مواهب الرحمن في تفسیر القرآن

هوية الکتاب

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

المجلد 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

المقدمة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

الحمد للّه الّذي انزل القرآن شفاء و رحمة للمؤمنين؛ و جعله في لوح محفوظ لا يمسّه الاّ المطهّرون. لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد؛ فيه تفصيل كلّ شيء و هدى و رحمة لقوم يؤمنون، و جعله من أعظم مواهبه على عباده.

و الصّلاة و السّلام على من اعطي السّبع المثاني و القرآن العظيم الّذي فرّق اللّه عليه قرآنه ليقرأه على النّاس على مكث؛ النّبيّ الأميّ الّذي هو غاية نظام التّكوين، و مكمّل ما انزل من المعارف على الأنبياء و المرسلين محمّد ابن عبد اللّه سيّد ولد آدم و خاتم النّبيّين الّذي أرسله اللّه رحمة للعالمين، و تشرّفت به السّماوات و جميع الرّوحانيّين.

و على آله الّذين رفعوا بهممهم العالية أعلام الدّين، و شرعوا نهج الهدى للقاصدين؛ حماة معالم الشّرع المبين، و محيي مآثر النّبيّين، الّذين قرنهم اللّه بالكتاب المبين، أئمّة الهدى و قادة أهل الدّين.

و على أصحابه الّذين آمنوا به و عزّروه و نصروه و اتّبعوا النّور الّذي انزل معه، الّذين أبلوا البلاء الحسن في نصرته و إقامة دينه.

و بعد فقد شملتني عنايته تعالى لتفسير هذا الكتاب العظيم الذي عجزت العقول عن درك كنهه، فكما أن ظاهر لفظه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فحقائقه و رموزه أولى أن تكون كذلك، ففي كل سورة منه بحار من المعارف، و يتجلى من كل آية منه أنوار من الحقائق، و كيف لا يكون كذلك و قائله لا نهاية لعلمه و كماله و لا حدّ لعظمته و جلاله و ما حصل من التحديدات إنما هو من مقتضيات الاستعدادات لا أن يكون تحديدا فيه.

ص: 5

و بعد فقد شملتني عنايته تعالى لتفسير هذا الكتاب العظيم الذي عجزت العقول عن درك كنهه، فكما أن ظاهر لفظه: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً فحقائقه و رموزه أولى أن تكون كذلك، ففي كل سورة منه بحار من المعارف، و يتجلى من كل آية منه أنوار من الحقائق، و كيف لا يكون كذلك و قائله لا نهاية لعلمه و كماله و لا حدّ لعظمته و جلاله و ما حصل من التحديدات إنما هو من مقتضيات الاستعدادات لا أن يكون تحديدا فيه.

و قد ظهر لي بعد مراجعتي لجملة من التفاسير أنه فسر كل صنف من العلماء القرآن بما هو المأنوس عندهم، فالفلاسفة و المتكلمون فسروه بمذهبهم من الآراء الفلسفية و الكلامية و العرفاء و الصوفية على طريقتهم و الفقهاء همهم تفسير الآيات الواردة في الأحكام و المحدثون فسروه بخصوص ما ورد من السنة الشريفة في الآيات كما أن الأدباء كان منهجهم الاهتمام بجهاته الأدبية دون غيرها و العجب إنه كلما كثر في هذا الوحي المبين و النور العظيم من هذه البيانات و التفاسير فهو على كرسي رفعته و جماله، و يزداد على مرّ العصور تلألؤا و جلالا.

و قد فسر نفسه بنفسه، لأنه تبيان كل شيء فإذا كان كذلك فأولى أن يكون تبيانا لنفسه مستدلا لذلك بما ورد من السنة النبوية و المأثور عن آله الذين قرنهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) بالكتاب و جعلهم الأدلاء عليه فجمعت بينهما و بين ما اتفق عليه الجميع مع تقرير الشريعة له، و قد بذلت جهدي في عدم التفسير بالرأي مهما أمكنني ذلك تأسيا

بقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد أخطأ» و قد ذكرت ما يمكن أن يستظهر من الآيات المباركة بقرائن معتبرة فإن هذا الحديث الشريف لا يشمله إذ التفسير بالرأي غير الاستظهار من الآيات المباركة بالقرائن.

و تركت التعرض للتفاسير النادرة و الآراء المزيفة و الفروض التي تتغير بمرور الزمان.

و كان منهجنا في التفسير أولا: التعرض في تفسير الآية لمضمونها و بيان مفرداتها ثم ما يتعلق بها من المباحث. و قد ذكرت فيها المبحث الدلالي

ص: 6

و أردت منه المعنى العام مما تشير إليه الآية المباركة من الدلالات الظاهرة أو الدقائق العلمية أو غيرها.

و ثانيا: لم أتعرض لبيان النظم بين الآيات و ذلك لأن الجامع القريب في جميعها موجود و هو تكميل النفس أو الهداية و مع وجوده لا وجه لذكر النظم بين الآيات لأن الغرض القريب بنفسه هو الجامع و الرابط بين الآيات، كما اني لم أهتم بذكر شأن النزول غالبا لأن الآيات المباركة كليات تنطبق على مصاديقها في جميع الأزمنة فلا وجه لتخصيصها بزمان النزول أو بفرد دون فرد آخر و كذلك جميع الروايات الواردة عن الأئمة الهداة في بيان بعض المصاديق لها فهو ليس من باب التخصيص بل من باب تطبيق الكلي على الفرد كما ستعرف ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

و ثالثا: احترزت عن ذكر العبارات المغلقة و الألفاظ الصعبة أو التفصيل الزائد عن الحد و حاولت أن أبين المعنى بأسهل الألفاظ و الكلمات حتّى يعم النفع للجميع و تتم الحجة به عليهم.

و ما توفيقي إلاّ باللّه عليه توكلت و إليه أنيب.

النجف الأشرف.

عبد الأعلى الموسوي السبزواري

ص: 7

ص: 8

سورة فاتحة الكتاب

اشارة

و هي سبع آيات

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (1) هذه الآية المباركة بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الرا

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (1) هذه الآية المباركة بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ تشتمل على كثير من المعارف الإلهية لا سيّما الصفات الراجعة إلى ذات الباري عزّ و جل و في اختيار صفتي الرحمن الرحيم ما فيه من البشارة للإنسان من كونه مورد رحمته و عطفه تعالى مهما تعددت أسباب الشر و قويت، و فيها إرشاد إلى تعليم الإنسان لتوخّي الرحمة و المودة في أفعاله و جعل نفسه من مظاهر رحمته تعالى ليعرف أنّه مؤمن باللّه تعالى، و أن لا يعتمد على نفسه مهما بلغ من الكمال لأنّه المحتاج بعد، بل لا بد له من إيكال أمره إلى الغني المطلق.

التفسير

قوله تعالى: بِسْمِ اَللّهِ . ال (باء) للاستعانة، لأنّ الإنسان مفتقر بذاته، و المحتاج المطلق لا بد أن يستعين في جميع شؤونه بالغنيّ المطلق الذي هو اللّه تعالى، فالممكنات في ذاتها و عوارضها و حدوثها و بقائها محتاجة إليه فهي بلسان الحال تستعين به تعالى، فقدّرت الاستعانة في المقال تطبيقا بين لساني الحال و المقال.

و جعل المتعلّق كل ما يفعل بعد البسملة و إن كان صحيحا لا بأس به و لكن كون المتعلق هو الاستعانة يدل عليه أيضا بالملازمة، فإنّ الاستعانة

ص: 9

المطلقة به تعالى تستلزم الاستعانة في كل فعل يؤتى به خصوصا ما يؤتى به بعد البسملة، كما أنّ كون المتعلّق هو الفعل الخاص مثل القراءة في المقام يستلزم تحقق الاستعانة المطلقة أيضا، إذ المراد القراءة مستعينا به لا القراءة المطلقة و لو بلا استعانة و رعاية منه تعالى، فيكون الفرق بينهما كالفرق بين الطبيعي و الفرد في أنّ تحقق كل منهما خارجا يستلزم تحقق الآخر بل هو عينه.

(اسم): أصله من السمو - مخففة - بمعنى الرفعة و منه السماء، و يصح أن يكون اشتقاقه من السمة بمعنى العلامة. و الهاء عوض الواو فيكون أصله الوسم، فالوسم و الوسام و الوسامة بمعنى العلامة. و الهمزة: همزة وصل على التقديرين، و يصح الاشتقاق من كل منهما، لأنّ التبديل و التغيير في حروف الكلمة جائز ما لم يضر بالمدلول إلاّ أن يكون اللفظ بخصوص شخصه سماعيا؛ و من وقوع التغيير و التبديل في هذا اللفظ في الاشتقاقات الصحيحة و سهولة لغة العرب نستفيد صحة ما تقدم.

و يصح رجوع أحد المعنيين إلى الآخر في جامع قريب: و هو البروز و الظهور، لأنّ الرفعة نحو علامة، و العلامة نحو رفعة لذيها، و هما يستلزمان البروز و الظهور. و دأب اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون على جعل المصاديق المتعددة مع وجود جامع قريب من مختلف المعنى، مكثرين بذلك من المعاني غافلين عن الأصل الذي يرجع الكل إليه، فكان الأجدر بهم بذل الجهد في بيان الجامع القريب و الأصل الذي يتفرع منه، حتّى يصير بذلك علم اللغة أنفع مما هو عليه، و لذهب موضوع المشترك اللفظي و غيره من التفاصيل إلاّ في موارد نادرة. و لعل سبب إعراضهم عن ذلك هو أنّ ذكر اللفظ و بيان موارد استعمالاته سهل يسير بخلاف الفحص عن الجامع و تفريع ألفاظ منه.

ثم إنّ لفظ الاسم: اسم جنس لأسماء غير محصورة تحدث و تزول على مر العصور في ألفاظ و لهجات غير متناهية.، و هذا من اللايتناهى الذي اتفق الفلاسفة على صحته و اصطلح القدماء منهم عليه ب «اللايتناهى اللايقفي»

ص: 10

و لشرحه موضع آخر يأتي عند قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [سورة الروم، الآية: 23] إن شاء اللّه تعالى.

و لفظ الاسم هنا واسطة محضة لاسم اللّه تبارك و تعالى لا أن يكون له موضوعية خاصة فيكون مما به ينظر لا مما إليه ينظر كما هو الشأن في جميع الأسماء إلاّ أنّ فيها واسطة لتعرّف المعنى و هنا واسطة لتعرف اللفظ أي «اللّه».

و على أية حال سواء كان الاسم من الوسم واقعا بمعنى العلامة، أو من السمو بمعنى الرفعة، ففي ذكر البسملة يكون إظهار لإضافة العبد نفسه إليه تعالى إضافة تشريفية بذكر اسمه تعالى، و رفعة لمقام العبد به، و ذكر الاسم في غيره تعالى علامة للمعنى المراد و إخراجه عن الخفاء إلى البروز و الظهور.

و لا ريب في أنّ الاسم عرض قائم بالغير سواء أريد لفظ - أ س م - أو مدلوله اللفظي - كلفظ [كتاب] - مثلا، و ما أطيل فيه قديما من أنّ الاسم عين المسمى أو غيره قد ظهر في الفلسفة المتعالية بطلانه.

و في تخلل لفظ الاسم بين حرف [الباء] و لفظ الجلالة إشارة إلى أنّ ما هو حد الإدراك للإنسان إنّما هو ذكر اسمه تعالى و الإعتقاد به مشيرا من حيث الإضافة إلى الذات لا أن يحوم أحد حول كشف الحقيقة و الذات فإنّها لن تدرك لغيره تعالى. و أما قوله تعالى: اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ [سورة العلق، الآية: 2] مخاطبا نبيّه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث ذكر الاسم فيه أيضا فهو لأجل تعليم الغير لا بالنسبة إلى مقام النبي الجامع من الحقائق كنوزها و الحاوي لدقائق رموزها.

ثم إنّه قد ذكرت هذه الكلمة - اسم - في القرآن الكريم مفردة و مجموعة، مضافة إلى اللّه تعالى، و إلى الرب، و إلى الضمير الراجع إليه تعالى، و موصوفة. فقال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الأعراف:، الآية: 180]. و في الكل مقرونة بالتعظيم و التجليل، و قد كثرت استعمالات هذه الكلمة في الآثار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أئمة الهدى (عليهم السّلام) في دعواتهم مع اللّه تعالى:

باسمك

ص: 11

العظيم و

اسمك الأعظم و

باسمك الأعظم الأعظم. و المراد بالعظيم: ما أذن اللّه تعالى لخلقه أن يدعوه به، كجميع أسمائه تعالى. و المراد بالأعظم: ما هو مستور عن خلقه و لكنّه تعالى أذن لبعض أحبائه أن يدعوه به، و أما الأعظم الأعظم فهو: ما استأثره لنفسه و لم يظهره لأحد غيره.

اللّه: أجل لفظ في الممكنات كلها، لأعظم معنى في الموجودات جميعها. بهت في عذوبة لفظه كل سالك مجذوب، و تحيّر في عظمة معناه جميع أرباب القلوب، تتدفق المحبة و الرأفة عن الاسم فكيف بالمعنى، فكأنّ نفس المعنى يتجلّى فيه و يقول: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [سورة طه، الآية: 14] جمعت فيه من الكمالات حقائقها و من الألطاف و العنايات دقائقها و رقائقها، تطلبه الملائكة الكروبيون كما يطلبه أهل الأرضين و الكل لا يصل إليه، ظهر لغيره بالآثار و خفي عن الجميع بالذات، فما أعظم شأنه فقد عجزت العقول - و إن قويت فطنتها - عن درك أفعاله فضلا عن صفاته فكيف بذاته، فكلّما زاد الإنسان تأملا فيه زيد تحيرا و جهلا. فسبحان الذي اكتفى بالتحيّر في الذات و الصفات و الأفعال عن التعمق فيها لعلمه الأزلي بعدم قدرة ما سواه على ذلك أو لعدم لياقة جملة من العقول به.

ثم إنه قد ذكر أهل اللغة أنّ [اللّه] اسم جنس للواجب بالذات و لكنه منحصر في الفرد كالشمس و القمر و نحوهما و تبعهم فيه جمع من المفسرين. و هو غير صحيح عقلا لأن المتفرد بذاته في جميع شؤونه و جهاته و البسيط فوق ما نتعقله من معنى البساطة كيف يقال في اللفظ المختص به إنه اسم جنس (عام)؟! و قد ثبت في الفلسفة الإلهية المتعالية أن الكلية و الجزئية و الجنسية و نحوها من شؤون المفاهيم الممكنة و ذاته الأقدس فوق ذلك مطلقا فلا يصح اطلاق اسم الجنس على اللفظ المختص به تعالى.

نعم لو أراد القائل بأنّه اسم جنس على نحو الجنسية الوجودية أي: السعة الوجودية بالعنوان المشير إلى الذات لا الجنسية الماهوية لكان له

ص: 12

وجه لطيف و لكنهم بمعزل عن ذلك. نعم ربما يطلق الإله على غيره تعالى إطلاقا اعتقاديا باطلا، كقول فرعون: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [سورة القصص، الآية: 38]، و قوله تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، آية: 5].

كما أن القول بأن (اللّه) اسم جنس باطل من جهة العلوم الأدبية أيضا لعدم وقوعه صفة و وقوعه موصوفا دائما فلا يصح أن يكون اسم جنس بل هو علم مختص لواجب الوجود بالذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية لظهور آثار العلمية فيه على ما هو المعروف بين الأدباء.

و نظير ذلك ما ذكروا أنه مشتق من وله بمعنى تحير، أو من أله بمعنى تعبد. لتعبد الكل له تكوينا أو اختيارا، و تحيرهم فيه.

و هذا أيضا مردود أولا بأن التحير و التعبد عنوان وصفي فلا يصح أن يؤخذ في ما هو اسم للذات المتصف بجميع صفات الجمال و الكمال و الجلال. و ثانيا بما

رواه ابن راشد في الصحيح عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سئل عن معنى اللّه تعالى فقال (عليه السلام): استولى على ما دق و جل» فإن الحديث ظاهر في أن لفظ (اللّه) غير مشتق من أله و وله بل هو اسم جامد بمعنى القيّومية المطلقة على ما سواه.

فالحق ما نسب إلى الخليل اللغوي و غيره من أن لفظ الجلالة بسيط و ليس بمشتق، و اللام جزء اللفظ، و أنّ الواضع له هو اللّه تعالى بل جميع أسمائه عرفت بتعليمه عزّ و جل فهو المعرّف فيها و المعرّف بها و يشهد له

قول الصادق (عليه السّلام): «اعرفوا اللّه باللّه».

إن قلت: إنّ كلام اللغويين في مفهوم (اللّه) من حيث إنه مفهوم لا الذات الأقدس إذا لا إشكال في صحة قولهم في الاشتقاق و كونه من اسم الجنس.

(قلت): قولهم إنما يصح في المفاهيم الممكنة و أما إذا كان الموضوع واحدا و واجبا بالذات يكون الإطلاق عليه مع إطلاقه على الممكن كالاشتراك اللفظي، كما ذهب إليه جمع من الفلاسفة في أسمائه تعالى فيكون إطلاقه

ص: 13

عليه تعالى بنحو العلمية و في الممكن بنحو اسم الجنس، كما في لفظ المدينة مثلا فإنها علم لمدينة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و اسم جنس لسائر المدن و لكن في اسمه تعالى لا يجوز إطلاقه على غيره لاختصاصه به، كما في قوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [سورة طه، الآية: 14] و يستفاد ذلك من كلام العرب قبل الإسلام أيضا.

هذا ما يتعلق بلفظ الجلالة من حيث هو.

و أما معناه فلا ريب في أنه مما تحير فيه العقول مع اعتراف الجميع بوجوده و دأب القرآن و ما ورد في الشريعة التعبير عنه تعالى بالأسماء الحسنى (الصفات) التي ذكرت في القرآن من دون تحديد بالنسبة إلى الذات بل ورد

في الأثر عن الأئمة (عليهم السّلام): «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو و لا حيث هو إلاّ هو» فأثبتوا له تعالى أصل الهوية و لكن حصروا العلم بالهوية به تعالى. نعم ورد

في الآثار عنهم (عليهم السّلام) التعبير عنه تعالى:

«أنه ذات لا كالذوات و شيء لا كالأشياء»

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «اذكروا من عظمة اللّه ما شئتم و لا تذكروا ذاته فإنكم لا تذكرون منه شيئا إلاّ و هو أعظم منه»

و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ اللّه تعالى يقول و إنّ إلى ربك المنتهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».

و أما ما ورد عن الفلاسفة المتألهين: إنه الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية و المسلوب عنه جميع النواقص كذلك، و عن العرفاء و بعض محققي الفلسفة الإلهية: أنه الذات المسلوب عنه الإمكان مطلقا، و عن بعض قدماء اليونان - الذي عبر عنه في كلماتهم بشيخ اليونانيين - أنه ذات فوق الوجود يمكن إرجاع جميع ذلك إلى ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) و إن قصرت عبارات بعضهم عن ذلك. و سنعود إلى بعض ما يتعلق بالمقام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى، و لعل عدم تعرض القرآن و سائر الكتب السماوية لحقيقة ذاته الأقدس لوضوحه بالآثار و قصور الممكن مطلقا عن درك حقيقة ذات الواجب و إنما حده درك الآثار فقط و هو تعالى بيّن ذلك كاملا في كتابه و يتم بذلك الحجة و البيان.

ص: 14

و على أي تقدير ف (اللّه) هو الجامع لجميع الأسماء الحسنى التسعة و التسعين أو الثلاثمائة و ستين التي من أحصاها دخل الجنّة على ما رواه الفريقان، و هذه الأسماء المباركة منطوية في لفظ الجلالة انطواء الشعاع في نور الشمس مع المسامحة في هذا التشبيه.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ .

هما من الرحمة و من مشتقاتها، و رحمته عزّ و جل أعم صفاته و أوسعها شملت جميع ما سواه قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156] فكلما يطلق عليه شيء في جميع العوالم يكون من رحمته تعالى، و إشكال أن الشر يطلق عليه الشيء أيضا فلا بد و أن يكون من رحمته تعالى مردود بأنه ليس في التكوينيات شر محض و إنما يتحقق الشر بالإضافة - على ما يأتي -. و أما في الاختياريات فإن وساطة الاختيار بين الفعل و الفاعل يجعل الشر باختيار الفاعل فلا يكون من رحمته تعالى كما في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79]. و سيأتي تفصيل هذا البحث المفيد مستقلا إن شاء اللّه تعالى في الآيات المناسبة له.

و في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ [سورة لقمان، الآية: 27] إشارة إلى مظاهر رحمته الواسعة، و قد اعترف الأنبياء (صلى اللّه عليهم) و الأئمة (عليهم السّلام) و جميع الفلاسفة المتألهين بالقصور عن الإحاطة بمراتب رحمته تعالى الواسعة و إن بعض عظمائهم أطال القول في أن وجود كل شيء من رحمته تعالى و أثبت ذلك بالأدلة الكثيرة و مع ذلك اعترف بالقصور عن دركها، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها.

ثم إنّ هاتين الكلمتين من الصفات المشبهة إلاّ أنّهم فرّقوا بينهما بوجوه:

الأول: أن الرحمن مبالغة و الرحيم صفة مشبهة يدل على مجرد الثبوت هذا و إن كان صحيحا بالنسبة إلى ذات اللفظين حين الإطلاق على المخلوق. و أما

ص: 15

من حيث إضافتهما إلى اللّه عزّ و جل فلا وجه للمبالغة بالنسبة إليه تعالى. لأن صفاته بالنسبة إليه تعالى غير محدودة فلا تجري المبالغة فيها. نعم تصح المبالغة بالنسبة إلى مورد الرحمة على نحو قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160] و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة البقرة، الآية: 261] إلى غير ذلك مما ترجع المبالغة فيه إلى المبالغة في الرحمة بالنسبة إلى المخلوق.

و أما ما في بعض التفاسير من أن فعلان لا يدل على الثبوت بخلاف فعيل و إنما ذكر تعالى (الرحيم) لأجل اظهار ثبوت الرحمة بالنسبة اليه تعالى. (مخدوش) لأن التفرقة بين اللفظين انما تصح في الممكنات دون الواجب تبارك و تعالى كما عرفت.

الثاني: الرحمن يختص بالدنيا و الرحيم بالآخرة لتقدم الدنيا على الآخرة في سلسلة العوالم و النشآت الزمانية فيكون المقدم للمتقدم و الأخير للمتأخر، أو لذكر الرحيم مقرونا بالغفران و التوبة في جملة من الآيات الكريمة، و الغفران و أثر التوبة في الآخرة فيكون الرحيم مختصا بها.

و الوجهان مخدوشان لا يصلحان حتّى للاستحسان، فان العوالم بالنسبة إليه تبارك و تعالى في عرض واحد و إنّه محيط بالزمان و الزمانيات و خارج عنهما إلاّ أن يلحظ ذلك بالنسبة إلى المخلوق. و قد ورد الرحمن بالنسبة إلى الآخرة في قوله تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية: 26]، و قوله تعالى: يَوْمَ نَحْشُرُ اَلْمُتَّقِينَ إِلَى اَلرَّحْمنِ وَفْداً [سورة مريم، الآية:

85]، كما ورد الرحيم بالنسبة إلى الدنيا في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 29] و قد ورد عن الأئمة الهداة:

«يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما».

الثالث: أن الأول عام للجميع لقوله تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156] و الثاني خاص بالمؤمنين لقوله تعالى: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128] و هو أيضا

ص: 16

مردود فإن ذكر بعض الأفراد و أشرفها لا يدل على نفي ما عداه إلاّ بالمفهوم و قد ثبت في محله أنه لا مفهوم للقيد فراجع.

الرابع: أنّ الرحمن ذات الرحمة الشاملة لكل محتاج إليها و بجميع مراتبها التفضلية بلا اختصاص لها بنوع دون نوع من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان و سائر المخلوقات فلأجل إهمال المتعلق استفيد العموم و الشمول لجميع الأنواع الممكنة من حضيض الجمادات الى أوج المجردات. نعم من أهم مصاديق الرحمانية تنظيم عالم التكوين بأحسن نظام و من أجلى مصاديق الرحيمية تنظيم التشريع بأكمل نظام و أثر التشريع إنما يظهر بالنسبة إلى المؤمنين العاملين به اختص الرحيمية بالآخرة من هذه الجهة، فهو تعالى رحيم في الدنيا بالتشريع و في الآخرة بالجزاء عليه.

و الذي ينبغي أن يقال: إنه لا ريب أن جميع ما سواه تعالى مورد افاضة الوجود منه تبارك و تعالى و هذا هو الرحمة الرحمانية التي خرج بها ما سواه من العدم إلى الوجود؛ كما لا ريب في أن كل نوع من أنواع الموجودات مطلقا بل كل صنف من أصنافها له خصوصية لا توجد تلك الخصوصية في غيرها و هي غير محدودة بحد و تنكشف في طي العصور و مر القرون و تلك الخصوصيات غير المتناهية المجعولة منه تبارك و تعالى مورد الرحمة الرحيمية، فكما أن في الإنسان نوعا خاصا منه و هو المؤمن مورد رحمته الرحيمية كذلك يكون في الملك و الفلك و الجماد و النبات و الحيوان أيضا أصناف خاصة تكون تلك الأصناف مورد رحمته الرحيمية بعد عدم برهان صحيح على اختصاص رحمته الرحيمية بخصوص دار الآخرة كما عرفت.

و قد ذكرا في مفتتح القرآن العظيم للإعلام بأن القرآن من أبرز مظاهر رحمتيه تعالى أما الرحمانية فلفرض وحيه و إنزاله، و أما الرحيمية فلأنه تبارك و تعالى تجلى لعباده فأظهر فيه المعارف الربوبية و خلاصة الكتب السماوية و زبدة حقائق التكوين و التشريع و ربط به قلوب أوليائه.

ثم إنه يظهر من ذكر الرحمن بعد اسم الجلالة في البسملة و في قوله تعالى: قُلِ اُدْعُوا اَللّهَ أَوِ اُدْعُوا اَلرَّحْمنَ [سورة الاسراء، الآية: 110].

ص: 17

و سائر موارد استعمال هذا الاسم المبارك في القرآن العظيم أن لهذا الاسم الشريف اهمية عظمى و منزلة كبرى عند اللّه تعالى فهو من أمهات الأسماء كالحي و الرب و القيوم و الرحيم و إلى هذه الأربعة ترجع سائر أسمائه عزّ و جل فإذا رجعنا إلى موارد استعمالات هذا اللفظ في القرآن الكريم نرى أنه استعمل مقرونا بالتعظيم و التجليل بالنسبة إلى عالمي الدنيا و الآخرة قال تعالى: جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي وَعَدَ اَلرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ [سورة مريم، الآية:

61]، و قال تعالى: اَلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ اَلْحَقُّ لِلرَّحْمنِ [سورة الفرقان، الآية:

26]، و قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ [سورة الرحمن، الآية: 1] و قال تعالى: ما تَرى فِي خَلْقِ اَلرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [سورة الملك، الآية: 3].

و أما الرحيم فقد ذكر في القرآن الكريم غالبا مقرونا مع الرءوف و التواب و الغفور، فقد جمع اللّه تبارك و تعالى في كتابيه التدويني (القرآن) و التكويني بين رحمته الرحمانية و رحمته الرحيمية فتكون الرحمة الرحمانية عامة لجميع الممكنات قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5] أي استولى و العرش هنا عبارة عما سواه تعالى، و الرحمة الرحيمية تعم جميع ذوي الكمالات التي أفيضت عليهم من المجردات إلى الجمادات فتكون من مظاهر رحمتيه تعالى الرحمانية و الرحيمية كما عرفت.

بحوث المقام
بحث دلالي:

البسملة هي إيجاد الإضافة بين العبد و خالقه إضافة تشريفية، و قد اختيرت هذه الجملة المباركة لأن فيها من أوسمة الخير ما عرفت، فإن قرن العبد اعتقاده بالعمل بما يدعو إليه تعالى كانت البسملة وساما قوليا و اعتقاديا و عمليا و إلاّ كانت لفظية فقط لها بعض الآثار كالتبرك باللسان مثلا.

و مثل هذه الإضافة لم تكن أمرا غريبا عند الناس بل هو مألوف عندهم بذكر اسماء عظمائهم و رؤسائهم في مبادئ أمورهم تشرفا و تقربا إليهم و وساما

ص: 18

لأنفسهم مع أن المنسوب إليه كنفس المنسوب و النسبة في معرض الهلاك و الزوال فأثبت القرآن للنّاس إضافة تشريفية إلى اللّه تبارك و تعالى الذي لم يزل و لا يزال و تبقى الإضافة إليه كذلك أيضا فقرر ما هو المألوف لديهم بلفظ آخر و هو البسملة، كما في قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] و منه يعلم أهمية البسملة فإن فيها إضافة إلى الرحمن الرحيم الأزلي الأبدي و لهذا وردت أخبار تؤكد على الابتداء بها في جميع الأمور كما سيجيء في البحث الآتي، فإذا قال العبد المؤمن (بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ) يكون من مظاهر رحمته تعالى من جهتين جهة التلفظ بالقول وجهة الذات فإن ذاته من مظاهر رحمته. كما عرفت.

ثم إنّ الاسم ما أنبأ عن المسمّى و هو تارة يكون ذات المسمّى و أخرى: جوهرا موجودا خارجيا و ثالثة: عرضا كذلك. و الكل يصح بالنسبة إليه تعالى فمن الأول ما ورد

في الأثر عن علي (عليه السّلام) «يا من دل على ذاته بذاته» فاتحد فيه تعالى الدال و المدلول و اختلف بالاعتبار و مثله كثير. و من الثاني أنبياء اللّه و أولياؤه الذين جاهدوا في اللّه،

و في الحديث: «نحن اسماء اللّه الحسنى»، بل عن بعض الفلاسفة المتألهين: «إن جميع الموجودات تحكي عن جماله و جلاله». و من الثالث الأسماء اللفظية التي تطلق عليه تعالى و يأتي في المواضع المناسبة تتمة الكلام.

و المعروف أنّ أسماءه تعالى توقيفية لا يجوز إطلاق اسم عليه تعالى لم يرد في الشريعة المقدسة إطلاق به عليه، و إن أمكن ذلك عقلا، فلا يجوز اطلاق المادة و الصورة عليه تعالى لامتناعه عقلا و عدم الورود شرعا، كما لا يجوز إطلاق العلة عليه تعالى لعدم وروده شرعا و إن أمكن عقلا.

و أما الخالق و الجاعل و سائر مشتقاتهما فقد أطلقا عليه شرعا و هو صحيح عقلا أيضا، كما أنّه لم يعهد اطلاق اللقب و الكنية عليه تعالى لأجل أمور يأتي التعرض لها، و إن قيل إنّ الرحمن بمنزلة اللقب له تعالى، و لكنه لم أظفر بما يعضده من خبر يدل على ذلك.

ص: 19

بحث فقهي:

البسملة في أول كل سورة إما جزء منها أو من السورة التي تسبقها، أو آية متكررة في القرآن، أو من غيره، ذكرت تبركا.

و الكل واضح البطلان كما يأتي سوى الأول و قد وردت النصوص على ذلك فتكون البسملة جزء من كل سورة التي افتتحت بها إلاّ في سورة التوبة فإنه لا بسملة لها كما ستعرف.

فعن علي (عليه السّلام): «البسملة في أول كل سورة آية منها و إنما كان يعرف انقضاء السورة بنزولها ابتداء للأخرى و ما أنزل اللّه تعالى كتابا من السماء إلاّ و هي فاتحته».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «أنها من الفاتحة و أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقرأها و يعدها آية منها و يقول فاتحة الكتاب هي السبع المثاني».

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «سرقوا أكرم آية من كتاب اللّه بسم اللّه الرحمن الرحيم».

و عن الرضا (عليه السّلام): «ما بالهم قاتلهم اللّه عمدوا إلى أعظم آية في كتاب اللّه فزعموا أنّها بدعة إذا أظهروها».

و في سنن أبي داود قال ابن عباس: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان لا يعرف فصل السورة - أي انقضاءها - حتّى ينزل عليه بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ».

و في صحيح ابن مسلم عن أنس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل عليّ آنفا سورة فقرأ بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ». و روى الدارقطني عن أبي هريرة: «إذا قرأتم الحمد فاقرؤا بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ فإنّها أم القرآن أم الكتاب، و السبع المثاني و بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ إحدى آياتها».

و الأخبار في كونها جزء من سور القرآن كثيرة من الفريقين.

ص: 20

و يستحب الجهر بالبسملة مطلقا كما ورد النص بذلك و قد جعل ذلك من علامات المؤمن كما في الحديث و لعل السر في ذلك هو أن الجهر بها إجهار بالحق و إعلان لحقيقة الواقع.

كما تستحب الاستعاذة باللّه من الشيطان عند قراءة القرآن لقوله تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ اَلْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (*) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (*) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [سورة النحل، الآية: 97-100] بل يستفاد من بعض الآيات لا سيما سورة الناس استحباب الاستعاذة مطلقا. و هي إما قولية أو فعلية. و اجتماعهما في واحد هو من الكمال، و سيأتي التفصيل.

بحث روائي:

عن نبينا الأعظم فيما رواه الفريقان: «كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ فهو أبتر».

و عن الصادق عليه السلام: «لا تدعها (أي البسملة) و لو كان بعدها شعر».

أقول: يحمل الخبر الأول على الأفضلية جمعا بينهما.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «أول كل كتاب نزل من السماء بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ».

و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من ناظر العين الى سوادها».

أقول: يأتي ما يتعلق بالاسم الأعظم و مراتبه. و آثاره و من هو العالم به.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «إذا قرأتها فلا تبال أن لا تستعيذ و إذا قرأتها سترتك ما بين السماء و الأرض».

أقول: و يظهر منه إنه عند دوران الأمر بين البسملة و الاستعاذة تكون البسملة أولى.

و عن الصادق (عليه السّلام): «من تركها من شيعتنا امتحنه اللّه بمكروه

ص: 21

لينبهه على الشكر و الثناء و يمحو عنه و صمة تقصيره عند تركه».

أقول: يظهر منه و من جملة من الأخبار ان ترك المندوب و فعل المكروه فيه آثار خاصة فضلا عن ترك الواجب و فعل المحرم.

و عن الرضا (عليه السّلام): «إنها الآية التي قال اللّه عزّ و جل: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ».

و عنه (عليه السّلام) أيضا في تفسير البسملة: «يعني أسم بسمة من سمات اللّه تعالى و هي العبادة. قيل له: ما السمة؟ قال (عليه السّلام): العلامة».

أقول: العلامات الدالة على اللّه عزّ و جل كثيرة فإما جوهر خارجي كالمشاعر العظام، أو عمل خارجي كالصّلاة، أو ذكر قلبي كالتفكر في عظمة اللّه تعالى و التوجه إليه، أو ذكر لفظي كالبسملة و نحوها.

و في رواية أنّ كل واحد من أجزاء البسملة إشارة إلى اسم من أسمائه تعالى

فعن الصادق (عليه السّلام): «الباء بهاء اللّه، و السين سناء اللّه، و الميم مجد اللّه (ملك اللّه) و اللّه إله كل شيء الرحمن بجميع خلقه الرحيم بالمؤمنين خاصة».

أقول: المراد ببهاء اللّه جماله و جلاله و السناء بمعنى الرفعة، و أشار (عليه السّلام) في هذا التفسير إلى علم الحروف و هو علم شريف إلاّ أنّه مكنون عند أهله و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ للّه عزّ و جل مائة رحمة أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسمها بين خلقه فبها يتعاطفون و يتراحمون ادّخر تسعا و تسعين لنفسه يرحم بها عباده يوم القيامة».

أقول: رواه الفريقان.

و عن علي (عليه السّلام): «الرحمن العاطف على خلقه بالرزق لا ينقطع عنهم مواد رزقه و إن انقطعوا عن طاعته».

ص: 22

أقول: المراد من مواد الرزق أسبابه.

و عن الصادق (عليه السّلام):

«الرحمن اسم خاص لصفة عامة، و الرحيم اسم عام لصفة خاصة».

أقول: اسم خاص أي لا يطلق على غيره تعالى، و الصفة العامة لأن رحمته تعالى وسعت كل شيء، و الرحيم اسم عام لإطلاقه على غيره تعالى أيضا و الصفة الخاصة يعني مختص بالمؤمنين في الآخرة و تقدم أن هذا الإختصاص إضافي أي أن أفضل أقسام الرحيمية إنما تكون للمؤمنين فقط.

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (4) قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ : الألف و اللام للجنس أو ال

اشارة

اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ (2) اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ (4) قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ : الألف و اللام للجنس أو الاستغراق، و المعنى واحد و الفرق بالاعتبار فإذا لوحظ الحمد من حيث طبعه و ذاته الشامل لجميع ما يدخل تحته من الأفراد يطلق عليه الجنس و إذا لوحظ من حيث الأفراد فهو استغراق، فالحقيقة واحدة و الفرق بالإجمال و التفصيل. و على أي تقدير يفيد الانحصار به تعالى، كما سيأتي.

التفسير

الحمد: هو الثناء على الجميل الاختياري، و المعنى أنّ كل حمد يصدر من أي حامد اختياريا كان أو غير اختياري (تكويني) فهو للّه تعالى لأنّ الكل مخلوق و مربوب له عزّ و جل فهو الخالق و المدبر لجميع ما سواه فيرجع ما سواه إليه سبحانه، قال تعالى: أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ [سورة الشورى، الآية: 53] فكما أنه تعالى مبدأ الكل يستلزم أن يكون حمد الكل له، و في الآيات دلالات واضحة عليه، قال تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1] و قال تعالى: وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية: 18]، و قال تعالى: لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلْأُولى وَ اَلْآخِرَةِ [سورة القصص، الآية: 70].

ثم إنّ هناك عناوين أربعة: الحمد، و المدح، و الشكر، و التسبيح.

و نسب إلى أهل اللغة و جمع من الأدباء و المفسرين أنّ الأول - هو الثناء باللسان

ص: 23

على الجميل الاختياري، و الثاني - هو الثناء باللسان على الجميل و لو لم يكن.

اختياريا، كما في قولك: مدحت اللؤلؤ على صفائها، و النجوم اللامعة على جلائها و بهائها، فيكون الفرق بينهما بالعموم و الخصوص. و لم يرد لفظ المدح في القرآن الكريم، كما أنّه لم يستعمل الحمد فيه إلاّ للّه تبارك و تعالى. و الثالث ما أنبأ عن عظمة المنعم سواء أ كان بالقلب أو اللسان أو الأركان، فالتفكر في عظمته تعالى شكر له و ذكره باللسان و فعل الصّلاة شكر له أيضا، فالحمد أعم من الشكر من ناحية المتعلق، لأنّه الجميل الاختياري سواء أ كان للحامد أم لغيره، و أخص منه من ناحية المورد لأنّ مورده اللسان فقط في الإنسان، و الشكر بالعكس فإنّ متعلقه الإنعام على الشاكر فقط و مورده يعم القلب و اللسان و الأركان. و قد ورد الشكر في القرآن بالنسبة إليه تعالى كثيرا، قال تعالى:

وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة، الآية: 152]، و قال تعالى:

وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ [سورة البقرة، الآية: 172]، و قد يكون من اللّه عزّ و جل لعباده قال تعالى: فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [سورة الإسراء، الآية: 19]، و قال تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: 147]. و المراد بشكره تعالى هو الجزاء على الخير سواء كان في الدنيا، أو في الآخرة أو فيهما معا. كما يقع من الخلق للخلق قال تعالى: أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14]. و التسبيح هو التنزيه عن كل نقص مطلقا و يختص ذلك باللّه تعالى كاختصاص الحمد به تعالى، قال تعالى:

سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الصافات، الآية: 159]، و قال تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء، الآية: 44] و يأتي التفصيل. هذا ما هو المعروف بينهم.

و هنا وجه آخر و هو أن مادة (ح م د) مع مادة (م د ح) واحدة في أصل المواد، و إنما الاختلاف بالتقديم و التأخير و هذا الاختلاف أوجب اختصاص لفظ الحمد باللّه تعالى، و إطلاق المدح على غيره أيضا، فيكون لفظ الحمد كلفظ (اللّه، و الرحمن) مختصا به تعالى فلا ينبغي إطلاقه بالنسبة إلى غيره عزّ و جل و لو أطلق يكون بمعنى المدح، بخلاف المدح فإنه يطلق على غيره

ص: 24

تعالى إطلاقا شائعا هذا من ناحية الحصر اللفظي.

و أما من ناحية الحصر المعنوي فلا ريب في أن الممكنات له و منه و به تعالى و قد ثبت في محله أن كل ما بالغير يكون بذاته و كماله منه فكمال الكل و محمودية الكل ترجع إليه.

ثم إنّ الحمد يكون من اللّه تعالى لذاته المقدسة و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ لَهُ اَلْحَمْدُ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية:

18]، و قال تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ [سورة فاطر، الآية: 1] و قال تعالى: فَلِلّهِ اَلْحَمْدُ رَبِّ اَلسَّماواتِ وَ رَبِّ اَلْأَرْضِ [سورة الجاثية، الآية:

36].

و يكون من خلقه له تعالى: وَ قالُوا اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا [سورة الأعراف، الآية: 43].

و أما التسبيح فيقع منه تعالى و من خلقه له، و لكن لا يقع من الخلق للخلق، كما يأتي التفصيل.

قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ : لهذا الاسم [رب] الشريف منزلة عظيمة في الكتب السماوية لا سيما القرآن المهيمن على جميعها فهو من أمهات الأسماء المقدسة كالحي، و القيوم بل هو الأم وحده، لأنه ينطوي فيه الخالق و العليم و القدير و المدبر و الحكيم و غيرها، فإنه غير الخلق كما يستفاد من قوله تعالى: رَبُّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ اَلَّذِي فَطَرَهُنَّ [سورة الأنبياء، الآية: 56] أي خلقهنّ.

و قد ذكر بعض المفسرين تبعا لجمع من اللغويين أنّ الرب بمعنى المالك و الملك أو الصاحب. لكن التدبر في استعمالات هذا اللفظ يعطي أن الملك شيء و ربانيته شيء آخر قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة الزمر، الآية: 6] و قال تعالى بِرَبِّ اَلنّاسِ مَلِكِ اَلنّاسِ إِلهِ اَلنّاسِ [سورة النّاس: الآية: 4] فإن فيه خصوصية - ليست هي في المالك و الملك و الصاحب - و هي الربوبية الحقيقية الناشئة عن الحكمة الكاملة التي لا يتصور

ص: 25

النقص فيها بوجه، فالتكوين شيء و تنظيم عالم التكوين بتربيبه على النظام الأحسن شيء آخر، قال تعالى: وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ (سورة الأنعام، الآية: 164]. و يدل على ذلك مضافا إلى ما ذكر عدم صحة استعمال كل واحد منها مقام الآخر في الاستعمالات الصحيحة إلاّ بالعناية.

و على أية حال فإنّ الرب مجمع جميع أسماء أفعال اللّه المقدسة لأن جميع أفعاله تبارك و تعالى متشعبة من جهة تدبيره تعالى، و تربيبه في كل موجود بحسبه فالرب مظهر الرحمة و الخلق و القدرة و التدبير و الحكمة فهو الشامل لما سواه تعالى، فإنهم المربوبون له تعالى على اختلاف مراتبهم.

فكم فرق بين الربوبية المتعلقة برسوله الأكرم (صلّى اللّه عليه و آله) أو سائر الأنبياء العظام أو الملائكة المقربين و ما تعلق بسائر النّاس.

فالربوبية لها مراتب تختلف باختلاف مراتب المربوب و المتعلق، قال تعالى:

اِقْرَأْ وَ رَبُّكَ اَلْأَكْرَمُ [العلق، الآية 3]، و قال تعالى: وَ تَرَى اَلْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ اَلْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ (سورة الزمر، الآية: 75] و قد ورد في الأثر عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام): «رب الملائكة و الروح».

و قد قرن هذا اللفظ في القرآن الكريم بما يفيد عظمته و جلالته قال تعالى: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ اَلْعِزَّةِ [سورة الصّافات، الآية: 180]، و قال تعالى: وَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [سورة المؤمنون، الآية: 86]، و قال تعالى: اَللّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ اَلْأَوَّلِينَ [سورة الصافات، الآية: 126]، و قال تعالى: سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [سورة يس، الآية: 58]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: 15] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و لجلال عظمته وقع مقسما به قال تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة النساء، الآية: 65] و قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92]، و قال تعالى: فَوَ رَبِّ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ [سورة الذاريات، الآية: 23].

ص: 26

و لأجل ما تقدم - من أنه أم الأسماء، و كونه مظهرا لجملة من أسمائه المقدسة - لم يرد في القرآن الكريم دعاء من عباده إلاّ مبدوّا باسم الرب قال تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً [سورة البقرة، الآية:

201] و قال تعالى: رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا [سورة آل عمران، الآية: 147] و قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً [سورة إبراهيم، الآية: 35] و قال تعالى: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى [سورة البقرة، الآية: 260] و غيرها من الآيات المباركة.

و لعل السر في ذلك هو إفادة هذا اللفظ حالة الانقطاع إلى اللّه تعالى أكثر من غيره و لذا وقع من أنبيائه العظام في تلك الحالة قال تعالى عن لسان نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اِتَّخَذُوا هذَا اَلْقُرْآنَ مَهْجُوراً [سورة الفرقان، الآية: 30]، و قال تعالى عن لسان نوح (عليه السّلام): رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً [سورة نوح، الآية: 5].

فليس في أسمائه المقدسة أعم نفعا و أكمل عناية و لطفا من اسم (الرب) بالمعنى الذي ذكرناه، و لعل المراد بقوله تعالى: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة المؤمنون، الآية: 88] و قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 185] و قوله تعالى: فَسُبْحانَ اَلَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة يس، الآية: 83] هو الربوبية العظمى الإلهية فإن التغييرات و التبدلات اللازمة لعالم الكون و الفساد، و الإفاضات الحاصلة منه تعالى على العوالم هي عبارة عن الملكوت المضافة اليه تعالى.

مع أن الثابت في علم الفلسفة ان ما سواه تبارك و تعالى يحتاج إليه تعالى في البقاء كما يحتاج إليه في أصل الحدوث ففي كل لحظة - بل أقل منها - له رحمة خالقية و ربوبية بالنسبة إلى ما سواه من الموجودات و هذا هو معنى القيمومية المطلقة التي لا يمكن إحاطة الإنسان بها و بالربوبية العظمى كعدم إمكان الإحاطة بذاته تعالى و تقدس شأنه.

قوله تعالى: اَلْعالَمِينَ : جمع عالم و هو أيضا جمع، لا واحد له من

ص: 27

لفظه كالقوم و الرهط و النفر، و اشتقاقه من العلامة بمعنى الدلالة فكل ما هو مخلوق علامة و آية كاشفة عن خالقه، كما أن كل معلول أو مصنوع علامة للعلة أو الصانع. و الممكن علامة عقلية للواجب بالذات، فكل ممكن عالم من عوالمه عزّ و جل بذاته و كذا كل ما يتعلق من عوارضه و آثاره و خواصه من أدنى الموجودات إلى أرقاها فجميع الموجودات عوالمه و جميع عوالمه آياته و يأتي في الأخبار تفسير العالمين بالجماعات من المخلوقات أيضا.

و عن جمع إن العالم لا يطلق إلاّ على كل جماعة متمايزة لأفرادها صفات تقربها من العقلاء و إن لم تكن منهم و ذاك لأن هذه العوالم هي التي يظهر فيها معنى التربية. و هو فاسد لأنه إن كان المراد به التغليب فله وجه، و إن كان المراد عدم الصدق الحقيقي على ما لا يعقل فهو مخالف لصحة إطلاق عالم التكوين فإن إطلاقه يشمل الجمادات أيضا. و إن اثر التربية يظهر في كل ما يسمى شيئا قال تعالى: وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة الأنعام، الآية: 164]. فلا اختصاص للتربية بمن يعقل.

ثم إنّ معنى العالم و مدلوله وسيع جدا و غير محدود بحد، بل غير متناه - بالمعنى الذي سنبينه إن شاء اللّه تعالى - فمن أقرب العوالم إلى الإنسان عالم التراب - الذي يكون محسوسا له و هو عظيم لم يتمكن الإنسان من إدراك جميع خصائصه و جهاته. مع أنه من أجل العوالم نفعا، و كذا بالنسبة إلى عالم الإنسان الذي كل من أراد فهمه لا يزداد إلاّ تحيرا فيه، و هكذا غيرهما من العوالم، فليس للإنسان إلاّ الاعتراف بالعجز و القصور أمام جلال عظمته تبارك و تعالى.

و العوالم تارة: تكون في نفسها مترتبة منظمة بأن يكون كل سابق مقتضيا للاحقه، فيصح أن يقال:

أول ما خلق اللّه العقل في عالم الروحانيين و المجردات، كما في الحديث.

و أول ما خلق اللّه تعالى في عالم الماديات الماء، كما عن علي (عليه السّلام). و أول ما خلق اللّه في عالم الأعراض الحروف، كما في بعض الأخبار إلى غير ذلك مما ورد في أوّليات خلق عوالمه تعالى، و للفلاسفة من الأقدمين بل و من المسلمين مباحث علمية في بيان

ص: 28

العوالم المترتبة (طولية) و قد أثبتوا ذلك بالبرهان و سيأتي تفصيل العوالم في محله إن شاء اللّه تعالى.

و أخرى: لا ترتب بينها بل ينشأ جمع من تلك العوالم عن مبدإ واحد في عرض واحد، كما نشاهد ذلك في عالم الطبيعة.

و ثالثة: تكون مركبة من القسمين كما هو المحسوس في عالم النطفة في صلب الرجال ثم مسيرها إلى الرحم و مجيئها إلى هذا العالم و كذا كل ما هو في مسير الاستكمال و الارتقاء و تسمى هذه العوالم الطولية و في عرض ذاك عوالم أخرى إن لوحظت مع نظيرها، كما تقدم في القسم الثاني.

و هناك عوالم (طولية) أخرى يمر الإنسان عليها و هي عالم الدنيا، و عالم البرزخ، و عالم النشر و الحشر، و عالم الخلود، و سيأتي بيانها في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

نعم هنا بحث و هو أنّ العوالم هل هي متعددة حقيقة أو أنّ تعددها اعتباري محض؟ عن بعض المحققين من المتألهين أنّ العالم واحد و هو عالم الدنيا و غيره من عوالم البرزخ و الحشر و النشر و الخلود من تبعاتها و شؤونها فتكون الدنيا كالمادة للجميع السارية فيها فيكون العالم واحدا حقيقة، و سيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له.

و كل ما تقدم من العوالم - بشؤونها و أصنافها - غير متناهية بجميع مراتبها - و يأتي شرح ذلك مفصلا - و أنّها مخلوقة بأحسن خلق و أكمل نظام، كما أن جميع تلك الأصناف غير المتناهية مورد ربوبيته العظمى و قيمومته المطلقة و له المعيّة (الإحاطة) التدبيرية بكل ما سواه من العالم، و لكن تلك المعية في العباد لا توجب سلب اختيارهم، لأن الإختيار فيهم ثابت لفرض وجود التربية التشريعية و هي لا تعقل بدون الإختيار.

و أما تربيته التكوينية فهي منحصرة بإرادته و اختياره تعالى كما يأتي تفصيل هذا الإجمال في محله إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ في ذكر رب العالمين بعد الحمد دلالة على أن من موجبات

ص: 29

استحقاقه تعالى للحمد هو كونه رب العالمين.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ : تقدم تفسيرهما. و إنما كرر سبحانه و تعالى: «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» هنا، بناء على جزئيّة البسملة للفاتحة، كما هو الحق عند المسلمين، لأنّ الرحمن الرحيم، لوحظا في البسملة بالعنوان العام من كونهما من صفات الذات الأقدس بلا إضافة إلى شيء، و في الفاتحة لوحظا باعتبار منشأ استحقاقه تعالى للحمد، فهذه الخصوصية توجب الاختلاف في الجملة، و بها يرتفع التكرار.

قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ . هذه المادة (المالك) بأي هيئة استعملت تكون بمعنى الاستيلاء و الإحاطة و الاحتواء سواء أ كان بالنسبة إلى الخلق و الإيجاد أو بالنسبة إلى النظم أو الانتظام. نعم؛ هي في المخلوق محدودة لفرض محدودية ذاته و صفاته و في الخالق لا وجه للتحديد فيه بوجه من الوجوه، و ذكر يوم الدين من باب ذكر بعض المصاديق لنكتة لا للانحصار كما ستعرف.

نعم؛ مالكية يوم الدين تستلزم مالكيته لجميع العوالم السابقة عليه نحو استلزام النتيجة للمقدمات كما أن مالكية الدنيا ملازمة لمالكية يوم الدين كاستلزام المقدمات للنتيجة المنطوية فيها، مع أن قوله تعالى: بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ [سورة تبارك، الآية: 1]، و قوله تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و قوله تعالى: بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة المؤمنون، الآية: 88] عام يشمل جميع العوالم و مالكيته لها بالدلالة المطابقية.

ثم إنه وردت هذه المادة بأغلب مشتقاتها في القرآن الكريم فقد أطلق فيه الملك (بفتح الميم و كسر اللام) بالنسبة إليه تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلامُ [سورة الحشر، الآية: 23] و قال تعالى: فَتَعالَى اَللّهُ اَلْمَلِكُ اَلْحَقُّ [سورة طه، الآية: 114]، و قال تعالى: مَلِكِ اَلنّاسِ [سورة الناس، الآية: 2] كما ورد الملك (بضم الميم و سكون اللام) مضافا إليه تعالى كثيرا قال تعالى: لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحديد، الآية:

ص: 30

2]، و قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة فاطر، الآية: 13]، و قال تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [سورة آل عمران، الآية: 26]. و قد ورد المالك، قال تعالى: اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ [سورة آل عمران، الآية: 26]. كما ورد المليك أيضا، قال تعالى: عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر، الآية: 55] و لم يرد الملك (بكسر الميم و سكون اللام) لإغناء الملك (بضم الميم) عن ذلك بالأتم و الأكمل، و لعل عدم وروده في القرآن لأنه غالبا يستعمل في الأمور الزائلة و هو تعالى منزه عن إضافة مثله إليه.

هذا و قرئ (ملك) لأن كل ملك يستلزم المالك و لا عكس. و الظاهر أنه لا فرق بالنسبة إليه تعالى لكونه مالكا في عين ملكيته تعالى و بالعكس فكما أنه تعالى رب العالمين بالنسبة إلى جميع الموجودات كذلك ملك و مالك بالنسبة إلى جميعها أيضا.

و قد يرجح قراءة (مالك)، لأن المالكية تشمل ملكية الأجزاء و الجزئيات بخلاف (ملك)، فإن الملكية هي التسطير على الكل. هذا بحسب اللغة.

و أما بالنسبة إليه تعالى فقد قلنا: إنه لا وجه لذلك، كما تقدم، و ان كان قراءة (مالك) أوفق بالعرف.

يَوْمِ : المراد به هو الوقت، و ان كان إطلاقه على الزمان الذي لا ظلام فيه بالطبع إطلاقا شائعا و لكن ليس بحسب ذاته و من مقوماته فهو غير محدود بحد معين بل هو بالنسبة إلى هذا العالم الذي نحن فيه المقدر فيه الليل و النهار لأجل دوران الكرة الأرضية لا بالنسبة إلى جميع العوالم، و لذا لم يذكر اليوم في القرآن في مقابل الليل و إنما ذكر النّهار في مقابله.

و مما يدل على عدم التحديد فيه قوله تعالى: إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: 47]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ [سورة الأعراف، الآية: 54]، و قوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ [سورة فصلت، الآية: 12] بناء على أن اليوم المعهود

ص: 31

لدينا إنما حدث بعد خلق السموات و الأرض و لا وجه لأخذ الحد الخاص الحاصل من خصوصيات عالم معين في معنى الكلمة الذي هو عام و شامل لجميع العوالم إلاّ إذا كانت هناك قرائن معتبرة خارجية تدل على خصوصية معينة و حد خاص.

اَلدِّينِ : هو الجزاء و يوم الدين هو يوم الجزاء على الأعمال و حسابها، كما في آيات كثيرة مثل قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [سورة غافر، الآية: 17]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 28]. الى غير ذلك من الآيات المباركة.

و المستفاد من مجموع الآيات أنّ الإنسان من بدء حدوثه إلى خلوده هو في يومين: يوم العمل الذي يعبّر عنه ب (الدنيا) و يوم الجزاء المعبّر عنه ب (الآخرة)، أو يوم القيامة، أو غير ذلك.

و قد وصف اللّه تعالى هذا اليوم بأوصاف شتى كالعظيم، قال تعالى:

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة مريم، الآية: 37]؛ و المحيط كقوله تعالى: وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ [سورة هود، الآية: 84]، و بأنواع الحوادث العظيمة الهائلة قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى [سورة الحج، الآية: 2].

و كل ذلك لأجل بيان نهاية عظمة اليوم؛ و قد لخصها اللّه تعالى في سورة الإنفطار بأحسن تلخيص و أكمل بيان و أتم دهشة، و في المقام مباحث تأتي في مواضعها المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

و إنما ذكر اللّه عزّ و جل «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» مع أنه تعالى مالك لجميع ما سواه و لم يخرج عن ملكه شيء لأن يوم الدين مظهر ثبوت الوحدانية المطلقة و الربوبية العظمى الإلهية عند الكل و انقهار الجميع تحت قهاريته و هو يوم ظهور فساد الشرك الذي توهمه النّاس بزعمهم و خيالهم فيوم الدين يوم يظهر فيه التوحيد الحقيقي و العدل الإلهي.

و إنما ذكر «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» بعد «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» ترغيبا لعباده

ص: 32

و حنانا عليهم بأن لا تغلبهم دهشة اليوم، فإن الرحمن الرّحيم معهم في أي عالم وردوا عليه و حاضر فيهم في ما إذا أحاطت بهم الدهشة.

و هذا من لطيف المعاتبة بين المالك الحكيم الغني و المملوك المحتاج فيدفع بيد و يجذب بالأخرى و قد جمع اللّه تعالى بين الترغيب و الترهيب.

إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (6) قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ : لفظ الخطاب إياك استعمل هنا في مقام الحصر

إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ (6) قوله تعالى: إِيّاكَ نَعْبُدُ : لفظ الخطاب إياك استعمل هنا في مقام الحصر، و قد أطلق عليه تعالى في القرآن بضمير الغيبة و ضمير المتكلم مع إفادتهما الحصر أيضا، قال تعالى: أَمَرَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ سورة يوسف، الآية: 40، و قال تعالى: إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ سورة العنكبوت، الآية: 56.

و يستفاد الحصر في المقام من أمرين:

أحدهما: سياق الآية المباركة لأن من كان «رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و «اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ» و «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» لا وجه لعبادة غيره فإنّ غيره مطلقا مملوك له تعالى و محتاج إليه و لا وجه أن يدع من له تلك الصّفات في عبادته و يعبد غيره، و منه يظهر سر

قولهم (عليهم السّلام): «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» و كثرة إطلاق الجهل على المشركين في الكتاب و السنة.

الثاني: استفادة الحصر من انفصال الضمير و تقديمه و ينحل الحصر الى النفي و الإثبات كأنه قال: لا نعبد غيرك و نعبدك، كما في لا إله إلاّ اللّه. و سائر موارد الحصر.

و في الآية المباركة التفات من الغيبة إلى الخطاب لأنه بعد إقرار العبد بالالوهية و الاعتراف بالربوبية و انه مالك يوم الجزاء صار لائقا بالمخاطبة الحضورية معه تعالى فارتقى العبد من الغيبة الى الحضور لارتقاء مقام قلبه عن الغفلة إلى التوجه و الحضور.

و للتوجه من الغيبة الى الحضور مراتب بحسب مراتب المعرفة و الطاعة في العبد، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 33

نَعْبُدُ العبادة: الطاعة و أصل المادة تنبئ عن الذل و الخضوع و الاستكانة و الانقهار في أي هيئة استعملت و منها العبد و المملوك. فالمادة تشمل العبودية التسخيرية، و العبودية الاختيارية و الواقعية و العبادات الباطلة الاعتقادية، كما في قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ [سورة يس، الآية: 60]. و قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية: 98]، و قوله تعالى: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً [سورة العنكبوت، الآية: 17]، و العبادة: خضوع خاص ناشئ عن الإعتقاد بأن للمعبود عظمة، و لا يحيط بها العقل في المعبود الحقيقي، لعدم وصول الإدراك الى عظمته فضلا عن ذاته، و ان كان مدركا بالآثار، كما عرفت فإنه أعلى و أجلّ من أن يرقى إليه إدراك أحد، و لذا لا تصدق العبادة على الخضوع بالنسبة إلى غيره تعالى.

و قد تطابق العقل و النقل على عدم جوازها لغيره تعالى لأن حقيقتها الخضوع لمن هو في أعلى درجات الكمال بحيث لا كمال فوقه و هو منحصر باللّه تعالى، و في قوله تعالى: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (*) وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: 95-96] إشارة إلى ذلك، و أنه لا تكون العبادة الا للخالق و مفيض الحياة و الإطلاق بالنسبة إلى غيره تعالى اعتقادي باطل لا واقعي حقيقي.

و العناوين الشايعة ثلاثة: العبادة، و الطاعة، و الانقياد.

و الأول - عبارة عن إتيان العمل بقصد التقرب إلى اللّه تعالى سواء كانت صحة العمل في حد نفسه متوقفة على قصد القربة - كالصّلاة و الصوم و الحج و غيرها من سائر العبادات، فإذا أتى بها من دون قصد القربة يبطل أصل العمل، أو لم تكن كذلك، كقضاء حوائج الإخوان و أداء حقوق النّاس، أو مثل النظافة فإذا كان للّه تعالى يثاب عليه مع حصول الطاعة و إذا لم يكن له تعالى تحصل الإطاعة دون الثواب، فالإطاعة أعم من العبادة، كما أنّ الانقياد أعم من كل منهما لإطلاقه عليهما و على إتيان ما يحتمل أنه محبوب للّه تعالى و ترك ما يحتمل انه مبغوض له عزّ و جل و إن لم يكن أمر و نهي منه تعالى، و قد فصلنا

ص: 34

الكلام في كتابنا [مهذب الأحكام].

و قد وردت الإطاعة في كثير من مشتقاتها في القرآن الكريم؛ قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً [سورة الأحزاب، الآية:

71]، و قال تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و قال تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ [سورة البقرة، الآية: 184]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ [سورة النساء، الآية: 64] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ثم إنّ العبادة هي التوجه إلى المعبود في القيام بما جعله من الوظيفة و إتيان المطلوب الذي أراده من العبد و حيث إنّ اللّه تعالى يطّلع على النوايا كاطّلاعه على الأعمال فلا بد أن تكون النوايا القلبية متوجهة إليه تعالى و منحصرة في العبودية له تعالى.

و بعبارة أخرى كما أنّ العابد حاضر لدى اللّه تعالى و لا يخفى منه على اللّه شيء و هو عالم السر و الخفيات، بل وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، يعلم خطرات القلوب و حركات الجوارح و لحظات العيون فلا بد و أن يكون توجه العابد إلى مثل هذا المعبود كاملا و كذا في قلبه تاما بحيث لا يخطر في قلبه غيره فإن ذلك يوجب النقص في العبادة و العبودية بل قد يوجب الطرد و الهجران و الإثم و العصيان،

و قد قال علي (عليه السّلام) في معنى العبادة: «أن تعبد اللّه كأنك تراه و ان لم تكن تراه فإنه يراك». و يأتي التفصيل في قوله تعالى: وَ اُدْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ [سورة الأعراف، الآية:

29].

و الدواعي للعبادة كثيرة حتّى عند شخص واحد فربما يختلف دواعيه لها في حالة عن حالة أخرى و كلما كانت العبادة مجردة عن الدواعي الشخصية و المادية كانت العبادة أشد خلوصا للّه تبارك و تعالى و لذا

ورد عن علي (عليه السّلام): «أن قوما عبدوا اللّه رغبة فتلك عبادة التجار، و ان قوما عبدوا اللّه رهبة فتلك عبادة العبيد، و ان قوما عبدوا اللّه شكرا فتلك عبادة الأحرار»

و نسب إليه (عليه السّلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك

ص: 35

أهلا للعبادة فعبدتك»،

و عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السّلام): «العباد ثلاثة: قوم عبدوا اللّه عزّ و جل خوفا، فتلك عبادة العبيد، و قوم عبدوا اللّه تبارك و تعالى طلب الثواب، فتلك عبادة الاجراء. و قوم عبدوا اللّه عزّ و جل حبا له، فتلك عبادة الأحرار و هي أفضل العبادة». و لا شك في أن عبادته لحبه تعالى، كما في هذه الرواية من أفضل أنحاء العبادات لخلوصها حتّى عن المسألة عنه تعالى و إضافة شيء إليه عزّ و جل خارجا عن ذاته، و لكن في بعض الروايات

عن علي (عليه السّلام) كما تقدم «أن قوما عبدوا اللّه شكرا، فتلك عبادة الأحرار» و هي من أفضلها أيضا و لكن لا تصل إلى مرتبة المحبة، لأن المحبة قد تصل إلى مرتبة الفناء في المحبوب فلا يرى شيئا آخر أبدا وراء أهلية المحبوب و الشكر هو لحاظ شيء آخر وراء ذات المحبوب و سيأتي تفصيل هذه المباحث في محالها إن شاء اللّه تعالى.

و إذا تحققت العبادة الواقعية بحيث لا يشوبها شيء كانت ثمرتها عظيمة لا يمكن حدها، و قد ورد في ذلك ما يوجب التحير منه،

فعن أبي جعفر (عليه السّلام): «إن اللّه جل جلاله قال: ما يتقرب إليّ عبد من عبادي بشيء أحب إليّ مما افترضت عليه، و إنه ليتقرب إليّ بالنافلة حتّى أحبه - الحديث -» فإن محبته تعالى لعبده من أجلّ مراتب الكمال و توجب وصوله إلى مقامات عالية لاستلزام الانقياد و العبودية التامة من العابد الإفاضة المطلقة بالنسبة إليه و يستفاد ذلك من كثير من الروايات، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و عن المحقق الطوسي أن العبادة أقسام ثلاثة: قلبي كالعقائد الحسنة و بدني كالأعمال الحسنة، و اجتماعي كالمعاملات الشرعية و الأخلاق الحسنة مع النّاس و سيأتي في الآيات المباركة المناسبة لها تفصيل الكلام.

قوله تعالى: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ : الاستعانة طلب العون، و الحصر هنا كالحصر في «إِيّاكَ نَعْبُدُ» لفظي و سياقي و حالي، لأن الغني المطلق من كل جهة، لا بد و أن تنحصر الاستعانة به، و الاستعانة بما سواه ان رجعت إليه تكون الاستعانة به، و الا تكون شركا من هذه الجهة، فيكون المعنى هنا مشتملا على النفي و الإثبات، أي: لا نستعين بغيرك و نستعين بك فقط.

ص: 36

ثم إنّ الاستعانة باللّه تعالى إما اختيارية أو تكوينية بلسان الحال و الاستعداد، و الثانية من لوازم الإمكان لا تنفك عنه في جميع العوالم فإن المخلوق محتاج في حدوثه و بقائه إلى الخالق و مستعين به بل كل معلول مستعين كذلك من علته، كما ثبت بالبراهين العقلية و النقلية أن مناط الحاجة الإمكان دون الحدوث فجميع ما سواه مستعين به ذاتا و قد تجتمع الاستعانتان، كما في المؤمنين باللّه تعالى فإن فيهم الاستعانة التكوينية و الاختيارية، و كل ما تجلت عظمة المستعان في قلوبهم اشتدت استعانتهم به فالاستعانة به تعالى تتفاوت شدة و ضعفا.

و تأخير العبادة و الاستعانة عن «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» نحو تأخير المعلول عن العلة يعني: من كان رب العالمين و مالك يوم الدين لا بد و ان يكون معبودا و مستعانا به. كما أن في تقديم العبادة على الاستعانة اعتراف بالمسكنة و الخضوع بألطف وجه في أن يعتني الغني المطلق باستعانته، و من ثم قيل: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة مع أنه من قبيل تقديم الغاية على ذيها لكثرة أهمية الغاية فإن غاية الاستعانة باللّه انما هي استعانته في عبادته و ان ما سواها أمور زائلة و حقيرة، و العاقل لا يستعين باللّه تعالى في أمور زائلة غير دائمة إلاّ إذا رجعت إلى ما هو دائم يبقى.

بل إن عبادته تعالى و الاستعانة منه عزّ و جل متلازمتان فعبادته استعانة به كما أنّ نفس الاستعانة عبادة له فيكون مثل قول القائل: أديت ديني فقضيت حاجتي أو قوله قضيت حاجتي أديت ديني. و في ذلك إشارة إلى أن لا ينسب العبد الى نفسه شيئا فانه خلاف أدب العبودية.

و جملة «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» دليل واضح على إبطال الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين، كما ذكره الأئمة الهداة (عليهم السّلام) على ما يأتي بيان هذا المبحث الشريف مفصلا في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و إنما ذكر «نعبد» و «نستعين» بلفظ الجمع إما باعتبار القارئ و من معه من الملائكة الحفظة، أو باعتبار من معه في صلاة الجماعة، أو من

ص: 37

المصلين، أو باعتبار من معه في الاعتقاد رجاء أن يكون فيهم من يقبل عمله فيقبل منه أيضا، و لأجل تصغير ما يصدر عنه من العمل فإذا التفت إلى أن الكل يعبدونه و يستعينون به عزّ و جل فلا يغتر به و لا يحسب لنفسه وزنا.

و الأولى أن يقال: إن لفظ الجمع فيهما للتحريض إلى حفظ وحدة المجتمع الذين يعبدونه تعالى و يستعينون به فكما انهم مجتمعون في وحدة المعبود و العبادة و المستعان به لا بد أن يكونوا كذلك في جميع شؤونهم كما تدل عليه آيات كثيرة، و سيأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

و إنما كرر لفظ «إياك» لتأكيد الحصر و تشديده في كل واحد من العبادة و الاستعانة، و إطلاقها و حصرها فيه تعالى يقتضي الاستعانة به في جميع الأمور مطلقا، و هي عبارة أخرى عن الاعتقاد ب «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه» و العمل بمقتضاه في جميع الأحوال.

قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ . هذا هو ثمرة العبادة و الغرض الأقصى من الاستعانة و أعلى المقامات الإنسانية. و هي الأمانة التي عرضت عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ [سورة الأحزاب، الآية: 72].

و الهداية: الدلالة سواء كانت إلى الحق أو الباطل، و كثيرا ما تستعمل في القرآن في الأول، و من الثاني قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]، و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ [سورة الصافات، الآية: 23].

و للهداية مراتب كثيرة متفاوتة يصح تعلق الطلب بجميع مراتبها كما يصح تعلقه بالمراتب الراقية و ان كان الشخص واجدا لها بالنسبة إلى المراتب السابقة، ففي كل مرتبة منها تطلب المرتبة الأرقى منها، فلا وجه للإشكال بأن الشخص إذا كان واجدا للهداية لا يصح أن يطلبها من اللّه تعالى ثانيا لأن إبقاء ما يكون واجدا له و تكميل مراتبه و طلب ما فوقه كلها من اللّه تعالى.

و الهداية من أفعاله تعالى و هي من صفات الفعل لا صفة الذات و قد

ص: 38

اضطربت كلمات الفلاسفة المتألهين في الفرق بين ما هو صفة ذاته تعالى و ما هو صفة فعله فجعلوا بعض ما هو صفة الفعل صفة لذاته عزّ و جل و بذلك عسر الجواب عنه و لم ينهضوا بدليل يحسم الاشكال. لكن المستفاد من الآيات الشريفة - على ما سيأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى - و السنة المقدسة قاعدة كلية و هي: كل ما يصح توصيف اللّه تعالى به و بنقيضه أو ضده فهو من صفة الفعل و كل ما لا يصح ذلك فيه فهو من صفة الذات.

و الأول - كالإرادة، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و قال تعالى: يُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة المدثر، الآية: 31].

و الثاني - كالحياة و البقاء و العلم مثل: السميع و البصير و القدير، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن الهداية إما تكوينية أو تشريعية:

و الأولى: ما يعم جميع ما سواه تعالى من المجردات و الماديات و يدل على ذلك قوله تعالى: رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه، الآية: 50] فالبلوغ إلى مرتبة الكمال في كل موجود هداية بالنسبة إليه.

و الثانية: تخص المؤمن و يطلبها منه عزّ و جل و قد جمعت في الإنسان الهدايتان التكوينية و التشريعية و هو يطلبهما معا أما الأولى بالاستعداد كما في سائر الموجودات و الثانية بالطلب الذي يختص به و أما الكافر فله الهداية التكوينية فقط كالنباتات و الحيوانات و إنما ترك الهداية التشريعية باختياره بعد ما تمت الحجة عليه.

الصراط: و هو الطريق المؤدي إلى المطلوب. و الاستقامة هي الاستواء في مقابل الانحراف و الاعوجاج. و إنّها تعم الجميع من الاعتقادات و الملكات بل و الخواطر النفسانية و أعمال الجوارح من العبادات و المعاملات و المجاملات فإنها إن تطابقت مع رضاء اللّه تبارك و تعالى كانت مستقيمة و إلاّ فهي منحرفة قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101] فبين تعالى معنى الهداية و الصراط المستقيم بل يتحقق

ص: 39

الصراط المستقيم في جميع الموجودات فإنّها إن طابقت مع ما جعله اللّه تعالى لها في النظام الأحسن كانت على الصراط المستقيم و إلاّ خرجت عنه بعدم بلوغها الى غاياتها للحوادث الطارئة.

فالهداية الى الصراط المستقيم متقومة بطرفين: المفيض و هو اللّه تعالى، و المستفيض و هو ما سواه تعالى، لأنّ جميع الموجودات في طريق الاستكمال الذي أعده الحكيم جل شأنه.

ثم إنّ الصراط المستقيم كلي واقعي له أنواع كثيرة متفاوتة في التجرد و التعلق بالمادة و غير ذلك و يتحد مع الجميع اتحاد الجنس مع أنواعه فالمجرد منه كالعقل الكلي و المتعلق بالمادة منه كنفوس الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و العرضية منه كالكتب السماوية و التشريعات الإلهية.

و قد بين اللّه تعالى معنى الصراط المستقيم الذي يطلبه الإنسان في عدة آيات، منها قوله تعالى: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً [سورة الأنعام، الآية: 161]، فجعل الدين هو الصراط المستقيم، و منها قوله تعالى: وَ اِتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 61]، فجعل اتباع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هو الصراط المستقيم، و كذا في قوله تعالى:

وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ اَلصِّراطِ لَناكِبُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 74]، و منها قوله تعالى: وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61]، و جميع هذه الآيات المباركة بيان لأمر واحد و هو الدين الذي أراده اللّه تعالى لخلقه و عبّر عنه بالنور في الآيات الكثيرة كما سيأتي بيانها.

و الانحراف عن الصراط المستقيم وقوع في الظلمات التي لها أنواع كثيرة يجمعها قوله تعالى: «المغضوب عليهم و الضالين» على ما سيأتي، و ذكره تعالى المغضوب عليهم و الضالين بعنوان الجمع اشارة الى التعدد و الاختلاف و عدم الوحدة فيه بخلاف الصراط المستقيم فإنه واحد لا تعدد فيه بوجه و هو النور الذي لم يستعمل في القرآن إلاّ مفردا بخلاف

ص: 40

الظلمات، قال تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: 257] و قوله تعالى: يَهْدِي اَللّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ [سورة النور، الآية: 35] فالنور و الصراط المستقيم لا يعقل التعدد فيه لأن مبدأه منه تعالى كما أن بقاءه به و منتهاه إليه بخلاف الظلمات فإنها مختلفة حسب الإعتقادات و الأهواء الباطلة قال تعالى: قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 16].

نعم المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أن الظلم و الشرك من الشيطان فهما حقيقة واحدة لها مراتب كثيرة و مظاهر متفاوتة و الاختلاف في التعبير دون الحقيقة و سيأتي تفصيل ذلك في بيان حقيقة الشيطان إن شاء اللّه تعالى.

صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ (7) قوله تعالى: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . بيان

اشارة

صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ (7) قوله تعالى: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ . بيان للصراط المستقيم و إنما كرر لفظ «الصراط»، لأهمية الموضوع و أنّ المطلوب ليس مجرد حدوث الهداية فقط بل بقاؤها و إبقاؤها؛ و قد بيّن تعالى الصراط المستقيم بنفسه، لأن صراطا يكون مبدؤه من اللّه تعالى و منتهاه اليه كيف يمكن وصفه و بأي وجه يتحقق نعته؟!! فلا يقدر المخلوق أن يصفه إلاّ بما وصفه الخالق بالقول الجامع في قوله: صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فمن يقدر أن يحد هذه النعمة العظمى التي هي أجلّ مواهب اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و أعلى الكمالات الإنسانية في ما يرد عليه من العوالم كلها و أنّى للممكن المتناهي من كل جهة أن يحيط بحقيقة ما يكون كله منه تبارك و تعالى.

اشارة

و عن جمع من اللغويين أن استعمال النعمة يختص بذوي العقول فلا يستعمل في غيرهم إلاّ بالعناية و له وجه إن أريد منه أن الغاية من خلق النّعم هو الإنسان، كما في قوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة

ص: 41

البقرة، الآية: 29]. و أما لو أريد ملاحظة الوسائط بعضها مع البعض فلا كلية له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ [سورة لقمان، الآية: 31].

و إنما اطلق لفظ النعمة في الآية المباركة، ليفيد التعميم من كل جهة تتصور من النّعم الظاهرية و الباطنية، قال تعالى: وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20].

كما بين تعالى بعض مصاديق نعمه في الآية المباركة: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ [سورة النساء، الآية: 69] فإنهم نعم مطلقا و ان النّعم الواردة من المبدأ غير محدودة بحد خاص، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34].

ثم إنّ مادة (نعم) استعملت في القرآن العظيم بهيآت مختلفة كلها تشعر بالحنان و الرأفة و العطف و الرحمة قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ لِسَعْيِها راضِيَةٌ [سورة الغاشية، الآية: 8]، و قال تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 47]، و قال تعالى: وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ [سورة الدخان، الآية: 27] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ما ذكرنا.

تلخيص ما تقدم في أمور:

الأول - لا ريب في أنّ تشريع الأديان السماوية و إنزال الكتب الإلهية و تكميل النفوس الإنسانية بل و تنظيم العالمين - الدنيا و الآخرة - متقوّم بهدايته تبارك و تعالى و لكثرة أهمية ذلك صارت الهداية من شؤونه المختصة به، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 73] و قال جل شأنه: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: 56] و كما تكون نفس الهداية من فعله تعالى كذلك تكون مراتبها و أقسامها لأنّه حكيم عليم بخصوصياتها و لكنّها في الإنسان بتوسط الإختيار دون غيره من سائر المخلوقات.

ص: 42

ثم إنّ هذه الهداية - بالمعنى الذي تقدم - واجبة في النظام عقلا لأنّ في تركها إهمالا للنفوس المستعدة و تضييعا لها و هما قبيحان عقلا و كل قبيح ممتنع بالنسبة إليه جل شأنه.

و سبل الهداية بالنسبة إلى اللّه تعالى كثيرة فكل ما يسوق العبد اليه عزّ و جل يكون من مظاهر هدايته و مصاديقها فالقرآن من هدايته تعالى لعباده قال تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 97]، و قال تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ [سورة البقرة، الآية: 185]. و كذلك سائر الكتب السماوية، قال تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]. و جعل الكعبة المشرفة أيضا من مظاهرها قال تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 96]. كما أن السنة الشريفة أيضا كذلك، لأنها أحسن سبيل لتكميل النفوس الإنسانية.

الثاني - إنّ هدايته جل شأنه لعباده على أنواع:

الأول: عام يشمل الجميع قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ اَلسَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً [سورة الدهر، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [سورة البلد، الآية: 10]. و لا ريب في شمولها لجميع أفراد الإنسان كما يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة.

الثاني: الهداية الخاصة و هي تخص بجمع بذلوا وسعهم في العمل بالشريعة المقدسة فزادهم اللّه تعالى بذلك أنحاء الهداية لقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا [سورة السجدة، الآية: 24]، و قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية:

90] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ص: 43

الثالث: ما هو أخص من الثاني كما ورد في شأن رسوله و حبيبه (صلى اللّه عليه و آله): لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ اَلْمُوقِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 75]. و غير ذلك مما ورد في شأن أنبيائه الكرام و هذا مقام عظيم لا يليق لأحد إلاّ لهؤلاء (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و لكل من هذه الأنواع مراتب كثيرة أيضا.

(الثالث): حيث إنّ منشأ الصراط المستقيم - بكلا معنييه - من علمه تعالى و إبداع حكمته التامة و إحاطته به من جميع الجهات فهو الأصل في الكمالات و ينبعث منه سائر الكمالات في المخلوقات، فيكون مبدؤه علمه تعالى و بقاؤه بديع حكمته جل شأنه و منتهاه الخلود في جنته و في مثل هذا الأمر - الذي لا يدرك عظمته - لا يتصور فيه نقص و ينطوي فيه جميع المعارف الإلهية، و ما يتصور فيه من الاشتداد و الضعف إنما هو من ناحية المتعلق و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

(الرابع): تقدم أن الصراط هو الطريق المؤدي إلى المطلوب و استعمل في القرآن الكريم موصوفا بالاستقامة و الإستواء غالبا، و قد أضيف اليه تعالى بأنحاء الإضافة كقوله تعالى: وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً [سورة الأنعام، الآية: 126]، و قوله تعالى: صِراطِ اَللّهِ [سورة الشورى، الآية: 53] و قال اللّه تعالى: إِلى صِراطِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَمِيدِ [سورة سبأ، الآية: 6].

و لم يضف الصراط الى غيره تعالى إلاّ نادرا بخلاف السبيل فإنه أضيف إلى غيره تعالى كثيرا، كما أنّه ذكر بلفظ المفرد و الجمع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153]، و قال تعالى: لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69].

و السبيل هو الطريق الموصل إلى الصراط و اختلاف السبل لا يوجب الاختلاف في أصل الصراط، فمثل الصراط المستقيم و السبل المؤدية إليه مثل البحر و ما يتفرع عنه من الجداول فالبحر يفيض على الكل و الكل

ص: 44

مستفيض من البحر و كلها موصوفة بالاستقامة و الرشاد و بإزائها الاعوجاج و الانحراف و السبل المنحرفة المتفرقة هي سبل الشيطان كما تقدم.

(الخامس): للصراط المستقيم مراتب من الوجود. (الأولى): مرتبة البيان و إتمام الحجة و هي من اللّه تبارك و تعالى و أنبيائه العظام و أوصيائهم (عليهم السّلام) و يدخل في ذلك جميع الشرايع الإلهية و الرسالات السماوية. (الثانية): مرتبة الاعتقاد. (الثالثة): مرتبة العمل و هما من وظائف العبد إلاّ أن الثاني أشقهما عليه (الرابعة): مرتبة ظهوره في النشأة الآخرة و من هذه المرتبة الصراط في يوم القيامة الذي لا بد من العبور عليه للوصول إلى محل الخلود.

فالعبور وضعي لا أن يكون تكليفيا، إذ لا تكليف في يوم القيامة و ان اختلف زمان العبور و كيفيته تبعا لاختلاف درجات العابرين و معنوياتهم.

قوله تعالى: غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ . بيان للآية السابقة اهتماما بصراط المنعم عليهم و اعتناء بشأنهم و أنه يباين طريق المغضوب عليهم و طريق الضالين فالجملة الأولى وقعت في مقام المدح لعباد الرحمن و الأخيرة كأنها وردت في مقام رجم الشيطان و من تبعه.

و الغضب: هو الشدة، و رجل غضوب أي: شديد الخلق. و غضب اللّه تعالى عقابه دنيويا كان أو أخرويا أو هما معا، كما أن رضاه ثوابه، و هما من صفات الفعل لا من صفات الذات و تقدم بيان الفرق بينهما.

الضلال بمعنى التحير و يستلزمه الهلاك و الغيبة عن المقصود الحقيقي و العقاب و الهلاك متلازمان، و إنما ذكرهما معا بيانا للمبدأ و الأثر، فالضلال مبدأ العقاب و منشأ استحقاقه و العقاب مترتب على الضلال ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) و إنما قدم الغضب و العقاب على الضلال إرشادا للإنسان بأن لا يرتكب ما يوجب غضب اللّه تعالى.

و الغضب استعمل في القرآن مع اللعن و مع الرجس و مع العذاب كما في قوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اَللّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 60]، و قوله تعالى: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ [سورة الأعراف،

ص: 45

الآية: 71]، و قال تعالى: فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اَللّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل، الآية: 106]، و قال تعالى: وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ [سورة الفتح، الآية: 6] بل ورد في مورد بعض المحرمات أيضا:

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ [سورة النساء، الآية: 93].

و يستفاد من ذلك كله شموله لكل من انحرف عن الصراط المستقيم بالكفر سواء كان مشركا أو غيره من أي ملة كان.

و أما الضلال فهو بمعنى التحير كما عرفت فيشمل مطلق الكفر أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136] فتفسير الأول باليهود و الثاني بالنصارى من باب التطبيق لا التخصيص حتّى أنه أطلق الضلال على مطلق العصيان أيضا قال تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 36].

بحوث المقام
بحث روائي:

وردت روايات كثيرة متفق عليها بين المسلمين في فضل فاتحة الكتاب - المسماة ب (السبع المثاني)، و (أم الكتاب) أيضا، كما في روايات كثيرة - و يكشف ذلك عن امتياز هذه السورة عن سائر السور

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن فاتحة الكتاب أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه و هي شفاء من كل داء إلاّ الموت» و يحمل ذلك على الموت الحتمي الذي لا بداء فيه و إلاّ فيمكن أن يكون شفاء عن الموت غير الحتمي أيضا

لقول أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «إنها من كنوز العرش و انها لو قرئت على ميت سبعين مرة ثم ردت فيه الروح ما كان عجبا».

ص: 46

أقول: لا يتصور محل أرقى من كنوز العرش الذي نزلت منه هذه السورة المباركة و سيأتي إن شاء اللّه تعالى بيان العرش و ما يتعلق به في الآيات المناسبة له.

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إن فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز العرش»،

و عن علي (عليه السّلام): «نزلت فاتحة الكتاب بمكة من كنز تحت العرش».

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «انه قال لجابر: ألا أعلّمك أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه؟ قال: بلى علمنيها فعلمه الحمد للّه أم الكتاب ثم قال هي شفاء من كل داء».

أقول: الأم هي الأصل في كل شيء بحيث يتفرع منها الأشياء، فأم الكتاب أي: أصل الكتاب.

كما أن أم القرى أصلها أيضا بحيث تفرعت عنها سائر القرى، كما ورد في النصوص، و سيأتي بيانها عند قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها [سورة الشورى، الآية: 7]، تكون الفاتحة كذلك، لاشتمالها على كثير من معارف القرآن على نحو الإجمال، كما سيأتي في البحث الدلالي.

و عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي قال هي: أم القرآن تثنى في كل صلاة.

أقول: سميت الفاتحة أما لأصالتها و تفرع سائر القرآن منها، كما تقدم.

و أما تسميتها بالسبع المثاني فلما ورد عن الفريقين

أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت الطول مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضلت بالمفصل سبع و ستين سورة».

أقول: المراد من الطول من سورة البقرة إلى سورة التوبة، و المئين هي السور التي تتضمن أكثر من مأة آية. و المثاني - التي هي جمع مثنى - مثل المعاني جمع معنى - أي: ما كرر فيه شيء، و هي السور التي تقصر عن المئين، أي: ما كانت على نحو مأة آية أو أقل، و أما المفصل فهي السور التي

ص: 47

تفصل بينها البسملة كثيرا و تقصر آياتها.

و في ذلك أقوال أخر: (الأول) إنها سميت ب (المثاني) لتكررها في الصّلاة. (الثاني): إنما سميت بذلك لنزولها مرتين مرة بمكة، كما تقدم عن علي (عليه السّلام)، و أخرى بالمدينة، لعظمة شأنها، و نسب ذلك إلى مجاهد، و لكن المشهور على خلافه و يقتضيه الإعتبار أيضا. (الثالث): أنّ المثاني جميع القرآن و فاتحة الكتاب سبعة آيات من أعظم آيات القرآن؛ قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ [سورة الحجر، الآية: 87]، و يشهد له ما تقدم في تفسير الآية المباركة عن ابن عباس.

و يصح أن يقال: إن المثاني من الأمور الإضافية، كما عرفت و إطلاقها على فاتحة الكتاب بكل معنى يتصور بالنسبة إلى عنوان المثاني صحيح؛ فهذه الأقوال من باب تطبيق الكلي على الفرد.

و قد روى الفريقان

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): قال: «قال اللّه عزّ و جل: قسّمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي، فنصفها لي و نصفها لعبدي، و لعبدي ما سأل؛ إذا قال العبد: بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ قال اللّه جلّ جلاله: بدأ عبدي باسمي و حق عليّ ان أتمم له أموره و أبارك له في أحواله، فإذا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ ، قال اللّه جلّ جلاله: حمدني عبدي، و علم أن النعم التي له من عندي و أنّ البلايا التي دفعت عنه بتطولي، أشهدكم اني أضيف له إلى نعم الدنيا نعم الآخرة و أدفع عنه بلايا الآخرة كما دفعت عنه بلايا الدنيا، و إذا قال: اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ ، قال اللّه جلّ جلاله: شهد لي عبدي أنّي الرحمن الرحيم أشهدكم لأوفّرن من رحمتي حظه و لأجزلنّ من عطائي نصيبه، فإذا قال: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ، قال اللّه تعالى: أشهدكم كما اعترف بأني أنا المالك يوم الدين لاسهلنّ يوم الحساب حسابه و لأتقبلنّ حسناته و لأتجاوزنّ عن سيئاته فإذا قال: إِيّاكَ نَعْبُدُ ، قال اللّه عزّ و جل صدق عبدي إياي يعبد أشهدكم لأثيبنه على عبادته ثوابا يغبطه كل من خالفه في عبادته لي فإذا قال: وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ ، قال اللّه تعالى: بي استعان عبدي

ص: 48

و إليّ التجأ أشهدكم لأعيننه على أمره و لأغيثنه في شدائده و لآخذن بيده يوم نوائبه، فإذا قال: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ إلى آخر السورة قال اللّه عزّ و جل: هذا لعبدي و لعبدي ما سأل و قد استجبت لعبدي و أعطيته ما أمل و آمنته مما منه و جل». و قريب منه عن ابن عباس عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا.

أقول: هذه الرواية تكشف عن أهمية سورة الفاتحة بالنسبة إلى سائر آيات القرآن، فإنه (أولا): جعل عبده شريكا لنفسه في المخاطبة و المكالمة (و ثانيا): قسّم السورة بين نفسه جل شأنه و بين عبده نصفين. (و ثالثا): جعل على نفسه الوفاء بما جعله لعبده. (و رابعا): إنها أوثق رابطة بين العابد و المعبود و توجه كل منهما إلى الآخر. (و خامسا): حنان خاص من المعبود الحقيقي إلى عابديه.

فهذه السورة المباركة - التي جعلها اللّه تعالى في صلاة المسلمين - هي كمرآة لجميع معارف القرآن بأخصر البيان.

و عن علي (عليه السّلام) في تفسير الحمد للّه: «إنّ اللّه عرّف عباده بعض نعمه عليهم جملا، إذ لا يقدرون على معرفة جميعها بالتفصيل، لأنّها أكثر من أن تحصى أو تعرف فقال لهم: قولوا: الحمد للّه على ما أنعم به علينا».

أقول: و يدل عليه قوله تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة النحل، الآية: 18].

و عنه (عليه السّلام) في تفسير رب العالمين: «مالك الجماعات من كل مخلوق من الجمادات و الحيوانات و خالقهم و سائق أرزاقهم إليهم من حيث يعلمون و من حيث لا يعلمون يقلّب الحيوانات بقدرته و يغذوها من رزقه و يحوطها بكنفه و يدير كلا منها بمصلحته، و يمسك الجمادات بقدرته و يمسك المتصل منها ان يتهافت و يمسك المتهافت منها أن يتلاصق و يمسك السماء أن تقع على الأرض إلاّ بإذنه و الأرض أن تنخسف إلاّ بأمره.

أقول: الحديث ظاهر في عموم ربوبيته تعالى لجميع الموجودات بتمام شؤونها، و يدل على ذلك ما تقدم في معنى الرب.

ص: 49

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في بيان مالك يوم الدين: «إنّ أكيس الكيّسين من حاسب نفسه و عمل لما بعد الموت و إنّ أحمق الحمقاء من أتبع نفسه هواها و تمنى على اللّه الأماني، و أحمق النّاس من باع آخرته بدنياه، و أحمق منه من باع آخرته بدنيا غيره». و في معناه ورد كثير من الروايات،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا أو زنوها قبل أن توزنوا».

أقول: هذه الروايات المتواترة تدل على أهمية المعاد و وجوب كثرة الاهتمام به.

و عن علي (عليه السّلام) في بيان اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ : «أدم لنا توفيقك الذي به أطعناك في ما مضى من أيامنا حتّى نطيعك كذلك في مستقبل أعمارنا».

أقول: و المراد من الإدامة تجدد مراتب الهداية بعد تحصيل كل سابق، كما تقدم.

و عن الصادق (عليه السّلام): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي الى محبتك و المبلغ الى جنتك و المانع من أن نتبع أهواءنا فنعطب أو نأخذ بآرائنا فنهلك».

و عنه (عليه السّلام) في الصراط: «هو الطريق الى معرفته عزّ و جل و هما صراطان: صراط في الدنيا و صراط في الآخرة. فأما الصراط الذي في الدنيا فهو الإمام المفترض الطاعة من عرفه في الدنيا و اقتدى به مرّ على الصراط الذي هو جسر جهنم في الآخرة، و من لم يعرفه في الدنيا زلت قدمه على الصراط في الآخرة فتردى في نار جهنم».

و عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ اَلْمَثانِي وَ اَلْقُرْآنَ اَلْعَظِيمَ فقال: «فاتحة الكتاب من كنز العرش فيها (بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ) الآية التي تقول: وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي اَلْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً ، (و اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ) دعوى أهل الجنّة حين شكروا اللّه حسن الثواب. و (مالك يوم الدين). قال جبرائيل: ما قالها مسلم قط إلاّ

ص: 50

صدّقه اللّه و أهل سماواته (إِيّاكَ نَعْبُدُ) إخلاص العبادة. (وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ) أفضل ما طلب به العباد حوائجهم (اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ) صراط الأنبياء و هم الذين أنعم اللّه عليهم (غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ) اليهود (وَ لاَ اَلضّالِّينَ) النصارى».

و عنه (عليه السّلام) أيضا في قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ .

قال: «صراط محمد و أهل بيته».

و عن ابن عباس كذلك قال: «قولوا معاشر العباد أرشدنا إلى حب محمد و أهل بيته».

أقول: الأخبار في ذلك كثيرة عن الفريقين، و هو تعبير عن الكلي بالفرد و بيان أحد المصاديق و مثل ذلك كثير في القرآن العظيم و السنة الشريفة.

بحث دلالي:

هذه السورة تتضمن أمورا -:

الأول: إثبات وحدة ذاته تعالى لأنّ لفظ الجلالة (اللّه) كما تقدم بمعنى الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعية و الإدراكية و الشريك في الذات نقص بل من أخس أنحائه.

الثاني: إثبات وحدة فعله تعالى بذكر «رب العالمين» لأنّ العالمين بمعنى ما سواه و هو فاعل الكل و مربيه.

الثالث: إثبات وحدة المعبود بذكر «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ» .

الرابع: المعاد الذي هو من أهم المعارف الإلهية و الإعتقاد به بذكره تعالى «مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ» .

الخامس: الإشارة إلى النبوات السماوية و الشرايع الإلهية بذكر «اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ» .

ص: 51

فهذه السورة على اختصارها مشتملة على جميع المعارف الإلهية و المعتقدات الحقة المذكورة في الكتب السماوية، و يدل على فضل هذه السورة و كمالها مضافا إلى ذلك أمور أخرى:

منها: حسن نظمها و جمالها فإنها ابتدأت بالبسملة ثم الحمد و بعده ثناء اللّه عزّ و جل بأتم الصفات ثم إظهار العبودية للّه تعالى التي هي أعلى مقامات الإنسانية، فالاستعانة منه جل شأنه لدفع المهالك و جلب المنافع ثم طلب الهداية منه تعالى إلى طريق الصلاح، فقد تجلى اللّه سبحانه و تعالى في القرآن و تجلى القرآن في الفاتحة و لأجل ذلك استحقت السورة ان تسمى ب (أم الكتاب) لاحتوائها - على اختصارها - عامة ما يحويه القرآن من المعارف و هي من أهم جوامع الكلم التي فضل اللّه تعالى خاتم أنبيائه (صلّى اللّه عليه و آله) بها و ان شئت الظفر على بعض ما قلناه فانظر إلى ما يقرؤه أهل التوراة و الإنجيل و سائر الأديان في صلواتهم تجد الفرق بينهما كبيرا.

و منها: أنّها تبين أدب العبودية و تعلم العبد كيفية التكلم و المخاطبة معه جل شأنه، و التلقين منه تبارك و تعالى دليل على القبول و الاستجابة، و قد روى الفريقان

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنه يقول: «قال اللّه عزّ و جل قسمت فاتحة الكتاب بيني و بين عبدي». و قد تقدم في البحث الروائي.

ثم إنّ ابتداء هذه السورة بالحمد يدل على محبوبيته له تعالى و حسنه على كل حال سواء كان لذاته أو لفعله أو لصفاته. و الظاهر من إضافة الحمد إلى اللّه تعالى أن الذات الأقدس ذات محمودة و الذات المحمودة بالذات تستلزم محمودية الصفات - التي هي عين الذات - فما تعارف بين العلماء من أن الحمد هو الثناء على الجميل الاختياري - كما تقدم - إنما هو بحسب الغالب المتعارف بين المخلوق بحسب إدراكهم و الذات الأقدس خارج عن الاختيار، و الحمد على الذات الأقدس هو أعلى مراتب الحمد

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك».

نعم، لا بد و أن ينتهي الحمد إلى الذات الأقدس و الا لتسلسل، لأن إنشاء الحمد من الحامد نعمة منه تعالى فهو يحتاج الى حمد آخر و هكذا

ص: 52

فيتسلسل،

و قال (عليه السّلام) في الصحيفة السجادية: «و كيف لي بتحصيل الشكر و شكري إياك يحتاج إلى شكر فكل ما قلت لك الحمد وجب عليّ لذلك أن أقول لك الحمد».

فمن لطائف القرآن ابتداؤه ب «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و آخر دعوى المخلدين في الجنّة «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة يونس، الآية: 10]، فترجع النهاية إلى البداية، و عليه شواهد من الكتاب و السنة تأتي الإشارة إليها إن شاء اللّه تعالى.

بحث فقهي:

يظهر من الروايات المستفيضة بين الفريقين أنّ قوام الصّلاة بفاتحة الكتاب

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه: «لا صلاة إلاّ بفاتحة الكتاب»

و قال: «كل صلاة لا يقرأ فيها بفاتحة الكتاب فهي خداج» الى غير ذلك من الروايات الكثيرة.

و أما التأمين بعد الفاتحة فيبحث فيه تارة، بحسب الثبوت، و أخرى:

بحسب الإثبات.

أما الأول: إنّ الهداية إما أن تلحظ من حيث إضافتها إلى اللّه تعالى فهو الهادي فحينئذ لا رجحان لذكر آمين بعدها، كما في جميع صفاته تعالى الفعلية، و إما أن تلحظ من حيث اضافتها إلى العبد أي: طلب الهداية منه تعالى فكذلك أيضا لفرض حصول جميع مناشئ الهداية و أسبابها و موجبات إتمام الحجة منه عزّ و جل فقد حصل المطلوب خارجا فلا يعقل معنى صحيح للتأمين على ما وقع و حصل.

و إن كان المراد بها بحسب البقاء لا أصل الحدوث فإن أضيف البقاء إليه عزّ و جل فهي باقية لأنّ حجته تامة و باقية ببقاء الإنسان و لا وجه للتأمين عليه أيضا و إن أضيف الى العبد فهو من فعله و لا معنى لتأمين الشخص على فعله.

و إن أريد به أن يوفق اللّه عبده لإدامة الهداية لنفسه في المستقبل كما

ص: 53

و فقه في الماضي، فهو خروج عن ظاهر اللفظ بلا دليل.

و أما الثاني: فقد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأسناد غير نقية قول: «آمين» بعد تمام الحمد. فالمقام مقام الحمد للّه تعالى على هذه النعمة العظيمة من وقوف العبد بين يدي اللّه تعالى و مخاطبته معه جل شأنه، و يرشد الى ذلك قوله تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ اَلَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اَللّهُ [سورة الأعراف، الآية: 43]،

و قد ورد عن الصادق (عليه السّلام): «إذا قال الامام و لا الضالين فقولوا الحمد للّه رب العالمين».

ثم إنّه يجوز قصد الإنشاء بجملة «اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ» و «إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ» و نحوها من الآيات الكريمة مع قصد القرآنية أيضا لأنّ المتكلم في مقام إيجاد مفاهيم هذه الألفاظ لفظا و البناء على العمل طبقها خارجا.

و قد أشكل عليه جمع من المفسرين بأنّه من استعمال اللفظ في معنيين، و هو غير جائز. (و هو مردود): لأنّ الاستعمال الممتنع على فرض امتناعه إنما هو في ما إذا كان المعنيان فردين مستقلين في الإرادة الاستعمالية كل منهما في عرض الآخر لا في ما إذا كان أحدهما استقلاليا و الآخر تبعيا. و إلاّ فهو واقع كثيرا في المحاورات الصحيحة، و المقام من هذا القبيل فيقصد القارئ القرآنية استقلالا و الإنشائية تبعا و المسألة أصولية تعرضنا لها في [تهذيب الأصول].

بحث فلسفي:

المعروف بين جمع من الفلاسفة لزوم السنخية بين العلة و المعلول، فالمباين من كل جهة لا يمكن أن يصير علة للمباين كذلك كما أنّ المباين من كل جهة لا يصدر من المباين كذلك و بنوا عليه مباحث فلسفية و عرفانية.

و لكن ظاهر قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ و غيره من الآيات المباركة

ص: 54

- الكثيرة التي يأتي بيانها - ينفي ذلك فإنّ موجد العوالم و مربّيها لا سنخية بينه و بينها إذ لا سنخية بين الممكن بالذات و الفقير المحض و بين الواجب بالذات و الغني المطلق كذلك.

و دعوى: انّ السنخية في مفهوم الموجودية متحققة. (مردودة): بأنّه لا علية و لا معلولية في المفاهيم و إنّما هما من شؤون الحقائق فما هو مشترك لا يتصور العلية و المعلولية فيه و ما هو علة و معلول لا يتحقق الاشتراك فيه، و سيأتي تفصيل هذا البحث في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و لذا ذهب جمع من محققي فلاسفة المسلمين إلى أنّ السنخية إنما تصح في العلل الطبيعية، كتوليد النّار للحرارة. و أما الفاعل المختار القدير فلا وجه لذلك فيه، كما عرفت.

ص: 55

ص: 56

سورة البقرة

اشارة

مدنية و هي مائتان و ست و ثمانون آية

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ اَلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَ

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ اَلْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (5) سميت هذه السورة المباركة ب (البقرة) لذكر قصتها في السورة و هي من أهم السّور القرآنية ففيها آيات من ذروة العرش بل من كنوزها، و من لباب المعارف الإلهية أسرارها و رموزها. و فيها أعظم آية في كتاب اللّه، و أجمع آية للكمالات الإنسانية و آخر آية نزلت على صاحب النبوة و فيها شرعت جملة من أركان الدين و جعلت الكعبة المقدسة قبلة للأنام و مطافا لهم يأتونها من كل فج عميق.

اشارة

و بالجملة كمال السورة إن كان لاشتمالها على المعارف الربوبية فهي في رأسها، و إن كان لأجل اشتمالها على الأحكام التشريعية الفرعية فهي في مقدمتها، و إن كان لأجل اشتمالها على القصص القرآنية فهي في طليعتها، فحق أن تسمى سنام القرآن، و سنام كل شيء ذروته و أعلاه.

التفسير

قوله تعالى: الم : المعروف بين المفسرين أنّ هذه الحروف

ص: 57

المقطعة في أوائل السور القرآنية من المتشابهات و لا ريب في أنّ العلم بها مختص باللّه تبارك و تعالى أو بمن علّمه عزّ و جلّ لأنّ هذه الكلمات المقطعة قد أعيت العلماء على جهدهم عن الوصول الى آثارها فضلا عن العلم بكيفية تركيبها و الاطلاع على حقائقها و أسرارها.

و الظاهر أنّ ذكر الحروف المقطعة في القرآن العظيم يشير إلى أهمية الحروف الهجائية و كثرة عناية اللّه عزّ و جلّ بها لأنّها محور الشرايع السماوية و الكتب الإلهية بل بها تقوم الحياة الاجتماعية في الإنسان، و لأجل ذلك جعل تعالى البيان [أي النطق بها] في قبال خلق الإنسان فقال تبارك و تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 4]. و على هذا يمكن أن يكون «ذلك الكتاب» مبتدءا مؤخرا و «الم» خبرا مقدما.

ص: 58

منها: أنّ المراد بها الإشارة إلى حساب الجمل الذي كان متداولا في العصور القديمة فاستخرجوا منها جملة من الحوادث و منها مدة حياة هذه الأمة، و استند بعضهم إلى حديث أبي لبيد المخزومي. و أصل هذا التفسير باطل لا دليل عليه من عقل أو نقل و الحديث ضعيف و دلالته مخدوشة و الحساب الواقع فيه غلط على كل تقدير فلا يمكن الاعتماد عليه.

و منها: ما عن جمع من مفسري الصوفيّة تفسيرها بالقطب و الولي و الأوتاد و غاية ما ادعوه في إثبات ذلك الكشف و الشهود.

و لكن التفسير بذلك باطل أيضا، و لا دليل عليه و ما ادعوه من الكشف مردود لا مجرى له في القرآن الكريم و السّنة الشريفة و الأحكام الإلهية و نصوصنا به متواترة.

و منها: إنّها إشارة إلى إعجاز القرآن فإنّ ما يستعمل في التكلم و التخاطب إنما هو المركبات دون المقطعات و مع ذلك فإن في هذه المقطعات لطافة لا تكون في غيرها و حلاوة لا توجد في ما سواها فإعجازها في الفصاحة و البلاغة نحو إعجاز خاص إلى غير ذلك من الوجوه التي يمكن إرجاعها الى الحكم و الفوائد المتصورة كما ستعرف و إلاّ فلا يمكن القول بأنها معان لها.

و الحق أنّها بحسب المعنى من المتشابهات التي استأثر اللّه تعالى علمها لنفسه، كما تقدم. فلا يلزم على العباد الفحص عن حقيقتها و بذل الجهد في دركها و فهمها، بل لا بد من إيكال الأمر إليه تعالى، و قد وردت في ذلك روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام). نعم يمكن أن يلتمس لتلك الحروف حكم و فوائد:

منها: أنّ استعمال الرموز بالحروف المقطعة كان شايعا عند العرب، و قد يعد ذلك من علم المتكلم و حكمته، و القرآن الكريم لم يتعدّ عن هذا المألوف فأشار بذكرها إلى أنّ القرآن الكريم هو من هذه الحروف و جامع لما هو المتعارف لديكم، و مع ذلك فقد أبدع إبداعا عجزت العقول من جمال لفظه فضلا عن كمال معناه.

و منها: أنّها ذكرت لأجل جلب استماع المخاطبين فإنّهم إذا سمعوها

ص: 59

تهيئوا لاستماع البقية، فهي تشويق و تنبيه لاستعداد تفهم شيء جديد.

و منها: إرشاد النّاس الى أنّ وراء كل ظاهر باطن فلا يكتفى بالجمود على الظاهر، بل لا بد من التأمل في بطون الكلمات القرآنية لأنّ في كل كلمة من كلمات القرآن بانفرادها دقيقة، كما أنّ في سائر جهاتها دقائق و لطائف.

و منها: أنّها تشير إلى بعض الحقائق و رموز الى بعض العلوم التي سترها اللّه تعالى عن العباد لما رآه من المصالح حتّى يظهر أهلها فيستفيد منها و تكون لغيره من مخفيات الكنوز فلها ربط بعلم الحروف.

و مقتضى الأخبار الكثيرة أنّ عند الأئمة الهداة شيء كثير منه و هو مما اختصهم اللّه تعالى به فعلم فواتح السور من الأسرار المودعة لدى الإمام (عليه السّلام)، و يرشد إلى ذلك ما يستفاد من مواظبة الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في حالاتهم الانقطاعية مع اللّه تعالى و توسلهم اليه عزّ و جلّ بفواتح السور، و أنّ لها شأنا من الشأن و منزلة عظيمة عند اللّه تعالى. و هذه قرينة معتبرة على سقوط كثير من احتمالات المفسرين و بذلك تخرج عن التشابه المطلق لأنّ ما ذكره الأئمة الهداة انما كان من الإفاضات الربوبية عليهم.

قوله تعالى ذلِكَ اَلْكِتابُ : فسر الأدباء «ذلك» للإشارة إلى البعيد - ذهنيا كان أو خارجيا، حسيا كان أو عقليا - و أنّ موارد استعمالاته في القريب إنّما تكون بالعناية، كقوله تعالى: فَذلِكُنَّ اَلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ [سورة يوسف، الآية: 32] و قوله تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 102] و المراد بالأولى بعد جمال يوسف (عليه السّلام) عن كل ما يتصورون فيه و بالثانية بعد حقيقته تعالى عن إحاطة العقول بها مطلقا.

و فيه: أنّ كل ذلك تكلّف مستغنى عنه فإن أرادوا الحقيقة و المجاز يعني أنّ استعمال «ذلك» في البعيد حقيقة و في غيره مجاز أو أنه من تعدد الوضع فالأصل ينفي كلا منهما؛ و إن أرادوا به مجرّد الاستحسان فهو مخالف للقاعدة التي أسسوها من أن اللغة لا تثبت بالاستحسان.

و حينئذ فإن قالوا بأنّ الموضوع له في أسماء الإشارة عام فهي كأسماء الأجناس لا فرق فيها بين القريب و البعيد و التفرقة بينهما ساقطة. و إن قالوا بأنّه

ص: 60

خاص و يكون «هذا» لخصوص القريب و «ذلك» لخصوص البعيد و لوحظت هذه الخصوصية في الوضع و الموضوع له، فأصالة عدم ملاحظة هذه الخصوصية مسلمة عند جميع الأدباء و غيرهم أيضا. و إن أرادوا أنّ الخصوصية حاصلة عند الاستعمال، فهو صحيح في الجملة لكن محققيهم لا يقولون بصحة أخذ ما حصل من الاستعمال في الموضوع له، و قد فصلنا القول في الأصول فليراجع تأليفنا فيه. هذا مع أنّ هذا البحث ساقط بالنسبة إلى ما ينزل منه عزّ و جل، إذ لا يتصور بعد و قرب بالنسبة اليه تعالى وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و هو قريب في عين بعده و بعيد في عين قربه، و قد استعمل لفظ «هذا» بالنسبة إلى القرآن أيضا، قال تعالى: إِنَّ هذَا اَلْقُرْآنَ يَهْدِي [سورة الإسراء، الآية: 9] مع أن القرب و البعد لهما مراتب متفاوتة في القرآن أيضا فهو قريب إلى الأذهان من حيث نظمه و أسلوبه الظاهري. و قصصه و بعيد عنها من حيث متشابهاته و دقائقه فيصح استعمال الإشارة القريبة و البعيدة اليه من جهتين،

و عن علي (عليه السّلام): «إن القرآن ذو وجوه».

ثم إنّ هذه الجملة المباركة «ذلِكَ اَلْكِتابُ» في مقام التعظيم و الإجلال للقرآن الكريم عظمة لا نهاية لها كما ستعرف. و الكتاب قيل هو بمعنى الجمع لأنه مصدر من كتب يكتب إذا جمع.

و قيل: إنه بمعنى المكتوب و هو اسم جنس لما يكتب. و الظاهر أن مادة كتب بمعنى الثبوت و الوجوب. و يمكن إرجاع الأولين إليه أيضا فإن القرآن هو الثابت في جميع العوالم و الجامع لجميع المعارف و الكمالات.

و قد أطلق لفظ الكتاب على القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم، قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 29]، و قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، و قال تعالى:

أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً [سورة الكهف، الآية:

1-2] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

ص: 61

و قد ثبت في الفلسفة الإلهية أنّ الإنسان من بدء وجوده إلى حين موته إنما يسعى و يستهدف في حياته تحصيل غاية و غرض مّا و هذا الغرض يختلف باختلاف أفراد الإنسان، و يمكن جمع تلك الأغراض المختلفة غير المحدودة في عنوانين كليين: الأغراض الواقعية العقلية، و الخيالية الوهمية، و ليس كل فرد يصل إلى غايته و غرضه لوجود موانع لا تعد و عوائق لا تحصى، و الحياة عبارة عن جلب الملائم و دفع العوائق و ثبت هذا بالفطرة أيضا.

و في الآية المباركة إشارة إلى أن الغاية العقلية التي لا بد من طلبها و الغرض الذي يجتهد في تحصيله ذلك الكتاب، لقوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89] فهلموا إليه و لا تذهبوا يمينا و شمالا فتضلوا السبيل.

و يمكن أن يكون المراد بالكتاب هو ذلك الكتاب الذي كان الأنبياء (عليهم السّلام) يطلبونه بالفطرة الاستكمالية عندهم لتكميل النفوس الإنسانية، و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 48].

قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ . الريب و الريبة: هو الشك بل هو أدنى مراتبه و حذف المتعلق يفيد العموم أي: أن ذلك الكتاب لا شك فيه من أي جهة يمكن أن يتصور فيه الشك فهو مبرأ من كل عيب و شك، لأن نفي كل طبيعة يقتضي نفي جميع أفرادها المتصورة في تحققها، فنفي الريب بقول مطلق يقتضي نفيه في نظمه و بلاغته و في علومه و معارفه و تشريعاته و جميع الجهات المتصورة في كماله و معارفه و لا ريب في كونه كذلك، فليس لأحد أن يرتاب فيه بعد الاعتراف بأنه من الحكيم الخبير، و هذا حكم عقلي ذكره اللّه تبارك و تعالى في كتابه الكريم كسائر الأحكام العقلية، كقوله تعالى: أَ فِي اَللّهِ شَكٌّ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة ابراهيم، الآية: 10].

قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ . هدى مصدر و الهداية الدلالة إلى الصراط المستقيم و لها مراتب كثيرة تختلف باختلاف الاستعدادات و سائر الجهات اختلافا كثيرا، و تقدم ما يتعلق بها في سورة الفاتحة.

ص: 62

و المتقين: من الاتقاء، و الاسم التقوى و معناها الحجز و المنع و هي من أعلى الصفات التي اعتنى بها اللّه تبارك و تعالى، كما أنها من أجلّ المقامات الإنسانية و أرفعها، و التقوى تدور مدار الإيمان و العمل الصالح.

و القرآن العظيم كما أنه مقتض لحدوث التقوى للعاملين به كذلك مقتض لبقائه فيهم أيضا، و لا ريب في أن العمل بالقرآن ملازم للتقوى فكأنه قال تعالى: هدى للعاملين به، و إنما ذكر المتقين إشعارا بعظمة التقوى و أهمية مقامها و ذكر أحد المتلازمين و ارادة الملازم الآخر شايع في كلام الفصحاء. و قد وصف اللّه تبارك و تعالى الكتاب في آيات أخرى بأنه هدى للمتقين، كقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138] كما وصفه تعالى بأنه هدى للمسلمين، قال تعالى: نَزَّلَهُ رُوحُ اَلْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 102]. و للناس أيضا، كقوله تعالى: أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ [سورة البقرة، الآية: 185]، فهو هاد للمتقين و العلماء العاملين به و سواد النّاس و ذلك لعدم تناهي معارفه و عدم إمكان الإحاطة بعلومه لغيره عزّ و جل فكل يستفيض منه بقدر قابليته.

و ليس المراد بالمتقين خصوص من بلغ المرتبة القصوى في إيمانه و تقواه لأن القرآن نافع و هاد لجميع المراتب بل و جميع النّاس كما عرفت، و لا تختص هداية القرآن بالمتقين فقط لأن الوصف لا يدل على المفهوم خصوصا مع التصريح بالعموم في آيات كثيرة على ما تقدم.

ثم إنّ التقوى استعملت في القرآن الكريم بهيئاتها الكثيرة و جميعها تشعر بعظمة مقامها و رفعة شأنها و انها توجب محبة اللّه للمتصفين بها و محبة النّاس لهم كقوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [سورة الدخان، الآية: 51] و قال تعالى: أُزْلِفَتِ اَلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة ق، الآية: 31] و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 7]، و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و قد استعملت منسوبة إليه عزّ و جل في قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ [سورة البقرة، الآية: 41]، و قال

ص: 63

تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ [سورة الحشر، الآية: 18] و اتقاؤه يعني اتقاء عذابه و عقابه، و الا فلا وجه لنسبة الاتقاء الى ذاته و لا قدرته تعالى. و عقاب اللّه إما دنيوي أو أخروي أو هما معا، و اتقاء عقابه إنما يتحقق بالإيمان الصحيح و العمل الصالح؛ و أدنى مرتبة التقوى التي يكون المدار عليها في الكتاب و السنة هي إتيان الواجبات و ترك المحرمات و فوق ذلك مراتب و درجات كما وردت في خطبة علي (عليه السّلام) في وصف المتقين و هي من جلائل خطبه و نفائسها.

و التقوى فوق الإيمان بدرجة، لقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة الأنفال، الآية:

29]. و قد وردت في جملة من الأخبار أيضا، فعن الرضا (عليه السّلام):

«الإيمان فوق الإسلام بدرجة و التقوى فوق الإيمان بدرجة، و اليقين فوق التقوى بدرجة، و ما قسم في النّاس شيء أقل من التقوى» و يعضد ذلك اللغة و العرف أيضا، فإن أهل التقوى عند النّاس أخص من المؤمنين، و قد جعل الإيمان موضوعا للتقوى في جملة من الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ [سورة البقرة، الآية: 103]، و قوله تعالى:

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ [سورة المائدة، الآية: 88]، و قال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ [سورة المائدة، الآية: 35]. نعم قدم التقوى على الإيمان في جملة أخرى من الآيات كقوله تعالى: إِذا مَا اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اِتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة المائدة، الآية: 93].

و يمكن أن يكون هذا التقديم و التأخير باعتبار المراتب و الثبات عليها لا باعتبار أصل الإيمان فانه موضوع التقوى، فما عن بعض المفسرين من أن التقوى في المقام هو الإيمان و أصر عليه مردود و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ . الإيمان من الأمن سمي به

ص: 64

لكونه موجبا لأمن المؤمن من العقاب في الآخرة قال تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً [سورة الجن، الآية: 13] أو لأمان النّاس به في الدنيا.

و في الحديث «لأنه يؤمن على اللّه فيجيز أمانه» و هو - كما في جملة من الأخبار - الإعتقاد بالجنان و العمل بالأركان و الإقرار باللسان فليس الإيمان مجرد الإقرار بل العمل بالوظيفة جزؤه فهو في اللغة و الشرع بمعنى واحد و هو التصديق الجازم.

و يستعمل لازما و هو كثير في القرآن، قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ [سورة البقرة، الآية: 13]. و متعديا بكلمة (الباء) و (اللام) و هو أيضا كثير، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [سورة البقرة، الآية: 177]، و قال تعالى: فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ [سورة يونس، 83].

و يكشف من ورود متفرعات هذه المادة في مواضع كثيرة من القرآن عن أهمية الإيمان و أنّه الأصل في الكمالات الإنسانية مطلقا، بل جعل تعالى العقل - الذي هو من أعظم مواهبه - دائرا مداره، فقال عزّ و جل: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً [سورة الطلاق، الآية:

10] حيث خص أولي الألباب بالمؤمنين.

و قرن العمل بالصالحات مع الإيمان في كثير من الآيات، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 82]، و في النصوص الكثيرة أن الإيمان مبثوث على الجوارح جميعها و يدل على ذلك الإعتبار أيضا فإنّ من التزم بشيء و لم يعمل بما التزم به لا يعد من أهل ذلك الملتزم به إلاّ بالعناية و المجاز.

نعم؛ الإيمان أمر تشكيكي و انه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا و نقصا و شدة و ضعفا كما سيأتي و يختلف باختلاف متعلقه من القلب و اللسان و عمل الجوارح و أعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177].

ص: 65

نعم؛ الإيمان أمر تشكيكي و انه كسائر الصفات النفسانية التي لها مراتب كثيرة كمالا و نقصا و شدة و ضعفا كما سيأتي و يختلف باختلاف متعلقه من القلب و اللسان و عمل الجوارح و أعلى مراتبه ما بينه تعالى في قوله: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177].

