذنا مأثورات علي علیه السلام في المهدية، كلها في سياق واحد، ونظرنا إليها من خلال بنائها الفكري سنجد أن هذه النصوص تتبلور في عناصر أهمها:

1- إن الله سبحانه وتعالى لا يخلي الأرض من قائم مطلق بأمور الدين في أي زمان، وأي مكان، إذ لابد من وجود ذلك المصلح الظاهر المعلن عن نفسه في حالة شهوره بالأمان (3) ، أو الداعي إلى شريعة السماء في السر في حالة سيطرة الجبابرة والطغاة على مقاليد الأمور وهيمنهم على مصائر الناس بالقوة والقهر والظلم.

2- إنه إذا عرف الإنسان إمام وقته، فلابد له من محاولة الرجوع إليه لأخذ أمور دينه عنه، والاستجابة لتلبية ندائه في حالة الحاجة لمواجهة أعداء الدين والظالمين من الأمراء والسلاطين، ويمكن الوصول إلى فكرته تلك من قوله

ص: 557


1- حكم - 145 - فقرة 6
2- شرح النهج 18 / 351
3- راجع حكم - 145 - فقرة 6

«والهجرة قائمة على حدها الأول، ما كان لله في أهل الأرض حاجة من مستسر الأمة، ومعلنها. ولا يقع اسم الهجرة على أحد، إلا بمعرفة الحجة في الأرض، فمن عرفها وأقر بها فهو مهاجر (1) مع ملاحظة أن عليا علیه السلام قد أشار إلى ضرورة الهجرة، وهو لا يعني بها الهجرة من مكة إلى المدينة، لأن تلك الهجرة قد بطلت بعد الفتح، بناء على قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«لا هجرة بعد فتح مكة»(2) ولكنه يعني بالهجرة إلى إمام الوقت كأساس تجمعي كان هو في حاجة إليه، للوقوف في وجه الخارجين عن سلطته، على اعتبار نفسه وآل بيته علیهما السلام هم الذين أوكل الله إليهم حماية الدين بعد الرسول (3) .

انه برغم الاضطهاد والظلم اللذين وقعا على آل البيت علیهما السلام، فإن الله سبحانه سيعيدهم إلى المكانة التي بوأهم إياها بفضل إيمانهم وصبرهم، ويفهم ذلك من قوله «لتعطفن الدنيا علينا بعد شماسها، عطف الضروس على ولدها»(4) وتلا عقب ذلك:

«وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ» (5) . فالمهدي المنتظر علیه السلام المبشّ به، كما يبدو لنا في فكر علي علیه السلام من آل البيت علیهما السلام، وهو ما تضمنه قوله «يا قوم هذا تضمنه منا ابان ورود كل موعود،

ص: 558


1- خطب - 237 - فقرة 2 والامة - بكسر الهمزة - الحالة
2- سنن النسائي 7/ 146
3- راجع الخطبة 86 - فقرة - 3، 4
4- حكم - 207 - الشماس - بكسر الشين، امتناع ظهر الدابة عن الركوب، والضروس - بفتح فضم - الناقة السيئة الخلق التي تعصى حالبها
5- القصص/ 5

ودنو طلعة ما لا تعرفون، ألا وأن منا أدركها منا يرى فيها بسراج منير، ويحذو فيها على مثال الصالحين، ليحل فيها ربقا، ويعتق فيها رقا، ويصدع شعبا، ويشعب صدعا في سترة عن الناس، لا يبصر القائف اثره، ولو تابع نظره»(1) .

4 - إنه لن يكون ظهوره إلا بعد فتن ناتجة عن ظلم العباد واستحرار القتل فيهم، ويكون ظهوره ناهية ذلك الظلم (2) واستتاب الأمن والرجوع إلى الدين على أصوله الأولى التي جاءت بها رسالة محمد صلی الله علیه و آله وسلم، فيعم الرخاء جراء ذلك كل أرجاء المعمورة.

فعقيدة المهدي المنتظر علیه السلام - كما نتصورها من خلال فكر علي علیه السلام - لا تكاد تبتعد في مفهومها عما بشر به القرآن الكريم من مستقبل سعيد للإنسانية في ظل الإيمان. كما في قوله تعالى:

«وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا»(3) ، وعما جاء بشأنها في السنة النبوية المطهرة، كما في قوله وَعَدَ الله«أبشركم بالمهدي يبعث على اختلاف من الناس وزلازل فيملأ الأرض قسطاً وعدلا كما ملئت جورا،

ص: 559


1- خطب - 150 - فقرة 1- ابان - بكسر فتشديد - وقت، ودنو - قرب، ومنا يعني بالضمير فيه من آل البيت وهو المهدي المنتظر علیه السلام، ليحل ربقا يفك الناس من أسر الاستغلال والربق - بكسر الراء وسكون الباء، هو حبل فيه عدة عرق يوضع في رقاب العبيد، ويصدع شعبا ويشعب صدعا، يفرق جمع الضلال ويجمع متفرق الحق، القائف الخبير بمعرفة الإثارة، والقيافة - علم تتبع إثارة المشاة من إنسان وحيوان في الصحراء وهو من أشهر علوم العرب
2- راجع خطب - 138 - فقرة 2
3- النور / 55

وظلما، يرضى عنه ساكن السماء وساكن الأرض...»(1) إلا أن عليا علیه السلام لم يذكر ضمن نصوص النهج التي جاءت في المهدي، لا صفاته ولا شكله (2) كما هو موجود فيما أثر عن الرسول صلی الله علیه و آله وسلم من حديث (3) .

تلك هي إذن أهم القضايا الغيبية والأخرى الماورائية التي استخلصناها من فكر علي علیه السلام، وهي على ما تبدو لم تكن لمجرد الجنوح إلى استعراض فلسفة ما أو لأخذ الفكر الإنساني نحو اتجاه جدلي معين من أجل مناصرة فرقة معينة، لأنها -كما نتصورها- دعوة صادقة إلى التمسك بالدين والرجوع إلى طريق الإيمان، في كل الأحوال، وتحت كل الظروف، لأن العاقبة كما يراها علي علیه السلام - لابد أن تكون في صالح المتقين المؤمنين الذين ينظرون إلى الدنيا نظرة تختلف في مفهومها عما ينظر إليها غيرهم من الناس.

ص: 560


1- الهيثمي - مجمع الزوائد 7/ 316 ، رواه الترمذي وغيره باختصار كثير، ورواه أحمد بأسانيد، وأبو بعلى باختصار كثير ورجالهما ثقات
2- ان عدم ورود نصوص تتحدث عن صفات المهدي في نهج البلاغة لا يعني ان عليا علیه السلام لم يتطرق إلى ذلك، فنهج البلاغة لم يجمع كل ما أثر عن علي علیه السلام من اقوال، ففي اصول الكافي 1/ 339 وما بعدها - احد مصادر الحديث عند الشيعة الإمامية احاديث وخطب لعلي علیه السلام، يذكر فيها صفات المهدي وكيفية ظهوره
3- راجع المقدسي - عقد الدر في اخبار المنتظر ص 16 ، 24

الفصل الثالث: نظرة علي علیه السلام إلى الحياة كما تبدو ي نهج البلاغة

اشارة

إذا ما أردنا سبر غور فكر علي علیه السلام في محاولة للاطلاع على تصوره للحياة يجدر الوقوف عند ثلاث نقاط هي:

1 - مفهوم الدنيا في فكر علي علیه السلام.

2 - فكر علي علیه السلام بين التصوف والزهد.

3 - الأسلوب الحكمي كما يبدو في فكر علي علیه السلام.

مع ملاحظة أن النقاط الثلاث من الترابط بحيث لا يمكن فصل بعضها عن بعض، لأنها تشكل في مجموعها نظرة علي علیه السلام المتوحدة إلى الحياة، فمفهوم الدنيا على اتساعه وشموليته وعمقه، هو واسطة العقد بين تقييمه للحياة وبين أسلوبه الحكمي المتولد من نظرته إلى الدنيا بمفهومها الواسع من ناحية، وتجاربه الحياتية من ناحية ثانية، تلك التجارب التي استوعبت معايشته، بكل إحساساته، الدعوة الإسلامية منذ بداية بزوغها، حتى الوقت الذي بدأت فيه تتفتح على الحضارات الأخرى، وما أحدثه ذلك التفتح من نقلات

ص: 561

الفكر العربي الإسلامي بالاتجاه نحو التكالب على المادة، والتمتع بما في الحياة من ملذات إلى اقصى حد ممكن، مما جعل التركيبة الفكرية للفرد المسلم ترجح كفة الجانب المادي على الجانب الروحي، فتأثرت جراء ذلك بنية الإسلام كدين ثوري، إذ بدأت جذوة الجهاد تخمد في النفوس، بركون العربي المسلم إلى الدعة، وحب الحياة، فأخذ يتهرب من واجب الجهاد بشتى الحجج الواهية، تارة بتقلبات الطقس(1) ، واخرى بالنأي بالنفس عن الفتنة، لتفادي سل السيف في وجه اخية المسلم (2)، وثالثة لتلافي النقص في العدة والعتاد (3) ، إلى غير ذلك من أعذار واهية جمعها علي علیه السلام في حب الدنيا والإنبهار بزخرفها والتشبثبها (4) فاستحالت الدنيا في فكر علي علیه السلام إلى رمز يمثل الشر في معظم جوانبه، مع تمثيله للخير بالنسبة للذين يفهمون الدنيا على حقيقتها، ومن خلال ذلك المفهوم ببعديه الخير والشرير يمكننا التعرف على الدنيا في فكر علي علیه السلام.

1 - الدنيا في فكر علي علیه السلام

اشارة

وردت كلمة (دنيا) مفردة ومضافة في نهج البلاغة في مئتين وثمانية وعشرين موضعاً تقريباً، هذا عدا الضمائر التي تعود عليها(5) ، ومن خلال تتبعنا

ص: 562


1- راجع الخطبة 27 نهاية الفقرة الثانية
2- راجع في شأن ذلك ما قاله أبو موسى الأشعري لأهل الكوفة عند الدينوري الأخبار الطوال ص 145
3- راجع رد أصحابه على دعوته إلى العودة لقتال أهل الشام بعد انتهائهم من حرب الخوارج - أبو حنفية الدينوري - الأخبار الطوال - ص- 211
4- راجع تعليله للفتن التي نشبت في خلافته - الخطب الثالثة، فقرة- 3. مطلع الخطبة 34
5- من احصائية قسمنا بها في النهج رصدنا خلالها كلمة (دنيا) وجدنا انها قد وردت مفردة أو مضافة فيما يقارب من مئتين وثمانية وعشرين (228) موضعا، كما تكرر أيضاً بصيغة ضمير

لانتشارها الواسع ذاك، وجدنا أنها تحمل كثيراً من المعاني التي يمكن حصرها في ثلاث مجموعات متجانسة حاول علي علیه السلام من خلالها تسليط الضوء على جميع جوانبها الإيجابية والسلبية بنظرة ملؤها الإيمان المفعم بحب الإنسانية. فالناظر بإمعان في معاني المجموعات الثلاث كما وردت في النهج، يتصورها ذات وجوه مختلفة، ومعان متباينة، وأوصاف متداخلة، تغلب العتمة والتيئيس على معظمها، إلا أنها ترد في مواضع قليلة جدا، حالمة في طياتها معاني الحب والايمان، وهي في ناحية ثالثة، ذات صور متباينة لا تستقر على حال، لأنها جوهر زائل تنقصه الديمومة، ويمكن ملاحقة تلك المعاني من خلال الحزم الثلاث التالية:

الأولى - الدنيا المكانية:

والمقصود بها كل الكون الذي خلقه الله وفي مقدمته الأرض، التي أهبط الله إليها الإنسان لتكون مقرا لابتلائه، فالدنيا بهذا المعنى الواسع تشمل كل ما يتعلق بالحياة الطبيعية للإنسان من مسكن ومأكل وشراب ولباس، وهواء، وشمس وقمر وكواكب، وكل ما في الطبيعة مما يحتاجه الإنسان ليتأقلم وحياته التي يريدها الله له، ويمكن تتبع هذه المعاني بكل اتساع وشمولية في فكر علي علیه السلام من خلال موضوع خلق الكون، كما ورد في النهج (1) ، وهو ما يمكن تسميته

ص: 563


1- يمكن مراجعة ذلك في: الخطبة رقم - 1، والخطبة رقم 90 - المسماة بخطبة الأشباح

بالجانب التأملي المصور لقدرة الله تعالى، ويهدف علي علیه السلام من ورائه كما تتصور - تمكين العقل إلى الوصول من تلقاء نفسه إلى فكرة التوحيد، بالنظر في ابداعاته المتوحدة التي تستعصي في استجابتها وتكوينها على أي فكر إنساني مها تناهت قدرته، وتسامت عبقريته.

ولكن هناك جانبا إيمانيا آخر عالجه علي علیه السلام عن طريق خلق الدنيا كمكان، ويتمثل في العلاقة الترابطية بين ذلك المكان الدنيوي وبين الإنسان الذي من أجله خلقت تلك الدنيا، إذ ليس يكفي أن يعرف الإنسان قصة الدنيا، بل يجب ان يعرف أيضاً ان الله سبحانه وتعالى، كما يقول علي علیه السلام«هو الذي أسكن الدنيا خلقه»(1) مما يعني أن أولئك الخلق هم من ضمن ذلك الكون الموحد، المكمل لبعضه بعضاً، والمخلوق بقدرته سبحانه، إذ لا مجال للشك على الاطلاق، بأن الخلق، وكل ما يتعلق بهم من اشياء حياتية هي من تدبير الله وإحكامه ويتضح ذلك من قول علي علیه السلام«خلق الخلق... ووضعهم من الدنيا مواضعهم»(2) أي هيأ لهم المواضع المناسبة التي تمكنهم من التأقلم مع محيطهم بقدرته التي طالت كل شيء في الوجود، من جامد ومتحرك وموات وذي روح، ويمكن استخلاص ذلك من قول علي علیه السلام«انقادت له الدنيا والآخرة بأزمتها»(3) ، وعلي علیه السلام حين يركز على ذلك الجانب يريد أن يصل بنا إلى نقطة ذات أهمية كبرى تكاد تكون مرتكزه الفكري بالنسبة لاعتبار المعنى المكاني للدنيا. فإذا كان المكان في الفكر الإنساني المحدود، يعني الاستقرار المقرون بالديمومة والراحة والاطمئنان فإنه

ص: 564


1- خطب - 185 - فقرة 1
2- خطب - 187 - فقرة 1
3- خطب - 133 - فقرة 1

يعطي الدنيا بعدا مكانيا لا يقرنه بأية استمرارية بتعبيره عن ذلك بقوله «ان الدنيا لم تخلق لكم دار مقام»(1) لأنها من وجهة نظره «دار فناء وعناء»(2) ويستحيل استمراريتها على نمط معين فمكانيتها لا تعني الثبات والديمومة، فهي من هذه الناحية «دار دول»(3) ، لذلك يجب على من يعيش على أديمها أن يضع في اعتباره، أن الركون إلى مغرياتها والجري وراء ملذاتها والتكالب على مقتنياتها في ظل فكرة الخلود التي تراوده، ما هي إلا حلم بعيد المنال، لأنها كما يقول علي علیه السلام«دار لا يسلم منها الا فيها»(4) وبإمكان الإنسان إدراك ذلك بمجرد تفكيره في خلق الكون من حوله، فقد يستبعد عقله المحدود فكرة فناء هذا الكون المحكم الذي يستعصي انحلاله أو تفكيكه، أو حتى تغيير توازنه، لكنه لو أمعن النظر، ومد ببصيرته إلى ما وراء المجردات لتوصل من خلال ذلك - كما يقول علي علیه السلام - إلى أن «ليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها »(5) لأن الله سبحانه قد حدد لكل خلق خلقه وقتا لايمكننه تعديه، إذ لا أزلية ولا دوام إلا له سبحانه وتعالى، فكما يقول علي علیه السلام، فإن الفناء في نهاية الأمر يعم كل شيء «وإن الله سبحانه يعود بعد فناء الدنيا ولا شيء معه»(6) .والفكرة ببعدها المكاني المتضمن قضية الخلق زمانيا ليست من ابتداع علي علیه السلام، لأنها مطابقة لمعاني القرآن الكريم المتمثلة في قوله تعالى:

ص: 565


1- خطب - 132 - فقرة 2
2- رسائل - 72
3- خطب - 62 - المطلع.
4- المصدر السابق نفسه
5- خطب - 234 - فقرة 3
6- السابق - فقرة - 4

«كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ»(1) أما الغاية التي من أجلها كان تركيز علي علیه السلام على فكرة الدنيا المكانية وزوالها فهي:

إنه ما دام مآل الدنيا إلى الزوال، وما دام الإنسان غير مستقر عليها فعليه أن يقوم بواجبه تجاهها، في حدود ما فرضه الله عليه، ولا يتمادى في التكالب عليها، والركون إلى مغرياتها لتمثل زوالها أمامه من خلال قصور شيدت ثم هجرت فأصابها البلى، ومقتنيات استمات أصحابها في جمعها فبددها ورّاثهم من بعدهم، وجبابرة تسلطت فكان مصيرهم الفناء(2) ، مبلغ مستقر الإنسان في هذه الدنيا، أن يأخذ ويعطي بما يتناسب ومكانته الإنسانية، متمثلا دوره عليها في حدود ما رسمه الله له، ومن خلال هذا المعنى، تدخل الآخرة في مقابل الدنيا باعتبارها دار خلود متصلة في جوهرها بعمل الدنيا، والمسافة الفاصلة بينهما مسافة زمانية يقطعها الإنسان بعمره المقدر، فيتعانق المكان بالزمان ليشكلا مصير الإنسان الأبدي بعد دنياه الفانية.

الثانية - الدنيا الزمانية:

الزمن عنصر أساسي في فكر علي علیه السلام لأنه كما يرى مرتبط ارتباطا محكما بحياة الإنسان من جميع جوانبها، فالصلاة وهي ركن تعبدي في الإسلام، إلا أنها تعني عند علي علیه السلام مقياسا يمكن من خلاله معرفة مدى التزام الفرد بالوقت المحدد لكل عمل يناط به، فإذا كان الفرد ملتزما بصلواته في أوقاتها المحددة، من دون تقديم ولا تأخير، فهو بلا شك يقدر قيمة الوقت فيباشر اعماله في

ص: 566


1- الرحمن / 26 ، 27
2- راجع على سبيل المثال - خطبة - 82 - الفقرة 7- ورسالة - 3 فقرة 2

إبانها، ويمكن استخلاص ذلك من قوله ضمن وصيته لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر «صل الصلاة لوقتها المؤقت لها، ولا تعجل وقتها لفراغ، ولا تؤخرها عن وقتها لاشتغال، واعلم ان كل شيء من عملك تبع لصلاتك»(1) فالزمن على هذا الأساس مقياس لصدق الفرد مع ربه ومع نفسه ومع غيره من الناس، ولأهمية الزمن العظيمة في فكرعلي علیه اسلام اعتبر الإنسان ذاته وقتا في قوله «انما الناس في نفس معدود وأمل معدود، واجل محدود فلابد لأجل ان يتناهى، وللنفس ان يحصى ولأمل أن ينقضي»(2) . فكل شيء في الوجود مقرون بزمن له بداية ونهاية، حتى الوجود ذاته، فإنه يمثل في أحد جوانبه زمنا كما يرى علي علیه اسلام، ويمكننا استنتاج ذلك من تتبعنا إلى التقابل بين الدنيا والآخرة فيما ا ثر عنه من نصوص في النهج، فعدم استمرارية الدنيا، والتقلب في أحوالها، يعني - كما يظهر لنا - استحواذ الزمانية على شمولية الدنيا المكانية، على أساس اعتبارها دار مجاز، في مقابل الثبات المكاني الكامن في الاخرة كما في قوله «أيها الناس، انما الدنيا دار مجاز، والآخرة دار قرار، فخذوا من ممركم لسفركم»(3) ، فالمجاز بأبعاده المعنوية يعني الحركة ضمن المكان، والحركة تعني الزمن، فالدنيا تعني الزمن الذي يقطعه الإنسان من دون العودة إليه، ولما كان ذلك الزمن لا يمكن أن يعود بالنسبة للإنسان، فيجب عليه أن يستغله استغلالا حسنا في إبانه كما يرى علي علیه اسلام، وفي ذلك يقول «أن السعداء بالدنيا غدا، هم الهاربون منها اليوم»(4) فالسعادة الابدية مرتبطة بالمستقبل المتمثل في الغد المتعلق بنتائج ماضي الدنيا

ص: 567


1- رسائل - 27 فقرة 4
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 281
3- خطب - 197 - المطلع
4- خطب - 220 - فقرة اخرها

اآنية بالهروب منها في وقتها الآني، فالزمن الدنيوي ببعديه الآني والمستقبلي في تداخل وتمازج ولكن النتائج بينهما في تقابل أبدي أيضا، لأنهما يمثلان الدنيا والاخرة فهما «عدوان متفاوتان وسبيلان مختلفان، فمن أحب الدنيا وتولاها، أبغض الآخرة وعاداها، وهما بمنزلة المشرق والمغرب»(1) والتفاوت والاختلاف فيما بينهما بالنسبة للإنسان يكمن أساسا في حركة العمل الإنسانی عبر الدنيا الزمانية التي تتحول الحياة عبرها إلى سباق مع الزمن الكامن فيها، فالحرص على الامساك بالزمن وايقاف دوران عجلته من الأمور المستحيلة، لأنه لو حدث فإنه يعني تغيير نظام الكون بإيقاف علجة الدنيا المستمرة في دورانها، إلا أن سعي الإنسان نحو ذلك الهدف لا يتوقف، لأنه يمثل حقيقة الإنسان في حاجة المستمر في طلب المزيد من ذلك الوقت الدنيوي، الذي عادة ما يكون في مقابلة دائمة مع ذلك السعي كما يصوره قول علي علیه السلام«من طلب الدنيا طلبه الموت حتى يخرجه عنها، ومن طلب الآخرة، طلبته الدنيا حتى يستوفي رزقه منها»(2) . لذلك فمن الاجدى للإنسان في دنياه هذه، ان يدرك تماما، أن الزمن الدنيوي بما ينطوي عليه من إغراءات، هو في جوهره خسارة مؤقتة في مقابل.

ربح ابدي. وفي هذا المعنى يقول «اعلموا أن ما نقص من الدنيا وزاد في الآخرة خير مما نقص من الآخرة وزاد في الدنيا»(3) على اعتبار أن الدنيا كزمان هي في الواقع عمر الإنسان منذ يوم ولادته حتى يوم وفاته، إذ انه بموته كما يقول علي علیه السلام«تختم الدنيا، وبالدنيا تحرز الآخرة»(4) فالدنيا الزمانية على هذا المعنى

ص: 568


1- حكم - 102
2- حكم - 440
3- خطب - 113 - فقرة 4
4- خطب - 56 . فقرة - 3

باقية ما بقي وجود الإنسان مستمرا لأنها دنياه.

الثالثة - الدنيا وصف:

لم تكن الدنيا مجرد زمان أو مكان في فكر علي علیه السلام، لأنه من ناحية ثالثة اضفى عليها اوصافا حسية ومعنوية، فهي تارة ذات طعم لذيذ يستسيغه المتذوق، ولون بهيج يروق للناظر، فيسلم لها قياده دون ان يعلم ان ذلك الطعم السائغ واللون الرائق، ما هو في حقيقته الا مظهرها الخارجي الزائف، الذي سرعان ما تتبدى عيوبه وتتكشف مساوئه ففي معرض تحذير الناس منها يقول «اني أحذركم الدنيا، فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وتحببت بالعاجلة، وراقت بالقليل، وتحلت بالآمال، وتزينت بالغرور»(1) . وهي تارة ثانية متشكلة في اوصاف شتى، طبيعية مرئية، ومسموعة وذات حركة. وهي في اوصافها تلك، ينقصها الثبات، وتفتقر إلى الحقيقة والصدق، والموضوعية. فصفاتها مختلطة وممتزجة بحيث يتعذر تصنيفها، فهي طبيعية كونية من ناحية، وانسانية آخذة بزي محارب همه الاعتداء والسلب والنهب تارة ثانية، أو متشكلة في زي امرأة ذات طبيعة مغرية، وهي من ناحية ثالثة حيوان شرس لا يمكن ترويضه.

والخلاصة انها جملة من السيئات التي تحاول غواية الإنسان وصده عن كل ما فيه مصلحته وسعادته فهي كما يراها علي علیه السلام«برقها خالب، ومنطقها كاذب، واموالها محروبة، واعلاقها مسلوبة... وهي المتصدية العنون، والجامحة الحرون، والمائقة الخؤون والجحود الكنود، والعنود الصدود، والحيود الميود، حالها إلى انتقال، ووطأتها زلزال، وعزها ذل، وجدها هزل، وعلوها سفل، دار حرب

ص: 569


1- خطب -110 فقرة - 1

وسلب ونهب، وعطب»(1) .

وتلازم النظرة الغاضبة المقرونة بالحذر والحيطة جل مأثورات علي علیه السلام في الدنيا، لأنها كما يراها «مثل الحية، لين مسها، قاتل سمها»(2)، لذلك كان يتمنى لو استطاع التمكن منها، لخلص الإنسانية من أذاها، ولفك الناس من ربقة ذلها، ولجنبهم الوقوع في حبائلها، وتتجلى أمنيته تلك في قوله «والله لو كنت شخصا مرئياً وقالباً حسياً، لأقمت عليك حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وأمم القتهم في المهاوي، وملوك اسملتهم إلى التلف»(3) .

فكما يبدو في النهج فإن عليا علیه السلام قد قبر داخل نفسه كل شهوة دنيوية، مهما تناهت في الاغراء، فلقد تصورها في شكل فتاة في ريعان الشباب، تلاحقه عارضة نفسها عليه، محاولة إيقاعه في حبائلها بشتى الوسائل المغرية، ولكنه حسم أمره معها حين خاطبها قائلا «يا دنيا، يا دنيا، اليك عني، أبيَ تعرضت؟ أم إليّ تشوقت، لا حان حينك، هيهات، غري غيري، لا حاجة لي فيك، قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة فيها»(4) فهو في طلاقه للدنيا، ومحاولته اقامة حدود الله عليها،

ص: 570


1- خطب - 239 - فقرة - 3، وخالب - خادع، ومحروبة - منهوبة، واعلاقها - مقتنياتها، والمتصدية - المرأة التي تتعرض للرجال لإغرائهم، والعنون - بفتح فضم - صيغة مبالغة من الفعل عنّ أي اعتراض، والعنون الدائمة الاعتراض، والجامحة الدابة الصعبة التي يستعصي ركوبها، والحرون - الدابة التي إذا طلبت منها السير وقفت معاندة، والمائقة - الكاذبة - والخؤون - المبالغة في خيانتها، والجحود - المنكرة للنعمة، والكنود الكافرة بالنعمة، والعنود - الدائمة العناد، والميود - مبالغة من ماد، الدائمة الاضطراب التي لا تستقر على حال
2- رسائل - 68
3- رسائل - 45 - فقرة 4
4- حكم - 75

من المثالية بحيث يريد أن يقيم كل أود في الحياة من حوله مع وضعه في الاعتبار أن الإنسان العادي لا يمكنه الزهد في الدنيا والنأي بنفسه عن لذاتها لأنه يرى ان «الناس ابناء الدنيا ولا يلام الرجل على حب امه »(1) فلو استطاع الإنسان نبذ الدنيا التي خلق من أديمها، لأمكنه الاستغناء عن حبه لأمه التي أنجبته ورضع لبنها وذاك مستحيل، وقد تبدو الفكرة متناقضة، خاصة حين نرى عليا علیه السلام يمنح الدنيا أوصافا ناصعة بهية، تتناقض تماما مع ما أطلقه عليها من أوصاف تزهيدية لا تقيم لها وزنا ولا تجعل له أية قيمة، فمن أوصافه المشرقة للدنيا قوله «الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار عافية لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، مسجد احباء الله، ومصلى ملائكة الله، ومهبط وحي الله ومتجر أولياء الله»(2) ، لكن بتأملنا في النصوص التي أثرت عن علي علیه السلام في الدنيا مجتمعة، نعتقد أنه لا تناقض في أفكارها، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار، أن الدنيا التي يمدحها علي علیه السلام ويذمها هي دنيا الإنسان، أي زمن بقائه من يوم ولادته حتى يوم وفاته، وان المطلوب منه في دنياه الزمانية تلك ان يفهمها على حقيقتها، بفهم دوره فيها، والفهم هنا يعني، تحكيم العقل، وكبح جماح الشهوة، دون مغالبة أو تسلط، أو جشع، أو حشد، ويمكن ملاحظة ذلك في فكر علي علیه السلام، بالعودة إلى النص السابق، والتأمل في الايجابيات التي اسبغها على الدنيا بقوله عنها انها (دار صدق، عافية، دار غنى، دار موعظة) لمن اعمل فكره بصدق في كل تلك الصفات وفهمها فهما حقيقيا، بنظرة محايدة بعيدة عن كل اغراء يحيلها حية سامة أو حيوان جموح، فتطليق الدنيا بالنسبة إليه شخصيا عزوف عنها وعن ملذاتها، أما بالنسبة

ص: 571


1- حكم - 311
2- حكم - 129

إلى غيره من عامة الناس فيعني فهمها على حقيقتها والأخذ منها بما يضفي على النفس السعادة والطمأنينة، بجانب راحة الضمير وعمل حساب النفس بالتوازن بين المادة والروح طبقا لقوله تعالى:

«وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ»(1) . وهو ما يمكن استخلاصه من فهمنا للدنيا كما وردت في فكر علي علیه السلام، الذي يرى ان الذين فهموا الدنيا فهما عميقا هم أولئك الذين «ذهبوا بعاجل الدنيا، وآجل الآخرة، فشاركوا أهل الدنيا في دنياهم ولم يشاركهم أهل الدنيا في آخرتهم، سكنوا الدنيا بأفضل ما سكنت وأكلوها بأفضل ما اكلت، فحظوا من الدنيا بما حظي به المترفون... ثم انقلبوا منها بالزاد المبلغ والمتجر الرابح»(2) . تلك هي الدنيا في فكر علي علیه السلام ليس في نظرته إليها ثمة تشاؤم ولا هروب، شريطة أن ننظر إليها من خلال ما قاله فيها مجتمعا دون تجزئة تحيل البنية الفكرية إلى عناصر متفككة لا تمثل الحقيقة إلا من إحدى جوانبها، مما ينأى بها، عن التكامل والوضوح، ومن خلال ذلك الفهم الواضح للدنيا كما بدت في فكر علي علیه السلام يمكننا التعرض إلى ما ورد عنده من أفكار زهدية كانت أم صوفية.

2 - فكر علي علیه السلام بين التصوف والزهد:

يبدو أن فكر علي علیه السلام من الثراء والشمولية والعمق بحيث حاولت كل فرقة من الفرق الإسلامية أن تنسب إليه أسلوبها الفكري بالنهل من ثرواته

ص: 572


1- القصص/ 77
2- رسائل - 27 - الفقرة 2

بما يتناسب ومنهجها، وقد حدثنا ابن أبي الحديد عن ذلك بالتفصيل (1) ، وبصدد علم التصوف يقول فيه «اعلم ان الكلام في العرفان، لم يأخذه أهل الملة الإسلامية الا من هذا الرجل (يعني علياً علیه السلام) ولعمري لقد بلغ منه أقصى الغايات، وأبعد النهايات»(2) وابن أبي الحديد حين يتبنى تلك الفكرة، لم تتولد عنده من فراغ، لأننا لو رجعنا إلى ما أثر عن الصوفية من أقوال، فسنجد أنهم يعتبرون عليا علیه السلام، قطبهم الذي أخذوا عنه علمهم إذ يرى ابن الفارض(3) (ت 632) أن عليا علیه السلام قد تصدى لإيضاح مشكل تأويل القرآن بعلمه الذي تلقاه عن النبي صلی الله علیه و آله وسلم بوصية منه كما في قوله (طويل)

وأوضح بالتأويل ما كام مشكلا علي، بعلم ناله بالوصية (4)

وعلم التأويل الذي يعنيه ابن الفارض، هو ما يوافق في اصطلاح الصوفية (علم الحقيقة) الذي يختص به العارفون منهم، على أساس تقسيم الناس بحسب معرفتهم الله سبحانه، على ثلاثة اقسام (5) كما ورد عند ابن عطاء الاسكندري الشاذلي، (6) ، (ت 709) وهو مستوحى، على ما نعتقد، من تقسيم علي علیه السلام للناس من ناحية المعرفة إلى ثلاثة اقسام «عالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع»7(7) ولمنزلة علي علیه السلام العملية في الفكر الصوفي، فقد عدّوه «النبأ

ص: 573


1- راجع شرح النهج 1/ 17 وما بعدها
2- شرح النهج 11 / 72
3- راج ترجمته - عند عباس القمي - الكنى والالقاب 1/ 363
4- ديوانه ص 105 - صادر
5- راجع ذلك التقسيم عند: أبي بكر محمد الكلاباذي - التعرف لمذاهب أهل التصوف ص 64
6- راجع ترجمته عند: عباس القعي - الكنى والألقاب 1/ 345
7- حكم - 145 - فقرة 2

العظيم، وفلك نوح، اي: الجمع والتفصيل، باعتبار الحقيقة والشريعة، لكونه جامعا لهما»(1) .

لذا فقد تركت مأثورات علي علیه السلام بصماتها واضحة فيما رواه المتصوفة من اقوال في الزهد والتقشف ونبذ الدنيا، منها على سبيل المثال، ما رواه الشريف المرتضى من أن جل مأثورات الحسن البصري (ت 110) «في المواعظ وذم الدنيا... مأخوذ لفظا ومعنى أو معنى دون لفظ من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام»(2) ، وقد أورد من كلام الاثنين نماذج تؤكد ذلك، ومنه أيضاً ما روي عن مالك بن دينار (3) (ت 130 ه-) قوله لرغيف خبز اشتهاه «اشتهيك منذ أربعين سنة فغلبتك، حتى كان اليوم وتريد أن تغلبني، إليك عني»(4) وهو مستوحى من كلام علي علیه السلام «لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوما، وتقنع بالملح مأدوما»(5) .

وممن أخذ بقسط وافر من معاني علي علیه السلام، المتصوفة الزاهدة، رابعة العدوية (6) (ت 180 ه-) من ذلك ما روي عنها «من أحب شيئا أكثر من ذكره»(7) وهو متأثر بقول علي علیه السلام«من عشق شيئا اعشى بصره وامرض قلبه»(8) ، ومنه قولها

ص: 574


1- تفسير ابن عربي 2/ 755
2- أمالي المرتضى 1/ 153
3- راجع ترجمته في سير أعلام النبلاء 5/ 362
4- أبو نعيم الحافظ - حلية الأولياء 2/ 362
5- رسائل - 45 فقرة 5
6- راجع ترجمتها في سير أعلام النبلاء 8/ 241
7- السابق
8- خطب - 108 فقرة 3

أيضاً «ان السلامة من الدنيا ترك ما فيها»(1) وهو مأخوذ من قول علي علیه السلام «الا وان الدنيا دار لا يسلم منها إلا فيها»(2) .

ولذي النون المصري (3) (ت 240) الكثير من الاقوال المتأثرة في معانيها بما يروى عن علي علیه السلام أيضاً: من ذلك ما قاله في سبب نصب العباد وضناهم في هذه الدنيا «ذكر المقام، وقلة الزاد وبعد السفر »(4) ويكاد يكون تأثره بمعاني علي علیه السلام بينا، في ذكره لصفات المؤمنين، وإن كان بين أسلوبي التناول بون شاسع تكاد معاني ذي النون تتضاءل إزاء معاني علي علیه السلام (5) .

إضافة إلى ذلك فلقد حاول معظم المتصوفة التزيي بمثل ما كان علي علیه السلام يلبس «حتى انهم لما اسندوا الباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلا لطريقتهم وتحليتم وقفوه على علي رضي الله عنه»(6) ، وكأنهم استلهموا ذلك من تصرفه الكامن في قوله «والله لقد رقعت مدرعتي حتى استحييت من راقعها، ولقد قال لي قائل: ألا تنبذها عنك؟ فقلت: اغرب عني، فعند الصباح يحمد القوم السرى»(7) .

ومحاولة لتوكيد نسبة التصوف لعلي علیه السلام، فلقد تناول بعض شراح نهج البلاغة

ص: 575


1- ابن الجوزي - صفة الصفوة - 4/ 29
2- خطب - 62
3- راجع ترجمته في سير اعلام النبلاء 11 / 532
4- أبو نعيم السابق 9/ 346 . وقارن القول بما ورد بنفس المعنى عند علي علیه السلام حكم - 75
5- يمكن المقارنة بين القولين بمراجعة مقولة ذي النون في حلية الأولياء 9/ 346 ، 349 بما ورد من صفات ضمن الخطبة 287
6- مقدمة ابن خلدون ص 630
7- خطب - 161 - فقرة 2

نصوصا منه، بتحليل معانيها تحليلا صوفيا، متأولين بعض تعبيرات علي علیه السلام علىانها مصطلحات صوفية قد ابتكرها للغرض ذاك.

يتناول ابن أبي الحديد النص السادس والثمانين من باب الخطب بالتحليل والشرح، سالكا في ذلك أسلوب المتصوفة في تأويل المعاني معلقا على النص بقوله «وأعلم أن هذا الكلام منه أخذ أصحاب علم الطريقة والحقيقة علمهم، وهو تصريح بحال العارف ومكانته من الله تعالى (1) وتبلغ تأويلات المتصوفة ذروتها في شرح النص عند ميثم البحراني، حيث تكرر تعبيرات الصوفية ومصطلحاتهم مثل (شروق المعارف الإلهية على مرآة سره، استكثر من ذكره حتى صار الذكر ملكة له، وتجلى المذكور في أطوار ذكره، الكمالات النفسية التي تفاض على العارف، الوصول إلى مراحل عزة الله، وتوجيبه سره إلى مطالعة أنواره واستشراقها، قد وقف عليها العارفون ودخلوا منها إلى حضرة جلال الله... »(2) إلى غير ذلك من مصطلحات صوفية (كالعارف والسالك، والاشراق(3) بحيث استحال النص إلى معرض للفكر الصوفي.

ص: 576


1- شرح ابن أبي الحديد 6/ 365 وللاطلاع على الشرح كاملا من ص 367 حتى 372
2- شرح ميثم البحراني 2/ 291 ، 292
3- العارف - من المعرفة التي يقسمها الصوفية على قسمين: أ- معرفة استدلالية، وهي معرفة الخالق سبحانه بالاستدلال بالآيات على خالقها، وهي درجة الراسخين في العلم. ب - معرفة شهودية ومبناها الاستدلال بالله سبحان على الآيات التي خلقها، وهي درجة الصديقين أصحاب المشاهدة، وهم العارفون عند الصوفية. راجع: التهانوي كشاف اصطلاحات الفنون 995/2 - 996 . والسالك: في المفهوم الصوفي هو الذي يطهر نفسه من جميع الدنايا الدنيوية بسلوك الطريق الاقوم، وهو الانتقال من منزل عبادة بالمعنى وانتقال بالصورة من عمل مشروع

لكن لو تأملنا النص بنظرة محايدة، خالية من كل أفكار مسبقة، بعيدة عن أية تأويلات لمعاني مفرداته وعباراته، سنجد أنه لا يغدو كونه وصفا مثاليا لعباد الله المتقين، الذين كان يتمناهم علي علیه السلام فيمن حوله من رجال. بعد ان عايش نماذج منهم في واقع الحياة ممثلين في صحابة الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، ممن عمّر الإيمان قلوبهم، فاستحال الإسلام في نفوسهم إلى علم مقرون بعمل، وتركوا الحياة ولم يرزأوا من حطام الدنيا شيئا، فإيمانهم لم يكن سلبيا استبطانيا مقصورا على التأمل والرحلات الروحية، فالواحد منهم كما يصفه علي علیه السلام«مصباح ظلمات كشاف عشوات مفتاح مبهمات دفاع معضلات، دليل فلوات»(1) أي أنه بجانب إيمانه العميق وتورعه عن المحظورات، فإنه متفاعل مع مجتمعه تفاعلا تاما بحيث لا يترك مجالا لمشاركة في اصلاح أو بناء إلا أمّه، ويتجلى ذلك بمعنى من خلال صيغ المبالغة «كشاف، مفتاح، دفاع »اي انه في تواصل تام ومستمر مع الناس في كل طريق يؤدي إلى الخير والسعادة، وتفاعله ذاك، جعله كما يقول علي علیه السلام يلزم نفسه «العدل، فكان أول عدله نفي الهوى عن نفسه يصف الحق ويعمل به، ولا يدع للخير غاية إلا أمها، ولا مظنة إلا قصدها»(2) وكل تلك الصفات تنفي عنه السلبية التي تقبع الإنسان داخل ذاته، ففكرة النص كما نتصورها، بعيدة عن الفكر الصوفي المحبوس داخل التأمل الروحي والمقصور على الزهد السلبي، وليس أدل على ذلك بأن الفكرة الثانية من النص المتممة له تعمد إلى

ص: 577


1- خطب - 86 - فقرة 1
2- خطب - 86 - فقرة - 1

وصف حال الجهال بحقيقة الإيمان في شخص من «تسمى عالماً»(1) فمضمون النص هو كشف لحقيقة العالم وفهمه للحياة من منظور اسلامي، وقد تناولهعلي علیه السلام بالعلاج من زاويتيه الايجابية والسلبية، في محاولة منه لتبصير أصحابه بالعالم العارف بقيمة الحياة المتزن في معاملاته وفي أسلوب عيشه بما يرضي ربه ويعود بالنفع على مجتمعه.

واستكمالا لما قيل عن فكر علي علیه السلام التصوفي، نعرج على قوله «قد اجبى عقله، وأمات نفسه حتى دق جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثير البرق، فأبان له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الابواب إلى باب السلامة، ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة في دار القرار والأمن والراحة، بما استعمل قلبه، وأرضى ربه»(2) . فلقد أوردنا النص كاملا، كما ذكره الشريف الرضي وهو على ما يبدو مجتزا من خطبة أو موعظة، أو رسالة، لأن سياقه يشعرنا انه مفصول عن كلام سابق عليه، كان بودنا لو عثرنا عليه، لنكون صورة كاملة عن فكرة النص، نستطيع على ضوئها معرفة مراد علي علیه السلام من وصفه ذلك، ومن هو المعنى بتلك الصفات، وعلى كل فالنص بشلكه الذي بين أيدينا، قابل للتأويل بحسب وجهة نظر قارئه والمتأمل في عباراته، فابن أبي الحديد قد وجه معانيه توجيها صوفيا خالصا، حين الحق به فصلا في مجاهدة النفس(3) وثان في الرياضة النفسية (4) وثالث في تأثير الجوع في صفاء النفس(5) ، ورابع في

ص: 578


1- السابق - فقرة 2
2- خطب - 216
3- راجع شرح النهج 11 / 127
4- المصدر السابق نفسه 11 / 134
5- المصدر السابق نفسه 11 / 137

المكاشفات الناشئة عن الرياضة النفسية (1) ، وكلها تتعلق بفلسفة التصوف، وفي ظل تلك الفصول الأربعة قام بشرح النص، فاستحال من وجهة نظره إلىصفات (العارف) في المفهوم الصوفي، في سلوكه الطريق للوصول إلى ذات الله، بأعمال العقل ومجاهدة النفس بالجوع والعطش وحرمانها ملاذ الحياة، والتدافع في رحلة النفس من باب إلى باب، بعد اشراق نور الإيمان في قرارة النفس بعد ترويضها، فاستجابت وثبتت بطمأنينة وراحة على اعتاب الذات القدسية، فالبراق اللامع ضمن النص كما يراه ابن أبي الحديد «هو حقيقة مذهب الحكماء وحقيقة قول الصوفية أصحاب الطريقة والحقيقة»(2) والتدافع من خلال الأبواب هو «من مقام من مقامات القوم إلى مقام فوقه»(3) وهو ما يطلق عليه الصوفية عبارة (الرحلة الروحية(4) .

وبنفس الأسلوب يتناول ميثم البحراني شرح النص بالتمهيد له بالقول «هذا فصل من أجل كلام له في وصف السالك المحقق إلى الله، وفي كيفية سلوكه، وأفضل أموره»(5) .

ونحن لا نتفق مع الشارحين فيما ذهبا إليه من تأويل، ذلك أن قول علي علیه السلام بإحياء العقل، من وجهة نظرنا، هو أعماله في التدبر، وتغليب حكمه في التصرفات الإنسانية على وساوس النفس بكبتها وهو ما كنى عنه بالقول

ص: 579


1- المصدر السابق نفسه
2- شرح ابن أبي الحديد 11 / 137
3- المصدر السابق نفسه 11 / 141
4- الرحلة - راجع سالك ص 576 إحالة (3) من هذا البحث، هامش - ب - فانتقال السالك من مقام إلى مقام، هو ما يسمى بالرحلة عند المتصوفة
5- شرح ميثم 4/ 53

(وأمات نفسه) أي زجرها وصدها، أما قوله (حتى دق جليله ولطف غليظه) فليس يعني به مجاهدة النفس «بالجوع والعطش والسهر والصبر على مشاق السفر والسياحة»(1) بل المقصود به صفاء فكره، وتواضع نفسه، فاستطاع ان يشق طريقه في الحياة باستنارة عقله، بمأمن عن كل ما يسيء إليه ويزل قدمه، فكانت راحته بإرضاء ضميره في تعامله مع الناس، وسلامة نفسه بسلوكه الطريق التي ترضي ربه، فالنص في أساسه مبني على فكرة علي علیه السلام في تعامل الفرد مع المجتمع من حوله، بحيث يمكننا اعتبار فكرة النص، تتمثل في توجيه تربوي للفرد ضمن الجماعة، من خلال اعمال العقل في التصرفات الفردية وتلافي السقوط في مهاوي الشهوة، والنأي بالنفس عن الانانية وحب السيطرة في التعامل مع الحياة، وهو ما نتفق فيه مع ما ورد عند محمد جواد مغنية: بأن غرض علي علیه السلام من النص «ان يكون كل مسلم صورة مثلى للإسلام على طراز»(2) ذلك المسلم الذي وصفه.

ثم ان قول علي علیه السلام«لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً»(3) لا يحمل في مضمونه أي بعد صوفي حتى لو حاولنا تعسف تأوليه، لأن الحرف (لو) يحول دون ذلك التأويل على أساس أن معرفة ما وراء المحسوسات هو من المستحيلات فعلي علیه السلام يقصد من المقولة، ان إيمانه بالله سبحانه وتعالى قد بلغ من القوة والمتانة والأحكام، مما لا يحتاج معه إلى مزيد من البراهين الماورائية التي تقوي من دعائم ذلك الإيمان.

ص: 580


1- شرح ابن أبي الحديد 11 / 137
2- في ظلال نهج البلاغة 3/ 284
3- شرح ميثم المئة المختارة ص 52

أما قول علي علیه السلام بترقيع مدرعته 1(1) ، فهو تعبير عن زهد في زخارف الدنيا مختص بشخصه أي انه سلوك ذاتي قصره علي g على نفسه من منطلق مسؤوليته كإمام قدوة لجميع الناس، والذين اغلبهم من الفقراء والمعدمين، والفكرة نابعة من اقتناعه المتمثل في قوله «ان الله تعالى، فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيغ لفقير فقره»(2) ، فتصرف علي علیه السلام كما يبدو من المقولة هو تعبير فكري لما يجب ان يعمل به أولو الأمر تجاه رعاياهم بحسب مقتضيات العصر، وبحسب الظروف التي يعيشها الناس ويمكن استخلاص ما يؤيد مقولتنا من خلال مناقشة جرت بين رجل وبين جعفر الصادق علیه السلام حفيد علي علیه السلام، فحواها قول الرجل للصادق علیه السلام«اصلحك الله، ذكرت أن علي بن أبي طالب علیه السلام، كان يلبس الخشن، ويلبس القميص بأربعة دراهم، وما أشبه ذلك، ونرى عليك اللباس الجيد؟... فقال له: إن علي بن أبي طالب علیه السلام كان يلبس ذلك في زمان لا ينكر، ولو لبس مثل ذلك اليوم لشُهّر به، فخير لباس كل زمان لباس أهله»(3) .

وبعد أن نفينا التصوف عن فكر علي علیه السلام يمكننا الدخول في فكره الزهدي من خلال فهمنا لفلسفة الزهد عند آل البيت علیهما السلام في ضوء مقولة الصادق علیه السلام تلك.

استوعب الوعظ بالزهد وذم الدنيا مساحة واسعة في نهج البلاغة (4) ، وقد بلغت تلك النصوص - مع كثرتها - الذروة في توظيف المعاني، حتى ليكاد المتأمل

ص: 581


1- راجع المقولة في ص 575 من هذا البحث
2- خطب - 203 ويتبيغ - يهيج
3- الكليني - الكافي 6/ 444
4- راجع علي سبيل المثال لا الحصر: خطب - 63 ، 80 ، 81 ، 82 ، 102 ، 110 ، 161

فيها يحس داخل قرارة نفسه أنها صادرة عن «من لاحظ له في غير الزهادة، ولا شغل له بغير العبادة، وقد قبع في كسر بيت، أو انقطع إلى سفح جبل، لا يسمع إلا حسه ولا يرى إلا نفسه»(1) ولدقة في المباني التي بلغتها كثير من تلك النصوص فيتناول علي علیه السلام لمعاني الزهد، ووصف الدنيا، ومال الإنسان، فقد علق ابن أبي الحديد على واحد منها بقوله «من أراد أن يعظ ويخوف ويقرع صفاة القلب، ويعرف الناس قدر الدنيا، وتصرفها بأهلها، فليأت بمثل هذه الموعظة، في مثل هذا الكلام الفصيح وإلا فليمسك... وأقسم بمن تقسم الأمم كلها به لقد قرأت هذه الخطبة منذ خمسين سنة وإلى الآن أكثر من ألف مرة، ما قرأته قط إلا وأحدثت عندي روعة وخوفا وعظة، وأثرت في قلبي وجيبا، وفي أعضائي رعدة»(2) مما يعني أن كثرة النصوص من حيث الكم، لم تخل بمضامينها من حيث الكيف، وهذا بطبيعة الحال، ما جعل الزهاد والمتصوفة ينهلون منها ما يتفق وأفكارهم، جاعلين من علي علیه السلام قدوتهم من خلال ما أثر عنه من أقوال، دون قرنها بتصرفاته وأفعاله، إذ من المفروض على المقتدي أن يأخذ بأفكار المقتدى به متكاملة من حيث القول المقرون بالعمل، لذلك لابد لنا من الوقوف على بعض الجوانب الخاصة من سيرة علي علیه السلام، والتي تمثل مفهومه للتفاعل مع محيطه من خلال نظرته للجانب المادي كطرف مقابل للجانب الروحي الذي يمثل الزهد أهم أركانه.