و من ذلك يعلم أن الإيمان على أنحاء أربعة: (الأول): الإيمان الانتسابي فقط بأن يرى الشخص نفسه في بلاد المسلمين منسوبا إليهم بلا اعتقاد و لا عمل. (الثاني): الإيمان الاعتقادي فقط من دون عمل. (الثالث):

العمل الظاهري من دون الاعتقاد. (الرابع): الاعتقاد القلبي و العمل على طبق ما اعتقد، و ما يصدق عليه الإيمان حقيقة هو الأخير و هو النافع للنفس الإنساني في طريق استكماله و عوالمه الأخروية و سائر الأقسام إنما أطلق عليها الإيمان بالعناية للتسهيل. نعم لا يطلق عليه الكافر إلاّ إذا انتفى منه الإعتقاد و العمل و الإقرار، و مع انتفاء العمل بالأركان فقط يكون فاسقا إن لم يكن منكرا لضروري من ضروريات الدين فمن ترك واجبا و ارتكب محرما فهو ليس بمؤمن من هذه الجهة و إن كان مؤمنا من جهة أخرى

قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن»،

و عن الصادق (عليه السّلام): «فأما الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم».

و من ذلك يظهر بطلان إشكال جمع من المفسرين و غيرهم بأنه إن كان العمل بالشريعة المقدسة جزءا من الإيمان لزم عطف الجزء على الكل في الآيات الكثيرة المشتملة على عطف عمل الصالحات على الإيمان، كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ [سورة البقرة، الآية: 277].

أو اشتراط الشيء بنفسه و كلاهما باطل.

و وجه الدفع أنّ عطف الجزء على الكل إذا كان لفائدة و خصوصية لا بأس به بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة كما صرح به أئمة العربية و أي فائدة أحسن من كون الإيمان بالشريعة يدور مدار العمل بها

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا قول إلاّ بالعمل و لا عمل إلاّ بإصابة السنة». و ليس المقام من اشتراط الشيء بنفسه بل من اشتراط الشيء بأهم شروطه،

كما في قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا صلاة إلاّ بطهور».

ص: 66

قوله تعالى: بِالْغَيْبِ . الغيب هو خلاف الحضور و الشهود فكلما لم يكن حاضرا في المدارك الجسمانية و مشهوداتها يكون من الغيب و لكنه ثابت في الواقع بتمام معنى الثبوت و التحقق. و الإيمان بالغيب هو الإعتقاد بما غاب عن النّاس من الموجودات و العوالم كعالم الملائكة و عالم البرزخ و عالم الآخرة و جميع ما أنزله اللّه تبارك و تعالى من الأحكام بل نفس القرآن لأنه و ان كان مشهودا للناس لكنه من الغيب من حيث معارفه و علومه، و يمكن أن يكون مشهودا من جهة و من الغيب من جهة أخرى كالصّلاة فإنها عمل حاضر و لكنها - من حيث أن حافتي الصراط الصلاة و صلة الرحم - من الغيب. و كذا الحجر الأسود فإنه مستلم الحجيج ظاهرا فهو مشهود، و لكن من حيث كونه يمين اللّه في الأرض يصافح بها مع عباده - كما في الحديث - من الغيب إلى غير ذلك.

و المراد بالغيب هنا هو اللّه تبارك و تعالى و كل ما أوحى إلى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) و الدار الآخرة و ما فيها من النشر و الحشر و الحساب و الثواب و العقاب، و قد أشار عزّ و جل إلى ذلك في ذيل الآية «وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ» .

و إنما حثّ اللّه عباده على الإيمان بالغيب و عدم اقتصارهم على المحسوسات لأنه الأصل في الكمالات الإنسانية الباقية، و بالإيمان به يسهل على الإنسان كلفة العمل فكأنه يرى فعلا ثمرة عمله بخلاف المقتصر على الحسن فإنّه و ان بلغ الى غاية مراده لكن كماله الظاهري منحصر بالماديات فقط.

و الغيب يستعمل في القرآن الكريم بمعان.

الأول: ما ذكر في هذه الآية المباركة و سائر الآيات المرغبة للإيمان.

الثاني: ما أضافه اللّه تعالى إلى نفسه مثل عالم الغيب و الشهادة، قال تعالى: عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ [سورة التغابن، الآية: 18]، و قوله تعالى: وَ لِلّهِ غَيْبُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة هود، الآية: 123]، و: أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ [سورة التوبة، الآية: 78] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة و المراد بهذا الغيب جميع ما سوى اللّه تعالى من حقائق المجردات

ص: 67

و الماديات و الجواهر و الأعراض و خواصها و مباديها و ما يصير إليها أمرها و ارتباط بعضها مع بعض و المضادة بينها، و ما يتعلق بالإنسان حدوثه و بقائه و مصيره و العوالم التي يرد عليها إلى غير ذلك مما هو مستور.

الثالث: ما ينبغي ستره و حفظه، كما في قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ [سورة النساء، الآية: 24] و قوله تعالى: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: 52].

الرابع: ما حدث و مضى، كقوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ [سورة يوسف، الآية: 102] مع أن قصة يوسف (عليه السّلام) وقعت في الخارج ثم حكاها اللّه تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و الجامع لتلك المعاني هو الاستتار.

قوله تعالى: وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ . استعملت مادة (ق و م) في القرآن العظيم بكثير من هيئاتها المختلفة بالنسبة إلى الصّلاة تعظيما لها و اهتماما بشأنها. و الإقامة بمعنى الإستواء و الاعتدال و الجمع. و معنى إقامة الصلاة إتيانها بحدودها و قيودها على ما أمر اللّه تعالى به و التوجه بها إلى اللّه عزّ و جل.

و الصلاة بمعنى الدعاء و العطف و الرحمة قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 43] أي يرحمكم و يعطف عليكم و قال تعالى: وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى اَلنَّبِيِّ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 56] أي ينزل الرحمة و العناية الخاصة عليه (صلّى اللّه عليه و آله)، و استعمل لفظ الصّلاة في ما هو المعهود من الأعمال في الشريعة الإسلامية لوجود الدعاء و طلب الرحمة فيها.

و هذه العبادة الخاصة كانت معهودة لدى الأنبياء السابقين و أتباعهم في الشرايع القديمة بل كانت توجد عند الحنفاء في الجاهلية. و قد أحكمها اللّه تعالى في هذه الشريعة في أفضل هيئة و أتم عبادة، و هي أول ما علمها اللّه

ص: 68

تعالى لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مباشرة من وراء الغيب ليلة المعراج كما في الحديث. و أول ما ينظر إليها اللّه تعالى من أعمال العباد يوم القيامة

«إن قبلت قبل ما سواها و ان ردت رد ما سواها» و جعلها النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عمود الدين كل ذلك لما فيها من الأثر العظيم في تهذيب النفوس و العروج بها إلى الملكوت. و قد ذكر اللّه تعالى من عظيم أثرها في قوله: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت، الآية: 45]، و لذلك أمر اللّه تعالى بإقامتها و المحافظة عليها و الخشوع فيها و أدائها في أوقاتها.

و ليس المراد بإقامتها مجرد الإتيان بها صورة من قيام و ركوع و سجود خالية من روح العبادة و التوجه إليه تعالى و إلاّ فهو مضيع لها و قد توعد اللّه فاعلها بالويل فقال جل شأنه: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [سورة الماعون، الآية: 4] فهو و ان سمي مصليا لكنه منعوت بالسهو عن حقيقتها

فتقول الصلاة له: «ضيعك اللّه كما ضيعتني» كما ورد في الأثر و لأجل ذلك لم يستعمل لفظ الإتيان بالصّلاة في القرآن العظيم إلاّ مقرونا بالذم غالبا كقوله تعالى: وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاّ وَ هُمْ كارِهُونَ [سورة التوبة، الآية: 54].

قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ . الرزق: هو العطاء الخاص في مقابل الحرمان و يشمل الماديات - كالمال و الولد - و المعنويات كالعلم و التقوى و الجاه. و بالجملة: كل جهة إمكانية تحققت بالنسبة إلى الإنسان و أفاض اللّه تعالى عليه فهو رزق منه تعالى إليه قال عزّ و جل: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ [سورة الإسراء، الآية:

70].

إن قلت: إثبات أنّ الإنسان بجميع جهاته - من ذاته و وجوده و عوارضه - رزق و مجعول منه تعالى مناف للنزاع المعروف بين الفلاسفة و المتكلمين من أن الوجود مجعول منه تعالى، فتكون الماهية ليست كذلك أو الماهية مجعولة منه تعالى فالوجود ليس كذلك، فلا كلية في ما ادعيت من أن الإنسان مجعول منه تعالى.

ص: 69

قلت: لا ريب في أن الجميع - الوجود و الماهية و عوارضها - مجعول منه تعالى إما تبعا أو استقلالا فمن يقول باستقلالية الجعل بأحدهما يكون الآخر مجعولا بالتبع فالكل مجعول منه تعالى و مرزوق منه جل شأنه.

و الإنفاق: هو الإخراج من اليد و المراد به هو الإعطاء الخاص المرغّب اليه شرعا و الممدوح عقلا و هذا وصف آخر للمؤمنين بالغيب فإن من كان مؤمنا بما وراء الماديات و يعتقد بأنّ مرجعها إلى الزوال و الفناء و ان ما يملكه هو رزق من اللّه تعالى يجد في نفسه ميلا إلى بذله ابتغاء رضوان اللّه و رحمة لبني نوعه و يكون من المتقين الذين لهم القابلية لهدى القرآن، فقوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أجمع كلمة نافعة للإنسان و أعظم ما يتحفظ به النظام لأن جميع مواهب اللّه تعالى على الإنسان رزق منه لا بد و ان ينفق بنحو ما اذن اللّه له و هذا هو الاستكمال و الاستنماء لنفس الموهبة الإلهية في الدنيا و الآخرة و هو من الأمداد الغيبي الذي يصل منه تعالى إلى المنفقين، و فيهم نزل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [سورة البقرة، الآية: 261].

كما أن فيهم نزل أيضا: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160]. و ليست الحسنة مختصة بالمال بل تشمل كل خير يوصل إلى الغير لينتفع به و يسمى صدقة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

ثم إن الإنفاق أقسام:

الأول: الإنفاق الواجب كالزكاة المفروضة و الخمس و الكفارات و النفقات الواجبة و ما أوجب الإنسان على نفسه بالنذر و نحوه، و من الإنفاق أيضا انفاق الواجبات النظامية على ما فصل في الفقه.

الثاني: الإنفاق المندوب الذي حث القرآن اليه في آيات كثيرة كما سيأتي، و كل ما اشتد حب الإنسان لشيء يشتد ثواب إنفاقه للّه تعالى قال جل شأنه: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران، الآية:

92].

ص: 70

الثالث: الإيثار على النفس الذي هو من أجلّ مقامات الأولياء و فيهم نزلت الآية المباركة: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ [سورة الحشر، الآية: 9]. و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة له.

و من ذلك يعرف أنه لا وجه لتخصيص الرزق بالنفقة الواجبة على الأهل و الولد أو الزكاة المفروضة أو صدقة التطوع، أو الحقوق الواجبة العارضة في الأموال - ما عدا الزكاة - و كذا ليس المراد به خصوص العلم - كما يأتي في البحث الروائي - بل هو عام يشمل كل إنفاق و لو كان معنويا يبتغي فيه سبيل اللّه تعالى فإنه ربما يكون الإنسان مصليا و صائما و لكنه متى ما عرض عليه ما يقتضي به بذل شيء شحت نفسه و أمسك عن الإعطاء.

و يستفاد من إسناد الرزق إلى اللّه تعالى أن الإنسان مهما جدّ في تحصيل ما يتملكه كان كله من اللّه جل شأنه و أنه هو الرزاق فلا يكترث بما يصيبه و لا يبخل عما يطلب منه، و إن الإنفاق بشيء له تعالى ليس من فقد الشيء عن الباذل بل حقيقته تحويل شيء عن معرض الزوال و الفناء إلى خزائن اللّه تعالى التي لا يتصور فيها الفناء و الزوال و في قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سورة سبأ، الآية: 39] و قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة الأنفال، الآية: 60] إشارة إلى ما ذكرناه. و سيأتي التفصيل.

كما أنه يستفاد من قوله تعالى: مِمّا رَزَقْناهُمْ أن المطلوب منه النفقة ببعض مما يملك لا جميعه كما نبه عليه في آية أخرى: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ اَلْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً سورة الإسراء، الآية:

29].

بحوث المقام
بحث روائي:

عن العسكري (عليه السّلام) أنّه قال: «اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ يعني بما غاب عن حواسهم من الأمور التي يلزمهم الإيمان بها كالبعث و النشور

ص: 71

و الحساب و الجنّة و النار و توحيد اللّه و سائر ما لا يعرف بالمشاهدة و إنما يعرف بدلائل قد نصبها اللّه تعالى دلائل عليها».

و عن الصادق (عليه السّلام): «الذين يؤمنون بالغيب يصدقون البعث و النشور و الوعد و الوعيد».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «الذين يؤمنون بالغيب أي آمن بقيام القائم (عليه السّلام) إنه حق».

أقول: الغيب شامل لكل ما لم يكن محسوسا و يكون داعيا إلى اللّه تعالى فإيمان المسلمين في هذا الزمان بنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر أنبياء اللّه تعالى من الإيمان بالغيب، و كذا كل حجة منه تعالى تدعو إليه، فما ذكر في الخبر صحيح لا ريب فيه، لأنه من باب أحد المصاديق و من باب التطبيق.

و أما ما فسره جمع برجال الغيب أيضا و فصلوا القول فيه فليس ذلك إلاّ من مجرد الدعوى، و لم يقم دليل على صحته لا عقلا و لا نقلا، كجملة كثيرة من أقوالهم في الركن و الولي و المرشد و الأوتاد و نحو ذلك.

و عن الصادق (عليه السّلام): «فطر النّاس جميعا على التوحيد».

و عنه (عليه السّلام) أيضا: «فطرهم على المعرفة قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كل مولود يولد على الفطرة يعني على المعرفة بأن اللّه تعالى خالقه».

أقول: يستفاد من ذلك أن الإيمان بالغيب مودع في الفطرة و من مصاديقه الإيمان باللّه، كما يأتي في الآيات المباركة.

و عن الصادق (عليه السّلام) في قوله تعالى: وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ أي: «مما علمناهم ينبئون و ما علمناهم من القرآن يتلون».

أقول: هذا يدل على ما قلناه من أن الإنفاق لا يختص بالمال بل يشمل كل ما ينفع الغير و لا اختصاص لقوله (عليه السّلام) بعلم الشريعة بل يشمل كل علم ينتفع به الغير في دينه أو دنياه - ما لم يكن منهيا عنه شرعا - كعلم

ص: 72

الطب و غيره مما يقوم به نظام المجتمع الذي لا ينافي وجوب إنفاقه أخذ الأجرة عليه، كما بيناه في الفقه،

و عنه (عليه السّلام) أيضا حيث سئل في كم تجب الزكاة؟ فقال له: «الزكاة الظاهرة أم الباطنة تريد؟ فقال: أريدهما جميعا فقال: أما الظاهرة ففي كل ألف خمسة و عشرون و أما الباطنة فلا تستأثر على أخيك بما هو أحوج إليه منك». و في ذلك روايات أخرى يأتي بيانها في موردها إن شاء اللّه تعالى.

بحث كلامي:

ذكرنا أنّ الإيمان هو التصديق، و اختلفوا في أن التصديق بسيط أو مركب و كان هذا الاختلاف بين الفلاسفة و لكنه سرى الى غيرهم. و قد أثبتنا في محله سقوط أصل النزاع رأسا لأن مثل التصديق الذي هو من الصفات النفسانية إن لوحظ باعتبار مبادئ حصوله، فهو مركب عند الجميع. و ان لوحظ باعتبار نفسه، فهو بسيط كذلك فالنزاع بينهم لفظي.

لكن في الإيمان نزاع آخر قديم بينهم و هو أنّ العمل على طبق الوظيفة الشرعية جزء مقوّم لحقيقة الإيمان بحيث إن من لم يعمل بالوظيفة الشرعية لا إيمان له و ان كان له التصديق القلبي الجازم بأصول الدين، أو أن العمل بالوظيفة الشرعية شيء خارج عن أصل التصديق القلبي فيكون من كان معتقدا بأصول الدين و لا يعمل بالوظيفة مؤمنا و لكنه فاسق.

و المتحصل من مجموع الآيات المباركة المشتملة على جملة «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» و السنّة المقدسة المسوقة في هذا السياق أنّ للإيمان كمالا و نقصا و شدة و ضعفا، و يختلف متعلقه - كما تقدم - قلبا و عملا و لسانا فيكون ايمان كل شيء بحسبه فإيمان القلب بالاعتقاد و ايمان اللسان بالإقرار و ايمان الجوارح بالعمل فإذا تحقق الجميع يثبت الإيمان الكامل و إذا تحقق بالنسبة إلى البعض فهو إيمان ناقص يثبت بالنسبة إلى ما تحقق و ينتفي بالنسبة إلى ما لم يتحقق و يثبت الكفر مكانه.

و الكفر له مراتب كمراتب الإيمان من حيث الشدة و الضعف و من حيث الكمال و النقص، و يتحقق بالنسبة إلى الإعتقاد و اللسان و عمل

ص: 73

الجوارح، فيمكن أن يكون شخص مؤمنا اعتقادا و لسانا و لكنه كافر عملا لا اعتقادا و لا إقرارا و هذا معنى الأثر الذي تقدم من أنّ

«الإيمان اعتقاد بالجنان و إقرار باللسان» فإيمان كل شخص مبثوث على الجوارح، فالإيمان و الكفر كالنور و الظلمة فقد يكون النور في كل مورد و قد يكون في مورد دون آخر، و لا ريب في انه متى ما انتفى النور يحل محله الظلمة لا محالة و لا واسطة بينهما، و هذا معنى ما تقدم من الأخبار من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يزني الزاني حين يزني و هو مؤمن» الى غير ذلك مما ورد فإذا اجتمع الإيمان باللّه قلبا و الإقرار باللسان و العمل بما أمر اللّه و ترك ما نهى عنه يكون مؤمنا، و إذا لم يتحقق الإيمان قلبا و تحقق لسانا و عملا يكون منافقا، و إذا تحقق قلبا و لسانا و لم يتحقق عملا يكون فاسقا و هو لا ينافي إطلاق الكفر العملي عليه أيضا

كما في قوله (عليه السّلام): «أما الرشا في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم».

فكل من جهل شيئا من أمور دينه ينقص من إيمانه بقدر جهله، و كل من أنكر ما يجب عليه تصديقه في الشريعة فله حظ من كفر الجحود إلى أن يصل إلى الجحود المطلق و كل من أظهر بلسانه ما لا يعتقده بقلبه بغير عذر شرعي فله حظ من النفاق إلى أن يصل إلى النفاق المطلق، و كل من كتم حقا شرعيا بعد معرفته فله حظ من التهود إلى أن يصير كذلك مطلقا، و كل من استبد برأيه و لم يتبع الشريعة فله حظ من الضلالة إلى أن تتم فيه، و كل من ارتكب حراما أو ترك واجبا فله حظ من كفر الاستخفاف إلى أن يصل إلى الكفر المطلق إن لم يتدارك ذلك بالتوبة. و لكن من أسلم وجهه للّه تعالى و اتبع الشريعة المقدسة في جميع ما جاء به و تدارك ذنبه بالتوبة فهو المؤمن حقا.

هذه خلاصة ما يستفاد من الكتاب و السنة بعد رد المجمل إلى المفصل و المتشابه إلى المحكم، و سيأتي البحث عن ترتب الجزاء على كل واحد مما ذكر.

بحث فلسفي:

لا ريب أنّ الإنسان مركب من جزئين بهما قوامه، و هما الروح و البدن

ص: 74

فلا فعل للروح إلاّ بالبدن كما لا أثر للبدن إلاّ بالروح الإنساني. و اتفق جميع الفلاسفة على أنّ الأول من عالم المجردات و الثاني من عالم المادة. و هذا يحتاج إلى تفصيل سيأتي إن شاء اللّه تعالى.

نعم، قد اختلفوا في خصوصيات هذين التوأمين حتّى وصل الحد بجمع منهم إلى الاعتراف بالقصور عن درك حقيقتهما و خصوصياتهما. و كيف كان فالروح نزلت من مقام شامخ - على ما يأتي - إلى حضيض المادة. و البدن مستعد إلى العروج من مرتبة الحضيض إلى أوج الروح فصار الإنسان جامعا للكمالين و مركبا من النشأتين فهو بفطرته لا يمكنه إنكار ما وراء المادة.

و قد يوجب أنه بالمادة و الماديات انتقاله عن ما ورائها، و لذا ترى يرجع إلى فطرته في حين و آخر، فالإيمان بالغيب الذي حث اللّه تعالى إليه هو إرجاع الإنسان و سوقه الى فطرته و التوجه بمقام روحانيتهم بما أودع اللّه فيه من استعداده لدرك المعارف و اكتساب الكمالات بعد إتمام الحجة عليه و عدم تدنيس ذلك المقام الرفيع باتباع الأهواء المضلة و الآراء الباطلة.

و قد اتفق الفلاسفة على أنّ منشأ الإدراكات المعنوية و العلوم الكلية في الإنسان هو العقل و لا ينافي ذلك حصول علوم جزئية من غير طريقه. و العقل حجة في جميع إدراكاته بعد تمامية مقدمات الإدراك و من جملتها الإيمان بالغيب، و جميع التشريعات السماوية، و ان تكون المقدمات حاصلة مما أمر به اللّه تعالى الذي هو الجاعل و المشرع، فلا بد و أن يكون مجعوله و مشروعه تحت سلطنته و اختياره. و الا لبطل النظام و اختلت الأحكام. فكل إيمان بالغيب لم يحصل من طريق ما أمر اللّه تعالى به و أذن فيه، فهو باطل لا اعتبار به، بل يمكن أن يعاقب صاحبه سواء أ كان ذلك في كيفية الإدراك أم خصوصيات المدرك، و يأتي التفصيل في محله.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ هذه الآية كالبيان للإيمان بالغيب جيء بها اهتماما و تأكيدا، و يمكن أن يقال: إنهم قسم آخر من المتقين و أعيد لفظ «الذين» لتحقيق التمايز بين القسمين و هذا القسم أرقى من القسم الأول لأن أوصافه تقتضي الأوصاف التي أجريت على القسم الأول مع الزيادة

ص: 75

فالقرآن يكون لهم هدى بالأولى.

و المراد «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» القرآن و سائر ما أوحي اليه (صلّى اللّه عليه و آله) كما أن المراد بالإنزال الوحي و سيأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ المراد الكتب السماوية السابقة المنزلة على الأنبياء.

و في تقديم القرآن بقوله تعالى «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» إشارة إلي فضيلته و جامعيته و كماله، كما أن قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ تفصيل لقوله تعالى: «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ» ، لأن الإيمان بما أنزل اليه (صلى اللّه عليه و آله) مشتمل اجمالا على الايمان بما انزل على من قبله (صلى اللّه عليه و آله) من الأنبياء و المرسلين فإن الشريعة الإسلامية تحتوي على أصول جميع الشرايع السماوية من أصول الدين و أمور استكمالية أخرى، فهذه الآية عبارة أخرى عن قوله تعالى: «و المؤمنون كل آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله» [سورة البقرة، الآية: 285].

كما أنّ في تقديم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى و عيسى (عليهما السّلام) و كتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن، و ما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي و يلتزم بما كان كاملا في وقته و زمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان و ترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. و أما فيها فالجميع سواء، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد و نبذ الشرك و الإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد و إن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ و الغرض، فالإيمان باللّه و بما أنزله تعالى لا تبعيض فيه و إلاّ فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136].

ص: 76

كما أنّ في تقديم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ على قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ دلالة أيضا على أن إيمان أهل الكتاب بموسى و عيسى (عليهما السّلام) و كتبهما لا أثر له ما لم يؤمنوا بالقرآن، و ما أنزل على خاتم النبيين لأنه من غير المعقول للإنسان أن يدع الإيمان بما هو كامل أبدي و يلتزم بما كان كاملا في وقته و زمانه فإن الشرايع السماوية تتفاوت في الكمال حسب تفاوت استعداد الإنسان و ترقيه في درجات الاستكمال هذا في غير أصول الدين. و أما فيها فالجميع سواء، إذ لم يختلف الأنبياء في دعوة أقوامهم إلى التوحيد و نبذ الشرك و الإيمان بالآخرة فهم في هذه الجهة كنبي واحد و إن جميع الكتب السماوية تجمعها وحدة المبدأ و الغرض، فالإيمان باللّه و بما أنزله تعالى لا تبعيض فيه و إلاّ فيخرج المؤمن بسببه عن حقيقة الإيمان، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 136].

فالناس في زمان ظهور دعوة النبي كانوا على أقسام:

الأول: من كان مشركا فأسلم، فهو من المهتدين، و من أصحاب الجنّة.

الثاني: من بقي على شركه و لم يسلم، فهو كافر، و من أصحاب النار.

الثالث: من أظهر الإسلام و أبطن الشرك، فهو منافق، و من أصحاب النار.

الرابع: من كان من أهل الكتاب و آمن بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و كان مؤمنا بكتابه غير المنحرف أيضا، فهو مؤمن، و من أهل الجنّة.

الخامس: من بقي على كتابه و لم يؤمن، فهو كافر و من أهل النار.

السادس: من آمن بخاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) و القرآن و كفر بكتابه السماوي غير المنسوخ في هذه الشريعة، فهو كافر و من أهل النّار لأن الإسلام و القرآن يدعوان إلى الكتب السماوية و هي تدعو إلى القرآن و الإسلام و لا اختلاف بينهما في الأصول كما عرفت.

قوله تعالى: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ : المراد من الآخرة هو عالم جزاء الأعمال و الحساب و الثواب و العقاب و قد يعبر عنها ب (الدار الآخرة) أيضا في مقابل الدار الدنيا.

و اليقين هو مرتبة خاصة من العلم أي: الإعتقاد الجازم المطابق للواقع في الشريعة، فإنّ للعلم مراتب منها اليقين، كما قاله تعالى: كَلاّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اَلْيَقِينِ لَتَرَوُنَّ اَلْجَحِيمَ [سورة التكاثر، الآية: 5-6]. و سيأتي بقية مراتبه إن شاء اللّه تعالى. و اليقين بالآخرة هو أعلى مراتب كمال النفس الإنسانية و به ينتظم حال المؤمن في الدنيا و الآخرة، و يظهر أثر ذلك في أفعاله و أعماله و أقواله لأنّ اليقين باعث و زاجر.

و إنما ذكر تعالى الضمير المنفصل (هم) تثبيتا لهذه الصفة الخاصة لقسم خاص من المؤمنين إذ ليس كل مؤمن من أهل اليقين بالآخرة.

ص: 77

و يدل على ذلك قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة لقمان، الآية: 4-5] فأكد سبحانه و تعالى من حيث تكرار نفس الآية و تكرار الضمير «هم» فيها تأكيدا بليغا كاشفا عن أهمية المورد.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ .

الفلح: الشق و القطع. و أصل الفلاح الظفر بالمقصود و الفوز بالمطلوب بعد الكد و الاجتهاد فكأنه قد قطع المصاعب حتّى نال مقصوده و لا يطلق إلاّ في الخير، فالمفلحون هم الذين أدركوا و أمنوا مما منه فزعوا في الدنيا و الآخرة كما هو مقتضى الإطلاق.

و الآية في مقام بيان حال المتقين فإنّ اتصافهم بالصفات المذكورة يقتضي فوزهم بالهداية و الفلاح، و كل من الهدايتين بتوفيق من اللّه تعالى الأولى بالنسبة إلى الحدوث و الثانية بالنسبة إلى البقاء، أو أن الأولى بالنسبة إلى بعض المراتب و الأخرى بالنسبة إلى ما فوقها. و عليه يكون المشار إليه به «أولئك» في الموضعين واحدا و هم المتقون. و قد رتب الفلاح على التقوى في آيات كثيرة، قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة المائدة، الآية: 100]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و تكرير الإشارة و ذكر ضمير الفصل «هم» للدلالة إلى رفعة مقام المفلحين و إعلانا لعظمة شأنهم.

و ذكر حرف الاستعلاء في قوله جل شأنه «على هدى» إشارة إلى استيلائهم على الهداية و رسوخها فيهم و شدة تمكنهم منها، و لا ريب في ذلك فإن المواظبة على شيء و القيام به كما هو حقه يوجب اتصاف النفس به و ارتسامه فيها فيصير طبيعة ثانوية ربما تغلب الطبيعة الأولية كما هو المشاهد في بعض النفوس.

كما أن تنكير لفظ «هدى» يفيد العظمة و عدم محدودية الهداية بحد لأنها

ص: 78

مفاضة من ربهم عليهم.

بحث دلالي

إنما ذكر الإيمان بالغيب ابتداء، لأنه أصل كل إيمان و أساس كل اعتقاد و عمل كما عرفت ثم عقبه تعالى بالصلاة، لأنها أهم أركان الدين و انها الرابطة بين العبد و معبوده؛ ثم ذكر الإنفاق لأنه أعظم صلة بين أفراد الإنسان و به يحصل التعاون بينهم و تطهر أموالهم، فالآية باختصارها جمعت بين الأصول الاعتقادية و أهم الأعمال الجوارحية و أعظم الأمور الاجتماعية و هذا من إعجاز القرآن.

كما أنه ذكر تعالى المتقين في مفتتح القرآن العظيم إعلاما بأنّ التقوى هي الأصل الذي تدور عليه الكتب السماوية خصوصا القرآن و ما يدعو اليه جميع الأنبياء و المرسلين لا سيما خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) فذكر المتقين من باب ذكر المعلول إجمالا و تفصيل علته بعد ذلك و العلة إنما أجملت بقوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ و فصلت ثانية في الآيات التالية.

ثم إنه تعالى ذكر وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ مع أن الآخرة من أفراد الغيب الذي ذكر في أول الآية و ذلك لأجل التأكيد و الأهمية بالنسبة إلى الآخرة فإن عماد النشأتين - الدنيا و الآخرة - هو الإيمان بالمعاد بعد الإيمان باللّه تعالى و به تنتظم حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية. و أيضا إنّ الإيمان بالغيب إجمالا قد لا يكون كافيا في حث الإنسان على العمل الصالح و ردعه عن عمل المنكر بخلاف من كان مؤمنا بالآخرة تفصيلا فإن أثره يظهر على أعماله فيكون مراقبا لنفسه و من ذلك يظهر الوجه في ذكر اليقين في الآية الأخيرة.

و اليقين بالآخرة يحصل تارة: بإخبار المعصوم بعد أن قامت الأدلة على عصمته، و أخرى: بالنظر الصحيح و التفكر و التدبر في آيات اللّه تعالى و خلق الإنسان و أنّ الدار الدنيا التي هي دار الكون و الفساد لا يمكن أن تكون دار النعيم للأبرار أو الجحيم للأشرار فحينئذ يحكم العقل بأنّ وراء هذه الدار

ص: 79

الفانية المتغيرة دار أخرى فيها يثاب المحسن و يعاقب المسيء. و يسمى هذا البرهان في الفلسفة الإلهية ب (البرهان الإنّي).

و ثالثة: يحصل من المواظبة على عبادة اللّه تعالى كما هو حقه و ترك مخالفته، و يشير إليه قوله تعالى: وَ اُعْبُدْ رَبَّكَ حَتّى يَأْتِيَكَ اَلْيَقِينُ [سورة الحجر، الآية: 99]، فإن المراد باليقين إن كان هو اليقين بالآخرة فيدل على ما ذكرناه بالمطابقة و ان كان المراد به الموت فيدل عليه بالملازمة. و سيأتي التفصيل في محله.

و أما اليقين الحاصل من غير هذه الطرق فإن طابق المتيقن به الشريعة الإسلامية فصحيح و إلاّ فلا اعتبار به.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ و

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) ما تقدم كان في بيان حال طائفة من النّاس و هم المتقون المؤمنون بالغيب، و المؤمنون بالقرآن، و بما أنزل من قبل و ما يؤول إليه أمرهم من الفوز بالهداية و الفلاح.

اشارة

و في هاتين الآيتين بيان حال طائفة أخرى و هم الكافرون المعاندون الذين كانوا لعنادهم و جحدهم للحق أنهم بلغوا أقصى مراتب الغواية و الضلال فلا جدوى للهداية فيهم و لا يؤثر فيهم التبشير و الإنذار فكان من نتيجة عملهم أن ختم اللّه على قلوبهم فلا استعداد لها للإيمان و كان لهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا . الكفر: ستر الشيء و تغطيته و منه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده و الكفر يستعمل في القرآن في مقابل الشكر قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [سورة لقمان، الآية: 12]، و في مقابل الإيمان قال تعالى:

ص: 80

وَ قُلِ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29].

و الكفر هو ستر الحق اعتقادا أو لسانا أو عملا في مقابل الإيمان الذي هو اعتقاد بالجنان و اقرار باللسان و عمل بالأركان كما تقدم. و عليه يكون للكفر مراتب كمراتب الايمان فقد يكون الشخص كافرا بالنسبة إلى مرتبة و هو مؤمن بالنسبة إلى مرتبة أخرى.

و المراد بالذين كفروا - بقرينة السياق و مقابلتهم لأهل اليقين و الإيمان في الآية السابقة - من ستر الحق مطلقا و تمكّن منه الكفر و استولى عليه بحيث لا يرجى منه الإيمان و كان في علم اللّه من الراسخين في الكفر، سواء كان عن عناد و جحود للحق بعد معرفته، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14]. أو إعراض عنه للحق إما استكبارا عن النظر فيه، أو لأجل مرض في قلوبهم، بسبب انهماكهم في الأمور الدنيوية فعمى عليهم كل سبيل، و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام. فهؤلاء الكفار لما علم اللّه منهم الجحود للحق و الاستهزاء به لم ينفعهم الإنذار و التخويف و الآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لكل كافر كذلك في أول الإسلام و من يأتي بعده و يترتب على ذلك - قوله تعالى: سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ - ترتب الجزاء على الشرط الحاصل باختيارهم.

(سواء) اسم بمعنى الإستواء. و الإنذار هو الإخبار بالشيء و لا يكون إلاّ مع تخويف بما يترتب على الإهمال بالشيء.

فيكون المعنى إنّ من كان الكفر عليه مستوليا و لم يكن من المستعدين لقبول الحق و الهداية يستوي فيه الإنذار و عدمه فهم لا يؤمنون بعد دعوتهم للحق إذ وظيفة الداعي للحق هي الدعوة اليه، بلا فرق بين المستعد للإيمان و غير المستعد و هذا من الأمور الفطرية إذ كيف ينفع الدواء مع مزاولة المريض أسباب الداء كما لا يفيد النور مع إغماض العين حتّى لا يراه، و لم يكن ذلك نقصا في الدواء و لا عيبا في النور.

ص: 81

قوله تعالى: خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . الختم و الطبع بمعنى واحد و هو تغطية الشيء و الاستيثاق منه لئلا يدخله غيره. و الختم على القلب كناية عن عدم انتفاعه بالمعارف الربوبية و الحقائق الإلهية و ما يترتب عليها في عالم الدنيا و الآخرة، فالختم و الطبع و صيرورة القلب في الأكنّة كلها بمعنى واحد، و هو ما ذكره عزّ و جل في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها [سورة الأنعام، الآية: 25]، و كذلك قوله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: 14].

و المراد منه أنّ من تمكن منه الكفر و استحوذ على قلبه فلا يبقى فيه استعداد للإيمان و الهداية و علم اللّه تعالى انه لا يؤمن باختياره و ذلك بسبب ممارسته المعاصي و مزاولته لارتكاب المحذورات، فتأثر طبعه و نفسه بها و صارت كالطبيعة الثانية له فلا يرجى منه خير و هذا هو المراد من الطبع و الختم فيكون ذلك أمرا طبيعيا فهو سنة اللّه في خلقه و لذا عبر عنه بالماضي للدلالة على أنه أمر مفروغ منه و سنة قائمة في من كان كذلك.

و هذه الآية المباركة لا تدل على سلب الإختيار عنهم و انهم مجبورون على الكفر، بل الختم أو الطبع على القلب حاصل من عملهم و إصرارهم على الكفر، و يدل على ذلك آيات كثيرة منها الآية المتقدمة الدالة على أن الرين كان بسبب كسبهم المعاصي حتّى غطّت قلوبهم تلك المعاصي، و كذا قوله تعالى: أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اَللّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة الجاثية، الآية: 23] فإنه يدل على أن الختم حصل بسبب اتخاذه إلهه هواه بحيث أعمى بصره و بصيرته فلا يفيد معه شيء.

و إنما أسند الختم الى نفسه تعالى للدلالة على ما ذكرناه، و لأنه من نسبة المقدور و المقضي الى القدر و القضاء لا نسبة المعلول إلى علته، أو نسبة المرضي الى الرضا، فإن اللّه تعالى لا يرضى لعباده الكفر و الجهالة

ص: 82

و الضلالة، بل هو يقضي ذلك على الخلق بحسب اختيارهم و إرادتهم، فيكون المقام نظير قوله تعالى: وَ لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة الأنفال، الآية: 23].

و الحاصل: إن الأمور التكوينية الجارية على مجاريها الطبيعية لها إضافتان اضافة إلى فاعلها المباشري فتنسب إليه أولا و بالذات، و إضافة الى خالقها بواسطة خلقه للفاعل المباشري فتنسب إليه تعالى و لا يستلزم ذلك الفساد نقصا فيه تبارك و تعالى، و سيأتي تفصيل البحث إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه قد ذكر في هذه الآية الختم على القلب مقدما على الختم على السمع، و في سورة الجاثية بالعكس - كما تقدم - حيث قال تعالى: وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً ، الآية: 23] و لا فرق بينهما من هذه الجهة لأن المدارك الظاهرية طريق إلى حصول العلم بالمقصود و فهم المعارف الإلهية. و لذا ذكر الفلاسفة: «من فقد حسا فقد فقد علما» فمن ختم اللّه على قلبه فقد فقد الفهم و الانتفاع من المعارف الإلهية و كان كذلك بالنسبة إلى سمعه إذ لا أثر لسماع لا يدخل في القلب و كذا لو ختم على سمعه فقد أعرض عن فهم الحق فلا يسمع إلاّ صوتا و حينئذ يصير السماع لغوا كما هو المشاهد في بعض الناس فهما متلازمان في الجملة سواء عبر بالأصل أم بالعكس.

قوله تعالى: وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ . الغشاوة: الغطاء و الحجاب. و المعنى أن أبصارهم لكثرة المعاصي و ارتداعهم عن قبول الحق لا تدرك آيات اللّه تعالى في الآفاق و الأنفس و دلائل وجوده فهي في حجاب، و انما لم يسند الغشاوة إلى نفسه من حيث ثباتهم على الكفر و ارتكابهم المعاصي و في سورة الجاثية أسندها الى نفسه فقال تعالى: وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً و ذلك لأنها تنتهي بالآخرة اليه انتهاء المقتضى (بالفتح) الى المقتضي (بالكسر) مع اختيارهم لذلك و عدم كونهم مجبورين عليه.

و إنما ذكر تعالى عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ مع تحقيق الطبع بالنسبة إليها أيضا، لكثرة توغلهم في الجهالات فكأن أبصارهم طبع عليها مرة بعد

ص: 83

أخرى، فعبر تعالى عن المرة الأولى ب (الطبع و الختم)، كما قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة النحل، الآية: 108] و عن الثانية ب (الغشاوة) كما في الآية المباركة و ما قلنا جار في جميع الآيات المسوقة في هذا البيان.

و يمكن أن يفرق بينهما بأن يقال: إن الطبع و الختم إنما هو بالنسبة إلى المعنويات مطلقا و الغشاوة بالنسبة إلى الظواهر من حيث إمكان الانتقال منها إلى المعنويات فهذه الجهة مسلوبة عنهم أيضا كما يستفاد ذلك من الآيات المباركة على ما سيأتي.

ثم إنه ليس المراد بالقلب و السمع و البصر في المقام ما هو الموجود في البهائم إذ ليس ذلك مناط الفضل حتى يختم عليه بل المراد منه العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان و يغلق به أبواب النيران و قد بينه اللّه تعالى بقوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و بقوله جل شأنه: أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [سورة الزمر، الآية: 22].

و يستفاد من ذلك أن الختم على القلب و على سائر المدارك إنما يكون بالنسبة إلى عالم الغيب و المعارف الإلهية و ذلك لا ينافي بقاء إدراكها بالنسبة إلى الجهات المادية الدنيوية بل نبوغها فيها لتغاير العالمين و تباين النشأتين و عدم ارتباط أحدهما بالآخر فكم من نابغة في الدنيا ليس له حظ في الآخرة و كم من عالم بما يتعلق بالآخرة لا توجه له بأمور الدنيا.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . العذاب بمعنى الحبس و المنع، و منه الماء العذب، أي يمنع عن اختلاط شيء آخر، أو لأنه يقمع العطش و يمنعه.

و هو في القرآن اسم لما يؤلم و يمنع النفس عن جميع مشتهياتها من الخير. و العظيم ضد الحقير و يراد به العظمة من كل جهة كما و كيفا و زمانا و مكانا و هو يشمل

ص: 84

عذاب الدنيا و الآخرة قال تعالى: لَهُمْ عَذابٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَشَقُّ [سورة الرعد، الآية: 34] و التنكير لإظهار تعميم العذاب من جميع الجهات التي تتصور فيه و حينئذ فيكون ذكر العظيم من باب أهمية عظمته.

و هاتان الآيتان من القضايا الشرطية المركبة من الشرط و الجزاء و قد ثبت في علم الميزان أن جملة من تلك القضايا تكون قياساتها معها، أي: تصورها يغني عن إقامة البرهان عليها. و سيأتي بيان أن للعذاب - في الآخرة - حياة و إدراكا. مفصلا إنشاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن علي (عليه السّلام): «سبق في علمه تعالى أنهم لا يؤمنون فختم على قلوبهم و سمعهم ليوافق قضاؤه عليهم علمه فيهم ألا تسمع قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اَللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ ».

أقول: بين (عليه السّلام) أن الختم و الطبع على قلوبهم وقع باختيار منهم لا أن يكونوا مقهورين في ذلك كما تقدم.

و قوله: «ليوافق - علمه فيهم» ليس هذا العلم من العلة التامة للطبع و الختم حتّى يستلزم الجبر كما ذهب اليه جمع،

لقوله (عليه السّلام) في صدر الرواية «ليوافق قضاؤه عليهم علمه» فحكمه (عليه السّلام) بأن ذلك من مقتضياته - و القضاء بنحو الاقتضاء لا العلة التامة - يدفع هذا الاشكال.

قال أبو جعفر (عليه السّلام): «و اللّه إنّ الكفر لأقدم من الشرك و أخبث و أعظم».

أقول: يظهر من هذه الرواية الشريفة أن الآيتين المباركتين لا تختصان بوقت دون وقت فيكون القدم فيها قدما زمانيا لأن كفر إبليس أقدم من جميع أنحاء الكفر، و يمكن أن يجعل قدما رتبيا فإن كل شرك مبدوّ بأوهام تحصل للنفس و هي بعض مراتب الكفر في الواقع و مبادئ الشرك فيصير الكفر مبدئا للشرك بعد ذلك.

و عن الرضا (عليه السّلام): «الختم هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة

ص: 85

على كفرهم» أقول: و هذا نص في أن الكفر كان باختيارهم فطبع اللّه على قلوبهم عقوبة عليهم.

و عن الصادق (عليه السّلام) في وجوه الكفر في كتاب اللّه عزّ و جل قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه، فمنها كفر الجحود، و الجحود على وجهين، و الكفر بترك ما أمر اللّه، و كفر البراءة، و كفر النعم: فأما كفر الجحود فهو الجحود بالربوبية، و هو قول من يقول: لا رب و لا جنّة و لا نار، و هو قول صنفين من الزنادقة يقال: لهم الدهرية، و هم الذين يقولون و ما يهلكنا إلاّ الدهر، و هو دين وضعوه لأنفسهم بالاستحسان منهم على غير تثبت منهم و لا تحقيق لشيء مما يقولون، قال عزّ و جل: إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ أنّ ذلك كما يقولون، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ يعني بتوحيد اللّه فهذا أحد وجوه الكفر.

و أما الوجه الآخر من الجحود على معرفة و هو أن يجحد الجاحد و هو يعلم أنه حق قد استقر عنده، و قد قال اللّه عزّ و جل: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا ، و قال اللّه عزّ و جل: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ فهذا تفسير وجهي الجحود.

و الوجه الثالث من الكفر كفر النعم، و ذلك قوله سبحانه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ، و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ، و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ .

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جل به، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ؛ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

ص: 86

و الوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر اللّه عزّ و جل به، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ ؛ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه عزّ و جل به و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده فقال: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

و الوجه الخامس من الكفر كفر البراءة، و ذلك قول اللّه عزّ و جل يحكي قول ابراهيم: كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةُ وَ اَلْبَغْضاءُ أَبَداً حَتّى تُؤْمِنُوا بِاللّهِ وَحْدَهُ ، يعني تبرأنا منكم، و قال يذكر إبليس و تبرأه من أوليائه من الإنس يوم القيامة: إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ، و قال: إِنَّمَا اِتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ، يعني يتبرأ بعضكم من بعض».

أقول: يمكن جعل جميع ما في هذه الرواية من التقسيم العقلي بأن يقال: الكافر إما لا يعتقد بمبدإ أصلا، و هو الكافر المطلق و يطلق عليه الجاحد بالمعنى العام أيضا؛ أو يعتقد به في الجملة ثم يجحده و هو كفر الجحود بالمعنى الخاص، أو يعتقد به و لا يجحده و لكن يكفر بنعمه و هو كفر النعم، أو يعتقد به و لكن يترك ما أمر اللّه به و هو كفر ترك الطاعة و يشمل هذا ترك كل واجب شرعي، أو إتيان كل ما نهى اللّه عنه. أو يعتقد بذلك كله و لكن لا يبرأ من عدوه و لا يتوالى وليه و هو كفر البراءة. و من هذا الحديث يعرف بيان ما أطلق فيه الكفر على تارك الصّلاة أو على إتيان بعض المحرمات أو التولي لأعداء اللّه أو التبري من أولياء اللّه فهذا الحديث هو الجامع لجميع أنواع الكفر، و لكن الكفر الاصطلاحي الذي يبحث عنه في الفقه الموجب لأحكام خاصة يختص ببعض الأقسام دون الجميع.

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُ

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) ذكر سبحانه أولا المؤمنين حقا و هم الذين أخلصوا دينهم للّه، ثم ذكر الكافرين حقا و هم الذين محضوا في الكفر. و اللازم منهما أنّ هناك قسمين

اشارة

ص: 87

آخرين هما من أبطن الكفر و أظهر الإيمان و هم المنافقون، و من أظهر الكفر و أبطن الإيمان؛ حيث إنّ للإنسان قلبا و لسانا فيمكن أن يعتقد بقلبه شيئا و يظهر بلسانه خلافه، و يأتي الثاني عند قوله تعالى: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [سورة النحل، الآية: 106].

و في هذه الآيات يذكر حال المنافقين الذين جعلهم اللّه تعالى في عرض الكفار في الدنيا فقال: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ جاهِدِ اَلْكُفّارَ وَ اَلْمُنافِقِينَ وَ اُغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة التوبة، الآية: 73] كما أنه جمعهم في الآخرة فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 140].

و قد عطف هذه الطائفة على الطائفة الثانية لما بينهما من الصّلة و الترابط في الكفر بينما قطع الثانية عن الأولى لما بينهما من التباين و الاختلاف.

و قد وصف سبحانه و تعالى حال الطائفة الثانية في آيتين و حال المنافقين في ثلاث عشرة آية هنا لأنهم أشد ضررا على المسلمين من غيرهم. و انهم فرقة من النّاس توجد في كل عصر و زمان و لا تختص بالمنافقين في عصر التنزيل و إن كانت تتناولهم تناولا أوليا و قد اعتنى اللّه سبحانه بذكر أوصافهم و توبيخهم ليتجنب المؤمنون عن كيدهم و إغوائهم و تضليلهم و خبثهم و إلاّ فهم من الكافرين لنفي الإيمان عنهم حيث قال تعالى: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فالتقسيم ثنائي في الواقع المؤمن، و الكافر. و إنما أهمل سبحانه ذكر أسمائهم لأن من أدب القرآن الستر مهما أمكن، و لأن الأمر من قبيل القضية الحقيقية شامل لكل من يكون كذلك.

التفسير

ذكر سبحانه جملة من صفات المنافقين في هذه الآيات الشريفة: منها قوله تعالى: يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ فنفى الإيمان عنهم. و إنما خص سبحانه الإيمان باللّه و اليوم الآخر بالذكر و لم يحك عنهم الإيمان بالأنبياء لاستلزام الإيمان بالمبدأ و المعاد الإيمان بالأنبياء أيضا كما عرفت سابقا.

ص: 88

و ما يقال: من أنّ للمنافقين أعمالا حسنة في حد نفسها أيضا فكيف يعدون من الكفار بقول مطلق (مردود) بأنّ الأعمال الحسنة من المنافق إنّما صدرت لأجل أغراضهم الشريرة فلا وجه لترتب الأثر الحسن عليها فنفي حقيقة الإيمان عنهم يجزي عن هذه التكلفات.

و منها قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا . الخدع: المكر. و هو إظهار شيء و إخفاء خلافه، و هو من أقبح الرذائل و شر الصفات.

و عن بعض الأدباء أن المخادعة من فعل الطرفين و جعلوا ذلك هو الأصل في صيغ المفاعلة و تبعهم جمع من المفسرين ثم قالوا إنّ المخادعة محالة على اللّه و غير لائقة بالمؤمنين لأنه من فعل المنافقين.

و لكن ذلك مردود بأنّ صيغة المفاعلة إنّما تدل على إنهاء الفعل إلى الغير واقعا أو اعتقادا و أما أنّ الغير يفعل مثل ذلك بالنسبة إلى الفاعل الأول فهو غير مأخوذ فيها، فقد يكون و قد لا يكون. نعم الجزاء على المخادعة مع اللّه و رسوله شيء و مخادعة اللّه و رسوله شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر و إنما ذكرت المخادعة لبيان أن هذا العمل يتكرر عنهم.

و أما مخادعتهم مع اللّه و رسوله تكون بالنسبة إلى اعتقاد المنافق لا بالنسبة إلى الواقع إذ لا معنى لمخادعة من هو عالم السر و الخفيات و مع ذلك نسبها سبحانه الى نفسه ابتداء تسلية للمؤمنين لئلا يثقل تحملها عليهم لشدة صفاء قلوبهم فوحدة السياق نحو تلطف منه تعالى بالمؤمنين كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية:

10] و غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما خداعهم مع المؤمنين فبإظهار الإيمان و إخفاء الكفر و العمل رياء و سمعة و ذلك لأجل الاطلاع على أسرار المؤمنين و اذاعتها لأعدائهم.

قوله تعالى: وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ اي: ضرر عملهم راجع إليهم فهم المخدعون. و أصل الشعور هو التوجه و الالتفات و الفطنة بالشيء و لا يقال إلاّ في ما دق و خفي، و لذلك لا يوصف به سبحانه لعدم خفاء شيء عليه.

ص: 89

و معنى الآية المباركة إن المنافقين لا شعور لهم في إدراك قبح عملهم لفرض أنّ بناءهم على النفاق و الفساد و هم مسخرون تحت طبيعتهم الشريرة، كما في قوله تعالى: فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3].

ثم إنّ مفاد هذه الآية المباركة يجري في جميع الرذائل النفسانية التي طبعت في قلوب أهلها فالمورد و إن كان خاصا و لكن الحكم (و ما يشعرون) عام.

قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ . المراد بالقلب في الآيات المباركة:

منشأ الفهم و الإدراكات فينطبق عليه النفس و الروح و العقل أيضا. و المرض هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم أو في القلب. و المراد بمرضها ضعف إدراكاتها و عدم تعقلها للدين و أسراره و أحكامه و يجمع ذلك عدم التفقه لها كما قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [سورة الأعراف، الآية: 179].

قوله تعالى: فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً . يمكن أن تكون هذه الجملة المباركة دعاء عليهم كقوله تعالى: ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ [سورة التوبة، الآية: 127]. و يمكن أن تكون جريا على سلسلة الأسباب المنتهية إليه تعالى فانه عزّ و جل بعث الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أنزل القرآن و أتم الحجة فكذّبوا بها و أبوا أن يتّبعوه حسدا و استكبارا فزاد ذلك مرضا على مرضهم، فنسب المرض بالسبب القريب الى اختيارهم و بالسبب البعيد الى إرسال الرسول و الدعوة الى الإسلام و الكل ينتهي إليه تعالى في سلسلة الأسباب.

و في تنكير المرض إشارة إلى ثبوت جميع أنواعه حسب مفاسد أخلاقهم و استقرارها في قلوبهم.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ . أي: كان العذاب لأجل كذبهم لأن المنافق كاذب و يستلزم ذلك تكذيبهم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فلا فرق في قراءة (يكذبون) بين المجرد اللازم و المزيد المتعدي.

ص: 90

و إنما ذكر تعالى خصوص هذه الصفة (كذب) لكونه مصدر كل شر و أساس كل نفاق.

أليم: صفة للعذاب بمعنى المؤلم و إطلاقه يشمل كل ألم و في أي مرتبة كانت من مراتب العظمة كما يدل قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً [سورة النساء، الآية: 145] فيكون عذابهم أشد من عذاب الكافرين.

بحث فلسفي:

الشعور هو أدنى مرتبة الإحساس و الإدراك و كلما كان إحساسات الشخص و إدراكاته للدقائق أكثر كان شعوره بها أشد و كليات أنواع الإحساسات و الإدراكات ثلاثة: عقلية، و خيالية - و منها الإدراكات الحيوانية - و نباتية على ما أثبتها قدماء الفلاسفة و العلم الحديث أيضا و لكل منها مراتب كثيرة غير متناهية لا يحيط بها إلاّ الباري جل شأنه.

و كمال الإنسان لنفسه و لغيره إنما هو بالإدراكات العقلية و في غيرها لا ثمرة مهمة فيها. و الإدراكات العقلية على قسمين:

الأول: ما يتعلق بالجهات التشريعية السماوية فهي محدودة و لا بد فيها من موافقتها للكتاب و السنة و عدم مخالفتها و الخدعة - التي هي النفاق - مطلقا مخالفة لها.

الثاني: ما يتعلق بغير الجهات التشريعية كسائر العلوم أو الصنائع فإن الإدراك فيها مرسل غير محدود بحد إذ لأحد للعقل و لا منع للشرع، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ صفات النفس على أقسام:

الأول: ما كانت صفة لها بحسب ذاتها كان هناك غيرها أولا، كالحياة و الجمال. فالجميل جميل كان هناك غير يراه أولا.

الثاني: الصفات التي تضاف إلى الغير فلا تحقق لها بدونه كالظلم و حسن الخلق و الأذى و نحوه و منها النفاق.

ص: 91

الثالث: الصفات الإضافية المختلفة باختلاف الجهات و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ

اشارة

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) من صفات المنافقين التي ذكرها اللّه تعالى في هذه الآيات الفساد في الأرض و الاستهزاء بالمؤمنين و توصيفهم بالسفاهة و عدم شعورهم بجهالتهم و تلك الصفات كلها من أخس الصفات و أرذلها التي كانت فيهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ . الفساد خروج الشيء عن الاعتدال و تغيره عن سلامة الحال و ضده الصلاح. و مادة الفساد في أي هيئة استعملت تدل على المبغوضية و الاشمئزاز، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [سورة البقرة، الآية: 205] و لا سيما هيئة الإفساد و متفرعاتها فإنّ المتلبس بها مذموم عند الجميع و يقابل ذلك مادة الصلاح، فإنها في أي هيئة استعملت تدل على المحبوبية و الرغبة و ميل النفس خصوصا هيئة الإصلاح و ما يتفرع منها فإنّها ممدوحة عند الجميع قال تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128].

و إنما ذكر تعالى القول بلفظ المجهول ليشمل كل ناه عن المنكر رسولا كان أو وليا أو كان من عرض النّاس، كما أنه سبحانه ذكر الأرض وحدها لأنها محل إفساد المفسدين قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41].

ص: 92

ثم إنّ الخروج عن الاعتدال و الاستقامة الذي هو معنى الفساد تارة يكون بالنسبة إلى الشخص نفسه في ما بينه و بين اللّه تعالى كالرياء و أخرى بالنسبة إلى شخص آخر مثله كالغش مثلا و ثالثة بالنسبة إلى المجتمع كالخيانة بالنسبة إليهم و لهذه الحالات مراتب متفاوتة. و في الجميع إما أن يكون الشخص متوجها الى ما يفعل أو لا يكون كذلك بل يرى فساده صلاحا و إصلاحا و الآية المباركة تبين هذا القسم.

و معنى الفساد في الآية الشريفة ارتكاب المعاصي سواء كانت صغيرة أو كبيرة، و يدخل فيها مذام الأخلاق، و ذلك لأنّ أفعال الإنسان إما أن تكون موافقة للشرع، أو تكون موافقة لموازين الاجتماع و إن كانت مخالفة للشرع، و ثالثة: أن تكون موافقة لمعتقدات الشخص و إن كانت مخالفة للأولين، و النفاق أو الفساد في الآية المباركة من أحد الأخيرين و قد أكد تعالى بطلان معتقداتهم في قوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ بأن لا صلاح في معتقداتهم إذ ليس كل صلاح اعتقادي صلاحا واقعيا.

قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلْمُفْسِدُونَ . لظهور آثار الفساد في أفعالهم كتفريق المسلمين و إلقاء النفاق بينهم و افشاء أسرارهم.

قوله تعالى: وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ . لأنّ كثرة انهماكهم في الغي و الضلالة أوجبت أنهم يرون باطلهم حقا فنفى اللّه تبارك و تعالى نسبة الشعور عنهم بكلمة (لا) الظاهرة في نفي نسبة المدخول في مثل المقام و الدال على الاستمرار فالآية الشريفة في مقام توبيخ المنافقين و التشنيع عليهم حيث وصفهم بعدم الشعور و الإدراك.

و لعل نفي الشعور عنهم مرتين تارة: بقوله تعالى: وَ ما يَشْعُرُونَ و أخرى: بقوله تعالى: لا يَشْعُرُونَ للإشارة إلى نفي أصل الشعور عنهم أولا و نفي أنهم لا يشعرون بذلك فيكون من إثبات الجهل لعدم الشعور لهم.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ . ذكر تعالى صفة أخرى من صفات المنافقين و هي السفاهة و هذه الصفة تلازمهم و لا بد و ان يكونوا كذلك لأن من ليس أهلا للحق و لا يقبله من

ص: 93

أهله كان ذلك من الجهل المركب عنده و يرى سوء عمله حسنا كما يرى من سواه فاسدا هالكا. و قد أعيت هذه الفرقة جميع أنبياء اللّه عزّ و جل و أوليائه في كل عصر لو لا أن تداركهم العنايات الخاصة الإلهية جل شأنه، و يشهد لما ذكرنا قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اِتَّبَعَكَ اَلْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء، الآية:

111]، و قال تعالى: ما نَراكَ اِتَّبَعَكَ إِلاَّ اَلَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ اَلرَّأْيِ [سورة هود، الآية: 27].

و إنما أتى سبحانه و تعالى القول بصيغة المجهول تنبيها إلى عدم اختصاص القائل بشخص مخصوص بل يشمل كل من أظهر الحق كما تقدم في الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ . الناس و الإنسان و البشر ألفاظ مترادفة معنى لهذا الحيوان الناطق المستوي القامة الذي يتفاوت أفراده بين أوج الكمال و أدنى مرتبة الحضيض فالمراد بهم في المقام من دخل في الإسلام، و تقدم معنى الإيمان.

قوله تعالى: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ . السفه: هو الخفة و قلة التمييز بين الخير و الشر و النفع و الضرر سواء كان في الأمور الدنيوية أو الأخروية، فمن لا يعرف نفعه من ضره و خيره من شره بالنسبة إلى الجهات الأخروية يعد سفيها بالنسبة إليها و لو كان رشيدا و ملتفتا إلى الأمور الدنيوية التفاتا دقيقا، كما أن كلّ من كان متوجها و ملتفتا إلى أموره الأخروية و غير دقيق في أموره الدنيوية يعد عند الناس سفيها، و هذا نزاع قديم بين الفريقين فأهل الدنيا يعدون أهل الآخرة سفهاء و أهل الآخرة يعدون أهل الدنيا من السفهاء.

و لا نزاع في الحقيقة لأن المراد من السفيه السفه من جهة لا من كل جهة فمن أراد الآخرة و سعى لها سعيها لا يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة و ان عده بعض أهل الدنيا سفيها بالنسبة إلى بعض جهات الدنيا و من أراد الدنيا و سعى لها سعيها معرضا عن الآخرة يعد سفيها بالنسبة إلى الآخرة كما في المقام لأنه ترك الحياة الدائمة الباقية لأجل الحياة الزائلة و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 94

قوله تعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ . و لا ريب في مطابقة ذلك للواقع لأن كل من ترك الحياة الدائمة و أخذ بغيرها سفيه بلا شك. و إنما عبّر بقوله تعالى هنا لا يَعْلَمُونَ و في الآيات السابقة عبّر تعالى ب لا يَشْعُرُونَ تنبيها على أنهم متوغلون في الجهالة و أنّها من سنخ الجهل المركب و تأكيدا لنفي الإدراك عنهم بجميع أنحائه: من نفي الشعور، و نفي العلم، و نفي الفقه و العقل كما في قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر، الآية: 14]، و قوله تعالى: فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3].

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ . هذه الآية المباركة تبين صفة أخرى للمنافقين و هي المداهنة بإظهار شيء و إضمار خلافه و لا تكون هذه إلاّ فيمن بلغ في فساد الأخلاق حدا بعيدا فيظهر بوجهين و يتكلم بلسانين يلقى كلا بحسب ما تقتضيه المصلحة و هم يرون ذلك من مصالحهم الفردية و الاجتماعية، و هذه الفئة من المنافقين لم تكن تختص بعصر التنزيل بل توجد في كل عصر و زمان و لا ينافي ذلك الحكاية عنها بصيغة الماضي و تقدم الكلام في ذلك.

و قد بين تعالى أنّ المنافقين يداهنون في دينهم فإذا رأوا المؤمنين قالوا آمنا بما أنتم به مؤمنون كذبا و زورا و إذا اجتمعوا بشياطينهم قالوا إنا معكم في العقيدة و العمل و إنما نحن نستهزئ بالمسلمين و دينهم و قد فضحهم اللّه تعالى و أعدّ لهم شديد العقاب.

و المراد بالشياطين هم المتمردون، من الشطن و هو البعد و التمرد فكلما بعد الإنسان عن الخير و الصّلاح و قرب إلى الباطل و الفساد يقرب من الشيطان. و المقصود بهم رؤوسهم، و من يدبرهم في مذام الأخلاق و شعب النفاق سواء أ كانوا من الإنس أم الجن، كما في قوله تعالى: جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 112].

ص: 95

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ كونهم مع أهل الإيمان إنما هو بمجرد المرور و الملاقاة فقط، و أما معيتهم مع الشياطين فكانت بعنوان التفهيم و الاستفادة من نواياهم الفاسدة.

ثم إن الخلوة مع الشياطين تارة تكون على نحو الاستفادة و أخذ الآراء الفاسدة و العقائد السيئة و أخرى: تكون لارتكاب الفحشاء و المنكرات و ثالثة: تكون على نحو التفكر في ما لا ينفع للدين و الدنيا فإن الأوهام و الخيالات الفاسدة و الأماني الباطلة من أقوى سبل الشياطين المستولية على الإنسان الموجبة لحرمان عقله عن قرب الرحمن

و عن علي (عليه السّلام):

«الأماني بضائع النوكى» أي: الحمقى و أما الخلوة معهم لأجل هدايتهم إلى الحق فهي ممدوحة بل قد تجب.

قوله تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ .

الاستهزاء هو الاستخفاف و السخرية. و المد: هو الزيادة. و الطغيان: التجاوز عن الحد. و العمه: التحير.

و المعنى: إن اللّه سبحانه و تعالى يجازيهم بالعقاب و يعاملهم معاملة المستهزئ بهم و يدعهم و يمهلهم في فعلهم و تسمية ذلك بالاستهزاء من باب التجانس اللفظي فقط كما في قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40]، و قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 194] فإن جزاء الظلم ليس بظلم.

و استهزاء اللّه تعالى بهم لا يختص بعالم دون عالم و لا بأمر دون آخر فمن ذلك سلب توفيقاته و تأييداته، أو إجراؤه تعالى أحكام الإسلام عليهم في الدنيا و ليس لهم حظ منها في الآخرة و كونهم في الدرك الأسفل من النار و هذا من أشد أنحاء الاستهزاء بهم و يزيدهم في تحيرهم و عدم اهتدائهم للصواب و الحق جزاء بما كانوا يعملون و عقوبة لهم على استهزائهم.

و هذه الآية مثل سائر الآيات المباركة التي سبقت مساقها كقوله تعالى: فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة

ص: 96

يونس، الآية: 11]، و قوله تعالى: وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً [سورة المائدة، الآية: 64] و غيرها من الآيات الشريفة الموافقة لقانون الطبيعة بالنسبة إلى النفوس الشريرة. و تقدم في خداعة اللّه تعالى لهم بعض الكلام فراجع.

و هذه الآية في مقام التسلية للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر أنبيائه قال تعالى: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة يس، الآية: 30] و المؤمنين أيضا، و حيث أن الاستهزاء بأنبياء اللّه يرجع إلى الاستهزاء باللّه تعالى فنسب جزاء المستهزئين بهم إلى نفسه فقال تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ و قال تعالى: فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الشعراء، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الزمر، الآية: 48] فإن إحاطة نفاقهم بهم من لوازم فعلهم و الكل يرجع إليه سبحانه و تعالى بنحو الاقتضاء، كما مر، فيصح أن يقال: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ جزاء لأعمالهم أو حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ .

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ . يطلق الاشتراء على الاستبدال مع رجاء النفع أي: أنّ المنافقين استبدلوا الهداية بالضلالة و العمى لغرض من الأغراض الفاسدة الدنيوية فتركوا استعداد فطرتهم فلم تربح تجارتهم و كانوا من الخاسرين. و الخسران في هذه المعاملة من الواضحات لكل عاقل بعد التأمل و لو قليلا و قد بين تعالى ذلك في آية أخرى بما هو أظهر فقال سبحانه: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ [سورة البقرة، الآية: 175] و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 177]. و في جملة من الآيات المباركة التعبير بالثمن القليل قال تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة النحل، الآية: 95] و قال تعالى: وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 187].

و يمكن أن يفرق بين التعبيرين بأنّ استبدال الهداية و الإيمان بالضلال

ص: 97

و الكفر تارة: يكون لأجل الكفر و الجحود و الشقاوة المنبعثة عن اقتضاء الذات بمجرد الاقتضاء لا العلية، و هذا هو استبدال الهداية بالضلالة و الإيمان، بالكفر، و قد أشار الى ذلك سبحانه و تعالى: وَ أَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا اَلْعَمى عَلَى اَلْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ اَلْعَذابِ اَلْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة فصلت، الآية: 17]. و أخرى: يكون الاستبدال لأجل الأغراض الفاسدة الخيالية الدنيوية، و هذا هو الاشتراء بالثمن القليل، فإن كل غرض إذا صدر من الإنسان مع قطع النظر عن إضافته إليه عزّ و جل فهو من المعاملة الخاسرة و إذا صدر منه من جهة إضافته إليه تعالى مع تأييد ذلك بالشرع فهو من المعاملة الرابحة. و المائز بين الغرضين هو الشرع أو العقل المقرر بالشرع، لما سيأتي في محله من أن نسبة الشرع الى العقل نسبة الصورة إلى المادة، فكما لا أثر للمادة بدون الصورة فكذا لا أثر للعقل بدون الشرع، فالعامل بالعقل التارك للشرع يضل في هديه، و العامل بالشرع التارك للعقل يبطل سعيه و مسعاه، و يأتي تفصيل هذا الإجمال إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنه يصح أن يكون قوله تعالى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ من باب ذكر اللازم و إرادة نفي أصل الملزوم فيكون المعنى أنه لا تجارة لهم أصلا في الواقع و إن كانت بحسب الظاهر لأنّ التجارة ما كان فيها اقتضاء الاسترباح في الجملة لا ما بنيت على الخسران و الضلالة.

و في الآية المباركة نحو استعارة و مجاز لإسناد الربح الى التجارة و منه يعلم وجه قوله تعالى: وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ فتصح نسبته إلى تجارتهم الخاسرة او الى جميع شؤونهم التي منها تجارتهم.

بحث روائي:

عن الصادق (عليه السّلام) «سئل فيما النجاة غدا؟ فقال إنما النجاة في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم فإنه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، فقيل له كيف يخادع اللّه؟ فقال (عليه السّلام) يعمل بما أمر اللّه عزّ و جل به ثم يريد به غيره فاتقوا اللّه و اجتنبوا الرياء فإنه شرك باللّه

ص: 98

عزّ و جل إن المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

أقول: و قريب من هذه الرواية روايات أخرى كثيرة الظاهرة في حصر النجاة في يوم القيامة في الخلوص و الإخلاص و ترك المخادعة و هو كذلك لأن المخادعة توجب سلب الأجرة على العمل لفرض أن المخادع يأتي بعمله لغيره تبارك و تعالى فلا أجر له منه.

و عن الرضا (عليه السّلام) في قوله تعالى: اَللّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فقال (عليه السّلام): «إن اللّه لا يستهزئ، و لكن يجازيهم جزاء الاستهزاء».

أقول: تقدم بيان ذلك.

بحث أخلاقي:

للنفاق سببان الأول السبب الفاعلي الثاني السبب الغائي أما سببه الفاعلي فالعمدة فيه ترجع الى عدم العقيدة بالمبدأ و المعاد أصلا أو قلتها و ضعفها فلو اعتقد الإنسان بمبدإ قيوم مراقب له في جميع جهاته و أفعاله لا يحصل منه النفاق الذي هو أم مساوي الأخلاق و كلما اشتد الاعتقاد بالمبدأ و احاطته تعالى يضعف النفاق. و السبب القريب فيه يرجع إلى حب النفس و الجاه و قد بينهما

النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «حب الدنيا رأس كل خطيئة».

و أما سببه الغائي فلا ريب في أنه ليس له غاية عقلية و إنما تكون له غايات جزئية وهمية خيالية ربما يستنكر نفس المنافق تلك الغاية لو فرض كمال عقله و إيمانه.

و أما شعبه و مراتبه فهي كثيرة منبثة على الجوانح و الجوارح فالمنافق يمكن أن ينافق بقلبه كالرياء كما تقدم في البحث الروائي أو بكل واحدة من جوارحه أو بجميعها و الوجوه المتصورة في هذه الصفة الشريرة على أقسام:

الأول: كونها من سنخ الطبايع غير القابلة للتغير و التبدل كسائر الطبايع

ص: 99

المودعة في الأشياء كلها من جواهرها و أعراضها التي يصح أن يعبر عنها بالصفة غير القابلة للتخلف و التغيير.

الثاني: كونها من مجرد الاقتضاء الذاتي القابلة للتغير و التبدل و الاشتداد و التضعيف.

الثالث: كونها من مجرد الاكتسابيات المحضة بلا علية و لا اقتضاء أبدا.

الرابع: كونها في مبدأ الأمر من مجرد الاقتضاء المحض و صيرورتها بالممارسة من سنخ الطبيعة و اللوازم غير المنفكة.

و قال بكل من ذلك قائل من الفلاسفة و المتكلمين، و يمكن أن يكون جميع ذلك صحيحا إن أراد القائل بالأول مرتبة خاصة من الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة كسائر الطبايع غير الإرادية الاختيارية فإنه لو قيل بها لزم محاذير كثيرة يشكل الجواب عنها كما يأتي التفصيل في محله.

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ

اشارة

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) المثل كالشبه وزنا و معنى. و المثل هو وصف الشيء و بيان نعوته التي توضّحه.

اشارة

و كانت الأمثال دائرة بين الأمم خاصة عند العرب بل كان استعمالها يعد من شؤون الفصاحة و البلاغة، و قد نهج القرآن الكريم في استعمال الأمثال لغرض تفهيم المخاطبين و التكلم معهم بلسانهم المتعارف بينهم و جلب قلوبهم إلى غير ذلك من الحكم و الفوائد. و قد اهتم القرآن الكريم بها اهتماما كبيرا، فقال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [سورة الروم، الآية: 58]، و قال تعالى:

ص: 100

وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [سورة ابراهيم، الآية: 25] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة و الوجه في ذلك معلوم لأن ذكر المثل يجلي المعاني المعقولة الخفية و يؤثر في النفوس المأنوسة بالمحسوسات، و النّاس إلى ما ارتكز في غرائزهم أميل و إلى ما يكون دائرا في ما بينهم أرغب

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم الناس على قدر عقولهم» و على هذا ضرب اللّه تعالى مثلا للمنافقين أولا بمن استوقد نارا.

و ثانيا: بمثل آخر لحال المنافقين فشبه تعالى الإسلام بالمطر لأنه يحيي الأرض بعد موتها و الإسلام يحيي القلوب، و جعل تعالى شبهات المنافقين و أباطيلهم كالظلمات، و شبه ما في الدين من الوعد و الوعيد بالرعد و البرق و ما يصيبهم من أهل الإسلام بالصواعق، و هم في غلو و اضطراب و خوف من النّاس:

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اَللّهُ أَنّى يُؤْفَكُونَ [سورة المنافقون، الآية: 4]، فهذا المثل يشرح حال المنافقين و يبين سوء أعمالهم و فساد أسرارهم فقد أتتهم الحكمة من السماء و فتح اللّه عليهم أبواب علومه فاعترضوا ذلك بالشبه و الآراء الفاسدة فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ [سورة الجاثية، الآية: 17] فحصل بعد هذا العلم الإلهي ظلمات و حيرة في أنفسهم باتباع الشهوات فصاروا في حيرة من أمرهم مترددين هالكين.

التفسير

قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ . المراد باستيقاد النّار هو إيقادها للاهتداء بنورها أو الاستضاءة به كما كان يفعل ذلك في قديم الزمان.

قوله تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ . المراد به الأعم من النور الظاهري الذي كان من إيقاد النار، و النور المعنوي الذي هو الإسلام كما قال تعالى: أَ فَمَنْ شَرَحَ اَللّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ [سورة الزمر، الآية: 22] فإنّ المنافق لتماديه في الغي و الضلالة و مزاولته للأعمال الشريرة حصلت له طبيعة ثانية أوجبت إطفاء نور الفطرة و الاعراض عن الإيمان

ص: 101

فأوكله اللّه الى نفسه و ذهب بنوره و يدل على ذلك قوله تعالى: يَوْمَ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا اُنْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ اِرْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ اَلرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ اَلْعَذابُ [سورة الحديد، الآية: 13] و لهذا النور مقام عظيم سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة له.

قوله تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ . أي صيرهم في الظلمات لا يبصرون شيئا، و يستفاد من حذف المتعلق و سياق الآية الشريفة أنّ اللّه تعالى اذهب جميع مراتب النور عنهم في الدنيا و الآخرة بل سلب جميع الكمالات الإنسانية فلا يرجى منهم خير.

و إنما قال تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ و لم يقل اذهب اللّه نورهم لفرض انهم باختيارهم اختاروا الظلمة و العمى فنسب تبارك و تعالى إذهاب النور إلى نفسه لأن الجميع منتسب إليه تعالى بواسطة الأسباب الحاصلة باختيارهم.

قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ . أي: لا يرجعون عن الضّلالة الى الهداية لأنه طبع على حواسهم و ختم على قلوبهم لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179] و المراد من هذا المثل أن المنافقين لم يشعروا بما يفعلون فهم بمنزلة الأعمى الأصم الأبكم لأنهم تمادوا في الغي و الضلالة.

قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ . الصيب اسم من أسماء المطر، و يمكن أن يراد به السحاب لأنه يصيب الفضاء. و الرعد هو صوت السحاب، و البرق هو الضوء اللامع في السحاب. و الصاعقة هي النّار العظيمة النازلة من السماء فتصعق ما تنزل به.

ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة أربعة من كائنات الجو و هي: الصيّب، و الرعد، و البرق، و الصاعقة و تقدم معانيها. و أما حقيقتها

ص: 102

و أسباب حدوثها فقد اختلف فيها فنسب الفريقان إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أسبابا لها ذكروها في الكتب الموضوعة لنقل أحاديثه (صلّى اللّه عليه و آله).

و ذكر قدماء الفلاسفة الطبيعيين لها أسبابا خاصة مذكورة في الكتب الفلسفية، و أما علماء الطبيعيات في العصر الحديث فقد ذكروا أمورا تغاير ما ذكره القدماء، و يظهر من بعض الآيات و الأحاديث - على ما سيأتي في محله - أنّ لها حياة و شعورا و إدراكا خاصة.

و الظاهر أنّ ذلك لم يكن من الاختلاف في الحقيقة و إن قصرت عبارات بعض، فإنّ لكل شيء من موجودات هذا العالم أسبابا و معدات و مقتضيات و شروطا قد أدرك العقل بعضها و لم يدرك الآخر بعد، و أنبياء اللّه تعالى و أولياؤه حيث إنّهم يرون أنّ جميع الحوادث تستند اليه عزّ و جل و الملائكة المدبرين لأمره ينسبون ذلك اليه تعالى و هو الحق الذي لا محيص عنه، و أما غيرهم فلا يدركون إلاّ ما وصل اليه فكرهم مع أنه يمكن أن تكون في الواقع أسبابا أخرى غفلوا عنها و تشبه ذلك حالة المريض الذي اختلفت أنظار النّاس في مرضه فالعالم الروحاني يرى أنّ مرضه نشأ من ناحية دعاء المظلوم الذي ظلمه هذا الشخص مثلا، و الطبيب يقول إنّ مرضه من التهاب بعض أعضاء جسمه مثلا، و النفساني يرى كدورة نفسه هي السبب، و أهل المريض يرون أنه كان محموما فشرب الخل مثلا. و لما عاده وليّ من أولياء اللّه قال: إنّ ممرضك هو يشفيك كما قال تعالى: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء، الآية:

80] و الجميع صادقون في أقوالهم و آرائهم فإن كل واحد ذكر مقتضيا من مقتضيات المرض و سببا من أسبابه لا أن يذكر العلة التامة، و بهذا يمكن أن يجمع بين آراء العلماء في العلوم. و ربما ننتفع به في غير المقام كما سيأتي.

و حيث إنّ المنافقين من الخائنين و الخوف مسلط على الخائن مطلقا فتكون هذه الجملة: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ توبيخا آخر لهم بالملازمة فهم يخافون من موتهم بالصاعقة و الرعد، فيجعلون أصابعهم في

ص: 103

آذانهم ليتحفظوا بذلك بكل ما أمكنهم من أنحاء التحفظ بزعمهم منها.

و للصاعقة و الرعد و البرق مراتب فيمكن أن يكون بعض مراتبها موجبا للموت بحسب قرب الوصول إلى الأجزاء الرئيسية من البدن.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ . الإحاطة هي الإحداق بالشيء و المراد الإحاطة من جميع الجهات علما و قدرة و عذابا في الدنيا و عقابا في الآخرة و من حيث الاستدلال و البراهين و من حيث الدنيا و جميع العوالم بل هو محيط بما سواه بكل معنى الإحاطة، كما أن المعنى عام في جميع العصور من عصر التنزيل إلى يوم القيامة و لجميع أصناف الكفر و أفراده، و فيه دلالة واضحة على أنه بعد احاطته تعالى بهم ليس وراء الكفر و النفاق إلاّ الخزي و الضلال و الهلاك و مع ذلك يمهلهم.

و إحاطته تعالى بما سواه تارة: إحاطة وجودية، و أخرى: علمية، و ثالثة:

فعلية، فمن الأول قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً [سورة النساء، الآية: 126].

و مفهوم الإحاطة و المحاط متقوم بالاثنينية لغة و عقلا. فتوهم وحدة الوجود من مثل هذه التعبيرات في الآيات المباركة - كما زعم جمع من الفلاسفة و العرفاء - باطل، فضلا عن وحدة الوجود و الموجود كما زعم جمع من خواص العرفاء و الفلاسفة، و سيأتي تفصيل هذه المذاهب و فسادها في محالها إن شاء اللّه تعالى.

و من الثاني قوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً [سورة الطّلاق، الآية: 12] و قوله تعالى: عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3] و هذا القسمان من إحاطته يعمان جميع ما سواه من أنحاء الممكنات.

و أما إحاطته الفعلية كقوله تعالى: وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 54] فإن كان المراد بالفعل الخلق و التقدير فهي تعم

ص: 104

جميع ما سواه أيضا. و ان كان المراد بها رضاه و سخطه فالأول للمؤمنين و الأخير للكافرين و المنافقين، و مآلهما واحد لأن علمه الأقدس عين ذاته المقدسة على تفصيل يأتي في مباحث العلم إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: يَكادُ اَلْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ . الخطف: هو الأخذ و الإذهاب بسرعة. و المراد أن القرآن و الآيات البينة و الحجج القيمة تشتمل على أدلة قويمة و براهين قاطعة فيظهر لهم الحق و يلمع في نفوسهم نور الإيمان كالبرق الخاطف يخطف قلوبهم فيزمعون على اتباعه و لكن الشبهات و الآراء الفاسدة تعترضهم فيكونون على حيرة من أمرهم.

قوله تعالى: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ . لأنّ القرآن و الشريعة يشتملان على بيان المصالح النوعية و الترغيب إلى الخيرات و التأكيد في دفع المضار و أمثال ذلك و هذا هو الذي يضيء لهم فيمشون فيه.

قوله تعالى: وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا . القيام كناية عن التحير، لأن القرآن و أحكام الدين تزجرهم عن ما يخالف مشتهياتهم النفسانية فيظلم عليهم فيتحيرون في أمرهم.

و الآية الشريفة باختصارها تبين أن في الدين ما يصلح للنّاس دنياهم و ارشاد لهم إلى أن فيه زجرا لهم عما يفسد حالهم، فلا تختص هذه الآيات بالمنافقين بل تشمل كل مشكل في الأمور الشرعية النوعية.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ . أي لو شاء اللّه لجعلهم غير مدركين لشيء. و إنما خص عزّ و جل السمع و البصر بالذكر، لأن غالب الإدراكات في نوع النّاس إنما ترجع إليهما، كما في قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة البقرة، الآية: 18]. و يمكن أن يراد بالسمع و البصر الظاهران فيكون تتمة للمثل نفسه و بالآية الأخرى عدم الإدراك بقرينة قوله تعالى: فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة البقرة، الآية: 171].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . لا يعجز عن شيء لأن كل شيء حادث و كل حادث فهو مخلوق و معلول له تعالى فله التوحيد في المعبودية و في الذات و في الفعل، و قد تقدم ما يتعلق بالأول في سورة الفاتحة

ص: 105

و أشرنا إلى الثاني في ما سبق و سيأتي القول في الثالث إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن الرضا (عليه السّلام) في قوله تعالى: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فقال: إنّ اللّه لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه، و لكنه متى علم أنّهم لا يرجعون عن الكفر و الضلالة فمنعهم المعاونة و اللطف و خلّى بينهم و بين اختيارهم.

أقول: لا بد و أن يرجع الترك - المنفي عن اللّه سبحانه و تعالى المستلزم لعدم القدرة الذي هو المحال بالنسبة إليه تعالى لفرض عموم قدرته - الى فعله سبحانه و تعالى كما ارجعه (عليه السّلام) الى ذلك و هو التخلية بينهم و بين فعلهم و الإمهال لهم في أعمالهم و عدم تعجيل العقاب عليهم، فيكون كالصبر المنسوب إليه تعالى فإنّه أيضا يرجع إلى عدم تعجيل العقاب لا الصبر الاصطلاحي عندنا.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِ

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً وَ اَلسَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) بعد أن ذكر سبحانه في ما تقدم أصناف خلقه و هم المؤمنون المهتدون الفائزون، و الكافرون الذين اختاروا الكفر فطبع بذلك على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم، و المنافقون الذين هم الأخسرون اعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون انهم يحسنون صنعا. فكما أن الدنيا مجمعهم بالوجود الجمعي و التدريجي في سلسلة الزمان كذلك الآخرة مجمعهم بالوجود الجمعي في الزمان و المكان. دعا سبحانه و تعالى في هذه الآيات النّاس إلى التوحيد و العبادة حتّى تستعد نفوسهم إلى التقوى. ثم عدد جلائل نعمه في السماء و الأرض ليرغّبهم إلى التفكر و نبذ الأنداد فلا يستعينوا بغيره عزّ

اشارة

ص: 106

و جل، كل ذلك في عبارات يتدفق منها الحنان و العطوفة، و قد أظهر اهتمامه بهم بقوله تعالى: خَلَقَكُمْ ثم ذكر خلق السابقين ليعرف أن الجميع خلقه و هو الخالق و المستحق للعبادة دون غيره و إنما كان الخلق السابق كالمقدمة لخلق المسلمين ثم بين الغاية القصوى للخلق و هي التقوى ثم عدد بعض النّعم النوعية التي تكون من خصائص الربوبية.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اُعْبُدُوا رَبَّكُمُ . تقدم في سورة الفاتحة معنى العبادة و الرب، و في هذه الآية أمر سبحانه النّاس بالعبادة و هي الغاية لخلق الإنس و الجن كما قال سبحانه و تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]

و قد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «خلقهم ليأمرهم بالعبادة» و لم يبعث اللّه الرسل إلاّ لدعوة أقوامهم إلى العبادة قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ [سورة النحل، الآية: 36].

و إنما اختار من أسمائه المقدسة لفظ (الرب) لاشتمال الربوبية المطلقة على جميع الكمالات الإلهية، و فيه إشعار بالحنان و الرأفة بخلقه. و إنما أمر بالعبادة لأنها تقتضي الإعتقاد بالتوحيد الذاتي أيضا.

قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكُمْ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . ذكر تعالى خلق الذين من قبلهم لأنهم كانوا يفتخرون بآبائهم بل بعضهم يعبدونهم فقال تعالى: إنهم مخلوقون له كما أنتم مخلوقون له فنفى تعالى جهة الشرك بهذه الكلمة كما بين غاية العبادة و هي التقوى.

قوله تعالى: اَلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً وَ اَلسَّماءَ بِناءً . الفراش و البساط و المهاد لها جامع واحد و هو سهولة الأرض للانتفاع بها بكل معنى يتصور الانتفاع و إنما تفترق هذه الألفاظ بخصوصيات خاصة تأتي الإشارة إليها في محالها. و التعبير بالفراش كما في هذه الآية الشريفة، و المهاد. كما في قوله تعالى: أَ لَمْ نَجْعَلِ اَلْأَرْضَ مِهاداً [سورة النبأ، الآية: 6]، و البساط

ص: 107

كما في قوله تعالى: وَ اَللّهُ جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ بِساطاً [سورة نوح، الآية: 19] دلالة على أنها خلقت كذلك لأجل ملاءمتها لطباع النّاس و ألفتهم بها كما يألفون إلى الفراش و البساط و المهاد.

و السماء تطلق على كل ما علا و أظل و على مجموع ما فوقنا و للعلو درجات و مراتب و لذا يتصور فيها الجمع و قد ورد في القرآن لفظ «السموات» كثيرا لأن جهات البعد كثيرة جدا و لا سيما بناء على أن البعد غير متناه. و البناء وضع شيء على شيء مع التماسك بينهما.

و المراد به أنه تعالى جعل السماء سقفا متماسكا لئلا تقع على الأرض و يدل عليه قوله تعالى: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 32] و يمكن أن يراد بالبناء العمران في مقابل الخراب و ليس المراد بالعمران و الخراب ما ندركه بأبصارنا الظاهرية فقط بل لها معان أخرى لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «أطت السماء و حق لها أن تئط فإن ما بها موضع شبر إلاّ و ملك واضع جبهته عليه عظمة للّه تعالى»، و قد ورد التأكيد عن أئمة الدين في رد من زعم أنها خراب لا عمران فيها و على هذا يصح ترتيب نزول الماء من السماء سواء كان البناء بمعنى السقف أو بمعنى العمران كما لا يخفى على أهله.

و قد خلق السماء بأحسن نظام و أجمل صورة و جعل فيها أجراما غير متناهية متماسكة من غير أن يصطدم بعضها ببعض و قد كشف العلم الحديث لهذا السقف آثارا و فوائد كل ذلك يدل على تمام قدرته و عنايته تبارك و تعالى.

و إنما قدم سبحانه و تعالى الأرض لأنها من أنفع الكرات و أعظمها فائدة للإنسان و لأن فيها قيام حياة النبات و الحيوان و الإنسان، و الذي زاد في فضلها انها مهبط وحي السماء و محل نشوء الأنبياء و معبد الأولياء و مسجد أهل الإيمان و محل تكميل نفوس العقلاء بل لم يخلق سبحانه و تعالى في العالم خلقا أجل نفعا و أعظم فائدة من هذه الكرة الأرضية و لذا كان اهتمامه تعالى بها أكثر و اعتناؤه أشد من أي كرة أخرى فإنه سبحانه أعلم بأسرارها و رموزها

ص: 108

و كنوزها. و ما يتوهم من أن الأرض كما أنها مجمع المنافع فيها شرور أيضا من أهمها انها محل إضلال الشياطين و اغوائهم. غير صحيح بما ثبت في علم الفلسفة من أن الشر القليل لا يمنع عن الخير الكثير الموجود فيها و لم يذكر الأرض بلفظ الجمع في القرآن العظيم و ان وردت جمعا في الدعوات المأثورة المعتبرة و قد ذكر السماء مفردا و جمعا في القرآن. نعم ورد في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق، الآية: 12]، و يأتي ما يتعلق بذلك.

و لكن ثبت في الفلسفة القديمة بالبراهين القويمة أن جميع الكرات من النوع المنحصر في الفرد بلا فرق بين الأرض و غيرها و لو فرض تعدد فإنما هو بحسب النوع لا بحسب الأفراد الداخلة تحت نوع واحد؛ و على هذا فإفراد لفظ الأرض في القرآن كإفراد لفظي الشمس و القمر يكون بحسب الدليل، و سيأتي تتمة البحث و أما إفراد السماء و جمعها فقد تقدم بعض الكلام فيه.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ . الماء معروف و هو منشأ الحياة في كل ذي روح سواء كان إنسانيا أو حيوانيا أو نباتيا كما قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30] و الماء أصل حدوثه يكون في العالم العلوي و في الأرض أمكنة مجعولة إلهية لإبقاء هذه النعمة الكبرى تسهيلا على المنتفعين به فأصل الحدوث من السماء و العلة المبقية في الأرض، و سيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الآيات المناسبة.

و لا ريب في تقوّم الإنسان بل كل حيوان برزق مخصوص، و الرزق متقوم بالثمرات و هي ما يحصل من النبات و كل نبات متقوم بالماء و هو من السماء و بالأخرة يرجع الرزق اليه تبارك و تعالى و قد أشار سبحانه و تعالى الى ذلك بقوله: وَ فِي اَلسَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ [سورة الذاريات، الآية:

22].

و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات من أصول نعمه نعمة الإيجاد و الخلق

ص: 109

لنا و لأسلافنا و نعمة العيش و الحياة و نعمة الغذاء، فعرفنا ذاته المقدسة بآثار رحمته و عظيم نعمه و سعة فضله و غاية قدرته و عظمته.

قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ تفريع و توبيخ للمخاطب العاقل في صورة النهي، يعني أنه مع علمكم بألطافه تعالى و عناياته عليكم كيف تجعلون له شريكا و مثلا. و الند هو المثل و الكفؤ و الشريك. «وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» أنه لا ندّ له لكونهم معترفين بأن اللّه خالقهم و رازقهم و المنعم عليهم و المدبر لأمورهم فلا يقول خلاف علمكم و عقيدتكم. و يجري معنى الآية في كل من يقول بأنّ مجاري الطبيعة مسخرة تحت إرادته تعالى و مع ذلك يعتقد بخلاف ذلك فلا يختص بزمان دون زمان.

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِي

اشارة

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) بعد أن ذكر سبحانه أقسام الناس بالنسبة إلى الإيمان و الكفر كما تقدم. أمر سبحانه الناس بعبادته لعلهم يصلون إلى الغاية المرجوّة لهم و هي التقوى و التي تستكمل نفوسهم بها لأنه المنعم عليهم بأنواع نعمه. و بما كان له من الربوبية العظمى في خلقه شرع في إثبات النبوة لعبده و بيان ما أنزله عليه و إزالة الشك بأن ما جاء به محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كان من عند نفسه فتحداهم بأن يأتوا بسورة من مثله. فالآية من أدلة اثبات النبوة و يصح جعلها من أدلة اثبات اعجاز القرآن كما يصح جعلها لهما معا لمكان تلازمهما في جميع مراحل الوجود.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ . يعني إذا حصل لكم الشك في أمر القرآن و زعمتم أنه من كلام البشر فأتوا بسورة من مثله، و قد ذكر سبحانه و تعالى المنزل عليه بأحسن لفظ تشريفي يتدفق منه الحنان و العطوفة.

ص: 110

فالسياق سياق العناية بالنسبة إلى كل من المنزل و المنزل عليه و هما متلازمان في جميع مراحل الوجود، فيسقط بذلك ما أطاله جمع من المفسرين في مرجع ضمير «مثله» و انه يرجع الى العبد أو الى القرآن المعبر عنه بقوله مِمّا أَنْزَلْنا و ذلك لأن مقام النبوة التي هي من أجل المقامات الممكنة في البشر إنما يتحقق بنزول القرآن عليه و نزول القرآن لا يكون إلاّ بالنسبة إليه فالحقيقة واحدة و الفرق اعتباري. نعم لما كان للكتاب الاستقلال المحض و ليست النبوة إلاّ الدعوة اليه فتكون نسبة الداعي إلى المدعو اليه نسبة اللفظ إلى المعنى و لا أثر في اللفظ بدون المعنى فلا بد و أن يرجع الضمير إلى القرآن، و يشهد لذلك ما ورد في سائر آيات التحدي قال تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ [سورة الطور، الآية: 34]، و قال جلّ شأنه فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]، و قال تعالى: لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].

و قد ثبت في العلوم الأدبية أن الجملة الشرطية تجتمع مع إمكان الشرط و تحققه خارجا بل و مع امتناعه فعلا أيضا، و لا إشكال في تحقق الريب بالنسبة إلى بعضهم و إمكانه بالنسبة إلى بعضهم الآخر فيصح استعمال الجملة على أي تقدير.

و لفظ (كان) في نظائر المقام منسلخ عن الزمان بل أثبتنا في محله عدم دلالة الفعل على الزمان أصلا و إنما الزمان مستفاد من السياق إن لم تكن قرينة على الخلاف و الريب: هو الشك كما تقدم في أول السورة.

و كلمة (من) للتبيين لكثرة وضوح المطلب و أنّ شأن هذا القرآن مما لا يرتاب فيه و أن معارضة الناس هنا معه كمعارضة سحرة فرعون مع عصا موسى و معارضة نمرود مع إبراهيم الخليل و أنه لا معنى معقول لمعارضة المقهور تحت الطبيعة مع من هو قاهر عليها، فالتحديات القرآنية انما وقعت لإتمام الحجة على المعاندين لا أن تكون تحديا حقيقيا واقعيا، و منه يظهر أن جميع ما ذكروه في التحدي في الكتب الكلامية و التفاسير بالنسبة إلى المعجزات

ص: 111

و خوارق العادة غير صحيح إلاّ بالنسبة إلى إتمام الحجة.

و السورة هي بعض الشيء و طائفة منه قلّ أو كثر، و التحدي بها يقتضي التحدي بأقصر سورة في القرآن، بل إذا كان ال (ب) للتبعيض يشمل الآية الواحدة أيضا.

ثم إنه ورد التحدي بالقرآن في ثلاثة مواضع غير هذا الموضع: قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].

و ثانيها قوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ اُدْعُوا مَنِ اِسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة هود، الآية: 13]. و ثالثها قوله جل شأنه: أَمْ يَقُولُونَ اِفْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [سورة يونس، الآية: 38]. نعم. ذكر تعالى الحديث أيضا فقال سبحانه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ [سورة الطور، الآية: 34] و لكن المراد هو القرآن فيرجع الى القسم الأول.

و لعل الوجه في اختلاف التحدي بالقرآن تارة بمثله، و أخرى بعشر سور من مثله، و ثالثة بسورة من مثله اختلاف أشخاصهم فبعض ادعى الإتيان بالمثل، و بعض ادعى الإتيان بعشر سور مثله، و بعضهم ادعى الإتيان بسورة مثله، أو لأجل اختلاف الأزمنة ففي أوائل البعثة اتفقوا على الإتيان بالمثل و بعد ظهور العجز في الجملة ادعوا الإتيان بعشر سور مثله و بعد استقرار العجز تحدوا بإتيان سورة من مثله.

و ما يقال: من أنّ المتحدي (بالكسر) هو اللّه تعالى في جميع معجزات الأنبياء خصوصا معجزة خاتم الأنبياء المعجزة الدائمة الأبدية، أو أنّه النبي من قبل اللّه تعالى فيرجع إليه سبحانه أيضا و المتحدّى به في المقام إما هو القرآن أو النبي الصادر منه المعجزة و المتحدى منه هو عامة الخلق و لا بد من السنخية في الجملة بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى منه فالملك الجليل العاقل لا يتحدى مع سواد الناس في شيء، و كذا لا بد منها بين المتحدي (بالكسر) و المتحدى به فمن كانت لديه جوهرة نفيسة منحصرة بالفرد في العالم كله ليس

ص: 112

له أن يتحدى في ذلك من في عرض النّاس فلا موضوع للتحدي الذي أطيل القول فيه من المتكلمين و تبعهم جمع من المفسرين.

مردود أولا: بأنّ أصل التحدي إنّما هو لإتمام الحجة على الأمة لئلا يكون للناس على اللّه حجة، و كل ما تحققت هذه الجهة يصح التحدي و مع عدمه فلا موضوع له. و ثانيا: بأنه لطف و عناية منه جل شأنه مع الخلق و مما شاة معهم و إظهار لضعفهم مما يتوهمون لذلك.

قوله تعالى: وَ اُدْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . الدعاء:

النداء و الاستعانة. و الشهداء: جمع شهيد و هو من يعتد بحضوره ممن له اعتبار في القول أو الحل و العقد، و بعبارة أخرى أهل الخبرة بالشيء. و ما دون اللّه أي ما سوى اللّه. و المراد أنه إذا كنتم صادقين في دعواكم فأتوا بسورة من هذا القرآن و لو كان بمعونة ما سوى اللّه فإذا عجزوا عن ذلك يكون ذلك حجة قاطعة على ثبوت أصل الدعوى و هي كون القرآن معجزة إلهية أنزله لإتمام الحجة عليهم.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا . بيان لثبوت عجزهم و عدم استطاعتهم لما يدعونه، و الجملة الأولى إشارة لإيكال الموضوع الى اختيارهم، و الثانية اخبار واقعي عن الواقع المحقق في علم اللّه و ما هو المتحقق في نظام الطبيعة من عدم ارتباط المحدود المقيد بها بمن هو قاهر عليها إلاّ بإرادته تعالى فالنفي الأبدي إنما هو لأجل أن المدعو به يستلزم الخلف و هو محال ذاتي.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ . الوقود (بفتح الواو) ما توقد به النار. و النّاس هم الكافرون و العصاة. و الحجارة هي حجر الكبريت أو سائر المعادن الحجرية التي تستعمل للوقود بل يمكن أن يراد بها نفس النّاس الكفرة بعضهم بالنسبة إلى بعضهم و هو ما يقتضيه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء، الآية:

98] فيصير الموقود و الوقود شيئا واحدا فكل من ازداد طغيانه و تبعه قوم يكون حجارة بالنسبة إلى تابعيه مع وجود الحياة في المتبوع أيضا.

ص: 113

ثم إنه في المقام بحثان:

الأول: إنّ التكليف بالشيء يدور مدار القدرة عقلا و شرعا فلا يصح التكليف بغير المقدور كذلك و في هذه الآية المباركة أخبر سبحانه بقوله تعالى: وَ لَنْ تَفْعَلُوا أنه من التكليف بغير المقدور الذي هو باطل. و الجواب عن ذلك بأن التكليف إن كان للامتحان - كما عرفت - أو إتماما للحجة عليهم و أخذا بإنكارهم للنبوة و المعجزة يصح و لو مع العلم بعدم إمكان الامتثال.

الثاني: إنّ العقاب مترتب على مخالفة اللّه عزّ و جل و في المقام لم تتحقق منهم مخالفة حتّى يتعلق بهم العقاب. و الجواب يظهر من الجواب السابق فإذا تمت الحجة عليهم بالنبوة و إعجاز القرآن لا بد لهم من التصديق و الاعتقاد بهما و حينئذ الريب و الشك الحاصل باختيارهم مخالفة توجب استحقاق العقاب.

قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ . ذكر اللّه تعالى إعداد النّار أو العذاب للكافرين في جملة من الآيات و إعداد الجنة للمتقين كذلك قال سبحانه: وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية:

131] كما قال جل شأنه: سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 133] إلى غير ذلك من الآيات، فيستفاد من الآية أمور:

الأول: أن أصل خلق النّار كان لأجل الكافرين فإذا أطلق في القرآن أنّ النار للفاسقين أو المجرمين لا بد من حملهم على الكافرين بقرينة أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أو أن نارهم غير ما أعدت للكافرين بحسب المرتبة و الدرجة.

الثاني: إنها أعدت فيستفاد من لفظ الإعداد سبق الوجود إذ لا يطلق هذا اللفظ على المقارنة الوجودية أو التأخير الوجودي إلاّ بالعناية.

الثالث: سنخ هذه الآيات نحو بشارة للمؤمنين بأن النّار لم تعد لهم - كما يدل عليها بعض الأخبار على ما يأتي - و ان دخلوها لبعض معاصيهم

ص: 114

و بينهما فرق واضح. و في المقام جزاء لإنكارهم للمعجزة الأبدية التي هي القرآن باختيارهم يدخلون النّار التي أعدت لهم.

ثم إنّ الإعداد من الأمور الإضافية و له مراتب متفاوتة كثيرة يقول القائل: أعددت هذه الحنطة لطعامي مثلا أو هذا القماش للباسي أو هذه الأرض لمسكني إلى غير ذلك من الأمثلة و مقتضى ما ورد من الآيات المباركة و الأخبار المستفيضة من الطرفين - على ما يأتي في محله - أنّ الإعداد حاصل من الأعمال و الأفعال،

كقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة» لا أنّ اللّه تعالى أعد ذلك بذاته الأقدس أولا و بالذات بلا فرق بين درجات المتقين و دركات الكافرين و المنافقين فترجع موجبات الإعداد الى نفس الطائفتين فالمعد (بالكسر) إنما هو نفس المكلف و الإعداد يحصل من عمله، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و حيث إنّ هذه الآية مفتتح آيات التحدي إلى المعجزة لا بد و ان نشير إليها في الجملة.

حقيقة الإعجاز:
اشارة

الأفعال الاختيارية الصادرة عن الإنسان على أقسام:

(الأول): أن لا يستند إلى سبب و هو محال، لما ثبت بالأدلة العقلية من أنّ حدوث الفعل الاختياري بلا سبب فاعلي محال.

(الثاني): أن يستند إلى سبب من الأسباب الطبيعية الشايعة و هذا القسم معلوم لكل أحد.

(الثالث): أن يكون سببه من الأسباب الطبيعية النادرة بحيث لو أمكن الاجتهاد في تحصيلها لظفر بها بلا دخالة خصوصية شخص فيها بل كل من تعلّم الأسباب و أحاط بها أمكن صدور تلك الأفعال منه جريا لقانون السببية و المسببية الجاري في جميع الممكنات. و جميع الأفعال النادرة، و الفنون العجيبة، بل السحر و الشعبذة و نحوهما من هذا القبيل. نعم يختص السحر و نحوه بأنّ لإيحاء بعض النفوس الشريرة دخلا في تحققه في الجملة على ما

ص: 115

يأتي تفصيله في قوله تعالى: إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].

(الرابع): أن يكون سببه من الأسباب الغيبية الإلهية فكما أن نظم طبيعي العالم بمجرداته و أعراضه و جميع مادياته لا بد و أن يكون مورد إرادته المطلقة و تحت قيّوميته التامة كذلك تكون تلك الإفاضات المفاضة على الحيوانات - التي لا تحصى أنواعها فضلا عن أفرادها - بجلب منافعها و دفع مضارها و توليد المثل، بل صدور بعض الأفعال الجميلة كما قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: 68] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة على ذلك، و كذا في النباتات من إيحاء جلب المنفعة و دفع المضرة و إيجاد المثل. و الإعجاز بنفسه أيضا يكون من هذا القسم فهو من فعله تعالى في أفراد خاصة من الإنسان إقامة للحجة على الجميع و ارتباطا لعالم الشهادة بعالم الغيب، فكما أنّ اللّه تعالى إذا أراد شيئا يقول له: كُنْ فَيَكُونُ بلا سبب في البين أصلا إلاّ الإرادة التامة المقدسة، جعل سبحانه لأنبيائه المعجزات و لأوليائه خوارق العادات بهذا المعنى لمصالح كثيرة.

و الفرق بين ما أراده لنفسه و ما جعله لغيره من جهات:

الأولى: أنّ الأول لنفسه من نفسه، و الثاني من غيره لغيره.

الثانية: أنّ الأول غير محدود بحد خاص أبدا، و الثاني محدود بخصوص الحد المفاض إليه فقط.

الثالثة: الأول واجب نظامي صدر عن الواجب بالذات، و الثاني واجب نظامي صدر عن الممكن بالذات فعلا و ذاتا. و حينئذ يكون قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية: 17] لا يختص بخصوص الرمي فقط بل هو جار في جميع معجزات الأنبياء و خوارق عادات الأولياء لأنّ إبراز المعجزة و خارق العادة على أيديهم له دخل في نظام التكوين، كما أنّ التشريع كذلك بل هو غاية نظام التكوين.

ص: 116

و ربما يتوهم من أن ما ذكر صحيح لا إشكال فيه و لكنه مخالف للقاعدة التي تسالموا عليها في الفلسفة من أنه لا بد و أن تكون علة الطبيعي طبيعية، و المعجزة و خارق العادة في عالم الطبيعة و منها، فلا بد و أن تحصل بالعلة الطبيعية. و لهذا التجأ بعض المفسرين إلى القول بأن علتها طبيعية لكن لا يعرفها إلاّ من جرت على يده.

نقول: إنّ أصل القاعدة موردها العلل الطبيعية لا الفاعل المختار الذي هو محيط بكل شيء و يفعل ما يشاء، مع أن جعل المعجزة و خارق العادة من عالم الطبيعة ممنوع بل هما من عالم آخر تظهران في ظلمات الأرض، و لم يقم دليل على أن كل ما يظهر في عالم الطبيعة - من العالم الآخر - لا بد أن يكون من الطبيعة، بل الدليل على خلافه كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و ليس ما ذكرناه في معنى المعجزة مبنيا على الحلول و لا على وحدة الوجود و الموجود، لما سيأتي من إثبات بطلان ذلك كله إن شاء اللّه تعالى، بل المعجزة و خارق العادة من إيجاد اللّه تعالى القدرة الخلاّقية - في الجملة - في من شاء من عباده لمصالح كثيرة تقتضي ذلك. و لا فرق بين المعجزة و خارق العادة من هذه الجهة إلاّ أنّ الأولى لا بد و أن تقترن بالتحدي أي: الدعوة إلى المبارزة و المنازعة في الإتيان بمثلها في الناس، بخلاف الثاني فإنّه قد يصدر عن عبد خمول في فلاة من الأرض لا يعرف و لا يعرفه أحد كالخضر.

فحقيقة الإعجاز قدرة النفس الإنسانية على إيجاد ما يخرق به الطبيعة و العادة و التصرف في هذا العالم بما هو خارج عنه كل ذلك بإقدار من اللّه تعالى عليه لمصالح متعددة تقتضيها الظروف. هذه خلاصة ما ينبغي أن يقال في المعجزة، و للقوم فيها تفاصيل في كتب الكلام و التفسير.

التحدي و معناه:

التحدي هو نداء الناس جميعا إما للإتيان بمثل ما يدعيه المدعي أو الاعتراف بالعجز و القصور فتثبت أصل الدعوى لا محالة باعتراف الخصم، و هو من أحسن الطرق لإثبات المطلوب و إقامة الحجة عليه. و هو

ص: 117

شايع في المحاورات و المخاصمات العرفية من قديم الأعصار خصوصا في الجاهلية، و تشهد لذلك معلقاتهم على باب الكعبة فإنها كانت للتحدي لإظهار ما يفتخرون به في الفصاحة و البلاغة فجاء القرآن و أبطل ذلك و أتم الحجة عليهم بما كان شايعا لديهم.

فمعنى التحدي دعوة الخصم إلى الإتيان بما أتى به المدعي و بعد ثبوت عجزه باعترافه ثبتت دعوى المدعي لا محالة. فما نسب إلى بعض من أن اللّه تعالى أعجزهم عن ذلك و صرفهم عن التأمل حوله. مردود: بما عرفت سابقا و لا ريب في عجز ما سواه تعالى عن الإتيان بالقرآن و إنما جيء بالجمل الشرطية لإظهار العجز و التوبيخ و إتمام الحجة و غير ذلك من الدواعي.

إعجاز القرآن:

وجوه إعجاز القرآن كثيرة و متعددة بل هو من جميع الجهات لأن قوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الاسراء، الآية: 88] خطاب عام لجميع أفراد الإنس و الجن بما فيهم من العلماء و ارباب علوم شتى و فنون كثيرة فلا بد و ان يعم الجميع بما هم كاملون و مخترعون فيه. و بعبارة أخرى: أن دعوة المبارزة و التحدي بالإتيان بالمثل دعوة إلى العقل الإمكاني من حيث هو كذلك و قد ثبت عجزه عن الإتيان بمثله.

و أما الإشكال بأنه لا وجه للتحدي بهذا التعميم، ثم لا وجه للتحدي من كل شيء. فهو مردود: بأن في القرآن آيات كثيرة دالة على كماله من جميع الجهات قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59]، ثم قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ [سورة سبأ، الآية: 28] فلا بد و أن يكون التحدي عاما من جميع الجهات و من كل جهة يشمل المتحدى به على الدعوة من تلك الجهة و إلاّ لما تمت الحجة كما هو معلوم، فكل شيء فيه جهة حسن و كمال للفرد أو المجتمع في الدنيا أو النشآت الأخرى يكون القرآن معجزة فيه من حيث بيانه و الاستكمال

ص: 118

فيه، فهو معجزة للفصيح و البليغ في فصاحته و بلاغته، و للعالم في علمه، و للفلسفي في فلسفته إلى غير ذلك، فإذا كانت وجوه الإعجاز كثيرة فنحن نشير إلى المهم منها على سبيل الاختصار إن شاء اللّه تعالى.

حياة القرآن:

ليس المراد من الحياة في القرآن هي الحياة المعروفة في الحيوان - التي هي عبارة عن الحركة الإرادية التي تكون في معرض الزوال و الفناء - بل المراد منها هي الحياة الحقيقية الواقعية لأن قوام حياة الفرد و المجتمع إنما هو بالكمالات المعنوية الحاصلة لهما و القرآن هو الذي يفيد الكمال الفردي و الاجتماعي سواء أ كان في هذا العالم أم في عالم آخر.

و بعبارة أخرى: هو الكمال للكل بكل معنى الكمال و هذا هو معنى الحياة التي وردت في قوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و قوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً [سورة النحل، الآية: 97]، و قوله تعالى: اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 24]، و قال جل شأنه: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [سورة الشورى، الآية: 52] فإذا كان القرآن روحا بذاته و كان من عالم الأمر يكون منشأ حياة الغير لا محالة، كما سيأتي تفصيل ذلك.

و الحياة لها أقسام: حياة العقول المجردة على ما أثبتها جمع من الفلاسفة، حياة الملائكة - كما هي المنساق من الكتاب و السنة و سائر الأدلة على ما يأتي تفصيلها - على أنواعهم التي لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى منها سادات الملائكة - مثل جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل - و منها حملة العرش الكروبيون، و منها روح القدس الذي يظهر من الأخبار أنه غير جبرائيل. و حياة القرآن المقدس أفضل، لأن جميع ما تقدم له حياة من جهة و للقرآن حياة من جميع الجهات، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 119

إعجاز القرآن في المعارف الإلهية:

يشتمل القرآن على كثير من العقائد الدينية و العلوم الإلهية و المعارف الربوبية فهو السابق في جميع هذه العلوم و قد شهد بذلك جميع الأئمة الهداة الذين هم أحد الثقلين و جميع علماء المسلمين بل و غيرهم فقد تحدى الناس في التوحيد الفعلي قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت، الآية: 53]، و قال تعالى: أَ فِي اَللّهِ شَكٌّ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة إبراهيم، الآية: 10]، و قال جل شأنه: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الحشر، الآية: 59]، و قال تعالى: اَللّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ [سورة الزمر، الآية: 62] إلى غير ذلك من الآيات المباركة التي يستدل بها من المجعول لإثبات الجاعل، و ليس في البراهين التي أقامها الفلاسفة أظهر و أبين و أتم من هذا البرهان المسمى عندهم ب (البرهان اللمّي) أي العلم من المعلول بالعلة فهو معجزة في إثبات التوحيد الفعلي.

كما أنه معجزة في التوحيد الذاتي الذي هو من أهم مقاصد الفلاسفة و قد كتبوا في ذلك كتبا، و صنفوا رسائل و لم يأتوا في ذلك شيئا جديدا و ما ذكروه إنما أخذوه من القرآن الكريم، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ اَلسَّماءِ فَتَخْطَفُهُ اَلطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ اَلرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ [سورة الحج، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما توحيد صفاته فقد تعرض الفلاسفة و العرفاء له أيضا و جميعهم اقتبسوا من نور هذا الكتاب العظيم قال تعالى: قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [سورة يوسف، الآية: 30] بناء على ما ثبت في محله من أن الذات ذات جامع لجميع صفات الكمال فنفي الهوية عما سواه إثبات لحصر جميع صفات الكمال بالنسبة إليه، و سيأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 120

و أما المعاد و خصوصيات الحشر و النشر فيغنيك مراجعة الآيات المباركة الواردة فيهما عن تفصيل البيان في ذلك.

و أما النبوءات السماوية فقد ذكرت فيه بجميع جوانبها من معجزاتهم و قصصهم و كيفية معاشرة أممهم معهم. إلى غير ذلك من المعارف التي تأتي الإشارة إليها، و لا مجال للتعرض لجميعها في المقام.

إعجاز القرآن في تشريع الأحكام:

مما تحدّى به القرآن الكريم هو تشريعه للأحكام المدنية النظامية الفردية و الاجتماعية التي لم تكن أفهام البشر تصل الى ما وصل إليه القرآن في ذلك و ان طال عليه الزمن و تأتي أهمية هذه القوانين المجعولة وفاؤها لجميع حاجات الإنسان و شمولها لكل جوانب الحياة و عدم تغييرها و تبديلها.

و القول بأنّ حاجات الإنسان تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار فلا بد أن تكون القوانين المجعولة التشريعية تختلف و تتغير فلا موضوع للتحدي في ما يتغير و يتبدل. (مردود): بأنّ التغير و التبدل ليس في الكليات و أصل القوانين، كوجوب عبادة اللّه تعالى، و حرمة أكل مال الغير، و وجوب رد الأمانة، و حرمة الخيانة و غير ذلك من أصول القوانين التشريعية التي ضبطها الفقهاء في الكتب الفقهية، و لكن الجزئيات قد تختلف حسب اختلاف الحالات و الخصوصيات و هو مما لا بد منه في جعل القوانين فأصل القوانين التشريعية المجعولة من اللّه تعالى يكون مثل القوانين المسلّمة العقلية كحسن الإحسان، و قبح الظلم و نظائر ذلك مما لا يتغير و لا يتبدل.

إعجاز القرآن في العلوم:

يشتمل القرآن الكريم على كثير من العلوم التي تكون في طريق استكمال الإنسان - الفردية و النوعية - قال تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام الآية: 59] فهو يحتوي من المعارف أجلاها و أرقاها، و من العلوم العملية أتقنها و أسناها، و من تشريع القوانين أرفعها و أدقها سواء أ كان في

ص: 121

العلوم الاجتماعية أم الاقتصادية و الإنسانية و مطلق العلوم التكاملية. و كيف لا يكون كذلك فإن علم القرآن بجميع جهاته ينتهي إلى علمه تعالى و هو راجع الى ذاته الأقدس غير المتناهية من كل جهة، فمن تصور القرآن بهذا النحو من التصور يجزي نفس تصوره عن التحدي بالنسبة إليه فهذا الموضوع من الموضوعات التي يكفي الالتفات في الجملة لمقام ثبوته عن إقامة الدليل على إثباته، و سيأتي تفصيل المقال في مبحث علمه تعالى إن شاء اللّه تعالى.

إن قلت: إنّ جملة كثيرة من العلوم و الاكتشافات العصرية مما لم يشر إليها في القرآن العظيم مع أنها من أهم مفاخر الإنسان (فإنّه يقال): إن الذكر و الإشارة أعم من أن يكون على نحو الكلية و الإجمال أو الجزئية و التفصيل، و جميع ذلك مما اكتشف مذكور في القرآن بنحو الكلية و إن لم يلتفت إليها إلاّ بعد مدة و إن كان العلم بها مخزونا عند أهله. فيستفاد الحركة الجوهرية - التي اكتشفوها - من قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ اَلسَّحابِ صُنْعَ اَللّهِ اَلَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة النمل، الآية: 88]. كما أنهم اكتشفوا التلقيح بالرياح، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]. و اكتشاف حركة الأرض من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ مَهْداً [سورة طه، الآية: 53] و وجود موجودات في السماء من قوله تعالى: وَ اَلسَّماءَ بِناءً [سورة البقرة، الآية: 22] إلى غير ذلك من العلوم مما لا يسع المقام ذكرها.

إعجاز القرآن في العلم بالغيب:

يحتوي القرآن الكريم على كثير من علوم الغيب فهو المخبر عما جرى على الأمم الماضية في عالم الفناء بأصدق بيان قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: 102] كما أخبر عن أمور لم تكن في عصر التنزيل و ما يحدث في عالم الدنيا، و يخبر أيضا عما يجري و يحدث في عالم البقاء، لأنه من مظاهر علمه تعالى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات و الأرض. فالقرآن من الغيب، لأنه من اللّه عزّ و جل

ص: 122

العالم غيب السموات. و للغيب، لأنه يدعو النّاس إلى الغيب. و في الغيب، لأن حقائقه غائبة عن الإدراكات و إن أحاطت بظواهرها عقولهم و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة أيضا إن شاء اللّه تعالى.

إعجاز القرآن ببلاغته و فصاحته:

قد ثبت أن العرب في عصر نزول القرآن و لا سيما في مهبط الوحي كانوا أفصح النّاس بحيث لا يدانيهم في ذلك قوم و لا يقربهم في هذه الخصلة رهط، و كان ذلك من أهم مفاخرهم، و أشرف مآثرهم و كانت محافلهم تعج بالخطباء و الشعراء، و تعقد الأسواق لذلك، و قد ضبطت الكتب فروع كلماتهم و دقائق جملاتهم و مع ذلك لم ينقل إلينا إلاّ شيء قليل، و كل من تأمل في هذه اللغة و رأى فيها من الأسرار و الدقائق و ما عليها من الجمال و البهاء يعترف بالعجز و التحير، و حينئذ لا بد و أن تكون هذه الصفة - أي صفة البلاغة و الفصاحة - التي كانت شايعة في مهبط التنزيل أقصى هدف سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) في إعجاز ما ينزل من اللّه تعالى إذ لم يكن تحدي كل نبي إلاّ بما تميز به قومه، فنزل القرآن متحديا لهم ببلاغته و فصاحته و أمرهم بالإتيان بمثله أو بسورة من مثله فعجزوا عن ذلك و اعترفوا بالقصور. و قد نقل أنهم لما سمعوا قوله تعالى: وَ قِيلَ يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ اَلْماءُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ اِسْتَوَتْ عَلَى اَلْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة هود، الآية: 44] أخذتهم الدهشة و التحير و أمروا بإنزال ما علق على الكعبة المشرفة من القصايد و الأشعار.

و ربما يقال: إنّ البلاغة و الفصاحة كالجمال و الملاحة من الغرائز الطبيعية فهي خارجة في الجملة عن الإختيار فلا وجه للتحدي بما هو خارج عنه.

و لكنه فاسد أولا: بأنه يصح التحدي بالنسبة إلى من كانت الفصاحة و البلاغة من غريزته، و مع ذلك إذا اعترف بالعجز كان بالنسبة إلى المطلوب أتم و أعظم. و ثانيا: إنّها و إن كانت من الغرائز في الجملة و لكن للاختيار في أصلها و سائر جهاتها دخل بالوجدان كما هو واضح لا يحتاج الى البيان.

ص: 123

إعجاز القرآن بعدم الاختلاف فيه:

قال تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء، الآية: 82] و في سياقه آيات كثيرة تدل على أنه محفوظ و انه في كتاب مكنون. لم يسلم كتاب من وجود الاختلاف فيه فربما يكون واضحا و قد يكون خفيا لا يدركه إلاّ من كان له حظ من العلم إلاّ أن القرآن الكريم سلم من وجود الاختلاف فيه و الآيات الشريفة تشير إلى برهان قويم و هو أنه قد ثبت بالأدلة العقلية و النقلية أن اللّه تعالى واحد ذاتا و صفة و فعلا فالوحدة الحقة الحقيقية تامة بالنسبة إليه عزّ و جل، و كلامه واحد من عند واحد لأن عالم المعنى و الحقيقة لا تكثر فيه و التكثر إنما يكون في المضاف إليه دون المضاف، بل لا تكثر في ذات الإضافة أيضا و قد يقرب ذلك بالتمثيل بالشمس في مرتبة الإشراق و الإشعاع فيكون المستشرق متعددا لا الإشراق الفعلي الإضافي. فالاختلاف في عالم الحقيقة - و لا سيما الحقيقة الحقة الواقعية - خلف، لفرض الوحدة في جميع جهاته، و كلامه عزّ و جل من فعله و فعله واحد كوحدة ذاته، إذ لا حول و لا قوة إلاّ باللّه العظيم كما اثبتوا ذلك بالبراهين العقلية.

هذا مضافا إلى أنّ كلامه نزل على الفطرة المستقيمة و الفطرة واحدة، فالقرآن واحد لا اختلاف فيه، هذا بالنسبة إليه عزّ و جل. و أما بالنسبة إلى غيره فليس فيه إلاّ مثار الكثرة، و منشأ التغير و الاختلاف فيكون فرض الوحدة فيه خلفا.

ثم إنّه قد يعترض أحد بأنّ النسخ الواقع في القرآن، و ما أخذه جمع من متناقضات القرآن هو من الاختلاف فيه.

و لكن نجيب عنه: بأنّ النسخ ليس من الاختلاف بشيء بل هو من شؤون جعل القانون و حدوده، لأنّ جعل القانون و تشريع الأحكام إنما يكون على طبق المصالح و المقتضيات و هي تختلف في نشأة الكون و الفساد، و ليس النسخ إلاّ هذا، على ما يأتي تفصيله.

و أما أخذ المتناقضات فلأنّها إنّما كانت حسب و هم نفس الآخذين لها

ص: 124

و إدراكهم الناقص و ليس من النقض الواقعي على القرآن، كما هو واضح، فإذا راجعنا ما ذكروه نرى أنّ ما يتخيلونه نقضا إما أن يكون بين عام و خاص، أو مطلق و مقيد، أو بين أمرين مختلفين زمانا أو مكانا و غير ذلك مما لا يعد من التناقض و الاختلاف. هذا بعض ما يتعلق بالتحدي و لو أردنا بيان التمام لطال الكلام، و يأتي جملة ما يتعلق به في الآيات المباركة المناسبة لها.

وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقا

اشارة

وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25) من سنته تعالى أنه في كتابه الكريم يقرن بين الترهيب و الترغيب فكلما يذكر شيئا من مظاهر غضبه يعقبه بشيء من موجبات رحمته، إتماما للحجة و لئلا ييأس من رحمته أحد و كلما يذكر شيئا من جهات رحمته قفاه بشيء من موجبات غضبه لئلا يتكل على عمله أحد، و لذا بعد أن ذكر الكفار و المنافقين، و ما أعد لهم من العقاب أردفه ببشارة المؤمنين و ما وعد لهم من النعيم.

التفسير

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ . البشارة هي الإخبار بما يوجب ظهور آثار السرور في بشرة المخبر و قد تستعمل في الإخبار بالشر أيضا توبيخا و تعييرا كما في قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 21]. و تقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة.

ص: 125

و العمل الصالح من الواضحات عند الناس مفهوما و مصداقا و هو كل ما يحبه اللّه و يرتضيه، و قد ذكر سبحانه جملة من مصاديقه في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177] و نحو ذلك من الآيات المباركة.

قوله تعالى: أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ . مادة (ج ن ن) تأتي بمعنى الستر. و الجنات جمع جنّة و هي البستان الملتف بالأشجار التي فيها أنواع الفواكه و الثمار المستترة بالأشجار و المراد بها في القرآن الكريم نعيم الآخرة من باب إطلاق الخاص على العام إما لكماله من جميع الجهات، أو لعدم الاعتناء بالفاني مع التوجه إلى الباقي.

و ما عن بعض اللغويين من أنّ البستان إذا كان فيه الكرم يسمى بالفردوس و إن كان فيه النخيل يسمى جنة. فإن أراد أنه مجرد اصطلاح طائفة خاصة في عصر مخصوص فلا بأس به. و إن أراد التخصيص في أصل المعنى و الذات فلا دليل عليه، مع أنه ورد في القرآن الكريم ما يخالفه قال تعالى: وَ جَنّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ [سورة الأنعام، الآية: 99] و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [سورة الكهف، الآية: 107] و السياق في الجميع واحد.

ثم إنه ورد لفظ الجنّة و الجنّات كثيرا في القرآن الكريم بأنحاء الاستعمالات المشعرة باعتنائه تعالى بها اعتناء بليغا، و لا بد أن يكون كذلك، لأنّها نعيم أبدي لا يزول و أنّها دار الأبرار و المتقين و هي عوض ما اشتراه اللّه تعالى من المؤمنين فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] و كلما كان المعوض أعلى و أغلى يكون للعوض المكانة العليا.

قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ . تستعمل هذه الجملة في القرآن الكريم مع لفظ الجنات غالبا و تشتمل جميع الأقسام التي يمكن تصويرها في جريان الماء و نبوعه تحت أظلال الأشجار المطابق للأذواق الحسنة المتعارفة بين الناس التي يمتدحونها و يهتمون بها في تزيين جناتهم الدنيوية. و قد نظم ذلك الشعراء بوجوه من النظم في مدح تلك الجنان، و لم يبين سبحانه خصوصيات الجريان تعميما لجميع مراتب الحسن و الكمال.

ص: 126

قوله تعالى: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً . يحتمل أن يجعل الظرف الأخير في الآخرة: أي، كلما انتفعوا من ثمارها قالوا هذا ما رزقنا قبل ذلك من ثمار الآخرة فإنها تكون بحيث كلما يقتطف منها ثمرة يعود مكانها مثلها.

و يحتمل أن يجعل الظرف في الدنيا فإنّ ثمار الدارين متحدتان اسما و جنسا و نوعا، و لكنهما مختلفتان في اللطافة و الذوق و الالتذاذ و نحوها.

و يحتمل أن يراد من الرزق الثاني هو نفس الأعمال الصالحة التي هي بمنزلة البذور لثمار الجنة فيكون المراد إن ثمار الجنة لنا من جزاء أعمالنا، و منه يظهر وجه قوله تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً لوجود التشابه بين ما ينتفعون به فعلا و بين جميع الاحتمالات التي تعرضنا لها في الجملة، فالمراد بالتشابه المعنى الأعم الشامل، و يشهد للتشابه في الجملة

قول الصادق (عليه السّلام): «كل ما في الدنيا فسماعه أعظم من عيانه و كل ما في الآخرة فعيانه أعظم من سماعه» حيث أثبت (عليه السّلام) الاتحاد من جهة و الاختلاف من أخرى، و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، فإن من المشتهيات ما اشتهوه في الدنيا و تلذذوا به، و كذا ظاهر كثير من الآيات التي تعد نعم الجنّة بالأسماء المستعملة المأنوسة.

و أما ما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه قال: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر» و غيره مما في سياق ذلك. فلا ينفي ما ذكر في سائر الآيات و الروايات، لأنها نعم أخرى إما جسمانية ليس في الدنيا لها اسم و لا رسم، أو من النعم المعنوية التي لا موضوع لها في الدنيا.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ . الأزواج جمع زوج بمعنى القرين، و يطلق على كل واحد من الذكر و الأنثى، و قد يطلق على الأخيرة الزوجة. و المعنى أن لهم أزواجا مطهرات غاية التطهير، لأن حذف المتعلق يفيد العموم فهنّ مطهرات من جميع الأقذار الخلقية - كالحيض

ص: 127

و النفاس - و الخلقية كالمكر، و سائر مساوئ الأخلاق و مستكملات بكل المحامد الجسمانية و النفسانية، و ما ورد في بعض الأخبار أنهنّ مطهرات من الحيض و النفاس إنما هو بيان لبعض المصاديق.

قوله تعالى: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ . سيأتي معنى الخلود في قوله تعالى:

خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ [سورة هود، الآية: 108].

بحث دلالي:

ذكر سبحانه في هذه الآية الارتزاق الفردي أولا، ثم أوكل معرفة ذلك الرزق إلى نفس المنتفعين منه ثانيا في قوله تعالى: هذَا اَلَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ، ثم ذكر الأزواج و الاجتماع الجنسي ثالثا و إنما أخره عن الرزق، لتقدمه على الاجتماع الجنسي تكوينا. و حصر موارد الارتزاق في الثمرات رابعا لجريان نظام التكوين عليها في النشأتين. فهو سبحانه قد بين؛ كما أن بقاء الإنسان في هذا العالم بالارتزاق كذلك له دخل في تلك النشأة أيضا و لكن لا يعلم أنه دخل بقائي - كما في هذا العالم - أو دخل تلذذي و البقاء مستند إلى شيء آخر.

إلاّ أن يقال: إنّه لا وجه لاستناد البقاء في الآخرة إلى الارتزاق، لأن الارتزاق من الثمرات في الدنيا إنما هو لأجل الحركة و تحلل قوى الإنسان، و ليس الأمر كذلك في الآخرة.

و لكن يمكن الجواب عنه: بأنه لا وجه لنفي الحركة عن أهل الجنّة و النار لأن بعض لوازم الجسم لا تتغير في جميع النشآت و المفروض ان المعاد جسماني، كما يأتي و حينئذ يثبت التحلل لهم، لأنه من لوازم الحركة. نعم ليس لهم فضلات الجسم كالعرق و البول و نحوهما. بل ليس كل تغذية تكون لأجل التحلل كتغذية الجنين في الرحم.

ثم إنّه تعالى ذكر الجنّات بلفظ الجمع و يحتمل فيه وجهان:

الأول: أن يكون لكل واحد منهم جنات.

ص: 128

الثاني: أن يكون لكل واحد منهم جنّة فيصير المجموع جنّات و سياق الآيات و العناية الإلهية تقتضي الأول، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن الصادق (عليه السّلام) في قوله عزّ و جل: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ : «الأزواج المطهرة اللاتي لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: تقدم أنه من باب التطبيق.

كما أن ما ورد عن ابن عباس أن قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ إلى آخر الآية المباركة - نزل في علي (عليه السّلام)، و حمزة، و جعفر، و عبيدة بن الحارث بن عبد المطلب - من باب التطبيق لا التخصيص، كما تقدم منا مكررا.

إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اَللّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ (26) اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (27) بعد أن فرغ سبحانه و تعالى من ذكر بعض أحوال المؤمنين و الكفار و المنافقين، و بيان المثل للأخير ذكر تعالى وجه ضرب المثل لنفسه و بيان الحكمة في ضرب الأمثال، و أكد ذلك اهتماما منه تعالى للأمثال لكونها أوقع في النفوس كما مر.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها . الحياء: هو انقباض النفس عن الشيء و انزجارها عنه خوفا من اللوم، و يلازمه ترك ذلك الشيء هذا في الإنسان.

ص: 129

و أما إذا أطلق عليه سبحانه فالمراد به نفس الغاية و هي الترك. فقوله تعالى: لا يَسْتَحْيِي أي لا يترك و لا يدع - و كذا الكلام في جميع الصّفات التي يلزم من إطلاقها عليه تبارك و تعالى النقص. فيكون استعماله في المعنى الحقيقي لكن بداعي الترك، و لا محذور من جعل الاختلاف في الداعي، لا في ذات المعنى المستعمل فيه اللفظ.

و يفترق الحياء عن الخجل بأن الثاني من عوارض الجسم الإنساني بخلاف الأول فإنه من صفات الروح، و لذا عد الحياء من جنود العقل في جملة من الأخبار، و هناك فروق أخرى مذكورة في علم الأخلاق.

و الضرب: يستعمل في معان كثيرة. و المراد به هنا التوصيف و التبيين فضرب الأمثال: توصيفها و بيانها.

و «ما» للإبهام و التنكير، و ما فوق البعوضة هو ما دونها في الصغر و الحقارة. و يقال: إن البعوضة أصغر الحيوانات و حياتها في جوعها فإذا شبعت ماتت، و لكن قد أثبت العلم الحديث أصغر منها.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى لا يترك و لا يرى من النقص ضرب المثل بالبعوضة فما فوقها، و إنّما لا يستحي عن ذلك، للأدلة العقلية الدالة على أنّ كلام الحكيم موافق للحكمة، سواء أ كان كلامه في الشيء الجليل العظيم أم الحقير اليسير أم في ما هو خارج عن عالم الممكنات و حيث إنّ القرآن نزل ليستفيد منه عامة النّاس فلا بد و أن يقترن بالأمثال جريا على طريقتهم لتأنس بها النفس، و تتم بها الحجة عليهم. و قد تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً [سورة البقرة، الآية 17].

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ . هذا من باب ذكر العلة و المعلول مشعرا بالمدح و الثناء، لأن علة قولهم «إنه الحق من ربهم» إنما هو إيمانهم الذي معهم و اعتقادهم بكلامه تعالى، و أنه الحق من ربهم و لم يضرب الأمثال إلاّ لحكم و مصالح فلا ينظرون إلى المثل و الممثل به في الصغر و الكبر و الضعف و القوة بل ينظرون إلى الممثل (بالكسر) نظرة الحق و العظمة و الجلال، و أن كل مثال صغيرا أو كبيرا هو مثال الحق في الحكمة

ص: 130

و الموعظة فلا يمكن أن يكون صغيرا أو حقيرا و إن كان الممثل به كذلك في بعض الجهات.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اَللّهُ بِهذا مَثَلاً . لأنّهم نظروا إلى نفس الممثل به و لا يلتفتون إلى عظمة الممثل [بالكسر] و لا إلى أهمية ما مثّل لأجله، لجهلهم و عنادهم فأعرضوا عن الحجة كما هو الحال في اختيارهم أصل الكفر و الضلال.

قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً . يصح أن تكون هذه الجملة مقولة من الكفار تعييرا و توبيخا للمثال، كما يصح أن يكون من قول اللّه عزّ و جل أجاب به عن سؤالهم، و على أي تقدير فالسبب في هذا القول هم الكفار، لأنهم بإنكارهم للإيمان و جهلهم للحقائق حصل لهم الريب بكل ما أنزل اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ . الفسق بمعنى الخروج، و تختلف مشتقاته باختلاف موارد استعمالاته، و فسق الإنسان خروجه عن طاعة اللّه تعالى اعتقادا، أو عملا؛ لكبيرة أو صغيرة فهو يشمل الجميع بجامع الخروج عن الطاعة.

و عن بعض اللغويين أنه لم يستعمل الفاسق وصفا في كلام العرب إلاّ في القرآن الكريم. و فيه بحث، هذا بحسب اللغة. و أما في اصطلاح الكتاب و السنة فيستعمل الفاسق في مقابل العادل.

و المعنى: أنّ علة إضلالهم هي الخروج عن طاعة اللّه تعالى؛ وصولا من مرتبة الاقتضاء الى مرتبة الفعلية بما يعرض على الإنسان فيظهر منه الغي و الضلال أو الحق و السداد، و منه يظهر الوجه في التعبير بقوله تعالى: يُضِلُّ ليبين أن ذلك أمر مركوز فيهم، و راسخ في نفوسهم. ثم إنّ هذه الآية تشتمل على أمور:

الأول: إنما قدم سبحانه الضلالة على الهداية مع تقدم الثانية على الأولى بكل جهات التقدم، لأن سببها متقدم، و هو اقتضاء ذاتهم، و كل من تقتضي ذاته شيئا يبادر به بين الأنام، و يظهر أثره في الكلام فجيء بالأمثال

ص: 131

لإخراجهم من ظلمات الضلال الى نور الهداية و الإيمان.

الثاني: قد ذكر سبحانه لفظ الكثرة في الفريقين، مشعرا بأنّ المهتدين كالضالين في الكثرة، مع أنّ الطائفة الأولى هم الأقلون عددا. و الوجه في ذلك أن القلة و الكثرة إضافية فتصح الكثرة بالنسبة إلى ملاحظة شيء، و القلة بالنسبة إلى شيء آخر، فالمهتدون و إن قلوا عددا لكنهم أكثر نفعا و أجل فائدة.

الثالث: أثبتت الآية المباركة أنّ وراء الضلالة و الهداية الاقتضائية في الذات هداية و ضلالة تحدثان بحدوث ما يطرأ من الأسباب و تتجددان بذلك، و لذا قالوا: إنّ الضلال و الهداية يتجددان بتجدد الأسباب و الزمان.

بحث كلامي:
اشارة

هذه الآية الشريفة مفتتح آيات الكتاب العزيز في الجبر و التفويض فلا بد من البحث فيهما ليمكن إرجاع سائر المواطن اليه. فنقول و من اللّه الاستعانة و الاستمداد:

إنّ شبهة الجبر و التفويض لم تكن حادثة في الإسلام و إنّما هي قديمة بقدم الإنسان و ترجع الى أوائل الخلقة، كما يظهر من مخاصمة إبليس مع اللّه تعالى، فكل من يعتقد بمبدإ غيبي مؤثر في العالم يمكن أن تتولد فيه هذه الشبهة،

و قد قال علي (عليه السّلام): «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم». و فسخ العزيمة إنّما وقع من عهد أبينا آدم (عليه السلام) فأصل الشبهة من ذلك الحين و إنما تطورت بمرور الزمن فدخلت آراء و شبهات أخرى و بلغت حدا بعيدا من البحث حتّى أفردت لها كتب و رسائل.

و كيف كان فالأفعال الاختيارية الصادرة من الإنسان يحتمل فيها وجوه:

الأول: أنّها صادرة بإرادة اللّه تعالى و اختياره فقط و ان العبد بمنزلة الآلة الجمادية و أن الإنسان و فعله مخلوقان للّه تعالى و هذا هو الجبر.

الثاني: أنّها صادرة من العبد و باختياره فقط، و لا دخل فيها للّه تبارك و تعالى، و هذا هو التفويض.

الثالث: الأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين فيكون لكل واحد

ص: 132

منهما دخل بنحو الاقتضاء لا العلية التامة، و هذا هو الحق الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم السلام) ردا على المذهبين السابقين، فإنّ الأول منهما خلاف الأدلة العقلية و النقلية بل الوجدان، و الثاني يلزم منه التعطيل، كما ستعرف ذلك فيما سيأتي من التفصيل، و البحث تارة يقع في الجبر و التفويض، و أخرى في الأمر بين الأمرين:

الجبر:

مذاهب الجبر ثلاثة: منها: مذهب الأشاعرة، و هو نفي الإرادة عن العبد مطلقا و انحصارها في اللّه تعالى، و أن العبد بالنسبة إليه كالقلم في يد الكاتب فيكون نسبة الفعل إلى اللّه بالحقيقة و الى العبد بالمجاز.

و منها: ما ذهب اليه جمع من القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة فلا اثنينية بين الخالق و العبد حتّى تكون فيه الإرادة و الإختيار، و سيأتي بطلان القول بوحدة الوجود، بل الوحدة المطلقة، بل الالتزام بلوازمه يوجب الكفر.

و منها: ما ذهب اليه بعض: من أن علم اللّه تعالى علة تامة لحصول معلوماته، و فعل العبد معلوم له تعالى فلا أثر لاختيار العبد و ارادته في فعله أصلا.

و قد استدل القائلون بأنّ الأفعال مخلوقة للّه تعالى بالأدلة العقلية و النقلية، أما الأدلة العقلية فاستدلوا بأمور:

الأول: أن فعل العبد مقدور للّه تعالى، لأنه من جملة الممكنات التي هي منه تعالى، و حينئذ لو وقع بقدرة العبد وحده لزم تعطيل قدرته تعالى، و إن وقع بقدرتهما معا لزم اجتماع قدرتين مؤثرتين على مقدور واحد.

و الجواب: أن ليس كل مقدور له تعالى هو من فعله المباشري فمجرد كون فعل العبد مقدورا له تعالى لا يستلزم أن يكون من فعله أيضا.

الثاني: إن جميع ما سواه مورد إرادته تعالى الأزلية الأبدية و ان إرادته عين ذاته و هي العلة التامة لتحقق المعلول فلا أثر لإرادة العبد في فعله.

و الجواب: أن ذلك مبني على جعل الإرادة من صفات الذات، لكن

ص: 133

الحق أنها من صفات الفعل فتكون حادثة بحدوثه، بل إرادته عين فعله، كما في الروايات. و سيأتي تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: أن العلم الإلهي متعلق بجميع ما سواه من الممكنات و منها أفعال العباد سواء منها في الدنيا أم في الآخرة الذي لا انتهاء لأفعاله و علمه سبب تام لحصول المعلوم.

و الجواب: إن العلم من مقدمات حصول الإرادة المتقدمة على الفعل و ليس سببا تاما لحصول المعلوم بوجه من الوجوه بل علمه تعالى تعلق بأفعال العباد من حيث أنها مختارة لا ان يتعلق العلم بأحد طرفي الاختيار فقط.

ثم إن أسباب الفعل هي: العلم، و المشيئة، و الإرادة، و القدرة و القضاء، و الإمضاء و نحوها. و هي جارية في كل فعل صادر من كل عالم قادر سواء أ كان هو اللّه تعالى أم العبد. و الفرق بين المشيئة و الإرادة بالكلية و الجزئية، و كل ذلك من المقتضيات و ليست من العلة التامة في شيء، و هذه كلها في العبد تكون تارة التفاتية تفصيلية، و أخرى على نحو الإجمال و الارتكاز و هو الغالب، و سيأتي تفصيل هذا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

أما الأدلة النقلية فقد استدلوا بظواهر من الآيات المباركة تؤيد مذهبهم، منها قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ [سورة الصافات، الآية: 96]، و قوله تعالى: فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة إبراهيم، الآية:

4]، و قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية:

17] و أمثال ذلك من الآيات.

و يناقش فيها بوجهين:

الأول: أنها معارضة بآيات أخرى أكثر عددا و أصرح دلالة على اختيار الإنسان في أفعاله كما ستعرف.

الثاني: أن سياق تلك الآيات و القرائن المحيطة بها تدل على أن المراد منها غير ما ذهبوا اليه فنفي الرمي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الآية السابقة - مثلا - إنما هو بالنسبة إلى الأثر الخارق للعادة، لا بالنسبة إلى الفعل

ص: 134

المباشري الصادر منه (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الروائي ما يفيد المقام.

و مجمل القول في الجبر و مذاهبه أنه لم يصادم العقل و النقل فقط، بل هو مستلزم لنفي الحسن و القبح العقلي المتفق عليهما بين العقلاء. كما أنه يلزم منه نفي الثواب و العقاب الثابتين في جميع الشرائع الإلهية بل يلزم منه تجويز الظلم و الجور على اللّه تعالى إلى غير ذلك من المفاسد.

و لو لا ظهور بعض كلمات القوم في التعميم لأمكن حمل بعضها على ما لا دخل للاختيار فيه - كالعزة و الذلة، و الغنى و الفقر. و لأمكن حمل الجبر في قولهم على الجبر الاقتضائي، يعني أنّ مقتضى الإرادة القاهرة الأزلية الإلهية أن لا تكون في البين إرادة غيرها، و لكنه تبارك و تعالى جعل للإنسان بل لمطلق الحيوان إرادة في الجملة لمصالح كثيرة، فالجبر الاقتضائي لا ينافي الإختيار الفعلي من العبد.

التفويض:

قد عرفت أن المراد من التفويض المنسوب الى المعتزلة هو كون الأفعال مختارة باختيار العباد بلا دخل لاختياره تعالى و أنها تنسب إلى العباد بالحقيقة و إلى اللّه تعالى بالمجاز و أنه لا تكون أفعال العباد مورد إرادة اللّه تعالى.

و استدلوا على ذلك بأنه إذا لم يكن الإنسان موجدا لأفعاله لا يصح تكليف العباد و لا المدح و الذم و لبطل الثواب و العقاب، و للزم منه الجبر، مع أنه لا يصح أن تكون السيئات و الأفعال القبيحة موردا لإرادته تعالى.

و الجواب عن ذلك يظهر من بيان الأمر بين الأمرين.

و قد احتجوا ببعض الآيات الكريمة، فإن قسما منها تدل على كون الإنسان هو الفاعل لأعماله كقوله تعالى: كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ

ص: 135

[سورة الطور، الآية: 21]. و قسما منها تدل على أن المطيع يثاب على أعماله الحسنة و المسيء يعاقب بمعاصيه، قال تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ [سورة غافر، الآية: 17]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 28]، و قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها [سورة الأنعام، الآية: 160]. و قسما منها تدل على أنه مختار في أفعاله قال تعالى: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف، الآية: 29]. و قسما منها تدل على اعتراف الإنسان بصدور المعاصي منه في الآخرة، قال تعالى: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ إِنَّ اَللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ اَلْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 22] إلى غير ذلك من الآيات الدالة منطوقا أو مفهوما على أن الإنسان خالف لأفعاله و أنه المسؤول عنها.

و الجواب عن ذلك أنّ أقصى ما يستفاد منها أن الإنسان هو الفاعل و عنه يصدر جميع أعماله و أما أنه ليس لإرادته تعالى و قدره و قضائه دخل فيها فلا يستفاد منها، فهي من هذه الجهة معارضة بالآيات الدالة على أنها من اللّه عزّ و جل قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ [سورة النساء، الآية: 78]. و الآيات الدالة على طلب الاستعانة منه تعالى نحو قوله تعالى: إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الحمد، الآية: 4].

و لما ورد عن المعصومين (عليهم السلام) من قول: «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»، فإن الجميع ظاهر في صحة نسبة أعمال العباد إلى اللّه تعالى، إما بنحو القضاء كما في السيئات، أو هو و الرضاء معا. كما في الحسنات. و قضاؤه و رضاه ليسا من العلة التامة.

و بالجملة: إنّ الآيات و الروايات لا يمكن أن يستفاد منها التفويض الكلي للعباد المقابل للجبر، و يمكن حمل كلامهم على التفويض الاقتضائي بأن يقال: إنّ نهاية استغنائه تعالى عن خلقه يقتضي إيكال الإرادة إلى العباد

ص: 136

بعد بيان طريق الحق و الباطل، و إتمام الحجة عليهم و لكنه لم يفعل لمصالح كثيرة، بل جعل إرادته مسيطرة على إرادة عباده لا على نحو يلزم منه الجبر، و هذا هو ما يظهر من بيان الأمر بين الأمرين، كما سيأتي.

الأمر بين الأمرين:

مما تفردت به الإمامية عن سائر الفرق القول بالأمر بين الأمرين و المنزلة بين المنزلتين

فقد ورد عن الأئمة الهداة (سلام اللّه عليهم) أنه «لا جبر و لا تفويض، بل أمر بين أمرين» و هو الحق المطابق للوجدان و البرهان.

و المراد ب (الأمر بين الأمرين) أن اللّه تبارك و تعالى أودع القدرة في عباده و بها بعد وجود الدواعي يصدر الفعل من الفاعل و ينسب الفعل إليه مباشرة، فهو غير مجبور، لتعلق قدرته بطرفي الفعل معا. هذا هو المعنى المستفاد من الأخبار الواردة في (الأمر بين الأمرين)، و لا بد من توضيح ذلك بشيء من التفصيل.

بيان ذلك: إنّ أفعال العباد منحصرة في ثلاثة أقسام: فهي إما من الحسنات، أو من السيئات، أو من المباحات. و لا ريب في أن الأمر بين الأمرين متقوم بالانتساب اليه تعالى، و الى العباد انتسابا يحكم بصحته العقلاء، و من رضائه تعالى بالحسنات و ترغيبه إليها و التأكيد في إتيانها و الثواب عليها أو العقاب على الترك في بعضها يصح الانتساب إليه تعالى، و يسمى ذلك بالانتساب الاقتضائي لا يبلغ حد الإلجاء و الاضطرار. و من إذنه تعالى في المباحات و ترخيصه لها صح انتسابه اليه تعالى اقتضاء كما هو الحال في الحسنات، فتحقق بالنسبة إلى الحسنات و المباحات رضاؤه و قضاؤه تعالى إليها.

و من خلقه تعالى للنفس الأمارة و الشيطان صح نسبة السيئات اليه تعالى، لا بمعنى رضائه بها و ترغيبه إليها فيصح نسبة الخلق التسبيبي إليه تعالى في السيئات، و يجري هذا الوجه في الحسنات و المباحات فإن هذه النسبة توجد في الجميع.

ص: 137

و أما نسبة الفعل إلى الفاعل فإنّ اللّه تعالى خلق الذات المختارة القادرة على السيئات مثلا مع نهيه تعالى و إظهار سخطه و توعيده عليها و قد فعلها العبد بسوء اختياره، فينسب إليه الفعل مباشرة كما أن منشأ النسبة إليه تعالى أنه خلق الذات القادرة المختارة مع إبلاغ النهي و التوعيد، و قد علم بها و قضاها على نحو الاقتضاء لا قضاء الحتم و لا منقصة في هذا القسم من النسبة أبدا، و لعل هذا أحد معاني قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

و بعبارة أخرى: إنّ في الحسنات و المباحات تتعدد جهة الانتساب اليه تعالى من الرضاء و القضاء، و الاذن و الترغيب، أو خلق الذات القادرة المختارة، و في السيئات منحصرة بخصوص الأخيرة و القضاء الاقتضائي مع النهي و التوعيد، كل ذلك موافق لقانون العقل و العدل. و من ذلك يعلم أن الهداية و الضلالة، بل السعادة و الشقاوة ليستا من ذاتيات العبد بحيث لا اختيار له فيها، و لا من لوازم الذات كلزوم الزوجية للأربعة و إلاّ لما كانت قابلة للتغيير و التبديل، و لبطل التكليف و الثواب و العقاب و نحو ذلك من المحاذير، بل هي من قبيل الأعراض الخارجية القابلة للزوال و التغيير و التي للاختيار فيها دخل مع توفيق و هداية منه تبارك و تعالى.

و مما ذكرناه يجاب عن شبهات القوم، و يرفع التعارض بين الآيات و الروايات، و لعلماء الإمامية في تفسير الأمر بين الأمرين وجوه أخرى فراجع، و سيأتي في البحث الآتي مزيد بيان.

بحث روائي:

عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام) قالا: «إن اللّه أرحم بخلقه من أن يجبر خلقه على الذنوب ثم يعذبهم عليها. و اللّه أعزّ من أن يريد أمرا فلا يكون».

و سئلا (عليهما السلام) «هل بين الجبر و القدر منزلة ثالثة؟ قالا: نعم أوسع مما بين السماء و الأرض».

ص: 138

و عن الوشا قال: «سألت الرضا (عليه السّلام) اللّه فوض الأمر إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): اللّه اعزّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي؟ قال: اللّه أعدل و أحكم من ذلك، ثم قال (عليه السّلام) قال اللّه تعالى: يا ابن آدم أنا أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني عملت المعاصي بقوتي التي جعلتها فيك».

أقول: هذه الجملة الأخيرة صريحة في ما ذكرناه آنفا.

و عن الصادق (عليه السّلام) قال له رجل: «جعلت فداك أجبر اللّه تعالى العباد على المعاصي؟ قال (عليه السّلام): اللّه أعدل من أن يجبرهم على المعاصي ثم يعذبهم عليها. فقال له: جعلت فداك ففوض اللّه إلى العباد؟ قال (عليه السّلام): لو فوض إليهم لم يحصرهم بالأمر و النهي. فقال له: جعلت فداك فبينهما منزلة؟ قال: نعم أوسع ما بين السماء و الأرض».

أقول: (لم يحصرهم) أي لم يوقعهم في حصر التكليف فيكون نفس تصور التكليف بما هو، و بيان الجزاء عليه كافيا في نفي الجبر و التفويض و إثبات الأمر بين الأمرين. و هذه عادتهم (عليهم السلام) في إثبات هذا المدعى بأدلة التكليف و الجزاء.

و عن أمير المؤمنين (عليه السّلام) القائل في جواب من سأله عن التوحيد و العدل: «التوحيد أن لا تتوهمه، و العدل أن لا تتهمه. فالقائل بأنه خالق للأفعال فقد اتهمه بالظلم، و القائل بأنه يكلف العباد ما لا يطيقون فقد نسب اليه القبيح، و القائل بأنه لا يقدر على أعمال عباده و ان كل أعمالهم بإرادتهم و لا شأن له فيها قد اتهمه بالعجز».

أقول: الأول عبارة عن الجبر، و الثاني من لوازم التفويض و ترتب اللازمين عليهما واضح.

و عن الرضا (عليه السّلام): «ألا أعطيكم في ذلك أصلا لا تختلفون فيه و لا تخاصمون عليه أحدا إلاّ كسرتموه؟ إن اللّه عزّ و جل لم يطع بالإكراه، و لم يعص بغلبة، و لم يهمل العباد في ملكه فهو المالك لما ملكهم، و القادر على ما أقدرهم عليه، فإن ائتمر العباد بطاعته، لم يكن عنها صادرا، و لا منها

ص: 139

مانعا، و إن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم و بين ذلك فعل، و ان لم يحل و فعلوا فليس هو الذي أدخلهم فيه».

أقول: المراد أن إرادة الصرف عن مراد العبد من اللّه تعالى و هو محسوس لكل أحد، فكم من مريد لشيء يصرف عن إرادته و كم غير مريد يصادفه ما يشتهيه و هذه هي المنزلة بين المنزلتين.

و عن الصادق (عليه السّلام): «لا جبر و لا تفويض و لكن أمر بين الأمرين» أقول: تقدم ما يتعلق بكل واحد منها.

و عن الرضا (عليه السّلام): «القائل بالجبر كافر، و القائل بالتفويض مشرك، و المراد من الأمر بين الأمرين هو وجود السبيل إلى إتيان ما أمروا، و ترك ما نهوا عنه، و الإرادة و المشية من اللّه تعالى في ذلك بالنسبة إلى الطاعات الأمر بها و الرضا لها، و بالنسبة إلى المعاصي النهي عنها، و السخط لها و الخذلان عليها، و ما من فعل يفعله العباد من خير، أو شر إلاّ و للّه فيه قضاء، و القضاء هو الحكم عليهم بما يستحقونه من الثواب و العقاب في الدنيا و الآخرة».

أقول: أما أن القائل بالجبر كافر فلأنه نسب إلى اللّه تعالى الظلم، و مع ذلك يعاقب العبد عليه. و أما أن القائل بالتفويض مشرك فلأنه أثبت إرادة مستقلة في مقابل ارادة اللّه تعالى. و أما ما ذكره (عليه السّلام) في تفسير المنزلة بين المنزلتين فهو من باب المثال، و إلاّ فهو عام لجميع الأفعال.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ النقض: هو الفت و الفك و الفسخ، و لا يستعمل غالبا إلاّ فيما فيه القوة و استعداد البقاء، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ [سورة النحل، الآية: 92]، و يتعلق بالميثاق أيضا لأجل كونه محكما يعسر نقضه قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ [سورة المائدة، الآية: 13].

و العهد: حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال، و هذه المادة في أية هيئة

ص: 140

استعملت تفيد الالتزام، و الثبات، و العزيمة.

و المراد بالميثاق: ما يوثق به الشيء، كالميقات لما يتحقق به الوقت.

و يجوز أن يضاف الميثاق إلى اللّه تعالى، إذ لا يتصور عهد أوثق مما عاهد به اللّه تعالى عباده، كما يجوز أن يضاف إلى العباد و هم الذين قبلوا عهد اللّه تعالى ظاهرا ثم نقضوه، فيكون المراد من بعد ما أوثقوه. و يصح الحمل على العموم الشامل لجميع ذلك.

و المعنى: إنّه لما وصف الضالين بالفسق أراد سبحانه و تعالى بيان حال هؤلاء الفاسقين الضالين فذكر لهم أوصافا ثلاثة: هي نقض العهد، و قطع ما يجب أن يوصل، و الإفساد في الأرض. و المراد بالعهد ما عاهد تعالى به على أنبيائه من المعارف و الشرايع الراجعة إلى تربية العباد، و هو من أعظم العهود الموثقة من قبله تعالى بالحجج و البراهين.

و يصح ان يراد به الأعم من ذلك و من العهد الفطري الموثق بالعقل الذي هو أعظم حجج اللّه تعالى، فالمراد بنقض العهد عدم الوفاء به قولا، أو عملا، أو اعتقادا كما هو وجداني.

قوله تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ .

صلة كل شيء بحسبه. و المراد بالأمر الأعم من التكويني و التشريعي فصلة العقيدة باللّه و رسله جعلها راسخة في النفس، و صلة الأحكام الإلهية التكليفية العمل بها و المواظبة على إتيانها، و صلة النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو الاهتداء بهديه، و العمل بما جاء به من ربه وصلة الرحم التآلف و التودد معه، و كذلك صلة المؤمنين بعضهم مع بعض، وصلة الأمور التكوينية معرفة منافعها، و مضارها، و نتائجها المترتبة عليها. و تشمل الآية الشريفة جميع ذلك؛ و التفرقة - و لو في الجملة - نقض لعهد اللّه تعالى و ميثاقه، و قطع للصلة، فمن أنكر اللّه أو صفاته فقد قطع ما أمر به أن يوصل، و من أنكر النبوة و ما جاء به الأنبياء فقد قطع ما أمر به أن يوصل من هذه الجهة.

قوله تعالى: وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ . الفساد خلاف الصّلاح و هو

ص: 141

أعم من الفردي و الاجتماعي.، و ذكر الأرض قرينة للحمل على الأخير.

و الإفساد في الأرض هو إضلال الناس، مثل الظلم، و الغيبة، و سيأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ . نتيجة واضحة للمقدمات المذكورة، فإن من اتصف بهذه الصفات فقد استحق الخزي في الدنيا، و عذاب الآخرة، و هذا هو الخسران المبين، إذ لا معنى لنقض العهد، أو قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، أو الفساد إلاّ الخسران المبين.

بحث روائي:

عن ابن عباس: «لما ضرب اللّه سبحانه هذين المثلين للمنافقين يعني مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً و قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ اَلسَّماءِ قالوا «إنّ اللّه أجل و أعلى من أن يضرب الأمثال فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و في رواية أخرى عنه أيضا: «إنّه لما ذكر اللّه تعالى آلهة المشركين فقال؛ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ و ذكر كيد الآلهة فجعله كبيت العنكبوت، قالوا: أ رأيت حيث ذكر اللّه الذباب و العنكبوت فيما أنزل من القرآن على محمد أي شيء يصنع؟ و ضحكت اليهود، و قالوا: ما يشبه هذا كلام اللّه؟ فأنزل اللّه هذه الآية».

أقول: قد تقدم أن ذلك من باب التطبيق.

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُ

اشارة

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29) ذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين حال الإنسان من مبدأ خلقه إلى ما يؤول اليه أمره، و أنّ جميع ما في الأرض مخلوق لأجله و معدّ له ليتمتع بما فيها، و إنما قدم التوبيخ و الملامة على التفضل و العناية لبيان أن كل ما يكون للإنسان من المراتب و الأطوار إنما هو من تفضّله تعالى، لا من اقتضاء

اشارة

ص: 142

ذاته، ثم عقب ذلك خلق السموات ليذكّرنا تمام قدرته و حكمته. و ربط هاتين الآيتين بالآيات السابقة ظاهر.

التفسير

قوله تعالى: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللّهِ . تعيير و توبيخ؛ يعني أنه لا ينبغي لكم أن تكفروا باللّه و الحال ان موتكم و حياتكم تحت قدرته و إرادته. و إنما ذكرهما، لأنهما من الوجدانيات و إنكار خالقهما يرجع إلى إنكار الوجدان و الجمع بين النقيضين.

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ . ذكر المفسرون في الموت و الحياة أقوالا:

منها: أن المراد بالموت هنا العدم السابق على الوجود أي: كنتم معدومين فأوجدكم، و ظاهر القرآن ينفي هذا الاحتمال.

و منها: عدم الحياة عمّا من شأنه الحياة، كالنطفة، و العلقة، و المضغة، و نحوها من الأطوار التي تعرض على الإنسان في بدء خلقه حتّى يصير خلقا جديدا.

و منها: أنّ المراد بها الموت الحكمي، لا الحقيقي، إذ الإنسان حين ولادته لا اسم له، و لا شهرة له عند النّاس ثم يصير مشهورا عندهم، و لم يأت كل منهم في ما ذكروه بدليل يدل عليه.

و الأولى الحمل على الجميع، فإن للحياة بمراتبها المختلفة من النباتية و الحيوانية و الإنسانية جامعا قريبا و هو الحركة و الحس، و للموت أيضا بمراتبه الكثيرة جامعا قريبا، و هو الوقف و السكون، و اللّه تعالى هو القادر على إيجاد أصلهما و سائر جهاتهما و خصوصياتهما، فإن الإنسان من بدء خلقه إلى نشوره و وقوفه بين يدي رب العالمين، و في جميع أطواره و حالاته، بل جميع شؤونه و تبدلاته مورد علمه و قدرته و إرادته و هذا هو معنى الربوبية العظمى التي أشرنا إليها في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 1] و إذا كان هذا شأنه معكم، و كان لكم التفات إلى هذه الجهة و لو إجمالا كيف تكفرون

ص: 143

باللّه، فتكون هذه الآية الشريفة مثل قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 22].

قوله تعالى: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ . أي يميتكم بقبض الأرواح حين انقضاء الآجال، ثم يحييكم حياة ثانية ثم اليه ترجعون لأخذ جزاء أعمالكم، هذا بحسب كليات الموت و الحياة و الرجوع إليه تعالى. و أما بحسب الخصوصيات - كالزمان الفاصل بينهما - فلا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

و الفرق بين الحياة الأولى و الحياة الثانية بعد اتحاد المبدأ و المرجع فيهما، و عدم الفرق بينهما من هذه الجهة: أن الحياة الأولى مؤقتة و الثانية أبدية دائمية، و أن التبدل في الصورة فالأعمال في الدنيا - خيرا كانت أو شرا - عرض قائم بالغير، و في الآخرة جوهر قائم بالذات فالعامل و العمل فيهما واحد؛ و الاختلاف إنما هو في صورة العمل. و أن الحياة الأخرى أكمل من الأولى للإنسان إن عمل صالحا في الدنيا و أدون إن كان شرا، و سيأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و بعد أن بيّن سبحانه بعض آياته في الأنفس فتفضل على الإنسان بنعمة الإيجاد، ثم بنعمة الموت، ثم الحياة، ثم الرجوع اليه ليصل كل واحد إلى ما أعده لنفسه من الأعمال ذكر سبحانه بعض نعمه في الآفاق.

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً . بيان لما مر من قوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ اَلْأَرْضَ فِراشاً [سورة البقرة، الآية: 24]، لأن من لوازم جعل الأرض فراشا للإنسان أن يكون جميع ما في الفراش مهيئا للانتفاع به، و كذا قوله تعالى: سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 65].

و الخلق بمعنى التقدير المستقيم، و يستعمل في الإبداع أيضا، كقوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة الفرقان، الآية: 59] بقرينة قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]؛ و في إيجاد شيء من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة

ص: 144

النحل، الآية: 4]، و كذا قوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ [سورة العلق، الآية: 2] و جميع هذه الاستعمالات من المشترك المعنوي لوجود الجامع القريب فيها، و هو التقدير المستقيم. و المراد بالخلق هنا التقدير أي: قدّر اللّه تعالى أن يكون ما في الأرض لأجل انتفاع الإنسان، و التقدير مقدم عن الإيجاد و كل موجود مقدر، و ليس كل مقدر موجودا، لجريان البداء في مرتبة التقدير و القضاء، كما يأتي.

و خلق ما في الأرض إما لأجل الانتفاع به انتفاعا ماديا صحيحا بكل وجه يتصور، أو عقليا كالنظر و الاعتبار،

كما قال علي (عليه السّلام): «خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به، و تتوصلوا به الى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نيرانه».

ثم إنه يستفاد من هذه الآية المباركة، و غيرها من الآيات كثرة عناية اللّه تعالى بالإنسان، و قد افتخر به على سائر خلقه كما في قوله تعالى: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، بل جعله غاية خلق الموجودات، و جعل الطبيعة مسخرة بين يديه، و أفاض عليه من علومها و أسرارها لأن ينتفع بها و يستفيد من جميع ما يمكن الاستفادة منه.

قوله تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ فَسَوّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ . مادة (س و ي) تدل على المساواة و المعادلة، و تختلف الخصوصيات باختلاف الاستعمالات، فإذا عديت ب (على) أفادت معنى الاستيلاء عن عدل و حكمة، كما في قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5] أي استيلاء علم و حكمة و تدبير و إتقان، فيكون ما سواه من صنع اللّه الذي أتقن كل شيء، و إذا عديت ب (إلى) اقتضى القصد و الشروع، و الأخذ المشتمل على أتم أنحاء التدبير،

قال علي (عليه السّلام): «أخذ في خلقها و إتقانها».

و قد استعملت هذه المادة بهيئاتها المختلفة في القرآن الكريم قال تعالى: اَلَّذِي خَلَقَ فَسَوّى [سورة الأعلى، الآية: 2] و قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة ص، الآية: 72] و الخلق أعم من التسوية.

ص: 145

و المعنى: أنه قصد خلق السماء، و أراد ذلك بأتم أنحاء التدبير و أحسن جهات التنظيم فجعلهنّ سبع سموات متقنات، و سيأتي بيان عدد السبع في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في هذه الآية إشارة إلى أن خلق الأرض قبل خلق السماء. و لكن عرفت أن الخلق غير التسوية، فإن في الأرض جهات كثيرة و في السماء أيضا كذلك، فكل منهما من الأمور الإضافية و يصير خلق تلك الجهات أيضا كذلك. و حينئذ لا منافاة بين ذلك، و قوله تعالى: أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ اَلسَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوّاها وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها وَ اَلْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [سورة النازعات، الآية: 27-31]، فإن خلق السماء في هذه الآية المباركة مقدم من حيث الاستواء و الإتمام. و خلق الأرض مؤخر من حيث فعلية نظمها، و جري أنهارها و دحوها و نحو ذلك. و في الآية السابقة أن خلق الأرض مقدم من حيث أصل التقدير فلا تضاد بينهما.

قوله تعالى: وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ . الشيء من ألفاظ العموم بل لا أعم منه. و عن بعض اللغويين إن لفظ عليم للمبالغة و ليس لمجرد الوصف الثابت. و قد عدّي بلفظ (باء)، مع أنه متعد بنفسه، لقوله تعالى: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [سورة الممتحنة، الآية: 10] لإظهار الزيادة في العلم و المعلوم.

و في القرآن آيات كثيرة دالة على إحاطته بما سواه علما و قدرة و من سائر الجهات و لعل أبلغ هذه التعبيرات بالنسبة إلى المخاطبين قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 33]، إذ الشهود و العيان أخص عندهم من العلم و إن كان لا فرق بينهما بالنسبة إليه تعالى.

بحث فقهي:

استدل الفقهاء بقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً لإثبات الإباحة المطلقة في جميع الأشياء إلاّ ما دل دليل بالخصوص على تحريمه، و تمسكوا بغيرها من الآيات المباركة أيضا على ما سيأتي، و بالروايات، بل و العقل، و بينوا في علم الأصول ما يتعلق بذلك.

ص: 146

بحث روائي:

عن علي (عليه السّلام) في قول اللّه عزّ و جل: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ - الآية - قال «هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا لتعتبروا به، و لتتوصلوا به إلى رضوانه، و تتوقوا به من عذاب نيرانه. ثم استوى إلى السماء أخذ في خلقها و إتقانها فسويهن سبع سموات و هو بكل شيء عليم، و لعلمه بكل شيء علم المصالح، فخلق شرع ما في الأرض لمصالحكم يا بني آدم».

أقول: ما ورد في هذا الحديث في مقام بيان غاية الخلق و هو المنساق من جملة من الآيات القرآنية على ما تقدم.

و عن أبي جعفر (عليه السّلام): «خلق الأرض قبل السماء».

أقول: تقدم إجمال بيانه، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُس

اشارة

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) شروع في بيان قصة خلق آدم، و الغاية من خلقه و عصيانه، و هبوطه إلى الأرض، و قد تكررت هذه القصة في مواضع متعددة من القرآن الكريم، بل وردت في جميع الكتب السماوية، فتظهر أهميتها لما فيها من الحكم و الأسرار، و اعتنائه تبارك و تعالى بالإنسان الذي يمتاز عن غيره من المخلوقات، لأنه المستعد لبلوغ أقصى درجات الكمال، و لذلك كان جديرا بالخلافة.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ . المراد بالقول هنا الإلقاء في النفس، سواء أ كان بسبب من الأسباب الظاهرية، أم الخفية. و ليس المراد من

ص: 147

القول المنسوب إليه تعالى في جميع القرآن هو المعنى المعروف أي: الحركات المعتمدة على مخارج الحروف، و سيأتي شرح ذلك في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و الملائكة: قيل من أ لك و هي الرسالة إما لأنّ جميعهم رسل اللّه إلى ما يرسلهم إليه من تدبير الأمور، أو تغليبا لاسم عظمائهم و ساداتهم - و هم جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل - عليهم، و لا بأس به لفرض تسخير البقية تحت إرادة العظماء منهم بأمره تعالى.

و لا ريب في وجود الملائكة و قد تكرر ذكرهم في القرآن الكريم و سائر الكتب السماوية مع شيء من بيان أعمالهم و في الروايات الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام) شرح لبعض خصائصهم و أحوالهم.

و قد استدل الحكماء و الفلاسفة بأدلة عقلية على وجود الملائكة منها قاعدة «إمكان الأشرف» المذكورة في الكتب الفلسفية، و يغنينا عن ذلك ظهورهم لأنبياء اللّه (عليهم السلام) لا سيما أولي العزم منهم؛ و ظهور جبرائيل في صورة دحية الكلبي مروي في كتب الفريقين.

و أما الخلاف في أنهم ذوات مجردة تظهر بأشكال مختلفة كما عليه الفلاسفة، أو أجسام لطيفة كذلك كما عن غيرهم، فلا ثمرة في ذلك و النزاع بينهم لفظي.

و الملائكة مختلفون في الأشكال و الهيئات، و هم على طوائف متعددة مختلفة محدودة قال تعالى: يُسَبِّحُونَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 20]، و قال تعالى: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات، الآية: 165] و يدل على ذلك بعض الروايات الواردة عن المعصومين و هم يتكاثرون بواسطة بعض الأعمال الصالحة الصادرة من العباد، كما هو مذكور في كتب الأحاديث، و من قطرات النهر المكنون تحت العرش كما في بعض الروايات على ما يأتي.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ أمران:

ص: 148

الأول: إنما وجه الخطاب إلى النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ليعلم الناس أنّ الغرض الأصلي من خلق آدم إنما هو سيد الأنبياء و الرسالة التي جاء بها، و ذلك لأن العلة الغائية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الخارج، كما ثبت بالأدلة العقلية، و يدل عليه بعض الأدلة النقلية، فأصل الدعوة هي دعوته (صلّى اللّه عليه و آله) و إن تعددت الدعاة إليها و تفرقوا في سلسلة الزمان، و يأتي شرح ذلك عند قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية:

48]. و فيه تسلية له (صلّى اللّه عليه و آله) بما رأى من الحوادث الواردة على أبيه آدم، ليصبر على ما يراه من كيد المشركين.

الثاني: إنما قال سبحانه ذلك للملائكة ثم بينه للناس لجهات؛ منها:

إظهار فضل آدم للملائكة، و تعريفه لهم، و إعلامهم بمقامه بأن له الخلافة في الأرض.

و منها: إظهار ما هو المكنون في نفوس الملائكة على أنفسهم ليعترفوا بذلك بالعجز و القصور.

و منها: الإعلام بأن صنع هذا المخلوق الجديد كان بمباشرته عزّ و جل بلا مداخلة أحد غيره فيه.

و منها: بيان أن ليس للإنسان معرفة حقائق الأشياء، و أسرار الخليقة و حكمها، فإن الملائكة مع رفعة شأنهم قد عجزوا عن ذلك.

و منها: أن هذه المحاورة كانت تلطفا منه عزّ و جل و جبرا لما انكسر من نفوسهم حيث صنع اللّه الخليفة من الطين الذي هو دونهم بمراتب.

و منها: إرشاد النّاس إلى المشاورة بينهم في أمورهم، و أن المشاورة لا تنقص الفرد و إن عظم شأنه، كما قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله): وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [سورة آل عمران، الآية: 159].

كما أنه أعلمنا بأنه قد رضي لخلقه أن يسألوه عما خفي عنهم.

قوله تعالى: إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً . الجعل هو الفعل

ص: 149

و الإحداث. و الخلافة هي النيابة عن الغير إما لقصوره، أو زواله أو للتشريف و التشريع و الإبلاغ، و خلافة أنبياء اللّه تعالى و حججه من القسم الأخير، و للعلماء في جعل الخلافة في الأرض قولان:

الأول: إنّ اللّه تعالى جعل آدم خليفة عن نوع آخر كان في الأرض ذهب اللّه تعالى بهم بعد أن أفسدوا، و سفكوا الدماء، و استدلوا بقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ [سورة يونس، الآية:

14] و من سؤال الملائكة قياسا على ما مضى.

الثاني: إنّ اللّه جعل آدم خليفته في الأرض، كما يشهد له قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ [سورة ص، الآية: 26].

و الحق أن يقال: إن المستخلف عنه في المقام الأعم مما ذكروه، فإن الإنسان فيه جهتان: جهة البدن و الجسم، و جهة الروح، و هو مزيج منهما فقد تعلق جعله تعالى بآدم من جهتين الجسمانية حيث باشر تعالى بنفسه في خلقه، و نفخ فيه من روحه، فيكون من هذه الجهة خليفة عن غيره تكوينا، و أما الجهة المعنوية فقد تعلقت الإرادة الإلهية بجعله خليفة، كما تعلقت بجعل داود خليفة في الأرض، و يشهد لذلك ما استفاض

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «إن أول مخلوق على وجه الأرض هو الحجة، و آخر من يموت هو الحجة» فتكون الخلافة لآدم (عليه السلام) من حيث نبوته، و كونه حجة اللّه خلافة شخصية، و من حيث كونه آدم أبا البشر نوعية، كما يدل عليه قوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي اَلْأَرْضِ إذ لكل طبقة لاحقة خلافة تكوينية بالنسبة إلى الطبقة السابقة في دار الكون و الفساد، فتكون الخلافتان متلازمتان.

قوله تعالى: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ . المراد من الفساد المعنى الأعم الشامل للفساد الشخصي و النوعي، و من الأول ارتكاب المناهي الإلهية، و من الثاني النفاق.

و سفك الدماء: إراقتها بغير حق. و التسبيح التنزيه عن صفات الممكنات، و معنى نسبح بحمدك أي: ننزهك عن النقائص، مقرونا بالثناء

ص: 150

عليك فاجتمع في هذا التعبير صفات الجلال و الجمال، و التقديس بمعنى التنزيه - كما عن جمع من اللغويين و المفسرين - و التطهير المعنوي عن النقائص، و قد استعمل في القرآن كل منهما بالنسبة إليه تعالى قال جلّ شأنه: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ [سورة الحشر، الآية: 24].

و يمكن التفريق بينهما بجعل الأول بالنسبة إلى الذات الأقدس، فهو تعالى منزه عن كل نقص، و الثاني بالنسبة إلى الفعل، ففعله منزه عن كل نقص، لكونه صادرا عن الحكمة البالغة. و يمكن أن يقال: إن معنى نقدس لك أي نطهر أرضك من الفساد و المعاصي.

و المعنى: أ تستخلف في الأرض من هو على هذه الصفات من الإفساد و سفك الدماء، و نحن المعصومون نسبح بحمدك و نقدس لك، فالغاية المتوخاة من جعل الخليفة موجودة فينا دون غيرنا فزعموا أن التسبيح و التقديس فقط هو المقصد الأصلي من الخلق و ليس فيهم سبب الفساد، لأنهم متحدوا القوى و ليست لهم قوى متخالفة.

ثم إنه يمكن أن يكون منشأ سؤال الملائكة هذا أحد أمور:

الأول: علمهم بأنّ الدار دار الكون و الفساد و الإنسان مركب من قوى متضادة متخالفة من الشهوة و الغضب، و القوة و الضعف، و نحو ذلك، و من كان هذا حاله و هو في دار الكون و الفساد، و المادة يلازمه سفك الدماء و الإفساد، فيكون قولهم من باب كشف الملزوم عن اللازم و هو صحيح.

الثاني: حصول ذلك من حمل المستقبل على الماضي الذين أفسدوا في الأرض و سفكوا الدماء، فحصل لهم العلم بذلك من التجربة.

الثالث: أنّ حب النفس فطري في كل ذي حياة فحبهم لنفسهم أوقعهم في هذا القول، و لكن هذا الوجه ينافي مقام عصمتهم.

الرابع: أنه بعد إخبارهم بأنه سيجعل في الأرض خليفة عجبوا كيف يمكن أن يكون المصنوع من التراب خليفة رب الأرباب، مع أنّ اللّه تعالى أخبرهم أن في ذريته من يفسد و يسفك الدماء، كما في بعض الأخبار، و غفلوا

ص: 151

عن الحكمة.

ص: 152

[سورة الكهف، الآية: 65]، و قال جلّ شأنه: وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ [سورة النساء، الآية: 113]، و قال سبحانه و تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 151]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 282].

و المستفاد من الجميع هو إلقاء المعلم حقيقة ما يريده من العلم إلى الطرف بنحو الإلهام أو الإشراق - كما يحكى عن الفلاسفة الإشراقيين - دفعة واحدة أو بالتدريج، بلا فرق في ذلك بين أن لا يكون سبب ظاهري، أو كان ذلك، كما في قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [سورة المائدة، الآية: 31].

و ظاهر الآية المباركة أن التعليم كان مباشريا من اللّه تعالى بلا واسطة ملك. و كيف لا يكون كذلك و قد اقتضت العناية الإلهية الاهتمام بأول خليقته و المصنوع بيمينه - و كلتا يديه يمين كما في الأحاديث - و النفخ فيه من روحه كل ذلك ينبئ عن السر العظيم و الحكمة التامة في هذا الإنسان فميزه عن سائر خلقه بهذا المقام الخطير بأن علمه ما لم يعلم، و جعل في نسله هذه القوة العلمية فكان في ذريته الأولياء الذين أشرقوا العالم بأنوار المعارف الإلهية و تفرع عن هذا الأصل جميع العلماء و العقلاء الذين سخروا العالم بعلمهم و دبروا البلاد بعقلهم.

و لم يكن هذا العلم مقتصرا على ألفاظ و مسميات خاصة و هو في هذا المقام العظيم و المنصب الرفيع فقد تعلم كل المعارف الإلهية و ماله دخل في استكمال الإنسان في النشأتين، كما أن التعليم شمل أسرار القضاء و القدر و خواص الأشياء و منها خواص النبات و عرف موجبات الفرح و السرور و أسباب الحزن و الكدر فإن آدم و سائر حجج اللّه سفراؤه في الأرض و لا بد و ان يكون السفير مطلعا على دار سفارته، و لعل منها ما حكاه اللّه تبارك و تعالى في قوله : وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115] فأخبره تعالى بوقوع هذه الحادثة العجيبة منه لكثرة أهميتها في النشأة الدنيوية و سيأتي في البحث الروائي و غيره مزيد بيان.

ص: 153

و لفظ «آدم» سواء كان لفظا عربيا - من الأدمة بمعنى السمرة أو من أديم الأرض و هي ظاهرها - أو غير عربي، سهل في النطق و ذلك يكشف عن وجود الأنس بين ذريته و لعله لذلك سمي إنسانا لأن الانس من طبعه و في جبلته أو لكونه وسطا بين الإفراط و التفريط كما أن السمرة وسط بين السواد المحض و البياض كذلك، و الظاهر أن اطلاق هذا الاسم عليه كان من اللّه تعالى من حين الخلقة لا حين نزوله الى الأرض فهو باسمه و جسمه و روحه مضاف إلى اللّه تعالى إضافة خاصة.

قوله تعالى: اَلْأَسْماءَ كُلَّها . الأسماء جمع اسم و له معان:

الأول: اللفظ الخاص المعروف في مقابل الفعل و الحرف مثل سماء، و أرض، و بحر، و نهر الى غير ذلك مما هو في ازدياد على مر العصور، فيكون التعليم من مجرد اللفظ فقط بلا توجه من المتعلم الى المعنى أبدا، لا فعلا و لا بعد ذلك، و هذا يعد من اللغو في المحاورات المتعارفة بين الناس، فيكون قبيحا بالنسبة إليه تعالى و هو محال، لاستحالة كل قبيح عليه عزّ و جل.

الثاني: الأسماء من حيث كونها آلة للتعرف على المسميات و المعاني فتتحقق الإفادة و الاستفادة، كما هو شأن تعلم اللغة التي بها امتاز الإنسان على سائر الخلق، قال تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 2].

الثالث: المراد من الأسماء ذوات المسميات، و حقائق الأشياء لوجود خاصية الاسم فيها، لأن الاسم ما أنبأ عن المسمى، و جميع تلك الحقائق تنبئ عن آيات اللّه و جلاله و جماله. أو للترابط الوثيق بين الدال و المدلول بحيث إذا أطلق أحدهما انتقل الذهن إلى الآخر، كما تقدم.

و الظاهر هو المعنى الأخير، و يتحقق المعنى الثاني لا محالة، فإنّ المناسب من تعليم اللّه تعالى آدم الأسماء من حيث كشفها عن حقائق المسميات و جواهرها، و أعراضها، و مجرداتها، و معرفة ذواتها و خواصها و صفاتها، فكما أن آدم أبا البشر في مقام الأبوة و البنوة الإضافية صار أصلا لهم

ص: 154

في ما يتعلق بشئونهم الفردية و الاجتماعية و من أهم ذلك معرفة الحقائق و أسمائها، و يشهد لذلك قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ ، فإنه لو كان المراد هو مجرد الألفاظ فقط لما كان لهذا القول معنى إلاّ بالتكلف.

و لا فرق في ذلك بين أن يكون التعليم دفعيا و في آن واحد، أو كان بالتدريج على حسب مجرى الطبيعة التي هي مسخرة تحت إرادته تعالى. و لا بأس بالقول بكل منهما فيكون بالنسبة إلى البعض دفعيا و بالنسبة إلى البعض الآخر تدريجيا، و في جميع الحالات يكون التعليم منسوبا إليه عزّ و جل.

ثم إنه لا وجه لصرف الآية عن التعميم، و القول بأن التعليم يختص بتلك الأسماء التي كانت مورد حاجة آدم في حياته، و تعليم غيرها يكون من اللغو أو لزوم ما لا يلزم و اللّه تعالى منزه عن ذلك، إذ يرد على هذا القول بأن الآية ظاهرة في التعيمم، مع أن الإحاطة العلمية خصوصا بمثل هذه الإحاطة العلمية الغيبية كمال للنفس و أي كمال أفضل منه بل يعد هذا من معجزات آدم (عليه السلام).

و يحتمل أن يكون المراد بعالم الأسماء عالم المثال الذي أثبته بعض الفلاسفة، و يسمى بعالم الخيال المنفصل أيضا الذي فيه صور جميع الموجودات بأشكالها الخاصة و هيئاتها المختلفة المحدودة بحدودها المعينة كما في الصور الخيالية التي تكون بين التجرد المحض و المادية المحضة و استدلوا عليه بالأدلة العقلية، و بما ورد

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) «أن في العرش صور جميع الموجودات»،

و قد ورد في شرح دعاء - يا من أظهر الجميل و ستر القبيح - «أن العبد إذا فعل فعلا قبيحا ستر اللّه تلك الصورة بستار لئلا يطلع عليها الملائكة» و المراد بهؤلاء الملائكة بعض حملة العرش، و يأتي للمقام شواهد عقلية و نقلية.

و على هذا يكون إتيان لفظ من يعقل في قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ من باب ذكر الأهم لأنه المقصود الأصلي من خلق الجميع.

بل يمكن أن يقال: إنّ المقصود الأصلي من الأسماء إنما هو مقام

ص: 155

الخلافة الإلهية و أسماء الخلفاء ليكون آدم على بصيرة من أمره من أن الأرض أرضه، و البشر نسله، و الخلفاء من ذريته و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله) و هذا مما لا ريب فيه

فقد روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله) : «كنت نبيا و آدم بين الماء و الطين» فهو (صلّى اللّه عليه و آله) مقدم على آدم علما و إن كان مؤخرا خارجا.

قوله تعالى: ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى اَلْمَلائِكَةِ . العرض هو الإظهار على الغير لغرض فيه قال تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأحزاب، الآية: 72]، و قال تعالى: وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا [سورة الكهف، الآية: 48]. فإذا عدي بالهمزة يكون بمعنى الإدبار و التولي، كقوله تعالى: وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 199] و قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ [سورة السجدة، الآية: 30].

و المراد بالعرض على الملائكة توجيه نفوسهم، و الاطلاع على تلك الأشياء إما إلى أعيانها إن كانت موجودة أو أمثالها المحدثة بإرادة منه عزّ و جل إن لم توجد في الخارج.

و ذكر خصوص من يعقل من باب التغليب أو الأفضل كما تقدم، أو لأجل بيان أن المراد الأصلي إنما هو ذوو العقول و لا سيما الكاملين منهم، أو لأجل أن جميع موجودات هذا العالم من جماده و نباته و حيوانه له عقل و شعور في عالم الغيب، و إن خفي ذلك علينا، و يشير إليه قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44]، و هذا العالم يسمى بعالم الروحانيين، و عالم الأشباح و الأظلة و بالملكوت الأسفل، فيكون معنى عرضهم على الملائكة رفع بعض حجب الغيب عنهم، و في هذا العالم تكون خزائن اللّه التي يقول جلّ شأنه فيها: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجر، الآية: 21].

و بالجملة: حجب الغيب كثيرة، و تحت كل حجاب عالم من العوالم لا

ص: 156

يعلمها إلاّ اللّه عزّ و جل. و عن جمع من الفلاسفة «أن كلما هناك حي ناطق و لجمال اللّه دواما عاشق».

قوله تعالى: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . الأمر للتعجيز، و إظهار عجزهم على أنفسهم و على غيرهم، فلا وجه لإشكال جمع من المفسرين من أن أمر العاجز عن الشيء قبيح فيكون محالا عليه تعالى، لأن ذلك في ما إذا كان الداعي من الأمر هو الإيجاب و أما إذا كان الداعي شيئا آخر من تعجيز و نحوه فلا محذور و هو في القرآن كثير، و تأتي الإشارة إليه.

و الإنباء هو الإخبار يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بواسطة الحرف أخرى، كما عن جمع من اللغويين.

و المراد بالأسماء هنا نفس الألفاظ فقط و هو تعجيز شديد، يعني أنكم إذا لم تقدروا على الإخبار عن مجرد اللفظ فأولى أن تكونوا عاجزين عن معرفة أسرار الأشياء و حقائقها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أن ما خطر في نفوسكم أنكم أفضل من آدم و ما أظهرتموه من الدهشة في اختيار الخليفة من الإنسان. و ليس ذلك من الحسد المبغوض بل هو من حب الكمال الذي هو من الفطريات لكل ذي إدراك، و لم يسلم من ذلك حتّى أنبياء اللّه تعالى، كما تشهد به قصة موسى (عليه السلام) مع الخضر، و سيأتي تفصيلها في سورة الكهف.

و من ذلك يعلم أن الحكمة في التعليم و العرض هي إظهار فضل آدم (عليه السلام) على الملائكة، و أن الخلافة لا تكون إلاّ لمن استجمعت فيه مراتب الاستعداد و لا يعلم بها أحد إلاّ اللّه تعالى.

هذا كله إذا كان المراد بقول الملائكة الاستفهام الحقيقي، و كان الاستعمال بداعي ذلك أيضا. و أما إذا كان الاستعمال بداعي التنفر و الاشمئزاز من المفسدين و سفكة الدماء فهو صحيح، و يصح انتسابه إلى جميع الملائكة حتّى عظمائهم، و حملة العرش كما لا يخفى. فيكون قول اللّه تعالى ناظرا الى عدم إحاطتهم بمراتب الغيوب، و مقدمة لأمرهم بالسجود لآدم لما ظهر لهم من

ص: 157

فضله بما أفاض اللّه تعالى عليه علم الأسماء، و جعله خليفته في الأرض.

و أما ذكر «هؤلاء» بعنوان الإشارة إلى الحاضرين فيمكن أن يكون لبيان رفعة مقام المسميات بخصوص هذه الأسماء دون غيرها فكأنهم حاضرون في جميع العوالم، و قد عبّر عن خصوص هذه المسميات جمع من الفلاسفة بأرباب الأنواع، و جمع آخر بالمثل الأفلاطونية.

قوله تعالى: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا . كلمة «سبحانك» تقال في مقام التوبة كما في قوله تعالى: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ اَلظّالِمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 87]، و قوله تعالى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 143].

و أما قوله تعالى: لا عِلْمَ لَنا إِلاّ ما عَلَّمْتَنا اعتراف منهم بالعجز و القصور، و ان علمهم لا يحيط بجميع المسميات و فيه ثناء على اللّه تعالى، لأنهم أثبتوا العلم له عزّ و جل و نفوه عن غيره و أنه المفيض عليهم بالعلم على قدر القابليات و الاستعدادات.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَلِيمُ اَلْحَكِيمُ . تأكيد منهم على حصر العلم بالنسبة إلى ذاته، و للحكمة بالنسبة إلى فضله و مادة (ح ك م) في أية هيئة استعملت تفيد الإتقان و الإحكام و الإتمام. و أصل الحكمة منه تعالى معرفة الأشياء، و إيجادها بالإحكام و الإتقان الواقعي، و هي منبعثة عن العلم بالحقائق. و إذا أطلقت بالنسبة إلى الإنسان ففي اصطلاح الفلاسفة: هي العلم بحقائق الأشياء على حسب الطاقة البشرية. و في اصطلاح المفسرين:

معرفة الأشياء و فعل الخير و قالوا منه قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ [سورة لقمان، الآية: 12]، و يأتي في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: 269] بعض الكلام.

و إذا أضيفت الى القرآن كقوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ اَلْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ [سورة القمر، الآية: 5] فانما يراد بها الاشتمال على الآيات و القوانين المحكمة. و يطلق الحكم على الحكمة أيضا،

كما نسب إلى النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصمت حكم و قليل فاعله».

ص: 158

و من هذا الجواب يستفاد أنّ سؤالهم لم يكن من الخصومة و الجدال بل كان سؤال مستفسر مستوضح، و لذا رجعوا إلى ما كان قد غفلوا عنه، و فوّضوا الأمر إليه تعالى بعد ما تبين لهم الحال.

و في هذه الآية المباركة جملة من الآداب بين السائل و المجيب ففيها إيماء إلى أن الإنسان يجب أن لا يغفل عن كونه مخلوقا ناقصا مهما بلغ من الكمال، و أن لا يأنف من الاعتراف بالجهل إذا كان لا يعلم، و أن لا يكتم العلم إذا كان يعلم، و يجب عليه أن يحفظ مقام معلمه في تواضع و أدب.

قوله تعالى: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . أي أعلمهم بالأسماء التي عجزوا عن علمها، و إيكال تعليم الملائكة الى آدم (عليه السلام) يدل على أفضلية مرتبة الخلافة عنهم. و قد نادى اللّه سبحانه جملة من أنبيائه في القرآن العظيم بأسمائهم العلمي فقال تعالى: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا [سورة هود، الآية: 48]، و قال تعالى: يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ اَلرُّؤْيا [سورة الصافات، الآية: 105]، و قال تعالى: يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ [سورة القصص، الآية: 31]، و قال تعالى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ [سورة المائدة، الآية: 116]. و أما سيد الأنبياء فلم يخاطبه عزّ و جل إلاّ بأوصافه فقال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ [سورة الأنفال، الآية: 64] أو يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ [سورة المائدة، الآية: 41] و طه و يس فيكون له سبحانه و تعالى معه (صلّى اللّه عليه و آله) أدب، و للرسول معه عزّ و جل حالات خاصة.

قوله تعالى: فَلَمّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ . يدل على أن استكمال الملائكة بالعلم إنما يكون بواسطة أنبياء اللّه و حججه و لا محذور فيه بل الأدلة العقلية و النقلية تؤيد ذلك.

و لعل من اسرار نزول الملائكة في ليلة القدر - أو مشايعتهم لبعض السور حين نزولها على النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - هو الاستفادة مما ينزل على النبي، أو ولي الأمر، و على هذا يكون بين الملائكة اختلاف في الفضل حسب كثرة حشرهم و مخالطتهم مع الأنبياء و الحجج و قلته، و للكلام

ص: 159

تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . أي قلت لكم إني أعلم ما غاب من أنظاركم و علومكم، فاحتج عليهم بإثبات علم الغيب له تعالى و نفيه عنهم فلن أخلق خلقا عبثا. و إنما ذكر تعالى غيب السموات و الأرض فقط و لم يذكر عالم الشهادة، لشمول الأول له بالأولى، مع أن جميع العوالم شهادة بالنسبة إليه تعالى، و التقدم و التأخر بالنسبة إلى الزمان و هو محيط بالزمان و الزمانيات.

ثم احتج عليهم بأنه عالم بما يبدون و ما يكتمون، لأنه - كما ذكرنا سابقا - أضمروا في نفوسهم أحقيتهم للخلافة، لكونهم يعبدون ربهم و يقدسونه فلم يخلق خلقا أكرم عليه منا.

و الظاهر - كما يدل عليه بعض الأخبار و يأتي في البحث الروائي نقلها - أنّ المراد هم جميع الملائكة، و يحتمل أن يكون المراد هو خصوص الشيطان من جهة كونه داخلا في عموم الخطاب، لأنه كان داخلا فيهم صورة فيكون من باب إطلاق الجمع و إرادة الفرد منه، و هو صحيح واقع في القرآن الكريم و المحاورات.

بحوث المقام
بحث دلالي:

لا ريب في دلالة الآيات المباركة على فضل العلم، و أنه الغرض الأقصى من خلق الإنسان و جعل الخليفة، إذ لا معنى للخلافة الإلهية بل مطلقها إلاّ علم الخليفة في ما يستخلف فيه و تدبيره الحاصل بالعلم أيضا، فيكون العلم هو العلة الغائية لخلق الموجودات كلها، كما أنه العلة لإيجادها، ففي مثله تجتمع العلة الغائية و الفاعلية.

كما يستفاد منها فضل الإنسان، لأنه لا فضل إلاّ بالعلم، و لا علم يستعمل في دقائق الكون، و أسرار التكوين و رموزها إلاّ في الإنسان و قد سخر

ص: 160

الكون بعلمه و لم يخلق اللّه تعالى العالم إلاّ له، كما يأتي ذلك في الآيات الكثيرة؛ فمبدأ الخلق إنما هو من العلم و غايته للعلم و تدبيره إنما هو بالعلم، فالجهل و الجهلاء بمعزل عن مبدإ الخلق و غايته و تدبيره و يكون كالجزء الفاسد من العالم، و يأتي شرح هذا العلم و تفصيله في الآيات المستقبلة إن شاء اللّه تعالى.

و من هذه الآيات المباركة يستفاد فضل آدم (عليه السّلام) على الملائكة، لأن اللّه تعالى جعله معلما للملائكة و فضل المعلم على المتعلم واضح.

و تعليم الأسماء لآدم (عليه السّلام) بمنزلة كتاب سماوي أنزله اللّه تعالى على آدم (عليه السّلام) و به تحدى الملائكة فأظهروا العجز و القصور، كما جعل الكلام العربي معجزة لنبيّنا الأعظم محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يستفاد من الآيات الشريفة أن هذه المحاورة إنما كانت بين اللّه تعالى و بين ملائكة الأرض الذين وكّلوا في شؤونها، و كان قد خفي عليهم وجه الحكمة في خلق آدم (عليه السّلام) دون غيرهم من ملائكة السماء و عظمائها كالكروبيين و حملة العرش، و إن كان الإطلاق يقتضي ذلك إلاّ أن الإعتبار يقتضي الأول، كما سيأتي في البحث الروائي فإن المراجعة إنما كانت في الأرض، لا في السماء و إنّ آدم (عليه السّلام) خليفة اللّه خلق من الأرض - لأنه من طين و من حمإ مسنون - و في الأرض لأنه خليفة اللّه في الأرض و للأرض كما هو شأن جميع الأنبياء و الرسل، فلا وجه لتوهم كون الخلق في السماء إلاّ قوله تعالى: قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً و بعض الأخبار، و سيأتي ما يتعلق بذلك.

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السّلام): «ما علم الملائكة بقولهم: أ تجعل فيها من يفسد فيها و يسفك الدماء؟ لو لا أنهم قد كانوا رأوا من يفسد فيها و يسفك الدماء».

ص: 161

أقول: يستفاد من هذه الأخبار أن علم الملائكة ليس من علم الغيب، بل حاصل من المدارك الجزئية الخارجية، و أما أن مداركهم الجزئية كعين مداركنا الجسمانية ففيه تفصيل يأتي بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و في التفسير عن الصادق (عليه السّلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها . ما هي؟ قال (عليه السّلام) أسماء الأودية و النبات و الشجر و الجبال من الأرض».

و فيه عنه (عليه السّلام) أيضا في قول اللّه عزّ و جل: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها . ما ذا علمه؟ قال: الأرضين و الجبال، و الشعاب و الأودية، ثم نظر إلى بساط تحته. فقال: و هذا البساط مما علمه».

و في التفسير أيضا عن داود بن سرحان قال: «كنت عند أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فدعا بالخوان فتغدينا، ثم دعا بالطشت و الدستشان (أي: محل غسل اليد) فقلت: جعلت فداك قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها الطست و الدستشان منه؟ فقال (عليه السّلام) الفجاج و الأودية و أهوى بيده كذا و كذا».

و في تفسير العسكري عن السجاد (عليه السّلام): «علمه أسماء كل شيء».

أقول: الأمثلة التي ذكرها (عليه السّلام) من باب المثال لما كان موجودا في زمان آدم (عليه السّلام)، لا الحصر.

و في المعاني عن الصادق (عليه السّلام): «ان اللّه عزّ و جل علّم آدم (عليه السّلام) أسماء حججه (عليهم السّلام) كلها، ثم عرضهم و هم أرواح على الملائكة».

أقول: يظهر من هذا الحديث كجملة من الأحاديث المستفيضة أن الأرواح سابقة على الأجسام؛

و في الحديث المعروف بين الفريقين عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام». و من ذهب الى أرباب الأنواع، أو المثل الأفلاطونية فإن أراد بقوله مثل

ص: 162

ما ذكره (عليه السّلام) في هذا الحديث فلا بأس به، و ان أراد به غير ذلك فلا بد في إثباته من الرجوع إلى أدلتهم المذكورة في الفلسفة الإلهية و التأمل فيها.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «لما أن خلق اللّه آدم أمر الملائكة أن يسجدوا له، فقالت الملائكة في أنفسها: ما كنّا نظن أن اللّه خلق خلقا أكرم عليه منا فنحن جيرانه و نحن أقرب الخلق اليه. فقال اللّه: ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات و الأرض و اعلم ما تبدون و ما كنتم تكتمون، فيما أبدوا من أمر الجان، و كتموا ما في أنفسهم فلاذت الملائكة الذين قالوا ما قالوا بالعرش».

و مثله عن علي بن الحسين و زاد فيه «فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لاذوا بالعرش، و أنها كانت من عصابة من الملائكة - و هم الذين كانوا حول العرش لم يكن جميع الملائكة - الى أن قال (عليه السّلام): فهم يلوذون حول العرش الى يوم القيامة».

أقول: تقدم في البحث الدلالي ما يدل على ذلك.

و في العلل عن الصادق (عليه السّلام): «أنّه سئل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أخبرني عن آدم لم سمي آدم؟ قال: لأنه خلق من طين الأرض و أديمها».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

ثم إنّ في المقام بحثين آخرين - أحدهما: بحث خلقة آدم (عليه السّلام) و قد بينه تعالى في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن بيانا وافيا لهذا الخلق العجيب، ثم شرحته السنّة المقدسة شرحا وافيا و طريق العلم به منحصر بهما، لقصور ما سواهما مطلقا عن درك ذلك لأنه من الغيب المختص علمه به تعالى و إظهاره يكون بإخباره عزّ و جل.

ثانيهما: بحث الطينة و الميثاق، و تعرض له المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172] و الأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين، و هو أيضا من الغيب المختص به عزّ و جل، و لا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة، أو بواسطة أنبيائه و أوليائه تعالى، و قد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام).

ص: 163

ثانيهما: بحث الطينة و الميثاق، و تعرض له المفسرون و المحدثون من العامة و الخاصة عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172] و الأخبار في ذلك كثيرة من الفريقين، و هو أيضا من الغيب المختص به عزّ و جل، و لا بد أن يكون العلم به من ناحيته تعالى بلا واسطة، أو بواسطة أنبيائه و أوليائه تعالى، و قد وردت الأخبار في ذلك عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السّلام).

و الطينة الواردة في السنّة الشريفة على قسمين:

الأول: ما كانت علة تامة منحصرة لكون مآلها إلى الجنّة بلا دخل للتكليف و الإختيار فيها أصلا، أو كون مآلها الى النار كذلك.

الثاني: ما كانت مقتضية لذلك مع دخل شرائط أخرى في كل منهما حتّى تصير إلى الجنّة أو النار. و لا بد من حمل جميع ما وردت في الطينة من الأخبار على القسم الثاني، دون الأول، لظواهر الكتاب - على ما يأتي - و السنّة، و أدلة عقلية نشير إليها في محالها إن شاء اللّه تعالى.

بحث اجتماعي:

من أعظم ما أنعم اللّه تعالى على الإنسان نعمة البيان و النطق فقال عزّ و جل في مقام الامتنان عليه: اَلرَّحْمنُ عَلَّمَ اَلْقُرْآنَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ عَلَّمَهُ اَلْبَيانَ [سورة الرحمن، الآية: 2] فلو لا اللغة و البيان لم يتحقق للإنسان اجتماع و لاختل أساس التشريع، و بالأخرة لم يقم له نظام الدنيا و الآخرة؛ فلا يمكن تحديد هذه النعمة بحد، و يكفي في ذلك قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [سورة الروم، الآية: 22] حيث جعل تعالى اختلاف الألسنة من الآيات.

و الكلام في اللغة يكون من جهات متعددة ففيها التاريخية، و الأدبية و العلمية، و الاجتماعية و غير ذلك، و قد وضع العلماء لكل واحدة من تلك الجهات كتبا كثيرة.

و الذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى اللّه عزّ و جل، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة - كما في سائر نعمه عزّ و جل - بإلهام منه تعالى مباشرة، أو بالتعليم.

ص: 164

و الذي يهمنا في المقام هو ما يستفاد من قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها في نشأة اللغة عند الإنسان بعد معلومية انتهائها إلى اللّه عزّ و جل، فإنه المفيض عليهم هذه النعمة - كما في سائر نعمه عزّ و جل - بإلهام منه تعالى مباشرة، أو بالتعليم.

و الوجوه المحتملة كثيرة و قال بكل منها جمع و هي:

الأول: أنّها كانت من مجرد أصوات ذات دلالات وضعية فقط فتعدت عن تلك المرتبة بالتكرار حتّى وصلت إلى مرتبة الدلالة الاستعمالية فصارت ألفاظا خاصة كاشفة عن معان مخصوصة.

الثاني: أنّها كانت من ألفاظ ذات دلالات وضعية منشؤها الفطرة الإنسانية، كالألفاظ التي يستعملها الصبي غير المميز، أو تستعمل له فتعدت بكثرة الاستعمال عن تلك المرتبة إلى المرتبة الكاملة، كما هو مقتضى السير التكاملي في كل شيء. و لا يخفى بعد هذين الوجهين عن الآية الكريمة، مضافا إلى ما فيهما من التعسف.

الثالث: أنّها مركبة من الوجهين في بدو الأمر؛ فحصل التكامل بما يحصل التكامل في سائر الأشياء. و يرد عليه ما أورد على الوجهين السابقين.

الرابع: أنّها حصلت أصولها بتعليم اللّه تعالى، و البقية بنحو ما مر.

الخامس: أنّها حصلت جميعها بتعليم اللّه عزّ و جل لآدم فانتشرت في ذريته بحسب مقتضيات الأزمنة و الأمكنة.

و الوجه الأخير و إن كان يلائم المستفاد من الآية الكريمة، و بعض الأخبار التي تقدم ذكرها في البحث الروائي. فإن الجمع المحلى باللام المفيد للعموم في «الأسماء» و تأكيده بلفظ «كل» الواقعين في الآية الكريمة يشملان جميع الأسماء الواقعة في سلسلة الزمان إلى انقراض العالم، و في جميع اللغات و اللهجات، و قد أحاط بها آدم (عليه السّلام) إحاطة فعلية.

و هو و إن لم يكن من قدرة اللّه تعالى ببعيد، و لكنه مشكل جدا و بعيد من الأذهان، و لو كان الأمر كذلك لكانت معجزة آدم (عليه السّلام) أجلى و أرفع من معجزات جميع الأنبياء.

ص: 165

فالحق أن يقال: إنّ المراد من الجمع و التأكيد الإضافي منهما أي ما كان في عصر خلق آدم (عليه السّلام)، و ما كان مورد احتياجه في مدة حياته ثم بعد ذلك استحدثت لغات و لهجات و ألفاظ بالجعل و الوضع تخصيصا أو تخصصا، و هذا هو الذي يمكن استفادته من مجموع الروايات بعد رد بعضها إلى بعض، و هو قريب من الأذهان، و به يمكن الجمع بين بعض الوجوه المتقدمة.

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (34) بعد أن جعل اللّه تعالى آدم

اشارة

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اِسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ (34) بعد أن جعل اللّه تعالى آدم (عليه السّلام) خليفة له، و بيّن فضله بما علّمه و جعله معلما لملائكته أمرهم بالسجود له، و هذه فضيلة أخرى لآدم (عليه السّلام).

التفسير

السجود هو التذلل و الخضوع، و في الشريعة وضع الجبهة على الأرض خضوعا للّه تعالى، و بينه و بين المعنى اللغوي جامع قريب في التذلل. و هو تارة اختياري تعبدي على الوجه المعروف لدى المسلمين يوجب الثواب على الموافقة و العقاب على المخالفة، كقوله تعالى: فَاسْجُدُوا لِلّهِ وَ اُعْبُدُوا [سورة النجم، الآية: 62]. و أخرى: تسخيري تكويني. كسجود المخلوقات كما في قوله تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً [سورة الرعد، الآية: 15].

و مادة (بلس) سواء أ كانت عربية أم معربة تدل على الحزن العارض من شدة اليأس، و يلازمه اليأس من الروح و الراحة. قال تعالى: أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 44] و لعل حزن إبليس الدائم. و يأسه الأبدي حصل من قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحجر، الآية: 34] فإن الرجم و اللعن الأبدي من منبع الجود و الرحمة من المبغوضات لكل ذي شعور.

ص: 166

و الإباء: شدة الامتناع، إذ كل إباء امتناع، دون العكس،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كلكم في الجنّة إلاّ من أبى».

و الكبر و الاستكبار و التكبر هو الإعجاب بالنفس، و هو على قسمين:

مذموم - كأن يظهر الشخص من نفسه ما ليس له، و يكون من أقبح القبائح إذا كان على اللّه تعالى - و ممدوح - و هو ما إذا جهد الشخص أن يصير كبيرا في ما أذن اللّه تعالى فيه و رضي به. و كلا القسمين وردا في القرآن.

فمن الأول قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اِسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ اَلسَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ [سورة الأعراف، الآية: 40]، و قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً [سورة النساء، الآية: 173] إلى غير ذلك من الآيات.

و من الثاني مفهوم قوله تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ اَلَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [سورة الأعراف، الآية: 146]، و مثله قوله تعالى: فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [سورة الأحقاف، الآية: 20]، و يشهد له قوله تعالى: اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر، الآية: 23]. فالمراد منه أنه تعالى فوق ما سواه من كل جهة فيكون تكبره جلّ شأنه كعزته و جماله، و حينئذ يكون من قبيل صيغ المبالغة أي: أنه تعالى في غاية الكبرياء و العظمة بحيث لا يدرك ذلك فيكون إطلاق المتكبر عليه وصفيا انطباقيا. و من السنّة فكثيرة منها قولهم (عليهم السّلام): «إنّ اللّه أذن للمؤمن في كل شيء و لم يأذن له أن يذل نفسه» و غير ذلك من الروايات.

ثم إنّ سجود الملائكة لآدم (عليه السّلام) يتصور على وجوه:

الأول: أن يكون السجود شكرا للّه تعالى لهذه النعمة العظمى بعد أن عرفوا منزلة آدم (عليه السّلام) فينطبق عليه التهنئة لآدم (عليه السّلام) قهرا.

الثاني: أن يكون السجود الشكر للّه تعالى مع قصد التهنئة تبعا لشكره تعالى.

الثالث: السجود للّه محضا و جعل آدم (عليه السّلام) قبلة، كما نسجد

ص: 167

شكرا للّه تعالى إلى القبلة.

الرابع: السجود الحقيقي لآدم في مقابل السجود للّه تعالى.

الخامس: السجود للّه تعالى فقط و جعل ذلك من الضميمة الخارجية الراجحة كالصّلاة في المسجد مثلا. هذه هي الاحتمالات الثبوتية.

و أما في مقام الإثبات فقد دل الدليل العقلي و النقلي على أن السجود غاية التذلل و الخشوع، و لا يكون إلاّ لمن هو في غاية العظمة و الجلال و بناء على هذا يتعين الوجه الأخير.

و يمكن أن يقال: إنه بعد أمره تعالى بالسجود لآدم (عليه السّلام) يسقط جميع تلك الاحتمالات، إلاّ الوجه الرابع، لظهور الآية المباركة فيه.

و لكن يجاب عنه بأن ظهور الآية في ذلك الوجه ممنوع بعد وجود تلك الاحتمالات، خصوصا بعد ورود الرواية على أنه كان من سجدة الشكر للّه تعالى.

و من ذلك يظهر أنه لا وجه لما يقال من أنّ السجود عبادة ذاتية فلا يصلح إلاّ لمن هو معبود بالذات.

فإنه يرد عليه أولا: أنه لا وجه لكونه عبادة ذاتية و إلاّ لما أضر به الرياء، لأن الذاتي لا يختلف و لا يتخلف، مع اتفاق فقهاء المسلمين و ظهور نصوصهم في أن كل عبادة أتي بها رياء تكون باطلة، بل يأثم فاعلها و هو شامل للسجدة رياء. نعم لا ريب في أنه يغاير سائر العبادات في اعتبار قصد القربة شرطا زائدا على قصد أصل ذاتها؛ و له نظائر كثيرة - كقراءة القرآن و الدعاء و نحو ذلك - و قد أثبتنا ذلك في الفقه فيكون قصد الرياء مانعا عن تحقق العبادة، لا أن يكون قصد القربة شرطا لتحققها، لأن العمل بذاته مقتض لذل العبودية ما لم يكن مانع في البين.

و ثانيا: بعد أن أذن اللّه تعالى و أمر بالسجود لا فرق بين كونه عبادة ذاتية أو قصدية، لأن الذاتية - على فرضها - اقتضائية لا منطقية غير قابلة للتخلف، هذا بحسب الاحتمال. و أما الروايات فهي مختلفة و سيأتي نقلها في

ص: 168

البحث الروائي.

هذا و يمكن أن نقول بأنّ سجود الملائكة لآدم (عليه السّلام) يكون كاشفا عن تسخير اللّه تعالى أشرف مخلوقاته له و هم الملائكة الذين جعلهم اللّه تعالى حفظة للإنسان، و وكّلهم في شؤون الأرض فيكون تسخير غيرهم لآدم (عليه السّلام) بالأولى، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ . المراد بالملائكة هنا جميعهم لوجود القرينة على التعميم في قوله تعالى: فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [سورة الحجر، الآية: 30] و هذه الآية كسابقتها تبين فضل آدم (عليه السّلام) على غيره، فإن السجود - سواء كان حقيقيا أو لم يكن كذلك - يستلزم أفضلية المسجود له من الساجد.

ثم إنّ للعلماء و المفسرين كلاما في حقيقة إبليس. فعن جمع إنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن اتصف ببعض صفات الملائكة و استدلوا بقوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف، الآية: 50] و أنه تعالى بيّن حقيقته في ما حكاه اللّه تعالى عنه: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة الأعراف، الآية: 12] و حينئذ يكون الاستثناء منقطعا.

و عن جمع آخرين أنه كان من الملائكة و تمسكوا بظاهر الآية فإنه كان مشمولا لأمره تعالى للملائكة بالسجود فيكون الاستثناء متصلا.

و الصحيح أن يقال: إنه لا ريب في مباينة إبليس مع الملائكة و شموله للأمر لا يستدعي كونه منهم، فإنه ذات خبيث مفسد لأحد لفساده دلّس على الملائكة الروحانيين حتّى ظنوا أنه منهم.

و قد اقتضت الحكمة الإلهية في خلقه لمصالح ليس في وسع البشر دركها - كما في سائر ما خلقها اللّه تعالى - و لعله منها أنه أحد طرفي الإختيار في الإنسان، فإن اللّه يدعو إلى الجنّة و المغفرة و هو يدعو إلى النار و الإنسان بينهما فإن شاء نبى دعوة اللّه و إن شاء لبى دعوة الشيطان، و هذا هو الأمر بين الأمرين

ص: 169

الذي أسسه الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في مقابل الجبر و التفويض، كما تقدم.

و منها: أنه بمنزلة الكلب الحاجب يمنع عن وصول غير الأهل الى الحرم الربوبي.

و من ذلك يعرف أنّ كفر إبليس لم يكن حادثا بعد الامتناع عما أمره اللّه تعالى، و تركه للسجود، فإنّ ظاهر قوله تعالى: كانَ مِنَ اَلْكافِرِينَ و المستفاد من كيفية مخاطبته مع اللّه تعالى أنّه كان كافرا أظهر الإيمان للملائكة فاعتبروه منهم، إذ كان مدة من عمره من المتعبدين الساجدين، كما شرحه أمير المؤمنين (عليه السّلام) في بعض خطبه في نهج البلاغة.

و عليه هل يكون كفره كفر جحود، أو كفر عصيان؟ ظاهر قوله تعالى: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [سورة الأعراف، الآية: 12] فإنه أعجب بنفسه و أظهر كبره، و ظاهر حلفه في قوله تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص، الآية: 82] أنّ كفره كفر عصيان، لا جحود إلاّ أن يقال: إنه لا اعتبار بقول من كان ذاته الكذب و الخديعة، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك كله.

ثم إنّ الأمر بالسجود في هذه الآية المباركة مطلق، و في آية أخرى معلق على النفخ، كما قال تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة ص، الآية: 72]، و المستفاد من مجموع الآيات و الروايات أنه لا بد من حمل المطلق على المقيد، كما هو الشأن في جميع المحاورات، فلا يكون هنا أمران أحدهما قبل النفخ، و الآخر بعده و يأتي في البحث الروائي ما يناسب ذلك.

و هل كان سجودهم في السموات أو في الأرض؟

يظهر من قول علي (عليه السّلام) أنه كان في الأرض فإنه قال: «أول بقعة عبد اللّه عليها ظهر الكوفة لما أمر اللّه الملائكة أن يسجدوا لآدم سجدوا على ظهر الكوفة»، و ذلك لا ينافي كون موضع الكعبة مطاف الملائكة من بدء خلقها، لأنّ الكلام في خصوص السجود.

ص: 170

بحث روائي:

في قصص الأنبياء عن أبي بصير قال: «قلت لأبى عبد اللّه (عليه السلام) سجدت الملائكة و وضعوا جباههم على الأرض؟ قال: نعم تكرمة من اللّه تعالى».

أقول: هذا يختص بملائكة الأرض، و أما ملائكة السماء و حملة العرش فلا يعلم كيفية سجودهم، و لا يستفاد من هذا الحديث ذلك.

و في تحف العقول عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ السجود من الملائكة لآدم إنّما كان ذلك طاعة للّه، و محبة منهم لآدم».

أقول: تقدم وجه ذلك.

و في الإحتجاج عن موسى بن جعفر عن آبائه (عليهم السلام): «إنّ يهوديا سأل أمير المؤمنين (عليه السّلام) عن معجزات النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في مقابلة معجزات الأنبياء (عليهم السّلام) فقال: هذا آدم أسجد اللّه له الملائكة فهل فعل بمحمد شيئا من هذا؟ فقال علي (عليه السّلام): لقد كان ذلك، و لكن أسجد اللّه لآدم الملائكة، فإن سجودهم لم يكن سجود طاعة أنّهم عبدوا آدم من دون اللّه عزّ و جل، و لكن اعترافا لآدم بالفضيلة، و رحمة من اللّه له».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في أنّ السجود كان للّه تعالى، و محبة لآدم (عليه السّلام) كسابقه

فقوله (عليه السّلام): «أنّهم عبدوا آدم» مدخول النفي أي لم يكونوا كذلك.

العياشي عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) عن إبليس أ كان من الملائكة، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟ فقال (عليه السّلام): لم يكن من الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان اللّه يعلم أنه ليس منها، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و لا كرامة، فأتيت الطيار فأخبرته بما سمعت فأنكر. و قال كيف لا يكون من الملائكة؟ و اللّه يقول للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاّ إِبْلِيسَ . فدخل عليه الطيار فسأله و أنا

ص: 171

عنده فقال له: جعلت فداك قول اللّه عزّ و جل: يا أيّها الذين آمنوا في غير مكان في مخاطبة المؤمنين أ يدخل في هذه المنافقون؟ فقال (عليه السّلام):

نعم يدخلون في هذه المنافقون و الضلاّل، و كل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول: تقدم ما يتعلق به، و هذا الحديث شاهد للجمع بين ما يظهر منه أن إبليس كان من الملائكة، و ما يكون ظاهرا أنه ليس منهم.

و فيه أيضا عن جميل بن دراج عن الصادق (عليه السّلام) قال: «سألته عن إبليس أ كان من الملائكة أو هل كان يلي شيئا من أمر السماء؟ قال (عليه السّلام): لم يكن من الملائكة، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و كان مع الملائكة و كانت الملائكة ترى أنه منها، و كان اللّه يعلم أنّه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان».

و في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في حديث «فقيل له: كيف وقع الأمر على إبليس، و إنما أمر اللّه الملائكة بالسجود لآدم؟ فقال (عليه السّلام): كان إبليس منهم بالولاء، و لم يكن من جنس الملائكة، و ذلك أنّ اللّه خلق خلقا قبل آدم و كان إبليس فيهم حاكما في الأرض فعتوا و أفسدوا و سفكوا الدماء فبعث اللّه الملائكة فقتلوهم و أسروا إبليس و رفعوه إلى السماء و كان مع الملائكة يعبد اللّه إلى أن خلق اللّه تبارك و تعالى آدم».

و في الكافي سئل أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «عن الكفر و الشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه السّلام) الكفر أقدم، و ذلك أن إبليس أول من كفر و كان كفره غير شرك، لأنه لم يدع إلى عبادة غير اللّه، و إنما دعا إلى ذلك بعد فأشرك».

و فيه أيضا عن موسى بن بكر الواسطي قال: «سألت أبا الحسن موسى (عليه السّلام) عن الكفر و الشرك أيهما أقدم؟ فقال (عليه السّلام): ما عهدي بك تخاصم الناس؟! قلت: أمرني هشام بن الحكم أن أسألك عن ذلك. فقال لي: الكفر أقدم و هو الجحود، قال اللّه تعالى لإبليس: أبى و استكبر و كان من الكافرين».

أقول: تقدم ما يصلح لشرح ذلك، و المراد من

قوله: «و هو الجحود» لا بد

ص: 172

و أن يحمل على جحود الطاعة، لا جحود أصل الذات.

و فيه أيضا عن أبي بصير قال أبو عبد اللّه (عليه السّلام): «إن أول من كفر باللّه حيث خلق اللّه آدم كفر إبليس حيث رد على اللّه أمره - الحديث -» أقول: هذا شاهد لما قلناه آنفا.

القمي: «خلق اللّه آدم فبقي سنة مصورا، و كان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر مّا خلقت. فقال العالم (عليه السّلام): فقال إبليس: لئن أمرني اللّه بالسجود لهذا لعصيته - إلى ان قال - ثم قال اللّه تعالى للملائكة: اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا ، فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد».

أقول: هذا ظاهر في أمرين: أحدهما: أنه كان بانيا على معصية اللّه في هذا الموضوع.

الثاني: أنّ السجود لآدم (عليه السّلام) كان كالمغروس في أذهانهم قبل خلقه في الجملة.

و عنه أيضا عن الصادق (عليه السّلام): «الاستكبار هو أول معصية عصي اللّه بها. قال (عليه السّلام) فقال إبليس: رب اعفني من السجود لآدم و أنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب، و لا نبي مرسل، فقال جلّ جلاله: لا حاجة لي في عبادتك؛ إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد».

أقول: قد دلت الأدلة العقلية و النقلية على أن عبادة المعبود لا بد و أن تكون من حيث ما أراده المعبود دون ما يريده العابد، فالعبادة: هي فعل ما عيّنه المعبود فقط. و أما ما يخترعه العابد من عند نفسه، أو لا يعلم أنها مجعولة من قبل المعبود، فمقتضى القاعدة العقلية - و هي قاعدة وجوب دفع الضرر، خصوصا إذا كان عقابا - هو بطلان العبادة، و عدم صحة نسبة العبادة المشكوكة اليه. فما ذكره إبليس في الحديث باطل من حيث حكم العقل أيضا كسائر خطواته.

في المعاني عن أبي الحسن الرضا (عليه السّلام): «كان اسمه الحارث

ص: 173

سمي إبليس، لأنه أبلس من رحمة اللّه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه السّلام) في حديث: «إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فزعه أمر فأنزل اللّه تعالى قرآنا يتأسى به، و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى، ثم أوحى اللّه يا محمد إني أمرت فلم أطع فلا تجزع أنت أمرت فلم تطع».

أقول: هذا من الحكم في خلق إبليس، و قد تقدم بعض ما يتعلق بذلك.

وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِم

اشارة

وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) بعد أن فرغ اللّه تبارك و تعالى عن بيان بعض الجهات النوعية لخلق الإنسان حيث جعل الخلافة الإلهية فيهم، و علّم الخليفة الأسماء كلها و جعله معلما لملائكته شرع عزّ و جل في بيان بعض الجهات الشخصية لآدم (عليه السّلام) فأسكنه الجنّة إجلالا له و راحة و امتحنه ببعض التكاليف.

التفسير

قوله تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ .

السكون: مقابل الحركة. و هو من الأمور الإضافية، فتارة: سكون عن مطلق الحركة و لو في محل نفس الشيء، فيقال: سكن الماء عن الجريان، و سكنت النفس عن الحركة، قال تعالى: وَ جَعَلَ اَللَّيْلَ سَكَناً

ص: 174

[سورة الأنعام، الآية: 96]. و أخرى: في مقابل الحركة عن محل إلى آخر، و منه المسكن فإن الساكن له الحركة في مسكنه و التردد في حوائجه، فيطلق على محله المسكن و الإسكان، و ثالثة: يراد ترك حركات خاصة، من التكبر، و التجبر، و الترف و نحوها،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين» فذات المعنى في الجميع واحدة، و الاختلاف يحصل من أطوار الاستعمالات، و قد استعملت في القرآن و يأتي نقلها إن شاء اللّه تعالى.

و المستفاد من هذه الآية و سائر الآيات المتضمنة لهذه القصة أن خلق زوجة آدم (عليه السّلام) كان قبل دخول الجنّة فدخلاها معا إتماما للنعمة التي منها الأنس و الاستيناس لا سيما في الجنّة التي أعدت للترفه بكل لذة.

ثم إنّ في المقام بحثين:

الأول قد فصل خلق آدم (عليه السّلام) في الكتاب و السنة بما لا مزيد عليه و أوضح في الجملة أيضا بما لا يبقى معه محل للارتياب و لكن لم يرد في الكتاب العزيز ما يستفاد منه كيفية خلق زوجته حواء إلاّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [سورة النساء، الآية: 1]؛ و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها [سورة الأعراف، الآية: 189]. و لعل السر في ذلك أن من أدب القرآن الستر في النساء، مع أنه يكفي بيان خلق آدم عن ذلك.

و كيف كان فالآيات المتقدمة: مجملة لا يعلم المراد منها. نعم ورد في بعض الأخبار أنها خلقت من ضلع آدم (عليه السّلام)،

و قد ورد في الحديث: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنهنّ خلقن من ضلع أعوج»، و سيأتي نقل الأخبار في البحث الروائي.

و الوجوه المتصورة في هذه الأخبار ثلاثة: الأول: قطع عضو من آدم (عليه السّلام) و هو الضلع الأيسر بعد إتمام خلقته، و نفخ الروح فيه، و خلق زوجته من هذا العضو المقتطع.

ص: 175

الثاني: نفس الوجه السابق قبل نفخ الروح فيه، فإنه بعد تمامية الهيئة و المادة قطع العضو و خلق منه زوجته. و هذان الوجهان بعيدان جدا، و فيهما من القبح ما لا يخفى.

الثالث: أنه بعد خلق آدم (عليه السّلام) من الطينة فضل منها شيء بحيث لو استعملت في آدم (عليه السّلام) لكان استعمالها في ضلعه الأيسر، فكان خلق زوجته من هذه الفضالة فالطينة واحدة فيهما و التبعية متحققة.

و الوجه الأخير هو المتحصل مما وصل إلينا من الأخبار في تفسير الآيات الشريفة، و هو الموافق للذوق السليم، و العقل المستقيم. و يمكن أن يراد من قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها [سورة الأعراف، الآية: 189] ذلك و لا ينافي ما اخترناه في الآيتين المتقدمتين، لأن المستفاد مطلق المشابهة الجنسية بعد ملاحظة جميع الآيات، فإن قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [سورة الروم، الآية: 21] قرينة لما ذكرناه و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع في المقام.

البحث الثاني: في جنة آدم (عليه السّلام) و قد اختلفت آراء العلماء و المفسرين فيها، و عمدة الأقوال ثلاثة:

القول الأول: إنّها جنّة الخلد التي أعدها اللّه للمؤمنين في الآخرة و استدلوا بأنها ذكرت في الآيات السابقة، و ظواهر بعض الأخبار.

و هذا القول ممتنع، لأنه من قبيل تقديم المعلول على العلة، لأن نعيم الجنة، و عذاب الجحيم إنما يحصلان بالعمل كما هو ظاهر الآيات و الأحاديث، بل إن الجنّة و النار قيعان محض و إنما تعمران بالأعمال كما في الحديث، و لم يصدر من آدم (عليه السّلام) و حواء عمل بعد حتّى تكون لهما جنة الآخرة. مع أن مجرد الإطلاق لا يكفي في الانطباق على جنة الخلد ما لم تكن قرينة على الخلاف إلاّ إذا أرادوا من جنّة الخلد ما يأتي بيانه.

القول الثاني: إنّها من جنان البرزخ و ادعي الكشف لإثباته بل عن

ص: 176

بعض من يدعيه أنه دخلها و لم يزل يدخلها.

و هذا باطل لما ثبت في محله من أن دعوى الكشف لا تستقيم إلاّ بأمرين: الأول: كون من يدعيه كاملا من حيث العلم بالفلسفة الإلهية، و العمل بالأحكام الشرعية. و الثاني: ورود تقرير من الشرع لما كشف. و كل ذلك ممنوع في من يدعي الكشف في المقام. نعم لا ريب في وجود أصل عالم البرزخ بنصوص متواترة يأتي نقلها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

القول الثالث: إنّها جنة من جنان الدنيا خلقها اللّه تعالى لإسكان آدم (عليه السّلام) و حواء. و هذا هو المتعين بل منصوص عليه في الجملة كما يأتي في البحث الروائي.

و قد أيد هذا القول بأمور:

أحدها - أنها لو كانت جنة الخلد لما وقع فيها تكليف، لأنها دار النعيم و الراحة لا دار التكليف.

الثاني: أنّها لو كانت جنة الخلد لما خرج منها آدم (عليه السّلام) و حواء لفرض أنها دار الخلد.

الثالث: أنّ الجنّة الموعود بها لا يدخلها إلاّ المؤمنون المتقون فكيف يدخلها إبليس.

الرابع: أنّها لو كانت جنّة الخلد كيف يقول الشيطان لآدم (عليه السّلام): «هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى» [سورة طه، الآية: 120]، فإنّه ليس له أن يقول ذلك.

و لكن يمكن المناقشة في هذه الأمور بأن ذلك كله صحيح إذا كان المراد من جنّة الخلد هي التي أعدت للمتقين بعد الحشر و النشر و الفراغ من الحساب. و أما قبل وقوع ذلك و كون المورد من مادة الجنّة فقط فلا دليل على امتناع ما ذكروه من عقل أو نقل، فيكون نظير

ما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما بين قبري و منبري روضة من رياض الجنّة»

و قوله

ص: 177

(صلّى اللّه عليه و آله): «منبري على ترعة من ترع الجنّة»، مع أنه يحضر في تلك الروضة المقدسة البر و الفاجر.

و كيف كان فالجنّة هي من جنان الدنيا أعدها اللّه تعالى لآدم (عليه السّلام) و حواء إجلالا لهما و لاحتياجهما إلى الغذاء و الراحة، و يرشد الى ذلك ما ذكرناه سابقا من أن آدم (عليه السّلام) خلق من الأرض و في الأرض و للأرض، و قد سخر اللّه تعالى له الأرض و السماء بعد تعليمه الأسماء كلها و جعله خليفة فيها. نعم وقع الكلام في محل هذه الجنّة، و يأتي بعد ذلك بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون المراد من جنة الخلد ما ذكرناه، و من جنة البرزخ ما ذكره الفلاسفة: من أن لجميع الموجودات نحو وجود برزخي في مقابل سائر أنحاء وجوده قد يظهر ذلك لأهله، كما يظهر جملة من الموجودات في عالم النوم للنائم.

قوله تعالى: وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما . الأكل معروف، و يعبر عنه بمطلق الصرف و الإنفاق أيضا كقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ [سورة النساء، الآية: 29] و يمكن تأييد هذا ببعض الأخبار الواردة في المقام. و الرغد: الطيب الواسع الهنيء، و يمكن أن يكون قوله تعالى: حَيْثُ شِئْتُما تأكيدا لمعنى الرغد إذا لوحظ الرغد بالمعنى الأعم من السعة في المكان و الزمان، و سائر الخصوصيات و الجهات، فتدل على الإباحة المطلقة إلاّ الشجرة الخاصة؛ و أن ذلك هو معنى رغد العيش لغة، فيستفاد منه التوسعة في جميع وسائل النعمة و الراحة لهما.

قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . القرب المنهي عنه في المقام كناية عن كثرة الاهتمام بترك المنهي عنه، فكأنه تعالى نهى عن الاقتراب منه فضلا عن ارتكابه و هو كثير في القرآن الكريم و المحاورات الصحيحة قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [سورة الأنعام، الآية: 151]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى [سورة الإسراء، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [سورة الإسراء، الآية: 34] فيكون محصل المعنى التأكيد

ص: 178

و المبالغة في ترك الأكل من الشجرة، و يشهد لذلك قوله تعالى: فَلَمّا ذاقَا اَلشَّجَرَةَ [سورة الأعراف، الآية: 22].

و يمكن أن يكون النهي عن نفس القرب موضوعية خاصة، لأن من يقترب إلى المبغوض يوشك أن يقع فيه

كما قال علي (عليه السّلام) «المعاصي حمى اللّه و من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيها».

و لم يبين سبحانه الشجرة التي نهى آدم (عليه السّلام) عنها، و قد اختلفت الروايات في تعيينها، و تفاوتت أقوال المفسرين فيها بين الإفراط و التفريط، فعن بعض أنها شجرة الكافور، و عن آخر أنها السنبلة، و عن ثالث أن البحث عنها لغو لا فائدة فيه. فإن كان مستند هذه الأقوال الروايات الواردة في المقام فهي قاصرة سندا، و لم يحرز كونها لبيان الواقع، و إن كان غيرها فلم يعلم حجيته.

نعم، في بعض الأخبار أنّها من شجرة الخلد، و هو مخالف لما في أخبار أخرى تدل على أنّ الجنّة من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر - كما سيأتي - و تقدم شرح ذلك.

و يمكن أن يقال: إنّها كانت مثالا لحقيقة الدنيا، فإنّها تظهر لأنبياء اللّه تعالى و أوليائه بأشكال مختلفة، فتارة: في صورة الامرأة كما ظهرت لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ليلة المعراج و ظهرت لعلي (عليه السّلام)، و أخرى: ظهرت لآدم (عليه السّلام) و حواء في صورة الشجرة و قد نهى اللّه عن قربها، و يشهد لذلك قوله تعالى: فَتَشْقى [سورة طه، الآية: 117] أي تقع في تعب الدنيا، كما أن التأمل في مجموع الآيات و الروايات الواصلة إلينا في قصة آدم (عليه السّلام) تدل على أن النهي عن الدنو إلى الدنيا و الاقتراب منها لذلك لا سيما لمن اتصف بالخلافة الإلهية، و سيأتي في البحث الروائي تتمة الكلام.

و كيف كان فإن النهي كان لمصالح كثيرة منها: الإشارة إلى أن الإنسان لم يخلق للبقاء في تلك الجنة، بل خلق للأرض، و في الأرض و منها، كما عرفت، فلا بد و أن تقع هذه المخالفة و كم كانت لها فوائد و آثار لآدم

ص: 179

(عليه السّلام) و ذريته فلولاها لما حظي بمقام الاصطفاء و لما ظهرت آثار حكمته البالغة في خلق الإنسان و غير ذلك من الحكم و المصالح.

قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ . الظلم هو عدم النور و للظلمة مراتب كثيرة فهي تتحقق بإتيان الكبيرة، أو الصغيرة، أو ترك الأولى و ربما تتحقق في الغفلة عن اللّه تعالى. و المراد به في المقام الظلم على النفس، لأن ارتكاب ما لا يرتضيه المعبود و لو على نحو التنزه بالنسبة إلى بعض لا يناسب العبودية المحضة، فيستفاد من ذلك أن النهي كان من مجرد الإرشاد إلى ما يترتب على ارتكابه من آثار، كما هي مذكورة في قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى [سورة طه، 118].

فيكون المعنى إنك إن خرجت منها تمنع نفسك من الكرامة و النعيم، و تلقى هذه المصاعب و هي عبارة أخرى عن الشقاء و التعب الملازم لدار الدنيا، كما قاله تعالى في آية أخرى، فلا يكون الارتكاب موجبا لترتب العقاب الأخروي.

قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها . مادة (ز ل ل) تدل على الاسترسال في الشيء بلا تعمد و قصد و لو كان بسبب الترغيب من الغير مكرا و خديعة، كما في المقام، فإن الشيطان حملهما على الأكل من الشجرة بما وسوس لهما في قوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى [سورة طه، الآية: 120]، و قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ اَلشَّجَرَةِ إِلاّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ [سورة الأعراف، الآية: 20] و قسمه لهما: إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ [سورة الأعراف، الآية: 21].

ثم إن الآيات الواردة في المقام ثلاث:

الأولى: هذه الآية و هي لا تدل على وقوع مكروه منهما عن عمد و اختيار حتّى يبحث عن أنه كبيرة أو صغيرة، أو من مجرد ترك الأولى. فهي إرشاد محض إلى ترتب أثر الارتكاب عليه ترتب اللازم على الملزوم. و أما أن هذا اللازم مكروه له تعالى أو غيره فلا يستفاد ذلك منها.

الثانية: قوله تعالى:

ص: 180

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115] و هي أصرح في عدم صحة نسبة العمد اليه، فيكون نظير قصة ذي الشمالين مع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) التي رواها الفريقان الدالة على نسيان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الصلاة المحمول على الإنساء، لمصالح كثيرة.

الثالثة: قوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [سورة طه، الآية: 121].

و الحق إن لنفس استعمال هذه العناوين موضوعية خاصة في آدم لمصالح كثيرة، منها أن لا يخطر في قلب آدم الكبر، لأنه خليفة اللّه تعالى، و أنه خلقه بيده و نفخ فيه من روحه و علمه الأسماء، و أسجد الملائكة له، فيكون استعمال العناوين المتقدمة في الآيات المباركة من اللّه تعالى في آدم (عليه السلام) نحو إصلاح تربوي و معنوي له، لا أن يكون المراد الواقعي منها بقرينة سائر الآيات و الروايات.

قوله تعالى: فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ . أي من النّعم التي شرحها اللّه عزّ و جل في قوله تعالى: وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما ، و تدل الآية المباركة على أنه لم يخرج عما أعده اللّه تعالى له من مقام خلافته، و تعليم الأسماء، و هذه قرينة أخرى على أن الصادر منهما لم يكن معصية. ثم إن الآية المباركة مترتبة على سابقتها ترتب المسبب على السبب.

قوله تعالى: وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ . الهبوط: النزول من العلو إلى ما دونه، و المراد به هنا النزول من المحل الذي لا عناء فيه إلى دار التعب و الفناء، و الكدورة و الشقاء، و لا اختصاص لذلك بآدم (عليه السلام) و حواء، بل هو جار في مطلق الإنسان، و قد أثبت ذلك علماء الأخلاق و الفلسفة و العرفان.

و ربما يتوهم: أنّ الآية تدل على أنّ الخلق كان في السماء فنزل آدم (عليه السلام) منها إلى الأرض. و لكنه مردود بأنّ الهبوط أعم من ذلك فإن معناه النزول من محل مرتفع مطلقا كما في قوله تعالى: يا نُوحُ اِهْبِطْ بِسَلامٍ مِنّا وَ بَرَكاتٍ [سورة هود، الآية: 48]، و قوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً

ص: 181

[سورة البقرة، الآية: 61]. و أما الأخبار فيأتي ما يتعلق بها عند نقلها.

و الأمر بالهبوط هنا تكويني، كما في قوله تعالى: يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ [سورة الأنبياء، الآية: 69]، و قوله تعالى: يا أَرْضُ اِبْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي [سورة هود، الآية: 44]، و قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل، الآية: 40] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و يصح أن يكون تشريعيا لوجوب الهجرة عقلا و شرعا لإعلاء كلمة اللّه تعالى كما كان شأن جميع الأنبياء و الرسل و الأولياء، فكما أنّ للهبوط دخلا في نظام التكوين تكون للهجرة دخل في نظام التشريع فهذا الأمر تكويني من جهة و تشريعي من جهة أخرى.

و مورد الخطاب إما آدم (عليه السلام) و إبليس، و إتيان الإثنين بلفظ الجمع شائع، و يشهد له قوله تعالى: قالَ اِهْبِطا مِنْها [سورة طه، الآية:

123]، أو هما مع حواء، أو الذرية، و قد وردت بالنسبة إلى بعضها روايات، و لا فائدة في البحث عن ذلك بعد تحقق المقصود و هو الهبوط بالنسبة إلى الجميع و المعاداة بينهم.

و هذه العداوة تكوينية اقتضائية حاصلة من التنافي و التباين بين الأنواع المختلفة، و الصفات المتغائرة، و ما الدنيا إلاّ جمع المتخالفات و تفريق المجتمعات، و هي دار الكون و الفساد.

قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ . هذا بيان حكمة ارشاد آدم (عليه السلام) الى ترك الأكل، و هناك حكم أخرى تأتي في الآيات المناسبة لها.

و المستفاد من هذه الآية المباركة أن الأرض هي الغاية من حياة الإنسان فقط فقد خلق آدم (عليه السلام) للأرض للتمتع بخيراتها و البقاء فيها إلى وقت محدود. و أنها دار الأضداد و العداوة و الشقاء تكوينا، لكونها دار الكون و الفساد، و هداية خلفاء اللّه تعالى و إغواء الشياطين.

ص: 182

كما أنّ هذه الآيات و غيرها مما ورد في قصة آدم (عليه السلام) تدل على أن هؤلاء الثلاثة كان يرى أحدهم الآخر قبل الهبوط قال تعالى: إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ [سورة طه، الآية: 117]، و قال تعالى: وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ اَلنّاصِحِينَ [سورة الأعراف، الآية: 21]، و قال تعالى: قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ اَلْخُلْدِ [سورة طه، الآية: 120] و غير ذلك من الآيات و الروايات، و أما بعد الهبوط فلا يراه إلاّ بعض أنبياء اللّه تعالى و أوليائه.