لقد استطاع علي علیه السلام بكده وعمل يده - أن يمتلك ضياعا، خارج المدينة وفي

ص: 582


1- الشريف الرضي - مقدمة نهج البلاغة - ص 20 - ط - الأندلسي
2- شرح ابن أبي الحديد 11 / 152 ، 153

ينبع (1) وكانت هذه الضياع تدر عليه - حسب ما يرويه هو بنفسه - أربعين ألف درهم في العام (2) ، ولكنه لم يكن يأخذ منها إلا مبلغ الكفاف، حتى أنه لما تولى الخلافة، وانتقل إلى الكوفة، كان لا يأخذ من أموال المسلمين شيئا، فقد كان ينفق على نفسه وعلى عياله مما تدره عليه ضياعه في المدينة، وذلك بالقدر الذي يكاد يقيم اوده ومن معه من أهله، موقفا بقية أمواله على فقراء المدينة ومساكينها (3) ، وهذا التصرف من قبل علي علیه السلام. نابع من إيمانه بقيمة المال من وجهة نظر إسلامية، متمشية مع قول الرسول صلی الله علیه و آله وسلم لقيس بن عاصم بشأن المالالذي يجوز للمسلم امتلاكه «نعم المال أربعون والكثر ستون، وويل لأصحاب لمئين، إلا من أعطى الكريمة، ومنح العزيزة، ونحر السمينة، فأكل وأطعم القانع والمعتر»(4) ، فالرسول a لم يحرم الثراء حين قصر التملك على ستين ناقة، ولكنه توعد بعذاب الله أولئك الذين لا يستغلون ثرواتهم في صالح المجتمع، ومساعدة المحتاجين طبقا لقوله تعالى:

«وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِی سَبيِلِ الله فَبشَّرْهُمْ بعِذَاَبٍ أَلِیمٍ»(5) وهو ما يمكن استخلاصه من فكر علي علیه السلام حين حاد احد أصحابه بالبصرة في مرض ألم به فوجد اتساع داره، فقال له «ما كنت تصنع

ص: 583


1- راجع ص 161 من هذا البحث وأيضا مقولته عما تدره عليه ضياعه من أموال ص
2- راجع: أحمد بن حنبل - كتاب الزهد ص 51
3- راجع رسائل - 24
4- أمالي المرتضى - 1/ 107 ويمكن مراجعة الخبر بتوسع هناك أيضا، والمعتر: الفقر المتعرض للمعروف دون أن يسأل
5- التوبة / 34

بسعة هذه الدار في الدنيا؟ وأنت إليها في الآخرة كنت أحوج؟ بلى إن شئت بلغت بها الآخرة، تقري فيها الرحم، وتطلع منها الحقوق مطالعها، فإذا أنت بلغت بها الآخرة»(1) ، فالدار باتساعها المبالغ - فيه تمثل - من وجهة نظر علي علیه السلام - بذخا مبالغ فيه، إذا استغلت في الصالح العام، الا ان ذلك لا يعني أن علياً علیه السلام يرى أن من واجب كل إنسان، ان يعيش عيشة الكفاف، ويضيق على نفسه وعلى أهله بسكنى الدور الضيقة، وهو القائل «الدار الضيقة العمى الاصغر»(2) فالمقولة تفند القول بعدم توسع الإنسان على نفسه. ثم إن عليا علیه السلام من ناحية ثانية، ينهى عن الرهبنة والانقطاع إلى العبادة، والزهد في ملذات الحياة، فحين سمع بأن أحد أصحابه قد لبس العباءة وتخلى عن ملذات الدنيا، قال له «يا عدي نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك وولدك أترى الله أحل لك الطيبات وهو يكره أن تأخذها، أنت أهون على الله من ذلك»(3) . لما نزع الزهدي في فكر علي علیه السلام مبني على فهم حقيقي للحياة على أساس حاول علي علیه السلام الاخذ بيد ابناء مجتمعه للرجوع بهم إلى جادة الإيمان فهو نتيجة لتطور الظروف الاجتماعية أثر تدفق الثروات على العرب المسلمين من ناحية، واختلال التوازن في بنية المجتمع في صالح فئة معينة من ناحية اخرى، وهو ما عبر عنه علي علیه السلام بقوله «اضرب بطرفك حيث شئت من الناس فهل ترى الا فقيرا يكابد فقرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا»(4) أي أن المجتمع قد بلغ ذروة التناقض الخطير بانتشار الفقر والجوع بين عامة الناس في مقابل استئثار فئة قليلة من الأغنياء،

ص: 584


1- خطب - 203
2- شرح ابن أبي الحديد 20 / 341
3- خطب - 203
4- خطب - 129

بالمال وانفاقه على ملذاتها وتدعيم مصالحها الذاتية غير مكترثة بمعاناة الفقراء وحرمانهم.

ففكرة الزهد المنتشرة في النهج، تعني الاعتدال في الانفاق كيلا تختل احدى كفتي الميزان لصالح فئة اجتماعية على حساب الفئات الاخرى، وبتعبير اخر ان الاستمتاع المفرط في مقتنيات الحياة من قبل شريحة من شرائح المجتمع، لأبد وان يكون على حساب شرائح أخرى محرومة من امس ما تحتاجه، وهو ما عبر عنه علي علیه السلام في قوله «ما جاع فقير، الا بما متع به غني»(1) أي ان التخمة لا يمكن ان تكون الا على حساب الجوع فالدنيا التي يزهِّد علي علیه السلام الناس فيها«هي دنيا المتخمين من أكل الحرام والمنغمسين في الرذائل والآثام»(2) والجديرة بأن تنبذ لضآلة الجانب الروحي فيها أو انعدامه منها.

فالزهد - كما يصوره فكر علي علیه السلام - ليس هروبياً بترك الدنيا والتفرغ للعبادة خوفا من الحساب، ولا هو تصوف غايته صفاء النفس بانفصالها عن عالَم المادة للوصول إلى رحاب الله من خلال شطحات لا تناسب والمسؤولية التي اناطها الله بالإنسان في تعمير الأرض، وقد مر بنا مقولته التي فحواها استطاعة المؤمن الاستمتاع بما في الدنيا بأحسن ما يستمتع به غيره، وفوزه بالآخرة دون ذلك الغير، فاستطاع الفوز بالدنيا والآخرة، لأنه قد عرف كيف يتعامل مع الدنيا (3) وذلك التعامل هو احد جانبي الزهد الذي يرمي علي علیه السلام إليه ضمن قوله «الزهادة قصر الأمل، والشكر عند النعم، والتورع عن المحارم»(4) أي

ص: 585


1- حكم - 336
2- محمد جواد مغنية في ظلال نهج البلاغة 2/ 147
3- ذكرت المقولة ص 572 من هذا البحث
4- خطب - 80

عدم التهالك على الدنيا واجتناب كل ما يسيء إلى الإنسانية سواء على الصعيد الفردي في شخص الزاهد، أم على الصعيد الاجتماعي في تعالي الافراد مع بعضهم البعض، انطلاقا من المفهوم الإسلامي المتمثل في ربط الإنسان بواقعه «ليؤثر فيه ويحوله إلى واقع يتأجج فيه الخير والعمل الصالح»(1)

اما الجانب الثاني من التفكير الزهدي في حد ذاته ضرب من الجهاد الداخلي في محاولة لموازنة النفس بين المادة والروح وذلك كما يتبين لنا من تعريف علي علیه السلام له بقوله «الزهد كلمة بين كلمتين في القرآن الكريم، قال سبحانه «لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَی مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ»ومن لم يأس على الماضي، ولم يفرح بالاتي، فقد أخذ الزهد بطرفيه»(2) . فالزهد بحسب ما يبدو في المقولة، تعامل مع واقع الحياة، يوازن النفس من الداخل بحيث لا تجنح إلى اليأس إذا ما خسرت أو منيت بالفشل، فتصاب بالإحباط والسقوط، ثم أنها لا تتمادى في السرور والفرح لمجرد حصولها على نجاح جزئي، فتصاب بالغرور، فتنسى في خضم سرورها متابعة الطريق مكتفية بما وصلت إليه، فالنجاح والإخفاق أمران محتملان وكلاهما يعادل الآخر في احتمال وقوعه، لذا يجب على الإنسان في هذه الحالة ان يكون واقعيا في تعامله معالحياة دون إفراط ولا تفريط فإن استطاع ذلك، فقد تمكن من الأخذ بطرفي الزهد.

ويمكن استخلاص مفهوم آخر للجانب الجهادي لمعنى الزهد في فكر علي علیه السلام، وهو الداعي إلى بذل الروح في سبيل نصرة الدين، والذود عن المبادئ السامية، والدفاع عن حياض الوطن، على اعتبار أن الحياة نفق يعبره الإنسان

ص: 586


1- بسام مرتضى - فلسفات اسلامية ص 37
2- حكم - 448 - والآية من سورة الحديد/ 23

بأعماله للوصول إلى الحياة الحقيقية والابدية، والجهاد بالنفس من أقوم السبل وأعظمها للوصول إلى تلك الحياة الخالدة من وجهة نظر الإسلام، على اعتبار أن الجهاد عملية تجارية مردودها الربح الخالد العائد على العبد من قبل خالقه كما في قوله تعالى:

«إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ»(1) .

وعلى ذلك فقد تدافع المسلمون الأوائل في طريق الجهاد، بإيمان ليس له حدود وحماس منقطع النظير ببذل النفوس في سبيل الاستشهاد، لكون اكثرهم من الفقراء والمستضعفين الذين سحقتهم الحياة، وذاقوا مرارة العيش، فتاقوا إلى حياة افضل، فاستفاد الدين أيما فائدة من حماسهم ذاك، إذ انتشر في فترة وجيزة في بقعة من المعمورة شملت أملاك أعظم امبراطوريتين شرقيتين.

ولكن سرعان ما خبا ذلك الحماس، وضعفت روح المقاومة حين ذاق أولئك المحاربون حلاوة الحياة، فبخلوا بنفوسهم، فوجد علي علیه السلام نفسه بين رجال متخاذلين يتهربون من الجهاد بشتى الوسائل والحجج(2) ، لذلك كان التزهيد في الدنيا ومقتنياتها وتكراره في خطبه ورسائله ووصاياه، محاولة لإعادة جذوة الحماس إلى النفوس، وحثها على الجهاد بالترغيب في الآخرة ونعيمها، تذكيرا بما ورد في القرآن الكريم بشأن ذلك وأسوة بالمسلمين الأوائل الذين وصفهم في معرض المقارنة بمن حوله من الرجال بقوله «لقد رأيت أصحاب محمد صلی الله علیه و آله وسلم،فما أرى أحد يشبههم منكم لقد كانوا يصبحون شعثا غبرا، وقد باتوا سجدا وقياما، يراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر

ص: 587


1- التوبة / 111
2- راجع خطب 27 ، فقرة 2 وقد عرضنا لها في ص 480 من هذا البحث

معادهم... »(1) فالوصف هنا - بما يحويه من معان زهدية عميقة، في مقابلته بحال أصحابه في تقاعسهم عن الجهاد بخلا بأنفسهم وركونهم للحياة بما يكتنفها من ذل وهوان في حقيقته دعوة من خلال التقريع للزهد في الدنيا والإقبال على الاخرة للتحلي بزهد رجال الرسول صلی الله علیه و آله وسلم، الذين باعوا أرواحهم لله في سبيل الحصول على الحياة الأبدية، بعكس رجاله الذين رضوا «بالحياة الدنيا من الآخرة عوضا، وبالذل من العز خلفا»(2) .

فالزهد في فكر علي علیه السلام هو محاول لربط الإنسان بواقعه بعرى متينة من الإيمان الواعي القائم على دعائم روحية ومادية متعادلة ومتمازجة في آن واحد.

أما أسلوبه الزهدي الصارم في مأكله وملبسه، فلم يكن يعني به أية صورة من صور التصوف، ولم تصدر منه أية دعوة لأصحابه باحتذاء أسلوبه المتقشف في الحياة، اللهم إلا لولاته على الأقاليم، بهدف تذكيرهم، حتى لا ينسوا، في خضم تدفق المال، عامة الناس من الفقراء والمحتاجين على أساس أنه لا يحس بألم الفقير الا الفقير فالدعوة الزاهدة في النهج مبنية على علم مقرون بعمل، غايته سعادة الفرد في ظل مجتمع يضع المادة في مكانتها التي ترقى بإنسانيته أثناء تصرفه فيها مهما كان حجمها، فيكون مستعدا للبذل والعطاء تحت أية ظروف، سواء أكان ذلك بالروح أم بالمال على أساس إيمانه بفناء كليهما - وهذا الإيمان المتفاعل مع قيم الحياة الواقعية ينأى بمفهوم الزهد الذي يدعو علي علیه السلام إليه عن معنى التصوف الذي يحيل الحياة إلى نوع من التعبد الروحي الخالص، مما يتنافى وجوهر الإسلام على عدم الفصل اطلاقا بين المادي والروحي، لأنهما «درجتان

ص: 588


1- خطب - 96 - فقرة - 4
2- خطب - 34 - فقرة 1

من درجات الموجود»(1) وذلك الفهم الواعي لطبيعة الحياة هو الذي جعل للحكمة قيمتها الفكرية في النهج.

3- الأسلوب الحكمي كما يبدو في فكر علي علیه السلام

اشارة

بلغت الحكم المنسوبة إلى علي علیه السلام ذروتها من حيث الكم والانتشار، حتى لا نكاد نجد كتابا من كتب التراث العربي، سواء أكان موضوعه «الأدب(2) ، أو السياسة (3) ، أو الأخلاق (4) ، أو الفلسفة (5) ،... يخلو من قول مأثور منسوب إلى علي علیه السلام، إضافة إلى تلك الكتب(6) التي تنافست فيما بينها لجمع أكبر قدر

ص: 589


1- محمد باقر الصدر فلسفتنا ص 336
2- راجع الحصري القيرواني - زهر الآداب 1/ 43 ، المارودي - تسهيل النظر وتعجيل الظفر - ص 40 ، 90 ، نصير الدين الطوسي أخلاق محتشمي ص 36 بالإضافة إلى معظم أبواب الكتاب، مسكويه - الحكمة الخالدة ص 110 وما بعدها
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه
5- المصدر السابق نفسه
6- من القدماء الذين اهتموا بجمع حكم الإمام علي علیه السلام: الجاحظ (ت 255 ه-) في كتابه (المئة الكلمة المختارة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام) وقد قام يشرح مختارات الجاحظ كثير من الأدباء نذكر منهم: ميثم البحراني (ت 679 ه-) في كتابه: شرح المائة كلمة - طبع في ايران - وقد عني بنشره مير جلال الدين الحسيني سنة 1390 ه- 1970 م) مع شرحين آخرين للمئة كلمة، إحدها لمؤلف مجهول الوفاة اسمه كما ذكر في نهاية الشرح عبد الوهاب ولد خوجة أمير إدنه، وهو ابراهيم بن يسير باشان أما الكتاب الثالث ضمن المجموعة فهو: مطلوب كل طالب من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، بشرح (الوطواط) محمد بن محمد رشيد الدين (ت 573)

ممكن من تلك المأثورات الحكمية. على أن ذلك الكم من الحكم والتي يرجح نسبة معظمه إلى علي علیه السلام، لم يكن في أكثره سوى خطب، ووصايا (1) جزاها أولئك المؤلفون في جمل وعبارات اختاروا منها بغيتهم، وما يتناسب ومناهجهم التأليفية، مما يوصلنا إلى نتيجة مفادها ان معظم تلك الأقوال الحكمية المنثورة في طيات الكتب، أو المجموعة في شكل جمل وعبارات متفرقة، هي في الأصل عبارات مفصولة عن سياقاتها العملية، بحيث يمكن النظر في مضامينها من بعدين:

فمن خلال السياق الذي وردت العبارة فيه، يمكن إدراك مدى فاعليتها لحظة قولها، وتأثيرها في الوقت المرتبط بمناسبتها.

أما في حالة قراءتها كوحدة منفصلة عن سياقها ومناسبتها فيمنحها بعدا انسانيا اخر، يتضمن معنى حياتيا تأمليا يحاول المتطلع فيه، فهم واقعه في ضوء

ص: 590


1- راجع على سبيل المثال - القاضي القضاعي (ت 454) - دستور معالم الحكم ط دار الكتاب العربي - بيروت 1981 - ما ورد من حكم في الباب الرابع من ص 59 حتى ص 66 وقارن ذلك بما ورد من حكم ضمن الرسالة (31) في النهج، فسنجد ان مؤلف الكتاب قد قام بتوزيع الوصية في كتابه بحسب المنهج الذي رسمه لنفسه

ذلك التعبير المنسجم مع ما يصطرع بداخله.

فقول علي علیه السلام«ما غُزي قوم في عقر دارهم إلا ذُلوا»(1) قد ورد عند علي علیه السلام ضمن خطبة بغرض توبيخ أصحابه لتواكلهم وتخاذلهم عن دفع الغارات عن أطراف بلادهم، مما جعلهم غرضا لطمع الأعداء في كل وقت، فاستحالت حياتهم إلى رعب وذل وخوف، فالعبارة من حيث سياقها العملي ضمن النص وصف لتحصيل حاصل يراد به اثارة النخوة وبث الحماس. أما العبارة في سياقها التأملي مقطوعة عن مناسبتها، فتفتق في ذهن المتأمل فيها ابعاداً معنوية يمكن الاستفادة منها كأسلوب عسكري يحاول من خلاله القادة المسؤولون تجنيب أوطانهم الدمار والذل بنقل الحرب إلى أرض الأعداء بأية وسيلة ممكنة.

فصدق التجربة ولد في أرجائها الحرارة والحماس في مناسبتها من ناحية، واتاح لها الخلود كعبارة منفردة من ناحية أخرى لصلاحية مضمونها في كل زمان.

كما ان قوله «سل تفقهاً ولا تسأل تعنّتا»(2) هو تعبير عن تبرمه ممن كان يسأله لمجرد المكابرة والتصيد لا بقصد التعلم، فكانت المقولة تعبيرا عن ضيق علي علیه السلام بأسلوب السائل المبني على الإثارة، وقد بقيت العبارة حاملة تلك الاثارة الكامنة في كلمة (تعنتا) بحيث يمكن قولها إلى كل لجوج، يرمي من وراء أسئلته الاثارة وتصيد الأخطاء.

فالحكمة على هذا الأساس عملية من كلا جانبيها: الواقعي، المتمثل في مناسبتها والتأملي، المتمثل في ممارستها بالأخذ بفحواها في المناسبة المشابهة لها في أثناء التعامل مع الحياة، وانسيابها المنسجم ضمن مناسبتها ينأى بها عن الصياغة

ص: 591


1- خطب - 27 - فقرة - 2
2- حكم - 328

المرتجلة المنتقاة الخالية من أي مضمون عملي، لأنها تعبير صادق عن خلاصة تجربة ناضجة وعميقة، قد تبدو في كثير من الأحيان، أقدم من قائلها لما تحويه من أبعاد زمانية ضاربة في اعماق تاريخ الإنسانية، مما يعني أن تجربة قائلها الحياتية أكبر من سنة المعاش، وعلي علیه السلام في تصوره لحجم تجربته وعمقها، على وعي تام، وفي ذلك يقول «إني وإن لم أكن عمّرتُ عُمْرَ من كان قبلي، فقد نظرت في أعمالهم وفكرت في اخبارهم، وسرت في آثارهم، حتى عدت كأحدهم، بل كأني بما انتهى إلي من أمورهم قد عمرت مع أولهم إلى آخرهم، فعرفت صفو ذلك من كدره، ونفعه من ضرره»(1) فنظرة علي علیه السلام إلى الحياة - كما يبدو من المقولة - لم تكن محددة ببعدها الآني، وتجربة لم تكن محصورة في النطاق الضيق لحياته كإنسان، فهي مزيج من الممارسة المعاشة ممن خلال التعامل مع الواقع، والتأمل العميق في تجارب الأقدمين، ومن خلال تلك التجربة تولدت أساليبه الحكمية النابضة بالحياة، فالكثرة من حيث الكم، لا تعني عنده رصف الكلمات، وتدبيج العبارات لمجرد الوعظ السلبي، والداعي إلى الوضوح والاستكانة والتسليم بالأمر الواقع، شأنها شان أية عبارة تصدر عن فيلسوف أو حكيم، لأنها في جلها لا تعتمد على الأحلام والتخيل في تصورها للحياة، لانطلاقها من واقع الحياة في حركتها ضمن جميع الاتجاهات الزمانية والمكانية وهي ليست فئوية موجهة لطبقة معينة، لا فردية يقصد بها شخص ما لذاته، لأنها بالنسبة لقائلها ذات ابعاد فكرية منسجمة مع نظرته المتوحدة للحياة، ويمكن تتبع ابعادها، وتأثيراتها النفسية في نقاط ثلاث:

ص: 592


1- رسائل - 31 - فقرة 6
الأولى - الحكمة السياسية:

والمقصود بها العبارات الحكمية التي تتضمن جوانب من فكر علي علیه السلام السياسي أثناء مزاولته الحكم في مختلف ميادينه، فمن ذلك ما هو متعلق بالشؤون الإدارية، المتمثلة في توجيه ولاته، باتباع السياسة الحكيمة والصائبة في أثناء ممارستهم الحكم في ولاياتهم على الصعيدين الداخلي تجاه مواطنيهم والخارجي تجاه الاعداء، كالتحرز في إبرام المعاهدات معهم، كما في قوله «اعتصموا بالذمم في أوتادها»(1) أي لا تتعاهدوا إلا مع من تشقون في وفائه والتزامه وصدقه.

والمشاورة وتقليب الأمور قبل الأقدم عليها من أهم العناصر التي يجب أن تأخذ بها القيادة الحكيمة كوسيلة من وسائل الاشراك في الحكم، ولبذل الجهد في تلافي الأخطاء بأنجع الأساليب، وفي ذلك يقول علي علیه السلام «من استقبل وجوه الآراء عرف مواقع الخطأ (2) أي أن من يضع نصب عينيه آراء متعددة من أجل حل معضل ما، فلابد من وصوله إلى بغيته من خلال مشاوراته.

والرضوخ إلى الحق مهما كانت مرارته، من أهم الدعائم التي تنبني عليها الحكومة الصالحية إذ يرى علي علیه السلام«أن الحق ثقيل مريء والباطل خفيفوبيء»(3) مما يعني عنده، عدم المكابرة إذا ما عرف الإنسان جانب الحق لقوله «من أبدى صفحته للحق هلك»(4) أي من حاول انكار الحق والتصدي له بعد

ص: 593


1- حكم - 159 - راجع مناسبة هذه الحكمة عند ابن أبي الحديد 18 / 372. ط إحياء التراث
2- حكم - 177
3- حكم - 382 - ومريء - هنيء حميد العاقبة، وبيء - من الوباء أي المرض، أي وخيم العاقبة
4- خطب - 16 - فقرة 2، وحكم - 158 - من أبدى صفحته للحق أي من كاشف الحق مصارحا له بالعداوة.......

تأكده منه كان مصيره السقوط مهما أبدى من مقاومة. مع ملاحظة أن تخصيصنا الحكمة لميدان معين هو السياسة، لا يحصرها في ذلك المجال بالذات لأنها كمقولة عملية صالحة للتعامل بها في جميع ميادين الحياة بما يتطابق ومناسباتهاعلى المستويين الفردي والاجتماعي.

وقد يبدو على الحكمة في بعض جوانبها نوع من لمقاومة السلبية التي تجعل الفرد خانعا مستسلما، ولكن هذه الفكرة سرعان ما تتبدد، إذا ما وجدناها في الجانب الآخر تدعو إلى القوة المتعلقة، المتمثلة في الحزم، فالتعامل بأسلوب أخلاقي متحضر، لا يمنع الإنسان من الدفاع عن نفسه ومواجهة الشر بمثله إذا لم يجد وسيلة أخرى لدرء الخطر عن نفسه، وهو عين ما يمكن استنتاجه من قول علي علیه السلام«ردوا الحجر من حيث جاء، فإن الشر لا يدفعه إلا الشر»(1) ، وعلي علیه السلام هنا لا يدعو إلى ما يسمى في العصر الحديث بالعنف، لأن قوله ذاك نابع من فكر إسلامي واضح يمثله قوله تعالى:

«فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ»(2) ذلك هو جانب من جوانب السياسة في مأثورات علي علیه السلام الحكمية.

ويتمثل الجانب الثاني في أسلوب تعامل الحاكم مع المحكوم من وجهة نظر علي علیه السلام وهي مبنية في جوهرها على ما انتهينا إليه عند استعراضنا لفكرعلي علیه السلام السياسي(3) ذلك بحيث يمكننا القول ان الحكمة في هذا الجانب، لا تعدو كونها خلاصة لذلك الفكر المقرون بالممارسة الميدانية للحكم، والمتمثلة

ص: 594


1- حكم - 322
2- البقرة / 194
3- راجع ص 138 وما بعدها من هذا البحث

في احترام الإنسان وصيانة حقوقه، ونأي الحاكم بنفسه عن كل ما يترتب عليه من هدم في بنية المجتمع، فالخلاصة التي توصل إليها علي علیه السلام من خلال ممارسته للحكم، انه إذا ما اريد لأية دولة البقاء قوية من حيث اقتصادها وامنها، يجب أولا وقبل كل شيء احترام حقوق الناس وقد أودع علي علیه السلام فكرته تلك في قوله «إن العسف يعود بالجلاء، والحيف يدعو إلى السيف»(1) فالحكمة ذات المضمون السياسي، في النهج منسجمة تماما مع فكر علي علیه السلام السياسي، سواء أكانت مقولته متعلقة بشخصه ذاتيا أم كانت مطلقة تعني الحكم بمعناه الواسع في جميع ميادينه الاقتصادية أو الإدارية أو العسكرية.

الثانية - الحكمة الاجتماعية:

وهي التي ترمي إلى توضيح الأسس التي ينبغي أن تنبني عليها العلاقات بين الناس، بمعرفة كل فرد حقوقه وواجباته كي ينتظم المجتمع، ويسود التعاون والمحبة والوئام مختلف فئاته، والمستخلص من فكر علي علیه السلام في هذا الجانب، ان توفير الطمأنينة للمواطنين من أهم العوامل المهيئة لخلق ذلك المجتمع، ولا يمكن الوصول إلى ذلك الا بإزالة الغربة من النفوس، لأنها من أهم عوائق البناء، وليس ثمة غربة للمواطن في وطنه كما يرى علي علیه السلام مثل الفقر وفي ذلك يقول «الغني في الغربة وطن، والفقر في الوطن غربة»(2) ، فتوفير العيش الكريم للمواطن من أهم دعائم المواطنة، ويرى علي علیه السلام ان للإنسان دوره أيضاًفي اسعاد نفسه واسعاد الناس من حوله إذا ما توفر له العيش الكريم، وذلك إذا

ص: 595


1- حكم - 485
2- حكم - 54

استطاع الانفاق بتعقل وحكمة، فبصدد ذلك يقول «كن سمحا ولا تكن مبذرا وكن مقدرا ولا تكن مقترا»(1) .

ولأهمية المال البالغة في بناء العلاقات الاجتماعية يرى علي علیه السلام وجوب سياسته بالعلم، حتى لا يستحيل إلى وبال على المجتمع، وفي هذا يقول «من أتجر بغير فقه فقد ارتطم بالربا»(2) ، أي استحال إلى مستغل همه الربح والجمع على حساب الناس، مع الملاحظ ان الطابع الاجتماعي العام، هو الذي يحكم الأسلوب الحكمي المعالج للناحية المادية على أن هناك طابعا فرديا يحاول علي علیه السلام من خلاله إبراز فكرة إدماج الفرد في المجتمع من حيث التعامل بأسلوب فعال يجنبه العزلة، ويحتم عليه التعاون. فمفهوم الصداقة في فكر علي علیه السلام الحكمي، يعني التعاون التام وفي كل الظروف، ومن حكمته في الصداقة قوله «لا تكون الصديق صديقا حتى يحفظ اخاه في ثلاث: في نكبته، وغيبته، ووفاته»(3) .

ويرى علي علیه السلام أيضاً انه لا يمكن تفاعل الفرد في المجتمع، تفاعلا ايجابيا، الا بالإقدام على العمل بثقة في النفس، وإصرار، وعزيمة، لأن الفشل والنجاح مقرونان بعمل دؤوب يحرك الإنسان استخلاصا من قوله «فزنت الهيبة بالخيبة، والحياء بالحرمان»(4) .

والدين كأسلوب الحياة متكامل الجوانب، استأثر بمكانة سامقة في فكر علي علیه السلام إذ يرى ان على الفرد إذا ما اراد ان يعيش في انسجام تام مع بقية افراد

ص: 596


1- حكم - 33
2- حكم - 46
3- حكم - 132
4- حكم - 21

مجتمعه، ان يعرف الإسلام على حقيقته من خلال فهمه لأصل الإيمان المنبثق من حكمته القائلة «الإيمان ان تؤثر الصدق حيث يضرك على الكذب حيث ينفعك، وأن لا يكون في حديثك فضل عن عملك، وأن تتقي الله حديث غيرك»(1) وهو بهذا يضع مفهوما للإيمان يختلف في أسلوبه عما يتصور أنه مجرد طقوس خالية من كل مضمون اجتماعي أخلاقي؛ لأنه يرى فيه معرفة يقينية مقترنة بعمل مثمر وجاد يمثله قوله «كم من صائم ليس له من صيامه الا الجوع والظمأ وكم من قائم ليس من قيامه إلا السهر والعناء حبذا نوم الاكياس وإفطارهم»(2) والأكياس هم العقلاء العالمون العاملون، فالفاعلية الإيمانية في فكر علي علیه السلام تكمن في العمل بالعلم. ولو تتبعنا الحكمة الاجتماعية باتجاهاتها المتعددة المتنوعة في النهج فسنجدها في مجملها تصورا لواقع اجتماعي، الهدف منه التعاون المنسجم بين كل الطبقات الإنسانية، من خلال جعل المادة وسيلة بناء والعمل غاية للتطور.

الثالثة - الحكمة الأخلاقية:

قد يتبادر إلى الذهن هنا أن المقصود بالحكمة الأخلاقية هو الوعظ المصوغ في قوالب تعبيرية بديعة، ولكن بتتبعنا لمختارات الرضي الحكمية في النهج نجد ان مثل تلك الحكم الأخلاقية المبنية على النصح المباشر تشكل نسبة ضئيلة إذا ما قورنت بالحكمة الأخلاقية في سياقها العملي، المبني على ما يمكن اعتباره دراسة للنفس الإنسانية في أثناء احتكاكها بالحياة، فمحاولة انصهار الإنسان

ص: 597


1- حكم - 467
2- حكم - 143

في المجتمع، تحتم عليه اتباع أسلوب معين من أهم مزاياه التحكم في الأعصاب وضبط النفس، وإذا لم يتمكن من ذلك، فسيكون مآله الانتهاء والفشل لأنه سيدمر حياته من الداخل وقد أوجز علي علیه السلام ذلك في قوله «الحدة وضرب من الجنون، لأن صاحبها يندم، فإن لم يندم فجنونه مستحكم»(1) ، لذا فالأجدر بالفرد أن لا ينفعل، ولا يكابر، ولا يتعصب لرأيه، أو لعلمه، دونما استناده إلى حجة مقنعة وهو ما عبر عنه علي بقوله «اللجاجة تسل الرأي(2) أي ان الخصومة تعصبا لغير الحق تشتت الفكر وتنأى به عن الصواب.

والنجاح في الحياة بالنسبة لأي فرد، مرتبط بالعمل الدؤوب المقرون بالصبر وقوة الاحتمال، وسعة الصدر، ولكن قد لا ينال الإنسان بعزيمته الصادقة وإيمانه المتين كل ما يطمح إليه من أهداف، إلا أنه لابد أن يحقق جزءا من طموحاته تلك، وهي حقيقة يجب على كل فرد عامل أن يتدبرها، بنظرته إلى الحياة بواقعية، وعلي علیه السلام قد عرف تلك الحقيقة من واقع احتكاكه بالحياة، فجاءت حكمه مطابقة في مضمونها حقيقة ارتبطت بالإنسان مذ عرف الحياة، وذاق طعم النجاح والفشل، وستبقى ملازمة إياه ما بقي الوجود وهي المعاني التي صاغها في قوله «من طلب شيئا ناله أو بعضه»(3) والطلب هنا لا يعني الاستجداء، بل يعني المثابرة والإصرار والجد.

وإيمان علي علیه السلام بالإنسان وكرامته، تجعل من حكمته، ومضات مضيئة في ظلام الامتهان والاستغلال والزيف، لذا فهي تهون على الفرد الفشل المادي

ص: 598


1- حكم - 254
2- حكم - 183
3- حكم - 393

الذي يجره إلى إهدار كرامته، وسفح ماء وجهه عند من لا يقيم للإنسانية أي وزن، انطلاقا من مقولته «فوت الحاجة أهون من طلبها إلى غير أهلها»(1) ان الثراء في تجربه علي علیه السلام الحياتية والثقافية والدينية أسبغ على أقواله الحكمية خصائص منها:

أ- الحكمة لم تعد قولا فلسفيا مصوغا في قوالب لغوية جاهزة، لأنها قبل أن تنبثق إلى الوجود كمقولة، هي تصرف حكيم، عاشه علي علیه السلام بكل إحساساته، ومن بلورة في مقولة نابعة من تأمل عميق في أثر الحدث المناسب لها.

ب - إن انبثاق الحكمة من تجربة عايشها علي علیه السلام، جعل لها بعدين دلاليين:

الأول منهما آني حاول علي علیه السلام من خلاله بث الحيوية في الكلمة ابان مناسبتها بغرض اثارة نفس المتلقي، لجعله ينفعل معه بالموقف الذي يعيشه، فيضمن استجابته، لما تتضمنه المقولة من حفز واستنهاض.

أما الثاني فيكمن في خلود النبض والحيوية ضمن المقولة، فتستحيل إلى حكمة ذات تأثير دائم ومستمر، خاصة بالنسبة للمواقف المشابهة لمناسبتها في كل زمان ومكان.

ج- - إنها تتميز بالعفوية والبعد عن التكلف، مما يجعل قابلية التأثر بها والتجاوب معها يسيرا وسهلاً.

فحكمة علي علیه السلام مجموعة من القيم الإنسانية، للوصول بالإنسان إلى مراقي الحق والعدل والتقوى في ظل مجتمع آمن، فهي في أبعادها السياسية والاجتماعية والأخلاقية تمثل الانسجام التام لفكره، بحيث لا يمكن فصلها عنه، لأنها خلاصة ذلك الفكر المثالي الشامل الممثل لنظرته لمعظم نواحي الحياة

ص: 599


1- حكم - 64

قولا وعملا والمنطلق من مقولته «الداعي بلا عمل، كالرامي بلا وتر»(1) وهو ما يجعلنا في نهاية المطاف، وبعد جولتنا في كثير من نواحي ذلك الفكر،نتساءل عن الأساليب التي صاغه علي علیه السلام فيها، ومدى ملائمة تلك الصياغة لحمل مضامينه والتعبير عن مشاعر صاحبه، وهو ما سنعرض إليه في دراستنا للأساليب التعبيرية في نهج البلاغة.

ص: 600


1- حكم - 344

الباب الخامس:الأساليب التعبيرية ي نهج البلاغة

اشارة

الفصل الأول: الأنواع الأدبية وخصائصها التعبيرية

الفصل الثاني: أبرز الخصائص الأسلوبية في النهج

الفصل الثالث: أبرز الخصائص الفنية ي النهج

ص: 601

ص: 602

الفصل الأول: الأنواع الأدبية ي النهج وخصائصها التعبيرية

اشارة

نعني بالأنواع الأدبية في مجال دراستنا لنهج البلاغة، كل ما ورد بين دفتيه من نصوص نثرية سواء كانت خطباً أو عهودا، أورسائل، أو وصايا أو حكما. فإن لكل نوع من هذه الأنواع خصائصه المتميزة التي تقتضي منا تناولها بالدراسة استكمالا لدراستنا فكر علي علیه السلام، لأن الكلمة بوتقة الفكر، والأسلوب روح المفكر والأديب.

أ - الخطابة

تعد الخطابة في نهج البلاغة من أهم المصادر التي يعول عليها في دراسة فكر علي علیه السلام كما لاحظنا ضمن الابواب السابقة، فهي الوعاء الذي صان جانبا كبيرا من ذلك الفكر الذي صبه علي علیه السلام في قوالب تعبيرية يمكن عدّها غاية في الروعة والابداع لاعتقاده القوي بأن «الكلمة إذا خرجت من القلب وقعت

ص: 603

في القلب»(1) . لذلك فقد شحذ طاقات الكلمة بإيداعها أفكار مغلفة بروحه وإحساساته، لتصل إلى مستمعه بصدق وأمانة من خلال خطبه المتناسقة في عناصرها المتنوعة في موضوعاتها، المتدفقة في عطائها.

أ- العناصر التي تتكون منها الخطبة عند علي علیه السلام:

اشارة

بنى ميثم البحراني شرحه لمعظم خطب نهج البلاغة على منهج منطقي (2) ، قوامه المقدمات والاقيسة والنتائج على اعتبار ان الخطابة «جزء من صناعة المنطق»(3) . وبعيدا عن تلك التعقيدات، فإن الخطبة كفن مسموع تتكون من عناصر أربعة هي:

- الأول: المقدمة:

وعادة ما يودع الخطيب فيها الملامح العامة للقضية التي يريد طرحها على مسامع الجماهير، ويعمد إلى إحطتها بنوع من التشويق والترقب لجذب الانتباه وشد النفوس. والمقدمة في أغلب الأحيان تكون قصيرة، مكثفة في عبارات موحية، ومشحونة بانفعالات الخطيب وحماسة لقضيته، فكلما كان تأثيرها بالغا استطاع الخطيب استقطاب انتباه المستمعين إليه، لأن العبارة إذا ما انطلقت على سجيتها، محددة لمقصد الخطيب منها ومنسجمة مع تفكيره مصوغة بانفعالاته النفسية، فإن ذلك يمنح الثراء لإيحاءاتها ويرسخ من تأثيرها في النفوس. ولو تأملنا في مقدمة الخطيب التي وردت في النهج لوجدنا انها متفقة مع موضوعاتها

ص: 604


1- شرح بن أبي الحديد 20 / 287 . وقد نسبها الجاحظ في البيان والتبيين 1/ 83 إلى عامر بن قيس
2- يمكن ملاحظة ذلك في يشرح ميثم لأية خطبة، خاصة الخطب الطويلة المتكاملة
3- ابن رشيد - تلخيص الخطابة ص 18

تما الاتفاق، وعلاوة على ذلك فإنه برغم تقادم العهد على تلك الخطب كنصوص مسموعة، الا ان النبض والحيوية ما يزالان يعملان تأثيرهما في نفس القارئ، بحيث ينتابه شعور الانفعال الذي كان الخطيب يعيشه في أثناء الأداء في محاولة منه للسيطرة على النفوس، وجذبهم نحوه ليتأتى له ابلاغ افكاره والاقناع بقضيته بشده الانتباه إليه منذ الوهلة الأولى من خلال مقدمات مقتضبة وموحية ومناسبة في آثارتها لموضوع الخطبة الخاصة بها.

فمن مقدمات خطب علي علیه السلام«اما بعد فإن المر ينزل من السماء إلى الأرض، كقطرات المطر، إلى كل نفس بما قسم الله لها من زيادة أو نقصان، فإن رأى أحدكم لأخيه، غفيرة في أهل أو مال، فلا تكونن له فتنة»1(1) ، فالربط في المقدمة بين كلمة (امر)، وبين صورة المطر في نزوله، كصورة محسوسة في تباينها بين الكثرة والتوسط والقلة من حيث نزوله على بقاع من الأرض دون اخرى، يوحي لا محالة ان موضوع الخطبة هو التفاوت في توزيع الله سبحانه وتعالى لأرزاق العباد، وعلاقة ذلك بتهذيب النفوس بالعمل، والرضى بما قسمه الله لكل فرد، والتعاون والتآزر بين افراد المجتمع والنأي بالنفوس عن الحقد والضغينة والحسد. فالمقدمة بسلاستها وانسياب عباراتها، هي مدخل هادئ لتهيئة نفس مطمئنة راضية تقبل التعايش مع غيرها في حب وتعاون وسلام، وهو ما كانت الخطبة ترمي إليه في موضوعها الأساسي.

إلا أن الهدوء يتلاشى ويحل مكانه الغضب المفعم بالأسى في مقدمة خطبة أخرى، حيث يقول «ما هي إلا الكوفة، أقبضها وأبسطها، إن لم تكوني إلا أنت،

ص: 605


1- خطب - 23 - وغفيرة: كثرة أو زيادة

تهب أعاصيرك فقبحك الله»(1) ، فالكلمات تكاد تنفجر بالغضب في الدعاء على أهل الكوفة بالقبح، والملاحظ ان عليا علیه السلام قد استخدم المجاز للتعبير عن تبرمه وسخطه في قوله «ما هي الا الكوفة»ويعني بذلك رجالها، ولتشخيص المعاني وبث الحياة فيها، لجأ إلى الالتفات (2) بتحويله دفة الخطاب من الكلام عن الغائب، وتوجيه الحديث إلى المخاطب المتمثل في الكوفة بقوله «ان لم تكوني... »، والأسلوب بما ينطوي عليه من مجاز وتجسيد يوحي بعجز القائد عن التصرف بما تحت يده من سلطان واسع، الا في حدود لا تكاد تتعدى مساحتها قبضة اليد مقارنة باتساع ذلك السلطان، ويعود سبب ذلك إلى عدم تجاوب أصحابه معه وعدم اطاعتهم لأوامره.

وفي مقدمة لخطبة ثالثة يقول «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخَطْب الفادح والحدث الجليل...»(3) ، فالافتتاحية هادئة يسري الحزن في عباراتها، وتتضمن التسليم بقضاء الله وقدره في كل الاحوال، وتوحي بأن ثمة حادثة خطيرة قد وقعت، وان الخطيب يمهد لها بنفس مؤمنة مطمئنة، لتصل إلى مستمعه بهدوء بعيداً عن أي انفعال، لما تتضمنه من حض على الصبر وتمسك بعرى الإيمان تحت أي ظرف.

فللمقدمة من الدقة في تحديد الهدف، وجذب الانتباه، وشد الأسماع ما

ص: 606


1- خطب - 25 - فقرة(1)
2- الالتفات هو انصراف المتكلم عن المخاطبة إلى الأخبار وعن الأخبار إلى المخاطبة وما يشبه ذلك... ابن المعتز - البديع ص 58
3- خطب - 35 - فقرة (1). والخطب الفادح: الأمر العظيم المهبط، والحدث - بفتح الحاء والدال - الحادث، ويقصد بكل ذلك ما وقع من أمر الحكمين، والشاهد من مقدمة خطب قالها علي علیه السلام بعد استخباره بنتيجة التحكيم

يجعلها توحي - للمتأمل فيها - بالمواقف والمناسبات التي من اجلها صيغت وذلك لصدق عباراتها، وما تنطوي عليه من ايحاءات تجسد ايمان قائلها.

ولكن المقدمة قد لا تكون ضرورية بالنسبة لعلي علیه السلام، خاصة في خطبه التي يعلم مستمعه بفحوى أفكارها. أو إذا كانت ضرورة المناسبة تقتضي الدخول في الموضوع مباشرة.

- الثاني: الموضوع:

وهو العنصر الاساسي للخطبة لأن بداخله يعرض الخطيب العناصر الفكرية للقضية التي يريد طرحها على مستمعه، ويستخدم لذلك وسائل اقناعية متنوعة تتناسب ومستوى المستمع الثقافي، مع صبغ تلك الأفكار بانفعالاته وإحساساته، باثا في الكلمات قبسات من روحه، فكلما كان الخطيب صادقا فيما يقوله مؤمنا به، فإن ذلك الصدق والإيمان ينعكسان على مستمعه، فيتحقق التجاوب والانسجام بين الطرفين ويؤدي ذلك بالمستمع إلى الاستجابة باقتناع وطواعية. ولا يتأتى للخطيب ذلك الا إذا تمكن من إيصال أفكاره إلى مستمعه بالتدرج المستساغ، مع ربط بين الأفكار من حيث الأسباب والنتائج وتفادي أية فجوات تحدث تشتتا، كالاستطراد، أو الاسهاب في شرح فكره على حساب أفكار أخرى، أو حتى الفتور في أساليب التوصيل والتعبير لسبب طارئ.

فمن تأملنا في موضوع تلك الخطب، نجد انها لا تطرح الموضوع بكل ثقله الفكري جملة واحدة على المستمعين، وانما تأخذ بأساليب التدرج المترابط مما يعني ان علياً علیه السلام في خطابته - رغم ارتجاله لها - لا يجعل من نفسه اسيرا لعاطفته، بل من القوة ورباطة الجأش واليقظة بحيث يجعل من عقله حكما في موازنة تلك

ص: 607

العاطفة، مما يؤدي بالموضوع إلى الانسجام التام بين الفكر والعاطفة. فلو انعمنا النظر في خطبته المسماة «القاصعة»(1) التي فحواها نبذ العصبية وما تنطوي عليه من اخلاق ذميمة واخطار مدمرة، وربط سياقها الموضوعي بمناسبتها، فسنجد تلاحما قويا بين عناصرها، بحيث يستعصي علينا دراستها مجزأة. فالخطبة على الرغم من طولها مترابطة العناصر، متسلسلة الأفكار، بناها علي علیه السلام على ستة عشر عنصرا متفاوتة الحجم، وذلك بعد مقدمة موجزة وموحية بفحوى الموضوع جاء في مطلعها «الحمد لله الذي لبس العز والكبرياء، واختارهما لنفسه دون خلقه، وجعلهما حمى وحرما على غيره، واصطفاها لجلاله»(2) ، وقد جاء هذا التكثيف في عبارات المقدمة متفقا في معالجته لمشكلة العصبية وخطورتها ضمن العناصر التالية:

1 - اعتبار إبليس رأس العصيان وأصل العصبية.

2 - ابتلاء الله خلقه وامتحانه لمدى قدرتهم على مقاومة النزوات وعلاقة ذلك بالعصبية.

3- النتيجة المترتبة على تعزز المخلوقين وتكبرهم.

ص: 608


1- خطب - 420 -. ويقول ابن أبي الحديد بشأن تسميتها ب- (القاصعة): من قولهم: قصعت الناقة بجرتها، وهو ان تردها في جوفها، أو تخرجها من جوفها فتملأ فاها، فلما كانت الزواجر والمواعظ في هذه الخطبة مرددة من اولها إلى اخرها شبهها بالناقة التي تقصع الجرة ويجوز ان تسمى بالقاصعة، لأنها كالقائلة لإبليس واتباعه من أهل العصبية، من قولهم: قصعت القملة، إذ هشمتها وقتلتها، ويجوز ان تسمى القاصعة، لأن المستمع لها، المعتبر بها يذهب كبره، ونخوته فيكون من قولهم: قصع الماء عطشه، أي أذهبه وسكنه. شرح النهج 13 / 128 وتكاد المعاني الثلاثة تكون صائبة إلا أن أقربها لروح الخطبة المعنى الثاني
2- خطب - 240 - الفقرة الأولى

4 - التحذير من مغبة الوقوع في حبائل الشيطان لأنه أصل العصبية وأن عصبيته وليدة حقده على الإنسان.

5 - التحذير من التكبر والغطرسة والافساد في الأرض.

6 - حض الناس على عدم الاستجابة للداعين إلى العصبية من زعماء السوء.

7 - الاعتبار بما أصاب الماضين من ويلات ومحن جراء التعصب والتكبر.

8 - تواضع الأنبياء والرسل وأثر ذلك في نفوس الزعماء والملوك الذين يستمدون سلطانهم من قهر الناس واستعبادهم.

9 - قسمة الكعبة المشرفة وأهميتها لا يكمن في موضعها ولا شكل هندستها، ولكن قدسيتها تكمن في أنها موضع أمن وطمأنينة وتجمع للإنسانية.

10 - التحذير من ظلم العباد والتكبر عليهم واستلابهم حقوقهم.

11 - القيمة الكامنة في الفرائض، من كسر لشهوات النفس وكبح لجماحها.

12 - تقدير المال كعنصر من عناصر العصبية، ومآله الحقيقي.

13 - مصائر الأمم الماضية حين أحلت العصبية في تعاملها محل الإيمان.

14- التفكر في النعمة التي أنعمها الله على العرب برسول الله صلی الله علیه و آلهوسلم بانتشاله إياهم من مهاوي العصبية، وما صاروا إليه من نعم جراء ذلك.

15- لوم وتوبيخ المنغمسين في العصبية من عرب الكوفة واعتمادهم عليه كمصدر قوة.

16 - دوره في اطفاء ثائرة العصبية، وعلاقته بذلك منذ بزوغ نور الإسلام.

على أن ذلك الطول لم يفقد موضوع الخطبة تماسكها ولا حيويتها المتدفقة حماسا.

ص: 609

فاندماج علي علیه السلام التام في الموضوع احال الخطبة - رغم تقادم عهدها - إلى نص متجدد في معانيه ومبناه. فالتوحد بين عاصرها والتسلسل المترابط بين افكارها، والتدرج إلى النتائج في سلاسة، يكاد ينجر على معظم ما ورد في نهج البلاغة من خطب، والسبب هو معايشة علي علیه السلام لموضوعاتها معايشة تامة بالاحتكاك المباشر بالأحداث المسببة لقولها، مما جعل نتائج تلك الخطب وخواتمها ماثلة في فكره من خلال التأمل العميق الواعي في الاحداث، وهو ما يمكن استخلاصهمن خواتم خطب النهج.

- الثالث: الخاتمة:

تتميز خواتم خطب علي علیه السلام بالتنوع في أساليبها، فمنها ما كان يلخص آراءه فيه، كما يرد عادة في خطبه ذات الموضوعات التأملية: من ذلك خطبته التي ختمها بقوله «فتبارك الله الذي يسجد له من في السماوات والأرض طوعا وكرها، ويعفر له خدا ووجها، ويلقي إليه بالطاعة سلما وضعفا، ويعطي له القياد رهبة وخوفا، فالطير مسخرة لأمره، أحصى عدد الريش منها والنفس، فهذا غراب، وهذا عقاب، وهذا حمام وهذا نعام...»(1) . فالمتتبع لموضوع الخطبة التي وردت فيها تلك الخاتمة، يجد أن عليا علیه السلام قد كان يرمي من ورائها الابقاء على جذوة التأمل ماثلة في النفوس، لأنه قد اجمل معاني الخطبة بتركيز دقيق بعد ان عرض إلى التفاصيل في صلب الموضوع.

وقد تكون الخطبة وعظية زجرية يرمي علي علیه السلام منها بث الرهبة من عذاب الله في نفس مستمعه، وقدرة علي علیه السلام في هذا الصدد تفوق كل تصور، لإيمانه

ص: 610


1- خطب 233 - الفقرة الأخيرة

العميق الصادق، وامتلاكه ناصية أساليب اللغة، والتصرف فيها، ومقدرته على صبغها بإحساساته وعاطفته، ففي خطبة متكاملة موضوعها تفسير قوله تعالى:

««أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ» (1) ، قد جسد تدرج خطوات سريان الموت في الإنسان خطوة خطوة، ملاحقا إياه في تأملاته وتصرفاته وتطلعاته في أثناء المرض حتى لحظات الاحتضار الأخير، وكأنه عاش التجربة بكل أهوالها وما يكتنفها من مجهول، فأعاد تصويرها بأسلوب تقشعر منه الأبدان، وبعد أن وصل بمستمعه إلى الذروة، لم يتركه دون أن يبقي الصورة مجسدة في أعماقه من خلال خاتمة خاطفة مليئة بالومضات السريعة في قوله «وأن للموت لمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة أو تعتدل على عقول أهل الدنيا»(2) .

وقد تكون خاتمة الخطبة نتيجة تصويرية منتزعة من واقع تأملات المستمع خاصة إذا كان موضوع الخبطة يتعلق بمحاولة كشف علاقة الفرد بمجتمعه واثر البيئة في تلك العلاقة ومثال ذلك قوله في خاتمة خطبة موضوعها مفهوم الطاعة من خلال علاقة الفرد بالمجتمع «واعلم ان لكل عمل نباتا، وأن كل نبات لا غنى به عن الماء، والمياه مختلفة، فما طاب سقيه طاب غرسه، وحلت ثمرته، وما خبث سقيه، خبث غرسه، ومرت ثمرته»(3) فالنتائج التي أجملتها الخاتمة، قد تكون ماثلة أمام عين ناظرها ولكنه لا يعيرها اهتمامه إلا إذا استثير عقله نحوها، وهذا ما فعله علي علیه السلام في خاتمة خطبته.