قوله تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ . التلقّي: القبول و الأخذ بعد البيان و الذكر. و المراد بالكلمات هنا كل ما يكون له أثر في رفع الحزازة الحاصلة من المخالفة، فهي راجعة إلى إظهار توبته، و ندامته، و استغفاره، و يمكن تطبيقها على الدعوات التي ألهمها اللّه تعالى لآدم (عليه السلام)، كقوله عزّ و جل: قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 23] و غير ذلك مما يأتي في الروايات، فإنه يكون من باب التطبيق أيضا.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

التوب: هو الرجوع. فإذا وصف به اللّه تعالى يكون إما بمعنى إلهام التوبة إلى العبد و توفيقه لها، أو بمعنى رجوع اللّه و إقباله على العبد بعد مخالفته و عصيانه. و إذا وصف به العبد يكون بمعنى الندم عما فعل،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و لا يلزم أن تكون التوبة من الذنب، بل تصح عن التوجه إلى غير اللّه تعالى و لو كان مباحا فإن «حسنات الأبرار سيئات المقربين».

و كل توبة من العبد تلازم أمورا ثلاثة: الأول - توفيق اللّه عبده للتوبة برجوعه تعالى عليه بعد العصيان، قال تعالى: ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة التوبة، الآية: 118].

الثاني: توبة العبد و ندمه عن المعصية.

الثالث: قبوله تعالى توبة العبد، و يأتي تفصيل ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها.

ص: 183

و التواب إما بمعنى قبول التوبة عن عباده كثيرا بحسب كثرة التائبين أو أنه عزّ و جل يقبل توبة العبد الواحد و إن صدر الذنب عنه متعددا، أو يكون بمعنى كل منهما، و جميع ذلك صحيح.

و الجمع بين وصفي التواب و الرحيم فيه إيماء إلى أنه تعالى يتفضل على التائب، مضافا إلى العفو و المغفرة بالإحسان إليه.

و في مثل هذه الآية المباركة دلالة واضحة على أن اللّه تعالى هو الذي يلهم عباده التوبة و يقبلها، و أن بابها مفتوح من حين هبوط آدم (عليه السلام) إلى انقراض العالم، بل التوبة من أهم ما انتفع به الإنسان من الهبوط إلى الأرض، فإنه تعالى جعل من حكمته التوبة و العصيان قريني الإنسان كفرسي الرهان، فهذه الآية المباركة في مقام بيان بعض حكم الهبوط و في الآية التالية البعض الآخر.

قوله تعالى: قُلْنَا اِهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً . قد ذكر سبحانه و تعالى الهبوط مرتين:

الأولى - لبيان أصل الهبوط من الجنّة إلى دار الشقاء و العناء و العداء، كما عرفت.

و الثانية: لبيان الغاية من هذا الهبوط و هي ظهور سعادة السعداء، و شقاوة الأشقياء فالآية تبين الغرض من الخلق، و أنّه كان في الأرض، و الخطاب هنا ظاهر في الجميع أي: آدم (عليه السلام) و ذريته.

و يمكن أن يقال: إنّ الهبوط الأول من حيث الجهات المادية الجسمانية أي الدنيوية. و الهبوط الثاني من حيث الاستكمالات المعنوية في سلسلة الصعود إلى المقامات العالية الإنسانية، و لذا ذكره تعالى بعد التوبة و الرجوع إلى اللّه عزّ و جل، و أنه الغاية القصوى من الهبوط، و ذكر قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . بعنوان مستقل لئلا يتوهم أحد أنه غاية الهبوط أيضا، بل هو أمر اختياري حاصل لمن اختار ذلك بعمده و اختياره.

ص: 184

قوله تعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

جملة خبرية في مقام الإنشاء، يعني أنّ من اتبع هدى اللّه تعالى ينبغي أن لا يخاف من غيره، و لا يحزن لما فات عنه، لأنّ متابعة العبد لهداية اللّه تعالى توجب انقطاعه اليه و هو يستلزم نفي الحزن و الخوف عنه في الدارين، و يشهد لذلك قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية: 277]، و كذا قوله تعالى: فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأنعام، الآية: 48] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، هذا من جهة المتابعة. و أما من جهة العبودية فيعرضه الحزن، لأنه ما بين الخوف و الرجاء، كما في كثير من الروايات.

و المراد بالهداية في هذه الآية المباركة جميع الشرائع السماوية كل بحسب زمانه و عصره. و المراد من المتابعة هنا الالتزام بها عملا و اعتقادا.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . مادة كفر في مطلق استعمالاتها تدل على الستر - كما تقدم - سواء أ كان متعلقه أصل الإيمان أم الطاعة فيساوق الفسق من هذه الناحية، أم عن الشكر فيساوق الكفران. و التكذيب خلاف التصديق، و كل منهما أعم من القول و الفعل. و آيات اللّه علاماته كتوحيده و عبادته و معاده من حيث الثواب و العقاب فيثبت بتكذيب كل واحد منها كفر الجحود. و إنما ذكر تعالى الكفر الخاص أي التكذيب بعد العام أي مطلق الكفر، لينبه على الجحود الذي هو موجب للخلود في النار.

ثم إنه يستفاد من مجموع الآيات الواردة في خلق آدم (عليه السلام) هنا، و في سورة الأعراف، و سورة طه أن له مراحل عشرة و لا تخلو ذريته عنها أيضا.

الأولى: مرحلة ما قبل نفخ الروح و هي بمنزلة الجنين في سائر أفراد الإنسان.

الثانية: مرحلة نفخ الروح و هي بمنزلة تكريم المولود و هي حالة اعتناء

ص: 185

اللّه تعالى بآدم (عليه السلام) و تعظيمه و أمره بسجود الملائكة له.

الثالثة: مرحلة التربية، و هي تعليم اللّه تعالى الأسماء كلها لآدم (عليه السلام)، و هي بمنزلة تعليم الوالدين و تربيتهما للولد.

الرابعة: مرحلة بيان الفضل و هي مرحلة السجود لآدم (عليه السلام) و إظهار فضل المسجود له على الساجد، و هذه المرحلة توجد في ذريته، و هي حياة التفاضل و التفاخر.

الخامسة: مرحلة التمتع و اللعب و هي مرحلة إسكان آدم (عليه السلام) الجنة.

السادسة: مرحلة تزاحم الأهواء، و الأفكار، و الآمال و هي مرحلة ارشاد آدم (عليه السلام) إلى ترك الأكل من الشجرة التي قلنا إنها بمنزلة الوجود المثالي للدنيا لئلا يقع في متاعبها و مشاقها، و هي مرحلة التميز في أفراد الإنسان.

السابعة: مرحلة التمايل الجنسي و توليد المثل، و هي مرحلة ظهور السوأة فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما [سورة طه، الآية: 121]، و هي ظاهرة في أفراد الإنسان.

الثامنة: مرحلة العيش و البقاء الدائمي المستفاد من تعليق قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلاّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى [سورة طه، الآية: 118] على ترك الأكل من الشجرة، و العيش و البقاء غير الدائمي المستفاد من قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [سورة البقرة، الآية: 36].

التاسعة: مرحلة التكليف و العمل إما في طريق الهداية و الإيمان أو الكفر و الخسران.

العاشرة: مرحلة النتائج إما الثواب، أو العقاب.

هذه هي المراحل التي يمر بها الإنسان كما مرت على آدم (عليه السلام) أول خليقته، و يمكن إرجاعها إلى ثلاث مراحل: مرحلة

ص: 186

الأجنة، مرحلة الطفولة، مرحلة الرشد و الكمال، و تنطوي في كل مرحلة سائر الحالات المتقدمة و تجري هذه المراحل في النوع البشري و أصول المجتمعات أيضا.

بحوث المقام
بحث روائي:

في الكافي و العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن جنة آدم؟ فقال: من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا».

أقول: لا يستفاد من هذه الرواية مكانها و إنما يستفاد انها كانت من جنات الدنيا، و لا بد من التأمل في ذيل هذه الرواية: «و لو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبدا» لأن جنات الآخرة لا يخرج أهلها منها بعد عملهم و عمرانهم لها، و أما أن الحكم كذلك قبل العمل و قبل كل شيء ففيه بحث و تفصيل.

في تفسير القمي: «سئل الصادق (عليه السلام) عن جنّة آدم من جنات الدنيا أم من جنات الآخرة؟ فقال: كانت من جنات الدنيا تطلع فيها الشمس و القمر، و لو كانت من جنات الآخرة ما أخرج منها أبدا».

أقول: تقدم ما يتعلق بها في سابقها.

العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ يعني: لا تأكلا منها».

أقول: قد مر أنه يمكن إرادة نفس القرب أيضا اهتماما بالنهي فيكون ذكر الأكل من باب ذكر النتيجة.

تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . شجرة العلم شجرة علم محمد و آل محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الذين آثرهم اللّه عزّ و جل به دون سائر خلقه، فقال تعالى: لا تقربا هذه الشجرة؛ شجرة العلم، فإنها لمحمد و آله خاصة، دون غيرهم و لا يتناول منها بأمر اللّه إلاّ

ص: 187

هم - ثم قال (عليه السلام) - و كانت هذه الشجرة و جنسها تحمل البر، و العنب، و التين، و العناب و سائر أنواع الثمار و الفواكه و الأطعمة. فلذلك اختلف الحاكمون لذكر الشجرة، فقال بعضهم: هي برة، و قال آخرون: هي عنبة، و قال آخرون: هي تينة، و قال آخرون: هي عنابة».

أقول: أما ذيل الحديث فيؤيد ما قلناه: من أن الشجرة كانت مثالا للدنيا و ما فيها بحسب الوجود المثالي. و أما صدره فيمكن حمله على أن لبعض تلك الأشجار نحو أثر خاص لم يظهر ذلك إلاّ لبعض أولياء اللّه تعالى، كما يدل عليه ما ورد في بعض أخبار الطينات.

في العيون عن عبد السلام بن صالح الهروي: «قلت للرضا (عليه السلام): يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم و حواء ما كانت؟ فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها الحنطة، و منهم من يروي أنها العنب و منهم من يروي أنها شجرة الحسد؟ فقال (عليه السلام): كل ذلك حق. قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟ فقال يا ابن الصلت: إنّ شجرة الجنّة تحمل أنواعا، و كانت شجرة الحنطة و فيها عنب و ليست كشجرة الدنيا».

أقول: لا ريب في أن تلك الجنّة و لو كانت من الدنيا لها خصوصية ليست تلك الخصوصية في جميع جنات الدنيا، و من جهة قلة التزاحم و التنافي في تلك الجنّة أو عدمهما، فيصح أن تحمل شجرة منها أنواعا من الثمار، فلا تنافي بين هذه الرواية و بين ما قلناه سابقا، و قد دلت روايات أخرى متعددة على أنها شجرة الحنطة، و لا تنافي ما تقدم.

في الكافي عن أبي الحسن (عليه السلام): «إن للّه إرادتين و مشيتين: إرادة حتم و إرادة عزم، ينهى و هو يشاء، و يأمر و هو لا يشاء. أو ما رأيت أنه نهى آدم و زوجته أن يأكلا من الشجرة و شاء ذلك، و لو لم يشأ أن يأكلا لما غلب مشيتهما مشية اللّه؟!! و أمر إبراهيم أن يذبح إسماعيل و لم يشأ أن يذبحه و لو شاء لما غلبت مشية إبراهيم مشية اللّه».

و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أمر اللّه و لم يشأ و شاء و لم

ص: 188

يأمر. أمر إبليس أن يسجد لآدم و شاء أن لا يسجد؛ و نهى آدم عن أكل الشجرة و شاء أن يأكل منها و لو لم يشأ لم يأكل».

أقول: بيان مثل هذه الأخبار يحتاج إلى شيء من الشرح و التفصيل موكول إلى محله. المعروف بين العلماء أن الإرادة إنما هي الشوق المؤكد الحاصل بعد التصور و التصديق، و هذا في إرادة المخلوق واضح لا ريب فيه؛ و حيث إن هذا المعنى في الذات الأقدس الربوبي يستلزم كون الذات محل الحوادث و هو ممتنع، و لذا جعل الأئمة الهداة (عليهم السلام) الإرادة بجميع مقدماتها من صفات الفعل لا الذات و صرحوا بأن المشية و الإرادة محدثة، و بذلك تنحل جميع الإشكالات الواردة على إرادته تعالى التي وقع الفلاسفة في اضطراب عظيم في الجواب عنها، لأنهم ذهبوا إلى أن الإرادة في مرتبة ذاته الأقدس و الاختلاف بين الصفات إنما يكون في المفهوم دون المصداق. و لعلنا نتعرض لمذهبهم و الجواب عنه في الموضع المناسب.

و عن جمع من أكابر المحققين إرجاع الإرادة فيه عزّ و جل إلى الرضاء، و ابتهاج الذات بالذات، و فصل القول في ذلك، و هذا القول و إن كان حسنا ثبوتا، و لكن لا ربط له بالإرادة، و يحتاج إلى تكلف و عناية.

ثم إنّ الإرادة إما تكوينية أو تشريعية، فإن تعلقت بفعل ذات المريد فهي تكوينية، و إن تعلقت بفعل الغير و كانت كإيجاد الداعي لأن يفعل الغير ذلك الفعل بحيث لو لا هذا الداعي لا يفعله تكون تشريعية. فتكون إرادته تعالى بالنسبة إلى النظام الأتم الأكمل من الأولى، و بالنسبة إلى إنزال الكتب و إرسال الرسل من الثانية، هذا بحسب الظاهر، و أما بحسب الواقع و الحقيقة فالثانية ترجع إلى الأولى، فإن من أحسن النظام و أتمه و أكمله في عالم التكوين إنزال الكتب و إرسال الرسل.

و أما قوله (عليه السلام): «أمر اللّه و لم يشأ» فالمراد بالأمر الأمر التشريعي الظاهري، و المراد بمشية العدم المشية التكوينية الاقتضائية كما أن المراد بنهي آدم (عليه السلام) النهي الإرشادي الظاهري و المراد بمشية الأكل المشية التكوينية الاقتضائية، و في كل ذلك مصالح لا تعد و لا تحصى.

ص: 189

و عليه يحمل ما

في الرواية الأخرى: «إن للّه إرادتين و مشيئتين» و هذه الروايات صريحة في أن ما صدر من آدم (عليه السلام) لم تكن من المعصية، كما عرفت. و المراد من

قوله «و نهى آدم عن أكل الشجرة» أي القرب منها، كما تقدم، و سيأتي في بعض الروايات التصريح بذلك.

و في العلل عن الباقر (عليه السلام): «و اللّه لقد خلق اللّه آدم للدنيا، و أسكنه الجنّة ليعصيه فيرده إلى ما خلقه».

أقول: و هذه الرواية نحو شرح و بيان لجميع الأخبار الواردة في المقام و هي دليل على ما قلناه مرارا: من أن آدم (عليه السلام) من الأرض و للأرض.

في إكمال الدين عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن اللّه عزّ و جل عهد إلى آدم أن لا يقرب الشجرة فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها نسي فأكل منها، و هو قول اللّه عزّ و جل: و لقد عهدنا إلى آدم فنسي و لم نجد له عزما».

أقول: يصح أن يراد بالنسيان الإنساء يعني: أنساه اللّه تعالى لتجري مقاديره الأزلية، كما مر في حديث ذي الشمالين في صلاة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

العياشي في تفسيره عن أحدهما (عليهما السلام) «و قد سئل كيف أخذ اللّه آدم بالنسيان»؟ فقال: «إنه لم ينس و كيف ينسى و هو يذكره و يقول له إبليس: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين».

أقول: هذا الحديث قرينة واضحة - لما تقدم من الأخبار - على أن المراد بالنسيان الإنساء.

في العيون عن علي بن محمد بن الجهم قال: «حضرت مجلس المأمون و عنده علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أليس من قولك إن الأنبياء معصومون؟

ص: 190

فقال: بلى. قال: فما معنى قول اللّه تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ؟ قال: إن اللّه تعالى قال لآدم: اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ اَلشَّجَرَةَ . و أشار لهما إلى شجرة الحنطة فتكونا من الظالمين، و لم يقل لهما: لا تأكلا من هذه الشجرة، و لا مما كان من جنسها، فلم يقربا تلك الشجرة، و لم يأكلا منها، و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما، و قال: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة. و إنما نهاكما أن تقربا غيرها، و لم ينهكما أن تأكلا منها إلاّ أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين و قاسمهما إني لكما لمن الناصحين، و لم يكن آدم و حواء شاهدين قبل ذلك من يحلف باللّه كاذبا، فدلاهما بغرور فأكلا منها ثقة بيمينه باللّه، و كان ذلك من آدم قبل النبوة، و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به دخول النار، و إنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم، فلما اجتباه اللّه و جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة، قال اللّه عزّ و جل: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى ، و قال عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أقول: مثل هذه الروايات الواردة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) خصوصا مولانا الرضا (عليه السلام) في الجواب عن الإشكالات التي أوردت على عصمة الأنبياء (صلوات اللّه عليهم) لا يختص بأن يجيب بها الإمام (عليه السلام)، بل يمكن أن يجاب بكل وجه صحيح يجمع به بين الأدلة الدالة على العصمة، و مثل هذه الآيات الموهمة للتنافي بينها و بين العصمة، و لنا أن نجيب عن الإشكال في هذا المجال بكل ما يقبله الطبع السليم و الذهن المستقيم. و لكن في رواية ابن الجهم جهات من البحث:

(الأولى): في سند الحديث علي بن محمد بن الجهم و قد ضعفه كل من تعرض له فلا اعتبار بمثل هذا الحديث، و سياق المتن يدل على أنه ليس من الإمام (عليه السلام)، خصوصا من مثل مولانا الرضا (عليه السلام)، بل هو من المفتعلات عليه.

(الثانية):

قوله: «و إنما أكلا من غيرها» مخالف لصريح الآية المباركة

ص: 191

الدالة على أن الأكل كان من نفس الشجرة المنهي عنها، كما تقدم.

(الثالثة):

قوله: «و كان ذلك قبل النبوة» مخالف لإجماع أهل البيت و الإمامية من عصمة الأنبياء مطلقا، كما سيأتي في البحث الكلامي فلا بد من طرح الحديث.

و عن أبي الصلت الهروي في الأمالي قال: «لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات من اليهود، و النصارى، و المجوس، و الصابئين و سائر أهل المقالات، فلم يقم أحد حتّى ألزم حجته كأنه ألقم حجرا، فقام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال له: يا ابن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أتقول بعصمة الأنبياء؟ قال: بلى. قال: فما تعمل بقول اللّه عزّ و جل: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى - إلى أن قال - فقال مولانا الرضا (عليه السلام): ويحك يا علي اتق اللّه، و لا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش، و لا تتأول كتاب اللّه عزّ و جل برأيك، فإن اللّه عزّ و جل يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ . أما قوله عزّ و جل في آدم: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن اللّه عزّ و جل خلق آدم حجة في أرضه، و خليفته في بلاده لم يخلقه للجنة، و كانت المعصية من آدم في الجنّة لا في الأرض لتتم مقادير أمر اللّه عزّ و جل، فلما أهبط إلى الأرض و جعل حجة و خليفة عصم بقوله عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أقول: و هذا الحديث شاهد لما قلنا في الحديث السابق و

قوله: «فإن اللّه عزّ و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفته في بلاده» ظاهر بل ناص في عدم صدور المعصية منه من حين نفخ الروح فيه كما تدل عليه نصوص مستفيضة أن أول ما خلقه اللّه عزّ و جل هو الحجة، و آخر من يذهب من الدنيا هو الحجة.

و أما

قوله: «و كانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض» تقدم ما يتعلق به من أنه ليس من النهي الموجب للمعصية الاصطلاحية و إنما هو ارشاد إلى عدم وقوعه في متاعب الدنيا و مشاقها، كما مر.

ص: 192

علي بن إبراهيم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «أن موسى سأل ربه أن يجمع بينه و بين آدم (عليه السلام) فجمع، فقال له موسى (عليه السلام): يا أبت ألم يخلقك اللّه بيده، و نفخ فيك من روحه، و أسجد لك الملائكة، و أمرك ان لا تأكل من الشجرة، فلم عصيته؟ فقال: يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي؟ قال: بثلاثين ألف سنة. فقال: هو ذاك. قال الصادق (عليه السلام): فحج آدم موسى».

أقول: رواه الفريقان، كما في كنز العمال عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و معنى الرواية احتج آدم على موسى و غلب عليه، و المراد بوجدان خطيئة آدم قبل خلقه التقدير الاقتضائي للّه تبارك و تعالى باختيار آدم (عليه السلام).

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) و أنا حاضر: كم لبث آدم و زوجته في الجنّة حتّى أخرجهما منها خطيئتهما؟ فقال: إن اللّه تبارك و تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة، ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه ثم أسجد له ملائكته و أسكنه جنته من يومه ذلك، فو اللّه ما استقر فيها إلاّ ست ساعات من يومه ذلك حتّى عصى اللّه تعالى، فأخرجهما اللّه منها بعد غروب الشمس و صيرا بفناء الجنّة حتّى أصبحا فبدت لهما سوآتهما و ناداهما ربهما: أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا اَلشَّجَرَةِ . فاستحى آدم فخضع و قال: ربنا ظلمنا أنفسنا و اعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا، قال اللّه لهما: اهبطا من سماواتي الى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص و لا في سماواتي».

أقول: تقدم كيفية خلق حواء من ضلع آدم (عليه السلام)، و

قوله:

«و صيرا بفناء الجنة» يستفاد من هذه الجملة أمران: الأول: تكرر الهبوط - كما في غيرها من الروايات - الأول إلى فناء الجنّة، و الثاني منها إلى الأرض.

الثاني: يمكن أن يستفاد منه أن الشيطان لم يدخل الجنّة بعد ترك السجود، بل كان في فناء الجنّة فحصلت مكالمة بينه و بين آدم في هذا المكان.

ص: 193

روى الصدوق عن أبي جعفر عن آبائه عن علي (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنما كان لبث آدم و حواء في الجنّة حتّى أخرجا منها سبع ساعات من أيام الدنيا حتّى أهبطهما اللّه من يومهما».

أقول: تقدم في الحديث السابق أن زمان الاستقرار في الجنّة كان ست ساعات، و لا تنافي بينهما إذ الحصر ليس حقيقيا حتّى يحصل التنافي، بل هو إضافي و تقريبي.

في تفسير العسكري: «كان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنّة و كان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه و لم يعلم أن إبليس قد اختفى بين لحييها، فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس - الحديث -».

أقول: و في رواية أخرى الطاووس، و كيف كان فقد ذكر الثعبان من حيوانات جنّة آدم في التوراة في قضية الهبوط، و لعل هذا الحديث و أمثاله مع هذا التعبير مأخوذ منها. و قد ذكرنا سابقا أن إبليس كان يرى آدم و يتكلمان مشافهة فلا معنى للاختفاء و الاستتار.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «اهبطوا بعضكم لبعض عدو فهبط آدم على الصفا، و إنما سميت الصفا، لأن صفوة اللّه نزل عليها و نزلت حواء على المروة، و إنما سميت المروة لأن المرأة نزلت عليها».

أقول: الروايات مختلفة في محل هبوط آدم و حواء و لا ريب و لا إشكال في أن بعد الهبوط الأول كانت منازل متعددة، فيمكن الجمع بين تلك الروايات بجعل كل منزل مهبطا له فيكون الهبوط طوليا لا عرضيا.

و في الإحتجاج: «في احتجاج علي (عليه السلام) مع الشامي حين سأله: عن أكرم واد على وجه الأرض؟ فقال: واد يقال له سرنديب سقط فيه آدم (عليه السلام) من السماء».

أقول: ظهر وجهه مما تقدم في الحديث السابق.

ص: 194

في الكافي عن أحدهما (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل «فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ قال: لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و أنت خير الغافرين. لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و ارحمني و أنت خير الراحمين. لا إله إلاّ أنت سبحانك اللهم و بحمدك عملت سوء و ظلمت نفسي فاغفر لي و تب عليّ إنك أنت التواب الرحيم».

أقول: و في مثل هذا المعنى روايات أخرى مستفيضة عن الخاصة و العامة، و جميع ذلك من باب التطبيق للآية المباركة، و لقوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها .

و روى الصدوق في قول اللّه عزّ و جل: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ . قال:

«سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين».

أقول: و نحو ذلك أخبار أخرى كثيرة، و تقدم أنه من باب التطبيق على كل ما يمكن أن يتقرب به إلى اللّه تعالى.

و عن ابن عباس في رواية سعيد بن جبير قال: «سألت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه. قال: سأله بحق محمد و علي و فاطمة و الحسن و الحسين إلاّ تبت عليّ فتاب عليه».

و في الدر المنثور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «لما أذنب آدم الذنب الذي أذنبه رفع رأسه الى السماء فقال: أسألك بحق محمد إلاّ غفرت لي، فأوحى اللّه اليه و من محمد؟ قال: تبارك اسمك لما خلقتني رفعت رأسي إلى عرشك فإذا فيه مكتوب لا إله إلاّ اللّه محمد رسول اللّه، فعلمت أنه ليس أحد عندك أعظم قدرا ممن جعلت اسمه مع اسمك. فأوحى اللّه اليه: يا آدم إنه آخر النبيين من ذريتك و لولاه ما خلقتك».

أقول: ذيل الحديث منقول من الفريقين، و مر في روايات كثيرة كما تقدم بعضها.

ص: 195

بحث كلامي:

أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء و الرسل (عليهم السلام) من الكفر مطلقا، و لكنهم اختلفوا في بعض الصغريات. و عمدة الأقوال ثلاثة:

الأول: القول بالعصمة مطلقا من جميع الذنوب، و في جميع الحالات و هذا هو مذهب الإمامية.

الثاني: القول بالعصمة من الكبائر مطلقا، و أما الصغائر فإنها جائزة عليهم سهوا. و هذا هو مذهب المعتزلة.

الثالث: القول بالعصمة عن الكبائر عمدا، و لكنها جائزة عليهم سهوا، و هذا هو مذهب الأشاعرة. و هناك أقوال أخرى نادرة أجمع المسلمون على بطلانها.

و لم يستدل أصحاب هذين القولين بدليل يصح الاعتماد عليه إلاّ ما ورد في القرآن الكريم مما يوهم ظاهره نسبة الظلم و المعصية إلى بعض الأنبياء (عليهم السلام)، و سيأتي أنه ليس على ظاهره و لا بد من تأويله.

و الرأي المناسب لمقام النبوة و الرسالة هو القول بعصمتهم مطلقا - كما ذهب اليه الإمامية - من جميع الذنوب كبائرها و صغائرها، عمدا و سهوا قبل البعثة و بعدها. و قبل أن نذكر الأدلة لا بد من بيان معنى العصمة على سبيل الإيجاز، و التفصيل موكول الى محله.

العصمة: بمعنى المنع و الإمساك يقال: عصم عن الشيء أي منعه و أمسكه. و منه قوله تعالى حكاية عن ابن نوح: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ اَلْماءِ قالَ لا عاصِمَ اَلْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ [سورة هود، الآية: 43] أي: يمنعني منه. و المعصوم هو الممنوع عن فعل المعصية بلا إلجاء و اضطرار حتّى ينافي الإختيار، و إلاّ كان العادل أحسن من المعصوم و بعبارة أخرى: إنها عناية خاصة، و توفيق من اللّه تعالى لبعض عباده، لعلمه الأزلي بصفاء طينتهم و جوهرهم من دون أن يكون ذلك من العلة التامة كسائر عناياته و توفيقاته عزّ و جل بالنسبة إلى عباده، فقد يوفق عبدا لصلاة الليل مثلا، أو فعل

ص: 196

الخيرات، و قضاء الحاجات أو الاتصاف بالأخلاق الفاضلة و نحو ذلك، لا على وجه القهر و الإلجاء و الضرورة، بل على نحو إيجاد الداعي إليها.

ثم إنهم استدلوا بأدلة كثيرة على عصمتهم مطلقا لا يخلو بعضها عن المناقشة، أو رجوع بعضها إلى الآخر. و أحسن تلك الأدلة أمران:

(الأول): أن حجية القول و الفعل و التقرير - كما هو المفروض - تنافي ارتكاب المنهي عنه عند اللّه تعالى و عند العباد فيكون ذلك خلقا باطلا بالضرورة.

بيان ذلك: إن العبد إذا كان يرى نفسه حاضرا بين يدي المولى و يحس بشهوده ظاهرا و باطنا كيف تصدر عنه المعصية و هو في هذه الحالة في غيبة منه؟! و رسل اللّه تعالى يدركون بصفاء طينتهم أنّهم دائما في حضرة القدس يرون مظاهر جماله و جلاله و آثار حكمته و رحمته فلا يخطر في بالهم حالة أنهم في غيبة عن اللّه تعالى فيها. و هذا معنى

ما ورد في أحاديثنا: «إن المعصوم مع القرآن و القرآن معه» فإن المراد بالمعية هي المعية الحضورية الالتفاتية العملية. كما أن المراد بالقرآن جميع الشرائع الإلهية بالنسبة إلى الأنبياء السابقين.

هذا مضافا إلى أن صدور المعصية يوجب تنفر الطباع منهم، و يصغر شأنهم في أعين الناس، و يسهل اعتراضهم عليهم مما ينافي حكمة بعث الأنبياء و الرسل (عليهم السلام)، بلا فرق بين صدور المعصية قبل البعثة أو بعدها، كما هو المشاهد في من وصل إلى مرتبة من العدالة.

(الثاني): الآيات القرآنية الدالة على طهرهم و قداستهم و تأييدهم بروح القدس، و اتصافهم بجميع الأخلاق الفاضلة مما يجعلهم القدوة الحسنة و المثل الأعلى لجميع الناس، قال تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [سورة الأنعام، الآية: 90]، و قال تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 72]، و قال تعالى: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً [سورة الأنبياء، الآية: 90] إلى غير ذلك من

ص: 197

الآيات المباركة.

و بناء على ما تقدم لا بد من تأويل ما ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة مما يوهم ظاهره خلاف العصمة، و سيأتي ذلك في مواضعه.

فقد ذكرنا أن ما ورد في آدم (عليه السلام) كقوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمّا كانا فِيهِ لا يدل على صدور المعصية منه، كما أن قوله تعالى: فَتَكُونا مِنَ اَلظّالِمِينَ ظاهره الظلم على نفسه بوقوعه في مشقة الدنيا لا الدخول في النار.

و أما قوله تعالى: وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى [سورة طه، الآية: 121] فإنه ليس المراد منه صدور العصيان و الغواية منه (عليه السلام)، بل إن لنفس استعمال هذه الألفاظ موضوعية خاصة، فإن مقام آدم (عليه السلام) الذي خلقه اللّه بيده و نفخ فيه من روحه و علّمه الأسماء و أسجد له الملائكة و أسكنه الجنّة ربما يوجب في نفسه بعض الخطرات المنافية لمقامه (عليه السلام) فعصمه اللّه تعالى بذلك، و قد يوجب ذلك كله غلو ذريته فيه فيعبدونه فأذهب اللّه تعالى عنهم ذلك الغلو بما تقدم من الألفاظ.

و كذا قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه، الآية: 115]، فإن عهود اللّه تعالى و مواثيقه على الأنبياء و المرسلين على قسمين: عهد عام بالنسبة إلى جميع الأنبياء و المرسلين، قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ [سورة آل عمران، الآية: 81]، و كذا قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [سورة الأحزاب، الآية:

7]. و عهد خاص بكل نبي حسب الظروف و الخصوصيات الزمانية و المكانية التي تحيط بذلك النبي، و المائز بين القسمين هو القرائن و ما يستفاد من السنّة المعتبرة الواردة في حالات الأنبياء (عليهم السلام).

و الظاهر في المقام هو الثاني، لأنّ ترك العزم بالنسبة إلى الميثاق العام لا يعقل، فإنه خلف مع فرض النبوة. نعم هو معقول بالنسبة إلى العهود الخاصة

ص: 198

الظاهرة في الإرشاد، كما في المقام.

بحث فلسفي

صريح الكتب السماوية و في مقدمتها القرآن العظيم و جميع الفلاسفة الإلهيين من المسلمين و غيرهم على بديع صنع اللّه في الإنسان و أنه مخلوق حادث خلقه اللّه تعالى من الطين بهذه الهيئة المتميزة عن سائر المخلوقات استقلالا من دون أن يكون مرتقيا من مخلوق آخر - نباتا أو حيوانا - و تقتضي ذلك قاعدة «إمكان الأشرف» التي أسسها الفلاسفة في سلسلة الخليقة، فإن أقرب الموجودات إليه تعالى و أشرفها لديه لا بد و أن يقع في سلسلة الفيوضات الإلهية الأول فالأول عند نزول الفيض منه عزّ و جل حتّى يصل المستفيض إلى أدنى مرتبة الحضيض، إذ لا ريب في أنه تعالى كامل بذاته و صفاته و فعله فلا يتصور نقص في جهة من جهاته عزّ و جل.

و ما يتوهم من النقص في الأفعال يرجع إلى أمرين:

أحدهما - عام للجميع، و هو الإمكان، و الاحتياج، فإنّ ما سواه ممكن محتاج إليه عزّ و جل.

و الثاني: من خصوصيات أفراد الممكنات، و مقتضى تمامية فعله تعالى أن يكون أول مخلوقاته أشرفها ثم بعد ذلك الأشرف فالأشرف في سلسلة الأنواع الكلية التي يكون نوعها منحصرا في الفرد حتّى يصل الخلق إلى الماديات التي هي منشأ التكثر و الانتشار.

إن قلت: نعم قاعدة «إمكان الأشرف» متفق عليها بين الفلاسفة - المسلمين منهم و اليونانيين - و تقتضيها جملة من الأدلة النقلية أيضا و لكنها مخالفة لظاهر الآية المباركة وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها [سورة البقرة، الآية:

31]، و ظاهر جميع الكتب السماوية من خلق الدنيا - و المسميات - في الجملة قبل خلق آدم (عليه السلام) كما عرفت في البحث الروائي السابق.

قلت: مورد القاعدة إنما هو فيما إذا كانت السلسلة واحدة ففي سلسلة

ص: 199

المجردات و الروحانيين أول ما خلق اللّه العقل، ثم الأشرف فالأشرف حتّى يصل إلى آدم (عليه السلام)، و في سلسلة الماديات و الأعراض يكون الأشرف فالأشرف أشياء أخرى تقدم بعضها في تفسير سورة الحمد في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ . و يمكن أن تكون السلسلة الأخيرة متقدمة من بعض الجهات على بعض أفراد السلسلة الأولى، إذ لا تنافي في ذلك.

و توهم: أن أصل القاعدة إنما يتم بناء على لزوم السنخية بينه جل شأنه و بين خلقه، و قد أبطلتها الشرائع المقدسة فلا موضوع لقاعدة «إمكان الأشرف» أصلا.

غير صحيح، لأنه لا ربط للسنخية بهذه القاعدة أبدا لما أثبتناه في الفلسفة الإلهية من أنّ السنخية على فرض اعتبارها إنما هي في الفاعل الموجب لا في الفاعل المختار، و الأئمة الهداة (عليهم السلام) جعلوا إرادته تعالى عين فعله حتّى لا يلزم توهم هذه المحاذير.

فاحتمال تطور الإنسان عن ذي حياة آخر فاسد كما عرفت، هذا كله في فعل اللّه عزّ و جل.

و أما فعل المخلوق أي سلسلة استكمال المفاض عليه، يكون الأمر بالعكس فيتعلق الخلق بالداني أولا ثم يترقى إلى مرتبة الكمال لفرض أنه مستكمل بغيره مطلقا، قال تعالى: ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14] و للبحث تتميم يأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

و لكن ذكر بعض الفلاسفة الطبيعيين استنادا الى قانون العلية في الأمور الطبيعية، و أنّ كل حادث طبيعي لا بد أن يستند إلى سبب طبيعي كذلك، و قد تفرع عن هذا القانون الأصل المنسوب إلى داروين القائل بالنشوء و الارتقاء و التكامل و بقاء الأصلح، فقد ذكر أن الإنسان لم يصل إلى هذه المرحلة الفعلية من الكمال إلاّ بانتقاله من المراتب الدانية، و أنّ في مسيره هذا قد رأى من التحولات و التبدلات الكثيرة التي نتج منها القضاء على الفرد

ص: 200

الضعيف، و بقاء الفرد المستعد للكمال.

و المسلمون بل جميع المليين في غنى عن هذا القول بعد تصريح كتبهم المقدسة باستقلالية خلق الإنسان، بل إنّ الطبيعة من جميع جهاتها مقهورة تحت إرادته و هو بديع السموات و الأرض.

مع أن هؤلاء الفلاسفة أثبتوا للطبيعة اتفاقيات و نوادر فليكن هذا الخلق منها، و لا محذور فيه كما في سائر الاتفاقيات.

كما أنّ داروين و أنصاره لم يبينوا لنا متى حصل هذا التحول في الإنسان، و ما هي الحلقة التي انتقل منها إلى الفرد الكامل.

مع أنّ لنا أن نتسائل منهم هل أن ذلك كان بحسب نظام الطبيعة فقط مع قطع النظر عن المدبر الحكيم و الخالق العليم؟ و هذا محال، لأن انقلاب نوع بعد تعينه النوعي - روحا و جسما - إلى نوع آخر مستحيل إلاّ بالاستحالة، و لا يقولون بها. أو بالتناسخ الذي أثبت الكل بطلانه.

إن قيل: إنّ مسألة النشوء و الارتقاء لا تخرج عن مسألة الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أكابر محققي الفلاسفة.

يقال: بين المسألتين فرق كبير لا ربط لإحديهما بالأخرى، كما يظهر بالتأمل و سيأتي شرح الأخيرة في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

إن قلت: إنّهم يدعون العثور على جماجم و عظام مضى عليها أكثر من مائة الف سنة الدالة على التطور في بعضها، و هذا لا يناسب ما ضبطه أهل التواريخ و السير من جميع الفرق من المدة القليلة الماضية على هبوط آدم (عليه السلام) إلى الأرض.

أقول: إنه لا بد و أن يتأمل في أصل الدعوى؛ و على فرض الصحة يمكن أن يكون ما عثروا عليه من تلك الجماجم و العظام من الآدميين ما قبل خلق آدم (عليه السلام) فإنه آخر الآدميين في العوالم الدنيوية و قبله آدم الى سبعين آدم كما في الحديث، و لا يعلم مقدار تلك الأزمنة و لا مقدار الفاصل بين الآدميين، و لا كيفيتهم إلاّ اللّه تعالى.

ص: 201

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا ب

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ (43) بعد أن ذكر سبحانه خلق الإنسان و حالاته و أطواره خاطب طائفة خاصة و هم اليهود - و بدأ بذكرهم، لأنهم أقدم الطوائف التي أرسل فيهم الأنبياء و الرسل، و أنزل فيهم الكتب، و هم أول طائفة من الأمم هبطوا من ذروة المقام الإنساني الى درك حضيض البهيمية، و هم السابقون في نقض عهد اللّه، مصرين على ذلك، و ملتزمين بغيهم و جحودهم لا يرتدعون برادع أرضي أو سماوي أتعبوا أنبياء اللّه بغيهم و لجاجهم و شق على سيد المرسلين فسادهم و إفسادهم، و هم أشد الناس عداء للمؤمنين، و من سنة اللّه تعالى المداراة مع العصاة بكل ما أمكن - كما سيأتي في الآيات الشريفة - فقد تكرر ذكرهم في القرآن لعلهم يرشدون.

التفسير

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ .

إسرائيل مركب من كلمتين [إسراء] بمعنى العبد، أو الصفوة، أو القوة - على ما يأتي في البحث الروائي - و [ائيل] بمعنى اللّه تعالى و معناه عبد اللّه أو صفي اللّه، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مكررا. و إنما ذكرهم سبحانه بهذا التعبير تحريضا لهم بالتحلي بمكارم الأخلاق و نبذ مساويها، لأنهم يرون أنفسهم من أهل صفوة اللّه و العبودية له عزّ و جل، فلا ينبغي لهم هذا النحو من اللجاج و العناد و الفساد، كما في قوله تعالى: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة الأحزاب، الآية: 32].

و (الذكر) بمعنى الاستحضار سواء كان باللسان أو القلب أو هما معا، فمن الأول قوله تعالى: وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ [سورة الأنبياء

ص: 202

، الآية: 50]، و من الثاني قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 152]، و من الأخير قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200]، و كذا قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً [سورة النساء، الآية: 103]،

و في الحديث: «كانت الأنبياء إذا حزبهم أمر فزعوا الى الذكر» و في بعض الأخبار «الصلاة» بدل الذكر، و يشهد له قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 45].

و الآية لم تعين هذه النعمة التي اختصهم اللّه تعالى بها و لكنه عزّ و جل كرّم بني إسرائيل بأعظم أنحاء النعم كما قال تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [سورة البقرة، الآية: 211] فجعلهم من أولاد الأنبياء و وسمهم بالوسام الجليل حيث جعلهم من ذرية إبراهيم الخليل و فضلهم على الأمم، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ [سورة المائدة، الآية: 20]، و اصطفاهم بالنبوة زمنا طويلا و فيهم من أنبياء أولي العزم موسى و عيسى (عليهما السلام)، و أنزل فيهم التوراة التي هي أقدم الكتب السماوية و أعظمها بعد القرآن الكريم قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة الجاثية، الآية: 16]. و بالجملة فقد أعطاهم اللّه تعالى من كل ما سألوه فلا بد أن يذكروا هذه النعم التي اختصوا بها، و لكنهم قابلوا ذلك بالكفران و الإساءة و أعرضوا عما أمروا به فكفروا بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بعد ما جائتهم البينات.

قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ . الوفاء ضد الغدر، و هو الحفظ و الإتمام و عدم النقض، و كثيرا ما يستعمل في القرآن متعديا من باب الإفعال كما في المقام، و قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [سورة البقرة، الآية: 177]، و يستعمل من باب التفعيل أيضا، و قال تعالى في شأن خليله: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [سورة النجم، الآية: 37] أي بذل غاية جهده في جميع ما طولب به من اللّه تعالى، و هو من أجل مقامات الخلة.

ص: 203

و العهد: حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال و الاهتمام به، و هو من الصفات الإضافية، له تعلق بالعاهد و المعهود اليه و المعهود به إلاّ أن في الأول يكون من الإضافة الى الفاعل، و في الثاني كذلك إذا كان مع العوض، كما يكون من الإضافة الى المفعول أيضا.

و الفرق بين العهد و الميثاق هو أن الثاني أخص من الأول، لأنه العهد المؤكد بأنحاء التأكيدات و التوثيقات، سواء أ كان بين اللّه تعالى و بين خلقه أم بين خلقه بعضهم مع بعض، و مادة (و ث ق) تدل على كمال التثبت.

و المعنى: أوفوا بعهدي الذي أبلغته إليكم بواسطة الأنبياء و الرسل من المواثيق و الطاعات و العبودية، و هي كثيرة يأتي في الآيات التالية تعداد أصولها، و من جملة ما عهد إليهم الإيمان بشريعة خاتم المرسلين كما يستفاد من قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ . و الوفاء بالعهد مطلقا سواء أ كان من النّاس ام من اللّه تعالى يرجع إلى مصلحة النّاس أنفسهم.

و إنما سمى سبحانه ذلك عهدا و أوجب وفاءه على نفسه، تحننا منه و ترغيبا لعباده إلى الطاعة حيث يكون لهم حق مطالبة الجزاء مع الشرط فيصير المقام نظير آية الاشتراء: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] مع أن السلعة و المشتري و قدرته و ارادته من اللّه تعالى و لذلك نظائر كثيرة يأتي التعرض لها. و يمكن أن يكون الترتيب في قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ من قبيل ترتب المعلول على العلة، لا من ترتب وفاء أحد المتعاوضين على وفاء الآخر.

قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَارْهَبُونِ . الرهب هو الخوف المشوب بالاضطراب. و تقديم الضمير المنفصل يفيد الحصر، أي لا بد أن يكون الخوف من اللّه تعالى الذي هو على كل شيء قدير، و المطلع على الضمائر و الظواهر، فإن الرهبة إن كانت لأجل عظمة المرهوب منه و جلاله فلا نهاية لهما فيه عزّ و جل، و إن كانت لأجل علمه بموجبات السخط و العقاب فلا يعزب عن علمه شيء في السموات و الأرض، و إن كانت لأجل قهاريته التامة فهي من أخص صفاته، و عهوده هبات منه عزّ و جل فيكون نقضها عظيما.

ص: 204

ثم إنّه شرع في بيان جملة من عهوده المباركة على بني إسرائيل و هي الإيمان باللّه تعالى و القرآن المشتمل على تصديق سائر الكتب السماوية، و عدم الكفر، و المحافظة على آيات اللّه تعالى و عدم تبديلها، و تقوى اللّه، و عدم كتمان الحق، و عدم خلطه بالباطل. و هذه هي من أهم العهود الإلهية و أصولها على عباده، و لا اختصاص لها بطائفة دون أخرى، و إن كانت تختص ببعض الأحكام الفرعية.

و العهود الإلهية و إن كانت تعد من الأمور التشريعية لكن كل تشريع له دخل في نظام التكوين، لأن جميع جهات التشريع ترجع إلى تربية الإنسان الذي هو المقصد الأقصى من نظام التكوين فيرجع التشريع اليه.

قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ .

تفصيل بعد إجمال، فإن قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي يشمل الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ أنه تعالى ذكره بالخصوص تنبيها لهم و تعظيما لأمره، و هذه الآية المباركة تدل بالدلالة الالتزامية العادية على إخبار موسى (عليه السلام) بشريعة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، لأن كل شريعة سابقة لا بد أن تخبر بالشريعة اللاحقة كما أخبر تعالى عن الشرائع السابقة في القرآن، و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ يدل على تصديق هذه الشريعة لما تقدم من الشرائع، و قد ذكرنا في ما سبق أن الشرائع الإلهية و إن تعددت بحسب الظاهر إلاّ أنها متحدة في أصول العقائد و الأحكام التي ترجع إلى تربية الإنسان و سعادته في الدارين.

قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ . لأنكم أعرف بحقيقة هذا الدين بعد أن كان الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) مذكورا في التوراة - كما سيأتي - و أن هذا القرآن مصدق لما معكم فمن بادر منكم إلى الكفر يكون أشد خزيا و منقصة، و يكون من أئمة الكفر في ملته، كما أنّ من بادر من أهل الكتاب الى الإيمان باللّه و الرسول يكون أول مؤمن به.

قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً . المراد بالاشتراء هنا مطلق المبادلة، و الثمن القليل هو الدنيا و ما فيها، لأنها تنفذ و آيات اللّه تعالى

ص: 205

لا تنفذ، و كل من قدّم هوى نفسه على رضاء اللّه تعالى فقد اشترى بآيات اللّه ثمنا قليلا، لأنه خسر رضوان اللّه تعالى،

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «من أصغى الى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق نطق عن اللّه فقد عبد اللّه، و إن كان الناطق نطق عن الشيطان فقد عبده» و تشمل مثل هذه الأخبار تبديل آيات اللّه بجميع الأغراض الدنيوية. و المراد بآيات اللّه تعالى مطلق تشريعاته في معارف الدين و أحكامه.

قوله تعالى: وَ إِيّايَ فَاتَّقُونِ . بوفاء العهد و اتباع الهدى و ترك الركون الى الدنيا. و هو يدل على وجوب التقوى و انحصارها بالنسبة إليه تعالى المستفاد من تقديم الضمير المنفصل.

و قوله تعالى: وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

اللبس هو الخلط و التغطية، أي لا تخلطوا الحق الذي أنزلناه بالباطل الذي تفعلونه. و لبس الحق بالباطل يستلزم كتمان الحق لا محالة، و قد أفرده تعالى بالذكر، اهتماما به و تبيينا لكل واحد من المتلازمين بالذكر، و لا تكتموا الحق بعدم بيانه مع الحاجة الى البيان، و ذلك يتصور على وجوه: إظهار الحق في صورة الباطل و بالعكس، كتمان الحق مع الحاجة إلى بيانه، الافتراء على اللّه تعالى، و الجميع من القبائح و من شعب النفاق، مع أنكم تعلمون الحق و ما تعلمون من لبس الحق بالباطل و كتمانه و الافتراء على اللّه.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ . بعد أن أمرهم اللّه تعالى بالإيمان أمرهم بأهم وظائف العبودية و هي الصلاة على ما قررتها الشريعة، ثم أمرهم بأهم الوظائف الاجتماعية و هي الزكاة بما قررتها الشريعة من بذل المال و السعي في الحوائج، بل زكاة الجاه. ثم أمرهم بالركوع مع الراكعين، لأن العبادة الاجتماعية أهم من العبادة الفردية لما فيها من المصالح الكثيرة. و المراد بالركوع إما الركعة و يكنى به عن الصلاة، لأنه أهم أركانها أو لأجل أنّ الركوع كان أشق عليهم من السجود فذكره تبارك و تعالى بالخصوص، أو للإشارة إلى نبذ عبادتهم و الإتيان بهذه العبادة الجديدة.

ص: 206

بحث روائي:

عن ابن بابويه في العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «و يعقوب إسرائيل و معنى إسرائيل عبد اللّه لأن أسراء هو عبد و ئيل هو اللّه عزّ و جل»

و روى في خبر آخر: «إن أسراء هو القوة و ايل هو اللّه فمعنى إسرائيل قوة اللّه عزّ و جل».

أقول: قد ورد في التوراة الوجه الأخير و المراد بالقوة هنا قوة يعقوب من حيث اعتماده على ربه فيرجع إلى المعنى الأول لأن عبودية الأنبياء (عليهم السلام) تكون عن اعتمادهم من كل جهة على اللّه تبارك و تعالى مطلقا و ذلك يستلزم لهم القوة.

و عن القمي عن جميل عن الصادق (عليه السلام): «قال له رجل: جعلت فداك إن اللّه تعالى يقول أدعوني أستجب لكم و إنّا ندعوا فلا يستجاب لنا قال (عليه السلام) لأنكم لا توفون بعهد اللّه لو وفيتم للّه لوفى اللّه لكم».

أقول: يظهر منها و من سائر الروايات المتواترة أن لاستجابة الدعاء شروطا كثيرة سيأتي بيانها في قوله تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [سورة المؤمن، الآية: 60].

و عن العياشي عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة قال: هي الفطرة التي افترض اللّه على المؤمنين».

أقول: قريب منه روايات أخرى، و هذا كله من باب التطبيق.

و عن ابن عباس في قول اللّه تعالى: وَ اِرْكَعُوا مَعَ اَلرّاكِعِينَ : «نزل في رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و علي بن أبي طالب (عليه السلام) و هما أول من صلّى و ركع».

أقول: في ذلك روايات أخرى مستفيضة من الفريقين.

ص: 207

أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلص

اشارة

أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44) وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ (45) اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) ذكر سبحانه في هذه الآيات من أفعال اليهود و فسادها أنهم كانوا يدعون الى الإيمان و تلاوة الكتاب، و قد وصفوا أنفسهم بالعدل، و خالفوا إلى غيره، و وبّخهم على هذا الفعل توبيخا شديدا، و الخطاب و إن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام إلى جميع من يأمر بالحق و لا يعمل به، و هو من أعظم القبائح النظامية في الاجتماع، ثم أمرهم سبحانه بالرجوع إليه و الاستعانة بالصبر و الصّلاة و نبذ ذلك العمل الشنيع.

التفسير

قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . البر: هو سعة الخير، و يطلق على كل خير من الإحسان. و النسيان غيبة الشيء عن النفس بعد حضوره فيها و منه قوله تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا [سورة مريم، الآية: 64]، إذ لا يعقل النسيان ممن كان ما سواه حاضرا لديه. و يستعمل بمعنى مطلق الترك أيضا، قال تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19]. و هو أخص من السهو و الغفلة.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ . التلاوة: القراءة لكن لوحظ في الأولى معنى المتابعة، لأن الحروف المقروءة تتتابع بعضا بعضا، و في الثانية لوحظ معنى الجمع، لأن القراءة تستلزم جمع الحروف.

و العقل من العقال، لأنه يربط صاحبه عن ارتكاب القبائح. و يحرّضه على إتيان المحاسن، و هو ضد الجهل، و له إطلاقات كثيرة في السنّة بل و اصطلاح الفلاسفة، و يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة.

و مفهوم العقل من أبده الأشياء و لكن كنهه في غاية الخفاء، فهل هو جوهر مجرد روحاني متعدد الأفراد حسب تعدد أفراد العقلاء يقبل الشدة

ص: 208

و الضعف. أو أنه عرض قائم بالغير. أو أنه من مراتب وجود النفس الإنساني. أو أن له وجودا واحدا فرديا كالشمس إلاّ أن له إشراقات على النفوس. أو أنه إشراق حاصل للنفس من عالم آخر غير عالم الجواهر و الأعراض. أو أن جميع ذلك صحيح بحسب اختلاف النفوس و مراتبها. أو أن الكل باطل و لا يحيط به الناس، بل العلم به منحصر باللّه تعالى؟ و غاية ما يدرك أنّه القوة المميزة بين الحسن و القبح و لم يزل الموضوع مورد البحث منذ وجود العاقل على وجه البسيطة و لا يزال كذلك و القدر المسلّم به أنه موجود و متعقل خارجي وقع مورد جعل اللّه تبارك و تعالى و إرادته و خطابه، كما ستعرف إن شاء اللّه تعالى.

و الخطاب و إن كان موجها إلى بني إسرائيل لكنه عام يشمل الجميع و أشد معاتبة الآمرون بالمعروف التاركون له، و الناهون عن المنكر الفاعلون له حتّى نفى اللّه تعالى عنهم العقل بلسان التوبيخ و التأنيب، و هو كذلك لأن من أول مرتبة العقل و الكمال العقلي هو مطابقة القول للفعل، بل يعد ذلك من الأمور النظامية الاجتماعية فإن نظام المجتمع يقوم بالقانون و العمل به و بدونه يكون خرقا للنظام و إشاعة للفساد. كما أنّ الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر أحق باتباع ما يأمرونه، و الانتهاء عما ينهون عنه، لأن الحجة عليهم أتم، فإن من لم ينسلخ عن شهوة نفسه كيف يتمكن من إزالة الشهوة عن غيره، و لذا ورد التأكيد

عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) بقولهم: «كونوا دعاة الى اللّه بغير ألسنتكم». و قد ثبت في الفلسفة، و في الأحاديث الكثيرة على أن للحركات القلبية و الجذبات النفسية آثارا خاصة في النفوس، بل قد يكون الشخص في عين أنه ينهى بلسانه مثلا يكون تأثيراته النفسية أقوى من النهي اللساني على النفوس.

و هذه الآيات تتضمن قاعدة محاورية من صحة خطاب الأبناء بما يفعل الآباء، أو خطاب الآباء بما يفعل الأبناء، أو خطاب الجميع بما يفعل البعض.

قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ . بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم و نفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية و الواقعية بالاستعانة بالصبر و الصّلاة و حيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب و الشدائد، و ظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون و قومه)، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ [سورة الأعراف، الآية: 137]. و كذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] فحثهم اللّه تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر و الصّلاة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 153].

ص: 209

قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ . بعد أن ذكر سبحانه من سوء أفعالهم و نفى العقل عنهم فلم تنفعهم تلاوة الكتاب أرشدهم إلى استكمال أنفسهم بالكمالات الظاهرية و الواقعية بالاستعانة بالصبر و الصّلاة و حيث إن بني إسرائيل كانوا مسبوقين بالصبر على المتاعب و الشدائد، و ظهر لهم أثر صبرهم في الاستيلاء على عدوهم (فرعون و قومه)، قال تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ [سورة الأعراف، الآية: 137]. و كذا في الصّلاة التي اعتادوا عليها فظهر لهم بعض آثارها، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] فحثهم اللّه تعالى على ما وجدوا أثره بأنفسهم من إدمان الاستعانة بالصبر و الصّلاة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 153].

و الاستعانة: طلب العون كما تقدم في سورة الحمد وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ . و المراد هنا جعل الصبر و الصّلاة وسيلة لإفاضة اللّه تعالى عليهم ما يهمهم من المقاصد و تدل الآية المباركة على أن الاستعانة بهما توصل إلى كل خير نوعيا كان أو شخصيا كليا أو جزئيا.

و الصبر هو كف النفس عن الهوى مع مراعات تكليف المولى، و هو من أهم مكارم الأخلاق، بل لا فضيلة إلاّ و للصبر فيها دخل.

ثم إنّ استعانة الإنسان إما أن تكون من نفسه بنفسه، أو من نفسه بغيره، و الأول هو الصبر، و من الثاني الصّلاة. و الاستعانة بالصبر هي فعل الطاعات و ترك المحرمات، و قد يراد منه الصوم لأنه الإمساك و كف النفس عن المفطرات فيكون من صغريات المعنى اللغوي

ففي الحديث: «إنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان إذا حزبه أمر استعان بالصوم و الصّلاة»،

و عن الصادق (عليه السلام): «الصبر الصيام و إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم، فإن اللّه تعالى يقول: و استعينوا بالصبر و الصلاة».

و الاستعانة بالصّلاة استعانة باللّه تعالى، لأنها تنهى عن الفحشاء

ص: 210

و المنكر، و أنها من أقوى الأسباب و أشدها تأثيرا في قضاء الحوائج و تيسير الأمور.

و إنما قدم تعالى الصبر على الصّلاة، لأنها لا تقبل إلاّ بالتقوى، و هي لا تحصل إلاّ بالصبر على ترك المحرمات، فيكون من تقديم المقتضي [بالكسر] على المقتضى [بالفتح].

ص: 211

بالنسبة إلى المؤمنين الخاشعين و إنذار للعاصين المذنبين.

و أنهم اليه راجعون لتوفية جزاء أعمالهم بما قدموه من صالح الأعمال. و التعبير بالرجوع من حيث كونه تعالى مبدأ الكل فيكون منتهاه أيضا.

و الظن: مرتبة من الإعتقاد، و هو مما يضعف و يشتد، و يعبر عن الثانية ب (اليقين) و المائز بينهما القرائن الخارجية أو الداخلية، قال تعالى: وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ [سورة الحشر، الآية: 2] أي حصل لهم اليقين بذلك و كذا في المقام فإن مقام الخشوع لا يناسب إلاّ مع اليقين فلا تنافي بينه و بين قوله تعالى: وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 4].

و لعل في التعبير بالظن إشارة إلى أن الخاشعين اكتفوا بالظن فاشتد خوفهم منه و هانت عليهم مشاق الدنيا فكيف بمن تيقن بالملاقاة، و توبيخ منه بالنسبة إلى هؤلاء الآمرين بالبر الذين ينسون أنفسهم بأنهم لم يتمكنوا من تحصيل الظن من تلاوة الكتاب ليحملهم على العمل الصالح، أو لأن لشدة كونهم في مقام الخوف و الرجاء لا يعتمدون على يقينهم لما يرد عليهم، فعبر تعالى بالظن سوقا للكلام على مراد المخاطب، و يشهد لذلك

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يزال المؤمن خائفا من سوء العاقبة و لا يتيقن الوصول إلى رضوان اللّه تعالى حتّى يكون وقت نزع روحه - الحديث -». و يصح أن يراد بكلام واحد وجوه متعددة باعتبارات مختلفة.

إن قيل: اللقاء و الملاقاة من صفات الأجسام الخارجية و هو تعالى منزه عنها، فلا يناسب الإطلاق عليه عزّ و جل.

يقال: إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى: حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [سورة الطور، الآية: 45] مع أن اليوم ليس بجسم، و مع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال، و إنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات و إلاّ فالتلاقي في عالم الرؤيا و عالم البرزخ واقع حقيقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ [سورة الأعراف، الآية: 147] و قال تعالى: قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية 31] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و الأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان و درجاته، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا، و سواء كان البعد من جهة أو من جهات، و التلاصق كذلك.

ص: 212

يقال: إن اختصاص اللقاء بالأجسام أول الكلام فقد ورد في قوله تعالى: حَتّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ اَلَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [سورة الطور، الآية: 45] مع أن اليوم ليس بجسم، و مع ورود التنصيص بذلك في الكتاب الكريم فلا وجه لهذا الإشكال، و إنما حصل الإشكال من كثرة الأنس بالماديات و إلاّ فالتلاقي في عالم الرؤيا و عالم البرزخ واقع حقيقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ [سورة الأعراف، الآية: 147] و قال تعالى: قَدْ خَسِرَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية 31] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و الأولى الحمل على العموم بحسب مراتب الإيمان و درجاته، فالتلاقي تلاصق اثنين سواء كانا من الجواهر أو الأعراض أو المجردات، مع سبق البعد ظاهريا أو معنويا أو منهما معا، و سواء كان البعد من جهة أو من جهات، و التلاصق كذلك.

بحث روائي:

القمي في الآية: «نزلت في القصّاص و الخطّاب،

و هو قول أمير المؤمنين (عليه السلام): و على كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على اللّه، و على رسوله، و على كتابه».

أقول: هذا من باب التطبيق على أحد الموارد لا التخصيص.

و في مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام): «من لم ينسلخ عن هواجسه و لم يتخلص من آفات نفسه و شهواتها، و لم يهزم الشيطان، و لم يدخل في كنف اللّه و أمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، لأنه إذا لم يكن بهذه الصّفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه، و لا ينتفع الناس به، قال تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ . و يقال له: يا خائن أ تطالب خلقي بما خنت به نفسك و أرخيت عنه عنانك».

أقول: ما ذكره (عليه السلام) مطابق للوجدان، كما لا يخفى على أهله.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كان علي (عليه السلام) إذا أهاله أمر فزع؛ قام إلى الصّلاة، ثم تلا هذه الآية و استعينوا بالصبر و الصّلاة».

و في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا في الآية: الصبر الصيام، و إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة، فليصم فإن اللّه تعالى يقول: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ ، يعني الصيام».

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام): «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو اللّه

ص: 213

فيهما، أما سمعت اللّه يقول: و استعينوا بالصبر و الصّلاة».

أقول: أما الاستعانة بالصبر في الأمور الدنيوية و الأخروية فلها أثر في الأمور التكوينية، فضلا عن الاختيارية، و الصوم من أحد تلك المصاديق. و أما الاستعانة بالصّلاة فهي استعانة و توجه إلى مسبب الأسباب و مسهل الأمور الصعاب، و بذلك يحصل تكميل النفس فضلا عن حصول المراد.

و عن ابن بابويه عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ ، يعني يوقنون أنهم يبعثون و يحشرون و يحاسبون و يجزون بالثواب و العقاب، و الظن هاهنا اليقين».

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام): «اللقاء البعث و الظن هاهنا اليقين».

أقول: لا ينافي تفسير الظن باليقين من جهة و بقائه على معناه الحقيقي من جهة أخرى، كما استظهرناه من الآية المباركة.

و في تفسير الإمام العسكري (عليه السلام): «يقدرون و يتوقعون أنهم يلقون ربهم اللقاء الذي هو أعظم كرامته لعباده».

أقول: تقدم أن ملاقاة العبد لربه أرفع المقامات و أجلها، و هي من حدود وجوب الوجود.

و عن ابن عباس: «أنّ الآية نزلت في علي (عليه السلام) و عثمان بن مظعون، و عمار بن ياسر، و أصحاب لهم».

أقول: هم من صغريات موارد تطبيق الآية.

بحث أخلاقي:

الصبر هو أم الفضائل، و أصل مكارم الأخلاق، و منه تتفرع كل موهبة و مكرمة؛ فكما أن الحي القيوم أم الأسماء الحسنى و منهما تتفرع سائرها، كذلك يكون الصبر، فهو حقيقة المقاومة مع المكاره و الشهوات و المشتهيات، و الاستقامة مع ما يرتضيه العقل و الشرع من محاسن

ص: 214

الأخلاق، و الوصول إلى المعارف و الكمالات، و المواظبة على الواجبات و ترك المحرمات.

و قد اعتنى اللّه تعالى به اعتناء بليغا، فقد وردت مادة (ص ب ر) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة موضع، و لم يرد فضيلة أكثر ذكرا منه فيه، و قد تكرر الأمر به، قال تعالى: وَ اِصْبِرْ فَإِنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة هود، الآية: 115]، و قال جل شأنه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200]، و قال عزّ و جل: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة غافر، الآية: 55]. و ورد الأمر بالاستعانة به في قوله تعالى: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153].

و الاستعانة بالصبر في الأمور التكوينية استعانة بأسبابها الظاهرية و المعنوية، و كلها ترجع إلى مراعاة حصول المسببات عند حصول أسبابها المقتضية لها، و استنتاج النتائج من المقدمات المعدة لها، و ترك المبادرة الى نقض هذا الأمر العقلي النظامي، فإنه يؤدي إلى خلاف المطلوب.

و في الأمور الاختيارية فهو إما على ما تكره النفس، أو على ما تحبه، و الأول عبارة عن مقاومة النفس للمكاره الواردة عليها و ثباتها في مقابلها، و عدم تأثرها، و عدم انفعالها، و قد يعبر عن ذلك بالشجاعة وسعة الصدر أيضا. و الثاني عبارة عن مقاومة النفس لمدافعة القوى الشهوانية و الغلبة عليها بالعقل و الفكر، و كل ذلك من الحكمة العملية التي اهتم الفلاسفة، و علماء الأخلاق بشرحها،

فما ورد في السنة المقدسة من «أن الصبر مفتاح الفرج» مطابق للقاعدة العقلية، لأنه دخول في الشيء من أحسن أبوابه.

و قد أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الى عظيم منزلته لما

سئل عن الإيمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «هو الصبر»، كما جعله جزء الإيمان،

فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «الإيمان نصفان فنصف صبر، و نصف شكر»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أعطي أحد عطاء خيرا له و أوسع من

ص: 215

الصبر».

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فمن لا صبر له لا إيمان له».

و الصبر من صفات الأنبياء و المرسلين الذين أمرنا بالاقتداء بفعلهم و الاهتداء بهديهم، قال تعالى مخاطبا للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 35]، و قال جلّ شأنه: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتّى أَتاهُمْ نَصْرُنا [سورة الأنعام، الآية: 34]، و قال تعالى:

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا اَلْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

85]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ [سورة السجدة، الآية: 24]، فكما أن الصبر من أهم مقومات حياتهم (عليهم السلام) فهو من أقوى محققات شؤونهم، فما بعث اللّه تعالى نبيا و لا أرسل رسولا، بل و لم يفض علما على عالم إلاّ و كان الصبر أليفه حتّى صار النصر حليفه، و قد تحمل من المشاق حتّى صار شهير الآفاق، و ذلك من سنة اللّه: وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اَللّهِ تَبْدِيلاً [سورة الفتح، الآية: 23].

و قد عدّ الصبر في السنّة المقدسة من جنود العقل و ضده من جنود الجهل، فهو من حيث كونه من جنود العقل له دخل في نظام التكوين، و من حيث إنه الإيمان، أو جزء الإيمان له دخل في نظام التشريع فهو جامع للمنزلتين، و حائز للدرجتين، فله دخل في الأمور الطبيعية فإن مراتب استكمالها لا تتم إلاّ بالتدرج و عدم العجلة - و إن لم يصح إطلاق الصبر بالمعنى المعهود عليها - و لذلك ترى أن بذور النباتات و الأشجار لا تصل إلى مرتبة الكمال إلاّ بالتدرج،

و قد ورد في الحديث: أن ذكر ستة أيام في خلق السموات و الأرض إنما كان لتعليم العباد التأني و الصبر، و إلاّ فهو قادر على خلقهنّ في أقل من ذلك.

فهو من أهم موجبات تحقق المقاصد و الظفر بالمطلوب إن توفرت بقية الشرائط،

قال علي (عليه السلام): «لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به

ص: 216

الزمان» فليس للصابر إلاّ أن يظفر بالمقصود، أو بما أعدّه اللّه تعالى له من الأجر المحمود.

و تقدم في تعريف الصبر أنه: حبس النفس عن الهوى مع مراعاة تكليف المولى، بل يمكن تعريفه بالمعنى العام ليشمل صبر الواجب و الممكن، و أنواعه و أقسامه، بأن يقال: «هو تقدير الشيء بالنحو الأتم على ما يناسب النظام الأحسن نوعيا كان أو شخصيا» فيشمل صبر الواجب، حيث أطلق الصبور عليه تعالى في الأسماء الحسنى على ما روي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ما ورد في الحديث القدسي،

و في الحديث: «لا أحد أصبر على أذى يسمعه من اللّه عزّ و جل»، و في دعاء المجير و غيره «يا صابر»، فإنه يتفرع منه الحلم و العفو، و الرفق و المداراة كل ذلك متشعب عن الصبر المختلف باختلاف الخصوصيات و الجهات، فيختلف معناه كذلك فلا نحتاج إلى تفسير الصبر فيه تعالى بالمعنى العدمي، أي عدم التعجيل في عقوبة العصاة، كما عن جمع من المفسرين و اللغويين.

و الصبر في الإنسان قد يكون من طبيعته و جبلته فإننا نرى أن بعض الأفراد يصبر على ما يرد عليه من المكاره و يتحمل من المشاق ما لا يقدر غيره على تحملها. و قد يكون بالاكتساب و المصابرة، و هذا أفضل من القسم الأول، و هو موضوع منازل السائرين إلى اللّه تعالى في سيرهم و سلوكهم، و أهم عمادهم في التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل و التجلية بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى، و بقية الدرجات من الفناء و الطمس، و المحو، و المحق و غيرها مما شرحه أهل الفلسفة العملية و العرفاء.

كما أن الصبر عن الشيء تارة يكون مع وجود المقتضي و فقد المانع خارجا، و أخرى مع الميل النفساني و عدم المقتضي، و ثالثة مع الميل و وجود المانع، و تختلف مراتب فضل الصبر باختلاف هذه المراتب.

و للصبر أنواع و أفراد كثيرة كلها من الفضائل، و لكل فرد اسم خاص به، و ضد مختص به، فيسمى الصبر في الحرب شجاعة و ضده الجبن. و في المصيبة الصبر - بقول مطلق - و ضده الجزع، و في الحوادث المضجرة رحابة

ص: 217

الصدر و ضده الضجر، و في الكلام كتمانا و ضده الإذاعة و الإفشاء، و إن كان الصبر عن المفطرات سمي صوما و ضده الإفطار، و عن شهوة البطن و الفرج سمي عفة و ضده التهتك، و إن كان في كظم الغيظ و الغضب سمي حلما و يضاده التذمر، و إن كان عن حطام الدنيا سمي زهدا و ضده الحرص، و في المأكل و المشرب سمي قناعة و ضده الشره، و قد سمّى اللّه تعالى كل ذلك صبرا، و أشار إليه سبحانه في قوله: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية:

177].

و الصبر لا يتحقق إلاّ مع عقد القلب عليه و العزيمة على الاستمرار عليه، و إلاّ فإن صرف وجود الشيء لا أثر له، و إنما الأثر يترتب على البقاء و هو يحصل بالصبر و المصابرة و الاستقامة على تحمل المكاره و لذلك كان الصبر من عزائم الأمور فقال تعالى: يا بُنَيَّ أَقِمِ اَلصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِنْهَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ اِصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [سورة لقمان، الآية: 17]

و عن علي (عليه السلام): «ألق عنك واردات الهموم بعزائم الصبر، عوّد نفسك الصبر فنعم الخلق الصبر».

ثم إنّ الصبر تارة: يكون بتوفيق من اللّه و للتقرب اليه، و في مرضاته كصبر الأنبياء و المرسلين و لا سيما سيدهم (صلّى اللّه عليه و آله)، و هذه أعلى درجات الصبر، و يترتب عليه الثواب العظيم المعد للصابرين، و أخرى: يكون بتوفيقه تعالى، و ليس للّه تعالى. بل لأجل أغراض صحيحة أخرى، و ثالثة: لا يكون بتوفيقه أيضا و إن كان لأجل أغراض صحيحة أخرى و الغفلة عنه عزّ و جل، و الثواب يتحقق في الجميع لأن الصبر بنفسه محبوب له تعالى.

و ربما يكون اختلاف الثواب و الجزاء عليه في القرآن الكريم لأجل اختلاف درجات الصبر، فهو تعالى يخبر تارة: بأنه: يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146]، و محبته تعالى لشيء من أعلى المقامات و أجلها، و أنه مع الصابرين، فقال تعالى: إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ [سورة الأنفال، الآية: 46]، و أنه بشر الصابرين، فقال تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ

ص: 218

[سورة البقرة، الآية: 155]. و أنه خير لهم، فقال تعالى: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصّابِرِينَ [سورة النحل، الآية: 126].

و أخرى: يخبر بأن لهم الثواب الجزيل قال تعالى فيهم: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 157].

و يخبر ثالثة بمضاعفة الأجر لهم، قال تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة القصص، الآية: 54].

و رابعة: أنّ لهم الأجر بلا حساب، قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10]،

و عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: إني لأصبر من غلامي هذا، و من أهلي على ما هو أمر من الحنظل، إنه من صبر نال بصبره درجة الصائم القائم و درجة الشهيد الذي قد ضرب بسيفه قدام محمد (صلّى اللّه عليه و آله)».

و الصبر من الصفات ذات الإضافة، فإذا لوحظ بالنسبة إليه تبارك و تعالى يكون محبوبه و مورد بشارته، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الصابر يكون من جهات كماله و مكرمة له، و إذا لوحظ بالنسبة إلى الاجتماع يكون مورد التحبب و التودد و العناية. و هو في كل شيء بحسبه بشرط أن لا يصل إلى مرتبة يقبح الصبر فيها شرعا أو عرفا و عقلا، و إلاّ فلا يكون صبرا مرغوبا، كالصبر على هتك العرض، أو المال، أو النفس و هو قادر على دفع المظالم. و عليه ينقسم الصبر حسب الأحكام التكليفية الخمسة.

و قد ورد في الشرع موارد يستحب التعجيل فيها،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الخير ما كان عاجله»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عجلوا بموتاكم إلى مضاجعهم»، و في نصوص كثيرة التعجيل في تزويج الأبكار بالكفؤ؛ و التعجيل بإتيان الصّلاة في أول وقتها، إلى غير ذلك من الموارد التي تستحب العجلة فيها.

ثم إنّ في الصبر عن الشهوات النفسانية فضلا كبيرا،

فعن الباقر

ص: 219

(عليه السلام): «الصبر صبران، صبر على البلاء حسن جميل و أفضل الصبر الورع عن محارم اللّه» سواء أ كان الصبر فيها مع تهيئة أسبابها، أو مع إمكان التهيئة، أو مع عدمهما معا، و الصبر عنها يدور مدار زوال حب النفس و الهوى و ترك متابعة الدنيا، و الأولان يرجعان في الحقيقة إلى ترك حب الدنيا، بل يدور جميع مكارم الأخلاق مدار التجنب عنها، و مذام الأخلاق مدار التقرب منها،

و قد تواتر عن نبينا الأعظم: «حب الدنيا رأس كل خطيئة» و علامة تقوية الصبر و تضعيف حب الدنيا هي كثرة التفكر في الدنيا و فنائها و انها أقوى الحجب عن الوصول إلى المعنويات، بل أصل الحجب الظلمانية عن المعارف الربوبية، و الأخلاق الإلهية.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (47) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي ن

اشارة

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (47) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) كرر سبحانه و تعالى تذكيرهم بالنّعم عليهم، إتماما للحجة، و إثباتا لاستحقاقهم الطعن و اللوم، فإنهم مع كثرة نعم اللّه تعالى عليهم بالغوا في الجحود بالإسلام و إنكار ما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قد اقترن في الآية السابقة الوعد بوفاء العهد لهم إن هم وفوا بعهده تعالى، و في هذه الآية قرنه سبحانه بالخوف عن عذاب الآخرة، فجمع سبحانه بين الرجاء و الخوف.

التفسير

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ . تقدم معناه، و هو تأكيد لما سبق و تمهيد لما يأتي، و مثل هذه الآيات تدل على وجوب شكر المنعم، و تحقق العصيان في كفران النعمة و كتمانها، و خصوصية المورد لا توجب تخصيص الحكم العام، فإن القرآن:

«نزل على طريقة إياك أعني و اسمعي يا جارة». كما قال علي (عليه السلام).

قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ . ذكّرهم سبحانه بهذه

ص: 220

النعمة بالخصوص لينبههم على أنهم أولى بالإيمان بالإسلام. و العالمين و إن كان مطلقا، و لكن يراد به خصوص عالمهم فإنّه فضّلهم على غيرهم بكثرة الأنبياء منهم، و كثرة المعجزات فيهم و نزول التوراة عليهم، و لكن ذلك لا يمنع أفضلية غيرهم عليهم، فإن الأدلة العقلية و النقلية دلت على أفضلية خاتم الأنبياء على جميعهم و أفضلية أمته على سائر الأمم، إذ السير التكاملي في كل شيء خصوصا في البشر يقتضي فضيلة الأمة اللاحقة على السابقة، و لقوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ [سورة آل عمران، الآية: 110] و السنّة المستفيضة الدالة على ذلك، و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً . أي: و اخشوا ذلك اليوم الذي تتقطع فيه الأسباب، فتكون نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اِخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [سورة لقمان، الآية: 33]، فيكون سياق هذه الآيات سياق القضايا المنتفية بانتفاء الموضوع. و العوالم الاستكمالية التي ترد على الإنسان أنواعها على قسمين:

الأول - ما يكون الاستكمال و الكمال فيه فرديا فقط، من دون دخل للأسباب الاختيارية فيه، كالعوالم التي ترد على الإنسان قبل وروده إلى الدنيا - كالنطفة، و العلقة، و المضغة، و الجنين في عالم الرحم - فهو يسير فيه بالسير الطبيعي منفردا، قال تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام، الآية: 94].

الثاني: ما يكون اختياريا بجميع أطوارها - من جمعها، و كثرتها و قلتها، و فقدانها - دخل في الاستكمال و الكمال، فيكون دار الأسباب من جميع الجهات، و قد جرى علم اللّه تعالى الأزلي و قضاؤه و قدره في ذلك

«و أبى اللّه أن لا يجري الأمور إلاّ بأسبابها» كما في الحديث فكم من شجاع يغلب غيره بسلاحه، و كم من صانع يقهر غيره بصنعه إلى غير ذلك مما لا يحصى.

و يختلف عالم الآخرة عن ما يتقدمه من العوالم بوجهين:

ص: 221

الأول: أنّ الكمال في الآخرة و عدمه فردي فقط، فصاحب العمل الصالح له مقام خاص به يختلف باختلاف مراتب العمل من دون أن يكون في البين تسبب أسباب، و تهيئة أمور فيها، لكونهما في الدنيا، و يظهر أثرها في الآخرة.

الثاني: أنّ فيها تنحصر الملكية و المالكية و الملك في اللّه تعالى فلا ملك إلاّ له، و لا مالك إلاّ هو، و لا ملك إلاّ و هو قائم به عزّ و جل فتنقطع بذلك الأسباب و المسببات الاختيارية و غيرها، بل هو تعالى كذلك في جميع العوالم، إلاّ أنه جرت إرادته الكاملة على تسبب الأسباب الظاهرية، ليجري النظام الأحسن على أكمل الوجه، و أتم الحكمة. نعم باب الشفاعة مفتوح، لكنه محدود بحدود خاصة، كما ستعرف فلا حكم إلاّ حكمه و لا ملك إلاّ ملكه، فقياس الآخرة على الدنيا كما تراه بعض الأمم - منهم اليهود - حيث يتوهمون دفع المكروه و العذاب عن النفس بالفداء، أو الشفاعة، أو مناصرة بعض له، أو دفن بعض الأثاث لينتفع بها في مهماته الأخروية كما كان ينتفع بها في الدنيا، كل ذلك باطل، فإن في الآخرة تنقطع الأسباب إلاّ سبب واحد و هو العمل الصالح في الدنيا، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 88].

(إن قيل): تدل الأخبار الكثيرة على أنه يلحق بالميت كل خير يهدى اليه من دار الدنيا حتّى أنه قد يكون في ضيق فيوسع اللّه عليه بذلك كما يأتي.

(قلت): فرق واضح بينهما، فإن ما يلحق بالميت من الصدقات و الخيرات إنما يصرف في سبيل اللّه تعالى فيصل ثوابها اليه لا محالة لا أن ينتقل نفس المال إلى الميت، و دفن المال و السلاح لا يستفيد منه الميت على فرض أن اللّه تعالى يعيده في الآخرة.

نعم، ورد في بعض الروايات أن الشهيد يدفن بثيابه و لا ينتزع منه شيء،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في شهداء بدر: «زمّلوهم بدمائهم فإنهم يبعثون معها يوم القيامة» و ذلك لأنه رمز الحياة الأبدية و النعمة السرمدية فلا تزال تبقى معه أبدا.

ص: 222

فالأقسام المتصورة في عمل الإنسان في الدنيا و الآخرة أربعة:

الأول: تأثير عمل كل فرد يعمله في الدنيا لنفسه في الآخرة - إن خيرا فخير، و إن شرا فشر - و هذا كثير، و هو الذي تدل عليه الكتب السماوية، و يكون المناط عليه في المعاد.

الثاني: تأثير عمل الشخص في الآخرة لنفسه فيها. و هذا غير صحيح كما عرفت، فإن الآخرة دار الجزاء، لا دار الأعمال إلاّ ما ورد بالنسبة إلى بعض الأعمال،

ففي الحديث: أنه يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: «اقرأ و ارق»، بناء على أن قرائته للقرآن سبب لارتقاء درجاته فيها، و ما

ورد في من مات في حال تعلمه للقرآن فإنه «يبعث اللّه تعالى من يعلّمه القرآن في قبره».

الثالث: أن يؤثر عمل شخص في الدنيا لشخص في الآخرة و هو كثير، و قد دلت الأدلة الكثيرة على انتفاع الأموات بما يهدي إليهم الأحياء من الخيرات و التبرعات و لا سيما الأرحام فيهم حتّى

ورد أنه: «ربما يكون في ضيق فيوسع اللّه تعالى عليه بذلك الخير الذي يوصل اليه من الدنيا» خصوصا إذا كان بتسبب من نفس الميت،

ففي الحديث المعروف بين الفريقين: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلاّ من ثلاث: صدقة جارية، و مصحف يقرأ فيه، و ولد صالح يستغفر له».

الرابع: تأثير دعاء الميت لأحد في دار الدنيا، و هذا القسم أيضا واقع،

و قد ورد في الأولاد: «أنّ الولد ربما يكون بارا لوالديه و يصير عاقا بعد موته». فيدعو الميت على الولد في عالم البرزخ فيصير بها عاقا. هذا إجمال الأقسام و يأتي تفصيلها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

و الحاصل: أنّ ارتباط العوالم بعضها مع بعض ثابت عقلا و نقلا و إن كان خصوصيات هذا الارتباط غير معلومة إلاّ لعلام الغيوب، و قد يفيض اللّه تعالى لمعة من إشراقاته الى بعض أوليائه فيتعلم أسرار التكوين بقدر ما يفاض عليه من المبدأ الفياض و يستفيض من فيض وجوده حتّى مراتب الانبساط و الانقباض.

ص: 223

قوله تعالى: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ . لأنّ أصل الشفاعة منوطة بإذن اللّه تعالى، و قبولها إنما يكون منه تعالى، قال عزّ و جل: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ [سورة طه، الآية: 109]، لأن جميع موجبات الشفاعة التي فصلت في الكتاب و السنة الشريفة من مظاهر إرادته و رضاه. فيظهر التوحيد العملي حينئذ بجميع مظاهره و شؤونه و يضمحل الشرك بجميع معانيه. و لا منافاة بين نفي الشفاعة في مورد و إثباتها في آخر لأن في القيامة مواقف، و عقبات، و حالات، و يأتي البحث عن الشفاعة في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ [سورة البقرة، الآية: 255].

قوله تعالى: وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ . العدل: بمعنى الاستواء و المماثلة و يختلف باختلاف الجهات، فيقال: هذا عادل: أي: متشبث بدينه. و هذا عدله أي مثله في جهة من الجهات، سواء من جنسه أو من غير جنسه، و قد يفترق بفتح العين في الأول و كسره في الثاني قال تعالى: أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً [سورة المائدة، الآية: 95] أي ما يساويه في جهة التكليف،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «بالعدل قامت السموات و الأرض» أي بالتساوي في الجهات التكوينية التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و الجهات الاختيارية التي أمر اللّه تعالى بها عباده.

و المراد بالعدل هنا الفدية، قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ اَلنّارُ [سورة الحديد، الآية: 15] أي لا فداء من أحد لأحد يوم القيامة إن استطاع أن يأتي بالفدية، و كذا لا توبة هناك، قال تعالى: فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً [سورة الفرقان، الآية: 19] و الصرف هو التوبة.

قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . النصرة بمعنى المعونة و التقوية أي: لا أحد يمنعهم من العذاب، لأن النصرة منحصرة باللّه تعالى و بالعمل الصالح و هما خالصان للمؤمنين، لانقطاع النصرة عن جميع الممكنات و انحصارها في الواجب بالذات، قال تعالى: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم، الآية: 47] و من بعد عنه تعالى فقد حرم نفسه عن

ص: 224

نصرته مطلقا، قال تعالى: وَ ما لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [سورة التوبة، الآية: 74]، و قال تعالى: ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ [سورة الشورى، الآية: 8].

و بعبارة أخرى: إنّ النصرة متوقفة على القدرة عليها و لا قدرة كذلك إلاّ للّه تعالى في ذلك اليوم.

و هذه الآيات رد على مزاعم اليهود من أنهم أحباء اللّه تعالى، و أنهم شعبه المختار و أبناؤه، و أنّ اللّه تعالى يشفع لنا يوم القيامة و ينصرنا من العذاب، فنفى اللّه عنهم ذلك قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [سورة المائدة، الآية: 18].

بحث روائي:

في تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ أي فعلته بأسلافكم فضلتهم دينا و دنيا».

أقول: سيأتي بيان ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى في ما تقدم من الآية «و إنما فضلهم على عالمي زمانهم بأشياء خصهم».

و عن ابن بابويه «قيل لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): ما العدل؟ قال: الفدية. قيل: ما الصرف يا رسول اللّه؟ قال: (صلّى اللّه عليه و آله): التوبة».

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ ر

اشارة

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اَلْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى بعض نعمه العامة على بني إسرائيل مقرونا ببيان بعض إرشاداته لهم ذكر سبحانه في هذه الآيات المباركة جملة من نعمه

اشارة

ص: 225

الخاصة - منا عليهم - و لا ريب في أن ذلك من موجبات الرغبة لو كان المنعم عليه من أهل الرغبة إلى نعم اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ . مادة (ن ج و) تدل على الانفصال و الانقطاع عن الشيء و الخلاص منه. و قد استعملت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة جامعها يرجع إلى ما ذكرناه.

و الآل و الأهل بمعنى واحد إلاّ أن الأول أخص من الثاني، لأنه لا يضاف إلاّ لذوي القدر و الشرف، بخلاف الثاني فإنه يضاف إلى كل شيء وضيعا كان أو شريفا، زمانا كان أو مكانا أو شيئا آخر. و الجامع القريب بينهما هو الرجوع، فآل الرجل من يرجع إليه في قرابة، أو رأي، أو نحو ذلك.

و فرعون لقب كان يطلق على كل من ملك مصر - كقيصر لملك الروم، و تبّع لملك اليمن، و خاقان لملك الترك، و كسرى لملك الفرس - و فرعون كلمة غير عربية مركبة من لفظين مصريين (ير) و (عون): أي البيت الأعظم، فصارت علما لملوك مصر قبل الميلاد بأكثر من ألف سنة، و هو مثل (الباب العالي) المستعمل في سلاطين آل عثمان، و قد ورد هذا اللفظ في الكتب المقدسة كثيرا، كما ورد في القرآن العظيم في ما يزيد على سبعين موضعا، و قد ضبط التاريخ أسماءهم و صفاتهم، و أعمالهم إلى أن ذهب اللّه تعالى بهم، كما قال عزّ و جل: وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ [سورة الأعراف، الآية: 137].

قوله تعالى: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ . السوم هنا الكلفة و المشقة، فسامه أي: كلفه. و سوء العذاب؛ أي أشقه و أذله و المعنى: أنّهم كانوا يذيقونكم كل ما يتصورون من المشاق و المتاعب الشديدة.

و قد وصف سبحانه و تعالى هذا العذاب تارة: بالبلاء العظيم فقال جلّ شأنه: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة

ص: 226

الأعراف، الآية: 141]. و أخرى: بالعذاب المهين، فقال تعالى: وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ اَلْعَذابِ اَلْمُهِينِ مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ اَلْمُسْرِفِينَ [سورة الدخان، الآية: 30]،

و شرحه علي (عليه السلام) في خطبته فقال:

«فاعتبروا بحال ولد إسماعيل، و بني إسحاق، و بني إسرائيل (عليه السلام) فما أشد اعتدال الأحوال و أقرب اشتباه الأمثال تأملوا أمرهم في حال تشتتهم و تفرقهم ليالي كانت الأكاسرة و القياصرة أربابا لهم يجتازونهم عن ريف الآفاق، و بحر العراق، و خضرة الدنيا إلى منابت الشيح، و مهافي الريح، و نكد المعاش، فتركوهم عالة مساكين إخوان دبر و وبر أذل الأمم دارا، و أجدبهم قرارا لا يأوون إلى جناح دعوة يعتصمون بها، و لا ظل ألفة يعتمدون على غيرها، فالأحوال مضطربة، و الأيدي مختلفة، و الكثرة متفرقة، في بلاء أزل (أي شدة) و إطباق جهل».

ثم بين سبحانه بعض ذلك العذاب بقوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ .

الاستحياء الاستبقاء،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في وقعة بدر «اقتلوا المشركين و استحيوا شراخهم» أو «شرخهم»، أي شبابهم الذين ينتفع بهم في الخدمة يعني: أنهم كانوا يقتلون الذكور، و يستبقون النساء، و كان قصدهم من ذلك إذلالهم و إبادتهم بقطع نسلهم، أو إبقاء النساء للانتفاع بهنّ بكل ما أمكن من أنحاء الاستمتاعات. و أدب القرآن اقتضى التعبير بلفظ جامع و إلاّ لأحد لظلم هذا المتجبر المدعي للألوهية المتسلط على بني نوعه، و قد قال تعالى عن ظلم فرعون و جبروته في آية أخرى: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي اَلْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ [سورة القصص، الآية: 4] و من ذلك يعلم أنه لا وجه لحصر بعض المفسرين ظلمه في شيء محسوس.

و إنّما ذكر تعالى النساء بدل البنات في مقابل الأبناء للتغليب و مجاز المشارفة، و قد يقال: إن معنى استحياء النساء أي يطلبون فروجهنّ لأن الحياء الفرج. و فيه: أن الحياء بهذا الإطلاق يختص بالفرج من ذوات الخف

ص: 227

و الظلف - كما صرح به ابن الأثير - فلا يشمل الإنسان.

و لكن كل ما قيل من هذه الاحتمالات في قصة فرعون و بني إسرائيل يناسب ما نسب إليهم من السيئات.

قوله تعالى: وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ . البلاء الإختيار و الامتحان، و يستعمل في الخير و الشر، قال سبحانه: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35]، و قال تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتّى نَعْلَمَ اَلْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ اَلصّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ [سورة محمد، الآية: 31]، فهو إما إنعام أو انتقام، و ربما يكون إنعاما لقوم، و انتقاما من آخرين و هو كثير في سنة اللّه الجارية في هذا العالم، و لذا عبّر تبارك و تعالى بكلمة (ربكم) لأن الربوبية العظمى تقتضي ذلك.

قوله تعالى: وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ اَلْبَحْرَ . الفرق و الفلق هو الانفراج، و لكن الأول مع الفصل، و الثاني مع الإنشقاق. و فرق البحر انفصال بعضه عن بعض مع بقاء الجسم السيال على سيلانه، و هو من أعظم المعجزات لموسى (عليه السلام) كما شرحه اللّه تبارك و تعالى بقوله جلّ شأنه: فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ [سورة الشعراء، الآية: 63] و الطود هو الجبل.

و البحر هو الاتساع و الانبساط، و منه سمي البحر بحرا، و هو من الموضوعات الإضافية التشكيكية، فالبحر المحيط بالدنيا بحر، و دجلة و الفرات أيضا بحر بالنسبة إلى السواقي، و المراد به هنا هو بحر القلزم [البحر الأحمر] على المعروف.

و الباء في قوله تعالى: بِكُمُ اَلْبَحْرَ للسببية، لأن عبورهم في البحر بإعجاز منه جل شأنه صار سببا لفرق البحر، فلا تنافي بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْبَحْرَ [سورة الشعراء، الآية: 63] لأنه أيضا سبب منه تبارك و تعالى ظهر في عصا موسى، فهم كانوا السبب الغائي لفرق البحر، و العصا كانت بمنزلة السبب الفاعلي، و الكل منه تبارك و تعالى.

ص: 228

و أما احتمال أن فرق البحر و هذه الآيات الباهرة كانت من مجرد مجاري الطبيعة من المد و الجزر و نحوهما، كما عن بعض المفسرين المنكر للمعجزات و خوارق العادات. فهو ساقط مطلقا، لكونه مخالفا لنص الآيات القرآنية، و ما ذكر مفصلا في التوراة، كما لا يخفى على من راجعها.

قوله تعالى: فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . النجاة هي الانفصال و الخلاص، و استعمل هنا في مقابل الغرق. و أصل الغرق هو التجاوز عن الحد المعتبر في الشيء و غالب استعمالاته في القرآن إنما هو بالنسبة إلى فرعون و آله، و قوم نوح؛ و الأول إضافي، و الثاني كلي عالمي؛ و النظر: هو الإقبال إلى الشيء فإن كان بالقلب يسمى فكرا و اعتبارا، و ان كان بالعين يسمى نظرا و رؤية، و إن كان باليد سمي لمسا إلى غير ذلك من مصاديق معنى الإقبال و التوجه بالمعنى العام.

و إنما ذكر تعالى آل فرعون و لم يذكر غرق نفسه، لأن المراد من الآية هو استيصالهم رأسا فيشمل غرق نفسه أيضا، مع أن ذكره في آيات أخرى يغني عن ذكره هنا، قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ [سورة يونس، الآية: 90].

و إنما ذكر سبحانه و تعالى (النظر) لأنه بالنسبة إلى هلاك العدو و غرقه سرور عظيم لبني إسرائيل فتكون النعمة عليهم أتم و أعظم.

و في هذه الآيات المباركة اعتبار عجيب لمن اعتبر، فإن فرعون افتخر بملك مصر، و جريان الأنهار من تحته فأغرقه تعالى و أهلكه في ما افتخر به، و هذه هي سنة اللّه تعالى في كل من غفل عنه و جعل همه في غيره جل شأنه،

قال تعالى: «و عزتي و جلالي و علو شأني، و ارتفاع مكاني لأقطعن أمل كل مؤمل غيري، و لأكسونه ثوب المذلة و الأياس».

بحث اجتماعي:

ثم إنّ هنا بحثا اجتماعيا، و حاصله أنه يمكن إرجاع كل اختلاف واقع بين أفراد الإنسان - و منه الاختلاف بين بني إسرائيل و قوم فرعون - إلى أحد

ص: 229

أمور:

الأول: السبب الاجتماعي، كالاختلاف في العادات و التقاليد و الأخلاق و الحضارات.

الثاني: السبب الاقتصادي، فإن الاختلاف في مراتب الغنى و الفقر يوجب التعاند و التنازع بين أفرادها.

الثالث: السبب العقائدي، فإن لكل قوم دينا و معتقدا يغائر ما لقوم آخرين و كل يريد بسط عقيدته على الآخرين. و هناك بعض الأسباب الخفية - شخصية أو نوعية - لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى. و جميع هذه الأسباب من أطوار المجتمع البشري التي أشار إليها تعالى في قوله: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً [سورة نوح، الآية: 14] فجعل جل شأنه ذلك من أبرز علامات وجوده و أظهر آيات ثبوته. و هذه الأسباب جميعها اجتمعت بالنسبة إلى بني إسرائيل و الطواغيت الفرعونية، فإن بني إسرائيل كانوا مقهورين تحت ظلم الفراعنة و عبيدا لهم.

بحث تاريخي:

تعبر التوراة عن الإسرائيليين ب (العبريين) و ترجع كلمة (عبري) إلى عهد إبراهيم الخليل (عليه السلام)، فقد أطلق الكنعانيون هذه التسمية على إبراهيم، ثم اتسعت فشملت جميع أسرته فصاروا يعرفون بالعبريين.

و غير خفي أن هذه التسمية لم تكن تختص باليهود، بل كانت تطلق على القبائل التي عبرت الأنهار إلى أرض كنعان، فالعبريون هم الأقوام الدخيلة على الكنعانيين الذين كانوا في حرب معهم و لأجل ذلك لم يرد في القرآن الكريم اطلاق العبريين على اليهود.

و قد عاش هؤلاء مع الكنعانيين زمنا طويلا و أخذوا من الأخيرة عاداتهم و تقاليدهم حتّى كانوا لا يختلفون عنهم كثيرا إلاّ في العقيدة فإنهم كانوا يعبدون الإله الواحد دون الأصنام، بخلاف الكنعانيين و لم يمض من الوقت كثير حتّى أصبح العبريون قبيلة كبيرة يمتهنون الرعي ينتقلون من مكان إلى

ص: 230

مكان يبحثون عن المراعي الخصبة حتّى حل الجدب و المجاعة في أرض كنعان و ما جاورها، فكان لا بد لهم من الهجرة إلى مصر التي عرفت بوفور نعمها و كثرة مياهها، و لم تكن مصر غريبة عنهم فقد دخلها أبوهم إبراهيم من قبل.

و أول من دخل مصر من بني إسرائيل هو يوسف بن يعقوب (عليهما السلام) و انضم اليه إخوته و عشيرته كما بيّن سبحانه و تعالى قصتهم في سورة يوسف. و عاشوا فيها زمنا طويلا، فتكاثر نسلهم و ازداد عددهم عاما بعد عام. و المذكور في التوراة أنّ ذرية هذه الجماعة هي التي خرجت من مصر بعد مرور أكثر من أربعة قرون بسبب اضطهاد فرعون و قومه لهم.

و الإسرائيليون في مصر كانوا في عزلة تامة عن المصريين لا يختلطون معهم، و لذلك لم يتعرض لهم المصريون بسوء حتّى ازداد نسلهم و كثرت أموالهم فأصبحوا مصدر قلق لملوك مصر و اشتد هذا القلق في عهد رمسيس (1300-1233 قبل الميلاد) الذي يعد من أعظم الفراعنة قدرة و منعة، فقد تغلب على أعداء مصر و جلب منهم عددا كبيرا إليها، و أسرف في البناء فكان من نتائجه أن نصف ما بقي من العمائر المصرية تعزى إلى أيام حكمه، و راجت التجارة في عهده و ازدادت ثروة المصريين، و قد أظهر العداء لبني إسرائيل و كان لذلك أسباب عديدة كان من أهمها أنهم عرفوا بخيانتهم للعهد و الإفساد لدى المصريين و كان ذلك نتيجة انعزالهم و ابتعادهم عنهم و امتناعهم عن قبول عقيدتهم.

و قد نقل التاريخ أنّ هذا الملك جمع قومه و سألهم عما يفعله ببني إسرائيل فنصحوه باستعبادهم حتّى يتغيروا عما هم عليه، فإن للعبودية أثرا كبيرا في إذلال النفس و تغييرها. و قد أخذ بنصيحتهم فاستعبدهم إلاّ أنه لم يتحقق له ما يريده، و استبطأ أثر الاستدلال فعمل على انقراضهم حتّى نمى اليه أنهم يريدون التآمر عليه فازداد قسوة عليهم فأذلهم و سخرهم في الأعمال الشاقة كالبناء و حصرهم في ساحات العمل و وكل بهم من يتبعهم حتّى لا يجدوا فسحة للراحة، فقد عانوا من هذا الوضع أشد العذاب و انتشرت فيهم

ص: 231

الأوبئة و الأمراض، و لكنه لم يكتف بذلك لما رأى ازدياد نسلهم فسنّ قانونا يقضي بقتل كل مولود ذكر من بني إسرائيل و استبقاء نسائهم،

كما ورد في الحديث أيضا: «إنّ فرعون لما بلغه أنّ بني إسرائيل يقولون يولد فينا رجل يكون هلاك فرعون و أصحابه على يده كان يقتل أولادهم الذكور، و يدع الإناث» و كان قصده من ذلك تزويج المصريين بهنّ و نقض كيانهم المستقل بانقراضهم، أو أن يفعل بهنّ ما يشاء لاذهاب حيائهنّ كما حكى عنه عزّ و جل في القرآن العظيم، و كان موسى (عليه السلام) من مواليد هذا العهد فبعثه اللّه تعالى نبيا إلى فرعون و قومه يدعوهم إلى الإيمان و إطلاق الإسرائيليين ليعبدوا إلههم فأبى و لم يستجب له كما قال تعالى: وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الأعراف: الآية: 104-105].

و لكن فرعون شدد عليهم الأمر فازداد ظلمه بهم، و يشير إلى ذلك ما ورد في سفر الخروج من التوراة: إن اللّه تعالى انبأ موسى بأنه سيجعل قلب فرعون قاسيا على بني إسرائيل، و يزيد النكال بهم، و قد تبرم بنو إسرائيل من هذا الوضع الجديد، كما قال تعالى: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا [سورة الأعراف، الآية: 129] فتهيأ موسى للخروج من مصر.

و قد قيل في سبب الخروج أمور كثيرة، فقيل: إن فرعون أذن لهم بالخروج بعد أن شكى قومه إليه من الوباء المتفشي بينهم، ثم ندم فرعون على ذلك فأتبعهم - و قيل إن موسى أمر نساء بني إسرائيل أن يأخذن حلي نساء القبط، كما ورد في التوراة فأمرهم بالخروج فأتبعهم فرعون.

و كيف كان فقد سار بهم موسى حين بلغ ساحل البحر الأحمر عند خليج السويس، و لكن فرعون اتبعهم حتّى طلع عليهم عند شروق الشمس فأيقن بنو إسرائيل بالهلاك، قال تعالى: فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [سورة الشعراء، الآية: 60] و قاد موسى جيشه و عبر بهم إلى الشاطئ الشرقي بعد أن ضرب بعصاه البحر فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ اَلْعَظِيمِ [سورة

ص: 232

الشعراء، الآية: 63] و أبى فرعون إلاّ متابعتهم فعند ما توسط البحر هو و جنوده انطبق عليهم البحر فغرقوا جميعا و خرجت جثة فرعون لتكون لمن بعده عبرة، كما حكى تعالى: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً [سورة يونس، الآية: 92] و هي محفوظة إلى الآن في مقبرة الفراعنة (الأهرام) في المتحف المصري. و كان خروجهم من مصر حوالي سنة 1213 قبل الميلاد - بعد أن أقاموا فيها من عهد يوسف 430 - في شهر أبيب [الشهر الحادي عشر من السنة القبطية] كما هو المذكور في التوراة.

و كان بنو إسرائيل الذين انطلقوا مع موسى جيشا كبيرا، و قد ذكر في التوراة أن عددهم كان يقارب 600/000 نسمة - و إن كان في هذا العدد شيء من المبالغة.

و قد اختلف المؤرخون في فرعون الذي خرج في عهده الإسرائيليون فقيل: إنه رمسيس الثاني، و قيل: إنه منفتاح. و الصحيح أنّ عهد الاضطهاد كان في ملك رمسيس الثاني، و عهد الخروج كان في ملك منفتاح، و سيأتي بقية قصصهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِك

اشارة

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (54) هذه الآيات كسابقتها في مقام تعداد النّعم على بني إسرائيل و هي تشتمل على نزول التوراة التي هي من أعظم النّعم عليهم، لأنها من أهم الكتب السماوية بعد القرآن و ان قوبلت منهم بالرد و الكفران، و عبادة العجل.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً .

الوعد: معروف، و قد استعملت مادة (و ع د) بجميع هيئاتها في القرآن

ص: 233

الكريم، و تستعمل في الخير تارة: و هو كثير، قال تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [سورة المائدة، الآية: 9] و قال تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى [سورة النساء، الآية: 95]. و في الشر أخرى: كقوله تعالى: اَلنّارُ وَعَدَهَا اَللّهُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة الحج، الآية: 72]. و فيهما معا ثالثة: كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة فاطر، الآية: 5].

و الإيعاد و الوعيد يستعملان في الشر، قال تعالى: وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ [سورة ق، الآية: 28]، و قال تعالى: كُلٌّ كَذَّبَ اَلرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ [سورة ق، الآية: 14]. و خلف الوعد بالخير قبيح و لكن لا قبح في خلف الوعيد.

و المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون ان كل واحد من الوعد و خلفه خير يتصف بالصدق و الكذب و هو بالنسبة إلى خلف الوعد باطل، لأنه من مقولة الفعل و العمل لا من مقولة اللفظ و القول إلاّ أن يريدوا الإلحاق الحكمي لا الموضوعي. و كذا بالنسبة إلى نفس الوعد فإنه قد يستعمل في مقام الإنشاء لا الإخبار.

ثم إنّ المفسرين ذكروا تبعا لأهل اللغة أنّ المواعدة من الطرفين فلا بد من قيام المصدر بهما، و قد ذكرنا في قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 9] أنّ أصل المفاعلة لا تدل إلاّ لإنهاء المصدر إلى الغير سواء قام الغير بهذا الفعل أو لا، و لا بد في تعيين ذلك من التماس القرينة.

و لما اجتاز بنو إسرائيل البحر - كما تقدم - سألوا موسى أن يأتيهم بكتاب من ربهم فواعده ربه فضرب له ميقاتا، و قد ذكر الميعاد في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا، و في آية 142 من سورة الأعراف، و في آية 80 من سورة طه.

و كان مكان الميعاد هو الجانب الأيمن من طور سيناء قال تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ اَلطُّورِ اَلْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى [سورة طه، الآية: 80].

ص: 234

و أما زمان الميعاد فهو ذو القعدة و العشرة الأولى من ذي الحجة كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة على ما يأتي، و يقتضيه الإعتبار أيضا، لأنه زمان قبول توبة آدم (عليه السلام)، و من أشهر الحج و من أشهر الحرم، و زمان ورود وفد اللّه تعالى من أطراف الأرض الى المواقيت المكانية فاتحد الميقاتان: المكاني، و الزماني، و هما مقام تجلي عظمة اللّه تعالى لأمة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما تجلى لموسى بن عمران، و قد أدرك (عليه السلام) الميقاتين أحدهما جانب الطور الأيمن و ثانيهما

ما حكاه أبو جعفر الباقر (عليه السلام): «أحرم موسى من رملة، و مر بصفائح الروحاء محرما يقود ناقته بخطام من ليف عليه عباءتان تطوانيتان يلبّي و تجيبه الجبال».

و الأربعون هي مجموع المدة، و يمكن أن يكون في أصل التشريع ثلاثين ليلة فزيد عليه إتمام العشرة، لأن أفعاله جلّت عظمته تتغير بتغير المصالح و المقتضيات، و لذلك تقع مورد البداء و النسخ، كما يأتي تفصيله، و يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فذكر تعالى هنا الأربعين باعتبار مجموع الوعدين.

و كانت الغاية المطلوبة من هذا الميقات هي الانقطاع عن جميع العلائق و التوجه التام إلى رب الخلائق ليستعد بذلك للاستشراق و التجلي و تلقي المعارف و التوراة، و عن جمع كثير من العرفاء أنه قد كان لكل نبي ميقات زماني و مكاني مع ربه يختلف ذلك باختلاف حالاتهم و درجاتهم و منهم من ذكره اللّه تعالى في القرآن الكريم بإشارات مختلفة، و منهم من لم يذكره.

و إنّما خص سبحانه و تعالى الليالي بالذكر دون الأيام إما لأن الليالي أولى و اجمع للمناجاة معه جل شأنه، أو لأن الليل أسبق من اليوم لأنها غرر شهور العرب التي وضعت على سير القمر و ظهور الهلال، أو لأن الليل يشتمل تمام اليوم دون العكس.

و يمكن أن يكون ذكر الليالي لأجل بيان أن موسى (عليه السلام) كان يوصل صومه بالليل و لو اقتصر على ذكر خصوص اليوم لما أفاد هذا المعنى

ص: 235

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ان موسى (عليه السلام) كان حين ذهابه إلى المناجاة يمضغ ورق شجرة و يطرحه تحرزا عن رائحة فمه حين مناجاته مع ربه، فأوحى اللّه تعالى اليه: يا موسى لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك».

و لكن عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) النهي عن صوم الوصال، مع

أنه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصوم صوم الوصال، فقيل له: «كيف ذلك يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)؟! فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إني لست كأحدكم إني أبيت عند ربي فيطعمني و يسقيني ربي».

و (موسى) اسم غير عربي مركب من لفظين: [مو] و هو الماء و [شا] و هو الشجر، سمي بذلك لأن التابوت الذي وضعته أمه فيه و ألقته في البحر امتثالا لوحي اللّه تعالى إليها: فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي [سورة القصص، الآية: 7] وجد عند الشجر فسمي باسم الماء و الشجر.

و عن جمع من المفسرين و اللغويين إبدال الشين بالسين المعجمة، و يشهد لهم بعض اللغات العبرية، و هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم (عليه السلام).

و قد ورد اسمه (عليه السلام) في القرآن الكريم في ما يقرب من مائة و ست و ثلاثين موضعا، و شرح اللّه تعالى حالاته بالتفصيل من ولادته الى هجرته من مصر و نشر دعوته بما لم يشرح حال نبي من أنبيائه بمثل ذلك.

و أما جعل الميعاد في الأربعين فلأن الإخلاص للّه عزّ و جل في هذا المقدار من الزمان له موضوعية خاصة، و لهذا العدد آثار معينة كما يشهد به وجدان أهل الحال، و ثبت ذلك في الفلسفة العملية و علم الأخلاق،

و قد قرره نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله: «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه».

و أما ذكره بعنوانين ثلاثين، و الإتمام بالعشر في آية أخرى، قال تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة، و تأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

ص: 236

و أما ذكره بعنوانين ثلاثين، و الإتمام بالعشر في آية أخرى، قال تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة الأعراف، الآية: 142] فلأجل أن للعشر الأخير من الأربعين الإخلاصية آثارا خاصة لا تحصل في سائر عشراتها السابقة، و تأتي تتمة الكلام في البحث الفلسفي الأخلاقي.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ .

الاتخاذ: الافتعال و الجعل، سواء كان بمعنى عبادتهم للعجل أم جعله إلها: و العجل: ولد البقر، و إنما عبر به إما لعجلة السامري اتخاذه إلها و عبادته له، أو لعجلة موسى في إفنائه دفعا للشر؛ كما قال تعالى: لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً [سورة طه، الآية: 97] فكان جعله إلها و افناؤه بالتعجيل.

و المعنى: اتخذتم العجل إلها بعد غياب موسى عنكم، و ذهابه إلى الميعاد لأخذ التوراة، و هذا من عجيب حالهم حيث قابلوا النعمة بأقبح أنواع الخيانة للعهد و أشد أفراد الجناية على النفس، لأنهم استبدلوا التراب برب الأرباب، و ما رأوه في العجل من الخوار بالعزيز الجبار و سيأتي تفصيل قصة العجل و عبادته في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

العفو: إنما يصدق بالنسبة إلى استحقاق العقاب أيضا، و لكنه لم يصل إلى الفعلية إمهالا منه في عقوبة عباده، فلا بد و أن تشكروا على هذه النعمة، أي عدم العجلة في العقوبة حتّى تختاروا إما البقاء على الكفر أو الاهتداء فتتحقق العقوبة بالنسبة إلى الأول، دون الأخير.

قوله تعالى: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي: اذكر نعمة أخرى لبني إسرائيل و هي من أهم النّعم، المعنوية و الظاهرية، الفردية و النوعية و هي نزول التوراة كتاب يفرق بين الحقّ و الباطل، فيه تفصيل كل شيء، و سبب للاهتداء الى الحق المبين و الصراط المستقيم، كما قال تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ [سورة الأعراف، الآية: 145] فقد حصل من الميعاد

ص: 237

أمران: أحدهما خير الأمور، و هو من اللّه تعالى، و الثاني شر الأمور و هو عبادة العجل و كان من الشيطان، لقانون مقابلة كل حق بباطل حسب ما اقتضته المقادير الإلهية في الأمور النوعية، بل الشخصية أيضا.

و الفرقان هو ما يفرق بين الحق و الباطل. و هذا وصف لكل كتاب سماوي، و شريعة إلهية، قال تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ [سورة آل عمران، الآية: 3]. و يمكن أن يكون المراد بالفرقان المعنى الوصفي الشامل للجميع لا خصوص المعنى العلمي للقرآن.

كما يمكن أن يراد من الفرقان هنا المعنى الجامع لكل ما يفرق بين الحق و الباطل من التوراة، و فرق البحر، و سائر الآيات و المعجزات التي فرق بها بين الحق و الباطل.

و كلمة (لعل) إذا استعملت في كلامه تعالى تكون بداعي محبته تعالى لمدخولها و رضائه و اشفاقه بالنسبة إليه، لا بمعنى الترجي الحقيقي لاستحالته بالنسبة إليه عزّ و جل، إذ كيف يتصور فيه ذلك و هو عالم الغيب و الشهادة من جميع الخصوصيات مما هو موجود و ما مضى و ما هو آت، فكل شيء حاضر لديه، و عن جمع من المفسرين أنها بمعنى «كي» التعليلية.

و في هذه الآيات المباركة تعجيب منهم فإنّه مع ظهور الآيات الكثيرة لبني إسرائيل، ليتدبروا فيها، و يعتبروا منها، و يعملوا بما أمرهم اللّه تعالى به، لكنهم قابلوا تلك بالكفران، و نقض ما أمرهم اللّه تعالى فكفروا برسالة خاتم النبيين.

و لعل السبب في ذلك يرجع إلى أمر مركوز في أنفسهم و هو انهم كانوا يتوقعون أن يكون خاتم النبيين من بني إسرائيل، لتتم لهم الحركة الدينية ابتداؤها و انتهاؤها لكن جعلها اللّه تعالى في بني إسماعيل فحصلت المعاداة الفطرية بينهم.

و على أية حال ففي هذه الآيات إشارة إلى بعدهم أيضا عن مقام الشكر و الاهتداء، لإفراطهم في اللجاجة و العصيان.

ص: 238

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ . أي اذكر لبني إسرائيل ما فاله موسى لهم. و الظلم الحاصل من عبادة العجل عظيم بتمام معنى العظمة، لأنه شرك و قد وقع بعد الآيات الكثيرة الواقعة من اللّه تعالى، فكأنهم سقطوا من السماء إلى الأرض بظلمهم هذا، و من درجات المقربين إلى أسفل السافلين. و لذلك كان ظلما عظيما على أنفسهم بعد تمامية الحجة عليهم حيث صاروا كفارا جاحدين، و حكمهم شديد في شريعة التوراة و القرآن، فقول موسى (عليه السلام): «إنكم ظلمتم» إخبار لهم عن كفرهم و جحودهم و هم اعترفوا بذلك و لم يحك القرآن الاعتراض منهم على موسى (عليه السلام) في ذلك، مع بنائهم على الاعتراض و اللجاج.

و القوم اسم جمع لا واحد له من لفظه و واحده [امرؤ] و المعروف بين أهل اللغة اختصاصه بالرجال، دون النساء، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ [سورة الحجرات، الآية:

11]، و قال زهير:

و ما أدري و سوف إخال أدري *** أقوم آل حصن أم نساء

و قد يراد من القوم النساء أيضا، لقرينة تدل عليه قال تعالى:

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ [سورة الأعراف، الآية: 59]، و قال تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [سورة الأنعام، الآية: 83] و معلوم أن الرسالة تعم الرجال و النساء.

و هو في المقام منادى مضاف حذف منه الياء و أصله يا قومي. و خطاب موسى لقومه إنما كان بأمر منه تعالى، و إنما فعل ذلك إجلالا لشأن موسى (عليه السلام)، و أن خطابه كخطاب اللّه تعالى معهم، و لا بد و ان يكون كذلك، لأن كلام النبي (عليه السلام) في جهات التشريع و تربية أمته نفس كلام المنبأ عنه و إلاّ لغي التشريع المبني على النبوءة الإلهية، فقد ورد في حق نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى » [سورة النجم، الآية: 4] و هذا الحكم يجري فى جميع أنبياء اللّه

ص: 239

تعالى كل في أمته و مورد نبوته.

قوله تعالى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ . البارئ مثل الخالق لفظا و معنى، لكنه أخص من الثاني من جهات ثلاث:

الأولى: اختصاصه بالإطلاق على اللّه عزّ و جل، و لا يطلق على غيره إلاّ بالعناية.

الثانية: اختصاصه في كون متعلقه الحيوان، يقال: خالق الخلق و بارئ النسمات.

الثالثة: اختصاص مورده بالأمور الدقيقة التي لا يحيط بها إلاّ علاّم الغيوب. فهو أخص من الخالق و المصور، قال تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحشر، الآية: 24].

و البارئ من الأسماء الحسنى. و التعبير به في هذه الآية المباركة إشارة إلى نهاية جهلهم، حيث اختاروا عبادة الحيوان المعروف بالغباوة في مقابل من هو بارئ لذاته و من ذاته، و تقدم معنى التوبة في آية: 37.

قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ . بيان للتوبة، أي: ليقتل من لم يعبد العجل من عبده، و لعل التعبير ب «أنفسكم» اشارة الى ملاحظة التراحم بينهم لئلا يتسرعوا الى القتل، لأن بينهم كانت وحدة القرابة و الدين، و ليس المراد قتل الإنسان نفسه [الانتحار] كما في بعض التفاسير، بل قتل بعضهم بعضا لما قلنا من وجود الوحدة بينهم - هذا في شريعة موسى (عليه السلام)، و أما في الشريعة المقدسة السمحاء

فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما أنعم اللّه على عبده بعد الإسلام أفضل من التوبة»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة»، أو:

«إن الإسلام يجبّ ما قبله».

و الأمر بالقتل في الآية المباركة يتصور على وجوه:

الأول: القتل العشوائي - كالسباع الضارية التي يتكالب بعضهنّ على بعض - بلا فرق فيه بين البر، و الفاجر - أي عابد العجل - كما في جملة من

ص: 240

التفاسير؛ و هذا و إن أمكن ثبوتا، بل ورد نظيره في شمول العذاب للمذنبين و غيرهم بتركهم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و لكنه بعيد عن حالتهم، فإنها كانت حالة بدائية أي أول دخولهم في شريعة موسى (عليه السلام)، فهي تقتضي الجلب و المداراة، لا الدفع و التضييق.

الثاني: نفس القسم الأول مع اقتضائهم ذلك بأنفسهم لا بإيجاب من اللّه تعالى عليهم ابتداء - فيكون الأمر تقريرا لما سألوه - و هو غير بعيد، خصوصا من الإسرائيليين الذين ينسب إليهم كل غث و سمين، كما عن جمع.

الثالث: إنّ الأمر من اللّه تعالى كان امتحانيا، كما في قضية إبراهيم خليل اللّه و ذبح ابنه إسماعيل فلم يقع قتل في البين، و إنّما وقع الاستسلام و الامتحان موقعه.

الرابع: ما تقدم منا من قتل الأبرياء لعبدة العجل، و سيأتي في البحث الروائي ذلك أيضا.

قوله تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ . أي توبتكم بقتلكم لأنفسكم طاعة للّه، و مطهرة لكم، و كفارة لذنبكم فيرتفع العقاب الأخروي بذلك، و في تكرار لفظ البارئ اشارة إلى أنه جل شأنه يتدارك هذا القتل بلطفه و عنايته.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . لأنّ ذلك مقتضى كونه بارئا و محيطا بدقائق الأمور و أسرارها و منعما عليهم، و قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ عام لجميع المذنبين و لجميع الشرائع الإلهية، فقد وردت هذه الجملة في أغلب قصص الأنبياء (عليهم السلام) بل جميعها، فيستفاد أنه لم يجعل اللّه تعالى دينا إلاّ و قرنه بقبول توبة المذنبين، و هذا هو النظام الأحسن الذي يرتضيه العقل، و يدل عليه النقل أيضا.

بقي شيء: و هو أن عبادة العجل كانت شركا باللّه تعالى، و قد قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 48]. و يمكن الجواب عنه: بأن تحمل الآية على ما إذا مات

ص: 241

مشركا، لا ما إذا تاب و ندم كما في عبدة العجل، فإنّهم بقتل أنفسهم و تسليمهم لذلك، و قبول توبتهم لم يبق موضوع للسؤال بعد ذلك لا في الدنيا و لا في الآخرة.

و ربما يقال: إن بين قوله تعالى: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . و بين قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ تهافتا فإنه بعد عفوه تعالى عنهم لا يبقى مجال للتوبة. نقول: يؤخذ بكل منهما من جهة لا من جميع الجهات، فإن كل مجتمع يقع فيه المنكرات - أصولا أو فروعا - أو هما معا - تتحقق أصناف ثلاثة: الأول: من يردع المنكر و يحاربه.

الثاني: من يفعل المنكر و يأتي به. الثالث: من يهم بفعل المنكر و لم يفعله. و الأول في هذه القضية كان منحصرا في موسى و هارون، و الثاني من اتخذ العجل إلها، و الثالث من همّ بالاتخاذ و لم يتخذه. و الأخير مورد العفو، و الثاني مورد التوبة، و الأول هو الرادع الإلهي.

بحث روائي:

عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً قال (عليه السلام): «كان في العلم و التقدير ثلاثين ليلة، ثم بدا للّه فزاد عشرا، فتم ميقات ربه الأول و الآخر أربعين ليلة».

أقول: يأتي ما يتعلق بالنسخ و البداء تفصيلا إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العسكري: «لما فرج اللّه عن بني إسرائيل أمره اللّه عزّ و جل أن يأتي للميعاد و يصوم ثلاثين يوما، فلما كان في آخر الأيام استاك قبل الفطر، فأوحى اللّه عزّ و جل اليه: يا موسى أما علمت أن خلوق فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك صم عشرا أخر و لا تستك عند الإفطار، ففعل ذلك موسى، فكان وعد اللّه عزّ و جل أن يعطيه الكتاب بعد أربعين ليلة».

أقول: هذا نحو تحبّب و احترام بالنسبة إلى الصائم لئلا يشمئز أحد من خلوق فمه.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ : «أن موسى

ص: 242

(عليه السلام) لما خرج الى الميقات و رجع إلى قومه و قد عبدوا العجل قال لهم: «يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ اَلْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، فقالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ فقال لهم موسى: اغدوا كل واحد منكم إلى بيت المقدس و معه سكين، أو حديدة، أو سيف فإذا صعدت أنا منبر بني إسرائيل فكونوا أنتم متلثمين لا يعرف أحد صاحبه فاقتلوا بعضكم بعضا. فاجتمعوا سبعين ألف رجل ممن كانوا عبدوا العجل إلى بيت المقدس فلما صلّى بهم موسى (عليه السلام) و صعد المنبر أقبل بعضهم يقتل بعضا حتّى نزل جبرائيل، فقال قل لهم يا موسى ارفعوا القتل، فقد تاب اللّه عليكم فقتل عشرة آلاف و أنزل اللّه تعالى: ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

أقول: و قريب منه ما في تفسير العسكري، و قد وقع القتل من غير العابدين للعجل على العابدين له بأمر من موسى (عليه السلام)، و يجوز للنبي أن يوكل بعض مقدمات القتل إلى من يشاء، و كان ذلك توبة منهم. و الحصر في العدد غير حقيقي فلا ينافي الحديث الآتي.

و في الدر المنثور عن علي (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ الآية - قال (عليه السلام): «قالوا لموسى:

ما توبتنا؟ قال موسى (عليه السلام): يقتل بعضكم بعضا فأخذوا السكاكين فجعل الرجل يقتل أخاه و أباه و ابنه و اللّه لا يبالي من قتل حتّى قتل منهم سبعون ألفا فأوحى اللّه إلى موسى مرهم فليرفعوا أيديهم و قد غفر لمن قتل، و تيب على من بقي».

أقول: تقدم في الرواية السابقة وجه ذلك.

بحث فلسفي (عملي):

لا ريب في أنّ إفاضاته تعالى غير متناهية، و ليست هي محدودة بحد خاص، و التحديد إنما هو في المفاض عليه فإن العطيات بقدر القابليات و الإفاضات إنما هي محدودة بحدود الاستعدادات. و على هذا فإن المستفيض قد يشمله الفيض العام (مطلق الوجود) و قد يشمله الفيض الخاص، كما أنه

ص: 243

ربما يستفيد من الفيض الأخص، و الأخير يتوقف على أمور خاصة شرعية - كالرياضات و العبادات - توجب تهيئة النفس للإفاضة بالفيض الأخص، بلا فرق بين الأنبياء و المرسلين و غيرهم، فإن خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) مع أنّه من أكمل النفوس و أتمها و أقربها إلى ربّ العالمين تحصل من عباداته للّه تعالى و مجاهداته فيه جل شأنه حالات لم تكن له قبل ذلك.

و القابلية للاستفاضة إنما تحصل بانقلاع النفس عن العلائق الجسمانية و الحواجب الظلمانية، و انقطاعها إلى اللّه تعالى و تصفية مرآتها عن الغبار و محو جميع الأنداد و الأغيار، فإن لذلك الأثر العظيم في حصول الانس و تجلي القلب بأنوار القدس فيتجلى اللّه تعالى على قلبه بنور عظمته، و إليه

أشار نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه».

و الغرض من الميقات و الميعاد هو ذلك، و قد تقدم أنه قال جمع من العرفاء: إن لكل نبي و ولي ميقاتا مخصوصا.

و إنّما ذكر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في الرواية الصباح ليلازم العبد على الصمت و السكوت إلاّ عن الحق، لأن اليوم و الصباح مظنة الخلطة مع النّاس و التكلم معهم في أمور الدنيا،

و في الحديث: «من رأيتموه سكوتا فادنوا منه فإنه يلقي الحكمة».

ثم إنّ للميقات و الميعاد مظاهر مختلفة فقد كان ميقات موسى في أربعين ليلة و في جانب الطور الأيمن كما عرفت، و أما مواقيت خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) فقد جعل لأمته مواقيت خمسة مكانية كمواقيت الحج و العمرة و زمانية كأشهر الحج أو هما معا فيما إذا اتفقتا معا، و هي من علامات رسالته و معجزات نبوته؛ و فيها يتبرأ كل مسلم من الشرك و الأنداد و يطرح الأغيار و الأضداد و يتهيأ تهيئة الأسير الذليل بين يدي الرب العظيم ليتجلى اللّه تعالى عليهم عشية عرفات فيحسن إلى محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم فكان من إحدى مظاهر تجليات اللّه تعالى لعباده يوم القيامة؛ و آخر

كلام موسى (عليه السلام) مع ربه في الميقات «سبحانك تبت إليك».

ص: 244

و أما أول كلام أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و آخر كلامهم إنما هو تبشيرات الوصول و المواجهة:

«لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إنّ الحمد و النعمة لك و الملك لا شريك لك».

و يفترق ميقات موسى بن عمران عن ميقات أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أن الأول شخصي و الآخر نوعي، و أنّ الثاني كان ميقاتا قبل خلق الخلق، و لكن الأول صار ميقاتا بورود موسى (عليه السلام) اليه.

و من المواقيت أيضا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) مواقيت الصلاة التي يحضرون فيها لدى اللّه تعالى في أوقات صلواتهم و توجهاتهم إليه بقلوبهم و أبدانهم كما يشير إليه

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «الصّلاة معراج المؤمن» كما أن الاعتكاف الحاصل لهم في المساجد كذلك بل اجتمع فيه الميقات الزماني و المكاني و الحالي أيضا.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ ب

اشارة

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى بعض نعمه على بني إسرائيل مع كفرانهم لها ذكر جل شأنه في هذه الآيات المباركة بعضها الآخر، و بيّن فيها بعض الوقائع التي وقعت عليهم أيضا، كما ذكر فيها ما ينفعهم في صلاح حالهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً . أي: اذكروا ما قلتم لموسى (عليه السلام) لن نصدقك حتّى نرى

ص: 245

اللّه جهرة، و هذا بيان لقصة أخرى من قصصهم و هي من أعظم مظاهر جهلهم، و كانت عقوبة هذا الجهل من أعجل العقوبات التي حلت بهم.

و الإيمان بمعنى التصديق يتعدى باللام، كما في المقام، و بالباء كما في قوله تعالى: قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة الأعراف، الآية: 123]. و الرؤية هنا الإدراك بالقوة الحسية البصرية، و تستعمل بمعنى العلم و ما يدرك في عالم الرؤيا أيضا، و الجهر معناه العلانية، و المراد به ظهور المدرك (بالفتح) معاينة في القوة الحسية إما في البصر، كقول القائل: رأيته جهارا، أو السمع كقوله تعالى: وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى [سورة طه، الآية: 7]، و أكد بالجهر للفرق بين رؤية العيان و غيرها.

قوله تعالى: فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ . تقدم في قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ اَلصَّواعِقِ حَذَرَ اَلْمَوْتِ [سورة البقرة، الآية: 19] معنى الصاعقة، و هي النار المحرقة، قال تعالى: وَ يُرْسِلُ اَلصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ [سورة الرعد، الآية: 13]، و قد يراد بها الصوت الشديد الموجب للموت، قال تعالى: وَ نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة الزمر، الآية: 68]، و تأتي بمعنى العذاب، كما في قوله تعالى: أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ [سورة فصلت، الآية: 13].

و احتمالات الصاعقة في هذه الآية المباركة هي: إما أن تكون من العذاب الأخروي جزاء لغيّهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما في الكتب السماوية من أن العذاب الأخروي متوقف على أمور معينة يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى، أو تكون نحو عذاب دنيوي، جزاء لعنادهم و لجاجهم. و فيه: أنه خلاف ما جرت عليه عادة اللّه تعالى من التأني و الإمهال في التعذيب و التأخير فيه إلاّ ان يخصص المقام، أو أن الصاعقة حصلت من آثار عظمته و جلاله و كبريائه جل شأنه فتكون من سنخ قوله تعالى: تَكادُ اَلسَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ اَلْأَرْضُ وَ تَخِرُّ اَلْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [سورة مريم، الآية: 91] فهي أمر وضعي تكويني، و تأثير الأقوال، و الأفعال غير

ص: 246

المرضية للّه تعالى في عالم التكوين يستفاد من الكتاب العزيز و السنة المستفيضة كما يأتي، بل تدل عليه الأدلة العقلية أيضا على ما يأتي التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

و النظر فيها تقليب البصر أو البصيرة لإدراك الشيء. و استعماله في الأول أكثر عند العامة، و في الثاني أكثر عند الخاصة. و قد ورد في القرآن الكريم ما يدل على كل منهما فمن الثاني قوله تعالى: أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 185] و من الأول قوله تعالى: وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ [سورة التوبة، الآية:

127] و قد استعمل في المقام بمعنى مطلق الإدراك الشامل لكل من المعنيين بحسب شعورهم و إدراكهم فيكون نحو تخويف و تشديد لما سألوه من موسى (عليه السلام).

و قصة سؤال بني إسرائيل رؤية اللّه تعالى مذكورة في التوراة، و هي أن طائفة من بني إسرائيل اعترضوا على موسى و هارون و قالوا لماذا اختصا بالكلام مع اللّه تعالى مع أنهما إنما حظيا هذه المنزلة، لكونهما من ولد إبراهيم (عليه السلام) و هذه النعمة تعم بني إسرائيل كلهم فقالوا لموسى: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة فأخذهم الى خيمة العهد، و هي خيمة نصبها موسى لنفسه و أمر بتقديسها و سميت بخيمة الزمان أيضا، فانشقت الأرض و ابتلعت قسما منهم و أحرقت الناس القسم الآخر.

و لكن نقل ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه السلام): «أن بني إسرائيل قالوا لن نؤمن لك بأنّ اللّه أرسلك و كلمك حتّى نسمع كلام اللّه تعالى فاختار منهم سبعين رجلا فلما سمعوا كلام اللّه قالوا لن نؤمن بأنه كلام اللّه حتّى نرى اللّه جهرة فأخذتهم الصاعقة فماتوا»، و سيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

و يستفاد من الجمع بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 143] أن سؤال موسى لرؤية اللّه تعالى لم يكن لنفسه و من عند نفسه، بل كان لبني إسرائيل، و لذا لم يكن مشمولا

ص: 247

للصاعقة الموجبة للموت و البعث بعده، بل قال تعالى في حقه (عليه السلام) وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و سيأتي التفصيل في سورة الأعراف.

قوله تعالى: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ . البعث بمعنى الإثارة و الإرسال و التوجيه. و قد استعملت مادته في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يجمع جميع هذه الاستعمالات أحد أمور ثلاثة:

أحدها: الإيجاد من العدم إلى عالم الدنيا، كقوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31]، بناء على أنه أول غراب بعث من العدم إلى الوجود، كما هو الظاهر.

ثانيها: الإحياء بعد الإماتة، كقوله تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي اَلْقُبُورِ [سورة الحج، الآية: 7].

ثالثها: البعث إلى المقاصد الصحيحة كبعث الرسل، قال تعالى:

وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129].

و المعروف بين المفسرين أن الأول مختص باللّه تعالى، و يستعمل الأخيران في غيره أيضا، لأن بعض أولياء اللّه تعالى يحيي الموتى، و أما البعث في الحوائج فهو شايع عند الناس.

أقول: إن اختصاص الأول باللّه تعالى منصوص في قوله عزّ و جل لعيسى (عليه السلام): وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110] إلاّ أن يقال: إنه من تبديل الصورة، لا الإيجاد من العدم المحض.

و المراد بالبعث هنا المعنى الثاني أي بعثوا بعد الموت لعلهم يشكرون هذه النعمة عليهم، و لكنهم قابلوها بالكفران.

ص: 248

و هذه الآية المباركة دليل على مذهب الإمامية من الرجعة، و استدلوا بجملة من الآيات المباركة هذه إحداها، و يأتي تفصيل ما ذهبوا اليه إن شاء اللّه تعالى.

و في هذه الآيات إيماء إلى النهي عن التعمق في ذات اللّه جلت عظمته بل استحقاق العقاب عليه، و قد وردت عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في النهي عن التعمق في ذاته عزّ و جل روايات كثيرة،

فعن أبي جعفر (عليه السلام): «تكلموا في خلق اللّه و لا تتكلموا في اللّه فإن الكلام في اللّه لا يزداد صاحبه إلاّ تحيرا»،

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يقول: وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى فإذا انتهى الكلام إلى اللّه تعالى فأمسكوا».

قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ . ذكر سبحانه و تعالى بعض نعمه التي منّ بها على بني إسرائيل و هي نعمة التظليل، و ذلك أنهم لما خرجوا من مصر و أرادوا الأرض المقدسة اجتازوا صحراء لا ظل فيها و لا شجر فكان يصيبهم حر شديد فشكوا إلى موسى (عليه السلام) فأرسل اللّه تعالى إليهم الغمام لتظلّهم عن حر الشمس، كما هو مذكور في التوراة.

و الظل هو الستر و كلما يستر عن الضياء يسمى ظلا، قال تعالى في وصف أهل الجنّة: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ [سورة المرسلات، الآية:

41] و الفيء أخص منه، لاختصاص إطلاقه بما زالت عنه الشمس فقط، و ليس كل ظل هو فيئا. و الغمام هو السحاب و القطعة منه غمامة، و إنما سمي غماما، لأنها تستر السماء فيصير معنى الغمام و الظل و الستر واحدا و يفرّق بالاعتبار، و تظليل الغمام لهم إنما وقع في التيه.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ اَلْمَنَّ وَ اَلسَّلْوى . هذه نعمة اخرى من النّعم التي منّ بها على بني إسرائيل. و المنّ هو الإحسان و الخير، و يقع تارة، بالفعل، و هو حسن و كثير في القرآن، و أخرى بالقول و هو مستقبح عند الناس إلاّ عند كفران النعمة، و لذا قالوا: «إذا كفرت النعمة حسنت المنة». و السلوى هو كلما يتسلى به الإنسان و منه التسلي في المصيبة، و فلان

ص: 249

في سلوة من العيش أي: في رغده. و الإنزال بمعنى الخلق و الإيجاد، و حيث يصدر كل منهما من مبدأ عال بكل معنى العلو يصح إطلاق الإنزال عليه، كما في قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ [سورة الحديد، الآية: 25].

و المعنى: أنزلنا عليكم الخيرات و البركات، و ما يوجب رغد العيش و يشهد لهذا التعميم ذيل الآية الشريفة كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ فإنها في مقام الامتنان.

و قد فسر المنّ بعض المفسرين بأنه مادة لزجة حلوة تشبه العسل تقع على الحجر و ورق الشجر مائعة ثم تجمد و تجف فيجمعها الناس لأجل الاستفادة منها، و السلوى: بالسمانى و هو طائر معروف. و هذا يكون من باب التطبيق، لا بيان المعنى الحقيقي، و يأتي شرح ذلك في قصة التيه في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ . الطيب ما تستطيبه النفس، و هو من الأمور الإضافية فرب طيب يستطيبه قوم دون آخرين، و ذكر كلمة «من» في الآية الشريفة لهذه الجهة.

أي: ليأكل كل منكم ما يشاء و يستطيبه. و سياقها يدل على وفور النعم و كثرتها، و لكنهم قابلوها بالكفران و المعاصي كما أشارت إليه الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . في هذه الآية الشريفة إشارة إلى أمر وجداني و هو كل من كفر بنعمة أسديت اليه فقد ظلم نفسه، لأن ذلك سبب لانقطاع تلك النعمة و زوالها، أو يستوجب عذاب اللّه تعالى، و مما ظلموا به أنفسهم جحودهم للّه تعالى الذي هو من أعظم الظلم.

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْنَا اُدْخُلُوا هذِهِ اَلْقَرْيَةَ . مادة (ق ر ي) تأتي بمعنى الجمع فيصح إطلاقها على كل مجمع إطلاقا حقيقيا.

و روي أنّ بعض القضاة دخل على علي بن الحسين (عليه السلام) فقال (عليه السلام): «أخبرني عن قول اللّه تعالى: «وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ اَلْقُرَى اَلَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً» ما يقول فيه علماؤكم؟ قال: يقولون إنها مكة فقال (عليه السلام) و هل رأيت سرق

ص: 250

في موضع أكثر منه بمكة؟ قال: فما هو؟ قال (عليه السلام) إنما عني الرجال.

قلت: فأين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال (عليه السلام): ألم تسمع قول اللّه تعالى: فكأين من قرية عتت عن أمر ربها و رسله».

أقول: و على هذا لا داعي إلى الحذف و الإضمار كما عليه الأدباء و تبعهم جمع من المفسرين، لأنه مع صحة المعنى الحقيقي لا تصل النوبة إلى المجاز و الحذف.

ثم إنّ المراد بالقرية هنا مطلق المدينة، و هما و البلد نظائر لغة و إن كان قد يفرق بين القرية و البلد عرفا، فيقال: القرية للمجمع الصغير من الناس، و القصبة لما هو أكبر منها، و البلد لما هو أكبر منهما.

و لم يعين القرآن هذه القرية إلاّ أن المعروف بين المفسرين أنها كانت بيت المقدس، و هو المروي عن ابن عباس. و عن بعض أنها أريحا، و هي من حدود بيت المقدس فيرجع إلى الأول، و يشهد له قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ [سورة المائدة، الآية: 21]. و هذه نعمة أخرى منّ بها اللّه عليهم حيث أباح لهم دخول القرية بعد زوال التيه عنهم، فيكون الأمر إرشاديا لا تكليفيا و سيأتي تتمة الكلام بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً . الرغد هو السعة و الكثرة، و إطلاقه يشمل السعة في كل شيء كالرغد في أنواع النّعم و الرغد في المكان و الزمان و غير ذلك في مقابل كل ضيق يفترض.

و حيث إنّ دأب القرآن أنّ آياته المباركة يبين بعضها بعضا فلفظ الرغد و إن ذكر في هذه الآية الشريفة و لم يذكر في سورة الأعراف آية 161 و لكن إذا لا حظنا الآيتين معا يكون كأنه ذكر فيهما معا.

قوله تعالى: وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً . لما أمرهم سبحانه و تعالى بالدخول إلى القرية المقدسة بيّن لهم كيفية الدخول و آدابه، و لأجل هذا قدم قوله تعالى: وَ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً على قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ

ص: 251

بخلاف ما ورد في سورة الأعراف.

و السجود هنا بمعنى الخضوع و الخشوع المناسب لمن يدخل الأرض المقدسة، و هو تأديب إلهي في كيفية دخول بيت المقدس، و يصح تعديه الى كل بيت من بيوت اللّه تعالى، و قد وردت في السنة المقدسة أمور كثيرة في آداب دخول المسجد الحرام و الكعبة المقدسة تعرّض لها فقهاء الفريقين في الكتب الفقهية.

و المعروف في الباب أنّها من أبواب بيت المقدس يسمى بباب حطة (باب التوبة) و يمكن أن يراد بالباب مطلق مدخل الشيء سواء كان من الأبواب المعهودة المادية أم المعنوية، أي: أبواب استكمالات النفس الإنسانية مطلقا - و إطلاق الباب على هذا المعنى شايع كثير

فقد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا مدينة العلم و علي بابها، و من أراد العلم فليأت الباب» فالأنبياء و الأوصياء و العلماء باللّه العاملون أبواب معرفة اللّه تعالى، و طرق الهداية إليه، و لا بد من الخضوع لهم لاستكمال النفوس الناقصة و هذا ما تقتضيه الفطرة فليس ما في هذه الآية المباركة أمرا خارجا عن حكم الفطرة

و عن أبي جعفر (عليه السلام): «نحن باب حطتكم» و هذا مطابق لما تقدم فباب الحطة و العلم الإلهي واحد.

و لم يعلم أن هذا الأمر في الآية المباركة كان في شرع موسى (عليه السلام) على نحو الندب كما في شرعنا أو على نحو الوجوب، و ظاهر الأمر يقتضي الأخير لو لا سياق الأدبية، و ترتب العقاب على خصوص الذين بدّلوا القول.

قوله تعالى: وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ . يعني: قولوا - عند دخولكم الباب خاشعين متواضعين للّه تعالى - اللهم حط عنا ذنوبنا بتشرفنا ببيتك، و سلكنا مسلك أهل عبادتك فإذا فعلتم ذلك بدخول الباب و التوبة نغفر لكم خطاياكم الكثيرة و قد وعدهم بمزيد الإحسان و هذا من سنته عزّ و جل، قال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ [سورة يونس، الآية: 26] فلا تختص الآية الكريمة بموردها، بل

ص: 252

تشمل كل من ترك ما لا يرتضيه تعالى و دخل في ما يرضاه عزّ و جل.

قوله تعالى: فَبَدَّلَ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ اَلَّذِي قِيلَ لَهُمْ التبديل: التغيير سواء كان في أصل المادة أم في الهيئة أم في بعض جهاتهما. و سواء كان في الإعتقاد أم في مجرد اللفظ أم فيهما معا، و تبديل ما أنزله اللّه تعالى حرام بحكم الفطرة، و قد أجمع المسلمون على عدم صحته في ما يتعلق بالشريعة الإسلامية، و منه تبديل ألفاظ القرآن الكريم و لو حرفا واحدا، فإنه لا يجوز بلا ريب و لا إشكال.

و المعنى: أنهم غيروا ما أمروا به فخالفوه و لم يتبعوه و كان لهذا التبديل مصاديق مختلفة عند اليهود فإنهم خالفوا الأمر بالاستغفار و التوبة و السجود في بيت المقدس و بدلوه إلى شيء آخر.

و للمفسرين في تعيين المبدل إليه في السجود و الحطة أقوال: فذكر بعضهم أنهم قالوا بدل «حطة» حنطة في شعرة، و قال آخر انه بهاطا، أو بحاطا، أو هطا سمهاثا إلى غير ذلك. و بدلوا الأمر بالسجود أنهم زحفوا على أستاههم، و كيف كان فقد وقع التبديل و المخالفة في ما أمروا به فشملهم العذاب، و هذا جزاء كل مستهزئ بآيات اللّه و أحكامه.

قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ . يستعمل الرجز بمعنى الاضطراب الموجب للعذاب،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الطاعون رجز عذّب به بعض الأمم»، و عن بعض اللغويين الرجز و الرجس متقاربان كالبزاق و البصاق. و الرجز (بالضم) عبادة الأوثان و هو يناسب المعنى الأول. و لم يذكر سبحانه و تعالى نوع العذاب، و إنما ذكر بعض المفسرين أنه الطاعون فمات منهم أربعة و عشرون ألفا من كبارهم و شيوخهم و بقي الأبناء فانتقل عنهم العلم و العمل فمات الكبراء و الشيوخ بالطاعون و مات الباقون بالجهل المركب الذي هو أشد من الطاعون، و إنما كرر الظالمين في الآية المباركة إما لأجل تخصيص الرجز بالظالمين، أو تعظيما للأمر و إظهار قبح ظلمهم.

قوله تعالى: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ . ابتلى اليهود بأنواع من العذاب

ص: 253

جزاء بما كانوا يفسقون بمخالفة الأوامر الإلهية، و سيأتي في سورة الأعراف تمام قصتهم إن شاء اللّه تعالى.

بحث دلالي:

يمكن أن يكون تظليل الغمام إشارة إلى مقام تجلّي صفاته المقدسة جلت عظمته لخلّص عباده، و إنزال المن و السلوى إشارة إلى المقامات الحاصلة لهم من التخلي عن الرذائل و التحلي بالفضائل. و كلوا من طيبات ما رزقناكم إشارة إلى

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «للّه في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها»، و في قوله تعالى: وَ سَنَزِيدُ اَلْمُحْسِنِينَ إشارة إلى

قوله تعالى: «من دنا إليّ شبرا دنوت إليه ذراعا و من دنا إليّ ذراعا دنوت منه باعا، و من دنا إليّ باعا دنوت إليه هرولة»، و قوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْبابَ إشارة إلى باب الرضا بالقضاء الذي هو باب اللّه الأعظم، و قوله تعالى: سُجَّداً إشارة إلى ظهور التجليات من عالم الغيب. و القرآن ذو وجوه و المطلوب هو عدم الجزم بما ظهر من الاحتمال و إيكال العلم إلى العليم المتعال.

ثم إنّ ذكر حالات بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين آية من سورة البقرة، و ذكر قصصهم في القرآن الكريم، و بيان لجاجهم و عنادهم مع أنبيائهم، و تعذيبهم بأنواع العذاب لما في ذلك من التسلية للنبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بما كان يلقاه من مشركي العرب، و إيماء إلى أن من أصرّ على جهله و عناده في إنكار الحق بعد ظهوره يرى ما رآه بنو إسرائيل من العذاب، لوجود التشابه بينهما، فلا بد من العبرة بما جرى عليهم، و نبذ مساوي الأخلاق و الاهتمام بإصلاح النفوس فإن اللّه تعالى لم يحك لنا قصص الماضين إلاّ للاعتبار بها.

بحث روائي:

في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً : «هم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام)

ص: 254

ليسمعوا كلام اللّه تعالى فلما سمعوا الكلام قالوا: لن نؤمن لك يا موسى حتّى نرى اللّه جهرة. فبعث اللّه عليهم صاعقة فاحترقوا ثم أحياهم اللّه بعد ذلك و بعثهم أنبياء، فهذا دليل على الرجعة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فإنه قال: لم يكن في بني إسرائيل شيء إلاّ و في أمتي مثله».

أقول: يظهر من الحديث - على فرض صحته - أنّ هؤلاء السبعين كانوا من خواص أصحاب موسى «عليه السلام» لاختياره لهم، كما يأتي في الرواية اللاحقة و كانوا عالمين بشريعته، و إصرارهم على الرؤية إنما كان لأجل أن يصلوا الى هذا المقام الرفيع أي الرؤية و ترفع درجتهم عند الناس في ترويجهم لشريعة موسى (عليه السلام)، و نزول الصاعقة عليهم و احتراقهم نحو تأديب إلهي لهم لإصرارهم في سؤالهم، فليست الصاعقة مثل صاعقة عاد و ثمود، بل انها تأديبية و إحيائهم و بعثهم أنبياء، لأجل أنهم كانوا عارفين بخصوصيات شريعة موسى (عليه السلام) و الظاهر أنهم كانوا جميعا أنبياء في عصر واحد كجمع من علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) في عصر واحد لأنهم كانوا يبلّغون أحكام التوراة.

و اما ذيل الحديث فيدل عليه روايات كثيرة من الفريقين على أن كل ما وقع في بني إسرائيل يقع في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يشهد لذلك قوله تعالى: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ اَلْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ اَلسَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ قَبِيلاً [سورة الإسراء، الآية: 92] و هذا شأن جميع ذوي العقول التي انحصرت إدراكاتهم على الحس و المحسوسات، و تأتي الإشارة إلى الآيات الدالة على الرجعة و الأخبار الدالة عليها.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «إنهم السبعون الذين اختارهم موسى (عليه السلام) و صاروا معه إلى الجبل، فقالوا له: إنك قد رأيت اللّه فأرناه كما رأيته. فقال لهم: إني لم أره. فقالوا له: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً ».

أقول: تقدم في الرواية السابقة ما يتعلق بهذه الرواية.

ص: 255

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ اَلْغَمامَ - الآية - لما عبر بهم موسى البحر نزلوا في مفازة، فقالوا: يا موسى أهلكتنا و أخرجتنا من العمران إلى مفازة لا ظل فيها، و لا شجر، و لا ماء فكانت تجيء بالنهار غمامة تظلهم من الشمس، و ينزل عليهم بالليل المنّ فيأكلونه، و بالعشي يجيء طائر مشوي فيقع على موائدهم فإذا أكلوا و شبعوا طار عنهم».

أقول: على فرض صحة الحديث يكون هذا من سنخ أطعمة الجنة التي تكون لها حياة خاصة.

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله عزّ و جل وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ . قال (عليه السلام): «إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم و لكنه خلطنا بنفسه فجعل ظلمنا ظلمه، و ولايتنا ولايته، حيث يقول: إنما وليكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا يعني الأئمة». و قريب منه ما عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام).

أقول:

أما قوله (عليه السلام) إنّ اللّه أعظم و أعز و أجل و أمنع من أن يظلم، فإن الظلم بمعنى المظلومية من صفات الممكن و هو تعالى منزه عن ذلك.

و أما الظلم بمعنى الفاعل فهو مضافا إلى أنه من صفات الممكن أيضا متقوم بالاحتياج و هو تعالى منزه عنهما.

و أما قوله خلطنا بنفسه يعني: جعلنا من مظاهره تعالى على العباد، لأن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه أدلاء عليه و كل دليل مظهر لمدلوله فيكون الخلط بهذا المعنى.

و أما قوله (عليه السلام) فجعل ظلمنا ظلمه و ولايتنا ولايته، إذ لا معنى لولاية اللّه تعالى من كل جهة و إطاعته إلاّ أن يكون الظلم عليهم ظلما على اللّه تعالى.

و عن ابن بابويه عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): الكمأة من المنّ الذي نزل على بني

ص: 256

إسرائيل - الحديث -»، و مثله ما رواه البرقي عن الصادق (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: هذا من باب التطبيق، و يظهر أن للمنّ مصاديق منها ما ورد في الحديث. و الكمأة شحم الأرض.

و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ . قال (عليه السلام): «قال أبو جعفر (عليه السلام): نحن باب حطتكم».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك، و قريب منه ما ورد عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في حق علي.

وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَه

اشارة

وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61) ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة بعض القضايا المهمة الواقعة في بني إسرائيل في عهد موسى (عليه السلام) تذكيرا بنعمه عليهم فقابلوا ذلك بالكفران و العناد للحق فعوقبوا بالذلة و المسكنة و غضب من اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذِ اِسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ . الاستسقاء طلب الماء و ذلك أن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وقعوا في صحراء قفر فأصابهم ظمأ

ص: 257

شديد فاستعانوا بموسى (عليه السلام) فطلب من اللّه تعالى أن يسقيهم، كما سبق أنهم طلبوا من موسى (عليه السلام) أن يظلّهم من حر الشمس فظلل عليهم الغمام، و طلبوا الطعام فأنزل اللّه تعالى عليهم المن و السلوى، و جميع هذه الآيات وقعت في التيه، و سيأتي تفصيل قصتهم في سورة الأعراف إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَقُلْنَا اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ . أي أمرنا موسى (عليه السلام) أن يضرب الحجر بعصاه.

و قد ذكر بعض المفسرين أنّ هذا الحجر لم يكن حجرا معينا، بل أي حجر ضربه (عليه السلام) انفجر منه الماء، و لكنه مخالف لظاهر الآية المباركة بل كان حجرا معينا من أحجار الجنّة على ما

روي عن أبي جعفر (عليه السلام)، فإنه قال: «ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود». و هو موجود لدى خاتم الأوصياء (عليه السلام) و سيكون لهذا الحجر شأن من الشأن عند ظهوره (عليه السلام)، و يشهد له ما في التوراة فإنه عبر عنه في سفر الخروج ب (الصخرة)، و ستأتي تتمة الكلام في البحث الروائي.

و عصا موسى (عليه السلام) معروفة في الكتب السماوية و قد كانت مظهرا لمعجزات كثيرة و أصلها من آس الجنّة كان آدم (عليه السلام) حملها معه من الجنّة إلى الأرض، كان طولها عشرة أذرع على طول موسى (عليه السلام) و لها شعبتان تتوقدان نورا في الظلمة و كانت تتوارث مع الأنبياء و أوصيائهم حتّى دفعها شعيب إلى موسى بن عمران (عليه السلام) و هي موجودة الآن، و ستظهر حتّى تلقف أساس الظلم و العدوان على يد خليفة من خلفاء الرحمن إن شاء اللّه تعالى و في جميع ذلك روايات معتبرة يأتي التعرض لها.

قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً . الإنفجار: الإنشقاق و كل انفجار مسبوق بالانبجاس و لا عكس. و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية أخرى الانبجاس، فقال جل شأنه: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة الأعراف، الآية: 160] و يمكن الجمع بينه و بين المقام باختلاف المراتب شدة و ضعفا، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. و كانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره، كما في الآية المباركة.

ص: 258

قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً . الإنفجار: الإنشقاق و كل انفجار مسبوق بالانبجاس و لا عكس. و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية أخرى الانبجاس، فقال جل شأنه: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اِسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اِضْرِبْ بِعَصاكَ اَلْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة الأعراف، الآية: 160] و يمكن الجمع بينه و بين المقام باختلاف المراتب شدة و ضعفا، لأجل القرائن المحفوفة بالموضوع. و كانت عدد العيون المنفجرة بعدد الأسباط لكل سبط مشرب معين لا يتعداه إلى غيره، كما في الآية المباركة.

قوله تعالى: قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ . العلم إما بإلهام منه عزّ و جل ذلك لهم، أو بجعل من موسى (عليه السلام) أو بالتباني على ذلك ليختار كل أناس مشربهم فلا يقعوا في التنافس و التزاحم.

قوله تعالى: كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ . المراد من الرزق هنا هو الحاصل من عالم الغيب كما مر أي: كلوا مما رزقكم اللّه من المن و السلوى و اشربوا مما فجرناه من الصخرة. و قد تقدم في أول السورة معنى الرزق.

قوله تعالى: وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ . العيث: شدة الفساد، أي: لا تبالغوا في الفساد في الأرض. و في الآية المباركة إيماء الى أن كل فساد في الأرض عظيم و شديد، أو أن الفساد يجب أن يتحرز حتّى عن موهومه فضلا عن مظنونه و معلومه.

و ورود النهي عقيب الإنعام فيه إيماء أيضا إلى أن النعمة يجب أن لا تكون سببا لفسادهم؛ فلا يقابلوها بالغي و الكفران. و يعرف من ذلك أن فساد بني إسرائيل و تبديلهم نعم اللّه تعالى بالكفران لا ينفك عنهم و قد طبعوا على ذلك، كما شاهد ذلك نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في مشركي قريش و يهود عصر التنزيل.

ثم إنّ حكم الآية عام لا يختص بخصوص المورد كما في كثير من الآيات، و لعله لذلك التفت من سياق الكلام السابق إلى سياق آخر.

و الأمر بالأكل و الشرب للإباحة لجميع ما لم ينه الشارع عن أكله و شربه، و لعامة أفراد الناس.

و ظهور الماء من الحجارة بعصا موسى (عليه السلام) مذكور في التوراة

ص: 259

و القرآن الكريم، كما أن ظهور الماء من أنامل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في كتب الفريقين، و من الواضح أن الثاني أشد معجزة من الأول.

قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ أي: و اذكر ما قاله بنو إسرائيل لموسى: إننا لن نصبر على المنّ و السلوى حيث لم يجدوا بديلا عنهما. و هذا يدل على قصور هممهم و انها مقتصرة على الماديات و عدم قابليتهم لنعم عالم الغيب فقد استولى على طباعهم السخرية و العناد فكان هذا السؤال منبعثا عن طبيعتهم.

و الطعام: كل ما يتغذى به و غلّب استعماله في الحنطة لأجل الغلبة الاستعمالية و إلاّ فقد يستعمل في الماء أيضا، قال تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: 249]، و عن نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) في وصف ماء زمزم: «طعام طعم و شفاء سقم».

و الطعام اسم يطلق على ما يؤكل و يشرب و قد وردت مادة (ط ع م) في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى: هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ [سورة الأنعام، الآية: 14] و قال تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [سورة المائدة، الآية: 93]، و قال جلّ شأنه في وصف النار: وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً [سورة المزمل، الآية: 13]. و الطعم (بالفتح) هو ما يؤديه الذوق، قال تعالى في وصف الجنّة:

وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ [سورة محمد، الآية: 15]، فهذه المادة قرينة الإنسان في جميع نشآته إلى الخلود؛ و ربما يستعمل في المعنويات أيضا، قال تعالى: فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [سورة عبس، الآية: 24] و فسر في الأخبار إلى علمه الذي يتعلّمه الإنسان. فالطعم (بالضم) الأكل، و (بالفتح) عرض قائم بالقوة الذائقة.

و المراد بالواحد الوحدة النوعية، فإن الطعام كان مركبا من المنّ و السلوى و أنه يتكرر كل يوم فذلك ينافي الوحدة الشخصية.

و في عدم صبرهم على طعام واحد يحتمل وجهان: الأول: ملالة الذوق

ص: 260

لأن لكل جديد لذة. الثاني: المراد الوحدة في الآكلين مع أن فيهم الأغنياء و الفقراء و من هو أدون، و هذا لا يناسب مقامهم الدنيوي، و كل ذلك يرجع إلى قصور عقولهم، كما ذكرناه.

قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمّا تُنْبِتُ اَلْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها .

الدعاء هنا بمعنى السؤال من اللّه تعالى و الطلب منه و إفراد الخطاب في قوله تعالى: فَادْعُ لَنا رَبَّكَ لما علموا من أنس موسى (عليه السلام) بربه، و رأفته تعالى بموسى (عليه السلام) فكانوا يعلمون الاستجابة منه، و تحريضا لموسى (عليه السلام) للتأكيد في السؤال.

و البقل: كل نبات لا ينبت أصله و فرعه في الشتاء و المراد به ما يطعمه الإنسان من طيب الخضروات.

قوله تعالى: وَ قِثّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها .

القثاء نبات معروف و هو الخيار، كما أن العدس و البصل معروفان.

و الفوم هو الحنطة، روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام)، و هو قول أكثر المفسرين. و قال جمع إنه الثوم أبدلت الثاء فاء، و هو المشاكل للبصل.

قوله تعالى: قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ اَلَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ .

الاستبدال طلب شيء بدلا من آخر، أي: أ تستبدلون الذي هو خسيس بالمن و السلوى الذي هو خير منه؟! و استبدالهم الدنيء بالخير واضح، لأن المن و السلوى ينزلان عليهم من عالم الغيب من غير تعب و عناء، و جميع ما سألوه إنما كان يخرج من الأرض بالتعب و المشقة و بذل الجهد حتّى يتغذوا به، و انهما كانا أطيب و ألذ مما سألوه.

قوله تعالى: اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ .

قد تقدم معنى المصر و هو في الأصل بمعنى الانقطاع و الفصل لأن المحل صار منقطعا و منفصلا عن غيره بالعمارة و السكنى.

و المراد بها مصر من الأمصار، و قيل: إنها مصر المعروفة، و يجوز تنوينها لصرفها، و لا دليل على كلا القولين.

ص: 261

و كيف كان فالأمر للتعجيز، لأنه لا يمكنهم الدخول في مصر من الأمصار، لأن اللّه تبارك و تعالى كتب عليهم التيه و لا يمكنهم القتال لضعف عزائمهم و جبن نفوسهم، و أن الأرض التي هم فيها جدباء لا ينبت فيها البقل و الزرع.

قوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ . الضرب يأتي لمعان كثيرة تتميز بالقرائن، و المراد به في المقام هو اللزوم و الإلزام من قولهم: «ضرب المولى الخراج على عبيده» أي ألزمهم، و ذلك أحسن الاستعمالات. و الذلة: الصغار و الهوان، و المسكنة: الخضوع الشديد و فقر النفس، لأن الفقر أسكن الشخص و قلل حركته. و هما أعم مما إذا كانتا في النفس، أو في المال، أو في سائر الجهات.

و اللّه جل شأنه عاقبهم بالذلة و المسكنة، لأنهم كفروا بأنعم اللّه فقد أذلهم اللّه تعالى باستيلاء سائر الأمم عليهم.

و المتيقن من الضمير في (عليهم) اليهود في عصر موسى (عليه السلام) الذين آذوه، و من آذوا منهم نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن إرجاعه إلى جميع الأعصار، كما دلت عليه التواريخ و يأتي في الآيات المناسبة بيان ذلك.

قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ . البوء بمعنى الرجوع، و باءوا أي رجعوا و انقلبوا، و يستعمل في القرآن غالبا في الشر، قال تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ [سورة البقرة، الآية: 90]، و قال تعالى: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 162].

و الغضب إن أضيف اليه سبحانه و تعالى فهو عقابه بالنسبة إلى من عضب عليه، و إن أضيف الى الخلق فهو حالة توجب الإضرار و هي من الحالات المذمومة،

ص: 262

و قد بين تعالى السبب في إذلالهم و مسكنتهم و غضبه عليهم بقوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ فرجعوا بكفرهم و عصيانهم إلى غضبه تعالى رجوعا دائميا، فإن كل غضب لا بد له من سبب بخلاف الرحمة،

فقد تواتر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أن رحمته سبقت غضبه» و ليس المراد بالسبق الزماني منه، بل السبق الإيجادي التكويني، فإن ما سواه منه عزّ و جل و من رحمته، فكل من يعصي اللّه سبحانه و تعالى فقد رجع من رحمته إلى غضبه و عقابه بعمده و اختياره بعد فتح جميع أبواب الرحمة على الفاعل المختار، فيستحق الخزي و العار في حكم العقل، و حكم الشرع.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

أي: أنّ ما حل بهم من الذل و المسكنة، و استحقاق غضب اللّه تعالى كان بسبب كفرهم و تكذيبهم لآياته جلّ شأنه. و المراد بآيات اللّه تعالى المعجزات الباهرات التي شاهدوها من موسى (عليه السلام) و الكفر بها رجوع بغضب على غضب، لأن كفران كل آية من آياته يوجب غضبا منه عزّ و جل؛ و يجوز أن يكون المراد الكفر بالمعجزات و قتل النبيين أو إنكار الإنجيل و القرآن.

و الأولى إرادة العموم ليشمل جميع ما ذكر مع ترك الواجبات و فعل المحرمات، و تشهد لذلك الروايات الدالة على أن الإصرار على المعاصي الصغيرة من الكبائر، و لا اختصاص لذلك ببني إسرائيل فقط، بل يشمل أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم التخصيص بالمورد كما هو المتعارف.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ . الأنبياء جمع النبي، كالأقوياء جمع القوي. و النبأ هو الخبر، و لكنّه أخص من مطلق الخبر، لاختصاصه بالإخبار عن الغيب بواسطة إنسان رفيع الشأن و عظيم المنزلة.

و المشهور بين اللغويين و تبعهم المفسرون أنّ مبدأ اشتقاق النبي مهموز.

و عن بعض اشتقاقه من النبوة من غير همز، و هي الارتفاع لأن مقام النبي رفيع جدا، و لا ينافي ذلك لزومه الإخبار عن اللّه تعالى فبعض عبّروا بنفس اللازم و هو الاخبار، و البعض الآخر عبروا بالملزوم و هو رفعة المقام، و يمكن تأييده

ص: 263

بثقل الهمزة في كلام العرب حتّى

نسب إليهم (عليهم السلام): «لو لا أن جبرائيل نزل القرآن بالهمزة ما همّزنا أهل البيت»، و منه يظهر حكم تخفيف الهمزة في القرآن كله، و عليه كلما دار بين قراءة شيء بالهمزة أو بغيرها تكون القراءة بغيرها أولى.

و روي أنّ رجلا جاء إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «يا نبيء اللّه - بالهمزة - فقال: لست بنبيء اللّه - و همز - و لكني نبيّ اللّه - بغير همز -». و يأتي النبي بمعنى الطريق، و سمي الرسول به، لاهتداء الخلق به كالطريق.

و على أية حال النبي هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى بلا واسطة بشر، سواء كانت له شريعة كموسى و عيسى و محمد (صلّى اللّه عليهم)، أم لم تكن له شريعة كيحيى مثلا. و الرسول هو الإنسان المخبر عن اللّه تعالى و كانت له شريعة، سواء كانت مبتدأة كآدم (عليه السلام) أم ناسخة كشريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة.

و إنّما وصف اللّه سبحانه قتل النبيين بغير الحق، و هو كذلك إذ لا يعقل أن يكون قتل الأنبياء بالحق، فالقيد ليس باحترازي فهو إما لأجل تعظيم الذنب الذي اقترفوه، و زيادة الشنعة عليهم. أو من باب تقرير زعمهم و اعتقادهم، يعني مع أنكم تعتقدون ان هذا القتل كان بغير حق فكيف تقدمون عليه مع هذا الاعتقاد، و قد قتلوا من أنبياء اللّه تعالى أشعيا و زكريا و يحيى و غيرهم.

قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ . العصيان معروف و هو خلاف الطاعة. و الاعتداء تجاوز كل شيء، و يحتمل أن يكون لفظ الإشارة الثانية في الآية المباركة تأكيدا للأولى فيها، أي ذلك الذل و المسكنة و الغضب كان بسبب عصيانهم لأوامر اللّه تعالى و خروجهم عن حدود ما أنزله اللّه تعالى.

و يحتمل أن ترجع الإشارة إلى الأخير، أي أن قتلهم الأنبياء كان بسبب عصيانهم و اعتدائهم.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ أن الاعتداء صار عادة لهم و طبعا و خلقا لديهم، و هذا أمر لا يختص باليهود بل كل من استولى عليه العصيان و المخالفة و الاعتداء على حدود اللّه تعالى يستحق غضب اللّه تعالى

ص: 264

و اذلاله فيكون ذيل الآية الشريفة حكما عقليا لا يختص بأمة دون أخرى.

بحوث المقام
بحث روائي:

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ قال (عليه السلام): «و اللّه ما قتلوهم بأيديهم، و لا ضربوهم بأسيافهم، و لكن سمعوا أحاديثهم فأذاعوها فأخذوا عليها و صار قتلا و اعتداء و معصية».

أقول: المراد من القتل أعم من المباشر و التسبيب، و في ذلك روايات كثيرة، بل يستفاد ذلك من نفس الآية المباركة، و ربما يكون السبب أقوى.

و عن القمي: «كان مع موسى حجر يضعه في وسط العسكر ثم يضربه بعصاه فينفجر منه اثنتا عشرة عينا - كما حكى اللّه تعالى - فيذهب كل سبط في رحله و كانوا اثني عشر سبطا».

أقول: تعبير القرآن المبين و هذا الخبر بالحجر أولى من تعبير التوراة بالصخرة لأن الحجر يمكن حمله معهم - كما في هذه الرواية - دون الصخرة فإنها تطلق على الحجارة الكبيرة التي لا تحمل إلاّ مع المشقة.

و في تفسير العسكري عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «احذروا الانهماك في المعاصي، و التهاون بها، فإن المعاصي يستولي بها الخذلان على صاحبها حتّى توقعه في ما هو أعظم منها، فلا يزال يعصي و يتهاون و يخذل و يوقع في ما هو أعظم مما جنى».

أقول: ما ورد في هذه الرواية وجداني لكل من أرخى عنان النفس في المعاصي، و سلك في أي مسلك شاء و أراد، و تدل عليه الروايات الكثيرة، و استفاد (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك من قوله تعالى: وَ كانُوا يَعْتَدُونَ .

ص: 265

بحث فقهي و كلامي:

قد استدل بالآية الشريفة كُلُوا وَ اِشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اَللّهِ على إباحة الأشياء و حليتها و جعلوها أصلا عبروا عنه بأصالة الإباحة العقلية و النقلية و قد حررنا البحث عنه في كتابنا [تهذيب الأصول] فلا وجه للتعرض هنا بعد ذلك.

كما استدل بها على أنّ الرزق يطلق على الحلال فقط لأن الأمر يدل على الإباحة في المقام، و حيث لا يتصور الإباحة في الحرام فلا يصدق عليه الرزق.

و لكن يرد عليه أنّ من شرط ظهور اللفظ في شيء إحراز كون المتكلم في مقام بيان ذلك الشيء و إقامة الحجة عليه، و هو غير محرز في المقام، و يكفي في عدم صحة التمسك بالإطلاق الشك في ذلك على ما هو المتعارف في المحاورات، و قد حررنا ذلك في أصول الفقه، و يأتي في الآيات المناسبة ما يتعلق بالرزق إن شاء اللّه تعالى.

بحث فلسفي:

ذكر اللّه سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة جملة من المعجزات التي صدرت من موسى (عليه السلام) و هي كلها من صنع اللّه تعالى و إذا نسبت اليه تعالى لا يتصور فيها التحديد و التقييد بوجه من الوجوه لعموم قدرته، فالحد بالنسبة إلى الكمال الأتم المطلق من كل جهة - من ذاته و بذاته و لذاته - لا يتصور له معنى معقول، و لكن إذا لوحظ ذلك كله بالنسبة إلى المورد و المتعلق لا بد أن يحد بحد الإمكان الذاتي إذ المستحيل بالذات يقصر عن أن يقع مورد المعجزات و خوارق العادات، لقصور في المتعلق لا أن يكون القصور في القدرة،

و قد سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام): «هل يقدر اللّه على أن يجعل الدنيا في بيضة بحيث لا تصغر الدنيا و لا تكبر البيضة؟ فقال (عليه السلام) إن اللّه قادر، و لكن هذا لا يكون»، فاتفق العقل و النقل على خروج الممتنعات عن مورد المعجزات و خوارق العادات، و إنما يكون موردها الممكنات الذاتية، و إن كانت ممتنعة عادة بالأسباب العادية لكنها ممكنة

ص: 266

بالقدرة القاهرة الربوبية. و منه يعلم الوجه في المعجزات الصادرة عن الأنبياء لا سيما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

و هذا مراد جمع من الفلاسفة و المتكلمين و تبعهم بعض المفسرين القدماء من أن المعجزة تجري بأسبابها الطبيعية، أي أنها تجري في الممكنات الذاتية، لا الممتنعات بأسبابها الطبيعية الظاهرة لمن جرت على يده المعجزات الخفية على غيره بل غير القابلة للظهور له.

و مع ذلك إنّه تبارك و تعالى سلك في جريان الإعجاز مسلك الأسباب الظاهرية، حفظا للنظام الأحسن الجاري في الأسباب و المسببات، فإنه تعالى أبى أن تجري الأمور إلاّ بأسبابها، و لذا كان جريان الماء بضرب الحجر بالعصا، و حمل مريم ابنة عمران بتمثل الروح الأمين لها و تسبيح الحصى في يدي نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، مع أنه تبارك و تعالى قادر على إيجاد هذه الأمور بغير تلك الأسباب أيضا.

و مما ذكرنا يظهر أنّ جميع القوانين العلمية، و المخترعات الحديثة و ما يلحقها بعد ذلك لا ربط لها بالمعجزة و خارق العادة أصلا، لأنها تجري وفق قوانين علمية، أو عملية ثابتة مطردة حاصلة من التجربة بخلاف المعجزة فإنها سنة جديدة لم يألفها الإنسان، و لا يعرف لها قاعدة مطردة، و إنما تكون بإذن اللّه تبارك و تعالى.

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُ

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) بعد أن ذكر تعالى بعض أحوال اليهود و تعداد النّعم عليهم و كفرهم و عنادهم عن الحق شرع في بيان أحوال المؤمنين من اليهود و النصارى و الصابئين الذين عملوا الصالحات، و ما وعدهم بجزيل الأجر.

اشارة

ص: 267

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا . المراد بالذين آمنوا من اتخذ الدين القيم كما قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161] و ليس المراد به خصوص المسلمين الذين صدقوا محمدا (صلّى اللّه عليه و آله)، و يدل على التعميم ذيل الآية الشريفة فيكون ذكر الأصناف الثلاثة تخصيصا بعد التعميم، و تفصيلا بعد الإجمال.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هادُوا . أي الذين صاروا يهودا نسبوا إلى يهوذا أكبر ولد يعقوب، و أبدلت الذال دالا تخفيفا في الاستعمال، و هو اسم جمع واحده يهودي، كالروم و الرومي. و قد استعملت مادة (ه و د) بهيئاتها في القرآن الكريم، فقال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اَللّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الحج، الآية: 17]، و قال تعالى: كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى [سورة البقرة، الآية: 135]، و قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة، الآية: 64] و هذه المادة تأتي بمعنى الرجوع و التوبة، قال تعالى: إِنّا هُدْنا إِلَيْكَ [سورة الأعراف، الآية: 156] أي: تبنا. سميت اليهود بذلك لتوبتهم عن عبادة العجل، أو الرجوع عن شريعة موسى (عليه السلام) أو الرجوع عن الإسلام، و الكل صحيح في الجملة بالنسبة إليهم حسب الاختلاف الواقع بينهم،

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) انه قال: «اختلفت بنو إسرائيل بعد موسى بخمسمائة سنة و اختلفوا بعد عيسى بمأتي سنة». و تأتي بمعنى السكون و الموادعة و التأني في الحركة.

و يستفاد من قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ [سورة المائدة، الآية: 44] أن الإيمان بتوراة موسى (عليه السلام) و التسليم بشريعته أخص من مطلق التهود في تلك الأعصار القديمة فضلا عن هذه الأعصار، و يشهد لذلك ما نقل في التاريخ أن بني إسرائيل ارتد أكثر أسباطهم إلى الشرك و عبادة الأوثان من بعد سليمان، ثم بادوا بالقتل و الأسر فلم يبق منهم اسم و لا رسم. و الذين بقوا على صورة التوحيد و الشريعة على

ص: 268

تقلب في ذلك أيضا هم الموسوية و هم أسباط يهوذا أو من تبعهم كسبط بنيامين، فصار عنوان اليهود علما لمن ينتمي إلى الملة الموسوية.

قوله تعالى: وَ اَلنَّصارى . جمع نصراني أو نصران كسكارى و سكران. و اشتقاقه إما نسبته إلى قرية «الناصرة» كان ينزلها عيسى (عليه السلام). أو من تناصرهم. أو من قول الحواريين نحن أنصار اللّه كما حكى عنهم تبارك و تعالى: قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ [سورة الصّف، الآية: 14].

قوله تعالى: وَ اَلصّابِئِينَ . ورد لفظ الصابئين في القرآن الكريم في موارد ثلاثة هنا، و في سورة المائدة قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ وَ اَلنَّصارى [الآية: 69]، و في سورة الحج قال تعالى: وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى [الآية: 17] و يمكن أن يكون تقديمهم بلحاظ تقدم زمانهم على النصارى، و التأخير عنهم بلحاظ أخذ جملة من أحكامهم من النصارى.

و مادة (ص ب ا) تأتي بمعنى الميل، فالصابي من خرج و مال من دين إلى دين آخر، و لذا كان المشركون يقولون لمن أسلم: قد صبا. و الصابئون هم الذين خرجوا من أهل الكتاب.

و قد اختلف المفسرون و الفقهاء في الصابئين هل أنهم من أهل الكتاب أم لا؟ و على الثاني هل هم من المشركين أم لا؟ و يمكن أن يستظهر من ذكرهم في القرآن في سياق أهل الكتاب أنهم منهم موضوعا أو حكما، و يستفاد من إجماع الفقهاء على صحة أخذ الجزية من الصابئة - فإن تم هذا الإجماع - يدل على أنهم من أهل الكتاب لعدم جواز أخذ الجزية من غير أهل الكتاب.

و قيل: إنّ كل يهودي ترك دينه و أراد أن يتنصر، أو كل نصراني ترك دينه و أراد أن يتهود سمي صابئيا. و هذا القول مردود فإن للصابئين دينهم و عقائدهم و عاداتهم المتميزة عن غيرهم. و الحق أن يقال: إن الدين إما سماوي، أو وضعي افتعالي محض، أو مركب منهما و الصابئة اسم نوعي للأخير، و سيأتي مزيد بيان في البحث الروائي و البحث التاريخي العقائدي.

ص: 269

قوله تعالى: مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً . بيان لمعنى الإيمان، و حقيقته هي الإيمان بالمبدأ و المعاد و يلزمهما الإيمان بالرسالات السماوية أيضا، و العمل الصالح على طبق الشريعة المقدسة فيكون العمل الصالح من لوازم الإيمان بالرسالة، فإن العمل الصالح لا يعرف إلاّ من قبل أنبياء اللّه و بأمر منه عزّ و جل كل في ظرفه ما لم ينسخ بغيره.

و هذه الآية و ما في سياقها ظاهرة في أمرين:

أحدهما: ما ذهب إليه أصحابنا و دلت عليه النصوص من أن العمل الصالح جزء الإيمان.

ثانيهما: أن المناط كله في الإيمان - الذي تترتب عليه الآثار الدنيوية و الاخروية - إنما هو الإيمان باللّه و اليوم الآخر و العمل الصالح، فإن من كان كذلك لم يتعد حدود اللّه، و لم يتوان في طلب الحق و مرضات اللّه و لا تأخذه لومة لائم أو نزعة باطل، فلا أثر لقولهم: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [سورة البقرة، الآية: 135] كما لا أثر لقول اليهود: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18] و لا لقول النصارى كذلك، و قد تقدم بعض الكلام في معنى الإيمان في أول سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ . أي إنّ جزاء إيمانهم، و ثواب عملهم الصالح معدّ عند ربهم، و هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة. و ذكر عِنْدَ رَبِّهِمْ لبيان أنه يستحيل أن يتغير و يتبدل للأدلة العقلية و النقلية الدالة على أن ما عنده تعالى غير قابل للتغيير و التبديل و كفى بذلك فخرا لأهل الإيمان أن يكون لهم ذخيرة باقية عند ربهم، فيكون لذاته تعالى معية قيومية مع عباده قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و بعناياته الخاصة توفيقات و تأييدات لهم، و في جزائه لأعمالهم خزائن يضاعف لمن يشاء.

قوله تعالى: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ . أي لا خوف عليهم من المتوقع، و لا حزن على الواقع، و نفي ذاتهما يقتضي نفي جميع ما يتصور

ص: 270

فيهما من الأفراد أبدا بجميع مراتبهما من الخارجية و العقلية و الخيالية، فإن الحضور المطلق المستفاد من قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يقتضي نفي الخوف و الحزن بالنسبة إليه، فالنفي نفي موضوعي و هي من القضايا التي قياساتها معها، فإن الوصول إلى مرتبة الكمال التام و المستغرق في فيوضات الكمال المطلق بالذات لا يتصور فيه نقص حتّى يتعلق به الخوف و الحزن، و لا ريب أن منشأهما وجود النقص في الجملة.

إن قيل: إنّ المراتب متفاوتة فالنقص حاصل و لو بالنسبة إليها. (يقال) هذا من قبيل لوازم الذات غير الملتفت إليها فلا يتعلق بها الحزن، لأن مورده الالتفات و القصد.

بحث روائي:

عن ابن بابويه في العيون عن الرضا (عليه السلام) في النصارى:

«أنّهم من قرية اسمها ناصرة من بلاد الشام نزلها مريم و عيسى بعد رجوعهما من مصر».

أقول: تقدم وجه اشتقاق ذلك أيضا.

و في المعاني عنه (عليه السلام): «إن اليهود سمي باليهود، لأنهم من ولد يهوذا بن يعقوب».

و في تفسير القمي: «الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمون، و هم قوم يعبدون الكواكب و النجوم».

أقول: يأتي بيان مذهبهم.

و في الدر المنثور عن سلمان الفارسي قال: «سألت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن أهل دين كنت معهم، فذكر من صلاتهم و عبادتهم فنزلت إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا - الآية -.

بحث تاريخي عقائدي

الصابئة - كما في جملة من التواريخ - قوم يدينون بالإله الواحد يتعصبون للروحانيات لتقربهم إلى اللّه يعبدون الكواكب، و بعضهم يعبدون

ص: 271

التماثيل، و يقال: إن بيوراسب أول من أظهر القول بمذهب الصابئة و تبعه على ذلك الذين أرسل إليهم النبي نوح (عليه السلام)، و يدّعي الصابئون أن من أنبيائهم عاذيمون، و هرمس. و قيل: إن عاذيمون هو شيث، و هرمس هو إدريس. و قيل: إن اسم الصابئة مشتق من الأصل العبري (ص ب ع) أي غطس ثم أسقطت العين و يشير بذلك الى فرقة المعمدانيين - كما ستعرف - و قيل: إنه كان لإدريس - و هو أخنوخ على ما في التوراة - ابن كان يسمى (صاب) و اليه تنسب الصابئة. و قد كان هذا الدين منتشرا في بلاد كثيرة و بعث اللّه فيهم الأنبياء و الرسل، و قد أخذ هذا الدين أمورا كثيرة من الأديان الإلهية و تأثر بالمعتقدات الوثنية.

و هم على فرقتين متميزتين:

الأولى: الفرقة المنديائية، و هي فرقة يهودية نصرانية أخذت من تعاليم اليهودية و المسيحية، فأخذت شعيرة التعميد من نصارى يوحنا المعمدان، و تأثرت بالمجوسية، و أخيرا أخذت بعض تعاليم الإسلام. و الظاهر أن الصابئة الذين ذكرهم اللّه تعالى في القرآن في مواضع ثلاثة هي هذه الفرقة.

الثانية: الفرقة الحرانية نسبة إلى صابئة حران، و هم فرقة وثنية انتحلت بعض أحكام أهل الكتاب ليمكنهم العيش في بلاد الإسلام و ينعموا بالسماحة التي أظهرها القرآن لأهل الكتاب، و قد تفرقت هاتان الفرقتان إلى فرق متعددة لا حاجة إلى ذكرها.

و تتميز الصابئة عن سائر المذاهب بشدة أحكامهم و قسوة تعاليمهم و لأجل ذلك أعرض الناس عن الدخول فيها، و انكمشت على نفسها فلم يبق منهم إلاّ القليل، و يتركب دين الصابئة من أمرين:

الأول: الإيمان بالإله الواحد صانع العالم و هو رب الأرباب و إله الآلهة، مدبر، حكيم، قادر، و مقدس عن جميع صفات مخلوقاته يعجز الخلق عن الوصول إلى جلاله، و إنما يتقرب إليه بالوسائط المقربين و هم الروحانيون المطهرون المنزهون عن المادة و الماديات، فهم مبرأون عن القوى الجسدانية و الحركات المكانية و التغييرات الزمانية، قد جبلوا على التقديس و التسبيح،

ص: 272

و يقولون: إنهم المتوسطون في الاختراع و قالوا: إنه لا يمكن أن يكون الإنسان مورد فيض الروحانيات و عنايتهم إلاّ بحصول المناسبة بينه و بينها، و لا تتحقق هذه المناسبة إلاّ بتطهير النفس عن الرذائل و تهذيبها عن العلائق الشهوية و الغضبية و التحلي بالكمالات. و بعبارة أخرى: تحلي النفس بالكمالات و تخليها عن الرذائل و الشهوات، و لا يحصل ذلك إلاّ بالعمل الشاق، و سيأتي بعض تلك الأعمال.

و بعض الصابئة يقولون بوحدة الوجود فقالوا: إن الخالق واحد كثير أما الواحد ففي الذات و أما الكثير فلأنه يحل في مخلوقاته و يتكثر بالأشخاص، و قالت الصابئة إنّ اللّه أجل من أن يخلق الشر و القبائح و الأقذار و المخلوقات الحقيرة المؤذية - كالعقارب و الخنافس و الحيات - بل هي كلها واقعة ضرورة اتصال الكواكب سعادة و نحوسة و اجتماعات العناصر صفوة و كدورة، فما كان من سعد و خير فهو الصفوة و تنسب إليه عزّ و جل، و ما كان من نحس و كدر و شر فلا ينسب إليه بل هي حاصلة إما اتفاقا أو ضرورة.

و الروحانيات كثيرة عند الصابئين فمنها مدبرات الكواكب السبعة السيارة في أفلاكها و هياكلها فإنها مدبرات هذا العالم، و حيث لم يتمكنوا من معاينة هذه المدبرات السبعة صنعوا لها هياكل و تقربوا إليها، و منها الجواهر العقلية الروحانية، و قد بنوا لكل من هذه الأسماء و الأفلاك السبعة هياكل و اشكالا تقربوا إليها، فمنها هيكل العلة الأولى، و دونها هيكل العقل، و هيكل الضرورة، و هيكل النفس كلها بأشكال خاصة مختلفة كما صنعوا كذلك هياكل الكواكب السبعة. و قالوا: إن نسبة الروحاني إلى الهيكل نسبة الروح إلى الجسد و فعل الروحانيات إنما هو تحريك تلك الهياكل لتحصل من تحريكها انفعالات في الطبايع و العناصر، و الروحانيات إما كلية فيكون تأثيرها كليا أو جزئية فالتأثير جزئي، و يقولون: إن لكل ظاهرة طبيعية ملكا يكون مدبرا لها.

ثم إنّ بعض الصابئين لما رأوا أن هياكل الأفلاك السبع دائمة التغير تطلع و تغرب، ترى ليلا و لا ترى نهارا، وضعوا لتلك الهياكل اشخاصا و تماثيل لتكون نصب أعينهم، و يتوسلون بها إلى الهياكل و هي إلى الروحانيين و هم

ص: 273

إلى صانع العالم، و هذه هي الفرقة الوثنية من الصابئة و قد بقيت إلى العصور المتأخرة كما تقدم. و من هنا جاء اختلاف المفسرين و العلماء فخلطوا هذه الفرقة بالفرقة الأولى التي تنفي الوثنية و الروايات الواردة في أنها يهودية أو نصرانية مجوسية مسلمة كما مر في البحث الروائي تشير إلى هذه الفرقة التي هي من أهل الكتاب دون الفرقة الوثنية.

الأمر الثاني: الأعمال. و قد تقدم أنّ الصابئة قالوا إنه لا يمكن التوسل بالروحانيات إلاّ بالتخلية و التحلية، و لا تحصلان إلاّ بالأعمال، و هي مختلفة عند فرقهم و شاقة، فالصابئة كلهم يصومون، و يصلون ثلاث صلوات: أولها عند طلوع الشمس ثمان ركعات، و الثانية عند زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات في كل ركعة ثلاث سجدات و يتنفلون بصلاة في الساعة الثانية من النهار، و أخرى: في التاسعة. و الثالثة في الساعة الثالثة من الليل، كما يصلون على طهر و وضوء خاص و هم يغتسلون من الجنابة، و مس الميت، و يحرمون أكل لحم الخنزير و الكلاب، و الطيور ذوات المخالب، و الحمام، و نهوا عن السكر و الشراب و عن الاختتان، و أمروا بالتزويج بولي و شهود، و نهوا عن تعدد الزوجات، و لا يبيحون الطلاق إلاّ بحكم الحاكم، و قد حرم بعضهم أكل البصل و الجريث و الباقلاء.

و قد أمروا جميعا بتقريب القرابين متعلقه بالكواكب و أجناسها و هياكلها، و اختلفوا في طبيعة الأضاحي حتّى وصل عند بعضهم التضحية بالبشر.

و الحاصل مما وصل إلينا من حالاتهم أن الصابئة فرق مختلفة فبعضهم أخذوا بشريعة موسى، و بعضهم أخذوا بشريعة عيسى، و بعضهم وثنيون و الكل يظهرون الإسلام و التغييرات و التبدلات كثيرة في دينهم مع صعوبات كثيرة تنافي سائر الأديان، و لذا قلّ الدخول في دينهم فصار عرضة للزوال و الانحلال. هذا ما ضبطته التواريخ بعد رد بعضها إلى بعض. و أما الصابئون حين نزول القرآن فيستظهر من الآيات ترددهم أيضا بين الأديان الثلاثة اليهودية و المسيحية و الإسلام و اللّه العالم بالحقائق.

ص: 274

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَل

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ (67) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ (69) قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها وَ اَللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (74) ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة احتجاجاته بنعمه المترادفة على بني إسرائيل، و ذمائم أخلاق بني إسرائيل مثل نكثهم لعهود اللّه تعالى، و مواثيقه، و تعنتهم في إتيان أوامر اللّه تعالى كما فعلوا في ذبح البقرة، ثم وصفهم جل شأنه بضعف الإيمان و القساوة بعد ما رأوا من الآيات و المعجزات، و قد أورد سبحانه و تعالى هذه القصص و أحوال بني إسرائيل ليذكّرنا بما جرى فيهم فنعتبر بها، و يثير اليهود للإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله).

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ . الميثاق هو العهد المؤكد، و مواثيق اللّه تعالى عهوده مع عباده المؤكدة بحكم العقل

ص: 275

الفطري الدال على لزوم شكر المنعم، و قد تقدم في قوله تعالى: أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 40] بعض الكلام فراجع.

و المراد بالطور هو طور سيناء الجبل المعروف الذي كلم اللّه عليه موسى (عليه السلام).

و هذه الآية المباركة تفسير لقوله تعالى: وَ إِذْ نَتَقْنَا اَلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [سورة الأعراف، الآية: 171]. و النتق هو الجذب أو القلع، و هو يتصور على وجهين: الأول: أن يكون بسبب الزلزلة الحادثة في الأرض.

الثاني: أن يكون ذلك بنفسه معجزة من اللّه تعالى بلا واسطة سبب طبيعي من زلزلة و نحوها، و يمكن تأييد الثاني بظهور كونه معجزة مستقلة، و تأتي في سورة الأعراف بقية الكلام.

و ما يقال: من أن رفع الجبل نحو إكراه لهم على الإيمان و العمل بالتوراة، و هذا باطل عقلا و شرعا.

غير صحيح لأنهم علموا أن هذا نحو إعجاز من اللّه تعالى، لا أن يكون إكراها على الإيمان به، لفرض بقاء اختيارهم بعد ذلك و أمرهم بالأخذ بالتوراة بقوة، و يستفاد ذلك من سياق الآية.

و هذه الآية الشريفة كانت بعد نزول التوراة، و أخذ الميثاق منهم لكي يعملوا بها بقوة و اجتهاد.

قوله تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ . أي: خذوا الكتاب الذي أنزلناه إليكم بعزيمة وجد و اجتهاد. و المراد بالقوة الأعم من الظاهرية الجسمانية و القوة النفسانية المعنوية بقرينة ذيل الآية الشريفة و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك، و المورد و ان كان خاصا لكن الحكم عام لجميع أمم الأنبياء، و لا سيما خاتمهم الذي يكون دينه مبتنيا على الدوام و التأبيد.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . المراد بالذكر هو حفظه علما و عملا لا مجرد الذكر اللساني، فإنه لا ينفع ما لم يكن مقرونا بالعمل كما في الروايات المستفيضة، و يدل على ذلك قوله تعالى فيها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذ التقوى لا تترتب إلاّ على العمل بما يحصل منه التقوى، لا على مجرد التلاوة فقط، فيكون المقام من باب ترتب المعلول على العلة يعني: أن العمل به يوجب التقوى. و من جملة ما أمروا بتذكيره وصف النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الإيمان به.

ص: 276

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . المراد بالذكر هو حفظه علما و عملا لا مجرد الذكر اللساني، فإنه لا ينفع ما لم يكن مقرونا بالعمل كما في الروايات المستفيضة، و يدل على ذلك قوله تعالى فيها: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ إذ التقوى لا تترتب إلاّ على العمل بما يحصل منه التقوى، لا على مجرد التلاوة فقط، فيكون المقام من باب ترتب المعلول على العلة يعني: أن العمل به يوجب التقوى. و من جملة ما أمروا بتذكيره وصف النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الإيمان به.

و كلمة الترجي تدل على إيكال الموضوع إلى اختيارهم و محبوبية التقوى عند اللّه تعالى، لما مر مكررا من أن الترجي المستعمل في القرآن يؤتى به بداعي محبوبية متعلقه.

قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ . التولي: هو الإعراض و الإدبار عن الشيء أي: أنهم أعرضوا عن التوراة من بعد ما أخذ منهم الميثاق على العمل بها.

قوله تعالى: فَلَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

المراد من فضله تبارك و تعالى هو الإمهال، و عدم التعجيل في العقوبة، و الرحمة هي الإلهام بالتوبة و قبولها. و الخسران هو ذهاب رأس المال، و هو في الإنسان عبارة عن الحقيقة الإنسانية الجامعة لجميع الكمالات.

و المعنى: أنه لو لا إمهال اللّه تبارك و تعالى لكم، و جريان سنته على عدم التعجيل في الأخذ بالمعاصي، و قبول توبتكم بعد ذلك لكنتم من الخاسرين، أما الخسران بالنسبة إلى أصل الإيمان باللّه تعالى فمعلوم أنه مستند إلى اختياركم، و أما الخسران بالنسبة إلى أصل الإنسانية فلأنها متقومة بالإيمان به جلّ شأنه، فالخسران يتحقق حينئذ فيهم بالنسبة إلى النشأتين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ . العلم هنا عبارة عن المعرفة الشخصية. و الاعتداء هو التجاوز عن الحد اللازم، فيشمل ارتكاب المحرمات العقلية - كأنحاء الظلم - و الشرعية كارتكاب المناهي الإلهية. و مادة (س ب ت) تدل على القطع، قال تعالى: وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً [سورة النبأ، الآية: 9] أي: جعلنا النوم قطعا للحركات، و سببا للراحة و السكون. و يوم السبت معروف في أيام الأسبوع و هو عيد اليهود،

ص: 277

و الأحد عيد النصارى، و الجمعة عيد المسلمين فذات هذه الأيام أعياد لهؤلاء، سواء قلنا بكونها اسماء لها من العهد القديم - كما يظهر من بعض الآثار - أو أنها حدثت بعد قرون كثيرة كما عن جمع.

و المعنى: و لقد عرفتم الذين تجاوزوا عما أمرهم اللّه تعالى و ارتكبوا ما نهاهم عنه في يوم السبت، و ذلك أن اللّه تعالى جعل لهم وظائف في هذا اليوم بالنسبة إلى الصيد وجهات أخرى فلم يعملوا بها، و سيأتي تفصيل القصة في سورة الأعراف.

قوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ . القردة جمع قرد و هو حيوان معروف. و خسأ بمعنى الطرد و الإبعاد عن مذلة و حقارة، و لذا يستعمل في طرد الكلب، و من يراد إهانته كقوله تعالى للمجرمين في جهنم: اِخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون، الآية: 108] أي: ابتعدوا عن مذلة و سخط. و الأمر هنا تكويني كما في قوله تعالى: إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82].

و صيرورتهم قردة بحسب القلب معلوم لا إشكال فيه، لأنه المتيقن من جميع ما ورد في المقام من النصوص و التفاسير إنما البحث في أنهم هل مسخوا إلى صورة القردة أيضا أولا؟ نسب الأول إلى جمهور المفسرين، و لا بأس به، لأن اللّه تعالى قادر على كل شيء.

إن قلت: صيرورتهم بحسب الصورة قردة مخالفة لسنة اللّه تعالى في عباده لابتنائها على الإمهال في الأخذ بالعقوبة، مع أنه لو مسخوا قردة كيف يكون ذلك عبرة لغيرهم؟ قلت: أما الأول فلإمكان أن تكون المعصية على حد لا تليق بالإمهال فحكمته تعالى اقتضت الأخذ بها و هي غير معلومة لغيره عزّ و جل.

و أما الثاني: فلفرض بقاء التعرف الإجمالي بين الممسوخين و غيرهم فيصير ذلك عبرة للآخرين.

قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . النكال: بمعنى المنع، و تسمى العقوبة نكالا لأنها تمنع النّاس عن ارتكاب ما يوجبها. و المراد بما بين يديها الأقوام المحاذون لها الذين لم يعاقبوا بعقوبتهم. و ما خلفها الأمم اللاحقة لهم. و الوعظ التخويف بكل ما يفعل اللّه تعالى بالعصاة.

ص: 278

قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ . النكال: بمعنى المنع، و تسمى العقوبة نكالا لأنها تمنع النّاس عن ارتكاب ما يوجبها. و المراد بما بين يديها الأقوام المحاذون لها الذين لم يعاقبوا بعقوبتهم. و ما خلفها الأمم اللاحقة لهم. و الوعظ التخويف بكل ما يفعل اللّه تعالى بالعصاة.

و إنما خص اللّه تعالى المتقين إما لأجل أنهم يعلمون بأن اللّه لا يفعل ذلك إلاّ مع الحكمة و الاستحقاق. أو لأجل أن الموعظة تزيدهم بصيرة و ايمانا و تقدم بعض الكلام في قوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 2].

و في سنخ هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عما كان يقاسيه من رذائل أخلاق أمته في زمان حياته و ما يعانيه بعد ارتحاله فإنه (صلّى اللّه عليه و آله) شاهد يعلم بما يجري في أمته، و حكم هذه الآية عام فإنها تشتمل على ترتب سخط اللّه تعالى بمخالفته في الدنيا، و حصول المسخ و تعقيب ذلك بالنكال و الموعظة، ففيها دلالة واضحة على تعميم الحكم لجميع الأزمان و الأمم و لا تختص بأمة دون أخرى، لما ذكرنا غير مرة أن المورد لا يكون مخصصا. نعم إنّ اللّه تعالى قد يمهل لمصالح كثيرة و لكنه لا يهمل، و مسخ الصورة و إن لم يكن له موضوع في أمة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) إجلالا له (صلّى اللّه عليه و آله) و لكن حكم مسخ القلوب ممكن بحسب الأخبار الكثيرة و البراهين العقلية، و سيأتي البحث في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن بعض المفسرين استدل بهذه الآية المباركة على عدم جواز الحيلة في الأحكام الشرعية الإلهية مطلقا، لأن اليهود إنما استحقوا هذه العقوبة لأجل احتيالهم في الحكم الإلهي. و المناقشة في هذا الاستدلال واضحة، لأن معنى الحيلة الشرعية: اجتهاد الفقهاء في إخراج الموضوع المحرم عن انطباق عنوان الحرام عليه إما تخصيصا أو تخصصا إلى عنوان محلل يدل على حليته الدليل الشرعي، و هذا معنى

قول أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «نعمت الحيلة الفرار من الحرام إلى الحلال»

و قول الصادق (عليه السلام): «ما أعاد الصلاة قط فقيه يحتال فيها و يدبرها حتّى يصححها» و ذكرنا تفصيل البحث في موارد من الفقه.

ص: 279

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً . شروع في بيان قصة البقرة، و بها سميت هذه السورة. البقرة واحدة البقر اسم جنس، الأنثى و الذكر فيه سواء. و قيل البقرة اسم للأنثى و الثور اسم للذكر، كالرجل و المرأة، و الجمل و الناقة. و مادة (بقر) تأتي بمعنى الشق و التوسع لأنه يشق الأرض و يوسعها للزراعة. و سمي الرابع من أولاد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) باقرا لأنه يشق العلم شقا،

و في الحديث: «نهى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن التبقر في المال» أي التوسع فيه.

و المنساق من مجموع الآيات المباركة أن قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها [سورة البقرة، الآية: 72] مقدم على قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تقدم العلة على المعلول، و إنما أخّر في ظاهر الكلام لمراعاة الفنون الأدبية المحاورية التي منها: الاهتمام بذكر المقدم و تهيئة النفوس للإصغاء اليه فيكون أدعى للبحث عن معرفة السبب، و جعله كلاما مستقلا في توجيه الأسماع و الأذهان، و اشتياق السامع اليه و مثل ذلك في القرآن كثير.

و منها: توجيه الخطاب ابتداء إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم ذكر البقرة في التوراة فلم يكونوا مأنوسين به.

قوله تعالى: قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً . الهزء: السخرية و اللعب و الاستخفاف - و هذا القول دليل على جهلهم بقدرة اللّه تعالى، و عدم درك عقولهم بحياة المقتول بضرب بعض البقرة به - و فسقهم بعدم الاعتناء بأحكام اللّه تعالى فإن الواجب عليهم تنفيذ أوامره جل شأنه.

و هيئة الهزء كهيئة الكفؤ تقرأ بوجوه أربعة: بضم الوسط، أو سكونه، و كل منهما إما مع الهمز أو بدونه، و جميعها لغات صحيحة تصح القراءة بها، لكن الأرجح أن يقرأ بالهمزة مع ضم الوسط، و الأدون مع الواو و إسكان الوسط، و المعروف ترك الهمزة مهما أمكن كما تقدم. و المسألة فقهية مذكورة في بحث القراءة من الصّلاة فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

قوله تعالى: قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ . العوذ و العياذ هو الالتجاء عما يخاف من شرّه و استعمال هذا اللفظ في القرآن كثير، و هو إما

ص: 280

قولي أو حالي أو عملي أو بالجميع، و التجاء الأنبياء و الأولياء من القسم الأخير، لشدة انقطاعهم اليه عزّ و جل، و لعل من أشده قول مريم ابنة عمران: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 18]، و قال تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ اَلْفَلَقِ مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ [سورة الفلق، الآية: 1] إلى غير ذلك من الآيات المباركة فالالتجاء إلى اللّه تعالى لا بد أن يكون حاليا و عمليا، لا أن يكون من مجرد القول فقط.

و الجهل تارة يطلق على ما يقابل العقل، و أخرى: على فعل ما لا ينبغي فعله إلاّ من الصغير و بعض مراتب الشبان، و منه قوله تعالى: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ [سورة يوسف، الآية: 89] و هو ملازم للمعنى الأول.

و يمكن أن يستدل بمثل هذه الآية المباركة على عصمة الأنبياء لأن الاستهزاء و السخرية قبيحان لا ينبغي صدورهما منهم خصوصا إذا كانا في مورد أحكام اللّه تعالى.

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ . الدعاء في هذه الآيات بمعنى طلب الحاجة و يجوز في ضمير البقرة كل من التذكير و التأنيث.

و قد سألوا من موسى (عليه السلام) ان يسأل ربه ان يبين صفات البقرة.

قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ . الفارض المسنة. و البكر ما لم يستفحله الفحل، و ضربة بكر أي قاطعة.

و عن ابن فارس: «كانت ضربات علي (عليه السلام) أبكارا إذا اعتلى قد، و إذا اعترض قط». و العوان النصف و هو التوسط بين السنين أي: ان البقرة متوسطة في السن ليست بكبيرة لا تحمل، و لا صغيرة لم تحمل.

و قوله تعالى: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ . تأكيدا للأمر الأول و فيه من التنبيه على ترك التعنت.

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ . الفاقع صفة كمال للصفرة كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة أي: خلصت صفرته يقال: أسود حالك، و أحمر قانئ،

ص: 281

و أبيض ناصع، و أخضر ناضر، و أصفر فاقع. و كلها صفات مبالغة لهذه الألوان. و قد نقل أن الصفرة الشديدة توجب السرور، و تجلي البصر،

و عن الصادق (عليه السلام): «من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتّى يبليها».

قوله تعالى: قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ . تشديد آخر منهم على أنفسهم،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنهم أمروا بأدنى بقرة، و لكن شددوا على أنفسهم فشدد اللّه عليهم و ايم اللّه لو لم يستثنوا ما اهتدوا إليها أبدا». و المنساق من هذه الآية المباركة أنها في مقام بيان صفات فعلها، و الآية السابقة في مقام بيان صفات جسمها.

و المعنى: إنّ وجوه البقرة تتشابه فأرادوا زيادة التمييز، و قوله تعالى: إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ استثناء منهم، و هذا هو المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لم يستثنوا و يقولوا إن شاء اللّه لما تبينت لهم إلى آخر الأبد».

قوله تعالى: قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها . الذلول من البهيمة ما كانت منقادة و معتادة للعمل أي: صعبة ليست معتادة لعمل إثارة الأرض، و لا تطاوع لأن يسقى بها الزرع أو يستقى عليها و المراد بالمسلّمة أي: سلمها اللّه تعالى من العيوب. و «لا شِيَةَ فِيها» أي لونها متحد ليس فيه اختلاف و تعدد كما في بعض الأبقار و أصله من الوشي و هو خلط اللون باللون.

قوله تعالى: قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ . أي: إنك بينت الحق، لظهور الأوصاف التي بيّنها موسى (عليه السلام) في ما وجدوها من البقرة.

قوله تعالى: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ . لكثرة ثقل ذلك التكليف عليهم بما شددوا على أنفسهم، أو لغلاء ثمنها - كما في بعض الروايات على ما يأتي في البحث الروائي - أو خوفا للفضيحة و كيف كان فهو يدل على امتهانهم لأوامر اللّه تعالى، و إنما أمروا بالذبح دون ضرب الحي لئلا يقعوا في الضلالة أكثر.

ص: 282

قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادّارَأْتُمْ فِيها . هذه الآية المباركة مقدمة معنى و إن تأخرت في اللفظ لما عرفت و «ادّارأتم» أصله تدارأتم أي: اختلفتم و تنازعتم، فأدغمت الياء في الدال، لأنهما من مخرج واحد، و زيدت الف الوصل حذرا من الابتداء بالساكن كقوله تعالى: حَتّى إِذَا اِدّارَكُوا فِيها [سورة الأعراف، الآية: 38]، و كذا قوله تعالى: إِذا قِيلَ لَكُمُ اِنْفِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ اِثّاقَلْتُمْ [سورة التوبة، الآية: 38]، و قوله تعالى: وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ [سورة يس، الآية: 49].

و مادة درأ تأتي بمعنى الدفع، و منه قوله تعالى: وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ اَلسَّيِّئَةَ [سورة القصص، الآية: 54]، و تأتي بمعنى الجلب و الملائمة،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رأس العقل بعد الإيمان باللّه مداراة الناس»،

و كذا قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أمرت بمداراة النّاس كما أمرت بأداء الفرائض». و يمكن أن يكون من الدرء بمعنى الدفع أي: يدفع الإنسان عن أخيه ظلما يوجب التفرقة بينهما و يحمله على الإلفة و الموافقة.

و معنى الآية المباركة: إنّ بعضكم قتل نفسا فتخاصمتم و تدافعتم في شأنه فصار كل واحد يدفع عن نفسه التهمة. و قد نسب القتل إلى اليهود في عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لأنهم من نسلهم، و تصح في المحاورات النسبة إلى اللاحقين بفعل السابقين.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ . أي: أنه تعالى يظهر جميع ما تكتمونه من أسراركم و تهمة بعضكم لبعض.

قوله تعالى: فَقُلْنا اِضْرِبُوهُ بِبَعْضِها . يعني: اضربوا المقتول ببعض البقرة المذبوحة. و لم يعين سبحانه و تعالى هذا البعض فيكتفى بضرب أي جزء كان، و لكن للمفسرين في تعيينه تفاصيل غير مستندة إلى مدرك صحيح، و لا دليل صريح، فالأولى الإغماض عن التعرض لها.

و إنما أمرهم بالضرب من دون أن يضرب موسى (عليه السلام) بنفسه، لأن الفعل إذ كان صادرا منهم فهو أبين لقطع النزاع كما يظهر من ذيل الآية الشريفة.

ص: 283

قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى . أي: كما أنه أحيى المقتول بعد موته كذلك يحيي كل ميت. و هذا من تنظير الكلي المعقول على الجزئي المحسوس، و إثبات للمدعى الكلي بإحساس بعض جزئياته، إذ الكليات إنما تستكشف عند عامة النّاس من الجزئيات، و لذا اشتهر «من فقد حسا فقد علما».

قوله تعالى: وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ . أي: أنه فعل ذلك من الاحياء بعد الإماتة، و ما ترتب على ذلك من فصل الخصومة و إظهار القاتل لعلكم تفقهون و تدركون أنّ اللّه تعالى قادر على إحياء مطلق الأموات حيوانا كان أو نباتا كما قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [سورة الحديد، الآية: 17] فتدبروا في آيات اللّه تعالى فاعتبروا بها و امنعوا أنفسكم من العصيان، و اتباع الأهواء و الشهوات.

قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القسوة الصلابة و الشدة و الرداءة و الغلظة، و لم تستعمل في القرآن الكريم غالبا إلاّ مضافة إلى القلب، فيكون المعنى الغلظة و الصلابة عما من شأنه أن يكون رقيقا، قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اَللّهِ [سورة الزمر، الآية: 22].

و قسوة القلب من أشد الأمراض النفسية الروحية بل أصلها و أمها،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه، فإن كثرة الكلام لغير ذكر اللّه تقسي القلب، و إنّ أبعد الناس من اللّه القلب القاسي»، و القلب المتصف بالقساوة كمرآة عليها حجاب غليظ لا يرى فيها صورة أصلا، و سيأتي تفصيل المقال فيه إن شاء اللّه تعالى.

و قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد أن رأيتم الآيات و المعجزات و دلائل التوحيد و الرسالة و عرفتم الحق.

قوله تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً . كلمة «أو أشد» يصح أن تكون بمعنى التنويع أي: أن بعض القلوب كالحجارة و بعضها الآخر أشد منها، أو باعتبار الحالات ففي بعض الحالات يكون القلب كالحجارة، و في بعضها الأخرى يكون أشد فحينئذ يصح الكلام بالنسبة إلى المتكلم و السامع.

ص: 284

كما يجوز أن تكون بمعنى الترديد، أو بمعنى بل، و الكلام حينئذ سيق مساق فهم السامع.

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ . الأنهار جمع نهر بسكون الهاء و فتحه كما في قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ [سورة القمر، الآية: 54] و الفتح أفصح، و لذا لم يستعمل في القرآن مفرد الأنهار إلاّ مفتوحة العين، و لم يرد بسكونها فيه. و تقدم معنى الإنفجار في قوله تعالى: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اِثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً [سورة البقرة، الآية: 60] و «يشقق» أصله (يتشقق) أدغمت التاء في الشين.

ذكر سبحانه و تعالى أنّ الحجارة ينفجر منها الأنهار كالعيون في الجبال فتعود منفعته على الحيوان و النبات. و أن بعض الحجارة يتشقق فيخرج منها الماء، كالأحجار التي ينبع منها الماء قليلا كان أو كثيرا، و أن منها لما يهبط من خشية اللّه تعالى، لأن جميع الموجودات مسخرة تحت إرادته و قدرته عزّ و جل، قال تعالى: يُسَبِّحُ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة الجمعة، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ يُسَبِّحُ اَلرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [سورة الرعد، الآية: 13].

و الخشية هي الخوف و لكنها أعم منه موردا، لاطلاقها على الجمادات أيضا، و أخص منه مفهوما لأنها الخوف المشوب بالتعظيم، بخلاف مطلق الخوف. و للخشية و الخوف منه تعالى مراتب كثيرة جدا و بعض مراتبها يختص بالعلماء باللّه تعالى

قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ : «يعني بذلك من يصدّق فعله قوله، و من لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم و إن شق الشعر في المتشابهات» هذا بالنسبة إلى الفاعل المختار، و أما بالنسبة إلى سائر الموجودات من الجماد و النبات و الحيوان فحيث أن الخشية منه عزّ و جل من لوازم ربوبيته العظمى و قيمومته فتتصف جميع تلك الموجودات بالخشية منه تعالى، قال جلّ شأنه: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا اَلْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ [سورة

ص: 285

الحشر، الآية: 21] و لم يدل دليل عقلي أو نقلي على أن مفاهيم الألفاظ لا بد و ان تختص بعالم الإنسان و بما نتعقله من المعاني، بل هي عامة لجميع العوالم كل على حسب وجوده، بل الأدلة العقلية و النقلية تدل على الخلاف، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و قد حدث في بني إسرائيل جميع ما تقدم من الآيات فقد انفجر الماء من الحجارة و اندك الجبل و رفع فوقهم كأنه ظلة. و في ذلك كله توبيخ و تحقير عجيب لهم و لمن يكون قاسي القلب، فإنه مع رؤية جميع تلك الآيات الباهرات و دلائل الحق و التوحيد لا تؤثر في قلبه فقد جعلوا القلب الذي له المحل الأعلى في مصاف أخسّ الأشياء بمساوئ الأخلاق و رذائلها فلا تجدي فيه المواعظ و الحكم.

إن قيل: بعد قدرة اللّه تعالى على تسخير الحجارة و ما هو أصلب منها فهو قادر على تسخير القلوب أيضا. (يقال): تسخير القلوب تكوينا تحت إرادته تعالى بلا إشكال، و لكن اختياره لا بد و أن يكون تحت إرادة صاحب القلب ليتم بذلك نظام التشريع و الجزاء كما تقدم.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . مادة (غ ف ل) تأتي بمعنى ذهاب التوجه الفعلي الحاصل للنفس عن الشيء بعد حصول العلم به في الجملة، و تستعمل في مورد السهو و النسيان أيضا، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة، و قد ورد في آيات كثيرة قال تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 132]، و قال جلّ شأنه: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَللّهَ غافِلاً عَمّا يَعْمَلُ اَلظّالِمُونَ [سورة إبراهيم، الآية: 42].

و الغفلة إما من الخلق عن اللّه تعالى، أو عنه تعالى عن خلقه. و الثاني مستحيل إذ كيف تعقل الغفلة عمن كان ذاته بذاته العلم و الحياة، و القيمومة المطلقة على ما سواه، إلاّ إذا رجعت الغفلة فيه تعالى إلى عدم التعجيل في الجزاء و إمهاله في العقاب، و هذا صحيح و قد دلت الأدلة العقلية و النقلية عليه، و قد اشتهر: «إن من أفضل أخلاق الكرام تغافلهم عما يعلمون من مساوئ

ص: 286

غيرهم» فهذا تغافل ممدوح. و لكن إطلاقه على اللّه تعالى غير مأذون فيه شرعا.

و أما الأول و هو غفلة النّاس عن اللّه تعالى، و هذا القسم معلوم لكل من رجع إلى نفسه، بل يمكن أن يرجع بعض مراتبها إلى الكفر.

ثم إنّه لا ريب في اتصاف الإنسان بالسهو و النسيان و الغفلة، و لكن هل يتصف الحيوان بها؟ فيه بحث عند الفلاسفة و العلماء و لنا فيه كلام سيأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

فالاعتقاد بحضوره تعالى و شهوده مع عمل كل عامل و علمه الأزلي بجميع الخصوصيات يقتضي أن تكون الحالة غير ما نرى و العمل غير ما نعمل.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من مجموع هذه الآيات المباركة الواردة في قصة البقرة أمور:

الأول: استهزاؤهم بأوامر اللّه تعالى، و امتهانهم لما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) و لقد كان الواجب عليهم التسليم بما جاء به موسى (عليه السلام) و كان جزاؤهم أن شدد اللّه تعالى عليهم و نسبهم إلى الجهل و شبّه قلوبهم بالحجارة.

الثاني: مرجوحية كثرة السؤال و المداقة بالنسبة إلى الأحكام، بل إنها توجب التشديد في الأحكام، و قد يوجب العقاب و غضب اللّه تعالى، قال عزّ من قائل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101]،

و ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إن اللّه كره لكم قيل و قال، و إضاعة المال، و كثرة السؤال» و غير ذلك من الروايات.

الثالث: إنّما أمروا بذبح البقرة دون غيرها من الأنعام و الحيوان إما

ص: 287

اختبارا لهم ببقاء حب العجل و تعظيمهم له، أو تحقيرا لهذه الدابة لأن البقرة كانت من جنس معبودهم فأراد سبحانه و تعالى أن يبين أنها لا تقدر أن تدفع عنها السوء فضلا عن العابدين لها، أو لأجل أنهم كانوا يعدون البقرة من أعظم القربات حتّى أنهم جعلوا لها بيتا لا يدخله إلاّ خيارهم بكيفية خاصة فأمرهم اللّه تعالى بذلك تقريرا لعادتهم في ما يتقربون عند حوائجهم اليه تعالى.

الرابع: إن ما ورد من التخصيصات في البقرة كما تقدم في الآية الشريفة لأجل أن منشأ الحياة - و لو كان جسمانيا - لا بد أن لا يتخصص سوى الإضافة إلى اللّه تعالى، و أن لا يدعي أحد في القرون التالية أن ما يملكه من البقرة من نسل تلك البقرة التي أحيي بها الموتى فهذه البقرة كانت منفية الصفات و الخصوصيات كما تقدم.

الخامس: التنبيه على تمام قدرته تعالى، فإن من أوضح الواضحات أنه لا يمكن إحياء ميت بتلاقي جسمين لا حياة فيهما، فلا بد و أن تكون الحياة في القتيل بعد ضربه ببعض البقرة من عالم الغيب المحيط بعالم الشهادة، كما يدل عليه قوله تعالى: كَذلِكَ يُحْيِ اَللّهُ اَلْمَوْتى في ذيل الآية المباركة، حيث حصر الإحياء بذاته الأقدس فكان الإحياء من المعجزات.

السادس: ما ورد من الآيات المباركة في هذه القصة الإعتبار العظيم، و التسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لما كان يلقاه من يهود عصره (صلّى اللّه عليه و آله) و مشركي قريش، و تكفي في إتمام الحجة عليهم لنبوة خاتم الأنبياء لاعترافهم بأنها ليست من تعليم بشري و إنما هي من وحي سماوي. و لكن جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً [سورة النحل، الآية:

14] فاستحقوا بذلك العذاب الأليم.

ثم إنه يمكن أن يكون في قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إشارة إلى العزوف عن حطام الدنيا و زخارفها، و لا يتحقق ذلك إلاّ بالاستيلاء على الشهوات النفسانية التي هي أقوى من البقرة، و لا تصل النفس الإنسانية إلى أسرار عالم الغيب و الشهادة إلاّ بإماتة تلك الشهوات، و كيف يعقل أن تنكشف الأسرار و تتجلى الأنوار مع وجود تلك الحجب،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه

ص: 288

عليه و آله): «لو لا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات» و ستأتي بقية البحث في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

العياشي عن إسحاق بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ أ قوة في الأبدان أم قوة في القلوب؟ قال (عليه السلام): فيهما جميعا».

أقول: المراد بالقوة في القلوب رسوخ ملكة الإيمان في قلبه بحيث تمنعه عن المحارم، و قد تقدم ما يتعلق بالرواية أيضا.

عن القمي في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ قال: «ان موسى (عليه السلام) لما رجع إلى بني إسرائيل و معه التوراة لم يقبلوا منه فرفع اللّه جبل طور سيناء عليهم و قال لهم موسى: لئن لم تقبلوا ليقعن الجبل عليكم و ليقتلنكم فنكّسوا رؤوسكم».

أقول: لا يخفى انه معجزة من معاجزه (عليه السلام) و هي في مقام تخويفهم، و لا ينافي ذلك بقاء اختيارهم في الإيمان فاستسلموا اختيارا.

عن العياشي عن الحلبي في قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ قال (عليه السلام) «اذكروا ما فيه و اذكروا ما في تركه من العقوبة».

أقول: في الحديث اشارة إلى ما في الامتثال من الثواب، و في المخالفة من العقاب.

عن زرارة عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام) في قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ قال (عليه السلام): «لما معها، ينظر إليها من أهل القرى. و لما خلفها، قال (عليه السلام): و نحن، و لنا فيها موعظة».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «و نحن، و لنا» ليس خصوص الإمام (عليه السلام)، بل جميع من تتلى عليه هذه الآيات.

ص: 289

و عن العياشي عن ابن فضال قال سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول. «إنّ اللّه أمر بني إسرائيل أن يذبحوا بقرة، و إنما كانوا يحتاجون الى ذنبها فشدد اللّه عليهم».

أقول: هذا مطابق للقاعدة و هي تحقق الإجزاء بمطلق الامتثال للمأمور به، و يأتي في الرواية الثانية ما يؤيده. و أما تعيين الذنب فلأنه من أجزاء البقرة، و لكن الظاهر من الحديث أن فيه موضوعية خاصة.

و في الدر المنثور قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا أنّ بني إسرائيل قالوا: و إنا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ ما أعطوا أبدا و لو انهم اعترضوا بقرة من البقر فذبحوها لأجزأت منهم و لكنهم شددوا فشدد اللّه عليهم».

و روى العياشي عن أحمد بن أبي نصر البزنطي قال: «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول: «إنّ رجلا من بني إسرائيل قتل قرابة له ثم أخذه و طرحه على طريق أفضل سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاء يطلب بدمه، فقالوا لموسى (عليه السلام): إن سبط آل فلان قتلوا فلانا فأخبر من قتله؟ قال: ايتوني ببقرة قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ اَلْجاهِلِينَ . و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ يعني: لا صغيرة و لا كبيرة عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ . و لو أنهم عمدوا إلى أي بقرة أجزأتهم، و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم، قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ اَلنّاظِرِينَ ، و لو أنهم عمدوا إلى بقرة أجزأتهم و لكن شددوا فشدد اللّه عليهم قالُوا اُدْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ اَلْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنّا إِنْ شاءَ اَللّهُ لَمُهْتَدُونَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ اَلْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي اَلْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا اَلْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فطلبوها فوجدوها عند فتى من بني إسرائيل، فقال: لا أبيع إلاّ بملء مسك ذهبا، فجاؤا إلى موسى (عليه السلام)، و قالوا له ذلك، فقال: اشتروها، فاشتروها و جاؤا بها فأمر بذبحها، ثم أمر أن يضربوا الميت بذنبها، فلما فعلوا ذلك حيي المقتول، و قال: يا رسول اللّه إن ابن عمي قتلني

ص: 290

دون من يدّعى عليه قتلي، فعلموا بذلك قاتله، فقال لرسول اللّه موسى (عليه السلام) بعض أصحابه: إن هذه البقرة لها نبأ، فقال (عليه السلام) ما هو؟ قالوا: إن فتى من بني إسرائيل كان بارا بأبيه و إنه اشترى بيعا فجاؤا إلى أبيه و الأقاليد (مقاليد) تحت رأسه فكره أن يوقظه فترك ذلك البيع فاستيقظ أبوه فأخبره، فقال له أحسنت هذه البقرة فهي لك عوضا لما فاتك، قال: فقال له رسول اللّه موسى (عليه السلام): «أنظر إلى البر ما بلغ لأهله».

أقول: مقتضى إطلاق الآية المباركة - كما هو صريح الأخبار - و إن كان هو الاكتفاء في ذبح البقرة بكل ما يسمى بقرة كما هو مقتضى القاعدة في مطلق الخطابات التي سيقت هذا المساق. و لكنه مشكل بل ممنوع إلاّ فيما إذا أحرز أن المتكلم في مقام بيان ماله دخل في مراده من كل جهة، و لا وجه لاحراز ذلك في المقام، بل هو محرز العدم أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فلعلمه جل شأنه بأنه سترد على هذه البقرة قيود تصيّرها منحصرة في الفرد و أما بالنسبة إلى المخاطبين فلبنائهم على التشكيك و التدقيق في مطلق أمورهم العادية فكيف بمثل هذا الأمر الذي هو من أهم الأمور الخارقة للعادة و القاطعة للخصومة فالتقييد و الانحصار في الفرد ظاهر من سياق حال أصل التكليف و أحوال المكلفين و التمسك بالإطلاق في مثل هذا النحو من البيان غير مأنوس في المحاورات العقلائية بل مأنوس العدم.

إن قيل: كيف و هذا مصرح به في الروايات من أنهم لو عمدوا إلى ذبح أي بقرة لكفى؟ (يقال): أولا: إنّها غير نقية السند. و ثانيا: إنّها ليست في مقام بيان خصوصيات القضية، بل في مقام بيان مذمة التعمق و المداقة في خصوصيات التكليف، و يأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101].

و يمكن الجمع بين الأخبار و رفع المنافاة بينها أنهم لو عمدوا و ذبحوا مطلق البقرة نسخ الحكم الأول عنهم لمصلحة المبادرة إلى الامتثال و ترك المداقة، و منه يظهر ما في جملة من التفاسير من التطويل.

و في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إن رجلا من خيار

ص: 291

بني إسرائيل و علمائهم خطب امرأة فيهم فأنعمت له و خطبها ابن عم لذلك الرجل و كان فاسقا رديا فلم ينعموا له فحسد ابن عمه الذي أنعموا له فقعد له فقتله غيلة، ثم حمله إلى موسى (عليه السلام) فقال: يا نبي اللّه هذا ابن عمي قد قتل قال موسى: من قتله؟ قال: لا أدري و كان القتل في بني إسرائيل عظيما جدا فعظم ذلك على موسى (عليه السلام) فاجتمع اليه بنو إسرائيل فقال: ما ترى يا نبي اللّه؟ و كان في بني إسرائيل رجل له بقرة، و كان له ابن بار و كان عند ابنه سلعة فجاء قوم يطلبون سلعته و كان مفتاح بيته تحت رأس أبيه و كان نائما و كره ابنه أن ينبهه و ينغّص عليه نومه، فانصرف القوم و لم يشتروا سلعته، فلما انتبه أبوه قال له: يا بني ماذا صنعت في سلعتك؟ قال:

هي قائمة لم أبعها، لأن المفتاح كان تحت رأسك فكرهت أن أنبهك و انغص عليك نومك، قال له أبوه: قد جعلت هذه البقرة لك عوضا عما فاتك من ربح سلعتك و شكر اللّه لابنه ما فعل لأبيه، و أمر بني إسرائيل أن يذبحوا تلك البقرة» أقول تقدم البحث عنه في الخبر السابق.

بحث تاريخي:

لم ترد قصة البقرة بهذا التفصيل في التوراة و إنما ورد فيها حكم كلي فقد جاء في سفر التثنية الإصحاح الحادي و العشرين ما هذا لفظه: «إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله يخرج شيوخك و قضاتك و يقيسون إلى المدن التي حول القتيل، فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير، و ينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه و لم يزرع، و يكسرون عنق العجلة في الوادي ثم يتقدم الكهنة بنو لاوي لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه و يباركوا باسم الرب و حسب قولهم تكون كل خصومة، و كل ضربة و يغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي و يصرحون و يقولون أيدينا لم تسفك هذا الدم، و أعيننا لم تبصر به اغفر لشعبك بني إسرائيل الذي فديت يا رب، و لا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل

ص: 292

فيغفر لهم الدم فتنزع الدم البري من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب» و الظاهر من ذلك أنه كان من بقايا قصة معلومة مبينة عندهم دخلتها يد التحريف و التضييع و كم لهم من هذه التحريفات و قد صحح القرآن هذه القصة بالكيفية المذكورة ثم شرحتها الأخبار الواردة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله و سلّم) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تقدم في البحث الروائي.

بحث فلسفي:

تضمنت الآية الشريفة عقوبة من العقوبات التي حلت على بني إسرائيل فقد مسخهم اللّه تعالى على صورة القردة و الخنازير، و تقدم ما يتعلق بها.

و المسخ هو من أقسام التناسخ الذي كان مورد البحث بين الفلاسفة امتناعا و جوازا منذ القدم. و قد أثبت الممتنعون - و هم أكابر الفلاسفة - استحالته، سواء كان صعوديا [من مطلق الحيوان إلى الإنسان] أو نزوليا أو عرضيا، و لكن استدل المجوزون بأدلة عقلية و نقلية من الكتاب الكريم و السنة الشريفة، فاستدلوا بمثل هذه الآية المباركة فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ و ما سيقت مساقها كقوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ [سورة المائدة، الآية: 60] و النصوص الكثيرة الواردة في الأبواب المختلفة، مثل

ما ورد في صلاة الجماعة: «أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول اللّه تعالى رأسه رأس حمار» بل قيل إنه ما من مذهب إلاّ و للتناسخ فيه قدم راسخ.

و الحق أن يقال: إنّ هنا موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر أحدها:

التناسخ و هو عبارة عن انتقال نفس من بدن - كان بينهما اتحاد في مدة من الزمان، قليلة كانت أو كثيرة - إلى بدن آخر و حصول الاتحاد بينهما. و له أقسام صعودي و نزولي و عرضي كما مر.

الثاني: تجسم الملكات و ظهورها عن كل نفس في بدن يناسب تلك الملكات، و الصفات النفسانية في الخارج بصور تناسبها. و لا ربط لأحد الموضوعين بالآخر.

و الذي ينفيه أكابر الفلاسفة و أجمع المسلمون على نفيه إنما هو التناسخ

ص: 293

لا تجسم الملكات، و ما أثبته جمع بالبرهان إنما هو الثاني و ادعى أهل العرفان فيه الشهود و العيان، و السنة المقدسة مشحونة به لا سيما في أبواب المعاد، فقوله تعالى: فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أو قوله تعالى: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ [سورة المائدة، الآية: 60] قول و جعل تكويني في جعل ملكاتهم و صفاتهم السيئة التي تكون في نفوسهم، و نشأت عليها أبدانهم في قالب هذه الحيوانات المناسبة لفعالهم و ملكاتهم، فالروح و الملكات عين ما كانت في السابق لكن اقتضت الحكمة الإلهية ظهورها في قالب الإنسان مدة ثم ظهورها في قالب يناسب تلك الصفات و الملكات في مدة أخرى، فالحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة بإرادة اللّه تعالى و جعله.

و من ذلك يظهر أن تجسم النفس بصور صفاتها و أخلاقها لا ربط له بمسألة التناسخ، و بطلان الثاني لا يستلزم بطلان الأول.

ثم إنّ أساس مذهب التناسخ يدور مدار أحد أمور ثلاثة: إما قدم النفوس، أو كون النفوس المجردة كالماديات التي تعتورها التغييرات و التبدلات، أو النقص في قدرة اللّه تعالى و تضييقها بقدر عقولهم. و الكل باطل، فلا تناسخ لا في عالم الدنيا، و لا في عالم الغيب أي دار السعادة و الشقاوة، و لا في عالم العقول المحضة، و يأتي تفصيل ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

و على فرض تحقق المسخ الاصطلاحي فما هو الموجود من القردة و الخنازير ليس من نسل المسوخ لما دل من النصوص على أن المسوخ لا بقاء لها بعد ثلاثة أيام و ما هو الموجود - و يطلق عليه المسوخ - إنما يكون مثلهم لا أن يكون من نسلهم و مما اتفق عليه المسلمون أنه ليس في القردة و الخنازير من هو من أولاد آدم (عليه السلام).

و خلاصة الكلام: المسخ إما في الظاهر أو في الباطن أو فيهما معا و كل هذه الأقسام إما في هذا العالم أو في عالم الآخرة أو فيهما معا و ما كان في الدنيا إما أن يكون نسله مثله بعد المسخ أو يكون مثله قبل المسخ فيكون آدميا أو ينقطع نسله بالمرة بل يهلك نفسه بعد قليل من زمان مسخه و لكل من هذه الأقسام تفصيلات ربما نتعرض لها في ضمن الآيات المستقبلة.

ص: 294

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْل

اشارة

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ (79) وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) هذه الآيات المباركة تدل على اخباره جل شأنه للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه باليأس عن إيمان اليهود و عدم أهليتهم للإيمان باللّه و رسوله و لو ظاهرا لما فيهم من الكيد و الخيانة للرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و مكرهم بتحريف كلام اللّه تعالى بكل ما تمكنوا و قد أوعدهم اللّه تعالى بالويل و النار.

التفسير

قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ . الطمع: تعلق النفس بما تعتقد فيه النفع، و بمعناه الأمل و الرجاء إلاّ أن الطمع أقوى منهما. و تستعمل المادة في الخير و الشر، و أكثر استعمالاتها في الثاني و لذا يعد من الصفات الذميمة. و الهمزة للإنكار، و فيه إيماء باستبعاد ايمانهم به (صلّى اللّه عليه و آله) و اليأس منه، و الخطاب للرسول و المؤمنين أي: كيف تطمعون أن يؤمن اليهود و هم من أهل السوء و العناد - و قلوبهم قاسية كالحجارة - و لهم سابقة في الكفر و التحريف لكلام اللّه تعالى. و لقد كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 295

و المؤمنون شديدي الحرص على إيمانهم لأسباب عديدة منها انهم من أهل الكتاب و هم على معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و دينه لما ذكر في كتابهم.

قوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ . الفريق اسم جمع لا واحد له، و المراد به من له القدرة على التحريف سواء كان من الأحبار و العلماء أو من تبعهم في ذلك و إن لم يكن منهم موضوعا، و إن كان ظاهر الآية يختص بالطائفة الأولى.

و المراد بسماع كلام اللّه تعالى ما أدركوه بقوة السمع سواء كان عند خطاب اللّه لموسى (عليه السلام) أو منه إليهم أو من أنبيائهم و كلامه تعالى سواء كان من التوراة أو ما ورد في أوصاف خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله). و التحريف التبديل و التغيير حسب مشتهيات النفس، سواء كان في اللفظ أو في المعنى أو في المحل - بأن ينقل اللفظ من موضعه إلى موضع آخر - و الكل حرام عقلا و شرعا إلاّ إذا ورد إذن من قبل الشارع كما في تغيير القراءة فيه و هو لا يعد من التحريف الاصطلاحي، و يأتي تفصيل ذلك كله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ . أي: من بعد ما عرفوه و فهموه و تمت الحجة عليهم و هذا معنى قوله تعالى في الآية المباركة: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 41] أو عن مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 13] و هم يعلمون بأنّهم يحرّفون و يكذبون على اللّه تعالى. و ذلك نص على تعمدهم و سوء قصدهم. و في هذين القيدين من التشنيع لفعلهم ما لا يخفى.

و حكم الآية المباركة عام يجري في كل من يحرّف كلام اللّه حسب مقاصده و إن لم يكن من اليهود فيشمل أهل البدع و الآراء و المقاييس و لو كانوا من المسلمين.

و معنى الآية المباركة أنه كيف تطمعون في إيمانهم و قد كان لهم سلف يفعلون السوء و قد جبلوا على العناد و الإصرار على الضلال و كان من أفعالهم

ص: 296

الشنيعة أنهم كانوا يحرفون كلمات اللّه تعالى هذا حال سلفهم و أما أحوال الحاضرين فهي لا تتخطى عمن تقدمهم كما بيّن ذلك سبحانه و تعالى في الآيات التالية.

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا . بيّن سبحانه و تعالى صفة أخرى من ذمائم أخلاقهم و شعب نفاقهم أي: إذا واجه اليهود أصحاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) اعترفوا بالإسلام و قالوا: إنا آمنا برسولكم - كما آمنتم به - بحكم التوراة من البشارة ببعثته و لكن قولهم ذلك كان على سبيل النفاق.

قوله تعالى: وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ . الفتح في الأصل إزالة الأغلاق و الأشكال سواء كان ذلك في الأمور المادية أو المعنوية أو الاعتبارية و قد استعمل في القرآن الكريم بجميع مشتقاته، قال تعالى: يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ اَلْفَتّاحُ اَلْعَلِيمُ [سورة سبأ، الآية: 26] و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ [سورة الأنعام، الآية: 59] أي: عنده ما يفتح به أبواب الرحمة على الخلق و كل نبي فاتح لامته أبواب المعارف الإلهية و يبين الأحكام للناس، و منه اطلاق الفاتح على الحاكم و الفتح على الحكم و القضاء، و الفتاح على القاضي. و المراد به هنا ما كان مبينا في التوراة. و يستفاد منه انهم كانوا يزعمون أن ذلك سرّ لهم خاصة.

و مادة (ح د ث) تأتي بمعنى الكون بعد العدم، سواء كانت البعدية ذاتية أم زمانية. و الحديث بمعنى الكلام و الخبر، و إنما يفترق بالاعتبار فيسمى حديثا باعتبار حدوثه و تجدده؛ و قد أطلق الحديث على نفس القرآن أيضا، قال تعالى: أَ فَمِنْ هذَا اَلْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ [سورة النجم، الآية: 59]، و قال تعالى: أَ فَبِهذَا اَلْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ [سورة الواقعة، الآية: 81].

و المعنى: أنه إذا خلا بعضهم ببعض يذم من أظهر منهم ما كان في التوراة من البشارة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و صفاته و الأمر باتباعه.

قوله تعالى: لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ . مادة (ح ج ج) تأتي بمعنى

ص: 297

القصد، و المحاجة أن يقصد كل واحد رد الآخر بدليل معتبر. أي إنكم إذا أظهرتم للمؤمنين ما في التوراة يصير حجة عليكم من المسلمين فيحاجوكم به، و ليس هذا إلاّ النفاق.

قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ . يحتمل أن يكون قول الأحبار و الرؤساء لمن أظهر منهم الإيمان أي: أ فلا تعقلون أن هذا الحديث يوجب إتمام الحجة للمسلمين على بني إسرائيل. و يحتمل أن يكون الخطاب من اللّه تعالى للمؤمنين أي: أ فلا تعقلون أنّ بني إسرائيل منافقون في أقوالهم و أعمالهم و أنهم لا يؤمنون فلا تعتمدوا على ما يصدر منهم.

قوله تعالى: أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ .

الإسرار خلاف الإعلان، و للإسرار مراتب كثيرة قال تعالى: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ اَلسِّرَّ وَ أَخْفى [سورة طه، الآية: 7]. و عن بعض أهل اللغة - و تبعه بعض المفسرين - أنه من الأضداد لقوله تعالى: وَ أَسَرُّوا اَلنَّدامَةَ لَمّا رَأَوُا اَلْعَذابَ [سورة سبأ، الآية: 33] أي أظهروا الندامة و لكنه مردود لأنه خلاف ظاهر الآية المباركة كما يأتي في محلها. نعم يمكن أن يكون شيء واحد سرا من جهة و إظهارا من جهة أخرى فهو من الصفات ذات الإضافة، قال تعالى: وَ إِذْ أَسَرَّ اَلنَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً [سورة التحريم، الآية: 3]، و قال جلّ شأنه: إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [سورة نوح، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً [سورة الرعد، الآية: 22]. و على أية حال فهذه الآية المباركة من القضايا التي يكون دليلها معها بعد تصورها؛ و فيها توبيخ و تقريع لكل من يعلم بالحق و لا يحقه أو يعلم بالباطل و لا يبطله فضلا عن أن يظهر خلافه في كل منهما، فإنه تعالى حاضر لدى القلوب فلا بد أن تكون القلوب حاضرة لديه حضورا عمليا لا اعتقاديا فقط، إذ لا أثر للاعتقاد بدون العمل.

و هذه الآية المباركة من الآيات التي تدل على إحاطته تعالى بما سواه و هذه الإحاطة واقعية فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة، و لذا عقّب سبحانه و تعالى علمه الإطلاقي بما سواه بالألوهية المطلقة تارة، فقال جل

ص: 298

شأنه: وَ هُوَ اَللّهُ فِي اَلسَّماواتِ وَ فِي اَلْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 3]. و أخرى: علقه على ذات الألوهية، فقال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [سورة النحل، الآية: 23] و يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ . الأمي من لا يكتب و لا يقرأ و هو صفة ذم، و قد تكون من صفات المدح كما في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنه كان أميا و لكن علمه اللّه تعالى من لدنه جميع المعارف و جهات التشريع. و الأماني جمع أمنية: و هي التصورات التي لا حقيقة لها و لا واقع و إن ظن أن لها واقعا و حقيقة.

و هذه الجملة تحتمل معنيين:

الأول: أن كتاب اللّه تعالى يشتمل على أشياء لا حقيقة لها بزعمهم و يشهد له قوله تعالى: وَ قالُوا أَساطِيرُ اَلْأَوَّلِينَ اِكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً [سورة الفرقان، الآية: 5].

الثاني: أن يكون المراد أنه لاحظ لهم من معنى الكتاب و مراد كلامه تعالى، و همهم إنما يكون في غير ذلك. و إنما عبر بالامنية لأنه لا يتجاوز الوهم و الخيال الذي هو أنزل العوالم و لا يمكن أن يصل إلى مراده تعالى الذي هو من عالم الغيب، فيكون من أدلة النهي عن تفسير كلام اللّه بالرأي.

و تأتي بمعنى القراءة أيضا أي لا يعلمون الكتاب إلاّ قراءة اللفظ من دون التعدي إلى فهم المعنى الحقيقي. و هؤلاء هم الفريق الثاني من اليهود الذين لاحظ لهم من الكتاب إلاّ الأكاذيب و المفتعلات، و هم المأوّلون لكتاب اللّه على طبق آرائهم و أمنياتهم التي ليس لها أصل صحيح. و أما الفريق الأول فهم المحرفون لكتاب اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ . المراد بالظن الوهم أي ليس حظهم من الكتاب إلاّ ما يتوهمونه من الأغراض الفاسدة كما يأتي في ذيل الآية المباركة.

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ . ذكر سبحانه و تعالى فريقين من اليهود و هم المحرفون لكتاب اللّه تعالى، و المأوّلون له. و بقي قسم ثالث و هم المفترون على اللّه تعالى.

ص: 299

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ اَلْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اَللّهِ . ذكر سبحانه و تعالى فريقين من اليهود و هم المحرفون لكتاب اللّه تعالى، و المأوّلون له. و بقي قسم ثالث و هم المفترون على اللّه تعالى.

الويل: لفظ جامد لا تثنية فيه و لا جمع. و الويلات جمع ويلة لا الويل. و معناه شدة الشر و الحزن و العذاب و الهلكة، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعين موضعا كلها مقرونة بما يدل على الذم و الحزن و المكروه،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إن الويل واد في جهنم بين الجبلين» و هذا من باب التطبيق لا بيان المعنى الحقيقي.