ص: 611


1- التكاثر/ 1،2 ، وراجع معالجة علي علیه السلام لتفسرها في الخطبة - 218
2- السابق - الخاتمة
3- خطب - 154 - الخاتمة

وقد تكون الخاتمة مباشرة تعمد إلى الحض على الاستجابة من خلال الأمر الا انها رغم مباشرتها فإن عليا علیه السلام يجنبا التقريرية بصياغتها في قالب تأملي بتسخير العبارات الايحائية ويكثر ذلك في خواتم خطب الزهد التي تعمد موضوعاتها إلى التهوين من قيمة المادة كعرض زائل: ففي خاتمة لخطبة زهدية يقول علي علیه السلام «ألا فاذكروا هادم الذات، ومنغص الشهوات، وقاطع الامنيات، عند المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا بالله على أداء واجب حقه وما لا يحصى من اعداد نعمه وإحسانه»(1) ، فكان باستطاعة علي علیه السلام أن يقول مختصرا «ألا فاذكروا الموت... »، الا ان احساس علي علیه السلام بأثر الكلمة في مستمعه اقتضى منه التماسبغيته في الأسلوب الكنائي، كي يبقى أثر الوعظ في نفوس المستمعين أطول مدة ممكنة بعد الانتهاء من الخطبة. فأهم ما تتميز به خاتمات خطب علي علیه السلام من خصائص هي:

1 - تكثيف عناصر موضوع الخطبة واجمالها في عبارات مصوغة صياغة دقيقة وخاطفة بقصد اسعاف مستمعه على الإلمام بفحواها، واستيعاب افكارها والتجاوب مها بإبقائها عالقة في ذهنه مدة طويلة.

2 - التنويع في انماطها واساليبها بما يتناسب وموضوعات الخطب مما ينأى بها عن جمود القوالب التعبيرية الجاهزة، فهي أبدا متجددة مهما تكرر موضوع الخطبة، لأن التناول في كل مرة يختلف باختلاف الموقف والمناسبة لاعتماد علي علیه السلام على الارتجال في جل خطبه على اعتبار انها وليدة ساعتها وبنت مناسبتها في إبانها، فتارة تكون بسبب حادث خطير ألم بأطراف الدولة، وتارة أخرى بسبب استجابته لبعض من أصحابه للتعرف على قضية ما، كوصف الخالق،

ص: 612


1- خطب - 98 - الخاتمة. والمساورة: المواثبة

أو صفات المتقين، أو بسبب استفحال عيوب خطيرة في المجتمع يجب معالجتها في حينها دون تأخير. هذا إلى غير ذلك من مناسبات أخرى كالأعياد وخطب الجمع، والاستسقاء، وتفسير الآيات والوعظ، وبطبيعة الحال فإن التنوع في موضوعات الخطب وأساليبها أتاح التنوع أيضاً في أساليب خاتماتها فهي تارة عبارة عن تلخيص مركز لأفكار الخطبة، وتارة أخرى نتائج مستخلصة من أفكار الخطب، وتارة ثالثة على شكل تحذير بأساليب موحية ومقنعه في آن واحد، فهي على الدوام ذات وقع في النفس لنأي علي علیه السلام بها عن الجفاف العقلي بإضفاء قبس من مشاعره ونفحات من روحه المؤمنة على تعبيراتها، مما يجعل انسيابها في النفس مستساغا مهما بلغت حدتها وقسوتها.

3 - الابتعاد بها عن أساليب الجدل مع مستمعه، سواء أكان جدلا مباشرا أم جدلا مع النفس غير مباشر، باكساء آرائه ثوبا من الجاذبية المثيرة لعقل مستمعه، وتوجيه الخاتمة توجيها دقيقا نحو تلك الآراء، دون الزج بفكر المستمع في متاهات تؤدي به إلى توجيه فكره نحو أمور جانبية تبعده عن لب الموضوع.

فمن خلال تأملنا في خطب علي علیه السلام التي وردت في النهج كاملة من حيث البناء الفني نجد انها مهما طالت، مترابطة العناصر، متسلسلة الافكار، متينة اللغة، واضحة المعاني هذا بالإضافة إلى سريان العاطفة فيها بتؤدة واتزان وتعقل، يجنب الأفكار الجفاف، وينأى بها عن الأسراف بالوقوع تحت طائلة الخيال المجنح والأحلام الكاذبة، فقبول النفس لأفكار الخطب عن طواعية، لا يعني وقوعها تحت تأثير الكلمة لأن بريق الكلمة في خطب علي علیه السلام يأتي في مرتبة أخيرة، بعد الحقيقة التي يعتقدها ويريد من مستمعه مشاركته ذلك الاعتقاد،

ص: 613

فهو لا يعمد إلى العبارة الانفعالية الآنية التي تبهر الاسماع ولكن سرعان ما تفقد بريقها بعد الخروج من تأثيرها، ولكن فكره يحيل المعاني في سياقاتها التعبيرية إلى طاقات متدفقة من معاني الوفاء والحب والحق والخير والأيمان كما يعتقدها هو في قرارة نفسه ويتمثلها في أسلوب حياته، فتنبثق من اعماقه متوهجة في سياقها التعبيري المتوائم ومناسبتها فتستجيب لها النفس المؤمنة عن طواعية. وهذا التألق في امتلاك زمام اللغة للتعبير عن افكاره هو ما اتاح له التنويع والاجادة في كل المواقف والمناسبات التي اقتضت منه ان يخطب فيها، مما يحتم علينا القاء نظرة فاحصة على أنواع الخطب التي جال فيها بفكره ولهج بها لسانه.

ب - أنواع الخطب التي وردت في نهج البلاغة:

إن التنوع في موضوعات نهج البلاغة يمثل حياة علي علیه السلام في مختلف أدوارها، ونعتقد أننا لا نجانب الصواب إذا قلنا أن تلك الموضوعات بتنوعها، يمكن اعتبارها مذكرات شخصية صاغها صاحبها مستلهما وقائعها من تمرسه بالمسؤولية كقائد له وزنه الكبير واهميته العظمى في نشر الدين ومن ثم في توجيه سياسة عصره من وجهة نظر دينية، وقد تمحورت تلك المذكرات والوثائق - إذا جاز لنا تسميتها بذلك في خطب ورسائل ووصايا وحكم، اقتضتها مناسباتها، والحاجة إليها كمرتكزات فكرية توضح وجهة نظر القيادة في تعاملها مع الأمة.

ولما كانت الخطب من أهم الوسائل الاعلامية التي تربط الحكومة بالأمة وتقرب بينهما، فإن موضوعاتها قد تنوعت في النهج بتنوع الحاجة والظرف والمناسبة، مع تميز كل نوع من أنواع تلك الخطب بخصائص نابعة من طبيعة موضوعاتها، ومن أنواع تلك الخطب.

ص: 614

1 - الخطب والجهادية:

اشارة

وهي التي كان علي علیه السلام يلقيها في مسامع اصحابه، لحضهم على الجهاد، للقضاء على الفتن التي ظهرت في أرجاء الدولة، أو لبث الحماس في النفوس، قبل بدء المعركة وفي أثنائها، أو لغرض التوبيخ واللوم بسبب التقاعس عن الجهاد، أو بسبب فشل وانهزام في أثناء المعركة، والسبب في كثرة الخطب الجهادية عند علي علیه السلام يعود إلى عوامل أربعة هي:

1 - الانقسام الخطير الذي حدث في الصف الإسلامي الذي نجم عنه تردد الكثير من المسلمين في محاربة بعضهم البعض إثر ثورة الأمصار التي نتج عنها مقتل عثمان ومحاولة علي علیه السلام اقناع الجميع بالوقوف إلى جانبه، لإعادة توحيد الصف الإسلامي على أسس قوامها العدل والمساواة بين المسلمين كافة، مما حدا بعلي علیه السلام إلى توجيه خطبه الجهادية في اتجاهين:

أحدهما: اقناع المترددين من المسلمين بالوقوف إلى جانبه.

والثاني: حض من هم تحت أمرته والمطيعين له على المبادرة بالتجمع حوله للقضاء على فتنة الذين يحاولون نكث بيعته، ابتغاء عرض الدنيا.

2 - نشوب الفتن التي اشعل معاوية اوارها في ارجاء الدولة الإسلامية وما خلّفته تلك الفتن من انتقاض في كثير من ولايات علي علیه السلام، وعلاوة على ذلك ظهور الخوارج، مما استوجب استخدام الخطب الجهادية لحث الناس على المبادرة للقضاء على تلك الفتن وإعادة الأمن والنظام في اطراف الدولة.

3 - محاولات علي علیه السلام المتكررة في حث أصحابه على الجهاد، وبث النخوة

ص: 615

والحماس في النفوس بعد ان هدها الوهن، ودب فيها الخور والضعف، واقعدها التقاعس، والركون إلى حياة الدعة، والقبول بالذل في سبيل ذلك.

4 - حاجة علي علیه السلام إلى الكلمة الملتهبة بالحماس للرفع من المعنويات وازالة الخوف والرهبة من النفوس قبل بدء المعركة وفي أثنائها، أتاح له إلقاء جملة من الخطب سجل لنا نهج البلاغة جانبا منها، وبطبيعة الحال فإن هذه العوامل قد ميزت الخطب الجهادية بخصائص فكرية معينة هي:

- الخصائص الفكرية لخطب علي علیه السلام الجهادية:

إن هيمنة الدين على الجانب السياسي في فكر علي علیه السلام تحتم عليه اتخاذ مواقف دينية بحتة إزاء جميع الاحداث السياسية، فالمصدران الأساسيان لسياسته هما القرآن والسنة، ولو تأملنا في فحوى خطبه الجهادية كجانب من جوانب فكره السياسي لرأينا ان الدين هو المستحوذ على الأفكار فيها، على اعتبار انه القائد والإمام المنفذ لأحكام الدين، ورجل السياسة في آن واحد، فقوله في مطلع خطبة جهادية «أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة أوليائه... »(1) هو تعبير عن فكر ديني نابع من إيمان متين وعقيدة صادقة بوجوب الجهاد كمطلب ديني مفروض على كل مؤمن قادر، لكونه الدرع الحمي لحياض الإسلام، واعتباره احد الابواب المشرعة إلى الجنة عند استشهاد المجاهد، طبقا لقو تعالى:

«وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ»(2) .أما في حالة النصر فتكون النتيجة المغانم والعيش في ظل حياة

ص: 616


1- خطب 27 - فقرة الأولى
2- آل عمران / 169

كريمة خالية من كل قهر واستبعاد لما في الجهاد من قمع للمفسدين من أئمة الباطل والمتجبرين.

ومن خلال موقفه الديني من الجهاد فإنه يرى أن الحرب تحت أمرته هي من لب الجهاد انطلاقا من مكانته الدينية المتصلة اتصالا روحيا مباشرا برسول الله صلی الله علیه و آله وسلم كما في قوله ضمن خطبة جهادية «واعلموا أنكم بعين الله ومع ابن رسول الله»(1) . وهو ما يعني أن في مكانته تلك ما يضمن لمقاتلين في صفه الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة كما جاء في قوله «فاتقوا الله عباد الله وفروا إلى الله من الله، وامضوا في الذي نهجه لكم، وقوموا بما عصبه بكم فعلي ضامن لفلجكم آجلا، إن لم تمنحوه عاجلاً»(2) ، فالنبرة الدينية الخالية من أية إغراءات مادية هي الركيزة التي يتكيء عليها فكر علي علیه السلام في خطبه الجهادية ولكن ذلك لا يعني اقتصارها على الجوانب التشريعية وخلوها من الجوانب العاطفية الوجدانية التي تضفي على اساليبها الحيوية، لأن الخصيصة التشريعية التي تنبني عليها خطبة الجهاد عادة ما تكون ممتزجة بوجدان علي علیه السلام، تغترف معانيها من فكره الصافي ممتزجة بعاطفته الجياشة فتستحيل تعبيراتها إلى غذاء فكري ممزوج بنفحات روحية، إلا أن عنصر الوجدان في خطب علي علیه السلام الجهادية يسير في اتجاهين متقابلين تفرضهما طبيعة الاداء:

الاتجاه الأول: ويتمثل في انطلاق علي علیه السلام من ذاته إلى الموضوع العام: ويمكن ملاحظة ذلك في خطب الجهاد التي عادة ما يلقيها في الناس لحثهم على الجهاد أو لتقريعهم بسبب التواكل، وهو يرمي في الناحيتين إلى تهيئة النفوس للبذل

ص: 617


1- خطب - 56
2- خطب - 24

والاستشهاد، دونما تردد، وهو في هذا الاتجاه يعمد إلى تناول عناصر الجهاد الدينية كحقائق ثابتة يعرفها المستمع، لكنها لا تثير في نفسه الحماس المطلوب المؤدي إلى الاستجابة لتعود اذنه على سماعها، فيسبغ عليها من ذاته ما يعيد إليها قيمتها التأثيرية، فقوله على سبيل المثال «والله مستأديكم شكره، ومورثكم امره، وممهلكم في مضمار محدود لتتنازعوا سبقه، فشدوا عقد المآزر واطووا فضول الخواصر، ولا تجتمع عزيمة ووليمة، ما نقض النوم لعزائم اليوم، وامحى الظلم لتذاكير الهمم»، يحوي حقائق دينية فحواها وجوب شكر العبد ربه، ليكثر من نعمه وأفضله عليه، ويبوئه المكانة السامقة التي يتوق إليها في دنياه المؤقتة، التي شبهها بحلبة السباق، التي يتبارى فيها الخيرون في التسابق نحو الغاية المتمثلة في حياة الخلود، والفائز في هذا المضمار من يجاهد في سبيل الله، ويضحي بنفسه من أجل إحياء كلمة الله، وتوالي الأمثلة كرابط بين العمل وبين الجهاد من أجل حياة افضل، في مقابل التردد والخوف والركون إلى الدعة تعبر

ص: 618

عن نفحات روحية صادرة من اعماق علي علیه السلام لتضفي على معاني الجهاد النبض الحي المتسامي، وتعيد نصاعتها في النفوس بعد ان كادت تضمحل أو تتلاشى، مع ملاحظة ان مثل هذا الاتجاه الصادر من الذات إلى الموضوع لا يمكن تتبعه إلا في خطب الجهاد المبينة اساليبها على الحض، أو عند التقاعس عن الاستجابة حيث تغدو الحقائق الدينية والقيم الأخلاقية هي المحاور التي يسبغ عليها من ذاته ما يعيد إليها تمثلها في النفوس، فتفاعل علي علیه السلام مع الكلمة واندماجه التام في موضوع الخطبة، هو من الصعوبة والعسر بما لا يمكن وصفه أو التعبير عنه لكونه إحساس نابض يجري في الكلمة كالتيار الكهربائي الذي نحسه. فالحقيقة بكل أبعادها متجسدة في قول علي علیه السلام«ولقد كنا مع رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم، نقتل اباءنا وأبناءنا واخواننا واعمامنا، فما يزيدنا ذلك الا ايمانا وتسليما ومضيا على اللقم، وصبرا على مضض الألم، وجدا في جهاد العدو، فلما رأى الله صدقنا، أنزل بعدونا الكبت، وانزل علينا النصر، حتى استقر الإسلام ملقيا جرانه، متبوئا اوطانه، ولعمري، لو كنا نأتي بما اتيتم، ما قام للدين عمود ولا خضر للإيمان عود، وأيم الله لتحتلبنها دما، ولتتبعنها ندما»(1) . فالخطبة كوثيقة تاريخية، مبنية على حقائق لا يتطرق إليه الشك، ويكاد يعرفها معظم من كان يستمعإلى علي علیه السلام آنذاك، ولكن الجديد والمؤثر لا يكمن في الحقائق ذاتها، انما يكمن في أسلوب صياغتها في تعابير تجسد الماضي الحافل بالبطولات والفداء المقرونة بصدق العزيمة والإيمان المتين، والحاضر بما يكتنفه من ألم وتخاذل وخور يندى له الجبين خجلا ومستقبل ينطوي على توقعات رهيبة مقرونة بالمذلة والهوان،

ص: 619


1- خطب - 55 - اللقم فتح اللام والقاف: جادة الطريق، ومضض الألم شدته وبرحاؤه. والكبت: الذل والهوان والخذلان. والجران بكسر الجيم: مقدم عنق البعير، والقاء الجران كناية عن التمكن

وقد يخوننا التعبير إذا حاولنا تمثل المعاني من دون أن نعيش انفعالات علي علیه السلام المتصارعة بداخله في أثناء خطبته في قوم كلت اسماعهم وماتت قلوبهم، وفتر حماسهم ودب الفشل في نفوسهم. فالمقصود بالذات هنا نفحات من الإيمان والأمل والحزن والسرور والخوف والإقدام، تنطلق من النفس بحرارة وصدق لتضفي على حقائق موضوع الجهاد من الحيوية ما يبعدها عن الرتابة، ويقربها إلى النفس سعيا وراء الاستجابة الطوعية ترغيبا أو ترهيبا.

الاتجاه الثاني: الانطلاق من الموضوع العام إلى الذات: أي الموضوع بتفاعلاته هو المحرك للذات، وبمعنى أدق أن عليا علیه السلام في هذا الاتجاه، لا يعمد إلى حقائق موضوعية يحاول إضاءة جوانبها بوجدانه، بقدر ما يعمد إلى مشاهد يستمد منها موضوع خطبته، فتنعكس هذه المشاهد على ذاته، فتحيل نفسه إلى ترجيحات متقابلة ومتتابعة بين فشل ونجاح وامل ويأس، على اعتبار ان الموضوع العام في مثل هذه الخطب هو المعركة بكل ابعادها القتالية والخطبة هي تصوير حقيقي وحَي لانفعالات علي علیه السلام، لأنه يعيش المعركة بكل إحساساته، فالتأمل العقلي بالاتكاء على القواعد والقوانين والوعظ، يتلاشى تقريبا وتحل محله الذات التي يتوجه إليها موضوع الخطبة، لتكون هي محور الكلمة والأداة الفاعلة في تغذية المعاني ويمكن رصد هذا الجانب بكل ما ينطوي عليه من انفعالاته في خطب علي علیه السلام القصيرة التي يلقيها في مسامع جنده في أثناء المعركة، عند شعوره بأنهزام جيشه.

فحين استولى جيش الشام على شريعة الماء في بدايات حرب صفين وشاهد علي علیه السلام ما لحق بجيشه من هزيمة، قد تؤدي به إلى التشتت والنكوص، بادر جنده بالقول «قد استطعموكم القتال فاقروا على مذلة وتأخير محلة، أو روّوا السيوف

ص: 620

من الدماء، ترووا من الماء، فالموت في حياتكم مقهورين، والحياة في موتكم قاهرين»(1) فالموضوع المتمثل في الهزيمة استحال في وجدان علي علیه السلام إلى تفاعلات مؤلمة ذات طعم مر، مما جعل العبارات تنوء بحمل توجهاته النفسية، استحالت الحقيقة فيها إلى تفاعلات متقابلة تتعلق بذات الجندي ومصيره في ميدان القتال فحواها: أن يكون أو لا يكون، مما يحتم عليه المواصلة حتى النهاية بغض النظر عن القيمة الدينية أو المادية للجهاد، لذلك فإن الاستجابة للكلمة في مثل هذه المواقف سريعة لا تحتاج إلى تفكير أو تأمل، إذ سرعان ما نظم جنده ضفوفهم واستعادوا رباطة جأشهم بتمثلهم مصيرهم لو حاقت بهم الهزيمة، فاستعادوا بذلك مواقعهم على شريعة الماء بعد معركة حامية الوطيس الحقوا فيها بجيش العدو هزيمة منكرة.

وقد تكرر الموقف بصورة أكثر خطورة حين تراخت ميمنة جيش علي علیه السلام في احدى المعارك الحاسمة بصفين، وكادت المعركة تحسم لصالح معاوية، وذلك بسبب تخاذل أحد قادته لتواطئه مع معاوية (2) ، ولكن سرعان ما كشف التواطؤ، فاستعادت الميمنة مواقعها، مما اعاد للجيش توازنه. فكان الموضوع هو محور الذات والمعبر عنها بها كما في قوله «وقد رأيت جولتكم وانحيازكم عن صفوفكم، تحوزكم الجفاة الطغام، واعراب أهل الشام، وانتم لهاميم العرب، ويآفيخ الشرف، والأنف المقدم، والسنام الأعظم، وقد شفى وحاوح صدري أن رأيتكم بآخرة تحوزونهم كما حازوكم، وتزيلونهم عن مواقعهم كما ازالوكم، حسنا بالنضال، وشجرا بالرماح، وتركب اولاهم

ص: 621


1- خطب - 51
2- راجع ص 271 وما بعدها من هذا البحث

أخراهم، كالأبل الهيم المطرودة ترمى عن حياضها وتذاد عن مواردها»(1) .

فمشاهد انكسار الميمنة أثناء المعركة منطلقة كالسهام المتتابعة إلى اعمق اعماق علي علیه السلام، مرتجعة ثانية وبنفس القوة على شكل ايماضات محملة بألم الانهزام، ومن ثم توجهها إلى النفس بحرارة وحماس أثر تفادي الهزيمة ورجوعها على شكل اشعاعات سعيدة مكللة بالنصر، ممثلة بالفخر والحماس. فالذات في مثل هذه المواقف تستحيل إلى بوتقة تتشكل فيها عناصر الموضوع المنطلق إليها مباشرة من خلال التعايش معه والاحساس بعناصره، مما يجعل جانب الاستجابة، هو المالك لزمام الموقف، لعدم اتاحة الفرصة للتأمل، فالتأثر بالكلمة انفعالي فوري، اما في حالة الجانب الأول المتمثل في انطلاق الذات إلى الموضوع، فإن جانب التأمل الفكري في توازن مع الجانب العاطفي، ان لم يكن مسيطرا، بحيث ينتاب الاستجابة نوع من التروي قد ينزع بالإنسان إلى الاحجام والتردد لأن تمازج العقل بالعاطفة في فحوى التراكيب مهما كان قويا ومقنعا، فلن تبلغ الاستجابة فيه مبلغ التعابير الكامنة في موضوع اتخذ من العاطفة مرتكزا في أثناء تفاعل النفس مع الواقع العملي للقتال على ارض المعركة، حيث يكون المصير ماثلا للمحارب من جانبيه القتالي والخطابي، المتمثل في احساسات علي علیه السلام التي عادة ما تعكس الواقع من زاويتيه المتمثلتينفي الحياة مع الذل، والموت مع الكرامة.

ص: 622


1- خطب - 106 - والطغام - بفتح الطاء-: أوغاد الناس. واللهاميم: جمع لهميم، وهو السابق الجواد من الخيل والناس. ويآفيخ: جمع يأفوخ، وهو من الراس حيث يلتقى عظم مقدمه مع مؤخره. ووحاوح: جمع وحوحة، صوت معه بحح يصدر عن المتألم، والمراد به احتدام الغيظ في النفس. والحس: - بفتح - القتل. والنضال: المباراة في الرمي. والشجر: ففتح الشين وسكون الجيم الطعن. والهيم - بكسر الهاء - العطش. وتذاد: تدفع وتمنع

2 - الخطب التأميلة:

وهي التي يعمد علي علیه السلام في مضامينها إلى إطلاق عنان الفكر في تأمل ابداعات الكون للوصول به في النهاية إلى الإيمان بعظمة المبدع وبقدرته المطلقة، وتستمد الخطبة عناصرها من تركيز علي علیه السلام الدقيق فيما يحيط بالإنسان من مشاهد ومخلوقات، بتسليط الضوء عليها، وتوضيح جوانب الإبداع التي قد لا يراها الإنسان العادي، ولا يحس بها إلا إذا استثير انتباهه نحوها، لاعتياده على رؤية المشاهد دون تأملها، وبهذه الاستثارة التي يعمد علي علیه السلام إليها من خلال الكلمة، تختلف نظرة مستمعه إلى الأشياء، فتتضح لعقله جوانب الحقيقة، فيقف عليها مندهشا متأملاً، وهو الغرض الاساسي الذي يرمي إليه علي علیه السلام من تلك الخطبة في مناسباتها.

ومن أهم خصائص هذا النوع من الخطب أنها تعمد إلى اقناع العقل بانتزاع أمثلتها من الواقع المحسوس، كوصف الجرادة، أو النملة، أو الخفاش، أو الطاووس، أو خلق الإنسان أو خلق السماء والأرض والكواكب إلى غير ذلك من مشاهد عينية أو إدراكية معرفية.

صياغة الحقائق المعرفية المراد تأملها في تعبيرات ملائمة وما يهدف إليه من استثارة عقلية وهو في هذا السبيل «لا يستخدم لفظاً الا في هذا اللفظ ما يدعوك لأن تتأمل، ولا عبارة إلا وهي تفتح أمامك آفاقا وراءها آفاق من النظرالجليل»(1) ، من ذلك أنه قد يخطر ببال من انتاب إيمانه بخالق الوجود بعض الشك، أو نوعا من الفتور بتصوره ان لا قوة يمكن لها فناء هذا الكون المحكم،

ص: 623


1- جورج جرداق الإمام علي علیه السلام صوت العدالة 3/ 185

مقارنا ذلك بقدرته وتضاؤل قوته أمام كثير من ظواهر الوجود، ولاستقراء علي علیه السلام ما في تلك النفوس من ضعف إيمان يجيب عن تساؤلاتها ويزيل حيرتها ضمن خطبة تأملية بقوله «وليس فناء الدنيا بعد ابتداعها بأعجب من إنشائها واختراعها، وكيف ولو اجتمع جميع حيواناتها من طيرها وبهائمها واختراعها، وما كان من مراحها وسائمها، وأصناف أسناخها وأجناسها، ومتبلدة أممها وأكياسها على إحداث بعوضة، ما قدرت على إحادثها ولا عرفت كيف السبيل إلى إيجادها، ولتحيرت عقولها في علم ذلك وتاهت، وعجزت قواها وتناهت، ورجعت خاسئة حسيرة، عارفة بأنها مقهورة، مقرة بالعجز عن انشائها»(1) ، فللألفاظ من الدقة والاستقصاء ما يمكن من خلالها استقراء ما في النفوس والاجابة على تساؤلاتها الحائرة بمنطق تأملي يعيد إليها توازنها من خلال مقارنة بين النشأة والفناء بملاحظة الإنسان بذاته، إذ بإمكانه أن يبني ثم انه بإمكانه أيضاً إزالة ما بنى، إلا أن إمكاناته لا ترقى إلى إبداع الروح واختراعها مهما تناهت في صغر الحجم، فالمقارنة بين قدرة الخالق، وقدرة المخلوق، لا مجال لها عقلا بالتأمل في الخلق.

ومن خصائص خطبه التأملية الداعية في مضامينها إلى التوحيد استخدام الاساليب المبنية على المسببات والنتائج، وهو ما ينحو إليه عند تعرضه لنفي الصفات عن الخالق سبحانه وتعالى (2) .

ص: 624


1- خطب - 234 - الفقرة 3. ومراحها: بضم الميم اسم مفعول من أراح الإبل أي ردها إلى المأوى. والسائم: الراعي من الإبل. والأسناخ: الأصول والأنواع الاكياس: جمع كيّس بتشديد الياءالعاقل الحاذق. وخاسئة: ذليلة وحسيرة:
2- يمكن ملاحظة ذلك في الخطبة رقم 1 و 234 ، جميع الخطب المعالجة لموضوع التوحيد ونفي الصفات التي وردت في نهج البلاغة

ومن أهم ما يميز خطب علي علیه السلام التأملية أيضا، الهدوء والانسياب فعلي علیه السلام في مثل تلك الخطب شاعر أكثر منه خطيبا، يسيح بفكره في ملكوت الله، متغنيا بفضائله وجميم نعمه لاهجا بشكره في عبارات مجللة بالإيمان العميق والحب الصادق، فالخطبة التأملية من حيث بنائها النفسي تختلف اختلافا جذريا عنها في خطب علي علیه السلام الجهادية، التي يغلب عليها الطابع الثوري المشحون بالحزن واللوعة والالم، لأن حماسه العظيم للجهاد لا يتناسب واستجابة اصحابه. اما هنا في خطبه التأملية، فهو يتغنى جذلا بعبارات هادئة وبنفس مطمئنة، تتخير من الألفاظ ما يعبر عن انسجامها التام في الموضوع بحيث تبقى الخطبة في مستوى نفسه الجدلة منذ بدايتها حتى خاتمتها، التي أكثر ما تكون على شلك دعاء وتبتل صادر من اعماقه كما في قوله في خاتمة خطبة تأملية محورها التوحيد «اللهم وهذا مقام من افردك بالتوحيد الذي هو لك، ولم ير مستحقا لهذه المحامد والممادح غيرك، وبي فاقة إليك لا يجبر مسكنتها الا فضلك، ولا ينعش من خلتها الا منك وجودك، فهب لنا في هذا المقام رضاك، واغننا عن مد الأيدي إلى سواك، إنك على كل شيء قدير»(1)

3 - الخطب الوعظية:

يكاد الوعظ والإرشاد والحض على التمسك بالأخلاق الحميدة ينتشر في جل ما أثر عن علي علیه السلام من خطب، إلا ان هناك جانبا هاما من خطبه خصه علي علیه السلام بالوعظ كموضوع مستقل فرضته طبيعة الحياة الاجتماعية جراء أخذ كثير من أبناء مجتمعه ما يرونه من الدين ملائما ومصالحهم الدنيوية الذاتية،

ص: 625


1- خطب - 90 - الخاتمة. والخلة - بفتح الخاء: الفقرة

وهو ما عبر عنه بقوله لعمار بن ياسر حين وجده يناقش الأشعث ابن قيس في بعض شؤونه الخاصة «دعه يا عمار فإنه لم يأخذ من الدين إلا ما قاربه من الدينا»(1) ، والاشعث بن قيس هذا يمثل شريحة كبيرة من المجتمع الذي كان علي علیه السلام يحكمه، مما حتم عليه وعظ أولئك وتبصيرهم بالمعاني الحقيقية للدنيا من وجهة نظر الدين، بالإضافة إلى ان كثيرا من المناسبات الدينية، كالأعياد وشهر رمضان والجمع تقتضي الوعظ ايضا، كما أن تصدي علي علیه السلام إلى تفسير بعض آيات القرآن الكريم المتضمنة التحذير من التمادي في اللهو والتكالب على اقتناء الأموال والتمرغ في الملذات الدنيوية، تقتضي بدورها الوعظ، مما أاح لعلي علیه السلام الإكثار من القول في هذا الجانب.

ومن أهم ما تتميز به خطب علي علیه السلام الوعظية، امتزاج العامل الديني بالعامل النفسي، مع تجنب الوعظ المباشر المبني على الأمر والنهي، ومقدرة فائقة على اعداد نفس المستمع وتهيئتها للانجذاب نحو الموضوع الوعظي بكل حواسها، من ذلك قوله في مقدمة خطبة وعظية «فإنه والله الجد لا اللعب، والحق لا الكذب. وما هو إلا الموت أسمع داعية، وأعجل حاديه فلا يغرنك سواد الناس من نفسك، وقد رأيت من كان قبلك ممن جمع المال، وحذر الإقلال»(2) فمدخل الخطبة، بما تضمنه من توكيد وقسم، يشد الانتباه إلى ما يكتنف معاني الجد التي يرمي إليها أسلوب الوعظ، الذي يجعل المستمع يتتبعه في لهفة وانشداد فتأتي النصائح ضمن الخطبة على شكل دفعات تنساب إلى النفس في تلقائية وعفوية، فتقبلها طواعية، فالزجر عن المعاصي، لا يحمل في طياته معنى الزجر

ص: 626


1- حكم - 413
2- خطب - 132 - فقرة 2

القسري الذي تأباه النفس مكابرة ولكنه يأتي على شكل أساليب تخشع لها وتقع تحت تأثير سلطانها بسبب تجاوب نفس المستمع مع معانيها. ولعلي علیه السلام في هذا المجال مقدرة أسلوبية فائقة في بث خطب الوعظ معاني الترغيب والترهيب دون اللجوء إلى المباشرة والتقريرية.

ففي مجال وعظه الترغيبي تجتذب كلماته مستمعه إلى افاق رحبة من السعادة في حياة دنيوية نظيفة ناصعة، وخلود أبدي في ظل الامن والطمأنينة والسرور في حياته الثانية بعد الموت، كما في قوله مصورا حياة المؤمنين الخالدة بعد الحساب «فلو مثلتهم لعقلك في مقاومهم المحمودة، ومجالسهم المشهودة، وقد نشروا دواوين أعمالهم، وفرعوا لمحاسبة أنفسهم عن كل صغيرة وكبيرة امروا بها فقصروا عنها، أو نهوا عنها ففرطوا فيها، وحملوا ثقل أوزارهم ظهورهم، فضعفوا عن الاستقلال بها، فنشجوا نشيجا وتجاوبوا نحيبا، يعجون إلى ربهم من مقام ندم واعتراف، لرأيت أعلام هدى، ومصابيح دجى، قد حفت بهم الملائكة، وتنزلت عليهم السكينة، وفتحت لهم أبواب السماء، واعدت لهم مقاعد الكرامات... »(1) ، فالعبارات الوعظية قد تلفعت بنسائم التشويق وتألقف في سبحات روحية يكتنفها الخوف والخشوع.

واذا كان سبيل علي علیه السلام إلى التشويق من خلال الوعظ وان قل قد بلغ غايته في اجتلاب المعاني التي تشمل النفوس، وتتيه الارواح المؤمنة في نفاحاتها توقا إلى حياة الخلود والنعيم الأبدي، فإن قدرة علي علیه السلام على اجتلاب معاني الترهيب قد بلغت الذروة، فإيمانه العميق وحسه المرهف وعقليته الوقادة، وعلمه التام بدقائق اللغة قد مكنه من شخذ طاقات الكلمة لتستجيب لمعاني الوعظ الترهيبي

ص: 627


1- خطب - 219 - فقرة 2

الذي تقشعر له نفس المستمع ويشتد وجيب قلبه منه هلعا بالإضافة إلى الطاقات التعبيرية التي يبثها في الكلمة في أثناء الأداء ويمكن تمثل ذلك كله من قوله واعظا محذر «أيها اليقن الكبير، الذي لهزه القتير، كيف انت إذا التحمت اطواق النار بعظام الأعناق، ونشبت الجوامع حتى أكلت لحوم السواعد، فالله الله معشر العباد، وانتم سالمون في الصحة قبل السقم وفي الفسحة قبل الضيق...»(1) ويبلغ الوعظ الترهيبي اقصى غاياته، حين يتوقف علي علیه السلام عند وصف الموت، حيث تستطيع كلمته ان تدخل الرعب في قلب أي انسان مهما بلغ من رباطة الجأش وقوة الجنان، ومهما اظهر من تماسك ويكفي ان نقول في هذا المجال ان إحدى خطبه الوعظية التي خصها في وصف المتقين قد تسببت في موت احد أصحابه عند سماعها (2) ، كما تحدثنا مصادرها.

4 - الجدل الخطابي:

ضم نهج البلاغة، ضمن المختارات من خطب علي علیه السلام مجموعة من المحاورات الخطابية، وهي في كثير من مقوماتها الخارجية تشبه إلى حد ما المنافرات الجاهلية التي تعتمد على التفاخر بالأنساب والنبش في المثالب، وتكون ذلاقة اللسان وقوة البيان من أهم عناصرها، الا ان المحاورات الخطابية التي في النهج تبتعد تماما في بنائها الفكري عن مضامين المنافرات الجاهلية، وتتفق معها، في متانة اللغة والصياغة القوية والبيان المحكم، أما الاختلاف الموضوعي فيتمثل في

ص: 628


1- خطب - 185 - فقرة 5. واليقن: بفتح الياء والقاف - الشيخ الكبير السن. ولهزه: خالطه. والقتير: الشيب. والجوامع: - جمع جامعة الأغلال لأنها تجمع الأيدي إلى الاعناق
2- راجع الخطبة 183 ومناسبتها وما الت إليه نهايتها كما ذكرها الرضي

نواح متعددة منها:

أ- إن المحاورات الواردة في النهج لا تتخذ من العصبية القبلية عنصرا من عناصر بنائها الفكري، بينما تنحو المنافرات الجاهلية نحو العصبية القبلية كمصدر من مصادر الغلبة والانتصار.

ب - تعمد المنافرات الجاهلية إلى البحث عن مثالب الخصم بالبحث في تاريخه للدخول منها إليه في محاولة إلجامه والحط من قيمته الاجتماعية، بينما يعمد الجدل الخطابي في النهج إلى منطق العقل مبتعدا عن الاساليب التي تنال من قيمة الفارد أو تحط من قيمتهم.

ج- - تسيطر الحجة الدينية المشبعة بالإيمان على الجدل الخطابي المأثور عن علي علیه السلام بينما تكون الذات المتمثلة في الشخص أو القبيلة هي مصدر المنافرة الجاهلية أو التي تنحو منحىً جاهليا.

د- الحجة المقنعة هي الحكم في الجدل الخطابي المأثور عن علي علیه السلام، إذ يكون اللفظ بكل طاقاته موظفا لتبيان جوانب الحجة، إما بتأييد النصوص الدينية أو بتصوير الواقع تصويرا صائبا وصادقا ليعول عليه في إقامة الدليل الإحام الخصم، أما في المنافرات الجاهلية فقد تكون ذلاقة اللسان عنصرا من عناصر الانتصار والغلبة.

مع ملاحظة أن المنافرة تعمد إلى المقابلة بين طرفين يحاول كل طرف منهما الانتصار على الآخر، بينما الجدل الخطابي في النهج هو في حقيقته محاولة من علي علیه السلام لتوضيح موقف معين في مناسبة ما، أو إماطة اللثام عن شبهة وقع فيها بعض أصحابه وجادلوه فيها، ونكاد نسمع صوت علي علیه السلام منفردا في تفنيده دعاوى مجادليهن كما في قوله لبعض الخوارج ردا على بعض مزاعمهم «فإن أبيتم إلا أن

ص: 629

تزعموا أني أخطأت وضللت، فَلِم تضللون عامة أمة محمد صلی الله علیه و آله وسلم بضلالي وتأخذونهم بخطئي، وتكفرونهم بذنوبي... وتخلطون من اذنب بمن لم يذنب، وقد علمتم ان رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم رجم الزاني المحصن، ثم صلى عليه وورثه أهله وقتل القاتل وورثميراثه أهله... »(1) ، فصوت علي علیه السلام هو البارز خلال المقولة السابقة، وقد اجتزأها الرضي - كما نظن - من جدل حامٍ دار بين علي علیه السلام وبين الخوارج، لأننا نستطيع من خلالها معرفة آراء أولئك الموجهة إليهم، فقد سألوه عن تصرفه في قضايا فقهية كثيرة لم يذكرها الرضي، منها المعاملة التي اتخذها تجاه أصحاب الجمل حين اباح قتلهم، ولم يبح سبيهم واسترقاقهم (2) . والملاحظ ان عليا علیه السلام يعمد في مثل هذا الجدل إلى النص الديني في الرد على خصومه، ويعمد في ردوده إلى أساليب تكاد تكون تقريرية مباشرة ولكنها ذات حيوية نابعة من قدرته الفائقة على الاستماع والرد بصدر رحب، وفكر متقد، وبديهة لماحة، هذا بالإضافة إلى ثقافة واسعة، خاصة في الجانب الديني المرتكز الأساسي الذي يعتمد عليه ذلك الحوار، ولكنه قد يعمد أحيانا في حواره على أساليب الاستيحاء المبني على التصوير، من ذلك ما دار بينه وبين الرجل البصري الذي جاءه ليستطلع رأيه بشأن بيعته، وموقف طلحة والزبير فيها وبذلك في أثناء توجهه إليهما(3) .

5 - الخطب الدينية:

وهي التي يعمد علي صلی الله علیه و آله وسلم فيها إلى تعليم الناس العبادات من صوم وصلاة

ص: 630


1- خطب - 127 - فقرة 1
2- أورد السكوني في عيون المناظرات ص 172 وما بعدها جانبا من ذلك الجدل
3- أوردناها في ص 169 من هذا البحث وهي الخطبة - 171

وزكاة وحج، وغير ذلك من الشعائر الواجبة على كل مسلم وهو في مثل هذه الخطب يكتفي بعرض القضايا بأسلوب بسيط، وبألفاظ مناسبة ومحددة تكاد تكون قريبة من فهم الجميع، مع محاولته الجمع بين مزايا الشعائر التي يتحدث عنها من ناحيتي الدينا والدين(1) .

تلك هي اذن انواع الخطب التي أُثرت عن علي علیه السلام، وأبرز الخصائص الموضوعية والفكرية لكل نوع منها، وهي خصائص اقتضتها طبيعة كل نوع من أنواع تلك الخطب، إلا أن هناك خصائص عامة تكاد تكون مشتركة بين جميع أنواع الخطب منها:

1 - الوحدة العضوية:

وتمثل التزام علي علیه السلام بموضوع محصور في نقاط معينة ومترابطة فكريا، مهما كان طول الخطبة، فخطبه خالية من الاستطراد والحشو، متسلسلة الأفكار مترابطة العناصر، بحيث لا يمكن فصل الفقرات، أو التقديم والتأخير في مواضعها، لذلك كثيرا ما يصاب الدارس في النهج بالحيرة إزاء نظرته في الفقرات التي اجتزاها الرضي من خطب، إضافة إلى ما أجراه في مواضع فقرات بعض الخطب اأخرى من تقديم أو تأخير، وقد أشرنا إلى ذلك في موضعه (2) .

2 - التنويع في أساليب الخطاب:

فمن مزايا أسلوب علي علیه السلام الخطابي التنويع في أشكال الخطاب بانسجام

ص: 631


1- راجع الخطبة رقم 193
2- راجع ص 123 وما بعدها من هذا البحث

تام، لا يشعر المستمع بأية نقلة تقطع الفكرة أو تحد من التأمل، من ذلك قوله ضمن خطبة وعظية «فاتقوا الله عباد الله وبادروا آجالكم بأعمالكم... وان غاية تنقصها اللحظة وتهدمها الساعة لجديرة بقصر المدة، وان غائبا يحدوه الجديدان الليل والنهار، لحري بسرعة الأوبة... فتزودوا في الدنيا من الدنيا... فاتقى عبد ربه، نصح نفسه وقدم توبته... نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن لا تبطره نعمة»(1) . فقد توجه في مطلع الخطبة بالحديث إلى جمع المستمعين، ثم تحول بانسياب وسهولة إلى وصف قصر الحياة على وجه الأرض، ثم تحول بالحديث إلى المفرد الغائب، وعاد في خاتمة الخطبة إلى المستمعين ليشرك نفسه معهم في الاستغفار.

ومن الأساليب التي يعمد علي علیه السلام إليها أيضاً صيغ القول كمصدر من مصار الاتصال النفسي كما في قوله ضمن خطبة يصف فيها الموقف غير المستقر لأولئك الذين حالوا بينه وبين حقة في الخلافة «فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وان اسكت، يقولوا: جزع من الموت هيهات بعد اللتيا والتي، والله لابن أبي طالب آنس الموت من الطفل بثدي أمه، بل اندمجت على مكنون علم، لو بحت به لاضطربتم اضطراب الارشية في الطوي البعيدة»(2) ، فهو ضمن الفقرة السابقة يحاول استقراء نفوس أولئك الذين منعوه حقه، بتبيان تناقض

ص: 632


1- خطب - 63 -. وبادروا أجالكم بأعمالكم، أي استكملوا أعمالكم قبل حلول أجالكم. والمبادرة: المسابقة، والغاية في الخطبة هي الاجل. والغائب: هو الموت. ويحدوه: يسوقه
2- خطب - 5-. هيهات بعد اللتيا والتي: مثل يقال في الشدائد والمصاعب صغيرها وكبيرها ويعني به علي علیه السلام: ان الذي يرميه بالجوع والخوف بعد ركوبه الأخطار والشدائد وقاسى المخاطر صغيرها وكبيرها، قد بعد عن جادة الحق. ويمكن مراجعة المثل وقصته عند: الميداني: مجمع الامثال 1/ 159 المثل رقم 440

نفوسهم، ثم يعيد تمثل ذلك الاستقراء بأسلوب حواري، يحاول من خلاله اشراك المستمع في الموقف الخطابي، ومن ثم بنقل الخطاب بطريق غير مباشر إلى الحديث عن نفسه مكتفيا بذكر اسمه في قوله «والله لابن أبي طالب... » ثم ينتقل إلى الحديث عن علمه متوجها بذلك إلى مستمعه إلا أن للحديث هنا وجها آخر غير مباشر - هو كما نعتقد - يتضمن الرد على أولئك الذين يرون في مطالبته طمعا وفي سكوته جبنا، ويمكن ملاحظة مثل هذا الأسلوب القولي أو ما يقرب منه ضمن خطبته في الخوارج بعد ان تكشفت لهم خدعة التحكيم (1) . ومن أساليب شد الاذهان وجلب انتباه المستمعين، التي يستخدمها علي علیه السلام في خطابته وصف ما ينتاب النفس من وجل وخوف وصراع في أثناء المواقف المصيرية الحساسة، من ذلك قوله في مجال الوعظ مستقرئاً نفس الإنسان في النزع الاخير «وأنهبين أهله، ينظر ببصره ويسمع بأذنه على صحة من عقله، وبقاء من لبه، يفكر فيمَ أفنى عمره، وفيم أذهب دهره، ويذكر أموالا جمعها، أغمض في مطالبها...

فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها قد حازها دونه»(2) ، فالخطبة لا تقتصر على مجرد الوصف لحالة الموت فعباراتها تنقلنا إلى اعمق اعماق نفس المحتضر لنعيش معه تفكيره وامنياته وانفعالاته تجاه من ينظرون إليه، مستعرضا في شريط طويل، حياته وكيف تصرف فيها، وعلي علیه السلام بأسلوب هذا يجذب إليه المستمع بكل احساساته، مهما كانت قدرة ذاك المستمع على الانفلات من تأثير الكلمة.

ص: 633


1- راجع الخطب - 121
2- خطب - 108 - فقرة 3. وأغمض: أي تعامى ولم يفرق بين حلال وحرام. وأصحر له: ظهر له وتكشف

ومن العناصر البينة التي تتميز بها خطب علي علیه السلام، أن قارئها يستطيع من خلال تأمله في المعاني استقراء نفسية علي علیه السلام، وسبره لمدى سعادتها وتبرمها، لأن عليا علیه السلام يحشد في تعبيراتها كل احساساته الصادقة العميقة تجاه الموضوع الذي هو بصدد التحدث فيه، خاصة وان معظم خطبه لا يعدها اعدادا مسبقا من أجل المناسبة، وإنما الظرف والمناسبة هما اللذان يفرضان عليه ارتجال الخطبة في حينها، لحاجة ملحة تفرضها الاحداث المتتالية غير المتوقعة، هذا إذا ما استثنينا بعضا من خطبه الدينية والأخرى الوعظية، التي وان لم يعدها كتابة، فقد يكون استعد لها نفسياً.

2 - العهود

وهي من الأدب المقروء لأنها شروط تكتب لمن تناط به مهمة رسمية ويجب عليه التقيد بفحوى العهد في نطاق ما كلف به «لأن الشرط عهد في الحقيقة»(1) ، ومن خلال ما أورده الرضي من نصوص سياسية في النهج، يبدو ان عليا علیه السلام قد كان يزود كل من ينيط به عملا عهدا (2) يحدد فيه مسؤولياته، ويرسم له الطريق الذي يجب أن يأخذ به في تعامله مع أولئك الذين يتعلق ذلك العمل بشؤونهم، ومن أشهر العهود التي أثرت عن علي علیه السلام وأكملها: عهدان يتعلقان بإدارة حكم الولايات.

الأول: زود به محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر(3) .

ص: 634


1- تاج العروس 8/ 459
2- راجع رسائل: 26 ، 27 ، 53
3- راجع السابق

والثاني: كتبه لمالك الأشتر حين ولاه مصر ايضا، بعد أن اضطربت أوضاعها على محمد بن أبي بكر بفعل دسائس معاوية (1) .

وإذا كان عهده لمحمد بن أبي بكر قد اقتصر على الخطوط الرئيسية في النواحي الإدارية والسياسية والاجتماعية، دون الدخول في التفصيلات، فإن عهده للأشتر قد بلغ من الشمولية ما جعله يستقصي فيه كل النواحي المتعلقة بشؤون الحكم من سياسة وإدارة واقتصاد ونواحي عسكرية وأخرى اجتماعية، وقد بلغ هذا العهد من الطول ما أثار حوله الشك (2)، مما جعل استاذنا المرحوم محمد خلف الله يتصدى لدفع ذلك الشك بذكر بعض القرائن في هامش دراسته للعهد (3) .

وعهد علي علیه السلام للأشتر بما يحويه من تفصيل للقضايا، ودقة في التعبير عنها، يجعله يفوق بأسلوبه وسحر بيانه، وإحاطته بكل ما يحتاجه الحاكم من تعليمات وتوجيهات، كل ما أثر في هذا الجانب من عهود ورسائل تصور بلاغة الكتابة العربية في عصرها الذهبي ونعتقد أن القول «بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد»(4) فيه تجن على الأدب العربي، وهو مبني على توافق السجعتين وليس على وصف واقع ابتداء الكتابة الفنية حقيقة، فما أثر عن علي علیه السلام من رسائل وعهود يفند القول بأن «أول من أطال الرسائل عبد الحميد

ص: 635


1- راجع رسائل: 26 ، 27 ، 53
2- راجع: في العروبة وآدابها ص 28 . الهامش
3- السابق
4- الثعالبي - يتيمة الدهر 3/ 114

الكاتب وهو فارسي الأصل»(1) ، وكأن النثر الفني العربي بأصوله وقواعده هو من ابتكار الأعاجم وليس للعقلية العربية أي دور فيه، مع ان عبد الحميد نفسه يعترف بأخذه هذا الفن عن علي علیه السلام(2) مما يرجح ما نعتقده بأن ما يسمي بالعصر الذهبي للكتابة العربية قد بدأ في فترة مبكرة من نشأة الدولة الإسلامية (3) وبلغ ذروته في عصر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام، وان اصوله عربية خالصة، وان تأثر فيما بعد بالزخرفة الاجنبية، بسبب تفاعل الثقافة العربية مع الثقافات الأجنبية الاخرى.

فبالمقارنة بين رسالة عبد الحميد في نصيحة ولي العهد (4) ، وبين ما جاء عند علي علیه السلام في وصيته لابنه الحسن، وعهده للأشتر، سنجد ان رسالة عبد الحميد تلك قد اقتبست معظم ما تضمنته من افكار، مما جاء ضمن وصية علي علیه السلام وعهده، علاوة على ذلك تأثُّر عبد الحميد البين بأسلوب علي علیه السلام وتعابيره في كثير من مواضع رسالته، مع ملاحظة البون الشاسع بين صفاء الأسلوب وسلاسة التعبير وانتظام الأفكار عند علي علیه السلام لأنه يمتح من اللغة على سجيته، وبين ما ورد في رسالة عبد الحميد من تعقيد في اجتلاب المعاني بسبب كد الفكر لتوليد المعنى المناسب. فرغم براعة عبد الحميد الفنية، فإنها تتضاءل إزاء بلاغة علي علیه السلام. وعلى كل فقد بلغ تأثر عبد الحميد بعلي علیه السلام ذروته حتى في العبارات القصيرة، وان حاول اخفاء ذلك إذ يؤثر عن عبد الحميد قوله لمن وجده يكتب

ص: 636


1- احسان النص - الخطابة العربية في عصرها الذهبي ص 14
2- راجع ص 353 من هذا البحث. فقد ذكرنا مقولة عبد الحميد في شأن تأثره بعلي علیه السلام هناك
3- راجع على سبيل المثال كتاب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الاشعري في القضاء - الجاحظ: البيان والتبيين 2/ 49
4- أوردها محمد كرد علي ضمن مختاراته - رسائل البلغاء ص 173 وما بعدها

بخط رديء «أطل جلفة قلمك، وأسمنها، وحرِّف قطتك وإيمنها»(1) ، وهو مأخوذ بتحريف من قول علي علیه السلام لكاتبه عبد الله بن أبي رافع «ألق دواتك، وأطل جلفة قلمك، وفرج بين السطور، وقرمط بين الحروف فإن ذلك أجدر بصباحة الخط»(2). تلك إذن نبذة قصيرة حاولنا فيها إلقاء الضوء على أثر بلاغة علي علیه السلام وأدبه في بلاغة وأدب رائد النثر الفني في عصره الذهبي اقتضتها مناسبة الدراسة فيما أثر.

أما بالنسبة لشمولية العهد كوثيقة يعول الولاة عليها في حكم ولاياتهم فإننا لا نتفق مع ابن خلدون في اعتباره كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله من أحسن الكتب التي عنت بما يحتاجه الوالي «في دولته وسلطانه من الآداب الدينية والخلقية والسياسية والشرعية والملوكية، وحثه على مكارم الاخلاق، ومحاسن الشيم ممالا يستغني عنه ملك ولا سوقه»(3) لأن ذلك يعني ضمنا ان العرب لم يعرفوا علم السياسة وادارة الحكم، الا بعد ان اختلطوا بالأعاجم الذين يرجع الفضل إليهم في تبصير العرب بتلك العلوم. لكون طاهر بن الحسين (4) - كاتب العهد من أصول فارسية. وهو ما يتفق ومقولة ابن خلدون «ان العربأبعد الأمم عن سياسة الملك»(5) . فمن المعتقد ان ابن خلدون لم يطلع على عهد

ص: 637


1- الجهشياري - الوزراء والكتاب ص 82 . وقطتك - بفتح القاف أو كسرها: صحيفتك
2- حكم - 323 . وألق دواتك: أصلح مدادها، أي اجبرها، ولا ق الحبر بالورق، يلق أي التصق به. والجلفة:- بكسر الجيم فتح القلم التي يستمد بها المداد. وفرج بين السطور: باعد بينها. وقرمط بين الحروف: قارب بينها
3- مقدمة ابن خلدون ص 378 ، وقد ذكر رسالة طاهر بن الحسين بتمامها مباشرة بعدما نقلناه عنه من شاهد
4- راجع ترجمة طاهر بن الحسين عند ابن خلكان - وفيات الأعيان 2/ 517
5- مقدمة ابن خلدون ص 189

علي علیه السلام للأشتر. فبمقارنة سريعة بين ما حواه كلا العهدين من عناصر يتضح للدارس أثر احدهما في الاخر من حيث تسلسل العناصر وشموليتها الفكرية، وبنائها الفني، فقد تضمن كلاهما العناصر التالية:

عهد علي بن أبي طالب علیه السلام

* 1- بدأ علي علیه السلام لأشتر بتبیان المهمات التي عهد إليه وحصرها في: جباية الخراج، جهاد الأعداء، واستصلاح أهل مصر، عمارة الأرض، مع التزام التقوى والعمل بكتاب الله في كل ذلك.

* 2 - تلا ذلك بالحديث عن أهم مميزات الوالي من حيث السلوك، والعلاقات بالناس على اختلاف أجناسهم وأديانهم، مع تبيانه للطريقة المثلى في التعامل معهم.

عهد طاهر بن الحسين

* 1- بدأ طاهر بن الحسين عهده لابنه بتعداد الصفات والفضائل الواجب توفرها في الوالي من مداومة على الصلاة،

والتمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والاقتداء بالسلف الصالح، والتفقة في الدين، والتمسك بكتاب الله والمداومة على مجالسة الفقهاء ومشاورتهم،والاخذ بآراء أهل التجرية من العقلاء والحكماء وكل ما تضمنه هذا العنصر من أفكار تكاد تكون ملحقة بعناصرها المناسبة لها في عهد علي علیه السلام.

* 2- الطريقة المثلى في تعامل الوالي مع خاصته ممن يتولون الأعمال له، ذلك بالالتصاق بهم، وبث الثقة في نفوسهم، وعدم اتهامهم على الظنة، ما لم يكن لديه الأدلة الكافية والقوية التي تتيح له إيقاع العقاب بهم وهذا العنصر بكامل أفكاره يكاد يكون جزءا مما أورده علي علیه السلام في عهده بشأن اختيار القضاة والكتاب والجباة وغيرهم ممن له علاقة مباشرة بشؤون الدولة من الموظفين الإداريين.

ص: 638

* 3 - بيان الفئات التي يتكون منها المجتمع وهم: الجند، والموظفون من كتاب العامة والخاصة، والقضاة، والمكلفون بجباية الخراج والفلاحون من أهل جزية وخراج من ذميين ومسلمين، والتجار، والصناع، والطبقة السفلى من فقراء ومحتاجين ومساكين، وقد فصّل القول في أهمية كل فئة ودورها في بناء المجتمع وأثرها في الفئات الأخرى والمسؤولية الملقاة على عاتق الوالي تجاه كل فئة من حيث الحقوق والواجبات، والطريقة المثلى في التعامل مع كل فئة بما يصلحها.

* 3 - السلوك بالرعية مسلك الدين في أداء حقوقهم، وإقامة الحدود، والتمسك بالعهود والمواثيق، والتغاضي عما ستر من عيوب الناس، وقبول التوبة، وتجنب الخداع والكذب في التعامل مع الرعية، والايقاع بالسعاة والنمامين واجتناب كل ما يسيء إلى الدولة من جور وظلم واضطهاد مع الاعتذار إلى الرعية إذا وقع مثل ذلك من الوالي عن غير قصد. وعدم التغاضي عن أي ذنب يلحق الأذى بعامة الناس، أو ينقص من هيبة الدين والدولة. وقمع المفسدين والإحسان إلى المساكين والمحتاجين، وعدم رد السائلين. وهذا العنصر أيضاً مكون من أفكار ملتقطة من عناصر عهد علي علیه السلام مع إعادة صياغتها بأسلوب مختلف.

* 4 - تلا ذلك بتفصيل الحديث في العوامل الادارية والسياسية الهامة التي تساعد الوالي على النجاح في مهمته ومنها: المبادرة بإصدار حاجات الناس في وقتها المحدد من دون تأخير، عدم الإطالة في الاحتجاب عن الناس، افساح المجال لسماع شكاوي العامةوالضعفاء في جو يسوده الأمن والاطمئنان، العمل بكل حزم على تفادي انحراف البطانة بالاستئثار لما للناس من حقوق، مكاشفة الرعية والاعتذار إليهم إذا ظنوا به حيفا أو جورا، ان لا يدفع صلحا دعاه إليه عدوه فيه

* 4 - الطريقة المثلى التي يجب على الوالي اتباعها لإصلاح أموال ولايته سواء أكان ذلك في تحصيلها وجبايتها، أو في سبل انفاقها، وظاهر في أسلوب هذا يقتفي ما تضمنته وصية علي علیه السلام لعماله على الخراج «رسائل رقم »51 بالإضافة إلى ما ورد بشأن ذلك في عهد علي علیه السلام عند تعرضه الى الفلاحين وأهميتهم بالنسبة للأمة.

ص: 639

صلاح الامة، أن يأخذ كل احتياطاته بدراسة جوانب أي صلح قبل إبرامه مع العدو حتى لا يقع في شرك الخديعة والمكر، ان يلتزم التزاما تاما بما ربط به نفسه من عهود وان اكتشف فيما بعد ان في تلك العهود جورا على نفسه، وأن ينبذ الإطراء، ويتحاشى المن على رعيته بما يبديه لهم من إحسان وأياد بيضاء، وأن لا يستعجل الأمور قبل أوانها، وأن لا يلجأ إلى العقاب إلا بعد أن ينفذ كل ما لديه من أساليب الرفق واللين المشروعة، وان يضع في اعتباره دائما ان قوة الله وقدرته فوق كلقوة وقدرة، حتى ترتدع نفسه وتتواضع بتفادي التكبر والتجبر. وقد تضمن العهد كثيراً من الوصايا الجوهرية الأخلاقية والأخرى الإنسانية بما لا يتسع لذكرها ويمكن الاطلاع عليها ضمن تلك الوثيقة القيمة.

5 - نصائح وتوجيهات متفرقة، تتصل بعلاقة الوالي بموظفيه وعماله وما يحتاجونه من متابعة ومراقبة، والكيفية التي يجب ان يكونوا عليها في أثناء تعاملهم مع الرعية، بالإنصات إلى شكاواهم والتعرف على مشاكلهم، إلى غير ذلك من نصائح وإرشادات تكاد تكون مقتبسة بمعانيها من عهد علي علیه السلام أيضاً.

ص: 640

فمن خلال مقارنة بين فحوى العهدين نظهر بنتيجة مفادها اشتراكهما في معظم الخصائص الإدارية والسياسية ان لم تكن كلها «حتى ليغلب الظن أن - طاهراً - حذا في رسالته حذو الإمام في رسالته»(1)، مع ملاحظة الفارق الكبير بين العهدين من حيث ترتيب العناصر وتناسق الأفكار فيهما، ومن حيث بلاغة الأسلوب أيضا، إذ لم يستطع طاهر بن الحسين أن يبلغ بأفكاره وأسلوبه ما بلغه علي علیه السلام، الذي شرب روح الإسلام من مصادره الأساسية دون وساطة ومن ثم استلهم روح التاريخ وتجارب الأمم بفكره المتوقد والوهاج، ثم أنه في صياغته للأساليب نهل من معين لغة الجاهلية الصافي ومازجه ببلاغة القرآن، فاستطاع أن يصوغ من ذلك المزيج اللغوي المتجانس في ذروة تعبيراته، والفكر الإنساني الفذ المتمثل في الإسلام في أوج فتوته وعطائه، وثيقة لو أتيحت لها الدراسات المنصفة والبعيدة عن كل تعصب لتبوأت القمة في النثر العربي كشاهد من شواهد الريادة الاصلية لآداب العربية منذ بواكيرها الأولى، هذا بالإضافة إلى اعتبار مضمونها الفكري كوثيقة اصيلة وكمالة لحقوق الإنسان تتحدى بفحواها كل ما كتب في شان ذلك على امتداد عصور الإنسانية، واهم ما يميز هذا العهد هو:

1 - التزامه نهج الإسلام وتعاليمه في الحكم والإدارة بنظرته الإنسانية الواسعة التي لا تقصر الحقوق على فئة معينة ومميزة لأن المواطنين كما ينص العهد متساوون في الحق سواء المسلم وغير المسلم. فهو بتعاليمه يمثل ما أثر عن علي علیه السلام من فكر ضمنه خطبه وأقواله وطبقه في واقع افعاله.

2 - الترتيب المتقن والتناسق التام بين العناصر التي تكون العهد الذي يبين من خلاله حرص علي علیه السلام التام على «أن يفتح عين ولاته على الصغير والكبير من

ص: 641


1- في العروبة وآدابها - السابق ص 31

شؤون الحكم وصلات الحاكم بالناس»(1) .

3 - اختيار الألفاظ والاساليب اختيارا دقيقاً ومحكما كي تتناسب والعناصر الفكرية التي صيغت من أجلها، مع بعد عن التكليف وسهولة في مخارج الحروف، واتسام بالانسجام والمصالحة مع روح وعقل من كُتب العهد اليه من الولاة.

4 - استمرارية في بقاء الأسلوب على قوة بنائه ومتانة تماسكه وترابط أفكاره وانسجامها من بداية العهد حتى نهايته دون ان يتخلله فتور في تعبيراته، أو انحلال في افكاره رغم طوله الذي بلغ «أكثر من ألفين ومائتين كلمة»(2) .

5 - الاحاطة الشاملة التامة بأبعاد كل فكرة وردت فيه بإشباعها دراسة وتمحيصا وتبيان إيجابياتها وما يعتورها من سلبيات يمكن للوالي أن يتلافاها كي لا يقع في الخطأ الذي ينتج عنه الإرباك، ويمكن تطبيق هذه المميزات على الجوانب الفكرية التي عرض إليها علي علیه السلام في عهده لمحمد بن أبي بكر حين ولاه مصر أيضاً.

3 - الرسائل:

اشارة

وهي القسم الثاني من الأدب المكتوب المأثور عن علي علیه السلام، وعددها في النهج ستون رسالة مختلفة، من جملة تسعة وسبعين نصا ذكرها الرضي في الباب الذي افرده للرسائل والعهود والوصايا. وتنقسم هذه الرسائل من حيث مضامينها على قسمين:

ص: 642


1- في العروبة وآدابها ص 35
2- في العروبة وآدابها ص 29
- الرسائل العامة:

وهي الرسائل التي كتبها علي علیه السلام لتقرأ على عامة الناس في الولايات، ويكلف الوالي أو من يقوم مقامه بأدائها، وتشبه في مضامينها ومقوماتها واساليبها الخطبة، الا انها في كثير من الأحيان تمتاز بالإيجاز والتركيز وتتناول في العادة موضوعات هامة وتتطلب انجازا سريعا، كالأخبار عن تولية عامل جديد تتطلبه الظروف الحرجة التي تعيشها الولاية (1) ، أو كالأخبار عن نتائج معركة ما اضطرت الحكومة المركزية إلى خوضها (2) أو التعرض لشرح قضية ما اختلفت اراء الناس حولها في مختلف ولايات الدولة (3) . وتتميز هذه الرسائل بإيرادها الحقائق في صيغ اخبارية واضحة وصريحة وصادقة ومباشرة، مثال ذلك كتابه إلى أهل الكوفة الذي ستحثهم فيه على القدوم إليه، عند مسيره إلى البصرة للقضاء على فتنة أصحاب الجمل «من عبد الله علي أمير المؤمنين، إلى أهل الكوفة، جبهة الأنصار وسنام العرب، اما بعد فإني اخبركم عن أمر عثمان حتى يكون سمعه كعيانه، ان الناس طعنوا عليه، فكنت رجلا من المهاجرين، أكثر استعتابه، واقل عتابه، وكان طلحة والزبير اهون سيرهما فيه الوجيف، وارفق حذائهما العنيف، وكان من عائشة فيه فلته غضب، فأتيح له قوم فقتلوه، وبايعني الناس غير مستكرهين ولا مجبرين، بل طائعين مخيرين، واعلموا أن دار الهجرة قد قلعت بأهلها وقلعوا بها، وجاشت جيش المرجل، وقامت الفتنة

ص: 643


1- راجع رسائل - 38 ، 57 ، 58
2- السابق
3- السابق

على القطب، فأسرعوا إلى اميركم وبادروا جهاد عدوكم ان شاء الله تعالى»(1) ، فلقد لخص علي علیه السلام احداث الفتنة التي ادت إلى قتل عثمان، وبين ضمنها دور الخارجين عليه من أصحاب الجمل في اشعال نارها وذلك بلمحات تصويرية مقتضبة، مارا بسرعة على وصف بيعة الناس له باختصار شديد، تلاه تصويره لما حدث في المدينة من فتنة، ثم طلب منهم الاسراع بالالتحاق به للقضاء على الفتنة القائمة في وجه الخلافة. فالرسالة من الوضوح والاختصار بحيث لا يمكن الاستغناء عن أي عبارة فيها، لاعتمادها على التركيز والتعابير التصويرية الموحية وخلوها من الفضول والزيادات.

- الثاني: الرسائل الخاصة:

وهي التي يكتبها إلى اشخاص معينين وتنقسم بدورها إلى اقسام ثلاثة:

1 - رسائل إدارية: وهي نوع من الرسائل التي عادة ما يكتبها علي علیه السلام لولاته في الشؤون المتعلقة بهم وبأعمالهم، كتنبيه احدهم إلى قسوته التي يأخذ بها سكان ولايته (2) ، أو حضه آخر على القيام بأعمال معينة أو مشاريع محددة يجدها مهمة

ص: 644


1- رسائل - 1. وشبههم بالجبهة من حيث الكرم وبالسنام من حيث الرفقة. وعيانه: رؤيته. واستعتابه: استرضاؤه. وعتابه: لومه. والوجيف: نوع من سير الابل يمتاز بالسرعة. والحداء: الغناء للابل من أجل سوقها والعبارة في مجملها كناية عن إسراعهما في إثارة الفتنة على عثمان.ودار الهجرة: المدينة.وقلع المكان بأهله: لم يصلح لاستيطانهم. وجاشت: غلت. والمرجل: بكسر فسكون: القدر
2- راجع رسائل: 18،19 ، 67 ، 61 ، 40 ، 43 ، 63

وضرورية بالنسبة إلى الولاية (1) ، أو التبكيت واللوم لمن يفرط منهم في أمر هام مقابل قيامه بعمل يقل في أهميته وخطورته من العمل الذي فرط فيه (2) ، أو الايعاز لبعضهم ممن يشك في اختلاساتهم برفع حسابات ولايتهم (3) ، أو نصح من يخبر عن تبذيره بعدم التمادي في الملذات واعطاء الهبات من الأموال العامة المكلف بصيانتها والحفاظ عليها (4) أو العزل بسبب سوء التدبير في بعض الاحيان (5) إلى غير ذلك من موضوعات وقضايا إدارية تتصل اتصالا مباشرا بعمل الوالي أو من ينوب عنه.

ويمتاز أسلوب ذلك النوع من الرسائل بالاختصار والصرامة والتحديد لدقيق والمباشر للموضوع، مثال ذلك كتابه إلى عمر بن سلمة المخزومي (6) عامله على البحرين الذي جاء فيه «اما بعد فاني قد وليت نعمان بن عجلان الزرقي على البحرين، ونزعت يدك بلا ذم ولا تثريب عليك، فلقد احسنت الولاية، واديت الامانة، فأقبل غير ظنين ولا ملوم ولا متهم، ولا مأثوم، فلقد أردت أن أسير إلى ظلمة أهل الشام، وأحببت أن تشهد معي فإنك ممن استظهر به على جهاد العدو، واقامة عمود الدين، ان شاء الله»(7) ، فالرسالة ادارية

ص: 645


1- المصدر السابق نفسه
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- راجع السابق
5- راجع - السابق
6- راجع ترجمته عند ابن الأثير أسد الغابة 4/ 183
7- رسائل - 42 - والنعمان بن عجلان الزرقي بضم الزاي وفتح الراء من الانصار، كان شاعرا فصيحا وسيدا في قومة. راجع ترجمته في أسد الغابة السابق 5/ 334

بحتة، حتى المدح الذي تضمنته هو بمثابة اخلاء ذمة وإزالة لأي لبس يدخل في روع الوالي المعزول، ودقة تعبيرها لا يدع مجالا للشك في أن العزل لم يكن إلا من أجل الغرض الذي ذكره علي علیه السلام، وتلك هي ميزة جميع الكتب الإدارية المأثورة عن علي علیه السلام في النهج.

2 - رسائل عسكرية: وهي الرسائل التي يكتبها علي علیه السلام إلى قادة جيوشه، وتتضمن اوامر بالسلوك بالجند في طريق ما، أو اتحاد بعض الجيوش تحت إمرة قائد يقع اختياره من قبله إلى غير ذلك من أمور عسكرية تقتضيها خطط الحرب وأسلوب علي علیه السلام في هذا النوع من الرسائل هو ذات أسلوبه في رسائله الادارية، من اختصار ومباشرة وتحديد للمعاني، مثال ذلك ما كتبه إلى اميرين من امراء جيوشه بعد أن أرسلهما كمقدمة لما عزم على التوجه إلى صفين «قد أمرت عليكما وعلى من في حيزكما، مالك بن الحارث الأشتر، فاسمعا له وأطيعا واجعلاه درعا ومجنا، فانه ممن لا يخاف وهنه ولا سقطه ولا بطؤه عما الاسراع إليه احزم ولا اسراعه إلى ما البطء عنه أمثل»(1) ، فالصفات المقتضبة التي اسبغها على قائده المؤمر هي من الاستحقاق ما تجعله جديرا بأن يطاع، وعبارات الرسالة رغم قلتها فإنها توحي بجل المعاني التي يجب ان تتوفر في قادة الجيوش.

3 - رسائل سياسية: وهي التي كتباها علي علیه السلام لأولئك الذين ناوؤه وحاولوا نكث بيعته من امثال طلحة والزبير أو امتنعوا عنها من امثال معاوية ومن شايعه من الأمويين واهالي الشام. وهذه الرسائل في مجملها صنفان:

ص: 646


1- رسائل - 13-

- الأول: الكتب المرسلة من علي علیه السلام لأولئك الخارجين عن طاعته، ويعمد فيها إلى شرح موقفه إزاء دعاواهم مباشرة، متكئا في تفنيد مزاعمهم على الحجة والمنطق واستمالتهم بأسلوب العقل والموعظة الحسنة، ولكن من دون تهاون أو تنازل، فالحلول الوسط لا تعرف إلى رسائله سبيلا، ويمكن أخذ كتابه الذي بعثه إلى طلحة والزبير (1) مثلا، فقد حاول ضمن الكتاب صدهما عما عزما عليه من نكث بيعته وقد بناه على العناصر التالية:

1 - البيعة له بالخلافة وكيف تمت.

2 - مبايعة الأثنين له بين الإعلان والإضمار والطاعة والاكراه.

3 - مقتل عثمان بينه وبين الإثنين بشهادة من حضره من أهل المدينة.

وقد اجملت الرسالة تلك العناصر بإحكام ودقة لا تمكن من ارسلت إليه من أية فرصة للإفلات من حججها وقوة منطقها، مع اقتضاب في العبارة وتركيز في اختيار المعاني المناسبة.

ويمكن تمثل تلك الخصائص المعنوية أيضاً في كتابه الذي بعثه إلى جرير بن عبد الله البجلي (2) حين استبطأ مكوثه بالشام لما أرسله لأخذ بيعة معاوية ونصه «أما بعد، فإذا أتاك كتابي هذا، فاحمل معاوية على الفصل، وخذه بالأمر الحزم، ثم خيره بين حرب مجلية أو سلم مخزية، فإن اختار الحرب، فانبذ إليه، وان اختار السلم فخذ بيعته والسلام»(3) فأسلوب الرسالة من الحزم والجدية بحيث لا

ص: 647


1- راجع رسائل - 54 -
2- جرير بن عبد الله البجلي - من صحابة رسول الله صلی الله علیه و آله وسلم. راجع ترجمته عند الذهبي سير أعلام النبلاء 2/
3- رسائل - 8 -

يترك مجالا للتردد بين اختيارين لا ثالث لهما وعبارات الرسالة لا تعطي مجالا للتأويل، ولا توحي بالمراوغة والمساومة، فهي قاطعة ومحددة.

- الثاني: وهي الكتب التي عادة ما تكون ردودا على رسائل وردت إلى علي علیه السلام من مناوئيه، وكل ما ورد في هذا الباب من ردود كانت على رسائل لمعاوية، كان مراده منها المساومة والخداع للوصول إلى ماربه في البقاء في ولاية الشام، وقد اتبع من أجل ذلك أساليب متنوعة منها حجته بأن البيعة لعلي علیه السلام لم تلزمه لأنه وأهل الشام لم يبايعوا أصلا (1) ومنها مطالبته بالثأر من قتلة عثمان الذين انضووا تحت إمرة علي علیه السلام(2) ، ومنها اتهام علي علیه السلام بمحاولة نكث بيعة الشيخين (3) ، ومنها - وهو الحقيقة - طلب إقراره على ولاية الشام دون أي التزام ببيعة علي علیه السلام على تلك الرسائل، وما يميز تلك الجوابات:

أ - الرد على فحوى الرسالة نقطة تلو الاخرى، مبتدئا رده بأجمال مضمون كل نقطة وردت في الرسالة الاصل، ضمن الرد عليها، من ذلك قوله ضمن رده على احدى رسائل معاوية «أما بعد فإنا كنا وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرق بيننا وبينكم أمس أنا آمنا وكفرتم، واليوم أنا استقمنا وفتنتم...

وذكرت اني قتلت طلحة والزبير وشردت بعائشة، ونزلت المصرين، وذلك أمر غبت عنه، فلا عليك، ولا العذر فيه اليك»(4) . إذ يتضح من رد علي علیه السلام ان رسالة معاوية ترتكز على تذكير علي علیه السلام، بألفة المسلمين ونصحه اياه الابقاء على

ص: 648


1- يمكن استنتاج ذلك من الرسائل: 6، 19 الفقرة الاخيرة، 28 الفقرة الرابعة، 17 مطلع النص
2- المصدر السابق نفسه
3- المصدر السابق نفسه
4- رسائل - 64 - فقرة 2

تلك الالفة، ومن ثم اتهامه اياه بفك اواصر الوحدة الإسلامية بقتله طلحة والزبير، وتشريده بزوج النبي صلی الله علیه و آله وسلم، وبتركه المدينة عاصمة الإسلام ونزوله بالبصرة ثم الكوفة، فعناصر رد علي علیه السلام، مبنية كما نلاحظ على عناصر رسالة معاوية دون زيادة أو نقصان، وعادة ما يبدا علي علیه السلام رده على كل عنصر بتوجيه الحديث إلى معاوية ب- (اما) الشرطية التفصيلية.

ب - مقابلة التهديدات والإنذارات بالسخرية اللاذعة المستقاة مضامينها من وقائع التاريخ، من ذلك قوله لمعاوية ضن رده السابق أيضاً «وذكرت أنك زائري في المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك، فإن كان فيه عجل فاسترفه، فإني إن أزرك فذلك جدير أن يكون الله انما بعثني إليك للنقمة منك، فإن تزرني فكما قال أخو بني أسد: (بسيط)

مستقبلين رياح الصيف تربهم * بحاصب بين اغوار وجلمود (1) فالسخرية تكمن في قول علي علیه السلام«قد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك»ويعني يزيد بن أبي سفيان الذي اسر يوم الفتح وما يريده علي علیه السلام من ذلك ان «اكثر من

ص: 649


1- رسائل - 64 - فقرة 3. واخو بني أسد هو بشر بن أبي خازم، عمرو بن عوف الاسدي شاعر جاهلي فحل، وقد عزا علي علیه السلام البيت إليه الا ان ابن أبي الحديد في شرحة 17 / 19 يقول: «كنت سامع قديما ان هذا البيت من شعر بشر بن أبي خازم الاسدي، والآن قد تصفحت شعره فلم اجده ولا وقعت بعد على قائله» ويمكن الرجوع إلى ترجمة الشاعر في: أعلام الزركلي 2/ 54 . وريح حصب: تحمل الحصباء وهي صغار الحصى. والاغوار: ما سفل من الأرض. والجلمود: الصخر الصماء. وقد تمثل علي علیه السلام بالبيت ليبين لمعاوية مدى المشقة التي ستواجهه في حالة مبادرته بالحرب، مما يعني انه في كلتا الحالتين سيكون ضحية غروره

كان معك - يا معاوية ... هم من ابناء الطلقاء ومن اسلم بعد الفتح»(1)، مما يعني انك نفسك لست في عداد المهاجرين فكيف يتسنى لك قيادتهم، واستمرارا في الرد على تهديد معاوية بأسلوب تنطوي عباراته على نوع من الازدراء، ماقاله من تهوين من اندفاعه، فاللقاء بين الاثنين لا محالة واقع، سواء اكان هو الباديء أم معاوية وفي كلتا الحالتين سيرى معاوية ايهما اصبر جلدا. ومن الردود المتضمنة السخرية أيضاً الاستفهام الانكاري في قوله «ومتى كنتم يا معاوية ساسة للرعية، وولاة أمر الامة؟ بغير قدم سابق، ولا شرف باسق»، وقوله في رد ثالث «اما بعد فقد اتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمد صلی الله علیه و آله وسلم وتأييده اياه بمن ايده من اصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا ونعمته علينا في نبينا، فكنت كناقل التمر إلى هجر (2) ، أو داعي مسدده النضال»(3) .

ج- - الحذر الشديد والحيطة المتناهية في استخدام العبارات: فقد كان معاوية يرمي من الرسائل الكثيرة إلى علي علیه السلام، تصيد الفلتات التعبيرية التي تمكنه من إثارة الرأي العام ضد علي علي علیه السلام. وقد كان علي علي علیه السلام واعيا لأساليبه تلك. فمن

ص: 650


1- شرح ابن أبي الحديد 17 / 256
2- رسائل - 10 ، 28 . وهجر: مدينة بالبحرين كثيرة النخل، وهي الاحساء حاليا احدى مدن المنطقة الشرقية من المملكة السعودية، وقوله «كناقل التمر إلى هجر »صوره من المثل القديم «كمستبضع التمر إلى هجر»، مجمع الامثال للميداني 3/ 39 ، يضرب مثلا للرجل يعلم من هو اعلم منه
3- راجع السابق، وقوله «داعي مسدده إلى النضال »اي معلم معلمه الرمي، وهو اشارة إلى قول القائل: (وافر) أعلمه الرماية كل يوم ولما اشتد ساعده رماني شرح ابن أبي الحديد 15 / 188

أساليب الاستدراج التي أراد بها معاوية ايقاع علي علیه السلام، محاولة استثارته تجاه خلافة الشيخين، لما كان يعلمه من قوله باستئثارهما بحقه، ففي رد لعلي علیه السلام على احدى رسائل يقول «وزعمت ان افضل الناس في الإسلام، فلان وفلان، فذكرت امرا ان تم اعتز لك كله، وان نقص لم يلحقك ثلمه وما انت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس، وما للطلقاء وابناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم»(1) . فلقد كان معاوية - كما نظن - يرمي من اثارته لقضية الفاضل والمفضول إلى جر علي علیه السلام للقول بأفضليته على الشيخين ولكن علي علیه السلام قد فوت عليه الفرصة حين وجه الرد إلى السخرية منه والتشهير به وبمنزلته إزاء القضية التي جعل من نفسه حكما فيها، وهو ابعد ما يكون تأهيلا، لأن بني عبد شمس عشيرة معاوية لم يكونوا من المهاجرين ولم يسلموا الا بعد ان وجدوا ان لا مفر من ذلك.

وفي موضع آخر من الرد نفسه يقول علي علیه السلام«وزعمت اني لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك، فيكون العذر لك: (طويل) وتلك شكاة ظاهر عنك عارها وقلت اني كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى ابايع، ولعمر الله لقد أردت أن تذم فمدحت وان تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة ان يكون مظلوما، ما لم يكن شاكا في دينه، ولا مرتابا بيقينه، وهذه حجتي إلى غيرك قصدها، ولكني اطلقت لك منها بقدر ما سنح من ذكرها»(2) .

ص: 651


1- رسائل - 28 - الفقرة 1، 4، 5، وفلان وفلان، أبو بكر وعمر
2- راجع السابق. والجمل المخشوش: الذي يجعل في انفه الخشاش لينقاد، والخشاش: خشب يدخل في عزم انف البعير. والتضمين عجز بيت لابي ذؤيب الهذلي: وعيّرها الواشون أني احبها - محمد عبده - هامش نهج البلاغة - ص 470 - ط. دار الاندلس. والجمل المخشوش: الذي يجعل في انفه الخشاش لينقاد. والخشاش خشب يدخل في عظم انف البعير

فمعاوية على ما يبدو من رد علي علیه السلام على رسالته، قد كان يلح الحاحا شديدا في استدراج علي علیه السلام إلى النيل من حكم الشيخين، ولكن يقظة علي علیه السلام قد فوتت عليه الفرصة حتى ان إيحاءه بحقه ضمن الرد جعل من معاوية شاهد اثبات على مشروعية ذلك الحق مما تعذر معه على معاوية استخدامه كدليل على موقف علي علیه السلام المعارض من حكم أبي بكر التي أومأ إلى إكراه علي علیه السلام على قبولها كما يبدو من رد علي علیه السلام.

4 - الوصايا

الوصية جنس من الأدب العربي القديم، افرزته الحاجة التي حتمت على العربي من خلال مكانته في اسرته وبين قومه ان يفضي لهم بخلاصة تجاربه الحياتية متى ازمع الرحيل عنهم في سفر طويل أو عند احساسه بدنوا الاجل. والوصية بشكل عام عبارة عن نصائح وتوجيهات، مقترنة بأخبار وحكم، هي في جوهرها خلاصة تجارب الموصي ومحورها الذي ترتكز عليه نظرته إلى شؤون الدنيا وكيفية التعامل مع احداثها، إذ يمكن من خلال التأمل في عناصرها استقراء نفسية الموصي ومعرفة أفكاره، لأنها عبارة عن حالة من التجلي الذي يعتري الإنسان في أثناء الفراق بكل أشكاله فهي على هذا الأساس تعبير ذاتي، وإن حاول الموصي صبغه بطابع إنساني بمحاولته إيداعه التجارب الإنسانية التي عاشها ضمن نسيج الوصية، ولكن بصبغها بنفحة من روحه، وبالتعبير عنها من وجهة نظره، وهي

ص: 652

في العادة - وكما يبدو لنا مما بين أيدينا من وصايا فورية يلقيها الموصي ارتجالا في مناسبتها، من دون أداء مسبق، فالمناسبة والموقف هما اللذان ينظمان العناصر والأفكار بحسب اقتضاء المناسبة وانسجامه معها، وتلك المميزات بطابعها الذاتي العام تمثل شكلا من أشكال الوصايا التي اثرت عن علي علیه السلام في النهج كما في قوله لأصحابه عند احساسه بدنو الاجل «أيها الناس، كل امرئ لاق ما يفر منه في فراره، والاجل مساق النفس، والهرب منه موافاته، كم اطردت الأيام ابحثها عن مكنون هذا الأمر، فأبى الله الا اخفاءه. هيهاتّ! علم مخزون. اما وصيتي: فالله لا تشركوا به شيئا ومحمدا صلی الله علیه و آله وسلم فلا تضيعوا سنته، اقيموا هذين العمودين، واوقدوا هذين المصباحين، وخلاكم ذم ما لم تشردوا، حمل كل امرئ منكم مجهوده، وخفف عن الجهلة، رب رحيم، ودين قويم، وإمام عليم. انا بالأمس صاحبكم، وانا اليوم عبرة لكم، وغدا مفارقكم، غفر الله لي ولكم...»1(1) فعبارات الوصية بتمامها تترجم احساسات روح عامرة بالإيمان في حالة احتضار، ولكن ذلك الموقف الرهيب لم يمنعها من الإفضاء بما في داخلها من شوق للوصول إلى معرفة الحقيقة التي بقيت بعيدة المنال، ولكنها اكيدة وتأكيدها هي معايشتها في لحظاتها الاخيرة التي غطت على الم الاحتضار، مع بروز الإسلام والخوف عليه والنصح على التمسك به كعامل فكري ما فتأت نفس علي علیه السلام تكافح من اجله حتى النزع الاخير، فالذاتية بالحديث عن النفس هي وصف لحالة التجلي التي يشعر بها علي علیه السلام، محاولا اطلاع مستمعه على جوهرها من خلال احساسه بها بكل توجهاتها الفكرية التي يعتقدها، مع محاولة منه في توجيه من يحيطون به إلى الأخذ بها، بناء على ما يتضمنه ذلك الفكر من خير ومحبة ورحمة كخلاصة لتجربة عايشها،

ص: 653


1- خطب - 149- . ومساق النفس: تسوقها إليه اطوار الحياة حتى توافيه. وخلاكم ذم ما لم تشردوا: أي برئتم من الذم ما لم تميلوا عن الحق وتنفروا منه

وكافح من اجلها ومات في سبيلها، مع ملاحظة ان ومضات الفكر تلك عبارة من انقداح لتفاعلات داخلية وليدة مناسبتها، مما جعلها تنساب في الأسلوب على شكل همسات حزينة مثقلة بالألم، ومشبعة بالإيمان، ومتسمة باحساسات الفراق الابدي الممثل في إبانه للزمن بأبعاده الثلاثة في سبر كنهها واستلهام فحواها، مما يتعذر معه الاعداد المسبق حتى ولو فكرياً.

ومن تلك الوصايا الذاتية ما يعمد علي علیه السلام إلى كتابته، قادحا فيه زناد فكره، مضمنا إياه خلاصة تجربته، كوصيته الطويلة الشاملة التي كتباها إلى ابنهالحسن علیه السلام (1) ، وهو قافل من صفين إلى الكوفة، وقد استوعبت هذه الوصية جل تجارب علي علیه السلام الحياتية، فمدة الرحلة التي كتبت فيها الوصية قد أتاحت لعلي علیه السلام التأمل والتركيز، مما فتح له مجال الحديث في معظم ما يحتاجه ابنه من نصائح دنيوية ودينية من عبادات ومعاملات وعلاقات، وفكر وثقافة فهي ليست كسابقتها ذات خطوط عامة مجملة ومركزة، محددة الوقت، والعنصر العاطفي وان بدا قويا فيها، إلا أنه لا يبلغ من التكثيف والحرارة في مثل سابقتها ايضا، التي قد خالط تعبيراتها الانفعال للشعور بدنو الاجل وقرب الرحيل، فالتركيز والعقلانية عنصران من أهم العناصر التي تميزت بها الوصية المكتوبة التي لم يعد يتخللها مجال للحزن، مع اتساع رحب في مساحة التأمل، تولد عنه كمية كبيرة من الحكم العملية المستخلصة من تجارب الموصي المرتبطة بجل شؤون الحياة والمنسجمة مع واقعها.

اما أهم ما وحد بين الوصيتين الذاتيتين المرتجلة والمكتوبة فهو المجرى النفسي في كلتيهما، والمتمثل في حرارة الإيمان، وصدق العاطفة والحب العظيم

ص: 654


1- راجع - رسائل - 31-

للإنسانية بصياغات لغوية متينة.

وهناك أيضاً وجه ثان يختص بالوصية المكتوبة تحتمه طبيعة الإسلام الذي يلزم كل مؤمن به ان يترك وصية بما يعمل بتركته بعد وفاته امتثالا لقوله تعالى:

«كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ»(1) ، فالوصية المعنية في الآية الكريمة هي نص، اما ان يكون مكتوباً، أو شفويا بحضور شاهدين عدلين، وفي كلتا الحالتين الكتابية والشفاهية تكون الوصية ملزمة التنفيذ شريطة ان توافق ما نص عليه القرآن الكريم، وفصله الشرع الإسلامي في خصوص المواريث. والعبارات في مثل هذا النوع من الوصايا تكون محددة تحديداً علميا دقيقا لا يقبل التأويل. ومن امثلة تلك الوصايا في النهج، الوصية التي كتبها علي علیه السلام بعد رجوعه من صفين ضمنها ما يعمل في امواله بعد وفاته(2) ، فعباراتها محددة في موضوع الاموال، ومستحقات الورثة، دون تجاوز منه إلى غير ذلك.

واذا ما تركنا الوصايا الذاتية المتعلقة بشخص علي علیه السلام وشؤونه، فإن هناك أيضاً نوعا من الوصايا الإدارية (3) والأخرى العسكرية (4) ، منها ما يعمد علي علیه السلام إلى كتابته ومنها ما يرتجله في مناسبته على شكل نصائح وإرشادات يتوجه بها علي علیه السلام إلى قادة جيوشه وولاته على الأمصار في أثناء توديعهم للالتحاق بأعمالهم ومزاولة مهامهم، وأما كتابته إليهم في أثناء مزاولتهم لتلك المهام إذا ما

ص: 655


1- البقرة/ 180
2- راجع رسائل - 24-
3- راجع على سبيل المثال: رسائل 11 ، 12 ، 25 ، 76
4- راجع السابق

اقتضت الضرورة ذلك، وهذا النوع من الوصايا عادة ما يكون مبنيا على عناصر محددة تتجه مضامينها إلى اتجاهين متكاملين:

اولهماله: يتعلق بشخص المتوجه إليه بالوصية كمسؤول يفترض فيه شروط معينة تؤهلة للمهمة المناطة به.

وثانيهما: ويتعلق بأسلوب تعامله مع من انيطت به مهمة رعايته من جند ومواطنين.

ومثل هذا الجنس من الوصايا يتسم بالدقة والتحديد في عباراته بما يناى بها عن التأويل، إذ يمكن للدارس ان يستخلص منا جوانب كثيرة من أساليب علي علیه السلام الادارية والسياسية والعسكرية والاجتماعية وما تنطوي عليه من قيم أخلاقية ومضامين انسانية، وفي كلتا حالتي الارتجال أو الكتابة فإنها تتمير بالإعداد الفكري المسبق(1) .

5 - الحكمة

لقد عرضنا لفحوى حكم علي علیه السلام في موضع سابق من هذا البحث وتحدثنا هناك عن قيمتها ضمن النص الذي ترد فيه، وعن اشعاعاتها الفكرية إذا ما اجتزئت مشكلة معنى مستقلاً (2) مما يعني أن كثيراً من حكم علي علیه السلام قد وردت ضمن نصوص أما مسموعة كالخطب والوصايا التي يلقيها ارتجالاً، أو مكتوبة ضمن رسائله وعهوده ووصاياه التي يكتبها إلى عامة الناس لتقرأ عليهم أو

ص: 656


1- يمكن ملاحظة ذلك في وصيته بما يعمل في أمواله. رسائل 24 ، ووصيته على الصدقات. رسائل 25
2- راجع ص 589 وما بعدها من هذا البحث

لأشخاص معينين تكون المادة المكتوبة إليهم حصيلة فكرية يريد علي علیه السلام ابلاغها لهم لقربهم من نفسه أو لطلبهم ذلك منه كزاد فكري ينتفعون به.

وحكم علي علیه السلام سواء ما ورد الينا منها مكتوبا ضمن نصوص أو مرتجلا ضمن خطب هي خلاصة تفكيره المجسد لعمق تجربته والمعبر عن مدى خبرته الطويلة بالحياة والناس، لذلك فإنه لمن العسير جدا محاولة التفريق بين ما ورد مكتوبا وما ورد مسموعا من حيث البناء الفكري، والسياق المعنوي، لانطلاق كلا الحكمتين من معين واحد بأسلوب يكاد يكون واحدا من حيث التعابير والالفاظ، فالبعد الخطابي ضمن الخطبة، أو الكتابي ضمن الرسالة يكمن في طريقة الابلاغ في كلا الاتجاهين، مما يصبغه بالحماسة والتدفق في الخطابة، والتأمل والتفكير في أسلوب الكتابة، ولكن ذلك لا يغير من القيمة الفكرية لمضمون الحكمة، رغم اعتقادنا بأن ثمة فرقا دقيقا بين الحكمتين المسموعة والمكتوبة - لا يمكن ملاحظته الا بعد طول تأمل، وفي جانب معين، مع وضع المناسبة في الاعتبار كي يكون بالإمكان الإحساس بالفارق،على أساس ان حكمة علي علیه السلام عملية، إذ هي في صياغتها تريد من قارئها أو مستمعها النزوع من مرحلة القراءة أو السماع إلى مرحلة الفعل والتطبيق، مما يصبغها بالأمر الممزوج بالثورية ضمن سياقها الخطابي المسموع، فقوله «من أبدى صفحته للحق هلك»(1) ضمن خطبة له، بعد ان بايعه الناس في المدينة، وشعر ببوادر النكث، يجعل من الحق، كقيمة انسانية، موضع مجابهة وهلاك لمن يحاول تجاهله وانكاره، رغم وضوح سبيله، وطبيعة المناسبة هي التي اوحت بمعاني المواجهة للحق ضمن الحكمة المبلورة لفكر علي علیه السلام تجاه

ص: 657


1- خطب - 6- فقرة 2

الاحداث الدامية التي عاشتها المدينة جراء ما حدث بين عثمان من جهة وثوار الأمصار من جهة أخرى، مما يعطي للحكمة مع استمراريتها كمقولة خالدة، بعدين أثنين: يتمثل الأول في الصراع على الحق بين عثمان والثوار من ناحية، ويتمثل الثاني في تحميل الحكمة انذارا مبطنا لأولئك الذين يريدون نكث البيعة التي تمت له وبمباركتهم، تحت شعار الحق. مما صبغ المقولة بالثورية في كل اتجاهاتها بصوغها بلاغيا في كناية تعني شرائح انسانية، اضرب علي علیه السلام عن ذكرها لحساسية الموقف الذي تطلب منه ذلك، اما في قوله «من تعدى الحق ضاق عليه مذهبه»(1) والوارد ضمن وصيته المكتوبة لابنه الحسن علیه السلام، فيمثل وجهة نظر تأملية هادئة قوامها الالتزام بالحق وعدم التعدي عليه، فكلا الحكمتين تدعوان إلى التمسك بالحق كقيمة انسانية، ويكمن الاختلاف في كلتا المقولتين في طريقة التعامل لفهم الحق، فالصياغة التعبيرية في كلتا لحكمتين واحدة من حيث المبنى ولكنها مختلفة من حيث التعامل معه كقيمة ثابتة مهما تباينت الآراء واختلفت المواقف.

ان مضمون حكمة علي علیه السلام من العمق والاتساع بحيث يمكن معه عدّها دستور حياة متكامل الجوانب، معينه التجربة الصادقة، والفكر الحر، وزاده جل الفكر الإنساني الذي عاشه علي علیه السلام في حياته أما ممارسة أو تأملا واطلاعا، وقوامه الدين والاخلاق بكل ما يحويانه من معان وقيم، وبوتقته الإيجاز الواضح بلغة متينة واسلوب سهل، تنساب الحقيقة فيه صادقة وحارة.

فالمفردة اللغوية - في ادب علي علیه السلام - وان اختلفت توجهاتها، باختلاف استخداماتها ضمن السياقات الأدبية المختلفة المضامين، إلا أنها في كل الحالات

ص: 658


1- رسائل - 31 - فقرة 24

تبقى قوية موحية، تنم في رصفها عن ذوق أدبي رفيع وخبرة عميقة بدقائق اللغة، وتلك الميزات جعلت لأدب علي علیه السلام بجانب التزامه، خصائص أسلوبية يتميز بها وهي ما نطمح إلى دراسة أبرزها في الفصل التالي.

ص: 659

ص: 660

الفصل الثاني: أبرز خصائص النهج الأسلوبية

اشارة

تشكل نصوص نهج البلاغة - في مجملها من حيث المضمون الفكري كلا متكاملا ومتجانسا إذ لا يبدو عليها من هذه الناحية ثمة تناقض أو تعارض، فهي تستقي من معين الإسلام الصافي كل توجهاتها الفكرية، وكل عناصرها الإنسانية. وكما لاحظنا في الفصل السابق، فقد صبغت موضوعاتها المتعددة الجوانب بأساليب ادبية مختلفة، تميزت بخصائص تناسبها من حيث الاداء والاستخدام اللغوي، الا ان التراكيب التي صيغت بها تلك النصوص ظلت في جانب كبير منها، متسمة بطابع خاص، تجلت فيه شخصية مبدعها بأسلوبه الخاص المميز. وقد تمكنا من استخراج ما يمكن اعتباره على الاقل من وجهة نظرنا - من ابرز المميزات الاسلوبية التي تميزت بها نصوص نهج البلاغة بشكل عام، ونعرض لدراستها في التالي:

أ - الجملة وخصائصها التركيبية

اشارة

والجملة كوحدة أساسية في صياغة أفكار علي علیه السلام، تمتاز في أغلب الأحيان بالتركيز والاندماج، بحيث يتعذر النظر في فحواها على اعتبار تمام معناها

ص: 661

منفصلة عن سياقها الفكري، لأنها جزء من نسيجه المقوم لمضمونه، فهي بما تتضمنه من فكرة جزئية، بمثابة الخيط الدقيق الصادر من حزمة ضوئية محكمة الربط متكاملة البناء، مما يصعب معه فصلها ودراستها منفردة، الا من ناحية نحوية، فعلى سبيل المثال، فإن خطبته المسماة بخطبة (الأشباح) وموضوعها:

شكر الله ونفي الصفات عنه، تتكون من ستة عناصر اساسية ويحتوي كل عنصر من تلك العناصر على عناصر أخرى متكونة من جمل عدة، فلو قسمنا العنصر الأول من تلك الخطبة، والمتضمن وصف الله سبحانه، لوجدنا انه يتكون من العناصر الجزئية الاربعة التالية:

1 - شكر الله سبحانه وذكر جميم عطائه.

2 - معنى وحدانيته.

3 - نفي الصفات الزمانية والمكانية والجسدية عنه سبحانه.

4 - عدم احاطة العقل الإنساني بتصور قدرته التي لا نهاية لها في الملكوالعطاء والمنح.

وان كل عنصر جزئي من العناصر السابقة يتكون أيضاً من وحدات صغرى هي الجمل التي وان كانت واحدة منها تؤدي معنى مفيدا، فهي بتمامها منفردة، لا تشكل تصورا ذهنيا لمعنى العنصر المنسلة منه، إلا إذا أدمجت فيه مع بقية الوحدات الصغرى في السياق. لا على أساس ارتباطها بغيرها بحروف العطف أو غير ذلك من ادوات ربط، ولكن لتواشج الجملة مع غيرها بالتتابع الفكري المتدرج لتوضيح المعنى الجزئي الذي مثلناه بالحزمة الضوئية ذات الخيوط المتجانسة والمرتبطة بالحزم الاخرى ارتباطا عضويا غايته تسليط الضوء على جانب معين من جوانب النص، فالعنصر الجزئي الأول من النص السابق الذي

ص: 662

صورة

ص: 663

التقابل والتفسير والتوضيح و الاخبار، مع اعتبار اختلاف أساليب التوصيل باختلاف طبيعة الموضوع، فالموضوع هنا في هذه الفكرة الجزئية، قد تميز بتتابع الجمل الخبرية، من دون اللجوء إلى التوكيد الا في النادر، ومن الضرب الابتدائي، لأن عليا علیه السلام يتحدث هنا عن بديهات يؤمن بها ايمانا يقينا، كما ان من المفترض في المستمع إليه ان يكون مؤمنا بها، لذلك لم يكن في حاجة إلى استخدام أساليب التوكيد بقدر حاجته إلى استثارة انتباه مستمعه بأضرب من الأخبار الابتدائية المتمثلة في غلبة الجملة الاسمية لأنها اوفق لتثبيت الحقائق واصدار الأحكام لأنها غير مقيدة بزمن كالجمل الفعلية، ولكنه قد يعمد، وبنفس النسق الذي بيناه أو ما يقارب منه إلى التوكيد، والى التنقل بين الانشاء والخبر إذا ما تطلبت طبيعة الموضوع لمثل ذلك.

وقد يعمد علي علیه السلام من خلال العناصر الجزئية إلى ابراز المعنى أو ايضاح الفكرة التي يريد ابلاغها، بطريقتي الاجمال والتفصيل، فيكثف الفكرة في جملة واحدة، ومن ثم يعود إلى تفصيلها واستقصاء دقائقها في جمل، من ذلك ما ورد ضمن وصيته لابنه الحسن:

(اجمال) >>>(تفصيل)

«يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ

فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا

وَلا تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ

ص: 664

«أَنْ یُحْسَنَ إِلَیْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُهُ مِنْ غَیْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تَعْلَمُ، وَلَا تَقُلْ مَا لَا تُحِبُّ أَنْ یُقَالَ لَكَ»(1)

فقد طوى قوله «اجعل من نفسك ميزانا »في مطلع الفكرة، كل المعاني الأخلاقية التي وردت ضمن الفكرة، في جمل قصيرة ذات تعبيرين متقابلين، مثلهما في ذلك مثل كفتي الميزان في تعادلهما.