و قد كرر اللفظ في المقام ثلاث مرات لشدة عظم المعصية و تغليظا لفعلهم و هو كذلك عقلا، فإن الافتعال و الجعل من غير من له حق الجعل فعل شنيع و فيه خطر عظيم فأفعال هذه الفرق الثلاث و هم: المحرفون، و المأولون، و المفترون، فيها قبح عقلي و كل ذلك داخل في الظلم الذي يحكم بقبحه العقل فلا اختصاص له بقوم دون آخرين.

و إنّما أضاف اللّه تعالى الكتابة إلى اليد مع أنها لا تكون إلاّ بها تبيينا للموضوع كما في قوله تعالى: وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ [سورة يس، الآية: 35] و في المحاورات: «رأيته بعيني» و «سمعته باذني». و إشارة إلى تحقير الموضوع يعني أن ما يفعل باليد لا يليق أن ينسب إلى اللّه تعالى فإن ما عنده ليس إلاّ الحقائق الواقعية التي تجل عن تدخل القوى الإمكانية فيها. و يمكن أن يكون فيه إيماء إلى إيكال الأمر إلى أنفسهم اي: أنه مع أنكم تعلمون أنه من مفتعلات أنفسكم كيف تنسبونه إلى اللّه تعالى.

و يراد من الكتاب الذي كتبته أيديهم الأعم مما كتبوه قبل بعثة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أو حينها أو بعدها، و من ذلك ما روي أن أحبارهم عمدوا إلى التوراة و حرفوا ما ورد في صفة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سيأتي في البحث الروائي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً . ليس المراد بالاشتراء خصوص الشراء مقابل سائر النقل و الانتقال بل المراد به التبديل، و وصف سبحانه و تعالى الثمن بالقلة إما لأجل فنائه و إن كان كثيرا أو لأجل أن الحق لا يقابل بأي ثمن

ص: 300

فإن كل ما في الدنيا إن قوبل بإزالة الحق عن مقره و إظهار الباطل لكان ذلك قليلا في مقابل هذا الذنب العظيم قال تعالى: لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 102] و أنى للنفوس المأنوسة بالماديات معرفة آيات اللّه جلت عظمته و قيمها الواقعية، و هذه الآية المباركة شارحة لقوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 101].

و كرر سبحانه و تعالى الوعيد - في هذه الآيات المباركة - ثلاث مرات إما لأجل عظمة الجرم و شناعته كما مر، أو لأجل صدور ثلاث جرائم عظيمة هي أصل التغيير، نشره بين الناس، و أخذ الرشوة و إعمال الأغراض الشريرة في التغيير، فقال سبحانه.

قوله تعالى: فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ . أي:

لهم عذاب شديد لأجل التحريف و لأجل الأغراض الفاسدة و فعل المعاصي.

قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً . ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة خصلة من خصالهم السيئة و ضربا من غرورهم و ادعائهم أنهم من أبناء اللّه و أحبائه فلا بد و أن تكون مدة العقاب قليلة.

و قيل: إن أكثر اليهود على أن النار تمسهم سبعة أيام و قيل: أنها تمسهم أربعين يوما، و هي المدة التي عبدوا فيها العجل. و المس و اللمس بمعنى واحد، إلاّ أن الثاني أعم موردا من الأول، فيصح أن يقال: التمست الكتاب فلم أجده و لا يصح أن يقال: مسست الكتاب فلم أجده، قال تعالى: أَنّا لَمَسْنَا اَلسَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً [سورة الجن، الآية: 8] و لا يصح استعمال مسسنا السماء، لأن المنساق منه اللصوق و المقارنة الحقيقية بين الماس و الممسوس، و أكثر ما تستعمل مادة (م س س) في القرآن إنما هو في السوء و الضر و المكروه، و قد تستعمل في الخير أيضا، قال تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً

ص: 301

[سورة المعارج، الآية: 21].

و ربما تعترض غالب النفوس شبهة دوران مدة العقاب مدار مدة العصيان فإذا كانت مدة العصيان محدودة فلا بد و أن تكون الأولى أيضا محدودة فلا وجه للزيادة فضلا عن الخلود و الأبدية، و قد ذكرت هذه الشبهة في علم الفلسفة و الكلام و الحديث، و دفع عنه بأجوبة متعددة سيأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ . تقدم معنى العهد و هو حفظ الشيء و إحكامه و مراعاته حالا بعد حال، و العهد إما بين اللّه تعالى و بين خلقه و هو كثير و منه قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ [سورة يس، الآية: 60]. و كل ما بيّنه رسوله الباطني - و هو العقل - من حسن الإحسان و قبح الظلم، و جميع ما بيّنه أنبياؤه و رسله الظاهرية بواسطة الوحي السماوي يكون من عهود اللّه تبارك و تعالى على عباده. و إما ما بين العباد بعضهم مع بعض، و هي المعاملات التي يقوم بها النظام و جميع هذه الأقسام واجب الوفاء بها عقلا و شرعا.

و معنى الوجوب على اللّه تعالى حسن فعله و قبح نقضه، و كلما كان كذلك فهو واجب عليه قال تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ .

قوله تعالى: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ . مركب من مقدمتين واضحتين يعترف الخصم بإحديهما و تثبت في حقه الأخرى لا محالة أي: إن كان لكم في دعواكم عهد من اللّه تعالى فلن يخلف اللّه عهده و هم يعترفون بعدمه فينسبون إليه ما لم يقله.

قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ . أي: تقولون ما لا دليل لكم عليه، و هذه نتيجة واضحة لعدم إثبات عهد اللّه إليهم، فنفى اللّه تعالى عنهم العلم و المعلوم تنبيها على كمال غباوتهم و لا تختص هذه الآية بقوم دون آخرين بل تجري في كل من تمنى على اللّه أمرا غير مشروع و افترى عليه في ذلك.

ص: 302

قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً . بلى: كلمة تستعمل غالبا مع النفي فتزيله و يثبت نقيضه قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [سورة الأعراف، الآية: 172] فأثبتوا الربوبية فكانوا مسلمين - بخلاف نعم فإنه تقرير غالبا - و عليه لو قالوا: نعم لكانوا كافرين، و إذا قيل: ما عندي شيء فقال المخاطب بلى فهو رد لكلامه، و إذا قال: نعم فهو تقرير هذا مع عدم القرينة في البين و إلاّ فتتبع هي لا محالة.

فكلمة «بلى» في المقام رد لما زعموه أي: ليس الأمر كما ذكرتم بل تمسكم النار كما تمس غيركم و تخلدون فيها.

و مادة «كسب» استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فأضيفت تارة إلى القلب فقال تعالى: يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و الى الأيدي أخرى فقال جل شأنه: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [سورة الشورى، الآية: 30]، و إلى النفس ثالثة قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [سورة المدثر، الآية: 38] و المرجع في الجميع واحد لعدم الفرق بين النسبة إلى الذات أو الى اليد.

و أصل المادة تستعمل في طلب النفع، سواء كان واقعيا أم وهميا أم خياليا، و يعتبر الاستمرار فيه في الجملة، فلا يقال لمن اشترى شيئا لطلب النفع مرة: إنه كاسب إلاّ بالعناية. و هذا من إحدى عناياته تبارك و تعالى في ما استعملت فيه هذه الكلمة في القرآن الكريم فلم يرتب الحكم على صرف الوجود غالبا إلاّ في الشرك.

و السيئة الفعل القبيح و هي ضد الحسنة و تشمل جميع القبائح من الصغائر و الكبائر و الشرك، فإن أريد بها في المقام الشرك - كما عن جمع من المفسرين - يكون قوله تعالى: وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ بيانا للشرك الذي يكون خطيئة محيطة بالإنسان. و إن كان المراد بها مطلق السيئة فيكون المراد بالإحاطة اشتدادها حتّى يصير صاحبها من أهل الخلود في النّار.

قوله تعالى: وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . الإحاطة: الغلبة و الاستيلاء. و الخطيئة الحالة الخاصة الحاصلة

ص: 303

من مطلق الذنب الموجبة للخلود أو الشرك - أو ما يكون مثله - بقرينة الإحاطة و الخلود في النار. و ذكر الخطيئة دون السيئة إشارة إلى أن تكرر السيئة يوجب إحاطة الخطيئة و صدورها عنه و لو لم تكن عن التفات تفصيلي حينها بعد أن كان أصل السبب عن عمد و اختيار منه.

و دخول أصحاب الخطايا في النار و الخلود فيها كدخول الذين آمنوا و عملوا الصالحات في الجنّة و الخلود فيها مطابق للبراهين العقلية - كما يأتي - فإن من أحاطت به خطيئته يكون من الأشقياء و من كان كذلك فهو مخلد في النار، كما أن من آمن و عمل صالحا يكون من السعداء و كل من كان كذلك فهو مخلد في الجنّة.

ثم إن إحاطة الخطيئة بالإنسان تكون على أقسام: من أهمها الشرك و الكفر باللّه تعالى فإنهما يحيطان على القلب و الجوارح، قال تعالى: مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ [سورة المائدة، الآية: 72] و قال جلّ شأنه: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ [سورة مريم، الآية: 37] و منها متابعة الذنب للذنب بحيث تستولي السيئة على مجامع قلبه فتتبدل فطرته الأولية إلى فطرة أهل الجحيم و النار مع فرض عدم تخلل التوبة و الندم و ما يوجب الكفران في البين و قال تعالى: وَ ذَرِ اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا [سورة الأنعام، الآية: 70]

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من عبد إلاّ و في قلبه نكتة بيضاء فإذا أذنب ذنبا خرج في النكتة نكتة سوداء فإن تاب ذهب ذلك السواد و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطي البياض فإذا غطى البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا و هو قول اللّه عزّ و جل: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ . و منها الاستخفاف و الاستهانة بأوامر اللّه تعالى و نواهيه المؤدي إلى الاستهزاء بالدين قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الروم، الآية: 10] و غير ذلك من الأقسام التي يكون المناط فيها كله تبديل الذات المقتضية للسعادة إلى الشقاوة في مرتبة الاقتضاء فتتغير الذات من كثرة مزاولة السيئات و المعاصي، و عدم المبالاة بها، كما يصير الجبان بكثرة مزاولة الحروب شجاعا فمقتضيات

ص: 304

الذات تتغير بالملكات و هي تحصل بتكرر الأفعال.

و ما قيل: إنّ الذاتي لا يتغير و لا يتبدل (مردود) بأن ذلك في الذاتي المنطقي و ما هو لازم الماهية، لا الذاتي في العرف و الشرع اللازم للوجود لجهات خارجة عن الذات و الماهية، و يأتي تفصيل ذلك كله في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ . بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أصحاب النار ذكر هنا أصحاب الجنّة و هم الّذين آمنوا باللّه و اليوم الآخر و عملوا الصالحات و هذا من سنته تبارك و تعالى فإنه يقرن بين الترهيب و الترغيب و هو من بديع حكمته.

و هاتان الآيتان المباركتان تشبهان الآية السابقة و هي: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية: 62] في أن كلا منهما في مقام بيان أن الخلود في الجنّة و النار إنما هو للسعداء و الأشقياء دون مجرد التسمية بالأسماء. و الفرق أن الآيتين الأخيرتين في مقام بيان ترتب الخلود في الجنّة على السعداء و الخلود في النّار على الأشقياء و يلزم الأثر للتسمية، و الآيتين الأوليين في مقام بيان عدم الأثر للتسمية أولا فيلزمه الخلود في الجنّة للسعداء و الخلود في النّار للأشقياء.

بحث روائي:

في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا قال: «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتواطئين إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فنهى كبراؤهم عن ذلك، و قالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فيحاجوهم به عند ربهم؛ فنزلت الآية»، و قريب منه ما رواه القمي.

أقول: تقدم أنّ ذلك تحريف في ما أنزل اللّه و مكر و خديعة.

ص: 305

و عن القمي أيضا في قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً : «قال بنو إسرائيل: لن تمسنا النار، و لن نعذب إلاّ الأيام المعدودات التي عبدنا فيها العجل فرد اللّه عليهم».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في تفسير العسكري في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ قال (عليه السلام): «السيئة المحيطة به أن تخرجه عن جملة دين اللّه و تنزعه عن ولاية اللّه تعالى و تؤمنه من سخط اللّه و هي الشرك باللّه، و الكفر به، و بنبوة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و ولاية علي و خلفائه (عليهم السلام)، و كل واحدة من هذه سيئة تحيط به أي تحيط بأعماله فتبطلها و تمحقها».

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً : «إذا جحدوا ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»، و قريب منها ما رواه الشيخ بأسناده عن علي (عليه السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: في ذلك روايات مستفيضة بل متواترة و كلها من باب المصداق و التطبيق، و تشمل جميع الأعمال الباطلة لفقد شرط من شروطها.

ثم إن الأفعال الصادرة عن الإنسان إما مباشرية له فقط، أو تسبيبية منه، أو مركبة منهما، و الجميع إما من الحسنات و الخيرات أو من الشرور و السيئات، و لا ريب في أنه يجزي جزاء الحسنات على الأفعال الحسنة مطلقا، بل مقتضى قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [سورة الأنعام، الآية: 160] تضاعف الجزاء. و أما السيئات فإن كانت فعلا مباشريا فيعاقب عليها ما لم تمح بالتوبة بشروطها. و أما إذا كانت الأفعال تسبيبية منه،

فقد قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما تواتر عنه: «من سنّ سنّة حسنة فله أجر من عمل بها و من سنّ سنّة سيئة فعليه وزر من عمل بها»، و تشهد لذلك الأدلة العقلية و تحريف كلام اللّه تعالى و آياته و تغيير السنّة المقدسة النبوية هو من القسم الأخير.

ص: 306

بحث فقهي:

قد استدل بالآية المباركة: لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمّا يَكْسِبُونَ على حرمة أخذ الأجرة على تدوين المصحف الشريف و حرمة بيعه، و أصل المسألة مذكورة في الكتب الفقهية، و قد استدلوا على الحرمة أيضا بأدلة أخرى لكنها قاصرة عن إثباتها فمقتضى الأصول و الأدلة و القواعد الجواز إلاّ أن يدل دليل معتبر بالخصوص على الحرمة و قد ذكرنا التفصيل في الفقه و من أراد المزيد فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ قُ

اشارة

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أحوال بني إسرائيل و ما أنعم عليهم بأنواع النعم و ما ظهر فيهم من المعجزات الباهرات شرع في تعداد ما أخذ عليهم من العهود و المواثيق و هي أمور عقلية نظامية تنظم شؤونهم الفردية و الاجتماعية الدنيوية و الأخروية، و يترتب على مخالفتها و الاستخفاف بها الأحكام الوضعية و التكليفية. و إنما كرر جل شأنه ميثاق بني إسرائيل لأنهم أول من قامت فيهم الحركة الدينية و لعلهم يشكرون هذه النعمة، و يدينون بما جاء به النبي (صلّى اللّه عليه و آله) تعظيما لشأنه (صلّى اللّه عليه و آله) و اهتماما باتباعه و تسلية له

اشارة

ص: 307

لئلا يتأثر من لجاجهم و انكارهم، فإنهم جبلوا على ذلك.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ . الأخذ: الاستيلاء و التحصيل و الحيازة، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات كثيرة جدا بالنسبة إليه تعالى و إلى خلقه، و كذا في السنة المقدسة

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤدي». و تقدم معنى الميثاق و هو العهد المؤكد و العقد المستحكم. و الموثوق به في الآيات المباركة أمور كلها مما يستقل العقل بحسنها، و اجتمعت الشرايع السماوية عليها.

و المعنى: اذكر ايها الرسول ما أخذناه من المواثيق عليهم، و قد بيّن سبحانه و تعالى هذه المواثيق بما يأتي.

قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اَللّهَ . جملة خبرية في مقام الإنشاء و هذا أبلغ في الطلب و آكد أي: اعبدوا اللّه وحده لا شريك له، كما قال تعالى:

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 36] و هو غاية كمال العقل و أولى درجة الرقي إلى المقامات العالية التي لا حد لها و لا نهاية.

قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً . أي أمرناهم بالإحسان إلى الوالدين، و هو حكم حسن يحكم به ذوو العقول لو لم يحكم بحسنه كل ذي شعور؛ و قد قرن سبحانه و تعالى الوالدين بالتوحيد في هذه الآية المباركة، و في جملة من الآيات قال تعالى: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [سورة الأنعام، الآية: 151]، و قال جلّ شأنه: وَ قَضى رَبُّكَ أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاّ إِيّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [سورة الإسراء، الآية: 23]. و ذلك، لأن النشأة الأولى أو الخلق و إن كان من اللّه تعالى و لكن دوام بقاء عالم الإنسانية بالوالدين، كما أن منشأ التربية الحقيقية من اللّه تعالى، لأنه الرب على الإطلاق و جميع ما سواه مربوب له، ثم بعد ذلك في النظام الأحسن تكون التربية من جهة الوالدين، و لذا قرن الشكر لهما

ص: 308

بشكره تعالى فقال جل شأنه أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14].

و التربية تارة: تكون جسمانية و هي التي يقوم بها الوالدان، و يتم بقاء النوع الإنساني بها. و اخرى: تربية معنوية و هي التي بها تقوم الحياة الأبدية، و يقوم بها الأنبياء و الأولياء و العلماء، و لا ريب في أفضلية الثانية من الأولى و اهميتها.

و إنما اطلق تعالى الإحسان إلى الوالدين، لأنه مما يختلف باختلاف الاعصار و الأمصار و الحالات كما هو معلوم، و يتم الإحسان إليهما بمعاشرتهما بالمعروف، و رعايتهما، و امتثال أوامرهما و التواضع لهما.

و كيف كان فأفعال الإنسان بالنسبة إليهما على أقسام ثلاثة: الأول ما أدرك أنه حسن، و الثاني ما أدرك أنه سيئ، و الثالث ما تردد في انه من الحسن أو السيئ، و يصح الأول بالنسبة إلى الوالدين، و لا يجوز الثاني، و في الأخير تفصيل يطلب من الفقه.

قوله تعالى: وَ ذِي اَلْقُرْبى . القربى هي القرابة أي: امرناهم بالإحسان إلى القرابة و هو مما تحكم به الفطرة أيضا، لأن بحفظ القرابة يتحقق نظام الأسرة، و الاجتماع الذي هو من أهم مقاصد النوع الإنساني فالإحسان إليها يقوي أواصر تلك القرابة و يصلحها.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ . اليتم هو الانفراد و منه قولهم درة يتيمة،

و قول الصادق (عليه السلام): «و اللّه نحن اليتامى» و اليتيم في الإنسان من فقد الأب، و في البهايم من فقد الأم، و في الطيور فيهما. و تقدم معنى المسكين و هو من أسكنته الحاجة، و أطلق سبحانه و تعالى الإحسان إليهم، لما مر آنفا في الإحسان الى الوالدين، و سيأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً . التفات في الكلام و عدول في الخطاب لأهمية المورد بعد أن أمر سبحانه و تعالى بالإحسان الى أفراد مخصوصين - و هم الوالدان و الأقربون، و اليتامى و المساكين - أكد ذلك بحسن

ص: 309

المعاشرة و القول الجميل و كل ما هو حسن للناس و لا بد من تقييد ذلك بأدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و هو اجمع كلمة لحفظ النظام، و احسن ما يجلب به قلوب الأنام،

فعن أبي جعفر (عليه السلام): «قولوا للنّاس أحسن ما تحبون أن يقال فيكم» و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق به أيضا.

و هذه المواثيق لم تكن تختص بطائفة خاصة بل هي أمور فطرية حكم بحسنها العقل و حث عليها الشرع، فلو عمل بها النّاس لعمت الإلفة و زالت البغضاء و التنافر بينهم، و انقاد الكل للكل، و اضمحل العدوان بين أفراد الإنسان، و بلغ المجتمع الإنساني إلى ذروة المجد و الشرف، و لكنهم عمدوا إلى الشقاق و النفاق فتولوا عن الحق إعراضا فصاروا لما لا يتوقعون أغراضا.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ . بيّن سبحانه و تعالى معنى العبادة التي تقدمت في صدر الآية المباركة ليبطل جل شأنه افتعال المفتعلين لأن العبادة لا بد أن تستند بجميع خصوصياتها إلى الشارع. و الإقامة - كما تقدم - المواظبة على إتيان الصّلاة تامة الأجزاء و جامعة للشرائط، و هي أقوى صلة بين اللّه تعالى و عباده، و من أهم السبل في إصلاح النفس، لما تشتمل على الإخلاص للّه تعالى، و الخشوع لعظمته. كما أن الزكاة أقوى صلة بين الأغنياء و الفقراء ثم بينهم و بين اللّه تعالى، ففيها إصلاح المجتمع. و الزكاة أيضا من الأمور العبادية فلا بد أن تستند خصوصياتها إلى الشرع، و إن كان مطلق الصدقة محبوب بالفطرة لدى الأمم.

قوله تعالى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ . بيان لما وقع منهم من عدم الوفاء بالميثاق و معارضتهم له بالنفاق. و التولي هو الإعراض و المعروف انه إذا عدّي بنفسه يكون بمعنى الولاية و المحبة و الإقبال و إذا عدّي بعن كان بمعنى الإعراض و الإدبار، و القرينة في المقام على الثاني: «وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» . و غالبا ما استعمل لفظ التولي في القرآن الكريم إلاّ و عقّب بالإعراض مبالغة في الترك و التولي، و قد كان لتوليهم مظاهر مختلفة ذكر سبحانه و تعالى جملة منها في الآيات المتقدمة و سيأتي في الآيات اللاحقة بعضها الآخر.

ص: 310

و المراد بالمستثنى في قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً بعض اليهود الذين أقاموا على دينهم، و هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في حكايته عن الشيطان فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية:

83]

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «العالمون هالكون إلاّ العاملين، و العاملون هالكون إلاّ المخلصين، و المخلصون على خطر».

ثم إنّ التوجه إلى شيء يلازم الإعراض عما يضاده و ينافيه، فهما من الصّفات ذات الإضافة بينهما التلازم شدة و ضعفا، أو كمالا و نقصا فمن توجه إلى شيء من حيث هو مع قطع النظر عن أنه صنع اللّه تعالى و مظاهر آياته و مورد قضائه و رضائه، فقد أعرض عن اللّه تعالى بقدر ما توجه اليه، و أما إذا كان توجهه اليه من حيث انه مورد رضائه و طلبه لا يعد ذلك إعراضا عنه تعالى، بل توجها إليه تعالى، و هما يتحققان بالقلب، إذ لا يمكن أن يتحقق التوجه إليه تعالى بالجسم لما ثبت في الفلسفة من امتناع الجهة بالنسبة إليه عزّ و جل، قال تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 115]، و قال جلّ شأنه: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]. و الإعراض القلبي عنه عزّ و جل يكون إما بعدم الإعتقاد به، أو عدم سماع أحكامه، أو عدم العمل بها بعد الاستماع، أو الاستهزاء بآياته، أو التولي عن أنبيائه و رسله و القائمين مقامهم في التشريع.

و في الأخير يتحقق الإعراض القلبي و الجسماني معا، و يأتي التفصيل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و قد نسب إلى جمع من المفسرين أن هذه الآية المباركة منسوخة و اختلفوا في تعيين الناسخ، فقد ذهب جمع إلى أن قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً منسوخ بآية السيف، و هي قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [سورة التوبة، الآية: 29] و هو منسوب إلى ابن عباس و قيل غير ذلك.

و الحق أن الآية المباركة في مقام بيان أصل القانون و تشريع الحكم،

ص: 311

و ذكرنا أن مضمونها أحكام فطرية حكم بحسنها العقل إلاّ أن لها قيودا مذكورة في الكتاب، فليست الآية منسوخة و إلاّ لعمّ النسخ كل تقييد لمطلق، أو خاص لعام، و الحديث الوارد في المقام عن الصادق (عليه السلام) كما سيأتي محمول على ما ذكرناه إن تم اعتباره.

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ . ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة جملة من المنهيات التي أخذ العهد من بني إسرائيل باجتنابها، كما ذكر في سابقها مما أمروا بها. و السفك و الصب و الإهراق بمعنى واحد. و النفس - بالسكون - بمعنى الروح، و هما شيء واحد و إن اختلفا مفهوما، و هي اشرف ما في الإنسان و قد تحيرت العقول فيها و لم تزل مورد بحث العلماء و اجتهادهم، و غاية ما وصل العلم فيها مع بذل الجهود الجبارة أنها مبدأ الحياة و الحركة، و لكنهم لم يقدروا أن يتوصلوا إلى الحقيقة، بل كلما ازداد الجهد فيها في تعاقب القرون ازداد الإنسان بعدا عنها و ازدادت غموضا، و لذا قالوا:

إنّ قوله (عليه السلام): «من عرف نفسه فقد عرف ربه» من التعليق على المحال إن لوحظ بالنسبة إلى الحقيقة، و أما إذا لوحظ باعتبار الآثار فهو متيسر بحسب مراتب الإدراكات و الاستعدادات و النفس - بالفتح - الهواء الداخل في البدن و الخارج منه و به قوام الحياة و تأتي بمعنى الفرج، و منه

ما نسب إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إني أجد نفس الرحمن من اليمن».

و في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ التفات إلى الحاضرين ترغيبا لهم إلى الإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) الذي يبين ما أخذ عليهم من المواثيق.

و الديار جمع الدار، سميت به لدورها على ساكنها و هي من الأمور التشكيكية الإضافية، فالدنيا مع سعتها دار الفناء، و الآخرة مع عدم انتهائها دار البقاء، و دار المسكين التي لا تسع مدّ رجليه دار أيضا. و الدّيار - بالتشديد - من سكن الدار.

و المعنى: و إذ أخذنا منكم العهد أن لا يسفك بعضكم دم بعض و لا

ص: 312

يخرج بعضكم بعضا من ديارهم بغير الحق مباشريا كان أو بالتسبيب و كل منهما من القبائح العقلية، و لذا اعترفوا و شهدوا بذلك.

و إنّما عبّر سبحانه بالنفس و جعل غير الشخص كأنه نفسه مبالغة في النهي، و تأكيدا في الترك و لأنهم أمّة واحدة بينهم روابط القرابة و المصلحة و الدين، فما يصيب واحدا منهم كأنما يصيب الأمة، و أراد سبحانه و تعالى بذلك تعليم حفظ الوحدة بين الأفراد مهما أمكنهم كقوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ [سورة النور، الآية: 61].

قوله تعالى: ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ . الإقرار هو الإخبار الجازم بما هو لازم. و الشهادة من الشهود و هو الحضور الذي لا شك فيه. و المعنى انكم أقررتم بالميثاق و العهد؛ و تشهدون بما فعلتم به من الهتك و النقض.

قوله تعالى: ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ . إخبار عن نقضهم للعهد، و الخطاب إلى يهود عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و بيان لما نقضوه من سفك الدم و إخراج صاحب الدار من داره، و فيه إشارة إلى ما كان بين اليهود في عصر النبي من التنافر و التعاند و القتل و الأسر و العدوان و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

قوله تعالى: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ . التظاهر التعاون، و هو مشتق من الظهر بمعنى المعين، قال تعالى: وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88]. و الإثم و الوزر و المعصية بمعنى واحد.

و العدوان التجاوز عن الحد، و في المقام هو الإفراط في الظلم. أي أنه كان منكم من يعاون الظالم على إخوانه من اليهود بالإثم و العدوان أي القتل و الأسر و الإخراج من الديار.

قوله تعالى: وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ . أسارى جمع أسير، و هو كل مأخوذ قهرا. و قد يطلق الأسارى على من في الوثاق، و الأسرى على من في اليد بلا وثاق و تفادوهم من الفداء و هو طلب الفدية. و المعنى أنه يفدي كل فريق من اليهود أسرى أهل ملته و إن كان من أعدائه، ثم يعتذرون عن ذلك بأن دينهم أمرهم بفداء الأسرى من

ص: 313

بني إسرائيل. و ليس ذلك إلاّ من الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى، و الإيمان ببعض الكتاب و الكفر بالبعض الآخر، فانه لو كان كذلك فلم يقتل بعضكم بعضا و يخرج بعضكم الآخر من دياره و هو محرّم عليهم في دينهم، و قد نهاهم اللّه تعالى عن ذلك كما ذكره تعالى.

قوله تعالى: أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ . توبيخ و تأنيب أي: أنّكم إذا كنتم مؤمنين فما بالكم تؤمنون ببعض الكتاب و هو فداء الأسرى، و تكفرون ببعض و هو حرمة القتل، و إخراج اهل الديار من ديارهم.

و فداء الأسير حسن لا ريب في محبوبيته بشرط أن لا يكون الفادي هو السبب في أسره، و إلاّ كان تبعيضا في الإيمان، و كفرا بأحكام اللّه، و لذا توعّد سبحانه على من كان كذلك بالخزي في الدنيا و العذاب الشديد في الآخرة. و التعبير بالكفر إشارة إلى استهزائهم بحكم اللّه و جحودهم له، و إلاّ فإن مجرد ترك العمل ببعض الأحكام لا يوجب الكفر و إن أوجب الفسق.

قوله تعالى: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ اَلْعَذابِ . الخزي هو العذاب و الهوان. قال تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [سورة آل عمران، الآية:

192] و التعبير بالرد إشارة إلى أن مسيرهم في المبدأ و المنتهى واحد، من العذاب إلى العذاب.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . لا تخفى عليه خافية فقد أعد لكل عمل جزاءه، و قد تقدم معنى ذلك، و فيه زجر شديد لهم، و في مثل هذه الآيات تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عمّا كان يلقاه من اليهود، و ارشاد لأمته إلى نبذ ما فعله اليهود و إلاّ أصابهم ما أصاب اليهود.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ . بيان لقبح أفعالهم، و قبحهم في تبديل الحياة الأبدية الشريفة بالحياة الزائلة الخسيسة بتركهم أحكام اللّه تعالى، و استهزائهم بآياته و فسقهم، و مثل هذا التبديل مما حكم العقل بقبحه، و أجمعت الشرايع الإلهية على التنديد به، قال تعالى في شأن الآخرة: وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ [سورة العنكبوت، الآية:

ص: 314

64]، و قال جل شأنه في الدنيا: أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ [سورة الحديد، الآية: 20]، و قال تعالى: فَما مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ [سورة التوبة، الآية: 38] و قد وردت أخبار كثيرة عن المعصومين (عليهم السلام) في ذم الدنيا و طالبها و الترغيب إلى الآخرة،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما اشتهر عنه: «الدنيا ميتة و طالبها كلاب» إلى غير ذلك من الأخبار التي يصعب ضبطها.

إن قيل: إنه كيف تكون الدنيا كذلك و أنها مزرعة الآخرة و لولاها لم تتحقق الجنان العالية و لا الوجوه الناضرة. (يقال): إذا لوحظت الدنيا من حيث نفسها فهي قبيحة مذمومة. و إذا لوحظت من حيث وقوعها في طريق الآخرة بما ارتضاه اللّه تعالى فهي ممدوحة بل هي من بعض مظاهر الآخرة ظهرت في هذا العالم لمصالح كثيرة على ما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . الخفيف معروف، و هو من المعاني الإضافية فربما يكون شيء واحد خفيفا من جهة و ثقيلا من جهة أخرى،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «قول لا إله إلاّ اللّه خفيف على اللسان ثقيل في الميزان». و هو في المقام بمعنى التسهيل،

كقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من استخف بصلاته فلا يرد عليّ الحوض» أي تساهل فيها. و يستعمل في القرآن غالبا مقرونا بالخلود، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 88] و يمكن أن يستفاد الخلود في المقام من قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لأنهم بأعمالهم قد سدوا على أنفسهم أبواب رحمته تعالى فلا ينصرهم ناصر، فيكون عدم النصر مساوقا للخلود في النار، و تقتضيه مناسبة الحكم و الموضوع أيضا.

و ذكر كلمة الفاء في قوله تعالى فَلا يُخَفَّفُ قرينة على أن مدخولها مترتب على أفعالهم من باب ترتب المعلول على علته، كما في قول القائل تحركت اليد فتحرك المفتاح.

ص: 315

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال: «أن تحسن صحبتهما، و أن لا تكلفهما أن يسألاك شيئا مما يحتاجان إليه و إن كانا مستغنيين».

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً : «قولوا للناس حسنا، و لا تقولوا إلا خيرا حتى تعلموا ما هو».

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) «قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم، فإن اللّه يبغض اللّعان السبّاب الطعّان على المؤمنين، المتفحش، السائل الملحف، و يحب الحليم الحيي العفيف المتعفف». و مثله ما رواه في الكافي و المعاني:

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً : «نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله عزّ و جل: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ الآية.

و عن العياشي عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «إن اللّه بعث محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) بخمسة أسياف: فسيف على أهل الذمة، قال اللّه تعالى: قُولُوا لِلنّاسِ حُسْناً نزلت في أهل الذمة، ثم نسختها أخرى قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ الآية».

أقول: المراد من النسخ في المقام ليس المعنى المصطلح فيه كما يأتي في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها [سورة البقرة، الآية: 106] بل المراد التقييد و التخصيص، كما يقيد بقوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 194]، و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40].

و في تفسير العسكري في قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ

ص: 316

«أقيموا الصّلاة بتمام ركوعها و سجودها، و مواقيتها، و أداء حقوقها. و آتوا الزكاة من المال، و الجاه، و قوة البدن».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في أول سورة البقرة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في وجوه الكفر في القرآن قال: «الرابع من الكفر: ترك ما أمر اللّه، و هو قول اللّه عزّ و جل: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ - الى قوله تعالى - أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ اَلْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فكفّرهم بترك ما أمر اللّه، و نسبهم إلى الإيمان و لم يقبله منهم و لم ينفعهم عنده، فقال عزّ و جل: فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاّ خِزْيٌ - الآية -».

أقول: ترك ما أمر اللّه تعالى له مراتب: مجرد الترك مع الإعتقاد به واقعا، و الترك مع عدم الإعتقاد، و الترك مع الاستهزاء، و الأخيران يوجبان الكفر، و الأول موجب للفسق كما فصلنا ذلك في الفقه فراجع كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

بحث دلالي:

هذه الآيات المباركة و غيرها من الآيات الواردة في القرآن الكريم في قصص بني إسرائيل و أحوالهم كلها تشير إلى وحدتهم و ترابطهم حتّى كأن الكلام عن الأبناء و الآباء واحد فيهم، و أن اللاحق نفس السابق في العمل، فاعتبر القرآن أنّ جزاء الجميع واحد و إن كان العمل صادرا عن بعضهم، و ليس ذلك إلاّ لأجل وجود الترابط الوثيق بين أفراد اليهود فلهم وحدتهم في الدين و النسب و الاجتماع و غيرها حتّى ليعدّ الفرد اليهودي عنوانا مشيرا إلى أمته، و له من الأخلاق و العادات ما لغيره من اليهود، فقد اتفقت طباعهم و اتحدت نفوسهم و قلّما تكون هذه الظاهرة الاجتماعية في الأمم و الجماعات.

فكان خطاب القرآن مع اليهود في عصر التنزيل كالخطاب مع اليهود في غير عصرهم.

و لعل السر في إصرار القرآن على استعمال هذا الأسلوب من الخطاب

ص: 317

هو اعتبار هذه الأمة من أحوال الماضين، فإن اللّه تعالى لم يذكر لنا أحوالهم إلاّ للاعتبار بها، أو لأجل بيان أن سنة اللّه تعالى في الاجتماع الإنساني أن تكون متكافلة متعاونة يسعى كل فرد في إسعاد أمته، و يعتبر سعادته بسعادتها، و في ذلك آيات و روايات كثيرة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ

اشارة

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اِشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) من أهم العهود و المواثيق الإنسانية مع اللّه تبارك و تعالى إرشاده إلى المعارف الإلهية التي فيها الكمال الإنساني و لم يتمكن البشر أن يبلغ ذلك إلاّ بمرشدين من قبله تعالى و هم الرسل و الأنبياء بما أنزل عليهم من الكتب و الأحكام. و قد جرت سنته تبارك و تعالى أن يرسل الرسل بعضهم إثر بعض لئلا ينسى الإنسان ما عهد إليه ربه و لا يكون في حيرة و ضلالة. و مما أنعم تعالى على بني إسرائيل أن أرسل إليهم عددا من الرسل لينبئوهم بما عهد إليهم ربهم و يجددوا المواثيق عليهم، فلم يكن منهم إلاّ الإصرار على الكفر و العصيان ذلك لأنهم اتبعوا الشهوات فقست قلوبهم، فاستحقوا اللعن و العذاب الأليم بما كانوا يفعلون.

اشارة

ص: 318

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ . المراد من الكتاب هو التوراة الكتاب المقدس أول الكتب السماوية. و التقفية هي الارداف و المتابعة كلفظ تترى، قال تعالى: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا [سورة المؤمنون، الآية: 44] أي متتابعا. و المعنى: لقد أرسلنا موسى و أعطيناه التوراة ثم أتبعنا بعد موته رسلا على شريعته يجددون العهد يأمرون و ينهون. و عن جمع إن عدد الرسل بين موسى و عيسى اربعة آلاف. و عن آخرين إنهم سبعين ألفا، منهم من ذكرت أسماؤهم في القرآن مثل داود و سليمان. و يونس و الياس و اليسع و ذي الكفل و يحيى. و زكريا (عليهم السلام). و منهم من لم تذكر أسماؤهم منهم يوشع صاحب دعاء السمات المعروف عندنا.

و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «إذا دعوتم اللّه بالأنبياء المستعلنين فادعوه بالأنبياء المستخفين».

قوله تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ . البينات: الحجج القيّمة، و البراهين الواضحة، فتشمل الإنجيل و جميع معجزات عيسى (عليه السلام) و هي التي ذكرها اللّه تعالى في سورتي آل عمران و المائدة.

و عيسى بالسريانية أيشوع - بتقديم الهمزة ثم الياء و الشين المعجمة - و معناه السيد أو المبارك، و هو من الأنبياء اولي العزم و صاحب الكتاب المقدس، و شريعته ناسخة لكثير من شريعة موسى (عليه السلام) مصدق للتوراة، و مبشر برسالة احمد (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ [سورة الصف، الآية: 6] و لهذا خصه اللّه تعالى بالذكر في المقام بعد موسى (عليه السلام).

قوله تعالى: وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ . التأييد: التقوية و الإعانة.

و القدس - بضم الدال أو سكونه - الطهارة و التطهير عن كل ما يوجب النقص، و يأتي بمعنى الكمال الأتم، و بهذا المعنى يكون من أسمائه الحسنى. فيقال

ص: 319

«يا قدوس». و روح القدس هو جبرائيل الذي ينزل على الأنبياء (عليهم السلام) و منه يستمدون العلوم النازلة من اللّه تعالى على البشر، فتطهر النفوس المستعدة عن أدناس الرذائل و تبلغ إلى ما أعدت لهم من درجات الفضائل.

و تأييد عيسى (عليه السلام) بروح القدس كان من أول حمل امه به إلى أن رفع إلى السماء كما يأتي بعد ذلك. هذا و لكن يظهر من جملة من الأخبار أن روح القدس غير جبرائيل، و هو مع الأنبياء و الأوصياء (عليهم السلام) يستمدون منه و أما بالنسبة إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو بدء سلسلة النزول و ختم سلسلة الصعود، فمقتضى

المستفيضة عنه (صلّى اللّه عليه و آله) «أول ما خلق اللّه روحي [أو نوري]» أن يكون جبرئيل يخدمه لا أن يكون مؤيّدا بجبرئيل، و في المقام تفصيل نتعرض له في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اِسْتَكْبَرْتُمْ .

الهوى: الميل إلى الشيء، سمي بذلك لأنه يهوي بصاحبه الى النار إذ يستعمل غالبا في الشر و فيما ليس بحق. و المعنى: أنكم تتبعون أهواءكم حتّى في اتباع رسل اللّه، فمن كان منهم موافقا لهواكم تتبعونه، و تخالفون من لا يكون كذلك.

قوله تعالى: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ . أي أنكم كذبتم فريقا من الرسل، كعيسى (عليه السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و تقتلون فريقا آخر منهم كيحيى و زكريا (عليهما السلام) و غيرهما. و من إيراد الفعل بالمضارع يستفاد استمرارهم على هذا الفعل الشنيع فصار العناد و الجحود سجية لهم.

قوله تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ . الغلف - بسكون اللام - جمع الأغلف - و بضمه - جمع غلاف - كحمر و حمار - بمعنى الغطاء. و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في موردين: أحدهما هنا، و الآخر في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها [سورة النساء، الآية: 155] و كلاهما ورد في شأن اليهود و في مقام ذمهم و الطعن فيهم و المراد به على التقديرين أنهم قالوا قلوبنا مملوءة من علم التوراة فلا نحتاج

ص: 320

إلى شريعة جديدة، أو أن قلوبنا في حجاب و غلاف لا نفهم ما جاء به الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، كما قال تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [سورة فصلت، الآية: 5] استخفافا بما أنزله اللّه تعالى و غرورا بما عندهم. و المعنيان متلازمان كما لا يخفى، و هذا القول - كسائر أقوالهم و أفعالهم القبيحة - من مظاهر استكبارهم. و لا يختص ذلك باليهود بل يصدر من كل من يزعم كمالا لنفسه - و هو فاقد له - فيغتر بما عنده، و قد ردّ اللّه عليهم، و أبطل مزاعمهم.

قوله تعالى: بَلْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ . اللعن: الطرد و المعنى إن سبب نفورهم عن الإيمان ليس ما قالوه بل هو كفرهم و عنادهم كما جبلت عليه نفوسهم مما أوجب طردهم و بعدهم عن كل خير، و منه الإسلام.

قوله تعالى: فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ . قليلا صفة للمصدر أي: إيمانا قليلا، و التنوين فيه للتنكير، و «ما» نكرة تفيد تأكيد الإبهام أو زيادته أي:

يؤمنون ايمانا قليلا يكون بحكم العدم من حيث الكمية و الكيفية. و يستفاد منه أنه لما كان سبب لعنهم و طردهم عن رحمته تعالى هو كفرهم و لجاجهم و عنادهم المنطبعة عليه نفوسهم فهم قوم قد كتب عليهم الشقاء فلا يرجى منهم خير، و لا يؤمل منهم ايمان إلاّ إذا أدركته بركة التوفيق منه عزّ و جل فيفيء الى فطرته، فيؤمن، و إن كان ذلك قليلا جدا.

قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ . بيّن سبحانه و تعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاق بني إسرائيل، و هي من مظاهر استكبارهم و بغيهم، أي لما جاءهم القرآن بما فيه من الدلائل على أنه من عند اللّه تعالى مصدق لما معهم من التوراة المشتملة على التوحيد و المعارف الإلهية، المبشرة بالقرآن و رسالة محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا . الاستفتاح الإستنصار،

و منه الحديث كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «يستفتح بصعاليك المهاجرين» أي يستنصر بهم

كما ورد في حديث آخر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنه قال: «إنما نصر اللّه هذه الأمة

ص: 321

بضعفائها بدعوتهم و صلاتهم و إخلاصهم» و المعنى: يستنصرون بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و شريعته على المشركين، و يأملون لأن يستظهروا به على من سواهم من المشركين.

ص: 322

و يختلف باختلاف المتعلق. و يستعمل في الخير و الشر. و في مورد الإطلاق ينصرف إلى الشر، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ [سورة البقرة، الآية: 198]، و قال جلّ شأنه: وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة الشورى، الآية: 42] و من مفهومه يستفاد البغي بالحق،

و في الحديث: «إن اللّه يحب بغاة العلم» أي طلاب العلم و رواده.

و في الحديث أيضا: «أبغوني الضعيف فإنكم إنما ترزقون و تنصرون بضعفائكم».

و جملة «أَنْ يُنَزِّلَ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ» في موضع نصب بيان للبغي أي: أن سبب كفرهم إنما هو البغي الذي جبلت عليه نفوسهم، و كانت له أسباب متعددة منها كراهة أن ينزل اللّه تعالى من فضله على من يشاء من عباده، و قد حملهم الحسد على أن يحتفظوا لأنفسهم الحركة الدينية، و القول بأنهم شعب اللّه المختار بأن لا يعترفوا بنبي في غير ملتهم و حسدهم هذا و كفرهم نظير كفر إبليس باللّه تعالى، و حسده على آدم (عليه السلام) فهو الذي شيد أساس الكفر و الجحود، و تبعه اليهود فالحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة.

قوله تعالى: فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ . تقدم ما يتعلق به. و المراد انهم رجعوا إلى غضب على غضب بتكرار المعاصي منهم و ان كل سوء اعتقادي يصدر من الإنسان ثم يصدر منه سوء آخر كذلك فهو من الغضب على الغضب، فلا وجه لجعل الغضب الأول هو الذي استوجبوه بالكفر بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و الغضب الثاني هو الذي لحقهم من عبادة العجل، أو غضب اللّه عليهم من أجل الكفر مع المعرفة و غضبه الآخر من أجل حسدهم و عنادهم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) أو غير ذلك من الوجوه التي ذكرها المفسرون، بل يشمل جميع المخالفات الإلهية المتكررة التي توجب الغضب المستمر عليهم، و لذلك مصاديق مختلفة فإن كل من يختار دينا باطلا ثم يتركه و يدخل في دين باطل آخر، أو من يرتكب مخرما تكليفيا ثم يعقبه بمحرم تكليفي آخر يختلف مع الأول في النوع، أو يرتكب محرما تكليفيا آخر متفق مع الأول في النوع من الكبائر، أو كان من الصغائر من دون أن يتخلل بين ارتكاب المحرمات تكفير و توبة، فجميع هذه الصور تكون داخلة في هذه الآية

ص: 323

المباركة، و إن الفاعل يستوجب غضبا على غضب على حسب مراتب الذنب كبيرة أو صغيرة.

قوله تعالى: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ . الهوان بمعنى الذلة و هو إما ممدوح عند الخالق و المخلوق، و ذلك في ما إذا طرح الإنسان عن نفسه جميع أنحاء الأنانية و التكبر كما قال تعالى: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً [سورة الفرقان، الآية: 63] و هو من الخلق الكريم، و الروايات في مدحه متواترة، و يكفي في حسنه سيرة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام)

و قد روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله) : «المؤمن هيّن ليّن».

و إما مذموم و هو ما إذا حصل عن استخفاف الغير للإنسان و استذلاله له في غير ما اذن فيه الشرع، و لا ريب في أنه مرجوح بل حرام، و أما إذا كان بإذن منه ففيه تفصيلات مذكورة في الفقه.

و المراد به في المقام ذلك الذل و الإهانة الحاصلان للإنسان من ارتكابه المعاصي و المحرمات الإلهية، و الكفر الموجب لخلوده في النار. و في جعل الظاهر موضع المضمر - فلم يقل: و لهم عذاب مهين - إشارة إلى بيان التعليل في خلودهم في النار و هو الكفر.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا . ذكر سبحانه و تعالى مظهرا آخر من مظاهر استكبارهم و غرورهم، و قد سبق أن قالوا: قُلُوبُنا غُلْفٌ لم نفهم الإيمان، و لا نعقل ما يدعو إليه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و هنا ذكر تعالى اعتذارا آخر منهم و الرد عليهم.

أي: إذا قيل لليهود آمنوا بالقرآن الذي أنزله اللّه على رسوله الكريم (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا بغيا و استكبارا: نؤمن بالذي أنزل علينا من التوراة و لا نؤمن بغيرها، و في قوله تعالى: آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اَللّهُ إشارة إلى أن المناط هو الإيمان بالذي أنزله اللّه تعالى سواء كان على موسى (عليه السلام) أو محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ الأنبياء إنما هم مبلغون عن اللّه تعالى. و فيه رد لمزاعم اليهود و غيرهم من أن الإيمان لا بد و أن يكون بالذي أنزل على نبي

ص: 324

معين، كما أن فيه إيماء إلى أن الإيمان بجميع الرسل و الأنبياء أخذ بنحو الوحدة فمن لم يؤمن بواحد منهم فكأنه لم يؤمن بالجميع، و يدل على ذلك قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية:

136].

قوله تعالى: وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ اَلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ . مادة (وري) تأتي بمعنى الستر في الجملة سواء دلت عليه بالمطابقة كقوله تعالى: حَتّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [سورة ص، الآية: 32]، و قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ [سورة الأعراف، الآية: 26]، أو بالالتزام كما في المقام، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم منها الخلف و الأمام و غيرهما. و الجامع القريب بين تلك الاستعمالات ما ذكرناه.

فما عن بعض اللغويين من أنها من الأضداد تستعمل في الخلف و الأمام خلط بين المفهوم و المصداق، و كم لهم من هذا النحو من الاخلاط في اللغة كما لا يخفى.

و المعنى: إنهم يكفرون بما عدا ما أنزل عليهم من القرآن و هو الحق الذي لا ريب فيه جاء مصدقا لما معهم. و فيه من الإشارة إلى سفاهتهم و خبطهم في دعواهم ما لا يخفى، فإنهم لو كانوا مؤمنين بما أنزل عليهم لاستلزم الإيمان بالقرآن، لأن التوراة تشتمل على البشارة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و ما أنزل عليه، و أن القرآن مصدق للتوراة في كثير من الأحكام، و أنّهم إذا كانوا مؤمنين كذلك فلما ذا يقتلون أنبياء اللّه تعالى؟! مع أن التوراة تعظّم شأنهم، و تنهى عن مطلق القتل فضلا عن قتل الأنبياء، فإيمانهم بما أنزل عليهم و الكفر بما سواه إن هو إلاّ تناقض في القول و الاعتقاد و اتباع الشهوات.

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إلزام لهم بالحجة أي: انكم تتبعون الشهوات و الأهواء، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم، فإنهم لم يدعوكم إلاّ إلى الإيمان و العمل الصالح، و نهوكم عن القتل مطلقا.

ص: 325

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . إلزام لهم بالحجة أي: انكم تتبعون الشهوات و الأهواء، لأنه إذا كنتم صادقين في إيمانكم بما أنزل على الأنبياء فلما ذا تقتلونهم، فإنهم لم يدعوكم إلاّ إلى الإيمان و العمل الصالح، و نهوكم عن القتل مطلقا.

و في إسناد القتل الى اليهود في عصر التنزيل، مع أنه وقع من أسلافهم ما تقدم كرارا من أنّهم أمة واحدة، و أنهم في الطباع و العادات و الأخلاق كنفس واحدة فاقتضى صحة خطاب الأبناء بما فعل الآباء.

بحث روائي:

في «الكافي» عن الصادي (عليه السلام) في قول اللّه تعالى:

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ قال: «كان قوم في ما بين محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و عيسى (عليه السلام)، و كانوا يتوعدون أهل الأصنام، بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يقولون: ليخرجنّ نبيّ و ليكسرنّ أصنامكم ليفعلنّ بكم ما يفعلنّ، فلما خرج رسول اللّه كفروا به».

أقول: يمكن أن يجمع بين هذه الرواية و الروايات الآتية الظاهرة في اليهود إما بتقييد هذه الرواية بها، أو أنهم قوم آخرون غير اليهود.

و عن القمي: «كانت اليهود يقولون للعرب قبل مجيء النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أيها العرب هذا أوان نبي يخرج من مكة و كانت مهاجرته بالمدينة، و هو آخر الأنبياء و أفضلهم، في عينيه حمرة، و بين كتفيه خاتم النبوة، يلبس الشملة و يجتزي بالكسرة و التميرات، و يركب الحمار العريّ، و هو الضحوك، القتّال يضع سيفه على عاتقه لا يبالي من لاقى، يبلغ سلطانه منقطع الخف و الحافر، لنقتلنكم به يا معشر العرب قتل عاد. فلما بعث اللّه نبيه بهذه الصّفة حسدوه و كفروا به، كما قال اللّه تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا... الآية».

أقول: يمكن أن اليهود قد استظهروا صفاته (صلّى اللّه عليه و آله) و حالاته من التوراة.

ص: 326

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ... الآية قال (عليه السلام): «كانت اليهود تجد في كتبهم أن مهاجر محمد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما بين عير و أحد فخرجوا يطلبون الموضع؛ فمرّوا بجبل يقال له:

حداد، فقالوا: حداد و أحد سواء، فتفرقوا عنده فنزل بعضهم بتيماء، و بعضهم بفدك، و بعضهم بخيبر. فاشتاق الذين بتيماء إلى بعض إخوانهم، فمرّ بهم أعرابي من قيس فتكاروا منه و قال لهم: أمر بكم ما بين عير و أحد، فقالوا له: إذا مررت بهما فآذنّا لهما، فلما توسط بهم أرض المدينة، قال: ذلك عير و هذا أحد فنزلوا عن ظهر إبله و قالوا له: قد أصبنا بغيتنا فلا حاجة بنا إلى إبلك فاذهب حيث شئت.

و كتبوا إلى إخوانهم الذين بفدك و خيبر: انا قد أصبنا الموضع فهلموا إلينا، فكتبوا إليهم: إنا قد استقرت بنا الدار، و اتخذنا بها الأموال و ما أقربنا منكم فإذا كان ذلك أسرعنا إليكم، و اتخذوا بأرض المدينة أموالا فلما كثرت أموالهم بلغ تبّع فغزاهم فتحصنوا منه فحاصرهم ثم آمنهم فنزلوا عليه، فقال لهم: إني قد استطبت بلادكم و لا أراني إلاّ مقيما فيكم؛ فقالوا: ليس ذلك لك إنها مهاجر نبي، و ليس ذلك لأحد حتّى يكون ذلك، فقال لهم: فإنّي مخلّف فيكم من أسرتي من إذا كان ذلك ساعده. فخلف حيين تراهم: الأوس و الخزرج فلما كثروا بها كانوا يتناولون أموال اليهود، فكانت اليهود تقول لهم:

أما لو بعث محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لنخرجنّكم من ديارنا و أموالنا، فلما بعث اللّه محمدا آمنت به الأنصار و كفرت به اليهود و هو قوله تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا و قريب منه ما في الدر المنثور عن ابن عباس.

أقول: «عير و أحد»: جبلان بالمدينة كما ورد في أخبار التقصير في الصّلاة أيضا،

و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «حرّم ما بين عير و احد».

و نقل الواحدي عن ابن عباس: «كان يهود خيبر تقاتل غطفان فكلما التقوا هزمت يهود خيبر، فعادت اليهود بهذا الدعاء، و قالت: اللهم إنّا نسألك

ص: 327

بحق النبي الأمي الذي وعدتنا ان تخرجه لنا في آخر الزمان إلاّ نصرتنا عليهم، قال: فكانوا إذا التقوا دعوا بهذا الدعاء، فهزموا غطفان، فلما بعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كفروا به فأنزل اللّه تعالى: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى اَلَّذِينَ كَفَرُوا أي بك يا محمد - الى قوله تعالى - فلعنة اللّه على الكافرين».

و في الدر المنثور عن ابن عباس أنه قال: «كانت يهود بني قريظة و النضير من قبل أن يبعث محمد (صلّى اللّه عليه و آله) يستفتحون اللّه يدعون اللّه على الذين كفروا، و يقولون: اللهم إنّا نستنصرك بحق النبي إلاّ نصرتنا عليهم، فينصرون، فلما جاءهم ما عرفوا: يريد محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يشكوا فيه كفروا به» و قريب من ذلك روايات أخرى.

أقول: عن بعض المفسرين الإشكال في هذه الروايات الأخيرة أولا: بقصور السند. و ثانيا: بوهن الدلالة، لأنه لا وجه لإقسام اللّه تعالى مع أنه لا حق في البين حتّى يقسم به، لأنّ الكل مخلوقه و مملوكه تعالى.

و لكنه غير صحيح أما الأخبار فلأنها مستفيضة بين الفريقين، بل متواترة معنى كما لا يخفى على الفاحص المتتبع، فلا موضوع لتضعيف السند. و أما إقسام اللّه تعالى فإقسام العظيم بما هو شريف و محترم لديه تعالى، و القسم بالعزيز من العرف المحاوري بين جميع أفراد الإنسان و عليه جرت محاورة الكتاب و السنة، قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر، الآية: 72]، و قال تعالى عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص، الآية: 82]،

و في الحديث إن اللّه تعالى قال: (و عزتي و جلالي لأقطعن أمل كل مؤمل أمل غيري).

و أما أنه لا حق في البين حتّى يقسم اللّه تعالى به فلا وجه له، لأن الحق هو الثابت الواقع المتحقق فاللّه عزّ و جل هو الحق المحض و جميع ما سواه حق له، لأنه مالك كل شيء و خالقه و اليه مرجع الجميع، و أي معنى للحقّية يتصور أشد و أعلى من ذلك؟! و هو تعالى جعل لبعض عباده حقا على نفسه الأقدس تشريفا و تعظيما لهم، قال تعالى: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ

ص: 328

[سورة الروم، الآية: 47]،

و في الحديث: «حقّ على اللّه تعالى أن لا يعصى في مكان إلاّ و أظهرها للشمس ليطّهرها» و الأحاديث في موضوع جعل اللّه تعالى حقا لخلقه على نفسه خصوصا عباده المخلصين كثيرة جدا، و خاتم النبيين من أفضلهم، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال: و إنما نزل هذا في قوم اليهود، و كانوا على عهد محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لم يقتلوا أنبياء اللّه بأيديهم، و لا كانوا في زمانهم، و إنما قتل أولياؤهم الذين كانوا من قبلهم، فنزّلوا بهم أولئك القتلة فجعلهم اللّه منهم و أضاف إليهم فعل أوائلهم بما تبعوهم و تولوهم».

أقول: تقدم وجه ذلك في البحوث السابقة فلا وجه للتكرار،

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَو

اشارة

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ اَلنّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) تبين هذه الآيات المباركة أخذ الميثاق و التشديد فيه ثم كفرهم و ارتدادهم، ورد لأمانيّهم الباطلة من أنهم أبناء اللّه تعالى و أن الدار الآخرة لهم دون غيرهم، و الذم بأنهم أحرص النّاس على الحياة الدنيا.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ . البينات جمع بيّنة، و هي الدليل الواضح. و المراد بها الدلائل الواضحة و البراهين الظاهرة، و هي إما

ص: 329

عقلية، أو حسية، أو هما معا، و بينات موسى (عليه السلام) هي التوراة، و ما ذكره تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ [سورة الإسراء، الآية: 101]، و هي العصا، و السنون، و اليد، و الحجر، و الدم، و الطوفان، و القمل، و الضفادع، و فلق البحر و سيأتي التفصيل في سورة الإسراء.

و هي آيات باهرات تدل على وحدانيته تعالى فلا مجال للشك و الريب بعد مجيئها.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذْتُمُ اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ . أي أنكم بعد أن وضح لكم الحق و ظهر صدق موسى (عليه السلام) في ما يدعيه من توحيد اللّه تعالى، و أنه هو المعبود المطلق عدلتم إلى عبادة العجل و اتخذتموه إلها لكم و أنتم ظالمون، و أي ظلم أعظم من الشرك باللّه تعالى، و الارتداد عن دينه، و فيه من التوبيخ و التقريع العظيم لهم و يستفاد من هذه الآية المباركة أن الظلم الواقع منهم إنما كان بعد الإمهال لهم بالنظر في تلك الآيات البينات، و إتمام الحجة، و حينئذ يكون ظلمهم أعظم.

قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اِسْمَعُوا . تقدم شرح مثله في الآية المباركة - 63 من هذه السورة إلاّ أن في الآية السابقة ذكر سبحانه و تعالى: وَ اُذْكُرُوا ما فِيهِ و هنا أمرهم بالفهم، و المعنيان متقاربان، فإن المراد من الذكر هو المذاكرة و الحفظ كما أن المراد من السمع هو الفهم و العمل بالمسموع لا خصوص الدرك الظاهري من دون ترتيب الأثر عليه، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ [سورة الأنفال، الآية: 21] فإن السماع الحقيقي الذي يترتب عليه نظام الإفادة و الاستفادة، و التعليم و التعلم، بل جميع الكمالات إنما هو العمل بالمدرك إن كان حقا لا نفس الإدراك من حيث هو، إذ ليس فيه كمال حتّى يذكر، و هذا هو المراد بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ [سورة البقرة، الآية: 285] و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ [سورة الزمر، الآية: 18] و غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة. و لعل ذكر السمع هنا لصحة إردافه بقوله تعالى: سَمِعْنا وَ عَصَيْنا و إلاّ فالسمع و الذكر في الحقيقة واحد كما عرفت.

ص: 330

قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا . التفات من الحاضر إلى الغيبة و هذا كقوله تعالى: وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اَللّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ [سورة البقرة، الآية: 75] إلاّ أن المقام يدل على سرعة النقض. أي: أنهم قبلوا الميثاق و لكنهم خالفوه و لم يعملوا به، و الظاهر أن ذلك كناية عن بيان حالهم و سرعة عصيانهم. و قيل: إنه من ظاهر مقالهم. و على أي تقدير ففيه توبيخ، ورد لمزاعمهم حيث قالوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا [سورة البقرة، الآية: 91]، و هذا أيضا من فضائحهم، إذ كيف يقبلون أمرا يعلمون أن فيه سعادتهم، ثم يبادرون إلى إنكاره و عصيانه.

قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ . الإشراب المخالطة و الامتزاج، و هو كناية عن انهماكهم في حب العجل حتّى كأنه خالط قلوبهم كما يخالط الصبغ الثوب، أو كما يدخل المشروب في بدن الإنسان أي أنهم بسبب كفرهم قد انهمكوا في حب العجل، و ذلك لأن كثرة ملازمة الشيء و محبته توجب صيرورة القلب و الإرادة مظهرا من مظاهره، و قد اشتهر: «أنّ حب الشيء يعمي و يصم»،

و في الحديث: «يحشر النّاس على نياتهم يوم القيامة»

و فيه أيضا: «من أحب شيئا حشره اللّه معه» و إشراب القلوب لما هو المحبوب وجداني لكل ذي قلب خولط قلبه بغير ذكر اللّه تعالى.

و يرجع حب بني إسرائيل للعجل إلى ما كانوا عليه من الوثنية في مصر، فانه كان لهذا الحيوان منزلة عظيمة عند المصريين، و سيأتي في سورة الأعراف تفصيل القصّة.

قوله تعالى: قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ . توبيخ و تقريع عظيم لهم أي بئس الإيمان إيمانكم الذي يأمركم بعبادة الأوثان، و نقض العهود، و قتل الأنبياء، فأعمالكم التي هي أثر الإيمان تدل على نفي الإيمان الذي أمركم اللّه تعالى فإنّه يأمركم بتوحيده تعالى و نبذ الأوثان، و طاعة الأنبياء، و احترام العهود. و قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ للتنزيل و المجاراة مع المخاطبين، و إلاّ فلا إيمان لهم حقيقة و هذا الحكم لا يختص باليهود، بل يشمل كل أمة أمرهم اللّه تعالى بالإيمان و العمل الصالح فخالفوا اللّه تعالى

ص: 331

و اتبعوا أهواءهم، فيقال للمسلمين العاملين على غير طريقة القرآن. إنكم آمنتم بالقرآن فبئسما يأمركم به إيمانكم أنكم آمنتم بأهوائكم فلستم بمؤمنين إذ لا بد أن يظهر أثر إيمانكم بالقرآن في أعمالكم.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ . الزام لهم بالحجة، فإنهم ادعوا دعاوى باطلة كما حكاها اللّه تعالى في القرآن الكريم كقولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و قولهم نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و أنهم شعب اللّه المختار و ادعاؤهم الإيمان بما أنزل عليهم، فرد اللّه تعالى عليهم و أكذبهم، فقال تعالى: قل لهم إن كانت دعاويكم صادقة و أن الدار الآخرة مع ما فيها من الثواب و النعيم مختصة بكم فتمنوا الموت، لأنه يوصلكم إلى ذلك النعيم، فإن من علم أنه من أهل النعيم كان الموت أحب اليه من الحياة في الدنيا التي لم تبرح عن الشقاء و الأذى، و لم يعقل من الإنسان أن يؤثر الشقاوة على السعادة، مع أنهم يفرون من الموت و يحبون الحياة، و هذا من التناقض بين القول و الفعل الذي لا ينبغي صدوره من العاقل. فإن معيار حب الآخرة حبا صادقا حقيقيا هو التحرز عن جميع العلائق و الانقطاع الى رب الخلائق، كما قال ذلك علي (عليه السلام) في خطبه المباركة لا سيما الخطبة المعروفة في وصف المتقين

و قد نسب إليه (عليه السلام) أنه قال: «و اللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» و كذلك يكون الذين أماتوا شهواتهم في الدنيا الفانية فأحبوا الحياة الأبدية في الدار الآخرة.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . أي إن كنتم صادقين في دعاويكم، و فيه إيماء إلى كذب دعواهم.

قوله تعالى: وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ . كناية عن مطلق العمل السيئ سواء كان بالجوارح أو الكفر و الضلال. و هذا الاستعمال شايع في المحاورات. أي: إنهم يعرفون مصيرهم بما قدموه من سيئات الأعمال، و ما اجترحوه من موبقات الخطايا و الضلال، فلن يتمنوا الموت

ص: 332

أبدا. و يظهر من ذلك فساد حالهم و بطلان مقالهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ . أي إنّ اللّه يعلم أنهم ظالمون لا تخفى عليه أعمالهم و نواياهم لو جحدوا ذلك، و فيه من التهديد و التوعيد ما لا يخفى.

ص: 333

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا . أي إنّهم أحرص النّاس على الحياة حتّى من المشركين الذين ينكرون المعاد و الحياة بعد الموت سواء كانوا من مشركي العرب أو غيرهم.

و إنما خصهم بالذكر لأنّهم لا يعرفون غير الحياة الدنيا، و لا علم لهم بالبعث و الحساب كما حكى اللّه تعالى عن قولهم: إِنْ هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 37].

فما عن بعض المفسرين من أن المراد بها المشركون الذين جرت عادتهم على الدعاء للعاطس بقولهم: «عش الف سنة» إنما يكون من باب التطبيق لا التخصيص.

قوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ . مادة (و د د) تستعمل بمعنى المحبة، و تطلق على اللّه تعالى حينئذ قال عزّ و جل: وَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلْوَدُودُ [سورة البروج، الآية: 14]، و تستعمل بمعنى التمني و هو كثير في القرآن الكريم و منه المقام.

و مادة (ع م ر) - بسكون الميم أو ضمها. أو فتح العين و سكون الميم، و إن كان هذا الأخير يختص بالقسم قال تعالى: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة الحجر، الآية: 72]. مأخوذة من العمارة أي عمارة البدن في الحياة الدنيا، أو عمارة الدنيا للكون فيها، أو عمارة الآخرة للارتحال إليها، أو عمارة الجميع و هي أفضلها. أي: يتمنى كل واحد منهم أن يعمّر في الحياة الدنيا ألف سنة أو أكثر، لأنه يعلم أن البقاء في الدنيا مع الآلام و المشاق خير له من الآخرة فإن فيها العذاب. و لكنه لا يعقل أن هذه المدة القليلة المحدودة لا تنفعه و لا تدفع عنه العذاب، إذ لا بد من الإيمان و العمل الصالح.

و إنما عبّر تعالى بألف سنة إما لأجل أنه مثال لكثرة العمر كما أن لفظ سبعين كان مثالا للكثرة في العشرات مثل قوله تعالى: اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 80]، أو لأجل أنه نوع تقبيح لهم في مبالغاتهم و مقترحاتهم

ص: 334

الدائرة بينهم، أو لأن الألف آخر أسماء مراتب الأعداد.

و السنة: مأخوذة من سنه كما عن بعض، و عن آخرين أنها مأخوذة من سنو بالواو بقرينة سنوات، و الظاهر أن هذا خلط بين هاء السكت و مادة أصل الكلمة كما يظهر للمتأمل في استعمالات هذا اللفظ، فلا فرق بين الاستعمالين.

قوله تعالى: وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ اَلْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ . الزحزحة:

الإزالة عن المقر، و التنحية عنه،

و في الحديث: «من صام يوما في سبيل اللّه زحزح اللّه وجهه عن النار سبعين خريفا». أي: ليس طول العمر من حيث هو موجبا للخروج عن العذاب بل المناط كله إنما هو العمل الصالح و اكتساب الحسنات و ترك السيئات.

و إنما كرر تعالى كلمة «أن يعمر» و لم يأت بالضمير لبيان أن مقصوده الأهم وقوع طول العمر خارجا، لا مجرد تمني ذلك و لو أتى بالضمير لم يكن ظاهرا فيه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ . المراد بالبصر عند الإطلاق عليه عزّ و جل العلم، و إنما خصه بالذكر، لبيان كمال الإحاطة بالدقائق التي لا تدرك إلاّ بالبصر. و فيه تهديد عجيب و توعيد غريب لمن هو غافل عن السعادة الأبدية، و لا يتحفظ على عمره و لا يصرفه إلاّ في ما لا يرتضيه تعالى، فإن الإنسان إنما خلق في الدنيا لكي يعيش فيها برهة من الزمن ثم يغادرها إلى دار أخرى هي مقر له فيحصد ما عمله مدة حياته في الدنيا، فإما أن تكون الدار الآخرة هي دار الراحة و السكون و السعادة، أو تكون دار الشقاء و العذاب، فما يحصله الإنسان من خلقه إنما يكون في عمره، فلا بد و أن يبذله في تحصيل السعادة الأبدية و لا يصرف هذه الجوهرة الثمينة في ما لا فائدة فيه، أو تكون الفائدة منحصرة بالدنيا الفانية. و نعم

ما نسب إلى علي (عليه السلام): «بقية عمر المؤمن لا قيمة لها، يدرك بها ما فات و يحيي بها ما أمات» فيكون محبته للحياة لأجل أن يدفع عن نفسه موجبات الشقاوة و يكتسب فيها أسباب السعادة

ص: 335

الأبدية، و كراهته للموت لأنه يوجب فراق الأحباب و الانقطاع عن الأصحاب. و فراق الأليف مما لا يرتضيه بالطبع كل وضيع و شريف، و لذا

ورد كراهة تمني الموت و لا بأس بأن يقول: «اللهم أحيني إذا كانت الحياة خيرا لي و أمتني إذا كان الممات خيرا» كما ذكر في الحديث، و في غير هاتين الصورتين حب الحياة إن رجع إلى حب الدنيا فيكون مذموما و من الأمراض المهلكة، و لا بد من علاجها، و سيأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

عن القمي في قوله تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ : «أي أحبوه حتّى عبدوه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى أيضا قال : «فعمد موسى (عليه السلام) فبرد العجل من أنفه إلى طرف ذنبه ثم أحرقه بالنار فذره في اليم. قال: فكان أحدهم ليقع في الماء و ما به إليه من حاجة فيتعرض بذلك الرماد فيشربه، و هو قول اللّه تعالى: وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ اَلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ».

أقول: رواه الفريقان، و لو فرض صحة سنده يكون المراد إن الشرب الظاهري بيان و كاشف عن حبهم للعجل؛ فتتم الحجة عليهم بذلك.

و عن القمي أيضا في قوله تعالى: فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لأن في التوراة مكتوب إن أولياء اللّه يتمنون الموت و لا يرهبونه».

أقول تقدم مثل ذلك عن علي (عليه السلام).

بحث أدبي:

عن جمع من الأدباء - و تبعهم بعض المفسرين - أنّ كلمة (لو) تستعمل في معان: الأول: للسببية بين الشرط و الجزاء.

ص: 336

الثاني: لامتناع الجواب بدون الشرط.

الثالث: التعليق في المستقبل كقوله تعالى: وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ [سورة النساء، الآية: 9].

الرابع: أن تكون مصدرية بمنزلة (إن) المصدرية. و أكثر وقوعها كذلك بعد (ود، و يود) و يفترقان في أن مدخول (لو) بعيد الحصول أو ممتنع إما في نفسه أو بحسب العادة أو إبرازه بصورة البعيد أو الممتنع بخلاف (إن) كقوله تعالى: يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ [سورة البقرة، الآية: 96]، و قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 68]، و قوله تعالى: رُبَما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ [سورة الحجر، الآية: 2] و في غير ذلك تأتي أن المشددة المفتوحة، أو إن الساكنة المصدرية مكانها.

الخامس: للعرض كقولهم: «لو تنزل عندنا فتصيب منا خيرا».

السادس: للتقليل

كقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا النّار و لو بشق تمرة».

السابع: التمني كقوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 168]، و قولهم «لو تأتيني فتحدثني» و الفرق بينها و بين (لو) المصدرية التي لم يكن فيها معنى التمني أنّ ما بعد الفاء بعد لو التي للتمني يكون منصوبا بخلاف ما بعد لو المصدرية.

و يستفاد من ذلك أنها من المشترك اللفظي، و لهم في ذلك نظائر كثيرة، و الحق أنّ ذلك من خلط المستعمل فيه بدواعي الاستعمال، فإن شأن أداة الشرط مطلقا إنما هو جعل متلوّها واقعا موقع الفرض و التقدير، و أما الخصوصيات فإنما تستفاد من جهات أخرى. و قد حصل هذا الخلط من الخليل في كتاب العين و من غيره، فتعدد دواعي الاستعمال معلوم و تعدد الوضع و المستعمل فيه مشكوك فيرجع فيه إلى الأصل.

إن قيل: إن هذا من مجرد الدعوى بلا دليل عليها (يقال) تعدد

ص: 337

الدواعي وجداني عند المستعملين و تعدد الوضع و المستعمل فيه يحتاج إلى دليل و هو مفقود بل الأصل ينفيه.

إن قيل: إن باب المجاز واسع و كلما زيد في الكلام مجازاته و استعاراته يزاد في حسنه (يقال): إن رجع ذلك إلى ما قلناه فهو حسن، و إن رجع إلى ما اشتهر بينهم من ملاحظة ما اعتبروه في المحاورات و الاستعارات فالأصل و الوجدان ينفيان ذلك كله، و قد فصلنا القول في علم الأصول فراجع هناك.

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (9

اشارة

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اَللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ اَلْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) تبين هذه الآيات المباركة جملة أخرى من المساوئ الاعتقادية و الأخلاقية لهم كعداوتهم للملائكة و الرسل بلا سبب معقول لذلك بل بمجرد الأوهام الفاسدة ثم بيان عنايته تبارك و تعالى للنّاس، و أنه لا يكون عدوا إلاّ للكافرين الذين يستحقون تلك العداوة باختيارهم.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ . العدو ضد الصديق.

و جبرئيل اسم أعجمي ليس من الألفاظ العربية، و لذا كثرت فيه اللغات - كما في غيره من الألفاظ غير العربية التي تكثر فيها اللهجات - حتّى أنهاها بعضهم إلى ثلاث عشرة لغة.

بيّن سبحانه و تعالى ذميمة أخرى من ذمائم أخلاقهم فقد افتروا على

ص: 338

أمين وحي اللّه عزّ و جل بأنه ملك ينزل الحرب و الدمار، و الشدة و الفناء، و أنه أنذر بخراب بيت المقدس، و أنه يفعل من عند نفسه بخلاف غيره من الملائكة. فرد سبحانه و تعالى عليهم بأنّ هذا الملك و غيره من الملائكة مسخرون تحت إرادة اللّه تعالى المهيمن على الجميع الفعّال لما يشاء فلا يفعلون إلاّ ما ارتضاه اللّه تعالى، و لا يقضون إلاّ ما أحبه عزّ و جل، قال تعالى: لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و إذا كانت أفعال جبريل مستندة إليه عزّ و جل فيلزم أن تكون عداوتهم له عداوة اللّه تعالى و يرشد إلى ذلك ذيل الآية المباركة «بإذن اللّه» أي إنّ كل ما ينزله جبريل على رسول اللّه و سائر الأنبياء إنما يكون بإذن من اللّه تعالى لا من عند نفسه.

قوله تعالى: فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اَللّهِ . التفات من الغيبة إلى الخطاب، و هو من أحسن بدايع الفصاحة. و الضمير في «نزله» يرجع إلى القرآن المستفاد من قرائن الحال و ذلك يدل على رفيع شأنه فكأنه لشهرته لم يذكره في المقال و فيه من الإيماء إلى شرف جبريل (عليه السلام) و ذم أعدائه. و المراد من «إذن اللّه» علمه و إرادته، و إنما ذكر سبحانه القلب لأنه موضع تلقي العلم و المعارف و الكمالات. و خص قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لأنه خاتم الأنبياء و أشرفهم، بل غاية أصل الخليقة و سيدها و الإشارة إلى أن ما نزل على الأنبياء السابقين كموسى و عيسى (عليهما السلام) من أشعة ما نزل على قلبه و لمعات من هذا النور العظيم، فكما أن ذاته الأقدس غاية الخلق يكون كتابه المقدس غاية الكتب المقدسة السماوية. و الغاية مقدمة في العلم و إن تأخرت في الوجود كما ثبت في الفلسفة.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ . أي: إن القرآن الذي أنزله جبريل على محمد (صلّى اللّه عليه و آله) مصدق لما تقدم من الكتب الإلهية و هدى و بشرى للمؤمنين، و تقدم شرح ذلك في أول هذه السورة.

و نزيد هنا أن الهداية و البشارة متلازمتان في جميع أطوار وجودهما و مراتب ظهورهما في الدنيا و الآخرة و العمل. و سياق الآية المباركة يدل على أن لها شأنا

ص: 339

و سببا لنزولها، و سيأتي في البحث الروائي الكلام عنه.

قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلّهِ . مادة (ع د و) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد المعين في الشيء، و للتجاوز موارد كثيرة، فإذا كان التجاوز في الميل القلبي يطلق عليه العداوة و المعاداة، و في الاقتصار في المشي يطلق عليه العدو، و في المرض يطلق عليه العدوى و في المعاملات و المجاملات يطلق عليه العدوان و التعدي و الاعتداء، إلى غير ذلك من موارد استعمالاته في المحاورات. و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بجملة كثيرة من متفرعاتها، و هي بالمعنى الحقيقي ممتنعة بالنسبة إليه عزّ و جل، إذ لا يعقل التجاوز بالنسبة إلى من هو غير متناه من حيث القدرة و الغلبة و القهارية. نعم يصح بالمعنى الاعتقادي، و هو يرجع إلى مخالفته في الإعتقاد و العمل. هذا و إن أرجعنا عداوته إلى عداوة أنبيائه و أوليائه يصح بالمعنى الحقيقي أيضا، و كذلك إن أرجعناها إلى عقابه.

و إنّما أضاف سبحانه و تعالى العداوة إلى نفسه تشريفا لملائكته و رسله و أوليائه،

و في الحديث: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة» و قد وردت آيات و روايات دالة على حسن مخالطته تعالى مع عباده على ما يأتي تفصيلها إن شاء اللّه تعالى، و ليس المراد بالمخالطة ما هو المنساق من ظاهر اللفظ، بل

ما قاله علي (عليه السلام): «داخل لا بالمجانسة، و خارج لا بالمباينة، فبينونته تعالى بينونة صفة لا بينونة عزلة». كما أنّ في ذكر نفسه أولا ثم الملائكة و الرسل إشعارا بعدم الفرق في هذه العداوة بينه تعالى و بينهم، لأنهم مظاهر آياته و أولياء خلقه و وسائط فيضه.

قوله تعالى: وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ . تقدم وجه اشتقاقهما. و اتفق جميع الفلاسفة على أنّ الملائكة ذوات مجردة ليست من الماديات إلاّ أنّ فلاسفة المسلمين ذكروا أنّها جواهر مجردة، و المتكلمون منهم يقولون: إنّها أجسام لطيفة لعدم ثبوت الجواهر المجردة عندهم. و شبهوا الأجسام

ص: 340

اللطيفة بالأجسام التي نشاهدها في عالم النوم، و ما يوجد في الذهن. و حيث إن وجود الملائكة لا يتوقف على المادة و تهيئة الأسباب فيكفي في إيجادها مجرد الأمر الإلهي، و هي بجميع أقسامها من عالم الأمر (أي: ما يوجد بمجرد أمره تعالى من غير توقف على المادة و الزمان و نحوهما) فمنها مالها مراتب و منازل كالمدبرات أمرا، و النازعات، و الفارقات و نحو ذلك، و منها ما ليس كذلك و قد اصطلح على تسمية الكل بالملائكة، و على تسمية من له شأن من الشأن بالملك، فكل ملك ملائكة و ليس كل ملائكة ملك فنسبة الملك (بفتح الميم و اللام) إلى البقية كنسبة الملك (بكسر اللام) إلى الرعية، و يأتي تفصيل أحوال الملائكة و شؤونها و أفعالها في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ . إنّما خصهما تعالى بالذكر إعلانا بعلوّ شأنهما و تشريفا لهما، أو لأنّ اليهود إنما خصوصهما بالذكر فقالوا: إنّ جبريل ملك الإنذار و العذاب، و ميكال ملك الرحمة فنزلت الآية ردا عليهم بأن معاداة أحدهما هي معاداة الآخر و محبتهما كذلك. و إلاّ فهما من سادات الملائكة، و هم أربعة: جبريل الذي هو موكل بإفادة العلوم للذوات المستعدة لكل علم و فن و صنعة. و ميكائيل موكل بالأرزاق. و إسرافيل موكل بإفاضة الأرواح لكل ذي روح. و عزرائيل موكل بقبض الأرواح، و لكل من هؤلاء الأربعة أعوان و جنود لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و هو المهيمن على الجميع.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ . أي: أنّ من كان كذلك لا يكون إلاّ كافرا به تعالى و اللّه عدو للكافرين، و عداوته لهم عبارة عن سخطه تعالى عليهم و عقابه لهم، و هم الظالمون لأنفسهم و كفى بذلك خزيا.

و في الآية إشارة إلى أن عداوة اللّه لا تتحقق إلاّ بسبق عداوة العبد له تعالى، فهو كالموضوع لعداوته عزّ و جل، و الموضوع متقدم على ما يلحقه؛ فبينهما ملازمة الجزاء و الشرط. كما أن في الآية المباركة من الوعيد الشديد و الذم لمعادي الملائكة لا سيما جبرئيل فإن اليهود و إن كانوا لا

ص: 341

يدعون معاداة جميع الملائكة و لكنه في الواقع كذلك فإن عداوة أحدهم تكون عداوة للكل. و في وضع الظاهر موضع الضمير في قوله تعالى:

لِلْكافِرِينَ إشارة إلى أن العلة في العداوة هي الكفر.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ . الآيات البيّنات أي الأدلة الواضحة التي لا ريب فيها على صدق نبوته من القرآن و سائر المعاجز.

قوله تعالى: وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ اَلْفاسِقُونَ . الفسق الخروج يقال: فسق الرطب أي خرج عن قشره، و كل من خرج عن طاعة اللّه تعالى فهو فاسق، و له مراتب كثيرة تتفاوت بين الشدة و الضعف ففسق الكفر مرتبة منه، و فسق الكذب و الغيبة المتداولين بين النّاس فسق أيضا. و هو الجامع بين المعاصي الكبيرة و الصغيرة الواردة في الكتاب و السنة المشروح في علمي الفقه و الأخلاق. بل يمكن القول بأن الفسق حجاب للقلب عن استشراقاته المعنوية من المبدأ القيوم، فإما أن يعم الحجاب جميع القلب أو يكون حجابا عن بعضه فيكون كنقطة سوداء في القلب تتغير زيادة و نقيصة، فإذا صدرت من الكافر معصية. كالكذب مثلا اجتمع فيه قبحان و خطيئتان: قبح الكفر و خطيئته و قبح الكذب و خطيئته، و يأتي التفصيل في المحل المناسب.

و المعنى: إنّ معك أيّها النبي العظيم آيات بينات تدل على صدق دعواك و كل من أنكرها يكون خارجا عن الحق و قد استحب الكفر عنادا، و على هذا يصح أن يراد بالكفر و الفسق العقليان منهما أيضا لا خصوص الشرعي، لأن رد تلك الآيات البينات خروج عن طريقة العقل و العقلاء و نور الفطرة في رد الآيات البينات من غير دليل و حجة بل بمجرد العناد و الجحود و التقليد الأعمى.

قوله تعالى: أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ . الواو في «أو» حرف عطف تصدر بأداة الاستفهام الدالة على التوبيخ و التقريع لعادتهم في نقض العهود. و العهد ما يلزم مراعاته و حفظه و القيام به و المراد

ص: 342

به عهودهم مع الأنبياء و الرسل. و النبذ هو طرح الشيء لقلة الاهتمام و الاعتناء به.

قوله تعالى: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ . فيه إيماء إلى ما قد يتبادر من لفظ الفريق القلة منهم، فذكر سبحانه أن أكثرهم لا يؤمنون، و هو في مقام التعليل لما يصدر عنهم من الأفعال القبيحة و نقض العهود، يعني أنهم ينقضون العهد، لأن أكثرهم لا يؤمنون. و يستفاد من هذه الآية المباركة عدم الوثوق بهم لاعتيادهم على نقض العهود، و عدم رجاء الإيمان من أكثرهم.

كما يستفاد منها ذم الكثير و الأكثر، كما ورد في ما يقرب من مأة آية قال تعالى: وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ اَلْعَذابُ [سورة الحج، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ [سورة المائدة، الآية: 49] إلى غير ذلك من الآيات المباركة بخلاف القليل و الأقل، فقد ذكروا بالمدح قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ [سورة سبأ، الآية: 13]، و قال تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 46] و لو تأمل شخص في أحوال عامة النّاس رأى أن ذلك حق مطابق للواقع، و تدل على ذلك أقوال الأئمة (عليهم السلام)

ففي الحديث: «المؤمنة أعز من المؤمن، و المؤمن أعز من الكبريت الأحمر؛ و من رأى من أحدكم الكبريت الأحمر؟!».

و في الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و إخبار له بإدبار الأكثر عنه.

قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ . تقدم معناه في الآية 89 أي: لما جاءهم محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الرسول من عند اللّه تعالى المصدّق لجميع ما أنزله اللّه تعالى من التوراة و الإنجيل المشتملين على التوحيد و سائر المعارف الإلهية، و الأحكام التشريعية، و صفات الرسول الذي وعدوا و بشّروا به و أنه من آل إسماعيل، فإن أصول الأحكام واحدة و إن ظهرت تارة في صحف إبراهيم، و توراة موسى أخرى، و إنجيل عيسى (عليهم السلام) ثالثة، و قرآن

ص: 343

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) رابعة فمن نبذ واحدا منها فقد نبذ الجميع، فالكل مصدّق للكل، و الجميع شريعة واحدة.

قوله تعالى: نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ كِتابَ اَللّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ . نبذ الشيء وراء الظهر كناية عن ترك العمل به و كفرهم به. و المراد بكتاب اللّه مطلقه الأعم من التوراة و الإنجيل و القرآن.

قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ . تنزيل لعلمهم منزلة الجاهل المقصّر في العصيان و استحقاق العقاب، و فيه من المبالغة في الترك و الإهمال، ما لا يخفى. يعني أنكم مع علمكم بأنه الحق فقد نبذتموه وراء ظهوركم فلم تحرّموا حرامه و لم تحللوا حلاله، فصار الجحود أشد، و العقاب أكثر.

بحث روائي:

القمي في قوله تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ : «إنما نزلت في اليهود الذين قالوا لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ لنا في الملائكة أصدقاء و أعداء فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من صديقكم، و من عدوكم؟ فقالوا: جبرئيل عدونا، لأنه يأتي بالعذاب و لو كان الذي ينزل عليك القرآن ميكائيل لآمنّا بك، فإن ميكائيل صديقنا، و جبريل ملك الفضاضة و العذاب، و ميكائيل ملك الرحمة».

أقول: رواه الفريقان، و في الدر المنثور قريب من ذلك.

و في المجمع في الآية أيضا قال ابن عباس: «كان سبب نزول الآية ما روي أن ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لما قدم النبي (صلّى اللّه عليه و آله) المدينة سألوه، فقالوا: يا محمد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يأتي في آخر الزمان، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): تنام عيناي و قلبي يقظان، قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل، و أما اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة. قالوا: صدقت يا

ص: 344

محمد فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس فيه من شبه أخواله شيء؟ أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شيء؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله) أيهما علا ماؤه كان الشّبه له. قالوا: صدقت يا محمد. فأخبرنا عن ربك فما هو؟ فأنزل اللّه سبحانه و تعالى: قل هو اللّه أحد - إلى آخر السورة - فقال له ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتبعتك؛ أيّ ملك يأتيك بما ينزل اللّه عليك؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): جبرئيل. قال: ذاك عدونا ينزل بالقتال و الشدة و الحرب، و ميكائيل ينزل باليسر و الرخاء، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنا بك».

رواه الطبرسي في الإحتجاج عن جابر بن عبد اللّه. و رواه أيضا في الدر المنثور.

أقول: أما

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): تنام عيني و قلبي يقظان. فقد نقل مستفيضا عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو كذلك بحسب ما أثبتوه من حضوره (صلّى اللّه عليه و آله) عند ربه دائما، كما يدل عليه

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) على ما رواه الفريقان: «إني لست كأحدكم أبيت عند ربي فيطعمني ربي و يسقيني ربي» و المراد منهما الإفاضات المعنوية و الجذبات الواقعية الرحمانية، فلا يعقل حجاب لقلبه بمثل النوم و الغفلة و نحوهما، و يشهد له ما هو من خصائصه من أنه يرى من خلفه كما يرى من أمامه و أنه لا ظل له، و تأتي تتمة الكلام في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله: (صلّى اللّه عليه و آله): «أما العظام و العصب و العروق فمن الرجل» فقد أثبت العلم الحديث ذلك أيضا كما يأتي مفصلا.

و في الدر المنثور: «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ» قال ابن عباس:

«هذا جواب لابن صوريا حيث قال لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه، و ما أنزل عليك من آية بينه فنتبعك بها فأنزل اللّه تعالى الآية».

ص: 345

وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ وَ

اشارة

وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) بيّن سبحانه و تعالى بعض أعمالهم الفاسدة، كالافتراء على أنبياء اللّه تعالى، و السحر، ثم أبطل ذلك و حكم بكذبهم و أمر باتباع طريق الحق، و أن التقوى خير لهم مما هم عليه.

التفسير

قوله تعالى: وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ . اختلفت أقوال المفسرين في هذه الآيات المباركة فصارت معترك الآراء و الاحتمالات و قلّما يوجد مثلها في سائر الآيات الشريفة، و مع ذلك فهي على فصاحتها و بلاغتها لم يعترها من تلك الاحتمالات إجمال و لا في حسن نظمها و فصاحتها كلال، و ليس ذلك إلاّ من تقدير العليم الحكيم. و نحن نشير إلى ما يستفاد مما هو الظاهر منها.

فنقول: مادة (ت ب ع) تأتي بمعنى التقفية في الأثر، و الاقتداء و المتابعة سواء كان ذلك في الحق أو الباطل كقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة الجاثية، الآية: 18]. و الضمير يرجع إلى اليهود [الذين عمدوا الى هذه المتابعة سواء كانوا من يهود عهد سليمان أو من غيرهم، بل يشمل غير اليهود أيضا ممن ينطبق عليه عنوان المتابعة]. و تتلوا إن كان بمعنى مطلق القراءة و البيان فالأمر واضح، و إن كان بمعنى قراءة ما نزل من عالم الغيب على حسب دعوى الشياطين و زعمهم بأن ما يقرءون إنما هو من

ص: 346

الغيب، لكن بعد إثبات كفرهم في ذيل الآية الشريفة تكون هذه الدعوى منهم كاذبة لا محالة.

و المراد بالشياطين الأعم من شياطين الإنس و الجن على حد قوله تعالى: شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 72] و يحتمل أن يكون المراد خصوص شياطين الجن، فإن شياطين الانس بمنزلة القوى العاملة لها.

و المراد بملك سليمان عهده و أهل مملكته، و لعل ما في التعبير به إشارة إلى غلبة السحر و الكهانة في ذلك الزمان حتّى استولى على ملك سليمان. و ذلك لأن اليهود زعموا أن ملك سليمان إنما قام على أساس السحر و الكهانة و الطلسمات و نحو ذلك من الحيل التي نسبوها إليه كذبا و افتراء، فغلبت على النّاس و اعتادوا عليها و اتخذوا السحر وسيلة إلى مقاصدهم و أغراضهم، أو ليتوصلوا بها إلى الملك كما توصل سليمان به بزعمهم. و هذا يدل على شدة انغماسهم في الماديات. و إعراضهم عن الحقائق و أحكام اللّه تعالى و أنبيائه و رسله، و هو لا يختص باليهود فإن كل قوم أعرضوا عن آيات اللّه و اتبعوا أهواءهم و لم يقتدوا بالعلماء الداعين إليه تعالى صاروا مرتعا للشياطين و وساوسهم فيعملون كلما يشاءون في إبطال الحق و إفشاء الباطل و ذلك هو الخسران المبين.

و «على» في قوله تعالى: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ تصلح أن تكون بمعنى (في) أي في ملك سليمان أو بمعنى (مع) كما في قوله تعالى:

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [سورة آل عمران، الآية: 194] أي على ألسنة رسلك، أو معهم.

قوله تعالى: وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ اَلشَّياطِينَ كَفَرُوا . لأنّ إفشاء الباطل في عهده أو على ملكه من الشياطين لا دلالة فيه على أن سليمان اعتقد بالباطل بوجه من الوجوه بل إثبات النبوة له يمنع عن ذلك مطلقا، و فيه تبرئة من اللّه لسليمان و إثبات الكفر لمن نسب اليه السحر.

و المراد بالكفر المنسوب إلى الشياطين الكفر المطلق فيصير المقام

ص: 347

بالنسبة إليهم، من باب التطبيق لا التخصيص، أو بيان غاية قبح السحر. ثم بيّن تعالى بعض وجوه كفرهم بما ذكره جل شأنه.

قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ اَلنّاسَ اَلسِّحْرَ . ليفتنوهم عن دينهم و يضلوهم عن سبيل الحق، و في الآية المباركة إشارة إلى قبح السحر بل إيجابه الكفر، و قد عبّر في الأحاديث عن السحر بالكفر،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «السحر و الشرك مقرونان»،

و عن علي (عليه السلام): «من تعلم شيئا من السحر - قليلا أو كثيرا - فقد كفر».

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ . الملكين (بفتح اللام) تثنية الملك [بالفتح]، و هي القراءة المشهورة، و صريح بعض الروايات كما يأتي في البحث الروائي، و قرأ بعضهم ملكين (بكسر اللام) تثنية الملك، و لم يعهد ذلك في التاريخ، و لو كان لشاع و بان، و قد ذكروا في توجيه ذلك أمورا لم يقم عليها دليل من العقل أو النقل فالأولى الإعراض عن ذكرها.

و كيف كان فهما ملكان بعثهما اللّه تعالى لإتمام الحجة على شعب بابل ليعلّموا مضار السحر، و يدفعوا به عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و لعل ذلك كان مقدمة لظهور دعوة أنبياء اللّه تعالى، و إيذانا بزوال دعوة الشياطين إلى السحر و الكهانة و نحوهما من الأباطيل، و سيأتي معنى الإنزال.

قوله تعالى: بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ . بابل هي المدينة المعروفة في العراق عاصمة البابليين أعظم مملكة في المعمورة في ذلك الحين.

و قد دلت التواريخ على أنها كانت أقوى مركز للسحر و الكهانة في تلك الأعصار، بل ليس في الحضارات كلها حضارة أغنى في الخرافات من الحضارة البابلية. كما أنها كانت مركزا تجاريا هاما يؤمها التجار فكانت مورد اختلاف النّاس من أطراف العالم لأغراضهم الدنيوية، و لذلك كثر تردد أنبياء اللّه (عليهم السلام) إليها لإظهار الحجة و البيان عليهم في كل فرصة يجدونها، فالقادسية (بانيقا) موجودة حتّى الآن قرب بابل، و هي محل رعي

ص: 348

أغنام إبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) كما أن تل نمرود الذي ألقي الخليل منه في النار معروف في هذه المدينة و إنّ مقام إدريس و إبراهيم موجودان في مسجدي الكوفة و السهلة،

و عن أبي جعفر (عليه السلام) في وصف مسجد الكوفة: «إنها سرة بابل»، و قبر هود و صالح (عليهما السلام) مشهوران في ظهر الكوفة.

و عن علي (عليه السلام) في وقعة الخوارج أنه (عليه السلام) لما وصل إلى أرض بابل قال: «هذه أرض ملعونة قد عذّبت في الدهر مرتين و هي تتوقع الثالثة، و هي إحدى المؤتفكات، و هي أول أرض عبد فيها وثن» فاقتضت المصالح التكوينية و التشريعية أن يتم اللّه تعالى الحجة على أهل تلك الديار بما تقتضيه الظروف و أحوال العباد فأراد سبحانه و تعالى أولا أن يميز لهم الإرادة الوهمية الشيطانية و الإرادة الغيبية الإلهية، ثم التدرج في المعارف الإلهية بما تقتضيه الحكمة المتعالية.

و هاروت و ماروت اسمان أعجميان و هما ملكان نزلا من السماء في صورة الإنسان و كانا بين النّاس مدة من الزمان فعلا ذكرهما و شاع أمرهما، و كثرت مراودة النّاس إليهما حتّى صارا بمنزلة ملكين لهم.

و قيل: إنهما من البشر كانا من أهل صمت و وقار. و الظاهر أن أصحاب هذا القول نظروا إلى هذين الملكين بعد تجسمهما بصورة البشر فلا نزاع في البين. و قد أنزل اللّه تعالى هذين الملكين لتعليم الناس السحر و إنذارهم عن مضاره فيحذروا عن سحر السحرة و كيد الشياطين، و كان ذلك لمصالح كثيرة، منها: التمييز بين المعجزة و السحر، و أن الأولى من اللّه تعالى، و الثاني من الشيطان و أعوانه. فالمراد بالإنزال في الآية المباركة إنما هو نحو من الإلهام، و إنما ألهمهما اللّه تعالى ذلك لدفع المفاسد المترتبة على السحر، لا لموضوعية فيه حتّى يكون من الإلهام الفاسد.

قوله تعالى: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ . مادة (فتن) تأتي بمعنى الاختبار و الامتحان سواء في الخير أو الشر، قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35].

و المراد بها في المقام مطلق الاختبار، لأنهم إنما نسبوا إلى سليمان (عليه السلام) السحر و افتروا عليه بأن تسخيره للجن و الإنس و غيرهما إنما كان بواسطة السحر

ص: 349

حتّى غلب على أهل عصره، و كاد أن يذهب معجزة أنبياء اللّه تعالى رأسا، فأنزل اللّه الملكين يعلمان النّاس السحر، ليفرقوا بين الحق و الباطل مع تصريحهما لمن كان يتعلمه بأن ما يتعلمه إنما هو لأجل الامتحان و الاختبار، و دفع كيد الشياطين و التفرقة بين الحق و الباطل، و أن السحر كفر فلا تكفر بتعلمك له كما ذكر سبحانه و تعالى بعد ذلك.

قوله تعالى: فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ .

ذكر سبحانه مصداقا من مصاديق السحر لأجل كونه من أهمها الشايع بينهم.

قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ . لفرض أن جميع الموجودات من خيرها و شرها مورد قضائه و قدره فلا يخرج أثر السحر عن تقديره تعالى و قضائه، لئلا يبطل نظام القضاء و القدر و جعل المسببات مترتبة على أسبابها حسب ما اقتضته الطبيعة، و ما يختاره الفاعل المختار.

قوله تعالى: وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ . النفع ما يتوصل به إلى الخير، فهو خير و ضده الضر. و قد استعمل ذلك في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: يَدْعُوا مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ [سورة الحج، الآية: 12] و هو لفظ عام يشمل جميع موارد النفع في الدنيا و الآخرة، بل يطلق عليه سبحانه و تعالى فمن أسمائه المقدسة (يا ضار يا نافع) قال تعالى: وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس، الآية: 73]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [سورة المائدة، الآية: 119] إلى غير ذلك من موارد الاستعمال في القرآن الكريم، فيطلق على الواجب و الجوهر و العرض في الدنيا أو الآخرة.

ثم إنّ النفع و الضر إما واقعيان حقيقيان، و هما المنساقان منهما في استعمالات القرآن. أو وهميان خياليان قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 216] و غالب أمور الدنيا مبنية على الوهم و الخيال.

ص: 350

و المعنى: إنهم يتعلمون من السحر ما كان فيه ضرر عليهم في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فلعدم إحاطة المعلم بالواقعيات، و لا كون العلم من الوسائل إليها، فإن المنفعة الوقتية الخيالية التي يجلبها من السحر مع ما فيها من الإيذاء لسائر النّاس لا تعد خيرا أصلا لا سيما إذا كان جزاؤه عظيما. و اما في الآخرة فمع كون المعلوم قرين الكفر باللّه تعالى فلا بد و أن يكون إثمه عظيما، فقد أوقعوا أنفسهم في الخسران و النقصان بسوء اختيارهم. و في نفي المنفعة بعد إثبات المضرة إشارة إلى وجود منفعة مّا في السحر و لكنها قليلة.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . اللام للتوكيد و إن كانت في محل القسم. و لفظ (من) موصولة يصلح فيه الجنس و الإفراد و الجمع، و الضمير يعود إلى السحر. و الخلاق النصيب من الخير، يستعمل في القرآن في نصيب الآخرة.

و المعنى: إنّ الذين اتبعوا ما تتلوا الشياطين و اختاروا السحر وسيلة لنيل مقاصدهم، و استبدلوا ما في التوراة بذلك و نبذوه وراء ظهورهم يعلمون أنه ليس لهم في الآخرة نصيب، لفرض وجود العقل فيهم و تمييزهم بين الخير و الشر، و النفع و الضر، و إتمام الحجة عليهم بدعوة الأنبياء و تحريم السحر عليهم فما بذلوه بإزاء تعلمهم السحر و اتّباعه هو دينهم و آخرتهم.

و القضية من القضايا العقلية التي لا اختصاص لها بقوم دون آخرين، و هي استبدال الخير بالشر.

قوله تعالى: وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ .

أي: و لبئس ما استبدلوا به أنفسهم، لأنهم عرّضوا أنفسهم للهلاك و العذاب الدائم بما رضوا بالسحر - لو كانوا يعلمون علما فعليا بأنهم باعوا أنفسهم بأخسّ الأثمان و أقبحها. و في الآية المباركة من الفصاحة ما لا يخفى على من تأمل فيها، و تقدم نظيرها في الآية 90 من هذه السورة.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ خَيْرٌ . مادة

ص: 351

(ث و ب) تأتي بمعنى الرجوع في جميع متفرعاتها، و سمي الجزاء ثوابا لأنه رجوع العمل بوجوده الحقيقي الواقعي إلى العامل. قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]، و قال تعالى: هَلْ ثُوِّبَ اَلْكُفّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المطففين، الآية: 36] و غلّب استعمالها في مقابل العقاب.

و المعنى: أنهم لو استبدلوا السحر، و اتباع الشياطين بالإيمان و التقوى لكان ثواب اللّه على أفعالهم الصالحة خيرا لهم من جميع ما اكتسبوه من أفعالهم. و تنكير المثوبة لبيان أنّ أقل ما يصدق عليه الثواب هو خير لهم مما عملوه.

قوله تعالى: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ . المراد به العلم الفعلي و لو إجمالا أي: أنّهم لو كانوا يلتفتون إلى أنّ الإيمان باللّه و التقوى أعلى درجات الكمالات في الإنسان، و جزاء ذلك أغلى كل جزاء لعلموا قبح ما بدّلوه.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة أمور:

الأول: أنّ اللّه تعالى لم يبين حقيقة السحر في هذه الآية الشريفة، و أجمل الأمر، و إنما وصفه سبحانه في آية أخرى أنه تخييل و ضرب من الخداع النفسي، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه، الآية: 66]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية:

116] و لعل الحكمة في ذلك أنه أوكل معرفة الحقائق المكتسبة إلى بحث الإنسان و جهده في تحصيلها، و قد ذكرنا في قصة الخليقة ما يتعلق بالمقام.

الثاني: يستفاد من الآية المباركة أن السحر كان من الأمور العادية يتعلمه النّاس في تلك الأعصار، و هذا من جملة الفروق بينه و بين المعجزة فإنها ليست كذلك، و سيأتي مزيد بيان في البحث الآتي.

ص: 352

الثالث: لعل الوجه في إنزال السحر على الملكين دون الأنبياء (عليهم السلام) إما لأجل أن الملكين كانا محشورين في الناس يعرفان كيد الشياطين و مكر السحرة، أو لجلالة مقام الأنبياء (عليهم السلام) لئلا يتهمهم النّاس بما لا يليق بهم.

الرابع: تدل الآيات المباركة على أن في عمل السحر معرضية للكفر و لا ريب فيه لأن الأنس بما هو من شؤون الشيطان يوجب البعد عن ساحة الرحمن.

الخامس: الآية الشريفة تنص على أن تعليم الملكين للسحر إنما كان لغرض إفساد سحر السحرة، و بيان السحر و المعجزة. و فيها إشارة إلى أن التفريق بين المرء و زوجه و غيره من الأعمال الفاسدة إنما هو من عمل النّاس، و ليس من تعليم الملكين، و أنه كان ذلك من سوء اختيارهم و منه يظهر السر في اختفاء جملة من العلوم، و الاسم الأعظم و بعض الدعوات المستجابة.

السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ من الإيحاء النفسي للإنسان بأن لا يتأثروا بسحر السحرة فإنه ليس لهم تلك القوة الغيبية التي تؤثر على النفوس، بل أعمالهم تستند على ضرب من الخداع و التخييل، فما يحصل من المسببات المستندة إلى أسبابها إنما تكون بإذن من اللّه تعالى و قدره و قضائه.

السابع: يظهر من هذه الآية المباركة و ما في سياقها من الآيات الشريفة أن العلوم التي يتعلمها الإنسان على أقسام، منها ما ينفع لدينه و دنياه، و منها ما يضر بهما، و منها ما ينفع لدنياه و يضر بدينه، و منها ما يكون عكس ذلك، و منها ما لا نفع فيه أصلا و إنما هو من صرف الوقت في ما لا يعنيه و لا يفيده و المائز بين هذه الأقسام هو الكتاب الكريم، و السنة المقدسة، و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين (عليهم السلام) أحاديث كثيرة تعين بعض العلوم النافعة للنّاس، و لعل أجمعها

قول نبينا (صلّى اللّه عليه و آله): «إنما العلم

ص: 353

ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة و ما خلاهنّ فهو فضل» فذكر (صلّى اللّه عليه و آله) علم المبدأ و المعاد من أصول العقائد، و علم التحلي بالفضائل و التخلي عن الرذائل، و علم مسائل الحلال و الحرام، و شرايع الأحكام. فبيّن (صلّى اللّه عليه و آله) العلوم الدخيلة في استكمال الإنسان في عوالمه الثلاثة (عقله و روحه و بدنه) و قد جمعها

علي (عليه السلام) في عبارة موجزة: «العلم أكثر من أن تحيطوا به فخذوا من كل شيء أحسنه» هذا كله في العلم الذي له دخل في الكمال المطلق، و السعادة الأبدية. و أما العلوم و الصنايع و الفنون فالناس بالفطرة يتوجهون نحوها، فإن الدار دار الاستكمال و الخروج من القوة إلى الفعلية فلا يحتاج إلى ترغيب من مرغب إلهي أو غيره، فإن الساكن إنما يتحرك نحو المطلوب بالفطرة، و لذلك لم يعهد تفصيل ذلك في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، نعم أشير إليها في قوله تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [سورة القصص، الآية: 77]،

و ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اعمل لآخرتك كأنك تموت غدا و اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا» فالإنسان خلق لأجل الاستكمال و السعادة و لا ينفك عن ذلك، و داعيه و قائده و المرغب إليه إما هو اللّه تعالى و أنبياؤه و أولياؤه، أو يكون هي الفطرة التي هي جزء من السير التكاملي الموجود فيه. و في المقام تفصيل يأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثامن: ليس في قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ دلالة على أن مطلق السحر مما أوحي الى الملكين حتّى تدل بالملازمة على إباحته، لأن الإنزال من اللّه تعالى أعم من ذلك خصوصا إذا كان من باب دفع الأفسد بالفاسد.

بحث روائي:

الطبرسي في الإحتجاج عن الصادق (عليه السلام) و قد سئل من أين علم الشياطين السحر؟ قال: «من حيث عرف الأطباء الطب بعضه.

تجربة، و بعضه علاج».

ص: 354

أقول: الحديث موافق للاعتبار و هو شارح لجميع أخبار الباب مع غض النظر عن الأسناد.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا اَلشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ عن الباقر (عليه السلام) في حديث: «فلما هلك سليمان (عليه السلام) وضع إبليس السحر و كتبه في كتاب ثم طواه و كتب على ظهره: هذا ما وضع آصف بن برخيا للملك سليمان بن داود من ذخائر كنوز العلم من أراد كذا و كذا فليعمل كذا و كذا، ثم دفنه تحت سريره ثم استثاره لهم فقرأه، فقال الكافرون: ما كان يغلبنا سليمان إلاّ بهذا، و قال المؤمنون: بل هو عبد اللّه و نبيّه، فقال اللّه جلّ ذكره: و اتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان» و رواه القمي أيضا.

أقول: هذا الحديث شاهد على حمل قوله تعالى: ما تَتْلُوا على الافتراء و الافتعال، و هو شايع في الاستعمال، يقال: ما قلت و ما تلوت أي: ما افتريت. و المراد من إبليس كل مصدر للشر و الفساد.

و في العيون في حديث الرضا (عليه السلام) مع المأمون: «و أما هاروت و ماروت فكانا ملكين علّما النّاس السحر ليتحرزوا به عن سحر السحرة، و يبطلوا كيدهم، و ما علّما أحدا من ذلك شيئا إلاّ قالا له: إنما نحن فتنة فلا تكفر، فكفر قوم باستعمالهم لما أمروا بالاحتراز عنه و جعلوا يفرقون بما يعلمونه بين المرء و زوجه قال اللّه تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .

أقول: هذا الحديث أيضا مبيّن و شارح لظاهر الآية المباركة و لجميع ما ورد في الباب من الأخبار، كما أنه ظاهر في الكفر العملي مضافا إلى كفرهم الاعتقادي، و السحر قد يكون من الكفر العملي و قد يكون من الكفر الاعتقادي أيضا و قد فصلنا ذلك في الفقه. و هناك روايات أخرى بين مفصلة و غيرها مروية عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و خلفائه المعصومين أعرضنا عن ذكرها لأن سياقها يدل على عدم صدورها عن المعصومين (عليهم السلام) بل هي من المفتعلات كما هو الظاهر منها، و على فرض

ص: 355

صحة بعضها لا بد من رد علمه إلى أهله.

و في العيون أيضا عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ قال (عليه السلام): «لأنهم يعتقدون أن لا آخرة، فهم يعتقدون أنها إذا لم تكن آخرة فلا خلاق لهم أي لا نصيب لهم في دار بعد الدنيا، فهم مع كفرهم لا خلاق لهم فيها».

أقول: ظاهر الحديث نفي الخلاق بنفي الموضوع أي: لا يعتقدون بأصل الآخرة، و لكنهم على قسمين: قسم يعتقدون بها و ينكرونها عملا، و قسم آخر لا يعتقدون بها أصلا، فنزّل (عليه السلام) الأول منزلة الثاني لعدم الأثر لمجرد الاعتقاد بلا عمل.

بحث علمي:

السحر ضرب من ضروب التأثير النفساني و هو علم كسائر العلوم له قواعده و أحكامه و قد ورد في القرآن الكريم في ما يقرب من ستين موضعا و أكثره ورد في قصص موسى (عليه السلام) و فرعون و لم يبين سبحانه و تعالى حقيقته - كما هو دأبه جلّ شأنه في الحقائق العلمية - ليرجع الإنسان إلى نفسه في البحث عنها و الاجتهاد في تحصيلها و الارتقاء في العلم كما عرفت سابقا و إذا تتبعنا موارد استعمالات لفظ السحر نرى أنه يأتي بمعنى الافتتان و الفتنة،

و في الحديث: «ان من البيان لسحرا». و هذا هو المعنى الدارج عند العامة حينما يتعجبون من شيء و يفتتنون به. يقال: سحرتنا الطبيعة عند مشاهدة بديع صنع اللّه تعالى فيها. و يقال: سحرنا جماله إذا افتتن به و أمثال ذلك.

و أما السحر بالمعنى العلمي فهو ضرب من التأثير النفسي المشوب بالفتنة، و إظهار ما ليس بواقع بصورة الواقع المعبّر عنه في القرآن الكريم بالتخييل و الخداع، قال تعالى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه، الآية: 66]، و قال تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ اَلنّاسِ وَ اِسْتَرْهَبُوهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 116] فإن الإرهاب المقارن مع

ص: 356

التخييل و الخداع له الأثر النفسي في الإنسان.

و العلوم من ناحية الموضوع تنقسم إلى أقسام:

الأول: ما كان موضوعه المادة و الماديات كالعلوم الطبيعية.

الثاني: ما كان موضوعه الروح و ما وراء المادة و هذا القسم يختلف من حيث تجرد موضوعه عن المادة بالكلية، كالعلوم الإلهية، أو لم يكن كذلك كالعلوم التي تبحث عن الملائكة و الأرواح و نحوهما.

الثالث: ما كان موضوعه مزيجا من المادة و الروح كعلم السحر و الطلسمات، و النيرنجات و أمثال ذلك، فإنها من دون اتصالها بالأرواح لا أثر لها، كما أنها لو لم تستعن بأمور خاصة لم يتأثر الطرف المقابل كحركات في اليد أو في العين أو تحريك في اللسان أو رموز في الكتابة او تدخين و غير ذلك. نعم من شدة اعتماده على الأثر النفسي يمكن لنا أن نقول انه في جوهره عمل نفسي له آثار مادية، و لذا لا يمكن أن يأتي تحت تجربة و إلاّ كان وهما في وهم. و من الواضح أن الأثر النفسي لا يمكن أن يتحقق إلاّ في محل قابل و مستعد لقبول ما يصدر عن الساحر، و لذلك كان تأثيره في الإنسان محدودا بالفرد الناقص من حيث المعرفة و الكمال و أما الإنسان الكامل فلا أثر للسحر فيه، و لم يعهد أن نبيا من أنبياء اللّه تعالى تغلّب عليه السحر و أثّر فيه ما ورد في سحر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فلنا فيه كلام يأتي في محله. و من ذلك يعلم وجه انتشار السحر في الأمم البدائية التي يكثر فيها الجهل و الإعتقاد بالخرافات.

ثم إنّ إنفاذ السحر و تأثيره في النفوس الضعيفة يتوقف على قوة الساحر و ثبات في العزيمة، و أكاذيب يستعين بها على التأثير في وعي المسحور و وهمه يشبه في ذلك بعلم التوهم - علم التنويم المغناطيسي - المبني على التأثر في وهم الأفراد و يستفيد الساحر من الأكاذيب و المفتعلات ما لا يستفيده من غيرها، و هو إنما بلغ إلى هذه المرتبة بفضل ما كان يعتقده النّاس في السحر و السحرة من ان لهم التصرف في كل شيء و تصدر عنهم أعمال عظيمة كإحياء الأموات، أو إصابة الناس

ص: 357

بالأمراض، فكانوا يخافون منهم كخوفهم من اللّه تعالى. و لم تسلم الأمم الراقية في هذه الأعصار عن هذه الخرافات حتّى جعلوا للساحر منزلة اجتماعية عظيمة يتوصلون بهم لإنجاح مقاصدهم. و ساعد ذلك ما يدعيه السحرة من أنهم قادرون على استحضار الأرواح فيسألونها عما يريدونه أو يأمرونها بأعمال خاصة، أو أنهم قادرون على إطلاق الرياح و إنزال الأمطار أو يعرفون حوادث المستقبل و يعلمون مقاصد الإله الى غير ذلك من الأكاذيب فيتأثر النّاس بها فينطبع في نفس الواهم أن الأرواح تستجيب إلى أوامر الساحر و لما كان كل ذلك من الوهم ذهب بعض العلماء إلى أنه ليس للسحر حقيقة إلاّ ما يؤثّر في الوهم و الخيال.

و لقد كان موقف الأديان الإلهية و الأنبياء (عليهم السلام) و الكتب السماوية من السحر واضحا فكان أكبر همهم هو إرجاع الإنسان إلى تمييزه و عقله، و إبطال ما كان يحيط بالسحرة من العظمة و الكبرياء، و أما القرآن الكريم فقد أبطل السحر من جهتين:

الأولى: إزالة الأثر النفسي للسحر و السحرة فقال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 102] فنفى سبحانه و تعالى عن السحرة القوة الغيبية، و كم لهذا الكلام الشريف من الأثر النفسي المعاكس للسحر، و أباطيل السحرة، فإن الإنسان إذا اعتقد ان جميع الممكنات تحت إرادته تعالى و قضائه و قدره، و هو القيوم المطلق و لا يقدر أحد ان يتصرف في شيء إلاّ بإرادته تعالى كان لهذا الاعتقاد الأثر الكبير في نفسه، فلا يبقى مجال حينئذ لأباطيل السحرة.

و لعل من حكم إنزال الملكين - هاروت و ماروت - هو تعريف الناس بأعمال السحرة، و إبطال ما أثاروه حولهم من الإشاعات، و تهيئة النفوس لتلقي المعارف الإلهية كما عرفت.

الجهة الثانية: هدم صرح السحر حينما قال سبحانه و تعالى بأنه ضرب من الخداع و التخييل، و ان الساحر لا يفلح في أمره مهما حاول إظهار الجد في عمله. و هذا لا ينافي إثبات الحقيقة له في الجملة بل إثبات

ص: 358

الوجود هو إثبات للتحقق له، فإن الوجود مساوق للشيئية و التحقق، قال تعالى: إِنْ هذا إِلاّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [سورة المدثر، الآية: 24] و المراد من الأثر في الآية المباركة الإتباع على ما سيأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى، فإنه مما لا ينكر ظهور بعض الأعمال و خرق العادة على يد الساحر و لو بحسب وجدان المسحورين، و من نفى عنه الحقيقة إنما أراد نفي الحقيقة بالنسبة إلى الواقع كالمعجزة و الكرامة، و هذا مسلّم لا ريب فيه.

ثم إنّ تأثير السحر في الإنسان ضرب من تأثير القوى الفعّالة فيه. كتأثير الكواكب في الأرض بما فيها الإنسان مما لا ينكره أحد، كما أن تأثير الملائكة المقربين أيضا كذلك. و تأثير الأنبياء و الأوصياء و بعض الصالحين بما يصدر منهم المعاجز و خوارق العادات لا يشك فيه عاقل. و منها تأثير العين و الإصابة بها فإنه لا يرتاب فيها أحد و ان اختلف العلماء في كيفية تأثيرها،

و في الحديث: «لو كشف عن القبور لرأيتم أكثر موتاكم من العين»، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة القلم إن شاء اللّه تعالى.

نعم الفرق بين ما يصدر من الأنبياء و الأولياء و العلماء الذين حذوا حذوهم و بين ما يصدر من الشياطين و تابعيهم من السحرة و الكهنة واضح، فإن بينهما فرقا بحسب الذات و المنشأ و الغاية.

توضيح ذلك: إنّ الإنسان في عالم الدنيا قائم بالاختيار. و أما عالم الآخرة فهو عالم جزاء الفاعل المختار، فلو لا الاختيار لبطل العالمان و الاختيار بما هو اختيار متعلق بطرفي الفعل - الخير و الشر، أو الهداية و الضلالة - و لكل منهما قائد و دليل. و الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم أدلاء الهداية و أئمتها. و الشياطين و من يحذو حذوها قواد الشر و الفساد و أدلاؤهما. و نظر كل واحد من القائدين و الدليلين هو الإنسان لا غير، فالمعجزات و الكرامات و خوارق العادات المنبعثة عن القدرة الإلهية غير المتناهية كلها من الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الذين أقدرهم اللّه تعالى على تلك الأمور و هي سلاسل يجرّ بها النّاس إلى الجنّة، و في مثلها

قال نبينا

ص: 359

الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل». و السحر و الكهانة و الشعبذة و أمثالها من الحيل كلها من الشياطين و هي سلاسل يجرّ بها إلى النّار. فذات المعجزة من طرق الهداية و ذات السحر و نحوه من طرق الضلالة. كما أن منشأ الأولى صفاء النفس و ارتباطها مع اللّه تعالى و إفاضته جل شأنه على الفرد، و منشأ الثاني كدورة النفس و خبثها و ارتباطها مع الشياطين. و مع ذلك لم يكن للسحر تأثير إلاّ بإذن اللّه تعالى و قدرته، فإنه القيوم المطلق على جميع الممكنات لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3].

ثم إنّهم ذكروا للسحر أنواعا كثيرة تختلف في التأثير شدة و ضعفا.

و لكن يمكن لنا القول بأن تلك الأنواع خلط بين السحر و غيره، فقد ذكروا منها الاستعانة بالأرواح الطاهرة السماوية، و النفوس الفلكية فإن مثل ذلك لا يعدّ من السحر أبدا. فإن الشخص لا يصل إلى هذه المرتبة إلاّ إذا كانت نفسه طاهرة و كاملة، كما أن الاستعانة بالأدوية أو بعض الآلات، أو الأخذ بالعين فإنها لا تسمى سحرا أيضا و إن اثّرت اثره، كما لا يخفى على من تتبع الكتب، فالسحر كما عرفت هو الاستعانة بالأرواح الأرضية كالشياطين و الأجنّة إما بالتسخير، أو بأفعال خاصة.

كما أنّ تسخير الأرواح - سواء تعلقت بذوات الأرواح أو بالنفوس الفلكية أو غيرها. أو تبديل عنصر إلى عنصر آخر - سواء كان بآلة أو غيرها، كل ذلك ممكن عقلا و واقع خارجا، و إن لم يترتب عليه حرام فهو جائز شرعا، و ليس ذلك من السحر في شيء، بل هي من سبل استكشاف المجهول و لا يمكن ذلك إلاّ بتهيئة النفس و إعدادها بأعمال شاقة. كما أن من طرق استفادة السر المكنون علم الحروف و النجوم و هما ليسا من السحر أيضا، بل نسب الأول إلى الأئمة الهداة (عليهم السلام). و سمي بالجفر، و هو من العلوم الشريفة كثيره لا يدرك، و قليله لا ينفع.

ص: 360

بحث فقهي:

المحرمات في الشريعة المقدسة تارة: تكون المفاسد فيها شخصية فقط كشرب السم مثلا، و أخرى: تكون شخصية و نوعية كالظلم و ثالثة: تكون منهما مضافا إلى معرضية المعارضة مع النبوات السماوية كالسحر، و حيث إن العقل يستقل بقبح الجميع خصوصا الأخيرتين فلا بد و أن تكونا محرمتين في جميع الشرايع الإلهية، فالسحر محرم في شريعتي موسى و عيسى (عليهما السلام). و قد ورد في سفر اللاويّين الإصحاح التاسع عشر من التوراة: «لا تلتفوا إلى الجان و لا تطلبوا التوابع [النفاثات في العقد] فتتنجسوا»، و قال في الإصحاح العشرين منه: «و إذا كان في رجل أو امرأة جان أو تابعة، فإنه يقتل بالحجارة يرجمونه دمه عليه».

ثم إنه قد استدل بعض الفقهاء بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلَى اَلْمَلَكَيْنِ - الآية على جواز تعليم السحر و تعلّمه، لأن المنزل هو اللّه تعالى، و الملك معصوم، فلا يعقل أن يكون محرما.

و فيه: إن التأمل في مجموع الآية الشريفة صدرها و ذيلها يدل على ان الاستدلال بها على الحرمة أولى من الاستدلال بها على الجواز، فإنها قد عدت السحر في عرض الكفر فكيف يستدل بها على الجواز؟ نعم قد يعرض الجواز لعناوين خارجية، كما تزول حرمة الكذب لعروض عناوين توجب رفع الحرمة. و المسألة محررة فى الكتب الفقهية.

بحث كلامي:

لا ريب في أنّ ما يفاض على الممكنات لا بد أن ينتهي إليه سبحانه و تعالى بنحو الاقتضاء، للأدلة العقلية و النقلية،

ففي الأثر المعروف - المنقول متواترا بين الفريقين - عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا إله إلاّ اللّه وحده وحده وحده» فإن الوحدة الأولى إشارة إلى وحدة الذات، و الثانية تشير إلى وحدة الصفات أي سلب جميع النقائص عنه تعالى، و في الثالثة إشارة إلى وحدة الفعل أي أنه مبدأ الكل، و أنه لا

ص: 361

حول و لا قوة إلاّ به، فهذه الجملة المباركة جامعة لأنحاء التوحيد، و لكن ذلك لا ينافي قانون الأسباب و المسببات فان اللّه تعالى أبى ان يجري الأمور إلاّ بأسبابها و من ذلك يعلم وجه انتساب المعجزة، و خوارق العادات، و الكرامات و السحر و الطلسمات إليه تعالى. و قد فرق الفلاسفة و المتكلمون بين المعجزة و السحر بعد اتحادهما في أنهما صادران من عالم آخر غير عالم المادة: و أنّ هدفهما هو الإنسان لا غير بوجوه عديدة:

الأول: بحسب المنشأ، فإن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير بعد صفائها و ارتباطها مع اللّه تعالى، و الاستفاضة من القدرة الإلهية. و السحر ينبعث عن نفس خبيثة مرتبطة مع الشياطين كما تقدم.

الثاني: الفرق بحسب الذات، فإن المعجزة من طرق الهداية و الصّلاح و الخير و لا تصدر إلاّ من النفوس الخيّرة، بخلاف السحر فإنه من طرق الضلال و الغواية و الشر، و لا يصدر إلاّ من النفوس الشريرة.

الثالث: الفرق بحسب الغاية، فإن الغاية من المعجزة هي الدعوة إلى الحق و تثبيت دعوى الأنبياء، و لذا تكون مقرونة غالبا مع التحدي فلا تصدر من الكاذب. و أما السحر فإن الغاية منه الشر و الإضرار.

الرابع: إن الشخص الذي تجري على يديه المعجزة ذو نفس كاملة قد اجتهد صاحبها في القيام بمراد المحبوب اعتقادا و عملا عن علم بأصول الشريعة و فروعها يدعو إلى الحق، و هو يعمل بما يدعو إليه، فإن لمثل هذه النفوس إرادة قوية و لها خلاقية في الجملة لانبعاث إرادتهم عن إرادة العليم الحكيم، إما مباشرة كالأنبياء و الأوصياء، أو بواسطتهم كعباد اللّه الصالحين. و هذا بخلاف السحر و نحوه فإن صاحبه لا يكون كذلك، بل له نفس شريرة كدرة لا يصدر منها الخير، مرتبطة مع الشياطين و من يحذو حذوها.

الخامس: المعجزة ليست مكتسبة و لم تكن لها قواعد مطردة، بل هي تصدر حسب إرادة اللّه تعالى، فإما أن تكون خارقة للعادة واقعا و ظاهرا، أو بحسب الظاهر و إن كانت في الواقع مطابقة لقانون السببية

ص: 362

و المسببية. و أما السحر فهو علم له قواعده و أحكامه يصدر عن تعلم و تجربة. و هناك فروق أخرى أغمضنا النظر عن ذكرها، فإن الأمر وجداني ظاهر لكل من رجع إلى وجدانه.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اَللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (105) ذكر سبحانه و تعالى جهالة أخرى من جهالات اليهود و هي من مظاهر تحريفهم للكلام عن مواضعه، و سوء أدبهم مع الأنبياء (عليهم السلام) ثم بيّن العلم الحق بعد أن أبطل بعض العلوم في الآيات السابقة و جعله كالكفر و بدأ أولا ببعض آداب التعلم، و وجّه الخطاب للمؤمنين تشريفا لهم و إيذانا بعلو التعليم و التعلم، و لما كان في هذا الأمر ارتباطا بينهم و بين اليهود.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . ذكر هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يزيد على ثمانين آية نزلت جميعها في المدينة. و في جملة كثيرة من الأحاديث أنه ما أنزلت آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ رأسها و أميرها.

و عن علي (عليه السلام) «ليس في القرآن يا أيّها الذين آمنوا إلاّ و في التوراة يا أيها المساكين» و يأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

و يشمل الخطاب كلا من الحاضرين في مجلسه و الغائبين بل المعدومين أيضا، لأنه متعلق بالعنوان من حيث كونه طريقا إلى المعنون.

و إنما ذكر الإيمان في متعلق الخطاب، لأجل الترغيب إليه و تحريض النّاس إلى الاتصاف به ابتداء ثم العمل بما يتعلق به، فيكون مثل هذا الخطاب أشد في جلب القلوب و آكد في الدعوة إلى المطلوب، و له نظائر كثيرة في

ص: 363

كلام الفصحاء من العرب و غيرهم.

قوله تعالى: لا تَقُولُوا راعِنا . لفظ «راعنا» سواء كان من المراعاة أو من الرعونة، أو شيئا آخر، ليس استعماله من الأدب المحاوري، و في خطاب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بذلك من الجفاء و سوء الأدب لأنه يأتي بالمعنى الذي بيّنه تعالى بقوله جلّ شأنه مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ [سورة النساء، الآية: 46] و ذلك لأن مقام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مقام المعلم الهادي و لا بد للمتعلم من حفظ الأدب معه، و نبذ كل ما هو مشتبه الإهانة و الهتك فضلا عن معلومهما. و يحترز عن إظهار منزلة لنفسه عند المعلم فإنه من الإهانة و الجفاء بمقامه.

و المعروف أنّ هذه الكلمة سب بالعبرانية، كما ورد في بعض الروايات. و قال شيخنا الأستاذ البلاغي (رحمة اللّه عليه): «قد تتبعت العهد القديم فوجدت أن كلمة «راع» - بفتحة مشالة إلى الألف، و تسمى عندهم (قامص) - تكون بمعنى الشر أو القبيح و من ذلك ما في الفصل الثاني و الثالث من السفر الأول من توراتهم. و بمعنى الشرير واحد الأشرار، و من ذلك ما في الفصل الأول من السفر الخامس، و في الرابع و الستين و الثامن و السبعين من مزاميرهم، و في ترجمة الأناجيل بالعبرانية. و «نا» - ضمير المتكلم - في العبرانية تبدل الفها واوا أو تمال إلى الواو فتكون راعنا في العبرانية بمعنى شريرنا و نحو ذلك» فتكون الكلمة في لغتهم «راعينو» موافقة للعربية في نبرتها و لهجتها، و يكون النهي عن استعمالها لئلا يتخذها اليهود - الذين عرفوا بسوء الأدب مع أنبيائهم - وسيلة للسب و الطعن في الدين فيقتدون بالمؤمنين في اللفظ، و يقصدون المعنى الفاسد منه.

قوله تعالى: وَ قُولُوا اُنْظُرْنا وَ اِسْمَعُوا . أي: أمهلنا حتّى نفهم ما تقول، أو راقبنا في إدراكنا و أقبل علينا. و هذه الكلمة خير من الكلمة الأولى فإنها تفيد ما كانوا يريدونه، و تنفي ما كانت توهمه الكلمة الأولى. و اسمعوا

ص: 364

أي: افهموا ما يبين لكم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فيتحقق حينئذ حقيقة الاستفادة و التعلم.

قوله تعالى: وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: أن من فعل ذلك منكم و لم يسمع قوله (صلّى اللّه عليه و آله) و خالف أمره يصير كافرا و للكافرين عذاب اليم بلا فرق بين اليهود و غيرهم فان حكم الآية المباركة عام، إذ هو من الأحكام الفطرية الحسنة التي يحكم بحسنها العقلاء، و لا بد من مراعاة ما ورد فيها من الآداب على جميع المتعلمين و المستفيدين. و تشير الآية المباركة إلى مدح كون المستفيد و المتعلم في مقام الفهم و الإدراك، و حسن التماسه ذلك من المعلم، كما تشير إلى أنّ إفادة المفيد لا بد و أن تكون بقدر استعداد المستفيد و المتعلم و على قدر القابليات، و تدل على ذلك النصوص الكثيرة،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلم النّاس على قدر عقولهم».

قوله تعالى: ما يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ لاَ اَلْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ . أي: ما يحب الذين كفروا من اليهود و النصارى و لا من المشركين أن ينزل عليكم أيّ خير. و كلمة «من» تفيد الاستغراق لوقوعها في حيّز النفي و في إتيان كلمة «ربكم» إشارة إلى عطفه تعالى على هذه الأمة.

و المراد من الخير في المقام كل خير دنيوي و أخروي فيشمل منصب النبوة و ما يلزمها من المعارف و الكمالات الإنسانية المنبعثة عن هذه الشريعة المقدسة الغراء. و السبب في حسد الكفار و المشركين على المؤمنين هو تمني الكفار أن تكون فيهم الحركة الدينية فلا يتعدى إلى غيرهم. و أما المشركون فلأن الإسلام يهدد كيانهم، و يخيّب آمالهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ . تقدم معنى الرحمة في سورة الحمد، و يراد منها في المقام بقرينة «ب» التبعيضية خصوص تلك الرحمة التي أنزلت على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و من تبعه من

ص: 365

المؤمنين و هي النعمة الكاملة الدائمة الأبدية و الكمال الأتم المطلق، و هي حقيقة الإيمان التي مثلت في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ثم أشرقت منه (صلّى اللّه عليه و آله) على تابعيه و أمته الجامعة للرحمة الرحمانية و الرحيمية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ . ذكرت هذه الجملة المباركة في موارد كثيرة من القرآن الكريم، كما وردت مادة (ف ض ل) في مواضع أخرى منه، قال تعالى: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 153]، و قال جلّ شأنه: وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 251]، و قال تعالى: وَ أَنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ [سورة الحديد، الآية: 29] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، و من أسمائه الحسنى المباركة «يا دائم الفضل».

و أصل هذه المادة تستعمل في الزيادة على ما يلزم على المعطي إعطاؤه، و على ما يستحقه المعطى له، فيكون إحسانا و زيادة فلا تطلق على عوض المال و العمل. نعم إذا أعطي زيادة على المثل أو القيمة أو المسمى كان فضلا. و مواهب اللّه تعالى على جميع خلقه من هذا القبيل على فرض الاستحقاق فضلا عن أنه لا وجه لأصل الاستحقاق، فهي فضل و تفضل منه عزّ و جل سواء كان بالنسبة إلى المعنويات أو الماديات أو بالنسبة إلى النشآت الأخرى.

و في الآية المباركة رد على الكفار و المشركين و على جميع الحاسدين بما يبين جهلهم أي أنه لا يمنعه مانع، و لا يحوله حسد حاسد من اختصاص رحمته بمن يشاء من عباده حسب ما يراه من المصلحة فإنه ذو الفضل العظيم.

بحث روائي:

العياشي عن علي بن الحسين (عليهما السلام): «ليس في القرآن يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و في التوراة يا أيها المساكين» و رواه الصدوق عن علي

ص: 366

(عليه السلام) أيضا.

و عن أحمد بن حنبل في المسند عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما أنزل اللّه آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ رأسها و أميرها».

و في ينابيع المودة أخرجه موفق بن احمد عن مجاهد و عكرمة عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و قال موفق في المناقب رواه جماعة من الثقات هم الأعمش و الليث و ابن أبي ليلى و غيرهم عن مجاهد و عكرمة، و عطا عن ابن عباس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في الصواعق أخرجه الطبراني و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما أنزل اللّه آية فيها يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إلاّ و عليّ أميرها و شريفها».

و قال الإربلي في كشف الغمة نقل ذلك عن ابن مردويه بأسانيده عن ابن عباس و حذيفة. و في حلية النعيم إن النّاس يروون هذا الحديث.

أقول: نقل ذلك عن الإمامية بطرق متواترة، و هو حق لا ريب فيه لأن عليا (عليه السلام) أعلم النّاس بالقرآن، و بجهات الإيمان بإجماع المسلمين، فتكون الروايات الواردة في الآيات المتفرقة في حق علي (عليه السلام) من باب الانطباق.

و في ينابيع المودة عن أبي الحسن و الضحاك و علقمة: «ان كل شيء من القرآن يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا فانه نزل بالمدينة».

أقول: مثل هذه الرواية موافقة للاعتبار، لأن مكة المكرمة بدء نزول الوحي كانت بمنزلة المادة للإيمان و في المدينة المنورة تحققت الصورة، فيصح توجيه الخطاب حينئذ.

و عن الشيخ في التبيان عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى «راعنا» إنها كلمة سب.

ص: 367

الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا - الآية و ذلك أن العرب كانوا يتكلمون بها فلما سمعتهم اليهود يقولونها للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) أعجبهم ذلك.

و كان راعنا في كلام اليهود السب القبيح، فقالوا: إنا كنّا نسب محمدا سرا، فالآن أعلنوا السب لمحمد، فكانوا يأتون نبي اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فيقولون: يا محمد راعنا و يضحكون ففطن بها رجل من الأنصار و هو سعد بن عبادة - أو سعد بن معاذ - و كان عارفا بلغة اليهود، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه و الذي نفس محمد بيده لئن سمعتها من رجل منكم لأضربنّ عنقه. فقالوا: ألستم تقولونها؟ فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا اُنْظُرْنا - الآية.

أقول: الرواية حسب الإعتبار صحيحة و تقدم وجه ذلك كما ذكرنا عن بعض مشايخنا.

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أ

اشارة

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (108) بعد أن ذكر اللّه سبحانه و تعالى أنه ينزل الرحمة و الوحي على من يشاء من عباده بيّن سبحانه و تعالى استيلاءه على الحكم بكل ما يشاء من النسخ و الإثبات، لأنه مالك السموات و الأرض و على كل شيء قدير، و في الآيات المباركة رد لمزاعم اليهود الذين يحدّدون قدرته تعالى بحد خاص، و قد ذم سبحانه و تعالى أيضا توجيه كل سؤال ينبعث عن قصور العقول إلى رسوله الكريم كما فعلت اليهود بالنسبة إلى موسى (عليه السلام). و هذا في الواقع يكون ذما للتقليد عن الكفار.

اشارة

ص: 368

التفسير

قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ . النسخ يأتي بمعنى إزالة شيء بشيء يتعقبه، يقال نسخت الشمس الظل؛ و نسخ الظل الشمس، و نسخ الشيب الشباب، و يستلزم ذلك أمور:

الأول: النقل كما يقال نسخت الكتاب، و قال تعالى: إِنّا كُنّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الجاثية، الآية: 29] و هو عبارة عن نقله و ضبطه.

الثاني: مجرد الإزالة إذا لوحظ بالنسبة إلى المنسوخ فقط و عن بعض المفسرين أن منه قوله تعالى: فَيَنْسَخُ اَللّهُ ما يُلْقِي اَلشَّيْطانُ [سورة الحج، الآية: 52] أي يزيله فلا يتلى و لا يثبت في المصحف، و الظاهر بطلانه لتذييل الآية المباركة بقوله تعالى: ثُمَّ يُحْكِمُ اَللّهُ آياتِهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي يزيل ما ألقاه الشيطان و هو الباطل و يثبت الحق و أما نسخ التلاوة فسيأتي بطلانه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: الإثبات إذا لوحظ بالنسبة إلى الناسخ فقط.

الرابع: هما معا إذا لوحظ بالنسبة إليهما معا فيكون بمعنى التبديل أيضا، و منه اصطلاح العلماء في النسخ المبحوث عندهم أي تبديل ما كان ثابتا من الحكم الشرعي بدليل معتبر على خلافه. و التناسخ المعروف عند أهله أيضا من النقل و الإزالة كما لا يخفى.

و من ذلك يعلم أنّ تخصيص العمومات، و تقييد المطلقات، و القرائن العامة أو الخاصة على خلاف الظاهر ليس من النسخ في شيء لا موضوعا و لا حكما.

و الآية هي العلامة، و تطلق على تمام الآية و على الجزء منها، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران، الآية: 113]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 71].

ص: 369

و الآية هي العلامة، و تطلق على تمام الآية و على الجزء منها، بل قد أطلق القرآن الآية على ما جاء في الكتب الإلهية السابقة قال تعالى: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ [سورة آل عمران، الآية: 113]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 71].

و المراد بها العلامات الدالة على وحدانيته تعالى، و صفاته المقدسة و أفعاله الحسنى، و الأنبياء، و القرآن، و سائر المعجزات فلا تختص بخصوص الآيات المباركة القرآنية، و يستفاد هذا التعميم من قوله تعالى في ذيل الآية المباركة أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، و قال الشاعر:

و في كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

و إن كان شأن النزول - كما في بعض التفاسير - آيات الأحكام الواردة في القرآن، و قد ذكرنا مرارا أن شأن النزول من باب التطبيق لا التخصيص.

فهي قابلة للشدة و الضعف فربما يكون شيء آية له تعالى من جميع جهاته و قد يكون من جهة. و النسخ قد يتعلق بالجميع و قد يتعلق بالبعض.

قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها . من النسيان حذف حرف العلة للجزم بالعطف على «ننسخ» و الفعل «انسى ينسي» بمعنى ترك الحفظ إما لقصور، أو تقصير، أو عن علم و تعمد، لحكم و مصالح تترتب عليه. و من الأول قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا [سورة البقرة، الآية: 286]،

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع عن أمتي الخطأ و النسيان».

و من الثاني قوله تعالى: وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [سورة الجاثية، الآية: 34]، و قوله تعالى: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنّا نَسِيناكُمْ [سورة السجدة، الآية: 14]، و قوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19] و التقصير إنما هو من العبد لا منه تعالى، فإنه يجازي المقصرين حسب تقصيرهم.

و من الأخير قوله تعالى: أَوْ نُنْسِها أي نترك حفظ الآية لمصالح.

و ترك الحفظ تارة: لعدم الوحي مع وجود المقتضي له، لمصالح في الترك تغلب على المقتضي. و أخرى: ترك الحفظ عن قلب نبينا الأعظم

ص: 370

(صلّى اللّه عليه و آله) مع صدور الوحي اليه. و ثالثة: بالإزالة عن قلوب المخاطبين مع صدور الوحي على لسان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و يصح الجميع بالنسبة إليه عزّ و جل فان ما سواه تحت إرادته. و استعمال النسيان في ما ينبغي أن ينسى كثير، و في المثل المعروف «احفظوا أنساءكم» أي التزموا بأنسائها و عدم الالتفات إليها و عدم ترتيب الأثر عليها، و هي عبارة عن ذمائم الصفات التي يرتكبها الشخص في المجتمع على الغير أو يرتكبها الغير عليه.

و قال بعض المفسرين إن قوله تعالى: نُنْسِها أي نؤخرها من الإنساء،

و منه قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلة الرحم مثراة للمال، و منسأة للأجل»، و يقال: نسأ اللّه أجلك، و قد انتسأ القوم إذا تأخروا، أو تباعدوا.

و يمكن المناقشة فيه: بأن الكلمة لو كانت من الإنساء بمعنى التأخير لما جاز حذف الياء، لأنها ليست حرف علة و القراءة المشهورة على خلافه، مضافا إلى أن التأخير ملازم للترك أيضا.

و لا تنافي بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [سورة الأعلى، الآية: 6] لأن الأخير بحسب التأييد الإلهي، و الأول بحسب ذات الطبيعة البشرية. بل يمكن أن يقال: إن الآية المباركة لا تشمل نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى القرآن، لأنه مؤيد بروح القدس و متصل بالمبدأ القيوم. نعم في الموضوعات الخارجية ورد الإنساء بالنسبة إليه (صلّى اللّه عليه و آله) كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: 36] فراجع.

قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها . اي نأت بخير من تلك الآية المنسوخة في الأثر، و أنفع منها في الإقناع و الصّلاح وفق المصالح، لأن الدار دار التكامل، و أفعال اللّه تعالى مبتنية على المصالح التكاملية مع اقتضاء علمه الأتم و حكمته البالغة في ذلك أيضا.

قوله تعالى: أَوْ مِثْلِها . في التأثير ليتذكر الإنسان ما قد نسيه

ص: 371

منها.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . هذا بمنزلة التعليل لاستيلائه تعالى على النسخ و الإنساء، فإنّ قدرته التامة غير المحدودة تقتضي ذلك، و هو قرينة على أن المراد من الآية ليس خصوص القرآن، بل تشمل كل آية دالة على وحدانيته و صفاته الحسنى، فتشمل المعجزات الباهرات و منها القرآن الكريم الدالة على نبوة أنبياء اللّه تعالى.

و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفي، و لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) بمفرده بمنزلة الجميع، و لبيان طريق الاستدلال له حتّى يتعلم منه الجميع. و يعتبرونه الواسطة بينهم و بين اللّه تعالى. و الاستفهام تقريري و هو أبين في الإثبات من نفس الاستدلال.

ثم إنه تعالى أراد تثبيت ايمان المؤمنين لئلا يتأثروا بشبهات الكافرين فأقام الدليل الآخر على تمام قدرته.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . أي أنه مالك لهما خلقا و إيجادا، و إرادة و تدبيرا، و النّاس كلهم عبيده يفعل ما يشاء فيهم و يحكم ما يريد لا يعجزه شيء. و الخطاب للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) تشريفا و المراد به غيره.

قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ . التفات في الخطاب من الإفراد إلى الجمع لما ذكرناه و الولي هو القائم بالأمر و مدير الرعية و مدبر أمورها. و النصير من يطلب النصرة و التقوية منه. أي: إنّ وليكم و ناصركم هو اللّه تعالى وحده و هو يفعل فيكم بما تقتضيه حكمته البالغة و لا يفوته أحد، فهو الذي يقدر الإنسان على العمل بنحو الاقتضاء، كما أنه المالك للثواب و العقاب فيكون تعالى مبدأ الكل و منتهاه.

و الآية من الأدلة العقلية على تمام قدرته و كمال إرادته، و كما لها نظير في الآيات القرآنية، و فيها إشارة إلى لزوم انقطاع العباد إليه تعالى لانحصار الولاية فيه و الإعانة منه عزّ و جل فهو مسبب الأسباب بما يشاء و إن كان جعلها تحت اختيار العبد و قدرته فلا بد و أن يكون السعي من العبد و النصرة

ص: 372

منه عزّ و جل، فإن وافقت نصرته تعالى لسعي العبد فذلك هو الفوز العظيم و إن تخلفت فهو الخسران المبين.

قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ . أم هنا منقطعة بمعنى بل، و تتضمن الاستفهام فتكون إضرابا عن عقائدهم الفاسدة بما هو أفسد. و المراد بالسؤال كل سؤال لا يصدر عن فكر و روية بل يصدر عن عناد و لجاج، و يكون منشؤه الجهل المركب. و قد بيّن سبحانه و تعالى بعض تلك الأسئلة في آيات أخرى، فقال تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 90] و المراد بالسائل كل من تصدى له سواء كان من الكفار أو المشركين أو المنافقين.

و السؤال في الآية المباركة عام يشمل ما وقع في عصر البعثة بالنسبة إلى اصل حدوث الشريعة و ما يقع بعدها إلى يوم القيامة كما قال تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 101] و استنكار إرادتهم للسؤال يستلزم استنكار وقوع المراد بالأولى، فهي أشد من تقبيح المراد و الذم عليه، فيصير نظير قوله تعالى: تِلْكَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة القصص، الآية: 83] فنفى تعالى اصل تحقق المراد منهم بنفي اصل الإرادة.

قوله تعالى: كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ . فقد طلب فرعون و قومه من موسى (عليه السلام) الآيات الواحدة تلو الأخرى و لم يؤمنوا بها استكبارا منهم و عنادا، و كذلك فعل بنو إسرائيل فإنهم سألوا موسى (عليه السلام) أن يريهم اللّه تعالى جهرة كما حكى اللّه تعالى عنهم، فقال عزّ و جل: إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية:

55]، و قال تعالى: اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف، الآية:

138] و غير ذلك من اقتراحات بني إسرائيل على موسى (عليه السلام) من قبل.

و قيل: إن بعضهم سأل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أن يجعل

ص: 373

لهم ذات أنواط كما كان عند أقوام آخرين. فحقيقة الجهل المركب واحدة و ان اختلفت مظاهرها. و قد أخبر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا. و لا ريب أن تلك الأسئلة لا تصدر إلاّ ممن طبع على اللجاج و العناد، و عدم الإعتقاد بما جاء به الأنبياء، و لذا أنكر عليهم سبحانه و تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ .

التبديل هو جعل شيء بإزاء شيء آخر بدلا منه. و السواء هو الوسط، و سواء السبيل الصراط المستقيم. أي إن من عاند أنبياء اللّه تعالى و لم يؤمن بما جاؤا به بكثرة السؤال فقد اختار الكفر على الإيمان، و من كان كذلك فقد ضل عن الصراط المستقيم.

و المراد بالتبديل حقيقته الأعم من أن يكونوا قد قصدوا ذلك أو لم يقصدوه، و هذه العناية لم توجد في التعبير بالشراء و الاشتراء الواقعين في آيات اخرى.

و السرّ في ذلك ما ثبت في الفلسفة العملية من أن أفعال العباد و إن كانت معلولة للإنسان لكنها مع كونها كذلك لها جهة علّية في نفس الفاعل، فتكون مؤثرة فيه بنحو من الأنحاء فيصير علة لعمله، و عمله علة مؤثرة فيه أيضا، فإذا كان العمل الصادر من الإنسان خيرا أثّر فيه و أوجب صفاء نفسه و نورا في قلبه، و إن كان شرا أوجب ظلمة و كدورة فيها حتّى تصل إلى ما قاله تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14] و حينئذ يرى الفاعل أثر فعله في هذه الدنيا فلا اختصاص لقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8] بالآخرة بل يعم جميع العوالم، كما تدل عليه الأحاديث الكثيرة التي تأتي الإشارة إليها في محلها. و عليه فإذا لم يسلك الصّراط المستقيم انسلاكا اعتقاديا أو عمليا فقد ضل عن سواء السبيل.

ص: 374

بحوث المقام
بحث روائي:

في تفسير العياشي: «عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «فقال (عليه السلام) الناسخ ما حوّل، و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن بعد قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ قال (عليه السلام): فيفعل اللّه ما يشاء، و يحوّل ما يشاء مثل قوم يونس إذ بدا له فرحمهم و مثل قوله تعالى: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ قال (عليه السلام) «أدركهم برحمته».

أقول: ما ورد في الأحاديث في أصل النسخ و في الناسخ كمية و كيفية كثير جدا و متواتر بين الفريقين، و ما ذكره (عليه السلام) في هذا الحديث في النسخ بالمعنى العام أي مطلق التحويل و التغيير الشامل للبداء أيضا كما صرح في الرواية التالية صحيح لا إشكال فيه، و تقدم في تفسير الآية ما يدل عليه أيضا.

و أما قوله (عليه السلام): «و ما ينسيها مثل الغيب الذي لم يكن» يحتمل فيه معنيان - الأول: صدور الوحي إلى قلب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم إنساء ما اوحي اليه قبل بيانه لمصالح فيه. الثاني: ثبوت المقتضي في عالم الغيب للوحي ثم ترك الوحي أصلا لمصالح فيه أيضا. و المنساق من الحديث المعنى الأخير، لأنه باق على غيبه المكنون، و عدم صدوره عن مرتبة الغيب إلى مرتبة اخرى من وحي و غير ذلك، و هذا وجه حسن.

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا: «إن من النسخ البداء المشتمل عليه قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ و نجاة قوم يونس».

أقول: كون البداء من النسخ بحسب المعنى اللغوي و هو مطلق التحويل صحيح لا إشكال فيه، لكن المنساق من مجموع الروايات الواصلة

ص: 375

إلينا أن مورد النسخ التشريعيات، و البداء مورده التكوينيات، و هذا الاختلاف بحسب المتعلق لا بحسب الذات.

و روي أيضا: «إن موت إمام و قيام آخر مقامه من النسخ».

أقول: ظهر وجهه مما تقدم من أن النسخ بمعنى مطلق التحويل أي تحويل الامامة من إمام إلى امام آخر.

و في تفسير النعماني عن أمير المؤمنين (عليه السلام) ذكر عدة آيات من الناسخ و المنسوخ منها قوله تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ نسخه قوله عزّ و جل: وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ أي للرحمة خلقهم.

أقول: إن المراد من النسخ بالمعنى الأعم أي مطلق التحويل و إلاّ فخلق الجن و الإنس ليعبدون أي ليأمرهم بالعبادة كما في جملة من الأخبار، و هو عبارة اخرى عن خلقهم للرحمة بعد امتثال الأمر.

و فيه أيضا قال (عليه السلام): و نسخ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا قوله تعالى: اَلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا اَلْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اِشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ لا يَحْزُنُهُمُ اَلْفَزَعُ اَلْأَكْبَرُ .

أقول: هذا من سنخ التخصص بالنسبة إلى الآية الأولى. و لا ينافي ذلك قوله تعالى: كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا لفرض الخروج الموضوعي.

فما في بعض التفاسير من المنافاة بأنه لا وجه لتخصيص القضاء الحتم مغالطة بين التخصيص و التخصص. مع أنه لو كان القضاء الحتم تحت اختياره تعالى من كل جهة حدوثا و بقاء يصح التخصيص بالنسبة إليه أيضا، و إنما أظهره تعالى بصورة التعميم و الحتم لمصالح في ذلك.

و عن الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها - الآية: إن المشركين قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه

ص: 376

بأمر ثم ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولا و يرجع عنه غدا؟ أما هذا القرآن إلاّ كلام محمد يقوله من تلقاء نفسه و هو كلام يناقض بعضه بعضا فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و نزل أيضا: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ .

أقول: إن ما قاله المشركون نشأ من عدم فهمهم للقواعد العرفية الدائرة بينهم.

و في الدر المنثور عن قتادة: «كانت الآية تنسخ الآية و كان نبي اللّه يقرأ الآية و السورة، و ما يشاء اللّه من السورة ثم ترفع فينسيها اللّه نبيه؛ فقال اللّه تعالى يقص على نبيه: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها فيها رخصة، فيها أمر، فيها نهي».

أقول: هذه الرواية لا تناسب مقام النبوة و حفظه لما يوحى اليه كما عرفت سابقا.

و عن الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ - الآية -: «نزلت هذه الآية في عبد اللّه بن أبي أمية و رهط من قريش، قالوا: يا محمد (صلّى اللّه عليه و آله) اجعل لنا الصفا ذهبا، وسع لنا أرض مكة، و فجر الأنهار خلالها تفجيرا، نؤمن بك فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: يدل على ذلك ما تقدم من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «بأن ما وقع في بني إسرائيل يقع في هذه الأمة أيضا».

بحث كلامي:
اشارة

استدل بعض المفسرين بالآية الشريفة ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها على إمكان النسخ و وقوعه في القرآن الكريم، و ذكرنا ان المراد من النسخ في الآية المباركة غير المعنى المصطلح فيه، بل هو بالمعنى الأعم. و لتوضيح ذلك لا بد من البحث فيه و لو على سبيل الإجمال.

معنى النسخ:

النسخ في اللغة هو الإزالة و يلازمها النقل و الإبطال بالوجوه و الاعتبار

ص: 377

كما ذكرنا سابقا و بهذا المعنى كان معروفا في عصر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و ما بعده فكانوا يطلقونه على التخصيص و التقييد بل على كل قرينة دلت على الخلاف كما عرفت.

و اما بحسب اصطلاح العلماء فالمشهور بينهم أنه بيان انتهاء أمد الحكم الثابت سابقا. و توضيح ذلك أن كل حكم إذا لوحظ بالنسبة إلى حكم آخر يتصور على وجوه:

الأول: الخروج الموضوعي أي الاختلاف بين الحكمين من ناحية الموضوع، كخروج السؤال و الالتماس عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1] فإنهما ليسا من العقود في شيء و اصطلح العلماء على هذا القسم بالتخصّص.

الثاني: الخروج الحكمي مع بقاء الموضوع كخروج البيع الخياري عن العموم المتقدم فإنه بيع مع أنه لا يجب الوفاء به، و اصطلح عليه بالتخصيص.

الثالث: بقاء الموضوع و الحكم على حالهما، و لكن جعل الحكم كان محدودا بحد معين في عالم الإنشاء، و التشريع، و إنشاء الحكم بصورة الدوام و الاستمرار لمصلحة ما، فإذا انتهت مدة الحكم أقيم حكم آخر مقامه و هذا هو النسخ، و الفرق بين القسمين الأخيرين أن التخصيص خروج فردي و تحديد في الأفراد و الحالات ظاهرا، و النسخ تحديد في الأزمان في الواقع لا ان يكون التحديد في ظاهر الدليل، و إلاّ كان تقييدا أو تخصيصا، بل الحكم أنشئ بصورة الدوام و لكنه في عالم التشريع مقيد إلى وقت معين. و لذا قيد العلماء في التعريف الحكم بالثابت أي: الثابت في الواقع، و أما الثابت في الخارج فلا يرتبط رفعه خارجا بالنسخ، لأن فعلية كل حكم تدور مدار تحقق موضوعه في الخارج فإذا وجد يترتب عليه الحكم لا محالة، و إذا ارتفع يرتفع الحكم الفعلي، و هذا لا ربط له بالنسخ بوجه من الوجوه، و لا إشكال فيه من أحد.

ص: 378

حقيقة النسخ و الحكمة فيه:

لا ريب أن القوانين مطلقا - سواء كانت إلهية أو وضعية - تابعة للمصالح و المفاسد أي: أنها وضعت لتحقيق مصالح الإنسان و درء المفاسد عنه، فقد تقتضي المصلحة جعل القانون ثم تقتضي مصلحة أخرى رفعه أو تغييره، و هذا مما تعارفت عليه القوانين الوضعية، فإذا وضع الحاكم حكما لتنظيم العلاقات الفردية أو الاجتماعية ثم يرى عدم الفائدة في تطبيقه، أو أنه لا يحقق المصالح المتوخاة من جعله يلغي ذلك القانون أو يصلحه بقانون آخر. و لم تخرج القوانين الإلهية عما تعارف عليه بين الناس، بل لنا أن نقول أن النسخ كسائر ما يعرض على القانون من العموم و الخصوص، و الإطلاق و التقييد. و المجمل و المبين من لوازم جعل القانون بحيث لا يمكن تصويره إلاّ و معه أحد تلك اللوازم.

و النسخ بهذا المعنى معلوم عند كل أحد لا ينبغي الإشكال فيه و هو بالنسبة إلى القوانين الوضعية صحيح، فإن الواضع الجاهل بحقيقة الحال لا يعرف متى ينتهي وقت العمل بالقانون الذي وضعه و متى يتغير، و لكن ذلك لا يصلح في النسخ بالنسبة إلى القوانين الإلهية فإنه يستلزم الجهل بالنسبة إلى الشارع المقدس، و هو مستحيل، فلا بد و أن يستند النسخ إليه سبحانه و تعالى بوجه صحيح، و عمدة الوجوه المحتملة هي:

الأول: إبداء الحكم بصورة الدوام لمحض المصلحة في الإنشاء و التشريع، ثم تتبدل المصلحة الظاهرية إلى مصلحة واقعية في المتعلق و المجعول تقتضي نسخ ما أنشئ أولا، نظير التكاليف الامتحانية.

الثاني: كون المصلحة الموجودة في المتعلق محدودة بحد معين في الواقع و لكن إنشاء الحكم بصورة الدوام لمصلحة في ذلك ثم إنشاء حكم آخر لمصلحة يقتضيها الوقت. و إنما ظهر من الحكم الثاني ان الحكم الأول كان محدودا بحد معين فانقضى حده، و تبدل الأحكام بتبدل المصالح و المفاسد مما يشهد بصحته الوجدان و البرهان.

الثالث: كون الحكم ذا مصلحة كاملة من جميع الجهات في الإنشاء

ص: 379

و المتعلق و الدوام، ثم تبدلت تلك المصلحة بأخرى مساوية أو أقوى اقتضت رفع الحكم الأول و نسخه، فيكون مثل التخصيص إلاّ أنه تخصيص زماني كما عرفت.

الرابع: كون الحكم في الواقع هو الحكم الناسخ الذي سيثبت بعد ذلك و إنما أنشئ المنسوخ لمصلحة مقدمية لبيان حكم الناسخ في ظرفه و جميع هذه الوجوه صحيحة في نسخ اللّه تعالى لأحكامه المتعالية، و لا يستلزم منها أي نقص بالنسبة إليه عزّ و جل.

و الحكمة في النسخ واضحة بعد ما عرفت، لأنه من مظاهر ربوبيته تعالى العظمى، فإنه عزّ و جل لم يكلف عباده إلاّ بالتدريج و الإمهال متلطفا بهم، و مراعيا أحوالهم، فكانت الشرايع الإلهية خطوات متصاعدة في رقي الإنسان، و تربيته تربية تدريجية متكاملة، فالنسخ يرجع إلى سياسة العباد و التعهد بهم، كما أنه يظهر مقدار طاعة الإنسان، فهو نوع من الامتحان ليميز الخبيث من الطيب. و هو بالأخرة من مظاهر علمه الأتم و حكمته البالغة، فهو و البداء يتفقان في أنهما يكشفان عن علمه السابق إلاّ أن الثاني مورده التكوينيات، و الأول مورده التشريعيات فهو عالم بحقائق الأمور و محيط بكل شيء و لكن اقتضت حكمته البالغة أن تكون التكاليف على التعاقب و التدريج، و من ذلك يظهر إمكان النسخ ذاتا بالنسبة إليه تعالى، و عدم الإشكال فيه بوجه من الوجوه.

النسخ و وقوعه:

ذكرنا أنّ النسخ واقع في القوانين الوضعية، و أجمع المسلمون على وقوعه شرعا. و أدل دليل على إمكان الشيء ذاتا هو وقوعه، فيمكن ادعاء إجماع العقلاء على جوازه في الجملة، و لكن خالف في ذلك اليهود، و النصارى، و هم بين منكر لأصل جوازه، أو منكر لوقوعه في شريعة من الشرايع، و استدلوا على ذلك بأمرين:

الأول: أن النسخ يستلزم جهل الباري عزّ و جل، أو عدم حكمته لأنّه إن علم سبحانه بأنّ المصلحة في الناسخ و أنّه يرفع المنسوخ فلا وجه

ص: 380

لإظهاره، إذ لا مصلحة فيه، و كل تشريع لم تكن فيه المصلحة يكون منافيا للحكمة. و إن لم يعلم بالناسخ حين إظهار المنسوخ يكون جهلا منه و هو ممتنع بالنسبة إليه.

و الجواب: أنّ اللّه تعالى عالم بالناسخ و المنسوخ و لكن اقتضت المصلحة لإظهار المنسوخ بصورة الدوام، و يكون الناسخ كاشفا عن انتهاء مدة حكم المنسوخ و قيام غيره مقامه، لمصالح في الوضع و الرفع تختلف باختلاف الجهات و المقتضيات كما عرفت.

و الظاهر أنّ الإشكال المزبور نشأ من جعل النسخ من مراتب علمه تبارك و تعالى الذي هو عين الذات الأقدس، و كل تغيير في العلم يستلزم التغيير و التبديل في الذات.

و الحق أنّ النسخ من مراتب الإرادة التي هي عين فعله سبحانه و هو قابل للتغير و التبديل مع علمه تعالى بذلك، و لا يلزم من ذلك أي محذور.

الثاني: إنّ رفع الحكم الواقع و إزالته لا يمكن فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه، كما ثبت في الفلسفة.

و الجواب: أنّ ذلك من قياس الإرادة الإلهية على إرادة الفاعل المختار الممكن، و هو باطل لأن فعل الفاعل المختار إذا صدر عنه خرج عن تحت اختياره فلا يمكن تغييره عما وقع عليه. و أما الإرادة الإلهية فالمراد تحت إرادته حدوثا و بقاء، و إيجادا و إفناء لا سيما بناء على ما ثبت في الفلسفة المتعالية أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، و لعلنا نتعرض لهذه المسألة في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و هناك وجوه أخرى استدلوا بها على إنكار النسخ إمكانا و وقوعا أغمضنا النظر عنها لوضوح بطلانها.

و يمكن أن نقول: إنّ الغاية من إنكار النسخ هي رد الشرايع السماوية لا سيما شريعة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) و الاحتفاظ لأنفسهم بالحركة الدينية، و هذا ضرب من غرورهم و جهلهم، و الإيمان

ص: 381

ببعض الكتاب و الكفر ببعضه الآخر، كما حكى اللّه تعالى في كتابه المجيد. و كيف يحق لهم الإنكار و هم يذعنون بأن شريعتهم نسخت الشرايع السابقة، ثم كيف يمكن لهم ادعاء استحالة النسخ مع وقوعه في كتب العهدين و هو كثير نذكر منه موردين. أحدهما من العهد القديم، و الثاني من العهد الجديد.

الأول: ورد في الباب الثاني و العشرين من سفر التكوين أن اللّه تعالى أمر إبراهيم (عليه السلام) بذبح إسحاق (عليه السلام) ثم نسخ هذا الحكم قبل العمل، فقد ورد فيه: «ثم مد إبراهيم يده و أخذ السكين ليذبح ابنه، فناداه ملاك الرب من السماء و قال: ابراهيم ابراهيم فقال: ها أنا ذا.

فقال: لا تمد يدك إلى الغلام، و لا تفعل به شيئا، لأني الآن علمت أنك خائف اللّه، فلم تمسك ابنك وحيدك عني، فرفع إبراهيم عينيه و نظر و إذا كبش وراءه ممسكا في الغابة بقرنيه، فذهب إبراهيم و أخذ الكبش و أصعده محرقة عوضا عن ابنه». و كذلك ورد في الإصحاح التاسع من سفر التكوين: أن كل دابة كانت مباحا في شريعة نوح ثم نسخت في شريعة موسى، فقد ورد فيه: «كل دابة حية تكون لكم طعاما كالعشب الأخضر دفعت إليكم الجميع».

الثاني: ورد في الآية الثالثة عشرة من الإصحاح الثامن من الرسالة العبرانية «فإذا قال جديدا عتق الأول، و أما ما عتق و شاخ فهو قريب من الاضمحلال». و ذكر ياييل في تفسير هذه الآية: «هذا ظاهر جدا أنّ اللّه يريد أن ينسخ العتيق بالرسالة الجديدة الحسنى فلذلك يرفع المذهب الموسوي اليهودي و يقوم المذهب المسيحي مقامه» إلى غير ذلك مما ذكروا من موارد النسخ التي تزيد عن ثلاثين موردا و إنما لم نتعرض لها خوفا من الإطالة.

شرائط النسخ:

يظهر من ما تقدم شروط النسخ: و هي ثلاثة:

الأول: أن يكون النسخ في الأحكام الشرعية، فلا يقع في غيرها إلاّ

ص: 382

بالعناية و المجاز، كما سيأتي.

الثاني: أن يكون النسخ بدليل شرعي سواء كان من القرآن أو السنة أو الإجماع القطعي. فلا يكون من النسخ موارد ارتفاع الموضوع أو انتفاء الشرط.

الثالث: أن يكون دليل الناسخ ناظرا إلى الحكم المنسوخ و معارضا له تعارضا حقيقيا لا يمكن الجمع بينهما، فيكون كاشفا عن رفعه، فليس كل تناف بين الدليلين أو الحكمين من النسخ، و لذا وقع الخلاف في كثير من الآيات المباركة التي ادعي النسخ فيها، و هي ليست كذلك بل من التقييد أو التخصيص، و سيأتي البحث عن كل آية في محلها إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الناسخ و المنسوخ يتصوران بحسب الاحتمالات العقلية ثلاثة أقسام: تقارنهما زمانا، تقدم الناسخ على المنسوخ، تقدم المنسوخ على الناسخ، و المتعارف من النسخ، و المنساق منه في الكتاب و السنة هو الأخير. و الأولان من مجرد الإمكان الذاتي.

نسخ الشرايع:

ذكرنا أنّ النسخ - في الجملة - من لوازم جعل القانون، سواء كان إلهيا أو وضعيا، فلا يختص بشريعة دون أخرى فهو واقع في الشرايع السابقة كشريعة موسى (عليه السلام)، و شريعة عيسى (عليه السلام) بلا فرق بين أن يكون في شريعة واحدة أو في لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، راجع كتب العهدين تجد الأمثلة على كلا القسمين، و قد ذكرنا سابقا ما يدل على ذلك.

و أما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية، و ناسخة لجميعها، و لا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19] و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 85] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

ص: 383

و أما بالنسبة إلى شريعة الإسلام فقد دلت الأدلة العقلية على أنها خاتمة الشرايع الإلهية، و ناسخة لجميعها، و لا خلاف بين المسلمين في ذلك قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19] و قال تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 85] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و قد ذكرنا أن الشرايع الإلهية خطوات متكاملة في سبيل رقي الإنسان، و أنها مدارج كماله، فهي تبتدئ من الأمور الفطرية المودعة في الإنسان الذي بها يتميز عن سائر المخلوقات حتّى تصل إلى أقصى درجات الكمال من جميع الجوانب، فكل شريعة من الشرايع الإلهية خطوة من خطوات تلك التربية الحقيقية الإلهية حتّى تصل إلى الصرح الشامخ الإسلامي الذي يكون جامعا لجميع الحقائق و الكمالات، قال تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «مثلي و مثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا فأحسنه و أجمله إلاّ موضع لبنة من زاوية من زواياه، فجعل النّاس يطوفون به و يعجبون له، و يقولون هلاّ وضعت هذه اللبنة، قال (صلّى اللّه عليه و آله): فانا اللبنة و أنا خاتم الأنبياء»،

و في حديث آخر عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق». و لا ينافي ذلك قوله تعالى: وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النساء، الآية:

125] و غيرها من الآيات المرغبة إلى اتباع ملة إبراهيم لأنها كالمادة القريبة للملة الإسلامية و هي متمم صورتها.

و لا بد أن يعلم أنّ النسخ في الشرائع الإلهية يقتصر على تلك الأحكام الشرعية التي تتبدل بحسب المصالح و الظروف، فيكون تبدل الأحكام في الشرائع المتعددة كتبدل حالات المصلي في شريعة الإسلام من الصحة و المرض، و السفر و الحضر. و فقد بعض الشروط و وجدانه و نحو ذلك.

فلا مجرى للنسخ في أصول الدين، و كذا بالنسبة إلى الأحكام العقلية التي يحكم بحسنها جميع العقلاء و التي كشف عنها الشارع المقدس و كذلك بالنسبة إلى مهمات فروع الدين - كأصل الصّلاة و الصوم و الزكاة

ص: 384

و نحوها - و يدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ [سورة الشورى، الآية: 13].

فما قيل: إنّ الأصل في كل شريعة أن تنسخ ما قبلها،

و قد نقل أنه: «لم تكن نبوة قط إلاّ تناسخت». فإن أريد منه على نحو الجملة أو الإجمال فهو صحيح لا ريب فيه، كما تقدم. و أما إذا أريد منه على نحو الكلية فهو باطل، بل لنا أن نقول إنّ كل شريعة لاحقة مقرّرة للشريعة السابقة إلاّ إذا علم بنسخها أو بطلانها.

أقسام النسخ:

قد ذكر العلماء للنسخ أنواعا و أقساما، و المهم منها ما كان مرتبطا بأركانه و هي: المنسوخ، و الناسخ - و لا يخفى أن الناسخ هو اللّه تعالى و يطلق على الدليل مجازا - و مورد النسخ. و يظهر حكم بقية الأقسام ضمنا.

التقسيم الأول: ينقسم النسخ باعتبار الناسخ إلى أنواع ثلاثة:

الأول: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بمثله. و هذا لا إشكال فيه عقلا، و واقع كثيرا، كما يأتي في هذا الكتاب.

الثاني: أن ينسخ الحكم الثابت بالقرآن بالسنة المعتبرة، او الإجماع القطعي، و هذا القسم أيضا لا إشكال فيه عقلا و نقلا، و خالف في ذلك بعض العلماء فذهب إلى أن نسخ الكتاب الشريف لا يكون إلاّ بمثله، و استدل بقوله تعالى: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها [سورة البقرة، الآية: 106] بتقريب أن اللّه تعالى أسند إتيان الناسخ إلى نفسه عزّ و جل و ما يأتيه هو القرآن فقط. و هذا الاستدلال موهون جدا، فإن السنة المقدسة أيضا من اللّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم، الآية: 3].

الثالث: نسخ الحكم الثابت بالقرآن بالخبر الواحد، و في جوازه و عدمه قولان: نسب إلى المشهور الثاني، و المسألة محررة في الأصول.

ص: 385

التقسيم الثاني: باعتبار المنسوخ و ذكروا له حالتين.

الأولى: نسخ الحكم الثابت بعد حضور وقت العمل به، و هو واقع بلا ريب و لا إشكال.

الثانية: نسخ الحكم قبل حضور وقت العمل به و فيه قولان: قول بعدم صحته، لعدم الفائدة و المصلحة فيه، و قول آخر بالصحة، و هو المشهور بين الإمامية.

و أورد على القول الأول بأن المصالح و المفاسد لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى و لا ملزم أن يعلمها كل أحد، مع إمكان دعوى مصلحة الامتحان و الابتلاء فيه. نعم الغالب في النسخ أن يكون بعد حضور وقت العمل بالمنسوخ، و لكن ليس ذلك من المقومات الذاتية له، فالمدار على وجود المصلحة سواء كان بعد حضور وقت العمل، أو في أثنائه، أو قبله.

ثم إنّهم ذكروا أنّ الحكم الناسخ (تارة) يكون أخف من الحكم المنسوخ مثل قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 187] بعد تحريم الجماع، و الأكل و الشرب بعد النوم في ليلة الصيام (و أخرى) يكون مساويا له مثل نسخ وجوب استقبال بيت المقدس بوجوب استقبال الكعبة المقدسة. (و ثالثة): يكون أشد مثل نسخ حد الزنا بالحبس في البيت، و التعنيف بالحد مائة جلدة و الرجم.

و لا إشكال في الأقسام الثلاثة إمكانا و وقوعا، بل يمكن تحقق النسخ بلا بدل و إيكال الأمر إلى البرائة العقلية. إن قيل: إن هذا مناف لظاهر قوله تعالى: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها . يقال: الحكم البتي العقلي يكون من (مثلها) لفرض أنها مقررة بالكتاب و السنة.

التقسيم الثالث: النسخ في القرآن، و هو أنواع ثلاثة:

الأول: نسخ الحكم فقط، و لا إشكال في إمكانه و وقوعه، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم، و هو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ [سورة المجادلة، الآية: 12] و يأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء اللّه تعالى. و خالف في ذلك بعض المفسرين، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). و هو مردود عقلا و نقلا.

ص: 386

الأول: نسخ الحكم فقط، و لا إشكال في إمكانه و وقوعه، بل هو المشهور من النسخ إذا أطلق في القرآن الكريم، و هو كثير مثل نسخ وجوب تقديم الصدقة على مناجاة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ اَلرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ [سورة المجادلة، الآية: 12] و يأتي التعرض للآيات المتضمنة لذلك في محالّها إن شاء اللّه تعالى. و خالف في ذلك بعض المفسرين، بل قال بعدم وقوع النسخ في القرآن. بل في شريعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). و هو مردود عقلا و نقلا.

الثاني: نسخ التلاوة فقط و المشهور بين العامة وقوعه في القرآن الكريم. و استدلوا بآية الرجم «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة» فقالوا: إن هذه الآية لم يعد لها وجود في القرآن، مع أن حكمها ثابت.

و الحق عدم وقوع هذا النوع من النسخ، بل يعد ذلك من التحريف الذي أجمعت الإمامية على نفيه في القرآن زيادة و نقيصة، و ما استدلوا به أخبار آحاد معارضة بروايات أخرى كثيرة تدل على أن الآية ليست من القرآن، مضافا إلى عدم وجود المصلحة فيه إن لم تكن فيه المفسدة.

الثالث: نسخ الحكم و التلاوة و ذهب جمهور المفسرين إلى إمكانه و استدلوا على وقوعه بما ورد عن عائشة أنها قالت: «كان في ما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن ثم نسخن بخمس معلومات، و توفي رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هن في ما يقرأ من القرآن».

و يرد عليه ما أورد على النوع السابق، مع أنه لا يتصور معنى معقول للنسخ في هذا النوع، و سوف نتعرض لمسألة تحريف القرآن في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ثم إن سور القرآن بالنسبة إلى وجود الناسخ فيها، أو المنسوخ أربعة أقسام:

القسم الأول: السور التي لم يدخلها ناسخ و لا منسوخ كسورة الفاتحة، و يوسف، و يس، و الإخلاص و غيرها، و قيل: إنها ثلاث و أربعون سورة.

القسم الثاني: السور التي فيها ناسخ و منسوخ و هي: البقرة، آل عمران،

ص: 387

النساء، المائدة و غيرها من السور التي عدّوها.

القسم الثالث: السور التي فيها ناسخ و ليس فيها منسوخ و هي الفتح، الحشر، المنافقون و غيرها من السور التي ذكروها.

القسم الرابع: السور التي فيها منسوخ، و ليس فيها ناسخ و هي طه و الرعد و غيرهما من السور التي عدّوها.

و لكن في هذا التفصيل خلاف بين المفسرين، و سيأتي تفصيل كل ذلك في محله إن شاء اللّه تعالى.

و قد حصر بعض المفسرين جميع الآيات المنسوخة في عشرين آية و مع ذلك فيه بحث.

بحث دلالي:

قد تكرر قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ * [في آيتي: 106-107] و يمكن أن يكون الوجه في ذلك تعدد منشأ النسخ و الإزالة فأطلق تارة بالنسبة إلى الأعراض و الاعتباريات، و أخرى بالنسبة إلى الجواهر و الذوات كما قالت اليهود بالنسبة إلى كل منهما، فزعموا أن قدرته تعالى محدودة بالإحداث فقط فإذا حدث يخرج عن تحت قدرته جل شأنه، كما حكى اللّه تعالى عنهم وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [سورة المائدة، الآية: 64] فأبطل تعالى في المقام كل ذلك، و حكم بأن الأشياء كلها تحت قدرته حدوثا و بقاء أما الحدوث فبقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و أما البقاء فلقوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

ثم إنّ إطلاق الآية المباركة: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يشمل جميع آياته عزّ و جل من حيث أحكامه تعالى، و من جهة جماله و جلاله، فكل شيء له آية من الجواهر و الأعراض في الأرضين و السموات، و له عزّ و جل في ذلك كله إبداع و إنشاء، فهي من الأمور التشكيكية شدة و ضعفا، كمية و كيفية، فنسخه تعالى يشمل جميع ذلك كله

ص: 388

بحيث لأحد للناسخ و لا حد للمنسوخ و لا يحيط بكل واحد منهما إلاّ هو تعالى، و في كل شيء له آية، و كل شيء له فيه نسخ و تغيير و تبديل، و لا معنى لما أثبته أكابر الفلاسفة من أن مناط الحاجة هو الإمكان حدوثا و بقاء إلاّ هذا، كما لا معنى لكونه تعالى مهيمنا على ما سواه، على الإطلاق، و إن عنده خزائن الأشياء كلها و ما ينزلها إلاّ بقدر معلوم إلاّ هذا.

و النسخ قد يتعلق بتمام الآية أو الحكم كله، و أخرى ببعض الجهات دون البعض، و الثاني لا ينافي بقاءها من سائر الجهات، و سيأتي التفصيل في هذه المباحث في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 389

التفسير

قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً . مادة (و د د) تأتي بمعنى المحبة و تستعمل في التمني أيضا، لأنه مشتمل على المحبة و متضمن لها. أي: تمنى كثير من اليهود و النصارى أن يرجعوكم عن دينكم و يردونكم إلى الكفر، كما قال تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 63].

قوله تعالى: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ .

الحسد تمني زوال نعمة عمن يستحقها سواء أرادها لنفسه أولا، بخلاف الغبطة التي هي تمني مثل تلك النعمة للنفس من دون إرادة زوالها عن الغير. و الأول مذموم، و الثاني محمود،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المؤمن يغبط، و المنافق يحسد»

و في الحديث القدسي: «المتحابون في جلالي لهم منابر من نور يغبطهم النبيون».

و المعنى: أن حبهم لإضلالكم عن الإيمان، و إرجاعكم إلى الكفر سببه الحسد الكائن في نفوسهم من بعد ظهور الحق بأن محمدا (صلّى اللّه عليه و آله) هو النبي الموعود المبشّر به في كتبهم، و إتمام الحجة عليهم بالآيات التي أتى بها. و في قوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ إيماء إلى أن ما يصدر عنهم إنما هو من سوء سرائرهم و فساد أخلاقهم لا أن يكون عن غبطة لحق، أو غيرة عليه، أو شبهة و نحو ذلك.

و الآية المباركة تشير إلى أمر طبيعي، و هو أن كل طائفة إذا اعتنق أفرادها أمرا و صار ذلك الأمر مألوفا عندهم يحبون أن يكون غيرهم على طريقتهم، لا سيما إذا وجد ما يخالف ذلك القديم فيتصدون له و يعارضونه بكل ما أمكنهم و ينتهي ذلك إلى الحسد الكائن في النفوس فيكون ذلك من عند أنفسهم بعد ظهور الحق.

و في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إشارة إلى هذا الأمر الطبيعي المغروس في الفطرة في بداية ظهوره، كما أن في قوله

ص: 390

تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا [سورة النساء، الآية: 89] إشارة إلى ذلك بنحو مطلق.

قوله تعالى: فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا . العفو: ترك المؤاخذة على الذنب. و الصفح: إزالة أثره عن النفس، و الاعراض عن المذنب بصفحة الوجه، و هما و التجاوز بمعنى واحد، و هي من مكارم الأخلاق. أي عاملوا النّاس بمكارم الأخلاق من العفو و الصفح و الإغماض عنهم و حسن المعاشرة معهم حتّى يشتد أمركم، و تغلب شوكتكم، و يمكّنكم اللّه منهم فتعملوا فيهم بما هو الصّلاح.

و في الآية المباركة إيماء إلى أن المسلمين مع قلتهم حين ذاك هم أصحاب القدرة و المنعة، فإن العفو و الصفح إنما يطلبان من القادر. و فيها البشارة بالغلبة و تأييدهم بالعناية الإلهية.

قوله تعالى: حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ . من القتل، أو الطرد و الجلاء و نحو ذلك. و المراد من الأمر الأعم من التشريعي و هو الجهاد و التكويني.

و فيه البشارة للمؤمنين بوعدهم التأييد و النصر و الغلبة، كما أن فيه التهديد للكافرين على أن لا يتعرضوا للمسلمين بسوء فإنهم في حصن اللّه تعالى.

و السياق يدل على أن الصفح و العفو محدود بزمان خاص بقرينة آيات أخرى وردت في الجهاد و القتال، فهذه الآية المباركة منسوخة بتلك الآيات، بل نفس هذه الآية الشريفة مغياة بغاية خاصة فلا معنى للنسخ الحقيقي حينئذ.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . تأكيد للوعد الذي وعده للمؤمنين.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ . بعد أن أمرهم بالعفو و الصفح، و المداراة مع الأعداء ليأمنوا من كيدهم ظاهرا و يجلبوا قلوبهم إلى الإسلام واقعا أمرهم تعالى بأقوى أسباب الاتصال بينهم و بين اللّه عزّ

ص: 391

و جل و التمسك بأوثق عرى الإسلام ليحصل ارتباطهم مع خالقهم و هي الصّلاة، فإنها من أقوى دعائم الدين و أبرز مظاهر إسلام المسلمين، فيتنزه العبد بمناجاة اللّه تعالى عن إتيان الفواحش و المحرمات، و أمرهم بإيتاء الزكاة، و صلة الأغنياء للفقراء، و في ذلك من الوحدة و الايتلاف و رفع التفرق و الاختلاف ما لا يخفى، و قد تقدم تفسير هذه الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ . أي: إنّ ما تعملونه في دار التكليف و العمل محفوظ عند اللّه فلا يرغب عامل عن العمل، و لا يعتريه ريب فكل خير يصدر منكم تجدون جزاءه عند ربكم، فالدعوة عامة، و الرحمة تامة، و الوفاء ثابت، فإنه تعالى هو الذي يأخذ منكم ذلك و لا يتصور أن يضيع ما أخذه كما قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 8] و هذه الآيات المباركة و ما في سياقها صريحة في ظهور نفس العمل من حيث هو في الدار الآخرة، و فيها تأكيد لتثبيت النفوس على رؤية نفس العمل إلاّ أنه يربّى كما يشاء اللّه تعالى

و في الحديث: «كما يربّي أحدكم فصيله». و سيأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى تفصيل الكلام.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . قد تكررت هذه الآية الشريفة في القرآن كثيرا، و في بعضها بدئت بالإعلام قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة البقرة، الآية: 233] و هو يدل على علمه الإحاطي بالجزئيات، و يكفي في ذلك قوله تعالى: عالِمِ اَلْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة سبأ، الآية: 3] و منه يظهر بطلان ما نسب إلى جمع من الفلاسفة من نفي علمه تعالى بالجزئيات لتوقف العلم بها على الآلات الجسمانية، و هو تعالى منزه عنها فأرادوا التنزيه فوقعوا في التعطيل، و مثل ذلك كثير، و سنعود إلى تفصيل المقال في مباحث العلم إن شاء اللّه تعالى.

و في الآية المباركة من الترغيب على إتيان الأعمال الصالحة، و الترهيب عن

ص: 392

المعصية ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى . عطف على قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ و في الكلام اختصار بديع، و إيجاز حسن. أي: قالت اليهود لن يدخل الجنّة إلاّ من كان يهوديا، و قالت النصارى كذلك في أنفسهم و اشتراكهما في المقول أوجب جمعهما في القول و هذا زعم كل من يدعي الإعتقاد بدين و هو غافل عن أحكامه، أو جاحد معاند.

و إنّما عبر سبحانه و تعالى بكلمة «هود» دون التعبير باليهود، لأن هود قوم منهم يقولون لا يقبل اللّه توبة عبد إلاّ من كان منهم، و لذا خصهم بالذكر، و لكن الظاهر أن جميع اليهود يقولون بذلك، و لعل التعبير كان باعتبار منشأ الحدوث.

و لازم كلام كل من الطائفتين نفي دخول المسلمين الجنّة.

قوله تعالى: تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ . أي أنّ قولهم ذلك من مجرد أمنياتهم التي لا تتجاوز عن الخيال و لا واقع لها بوجه، و المقام من مصاديق قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ اَلْكِتابَ إِلاّ أَمانِيَّ [سورة البقرة، الآية:

78] و هذه من جملة تلك الأماني.

قوله تعالى: قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . تكذيب لهم و مطالبتهم بالبرهان على دعواهم، و هذا شأن كل دعوى فإنّها لا تقبل إلاّ مع إقامة برهان على صدقها، و إلاّ كانت دعوى كاذبة.

قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ . بلى: كلمة رد لما زعموه، و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً [سورة البقرة، الآية: 82].

مادة (س ل م) تدل على السلامة من العيب و النقص و الخلوص بلا فرق بين كون العيب و النقص من الجسمانيات أو المعنويات، في الدنيا أو في الآخرة، قال تعالى: لَهُمْ دارُ اَلسَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة

ص: 393

الأنعام، الآية: 127]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]. و استعمالات هذه المادة كثيرة بهيئات مختلفة، و منها الإسلام لخلوصها، و تخليصه للمعتقد به عن المعايب و النواقص المعنوية.

و المراد بأسلم في المقام التوجه و الخضوع، و الصدق و التخليص

كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في معنى الخلوص: «أن تعبد اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك».

و الوجه مستقبل كل شيء و أشرفه، و طريق الوصول إليه، و يطلق على الذات أيضا. و المراد هنا عمل الجوانح، و أعمال الجوارح، فيكون المعنى من أخلص دينه للّه تعالى اعتقادا و عملا و هو محسن في عمله، فيكون المناط كله في السعادة الأبدية هو الإيمان و العمل، و قد تكرر ذلك في القرآن الكريم في مواضع متعددة بعبارات مختلفة نفيا و اثباتا و نظير هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة البقرة، الآية: 135].

قوله تعالى: فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

هذا من قبيل ترتب المعلول على العلة، فإن من أخلص وجهه للّه اعتقادا و عملا و أحسن في عمله له أجره و لا خوف عليهم من المتوقع، و لا يحزنون على الواقع، و ذلك من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع. و في قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِ دلالة على أن الأجر محفوظ عن التغيير و التبديل، كقوله تعالى: ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ [سورة النحل، الآية: 96]، مضافا إلى الأدلة العقلية الدالة على ذلك.

ثم إنّ إسلام الوجه للّه عزّ و جل بالتوجه اليه، و سلوك طرق مرضاته و الخضوع و الانقياد له تعالى، و الإقبال عليه، و صرف النظر عن غيره و المواظبة على الإخلاص يجعل الفاعل في المحل الأعلى من الكمالات المعنوية، و يجلو جوهر النفس عن الرين و الفساد، و يمنع عن استيلاء الأغيار عليها، فيفتح له باب إلى الغيب المحجوب فيرى ما في نفسه من

ص: 394

المساوئ و العيوب. و تقدم أن النفس فاعل للعمل، و العمل مؤثر في النفس، و يأتي في آيات أخرى مزيد بيان لذلك.

قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ اَلنَّصارى لَيْسَتِ اَلْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ . أي: ادعى كل فريق أن صاحبه ليس على شيء. و ذلك أن أصحاب كل نحلة و دين لا يرون غيرهم على حق، و هذا الاختلاف قديم جدا يرجع إلى أوائل الخليقة و منذ حدوث الاجتماع الإنساني، فكل طائفة ترمي الطائفة الأخرى بالباطل، بل نرى ذلك بين المذاهب المختلفة من دين واحد فضلا عن الأديان المختلفة، و يدل على ذلك قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ .

و لو تأملنا في المنشأ الحقيقي لذلك فإنه لا يرجع إلاّ إلى الوهم و الخيال، و طرح العقل المؤيد بالشرع، و تغليب الهوى مع أن الحق واحد في جميع الأديان الإلهية التي يجمعها أنها من اللّه الواحد و كتاب منزل منه تعالى، و أنه لا يوجد دين سابق إلاّ و يبشر بالدين اللاحق، كما أن الأخير متمم للسابق، و ما عدا ذلك فهو من الوهم و الخيال، فتراهم يكفرون بأنبياء اللّه تعالى و رسله و كتبه و عليه جرت طريقتهم حتّى صار يعد من الأمور الاجتماعية بين البشر و كم كان جديرا بالإنسان أن يرجع إلى فطرته، و يهتدي بهدي عقله و ينبذ الاختلاف و العناد حتّى يرى ما كان يجلبه من الخير و الصلاح و لم يصل إلى ما وصل إليه من الانحطاط و الإفتراق، و في ذلك عبرة لمن اعتبر.

قوله تعالى: وَ هُمْ يَتْلُونَ اَلْكِتابَ . أي: أنّهم قالوا ذلك و هم يتلون التوراة و الإنجيل و فيهما ما يأمرهم بخلاف ما يقولون فإن أحد الكتابين يدعو إلى الآخر، و كلاهما يدعوان إلى القرآن كما أن الأخير يدعو إليهما، فما بالهم ينقضون كتابهم و لا يعملون بدينهم و في ذلك من التوبيخ ما لا يخفى.

قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ . أي: إنّ

ص: 395

الذين لا يعلمون من الحق شيئا يقولون مثل قولهم سواء كانوا من المشركين أو الكفار، بل يشمل كل من لا يعلم بالحق و لا يعمل به و غلب عليه هواه و لو كان من المسلمين.

إن قيل: إنّ الآية المباركة تدل على ذم التقليد، و قد جرت سيرة المسلمين عليه خلفا عن سلف. (يقال) التقليد تارة يكون عن حجة معتبرة و بحجة كذلك و أخرى لا يكون كذلك و الثاني باطل و مذموم دون الأول.

قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . أي أنّ الجميع يرجع إليه و ينتهي الحكم إليه، فهو الحاكم بينكم في هذا الاختلاف، و يحكم لمن كان منكم على الصراط المستقيم.

بحث روائي:

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ - الآية أنّ كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعرا و كان يهجو النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يحرّض عليه كفار قريش في شعره، و كان المشركون و اليهود من أهل المدينة حين قدمها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يؤذون النبي و أصحابه أشد الأذى، فأمر اللّه تعالى نبيّه بالصبر على ذلك و العفو عنهم، و فيهم أنزلت وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ .

و فيه أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ لَيْسَتِ اَلنَّصارى عَلى شَيْ ءٍ - الآية «نزلت في يهود أهل المدينة، و نصارى أهل نجران، و ذلك أن وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتّى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، و كفروا بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و قالت لهم النصارى: ما أنتم على شيء من الدين، و كفروا بموسى (عليه السلام) و التوراة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و قريب من ذلك ما رواه في المجموع عن ابن عباس، و ما روي عن

ص: 396

الحسن بن علي بن أبي طالب (عليه السلام).

أقول: مع الغض عن أسانيد الأحاديث لا يمكن الاعتماد على متونها، لأن النصارى مطلقا يعترفون بالتوراة، و نبوة موسى (عليه السلام)، لأنّ الإنجيل متمم للتوراة، و مشتمل على كثير من أحكامها.

بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: العفو و الصفح عن المذنبين و الصبر على أذى الأعداء و انتظار الفرصة لتهيئة العدة للغلبة عليهم.

الثاني: لا يمكن أن تتحقق الغلبة على الأعداء ما لم يوثق عرى الإيمان بين العبد و بين اللّه تعالى، ثم توثيق الروابط بين الأغنياء و الفقراء و تحقق الوحدة الاجتماعية ليكونوا يدا واحدة على الأعداء.

الثالث: العلم بأنّ ما يصدر من العبد من خير مذخور عند اللّه تعالى، و أن جزاء عمله حاضر لديه عزّ و جل، مما يوجب سكون النفس في العزيمة فلا يؤثر فيه تشكيك المبطلين و شبه المفسدين. و يزيد في ذلك شهود اللّه تعالى لأعمال العباد، و مراقبته لعبيده، و ربوبيته العظمى لهم مما يجعل الإنسان مواظبا على ما يصدر منه من الأعمال و الأقوال.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات و الفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة اللّه تعالى و طاعته عز و جل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، و الآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا و السنّة فوق حد التواتر بين المسلمين، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل و الفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل و الحقيقة، دون مجرد التسمية فقط، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 94].

ص: 397

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أن المدار في ارتقاء النفس بالمعنويات و الفوز بالدرجات العاليات إنما هي عبادة اللّه تعالى و طاعته عز و جل لا مجرد التسمية بكون الشخص يهوديا أو نصرانيا أو مسلما، و الآيات المباركة في هذا المعنى كثيرة جدا و السنّة فوق حد التواتر بين المسلمين، فمثل هذه الآيات الشريفة مطابقة للعقل و الفطرة السليمة حيث جعلت المناط على العمل و الحقيقة، دون مجرد التسمية فقط، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنّا لَهُ كاتِبُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 94].

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ

اشارة

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى مثالب اليهود و النصارى بيّن تعالى في هذه الآية المباركة بعض ما وقع منهم من الظلم النوعي - بأن منعوا المساجد أن يتعبد فيها - ثم أوعدهم اللّه تعالى بالخزي في الحياة الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة، وردّ عليهم بأنه لا يحده مكان و لا جهة فيجوز لكل إنسان أن يعبد اللّه تعالى في أي مكان و اية جهة فإن اللّه تعالى واسع المغفرة عليم بطاعة عباده.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ . المساجد هي الأماكن المحررة للعبادة و السجود له تعالى، بل يمكن أن يراد بها، مضافا إلى ذلك عباد اللّه المخلصين الذين أفنوا جميع شؤونهم و حيثياتهم في طاعة اللّه تعالى و عبادته بكل معنى العبودية فصاروا من مظاهر آيات اللّه كالمساجد و عبادته، فيكون المراد من منعهم عن ذكر اسم اللّه تعالى السعي في تشتت حالهم، و تفرق بالهم، و هجرانهم الأهل و الديار، و تشديد الرد عليهم ليسكتوا عن إظهار الحق، و إزالة الباطل فتاهوا في الأرض بلا سند و لا ذنب غير أنهم يقولون يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأحقاف، الآية: 31] بل لا يبعد التعدي إلى مطلق ما أعد لذلك كعرفات و المشعر الحرام و منى.

و وجه كونه أظلم من غيره، لأنه جمع في المساجد حق اللّه تعالى

ص: 398

و حق الناس، فوقع الظلم بالنسبة إلى الحقين فيكون المنع عن ذكر اسمه فيها ظلما نوعيا، و تترتب عليه المفاسد فيكون أظلم.

و المنع من ذكر اسم اللّه تعالى فيها أعم من أن يكون بالمباشرة أو التسبيب و رب سبب أقوى من المباشر.

و المراد بالذكر الأعم مما كان باللسان، أو القلب، أو الجوارح كالصّلاة مثلا، و يشمل كل عبادة للّه تعالى و لو كانت بمجرد الإمساك كالصوم في المسجد مثلا، فإن الجميع داخل تحت عنوان ذكر اللّه تعالى إلاّ أن ظهوره في البعض أكثر من الآخر، و ذلك لا ينافي ظهور الإطلاق. كما أن المراد من اسمه تعالى الأعم أي كل ما تصح به الإشارة إليه عزّ و جل و كان له تعالى.

قوله تعالى: وَ سَعى فِي خَرابِها . المراد به إما تهديمها كما وقع من بعض العتاة و الجبابرة، أو تعطيلها عن إقامة الشعائر فيها، و حكم الآية المباركة عام لا يختص بفرد خاص. و ما ورد في شأن النزول فقد ذكرنا مرارا أنه من باب التطبيق. و للمفسرين في المقام تفاسير غريبة لا يخفى بطلان بعضها.

قوله تعالى: أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاّ خائِفِينَ . يمكن أن يراد بدخولهم خائفين الإخبار عن مستقبل حالهم بعد استيلاء المسلمين، و تسلطهم عليهم، و طردهم عنها، كما في فتح مكة، و في الآية المباركة إشارة إلى منعهم عن دخول المساجد. أو أن يراد به الإخبار عن حالهم الفعلي من أنهم في خوف و اضطراب أي: من صدر منه هذا الظلم يخاف على نفسه في الجملة و لو كان كافرا، لأنه يرى نفسه محاربا له تعالى مباشرة. و يحتمل أن يكون تعجيبا منهم، و توبيخا لهم أي: أنه ما كان لهم إلاّ أن يدخلوها خاشعين للّه تعالى خائفين من عقابه تعالى لا أن يدخلوها مفسدين مخربين فانها وضعت لعبادة اللّه تعالى.

قوله تعالى: لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ . الخزي بمعنى الإهانة و الاستخفاف و الانكسار، و قد استعملت

ص: 399

هذه المادة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة قال تعالى:

فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ اَلْخِزْيُ اَلْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 63]، و قال تعالى: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ اَلْخِزْيِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ لَعَذابُ اَلْآخِرَةِ أَخْزى [سورة فصلت، الآية: 16]، و قال تعالى: لَهُ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ عَذابَ اَلْحَرِيقِ [سورة الحج، الآية: 9] و قد ظهر خزيهم في عام الفتح بكسر أصنامهم، و خذلانهم، و تسفيه أحلامهم، و تشتت دولتهم، و لحوقهم الذل و الهوان إلى غير ذلك مما أعد اللّه تعالى للظالمين فكيف بمن كان أظلم.

و لهم في الآخرة عذاب عظيم بما أعده اللّه تعالى للمحاربين مع اللّه و رسوله و منع مساجد اللّه أن يذكر فيها اسمه و ما يترتب عليه من الفساد فالآية من القضايا العقلية.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ . المشرق موضع الشروق، و المغرب موضع الغروب، و هما أمران إضافيان يختلفان باختلاف حركة المنظومة الشمسية، فتحقق المشارق و المغارب لا محالة، و لذا قال تعالى في آية أخرى: فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ اَلْمَشارِقِ وَ اَلْمَغارِبِ [سورة المعارج، الآية: 40]. و أما الاعتدالي منهما اثنان قال تعالى: رَبُّ اَلْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ اَلْمَغْرِبَيْنِ [سورة الرحمن، الآية: 17]، و الكل ملكه، و من مظاهر آياته تعالى.

و إنما خص جل شأنه المغرب و المشرق بأنهما ملكه عزّ و جل، لأنه يستلزم مالكيته تعالى لجميع الجهات ملكية حقيقية، فإن الكل تحت سلطانه و ربوبيته فالمتوجه إليهما متوجه إليه تعالى.

قوله تعالى: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ . المراد بالتولي هنا الإقبال و التوجه اليه عزّ و جل. و قد تقدم معنى الوجه في قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ [سورة البقرة، الآية: 114]. و المراد به في المقام التوجه.

ص: 400

و «ثمّ» تستعمل في المحل البعيد سواء كان بعيدا عن العقول و الأفكار، أو بعيدا مكانيا، و يدل على الأول

قول الصادق (عليه السلام): «من تعاطى ثمّ هلك» حيث يدل على خطر التفكير في ذات اللّه تعالى، و على الثاني قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً [سورة الإنسان، الآية: 20] و كذا المقام.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ . متعلق وسع يصح أن يكون كل ما يضاف إليه عزّ و جل من ملكه، و علمه، و حكمته، و قدرته و إحاطته و تدبيره، قال تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة البقرة، الآية: 255]، و قال تعالى: وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً [سورة الأنعام، الآية: 80]، و قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 156]، و قد ذكر وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ في عدة آيات، و لعل هذا التعبير في الآيات المباركة عبارة عن عدم التناهي في جميع صفات كماله و جماله كما أثبته الفلاسفة المتألهون. أي: ان اللّه تعالى واسع في رحمته و لطفه بالمتوجه إليه في عبادته.

و مفاد الآية المباركة قاعدة كلية و هي أنّ اللّه تعالى لا يختص بمكان و لا تخصه جهة خاصة و هو منزه عن أي جهة و مكان، فهو واسع لا يحده مكان إلاّ أن حكمته المتعالية اقتضت لمصالح أن يخص بعض الأمكنة بالاستقبال في موارد خاصة في الشريعة المقدسة و في غيرها يرجع إلى عموم هذه الآية الشريفة، فما ورد في تفسير الآية المباركة أنها نزلت في صلاة النافلة إنما هو من باب التطبيق، و مما يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة، فإن سياقها يدل على توسيع موضوع التوجه اليه عزّ و جل، و أنه غير محدود بحد، أو مكان خاص بل المناط كله هو التوجه إليه تعالى و أما سائر الخصوصيات - من المكان و الزمان و نحوهما - فهي مطلوب آخر ربما يسقط لعذر أو ضرورة و يظهر من ذلك وجه ارتباطها بالآية السابقة، فإنه تعالى بعد أن ذم من منع المساجد أن يذكر فيها اسمه ذكر تعالى أنه لا يحده مكان وجهة خاصة.

ص: 401

بحث روائي:

عن القمي في قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ إنما نزلت في قريش حين منعوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) «دخول مكة» و رواه في المجمع عن الصادق (عليه السلام).

أقول: هذا الحديث مما يدل على إطلاق المسجد على مكة كما في قوله تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى [سورة الإسراء، الآية: 1] مع الاتفاق على أن المعراج كان من بيت أم هاني. و الظاهر أنه من باب التطبيق لا التخصيص.

و في المجمع عن زيد بن علي عن آبائه عن علي (عليهم السلام) في قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ قال: «إنه أراد جميع الأرض، لقول النبي (صلّى اللّه عليه و آله): جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا».

أقول: هذا تنزيل صحيح، لأن كل من منع من طاعة اللّه تعالى و عبادته بأي وجه كان يدخل في حكم الآية و إن لم يكن داخلا في منطوقها.

و عن ابن عباس و مجاهد في الآية المتقدمة أنها «نزلت في الروم لأنهم غزوا بيت المقدس و سعوا في خرابها حتّى كانت أيام عمر فأظهر اللّه عليهم المسلمين، و صاروا لا يدخلونها إلاّ خائفين».

أقول: إن صح الحديث يكون من أحد موارد التطبيق.

و عن قتادة و السدي إنها نزلت في بختنصّر و أصحابه «غزوا اليهود و خربوا بيت المقدس و أعانتهم على ذلك النصارى من أهل الروم».

أقول: على فرض صحة السند يكون متنه مخالفا لما هو المعلوم من التواريخ من تأخر النصارى عن بختنصر بقرون عديدة، فلا يمكن الاعتماد على مثل هذه الأحاديث.

و عن القمي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ «أنها نزلت في صلاة النافلة

ص: 402

تصليها حيث توجهت إذا كنت في سفر. و أما الفرائض فقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ يعني الفرائض لا يصليها إلاّ إلى القبلة».

أقول: صدر الحديث ورد في بيان بعض المصاديق، كما سيأتي في البحث الفقهي، و أما ذيل الحديث فهو في صلاة الفريضة في حال الإختيار، و أما حال الاضطرار و التحيّر فلها أحكام خاصة مذكورة في الفقه، فلا وجه لاحتمال الناسخية و المنسوخية بين هذه الآية المباركة و قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ [سورة البقرة، الآية: 150]، لاختلاف موردهما بالنصوص المستفيضة، بل المتواترة التي هي شارحة للقرآن.

و في الدر المنثور عن مجاهد لما نزلت وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [سورة غافر، الآية: 60]. قالوا: إلى أين؟ فأنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ .

أقول: هذا أيضا من أحد موارد التطبيق.

و عن الواحدي عن ابن عباس: «هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ».

أقول: تقدم أنه لا وجه لاحتمال النسخ، لاختلاف المورد فلا بد من طرح هذا الخبر.

بحث فقهي:

قد يستدل بقوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اَللّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اِسْمُهُ على عدم جواز دخول الكفار و المشركين في المساجد بتقريب أنه إذا استولى عليها المسلمون و حصلت تحت سلطانهم فلا يمكّنون الكافر حينئذ من دخولها.

و الصحيح أنّ الآية الشريفة لوحدها لا تدل على ذلك إلاّ بضميمة

ص: 403

قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ [سورة التوبة، الآية: 28]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا لا يحجن بعد العام مشرك و لا يطوفنّ بالبيت عريان» بعد الإجماع على عدم الفرق بين المشرك و غيره من الكافرين و كذا سائر المساجد من هذه الجهة كما يأتي في قوله تعالى: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ [سورة الأعراف، الآية: 31].

ثم إنّه قد يتمسك بقوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ على جواز التوجه إلى غير القبلة في عدة موارد و قد ذكرنا ان ذلك من باب التطبيق، و هي:

الأول: جواز صلاة النافلة على الدابة أينما توجهت،

كما في صحيح حريز عن أبي جعفر (عليه السلام): «أنزل اللّه هذه الآية فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ في التطوع خاصة، و صلّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إيماء على راحلته أينما توجهت به، حيث خرج إلى خيبر و حين رجع من مكة و جعل الكعبة خلف ظهره».

و روى مسلم عن ابن عمر: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصلي و هو مقبل من مكة إلى المدينة على راحلته حيث كان وجهه» و رواه في الدر المنثور عن جماعة.

الثاني: صحة صلاة الخوف و التحير،

كما روى زرارة عن الصادق (عليه السلام): «لا يدور إلى القبلة»

و روى الترمذي عن ابن ربيعة: «كنّا مع النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة؛ فصلّى كل رجل منّا على حياله، فلما أصبحنا ذكرنا ذلك للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت: فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اَللّهِ .

الثالث: جواز سجود التلاوة لغير القبلة،

رواه الصدوق في العلل عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «يسجد حيث توجهت دابته».

الرابع: عدم قضاء صلاة الفريضة إذا صليت خطأ لغير القبلة فقد روى في الفقيه عن الصادق (عليه السلام)، و تمسك الجمهور برواية ابن ربيعة المتقدمة، و فيه تفصيل ذكرناه في الفقه.

ص: 404

و هناك موارد أخرى تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) و من شاء فليرجع اليه.

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ

اشارة

وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) ذكر سبحانه و تعالى من قبائح عقائدهم و مساويها حيث نسبوا الولد إليه تعالى و ردّ اللّه عزّ و جل عليهم متدرّجا بحسب فهم المخاطبين فحكم أولا أنه غني مطلق لا يحتاج إلى شيء من خلقه، و ثانيا أن خلقه خاضع لإرادته، و ثالثا أنه خلق الخلق من غير مثال، فلا يعقل نسبة الولد اليه.

التفسير

قوله تعالى: وَ قالُوا اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً . الاتخاذ من الأخذ، و ضمّن هنا معنى الجعل و الإحداث نظير قوله تعالى: وَ اِتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ [سورة الأعراف، الآية: 148] و القائل بذلك اليهود و النصارى و بعض مشركي العرب كما حكى اللّه تعالى عنهم في كتابه المجيد، قال تعالى: قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 30]، و قال تعالى: قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قال تعالى: وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنعام، الآية: 100]، بل قد صدر عن غيرهم من أصحاب الديانات، حيث جعلوا زعماء ديانتهم أبناء اللّه تعالى مولودين منه سبحانه و تعالى، و ذلك لأنهم يرون أن ذلك كمال لمن يعظمونه، و هذا من غاية جهلهم حيث يزعمون أن كل ما يكون كمالا لهم يكون كمالا للّه تعالى، كما قال علي (عليه السلام): «و لعل نمل الصفا يزعم أن للّه زبانيتين».

قوله تعالى: سُبْحانَهُ . من التسبيح و هو التنزيه المشوب بالعظمة و التعجب، قولا، و فعلا، قلبا و تسخيرا، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و سبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلاّ مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى ضمير المفعول و قام مقامه. و يستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزّ و جل، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

ص: 405

قوله تعالى: سُبْحانَهُ . من التسبيح و هو التنزيه المشوب بالعظمة و التعجب، قولا، و فعلا، قلبا و تسخيرا، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و سبحان مصدر كغفران لا يستعمل إلاّ مضافا فإن أصله «سبحته سبحانا» فحذف الفعل و أضيف المصدر إلى ضمير المفعول و قام مقامه. و يستعمل في تنزيهه عن جميع ما لا يليق به عزّ و جل، فيجتمع فيه جميع الصفات السلبية.

قوله تعالى: بَلْ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . شروع في الرد عليهم فحكم بأنه غني لا يحتاج إلى أحد، و أنّ كل ما في السموات و الأرض مملوك له بالإيجاد و الاختراع، و من كان كذلك لا يتصور الولد بالنسبة اليه. هذا إذا كان المراد بالولد معناه اللغوي العرفي أي النسبي، منه، و أما إذا كان المراد الاتخاذي منه - كما هو الظاهر من لفظ الاتخاذ في جملة من الآيات المباركة المشتملة على عنوان اِتَّخَذَ اَللّهُ وَلَداً [سورة يونس، الآية: 68]، و قال تعالى: وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً [سورة الإسراء، الآية: 40] فيكون مثل قوله تعالى: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 125]، و نظير قوله تعالى: أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة، الآية: 22] - فيمكن أن تصح النسبة حينئذ، إذ يكفي فيها أدنى مناسبة فضلا عن أعلاها. و هو باطل أيضا لأن مناط اتخاذ الولد الحاجة و هو تعالى منزه عنها، لأنه الكمال الأتم و الغني المطلق فلا يعقل الاحتياج بالنسبة إليه، و هذا الوجه يجري في القسم الأول أيضا، مضافا إلى ما سيذكره سبحانه و تعالى في ما بعد.

قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ . القنوت بمعنى الدعاء و العبادة و الخضوع و مرجع الكل إلى الأخير. و لكن للخضوع مظاهر مختلفة أي: ان الكل خاضع لإرادته و منقاد لسلطانه، و ذلك ينافي أن يتخذ ولدا، لأن المعبودية المطلقة مناط للاستغناء المطلق و ولادة شيء من شيء مناط الاحتياج، و هما لا يجتمعان، فجميع ما سواه تعالى يشهد له بتنزهه عن الولد، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44].

ص: 406

قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . بديع مبالغة في الإبداع، و هو إيجاد الشيء بصورة مخترعة بلا مادة، و لا آلة، و لا مكان و لا سبق مثال و هو مختص به عزّ و جل. و بالنسبة إلى غيره فهو مطلق إحداث الشيء من غير سبق الوجود، فإن كان في الدين فهو البدعة المحرمة،

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كل بدعة ضلالة، و كل ضلالة سبيلها إلى النّار».

ثم إنّ بداعته تعالى و كونه بديع السموات و الأرض لا يختص بنوع دون نوع، بل يشمل جميع الموجودات بأقسام جواهرها - من الأنواع و الأصناف - و أنواع أعراضها و أوصافها، ففي كل ذات من الذوات له تعالى بدائع كثيرة في أصل ذاته، و عوارضها المحفوفة بها التي ربما لا تحصى بعد، و لا حصر لذلك، فيرجع هذا الاسم فيه عزّ و جل إلى ربوبيته العظمى المطلقة في كل ذرات الوجودات، و كلياتها و أجزائها و جزئياتها.

و جملة: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ لم تذكر في القرآن إلاّ في موردين، و كلاهما في نفي الولد عنه سبحانه و تعالى، أحدهما هنا، و الثاني قوله تعالى؛ بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 101]، و هو برهان متين جدا، فإنه من كان مبدعا للسموات و الأرض و خالقا لهما و موجدا لجميع ما فيهما يمتنع انتساب الولد اليه، إذ لم يوجد من مخلوقاته مجانس له حتّى ينسب إليه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . مادة (ق ض ي) قد ذكر لهما معان، أنهاها بعض اللغويين إلى عشرة، و تبعهم بعض المفسرين. و يمكن إرجاع بعضها إلى بعض، و قد خلط فيها بين الموضوع له و المستعمل فيه، بل خلط بين دواعي الاستعمال و تعدد المستعمل فيه، و لعل المعنى الواحد الساري في الجميع: الفعل، بالمعنى العام الشامل للحتم، و الحكم و نحوهما، فقضاؤه حكم و حتم و فعل، هذا بالنسبة إلى مطلق القضاء الذي هو من فعل اللّه تعالى. و أما ما هو في مقابل

ص: 407

القدر،

فقال الصادق (عليه السلام): «لا يكون شيء في الأرض و لا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة، و إرادة، و قدر، و قضاء، و إذن، و كتاب، و أجل. فمن زعم أنه يقدر على نقض واحدة فقد كفر».

أقول: هذه كلها من فعل اللّه تعالى و مطابقة للبراهين العقلية كما سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

و الأمر: الشيء كما قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82] و جملة كُنْ فَيَكُونُ تامة لا تحتاج إلى الخبر، و هي كناية عن إرادته تعالى و المراد بالأمر «كن» هو الإيجاد، و لا تعبير أليق من هذا التعبير الذي يكون أقرب إلى الفهم، و إلاّ فليس في البين صوت يقرع، و لا نداء يسمع، بل كلامه تعالى عين إرادته و إرادته عين فعله. و السر في هذا التعبير - المعبر عنه في الاصطلاح بالأمر التكويني - هو إعلام النّاس نهاية السرعة في الخلق، و عدم انفكاك المعلول عن العلة التامة من دون تقدم و تأخر، لا زماني - لأن إرادته فعله - و لا رتبي إلاّ في فرض العقل. و قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ليس من القضايا التعليقية المحضة، بل هي من القضايا التي سيقت لبيان تحقق الموضوع، كقوله «الشمس طالعة فالنهار موجود» فتكون قضية «إذا طلعت الشمس فالنهار موجود» بيانا للقضية الأولى.

و أشار سبحانه في هذه الآية المباركة إلى كفاية الأمر في تحقق شيء، و أنه إذا أراد شيئا يوجد ذلك الشيء من دون تهيئة مقدمات، و تسبيب أسباب فالأشياء طوع إرادته، فالتوالد محال من جانبه.

ثم إنّه قد وقع قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ بعد القضاء تارة قال تعالى: سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة مريم، الآية: 35]، و بعد الإرادة أخرى، قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82]، و المراد بالقضاء هو القضاء المبرم، و الإرادة هو الفعل. كما أن المراد بالأمر (كن) هو الإيجاد، كما مر هذا في غير الأمور التي جرت عادته تعالى فيها على تهيئة الأسباب و تقديم

ص: 408

المقدمات التي بينها التقدم و التأخر الزماني، و السبق و اللحوق الذاتي، كنفس الزمان و ما يكون مثله في الحصول التدريجي، إذ كل آن من الزمان الذي هو بين العدمين مورد إرادته تعالى، و مورد قوله كُنْ فَيَكُونُ و كذا جميع الممكنات من المتدرجات و غيرها، بناء على ما هو الحق من أن مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، ففي كل آن له تعالى شأن جديد، و فعل حادث في جميع مخلوقاته، فلا يشغله شأن عن شأن بل شؤونه غير متناهية بالنسبة إلى خلقه.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام الجواليقي: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول سبحان اللّه ما يعني به؟ قال (عليه السلام) تنزيهه».

أقول: أي تنزيهه عن كل ما لا يليق به، و هذا هو معناه العرفي و اللغوي أيضا.

و في الكافي و بصائر الدرجات عن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، قال (عليه السلام): «إن اللّه ابتدع الأشياء كلها بعلمه على غير مثال كان قبله فابتدع السموات و الأرضين و لم يكن قبلهنّ سموات و لا أرضون، أما تسمع لقوله تعالى:

وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى اَلْماءِ .

أقول: يمكن أن يكون الاستدلال كناية عن أنه إذا لم يكن ثمّ شيء غير الماء فلا شيء حتّى يوجد الأشياء على مثاله، مع أن الماء لم يعلم أن المراد به هو الماء الجسم الخارجي، أو أنه كناية عن إظهار ملكه وسعة رحمته بالماء الذي هو مادة الحياة فيعم المجردات، و سيأتي تتمة الكلام عند ذكر الآية الشريفة.

و في الكافي و التوحيد عن صفوان بن يحيى: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق؟ قال (عليه السلام): الإرادة من المخلوق الضمير و ما يبدو له بعد ذلك من الفعل. و أما

ص: 409

من اللّه تعالى فإرادته للفعل إحداثه لا غير ذلك، لأنه لا يروي، و لا يهتم، و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي من صفات الخلق، فإرادة اللّه تعالى هي الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ، و لا نطق بلسان، و لا همهمة، و لا تفكر، و لا كيف لذلك، كما أنه لا كيف له».

أقول: الروايات في بيان أن الإرادة فيه تعالى صفة الفعل كثيرة جدا. كما أن الفرق بين صفة الفعل، و صفة الذات واضح و قد أشرنا إلى ذلك في سورة الحمد.

و أما

قوله (عليه السلام) «بلا لفظ و لا نطق - إلخ» فهو كناية عن نهاية السرعة في الخلق و الإيجاد

كما ورد في رواية أخرى: «كن منه تعالى صنع و ما يكون منه هو المصنوع».

بحث كلامي:

اتفق المتكلمون على عدم المجانسة بين اللّه تعالى و بين مخلوقاته و استدلوا عليه بأدلة كثيرة منها قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ و كما وردت فيه روايات متواترة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، و هو المستفاد من أقوال أكابر محققي الفلاسفة الإلهيين. و خلاصة ما ذكروه في ذلك يرجع إلى

ما ورد عن علي (عليه السلام): «بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة» و لا يصح أن ينسب إليهم القول بالسنخية و المجانسة، فإنه لا يمكن أن يلتزموا بلوازمها، مع جلالة مقامهم، و قد تقدم بعض الكلام في آخر سورة الحمد. و على هذا فينتفي موضوع الولد له تعالى رأسا، لأنّه مستلزم للسنخية و المجانسة، و هي ممتنعة بالنسبة إليه.

فالآية المباركة تدل على امتناع المدّعى بوجوه:

الأول: قوله تعالى: سُبْحانَهُ فإنه دليل إجمالي على تنزهه عن جميع ما لا يليق به، فإنه أحدي الذات، واحدي الصفات ليس كمثله شيء. كما ورد في سورة الإخلاص، فقد روي أنه جاء نفر من اليهود إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و قالوا: «انسب لنا ربك؟ فأنزل اللّه

ص: 410

تعالى سورة الإخلاص».

الثاني: قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فإنه يدل على أن مناط اتخاذ الولد هو الحاجة و بعد كون ما سواه ملكا له كيف يعقل الحاجة بالنسبة إليه تعالى حتّى يتخذ ولدا؟!! الثالث: قوله تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ أي خاضعون لربوبيته و عظمته و لا يعقل نسبة الولد اليه مع شهادة ما سواه على تنزيهه، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44].

الرابع: قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ فهذا دليل تفصيلي على نفي المدعى، بيانه: أنه تعالى مبدع الخلق و مبدؤه بلا سبق مثال و نظير، و لا احتياج الى روية و تفكير، و لا تعب، و لا لغوب فهو مستغن عن الغير، فلا يحتاج إلى الولد.

الخامس: قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ دليل آخر تفصيلي لنفي الولد شرحه في قوله تعالى: أَنّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ [سورة الأنعام، الآية: 101]، و ذلك لأن الولدية بحسب نظام التكوين تتوقف على صاحبة و جرت سنة اللّه تعالى في خلقه على هذا النظام، فإذا لم تكن له صاحبة كيف يعقل الولد له عزّ و جل، فجميع هذه الآية المباركة متدرجة على حسب فهم المخاطبين.

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُل

اشارة

وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ اَلْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120) اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ (122) وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ

اشارة

ص: 411

عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) أورد سبحانه و تعالى في ما تقدم من الآيات المباركة بعض شبه الكافرين و المنكرين لوحدانيته و قدرته تعالى، و أقام الحجة على بطلان دعاويهم. و في هذه الآيات المباركة يذكر سبحانه المنكرين لنبوة رسوله (صلّى اللّه عليه و آله) غرورا، و عنادا، و يقيم الحجة عليهم، فذكر أولا من أنكر نبوته بكثرة السؤال عنادا و استخفافا بدين اللّه تعالى، ثم وجّه الكلام إلى الكفار فأمرهم بالإيمان و ان هدى اللّه أحق ان يتبع و ذكر أن طائفة منهم يرجى الإيمان منهم و هم الذين يتلون الكتاب حق تلاوته، تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) ثم ذكّرهم بنعمه و ما يترتب على أفعالهم في يوم الآخرة.

التفسير

قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اَللّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ . لو لا كلمة تستعمل على وجهين:

أحدهما: امتناع الشيء لأجل الغير مثل قوله تعالى: لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ [سورة سبأ، الآية: 31] و يلزمه حذف الخبر، لقيام الجواب مقامه.

ص: 412

كانوا من رؤساء القوم و كبرائهم.

و المعنى: هلا يكلمنا اللّه تعالى كما يكلم رسوله أو ينزل علينا الآيات الخاصة التي اقترحناها كما حكاها عنهم في قوله تعالى: وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ اَلْأَرْضِ يَنْبُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 90] و لم يكن ذلك منهم إلاّ للعناد و الجحود، فإن في ما أنزل اللّه تعالى على نبيه دلالات واضحة، و معجزات باهرة.

قوله تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ أي: أن مثل هذه الاقتراحات الفاسدة قالها الذين من قبلهم في الأمم الماضية فقد اقترح اليهود و النصارى على أنبياء اللّه تعالى الآيات عتوا و استكبارا. و قد حكى تعالى جملة منها في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى: تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ . التشابه هو التماثل أي: أن قلوبهم تماثلت في الضلال و الكفر و الجهل فإن الجهل و عدم العلم حقيقة واحدة و إن اختلفت مظاهرها، فإنهم جميعا يتشابهون في مكابرة الحق و إيذاء أنبياء اللّه تعالى.

قوله تعالى: قَدْ بَيَّنَّا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ . اليقين أخص من مطلق العلم، يقال: علم اليقين، و حق اليقين، و عين اليقين،

و في الحديث: «لم يقسّم اللّه شيئا بين الناس أقل من اليقين» و يأتي الفرق بينهما بعد ذلك، و المراد به من يطلب العلم و اليقين مما يوجبه من الآيات و لديهم الاستعداد لذلك.

و المعنى: إنّا أظهرنا الآيات مع رسولنا بدلالات واضحة و كافية بما لا يدع مجالا للشك و الريب إلاّ من كان من أهل الأهواء و العناد و الضلال. و قد أعرض سبحانه و تعالى عن جوابهم إما لأجل أنهم ليسوا من أهل العلم و المعرفة، أو لأجل أن سؤالهم لا يليق بالجواب. و لو فرض أن الآيات جرت على حسب أهوائهم و مقترحاتهم، فإنه مضافا إلى كون بعضها من المستحيلات عقلا كسؤال رؤية اللّه تعالى و نزوله جل شأنه لصارت أمورا عادية ليس فيها أي دلالة على المعجزة و الحجية، فلا بد من مراعاة النظام

ص: 413

الأحسن و التدبير الأتم الأكمل في كل عصر بالنسبة إلى جميع أفراد الإنسان بما يوافق الحكمة البالغة كما أشار اليه سبحانه و تعالى في الآية التالية.

قوله تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً . البشير المخبر بالخير و تستعمل المادة في الشر أيضا قال تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الإنشقاق، الآية: 24]. و النذير المخبر بما فيه خوف، و كلاهما يتحققان في أنبياء اللّه و أوليائه الناطقين عنه سبحانه المبشرين بثوابه و المنذرين عن عقابه.

و المراد بالحق هو القرآن و جميع التشريعات السماوية النازلة على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الموجبة لسعادة الدنيا و الآخرة، و يمكن أن يكون المراد به الأعم من كون نفس الإرسال بالحق و المرسل له أيضا كذلك للملازمة بينهما كما هو المعلوم.

يعني: إنا أرسلنا النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بالحق و في الحق، و الحكمة في هذا الإرسال أن يكون بشيرا بالرحمة و الثواب لمن يتبع الحق و نذيرا بالعقاب لمن خالف.

قوله تعالى: وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ اَلْجَحِيمِ . الجحيم هي النار إذا اضطرمت و شب وقودها و قد أعدها اللّه تعالى في الآخرة للغاوين قال تعالى: وَ بُرِّزَتِ اَلْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ [سورة الشعراء، الآية: 81] أي لا تسئل عن أصحاب الجحيم الذين استحقوها بسوء اختيارهم لم اختاروا الجحيم؟ و لا يضرك تكذيبهم فلا يضيق صدرك عليهم بعد أن قمت بالوظيفة، و أتممت الحجة عليهم، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ سورة البقرة، الآية: 272] و في ذلك تسلية للنبي (صلّى اللّه عليه و آله).

و هذه الآية الشريفة و ما في سياقها مطابقة للعقل الفطري من تحقق الإختيار في الفاعل المختار، فإن اللّه تعالى إنما بعث رسله مبشرين و منذرين و على الإنسان أن يأخذ العلم الذي يهديه و ماله دخل في استكماله

ص: 414

و ما يوجب سعادته في الدارين، فباختياره يصعد إلى الدرجات كما أن به ينزل إلى الدركات، و المعلم غير مسئول عن ذلك بعد بذل جهده في التربية و التعليم، و هذا أمر قد جرت عليه السيرة العقلائية في التعليم و التعلّم الدائرين بينهم.

قوله تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ . الرضاء من المبينات العرفية، و يستعمل بين الخالق و المخلوق، و بين المخلوقين بعضهم مع بعض قال اللّه تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و قال تعالى: فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ [سورة النساء، الآية: 24] و هو من أهم ما يقوم به النظام.

و مادة (م ل ل) تأتي بمعنى الإملاء و الإثبات، قال تعالى: وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ [سورة البقرة، الآية: 282] فالملة إنما هي الشريعة التي أثبتها اللّه لعباده على ألسنة رسله و أنبيائه، و هي و الشريعة سيان و أما مع الدين فهما واحد مصداقا، و أعم في الاستعمال، يقال: دين اللّه تعالى، و دين محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و دين زيد، و لا يقال في الملة ذلك إلاّ ملة اللّه تعالى، و يصح نسبتها إلى النبي المشرع، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ و قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161]، و لعل السر في ذلك أنه روعي في إطلاق لفظ الملة إبلاغ التشريعات الإلهية السماوية، و هذا يختص بالنبي دون غيره ثم اتسعت حتّى استعملت في الأديان الباطلة أيضا، و كاد المجاز أن يغلب الحقيقة، فقيل: «الكفر ملة واحدة».

و الآية ظاهرة في اليأس عن إيمانهم بعد أن كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يطمع في إسلامهم، بل كان يرجو مبادرتهم إلى الإيمان، لأن الإسلام دين التوحيد و دين الفطرة فيوافق ما هم عليه في الجملة. و لذلك كبر على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إعراضهم و جحودهم، و كان سبب ذلك أنّهم كانوا يعتبرون دينهم هو الهدى فقط، و ما سواه باطل، فهم أحق بهذا الأمر من غيره فلا بد من اتباع ملتهم، أو كان السبب أنهم كانوا يزعمون أنهم

ص: 415

أبناء اللّه و أحباؤه فلا يعقل اتباع غيرهم مع الاختلاف في الملة، أو أنهم كانوا يرون أنفسهم أصحاب قوة و منعة، و جاه و ثروة و غيرهم على ضعف و رفض القوي لما يدعو إليه الضعيف - و لو كان حقا - أمر مركوز في النفوس، و كل ذلك من مظاهر عتوهم و استكبارهم و لذا رد اللّه تعالى عليهم.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى . لأنّ اللّه تبارك و تعالى هو العالم بالهداية و طرقها و القادر على جزاء متبعيها، و ليست الهداية من المقترحات النفسانية، فلا بد و أن تنتهي اليه تعالى علما و جزاء و تقدم معنى الهداية فراجع سورة الفاتحة.

قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ اَلَّذِي جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ . قضية شرطية، و من المعلوم أن صدق القضية الشرطية إنما هو بصدق الملازمة، لا بتحقق الموضوع، و انطباق الجزاء على الشرط المذكور فيها بالنسبة إلى مورد الخطاب أو المخاطب، فيكون مفاد القضية أن متابعة الهوى و الآراء الباطلة توجب الخذلان من اللّه تعالى فالآية المباركة نظير قوله تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر، الآية: 65]. أي أن الشرك يوجب حبط العمل، فإتيان الجملة بصورة الشرطية تفيد معنى خاصا.

مادة (ه و ي) تأتي بمعنى السقوط و تستعمل في ميل النفس إلى الأمور و الشهوات الباطلة فتهوي بصاحبها الى كل داهية في الدنيا، و إلى النار في الآخرة، و قد تقدم ما يتعلق بها أيضا.

و المعنى: لئن اتبعت أهواءهم و عقائدهم الفاسدة بعد ما جاءك من العلم بالحق يترتب عليك الجزاء الذي أوعد به اللّه تعالى.

قوله تعالى: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ . أي: أنه يوجب الخذلان من اللّه تعالى فليس لك ولي يتولى شؤونك في الدنيا و الآخرة و لا نصير ينصرك من عذاب اللّه تعالى كما قال جلّ شأنه في آية أخرى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ

ص: 416

[سورة الرعد، الآية: 37] و الخطاب و إن كان موجها إلى رسوله (صلّى اللّه عليه و آله). و لكن يراد به أمته، لأنه تعالى يعلم بأنه (صلّى اللّه عليه و آله) لا يفعل ذلك فيكون إرشادا للإنسان إلى أن متابعة الهوى توجب الحرمان عن نعمه تعالى و إفاضاته، فلا بد من متابعة الحق و لا تأخذه فيها لومة لائم، لأنه يعلم بأنّ اللّه هو ولي أمره و ناصره، و إلاّ لم يكن لائقا بعبوديته تعالى فيستحق أشد العذاب.

و في الآية المباركة إشارة إلى أن جميع المعارف الحقة - أصولا و فروعا - لا بد أن تستند اليه تعالى و ما سواها يكون من الأهواء الفاسدة و المفسدة فيجب طرحها و عدم متابعتها.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ . مادة (تلى) تأتي بمعنى المتابعة و لها مراتب و درجات ترتقي من القول فقط إلى أقصى درجات المتابعة في القول و الفعل و الوجود و سائر الجهات. و المراد بحق التلاوة هي التي توجب فهم الكتاب و التفقه فيه و اتباع احكامه و قد وردت روايات كثيرة في أن المراد بها ترتيل آياته و التفقه به و العلم بأحكامه» و سيأتي في البحث الروائي ذكرها دون مجرد الترتيل مع المخالفة العملية و إلاّ فهو استهزاء به و استخفاف باللّه تعالى و لذا

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رب تال القرآن و القرآن يلعنه» و الآية تتضمن قاعدتين عقليتين قررتهما الكتب السماوية.

الأولى: أنّ الاعتقاد بالحق، و العمل به يوجبان كمال النفس و ارتقاءها إلى المقامات المعنوية، و الفوز بالدرجات الأخروية.

الثانية: أنّ الكفر بالحق، و ترك العمل به يوجبان الخسران.

و في الآية المباركة إعلام للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بأنه ربما يكون في أهل الكتاب من يرجى إيمانهم و هم الذين يتلون التوراة و الإنجيل حق التلاوة فيتدبرون آياتهما و يتعلمون أحكامهما.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْخاسِرُونَ . أي: من يكفر بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) من بعد علمه بالحق فهو الذي خسر السعادتين

ص: 417

الدنيوية و الأخروية و ذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ . إرجاع ختم الكلام إلى بدئه و هو من محسنات البيان فقد سبق أن ذكّر سبحانه و تعالى بني إسرائيل أنواع نعمه، و هنا ختم بتذكيرهم لها أيضا لتتم الحجة عليهم أو غير ذلك من المصالح، و ما عن بعض المفسرين من إنكار التكرار في القرآن فسيأتي البحث عنه في مستقبل الكلام، و قد تقدم تفسير الآية الشريفة في آيتي 40 و 47 فراجع.

و نزيد هنا أنه قد ورد في قوله تعالى مخاطبا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله): فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة، الآية: 152] و ذكر تعالى في خطابه لبني إسرائيل: اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ فمن اختلاف التعبير يستفاد علوّ منزلة المسلمين عن غيرهم فإن الذكر تعلق بهم بالذات الأقدس الربوبي، و هو أعلى المقامات، بخلاف بني إسرائيل. فإن الذكر تعلق فيهم بالنعمة، و ذلك لكثرة انغمارهم في الجهات المادية، و إعراضهم عن الحق فورد الخطاب على ما ارتكزت عليه نفوسهم، و كم فرق بين من تعلقت نفسه بنعمة المنعم و بين من تعلقت نفسه بذات المنعم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ . تقدم تفسيرها في آية 48 إلاّ أنّ الأولى مغايرة مع الثانية في تقديم قوله تعالى: وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ . و الوجه في ذلك أن مورد الأولى في مقام تحلية النفس بالفضائل النفسانية أولا ثم أمر الغير بها ثانيا. و مورد الثانية إنكارهم لنبوة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ باتباعه لهم و قد ختم سبحانه و تعالى الكلام مع اليهود بذلك.

بحث روائي:

عن الشيخ الطوسي في قوله تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى : «إنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان مجتهدا في طلب ما

ص: 418

يرضيهم ليقبلوا إلى الإسلام و يتركوا القتال. فقال اللّه تعالى له: دع ما يرضيهم فإنهم لن يرضوا عنك».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال (عليه السلام): «الوقوف عند الجنّة و النار».

أقول: و هو حق لا ريب فيه، لأن حق التلاوة عبارة عن العلم بالمتلو و العمل به كما يأتي في الرواية الآتية.

و عن الديلمي في الإرشاد عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ قال (عليه السلام) يرتلون آياته و يتفقهون به، و يعملون بأحكامه، و يرجون وعده، و يخافون وعيده و يعتبرون بقصصه، و يأتمرون بأوامره، و ينتهون بنواهيه. ما هو و اللّه حفظ آياته و درس حروفه، و تلاوة سوره، و درس أعشاره و أخماسه، حفظوا حروفه، و أضاعوا حدوده.

و إنما هو تدبر آياته و العمل بأحكامه قال تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ .

و عن الكليني و العياشي عن أبي ولاد عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ قال (عليه السلام): «هم الأئمة».

أقول: لأن العلم بحقيقة القرآن و العمل بجميعه إنما يتحقق فيهم و بهم، و هذا من باب التطبيق كما مر.

بحث دلالي:

المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في ذم اليهود و النصارى و غيرهما أنه ليس لذاتهم بل لأفعالهم الاختيارية الشنيعة، و قد اتفق جميع الفلاسفة بل و غيرهم على أن السعادة و الشقاوة ليستا ذاتيتين للإنسان كذاتية

ص: 419

النطق له، كما أنهما ليستا من لوازم الذات كذاتية الزوجية للأربعة، بل هما من لوازم وجوده الخارجي التي تحصل بالاختيار. نعم للقضاء و القدر الإلهي دخل فيهما بنحو الاقتضاء لا العلية التامة كدخلهما كذلك في أكثر - بل جميع - ما يتعلق بالإنسان فبالعمل يصير الإنسان سعيدا مستحقا للثواب، كما أن به يصير شقيا مستحقا للعقاب، و هذا هو المستفاد من مجموع ما ورد في هذا الباب بعد رد بعضه إلى بعض، و سيأتي مزيد بيان لهذا البحث في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

فالشقاوة التي لحقت باليهود و النصارى إنما حصلت من أفعالهم الشنيعة مما أوجبت قساوة قلوبهم كما حكى اللّه تعالى عنهم في الآيات المباركة السابقة و الذم تعلق بهم لأجل هذه الجهة فإذا وجدت في أي طائفة أوجبت شقاوتهم و بعدهم عن ساحة الرحمن بلا فرق بين اليهود و النصارى و المسلمين، بل هي من المسلم أقبح فإن نبيهم (صلّى اللّه عليه و آله) أفضل الأنبياء و أمته أفضل الأمم، و لأنّ السير التكاملي في الإنسان يقضي أن يأخذ بعبر الماضين فلا يفعل ما فعلته الأمم السابقة مما أوجب شقاوتها و هلاكها، و لذا كان جرائم المسلمين و مذام صفاتهم أقبح عند اللّه من جرائم غيرهم من سائر الأمم، كما أن أفعالهم الحسنة أفضل.

و الحمد للّه أولا و آخرا.

ص: 420

المجلد 2

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

المدخل

نحمدك اللهم على ما فضلتنا به من الاستضاءة بأنوار كتابك و الصلاة و السلام على أشرف الأنبياء و سيد رسلك و آله و أصحابه السابقين إلى امتثال أمرك

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّال.......

اشارة

وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ (124) شرع سبحانه و تعالى في بيان بعض أحوال إبراهيم (عليه السلام) تمهيدا لبيان بناء البيت و تشريع القبلة للمسلمين، و أهمية البناء و عظمته تنبئان عن عظمة الباني و أهميته؛ و لذا خصه اللّه تعالى - و بعض ذريته - بالإمامة الكبرى، كما أنّ في تأخير ذكره عن أهل الكتاب ترغيبا لهم بالإيمان بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و أنه ليس من حق اليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه السلام) أن يعرضوا عن الأساس الذي بني عليه الإسلام، بل أساس النبوة العظمى و الإمامة الكبرى، فهو (عليه السلام) محور الكمالات الإنسانية، فلا عذر في الإعراض عن تعاليمه.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ . مادة «بلي» تأتي بمعنى الخلق الذي هو ظهور لحمته و سداه، و بروز واقعه و حقيقته للناس و لصاحب الثوب، و استعملت في الامتحان و الاختبار من هذه الجهة، لأنهما يظهران حقيقة الشيء و واقعه.

و المراد بهذا الظهور هو الظهور للنفس و لمن يجهل الحقائق، لا بالنسبة إلى اللّه الذي هو علاّم الغيوب، و المطلع على كل سر محجوب.

ص: 5

و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى:

وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ اَلسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [سورة الأعراف، الآية:

168]، و قال تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 35] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و يصح استعمال هذه المادة في الخير و النعمة لتظهر كيفية الشكر عليهما. و في الشر و النقمة ليعلم كيفية الصبر عليهما.

و إبراهيم كلمة سريانية تفيد معنى الأب الرحيم على ما قيل، و يشهد له التأمل في أحوال هذا الرجل العظيم من حبه للضيوف و المساكين و كثرة مداراته مع المعاندين، و رأفته بأطفال المؤمنين في عالم البرزخ كما في النصوص الى غير ذلك من الصفات الحسنة مما تأتي الإشارة إليها.

و قد تكرر اسمه الشريف في الكتب السماوية، ففي القرآن المجيد في ما يقرب من سبعين موردا. و هو الذي دعا إلى عبادة الإله الواحد الأحد القيوم خالق السموات و الأرض، فلقي ما لاقاه من قومه المشركين، و كان من انقطاعه إلى رب العالمين، ما أوجب تحير الملائكة فيه أجمعين، و كان من بذل نفسه للرحمن و ماله للضيفان و ولده للقربان أن اتخذه اللّه تعالى خليلا لنفسه، و أراه ملكوت السموات و الأرض و جعل النبوة و الحكمة و الملك العظيم في ذريته، و فدى ولده بذبح عظيم.

و هو أول من رفع قواعد البيت الحرام بعد الطوفان و أول من أتى بشرائع الإسلام، و أول من قاتل في سبيل اللّه تعالى و أول من اتخذ الرايات في الدعوة إلى رب السموات، فحقيق له أن يكون خليلا للّه تعالى، و حق للّه سبحانه و تعالى أن يتخذه خليلا.

و إنّما قدّم على الفاعل في الآية الشريفة اهتماما به، و لاتصال الفاعل بضمير المفعول الموجب لتقديم الأخير عليه.

و إنما بدأ سبحانه و تعالى في ذكر قصة إبراهيم (عليه السلام) بذكر الابتلاء و الامتحان، إعلاما لخلقه بأنّ الأنبياء و الأوصياء إنما وصلوا إلى

ص: 6

مراتبهم العالية بالاختبار و الامتحان، و أن إبراهيم (عليه السلام) قد خرج عن هذا الابتلاء و الامتحان بأحسن وجه، و بأن فضله و كماله بإتمام ما كلفه اللّه سبحانه و تعالى به.

قوله تعالى: بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ . الكلمات جمع كلمة. تظلق على الأثر الحاصل غالبا للسمع أو البصر. فمن الأول عامة الكلمات الشايعة المستعملة. و من الثاني الجرح المحسوس بالبصر، فالألفاظ المسموعة كلمات و المعاني التي تحتها كلمات أيضا، لمكان الاتحاد بينهما في الجملة من هذه الجهة. كما أن المعاني كلمات اللّه تعالى من حيث دلالتها عليه سبحانه و مظهريتها له تعالى، سواء وجدت بالوحي، أم الإلهام، أم القذف في القلوب و غير ذلك من وجوه المعرفة و الاتصال مما لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

كما تطلق الكلمات على الذوات قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 39].