وعنصر الاجمال والتفصيل ذاك من العناصر الأساسية التي يعول عليها أي مفكر أو معلم في ابلاغ وجهة نظره، وتوصيل افكاره، بتفتيقها إلى اجزاء يسهل الإلمام بها وفهم مضامينها، فهو تجزئة غير محددة مما يعني ان أسلوب التقسيم بما ينطوي عليه من محدودية، هو في حقيقته رافد من روافد الإجمال والتفصيل.

1- خصائص التقسيم في النهج:

التقسيم هو تفصيل ما تنطوي عليه العبارة المجملة إلى اجزاء معدودة ومحددة في رقم يرد في صدر العبارة المجملة، ويراد به في الغالب التعليم، ولما كان الفكر في نهج البلاغة يعمد في الأساس إلى التعليم والتبليغ، فقد تألق التقسيم في نصوصه، من ذلك ما ورد في وصف الإيمان، كما يتضح من التالي:

ص: 665


1- رسائل - 31 - فقرة 13

صورة

ص: 666

فالنص كما نلاحظ، قد بني على أربعة عناصر رئيسية وتضمن كل عنصر أربع وحدات جزئية، تركبت كل وحدة من أسلوب شرط تضمن سببا ونتيجة قائمة بذاتها، أو مرتبطة بالشرط التالي لها في سياق النص، مما اسبغ على الهيكل العام للنص ترابطا فكريا ومنطقيا فالتقسيم الرباعي من الدقة والاحكام بحيث صار مستقصيا لكل المعاني الجزئية التي اراد علي علیه السلام ابلاغها من خلاله.

وأسلوب التقسيم عند علي علیه السلام، لا يعتمد على تعداد المفردات للبلوغ بذلك غاية جمالية لأن الغاية البلاغية الجمالية، وان تجلت في روعة وبهاء، من خلال الاساليب، فإنها تأتي في مرتبة ثانية على اعتبار ان ما يرمي إليه علي علیه السلام، ابدا، هو توصيل المعاني تامة بكل شحناتها التعبيرية، فإذا كان علي علیه السلام قد استطاع بعقليته الرياضية (1) - البلوغ بالتقسيم ضمن الجمل، الغاية في تقصي الافكار، وجمع شتاتها، فإنه أيضاً قد تمكن من البلوغ به الدقة من حيث اداء المعنى أيضاً كما في قوله «يا أهل الكوفة، منيت منكم بثلاث واثنتين: صم ذوو اسماع،وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو ابصار، لا احرار صدق عند اللقاء ولا اخوان ثقة عند البلاء»(2) . فقد كان بإمكانه ان يقول: منيت منكم بخمس، بدلا من قوله (بثلاث واثنتين)، الا انه عدل عن ذلك، ليس لأمر بلاغي جمالي، ولكن - كما يتهيأ لنا من خلال فهمنا للنص - لغرض التوبيخ والتبكيت، والتفريق

ص: 667


1- قد تحدثت كثير من المصادر عن عقلية علي علیه السلام الرياضية وسرعة بديهته في الاجابة على مسائل حسابية تتعلق بالتقسيم العادل وبالإرث. راجع على سبيل المثال: الكليني - فروع الكافي 427/7 ، سبط بن الجوزي تذكرة خواص الأمة ص 115 ضمن الخطبة المعروفة بالمنبرية، كما ذكر محمد تقي التستري في كتابه: قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي اطاب ص 175 ، كثيرا من القضايا الرياضية التي أجاب علي علیه السلام عليها مشفعا ذلك بذكر المصادر والأسانيد
2- خطب - 96 - فقرة 3

بين المعاني الخَلقية والمعاني الخُلقية من خلال التقسيم، فالثلاث الأول تضمنت معان خلقية، والاثنتان تضمنتا صفتين خلقيتين، فالنظرة المتأملة في المعاني ساعة انبثاقها قد اتاح لها خصوصية التقسيم بما يناسبها.

ومن أبرز خصائص أسلوب التقسيم في النهج، انه يمثل جانبا من الانسجام الفكري الذي تتسم به نصوصه بشكل عام، فبإمكان الدراس من خلال تتبعه لعناصر التقسيم ضمن نصوصها، ان يلم بجوانب عديدة من ذلك الفكر العلوي. فأسلوب التقسيم الساخر، في قوله ضمن كتاب له لشريح القاضي «... هذا ما اشترى عبد ذليل من عبد قد ازعج للرحيل اشترى منه دارا...

وتجمع هذه الدار حدود اربعة: الحد الأول ينتهي إلى دواعي الآفات والحد الثاني ينتهي إلى دواعي المصيبات، والحد الثالث ينتهي إلى الهوى المردي، والحد الرابع ينتهي إلى الشيطان المغوي»(1) . هو تعبير عن الجانب الزهدي في فكره، كما ان أسلوب التقسيم في الشاهدين اللذين سبقا شاهدنا هذا هو في الأول منهما تعبير عن مفهوم الإيمان وفي الثاني تعبير عن مفهوم حسن الطاعة والوفاء والصدق، بذكر المقابل. فالغاية الجمالية من التقسيم في أسلوب علي علیه السلام تنبثق عفوية في النصوص، لأن المعاني والافكار ضمن الجمل هي غاية علي علیه السلام السياسية.

2 - خصائص الاعتراض في النهج:

ننفق جل كتب النحو والبلاغة على تعريف الاعتراض بأنه «كلام في كلام لم يتمم معناه، ثم يعود إليه فيتممه»(2) . وهناك ثمة فروق بين نظرة النحوي وبين

ص: 668


1- رسائل - 3- فقرة 3
2- ابن المعتز - البديع ص 59 . ويمكن مراجعة تعريف الاعتراض ووضعه وقيمته الجمالية عند كل من: ضياء الدين بن الأثير المثل السائر 3/ 40 . السلجماسي المنزع البديع ص 449 . نجم الدين بن الأثير جوهر الكنز ص 108

نظرة البلاغي إلى الاعتراض يمكن مراجعتها في مظانها (1) ، على ان الذي يلفت النظر في وضع الاعتراض، اعتباره فرع من فروع علم البديع عند جل البلاغيين القدامى، واقتصار دراسة وضعه في الشعر باعتبار قيمته الجمالية (2) ، الا اننا نعتقد ان القيمة الايحائية للاعتراض هي التي تمنحه القيمة الجمالية، لأن الغاية الجمالية في النصوص النثرية الملتزمة تأتي في مرتبة تالية لفحواها الفكري، مما يحدو بنا إلى عدّ الاعتراض، وان قلت نسبته، والتقسيم قبله، من خصائص كلام علي علیه السلام، لأن الجمل الاعتراضية ضمن سياقات نصوص النهج هي بمثابة الاشعاعات الكاشفة والمؤكدة لجوانب عديدة من فكر علي علیه السلام، فالاعتراض في قوله ضمن جواب على رسالة من اخيه عقيل: «ولا تحسبن ابن ابيك/ ولو اسلمه الناس/ «متضرعا متخشعا»(3) قد أورده علي علیه السلام ضمن السياق ليحمله معاني الاصرار والثبات على المبدأ في كل الاحوال وتحت أية ظروف مما يتناسب تماما ونهجه الفكري، لذلك فإن الاعتراض ضمن كثير من النصوص لا يقتصر على مفردة أو جملة، إذ قد يستوعب من النص مساحة تقدر بجمل عدة، يحاول علي علیه السلام من خلال آدماجها في نسيج النص إلى ربط اجزاء الفكرة التي يتضمنها ذلك النص بغاية توضيح كل جوانبها، من غير اخلال ببنيته الفنية، من ذلك ما ورد من اعتراض بين القسم وجوابه في قوله: «فو الله لو حننتم حنين الوله العجال/.../ «لكان قليلا فيما

ص: 669


1- راجع السابق
2- السابق
3- رسائل - 36 - فقرة 3

أرجو لكم من ثوابه»(1) ، فقد ادرج بينهما سبع جمل متعاطفة، بغاية تأكيد القسم وتوضيح جوانب الفكرة الكامنة فيه، التي لا يمكن ادراكها الا من خلاله، وان كانت العبارة تامة من حيث البناء النحوي.

ومن ذلك أيضاً في مجال الربط بين الشرط وجوابه في قوله «هو القادر الذي إذا ارتمت الأوهام لتدرك منقطع قدرته /.../ ردعها وهي تجوب مهاوي سدف الغيوب»(2) ، فقد ادرج بينهما عبارة مركبة من اربع جمل ضمنها ما في وسعه من معاني عجز الإنسان عن معرفة كنه الخالق ومدى قدرته، مما جعل تلك الجمل ملتحمة من حيث اداء المعنى التحاما تاما ومتجانسا بالنص على أساس توكيد معانيه وايضاح ما غمض منها، بمحاولة تبصير المستمع بمحدودية قدرته إزاء قدرة خالقه، هذا علاوة على الانسياب السهل والبسيط لتلك الجمل في نسيج النص، دون الشعور بأنها معترضة، الا بعد تأمل في السياق، لأن اندماجها في البناء الفكري يزيل عنها أية احساسات نفسية توحي بالانتقال الفجائي في أثناء القراءة أو السماع. فخاصية اندماج الجمل المتعاطفة في سياق الاعتراض من المميزات البارزة التي عول علي خطب - 83 عليه لتوضيح فكره واجلاء الغموض عنه، ويرجع ذلك لإحساسه الدقيق بقيمة الاعتراض في توجيه المعاني الوجهة التأثيرية المناسبة، الأمر الذي جعل له ثراءه المعنوي في سياقاته المختلفة عنده.فقد يرد الاعتراض في سياق النص متضمنا معنى الشرط المقرون فحواه

ص: 670


1- خطب - 52 - فقرة 2. الوله: جمع واله، كل انثى فقدت ولدها. والعجال: من الابل التي فقدت ولدها
2- خطب - 9- فقرة 2. ارتمت الاوهام: انطلقت في خيالاتها. ومنقطع الشيء: منتهاه. وردعها: ردها. والمهاوي: المهالك. والسدف: بضم السين وفتح الدال المهملة، جمع سدفة وهي القطعة من الليل المظلم

بالتهديد إذا لم ينقذ، كما في قوله لأهل الشورى، بعد ان زويت عنه الخلافة بمبايعة عثمان «والله لأسلمن ما سلمت امور المسلمين/ما لم يكن فيها جور الا «علي خاصة/التماسا لأجر ذلك وفضله»(1) فقد ورد الاعتراض (ما لم يكن...) ليربط قبول علي علیه السلام وتسليمه بشرط بقاء حقوق كافة المسلمين مصانة وفي مأمن من الجور والظلم، ولو كان ذلك على حساب هضم حقه الخاص كفرد، وسيبقى كافا يده ولسانه، ما بقيت تلك الحقوق مصانة.

كما قد يرد الاعتراض في سياقات نصوص النهج المختلفة متضمنا معنى الاستثناء والقصر، من ذلك «أيها الناس، اياكم وتعلم النجوم/الا ما يهتدى به في بر أو بحر/ فإنها تدعو إلى الكهانة»(2) ، فالاعتراض في (الا ما يهتدى به...) قد ورد في السياق مستثنى من علوم النجوم الغيبية المعتمدة على الكذب والشعبذة، لكونه علما له اصوله وقواعده الفكرية.

ويأتي الاعتراض ضمن نصوص النهج أيضاً تلافيا للبس قد يصيب الجملة التي يرد فيها وهو ما يطلق عليه بعض البلاغيين مصطلح الاحتراز والاحتراس(3) ، من ذلك ما ورد في قول علي علیه السلام ضمن تفنيده لزعم عمرو بن العاص بأنه ذو دعابة «لقد قال باطلا، ونطق آثما، أما/ وشر القول الكذب/ انه ليقول فيكذب، ويعد فيختلف...»(4) ، فقد جاء الاعتراض (شر القولالكذب) ليكشف عن القيمة الحقيقية للكذب كعنصر من عناصر الرذيلة التي

ص: 671


1- خطب - 73
2- خطب - 78 - فقرة 2
3- راجع - جواهر الكنز السابق ص 128
4- خطب - 83

تمجها النفس الشريفة لأنها تثلم الخلق، وتنقص من مكانة الفرد، احترازا من عدّه دهاء وسياسة وحيلة يفتخر بها.

كما يورد علي علیه السلام أسلوب الاعتراض ضمن السياق محملا اياه معنى التعليل، من ذلك قوله في رسالة لعامله على البصرة عثمان بن حنيف «... ولكن هيهات ان يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الاطعمة/ ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع/او ابيت مبطانا وحولي بطون غرثى»(1) ، فبالإضافة إلى الدقة في إدماج أسلوب الاعتراض ضمن السياق التعبيري، وتعذر ملاحظته إلا بتأمل دقيق، فإنه قد ورد في نسيج النص ليبين السبب الذي يحول بين علي علیه السلام وبين تخيره للأطعمة، وتمرغه في الملذات، مع قدرته على ذلك، وذاك بالطبع هو أسلوب تفكيره قولا وعملا.

وفي سياق تداعي الافكار، قد يعمد علي علیه السلام إلى الاستدراك بالجملة الاعتراضية، مفصلا اياه على الاستدراك ب- (لكن) لما في ذلك من قيمة تأثيرية في مجرى الاسلوب، فضمن تناوله لموضوع التجار، واهميتهم بالنسبة للمجتمع، في عهده الذي كتبه للأشتر، وبعد ان اوصاه خيرا بهم، يقول له متابعا الكلام فيهم «واعلم/ مع ذلك/ ان في الكثير منهم، ضيقا فاحشا، وشحا قبيحا، واحتكاراً للمنافع»(2)، فقد استدرك بشه الجملة (مع ذلك) ما قبلها من كلام، حتى لا يأخذ الاشتر معاني مدح التجار على عواهنها فيترك لهم الحبل على غاربه.

فانبثاق الجملة الاعتراضية ضمن نسيج النهج ترد طواعية لحاجة ملحة يفرضها البناء الفكري، مما يسمها بالثراء من حيث علاقتها بالمعاني والاندماج

ص: 672


1- رسائل - 45 فقرة 2. والمبطان: المتخم، المملوء البطن. والغرثى: الجائعة الخالية من الطعام
2- رسائل - 53 - فقرة 24

التام في نسيج النصوص من حيث البناء الاسلوبي، المعتمد على خصوصيات التكامل، والترابط والتفاعل، فيما بين التعابير وتسلسلها الفكري في توصيل المعاني، مما يحدو بنا إلى النظر في كيفية استخدام علي علیه السلام لعمليتي الفصل والوصل الاسلوبيين.

3 - خصائص الفصل والوصل في أساليب نهج البلاغة:

يعد البلاغيون الفصل والوصل، أصل البلاغة (1) ويعرفونه بأنه «العلم بما ينبغي ان يصنع في الجمل من عطف بعضها على بعض، أو ترك العطف فيها والمجيء بها منثورة تستأنف واحدة منها بعد الاخرى (2) ، أي انه سلوك المفكر والاديب للطريق الامثل في التعبير عن الأفكار ونشرها، مما يجعل لكل متفرد فذ، سمات أسلوبية، فكما ان لكل انسان أسلوبه المميز في العيش والتعامل، فإن لكل متكلم طريقته الخاصة في التعبير عن آرائه ونمطا معينا يلتزمه في نظام تكوين الجملة وترابط اطرافها. وبناء عليه فإن لاندماج الجملة في سياق نصوص نهج البلاغة خصائصها التي تميزها، وتطبعها من حيث الفصل والوصل بطابع يدل في مجمله، على توحد هندسة تنسيقها، لصدورها من مجرى نفسي واحد، ملتزم بنظام معين، يكاد يهيمن بإحكام متميز على جل جمل النهج وتعبيراته في بنية نصوصه، مهما بلغ طولها، لإحساس مبدعها في أثناء عملية الإبداع بمواضع تأثير العطف والقيمة النفسية والبلاغية للعدول عنه بالاستئناف، إذ يسعى علي علیه السلام

ص: 673


1- راجع: أبو هلال العسكري كتاب الصناعتين ص 438 . عبد القاهر الجرجاني دلائل الاعجاز ص 170 ، العلوي - الطراز 2/ 32 وقد اجتزأنا التعريف من كتاب عبد القاهر الجرجاني. الصفحة نفسها
2- راجع السابق

في بنائه للجمل إلى التناسق النسبي فيما بينها في أثناء أدائه للفكرة الجزئية التي عادة ما تكون - وفي كثير من الأحيان متميزة بالفصل، أي بالاستئناف، من دون الاعتماد على حرف عطف بينما تتواصل جمل تلك الفكرة الجزئية فيما بينها بحروف العطف مبلورة إياها، مثال ذلك قوله «شُغِلَ من الجنة والنار أمامه ساع سريع نجا، وطالب حثيث رجا، ومقصر في النار هوى اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة، عليها باقي الكتاب، وآثار النبوة، ومنها منقذ السنة، واليها مصير العاقبة»(1) ، فمن الملاحظ ان الفقرة قد تكونت من فرتين:

- الأولى: وفحواها تصنيف الناس بحسب عملهم الذي يوصلهم إلى الجنة، وقد ساقها علي علیه السلام ضمن نسيج الخطبة دونما عطف أو حتى استئناف، ثم انه في بداية تفكيكها لتصنيف الناس من خلال جملها، جعل تلك الاصناف تنساب داخل الفكرة من دون أن يشعرنا بالتقسيم لاعتماده على الاستيحاء المعنوي الكامن في فحوى الجملة الأم التي جاءت لتُجمل الأصناف من خلال مصيرهم بين جنة ونار، ثم تجزأت إلى الأصناف التي تحتم عليه ربط بعضها البعض بواو العطف، لاشتراك الثلاثة بالاشتغال، بغض النظر عن المصير، فالفصل قد استوعب مطلع الفكرة ثم صدر تجزئتها، كما ان الوصل قد ربط جملها المتساوية نسبيا المبينة لاختلاف المصير.

- الثانية: فحواها طريق النجاة، وهي فكرة متممة لما تضمنته سابقتها من تصنيف للناس، لأنها تبيان للطريق الذي يجب ان يعرفه أولئك الاصناف الثلاثة ليؤدي بسالكه إلى النجاة، وهي المتمثلة في قوله «اليمين والشمال مضلة، والطريق الوسطى هي الجادة»ومن الملاحظ ان عليا علیه السلام لم يربطها بسابقتها بحرف

ص: 674


1- خطب - 16 - فقرة 2

عطف، لأن استشعاره بدقة خصائص اللغة قد اتاح للفكرة الارتباط من خلال المجرى النفسي من دون اللجوء إلى استخدام الرابط اللغوي فالتصنيف الثلاثي في الفكرة الثانية مرتبط ومندمج - من حيث الغرض - مع تقسيم الفكرة الأولى مما جعلهما تتواشجان من دون الحاجة إلى رابط لغوي، الا ان التصنيف داخل الفكرة الثانية قد ورد مفصلا باستخدام الوصل، لأن الجمل الجزئية قد سلك بها علي علیه السلام طابع التفريق من حيث البناء الاسلوبي في مطلع الفكرة فيما بين طريقي الضلال، وطريق الهدى المتوسط بينهما المرتبط بالمعاني الكامنة في حروف الجر (عليها، منها، إليها) مما حتم الوصل. فلو اردنا تحليل تراكيب معظم نصوص نهج البلاغة بقصد تتبع الفصل والوصل فيها لرأينا أنها تتخذ الشكل التالي:

ص: 675

صورة

فإذا ما أخذنا تنسيق الجمل ضمن النص السابق كمثال لما عليه تنسيقها في معظم النصوص الواردة في نهج البلاغة، فسنجد ان تلك النصوص تعتمد في هيكلتها الداخلية على دعامات ثلاث اساسية هي:

1- إن الأفكار الجزئية داخل تلك النصوص تترابط فيما بينها على الفصل في معظم الحالات، فلا يلجأ علي علیه السلام إلى الوصل باستخدام العطف في انتقاله من فكرة جزئية إلى فكرة جزئية أخرى الا في القليل النادر، إذ يعمد في الربط بين الأفكار على العوامل النفسية كعنصر فعال في جذب الاسماع وتوجيه العقول، بقصد التأثير فيها. وتوصيل أكبر قدر من شحنات الإقناع إليها.

2 - التناسب في عدد الجمل ضمن الأفكار الجزئية المتفاصلة في أغلب الأحيان، فكما نلاحظ في المخطط السابق أن كل فصل أسلوبي قد احتوى على جملتين متواصلتين، وقد تزيد الجمل في العناصر الفكرية المتفاصلة، مع تساويها

ص: 676

في العدد ضمن تتابع تلك العناصر في معظم الاحيان.

3 - تناسب عدد كلمات الجمل المتواصلة فعطف الجمل على بعضها البعض ضمن الفكرة يمنحها خاصية التناسب في عدد المفردات.

وتكاد الخصائص الثلاث تلك تنجر على معظم ما ورد في النهج من خطب ونصوص أخرى تندرج في عداد الخطب، كالوصايا والأدعية وجانب كبير من رسائل الوعظ، الا ان هناك نصوصا قد تختلف في تناسق افكارها من حيث تناسب عدد الجمل، مع ابقاء خاصية تناسب عدد المفردات في الجمل المتعاطفة، بقدر يمكننا عدّها معلما أسلوبيا بارزا يدل على التوحد الاسلوبي في بنية نصوص نهج البلاغة بشكل عام، ويمكن ملاحظة تلك الخاصية، في كثير من فقرات العهود والرسائل التي تعمد عادة إلى أسلوب تحليل الأفكار تحليلا فكريا يتطلب في كثير من المواضع فقرات طويلة، بجانب عبارات قصيرة، بسبب احتلال العاطفة مركزا ثانويا في مثل تلك النصوص، بينما يحتل العنصر النفسي مركزا رئيسيا في حفز الكملة على التأثير في الخطب والوصايا، مما يتطلب التركيز في فحوى الجمل على التتابع السريع المؤثر، لتنطلق بشحناتها التأثيرية المتناسقة المتناغمة من اعماق الخطب مباشرة إلى أعماق قلب المستمع بمعان مؤثرة في كلتا حالتي الرضا والسخط والسرور والحزن. ولن يتأتى ذلك إلا من خلال معرفة أكيدة بأساليب اللغة والتحكم في توجهها الوجهة المناسبة وذلك ما نطمح إلى دراسته في التالي:

4 - الإحكام في نوع الأساليب:

إن النظر في فحوى الجلمة التأثيري ضمن سياق نهج البلاغة، ينطلق أساسا من تشكلها كأداة تعبير عما يصطرع بداخل علي علیه السلام من آمال وآلام، في أثناء

ص: 677

عدّها عن الفكرة الكامنة فيها بكل ملابساتها، أي انها في ذات الوقت الذي تكون فيه بوتقة لتشكيل الفكرة واخراجها إلى حيز الواقع في كلمات، فإنها أيضاً تتضمن تعبيرات دقيقة عما يكتنف تلك الفكرة من جوانب تعبيرية نفسية تتعلق بالأداء في مختلف اشكاله. فالجملة بانسيابها في النص لا تعني ابلاغ معنى، أو شرح موقف فقط، بل تحاول من خلال سياقها النفسي الذي عادة ما يكون ممتزجا بالسياق الاسلوبي، ان تعضد الابلاغ ببثها في عناصره نفحات من الحرارة والصدق، متغلغلة في جزيئات التعابير بتؤدة وهدوء تارة، وبتدفق وحماس تارة ثانية، وبانفعال وتبرم وغضب تارة ثالثة، وفي كل المواقف تبقى العبارات صامدة وقوية وامينة في ادائها للمعاني، وتبلغيها الافكار، بالتنقل بها حسب ترددات النفس بين أمر واستفهام، ونداء وتعجب ، وإنكار واخبار، يمكن للسامع أو القارئ ان يدرك مراميها ويتفاعل معها. فقول علي علیه السلام«انما كنت جارا جاوركم بدني اياما، وستعقبون مني جثة خلاء ساكنة بعد حراك، وصامتة بعد نطق، ليعظكم هدوئي، وخفوت إطراقي، وسكون أطرافي، فإنه اوعظ للمعتبرين من النطق البليغ والقول المسموع، وداعي لكم وداع امرئ مرصد للتلاقي،غدا ترون ايامي، ويكشف لكم عن سرائري، وتعرفونني بعد خلو مكاني وقيام غيري مقامي»(1) ، يسري فيه الهدوء المفعم بالأسى، فالفكرة ضمن جمل النص لم ترد لمجرد اخبار عن معاناة، ولكنها أيضاً تشيع في نفس السامع والقارئ تلك المعاناة بتركيب الجمل في سياقات تتفق وترددات القائل في أثناء اندماجه في الموقف، فتداخل الزمن بين ماض في (انما كنت جارا جاوركم بدني اياما) ومستقبل في (وستعقبون مني جثة خلاء ساكنة) هو في حقيقته اخبار

ص: 678


1- خطب - 149 - فقرة 2. وخلا: خالية من الروح. والخفوت: السكون. والأطراف: الأيدي والرأس والأرجل. ومرصد: منتظر

عن لزوم الفائدة، بوصف الموت بكل ابعاده الزمنية والتركيز على ما يحويه من مضمون عملي مشاهد، قد يتعظ به المتأمل فيه وقد وردت جملة الأمر في (ليعظكم هدوئي...) بمثابة النقلة النفسية والمتكأ الفكري الذي يرمي المحتضر إليه، ليتسنى له من خلال ذلك الوصول بمستمعه، لما كان عليه وجوده من قيمة لن يعرف أهميتها معاشره ومخالفه، الا بعد فقده ولات حين ندم.

أما الهدوء المنساب في «اللهم صن وجهي باليسار، ولا تبذل جاهي بالإقتار، فاسترزق طالبي رزقك، واستعطف شرار خلقك، وابتلى بحمد من اعطاني، وافتتن بذم من منعني وانت من وراء ذلك كله، ولي الاعطاء والمنع، انك على كل شيء قدير»(1) هو تبتل فيه شموخ وكبرياء، وعزة نفس تأبى الخضوع وتصارع الخنوع الا للخالق سبحانه، وقد ورد أسلوب الأمر في نسيج الدعاء معبرا عن خضوع نفس مؤمنة بخالقها، ترى السعادة في فضل عطائه، والنأي بالنفس من التذلل لغيره، مما احال هدوء النص إلى ترنيمات اضفى عليها تمازج الانشاء بالخبر نفحات مطمئنة، سعيدة في احضان الرضا وفي كنف الإيمان الصادق الذي نحسه من خلال العبارات.

أما التعبير في «الحمد لله وإن أتى الدهر بالخطب الفادح والحدث الجليل...

أما بعد فإن معصية الناصح الشفيق العالم المجرب، تورث الحسرة، وتعقب الندامة، وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة امري، ونخلت لكم مخزون رأي، لو كان يطاع لقصير أمر»(2)، بالإضافة إلى ما ينطوي عليه من لوم، فإنه مغلف

ص: 679


1- خطب - 222- . وصن وجهي: احفظه من التعرض للسؤال. واليسار: الغنى ولا تبذل جاهي: لا تسقط منزلتي من القلوب. الاقتار: الفقر
2- خطب - 35- . الخطب الفادح: الأمر الشديد الثقيل. والحدث:- بفتح الحاء والدال المهملتين. الحادث: ويقصد به هنا ما اصدره الحكمان من حكم في دوبة الجندل

بهدوء مجلل بألم المؤمن الصابر في حالة الاخفاق فالعبارة وإن انطوت على شعور بالخيبة، الا ان بروز الجملة الدعائية في مطلعها، قد منحها بعدا إيحائيا ينطوي على معنى الصبر، واللوم بسبب العصيان في آن واحد الذي جسدته جملة التمثيل (لو كان يطاع لقصير امر)، وقد أضفى عليها موقعها الإعتراضي بين جملتين خبريتين تلك المعاني المشبعة بالعتاب والتأسف لامتناع الكامن في لو المتصدرة جملة الاعتراض تلك.

أما قول علي علیه السلام في رده على أولئك الذين ناقشوه بشأن رفضه التحكيم في بداية الأمر والتمسك به بعد توقيع المعاهدة والمتمثل في «هذا جزاء من ترك العقدة، أما والله لو اني حين أمرتكم به حملتكم على المكروه الذي يجعل الله فيه خيرا، فإن استقمتم هديتكم وإن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم، لكانت الوثقى، ولكن بمن والى من، أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة؟، وهو يعلم أن ضلعها معها، اللهم قد ملت أطباء هذا الدوي، وكلت النزعة بأشطان الركي، اين القوم الذين دعوا إلى الإسلام فقبلوه، وقرأوا القرآن فاحكموه؟»(1) . فتتراوح جمله في تعبيراتها، بين السخط

ص: 680


1- خطب - 120 -. العقدة: ما حصل التعاقد عليه من محاربة الخارجين عند البيعة حتى يكون الظفر أو الهزيمة. والضلع: - بفتح الضاد المعجمة وتسكين اللام الميل والقول مأخوذ من المثل العربي «لا تنقش الشوكة بمثلها، فإن ضلها معها » أي لا تستعن في حاجتك بمن هو للمطلوب منه الحاجة انصح منه لك. الميداني مجمع الامثال 3/ 182 . ونقش الشوكة: أخراجها من العضو الداخلة فيه. والدوي: المؤلم الشديد، والأصل الداء الدوي وقد أقام الوصف مقام الموصوف. وكلت: ضعفت. والنزعة: جمع نازع وهم الذين يغترفون من الآبار. والأشطان: جمع شطن وهو الجبل. والركي: مفرده ركية: البئر تحفر، وفسر محمد عبده العبارة «اي ضعفت قوة النازعين لمياه المعونة من آبار هذه الهمم الغائضة الغائرة»شرح النهج ص 229 ، ط، الاندلس

والغيظ والاسى، فالأسف والندم على عدم النزوع إلى موقف حازم مستبد، قد ورد ضمن الاساليب الخبرية ضمن جمل الصدر، كما وردت الاساليب الانشائية في السياق مجسدة معاني الأسى والتعجب والإنكار الكامنة في أسلوب الاستفهام الذي حاول علي علیه السلام من خلاله تجسيد التناقض الفكري الذي يعيشه رجاله في مواقفهم من سياسته الدينية، ومن ثم التحول بمجرى الأسلوب إلى الاستغاثة والتبرم من واقع أولئك الذين يطارحهم المناقشة، ومحاولة الانفلات من ذلك الواقع ببث الأسلوب شوقه من خلال الاستفهام الذي يحمل معاني المقارنة بين ما يتوق إليه من رجاله، وبين ما يعتصر قلبه من الم سببه تماديهم في العناد والاصرار على الخطأ عن جهل. فسياق الجمل وان بدا عليه مظهر المناقشة بالأخذ والرد، الا انه ينطوي على معاناة لا متناهية، وصرخات مكبوتة ومشحونة بالغضب.

والتواشج بين الفكر وبث الحياة في التعبيرات، قد يصل إلى الذروة عند علي علیه السلام، بمزجه الاساليب الخبرية بالإنشائية مزجا متلاحما، تكاد ومضات الفكر تتلاشى فيه تحت وقع الانفعال، الا ان تمكن علي علیه السلام من الاخذ بزمام الكلمة، بسلس من قيادها، فتبقى نابضة بالفكرة مع ما يكتنفها من انفعال حاد، كما في قوله موبخا أصحابه «ما بالكم؟ ما دواؤكم؟ ما طبِّكم، القوم رجال أمثالكم، أقولا بغير علم، وغفلة من غير ورع، وطمعا في غير حق»1(1) . فأساليب الاستفهام الثلاثة الأولى المتتالية في السياق، تعني استحالة تقويمهم واستعصاء هدايتهم، ثم قوله (القوم رجال امثالكم) توبيخ وتنبيه اكتسى صيغة الاستخبار بقصد الاستنهاض والتهوين من قيمة العدو، تلاه عوده إلى استفهامات ثلاث

ص: 681


1- خطب - 29

انطوت على معاني الانكار والتوبيخ، كل ذلك في سبيل بث الحمية في النفوس وارجاع الثقة إليها، فالفكرة وان غلب على تعبيراتها الانفعالات النفسية فإنها أيضاً تنطوي على تأملات داخلية في حنايا النفس تحث على معرفة الذات وتقييم المقام. فالفكرة يتسلل في عباراتها على شكل ومضات نفسية تحفز المستمع على التجاوب المتزن.

وحين اقترح عليه بعض أصحابه العمل بالمفاضلة في توزيع المال من أجل كسب الرجال للبلوغ بهم إلى النصر، رد عليهم قائلا «أتأمروني أن اطلب النصر بالجور فيمن وليت عليه؟ والله لا أطور به ما سمر سمير، وما أمَّ نجم في السماء نجما، لو كان المال لي لسويت بينهم، فكيف والمال مال الله؟ ألا وإن إعطاء المال في غير حقه تبذير واسراف » (1) . فلقد كان في إمكان علي علیه السلام ان يعبر عن وجهة نظره الرافضة بأسلوب مباشر، ولكنه ترك ذلك حين بث الاستفهام معاني التعجب والإنكار إزاء ذلك الاقتراح المنطوي على اجحاف بحقوق الفقراء والضعفاء من الناس، تلا ذلك بقسم مؤكد، بقصد توضيح موقفه الفكري الثابت الذي لا يحيد عنه ابدا تحت أية ظروف، ومهما كان حجم المغريات التي سيجنيها لو تزحزح عنه قليلاً، ثم ان أسلوبي الخبر والانشاء اللذان تليا القسم في السياق، قد ابانا نظرته الإنسانية إلى المال، بحيث يمكننا ملاحظة أساليب التعبير في الفكرة بتنقلها من استفهام إلى قسم، ثم إلى أسلوب خبري فاستفهام فخبر مؤكد، كل ذلك بغاية تجسيد الأفكار وصبغ تعبيراتها بالقيم الروحية حتى تتقبلها الذات في صيغة مبدأ أخلاقي ثابت ومقنع ومؤثر.

وفي نقده المجتمع وكشف عيوبه يقول علي علیه السلام«اضرب بطرفك حيث شئت

ص: 682


1- خطب - 126- . ولا اطور به: أي لا أمر به ولا اقاربه. وما سمر سمير: مدى الدهر

من الناس، فهل تبصر الا فقيرا، أو غنيا بدل نعمة الله كفرا، أو بخيلا اتخذ البخل بحق الله وفرا، أو متمردا كأن بأدنه عن سمع المواعظ وقرا؟ اين خياركم وصلحاؤكم؟ واين المتورعون في مكاسبهم والمتنزهون في مذاهبهم؟ اليس قد ظعنوا جميعا عن هذه الدنيا الدنية، والعاجلة المنغصة؟ وهل خلفتم الا في حثالة لا تلتقي بذمهم الشفتان استصغارا لقدرهم»(1) . فالملاحظ ان أساليب الانشاء، وبخاصة الاستفهام منها قد أخذت بتلابيب الفكرة بأكملها إذ بدأت بأسلوب الأمر (اضرب) بغاية التنبيه والكشف، ومن ثم ورد الاستفهام بقصد فضح العيوب الاجتماعية، ولفت النفوس إلى خطر استفحالها، تلاه استفهام ثان ب- (أين) بقصد الاستبعاد، واستفهام ثالث ب- (ليس)، الغرض منه الحنين والتأسي واستفهام رابع يحمل معاني التحقير والذم، إذ يمكن للمتأمل ان يكشف ضمن الفكرة النقدية تلك معاني التأمل والنصح والحنين والتبرم، مما احال النقد ضمن النص إلى خلجات انسانية متنوعة الانفعالات متوحدة في صدورها من نبع فكري واحد غايته الإنسان وسعادته.

فبالنظر في فحوى نصوص نهج البلاغة، لن نعدم في كل نص منها نبضات روحية ممتزجة بالفكر، مضفية عليه الحيوية والتدفق، لأن كل تلك النصوص تحمل فكرة واحدة ثابتة محورها الإنسان وعلاقته بربه، وتفاعله في مجتمعه، وما ينطوي عليه ذلك التفاعل من حقوق وواجبات في ظل مجتمع آمن، فالفكرة بتنقلها في أساليب اللغة المختلفة ضمن نسيج النصوص، هي تعبير عن حال الإنسان في كل مراحله الحياتية، وعن علاقاته بمن حوله من حيث الأخذ والعطاء، فالذاتية التي صبغت كثيراً

ص: 683


1- خطب - 129

من نصوص النهج، بتعبيرها عن آلام قائلها وقلقه وتبرمه وغضبه، ورضاه وسروره، ليست الا تعبيرات موضوعية، غايتها الإنسان وهذه التعبيرات إذا ما نظرنا إلى فحواها الفكري مقرونا بالعوامل النفسية ضمن مناسباتها سنجد انها في مجملها تشكل عنصرا من عناصر توحد بنية النهج، كنص صادر عن أسلوب فكري واحد في مجرى نفسي واحد.

ب - الأحوال والجمل الحالية وخصائصها في نصوص النهج

تكاد كتب البلاغة العربية تفتقر إلى تعريف بلاغي للحال، كما ان التعريف النحوي لا يفي بالغرض في مجال دراستنا، لكونه توظيفا للوضع التركيبي، ولكن بالإمكان استعارة التعريف الصوفي القائل بأن الحال «تركيب طبيعي معين فعال، هو باطن في مقابل القول»(1) . إذ يمكننا تعريفه ادبيا على انه تصوير لانفعالات داخلية، يمكن للأديب الفذ تجسيدها بالكلمة، ولما كانت جل نصوص نهج البلاغة تعالج جوانب انسانية مختلفة لقد منحت الاحوال والجمل الحالية سياقاتها ابعادا تأثيرية عميقة، مما اتاح لها ان تتبوأ مكانة بارزة في تلك النصوص، وفي باب الخطب والمواعظ خاصة، فقد تمكنا من احصاء ما يقارب من مئة واحد عشر حالا وجملة حالية في ستة وثلاثين نصا من باب الخطب (2)، وقد حوى احد هذه النصوص وهو طويل نسبيا ما يقارب من

ص: 684


1- المعجم الصوفي - 334
2- راجع - 1- فقرة: 2، 5، 6، 7، 8. وخطب - 2- فقرة 1 وخطب 3 فقرة 1، 2، 3، وخطب 13 ، وخطب 18 ، وخطب 21 ، وخطب 22 فقرة 3، وخطب 23 فقرة 3، وخطب 25 فقرة 1، وخطب 26 فقرة 1، وخطب 33 فقرة 2، 3، وخطب 34 فقرة 1، وخطب 36 ، وخطب 37 ، وخطب 39 ، وخطب 40 ، وخطب 41 ، وخطب 42 ، وخطب 43 ، فقرة 1، وخطب 45 ، وخطب 47 ، وخطب 48 فقرة 1، وخطب 50 ، وخطب 51 ، وخطب 52 فقرة 1، 4، وخطب 55 ، وخطب 63 ، وخطب 65 ، وخطب 69 ، وخطب 74 ، وخطب 77 ، وخطب 82 فقرة 1، 4، 5، 7، 8، 10 ، 12 ، وخطب 83 ، وخطب 85 فقرة 2، وخطب 86 فقرة 1، 3، 5، وخطب 88

اربعة واربعين حالا وجملة حالية (1) ، ونعتقد ان النزوع لأساليب الحال بمثل هذه الكثرة يتناسب وموضوعات الخطب التي تعبر بجانب مضامينها الفكرية - عن حالات نفسية مختلفة من خوف وسرور وتردد وحزن ونكوص وتكبر وتواضع وهلع. ففي قول علي علیه السلام «عباد الله، الان فاعلموا، والالسن مطلقة، والابدان صحيحة، والاعضاء لدنة، والمنقلب فسيح، والمجال عريض»(2) خمس جمل حالية، معطوفة على بعضها البعض بالواو، مما يعني المشاركة فيما بينها في معنى الامكان وانتهاز الفرصة للعمل، وقد عمد الوعظ فيها على الإيحاءات النفسية الكامنة في تلك الآنية، التي قد لا يتمكن الإنسان من انتهازها حالة فواتها، فطلاقة الالسن، وصحة الأبدان، ولدانة الأعضاء، وسنوح الفرصة كلها حالات مرتبطة بحياة الإنسان الدنيوية المقترنة بزمن معين ومحدد، مما يقتضي العمل الكامن في علاقة الإنسان بربه من ناحية، وعلاقته بالآخرين من حوله من ناحية اخرى. والعلاقات تلك قبل ان يمارسها الإنسان ممارسة عملية هي في حقيقتها مستكنة في ذاته، نابعة منها، وذلك ما تتمخض به الجمل الحالية من معان في تتابعها.

ص: 685


1- راجع الخطبة 82 ويمكنك استخراج أكثر مما استخرجنا منها من جمل حالية
2- خطب - 190 - فقرة 2

وقد يعد النحويون أن الأحوال مؤكدة في قول علي علیه السلام«والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، وأجر في الاغلال مصعدا، احب الي من ان القي الله ورسوله صلی الله علیه و آله وسلم ويوم القيامة ظالما لبعض العباد»(1) ، لأنها تنطوي على معاني الالتزام، ولكن تأثيرها في سياق العبارة لا ينبع من توكيدها بقدر ما تنطوي عليه من شحنات نفسية متدفقة من اعماقه لتجسد صراعه مع الذات في سبيل المبدأ، فانسياب الاحوال والجمل الحالية في نهج البلاغة كمظهر عام من مظاهر اساليبه يعني ضمنا انتشار العناصر النفسية في جانب كبير من تلك النصوص الموجهة فكريا للوعظ والإرشاد والاستنهاض ومقاومة الظلم، والحض على الخضوع لله وحده من دون غيره من المخلوقات، لذلك كثرت الاحوال في الخطب، وقلت في باب الرسائل والعهود بسبب غلبة الجانب العقلي على معظم أساليبها.

ج- أسلوب الشرط وخصائصه في النهج

اشارة

من مميزات نهج البلاغة الاسلوبية أيضاً شيوع الأساليب الشرطية في نصوصه بكثرة فقد ورد أسلوب الشرط في مئة وستة وأربعين نصا من مجموع مئتين وأربعة وأربعين في باب الخطب، كما ورد في تسعة وأربعين نصا من جملة تسعة وسبعين نصا في باب الرسائل والعهود، وفي باب الحكم والكلمات القصار ورد الشرط في مئة واثنين وعشرين نصا من جملة اربعمئة وتسعة وثمانين نصا، وبلغ اجمالي الاساليب الشرطية في نسيج نصوص النهج تسعمائة وثلاثة وثلاثين جملة تقريبا، موزعة بحسب ادواتها كما هو مبين في الجدول التالي:

ص: 686


1- خطب - 221 . وحسك السعدان: شوك السعدان، والسعدان: نبت ترعاه الابل له شوك. والمسهد - السهران

صورة

وهذ الكم الكبير من أساليب الشرط التي وردت ضمن نسيج النهج لعب دورا اساسيا في أحكام نسيجه البلاغي، وفي قوة تعبيراته وعمقها الإبلاغي، فالشرط ضمن سياق المقولة «خالطوا الناس مخالطة، ان متم معها بكوا عليكم، وان عشتم حنوا اليكم»(1) لم يعد لمجرد الربط بين سببين ونتيجتين، بل ورد في السياق مفتقا فيه كل المعاني الإنسانية المفعمة بالحب في كل المراحل الحياتية الكامنة في الحنين إلى كل خير، وما بعد الموت الكامنة في الذكرى الطيبة التي تتأسى الإنسانية لفقدها وتتأسف، فالغاية الإبلاغية من خلال الذكرى والحنين،

ص: 687


1- حكم - 9-

قد تجسدت في الصياغة البلاغية المبنية على المقابلة بين قيمة الإنسان الخيّر في حياته وبعد مماته، مما يعني خلود معاني الحب في كل الأحوال.

والمعرفة الحقيقية لقيمة الخير والحب، لا يمكن إدراكها بجلاء، إلا من خلال التمعن في مناقضها أو مقابلها، وهو ما يرمي علي علیه السلام إليه في أسلوب الشرط المضمن قوله «لن تعرفوا الرشد حتى تعرفوا الذي تركه، ولن تأخذوا بميثاق الكتاب حتى تعرفوا الذي نقضه ولن تستمسكوا به حتى تعرفوا الذي نبذه»(1) فالتقابل بين جزئي أساليب الشرط في العبارة هو توضيح بالتأمل في حقيقة المعرفة التي يريد علي علیه السلام تبصير أصحابه بها، وقد ورد الشرط في السياق موضحا إياها في عبارات تأملية مبنية على الفكر التعليمي الآخذ بنظرية التقابلفي كشف الحقائق وتوصيل المعلومات، إذ أن وصف خصائص اللون الأبيض، لا يمكن أن يدركها المتعلم إدراكا حسيا، إلا بمقابلتها بخصائص اللون الأسود المقابل لها، فالشرط من الأساليب الأساسية التي اعتمدت عليها نصوص النهج في توصيل الأفكار، وقد تميز في سياقاتها المختلفة بخصائص أربع، إثنتان تتعلقان بالمعنى، وإثنتان تتعلقان بالشكل:

1 - التقابل:

كثيرا ما يورد علي علیه السلام أسلوب الشرط مبنيا على التقابل الذي يرمي من ورائه إلى التعليم وكشف الحقيقة التي هو بصدد التحدث فيها، ويرد التقابل في جملة الشرط ضمن نصوص النهج على نمطين:

الأول: التقابل في أسلوب شرطي واحد، بين الشرط وجوابه، كما جاء في

ص: 688


1- خطب - 147 - فقرة 4

وصف الدنيا «ان جانب منها اعذوذب واحلولى، أمر جانب فأوبى»(1) ، فقد ورد التقابل في العبارة بين (اعذوذب واحلولى) في الشرط، وبين (أمر جانب فأوبى) في الجواب. وعادة ما ترد مثل هذه المقابلات في أسلوب الشرط الواحد في النهج، لغرض توضيح الوجهين الحقيقين للشيء الواحد، فالدنيا التي عرض لها النص، لها وجه جميل قد يسعد الإنسان به ولكن لابد ان يعرف أيضاً ان للدنيا وجهاً آخر قبيحاً، ينطوي على الشقاء والبؤس والعذاب وبمعرفة الإنسان للوجهين يدرك حقيقتها التي تمكنه من التأقلم مع كلا وجهيها.

الثاني: التقابل بين جملتين شرطيتين متعاطفتين في سياق واحد، من ذلك ما جاء ضمن رسالة علي علیه السلام إلى أهل الكوفة يستحثهم على القدوم إليه عند مسيره إلى البصرة «واني اذكر الله من بلغه كتابي هذا لما نفر الي، فإن كنت محسنا اعانني، وان كنت مسيئا استعتبني»(2) فقد قابل بين جملتي الشرط بغرض الموازنة العقلية بين مسلكين من دون اللجوء إلى تحكيم العاطفة والجري وراء الهوى، مما يعني تضمن كل شرط قائم بذاته حكما مقابلا وهي خصيصة تكاد تكون شائعة في جل جمل الشرط المتعاقبة الواردة في نصوص النهج.

2 - توظيف أساليب الشرط في النصوص

للتعبير عن خلجات النفس الإنسانية المختلفة من أسىً وغيظ، كما في قوله ضمن تقريعه لأهل الكوفة «ماهي الا الكوفة، اقبضها وابسطها ان لم تكوني الا

ص: 689


1- خطب - 110 فقرة 1. وأوبى: صار كثير الوباء
2- رسائل - 57 -. واستعتبني: طلب مني العتبى أي الرضا أي أن أرضيه بالخروج عن طاعتي

أنت - تهب أعاصيرك، فقبحك الله»(1) ، فأسلوب الشرط (إن لم تكوني...) قد عبر عن حالة انفعالية غاضبة مشحونة بالأسى.

وهدوء مشوب بالحزن ضمن التنبؤات المستقبلية، كما في قوله ضن اشادته بالرسول صلی الله علیه وآله وسلم وآل بيته علیهم السلام«فإذا انتم النتم له رقابكم، واشرتم إليه بأصابعكم، جاءه الموت فذهب به»(2) ، مما يعني ان الاستجابة للقائد، واتحاد الكلمة تحت امرته ستأتي متأخرة وبعد فوات الاوان، وهو ما يحز في النفس ويجلب الحزن، وقد تضمن أسلوب الشرط (فإذا انتم...) ذينك البعدين المعنوي والنفسي.

وقد يورد علي علیه السلام أسلوب الشرط في السياق للشرح والتوضيح، كما في قوله المتعلق بالعمال ومراقبتهم ضمن عهده للأشتر «ان احد منهم بسط يده إلى خيانة - اجتمعت به عليه عندك اخبار عيونك - اكتفيت بذلك شاهدا»(3) ، فأسلوب الشرط (ان احد...) ورد في السياق متضمنا الأسباب التي على اساسها يوقع الوالي بعماله الاداريين العقاب، وقد وردت الجملة الاعتراضية (اجتمعت...) ملتحمة تمام بالسياق الشرطي، خدمة للمعنى وتوضيح كل جوانبه.

تلك إذا الميزتان المعنويتان لأسلوب الشرط في النهج، اما الميزتان الغالبتانعلى شكل اساليبه الشرطية فهما:

1 - التساوي في عدد مفردات الاساليب الشرطية المتعاقبة: فالكثير من أساليب الشرط الواردة في سياقات نصوص النهج متوالية، تتخذ طابع تساوي الكم التعبيري، من ذلك ما جاء في رسالة علي علیه السلام لعامله على البصرة، عثمان بن

ص: 690


1- خطب - 25
2- خطب - 99
3- رسائل - 53 فقرة 21

حنيف «لو تظاهرت العرب على قتالي، لما وليت عنها، ولو امكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها»(1) ، فلقد وردت الفاظ الجملتين الشرطيتين متساوية من حيث العدد باحتساب الضمير العائد على العرب في (رقابها) في الجملة الشرطية الثانية. ومن ذلك أيضاً قوله في ذم الدنيا «من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لجك غرق، ومن أزور عن حبائلك وفق» (2) .

2 - تقديم الجواب على شرطه: وهي من الظواهر التي تتكرر كثيرا في الاساليب الشرطية الواردة ضمن سياقات نصوص النهج، بغرض ابراز الأهمية الفكرية، هذا بالإضافة إلى القيمة التأثيرية التي يرجوها علي علیه السلام من وراء نزوعه لذلك، كما في قوله مقدما الفرع على الاصل، أو المهم على الأهم «لا قربة بالنوافل، إذا أضرت بالفرائض »(3) فقد قام جواب الشرط المتضمن النوافل أو الزوائد على الشرطالمتضمن الفرائض والمقرون ب (إذا) بغرض التهوين من قيمة مباشرة الإنسان الأعمال الفرعية على حساب أعماله الحياتية الأساسية. وكما في قوله ضمن التعبير عن ضيقه من مواقف أصحابه تجاه امرته «منيت بمن لا يطيع إذا أمرت، ولا يجيب إذا دعوت»(4) ، فقد قدم جوابي الشرط (لا يطيع ولا يجيب) على شرطيهما ليبين من خلالهما أن السببفي إخفاق سياسته وتألب الخارجين عليه، يرجع إلى عيب في المحيطين به من رجال غُرس في نفوسهم العصيان والتمرد. كما وأن الفعل (منيت) قد بث في السياق معاني التبرم والضيق، مما زاوج بين ابراز الفكرة وما يكتنفها من

ص: 691


1- رسائل - 45 - فقرة 3، 4
2- المصدر السابق نفسه
3- حكم - 49
4- خطب - 39

تأثيرات نفسية.

وقد يستغني علي علیه السلام - في القليل من اساليبه الشرطية عن ذكره الجواب، اعتمادا على فطنة السامع في استخلاصه كما في قوله لكميل بن زياد «ان هاهنا لعلما، لو اصبت له حمله»(1) ، فقد استغنى عن ذكر جواب (لو) اعتمادا على السياق.

فأساليب الشرط بما تتضمنه من ثرائين بلاغي وإبلاغي، يمكن عدّهما من الخصائص الأسلوبية الدالة على التوحد في بنية نهج البلاغة كنص فكري متكامل في صدوره من مجرى أسلوبي واحد.

د - التضمين في النهج وخصائصه

التضمين هو استنجاد بمقولات معروفة لدى السامعين، مقبولة عندهم لبلاغتها وجمالها، أو لشيوعها فيهم، فهو بالتالي وسيلة للإقناع والتأثير، لذلك عول علي علیه السلام عليه في كثير من مأثوراته، ولكن بقدر الحاجة إليه كعنصر ذي اهمية في تفتيق المعاني ومنحها ابعادها التأثيرية أو التوضيحية. وقد أتاحت ثقافته الواسعة لتضميناته التنوع فأخذ الشعر بنصيبه الوافر منها، وتبوأ القرآن الكريم مكانة الصدارة، كما حظي المثل العربي بنصيبه ايضا.

وقد تميز التضمين، بكل انواعه، في مواضعه التي ورد فيها بميزتين:

الأولى: الانسجام التام مع نسيج النص، بحيث لا يشعر السامع أو القارئ بأي اقحام أو أي تكلف في انسيابه ضمن السياق العام، سواء كان ذلك التضمين شعرا، كما في قوله لأصحابه ضمن سياق التمني «لوددت أن لي بكم ألف فارس من بني فراس بن غنم (وافر):

ص: 692


1- حكم - 145 - فقرة 5

هنالك لو دعوت أتاك * منهم فوارس مثل أرمية الحميم»(1)

فالبيت ملتحم تماما بسياقه التعبيري، منسجم مع معاني التمني، متمم لها.

أو كان مثلا عربيا مشهورا، كما في قوله متهكما من معاوية «أما بعد فقد أتاني كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمداً صلی الله علیه وآله وتأييده إياه بمَنْ مِن أصحابه، فلقد خبأ لنا الدهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء الله تعالى عندنا، ونعمته علينا في نبينا، فكنت في ذلك كناقل التمر إلى هجر»(2) . فالمثل العربي «كناقل التمر إلى هجر» .باندماجه التام في السياق جاء بمثابة تفتيق واضاءة لمعاني الاستغراب والتهكم من معاوية لأخباره اياه - وهو ربيب الرسول - بمآثره صلی الله علیه وآله إياه في نشر الدين ومكانهم منه.

ويبلغ التضمين بآي الذكر الحكيم ذروته في الإحكام والسلاسة وأداء المعنى، كما في قوله بشأن موقفه من الخارجين عليه من الأمويين وأشياعهم من أهل الشام «فإن ترتفع عنا وعنهم محن البلوى، أحملهم من الحق على محضه، وأن تكن الأخرى «أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ»(3) ، فقد أحكم علي علیه السلام تلاحم الآية الكريمة في السياق فأتت

ص: 693


1- خطب 25 - فقرة 2. وبنو فراس بن ثعلبة بن مالك بن كنانة، حي مشهور بالشجاعة. راجع تاريخهم عند ابن أبي الحديد في شرحه للنهج 1/ 341 وما بعدها، والبيت لأبي جندب الهذلي، ورد ضمن ترجمته في الاغاني 21 / 247 وما بعدها. وارمية: جمع رمي وهو السحاب، والحميم في البيت، وقت الصيف، وانما خص الشاعر سحا ب الصيف بالذكر لأنه اشد اسراعا وارتحالا
2- رسائل - 28 فقرة 1
3- خطب - 163 - فقرة 2. والآية من سورة فاطر / 8

مندمجة فيه، ومكملة لفحوى أسلوب الشرط وما يرمي له من معاني التسليم بقضاء الله وقدره دون اسف أو ندم في حالة الاخفاق، شريطة التفاني في العمل والثبات على المبدأ حتى النهاية مهما كانت العاقبة.

الثانية: الثراء والتنوع في معاني التضمين: إذ لم يقتصر التضمين في نصوص نهج البلاغة على نواحي الاستشهاد وتعضيد المقولات الصادرة عن علي علیه السلام لتوكيد صحتها، أو اجلاء الغموض عنها، بل ورد في سياقات ذات الأغراض المختلفة حاملاً في طياته معاني متنوعة، تدل على مقدرة فائقة على تطويع العبارات المضمّنة، للاستجابة لما يراد منها من معان وإيحاءات بادماجها بدقة متناهية في نسيج الفكرة، ممّا يتيح لها التعبير عن كل الأبعاد المعنوية والتأثيرية ضمنها، فتستحيل إلى تعبير ذي بعدين:

الأول: البعد الحقيقي لعبارة التضمين والكامن في معناها الذي وضعت له أصلاً.

الثانية: بعدها الجديد المتولد في دمجها في سياق جديد يتناسب وما تحمله من معان وتأثيرات.

ويمكن ملاحظة ذينك البعدين لمعنى التضمين في قول علي علیه السلام للخوارج بعد إعلان النتيجة التي تمخض عنها التحكيم «قد أمرتكم في هذه الحكومة أمري ونخلت لكم مخزون رأيي (و كان يطاع لقصير أمر) فأبيتم علي اباء المخالفين الجفاة... »(1) . فقد ورد المثل العربي (لو كان يطاع لقصير امر) ضمن

ص: 694


1- خطب - 35 - فقرة 2. واصل المثل «لا يطاع لقصير امر » الميداني - مجمع الامثال 3/ 198 .وراجع قصة المثل عند الميداني أيضاً في: 1/ 413 وما بعدها. فيما جاء حول المثل «خطب يسير في خطب كبير»

نسيج النص حاملا لمعناه الأصلي كمثل قديم مخصوص بحادثة معروفة تقال لمن لا يمتثل لنصح الناصح المجرب فيخفق، وبالإضافة إلى ذلك المعنى الأصلي فقد حمل في طياته - ضمن السياق الذي أورده فيه علي علیه السلام - معاني العتاب واللوم المقرونة بالحزن والأسى، وقد أضيفت تلك المعاني إلى المعنى الأصلي لصلاحيته لذلك، ومقدرة علي علیه السلام الفائقة على استغلال تلك الصلاحية بإدماج المثل في الموضع المناسب له. فتفاعل علي علیه السلام مع أساليب اللغة، وإحساسه في توجيه تعبيراتها جعل التضمين في النصوص المأثورة عنه يستجيب لكل غرض بلاغي يرمي إلى التعبير به عن فكره، فمن اغراض التضمين التي اثرت عنه:

- أغراض التضمين في مأثورات علي علیه السلام:

التمثيل والتصوير: كما في قوله ضمن توبيخ أصحابه على تقاعسهم عن القيام بواجب الجهاد «...فجرجرتم جرجرة الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر ثم خرج إلي منكم جنيد متذائب ضعيف «يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ»(1) ، فقد وردت الآية الكريمة ضمن السياق لتضفي على التشبيه فيه ابعادا مأساوية مؤلمة محزنة.

تبيان الحال: كما في قوله ضمن تصوره لصفات الملائكة «لا ينتحلون ما ظهر في الخلق من صنعه، ولا يدعون أنهم يخلقون شيئاً معه مما انفرد به، بل عباد

ص: 695


1- خطب - 39 - فقرة 1. والجرجرة: صوت يصدره البعير من حنجرته تعبيرا عن الألم أو احتجاجا عند عسفه. والجمل الاسر: المصاب بداء السريرة، وهو وجع يأخذ البعير في مؤخؤة كركرته من دبره، أو قرح يكاد ينقب جوفه، والنضو المهزول من الابل، والادبر المصاب بالدبرة، قروح أو جروح في ظهر الجمل وسنامه. والآية من سورة الأنفال / 6.696

مكرمون «لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ»(1) ، ضمن السياق وصف لحال الملائكة تجاه الخالق سبحانه.

التذكير والتخويف ضمن الوعظ: كما ورد عنده ضمن حديثه عن الدنيا «اتعظوا فيها بالدين العمى، «مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً» ،حملوا إلى قبورهم فلا يدعون ركبانا، وانزلوا إلى الاجداث، فلا يدعون ضيفانا»(2) .

التحديد ورفع اللبس: من ذلك حديثه عن نفسه وآل بيته علیهم السلام «بنا يستعطى الهدى، ويستجلى العمى، ان (الائمة من قريش) غرسوا في هذا البطن من بني هاشم، لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم»(3) فقد أورد حديث الرسول صلی الله علیه و آله وسلم«الأئمة من قريش » ضمن السياق ليوضح من خلاله أن المعنيين بقريش في الحديث هو وآل بيته من دون غيرهم من عامة قريش.

التحضيض والتحبيب: كما في قوله ضمن وصيته لما ضربه ابن ملجم «إنْ أعف فالعفو لي قربة، وهو لكم حسنة، فاعفوا ألَكُم»،(4) . فقد أورد الآية الكريمة ضمن السياق تحبيبا للعفو وحضا عليه.

الدعاء والتبتل: إذ تكثر الأدعية المتضمنة طلب رضا الخالق وعفوه والاعتماد على مننه وكرمه دون المخلوقين، وعادة ما يوظف علي علیه السلام كل

ص: 696


1- خطب 90 - فقرة 5. ولا ينتحلون: أي لا يدعون باطلا، والآية من سورة الأنبياء/ 21
2- خطب 110 - الفقرة الاخيرة، والآية من سورة فصلت/ 15 . ولا يدعون ركبانا: أي لا يقال لهم ركبان، جمع راكب، لأنهم أخذوا إلى قبورهم غير مختارين، والراكب عادة ما يكون مختارا. والأجداث: جمع جدث: القبور
3- خطب - 144 - فقرة 2. راجع مصدر الحديث الشريف في ص 177 من هذا البحث
4- رسائل - 23 - فقرة 2. وقربة: تقربا إلى الله، والآية من سورة النور / 22

طاقاته اللغوية المشحونة بالحب الصادق والايمان المتين ضمن تلك الأدعية، مستنجدا بتضمينها بآيات قرآنية كما في قوله ضمن دعاء له كان يقوله كلما هم بلقاء العدو «رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ»(1) ، فلقد الآية الكريمة ضمن نسيج الدعاء لتنشر في جنباته مسحة من الإيمان فحواها الاستنجاد بالخالق في النزوع إلى الحق، وطلب معونته في سلوك جادته.

الإصرار على المبدأ والثبات عليه في كل الأحوال: من ذلك ما كتبه لأخيه عقيل بن أبي طالب ضمن رده على رسالة يخبره فيها بتمالي قريش على افشال حكومته ويسأله عن موقفه منهم «ولا تحسبن ابن أبيك ولو أسلمه الناس - متضرعا متخشعا لا مقرا للضيم واهنا، ولا سلس الزمام للقائد، ولا وطيء الظهر للراكب المتعقد، ولكنه كما قال أخو بني سليم: (طويل)

فإن تسأليني كيف أنت فإنني * صبور عى ريب الزمان صليب

يعز علي أن ترى بي كآبة * فيشمت عاد أو يساء حبيب»(2)

فقد ورد البيتان في السياق لتعضيد معاني الإصرار والثبات على المواقف في كل الأحوال.

البرهنة ضمن الجدل: من ذلك ما ذكره علي علیه السلام من آيات كريمة ضمن رده

ص: 697


1- رسائل - 15 - والآية من سورة الاعراف / 89
2- رسائل -36 - فقرة 2. والبيتان منسوبان للعباس بن مرداس - شرح بن أبي الحديد 16 / 153 وراجع ترجمة العباس بن مرداس عند: ابن سعد الطبقات الكبرى 4/ 271 ، والشعر والشعراء لابن قتيبة 2/ 632 ، ترجمة رقم 177 ، والسلس - بفتح السين وكسر اللام - السهل. والوطيء: اللين. والمتقعد: الذي يتخذ ظهر الدابة مقعدا يستعمله في كل حاجة. والصليب: الشديد

على كتاب ورد إليه من معاوية مدعيا فيه عدم احقية علي علیه السلام بالخلافة وانه يحاول ابتزاز المسلمين أمرهم «وكتاب الله يجمع لنا ما شد عنا وهو قوله سبحانه وتعالى:

«وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ» وقوله تعالى:

«إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ»فنحن مرة أولى بالقرابة وتارة أولى بالحق والطاعة»(1) ، فالآيتان الكريمتان قد وردتا في السياق للبرهنة على بطلان ما تضمنته رسالة معاوية من مزاعم في حقه.

السخرية والتندر: منه ما جاء ضمن رده على كتاب معاوية الذي قال فيه بتفضيل أبي بكر وعمر وعثمان على علي علیه السلام«وما انت والفاضل والمفضول والسائس والمسوس وما للطلقاء وابناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأولين وترتيب درجاتهم وتعريف طبقاتهم، هيهات، (لقد حن قدح ليس منها)،»(2) ، فالتضمين بالمثل العربي «لقد حن... » قد ورد ضمن تذكير معاوية بمنزلته في الإسلام كتعبير عن السخرية منه، لطرحه قضية هو غير مؤهل للخوض فيها، لأنه غريب عنها جاهل بحقيقتها.

بث الحماس وإشاعة الطمأنينة في نفوس المحاربين: كما ورد في قوله ضمن خطبة له في صفين «فصمداً صمداً حتى ينجلي لكم عمود الحق وأنتم الأعلون

ص: 698


1- رسائل 28 - فقرة 3. والآيتان على التوالي - الانفال/ 75 ،آل عمران / 68
2- السابق فقرة 1. والمثل (حن قدح ليس منها) يضرب للرجل... يتمدح بما لا يوجد فيه - الميداني - مجمع الامثال 1/ 341 ، وحن: سمع له صوت، والقدح بكسر القاف المعجمة وسكون الدال المهملة: - السهم، وإذا كان السهم مختلف عن بقية السهام، كان له عند الرمي صوت يخالف أصواتها

والله معكم ولن يتركم أعمالكم» (1) ، فالتحام الآية الكريمة بالسياق قد منحه ابعادا عميقة من معاني الحماس الصادق المتفجر بقيم الإيمان لما تزخر به من معاني العز والاحقية والمؤازرة.

كما يرد التضمين عند علي علیه السلام محملا بمعاني التهديد والوعيد (2)، أو الندم جراء التفريط في الأمور المهمة (3) ، أو لبيان أهمية الشيء وقيمته (4) ، إلى غير ذلك من معان ثرة تجلوها المناسبة، فتجعلها ابدا بينة ناصعة، لكونها موظفة توظيفا محكما في تعبيرات صادقة نابعة من تجربة واحدة بكل تفرعاتها الحياتية.

وقد أبرز ذلك الانسجام بين الفكر وبين الاساليب التعبيرية التي استوعبته خصائص فنية مميزة نعرض لأبرزها في الفصل التالي.

ص: 699


1- خطب 65 - والآية من سورة محمد / 35 . ولن يتركم - بفتح الياء وكسر التاء وفتح الراء: لن ينقصكم شيئا من جزائها
2- راجع خطب 70 ،وخطب 90 ، فقرة 2، وخطب 86 فقرة 3، 4
3- المصدر السابق نفسه
4- المصدر السابق نفسه

ص: 700

الفصل الثالث: أبرز الخصائص الفنية في نهج البلاغة

اشارة

عرض شراح نهج البلاغة إلى كثير من الخصائص الفنية والبلاغية التي تميز بها أسلوبه؛ فابن أبي الحديد قد وقف - في شرحه المطول - عند الكثير من الظواهر الفنية البيانية والبديعية، مبديا رأيه فيهما، مستعينا في ذلك بذوقه الفني، بالإضافة إلى استعانته بآراء من سبقه من البلاغيين، الا انه لم يتناول الا الجزئيات دون التعميق في تأثيرها داخل النصوص.

فمن حيث الخصائص البيانية وقف عند الكثير من الاستعارات (1) والتشبيهات والكنايات، مبينا من خلال كل ذلك قدرة علي علیه السلام الفائقة على صياغتها، إلا أنه لم يتطرق إلى أثرها في السياقات التي وردت فيها، لأنه لم يعالج

ص: 701


1- راجع شرح النهج 6/ 378 حول بلاغة علي علیه السلام. و 11 / 153 أثر كلام علي علیه السلام في نفس الشارح.ولقد أورد الشارح أيضاً فصولا بلاغية كثيرة في أثناء نعرضه لمعالجات مثيلاتها في نصوص النهج، من ذلك ما جاء في 2/ 103وما بعدها و 170 وما بعدها و 4/ 153 وما بعدها و 5/ 15 وما بعدها و 7/ 184 وما بعدها و 196 وما بعدها و 311 وما بعدها، و 8/ 376 وما بعدها

تلك الظواهر الفنية الا منفردة وكأنها وحدات أسلوبية قائمة بذاتها لا تمت إلى السياقات التي وردت فيها بأية صلة إلا من حيث تداعي الأفكار وترابط الاساليب، ذلك بالنسبة إلى الظواهر البيانية البارزة، اما بالنسبة إلى التصويرات الفنية المعتمدة على التأثيرات النفسية من خلال شحذ طاقات الكلمة فقد تحدث عن أثرها في نفسه (1) من دون ان يدخل في الخصائص التي تمكنه مناستجلاء المميزات التي جعلت تأثيرات تلك التعبيرات الفنية تبلغ المدى في هز اعماق متلقيها كما انه قد بين كثيراً من البديع المعنوي والآخر اللفظي الذي ورد في سياقات النهج (2) ولكنه لم يحاول أيضاً تبيان تأثيراتها الايحائية في معاني النصوص، وقد تبعه في ذلك أيضاً ميثم البحراني الذي أورد في شرحه كثيراً من الظواهر البيانية والبديعية من دون ان يستجلي تأثيراتها النفسية وخصائصها الابداعية في نسيج ما وردت فيه من نصوص. ثم إن كلا الشارحين لم يحاولا توضيح الخصائص المميزة للتناول الفني في النهج كنص متوحد الأسلوب من حيث صدروه من مجرى نفسي واحد، لانصباب نظرتيهما أثناء شرح النصوص على انها وحدات مجزأة، كل نص قائم بذاته، ولا يمت بصلة إلى النصوص الاخرى، الا من حيث الانتساب إلى علي علیه السلام، دون محاولة البحث في الصلات الفنية الداخلية التي ترابط بين تلك النصوص من حيث البنية الدالة على انتمائها إلى قائل واحد. وهذا ما سنحاول دراسته في أثناء تعرضنا لأبرز المميزات الفنية في النهج متعرضين إلى ذلك في محورين أساسيين هما:

- الأول - أهم المميزات الخاصة بالصورة في النهج

ص: 702


1- راجع السابق
2- السابق

- الثاني - أهم المميزات الخاصة بالموسيقى في النهج

على اننا في دراستنا هذه لا نحاول الفصل بين الصورة والموسيقى كظاهرتين متباعدتين، لكونهما في نظرنا تشكلان معا الخصائص الفنية التي حاول علي علیه السلام على اساسها صياغة فكره واجلاء رؤاه والتعبير عما يعتقده ويؤمن به، مما يعني ان الفكر وصياغته الاسلوبية بشقيها المعنوي والفني، متلاحمان ومترابطان بحيث لا يمكن النظر في ناحية من نواحي النص أو خصيصة منفصلة، لكون النص بأفكاره ومعانيه وخصائصه الفنية نابعا من معين واحد، فدراستنا للخصائص الفنية في النهج، قد تبدو عسيرة وصعبة إذا ما حاولنا النظر فيها كخصائص قائمة بذاتها، ثم انها من ناحية ثانية واسعة جدا إذا ما حاولنا تتبعها في بنية نهج البلاغة بأكمله، لذلك فسنقصر الدراسة على ابراز أهم الملامح الفنية، من دون التعرض إلى الجزئيات التي عالجها الاقدمون من الشراح، ناظرين في ذلك إلى مجموع الخصائص الفنية بما يمتزج بها من انفعالات، على أساس أنها صور وموسيقى وايقاع يكمن بداخلها التشبيه والاستعارة والمجاز، وجل المحسنات البديعية.

1-أهم المميزات الخاصة بالصورة في النهج

ترد الصورة الفنية في نصوص نهج البلاغة مرتبطة ارتباطا وثيقا بمضامينها الفكرية، ذائبة في نسيجها، مضفية عليها الحيوية نائية بالأساليب فيها عن الجفاف والجمود الذي عادة ما ينتاب المعاني المجردة، وهذا لا يعني ان عليا علیه السلام يعمد إلى استجلاب الصورة بتكلف، ولكنها ترد في سياقات النصوص منسابة طيعة لتفرض وجودها من خلال الموقف، مضفية على المعاني الفكرية ابعادا

ص: 703

تأملية تبلغ بالفكر مداه في التألق.

يتحدث عن أسلوبه في العيش ضمن رسالة كتبها لواليه على البصرة، يؤنبه فيها على تصرف غير لائق بدر منه فيقول «وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب، فقد قعد به الضعف عن فقال الأقران ومنازلة الشجعان، الا وان الشجرة البرية أصلب عودا والروائع الخضرة ارق جلودا، والنباتات البرية اقوى وقودا، وأبطأ خمودا» (1) فقد عمد إلى الأسلوب الكنائي، مبينا من خلاله قناعته بالقليل، في مقابل تهالك واليه على ما دعي له من لذيذ الطعام، مشبها نفسه في صبره وجلده واحتماله بالشجرة البرية التي تستطيع مقاومة العوامل الطبيعية تحت أية ظروف ومشبها واليه في عدم قدرته على التماسك والاتزان إزاء مغريات الحياة من لذيذ الطعام بالشجرة الحضرية غير المذكورة في السياق، مع ملاحظة انبجاس الصورة بكل تعقيداتها ضمن السياق في عفوية تامة، أخذة بما يناسبها من ايقاعات تعبيرية ضمن المقارنة بالتقابل بين الصلابة والرقة مع تناغم سلس في الفواصل المتقابلة (أصلب عودا، وأرق جلودا، أقوى وقودا، أبطأ خمودا). فتمازج الفكرة بالصورة في نسيج النص، اكسبها عمقا بما اسبغته الصورة من الوان مناسبة من ناحية، وخاصية الثراء الايحائي من ناحية اخرى، علاوة على ذلك انسيابها في نسيج النص بالفصل (2) على اعتبار تتابع الكلام في مجراه النفسي بانتقاله من الحديث عن نفسه إلى المقارنة بين الشجرتين من دون اللجوء إلى العاطف بالإضافة إلى الالتفات (3) بانتقاله من حديث إلى

ص: 704


1- رسائل 45 فقرة 3
2- عرضنا لخصائص الفصل والوصل في أساليب النهج في ص 674 من هذا البحث
3- عرضنا للالتفات في ص 606 من هذا البحث

آخر بقصد توكيد الفكرة المطروحة ودعمها، وهو ما يدعم مقولتنا بانبثاق الصورة ضمن السياق مرتبطة بالفكرة عن طواعية، ولحاجة ملحة تقتضيها المناسبة لإضاءة الفكر وكشف جوانبه والنأي به عن الجفاف.

ومن أجل الوقوف على أهم خصائص الصورة في نصوص النهج لاستجلاء ابعادها ووظائفها يقتضي منا ذلك دراستها في النقاط التالية:

1- انبعاث الصورة في النهج وتأثيرها:

تسعى الصورة ضمن نصوص النهج إلى التجسيد بغرض التأثير، والنزوع إلى مواقف التزامية معينة اشرنا إليها في أبوابها وبمعنى أوضح، فإن الصورة لا ترد ضمن تلك النصوص إلا من أجل خدمة الأفكار وتدعيمها على اعتبار ان ايحاءاتها جزء لا يمكن بتره من تلك الافكار، فجل نصوص النهج تعالج قضايا فكرية وأخلاقية فحواها الحق، والخير، والجهاد، والعدل والتقوى إلى غير ذلك من قيم انسانية، وتلك القيم لا ترد ضمن نصوصها في عبارات تقريرية خالية من النبض والحيوية، لأن عليا علیه السلام - من أجل تدعيمها - يبعث فيها نفحات من روحه، وفيضا من ضميره ملتقطا من الواقع من حوله ما يتيح لما في تلك القيم من افكار التجسيد بإسقاط حماسه اليقيني عليها.

فالصورة في نصوص النهج تنبثق متزامنة مع انبثاق الفكرة مرتبطة بها، بحيث لا يمكن للمتأمل فيها كعنصر فني الا بالنظر إليها في سياقها الفكري، فاجتزاؤها من النص قد يبقي على نوع من الجمال فيها، ولكنه يجردها من قيمتها التأثيرية.

فالصورة في قول علي علیه السلام«اللهم قد ملت اطباء هذا الودي، وكلت النزعة

ص: 705

بأشطان الركي » (1)، قد لا تعني شيئا إذا ما نظرنا فيها بعيدة عن سياقها الفكري، كما قد يبدو على عناصرها الجزئية نوع من التنافر والتناقض، لما في (الاطباء، والدوي) من عدم تجانس مع معاني (الأشطان، والنزعة، والركي)، فقيمتها التأثيرية ليست في النظر إليها مفصولة عن السياق ولا في النظر في فحوى معانيها مجزأة، لأن قيمتها كامنة في ما يعنيه اثرها في سياق المناسبة، واندماج القائل مع احداث تلك المناسبة، وما يكتنفها من انفعالات نفسية، شريطة التحامها بالنص كعنصر اصيل فيه، تؤثر وتتأثر بما حولها من معان تتعاون على تجسيدها بما يستكن بداخلها من انفعالات غاضبة ومكبوتة، مفجرة في حنايا النص معاني الالم والخيبة والاخفاق.

فبعودة إلى الصورة السابقة في سياق فكرتها في النص «أما والله لو أني حين أمرتكم به - أي بالتحكيم - حملتكم على المكروه... فإن استقمتم هديتكم، وأن اعوججتم قومتكم، وإن أبيتم تداركتكم لكانت الوثقى، ولكن بمن والى من؟ أريد أن أداوي بكم وأنتم دائي، كناقش الشوكة بالشوكة، وهو يعلم ان ضلعها معها، اللهم قد... الصورة»(2) نجد أن تداعي الأفكار في السياق بما تتمخض عنه من ندم غاضب جاء في تلافيف التمني التالي للقسم في قوله (اما والله لو...) قد ولد في العبارة ثلاثة استئنافات:

تمثل الأول في أسلوب الاستفهام التالي للاستدراك في (ولكن بمن والى من)

ص: 706


1- خطب 120-. والدوي: أصل التعبير هو (الداء الدوي) أي الشديد المؤلم بوصف الداء بما هو من لفظه. وكلت: ضعفت وتعبت. والنزعة: بفتح النون والزاي والعين جمع نازع، بكسر الزاي، الذي ينزع الماء من البئر. والاشطان: جمع شطن وهو الحبل. والركي: جمع ركية، البئر أي ضعفت قوى نازعي المياه من الآبار
2- الخطبة السابقة

على سبيل التأسف واليأس.

وتمثل الثاني في الجملة الخبرية المقرونة بالتشبيه المقتبس من المثل العربي «لا تنقش الشوكه بمثلها فإن ضلعها معها »(1)، على أساس أنه لو استعان ببعضهم في تقويمه بعضهم الآخر، لكان مثله في ذلك مثل الذي يحاول اخراج شوكة انغرست في جلده بشوكة من جنسها، فتنكسر بجانبها فيتضاعف بذلك الالم ويتفاقم الخطب.

ثم يتصاعد الأسلوب فيبلغ مداه في الاستئناف الثالث الكامن في الفصل والمتضمن معنى الالتفات والمصدر بالاستغاثة (اللهم...) مما يعني في طياته ان الوضع قد بلغ مرحلة بحيث لا سبيل إلى اصلاحه، فالكناية في (الدوي) بوصف الداء بما هو من لفظه على اعتبار أصحابه هم الداء وهو الطبيب الذي مل معالجتهم بعد أن أزمن ذلك المرض واستعصى معه أي علاج. والكناية الثانية في (كلت النزعة بأشطان الركي) أي ان التعب قد وصل بنازعي الماء مرحلة لا يمكنهم معها الاستمرار، فالصورتان متباعدتان من حيث العناصر الخارجية، متوفقتان في المنحى المعنوي الكامن في العجز عن الوصول إلى الغاية في كلتيهما بسبب تعذر الاستجابة في كلتا حالتي الطبيب باستعصاء الداء عليه، والنازح بمزاولة النوع لاستمرارية إلى ما لا نهاية. فتباعد عناصرهما لم يحل دون الوصول بالتعبير من خلالهما إلى الذروة الانفعالية التي أرادها علي علیه السلام من خطبته على اعتبار إنهما جزء من السياق التعبيري ولا يمكن النظر فيهما كوحدات ايحائية مجزأة.

تفوّه أحد مخاطبي علي علیه السلام بكلام عظيم كان المتحدث قاصرا عن إدراك أبعاده ومعرفة ما ينطوي عليه من معان، فبادره علي علیه السلام بالقول «لقد طرت

ص: 707


1- الميداني مجمع الامثال 3/ 182 ، وارجع مناسبته عنده

شكيرا، وهدرت سقبا » (1) ، فلقد سلك للتعبير عن موقفه من ذلك القائل أسلوبا كنائيا تضمن ما فحواه ان القائل اصغر من ان يتفوه بمثل ذلك الكلام الخطير، فالكناية لم ترد ضمن السياق لمجرد غاية جمالية، لأنها قد تضمنت من الايحاءات معاني الاستصغار مكتملة، وذلك بالنظر فيها ضمن السياق التعبيري بكل انفعالاته النفسية، فقد تعني الكناية الازدراء بالقائل لكونه يرى في نفسه انه شيء كبير، فيهرف بما لا يعرف، أو قد تعني أسلوبا تربويا يهدف إلى النصح بعدم القاء الكلام على عواهنه من دون تدبر معانيه وابعادها، فالمناسبة مضافا إليها انفعالات علي علیه السلام في أثناء اطلاقها، هو ما يمنح الصورة أبعادها البيانية.

وقد تكون الصورة السابقة متناسبة في بعض أجزائها مع الصورة المتضمنة رد علي علیه السلام«على سؤال لبعض أصحابه وقد سأله: كيف منعكم قومكم عن هذا المقام وانتم احق به؟ فقال له: يا أخا بني أسد، إنك لقلق الوضين، ترسل في عير سدد» (2) ، لأن كلتا الصورتين وردتا في سياقين ضمن رده على متكلمين، مع اختلاف في المناسبة، وفحوة القول من حيث فهم المتكلمين، على الأقل، لتضمنها معنى إطلاق الكلام في غير محله أو مناسبته، فالصورة الثانية كناية أيضاً متضمنة معنى عدم الثبات، بتمثلها ذلك السائل فوق راحلة لم يحكم أربطة رحلها من تحته، ويحاول أن يسدد في رميه وهي سائرة به، ولكن اضطراب الرحل من تحته يحول بينه وبين التصويب المحكم نحو الهدف لعدم قدرته على

ص: 708


1- حكم - 40 -. والشكير: أول ما ينبت من الريش الطائر قبل أن يقوى.والسقب: الصغير من الأبل لا يهدر الا بعد ان يستفحل
2- خطب - 163 - فقرة 1. والوضين: بطان يشد به الرحل على البعير كالحزام للسرج. وقلق الوضين: مضطربة. والإرسال: الإطلاق.والسدد: بفتح السين والدال: الاستقامة

الثبات فوق ظهر الراحلة، على أساس أن سؤاله ذاك لم يكن في محله لأن مناسبة طرحه غير ملائمة لوضع علي علیه السلام الذي هو في حال مجابهة لمعاوية الذي يعدّه في أدنى سلم الأحقية في الخلافة بالنسبة لمن سبقه من قريش، إذ كان الاحرى بالسائل ان ينظر في هذا الوضع لا يتجاوزه، فمضمون الكناية بما ينطوي عليه من اختزال يعني: ان الوضع الاني الذي نعيشه احق بأن ينظر فيه ليعالج، لذلك ورد بيت إمريء القيس في السياق ليزيد من تألق الصورة الواردة في مطلع النص ويفتق ما انطوت عليه من إيحاءات: (طويل)

ودع عنك نهباً صيح في حجراته * وهات حديثا ما حديث الرواحل (1)

أي إن الأجدى بك أيها السائل أن تنظر معنا في الوضع المزري الذي نعيشه وتترك اجترار احداث الماضي. فصورة اضطراب الركب على ظهر الراحلة بما يكتنفها من حركة، وعدم ثبات، لم تكن لتؤدي هذه المعاني والأفكار لو اننا نظرنا في قيمتها الجمالية بعيدة عن سياقها التعبيري.

وتبلغ الصورة ذروتها في تكثيف معاني الأخبار بالمقولات الصائبة عبر اللومفي قول علي علیه السلام

«أما بعد، فإن معصية الناصح الشفيق، العالم المجرب تورث الحسرة وتقب الندامة وقد كنت أمرتكم في هذه الحكومة أمري، ونخلت لكم مخزون رأيي، لو كان يطاع لقصير أمر، فأبيتم عليّ إباء المخالفين الجفاة، المنابذين العصاة، حتى ارتاب الناصح بنصحه وضن الزند بقدحه، وكنت واياكم كما قال اخو هوازن

ص: 709


1- ديوان امريء القيس ص 94 وللبيت قصة طريفة تكاد تناسب فحوى السؤال الذي سأله الرجل لعلي علیه السلام في مناسبته

(طويل)

أمرتكم أمري بمنعرج اللوى * فلم تستبينوا النصح إلا ضحى الغد (1) فقد تألقت الصورتان (نخلت لكم مخزون رأيي) و (ضن الزند بقدحه) ضمن السياق بما يعني التعبير عن أعمال الفكر وتقليب المواقف والتأمل في الحوادث بعمق وتمحيصها ومن ثم ابداء الآراء الصائبة حولها بكل نزاهة وصدق واخلاص، في مقابل العناد والمكابرة المجلبة للهم المعطلة لجميع الملكات الفكرية. ومناسبة الشعور بمرارة الفشل هي التي ولدت صور الاحباط في سياق النص، ليس بسبب نتائج التحكيم، ولكن لأنها عمدت إلى تجسيد الواقع بكل ما ينطوي عليه من آلام نفسية، طوت في استمراريتها الماضي المأسوف عليه، والواقع المحزن، فالصورتان بانضمامها لبعض تجسدان مشاعر الالم الذي ترزح نفس علي علیه السلام تحته، ليس بسبب النتيجة، بل بسبب من خلقوا تلك النتيجة من اصحابه، وفرضوها عليه وعلى أنفسهم لقصور في نظرتهم. ولا يمكن للصورتين ان توحيا بتلك المعاني بما يكتنفها من معاناة ما لم تقترنا بفكرة النص في مناسبته وملابساتها التاريخية التي تعاونت كل الأساليب من خبرية مؤكدة )(اما بعد فإن معصية)، وإنشائية تنطوي على معنى التمني الكامن في التضمين بالمثل العربي (لو كان يطاع...) ومن ثم الانتقال إلى الأسلوب الخبري

ص: 710


1- خطب - 35 - فقرة 2. والبيت لدريد بن الصمة ورد ضمن قصيدة رثاء في اخية عبد الله وكان سبب قتله انه لم يستمع لنصح أخيه دريد، والبيت في الأغاني 4/ 8 وفي ديوان دريد ص 47 ، ويكاد البيت في مناسبته ان ينطبق على مخالفة أصحاب علي علیه السلام لنصحه في قضية التحكيم، فكانت النتيجة خسارتهم وندمهم، وبشأن المثل (لو كان يطاع...) راجع ص 695 وما بعدها من هذا البحث

لتعضيد ما في الخطبة من لوم بالاستشهاد ببيت الشعر المتضمن شحنات الأسى الرازحة تحت وطأة الحزن.

وخيال علي علیه السلام من الخصوبة ما يتيح له من الصور الموائمة لجل مواقفه القولية وفي كل الحالات التي تتطلب استحضار المشهد أو تجسيد المناسبة، من ذلك تشبيه التمثيل (1) المتضمن وصفه لحالة أصحابه بعد أن أجبروه على وقف القتال في صفين، في حين لم يبق بينهم وبين النصر سوى قاب قوسين أو ادنى، وفيه يقول «اما بعد يا أهل العراق، فإنما انتم كالمرأة الحامل، حملت فلما اتمت املصت، ومات قيمها، وطال تأيمها، وورثها ابعدها»(2) ، فالصورة من الوضوح وقوة الدلالة ماهي في غنى عن تفكيك عناصرها إذا ما وضعت في سياق الخطبة التي وردت فيها، واصفة الملامح العامة لحالتهم وما سيؤول إليه مصيرهم جراء ايقافهم القتال بعد ان كادت المعركة تحسم لصالحهم مثلهم في ذلك المرأة الحامل ومصيرهم سيكون كمصيرها في الخسران والندم والضياع والذل.

فالصورة في نسيج النهج سلسلة طيعة غايتها إجلاء غموض الأفكار وتجسيد الأحداث في مناسباتها، لذلك لا يمكن إدراك تأثيرها إلا من خلال تأملها مندمجة في سياقاتها مرتبطة بالأساليب المتكاتفة معها لإبراز الأفكار التي عادة ما يحاول علي علیه السلام توصيلها لسامعه أو لقارئه بكل ما أوتي من براعة إقناعية، وقدرة بيانية، بتضام اللغة مع الخيال مع العوامل النفسية المتولدة من المناسبة في

ص: 711


1- تشبيه التمثيل - وهو ما كان وجه الشبه فيه صورة منتزعة من متعدد أمرين أو أوامر، هذا هو مذهب جمهور البلاغيين في تعريفه، ولا يشترطون فيه غير تركيب الصورة، سواء أكانت العناصر التي تتألف منها صورته أو تركيبته حسية أو معنوية، وكلما كان عناصر الصورة أو المركب أكثر كان التشبيه أبعد وأبلغ. عبد العزيز عتيق - علم البيان ص 85
2- خطب - 70 - المطلع. واملصت: اسقطت والقت ولدها ميتا. وتأيمها: خلوها من الزوج

كل متكامل من حيث القوة والرصانة والخيال المتعقل الذي ينأى بالأفكار عن جفاف التجريد.

2-خصائص الصورة في نهج البلاغة:

من ابرز ما تتميز به الصورة في نهج البلاغة الربط المحكم بين التجسيد والحركة، أي أن الصورة متطورة من الداخل، إذ يشعر قارئها أو سامعها في قرارة نفسه بالمنظر المنساب في نسيج النص مقترنا بكل ما يحيط به من علاقات تختص به، بحيث يمكن للمتأمل فيه من خلال التعبيرات المشكلة لمعالمه ان يضع له تصورا كاملا في مخيلته على شكل لوحة متكاملة نابضة بالحياة، فمهما كان نوع العبارة التي يوظفها علي علیه السلام في تدبيج صوره، فإن احساساته المرهفة، وعواطفه الجياشة تضفى عليها من الصدق والحرارة والايمان ما يمنحها استمرارية التأثير والتجسيد أطول مدة ممكنة، فالصورة في قوله لأصحابه «كم أداريكم كما تدارى البكار العمدة، والثياب المتداعية، كلما خيطت من جانب تهتكت من اخر»(1) ، قد جمع شتاتها من عناصر مختلفة، لاءم فيما بينها، لما تمتاز به من خصائص تكاد تكون مطابقة للوقع الذي يشعر به في قرارته بجامع الصفات المظهرية التي تبهر وتغر إزاء الجوهر الزائف، في كل من رجاله الذين يحاول الاعتماد عليهم وبين ما تضمنه التعبير التصويري من الصفات المظهرية والخصائص الجوهرية، فجزئيات الصورة أثناء المشاهدة العادية قد لا تثير الانتباه، وإن عرف الناظر فيها ما في الابل من عيب، وما في الخرق البالية من عدم فائدة، إلا أن نظرة

ص: 712


1- خطب - 68-. والبكار: على وزرن كتاب: جمع بكر، الفتي من الابل. والعمدة: بفتح العين وكسر الميم التي تأثر سنامها من الداخل من أثر الركوب ويبدو سليمة في مظهرها

علي علیه السلام المتأملة في عمق خصائصها في أثناء انقداح فكره، قد بث فيها الحيوية والتجسيد، جراء ادخالها في مقارنة تتناسب وخصائصها، وتلك من مميزات العبقرية التي «تجد الصورة المعمول فيها كلما كانت اجزاؤها اشد اختلافا في الشكل والهيئة، ثم كان التلاؤم بينها مع ذلك اتم والائتلاف ابين، كان شأنها اعجب والحذق فيها اوجب »(1) . فقد لاءم علي علیه السلام في الصورة بين الخرق المتداعية والجمال المعيبة رغم اختلاف عناصر الصورتين.

فالصورة في النهج متألقة دائما من حيث البناء الفني والثراء الإيحائي في جميع الاغراض مهما كان نوع عناصرها المكونة، ففي موضوع الزهد المستوعب للكثير من النصوص فيه، يصور علي علیه السلام الدنيا - من وجهة نظره - بصورة في منتهى البشاعة والتقزز في قوله «والله لدنياكم هذه اهون في عيني من عراق خنزير في يد مجذوم»(2) فقد لاءمت الصورة بين كرش الخنزير وهو اكره الحيوانات وانجسها من وجهة نظر الإسلام، وبين ماسكه المصاب بداء الجذام، مما احال تلك الملائمة إلى منظر يقشعر له البدن، وتتقزز منه النفس وقد استطاعت تلك الصورة البشعة ان توصل إلى السامع أو القاريء القيمة الحقيقة للدنيا كما يراها علي علیه السلام ، بالممازجة بين عنصرين غاية في الغرابة والبعد هما (عراق الخنزير ويد المجذوم).

وفي تصويره لتقاعس أصحابه ضمن لومهم وعتابهم يقول «ما يدرك بكم ثار ولا يبلغ بكم مرام، دعوتكم إلى نصرة أخوانكم، فجرجرتم جرجرة

ص: 713


1- الجرجاني أسرار البلاغة ص 136
2- حكم 235 -. والعراق: بكسر العين، العرق الخبيث وهو من الحشا من فوق السر معترضاالبطن. والمجذوم: المصاب بوباء الجذام، هو من أخطر الأوبئة المعدية ومن مظاهره تساقط أطراف الجسم

الجمل الأسر، وتثاقلتم تثاقل النضو الأدبر، ثم خرج الي منكم جنيد متذائب ضعيف» (1) ، فالصورة لم تقتصر على إبراز النواحي المادية المنظورة، فقد قرنها علي علیه السلام بالصوت المقرون بالحركة، كتعبير عن معاني التخاذل والخنوع والخوف والذل، كل ذلك بالممازجة بين الأشياء المادية والمشاعر المعنوية بإضافة الجرجرة إلى الجمل الاسر تصويرا للغط تلك النفوس الخاوية المريضة وضوضائها وملاحقة لتجسيد ذلك التخاذل بألوان قاتمة ورد التصغير في السياق موصوفا بالضعف لإبراز معاني التحقير والازدراء التي تتزاحم بها نفسه، مما اكسب الصورة كل الأبعاد الإيحائية التي كانت نفس علي علیه السلام ترزح تحت وطأتها في أثناء تفاعله مع الموقف وبلورته في افكار. فالتركيب داخل الصورة من الدقة ما يجعله يستقصي كل ما تحتاجه من جزيئات لتوظيفها في اطار الفكرة، فهي بمثابة اللوحة البالغة التكثيف في نقلها لتصورات علي علیه السلام النفسية في أثناء ابتعاث الكفرة من أعماقه، فهي تتميز بإبداع يجعلها مهما تناهت في جمع شتات الجزئيات المحسوسة وتمكين الخيال من تجميعها في إطار واحد، إلا أنها خاضعة لسلطان العقل مستكنة في الفكرة المحورية للنص.

يقول علي علیه السلام«أيها الناس، شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة، وعرجوا عن طريق المنافرة، وضعوا تيجان المفاخرة، أفلح من نهض بجناح، أو استسلم فأراح، هذا ماء أجن ولقمة يغص بها آكلها، ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها،

ص: 714


1- خطب - 39 - والجرجرة: صوت يصدره البعير من حنجرته تعبيرا عن الألم أو احتجاجا عند عسفه. والجمل الأسر: المصاب بداء السريرة وهو وجع يأخذ البعير في مؤخرة كركرته من دبره، أو قرح يكاد ينقب جوفه. والنضو: المهزول من الأبل. والأدبر: المصاب بالدبرة قروح أو جروح في ظهر الجمل وسنامه، يستعصي معها استخدامه للركوب

كالزارع بغير أرضه»(1) فلقد تألقت ضمن الفقرة صور متكونة من جزئيات متناثرة من عناصر شتى، بتجميعها مع بعضها بعضا تتناسق الفكرة وتتضح معالمها، فلقد استعار الامواج وكنى بها في حركته المضطربة بالفتن وما تحدثه من اضطرابات خطيرة في المجتمع، واستعار سفن النجاة كتعبير عن طريق الخلاص من تلك الفتن، بالصبر عليها، والمهادنة لها حتى تخف حدتها أو تزول وكنى بطريق المنافرة، عن المهاترات الكلامية المشحونة بالتحدث فيما لا طائل من ورائه، ثم أورد في السياق الأمر بوضع تيجان المفاخرة كناية عن الابتعاد عن الزهو الكاذب المستكن في طياته البغض والكراهية والاحتقار كمعاول هدم تفت من عضد المجتمع، واستعار الجناح ليكني به عن الأنصار الذين يعول عليهم ويعتمد على مساندتهم في تخليص الحق بعد فهمه وفهم ابعاده فهما بينا، وذلك في مقابل الاستسلام والركون إلى الدعة، فيما لو لم يوجد مثل أولئك الأنصار المخلصين، ثم شبه الأمر المتنافس عليه بالماء الآجن الذي لا يستساغ شربه، واللقمة الجشبة التي قد تؤدي بمزدردها إلى الهلاك، وهو يقصد بذلك الخلافة كمطلب دنيوي مشوب بالكدر والالم، لما تنطوي عليه من مسؤوليات جدّ خطيرة، لا يمكن ادراك ابعادها، لا كما يراها من يحاولون اثارة الفتنة والمتكالبون عليها كمفخرة وسيادة وشرف ورفعة، ثم يعول على المثل التصويري في قوله «ومجتني الثمرة لغير وقتها كالزارع بغير أرضه»، مكنيا بذلك عن عدم ملائمة المناسبة للمطالبة بما يراه حقا له في الخلافة لكون ظروف الإسلام في ذلك الوقت لا تسمح بذلك، فهو محتاج إلى التآزر في تثبيت دعائمه وشد قواه، أكثر من حاجته إلى التناحر من أجل ما قد يعتبره منافسوه غايات

ص: 715


1- خطب -5 -. والماء الآجن: المتغير الطعم واللون لا يستساغ شربة والإشارة إلى الخلافة

دنيوية ومطامع فردية والتشبيه في صورة قاطف الثمرة قبل نضوجها بالزارع في غير ارضه يجمعهما عدم الافادة في الموضعين، والفكرة من تتابع الصور وانصهارها في بوتقتها الموحدة تعني في نهاية الأمر رده الصريح القاطع على اقوال أولئك الذين يحاولون تحريضه على الثورة من أجل الخلافة بعد وفاة الرسول صلی اللع علیه و آله، واستقرار الأمر لابي بكر دونه، فتركيب العناصر غير المتجانسة من بحر وسفن وتيجان وطير وثمر، بالتوحيد فيما بينهما ينم عن التوحد النفسي في المجانسة بين الأشياء من خلال النظر إليها في الطبيعة الكونية كبوتقة تنصهر فيها المتناقضات التي يحاول الفكر التوحيد فيها بينها بإعادة صياغتها متكاملة منسجمة، مما يعني أن تلك الجزئيات التصويرية هي في حقيقة وضعها ضمن سياق النص، ما هي إلا عناصر فكرية صغرى إذا ما ضمت لبعضها البعض فإنها تشكل الكل، أو الفكرة الأساسية التي تكاد تستحوذ على لب علي علیه اسلام ونفسه أثناء العملية الإبداعية.

لذلك فليس من الضروري أن تكون الصورة ضمن الفكرة معتمدة في بنيتها التكوينية على عناصر الطبيعة المرئية المحسوسة، إذ قد يعمد علي علیه اسلام إلى ما يمكن تسميته بالصور الوصفية، كعقل خلاق يسعى إلى التأمل في الكون جريا وراء الحقيقة، وذلك بتصوير المواقف الماورائية عن طريق شحذ طاقات اللغة لتتمكن من تجسيد المواقف، اعتمادا على تداعي الافكار، وما يسمى حديثا بالحوار الداخلي، وتوظيف العناصر النفسية باستعراض شريط الذاكرة، ويتكرر مثل ذلك التصوير كثيرا، في عرضه لصفات المؤمنين (1) ، أو في وصفه

ص: 716


1- راجع خطب: 86 ، 187

لحال الدنيا وعلاقتها بالإنسان (1) ، ويبلغ ذروته في وصفه لحالة الموت وتدرج سريانه في الجسم كما في قوله «وانه لبين أهله، ينظر ببصره، ويسمع بأذنه على صحة من عقله، وبقاء من لبه، يفكر فيم أفنى عمره، وفيم أذهب دهره، ويذكر أموالا جمعها أغمض في مطالبها، وأخذها من مصرحاتها ومشتبهاتها، قد لزمته تبعات جمعها، واشرف على فراقها، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها، ويتمتعون بها، فيكون المهنأ لغيره والعبء على ظهره، والمرء قد علقت رهونه بها، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من امره، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها، قد حازها دونه، فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه فصار بين أهله لا ينطق بلسانه، ولا يسمع بسمعه: يردد طرفه بالنظر في وجوههم، يرى حركات ألسنتهم، ولا يسمع رجع كلامهم، ثم ازداد الموت التياطا به، فقُبض بصره كما قبض سمعه، وخرجت الروح من جسده، فصار جيفة بين أهله، قد اوحشوا من جانبه وتباعدوا من قربه، لا يسعد باكيا، ولا يجيب داعيا»(2) ، فالتصوير البياني لم يعد محتاجا إلى الارتكاز على الاستعارات المعتمدة على استجلاب صور المشابهة من أجل تجسيد الواقع، فقد استطاعت الكلمة بما تزخر به معان وطاقات ان تستقطب كل معاني الفكرة بالتنقل في جميع أجزائها، من صراع داخلي ينتاب المحتضر يتمثل في استعراض شريط حياته وما يكمن في ذاكرته من صور، وما يتخلل ذلك الاستعراض من انفعالات الخوف والالم والحزن والرهبة، مع تمثله للأقارب والأهل والأصدقاء من حوله ونظراتهم المختلفة

ص: 717


1- راجع خطب: 81 ، 218 ، 223
2- خطب - 108 ، فقرة 3

إليه، وامتزاج ذلك بوصف دقيق ووئيد لحالات الموت منذ بدايتها، وملاحقتها لحظة بلحظة، ومزجها بكل الانفعالات الشعورية الدقيقة من خلال نفسية المحتضر، وانعكاساتها المتولدة على الموقف من حوله، بالتنقل في الزمن، بين ماضٍ وحاضر ومستقبل تكاد تكون ابعاده ماثلة ومتقاربة، مما يدخل في النفس رهبة وقشعريرة تبقى ماثلة للفكر، منغرسة في الأعماق فالعبارة الوصفية بما يكتنفها من ايحاءات تشخيصية، اطلقت الكلمة من عنانها القاموسي في فضاءات خصبة من المعاني التصويرية الكامنة فيها.

فالخاصية المميزة للصورة في أسلوب علي علیه السلام بشكل عام، عمقها التأثيري الكامن في حيويتها المعبرة عن صدق تفاعله مع الكلمة، وعمق اندماجه في الفكرة ومتانة إيمانه بما يعتلج بداخله، والإلحاح الداخلي القوي من أجل توصيل تلك الطاقات الإيمانية بحرارة وحماس بعيدين عن أي تصنع وافتعال، ما يمنح الصورة ميزة التجسيد وديمومة التأثير. سواء كانت تلك الصورة تعتمد على انحراف المعاني بتوجيهها ناحية الوصف المستلهم من جزئيات الواقع، أو من خلال تفجير ما في الكلمة من طاقات معنوية وتوجيهها توجيها تصويريا، وفي كل الحالات يبقى قاموس الصورة ذا طابع مميز من حيث العناصر التي يتكون منها.

3- عناصر مكونات الصورة في نهج البلاغة:

لكل أديب أو فنان عناصره الخاصة المميزة لإبراز تفرده في مجال فنه، إذ بإمكان المتأمل في لوحة أصلية أن ينسباها إلى المدرسة التي تنتمي إليها، ومن ثم إلى الفنان الذي رسمها، وذلك من خلال معايشته لوحاته والتأمل في طريقة مزج ألوانه، وضربات ريشته. وهكذا الموسيقي الفذ، يمكن للأذن الموسيقية

ص: 718

بحسها الفني أن تميز جمله ومقاطعه وتردها إلى شخصه من بين معزوفات غيره.

وللأديب الفذ أيضاً قاموسه الفني الذي يمتح منه لتدبيج لوحاته وحياكة صوره وتأملاته. وفي كل الاحوال بالنسبة للرسام أو الموسيقي أو الأديب، أو المفكر، فإنه لا يستطيع ان ينفلت من بيئته أو ينسلخ من جلده في أثناء العملية الإبداعية التي تمتلك عليه لبه وتنقله بكل احساساته إلى عالم تصطرع فيه الأفكار ضمنالبوتقة التي يعيش فيها. وإذا ما حاولنا تطبيق مقولتنا هذه على ما ورد في نهج البلاغة من صور بلاغية، مهما اختلفت في تركيبها ومزج ألوانها، فإن عناصرها الأساسية لا تكاد تخرج عن البيئة العربية التي عاش فيها علي علیه السلام. فمهما تناهت الصورة في تجسيدها لأفكار علي علیه السلام، فإن البيئة العربية هي الام التي تحتضنها، لأن المفردة اللغوية التي استخدمت في ابرزها هي في الغالب مأخوذة من تلك البيئة، سواء أكانت تعبر عن الطبيعة من حيوان، كالإبل والذئاب والضباع وغيرها من طيور وأفاع، أم طبيعة صامتة كالجبال، والصخور، والرمال، والسيول، والشجر والمراعي والدمن، أم أدوات، كالرحى، والاداوة والحبال والركي، أم عتاد، كالسيوف والسهام، أم عادات، كالرهان والسباق وما ينتج عنهما من فوز أم خسارة، أم ظواهر طبيعية، كالرعد والبرق، والعواصف والأمواج، أم أوبئة وأمراض، كالجرب، والجذام والسريرة، وغيرها. إلا أن توظيف تلك العناصر في تكوين الصور بفكر صافٍ بعيد عن جفاوة البداوة، وبما ادخلته أساليب القرآن الكريم من أثر فيها، وما أضفى عليها الإيمان القوي الملتزم من حيوية نأى بها عن الصعوبة والصلافة والحوشية، كما أن تكرار تلك العناصر ببنائها الفني في نصوص متعددة لم ينل من قيمتها البلاغية ولم يحد من تأثيرها أو يطفئ جذوتها.

فصورة الرحى وقطبها في قوله «وهو يعلم محلي منها محل القطب من

ص: 719

الرحى»(1) هي تعبير عن الأهمية العظمى في سياق الفخر، أما صورة الرحى في قوله «إنما قطب الرحى، تدور علي وأنا بمكاني، فإن فارقته استحار مدارها»(2) فإنما يعني هنا بالرحى الدولة، ومكانته فيها باعتباره القطب الذي ترتكزعليه في دورانها كقائم بشؤون الدولة الأساسية الهامة التي تتطلب منه التواجد في العاصمة لمراقبة كل صغيرة وكبيرة والمباشرة في انجاز كل ما تحتاجه الدولة من مهام سياسية واقتصادية واجتماعية وقضائية وعسكرية، وليس من مهامه الخروج في كتائب صغيرة لرد الغارات الخاطفة التي يشنها معاوية على اطراف بلاده، وانما ذلك من مهمات من يوكل إليهم من قادته الذين يعتمد عليهم.

أما قطب الرحى في قوله لعمر بن الخطاب «كن قطبا واستدر الرحى بالعرب»(3) فإنما يعني بالرحى، كما يبدو في السياق الخطابي الذي وردت فيه، هي الحرب واشتداد لظاها والصورة قد وردت ضمن رد علي علیه السلام على استشارة من عمر بشأن ازماعه على مواجهة الفرس بنفسه، فإضافة القطب إلى الرحى يعني في مضمونه بقاء القائد أو الخلفية في مركزه الذي يحفظه كرمز للدولة، لأنه إذا ما قتل فإن ذلك سينعكس على معنويات جنوده ويقوي من عزيمة الأعداء في الاستبسال للوصول إليه وقتله لا لشخصه بل لمكانته وأهميته كخليفة.

كما قد يريد من القطب في السياق من دون اضافته إلى الرحى، التعبير بدقة عما يجول بنفسه إزاء الموقف الذي هو بصدد الكلام فيه بقصد شرح ابعاده وتبيان خطورته كما في وصفه الفتنة التي سيحدثها الأمويون والتي يقول

ص: 720


1- خطب - 3- فقرة 1
2- خطب - 118
3- خطب: 146

ضمنها «راية ضلال قد قامت على قطبها »(1) ، أي انبثقت من مركزها الثابت لتعم كل نواحي البلاد بالدمار والظلم.

فتكرر الصورة أو بعض عناصرها للتعبير عن فكرة ما أو ما يجري مجراها في نصوص متعددة، ترمي إلى إبراز عناصر فكرية متوحدة، يعني في حد ذاته، سير تلك النصوص في بنائها الفني على نسق خاص، نابع من مصدر واحد مثلها في ذلك مثل السمات الدقيقة المميزة لشخص من دون آخر في تعامله مع الآخرين من حيث الأسلوب والطريقة في الكلام والعمل والتصرف، ولا يمكن ادراكها وملاحظتها الا بالمران جراء كثرة الاحتكاك والتعامل مع الاساليب المختلفة.

والتكرار في صور النهج لا يقتصر على الرحى، وعناصرها، إذ يمكن ملاحظة التكرار في صورة الابل وتزاحمها على المياه في أثناء عطشها في التعبير عن مواقف مختلفة، وصورة الماء ومتعلقاته وأهميته في البيئة الصحراوية (2) ، وصورة الحياة الدنيوية على أنها رحلة انتقال وظل زائل وآفل(3) ، وتكاد جل صور النهج ان تجد لها مثيلاتها أما من حيث التركيب، وأما من حيث اشتراكها في بعض العناصر في عدة نصوص، إضافة إلى استخدام المفعول المطلق تعبيرا عن المماثلة في الكثير من صور النهج، كما ورد في تصوير حال الناس زمن الفتن

ص: 721


1- خطب 107 ، فقرة 4. وراجع أيضاً بشأن صورة الرحى وقطبها خطب 151 ، فقرة 2، وخطب 165
2- راجع خطب 3- فقرة 2، وخطب 16 فقرة 1، وخطب 28، وخطب 34، وخطب 39، وخطب 53، وخطب 86، فقرة 4، وخطب 96فقرة 3. وبالنسبة لأهمية الماء وحده كصورة. راجع خطب 4، وخطب 5 فقرة 1، وخطب 17 فقرة 2، وخطب 23 فقرة 1، خطب 25 فقرة 2
3- راجع خطب 45 ، 52 ، 62 ، 63

والتكالب على المقتنيات الدنيوية «يتكادمون فيها تكادم الحمر في العانة»،(1)، وفي تصوير حياة الإنسان الانتقالية وسرعتها «كأنكم بالساعة تحدوكم حدو الزواجر بشوله»(2) .

وتكرار مثل تلك الصور أو بعضها من عناصرها في نصوص النهج المختلفة لم يفقدها تألقها، ولم يحد من وظائفها في ابراز المعاني وتجسيدها ضمن تلك النصوص، لكون حيويتها لا تكمن في عناصرها الظاهرة بل امتزاجها بروح علي علیه السلام وفكره، وتبوء مكانتها ضمن نصوصها في سلاسة وانسجام من ناحيتي البنية والايحاء، مما يجعل وقعها في النفوس عميقا ومؤثرا لكونها تعمد إلى إجلاء الفكر بإحالته إلى «لوحات فنية لها خطوطها وأشكالها وألوانها، فإذا بك في عالم زاخر من روائع الفن تتماوج به صور وموسيقى وانغام والوان»(3) .

2- أهم المميزات الخاصة بالموسيقى في نهج البلاغة

لا نسعى في هذا الجانب من الدارسة إلى تتبع الاساليب البديعية التي وردت في النهج فقد كفانا مؤونة البحث عنها وتبيانها شراحه من أمثال ابن أبي الحديد،

ص: 722


1- خطب - 151 - فقرة 2. ويتكادمون: يعض بعضهم بعضا. والعانة: القطيع من حمر الوحش
2- خطب - 158 - فقرة 2. والزواجر: الذين يزجرون الابل لسوقها ومفرده زاجر. والشول: النوق التي جف لبنها ومفرده شائلة على غير قياس. والحدو: سوقها والغناء لها. ويمكن ملاحظة مثل ذلك التعبير أيضاً في خطب 39 ، وخطب 42 ، وخطب 47 ، وخطب 52 ، وخطب 53 ، وخطب 107 فقرة 4، 5
3- جرداق - علي علیه السلام صوت العدالة 1/ 46

وابن ميثم البحراني في شرحيهما المطولين، فأبرزا كثيراً من النواحي الجمالية البديعية التي اكتسبت بها كثير من نصوصه. لذلك فإننا سنضرب عن تتبع ما جاء في النهج من بديع صفحا وسنحاول بدلا منه ابراز ما للكلمة ضمن نسيج نصوصه من إيقاع في أثناء انسيابها ضمن نظام معين تميز به أسلوب علي علیه السلام، خاصة وأن انتشار نوع من البديع بكثرة، وندرة نوع آخر منه في أسلوب بعينه لا يعني شذوذا في القاعدة العامة التي انبنى عليها ذلك الأسلوب إذا كان ثمة ما يحتم ذلك، شريطة ان يكون الاستخدام متوائما وطبيعة الأفكار، آخذا بنصيبه فيها الحد المعقول الذي ينأى به عن اعتباره غاية في حد ذاته، مع اعتبار أن خصوصية الكلمة في الأدب الملتزم تنبع أساسا من قيمتها التأثيرية، ولن يتأتى لها ذلك، إلا إذا وردت في سياقات النصوص متخذة أبعادا تخصصية، منها ملائمتها للفكر المطروح من خلالها، وتناسق حروفها من حيث النطق والسماع، وانسجامها من حيث التركيب الأسلوبي في النسق الذي ترد فيه، هذا بالإضافة إلى نفحات العاطفة التي تنبث فيها بما يتلاءم وموضعها في السياق، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أن الأدب الهادف يرمي إلى الاقناع والتأثير، مما يحتم عليه التحدث إلى العقل والتأثير في النفس في آن واحد، فالعقل محتاج من عبارات النص إلى ما هو مقنع منطقيا، والنفس محتاجة إلى بث قدر من العاطفة التي عادة ما تعمد إلى بث الحيوية في الأفكار وتحسين وجهها بالناي بها عن جفاف المنطق ليتمكن المتلقي من استساغتها، والنزوع نحو ما تحويه من قيم، وبين العنصر العقلي والعامل النفسي الابداعي ينساب الأثر الإيقاعي بجميع أبعاده كمحرك للمعاني في النفس آخذا بالكلمات نحو نسق معين يسعى بها إلى الإقناع الطوعي من دون إكراه ولا معاضلة، أو تصنع وهنا يبرز دور المفكر الملتزم كمبدع، لا يرمي إلى طرح الأفكار فحسب، بل يضع في اعتباره أيضاً

ص: 723

توصيل تلك الأفكار، بما تنطوي عليه من طاقات اقناعية وشحنات تأثيرية.

فتنسيق الأفكار وصياغتها في قوالب اقناعية بمزجها بما يلائمها من عاطفة وارسالها في جمل ذات وقع نفسي ملائم للمناسبة يعني الامتزاج التام بين الفكر الواعي والتخيل المتئد في أثناء العملية الإبداعية، إذ لابد من فكر متوقد له القدرة على استغلال كل ما حول المناسبة من عناصر وتوظيفها في الفكرة المارد طرحها، ومن ذلك التوظيف المحكم تتولد طاقات النص الإيقاعية - وفي اعتقادنا ان نصوص نهج البلاغة قد حوت في بنائها الفني مجموع العناصر الجمالية التي تحتاجها الفكرة بغاية الوصول إلى متلقيها.

فإذا أخذنا الجانب الموسيقي، وما يحدثه من أثر في النفس فلابد لنا من العودة إلى تنسيق الجمل في النصوص، والذي فحواه التناسب الكمي في عدد الكلمات المكونة للجمل ضمن الأفكار الجزئية (1)، وهذا التناسق - بطبيعة الحال - قد ولد نوعا من موسيقى الفواصل الصادرة نغماتها، اساسا، من الدعامات الفكرية النابعة من المناسبة، والمقترنة بأسلوب التوصيل حسب مقتضى المقولة الشائعة (لكل مقام مقال) فالمقام المولد للمعاني الفكرية، هو أيضاً المولد لكل ما يحيط بتلك المعاني من إيحاءات ونغم. وهو ما يمكن تتبعه في أساليب النهج المبنية على فكرة واحدة في مناسبات مختلفة، وليكن الفخر في مناسباته مثالنا.

يقول علي علیه السلام« أما والله ان كنت لفي ساقتها، حتى تولت بحذافيرها، ما عجزت ولا جبنت، وان مسيري هذا لمثلها، ولأنقبن الباطل حتى يخرج الحق من جنبه. مالي ولقريش، والله لقد قاتلتهم كافرين، ولأقاتلنهم مفتونين، واني لصاحبهم بالأمس، كما انا صاحبهم اليوم، والله ما تنقم منا قريش الا ان الله

ص: 724


1- راجع ص 678 وما بعدها من هذا البحث

اختارنا عليهم، فأدخلناهم في حيزنا»(1). فالفكرة مجتزأة من خطبة يحاول علي علیه السلام من خلالها بلورة موقفه من طلحة والزبير ومن شايعهم من قريش إزاء الفتنة التي ازمعوا على احداثها في الدولة الإسلامية وقد تضمنت نوعا من الفخر الديني المتسم بالحزم والصرامة، تلافيا للانشقاق، ومن الملاحظ ان الفواصل قد اتخذت نسقا يتراوح بين الطول والقصر المبني على النتائج والمسببات، فتولد عن ذلك نوع من الجرس المتناسق، ذي النبر القوي، البعيد عن الرتابة، فجاءت السجعتان في (ساقتها، بحذافيرها) متناغمة تماما مع (لمثلها)، رغم التفاوت في الكمية الصوتية بين الثلاث كلمات المتقاربة وزنا، كما ان النقلة إلى الشق الثاني من الفكرة، لم يفصمها عن سابقتها حين غير من نسق الحديث في أثناء تدفقه من صيغة الأخبار إلى صيغة التعجب المقرون بالقسم والمربوط بين جزئيه بالنغمة المسجوعة التي وردت متوائمة في جرسها مع ما قبلها من حيث تدفق الحماس المتولد من الفخر المتمثل في قوله «مالي ولقريش... كافرين... مفتونين »، وقد وردت المقابلة بين الامس واليوم في السياق لتضفي على البعد المعنوي الكامن في التاريخ، بعدا نغميا تأمليا، داخل بين الازمان ساعة وقوع الحدث بتبادل المواقف من خلال تبادل في عملية الضمائر في قوله «اختارنا عليهم، فأدخناهم في حيزنا»، على ان الاختيار مفروض، مما يعني ان الادخال لم يكن بالنسبة لقريش الا بقوة ومن غير اقتناع، فأسلوب الفخر الكامن في العبارة لم يخرج

ص: 725


1- خطب - 33 - فقرة 3، 4. وساقة القطيع: مؤخرته، شبه أمر الجاهلية بقطيع من الغنم فقال: اني سقتها ولم ازل اسوقها حتى تولت بأسرها ولم يبق شيء منها، لم أعجز ولم أجبن، وإن مسيري لطلحة والزبير ومن شايعها الآن لهم مثلها. فلأنقبن الباطل: شبه الباطل بشيء قد اشتمل على الحق وصار الحق كالشيء المستتر فيه، فاقسم لينقبن الباطل: أي ليحدث فيه فتقا كي يخرج ما استكن فيه من حق خفي

عن نطاق المعاني الدينية المتسمة بالحسم والحزم، مما ادى إلى اكتساب المفردة اللغوية نوعا من الموسيقى المتجانسة مع طبيعة الموقف الحماسي تجاه التمرد، حيث بقيت العبارة محافظة على توازنها آخذة من جو المناسبة ما يلائمها من نغم، مكتفية بالنهل من البديع الايقاعي ما يحتاجه المعنى، أي إن ذلك الوزن بتموجاته المندفعة وترددات النفس قد انساب في نسيج النص طواعية، فأضفى على المعاني روحا من الحماس المتزن فلم يفقد الفخر بداخله نغمته الدينية.

وفي مقام ثان يفتخر علي علیه السلام قائلا «فقمت بالأمر حين فشلوا، وتطلعت حين تقبعوا ونطقت حين تعتعوا، ومضيت بنور الله حيث وقفوا، وكنت أخفضهم صوتا، وأعلاهم فوتا فطرت بعنانها، واستبددت برهانها، كالجبل لا تحركه القواصف، ولا تزيله العواصف لم يكن لأحد فيّ مهمز، ولا لقائل فيمغمز » (1) ، وقد اقتطعنا الفقرة من خطبة يصف علي علیه السلام فيها حاله منذ توفي رسول الله صلی الله علیه و آله وإلى آخر وقت انجلت فيه نتائج واقعة النهروان (2) وقد اقتضى المقام جانبا من الفخر الديني أيضا، وذلك بعد ان قضى على فتنة الخوارج التي شلت قواه ومنعته من القضاء على فتنة معاوية ومن شايعه من القرشيين لذلك فقد وردت العبارات الفخرية فيها متدفقة حماسا، فانعكس ذلك التدفق على طول الجمل فوردت متناسبة في فواصلها متوحدة في جرس الكلمات المتقابلة في

ص: 726


1- خطب - 37 -. وتقبعوا: اختبأوا وضده تطلعوا. والتعتعة: التردد في الكلام من عي أو حصر. واعلاهم فوتاً: اسبقهم إلى القيام بالمهمات والمبادرة إلى عمل الخيرات. وأخفضهم صوتا: أي اعمل في هدوء ودون تظاهر وزهو بما أعمل، وهو كناية عن التواضع ونفي الزهو والكبر. فطرت بعنانها واستبددت برهانها: أي سبقتهم وانفردت بالرهان أي الجائزة
2- النهروان - مكان المعركة التي قاتل فيها على الخوارج سنة 37 ه. راجع بشأن المعركة وتاريخها تاريخ الطبري 5/ 72 وما بعدها. الباب الخامس: الأساليب التعبيرية في نهج البلاغة

الجمل الأربع التي وازن السجع بواو الجمعة في نهاية كل واحدة منها، في مقابل ضمير المتكلم كنغم متداخل لتبيان التناقض قولا وعملا بينه وبينهم على قاعدة دينية لم يحد عنها قيد انملة. ولإبقاء الأسلوب مستمرا في تدفقه وحيويته النغمية، وردت الفاصلتان القصيرتان المكللتان بالجناس الناقص في (صوتا، فوتا) لتنقل نغمة الفخر إلى نبر اعلى من حيث الجرس والفاعلية والإنطلاق وتدرجا في الوصول بالنغم إلى ذروة الحماس، يطلق علي علیه السلام للكلمة حريتها لتنساح في فضاءات أوسع بتعليق العنان بالطيران، والرهان بالاستبداد على اعتبار ارتباط سرعة الانجاز بالكسب المؤكد وذلك عن طريق بناء الفاصلتين على الجناس الناقص في قوله (عنانها رهانها) والاختصار الفائق في تصوير السرعة المقرونة بالقوة والثبات الكامنتين في الجرس القوي المولد عن استخدام كلمات هادرة ذات حروف إذا تتابعت في نسق الكلمة الواحدة فإنها تبعث في حناياها معانيالقوة والضخامة، الكامنة في تحدي (العواطف والقواصف) كجمعي تكسير يدلان على الكثرة وينطويان على معاني التدمير والازالة، فالتموج المتصاعد في الأسلوب والمقرون بالجمل المتفاصلة نغميا، لم يكن وليد الافتعال أو التصنع لأنه تصوير صادق لحالة ايحائية واعية، فارضة نفسها على النص جراء المناسبة، معبرة عن مدى الاندماج في الموقف، والتفاعل مع الحدث. فالفكرة هنا مبنية على الفخر الديني أيضا، ولكن المناسبة هنا اقتضت التعبير بأسلوب فيه حزم وتبرير: والحزم في عدم التهاون على الإطلاق مع الخارجين، والتبرير الكامن في أنه الآخذ بطريق الحق السالك إياه مذ عرفه في الإسلام ولن يحيد عنه إطلاقا، وإن ما قام به من تقتيل في تلك الشرذمة هو من الحق فلا لوم عليه فيه. أما الفخر المتضمن الفكرة السابقة على فكرتنا هذه فيختلف من حيث أنه يراد به إماطة اللثام عن زيف اتخذه القرشيون ستارا لمحاربته والوقوف ضده، لذلك

ص: 727

اختلف النغم في كلا الفخرين.

وفي موقف فخر ثالث يقول علي علیه السلام «وإني لَمن قوم لا تأخذهم في الله لومة لائم سيماهم سيما الصديقين، وكلامهم كلام الأبرار، عمّار الليل، ومنار النهار، متمسكون بحبل القرآن، يحيون سنن الله، وسنن رسوله، لا يستكبرون، ولايغلون، ولا يفسدون، قلوبهم في الجنان، وأجسادهم في العمل » (1) ، وهو فخر يتضمن تهديد مبطن لخاتمة خطبة موضوعها ما تنطوي عليه العصبية القبلية من أخطار وتهديدها لبنية المجتمع. لذلك جاء الخطاب ضمن الموضوع متسلسل الأفكار معضد بالبراهين الدينية، متخذا من سير الرسل والانبياء برهانا على التواضع والتذلل، فجاء الحديث عن النفس، متوشحا بالخضوع، مجللا بالتذلل في ذات الله، فوردت فواصل الفخر هادئة، ذات ايقاع رخيم، تكاد الجمل من خلاله ان تسمعنا نغمات صوفية، فلم تعد الكلمات الموزونة هي محور الموسيقى، وإن تطعمت الفكرة في بعض نواحيها بوحدات موسيقية تزيل عنها الرتابة، وتشيع في انحائها الهدوء النابض بالبهجة التي انسابت في النص بسلاسة تنأى بها عن أي تصنع.

وفي مقام فخر رابع يوظف علي علیه السلام المقابلات كدعامة من دعائم المقارنة، بغرض ابراز مزايا في مواجهة مزايا أخرى، فيتولد من تتابع تلك المقابلات نوع من التمازج النغمي لاعتماد الجمل في السياق على المقارنات التي فرضتها طبيعة الفكرة، كما في قوله ضمن رده على رسالة من معاوية «لولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر فضائل جمة تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجها آذان السامعين، فدع عنك من مالت به الرمية فانا صنائع ربنا، والناس بعد صنائع

ص: 728


1- خطب - 240 - فقرة 27

لنا، لم يمنعنا قديم عزنا، ولا عادي طولنا على قومك ان خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا فعل الأكفاء، ولستم هناك، وأنى يكون ذلك كذلك، ومنا النبي، ومنكم المكذب، ومنا أسد الله ومنك أسد الأحلاف، ومنا سيدا شباب أهل الجنة، ومنكم صبية النار، ومنا خير نساء العامين، ومنكم حمالة الحطب، في كثير مما لنا وعليكم » (1) ، فقد ورد السجع في تلافيف الفكرة بالقدر الذي احتاجته في تعضيد موسيقى التقابل، مما مازج بين المعاني والأصوات ممازجة كادت أن تكون ملحمة فخر، تعول على التاريخ، وتنهل من معاني القرآن شواهدها، مع توشح العبارة منذ مطلعها بخضوع وتواضع ديني مجلل بكبرياء مكبوحة الجماح، اثار بعض من كوامنها طبيعة الموقف فأتت متتابعة متقابلة في تموجات صوتية عبر فاصلات قصيرة في:

منا النبي ومنكم المكذبومنا أسد الله ومنكم أسد الأحلاف...

وقد أرسلها علي علیه السلام متناسبة لمضمون ما ورد في الرسالة الأم من فخر حاول معاوية فيه اثارة حفيظته والانتفاص من سابقته وبلائه في الإسلام.

ص: 729


1- رسائل - 28 - فقرة 2. والرمية: الصيد يرميه الصائد. ومالت به: خالفت قصده. والقصد: أترك ذكر من مال إلى الدنيا وأمالته إليها، وانا صانع ربنا والناس صنائع لنا: أي ليس لأحد من البشر علينا فضل، بل الله سبحانه هو صاحب الفضل علينا، ونحن الواسطة بين الناس وبينه سبحانه. والطول: الفضل. والعادي: القديم. والأكفاء: جمع كُفء وهو النظير في الشرف. والمكذب: أبو سفيان بن حرب. واسد الله: حمزة بن عبد المطلب وأسد الأحلاف: عتبة بن ربيعة. وسيدا شباب أهل الجنة: الحسن والحسين علیهما السلام. وصبية النار: كلمة قالها رسول الله صلی الله علیه و آله لعتبة بن أبي معيط حين قتله صبرا يوم بدر، وقال كالمستعطف له صلی الله علیه و آله: من للصبية يا محمد قال صلی الله علیه و آله: النار. وخير نساء العالمين: فاطمة بنت محمد صلی الله علیه و آله. وحمالة الحطب: هي أم جميل بنت حرب بن أمية، إمرأة أبي لهب الذي ورد نص القرآن فيها بما ورد، وقوله «في كثير مما لنا وعليكم »: أي أنا قادر على أن أذكر من هذا شيئا كثيرا، ولكني أكتفي بما ذكرت. ابن أبي الحديد 13 / 196 ، 197

ويعدّ السجع من أبرز الظواهر الموسيقية في النهج لاحتلاله مساحة واسعة في الكثير من نصوصه، إلا أن تلك الكثرة لم تكن على حساب المعاني، لأن السجع كمحسن لفظي لم يكن مقصورا لذاته في تلك النصوص، للإحساس بانسيابه بعفوية وطلاقة ضمن سياقاتها المختلفة متميزا بخصائص من أبرزها:

أ- الاعتدال في مقاطع الكلام:

إذ تكاد الجمل المسجوعة في نصوص النهج أن تتخذ نسقا فحواه التساوي في الكمية اللفظية بين الفواصل، والاعتماد على الجمل القصيرة كما في «أيها الناس، أنظروا إلى الدنيا الزاهدين فيها، الصادفين عنها، فإنها - والله عما قليل - تزيل الثاوي الساكن، وتفجع المترف الآمن، لا يرجع ما تولى منها فادبر، ولا يدرى ما هو ات فينتظر » (1) ، فكمية الألفاظ بين كل سجعتين متواليتين متساوية، فلو أرجعنا النص إلى وحدته الأولية المتمثلة في الجمل لاتخذ النسق التالي:

ص: 730


1- خطب - 102 - المطلع

ب - الثراء في قوافي الجمل المسجوعة:

فقلما تكرر القافية والواحدة في أكثر من ثلاث جمل مسجوعة متتالية، مما يزيل عن موسيقى الجمل الملل المتولد من رتابة التكرار من ذلك ما جاء في توبيخ البخلاء بالمال والنفس فقد اتخذت قوافي الجمل نغماً متنوعاً، ومتساوياً من حيث الكيمة اللفظية بين كل سجعتين متتاليتين، ممّا منح السياق تموجاً إيقاعياً مستساغاً.

ج- ورود الجمل المسجوعة بمعان متنوعة في سياقها الفكري:

مما يعني عدم تكرار المعاني على حساب الالفاظ، فالسجع ليس مقصودا لذاته، لذلك خلت نصوص النهج من الحشو، فجاءت معانيه محددة في الجمل التي صيغت من أجلها بحيث لا يمكن على الإطلاق الاستغناء عن أية جملة في أي نص من نصوصه، ويمكن ملاحظة ذلك في جميع النصوص التي وردت كاملة في النهج، مثل ذلك الدعاء:

«اللهمَّ صُنْ وَجْهِي باِلْيَسَارِ وَلاتَبْذُلْ جَاهِيَ باِلاِقْتَارِ فَأَسْتَزِقَ طَالبِيِ رِزْقِكَ «فَلاَ أَمْوَالَ بَذَلُْتموهَا لِلَّذِي رَزَقَهَا وَلاَ أَنْفُسَ خَاطَرْتُمْ بِهَا لِلَّذِي خَلَقَهَا تَكْرُمُونَ بِاللهِ عَلَ عِبَادِهِ وَلاَ تُكْرِمُونَ اللهَ فِی عِبَادِهِ فَاعْتَبِرُوا بِنُزُولِكُمْ مَنَازِلَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، وَانْقِطَاعِكُمْ عَنْ أَصْلِ إِخْوَانِكُمْ!»(*)

ص: 731

وَأَسْتَعْطِفَ شِرَارَ خَلْقِكَ وَأُبْتَلی بِحَمْدِ مَنْ أَعْطَانِی وَأُفْتَتَنَ بِذَمِّ مَنْ مَنَعَنيِ»(1)

فكل جملة قائمة بذاتها في الفقرات المسجوعة الثلاث، قد أدت معنى قائما بذاته يمكن عدّه عنصرا أساسيا في سياق النص الفكري، فالسجع الوارد في الدعاء لم يكن على حساب المعاني أو تكرارا لفحوة معانيها.

د- تقبل النفس للسجع الوارد في تلك النصوص لبعده عن التصنع والغثاثة:

فالسجع في فواصل نصوص النهج لا يرد مفتعلا متكلفا، فانسيابه الطوعي في تلك النصوص بسلاسته يجعل النفس تتقبله وترتاح إلى تردداته الايقاعية، لتميز عبارات النهج بالانسجام التام بين اللفظ ومعناه والملابسات التي تكتنفه أثناء الاداء، وهو ما يمنح السياق نغمات عفوية تنم عن تفاعل قائلها معها وصدقه في توصيلها، فتسري في نفس متلقيها طيعة من ذلك ما جاء في مجال الحث على الجهاد:

«وَاللهُ مُسْتأْدِيكُمْ شُكْرَهُ وَمُوَرِّثُكُمْ أَمْرَهُ وَمُهِلُكُمْ فِی مِضْمار مَحْدُود لِتَتَناَزَعُوا سَبَقَهُ فَشدُّوا عُقَدَ الَْمآزِرِ وَاطْوُوا فُضُولَ الْخَوَاصِر وَلاَ تَجْتَمِعُ عَزِيمَةٌ وَوَليِمَةٌ وَمَا أَنْقَضَ النَّوْمَ لِعَزَائِمِ الْيَوْمِ

ص: 732


1- خطب - 222-. وصيانة الوجه: حفظه من التعرض لذل السؤال. وبذل الجاه: سقوط المنزلة من القلوب. والإقتار: الفقر

وأَمحَى الظُّلَمَ لِتَذَاكِيرِ الْهِمَمِ!» (1)

فلقد سرت نغمة الحث والحماس في سياق النص، فمنح النغمات المتجانسة فيه سرعة منتظمة يكاد المتأمل في النص أن يحسها من كلمة (مستأديكم) المتضمنة معنى الطلب الواجب الاداء ومورثكم بما تتضمنه من معاني العطاء، فالعلاقة بين المعنيين: اداء الشكر للمنعم ووراثة الأمر علاقة ترابطية متسمرة، وتنطوي الاستمرارية على سرعة فيها يكاد المتأمل في النص ان يشعر بها من خلال كلمة (ممهلكم) والمضمار والمتعلق بها ووصف ذلك المضمار بالمحدودية، مما يعني التتابع السريع الكامن في ضمير الغائب المضاف في (شكره، امره، سبقه) وما احدثه ذلك الضمير في الفواصل من تجانس ايقاعي، وتوكيدا لاستمرارية الحماس وتتابع تدفقه، انبثقت الجملتان الانشائيتان بما فيهما من حث كامن في الكنايتين (عقد المآزر، فضول الخواصر) كتعبير عن الاستعداد وطرح كل ما يعيق السرعة، وقد أضفت السجعتان المتتاليتان (المآزر، والخواصر) نوعا من التصميم القوي الكامن في تكرار الراء بما فيها من تصويت نغمي مستمر قوي، ثم العودة إلى النفي في الجملة الخبرية غير المؤكدة، على أساس أن مضمون الإخبار به أمر مفروغ منه لا يحتاج إلى مؤكدات، ضمن مقولة حكمية تعني استحالة الوصول إلى المعالي في ظل الركون إلى الدعة والجري وراء اللذات، مع تناسق نغمي بين ا لمعنيين اللذين يوحيان بالتقابل بين (العزيمة) كحافز على التصميم و (الوليمة) كتعبير عن الدعة، وفي سياق الحث يعود أسلوب الانشاء ليفرض

ص: 733


1- خطب - 217 -. ومستاديكم: طلب منكم أداء شكره. وممهلكم في مضمار: أي معطيكم مهملة في مضمار الحياة المحدود. وتتنازعوا: تتنافسوا. العقد: جمع عقدة وهو الربط. والمآزر: جمع مئزر، وشد عقد المآزر، كناية عن الجد. واطووا فضول الخواصر: أي ما فضل من مآزركم كي لا يعيق سرعتكم بالتفافه حول أرجلكم

نفسه من خلال التعجب كمقولة توكيدية مفروغ منها بما تعنيه من قوة كامنة في النوم، عادة ما تنفض وتهير كل عزيمة خُطط لها في النهار، وذلك بالنسبة للسائر طوال النهار وفي عزمه قطع جزء من الليل في متابعة السير، فيحول النوم بينه وبين ذلك، فيكون ظلامه كستارة استدلت على همم النهار وعزمه، مع ورود الميم كإيقاع تكرر في المواقع الأربعة بنغمات مختلفة في جرسها فقد تجانست كلمة النوم في وزنها الايقاعي ومعظم حروفها مع اليوم مشكلة ما يسميه البلاغيون بالجناس الناقص، وتوائم الوزن بين الظلم والهمم، فأضاف ذلك إلى أسلوبي التعجب نسقا إيقاعيا، انطوى على حث غير مباشر للوصول إلى الغاية، فتدفق المعاني وانسياب الموسيقى من خلال التنقل في أساليب اللغة نأى بالجناس وغيره من المحسنات البديعية في النهج عن الرتابة والافتعال والغثاثة.

ويمكن ارجاع انتشار المحسن البديعي اللفظي في كثير من نصوص النهج لسببين هما:

الأول: تشبع روح علي علیه السلام بصيغ القرآن الكريم وأساليبه التي تشربتها نفسه حتى كادت تستوعب عليه كل كيانه ومشاعره، فكاد ينطق بها في جل ما يصدر عنه من حديث ولما كان أسلوب القرآن الكريم ق بني على نظام «يسمح في الغالب بوقف كامل يستريح عنده نفس القارئ، وهو نظام يخالف نظام النثر المرسل ونظام السجع الذي أثر عن الجاهليين (1) ، فقد احتذاه علي علیه السلام وسار على نهجه وتمثل قوالبه، من دون أي تكلف، وهذا ما جعل أسلوبه يسير في ظلال أسلوب القرآن الكريم مبنى ومعنى، فكان ايقاع الفواصل وجرس الحروف الذي تميزت به آيات القرآن مما اكتسبه النثر الذي أثر عنه، ويمكن

ص: 734


1- زكي مبارك - النثر الفني 1/ 46

ملاحظة ذلك بجلاء في النصوص التي وردت في النهج مستلهمة مضامينها الفكرية من تأملها العميق في معاني بعض آيات الذكر الحكيم 1(1) .

الثاني: وهو عنصر نفسي، إذ لاحظنا كثرة الأسجاع والمقابلات المتقاربة في جرسها المتكاملة في إيقاعاتها في خطب علي علیه السلام ورسائله الانفعالية التي كان يرسلها كنفثات يحاول من خلالها التخفيف من وطأة ما تعانيه نفسه من آلام مكبوته مرجعها لأسباب اهمها:

- الشعور بالهضيمة بسبب اقصائه عن حقه في الخلافة، بعد وفاة الرسول صلی الله علیه وآله واستمرار ذلك مدة حكم الثلاثة قبله، ومناوأة قريش له بعد أن آلت إليه الخلافة، رغم اعتقاده الراسخ بأحقيته فيها، فإن رنة الحزن التي سرت فيما أثر عنه من أقوال في ذلك، جعلها تتميز بجرس اصطبغ برنة حزن، كست العبارات من حيث المعاني وإيقاعاتها كتعبيرات متزاحمة بما تنوء به نفسه من شعور بالضيم، ويمكن تبين ذلك في خطبه التي تضمنت موضوعاتها مسالة الخلافة، خاصة خطبته المعروفة بالشقشقية (2) ، فقد وردت الموسيقى الحزينة الساخطة، هادرة مزمجرة، مفجرة في النص ما كانت نفسه ترزح تحت وطأته من آلام، حاول كبتها مدة من الزمن غير قصيرة، فتفجرت كالبركان الباعث بحممه فجاءت موسيقى النص صاخبة وحزينة.

- حالات الحزن المتولدة عن فقد الأحبة، فإن مثل هذه المناسبات تغلف مقولات علي علیه السلام وتبث في أوصالها جرسا ينطوي على أساه وألمه، مما يتيح للفواصل، وقفات استراحة تأملية موزونة، تحيل المعاني إلى حزن هادئ ومتئد،

ص: 735


1- راجع خطب -218 ، 219 ، 220
2- راجع خطب رقم 3

بعيداً عن التشنجات العصبية التي تفقد الإيقاعات طاقاتها الإيحائية.

- من ذلك ما أثر من قوله بعد دفنه زوجته السيدة فاطمة ابنة رسول الله صلی الله علیه وآله ومنه «السلام عليك يا رسول الله عني، وعن ابنتك النازلة إلى جوارك، السريعة اللحاق بك، قلّ يا رسول الله عن صفيتك صبري، ورق عنها تجلدي، الا ان في التأسي لي بعظيم فرقتك وفادح مصيبتك موضع تعز »(1) ، فقد انساب الحزن ضمن المقولة ساكنا، اضفت عليه الموسيقى الصادرة من فواصل الاسجاع المتنوعة جوا من التأسي الممزوج بالألم العميق الكامن في اعماق النفس.

- ومن ذلك أيضاً ما قاله عندما وافاه خبر وفاة مالك الأشتر «مالك وما مالك والله لو كان جبلا لكان فندا، ولو كان حجرا لكان صلدا، لا يرتقيه الحافر، ولا يوفي عليه الطائر»(2) . فقريحته أبت إلا أن يكون التأبين المجلل بالحزن قويا في جرسه، مما جعلها تجود بموسيقى تتناسب وشجاعة المؤبن في ترجيعات حزينة لا يمكن ان يدرك مدى ألمها وعمق وقعها في النفس إلا من يعرف علاقة مالك الاشتر بعلي علیه السلام.

ومن العوامل النفسية التي فرضت تدفق أساليب البديع ضن مأثورات علي علیه السلام تولد الأسى المكبوت وامتزاجه بالغضب في قرارة نفسه جراء ما لقيه من أصحابه من عناد وخلاف، ومن عدم امتثال لنصحه، وعدم الاستجابة لأوامره، واستغاثاته في مقاومة أعدائه ومناوئيه بالإضافة إلى خيانة بعض ولاته لأماناتهم التي كلفهم بالقيام عليها وحفظها.

فمن الرسائل الغاضبة التي يمكن ملاحقة قوة الايقاع فيها، بالممازجة بين

ص: 736


1- خطب - 196-
2- حكم 152 . الفند: الجبل المفرد من الجبال. والصلد: الصلب الذي لا يتفتت. ولا يوفى عليه أي لا يصل إليه

جرس الألفاظ والتقابل في معانيها ما جاء في قوله لأحد ولاته حين بلغته خيانته:

«أَمَّا بَعْدُ:

مقابلة + سجع - تَعْمُرُ دُنْيَاكَ بَخَرَابِ آخِرَتِكَ

مقابلة + سجع - وَتَصِلُ عَشِيرَتَكَ بِقَطِيعَةِ دِينِكَ»(1)

فعبارات التوبيخ الغاضبة قد وردت متتابعة متخذة نسقا ايقاعيا تلقائيا، بتكرار كاف الخطاب سبع مرات، بتضمينها في المواضع السبعة اتهاما مباشرا مقرونا بخيبة امل متولدة عن اختيار غير مناسب، معياره صلاح الاب، وقد زاد في تكثيف الموسيقى ضمن السياق جرس الألفاظ المتولد عن السجعات المتوالية في نسقها المختلفة في ادائها النغمي في:

تتبع هديه، تسلك سبيله

ص: 737


1- رسائل - 71 -. والعتاد: العدة. وتصل عشيرتك: تغدق عليهم

لهواك انقياداً، لآخرتك عتادا والمقابلات في:

تعمر دنياك، بخراب آخرتك تصل عشيرتك، بقطيعة دينك ويقصد علي علیه السلام بالدين هنا علاقة العبد بربه، وقطيعة الدين انفصام لتلك العلاقة.

ويعلو النبر الايقاعي أيضاً في خطب الجهاد، ولكن برغم الصخب الذي تندفع به المعاني، يبقى الجرس واضحا، ليس الا لأن روح علي علیه السلام تكون في غاية النشوة والحبور، وهي تسجل بالكلمة أناشيد البطولة والفداء، كما تسجل بالسيف ملاحم الشجاعة، فالنغمة الشجية الهادئة في خطب الإيمان الداعية إلى تمجيد الخالق وشكره، تقابلها نغمات القوة والحماس في أثناء المنافحة والدفاع عن ذلك الإيمان، مما يحيل الخطب الحماسية إلى نشيد ملحمي يتردد صداه في صدر كل مقاتل يحارب إلى جانبه، فمن خطبة له في صفين «الجنة تحت اطراف العوالي، اليوم تبلى الاخبار، والله لانا اشوق إلى لقائهم منهم إلى ديارهم اللهم فإن ردوا الحق، فافضض جماعتهم، وشتت كلمتهم وابسلهم بخطاياهم... »(1) ، فقد اتخذت الجمل في السياق نسقا ايقاعيا تصاعديا، بانسياب الجملتين الخبريتين في المطلع بطريق الفصل على اعتبار الرابط النفسي هو اللاحم بينهما، ومن أجل استمرارية التصاعد الحماسي انبثقت جملة القسم مؤكدة إحساسات علي علیه السلام إزاء

ص: 738


1- خطب - 124 -. الجنة تحت أطراف العوالي: مأخوذ من قول رسول الله صلی لله علیه وآله«الجنة تحت ظلل السيوف»وبروق العوالي: لمعان الرماح وخطفها في حركتها أثناء الحرب. وقوله: تبلى الأخبار: مقتبس من قوله تعالى «وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ» محمد/ 31 : أي نخبر أفعالكم

الموقف، مكتفية بالعامل النفسي كرابط لها في السياق، تلا ذلك فصل ثالث تضمن ثلاث جمل انشائية متواصلة بالعطف بالواو فيما بينها باعتبار وقوعها ضمن جواب الشرط الواقع ضمن الجملة الدعائية وقد اكتست تلك الجمل الثلاث نبرا ايقاعيا قويا ولدته الميم الساكنة.فتمازج الفصل كرابط نفسي بالوصل كرابط تعبيري، وتنقل الأفكار عبر الأساليب الخبرية والانشائية، مع التناغم المتولد من توحد قوافي الجمل الثلاث الأخيرة قد كسا النص التدفق والاستمرارية في معاني الحماس.

لقد بلغ نهج البلاغة من الاتساق الاسلوبي والرصانة الفكرية والالتزام ما جعله يتبوا ذروة الابداع «فإذا هو على كثرة ما فيه من الجمل المتقاطعة الموزونة المسجعة ابعد ما يكون من الصنعة وروحها، واقرب ما يكون من الطبع الزاخر»(1) .

ص: 739


1- جرداق - علي علیه السلام صوت العدالة 3/ 208

ص: 740

الخاتمة

ص: 741

ص: 742

الخاتمة

ان النتيجة التي توصلنا إليها، من خلال البحث عن اصول نهج البلاغة،هي ترجيح نسبتها إلى الإمام علي علیه السلام، لكون تلك النصوص في مجملها نابعة من معين فكري واحد، متخذة نسقا أسلوبيا يتميز بخصائص تركيبية تنتمي - في مجملها - من حيث الترتيب المنطقي، والاداء الاسلوبي، والقاموس اللغوي، إلى مفكر واحد. هذا بالإضافة إلى القرائن التاريخية والادلة التوثيقية والشواهد الاسنادية التي تعضد نسبة تلك النصوص إلى علي علیه السلام، فانفتح لنا الباب بذلك مشرعا للدخول إلى فكر علي علیه السلام من خلالها بكل اطمئنان.

ففي مجال دارستنا للأفكار الواردة في تلك النصوص المتعددة المناحي والمناسبات وجدنا انها - في معظمها - مشيدة على دعائم ثلاث تتمثل في: الفكر السياسي، والفكر الاجتماعي، والفكر الكلامي، وهذه الدعائم الثالث تحث ابناء مجتمع علي علیه السلام على المثالية وعلى التوق إلى نصاعة الإسلام الأولى التي كان على عهد الرسول صلی لله علیه و آله وسلم. فمن هذه الناحية يمثل الإمام علي بن أبي طالب الرسول صلی لله علیه و آله وسلم في كل افعاله واقواله.

ففي ميدان السياسة، وفض ان يسكت عن احقيته في ولاية المسلمين مبینا

ص: 743

موقفه الفكري تجاه خلفاء المسلمين الثلاثة قبله، مع ابقاء رابطة التعاون معهم في حدود ما يرضي الله، ويحفظ للإسلام قوته ووحدته، كما وقف بكل حزم، ودونما تهاون أو تراخ في وجه المناوئين لحكومته، لا تمسكا بالحكم، ولكم تصديا لكل ما يسيء إلى تعاليم الإسلام كاستغلال مفاهيمه الإنسانية استغلالا معوجا، لصالح فئة معينة على حساب الفئات المستضعفة.

ولكن تيار المادة كان اقوى من تيار القيم التي نادى بها علي علیه السلام، وكانت النتيجة استشهاده في سبيل المبدأ، ومن أجل ابقاء القيم ناصعة، وقد تمثل ذلك التصور بكل ابعاده في مفهومه للدولة، واهلية القيادة، وكيفية تصور لمؤسسات الدولة من النواحي القضائية والعسكرية والاقتصادية والادارية، وقد انبنى ذلك التصور على أسس متناهية في مثاليتها، غايتها الإنسان وسعادته في الدارين، فهي سياسة دينية تطمح إلى الاخذ بيد الإنسان نحو حياة مشرقة في ظلال شجرة القيم الأخلاقية المورفة الظلال.

وضمن استنتاجاتنا لخلاصة الفكر الاجتماعي الوارد في سياق نصوص نهج البلاغة وجدنا انه بما ينطوي عليه من مبادئ وقيم، ملتصق التصاقا مباشرا بالإنسان في جميع مراحل حياته. وفي كل علاقاته بمحيطه، بداية من الأسرة فالصداقات المحدودة، فالعلاقات الاجتماعية بمعناها العام الشامل، مما يعني ان حقوق الفرد تجاه كل تلك العلاقات مرتبطة ارتباطا وثيقا بواجباته تجاه مجتمعه بحيث تبقى فرديته متميزة بطابعها الشخصي ومنسجمة في ان واحد - مع افراد المجتمع من حولها، تحت مظلة المساوة والعدل المطويين على الحب والخير، والمؤديين إلى الامن الذي ينشده كل فرد وكل جماعة. لذلك جاءت معالجة علي علیه السلام لكل عنصر سلبي في المجتمع معالجة جذرية وبناءة، مع طموح

ص: 744

دائب في الوصول بالفرد ضمن مجتمعه نحو ما يريده له الإمام علي علیه السلام من مثال ضمن مجتمع اساسه التوازن في معاملاته وعلاقاته بين المتطلبات الدنيوية والمتطلبات الأخروية.

لذلك ارتأى الإمام علي علیه السلام ان يكون الإنسان على دراية ومعرفة بقيمته الإنسانية ولن يتأتى له ذلك الا من خلال معرفة علاقته بخالقه المتمثلة في ادراك حقيقة الوجود من حوله وعلاقة ذلك الوجود به هو نفسه، واثر الخالق في الوجود وما يرتبط فيه من علاقات، فإذا ما تمكن الإنسان من معرفة نفسه، استطاع ان يعرف ذاته التي يمكنه من خلالها تقدير منزلته في هذا الكون،فتطمئن نفسه ويهتدي بتأمله العميق ذاك إلى فكرة التوحيد، لذلك العنصر الذي ما فتئ يلح على نفس علي علیه السلام حتى اخر لحظة من حياته، على اعتباره لب العقيدة الإسلامية وركنها الاساسي.

فالتوحيد - كما هو بين في النهج - دعوة إلى الإيمان بوجود الخالق الواحد من خلال ذاتية يمكن للإنسان ان يتوصل إليها بالنظر إلى نفسه، وفي ما حوله من ابداعات، وهو ما يقتضي ان يعرف ماهية علاقة الملائكة بالخالق، بالقدر الذي يستوعبه فكر الإنسان، كل حسب مستواه كمعلم من معالم العقيدة لا جدال فيه.

ومن معالم العقيدة في فكر الإمام علي علیه السلام الإيمان بالرسل وقيمتهم الأساسية كهداة انيطت بهم مهمة انتشال العقول من مهاوي الجهالة ومتاهات الضلالة.

ولما كان الإنسان هو المعنى بالرعاية، والمحاط بالتكريم من لدن الخالق العظيم فقد افرد له الإمام علي علیه السلام مساحة واسعة من فكره، معتبرا اياه المخلوق السوي المميز، الذي من اجله خلق الله هذا الكون وجعل كل مقدراته تحت

ص: 745

تصرفه، فكان ان وقف متأملاً في حقيقة خلقه، واصول تربته التي انشأه الله منها، ومكانته في هذا الكون، وقدرته على التصرف فيما حوله، وغاية وجوده، وعلاقته بالدنيا الزمانية، والاخرى المكانية، والترابط بينهما في وحدة تكمن في المصير، مما يحتم على الإنسان ان يدرك ذلك كله. وادراكه ذاك سيقوده لا محالة إلى الفهم الحقيقي في كيفية التصرف بحياته المؤقتة. وعند هذه النقطة يتداخل مفهوم التصوف بمفهوم الزهد في نهج البلاغة، فيمنح النصوص المعلقة بذلك ابعادا فلسفية غايتها الخروج منه بأفكار تصلح لأن تكون متكآت فكرية للتصوف عند المتصوفة، وللزهد عند من يدعون إلى ذم الدنيا والاعراض عنشؤونها، ولكن بتتبعنا لفحوى تلك النصوص، نجد ان فكر الإمام علي (علي السلام) لا ينحو نحو التصوف، ولا يأخذ بالجانب الزهدي كأسلوب يحرم النفس من متع الدنيا التي احلها الله.

فالزهد كما نستشفه من افكار الإمام علي علیه السلام هو الاخذ من متع الحياة بما يتلاءم والقيم التي شرعها الإسلام دونما افراط ولا تفريط ثم انه في جانب اخر يعني احاطة الأخلاق بسياج متين من القيم في حالة اخفاق الإنسان في تحقيق طموحاته المادية في الحياة، وهو في جانب ثالث يعني اقدام الإنسان على خوض الغمرات إلى الحق بكل اصرار وايمان انطلاقا من مفهوم واجب الإنسان نحو خالقة فيدنياه القصيرة مما يمنح الجهاد بكل معانيه ابعادا ذات قيمة مقدسة في فكر الإمام علي علیه السلام.

فتمسك الإنسان بالقيم والاصرار على بقائها ناصعة، واحتمال المشاق من أجل خلودها، لابد ان يصل بالإنسانية - في نهاية المطاف - إلى المكانة السامقة، بالتوق نحو مستقبل تكون الحقيقة فيه جلية، حيث لا ظلم ولا اضطهاد، ولا

ص: 746

زيف ولا نفاق، وذلك هو لب محور فكر الإمام علي علیه السلام في الجانب الكلامي المتمثل في فكرة المهدي والمهدية.

لقد قام الشريف الرضي بإيجاز خالد حين باشر بجمع ما جمعه من هذا الفكر الثر المنطوي على تصور شبه متكامل للحياة بكل ابعادها السياسية والاجتماعية والفكرية، وفي قالب أسلوبية هي غاية في الابداع والروعة من حيث التناسق الاسلوبي، والجمال البلاغي والانسجام النغمي، فكان نهج البلاغة بما حواه من خطب ووصايا وعهود ورسائل ومواعظ وحكم بناءا متناغما ومعلما متكاملا من حيث الشكل الفني والمضمون الفكري.

ص: 747

ص: 748

المصادر والمراجع

ص: 749

ص: 750

المصادر والمراجع

اولا - نسخ نهج البلاغة التي اعتمد ها الدارسة

* نهج البلاغة - صورة من نسخة مخطوطة نادرة من القرن الخامس الهجري - خزانة المخطوطات - مكتبة آية الله المرعشي - قم - الجمهورية الإسلامية الايرانية.

* منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - الراوندي - سعيد بن هبة الله ( ت 573 ه-) - تحقيق عبد اللطيف الكوهكمري - مكتبة آية الله المرعشي - قم - 1985 .

* شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد - عز الدين بن هبة الله بن محمد (ت 655 ه-):

- تحقيق: محمد أبو الفضل ابراهم - دار احياء التراث العربي - بيروت - ط 2 - 1965.

- مراجعة وتحقيق لجنة احياء الذخائر - دار مكتبة الحياة - بيروت - 1983 .

* شرح نهج البلاغة - ميثم البحراني - كمال الدين ميثم بن علي بن ميثم (ت 679 ه-):

- دار العالم الإسلامي - بيروت - ط 2 - 1981 .

* منهاج البارعة في شرح نهج البلاغة - الخوئي - ميرزا حبيب الله:

- مؤسسة الوفاء - بيروت - ط 2 - 1983 .

ص: 751

* نهج البلاغة - شرح الشيخ محمد عبده:

- تحقيق محمد عاشور - الشعب - القاهرة - د . ت .

- الاندلس - بيروت - ط 7 - 1984 .

* الاعلمي - بيروت - د . ت .

- البلاغة - بيروت - ط 4 - 1989 .

* في ظلال نهج البلاغة - مغنية - محمد جواد:

- دار العلم للملايين - بيروت - ط 2 - 1983 .

* الكاشف عن الفاظ نهج البلاغة - الخراساني - السيد جواد المصطفوي:

- دار الكتب الإسلامية - طهران - 1975 .

* نهج البلاغة - ضبط وفهرسة: الصالح - الشيخ صبحي:

- دار الكتب اللبناني - بيروت - ط 3 - 1983 .

* مصادر نهج البلاغة - الحسيني - عبد الزهراء :

- مؤسسة الاعلمي - بيروت - ط 2 - 1975 .

* المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة - كاظم محمدي ومحمد دشتي:

- دار الاضواء - بيروت - 1986 .

* نهج البلاغة - تحقيق وشرح: ابراهيم - محمد ابو الفضل:

- دار الجيل - بيروت - 1988 .

ثانيا - المراجع

* الاّبي أبو سعيد منصور بن الحسين (ت 421 هت):

- نثر الدر - الهيئة المصرية - القاهرة - د .ت .

ص: 752

الامّدي - عبد الواحد بن محمد التميمي (ت 550 ه-):

- غرر الحكم ودرر الكلم - دار القارئ - بيروت ط 1 - 1987 .

* الابشيهي شهاب الدين محمد - بن أحمد (ت 850 ه-):

- المستطرف في كل فن مستظرف - الحياة - بيروت - 1986 .

* ابراهيم - حسن:

- تاريخ الاسلام السياسي - النهضة المصرية - القاهرة - ط 8 - 1974 .

* إبراهيم - محمد أبو الفضل:

- مقدمة تحقيق امالي المرتضى - دار الكتاب العربي - بيروت ط 2 - 1967 .

* ابن الأثير - نجم الدين أحمد بن اسماعيل الحلبي (ت 737 ه-):

- جوهر الكنز - منشأة المعارف - الاسكندرية - د . ت .

* ابن الاثير - أبو الحسن علي بن محمد (ت 630 ه-):

- أسد الغابة في معرفة الصحافة - كتاب الشعب - القاهرة - 1970 .

- الكامل في التاريخ - دار الكتاب العربي - بيروت ت ط 4 - 1983 .

* ابن الأثير أبو السعادات المبارك بن محمد ( 606 ه-):

- جامع الأصول من احاديث الرسول - إحياء التراث العربي بيروت - ط 4 - 1984 .

- النهاية في غريب الحديث والأثر - دار الفكر العربي - بيروت ط 2 - 1979 .

* ابن الأثير - ضياء الدين نصر الله بن محمد (ت 637 ه-):

- المثل السائر - نهضة مصر - القاهرة - د . ت.

* الاخفش الاصغر - علي بن سليمان بن الفضل (ت 315 ه-):

- كتاب الاختيارين - الرسالة - بيروت - ط 2 - 1984 .

ص: 753

* اخوان الصفا:

- رسائل اخوان الصفا - صادر - بيروت - د . ت .

* أرسطو طاليس:

- علم الأخلاق - دار الكتب المصرية - القاهرة - 1924 .

* ابن اسحاق - محمد (ت 151 ه-):

- السيرة النبوية - الوقف للخدمات الخيرية - قونيه - 1981 .

* الاسكافي - أبو جعفر محمد بن عبد الله ( ت 240 ه-):

- كتاب نقض العثمانية - بواسطة شرح ابن أبي الحديد.

* اسماعيل محمود :

- سوسيولوجيا الفكر الإسلامي - دار الثقافة - الدار البيضاء - ط 1 - 1980 .

* الاشعري - أبو الحسن علي بن اسماعيل (ت 324 ه-):

- مقالات الإسلاميين - فرانز شتايز - فيسبادن - ط 3 - 1980 .

* الاصفهاني: أبو الفرج علي بن الحسين بن محمد (ت 356 ه-):

- الاغاني - الدار التونسية للنشر - تونس - 1983 - مصورة عن نسخة دار الثقافة - بيروت .

- مقاتل الطالبيين - الاعلمي - بيروت - ط 2 - 1987 .

* ابن أعثم أحمد الكوفي )ت 314 ه(:

- الفتوح - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1986 .

* افلاطون في الإسلام:

- نصوص من تحقيق عبد الرحمن بدوي - الأندلس - بيروت - ط 2 - 1980 .

* امرؤ القيس بن حجر بن عمرو الكندي (ت نحو 540 م):

ص: 754

- ديوانه - دار المعارف - القاهرة - ط 4 - 1984 .

* أمين أحمد :

- كتاب الأخلاق - الكتاب العربي - بيروت - 1969 .

- ظهر الإسلام - الكتاب العربي - بيروت - ط 5 - 1969 .

- فجر الإسلام - النهضة المصرية - القاهرة - ط 13 - 1978 .

* الامين - حسن:

- دائرة المعارف الإسلامية الشيعية - دار التعارف - بيروت - ط 3 - 1981 .

* الامين السيد محسن:

- أعيان الشيعة - دار التعارف - بيروت - 1982 .

* الأميني - عبد الحسين بن أحمد:

- الغدير في الكتاب والسنة - الكتاب العربي - بيروت - ط 4 -1977 .

* الأنطاكي داور بن عمر (ت 1008 ه-):

- تزيين الأسواق في أخبار العشاق - دار حمد ومحيو - بيروت - ط 1 - 1972 .

* التستري - محمد تقي:

- قضاء أمير المؤمنين علیه السلام - الأعلمي - بيروت - ط 10 - 1983 .

* الباقلاني - أبو بكر محمد بن الطيب (ت 403 ه-):

- إعجاز القرآن - دار المعارف - القاهرة - ط 5 - 1981 .

* الباقوري - أحمد حسن :

- علي إمام الأئمة - مكتبة مصر - القاهرة - 1985 .

* البحراني - السيد هاشم:

ص: 755

- البرهان في تفسير القرآن - الوفاء - بيروت - ط 3 - 1983 .

* ابن بدران - عبد القادر:

- تهذيب تاريخ دمشق - دار المسيرة - بيروت - ط 2 -1979 .

* البرقي - أحمد بن محمد بن خالد (ت 274 ه-) :

- المحاسن - دار الكتب الإسلامية - قم - ط 2 - د . ت .

* بروكلمان كارل:

- تاريخ الشعوب الإسلامية - العلم للملايين - بيروت - ط 10 - 1984 .

- تاريخ الأدب العربي - دار المعارف - القاهرة - ط 3 - 1974 .

* البغدادي - عبد القاهر بن طاهر التميمي (ت 429 ه-):

- اصول الدين - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 3 - 1981 .

* ابن بكار - الزبير (ت 256 ه-):

- الأخبار الموفقيات - رئاسة ديوان الاوقاف - بغدار - 1972 .

* الكبري - عبد الله بن عبد العزيز الاندلسي (ت 487 ه-):

معجم ما استعجم - عالم الكتب - بيروت - ط 3 - 1983 .

* البلاذري - محمد بن يحي بن جابر (ت 239 ه-):

- انساب الاشراف - الاعلمي - بيروت - ط 1 - 1974 .

- فتوح البلدان - مؤسسة المعارف - بيروت - 1987 .

* بلاشير - رجيس :

- تاريخ الادب العربي - الدار التونسية للنشر - تونس - 1986 .

* البلخي - ابو القاسم عبد الله بن أحمد (ت 309 ه-) وغيره من المعتزلة:

ص: 756

- فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة - الدار التونسية للنشر - تونس - 1986 .

* البنا - أحمد بن عبد الرحمن :

- الفتح الرباني لترتيب مسند أحمد احياء التراث العربي - بيروت - ط 2 - د . ت.

* بوازار - مارسيل:

انسانية الاسلام - دار الآداب - بيروت - ط 1 - 1980 .

* البوصيري - شرف الدين محمد بن سعيد ( ت 696 ه-):

- ديوانه - مصطفى البابي الحلبي - القاهرة ط 1 - 1955 .

* بيصار - محمد عبد الرحمن:

- العقيدة والاخلاق وأثرهما في حياة الفرد والمجتمع - الانجلو مصرية - القاهرة - ط 4 - 1973 .

* البيهقي - ابراهيم بن محمد (أحمد اعلام القرن الثالث الهجري):

- المحاسن والمساويء - نهضة مصر - القاهرة - 1961 .

* التلمساني - محمد بن أبي بكر (من علماء اواسط القرن السابع):

- الجوهرة في نسب الامام علي وآله - مكتبة النوري - دمشق - ط 1 - 1983 .

* التنوخي ابو علي المحسن بن أبي القاسم (ت 384 ه-):

- الفرج عبد الشدة - الشريف الرضي - قم - 1945 .

* التهانوي - محمد علي بن علي:

- كشاف مصطلحات الفنون - دار قهرمان - استانبول - 1984 .

* التوحيدي - أبو حيان علي بن محمد بن عباس (ت 380 ه-):

- الإمتاع والمؤانسة - الحياة - بيروت - د . ت.

* توشار - جان:

ص: 757

- تاريخ الأفكار السياسية - وزارة الثقافة - دمشق - 1984 .

* الثعالبي - عبدالملك بن محمد بن اسماعيل (ت 429 ه-):

- برد الاكباد في الاعداد - الجوائب - القسطنطينية - 1884 .

- التمثيل والمحاضرة - دار احياء الكتب العربية - القاهرة - 1961 * الجاحظ - ابو عثمان عمرو بن بحر (ت 255 ه-) :

- البخلاء - دار احياء العلوم - بيروت - ط 1 - 1988 .

- البيان والتبيين - الخانجي - القاهرة - ط 3 - د . ت .

- المئة المختارة بشرح ميثم - مير جلال الدين الارموي - طهران - 1970 .

* الجرجاني - عبد القاهر بن عبد الرحمن (ت 471 ه-):

- أسرار البلاغة - وزارة المعارف - استانبول - 1954 .

- دلائل الاعجاز - المعرفة - بيروت - 1978 .

* جرداق - جورج :

- علي صوت العدالة الإنسانية - حياة - بيروت - 1970 .

* الجندي - علي وزميلاه:

- سجع الحمام في حكم الامام - دار القلم - بيروت.

* جولد تسهير - أجناس:

- العقيدة والشريعة الاسلام - الرائد العربي - بيروت - طبعة مصورة عن طبعة دار - الكتاب المصري - 1946 .

* الجهشياري - أبو عبد الله محمد بن عبدوس ( ت 331 ه-):

- الوزراء والكتاب - مصطفى الحلبي - القاهرة - ط 2 - 1980 .

* الجوهري - ابو بكر أحمدبن عبد العزيز ( من رجال النصف الاخير من القرن

ص: 758

الثالث):

- السقيفة: بواسطة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد.

* الجوهري - اسماعيل بن حماد (ت 393 ه-):

- الصحاح دار العلم للملايين - بيروت - ط 2 - 1979 .

* ابن الحجاج القشيري - ابو الحسن مسلم (ت 261 ه-):

- صحيح مسلم - احياء التراث العربي - بيروت - د . ت .

* ابن حجر العسقلاني أحمدبن علي )ت 852 ه(:

- تهذيب التهذيب - صادر - بيروت - 1968 .

- لسان الميزان - الاعلمي - بيروت - ط 2 - 1971 .

* الحر العاملي - محمد بن الحسن (ت 1104 ه-):

- وسائل الشيعة - احياء التراث العربي - بيروت - ط 5 - 1983 .

* ابن حزم الاندلسي - ابو محمد علي بن أحمد (ت 456 ه-):

- جمهرة أنساب العرب - المعارف - القاهرة - ط 5 - 1982 .

- الفصل في املل والنحل المعفرفة - بيروت - 1986 .

* حسين طه:

- حديث الاربعاء - المعارف - القاهرة - ط 10 - 1973 .

- الشيخان - المعارف - القاهرة - ط 7 - 1981 .

- الفتنة الكبرى (عثمان) - المعارف - القاهرة - ط 10 - 1984 .

- الفتنة الكبرى (علي وبنوه) - المعارف - القاهرة - ط 11 - 1982 .

* الحصري القيرواني - ابو اسحاق ابراهيم بن علي (ت 453 ه-):

ص: 759

- زهر الآداب - احياء الكتب العربية - القاهرة - ط 1 - 1953 .

* حقي - ممدوح:

- التعليق على كتبا الاسلام وأصول الحكم الحياة - بيروت - د . ت.

* الحكم سعاد:

- المعجم الصوفي - المؤسسة العامة للدراسات - بيروت - ط 1 - 1981.

* الحكيمي - محمد رضا :

- شرح الخطبة الشقشقية - الوفاء - بيروت - ط 1 - 1982 .

* الحلبي - علي بن برهان الدين ( ت 1044 ه-):

- لسيرة الحلبية - دار المعرفة - بيروت - د . ت.

* الحموي - ياقوت بن عبد الله ( ت 626 ه-):

- معجم البلدان - صادر - بيروت - 1984 .

* ابن حنبل - ابو عبد الله الامام أحمد( ت 241 ه-):

- كتاب الزهد - الفكر الجامعي - الاسكندرية - 1984 .

- المسند احياء التراث العربي - بيروت - د . ت.

* الحوفي - أحمد محمد:

- بلاغة الامام علي - نهضة مصر - القاهرة - ط 1 - 1977 .

* خسرو - ناثر (ت 450 ه-):

- سفرنامة - دار الكتاب الجديد - بيروت - ط 2 - 1970 .

* خفاجي - محمد عبد المنعم :

الازهر في الف عام - المطبعة المنيرية - القاهرة - ط 1 - 1945 .

ص: 760

* ابن خلدون - عبد الرحمن (ت 808 ه-):

- المقدمة والتاريخ - دار الفكر - بيروت - ط 1 - 1981 .

* خلف الله أحمد - محمد :

- في العروبة وآدابها - معهد البحوث والدراسات العربية - القاهرة - 1970 .

* ابن خلكان - شمس الدين أحمد بن محمد ( ت 681 ه-):

- وفيات الاعيان دار الثقافة - بيروت - د . ت.

* الخميني - روح الله.

- الحكومة الإسلامية - دار الطليعة - بيروت - ط 1 - 1979 .

* ولد خوجه - عبد الوهاب:

- شرح المئة المختارة - مير جلال الدين الأرموي طهران - 1970 .

* الخوانساري - محمد باقر الموسوي:

- روضات الجنات - مكتبة اسماعيليان - قم - 1970 .

* خياط يوسف:

- معجم المصطلحات الفنية - دار لسان العرب - بيروت - د . ت.

* دراز محمد عبد الله :

- دستور الأخلاق في القرآن - الرسالة - بيروت - ط 3 - 1980 .

* ابن دريد - ابو بكر محمد بن الحسن الازري (ت 321 ه-):

- المجتنى - دار الفكر - دمشق ط 1 - 1979 .

- جمهرة اللغة - صادر - بيروت - صورة من طبعة دائرة المعارف العثمانية - 1345 ه-- 1926 م.

* ابن أبي الدنيا - أبو بكر عبد الله بن محمد القرشي (ت 280 ه-):

ص: 761

- اليقين - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1987 .

* دوفابر - جاك دونديو:

- الدولة - عويدات - بيروت - ط 1 - 1970 .

* ديبور - ت ج :

- تاريخ الفلسفة الإسلامية - النهضة المصرية - القاهرة - ط 5 - د. ت.

* الديلمي - محمد بن الحسين بن محمد (ت 463 ه-):

ارشاد القلوب - بواسطة: مستدرك الوسائل للنوري - مؤسسة آل البيت - بيروت - د. ت.

* الدينوري - ابو حنيفة أحمد بن داود ( ت 282 ه-):

- الأخبار الطوال - دار المسيرة - بيروت د. ت.

* دينيت - دانيل:

- الجزية في الاسلام - الحياة - بيروت - د. ت.

* الذهبي - شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان (ت 748 ه-):

- سير اعلام النبلاء - الرسالة - بيروت - ط 3 - 1985 .

* الرازي - عبد الرحمن بن محمد بن ادريس (ت 327 ه-):

- الجرح والتعديل - احياء التراث العربي - بيروت - طبعة مصورة عن الطبعة الأولى بالدكن - 1952 .

* الرازي - محمد بن عمر (ت 604 ه-):

- تفسير الرازي - دار الفكر - بيروت - ط 3 - 1985 .

* الراغب الاصفهاني - حسين بن محمد (ت 502 ه-):

- محاضرات الأدباء الحياة - بيروت - د. ت.

ص: 762

- المفردات في غريب القرآن دار قهرمان - استانبول - 1986.

* رجب - منصور :

- تأملات في فلسفة الأخلاق الانجلو مصرية - القاهرة - ط 3 -1961 .

* ابن رشد - محمد بن أحمد الأندلسي (ت 595 ه-):

- تلخيص الخطابة - وكالة المطبوعات - الكويت د. ت.

* ابن رشيق - الحسن القيرواني ( ت 456 ه-):

- العمدة الجيل - بيروت - ط 4 - 1972 .

* رضا - احمد:

- معجم متن اللغة - الحياة - بيروت - ط 1 - 1958 .

* الرضا - الامام علي بن موسى (ت 203 ه-):

- صحيفة الامام الرضا - مؤسسة الامام المهدي - قم - 1987 .

- الفقه المنسوب للامام الرضا - آل البيت - قم - ط 1 - 1985 .

* رضا محمد :

الامام علي بن أبي طالب علیه السلام - الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

* رضا محمد رشيد:

- تفسير المنار - المعرفة - بيروت - ط 2 - د. ت.

- الوحي المحمدي - عز الدين - بيروت - ط 3 - 1986 .

* الرضي الشريف محمد بن الحسين الموسوي (ت 406 ه-):

- حقائق التأويل - دار المهاجر - بيروت - د. ت.

- خصائص الائمة - مجمع البحوث الإسلامية - مشهد - 1985 .

ص: 763

رسائل الصابي والشريف الرضي - دائرة المطبوعات - الكويت - 1961 .

- المجازات النبوية - مصطفى الحلبي - القاهرة - 1971 .

* الزبيدي - محمد مرتضى الحسني (ت 1205 ه-):

- تاج العروس - دار الجيل - بيروت - بوشر بنشر ه منذ 1965 .باشراف حكومة الكويت ولم يتم بعد.

* الزبير بن بكار (ت 256 ه-):

- الأخبار الموفقيات - رئاسة ديوان الاوقاف - بغداد - 1972 .

* الزجاج - أبو القاسم عبد الرحمن بن القاسم (ت 339 ه-):

- الامالي في المشكلات القرآنية والاحاديث النبوية الكتاب العربي - بيروت - ط 2 - 1983 .

* الزركلي خير الدين :

- اعلام الزركلي - الملايين - بيروت - ط 7 - 1986 .

* الزمخشري - جار الله محمود بن عمر (ت 583 ه-):

- ربيع الابرار - رئاسة ديوان الاوقاف - بغداد - 1976 .

* الزنجاني السيد ابراهيم الموسوي:

- عقائد الإمامية الاثنى عشرية - الوفاء - بيروت - 1982 .

* ابو زهرة - محمد :

- خاتم النبيين - العصرية - بيروت - 1979 .

- المجمع الإنساني في ظل الاسلام - ديوان المطبوعات الجزائرية . الجزائر - ط 2 - 1981.

* ابو زيد شلبي:

ص: 764

- الخلفاء الراشدون - مكتبة وهبة - القاهرة - 1967 .

* زيد - جرجي.

- تاريخ آداب اللغة العربية - الحياة - بيروت - 1967 .

- تاريخ التمدن الإسلامي - الحياة - بيروت - د. ت.

- العرب قبل الاسلام - الحياة - بيروت - 1979 .

* سبط ابن الجوزي يوسف بن فرغلي (ت 654 ه-):

- تذكرة الخواص - أهل البيت - بيروت - 1981 .

* السجستاني - ابو حاتم سهل بن محمد ( ت 250 ه-):

- المعمرون والوصايا - دار احياء الكتب العربية - القاهرة - 1961 .

* ابن سعد - محمد (ت 230 ه-):

- الطبقات الكبرى - دار بيروت - بيروت - 1980 .

* السكوني - أبو علي عمر (ت 717 ه-):

- عيون المناظرات - الجامعة التونسية - تونس - 1976 .

* السلجماسي - أبو محمد القاسم الانصاري (من نقاد القرن الثامن الهجري):

- المنزع البديع - مكتبة - المعارف - الرباط - ط 1 - 1980 .

* سلوم داود:

- شعر الكميت - مكتبة - الاندلسي - بغداد - 1969 .

* السنهوري - عبد الرزاق:

- مصادر الحق في الفقه الإسلامي - دار الفكر - بيروت - د. ت.

* السهارنفوري - خليل بن احمد:

ص: 765

- بذل المجهود في حل ابي داود - الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

* السهيلي - عبد الرحمن (ت 581 ه-):

- الروض الأنف - بواسطة سيرة بن هشام - دار احياء التراث - بيروت - د. ت.

* السيوطي - جلال الدين عبد الرحمن (ت 911 ه-):

- تاريخ الخلفاء - مطبعة السعادة - القاهرة - 1952 .

- الدر المنثور - بواسطة : فضائل الخمسة في الصحاح الستة، للفيروز آبادي - الاعلمي بيروت - ط 4- 1982 .

- شرح شواهد المغنى - الحياة - بيروت - 1966 .

- المزهر في علوم اللغة - دار الفكر - بيروت - د. ت.

* ابن شاذان - ابو محمد الفضل (ت 260 ه-):

- الايضاح - الاعلمي - بيروت - ط 1 - 1982 .

* ابن شعبة الحراني - ابو محمد الحسن بن علي (من اعلام القرن الرابع الهجري )

- تحف العقول عن آل الرسول - الاعلمي - ط 5 - 1974 .

* ابن شهر آشوب - ابو عبد الله محمد بن علي (ت 588 ه-):

* مناقب آل ابي طالب علیه السلام - المطبعة الحيدرية - النجف 1956 .

* الشهرستاني - أبو الفتح محمد بن عبد الكريم (ت 548 ه-):

- الملل والنحل - دار المعرفة - بيروت - د. ت.

* الصالح - الشيخ صبحي:

- مقدمة نهج البلاغة - دار الكتاب اللبناني - بيروت - ط 3 - 1983 .

* صبحي أحمد محمود:

- الزيدية الزهراء للاعلام العربي - القاهرة - ط 2 - 1984 .

ص: 766

- نظرية الامامة لدى الشيعة الاثنى عشرية - دار المعارف - القاهرة 1969 .

* الصدر - حسن:

- تأسيس الشيعة لفنون الاسلام - الرائد العربي - بيروت - 1980 .

* الصدوق - ابن بابويه أبو جعفر بن علي بن الحسين (ت 382 ه-):

- امالي الصدوق - الاعلمي - بيروت - ط 5 - 1980 .

- التوحيد - دار المعرفة - بيروت - د. ت.

- الخصال - جماعة المدرسين بالحوزة العلمية - قم - 1982 .

- علل الشرائع - دار البلاغة - بيروت - مصورة عن طبعة النجف 1969 .

- معاني الأخبار - انتشارات اسلامي - قم -1959 .

- من لا يحضره الفقية - الاعلمي - بيروت - ط 1 - 1986 .

* الصفار رشيد:

- مقدمة تحقيق ديوان الشريف المرتضى - عيسى الحلبي - القاهرة 1958 .

* صفوت - أحمد زكي:

- ترجمة الامام علي - بواسطة مصادر نهج البلاغة لعبد الزهراء الحسيني.

* ضيف - شوقي :

- الفن ومذاهبه في النثر العربي - دار المعارف - القاهرة - ط 10 - 1983 .

* طاش كبرى زادة - أحمد مصطفى (ت 968 ه-):

- مفتاح السعادة - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1- 1985 .

* أبو طالب المكي - محمد بن علي بن عباس ( ت 386 ه-):

- قوت القلوب - صادر - بيروت - د. ت.

ص: 767

أبو طالب يحيى بن الحسين بن هارون (ت 424 ه-):

- تيسير المطالب في امالي أبي طالب - الاعلمي - بيروت - ط 1 -1975 .

* ابن طاووس - علي بن موسى بن جعفر الحسني( ت 664 ه-):

- الملاحم والفتن - الوفاء - بيروت - ط 6- 1983 .

* الطبرسي - أبو منصور أحمد بن علي (ت 620 هت):

- الاحتجاج - الأعلمي - بيروت - ط 2 - 1983 .

* الطبرسي - أبو الفضل علي بن الحسن (ت القرن السابع):

- مشكاة الأنوار - الحيدرية - النجف ط 2 - 1965 .

* الطبرسي - أبو علي الفضل بن الحسن (ت 548 ه-):

- جوامع الجامع - الأضواء - بيروت - ط 1 - 1985 .

- مجمع البيان - الحياة - بيروت - ط 1 - 1961 .

* الطبري - أبو جعفر أحمد الشهير بالمحب (ت 649 ه-):

- الرياض النضرة - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

- ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى - مكتبة القدسي - القاهرة - 1937 .

* الطبري - محمد بن جرير ( ت 310 ه-):

- تاريخ الرسل والملوك - المعارف - القاهرة - ط 4 - 1979 .

- جامع البيان في تفسير القرآن - معرفة - بيروت - 1983 .

* الطبري الإمامي - محمد بن جرير بن رستم (ت 358 ه-):

- دلائل الإمامة - الأعلمي - بيروت - ط 2 1988 .

* الطريحي - فخر الدين بن محمد علي (ت 1058 ه-):

ص: 768

- مجمع البحرين - الوفاء - بيروت - ط 2 - 1983 .

* الطهراني - آغا بزرك:

- الذريعة الى تصانيف الشيعة - الأضواء - بيروت - ط 3 - 1983 .

* الطوسي - أبو جعفر محمد بن الحسن (ت 460 ه-):

- أمالي الشيخ الطوسي - الوفاء - بيروت - ط 1 - 1965 .

- تهذيب الأحكام - الأضواء - بيروت - ط 3 - 1985 .

- الفهرست - الوفاء - بيروت - ط 3 - 1983 .

- مصباح المتهجد - عني بنشره وتصحيحه اسماعيل الأنصاري - صورة عن مخطوط.

* الطوسي - نصير الدين محمد بن محمد بن الحسن (ت 672 ه-):

- اخلاق محتشمي - الدار العالمية - بيروت - ط 1 - 1981 .

* عاقل - فاخر:

معجم علم النفس الملايين بيروت ط 2 1977 .

* عاقل نبيه:

- خلافة بني أمية - دار الفكر - بيروت ط 3 - 1975 .

* عبد الباقي - محمد فؤاد:

- المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم - إحياء التراث العربي - بيروت - د. ت.

*ابن عبد البر - يوسف عبدالله (ت 463 ه-):

- الاستيعاب بهامش الإصابة - إحياء التراث العربي - بيروت - طبعة مصورة عن الطبعة الأولى - 1328 ه-- 1910 م .

- بهجة المجالس - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

ص: 769

- جامع بيان العلم وفضله - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

* عبدالجبار - ابن أحمد قاضي القضاة (ت 415 ه-):

- المغني في أبواب التوحيد سلسلة تراثنا - القاهرة - 1966 .

* عبدالرزاق - علي:

- الإسلام وأصول الحكم - الحياة - بيروت - د. ت.

* ابن عبد ربه - أبو عمر أحمد بن محمد الأندلسي (ت 327 ه-):

- العقد الفريد - دار الكتاب العربي - بيروت - 1982 .

* عبد الكريم - فتحي :

- الدولة والسيادة في الفقه الإسلامي - وهبة القاهرة - ط 2- 1984 .

* عبد المقصود - عبد الفتاح:

- الإمام علي بن أبي طالب - مكتبة العرفان - بيروت - د. ت.

- السقيفة والخلافة - مكتبة غريب - القاهرة- 1977 .

* ابو عبيد - القاسم بن سلام الهروي (ت 224 ه-):

- الأموال : دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1- 1986 .

- غريب الحديث - دار الكتاب العربي - بيروت - طبعة مصورة عن طبعة دائرة المعارف العثمانية - ط 1- 1964 .

* عتيق - عبد العزيز :

- علم البيان - النهضة العربية - بيروت - 1970 .

* ابن العربي - محي الدين أبو بكر محمد بن علي (ت 638 ه-):

- تفسير ابن العربي - الأندلسي - بيروت - ط 2 - 1981 .

- محاضرات الأبرار - صادر - بيروت - د. ت.

ص: 770

* العرشي - امتياز عليخان:

- استناد نهج البلاغة - مكتبة الثقلين - قم - 1978 .

* العريض جليل منصور:

- التفجع في شعر الشريف الرضي - أطروحة دكتوراه الحلقة الثالثة بإشراف د .

محمد اليعلاوي كلية الآداب بالجامعة التونسية - 84 - 85 .

* ابن عساكر - علي بن الحسن (ت 573 ه-):

- ترجمة الإمام علي من تاريخ دمشق - دار التعارف - بيروت - ط 1 - 1975 .

* عفيفي - فوزي سالم :

- السلوك الاجتماعي بين علم النفس والدين - وكالة المطبوعات - الكويت - 1980.

* العقاد - عباس محمود:

عبقرية الإمام علي - العصرية - بيروت - د. ت.

* ابن العماد الحنبلي - أبو الفلاح عبد الحي )(ت 1089 ه-):

- شذرات الذهب - المكتب التجاري - بيروت - د.ت.

* الغزالي أبو حامد محمد بن محمد )ت 505 ه(:

- احياء علوم الدين - مصطفى الحلبي - القاهرة - 1939 .

* ابن فارس - أبو الحسن أحمد (ت 395 ه-):

- الصحابي في فقه اللغة - بدارن للطباعة والنشر - بيروت - 1963 .

- مجمل اللغة - مؤسسة الرسالة - بيروت - ط 2 - 1986 .

* ابن الفارض - أبو جفص عمر (ت 632 ):

- ديوانه - صادر بيروت - د. ت.

ص: 771

* فضل الله - عبدالمحسن:

- نظرية الحكم والادارة في عهد الامام علي علیه السلام للأشتر - التعارف - بيروت - ط 1 - 1983.

* الفضلي - عبد الهادي:

- الدولة الإسلامية - دار الزهراء - بيروت - ط 1- 1979 .

* الفكيكي - توفيق.

- الراعي والرعية - الوفاء - بيروت - ط 3- 1983 .

* الفيروز آبادي محمد بن يعقوب (ت 827 ه-):

- القاموس المحيط - بترتيب الزاوي - الدار العربية - ليبيا - ط 3- 1980 .

* الفيروز آبادي - مرتضى الحسيني:

فضائل الخمسة في صحاح الستة الاعلمي بيروت ط 4 1982 .

* القاضي - النعمان:

- الفرق الإسلامية في الشعر العربي - المعارف - القاهرة - 1970 .

* القالي - أبو علي اسماعيل بن القاسم (ت 356 ه-):

- الامالي - دار الكتب العملية - بيروت - د. ت.

* القبانجي - حسن السيد علي:

- شرح رسالة الحقوق - الاضواء - بيروت - ط 2- 1980 .

* ابن قتيبة الدينوري - عبد الله بن مسلم (ت 376 ه-):

- أدب الكاتب - صادر - بيروت - 1967 .

- الامامة والسياسة - مصطفى الحلبي - القاهرة - 1969 .

- الشعر والشعراء - دار الثقافة - بيروت - د. ت.

ص: 772

- عيون الأخبار - الهيئة المصرية - القاهرة - 1973 .

* قدامة بن جعفر (ت 327 ه-):

- نقد النثر - دار الكتب العلمية - بيروت - 1982 .

* القرشي باقر شريف:

- النظام السياسي في الاسلام - دار التعارف - بيروت - ط 1- 1982 .

* القرشي - أبو زيد محمد بن أبي الخطاب (توفي في القرن الخامس):

- جمهرة أشعار العرب - نهضة مصر - القاهرة - 1981 .

* القرشي يحي بن آدم (ت 203 ه-):

- كتاب الخراج - المعرفة - بيروت - د. ت.

* القرطبي - عبد الله بن محمد بن أحمد (ت 671 ه-):

- الجامع لأحكام القرآن - الهيئة المصرية - القاهرة - ط 2- 1967 .

* القسطلاني - شهاب الدين - أحمد بن محمد (ت 923 ه-):

- ارشاد الساري لشرح صحيح البخاري - دار الفكر - بيروت طبعة مصورة عن الطبعة البولاقية السادسة 1304 ه- 1886 م .

* القضاعي - القاضي ابو عبد الله محمد بن سلامة (ت 454 ه-):

- دستور معالم الحكم - دار الكتاب العربي - بيروت - 1981 .

* القلقشندي - أحمد بن عبد الله ( 820 ه-):

- مآثر الاناقة في معالم الخلافة - عالم الكتب - بيروت - د.ت.

- نهاية الارب في معرفة انساب العرب - البيان - بغداد - 1958 .

* القمي - عباس:

- الكنى والالقاب - انتشارات بيدار - قم - 1938 .

ص: 773

* القمي - علي بن ابراهيم (ت 307 ه-):

- تفسير القمي - مكتبة الهدى - النجف الاشرف - 1958 .

* ابن قيم الجوزية - شمس الدين محمد بن أبي بكر (ت 751 ه-):

- أحكام أهل الذمة - العلم للملايين - بيروت - ط 2 - 1981 .

* كاشف الغطاء - محمد حسين:

- المراجعات الريحانية - بواسطة مصادر نهج البلاغة - عبد الزهراء الحسيني - الأعلمي بيروت - ط 2 - 1975 .

* كاشف الغطاء - الهادي :

- تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق الهيئة المصرية - القاهرة - ط 2 -1980 .

* الكتبي - محمد بن شاكر (ت 764 ه-):

- فوات الوفيات - صادر - بيروت - 1973 .

* ابن كثير - أبو الفداء اسماعيل القرشي (ت 774 ه-):

- تفسير القرآن العظيم - مكتبة الهلال - بيروت - ط 10 - 1986 * كحالة - عمر رضا:

- معجم قبائل العرب - الرسالة - بيروت - ط 5 - 1985 .

* الكراجكي - أبو الفتح محمد بن علي بن عثمان ( ت 449 ه-):

- كنز الفوائد - دار الاضواء - بيروت - 1985 .

* كرد علي - محمد :

- رسائل البلغاء - لجنة التأليف والترجمة والنشر - القاهرة - ط 3 -1946 .

* الكفري - أبو البقاء ايوب بن موسى ( ت 1094 ه-):

- الكليات - وزارة الثقافة - دمشق - ط -2 1982 .

ص: 774

* الكلاباذي أبو بكر محمد ( ت 380 ه-):

- التعريف بمذاهب أهل التصوف - الكتب العلمية - بيروت - 1980 .

* الكليني - أبو جعفر محمد بن يعقوب (ت 329 ه-):

- الكافي (الاصول والفروع والروضة ) - دار صعب - بيروت - ط 4- 1980 .

* الكنجي - الحافظ محمد بن يوسف (ت 658 ه-):

- كفاية الطالب في مناقب علي بن ابي طالب علیه السلام - دار احياء تراث آل البيت - طهران - ط 3- 1983 .

* الكوفي - سليم بن قيس (ت 90 ه-):

- كتاب سليم بن قيس الاعلمي - بيروت - د. ت.

* الكوهكمري - عبداللطيف:

- مقدمة تحقيق منهاج البراعة في شرح نهج البلاغة - لسعيد بن هبة الله الراوندي - مكتبة المرعشي - قم - 1985 .

* كيلاني - محمد سيد:

- أثر التشيع في الادب العربي - الفكر العربي - القاهرة - د. ت.

* ليلى - وليام:

- المدخل على علم الأخلاق دار المعرفة الجامعية - الاسكندرية - 1985 .

* ابن ماجة - الحافظ أبو عبد الله محمد بن يزيد ( ت 275 ه-):

- سنن بن ماجة - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

8 ماسينيون - لويس:

- خطط الكوفة - مطبعة العرفان - صيدا - 1939 .

* الماوردي - علي بن محمد بن حبيب (ت 450 ه-):

ص: 775

- الأحكام السلطانية - دار الفكر - القاهرة - ط 1- 1983 .

- أدب الدنيا والدين - دار قرا - بيروت - ط 1 - 1981 .

- اعلام النبوة - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1- 1986 .

- تسهيل النظر وتعجيل الظفر - النهضة العربية - بيروت - ط 1 -1981 .

* ماكيفر - روبرت م:

- تكوين الدولة - العلم للملايين - بيروت - 1966 .

* مبارك زكي:

- عبقرية الشريف الرضي - العصرية - بيروت - د. ت.

- النثر الفني في القرن الرابع - الجيل بيروت - 1975 .

* ابن المبارك - عبد الله المروزي ( ت 181 ه-):

- كتاب الزهد - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

* المبرد - محمد بن يزيد(ت 285 ه-):

- الكامل في الادب - نهضة مصر - القاهرة - د. ت.

- المقتضب - المجلس الاعلى للشؤون الإسلامية - القاهرة - 1968 .

* المتقي الهندي - علاء الدين بن حسام الدين (ت 975 ه-):

- كنز العمال - الرسالة - بيروت - ط 5- 1988 .

* المجذوب - البشير :

- حول مفهوم النثر الفني - الدار العربية للكتاب - تونس -1982 .

* المجلسي محمد باقر:

- بحار الانوار - الوفاء - بيروت - ط 2- 1983 .

ص: 776

* محبوبة - مهدي:

ملامح من عبقرية الامام دار الكتاب العربي بيروت ط 2 1979 .

* محمود زكي نجيب:

- المعقول واللامعقول في تراثنا الفكري - دار الشروق - القاهرة د. ت.

* محي الدين - خالد:

- الدين والاشتراكية - دار الثقافة الجديدة - القاهرة - د. ت.

* المدائني - علي بن محمد بن عبد الله (ت 245 ه-):

- صفين - بواسطة شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد .

* مرتضى - بسام:

- فلسفات اسلامية - الكتاب الإسلامي - بيروت - 1980 .

* المرتضى - الشريف علي بن الحسين بن موسى (ت 436 ه-):

- أمالي المرتضى - دار الكتاب العربي بيروت - ط 2 - 1967 .

- رسائل الشريف المرتضى - مؤسسة النور - بيروت - د. ت.

* مرسي سيد عبد الحميد:

- النفس البشرية - وهبة - القاهرة - ط 1- 1988 .

* ابن مزاحم المنقري - أبو الفضل نصر (ت 2 21 ه-):

- وقعة صفين - الخانجي - القاهرة - ط 3- 1981 .

* مسكويه - أحمد بن محمد بن يعقوب ( ت 421 ه-):

- تهذيب الأخلاق الحياة - بيروت - ط 2 - د. ت.

- الحكمة الخالدة - الاندلس - بيروت - ط 3 - 1983 .

ص: 777

* المسعودي - أبو الحسن علي بن الحسين (ت 346 ه-):

- اثبات الوصية - منشورات الرضي - قم - صورة من طبعة النجف - ط 2- 1983 .

- مروج الذهب - مطبعة السعادة - القاهرة - ط 4- 1964 .

* المطهر الحلي - الحسن بن يوسف (ت 726 ه-):

- الالفين - الاعلمي - بيروت - ط 3- 1982 .

- نهج الحق وكشف الصدق - الكتاب اللبناني - بيروت - 1982 .

* ابن المعتز - عبد الله (ت 296 ه-):

- كتبا البديع - دار المسيرة - بيروت - ط 3- 1982 .

* مغنية - محمد جواد:

- التفسير الكاشف - العلم للملايين - ط1 - 1968 .

- الشيعة والحاكمون - دار الجواد - بيروت - ط 5 -1981 .

- الفقه على المذاهب الخمسة - دار الجواد بيروت - ط 7 - 1982 .فلسفة الأخلاق في الاسلام العلم للملايين ط 1 1977 .

* المفيد - محمد بن محمد بن النعمان (ت 413 ه-):

- الاختصاص - الاعلمي - بيروت - 1982 .

- الارشاد - الاعلمي - بيروت - ط 3 - 1979 .

- الامالي - التيار الجديد - بيروت - د. ت.

- الجمل - مكتبة الدواري - قم د. ت.

* المقدسي - يوسف بن يحي بن علي (من علماء القرن التاسع الهجري):

- عقد الدرر في أخبار المنتظر - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1983 .

ص: 778

* المقريزي - أبو العباس أحمد بن علي (ت 845 ه-):

- خطط المقريزي - صادر - بيروت - د. ت.

* ابن المقفع عبد الله (ت 142 ه-):

- الادب الكبير - دار صادر - بيروت - د. ت.

* مناصرة - عبد الله علي :

- الاستخبارات العسكرية في الاسلام - الرسالة - بيروت - ط 1 -1987 .

* ابن منظور - محمد بن مكرم بن علي ( ت 711 ه):

- لسان العرب المحيط - اعداد وتصنيف يوسف خياط - دار لسان العرب - بيروت - د. ت.

* ابن منقذ - أسامة بن مرشد بن علي - (ت 584 ه-):

- لباب الادب دار الكتب العلمية - بيروت - 1980 .

* المودودي أبو الاعلى :

* الحكومة الإسلامية - المختار الإسلامي - القاهرة ت 1980 .

* موسى محمد يوسف :

- القرآن والفلسفة - المعارف - القاهرة - ط 4- 1982 .

* مؤسسة آل البيت :

- مجلة تراثنا - العدد 5 - السنة الأولى - بيروت - 1406 - 1985 .

* الميداني - أبو الفضل أحمد بن محمد ( ت 518 ه-):

- مجمع الامثال - دار الجيل - بيروت - ط 2 - 1987 .

* النجار - محمد الطيب:

- علي بن أبي طالب علیه السلام نظرة عصرية - المؤسسة العربية للدراسات والنشر-

ص: 779

بيروت - ط 3 - 1980 .

* ابن النديم - محمد بن أبي يعقوب الوراق (ت 370 ه-):

- الفهرست - تحقيق الرضا تجدد - 1971 .

* النسائي - أبو عبد الرحمن أحمد بن علي بن شعب (ت 303 ه-):

- سنن النسائي - احياء التراث العربي - بيروت - د. ت.

* النص احسان :

- الخطابة العربية في عصرها الذهبي - المعارف - القاهرة - ط 2- 1969 .

- العصبية القبلية - اليقضة العربية - بيروت - 1963 .

* النعمان بن محمد القاضي ( ت 363 ه-):

- دعائم الاسلام - المعارف - القاهرة - ط 3 - 1985 .

* نعمة - عبد الله :

- مصادر نهج البلاغة - مطابع دار الهدى بيروت - 1972 .

* أبو نعيم الحافظ - أحمد بن عبد الله الاصفهاني ( ت 430 ه-):

- حلية الأولياء - دار الفكر - بيروت - د. ت.

* هارون محمد عبد السلام .

- مقدمة تحقيق كتاب صفين لابن مزاحم - مكتبة الخانجي - القاهرة - ط 3 - 1981 .

* ابن هذيل - أبو الحسن علي بن عبد الرحمن ( من أعيان القرن الثامن الهجري) :

- عين الادب والسياسة - دار الكتب العلمية - بيروت - 1981 .

* ابن هشام - عبد الملك الحميري - ( ت 218 ه-):

- السیرة النبویة - حیاة الترات العربی - بیروت-د .ت.

ص: 780

* أبو هلال العسكري - الحسن بن عبد الله ( كان حيا 395 ه-):

- الاوائل - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1987 .

- جمهرة الامثال - دار الكتب العلمية - بيروت - ط 1 - 1988 .

- كتاب الصناعتين - العصرية - بيروت - 1986 .

* الهلالي - ابراهيم بن محمد ( ت 283 ه-):

- الغارات - بواسطة شرح ابن أبي الحديد.

* الهمذاني - أبو بكر أحمد بن محمد (ت - أواخر القرن الثالث):

- مختصر كتاب البلدان - المثنى - بغداد - صورة عن طبعة ليدن 1884 .

* الهمذاني - عبد الرحمن بن عيسى الكاتب (ت 320 ه-):

- الألفاظ الكتابية - دار الكتاب العربي بيروت ط 1 - 1986 .

* الهيثمي - نور الدين علي بن أبي بكر (ت 807 ه-):

- مجمع الزوائد - مؤسسة المعارف - بيروت - 1986 .

* الوائلي أحمد:

علي بن أبي طالب علیه السلام - نظرة عصرية جديدة - المؤسسة العربية للدراسات والنشر - بيروت - ط 2 - 1980 .

* الواقدي - أبو عبد الله محمد بن عمر ( ت 207 ه-):

- فتوح الشام - الجيل - بيروت - د. ت.

* الوطواط - رشيد الدين محمد بن محمد البلخي (ت 573 ه-):

- مطلوب كل من كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب علیه السلام .

- جلال الدين أرموي - طهران - 1962 .

* وكيع - القضاة محمد بن خلف بن حيان ( ت 306 ه-):

ص: 781

- اخبار القضاة - عالم الكتب - بيروت د. ت.

* اليافعي - عبد الله بن أسعد (ت 768 ه-) :

- مرآة الجنان ج- 1 -الرسالة بيروت - ط 1 - 1984 .

* اليعقوبي - ابن واضح أحمد بن أبي يعقوب (ت 284 هت):

- تاريخ اليعقوبي - دار صادر - بيروت - د. ت.

* اليماني - يحي بن حمزة العلوي (ت 745 ه-):

- الطراز - دار الكتب العلمية - بيروت - د. ت.

* أبو يوسف - يعقوب ابراهيم ( ت 182 ه-):

- كتاب الخراج - دار المعرفة - بيروت - د. ت.

ص: 782

المحتويات

مقدمة المؤسسة ... 5

المقدمة ... 7

الباب الأول

نهج البلاغة

توثيق نهج البلاغة ... 25

القسم الثاني ... 107

منهج الشريف الرضي في تصنيفه ... 121

قيمة نهج البلاغة ... 127

الباب الثاني

فكر علي بن أبي طالب علیه السلام السياسي كما يبدو ي نهج البلاغة الفصل الأول: مفهوم الإمامة في فكر علي علیه السلام ... 135

الفصل الثاني: فكر الإمام علي بن أبي طالب علیه السلام في ماجريات السياسة في عصره ... 195

المرحلة الثانية سياسة الامام علي علیه السلام أثناء خلافته ... 239

الفصل الثالث: مؤسسات الدولة وسياستها الإدارية في فكرالامام علي بن أبي طالب علیه السلام بين الدولة والحكومة والسياسة ... 297

مؤسسات الدولة في فكرالامام علي علیه السلام كما يبدو في نهج البلاغة ... 311

ص: 783

الباب الثالث

فكر علي علیه السلام الاجت اعي ك ا يبدو ي نهج البلاغة

الفصل الأول: المجتمع وحالته في فكر علي علیه السلام ... 361

الفصل الثاني: القيم الخلقية كما تبدو في فكر علي علیه السلام ... 407

الفصل الثالث: التربية في فكر علي بن أبي طالب كمات تبدو في نهج البلاغة التربية ومراميها الأساسية ... 459

الباب الرابع

القضايا الكلامية والتأملات الكونية ك ا تبدو ي نهج البلاغة

الفصل الأول: القضايا الكلامية المتعلقة بالعقيدة الخالق - الملائكة

الرسل الإنسان ...505

الفصل الثاني: التأمل وتداعي الأفكار، والغيبيات، كما تبدو في فكر علي علیه السلام ...533

الفصل الثالث: نظرة علي علیه السلام الى الحياة كما تبدو في نهج البلاعة ... 561

الباب الخامس

الأساليب التعبيرية في نهج البلاغة

الفصل الأول: الأنواع الأدبية في النهج وخصائصها التعبيرية ... 603

الفصل الثاني: ابرز خصائص النهج الأسلوبية ... 661

الفصل الثالث: أبرز الخصائص الفنية في نهج البلاغة ... 701

الخاتمة ...743

المحتويات ...751

ص: 784

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.