و المراد بكلمة اللّه تعالى أو كلماته حيث تطلق في الكتاب و السنة ما أنشئ عن ذاته المقدسة، سواء أ كان جوهرا بحسب مراتبه أم عرضا و إنما أطلق لفظ الكلمة عليه من باب ضيق التعبير، و إلاّ فإن منشآته عزّ و جل تكفي فيها الإرادة و الأمر التكويني، كما قال تعالى: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82].

و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) في بعض الأدعية المأثورة: «مضت على إرادتك الأشياء فهي بمشيتك دون قولك مؤتمرة». و أن أمره التكويني عبارة عن إرادته تعالى، كما أن إرادته فعله.

و المراد بالكلمات في المقام الأعم من المظاهر الأخلاقية النفسانية أو التكليفية، أو الذوات الخارجية الذي هم مظاهر الحقيقة الإنسانية كالأنبياء و الأوصياء الذين هم من نسل إبراهيم (عليه السلام).

فلا بد أن تكون الكلمات هي ما تقع في طريق الاستكمال الإنساني لأنه المقصد الأسنى من خلق الإنسان، و من اتخاذ إبراهيم خليلا، و موسى كليما، و محمدا مرسلا إلى العالمين. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الكلمات، و يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

ص: 7

و مادة (ت م م) تستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه، و هو ضد النقص. و قد استعملت في القرآن كثيرا، قال تعالى: وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [سورة البقرة، الآية: 150] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و إتمام الصّلاة إتيانها بحيث لا نقص فيها و لا قصر؛

و في الحديث «اللهم رب هذه الدعوة التامة» أي لا نقص فيها في ربط العبد بمعبوده، و لو كان نقص في البين فإنه من نفس العبد.

و المراد به في المقام أي: أكملهنّ كما هو حقها و وفّاها كمال الوفاء بلا نقص فيها و لا خلل.

قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً . الجعل من الألفاظ العامة؛ و هو أعم من الفعل و الصنع و نحوهما.

و يستعمل في موارد شتى منها: الخلق و التكوين، و التشريع، و الحق، و الباطل و غير ذلك، فمن الأول قوله تعالى: وَ جَعَلَ اَلظُّلُماتِ وَ اَلنُّورَ [سورة الأنعام، الآية: 1]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً [سورة يونس، الآية: 5] و قوله تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ [سورة النحل، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة الكثيرة.

و من الثاني قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ [سورة البقرة، الآية: 143]، و قوله تعالى: وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و من الثالث: قوله تعالى: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [سورة يوسف، الآية: 100]، و جميع ما مر من الآيات المباركة و نظائرها.

و من الأخير قوله تعالى: وَ جَعَلُوا لِلّهِ شُرَكاءَ [سورة الرعد، الآية:

33]، و قوله تعالى: وَ يَجْعَلُونَ لِلّهِ اَلْبَناتِ [سورة النحل، الآية: 57]، إلى

ص: 8

غير ذلك من الآيات المباركة.

و المراد به في المقام الجعل التشريعي، نظير قوله تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً [سورة ص، الآية: 26]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية:

35].

و الجعل التكويني ما ليس لاختيار الغير دخل فيه بخلاف التشريعي فإنه في مورد اختيار الغير، و يصح كل منهما بالنسبة إلى اللّه تعالى و بالنسبة إلى الإنسان، فالفعل الاختياري الصادر منه كالقيام و القعود مثلا جعل تكويني، و أمره الغير بشيء و نهيه عنه جعل تشريعي.

و الإمام كل ما يقتدي به النّاس سواء أ كان كتابا سماويا، قال تعالى: وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً [سورة هود، الآية: 17]، و قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]. أم رجلا إلهيا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 35].

و يستعمل في كل من الحق و الباطل، قال تعالى: فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ اِجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً [سورة الفرقان، الآية: 74].

و الإمامة في عرف المليين هي الزعامة الإلهية و الرئاسة الربانية على النّاس، و الإمام هو الزعيم و المقتدى في أمور الدين و الدنيا، فهو القوة المجرية لأحكام اللّه تعالى و تدبيراته في خلقه من حيث التشريع فتكون رئاسته من الحق و بالحق.

و إذا لوحظت مطلقا من غير شرط فهي تجامع النبوة و الرسالة، و إذا لوحظت (بشرط لا) فهي تختص بغيرهما فإنّ مجرد إنزال التشريعات السماوية على من يختاره اللّه تعالى يكون نبوة، و امره تعالى ذلك النبي أن يرسل و يبلغ

ص: 9

ما أنزل عليه إلى النّاس يكون رسالة. كما أنّ أمر اللّه تعالى ذلك الرسول بإخراجها في النّاس و إقامته فيهم يكون إمامة، و بين الجميع تصادق في الجملة و الحقيقة واحدة و لكن لها مراتب مختلفة.

و يصح انفكاك الأول عن الأخيرين كما في جمع كثير من الأنبياء (عليهم السلام) مثل لوط، و يونس، و هود و غيرهم. كما يصح انفكاك الأخير عن الأولين، كخلفاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و يصح اجتماع الجميع كما في إبراهيم و موسى و عيسى و خاتم النبيين (صلّى اللّه عليهم). فلا ملزم أن يكون كل نبي أو رسول إماما كما لا ملزم أن يكون كل إمام نبيا أو رسولا. و لها فروع منها القضاوة التي هي الحكم بين النّاس بالحق بإذن من إمام الأصل (عليه السلام)، كما فصل في الفقه.

فالإمامة هي السلطة الفعلية الإلهية على تنظيم أمور الرعية بما يريده رب البرية، و لا ريب في أنها أعلى مقامات الإنسانية لكونه أمين اللّه تعالى في خلقه و أمين الخلق بينهم و بين اللّه تعالى؛ فلا بد أن يكون أعلم النّاس بأحكام اللّه تعالى، و أتقاهم في دينه، و أعقلهم و أسوسهم في ترتيب أمور العباد و تنظيم البلاد بما يفاض عليه من اللّه تعالى، كما في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و إبراهيم (عليه السلام)، أو من الشريعة التي يتدين بها، كما في الأئمة الهداة المعصومين (عليهم السلام).

ثم إنه ذكر جمع من المفسرين أن المراد بالإمامة في المقام النبوة لأن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من يقتدي به النّاس و يؤتم به فليست الإمامة شيئا زائدا على النبوة و الرسالة الإلهية.

و لكن التأمل في الآية المباركة و سائر الآيات الشريفة النازلة في سياقها يرشد إلى أنها غير الرسالة، و أن الإمامة كانت بعد الرسالة.

أما أولا: فلأن ظاهر قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ أن الابتلاء و الامتحان كان بعد وجدان ابراهيم (عليه السلام) لمرتبة النبوة و خروجه عن الامتحانات الإلهية و إتمامه لهنّ، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً إذ الظاهر أنّ الجعل تعلق بأمر جديد و كان بعد خروجه عن

ص: 10

الامتحان و الابتلاء، و إلاّ لا معنى لأن يتعلق الجعل بأمر كان حاصلا له.

و ثانيا: ظاهر قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً يدل على كون الجعل في المستقبل، و صرفه إلى معنى (جعلت) في الماضي خلاف الظاهر و يحتاج إلى دليل، و قد ذكر علماء الأدب أن اسم الفاعل إنما يعمل إذا كان بمعنى المستقبل.

و بالجملة أنّ توهم كون المراد بالإمامة هي النبوة خلاف الظاهر المنساق من الآيات المباركة الواردة في القصة. و قد وردت روايات مستفيضة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على أن إمامة إبراهيم (عليه السلام) كانت بعد النبوة يأتي التعرض لها في البحث الروائي.

و المستفاد من جميع ما تقدم أن النسبة بين النبوة و الإمامة هي العموم من وجه، فليس كل نبي إماما كما أنه ليس كل إمام نبيا، و مورد الاجتماع إبراهيم (عليه السلام)، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي . مادة (ذرأ) تأتي بمعنى الفرق و التفرق، و أبدلت الهمزة ياء، سواء كان أصلها من ذرأ بمعنى الخلق، أم ذرر من لفظ الذر، أم من ذري أو ذرو بمعنى الإلقاء و التفريق؛ يقال: ذريت الحب، أو ذروته. و هي بمعنى النسل سمي ذرية، للاختلاف في الخصوصيات و الهيئة، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم كثيرا لا سيما في قضايا إبراهيم (عليه السلام)، قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام): رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128]، و قال تعالى: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ [سورة إبراهيم، الآية: 37].

و الظاهر من سياق الآية المباركة أنّ إبراهيم (عليه السلام) كما بشر بالإمامة العظمى بعد الابتلاء العظيم من ربه دعا اللّه تعالى أن يجعل هذه الموهبة العظيمة في ذريته أيضا إما جزاء لابتلائه، أو رغبة منه فاستجاب تعالى ذلك له بقوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 54].

ص: 11

و إنما طلب الإمامة لبعض ذريته كما تقتضيه (من) التبعيضية و لم يطلبها لجميعهم، لأنه كان يعلم بحسب العادة أن ذريته مختلفون في الصلاح لعدمه، و قد طلبها للصالحين من ذريته، و طلب هذا المقام الخطير لغير الأهل لا يليق بمقام إبراهيم، بل هو خلاف أدب الدعاء و لم يكن جديرا بالإجابة.

أو لأنّ اللّه تعالى أعلمه أسماء الأئمة (عليهم السلام) من ذريته في ضمن الكلمات، كما تدل عليه الأخبار. و سيأتي نقلها في البحث الروائي، فحينئذ لم يكن يطلب الزيادة على ما أخبره تعالى، فيكون دعاؤه مزيدا للاستبشار و البهجة، أو الشكر.

قوله تعالى: قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . يستفاد من هذه المحاورة كمال الخلة و المحبة بينه تعالى و بين عبده إبراهيم (عليه السلام) و كيف لا يكون كذلك، و هو خليل الرحمن.

و النيل نظير الإدراك و اللحوق. و المراد بالعهد الإمامة.

و إنما عبر به لبيان كمال أهمية مرتبة الإمامة، و أنّ جعلها مختص باللّه تعالى دون غيره، كما يأتي في تفسير قوله تعالى: وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: 68].

و الظلم هو التجاوز عن الحد المقرر شرعا، و له مراتب متفاوتة، و لهذه المادة استعمالات كثيرة يمكن حصرها في أنواع ثلاثة:

الأول: ظلم الإنسان لنفسه.

الثاني: ظلمه بينه و بين اللّه تعالى الثالث: ظلمه لغيره. و العقل مستقل بقبح الجميع و قررته الكتب السماوية، و القرآن الكريم، و المراد به في المقام جميع ذلك.

ثم إنّ هذه الجملة تدل على عدم إمكان اجتماع عهد اللّه تعالى مع الظلم، بل فيها إشارة إلى غاية بعد الظلم عن اللّه تعالى، و الظالم ليس بأهل

ص: 12

لأن يقتدى به فكيف يليق لأن يعهد إليه منصب إمامة الناس و تعهد الرعية، و إرشادهم إلى الصلاح، و كف الظلم عنهم. فاجتماعهما في شخص من قبيل اجتماع النقيضين، و التنافي بين الإمامة و بين صرف وجود الظلم واضح. و لا يعدو عن كونه أمرا فطريا و حكما عقليا يجري عليه عامة النّاس في شؤونهم الدنيوية، فمنصب الإمامة كالنبوة من هذه الجهة في أنهما لا تعهدان إلى الظالم، و أن الظلم ينافي العصمة التي دلت الأدلة العقلية على اعتبارها فيها.

و ظاهر الآية المباركة أن صرف وجود الظلم يكون مانعا، و أن التلبس به يخرجه عن القابلية لهذا المنصب بسبب النقص الحاصل فيه، و الناس بالنسبة إلى الظلم و عدمه على أربعة أقسام:

الأول: من اتصف بالطاعة و الارتباط مع اللّه تعالى من أول عمره إلى آخر ارتحاله.

الثاني: من اتصف بالظلم و المخالفة كذلك.

الثالث: من يكون مثل الأول في أول عمره، و مثل الثاني في آخر عمره.

الرابع: من يكون مثل الثاني في أول عمره، و مثل الأول في آخر عمره.

و لا يليق بمنصب الغيب المكنون، و السر المصون و الإمامة العظمى إلاّ الأول، و إنّ إطلاق الآية الشريفة ينفي بقية الأقسام. كما أن إطلاقها يشمل جميع أقسام الظلم سواء كان شركا أو غيره. و ما ورد في بعض الأخبار أنه عبادة الصنم إنما هو من التطبيق على بعض المصاديق.

و مما تقدم يعلم أنه لا حاجة إلى إدخال المقام في مسألة المشتق المعنونة في الكتب الأدبية و الأصولية و أطيل القول فيها من أنه لو كان المشتق حقيقة في الأعم من المتلبس بالمبدأ و ما انقضى عنه المبدأ، فلا يليق بالإمامة من ظلم ثم تاب، و أما إذا كان حقيقة في خصوص المتلبس فقط فلا يصح الاستدلال بالآية المباركة بالنسبة إلى من تاب و آمن.

فإنه لا ربط للآية المباركة بمسألة المشتق، و إنّ سياق الآية الشريفة كما

ص: 13

ذكرنا يدل على أن صرف وجود الظلم ينافي جعل هذا المنصب الخطير؛ لأن الإمام أمين اللّه تعالى على خلقه، و منشأ الاتصال بينه و بين عباده، و الظلم موجب لسقوطه عن هذا المنصب، سواء كان سابقا عليه أم مقارنا أم لا حقا.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآية المباركة أمور:

الأول: إنّ فصل قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً عن الجملة السابقة، و من إضافته إليه تعالى يرشد إلى شرف الإمامة و أنّها فضل من اللّه تعالى و لطف إلهي، و هي لا تنال بالكسب.

الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الإمامة كانت بعد النبوة، فإن إبراهيم (عليه السلام) إنما طلب الإمامة لذريته بعد أن صار له أولاد يرجو أن يكون لهم ذرية، و أما قبل ذلك فقد كان نبيا. و «جاعل» بمعنى أجعلك في المستقبل لا بمعنى جعلت في الماضي كما لا يخفى.

الثالث: أن قوله تعالى: لِلنّاسِ إشارة إلى الامتنان عليهم و أن الإمامة هبة و لطف إلهي و من أكبر مصالحهم.

الرابع: يستفاد أدب الدعاء من سؤال إبراهيم (عليه السلام) فإنه كان عالما و متوجها إلى أن في ذريته من لم يكن أهلا للإمامة فلم يطلبها لجميع ذريته و إلاّ لا يناسب مقامه (عليه السلام).

الخامس: في الآية المباركة تنبيه إلى أن المانع عن الإمامة منحصر في الظلم و أن فيه تنفير ذرية إبراهيم (عليه السلام) من الظلم و تبغيضه إليهم ليجتنبوا عنه.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ شرف الإمامة و فضيلتها العظمى و عظيم مقامها، فإنها عهد من اللّه تعالى بما فيها من القيام بمصلحة النّاس و التعهد بهم و سياسة الأمة.

ص: 14

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «قد كان إبراهيم (عليه السلام) نبيا و ليس بإمام حتّى قال اللّه تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . من عبد صنما، أو وثنا لا يكون إماما». و مثله ما رواه الشيخ المفيد لكن بزيادة «أو مثالا».

أقول: يأتي إن شاء اللّه تعالى أن إمامته (عليه السلام) إنما جعلت له في أواخر عمره و بعد رسالته و اصطفائه تعالى له كما في قوله سبحانه و تعالى:

وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].

و أما عدم لياقة من عبد الصنم، أو الوثن، أو المثال للإمامة فهو قريب من الفطريات، لأن صرف وجود الإشراك به تعالى يسقطه عن هذا المقام الرفيع.

إن قيل:

روى الفريقان عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الإسلام يجبّ ما قبله» فكيف لا يليق بالإمامة بعد الإسلام. (يقال): الجب عما قبل الإسلام، و قبول الإسلام و التوبة شيء و وصول النفس إلى مقام الإمامة العظمى شيء آخر، ينبو عنه الطبع حتّى مع توبته كما هو المشاهد بالوجدان.

و ما ذكر في الحديث إنما هو من باب المثال لكل ظلم كما هو الظاهر من إطلاق الآية الشريفة، و ليس المقام من باب الإطلاق و التقييد، لإباء الإطلاق - في مقام إفاضة هذا المنصب العظيم الإلهي الأبدي المستلزم لتشريع القوانين الإلهية - عن التقييد بهذه الثلاثة.

في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه عزّ و جل اتّخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا. و إن اللّه تعالى اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا. و إن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ . قال (عليه السلام):

لا يكون السفيه إمام التقي». و قد روي بطريق آخر أيضا.

ص: 15

أقول: جمع أبو عبد اللّه (عليه السلام) في هذه الكلمة الوجيزة أصول ما جمعه الفلاسفة في الفلسفة الإلهية العملية، و ما جمعه العرفاء بعد نهاية جهدهم في شرح مقامات الإنسانية، و هو

قوله (عليه السلام): «إن اللّه تعالى اتخذ إبراهيم (عليه السلام) عبدا قبل أن يتخذه نبيا».

و المراد به - مضافا إلى العبودية التكوينية التي هي من لوازم جميع المخلوقات - العبودية العملية أيضا لا خصوص الأولى فقط، فإنها لا تختص بإبراهيم (عليه السلام) بل تشمل الكل. و العبودية العملية مفتاح السعادة البشرية و مبدأ جميع الكمالات المعنوية التي تفاض عليه، بل هي الحياة الأبدية من حيث البقاء فيصير العبد بذلك ظلّ الحي القيوم بقاء و إن لم يكن كذلك حدوثا، لفرض المسبوقية بالعدم، فالنبوة و الرسالة. و الخلّة، و الإمامة متشعبة عن هذا المقام الشريف.

و ما ذكره علماء الكلام في الإمامة من الشروط السبعة - أي: العصمة الإلهية، و الجعل من اللّه تعالى، و عدم حجب أعمال العباد عنه، و علمه بجميع ما يحتاج النّاس إليه، و استحالة وجود أفضل منه، و كونه مؤيدا من اللّه تعالى، و عدم خلو الأرض عنه - متشعبة من ذلك. و تشهّد المسلمين في صلواتهم كل يوم و ليلة:

«و أشهد أن محمدا عبده و رسوله» إشارة إلى هذا المقام الأجل الأكمل الذي هو رمز السعادة الأبدية بين الأمة و بين الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و بينهما و بين اللّه تعالى، لأن العبودية المطلقة للّه تعالى بالنسبة إلى القائد و المقتدى (بالفتح) من أبرز المفاخر للتابع و المقتدي (بالكسر) و كذلك من تلبس بالإمامة من ذرية خليل الرحمن المتفانين بجميع شؤونهم في العبودية المحضة للحي القيوم فإنهم المرآة الأكمل لرؤية الخلق خالقهم على نحو ما بينت الكتب السماوية في صفات جماله و جلاله و أفعاله و تفصيل البحث بأكثر من ذلك يطلب من الكتب الموضوعة له.

و أما قوله (عليه السلام): «لا يكون السفيه إمام التقي» السفه: عدم كمال العقل في الدين أو الدنيا أو هما معا. و من جعل الإمام (عليه السلام) هنا السفيه في مقابل التقي يستفاد أن كل من ترك التقوى و لم يتصف بها يكون

ص: 16

سفيها و إن لم يكن سفيها بالمعنى المصطلح في الفقه، و قد أطلق لفظ السفه في كثير من الأخبار على كل من أحب الدنيا من حيث هي، و هو كذلك لأن حب الدنيا بأية مرتبة من المحبة و أية مرتبة من الدنيا رأس كل خطيئة، كما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

ثم إنّ ما ذكره (عليه السلام) قضية طبيعية يعرفها كل أحد بعد ما يرجع إلى فطرته الأولية، فمن ستر عنه الواقع و تلبس بالظلم أو السفاهة لا يصير سببا لإراءة طريق الحق للغير فضلا عن أن يكون موجبا للوصول إليه.

و الإمامة التي هي الغاية للنبوة و الرسالة لا يعقل أن يهملها اللّه تعالى في الخلق و إن إهمالها نقصان في حكمته جل شأنه، فكما يجب عليه لطفا بعث الأنبياء و الرسل، يجب عليه كذلك جعل الإمامة أيضا و إلاّ لاختلت حكمة بعث الأنبياء و الرسل. و سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

العياشي عن صفوان الجمال في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قال (عليه السلام): «أتمهنّ بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و علي (عليه السلام) و الأئمة من ولد علي (عليهم السلام)».

أقول: صفوان بن يحيى من أجلاء أصحاب الكاظم (عليه السلام) و هو ثقة عين فكل ما يروي فهو عن الإمام (عليه السلام).

و الرواية تدل على أن الإمامة تتم في ذرية إبراهيم (عليه السلام) إلى الحجة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف). كما يأتي في الحديث اللاحق.

القمي في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ قال (عليه السلام): «هو ما ابتلاه به مما رآه في نومه من ذبح ولده فأتمها إبراهيم (عليه السلام) و عزم عليها و سلم، فلما عزم قال تبارك و تعالى ثوابا لما صدق و سلّم و عمل بما أمره اللّه: إني جاعلك للنّاس إماما فقال إبراهيم: و من ذريتي. قال جلّ جلاله: لا ينال عهدي الظالمين أي لا يكون بعهدي إمام ظالم، ثم أنزل عليه الحنفية و هي الطهارة و هي عشرة أشياء خمسة في الرأس و خمسة في البدن - الحديث».

ص: 17

أقول: مثل هذه الروايات و جملة من الآيات المباركة ظاهرة في أنّ اللّه تعالى لا يدع أجر عمل عامل في الدنيا و الآخرة، كما أنّ الظاهر أنّ تفسير الكلمات في هذه الروايات بما ذكر بالعشرة المذكورة إنما هو من باب المثال لكل تكليف إلهي بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام).

و عن الشيخ في الأمالي عن ابن مسعود قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) «أنا دعوة أبي إبراهيم (عليه السلام) قلنا: يا رسول اللّه و كيف صرت دعوة أبيك إبراهيم؟ قال: أوحى اللّه عزّ و جل إلى إبراهيم: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً فاستخف إبراهيم الفرح. فقال: يا رب و من ذريتي أئمة مثلي - إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله) - فانتهت الدعوة إليّ و إلى أخي علي لم يسجد أحد منّا لصنم قط فاتخذني اللّه نبيا و عليا وصيا». و مثله ما رواه ابن المغازلي في كتاب المناقب.

أقول: تقدم شرحه في الأحاديث السابقة فيكون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) لعدم السجدة للصنم، مثالا لعدم صدور أي ظلم منه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في الدر المنثور عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ قال (صلّى اللّه عليه و آله): «لا طاعة إلاّ في المعروف».

أقول: المراد بالمعروف هو إطاعة اللّه تعالى فتصير كل معصية من غير المعروف و هي مسقطة لهذه المرتبة العظيمة، كما بينه في

حديث آخر: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق».

بحث أدبي:

و متعلق «إذ» في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ و غيرها من الآيات المباركة يصح أن يكون فعلا مقدرا مثل (أذكر) أو يكون فعلا مستفادا من نفس الآية المباركة، ففي المقام يصح أن يكون متعلقه (أذكر) فيدل سياق الآية المباركة على أن قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً تفسير

ص: 18

للكلمات، و الفاعل في أتمهنّ هو اللّه تعالى، و يرشد إلى ذلك بعض الروايات.

و يصح أن يكون المتعلق قوله تعالى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ فتكون الكلمات شيئا آخر.

ثم إنّ متعلق «للناس» يصح أن يكون (إماما) و قدم للاهتمام به و للتصريح بعموم الإمامة للناس و ارتباطها بمصالحهم العامة و الخاصة.

و قوله تعالى: «إماما» مفعول ل «جاعلك» و هو لا يعمل إذا كان بمعنى الماضي، كما لا يخفى.

بحث كلامي:

تقدم أنّ الإمامة هي السلطة الإلهية لتقويم العباد و تنظيم أمورهم الدينية و الدنيوية بما يريده اللّه تعالى، فتكون الإمامة من قسم الهداية الموصلة إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق و إلاّ لزم الخلف. و الآيات الكثيرة المشتملة على هذا العنوان تشير إلى ذلك، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 24] فذكر الصبر و الثبات يشعر بما تحملوا - في إيصال الخلق إلى المطلوب - من المتاعب و البلايا، و كذا قوله تعالى: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، 73] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

إن قيل: لو كانت حقيقة الإمامة هي الإيصال إلى المطلوب لا مجرد إراءة الطريق فقد نرى خلافه في الخارج من عدم وصول عامة النّاس الى المطلوب الحقيقي مع تماديهم في غيهم و ضلالهم.

يقال: إنّ الإيصال الى المطلوب بنحو الاقتضاء لا العلية التامة المنحصرة و إلاّ لبطل الجزاء، فمهما تخلل الإختيار في البين يكون الإيصال بنحو الاقتضاء، كما هو معلوم. و سيأتي التفصيل في المباحث الآتية.

ثم إنّ الإنسان لا بد له من إمام يقتدي به في أفعاله و أعماله و يدبر له

ص: 19

أموره الدينية و الدنيوية و لم يختلف أحد في ذلك و إنما الخلاف في أمور أخرى ذكرها العلماء في مبحث الإمامة في الكتب الكلامية و الحديثية، و غيرهما حتّى ألّفوا فيها كتبا و رسائل مستقلة. و المتأمل في المجموع يعترف أن جملة كثيرة منها أقرب إلى الأغراض الجزئية من المباحث العلمية.

و بعد التدبر في مجموع الآيات المباركة و الروايات يظهر أن الإمامة - كالنبوة - فتارة: يبحث فيها عن الإمامة العامة الشاملة لإمامة إبراهيم و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام). و أخرى: عن الإمامة الخاصة.

أما الأولى فهي كالنبوة العامة فإنها و إن كانت من جهات التشريع لكن لها دخل في نظام التكوين أيضا، فإن تكميل النفوس الناقصة بالمعارف الحقة الواقعية من أهم جهات التكوين، و لا يتم ذلك إلاّ بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و إنزال التشريعات الإلهية، و جعل التشريع بلا وجود قوة مجرية لغو، و هو قبيح بالنسبة إليه عزّ و جل.

فالإمامة هي القوة المجرية لجهات التشريع السماوي فيجب لطفا عليه تعالى جعل الإمام و هذه القاعدة تجري في الإمامة الخاصة أيضا و لا يكفي في القوة المجرية مجرد العقل و العقلاء فإنه لا بد فيهما من التقرير بالحجة الظاهرة و مع غلبة النفس الأمّارة و الأهوية الشيطانية كيف يصلح أن يكون العقل و العقلاء قوة مجرية لوحي السماء.

و لا يخفى أن ذلك من حكمة نصب الإمام لا أن يكون من العلة التامة و إلاّ فإن الإمامة شيء و اقتضاء الظروف و الحالات و سائر الجهات لكونه قوة مجرية لوحي السماء شيء آخر لا ربط لأحدهما بالآخر.

يضاف إلى ذلك أن التشريع الذي يقتضي سعادة الإنسان و المتكفل لجميع جوانب الحياة الإنسانية في الدنيا و الآخرة لا بد أن يستند إلى اللّه تعالى رب السموات و الأرض، أو عقل من ملكوته الأعلى و إلاّ فلا يكون التشريع جامعا أو نظاما إنسانيّا لكثرة ما نراه من اختلاف آراء الناس بالفطرة، و قد قال تعالى: وَ لَوِ اِتَّبَعَ اَلْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ [سورة الأنبياء، الآية: 71] فإذا كان حدوث التشريع من قبل اللّه تعالى على

ص: 20

السنة الأنبياء الحافظين للشريعة و العالمين بها فالبقاء لا بد أن يكون بالإمامة، لانقطاع النبوة في خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله).

و مما ذكرنا يظهر أنّ هذا الجعل تكويني تشريعي فتكوينه يكون دخيلا في تشريعه، و أنّ تشريعه له دخل في تكوينه. و أنّ الإمام يجب أن يكون معصوما كالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) و إلاّ استلزم الخلف، و يدل عليه ظاهر الآية المباركة: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ فما ذكره العلماء في منصبي الإمامة و النبوة من أنهما منصبان مجعولان من اللّه تعالى، و أنه ليس في البشر من يفوقهما في علم التشريع، و أنهما مرتبطان بعالم الغيب كل ذلك صحيح و مطابق للقواعد العقلية، كما عرفت و يأتي التفصيل في محله.

وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ ط.......

اشارة

وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ (125) وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ اَلنّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (126) شرع تبارك و تعالى في تعداد نعمه التي منها جعل البيت مثابة و أمنا و عهده إلى نبيه إبراهيم (عليه السلام) و ابنه إسماعيل أن يطهرا بيته للطائفين و العاكفين و الركع السجود. و في الآية المباركة توبيخ لليهود الذين ينسبون أنفسهم إلى إبراهيم (عليه السلام) و تحريض لهم بأنه لا بد أن يكونوا أول المؤمنين به، و فيها توطئة لتشريع القبلة.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ . تقدم في الآية السابقة متعلق «إذ».

و مادة (بيت) تأتي بمعنى البيتوتة ليلا، و سمي البيت بيتا لأنه يبيت فيه الإنسان ثم اتسعت و أطلقت على الأعم منه و من كل مجمع و سمي بيت الشعر بيتا، لأنه مجمع الحروف و الكلمات، كما سمي البيت العتيق بيتا لأنه مجمع

ص: 21

الأملاك و الإنسان، و قد غلب استعمال الكلمة على المسجد الحرام بحيث إذا أطلقت يفهم منها ذلك، كما في إطلاق المدينة على مدينة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و قيل: إنّ المراد من البيت في المقام الكعبة المشرفة، و لا بأس به إما من باب إطلاق الكل على الجزء، أو من باب أن الكعبة توجب فضيلة البيت الحرام.

و لإبراهيم (عليه السلام) مع بيت اللّه حالات و مقامات، و للّه تعالى معهما ألطاف و عنايات و لا بد أن يكونا كذلك لأن كلا منهما من مظاهر رحمته.

قوله تعالى: مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً . الثوب بمعنى الرجوع أي مرجع الأنام يقصدونه للعبادة و تطهير نفوسهم عن الذنوب و الآثام،

و في الحديث: «من وقف بهذه الجبال غفر اللّه له من بر النّاس و فاجرهم. قيل: من برهم و فاجرهم؟ قال (عليه السلام): من برهم و فاجرهم».

و يمكن أن يكون المراد من اللفظ مطلق المرجعية أعم من الثواب و من الرجوع في المعارف و تكميل النفوس، فإن البيت الحرام كان مبدأ ظهور دعوة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و مهبط الوحي و التنزيل فصار مرجعا للحلال، و الحرام، كما صار قبلة للأنام، فيكون قبلة لأهل المعنى و اليقين، كما هو قبلة للمصلين.

و في اختيار لفظ المثابة إشارة إلى أنه مضافا إلى كونه مقصدا يقصده المؤمنون في عبادتهم أنهم يشتاقون إلى الرجوع اليه متكررا و هذا من أسرار هذا البيت و آية من آياته تعالى فيه.

و من لطيف المقارنة أنه جلّ شأنه قارن بين جعل الإمامة لإبراهيم خليل الرحمن (عليه السلام) و جعل البيت مثابة للناس. فهما قرينان في الجعل الأزلي و التشريعي.

ص: 22

كما أنّ من آيات هذا البيت أن جعله اللّه تعالى أمنا يأمن ما حل فيه من النبات و الحيوان و الإنسان فلا يقطع حشيشه و لا يصاد صيده و لا يخاف آمنه، و بهذا كان معروفا حتّى في الجاهلية مع شدة معاداتهم و حبهم للانتقام و سفك الدماء، قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اَللّهِ يَكْفُرُونَ [سورة العنكبوت، الآية:

67].

و في الحديث: «كل شيء ينبت في الحرم فهو حرام على النّاس أجمعين»،

و قد ورد في الظبي إذا دخل الحرم «لا يؤخذ و لا يمس». كما ورد في من جنى و دخل الحرم أنه لا يقتل بل يضيق عليه في المأكل و المشرب، و البحث فقهي.

و سيأتي تفصيل معنى الأمن عن قريب إن شاء اللّه تعالى.

و لعل في ذكر هاتين الفضيلتين للبيت - الأمن و المثابة - إشارة إلى صلاحية كونه قبلة النّاس و أولويته من غيره.

قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى . عطف على الجملة السابقة. و أما قراءة «اتخذوا» - بالفتح - فلبيان أن مقام إبراهيم (عليه السلام) كان مصلّى حتّى قبل الإسلام، و قراءته بالكسر لا تفيد ذلك.

ففيها: إنّ الخطاب صادر بالنسبة إلى جعل المقام مصلّى من أول ما جعل المقام سواء كان في الجاهلية أو في الإسلام كما في قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً ، و قوله تعالى: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [سورة البقرة، الآية: 125]. فإنّ جميع ذلك في مقام بيان صفات و خصوصيات هذا البيت العظيم.

و الأخذ يتضمن هنا معنى الجعل، كما في قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 51].

ص: 23

و في التعبير بالاتخاذ عناية خاصة و دلالة ظاهرة في المبالغة في اختيار الصّلاة في المقام إما لأجل كثرة أهمية الصّلاة فيه، أو لأجل توفر الأسرار المعنوية و الفيوضات الإلهية فيه، أو لأجل إرشادهم إلى أن ضيق المقام ظاهرا لا يمنعهم عن اتخاذه مصلّى، و سيأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

و مقام: اسم مكان من القيام، و المراد به مقام إبراهيم (عليه السلام) الحجر المعروف الذي عليه أثر قدميه (عليه السلام)؛ و فيه قال أبو طالب:

و موطئ إبراهيم في الصخر وطأة *** على قدميه حافيا غير ناعل

و قال أبو جعفر (عليه السلام): «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم، و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

و كان مقام إبراهيم حجرا يقوم عليه لبناء الكعبة المقدسة و كان يرتفع بارتفاع البناء و ينزل بعد ذلك، لأنه كان من الجنّة، و كل ما في الجنّة له نحو حياة، و سيأتي في الموضع المناسب الكلام فيه.

و هذا المقام هو الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدمي إبراهيم (عليه السلام) و غسلتهما عليه حين مجيئه من السفر لزيارة أهله في واد غير ذي زرع.

و هذا هو المقام الذي قام عليه إبراهيم فأذن في النّاس بالحج. و كان ملاصقا بالبيت ثم أبعد إلى مكانه المعروف الآن، و سيأتي تتمة الكلام في البحث التاريخي.

و المراد بالاتخاذ مصلّى الابتعاد عن المطاف لتوسعته للطائفين، و يأتي في البحث الفقهي تفصيل ذلك.

و المراد من المصلّى جعل المقام محلاّ للصلاة على ما تدل عليه الروايات و استقرت عليه سيرة المسلمين، فيكون المراد من اتخاذ الصّلاة في المقام هو الصّلاة في محل قيامه (عليه السلام) أو خلفه في مسجد الحرام لا نفس الصّخرة التي فيها أثر قدميه (عليه السلام) فإنه لا يمكن أن يتخذ

ص: 24

مصلّى.

و ما قيل: من أن المراد من المقام هو الحرم أو المشاعر العظام فإنها حصلت من تشريعاته الخاصة، و أن المراد من الصّلاة الدعاء. فهو و إن كان صحيحا ثبوتا، و لكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

و لعل من أحد الأسرار في ذلك الترغيب في إتيان الصّلاة في مقام إبراهيم (عليه السلام) تخليدا لاسم باني البيت و المشاعر العظام جريا على عادة النّاس في تخليد أسماء عظمائهم في المباني التاريخية، كما ضبطه التاريخ و خليل اللّه تعالى أحق منهم، فهو وسام خاص جعله اللّه تعالى له.

قوله تعالى: وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ . العهد يأتي بمعنى التثبت المشدد مع عناية خاصة و هي ظهور احترام المعهود اليه بالوفاء بما عهد اليه، و ظهور كون الموضوع مما يعتنى به كثيرا، و تقدم بعض ما يتعلق به في آية - 40 من هذه السورة أيضا. و في معاهدة اللّه تعالى مع إبراهيم و إسماعيل باعتنائهما بالبيت كما حكاه تعالى.

و في إضافة البيت إلى نفسه المقدسة ثم التفضل بقبول العبادة الواقعة فيه إيماء إلى كثرة عنايته تعالى بالبيت و بالعبادة الواقعة فيه.

و التطهير هو التنزيه عن كل ما ينافي حرمة البيت. و من حذف المتعلق يستفاد التعميم فيشمل جميع أنحاء الرجس و الخبائث المعنوية - كالشرك، و الكفر، و الإلحاد - أو الحسية الظاهرية - كالنجاسات، و القذارات و غيرهما - أو الحكمية - كالجنابة و الحيض، و حدوث النفاس -.

كما أنّ المراد من التطهير الأعم من المباشرة و التسبيب، و يشهد لذلك توجيه مثل هذا الخطاب إلى إبراهيم (عليه السلام) فقط في آية أخرى قال تعالى: وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [سورة الحج، الآية: 26]، و لا فرق في الواقع، لأن اللّه تعالى هو الجاعل الحقيقي للبيت، و إبراهيم (عليه السلام) خادمه، و إسماعيل (عليه السلام) من القوة العاملة للخادم فالجميع يرجع اليه

ص: 25

عزّ و جل.

قوله تعالى: لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ . و المراد بالطائفين القاصدين للبيت الحرام لأجل الطواف حوله، و العكوف هو الإقبال عليه و ملازمته على سبيل التعظيم، و العاكفين الذين حبسوا أنفسهم للعبادة في بيت من بيوته جل شأنه.

و الرّكّع السجود جمع الراكع و الساجد، و كل فعل مصدره على فعول جاز في جمعه ذلك. و هما كناية عن الصّلاة، لأنهما أبرز أفعالها.

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً . مادة (ب ل د) تأتي بمعنى القطعة المحدودة المعينة. من الأرض سواء كانت عامرة أو لم تكن، قال تعالى: فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ اَلنُّشُورُ [سورة الفاطر، الآية: 9]، و غالب ما يستعمل في العرف إنما هو في الأولى. و استعملت في الحرم الأقدس الربوبي بأنحاء الاستعمالات، قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً [سورة البقرة، الآية: 126]؛ و قال تعالى: رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً [سورة ابراهيم، الآية: 35].

و الفرق في التنكير و التعريف أن الأول إنما صدر منه (عليه السلام) حين كان المحل واديا غير ذي زرع، فدعا (عليه السلام) بأصل حدوث البلد في الجملة. و الثاني إنما صدر منه بعد صيرورة المحل معرضا للبلدية.

كما أن قوله تعالى: وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ [سورة، التين، الآية: 3]، و قوله تعالى: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ اَلْبَلْدَةِ اَلَّذِي حَرَّمَها [سورة النمل، الآية: 91] إنما نزل بعد استقرار البلدية و توجه النّاس إليها من كل جانب فاختلاف التعبيرات إنما يكون باختلاف الحالات و الخصوصيات.

و مادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة، و زوال الخوف، و سكون النفس، و قد استعملت جملة من مشتقاتها بالنسبة إلى الحرم الأقدس الإلهي، قال تعالى: أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً [سورة العنكبوت، الآية: 67]؛

ص: 26

و قال تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً [سورة البقرة، الآية:

125]، و قال تعالى: وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ [سورة التين، الآية: 3].

و المراد منها

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله يوم فتح مكة: «إن اللّه حرّم مكة يوم خلق السموات و الأرض فهي حرام إلى أن تقوم الساعة لم تحل لأحد قبلي، و لا تحل لأحد بعدي، و لا تحل لي إلاّ ساعة من النهار» و أمثال ذلك من الأحاديث الكثيرة التي تدل على أصل الحرمة و الاحترام التي كانت قبل الخلق، و دعاء إبراهيم (عليه السلام) إنما كان تأكيدا لما سبق و ترغيبا للنّاس، لا أن تكون دعوة مستأنفة.

و الأمن المستعمل في القرآن إما أخروي، أو دنيوي، أو هما معا. و الأول كقوله تعالى: اُدْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ [سورة الحجر، الآية: 46] و قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [سورة الدخان، الآية: 15]. و للثاني موارد كثيرة منها الآيات المباركة الواردة في المقام.

و المراد بالأمن إما للإرشاد إلى أن المحل محل لا ينبغي أن يقع الظلم فيه مطلقا، فيكون تنبيها للعقل و العقلاء إلى عظمة المحل، كما ورد في تعظيم القرآن، و الوالدين، و المؤمن، فتترتب على المخالفة المفسدة لا محالة.

أو أنه أمر تكليفي فعلي لجعل المحل أمنا مما حذر ارتكابه في غيره و كل منهما صحيح و لا منافاة بينهما. كما أنّه يصح أن يكون الأمن فيه من القسم الأخير، أي أمن الدنيا و الآخرة.

و في الآية المباركة امتنان عظيم على أهل الحرم و رواده، من جعل البلد آمنا في نفسه و مأمنا لأهله و غيرهم.

قوله تعالى: وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ . مادة (رزق) تستعمل في العطية الجارية، مطلقا، مادية كانت أو معنوية، كالعلوم و المعارف.

و من أسمائه تعالى رازق، و رزّاق، و خير الرازقين، لعلمه جل شأنه

ص: 27

و حكمته البالغة بجميع خصوصيات الرزق و المرزوق، فربّ منع منه عزّ و جل يكون رزقا بالنسبة إلى الطرف كما

ورد في جملة من الأحاديث: «هو الجواد إن أعطى، و هو الجواد إن منع»، و لعلنا نتعرض للتفصيل عند قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و للمتكلمين كلام طويل في أن الرزق يشمل الحرام أم لا؟ و الظاهر سقوط أصله لأنّ الرزق من الأمور الإضافية، فإذا أضيف إلى اللّه تعالى فلا معنى لحرمته، و إذا أضيف إلى العبد فهو تابع لاختياره، فتارة يختار الحلال، و أخرى يختار الحرام، و سيأتي التفصيل في محله إن شاء اللّه تعالى.

و أهل البلد سكانه الأعم من المتولدين فيه أو المجاورين، و هو أعم من الآل؛ لاختصاص الثاني بالإضافة إلى الأشراف مع لحاظ خصوصية خاصة، بخلاف الأول فيضاف إلى الأشراف و غيرهم؛ و الزمان، و المكان و غيرهما،

و في الحديث قيل لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إن النّاس يقولون المسلمون كلهم آل النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقال (عليه السلام): كذبوا و صدقوا فقيل له: ما معنى ذلك؟ فقال: كذبوا في إن الآل كلهم آله و صدقوا في أنهم إذا قاموا بشرائط شريعته يكونوا آله»، و تقدم في آية 49 من هذه السورة الجامع بينهما.

و الثمرات جمع ثمرة، و هي اسم يستعمل فيما يطعم مما يخرج من الأشجار، و قد وردت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ [سورة الأنعام، الآية: 141]، و قال تعالى: فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ اَلثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 32]، و قال تعالى: وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة محمد، الآية: 15]، ثم اتسع استعمالها في مطلق النفع، فقالوا: ثمرة العلم العمل الصالح، و ثمرة العمل الصالح الجنّة، كما اتسع الاستعمال فاستعملت في مطلق النتيجة، و لو كانت علمية.

ص: 28

و ارتزاق أهل هذا البلد من الثمرات من أسرار البيت العظيم، و هو ظاهر معروف، و قد ورد بيانه في آية أخرى، فقال تعالى: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنّا [سورة القصص، الآية:

57]. و يصح في المقام إرادة الأعم فلأهل الظاهر ثمرات الأشجار و لأهل المعنى المعنويات كل بحسب استعداده.

إن قيل: دعاء إبراهيم (عليه السلام) لا يختص بأم القرى، لأن جميع البلاد التي تزدحم فيها الرواد و القوافل من أنحاء العالم تكون كذلك - خصوصا في هذه الأعصار - و كذا قوله تعالى: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ [سورة القصص، الآية: 57]، و كذا قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً [سورة البقرة، الآية: 126] فإنه من سبر الطبيعة مطلقا.

يقال: استجابة دعاء إبراهيم (عليه السلام) في مكة و أهله من بدء وروده إلى الحرم؛ و ذلك لا ينافي صيرورة محال أخرى موارد رزق اللّه تعالى لمصالح لا يعلمها إلاّ اللّه عزّ و جل، مع أن دعاءه (عليه السلام) كان دائميا بدوام الدنيا و عمرها بخلاف غيرها، فإنه في معرض الزوال و التبدل، و سيأتي التفصيل في الآيات المباركة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . ذكر تعالى اسم الجلالة و لم يأت بضمير الخطاب، مع أن المقام مقام المخاطبة تعظيما و تجليلا و قد عمّم إبراهيم (عليه السلام) دعاءه لرزق أهل هذا البلد لبيان أن الرزق العام الربوبي لا يختص بالمؤمنين و إنما خصهم تعظيما لشأن المؤمنين، فكأنهم المقصودون المستقلون لرزق الثمرات فجمع (عليه السلام) بين غاية رزق الثمرات و ما يدور عليه النظام في ارتزاق الجميع. و تقدم معنى الإيمان في أول هذه السورة، و إنما خصه بالمبدأ و المعاد، لأن الإيمان باليوم الآخر مستلزم للإيمان بالأنبياء (عليهم السلام).

قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ اَلنّارِ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ . بعد ما استجاب اللّه تعالى - بعظيم لطفه و واسع رحمته - دعاء إبراهيم (عليه السلام) و خص الأرزاق المعنوية بالمؤمنين و عمم رزق الدنيا

ص: 29

للمؤمن و الكافر أدرج سبحانه و تعالى كلامه بين كلمات ابراهيم (عليه السلام) عناية به و تلطفا منه و إيماء إلى أن كلام الخليل من كلام الرب الجليل مع أن طول الآية المباركة أحسن موقع ذكر كلامه تعالى.

و المعنى: إن من كفر و أصر على كفره يتمتع من الدنيا أمدا قليلا ثم يساق إلى عذاب النّار و بئس المرجع و المأوى، و ان متاع الدنيا و إن بلغ ما بلغ فإنه زائل و قليل في مقابل عذاب الآخرة و قد وقعت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين كلاهما مقرونان بالتشديد و التهويل أحدهما في المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ [سورة لقمان، الآية: 24] و هذا الاضطرار إنما حصل باختيارهم العقائد الفاسدة و الأعمال السيئة.

و يستفاد من هذا التعبير أن لأعمال البشر نتائج و آثارا تترب عليها قهرا ترتب المسببات على أسبابها فتكون الأعمال كسبية و الآثار ضرورية. و لكن لا ينافي كونها اختيارية باختيار أسبابها نظير ما لو ألقى الإنسان نفسه في مهلكة فإن آثارها تلزمه لا محالة، أو كما قال الطبيب للمريض إن أكلت الغذاء المعين تبتلى بمرض كذا و العلاج بكذا فأكل و اضطر إلى علاجه، فيصح أن يقال إن العلاج حصل باختياره.

و إنما نسب الاضطرار إلى نفسه تعالى لأنه مبدأ الكل و اليه مرجعهم، لا سيما في عالم الآخرة التي هي عالم ظهور الملكات و الأعمال بالعيان بعد ما كانت في الدنيا بالدليل و البرهان.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة أمور:

الأول: إنّ العهد في الآية الشريفة و إن كان بمعنى الإيجاب و الإلزام التكليفي لكن يمكن أن يستفاد منه الجهة الوضعية أيضا، و هي من خصائص

ص: 30

الإمامة و الولاية و بعبارة أخرى: إن جهة تولية البيت لا تكون إلاّ لأهل البيت الذين بهم تمّ بناؤه فهم أحق بسدانته من غيرهم.

الثاني: يستفاد من سياق التعبير في قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى أنّ هذه الصّلاة غير صلاة الفريضة و هي من متممات تشريع الحج فتنحصر في صلاة الطواف و إلاّ لكان الأنسب أن يقول جل شأنه «و صلّوا في مقام إبراهيم» مثلا.

الثالث: إنما وصف تعالى المتاع بالقليل لأن متاع الدنيا و إن بلغ ما بلغ في الكم و الكيف يكون قليلا بالنسبة إلى الآخرة و لا يكون ذلك كرامة بالنسبة إلى الكافر. إذ أيّ كرامة في متاع قليل يكون بعده الخلود في النّار؟!

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً قال (عليه السلام): «من دخل الحرم من النّاس مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه عزّ و جل و من دخله من الوحش و الطير كان آمنا من أن يهاج أو يؤذى حتّى يخرج من الحرم».

أقول: في سياق ذلك نصوص كثيرة شرحها الفقهاء في أحكام الحرم.

في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ليس لأحد أن يصلي ركعتي طواف الفريضة إلاّ خلف المقام، لقول اللّه تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى إن صليتهما في غيره فعليك إعادة الصّلاة».

أقول: النصوص في ذلك مستفيضة بل متواترة تعرضنا لها في أحكام صلاة الطواف، و ألفاظ النصوص مختلفة ففي بعضها «خلف المقام». و في الآخر «عند المقام» و في ثالث «إئت المقام» و في رابع «في المقام» و مرجع الكل واحد. و المراد به هو المحل المخصوص و قد تعرضنا لتفصيله في أحكام الطواف من الحج من (مهذب الأحكام).

العياشي عن أبي الصباح الكناني قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل نسي أن يصلي الركعتين عند مقام إبراهيم في الطواف في

ص: 31

الحج و العمرة. فقال (عليه السلام): إن كان بالبلد صلّى ركعتين عند مقام إبراهيم، فإن اللّه تعالى يقول: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى و إن كان ارتحل و سار فلا آمره أن يرجع.

أقول: تعرضنا لذلك في أحكام صلاة الطواف في الفقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ قال: «يعني نحياه عن المشركين و قال (عليه السلام) لما بنى إبراهيم البيت و حج النّاس شكت الكعبة إلى اللّه تعالى ما تلقى من أيدي المشركين و أنفاسهم فأوحى اللّه تعالى إليها قري كعبة، فإني أبعث في آخر الزمان قوما يتنظفون بقضبان الشجر و يتخللون».

أقول: هذا محمول على بعض مراتب التطهير، و المراد من الآية عام يشمل الجميع أي الطهارة الظاهرية و المعنوية عن دنس الشرك و الكفر.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ قال: «ينبغي للعبد أن لا يدخل مكة إلاّ و هو طاهر قد غسل عرقه، و الأذى و تطهر».

أقول: تقدم وجهه.

الطبرسي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ قال (عليه السلام): «هي ثمرات القلوب أي حببهم إلى النّاس ليثوبوا إليهم».

أقول: هذا من باب التطبيق على أفضل الأفراد لا التخصيص.

بحث تاريخي:

المقام آية من آيات هذا البيت العظيم، و قد عرفت أنّه و الركن و حجر بني إسرائيل من أحجار الجنّة، و روي عن ابن عباس أنّه قال: «ليس في الأرض من الجنّة إلاّ الركن الأسود و المقام فإنهما جوهرتان من جوهر الجنّة و لو لا ما مسهما من أهل الشرك ذو عاهة إلاّ شفاه اللّه تعالى».

و إن إبراهيم (عليه السلام) قام عليه فأثّرت فيه قدماه. كما ورد في الأثر الصحيح عن

ص: 32

الصادق (عليه السلام).

و إنه صخرة وضعتها زوجة إسماعيل تحت رجلي إبراهيم لما غسلت رأسه فأثرت فيها قدماه، كما روي عن الصادق (عليه السلام) و ابن عباس.

و كيف كان فهو حجر معروف بأنه مقام إبراهيم (عليه السلام) من قبل البعثة كما هو الشأن بالنسبة إلى بقية المشاعر العظام. و قد روي عن نوفل بن معاوية الديلي قال: «رأيت المقام في عهد عبد المطلب و هو مثل المهاة». و المهاة الخرزة البيضاء، و عن أبي سعيد الخدري قال: «كانت الحجارة على ما هي عليه اليوم - الحديث -» فلا ريب في أن الحجر المعروف الآن هو نفس مقام إبراهيم المذكور في القرآن الكريم الذي أمرنا باتخاذه مصلّى فقداسة المقام و كونه من المشاعر العظام غير قابلة للتشكيك كسائر المشاعر المباركة. و حد المقام ذراع واحد مساحته أربع عشرة إصبعا في أربع عشرة، و القدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع و دخولهما منحرفتان و بين القدمين في الحجر إصبعان. و كان البعد بينه و بين الركن تسعة و عشرين قدما و تسع أصابع و من الركن الشامي إلى المقام ثمان و عشرين ذراعا و تسع عشرة أصبعا.

نعم وقع الكلام في موضعه

فقد روي عن الباقر (عليه السلام) «كان موضع المقام الذي وضعه إبراهيم عند جدار البيت فلم يزل هناك حتّى حوله أهل الجاهلية إلى المكان الذي هو فيه اليوم فلما فتح النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مكة رده إلى الموضع الذي وضعه إبراهيم (عليه السلام) إلى أن ولي عمر بن الخطاب فسأل النّاس من منكم يعرف المكان الذي كان فيه المقام؟ فقال بعض أنا قد كنت أخذت مقداره بنسع (سير) فهو عندي فأتاه به فقاسه ثم رده إلى ذلك المكان». و روى الأزرقي: «أمر عمر بن الخطاب عبد اللّه ابن السايب العابدي - و عمر نازل بمكة في دار ابن سباع - بتحويل المقام إلى موضعه الذي هو فيه اليوم قال فحوله ثم صلّى المغرب و كان عمر قد اشتكى رأسه، قال: فلما صليت ركعة جاء عمر فصلّى ورائي فلما قضى صلاته قال عمر: أحسنت فكنت أول من صلّى خلف المقام حين حول إلى

ص: 33

موضعه». فإن المستفاد منه أن موضعه كان غير موضعه الآن. و في رواية محمد بن مسلم و خبر إبراهيم بن أبي محمود عن الرضا (عليه السلام) ما يدل على أن محل المقام على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) غير محله في أيام الأئمة (عليهم السلام) و عصرهم.

و بإزاء ذلك ما رواه الأزرقي و غيره عن المطلب بن أبي وداعة ان سيل أم نهشل في أيام عمر احتمل المقام من محله فسأل عمر عن محله فزعم المطّلب أن عنده مقياس محله فوضع في محله الآن. و هذه الرواية لا تقاوم تلك الروايات الكثيرة الدالة على أنه كان ملاصقا للكعبة من جهات.

بحث فقهي:

قد وردت أخبار كثيرة ربما تبلغ اثني عشر خبرا في أن صلاة الطواف لا بد أن تكون خلف المقام بحسب موضعه الآن و تحمل الروايات المطلقة أو المشتملة على لفظ «عند المقام» أو «إرجع إلى المقام» أو «ائت المقام» على الجهة و مقدار السعة، و لعل وجوب تقديم المقام بحسب موضعه الثاني لأجل احترامه عن استدباره حفظا للوحدة و النظام، و تعرضنا للبحث في أحكام صلاة الطواف من كتاب الحج مفصلا و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اِج.......

اشارة

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (129) يذكّر سبحانه و تعالى النّاس في هذه الآيات المباركة بأن الذي بنى هذا البيت الشريف - الذي يعود لهم بالنفع العظيم - هو إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) أبوا هذه الأمة و أن الرسول الذي ظهر فيهم إنما هو من دعائه و أن ملته هي ملة أبيهم إبراهيم فلا عذر لهم في الكفر و الإعراض عن ملة أبيهم مع ما هم عليه من التفاخر بالآباء و يستفاد من الآيات عظمة البناء و الباني.

ص: 34

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ . مادة (رفع) تستعمل فيما يشتمل على العلو نقيض الخفض، و تختلف باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا، كما تختلف موارد استعمالاتها بين الجواهر و الأعراض و الصفات و الشؤون و الاعتباريات قال تعالى: وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها [سورة الرحمن، الآية: 57]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الإنشراح، الآية: 4]، و قال جلّ شأنه: وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10] و قال تعالى: رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ [سورة غافر، الآية: 15] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و القواعد جمع القاعدة و هي تأتي بمعنى الثبوت و الاستقرار في مقابل الحركة، و سمي أساس البيت و البناء قاعدة لثباته و استقراره قال تعالى: فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ [سورة النحل، الآية: 26] و سميت القاعدة العلمية قاعدة لثباتها و تفرع مسائل عليها. و رفع القواعد هو البناء عليها.

و يحتمل أن يراد بالبيت و القواعد و الرفع المذكور في الآية المباركة المعنى الأعم من رفع البيت الجسماني و قواعده و رفع بيت النبوة و التشريعات السماوية فإن أساسها من إبراهيم (عليه السلام).

و في الآية المباركة تلميح إلى أن رفع البيت و بناءه كان من إبراهيم (عليه السلام) لنسبة الرفع إليه وحده و أنّ إسماعيل كان يساعده و يعمل له.

قوله تعالى: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ تقدم معنى الرب في قوله تعالى: رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الحمد، الآية: 2] و قد ذكرنا هناك أنّ في هذا الاسم المبارك مزية لا توجد في غيره من الأسماء المقدسة، و لذا لا يكون دعاء في القرآن - خصوصا دعوات هذا النبي العظيم - إلاّ و هو مبدوّ بهذا الاسم: و القبول من المفاهيم المبينة عند العرف، و له مراتب و هو (عليه السلام) يطلب جميعها حتّى جنّة اللقاء التي هي أرفع المقامات المعنوية.

و السمع إذا استعمل في الإنسان فهو إدراك خاص بقوة خاصة في مقابل

ص: 35

البصر و سائر التقوى الظاهرة. و إذا استعمل في اللّه تعالى كان معناه انه لا يخفى عليه المسموعات، و يرجع إلى علمه الأزلي بجميع ما سواه. و قد وردت مادة السمع في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، كما ورد السميع العليم بالنسبة إليه عزّ و جل كثيرا جدا قال تعالى: وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: 76]. و تستعمل فيه عزّ و جل أيضا بمعنى الجزاء و ترتب الأثر مثل «سمع اللّه لمن حمده».

و في ذكر العليم إشارة إلى أنه تعالى يعلم بتحقق شرائط استجابة الدعاء التي من أهمها الخلوص و الإخلاص و الانقطاع اليه عز و جل. و قد استجاب اللّه تعالى دعواته (عليه السلام). و يستفاد من الآية المباركة أن محل البيت كان موجودا قبل بناء إبراهيم (عليه السلام) و هو رفع قواعده و شيّد بنيانه و تدل عليه الروايات الآتية في البحث الروائي.

كما أن في دعائه (عليه السلام) بالقبول إشارة إلى أن الإنسان مهما سعى و بذل أقصى وسعه في تحصيل العمل لا بد له أن يتضرع اليه سبحانه و يبتهل إليه بالقبول و أن يعترف بالقصور. و في حذف المتعلق تحقير للعمل و النفس في مقابل العظيم المتعال جل شأنه و هذا من أدب خليل الرحمن مع اللّه عزّ و جل في دعواته. و في لفظ «تقبل» إشارة إلى كثرة توجهه (عليه السلام) الى جنّة اللقاء و مقام الرضاء كما طلبه في دعائه الآخر قال: رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة ابراهيم، الآية: 39] فإن مقامه (عليه السلام) أرفع من أن يطلب قبولا يوجب الحور و القصور فقط.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ . مادة (سلم) تشتمل على معنى السلامة، و لها مراتب كثيرة جدا بين العيوب الظاهرية و المعنوية - الدنيوية و الأخروية - و القلبية، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و الإسلام هو الدخول في السلم - بكسر السين - و قد اختص بالإذعان، بإلهيته تعالى و رسالة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و شريعته و قرآنه المساوق للإيمان.

و للإسلام درجات أعلاها ما كان عليه إبراهيم (عليه السلام) و أدناها ما

ص: 36

عليه عامة المسلمين يحفظون بها دماءهم و أموالهم مع ما عليه بعضهم من الفسق و الشقاء. و قد جمع جملة من مراتبها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

في الحديث المعروف «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه» فالإسلام الحقيقي مظهر [بضم الميم] اللّه في الأرض و المسلم الواقعي مظهره (بالفتح) بين عباده.

و معنى الآية المباركة ربنا و اجعلنا مخلصين لك في الإعتقاد و العمل و ثبتنا على الإسلام بتوفيقك و هدايتك. و سؤال الإسلام لنفسه و خواص ذريته إنما هو للثبات على مثل هذه المرتبة في الإسلام.

قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ . الذرية اسم جمع يطلق على نسل الإنسان و على غيره قال تعالى في الشيطان: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي [سورة الكهف، الآية: 50] و الأمة الجماعة و الطائفة، سواء أ كانت من ذوي العقول أم من غيرهم مما يجمعهم شيء واحد قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام، الآية: 38] و هي من الأمور الإضافية القابلة للقلة و الكثرة، و قد يكون كل نوع أمة بل قد يكون كل صنف كذلك و قد يطلق اللفظ على الواحد باعتبار كونه مجمع الخيرات و منشأ البركات قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120] و تقدم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي [الآية: 134] الوجه في أنه (عليه السلام) لم يسأل الإسلام لجميع الذرية.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ إسلام هذه الأمة إنما هو من بركات دعائه (عليه السلام) و في غالب دعواته انه يسأل لنفسه و لامته و ذريته.

قوله تعالى: وَ أَرِنا مَناسِكَنا . النسك العبادة و الناسك العابد و المنسك هو الموضع المعد للعبادة، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [سورة الحج، الآية: 67] و لكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200] و يستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة، الآية، 196] و النسك هو الهدي و قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

ص: 37

قوله تعالى: وَ أَرِنا مَناسِكَنا . النسك العبادة و الناسك العابد و المنسك هو الموضع المعد للعبادة، قال تعالى: لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ [سورة الحج، الآية: 67] و لكن اختص اللفظ في العرف الخاص بأفعال الحج قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 200] و يستعمل في خصوص الهدي أيضا قال تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [سورة البقرة، الآية، 196] و النسك هو الهدي و قال تعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

162]

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ما رواه الفريقان بطرق متواترة: «خذوا عني مناسككم».

و المراد بالرؤية هنا الرؤية الحقيقية أي المعرفة و الإراءة لا مجرد الرؤية البصرية و التعليم القولي، و تدل على ذلك روايات كثيرة دالة على أن جبرائيل كان معه (عليه السلام) في جميع أعماله و أطواره كما كان مع نبيّنا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حجة الوداع.

قوله تعالى: وَ تُبْ عَلَيْنا . التوبة تأتي بمعنى الرجوع، أي الرجوع إلى اللّه تعالى عن مخالفته، أو عن مجرد الالتفات إلى غيره و لو كان مباحا و توبة الأنبياء (عليهم السلام) من الأخير فيكون قبولها من اللّه تعالى بالنسبة إليهم بمعنى ارتقاء الدرجة لا إسقاط العقاب، و تسمى هذه توبة أخص الخواص في اصطلاح علم الأخلاق. مع أنّ لنفس استعمال التوبة نحو موضوعية خاصة فإنها لتذليل العبد و استصغار الأعمال بالنسبة إليه تعالى، مع أنه يمكن أن تكون توبة الأنبياء عن ما يصدر من تابعيهم من المعاصي، فإن من كان إمام قوم و سيدهم له أن يتوب إلى اللّه تعالى من ذنوب تابعيه.

و المعنى: وفقنا للإنابة و الرجوع إليك عما يشغلنا عنك.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . التواب هو كثير التوبة أو لأجل أنه جل شأنه يوفق العبد للتوبة ثم يقبلها منه ثم يضاعف درجاته بها يعني: إنك وحدك توفق العباد للتوبة و تقبلها منهم و الرحيم بهم، و تقدم معنى الرحيم في بسملة سورة الفاتحة.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ . مادة (ب ع ث) تأتي بمعنى إثارة الشيء و توجيهه و تختلف باختلاف المتعلق فتارة: تكون أمرا عرضيا خارجيا، يقال بعثته في أمر قال تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 31] و هذا عام يشمل الخالق و الخلق و بعث اللّه الأنبياء و الرسل إلى النّاس من هذا القبيل، قال تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ [سورة البقرة، الآية: 213] و مثل هذا الاستعمال في

ص: 38

القرآن كثير. و أخرى: يكون بمعنى الإخراج - و الإثارة - من العدم إلى الوجود و هذا يختص باللّه جل شأنه قال تعالى: قُلْ هُوَ اَلْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً [سورة الأنعام، الآية: 65]. و ثالثة: يكون بالإحياء بعد الموت و هو يختص به جلت عظمته أيضا قال تعالى: وَ اَلْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ [سورة الأنعام، الآية: 36] و من أسمائه المقدسة «يا باعث» و قد يفيض هذا المقام إلى بعض أوليائه كعيسى (عليه السلام). و المراد بهذا الرسول هو محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لما يستفاد من ضمير «فيهم» فإن الدعاء وقع في مكة و هو منحصر فيه (صلّى اللّه عليه و آله) فإبراهيم (عليه السلام) رسول اللّه إلى ذرية هذا النبي العظيم و به ابتدأت الدعوة إلى الحق و اختتمت في نسله المبارك إلى يوم القيامة،

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنا دعوة أبي إبراهيم». و إنما دعا أن يكون الرسول منهم لا من غيرهم ليكونوا أعزّ به و لأنّه أقرب لإجابة دعوته».

قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ . أي يقرأ عليهم، و في لفظ التلاوة خصوصية ليست في مطلق القراءة فإنها القراءة التي يتبعها الفهم و التدبر، و المراد بالآيات القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ . الكتاب هو القرآن. و مادة (ح ك م) تدل على الثبات و الإتقان و الاستحكام ما لم تكن افتعاليا ادعائيا و للحكمة مصاديق مختلفة و كل ما قيل فيها إنما هو دون شأنها و قد جعلها سبحانه و تعالى مدار كمال عباده و ترقياتهم المعنوية و سيأتي شرح معنى الحكمة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و المراد بها في المقام هو أسرار الشريعة و أحكام الدين.

قوله تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ . مادة (ز ك ي) تأتي بمعنى النمو و يختلف ذلك باختلاف الموارد فقد يكون في المال؛ أو في النفس يعني: نموها في المعنويات و الكمالات و الأخلاق الفاضلة و العلوم و المعارف الحقة. و تأتي بمعنى الطهارة لكونها من موجبات النمو و البركة. و تنسب تارة إلى العبد قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14]، و أخرى: إلى اللّه

ص: 39

تعالى لأنه المؤثر و الفاعل الحقيقي قال تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 49] و ثالثة: إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما في الآية المباركة و رابعة: إلى العبادة لكونها بمنزلة الآلة - كما في نفس الزكاة - قال تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ [سورة التوبة، الآية: 103].

و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:

أحدهما: أن تكون بالعمل و الإنصاف بالأوصاف المحمودة، و لا ريب في حسنها عقلا و شرعا و إليها تشير الكتب السماوية و القرآن العظيم.

و ثانيهما: أن تكون بالقول المجرد و هو مذموم عقلا و شرعا قال تعالى: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ [سورة النجم، الآية: 32] و المعروف في الفلسفة العملية أنّ الذي لا يحسن - و إن كان حقا - هو مدح الإنسان نفسه.

و المراد بها في المقام هو المعنى العام و هو تنمية عقولهم و أبدانهم و أموالهم و جميع شؤونهم ببركات تعاليمه القيمة و تطهيرهم من الأدناس و رذائل الأخلاق.

و المعنى: و أرسل إليهم رسولا يعلمهم القرآن و أحكام الدين و يطهر نفوسهم من أنواع المعاصي و ذمائم الأخلاق و يزيّنها بالأعمال الحسنة و الأخلاق الفاضلة و الآية على إجمالها تشتمل على الفلسفة العملية و العلمية و الاجتماعية.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ . ختم للدعاء بالثناء عليه تبارك و تعالى و هذا من أدب الدعاء، و قد ذكر من أسمائه المقدسة ما يناسب سؤاله، فوصفه بالعزيز الذي لا مرد لأمره و الحكيم فيما يفعل و لا معقب لحكمه.

و العزيز من أسمائه المقدسة و هو المنيع الذي لا يقهر و لا يغالب

و في الحديث: «المؤمن أعزّ من الجبل» أي أصلب منه. و قد ورد في القرآن كثيرا و غالب ما ورد فيه مضافا إلى اسم آخر من أسمائه المباركة. و العزيز المطلق

ص: 40

ينحصر فيه عزّ و جل عقلا و نقلا كما يأتي عند قوله تعالى: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة يونس، الآية: 65] إن شاء اللّه تعالى. هذا في العزة الحقيقة، و الظاهرية منها في الدنيا. و قد تحصل لبعض ادعاء لكن ليس كل ادعاء حقيقة بعد قوله تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من طلب العزة بغير اللّه ذل». و هذا الدعاء إنما كان بعد الفراغ من بناء البيت، إذ لا يمكن تعمير هذا البيت العظيم إلاّ ببقاء الحركة الدينية و استمرار المبادئ الإنسانية الكاملة،

و في الحديث: «إنّ المؤمن أعظم حرمة من الكعبة إن الكعبة يستقل منها بالمعاول و لا يستقل من إيمان المؤمن شيئا» و لذا طلب منه إرسال الرسول ليشيد أركان العبادة.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يظهر من الآيات المباركة أمور:

الأول: يستفاد من دعاء إبراهيم (عليه السلام) رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ ان هذا الإسلام غير الإسلام الذي نحن عليه لأن هذا الدعاء وقع بعد طي المراحل الأولية من الإسلام مثل كسر الأصنام و الإحتجاج على بطلان عبادة الشمس و القمر، و الطعن على عبادة دون اللّه تعالى. فهو عبارة عن العبودية المحضة و تسليم الأمر اليه تعالى التي لخصها بعضهم

بقوله: «العبودية جوهرة كنهها الربوبية» و الأحاديث و شواهد العقل في عظمة هذه المرتبة من الإسلام و العبودية كثيرة جدا. و بناء عليه يكون ما طلبه (عليه السلام) لذريته إنما هم خواص ذريته، كطلبه للإمامة لبعض الذرية، كما عرفت.

الثاني: أنّ الإسلام الحقيقي و تسليم الأمر إليه تعالى في مقام العبودية المحضة يلازم الاصطفاء في الدنيا و الصلاح في الآخرة فهما متلازمان في المبدأ و المنتهى، و في المراتب شدة و ضعفا، كمالا و نقصا.

الثالث: أنّ في تأخير ذكر إسماعيل (عليه السلام) عن المفعول به في

ص: 41

قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ إشارة إلى أن الباني هو إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل تبع له فهو كالعامل لديه، كما عرفت سابقا.

بحث روائي:

في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم ببناء الكعبة و أن يرفع قواعدها و يري النّاس مناسكهم فبنى إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) البيت كل يوم سافا حتّى انتهى إلى موضع الحجر الأسود. قال أبو جعفر (عليه السلام): فنادى أبو قبيس إنّ لك عندي وديعة فأعطاه الحجر فوضعه موضعه».

أقول: إنّ نداء أبي قبيس لإبراهيم (عليه السلام) ليس من قبيل النداءات الظاهرية المسموعة بكل سمع بل هو من سنخ الأمور الغيبية التي لا يعرفها إلاّ المرتبطون بعالم الغيب و ذلك لا ينافي الروايات الكثيرة الدالة على أن الحجر نزل من الجنّة، إذ من الممكن أنه قد وضع في جبل أبي قبيس بعد الخروج من الجنّة.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: الحجر الأسود استودعه إبراهيم، و مقام إبراهيم و حجر بني إسرائيل. قال أبو جعفر (عليه السلام): إن اللّه استودع إبراهيم الحجر الأبيض و كان أشد بياضا من القراطيس فاسود من خطايا بني آدم».

أقول: لا تنافي بين كون الحجر مستودعا عند إبراهيم (عليه السلام) و مستودعا في جبل أبي قبيس كما في الحديث السابق، لإمكان تعدد محال الاستيداع حسب أهمية الوديعة و المصالح المقتضية لذلك.

و في بعض الأخبار إنّ اللّه تعالى أنزل قواعد البيت من الجنّة.

أقول: يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة، و كانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان - كدحية الكلبي - و كما في قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 9]، و سيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

ص: 42

أقول: يمكن أن يراد من الجنّة جنة الآخرة، و كانت الأحجار فيها من عالمها فلما نزلت إلى الدنيا تمثلت تلك القواعد بصورة الأحجار لأجل تبدل عالمها بعالم الماديات، كما في تصور جبرئيل بصورة الإنسان - كدحية الكلبي - و كما في قوله تعالى: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام، الآية: 9]، و سيأتي في الخبر الآتي ما يدل على ما قلناه.

و قد ثبت في الفلسفة أن تنزل كل شيء من عالمه إلى ما دونه لو تصور بصورة ما كانت بصورة ما نزل إليه لا بصورته التي يكون عليها في الواقع.

إن قيل: إنّ جنّة الآخرة لم تخلق بعد فما معنى هذه الأخبار من أنها نزلت من الجنّة. يقال: المراد بعدم خلق جنة الآخرة اى خلق نتائج أعمال العباد و أما خلق ذات المكان و سائر خصوصياته فهو مسلّم، كما تدل عليه ظواهر الآيات المباركة و السنة المقدسة. و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء فمن يذهب إلى أنها غير مخلوقة أراد جنة نتائج الأعمال، و ما يستفاد من الأدلة أنها مخلوقة أي بحسب الذات، و سيأتي الكلام فيه مفصلا في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه السلام) في حديث نزول هاجر و إسماعيل على أرض مكة قال (عليه السلام): «فلما بلغ إسماعيل مبلغ الرجال أمر اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت فقال: يا رب في أي بقعة؟ قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبة فأضاء لها الحرم فلم تزل القبة التي أنزلها اللّه تعالى على آدم قائمة حتّى كان أيام الطوفان أيام نوح (عليه السلام) فلما غرقت الدنيا إلاّ موضع البيت فسميت البيت العتيق، لأنه أعتق من الغرق، فلما أمر اللّه عزّ و جل إبراهيم (عليه السلام) أن يبني البيت و لم يدر في أي مكان يبنيه فبعث اللّه جبرئيل فخط له موضع البيت فأنزل اللّه عليه القواعد من الجنّة و كان الحجر الذي أنزله اللّه على آدم أشد بياضا من الثلج فلما لمسته أيدي الكفار اسود، فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى فرفعه إلى السماء تسعة أذرع ثم دله على موضع الحجر فاستخرجه إبراهيم (عليه السلام) و وضعه في موضعه الذي هو فيه و جعل له بابين بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، و الباب الذي إلى المغرب يسمى المستجار ثم ألقى عليه الشجر و الإذخر و علّقت هاجر على بابه كساء كان معها و كانوا يكنّون تحته. فلما بناه و فرغ منه حج إبراهيم (عليه السلام) و إسماعيل

ص: 43

و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان من ذي الحجة فقال يا إبراهيم: قم فارتو من الماء لأنه لم يكن بمنى و عرفات ماء فسميت التروية لذلك، ثم أخرجه إلى منى فبات بها ففعل به ما فعل بآدم (عليه السلام) فقال إبراهيم (عليه السلام) لما فرغ من بناء البيت: رَبِّ اِجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . قال (عليه السلام): من ثمرات القلوب، أي حببهم إلى النّاس لينتابوا إليهم و يعدوا إليهم».

أقول: وردت روايات أخرى قريبة من ذلك من الفريقين، و يدل على تفسير الثمرات بثمرات القلوب قوله تعالى: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ [سورة ابراهيم، الآية: 37]. كما تقدم الوجه في كون القواعد من الجنّة في الحديث السابق.

في تفسير القمي في قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ - الآية - قال: يعني ولد إسماعيل فلذلك

قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنا دعوة أبي إبراهيم».

و في تفسير العياشي عن الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«قلت له: أخبرني عن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) من هم؟ قال: أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بنو هاشم خاصة. قلت: فما الحجة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أنهم أهل بيته الذين ذكرت دون غيرهم؟ قال (عليه السلام): قول اللّه تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ .

فلما أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة و الامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم، لقوله تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ .

ص: 44

فلما أجاب اللّه إبراهيم و إسماعيل و جعل من ذريتهما أمة مسلمة و بعث فيها رسولا منهم يعني من تلك الأمة يتلو عليهم آياته و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة ردف ابراهيم دعوته الأولى بدعوته الأخرى فسأل لهم تطهيرا من الشرك و من عبادة الأصنام ليصح أمره فيهم و لا يتبعوا غيرهم، فقال: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فهذا دلالة على أنّه لا تكون الأئمة و الامة المسلمة التي بعث فيها محمد إلا من ذرية ابراهيم، لقوله تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ .

أقول: ما ذكره (عليه السلام) استدلال حسن على أن ذرية ابراهيم و الأمة المسلمة سوى من يسمى بالإسلام و أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) لأن هذه الآية و ما في سياقها تخص الذرية و الأمة المسلمة بخصوص من اجتباه اللّه تعالى و عطف عليهم إبراهيم بتلك الدعوات الخاصة لنفسه و ذريته، فتخرج البقية عن مورد الاجتباء تخصصا إذ لا مناسبة بين ما طلبه إبراهيم (عليه السلام) و ما يرى في بعض المسلمين. و بالجملة هو القليل الذي يمدحه اللّه تعالى كثيرا و غيره داخل في الكثير الذي وقع مورد الذم في القرآن كذلك.

و في الوافي نقلا عن الكافي عن ابن بكير قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) لأي علة وضع اللّه الحجر في الركن الذي هو فيه و لم يوضع في غيره؟ و لأي علة أخرج من الجنّة؟ و لأي علة وضع ميثاق العباد و العهد فيه و لم يوضع في غيره؟ و كيف السبب في ذلك؟ تخبرني جعلني اللّه فداك؟ فإن تفكيري فيه لعجب. قال (عليه السلام) سألت و أعضلت في المسألة و استقصيت فافهم الجواب و فرّغ قلبك و اصغ بسمعك أخبرك إن شاء اللّه تعالى: إنّ اللّه تبارك و تعالى وضع الحجر الأسود و هي جوهرة أخرجت من الجنة إلى آدم فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق، و ذلك أنّه لما أخذ من بني آدم من ظهورهم ذريتهم حين أخذ اللّه عليهم الميثاق في ذلك المكان، و في ذلك المكان ترا أى لهم - إلى أن قال -:

و أما القبلة و الالتماس فلعلة العهد تجديدا لذلك العهد و الميثاق و تجديد البيعة، و ليؤدوا اليه العهد الذي أخذ اللّه عزّ و جل عليهم في الميثاق فيأتوه في كل سنة و يؤدوا اليه ذلك العهد و الأمانة اللذين أخذ عليهم، ألا ترى انك تقول «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة - إلى أن قال - يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق عنده لحفظ العهد و الميثاق و أداء الأمانة، و يشهد

ص: 45

على كل من جحده و أنكره و نسي الميثاق بالكفر و الإنكار.

فأما علة ما أخرجه اللّه من الجنّة؟ فهل تدري ما كان الحجر؟ قلت: لا قال (عليه السلام): كان ملكا عظيما من عظماء الملائكة عند اللّه فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان أول من آمن به و أقر ذلك الملك فاتخذه اللّه تعالى أمينا على جميع خلقه و ألقمه الميثاق و أودعه عنده و استعبد الخلق ان يجددوا عنده في كل سنة الإقرار بالميثاق و العهد الذي أخذ اللّه عليهم ثم جعله اللّه مع آدم في الجنّة يذكّره الميثاق و يجدد عنده الإقرار في كل سنة فلما عصى آدم و خرج من الجنّة أنساه اللّه العهد و الميثاق و جعله تائها حيران فلما تاب على آدم حول ذلك الملك في صورة درة بيضاء فرماه من الجنة إلى آدم بأرض الهند فلما نظر إليه آنس اليه و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة فأنطقه اللّه عز و جل، فقال له: يا آدم أ تعرفني؟! قال: لا. قال أجل استحوذ عليك الشيطان فأنساك ذكر ربك ثم تحول إلى صورته التي كان مع آدم في الجنّة فقال لآدم: أين العهد و الميثاق؟ فوثب إليه آدم و ذكر الميثاق و بكى و خضع له و قبّله و جدد الإقرار بالعهد و الميثاق ثم حوله عزّ و جل إلى جوهر الحجر درة بيضاء صافية - إلى أن قال - ثم إن اللّه عز و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في ذلك المكان - الحديث -».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «فوضعت في ذلك الركن لعلة الميثاق» - كما يستفاد من السنة الشريفة، و سيأتي في الآيات المناسبة - أنّ ميثاق العباد لربهم كان في ذلك المكان و صار ذلك المكان مشرّفا و مباركا لأنه موضع أخذ الميثاق من الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه الصالحين على التوحيد و يأتي في قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية:

172] و ساير الآيات المباركة المناسبة بعض الكلام.

و أما

قوله (عليه السلام): «يشهد لمن وافاه و جدد العهد و الميثاق - الحديث -» هذه الشهادة من قبيل شهادة ما ورد في قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 46

[سورة النور، الآية: 24] فهي منوطة بالحياة و الإدراكات المعنوية الموجودة في الأشياء بالنسبة إلى اللّه تبارك و تعالى و ما يرتبط به جلّ شأنه و أما

قوله (عليه السلام): «فلما أخذ اللّه من الملائكة الميثاق كان من أول من آمن به» يظهر منه أن الميثاق كما أخذ من بني آدم أخذ من الملائكة أيضا فأصل الميثاق واحد و إن كان المورد تارة بالنسبة إلى الملائكة و أخرى بالنسبة إلى بني آدم، كما يظهر من مثل هذا الحديث أن أخذ الميثاق من الملائكة كان مقدما على أخذ الميثاق من ذرية آدم و يشهد له الاعتبار أيضا. كما يظهر منه اتحاد من التقم الميثاق في مقام البقاء و إن كانا مختلفين في مرحلة أصل الحدوث فزاد ذلك في فضل الركن، و لأجل ذلك عبر عنه ب «يمين اللّه في الأرض» كما في بعض الروايات.

و أما

قوله (عليه السلام): «أنساه اللّه العهد و الميثاق» فالمراد عدم الالتفات الفعلي لا ترك العهد و الميثاق بالمرة و ذلك لمصالح كما تقدم في قوله تعالى: فَأَزَلَّهُمَا اَلشَّيْطانُ عَنْها [سورة البقرة، الآية: 36].

إن قيل: انه يمكن أن يكون المراد من العهد و الميثاق أيضا عالم الدنيا و تعميرها من حيث العبور منها إلى الآخرة فلا يتحقق وجه للإنساء حينئذ. يقال: هذه النظر الآلية التبعية إلى الدنيا حصلت من الإنساء فتكون لنفس معصية آدم و نسيانه دخل في الجملة في تكوين الدنيا بنحو الاقتضاء إجمالا لا على نحو العلية التامة.

و أما

قوله (عليه السلام): «حوّل ذلك الملك في صورة درة بيضاء» فالمراد منه ظهور حقيقة عالم في صورة عالم آخر - كما تقدم - لا أن يكون من التناسخ الباطل، فذات الحقيقة باقية و هذا صحيح و واقع بالأدلة العقلية و السمعية فما

في بعض الأخبار من «ان الحجر الأسود يمين اللّه في ارضه يصافح بها عباده» تنزيل للأمر الغيبي بالأمر الحسي باعتبار أصله الذي كان من الملائكة و استلم ميثاق العباد.

و أما

قوله (عليه السلام): «فرماه من الجنّة إلى آدم و هو بأرض الهند» تقدم موضع هبوط آدم من الجنة إلى الأرض سابقا، و المراد من الرمي هو

ص: 47

تسليم اللّه الحجر إلى آدم. و فيه إشارة إلى أن التسليم وقع مباشرة منه جل شأنه من دون واسطة في البين، و فيه من اظهار كمال الأهمية ما لا يخفى.

و الأرض كلها كانت أرض خليفة اللّه تعالى و كان يتجول فيها بقدرته تعالى - بما فيها الهند - و قد فصل المحدثون ذلك في السنة الشريفة.

و أما

قوله (عليه السلام): «فلما نظر إليه آنس اليه» المراد به الأنس المعنوي الذي يدركه أهل المعنى كما في قوله تعالى: آنَسَ مِنْ جانِبِ اَلطُّورِ ناراً [سورة القصص، الآية: 29].

و أما

قوله (عليه السلام): «و هو لا يعرفه بأكثر من أنه جوهرة» فإن العلم بالحقائق الواقعية و ملكوت الأشياء بما هي عليها يختص به تبارك و تعالى أو من علّمه اللّه عزّ و جل؛ و لم تقتض المصلحة ان يعلم آدم حقيقة تلك الجوهرة حين رماها اليه.

و أما

قوله (عليه السلام): «فأنطقه اللّه عزّ و جل فقال له يا آدم أ تعرفني؟» فذلك ممكن عقلا و واقع في الخارج أيضا بقدرة اللّه تعالى كتسبيح الحصى في كف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و من هذا الحديث الشريف يظهر سر دعاء الحجيج عند استلام الحجر الأسود بقولهم: «أمانتي أديتها و ميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة يوم القيامة» فكان لهذا الحجر الشريف مظاهر و شؤون و في جميعها مبارك و مقدس و سيظهر له بعد ذلك بما هو أحسن و أولى في عالم آخر.

و أما

قوله (عليه السلام) «إن اللّه عزّ و جل لما بنى الكعبة وضع الحجر في المكان» فإنه يستظهر منه أن أول بناء الكعبة المقدسة كان من اللّه تعالى بواسطة الملائكة. و يمكن أن يحمل على بناء ابراهيم (عليه السلام) فيكون نظير قولهم بنى الأمير المدينة.

و المتحصل انه يظهر من هذا الحديث و أمثاله من الأحاديث المعتبرة عظمة هذا البيت و أهمية الحجر الشريف بما لا يدع مجالا للشك و الريب، فليس هو من الأحجار التي لا تضر و لا تنفع، و إنما اكتسب شرفا بالمجاورة كما

ص: 48

يراه بعض المفسرين، بل له كمال الزلفة و القداسة و له المنزلة العظمى، كما له المظاهر المختلفة حسب تعدد العوالم.

بحث علمي:

تقدم في البحث الروائي بعض الأحاديث الواردة في بناء البيت و فضل الحجر الأسود، و مضامين تلك الأحاديث متواترة بين الفريقين فلا وجه للمناقشة في أسانيد بعضها. نعم قد يكون بعض الروايات ضعيفة سندا، و لكن ذلك لا يوجب رفع اليد عن بقية الروايات و رميها بالضعف و الخرافات كما هو واضح. و مع ذلك فقد ناقش بعض المفسرين و الكتّاب المحدثين في تلك الأحاديث فقال في عرض كلامه لتفسير الآية الشريفة: و هذه الروايات فاسدة في تناقضها و تعارضها، و فاسدة في عدم صحة أسانيدها، و فاسدة في مخالفتها لظاهر القرآن بل كل هذه الروايات خرافات إسرائيلية بثها زنادقة اليهود في المسلمين ليشوّهوا عليهم دينهم و ينفروا أهل الكتاب منه.

و لا يخفى أنّ ما ذكره باطل من وجوه:

الأول: إنّه قد شهدت الأدلة العقلية و السمعية على أنّ للّه تعالى في عالم الشهادة مظاهر من عالم الغيب إتماما للحجة و لمصالح لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى و بعض خواص أوليائه، و من تلك المظاهر مقام إبراهيم (عليه السلام) و الحجر الأسود و غيرهما مما أشرنا إليه سابقا و ما ستعرفه بعد ذلك إن شاء اللّه تعالى، و قد ثبت في الفلسفة ببراهين كثيرة إمكان ظهور شيء واحد في مظاهر مختلفة حسب العالم الذي يظهر فيه و لا ينافي ذلك واقعه الذي هو عليه، فيمكن أن يكون شيء واحد من الروحانيات في عالم و هو في نفس الوقت من الماديات في عالم آخر - جوهرا كان أو عرضا - كما في الحجر الأسود فإنه إذا استلم كان بحسب الظاهر شيئا ماديا و لكنه في الواقع يمين اللّه - بالمعنى الذي تقدم - يصافح بها عباده كما في الحديث، و حينئذ لا وجه لحصر حقيقته في ما ندركه بالماديات فقط بزعم أن العقول لا يمكن لها درك ما وراء عالم المادة فإن ذلك إما قصور أو تضييع و تعطيل للعقل عن مسيره

ص: 49

الذي جعله اللّه تعالى له، فإنه لم يحده بحد إلاّ ما ورد في الشرع من النهي عن التعمق فيه. و من ذلك يعلم أن جعل مضامين تلك الأخبار من الأقاصيص التي بثها زنادقة اليهود، من الجهل بالحقائق و الواقعيات.

الثاني: إنّ رمي الروايات بالضعف إنما هو سبيل العاجز و أسهل شيء في الأحاديث عند من لا يحيط بواقعها و حقائقها و قصر النظر على الظاهر فقط، و تعطيل للعقل عن الاستكمال، فإن نظر أهل المعرفة في العلوم إنما هو إلى الحقائق الكلية المختلفة مظاهرها حسب تعدد العوالم دون الأفراد الجزئية، و الفضل في الأولى دون الأخيرة كما هو المعلوم للخبير.

الثالث: إنّه يعلم مما ذكرناه عدم تحقق التناقض و التعارض في الروايات فإنّ ذلك إنّما يحصل من قصر النظر على نشأة دون أخرى و أما حقيقة الشيء المختلفة باختلاف النشآت حسب ظهورها في ذلك فلا وجه لعده من التناقض، فما في بعض الروايات من كون الحجر ملكا و في بعض آخر أنه درة بيضاء إنما يكون بحسب تعدد الظهور و من شرط تحقق التناقض و التضاد وحدة الموضوع و هي مفقودة في المقام، و لا وجه لتوهم التعارض مع القرآن.

الرابع: إنّ ما اعترف به من أنّ هذه الأمور مما شرفها اللّه تعالى كما شرف أنبياءه فهو حق لا ريب فيه، لأنّ جميع تلك الأمور لا بد أن تنتهي جهة شرافتها اليه تعالى و ذلك لا ينافي جريان الأسباب التي قدرها اللّه تعالى لشرافتها.

بحث فلسفي عملي:

العبادات التي شرعت في الإسلام إنما هي مبنية على مصالح كثيرة قد لا يحيط بها الإنسان إلاّ إذا بينها اللّه تعالى على لسان نبيه (صلّى اللّه عليه و آله). و المستفاد من الآية المباركة و الأخبار الكثيرة بعض تلك المصالح، فإنها تدل على أن تلك العبادات من مظاهر عبودية العبد بالنسبة إلى معبوده، و أنّها تجليات المعبود في قلوب المتعبدين بحسب مراتب قربهم اليه جلّ شأنه، و أنها منازل للسير الاستكمالي في الإنسان الذي لا يتحقق إلاّ

ص: 50

بواسطة الأنبياء و المرسلين بتشريعاتهم و أنّ منها مثالا لمجاهدات المخلصين من أنبيائه (عليهم السلام) و صورا لمنازل العبودية التي بها بلغوا إلى مدارج استكمالهم، ففي الحج مثلا يتجلى ما ذكرناه بوضوح فإنه عنوان مشير إلى منازل عبودية شرعها إبراهيم الخليل (عليه السلام) و أفعال الحج مثال لجهاده في مرضات اللّه تعالى و لذا شرع في الإسلام لأنه مشتمل على أعظم أنحاء العبادات و شموليته لجميع الجوانب - روحا و بدنا و مالا - فيكون انقطاعا اليه جلت عظمته بجميع أنحاء الانقطاعات كما فعله إبراهيم (عليه السلام) فهو لم يلاحظ في بناء هذا البيت الجانب المادي منه بل بنى بيت العبودية الحقيقية التي هي غاية كمال الإنسان و أكمله سيد المرسلين نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فصاروا جميعا من حجاب هذا البيت العظيم و سدنته، و للمقام تتميم يأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بحث تاريخي:

كانت للكعبة المقدسة أهمية و احترام عند العرب قبل الإسلام من حين بنائها بل قد يستفاد من بعض التواريخ أنها كانت محترمة و معظمة حتّى عند الأمم من غير العرب أيضا كالهنود و الفرس و الصابئة و اليهود و النصارى و غيرهم.

أما الهنود فكانوا يعتقدون أن روح أحد عظمائهم [سيفا] قد حلت في الحجر الأسود حين زار بلاد الحجاز. و كان الفرس يعظمونها زاعمين أن روح هرمز قد حلت فيها. و أما الصابئة - و هم عبّاد الكواكب - فإنهم يعدونها من إحدى البيوت السبعة المعظمة لديهم. و كانت اليهود تحترم الكعبة و يعبدون اللّه تعالى فيها على دين إبراهيم (عليه السلام) و كان لهم فيها تمثال إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) و غيرهما من عظمائهم. كما كانت الكعبة معظمة و مقدسة عند النصارى أيضا و كانت فيها صورة العذراء و المسيح و كان للعرب فيها أصنام ربما تقرب إلى 360 صنما.

و لكن ذهاب هذه الأمم إلى أصل قداسة البيت و عظمته مما لا ينكره أحد. و أما ما ذهبوا اليه من حلول روح سيفا أو هرمز أو التقديس لها لأجل

ص: 51

صورتي العذراء و المسيح أو غير ذلك إن كان من جهة قصور عقولهم في تطبيق القداسة و العظمة على ما زعموه فلا شك أنه من باب الجهل المركب في تطبيق الواقع على مزاعمهم، و إن كان مرادهم بذلك الموضوعية الخاصة فالآيات المباركة و السنة الشريفة و ضرورة الدين المقدس تنكر جميع ذلك بل العقل لا يقبل ذلك أيضا كما ستعرف في الآيات المباركة المناسبة إن شاء اللّه تعالى

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ.......

اشارة

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ (131) وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى جملة من مجاهدات ابراهيم (عليه السلام) و ما عهد اليه من بناء البيت و جعله معبدا و أنه كان يدعو إلى توحيد اللّه تعالى و العمل الصالح و إخلاص العمل له فصارت ملته مطابقة للفطرة التي يحكم بها العقل، عقّب سبحانه و تعالى كالنتيجة لما سلف أنه إذا كانت ملته كذلك فليس للعاقل أن يرغب عن ملته إلاّ إذا كان سفيها معرضا عن حكم العقل و الفطرة، ثم ذكر سبحانه و تعالى أنّ ابراهيم (عليه السلام) قد وصى بها بنيه و جعلها كلمة باقية عندهم فكانوا يعبدون الإله الواحد إله إبراهيم و إسماعيل و إسحاق. فالمناط كله على تسليم الأمر اليه تعالى لا على مجرد التسمية.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ . الرغبة تأتي بمعنى الميل و الإقبال، فإذا عديت ب (إلى أو في) تفيد معنى الحرص على الشيء، و إذا استعملت مع كلمة (عن) كانت بمعنى الكراهة و الإدبار فهي من

ص: 52

هذه الجهة من الأضداد. و من للاستفهام الإنكاري أي: لا يرغب عن ملة إبراهيم الداعية إلى التوحيد و الأخلاق و الحنيفية إلاّ السفيه.

قوله تعالى: إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ . تقدم معنى السفه في آية 13 من هذه السورة؛ و قلنا أنّ السفه و السفاهة بمعنى ضعف العقل و خفته، سواء أ كان في الأمور الدنيوية أم الأخروية أم هما معا. و عن بعض الأدباء و المفسرين أنّ السفه إن استعمل متعديا - كما في المقام - و قولهم سفه رأيه يكون بالكسر، و إن استعمل لازما يكون بالضم، لأنه من أفعال السجايا فلا يتعدى.

و المعنى: انه لا يرغب عن ملة إبراهيم (عليه السلام) إلاّ من أهان نفسه و احتقرها و أهلكها، فإن ملة ابراهيم (عليه السلام) تدعو إلى أحكام الفطرة الواضحة لدى العقول.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل الفسق العملي في المسلمين أيضا.

إن قيل: على هذا يعم السفه جميع الناس (يقال) لا بأس به، إذ المراد بهذا السفه هو السفه الأخروي دون الدنيوي، و قد أطلق سبحانه السفه على من اعترض على الدين و على من عيّر المؤمنين، فقال تعالى: سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة، الآية: 142] و قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ اَلسُّفَهاءُ [سورة البقرة، الآية: 13] فالسفه تارة: يكون في الأمور الدنيوية و هو المراد بقوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ [سورة النساء، الآية: 5] و له أحكام كثيرة مذكورة في فقه المسلمين. و أخرى: يكون في أمور الدين و الآخرة و له آثار كثيرة مذكورة في أحاديث الفريقين و ثالثة: يكون فيهما معا و سيأتي في البحث الآتي تفصيل الكلام.

قوله تعالى: وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا . مادة (ص ف ي) تأتي بمعنى الخلوص عن كل شوب و نقص و تأتي بمعنى الإختيار لأنه لا يقع من اللّه تعالى إلاّ بذلك أي: و لقد اخترنا ابراهيم (عليه السلام) - بعد اختباره و خلوصه عن كل دنس و رذيلة - للرسالة و الأمانة و الهداية في الدنيا و جعل

ص: 53

الملك العظيم له و لبعض ذريته.

قوله تعالى: وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ . الصالح من حكم له بالصلاح و لا يكون كذلك إلاّ إذا كان جامعا للكمالات المعنوية و حقيقة العبودية التي هي جامعة للكمالات الإنسانية فمن كان كذلك في الدنيا يلزم أن يكون في الآخرة من الصالحين، فالحكمان من المتلازمين.

و إنما خص تعالى الصلاح بالآخرة مع أنه معدود في الدنيا من الصالحين لأنه يظهر فيها صلاح الصالحين فيرى النّاس بأعينهم ما كانوا يسمعونه، في الدنيا، أو لأن صلاح الآخرة ملازم لصلاح الدنيا تلازم المعلول للعلة، أو لأن صلاح أنبياء اللّه تعالى لا سيما هذا النبي العظيم الذي تعرفه جميع الملل و الأديان في الدنيا معلوم لكل أحد، و قد أراد سبحانه أن يبين صلاحه في الآخرة أيضا. و هذه الآية المباركة دليل قطعي على أن إنكار من يرغب عن ملة إبراهيم ليس إلاّ ممن جنى على نفسه بالهلاك فإن ملة تكون لصاحبها هذه المنزلة عند اللّه تعالى لا تكون إلاّ خيرا محضا في الدنيا و الآخرة فلا يرغب عنها احد إلاّ من كان سفيها.

و في الآية الشريفة وعد لإبراهيم (عليه السلام) بصلاح حاله في الآخرة و بشارة له بذلك.

ثم إنّ للصلاح و العمل الصالح شأن كبير في القرآن و السنة بل و حكم العقل و المجتمع الإنساني. و لم يرد في الكتاب الكريم في تعريفهما شيء، و لعل وضوحهما عند النّاس أغنى عن التعريف فإن مادة (ص ل ح) محبوب كل ذي شعور خصوصا إذا كان في مورد الصلاح الأبدي. و المذكور إنما هو الآثار المترتبة على العمل الصالح، مثل إنه تعالى يرفعه، قال جلّ شأنه: وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10] و إنه يتولى الصالحين، قال تعالى: وَ هُوَ يَتَوَلَّى اَلصّالِحِينَ [سورة الأعراف، الآية:

ص: 54

196]. و إنه يرزق من عمل صالحا بغير حساب، قال تعالى: وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة غافر، الآية: 40]. و أن الصالح في مصاف الأنبياء الصديقين و الشهداء قال تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ [سورة النساء، الآية:

69] و تلك الآثار المذكورة في الآيات المباركة إنما تترتب إذا كان الصلاح منبعثا عن الذات بحيث تكون الذات مقتضية له. و ذلك في ما إذا ارتسم من مواظبة الأعمال الصالحة بحيث حدثت ملكة في النفس من ارتكاب تلك الأعمال، لأن بين النفس و الأعمال نحو تلازم في الجملة ربما تؤثر النفس في الأعمال على نحو الاقتضاء. كما انه ربما تؤثر في النفس كذلك - كما ثبت في الفلسفة العملية - فاللّه تعالى لا يدعو إلاّ إلى العمل الصالح و كذلك يكون شأن رسله و أنبيائه (عليهم السلام) فإنهم لا يدعون إلاّ إليه قولا و عملا فهم الصالحون في الدنيا و الآخرة.

و بالعمل الصالح يدرك مراتب الجنان كما أن به تخمد لهب النيران و يرتقي الإنسان إلى ذروة محبة الرحمن؛ قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا [سورة مريم، الآية: 96] و لو أردنا أن نعدد ما ورد في الكتاب في فضل العمل الصالح و فضائل الصالحين و الصالحات لطال البحث و صار كتابا مستقلا، و لعلنا نذكر بعض ذلك في الآيات المباركة المناسبة لها في مستقبل الكلام.

قوله تعالى: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ . الظرف متعلق بالاصطفاء و الجملة لبيان العلة لحصول الاصطفاء و الصلاح. و المراد بالقول هنا تلك الدعوة الحاصلة من الإشراقات المعنوية و الإفاضات على قلب ابراهيم (عليه السلام) حسب مقتضيات الأحوال و الخصوصيات و التي تنبئ عن كمال الخلة الواقعية بينهما، و ليس المراد به القول الظاهري الواقع في زمان خاص حتّى يبحث عن وقته كما عن جمع من المفسرين لأن المراد بالقول ما هو المبرز للمراد الواقعي، و لا ريب في أن تلك الإشراقات أقوى و اظهر فيه من مجرد القول؛ و يمكن أن يكون المراد به القول الظاهري كما في جميع أقواله بالنسبة إلى أنبيائه (عليهم السلام).

ص: 55

قوله تعالى: قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ . تقدم معنى، الإسلام، كما تقدم تفسير لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ في سورة الحمد، و يستفاد من قوله لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ أنّ إسلامه معه في جميع العوالم التي يمر عليها. و في الالتفات في الآية الشريفة من التكلم إلى الغيبة ثم من الخطاب إلى الغيبة إشارة إلى كمال الموافقة بين الخليلين، فتارة يتكلم مع خليله بالحضور شوقا إلى اللقاء، و يلتفت إلى الغيبة خوفا من المحو و الفناء. و في ابتهالات المعصومين (عليهم السلام) و تضرعاتهم مع الرب من ذلك شيء كثير.

قوله تعالى: وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ . مادة (و ص ي) تأتي بمعنى الوصل و العهد، لأن الموصي يعهد بشيء في ما بعد موته، و يوصل تصرفاته و أعماله في زمان حياته ببعد وفاته أيضا، و الضمير في «بها» يرجع إلى الملة المشتملة على الإسلام، و كلمة الإخلاص أيضا المذكورة في قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ و هي الكلمة الباقية التي جعلها في عقبه كما قال تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف، الآية: 28]. و يعقوب عطف على إبراهيم أي: و وصى بها يعقوب أيضا. و في ذلك إشارة إلى كثرة اهتمام إبراهيم و حفيده يعقوب بحقوق اللّه تعالى و حرماته حتّى أنهما أوصيا بذلك، بل يدل على أهمية الموصى به و الاعتناء به، و أنه كالوديعة في أيديهم يجب أن تحفظ في أعقابهم، و هذا هو شأن جميع أنبياء اللّه و أوليائه في حفظ ودايع اللّه و أسراره، و وصية لقمان مذكورة في القرآن، و وصية علي (عليه السلام) لابنه الحسن (عليه السلام) معروفة في كتب الأحاديث.

قوله تعالى: يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ . هذا مقول قول كل منهما لا خصوص قول يعقوب كما يظهر من بعض التفاسير، فإنهما قالا لبنيهما في مقام التوصية و التحريض إلى اتباع الملة الحنيفية. و المراد من الدين هو دين الحنيفية و الإسلام الذي اختاره اللّه لهم خالصا عن كل عيب و دنس.

و المراد من البنين هم الأولاد الأعم من الذكور و الإناث.

قوله تعالى: فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ . كناية عن اتباعه

ص: 56

حق الإتباع، و عدم المفارقة عنه في وقت من الأوقات فيغتنم الشيطان ذلك فيردهم عن الملة الحنيفية و دين الإسلام فيموتوا غير مسلمين. و في الكلام إيجاز بليغ.

قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ . أم تأتي للاضراب، و انتقال الكلام إلى الاستفهام الذي هو بمعنى الجحود و الإنكار جيء به كذلك، لأنه أبلغ في الإلزام و الإحتجاج. و الشهداء جمع شهيد و هو بمعنى الحضور. و الخطاب لأهل الكتاب إنكارا عليهم حيث زعموا أن إبراهيم و يعقوب (عليهما السلام) كانا على ملتهم كما حكى سبحانه عنهم، قال تعالى أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 140] و قد أبطل اللّه تعالى حجتهم بأنه إن كان بدعوى حضورهم عند موت يعقوب و وصيته فهذه يبطلها الحس و الوجدان، و إن كان لأجل وصوله إليهم من التوراة و الإنجيل فما أنزلت التوراة و الإنجيل إلاّ من بعده، فاليهودية و النصرانية حدثتا من بعده بقرون. و إن كان لأجل أمر آخر، فهو مردود عليهم. و لا يتطرق احتمال أن يدع إبراهيم (عليه السلام) الملة الحنيفية و يوصي باليهودية و النصرانية.

قوله تعالى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي . أي سألهم ليقروا على أنفسهم بالتوحيد الخالص بعد نبذ معبودات أهل الشرك و الضلال. و إنّما أتى بلفظ (ما) تعميما للمعبودات من ذوي العقول و غيرهم.

قوله تعالى: قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ . تقدم معنى العبادة في سورة الحمد، و الإله يأتي بمعنى التحير،

و قد قال علي (عليه السلام) فيه «كلّ دون صفاته تحبير الصفات، و ضل هناك تصاريف اللغات» و تصاريف اللغات أي تحسينها و تزيينها، و فيه إسقاط لكل ما يقال في حقيقة صفاته عزّ و جلّ فضلا عما يتوهم في حقيقة ذاته تعالى و تقدس.

و المراد بالإله هنا هو المعبود بقرينة صدر الآية المباركة و ذيلها.

ص: 57

و إنّما أدرج إسماعيل في آباء يعقوب للتغليب إذ العم بمنزلة الأب،

و في الحديث: «عم الرجل صنو أبيه». و إنما ذكر الآباء اسقاطا لزعم من يزعم أنهم على ملة غير الملة الحنيفية، و إعلاما بأنهم كانوا يدعون إليها كما يعتقدونها.

قوله تعالى: إِلهاً واحِداً . أي: لم نشرك به. و قد اختلفوا في لفظ الإله - كما اختلفوا في صفاته جلّ شأنه و أسمائه، و تحيروا في حقيقة ذاته تعالى - فمن قائل: انه من اله أي تحير، لما مر من

قول علي (عليه السلام):

«كلّ دون صفاته تحبير الصفات و ضل هناك تصاريف اللغات».

و في الحديث:

«تفكروا في آلاء اللّه و لا تفكروا في اللّه». و من قائل إنّ أصله من و له فأبدل الواو ألفا، و ذلك لكون كل مخلوق والها نحوه إما بالتسخير فقط كالجماد و الحيوان، أو بالتسخير و الإرادة معا كبعض النّاس. و عن بعض الفلاسفة «أنّ الإله محبوب كل شيء». و عن بعض العرفاء «أن الإله مجذوب كل شيء»، و استشهد الفريقان بقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44]. و من قائل إنه من لاه يلوه لولاها أي: احتجب عن الأبصار و العقول.

و الكل صحيح، لأن ذاتا لا تدرك حقيقته، و هو متصف بجميع صفات الجمال و الجلال تصح الإشارة اليه بأي جهة من جهات كماله الا إذا نهى الشارع عنها. و على أي تقدير يكون جمع إله و تثنيته اعتقاديا بالنسبة إلى المشركين لا واقعيا، لأن ما انحصر في الفرد و استحال وجود فرد ثان له كيف يصح جمعه؟ إلاّ بالجمع الاعتقادي الادعائي لا الواقعي.

و اما الواحد فقد استعمل في القرآن غالبا فيه تعالى بالحصر و التأكيد قال تعالى: أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة ابراهيم، الآية: 52]، و قال تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الأنبياء، الآية: 108]، و قال تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة ص، الآية: 65]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة النحل، الآية: 51] و هذا هو

ص: 58

مورد دعوة الأنبياء (عليهم السلام) جميعا، لأنهم يدعون إلى المعبود الواحد حين كان لكل قبيلة بل لكل طائفة منها معبود خاص و ينكرون وحدة اللّه جلت عظمته و يتعجبون منها قال تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ [سورة ص، الآية: 5] بل لم يستعمل لفظ «واحد» في القرآن إلاّ مضافا اليه عزّ و جلّ.

و في الآية المباركة إيجاز بعد اطناب و التقييد بالوحدة لدفع توهم تعدد الآلهة كما عليه الوثنيون.

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . أي: نحن له منقادون و مستسلمون لإرادته. و هذا تثبيت للمطلب بنحو الجزم و العلم، و بيان لكون العبادة لا تكون إلاّ على طريق الإسلام.

قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ . مادة (ا م م) تأتي بمعنى القصد، و تختلف استعمالاتها باختلاف المتعلق، فتستعمل تارة في الجملة كما في المقام. و اخرى:

في الفرد الذي يكون كالجماعة في العقل و الكمال و القدرة كما في قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120]. و ثالثة: في الملة و الدين. و رابعة: في «حين» إلى غير ذلك من الاستعمالات التي تعرف بالقرائن.

و «خلت» بمعنى مضت كما في قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 137] و هو في الأصل الانفراد، فكأن ما مضى قد انفرد عن الحاضر،

و في الحديث: «إن اللّه خلو من خلقه و خلقه خلو منه».

و الكسب العمل الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر، و لذا لا يطلق معناه على اللّه لاستحالته بالنسبة إليه تعالى. و يستعمل بالنسبة إلى كل من أعمال الجوارح و القلوب قال تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41]. و قد استعملت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم.

ص: 59

و المعنى: إنّ إبراهيم و إسماعيل و يعقوب و بنيه جماعة مضت و ذهبت لها أعمالها التي تجزى بها و لكم أعمالكم التي تجزون بها فلا يسئل أحد الا عن كسبه و عمله، لأن التكليف و استكمال النفس فردي كما أن الجزاء عليه أيضا كذلك هذا بالنسبة إلى ذات العمل المتقوم بذات العامل فقط. و أما بالنسبة إلى سائر الجهات فالأنبياء يسئلون عن الإبلاغ و إتمام الحجة على أممهم، كما أن النّاس يسئلون عن الاقتداء بأنبيائهم و أئمتهم و التخلق بأخلاقهم كما يسئلون عن الحقوق الاجتماعية الدائرة بينهم،

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «إن المؤمن يدع من حق أخيه شيئا فيسأل عنه يوم القيامة» فالآية المباركة أصلا و عكسا من القواعد العقلية المقررة في الشرايع الإلهية في التكاليف الفردية حيث أنها قائمة بالأفراد و لا تتعداهم الى غيرهم، بل تحميل فرد تكليف آخر من الظلم القبيح؛ قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الأنعام، الآية: 164].

و ذكر هذه الآية بعد الآيات السابقة بمنزلة النتيجة لها و بيان أن المناط كله على العمل دون غيره. كما عقّب سبحانه و تعالى الإيمان في جملة كثيرة من الآيات الشريفة بالعمل الصالح، فلا يكفي في كمال النفس الاعتماد على صلاح الآباء و منزلتهم عند اللّه تعالى، بل لا بد أن يكون الإنسان صالحا في نفسه.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآيات المباركة أمور:

الأول: إطلاق الآية الشريفة في صلاح إبراهيم (عليه السلام) يدل على انه صالح من كل جهة فهو صالح في نفسه و صالح لغيره، فيكون المصداق الحقيقي

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أصلح ما بينه و بين اللّه تعالى أصلح اللّه ما بينه و بين الناس» الثاني: في قوله تعالى: أَسْلَمْتُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ إشارة إلى أن إسلام

ص: 60

إبراهيم (عليه السلام) كان بعد أن رأى من آيات ربه، و أنّ إسلامه كان عن حجة و معرفة بأنّ للعالم خالقا له الربوبية العظمى و التدبير الأتم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ان الأثر من الإسلام و سائر الصفات الحسنة إنما يترتب على الموت متصفا بهما لا على صرف وجودهما و إن كان في خاتمة العمر على غيرهما، و تدل على ذلك روايات كثيرة، منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كما تموتون تبعثون، و كما تبعثون تحشرون». كما ان في الدعوات الكثيرة المشتملة على طلب حسن العاقبة عند الموت من اللّه تعالى دلالة على ذلك.

الرابع: في قوله تعالى: إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إشارة إلى أنّ دين اللّه تعالى واحد في كل الأعصار و على لسان كل نبي، و انه عبادة الإله الواحد، و الاستسلام لأمره جلت عظمته، كما قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]. و الوصية به جارية و مستمرة في الأنبياء و الأوصياء إلى الأبد، و سنبين في الآيات المباركة المناسبة تلازم المبدأ و المعاد ثبوتا و إثباتا إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: إنّ في تكرار لفظ الإسلام في الآيات الشريفة السابقة دلالة على أنّ المراد به حقيقته دون مجرد الاسم فقط، للتأكيد المستفاد منه.

بحث روائي:

في الكافي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «لأنسبنّ الإسلام نسبة لا ينسبه أحد قبلي، و لا ينسبه أحد بعدي إلاّ بمثل ذلك: إنّ الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو العمل، و العمل هو الأداء. إنّ المؤمن لم يأخذ دينه عن رأيه و لكن أتاه من ربه فأخذه. إنّ المؤمن يرى يقينه في عمله و الكافر يرى إنكاره في عمله، فو الذي نفسي بيده فاعرفوا أمرهم فاعتبروا إنكار الكافرين و المنافقين بأعمالهم الخبيثة».

أقول: المراد بالإسلام في المقسم هو الإسلام بالمعنى الأخص أي الإيمان بقرينة ذيل الحديث، و هو الذي أشار إليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 61

فيما رواه الفريقان: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه».

و المراد من التسليم من كل جهة قلبا و لسانا و عملا، كما صرح (عليه السلام) في ذيل الحديث. و المراد بالأداء هو خلوص العمل و وصوله الى اللّه تعالى، و هو إشارة إلى أن كل ذلك أمانة من اللّه تعالى لا بد و ان تؤدى و تصل اليه عزّ و جلّ، و مقتبس من قوله تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً [سورة الأحزاب، الآية: 72] و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها [سورة النساء، الآية: 58]، و أغلى تلك الأمانات و أجلها هو الإيمان فلا بد أن يرد اليه تعالى كما شرعه من دون ان يخان فيه قلبا أو لسانا أو عملا، و في المقام تفاصيل تأتي في الآيات التالية.

و فيه عن البرقي عن علي (عليه السلام) قال: «الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين».

أقول: هذا بيان لبعض مراتب الإسلام بقرينة الحديث الآتي.

و فيه أيضا عن سماعة عن الصادق (عليه السلام): «الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ اللّه، و التصديق برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) به حقنت الدماء، و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس. و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام».

أقول: هذا هو أدنى مراتب الإسلام الظاهري الذي عليه عامة المسلمين.

و في الكافي عن القاسم الصيرفي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«الإسلام يحقن به الدم و تؤدى به الأمانة و يستحل به الفروج و الثواب على الإيمان».

أقول: قوله (عليه السلام) أولا: بيان لأدنى مرتبة الإسلام و قوله أخيرا بيان لبعض مراتبه العالية.

و في المجمع عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «قال اللّه تعالى أعددت

ص: 62

لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر».

أقول: ما أعده اللّه تعالى لعباده الصالحين له مراتب كثيرة بل غير متناهية، و ما ورد في الحديث من بعض مراتبه.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ اَلْمَوْتُ عن الباقر (عليه السلام): «إنها جرت في القائم».

أقول: المراد من القائم النوعي منه أي القائم بالعدل فيشمل كل إمام مفترض الطاعة، فان من شأنه إيصاء ما وصى به إبراهيم (عليه السلام) بنيه إلى من بعده، لتتصل الوصية و الحجة إلى يوم القيامة، كما تقدم.

بحث علمي:

في كل شيء مراتب متفاوتة سواء كان ذلك الشيء من الأعراض أم من الاعتباريات أم من الجواهر بعد ما أثبت أكابر الفلاسفة بالأدلة العقلية و النقلية الحركة الجوهرية فتثبت المراتب في الجواهر، كما دلت عليه الشواهد العقلية.

و عليه يكون للإسلام مراتب، و المرتبة العليا منها هي المؤثرة في السير التكاملي الإنساني في ما يرد عليه من العوالم، و هذه المرتبة هي مراد اللّه تعالى و مورد دعاء الأنبياء (عليهم السلام) و دعوتهم. نعم حيث أن استعدادات النفوس مختلفة جدا فلا بد من ملاحظتها في مقام التشريع عقلا و نقلا، و لأجل مصالح كثيرة اكتفت الشرايع السماوية بأدنى مرتبته و هي الإسلام القولي الظاهري، حفظا للنظام، و جمعا لشمل الأنام، فمقام التوسعة على الأمة شيء و مقام بيان الحقيقة و الدعاء للتوفيق لها شيء آخر، و تقدم انه يمكن أن يراد بالإسلام المعنى الأعم الشامل لجميع مراتبه، فيكون للمخلصين مرتبته العليا و لغيرهم سائر المراتب، فيصير الانطباق بحسب المراتب قهريا، كما هو الشأن في جميع الحقائق التشكيكية ان ذكرت بنحو الإطلاق:

ص: 63

بحث فلسفي:

قد ذكر الفلاسفة و المتكلمون للوحدة أقساما كثيرة، و هي: إما حقة حقيقية بحال الذات و هي مختصة باللّه الواحد القهار جل جلاله أو بالغير و هو إما في الجنس، كوحدة الفرس و الإنسان مثلا في الحيوانية، أو في النوع كوحدة الأفراد و الأشخاص في النوعية، مثل زيد و عمرو، أو عرضية من الأعراض على أقسامها التسعة كوحدة الخطوط في الكمية، أو وحدة الألوان في الكيفية، أو وحدة الأخوان في الإضافة إلى غير ذلك من الأقسام. هذا في الوحدة الذاتية المفهومية.

و لهم قسم آخر من الوحدة و هي الوحدة الوجودية من حيث الذات أو وحدة حقيقة الوجود و الموجود و تمتاز هذه الوحدة عن غيرها بأنها عبارة عن السعة الوجودية، و هي تارة في نفس الوجود من حيث هو مع بقاء الإضافات، و يعبر عنه بوحدة الوجود، و أنها مبنية على اشتراك حقيقة الوجود بين الواجب و الممكن بجميع اقسامه من الجوهر و العرض مطلقا.

و أخرى: في نفس الوجود أيضا كما تقدم لكن بإسقاط جميع الإضافات و الخصوصيات و عبروا عنه ب (وحدة الوجود و الموجود) و لهم في المقام أقسام أخرى قد فصلت في الكتب الفلسفية، و لعلنا نتعرض لها مع شرحها في الآيات المباركة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى.

بحث أدبي:

قد يذكر اللغويون للفظ معنى يكون لذلك المعنى لوازم متعددة ثم يذكرون كل واحد من تلك اللوازم في معاني اللفظ فيجعلونه من المشترك اللفظي، و هذا شايع عندهم كما قدمناه.

و في المقام أصل السفه مرض عقلي يعبر عنه بضعف العقل و خفته و من لوازمه الهلاك و الفساد و تحقير النفس و زوال النظم، و قد جعلوا كل ذلك من معاني السفه. و هذا لا وجه له بل ينبغي أن يكون من لوازم أصل المعنى؛ كما يقتضيه التحليل العقلي، و لو بني على عدّ لازم المعنى معنى، مستقلا، لانعدم متحد اللفظ و المعنى من اللغات مطلقا. و لعل هذا من أحد

ص: 64

منا شيء تكثير المعاني للألفاظ في اللغة.

ثم إنّهم اختلفوا في إعراب «نفسه» الوارد في الآية المباركة، فقيل: إنه منصوب على أنه مفعول «سفه». و قيل: انه منصوب على التمييز، و أشكل عليه بأن التمييز لا بد أن يكون نكرة. و في الآية معرفة - لا ان يكون نكرة - لإضافته إلى الضمير.

و يدفع الإشكال: بأنّ لفظ «نفسه» في المقام بمنزلة ذات نفسه أو نفسه ذاته، و هذا لا يخرجه عن التنكير إلى التعريف، كما لا يخفى.

و قد فرّق الأدباء بين الواحد و الأحد بوجوه:

منها أنّ الواحد أعم موردا من الأحد، لأن الواحد يطلق على من يعقل و غيره، بخلاف الأحد، فانه يختص بمن يعقل.

و منها: أنّ الواحد يدخل في العدد إيجادا و إفناء، بخلاف الأحد.

و منها: أنّ الواحد هو المتفرد بالذات، و الأحد هو المتفرد من سائر الجهات،

و عن علي (عليه السلام) في وصفه تعالى: (واحد لا بعدد) أي: لا يعقل أن يكون عددا يعد اثنين و ثلاثة و هكذا كما في كل واحد عددي.

و أما قول علي بن الحسين (عليه السلام): «لك يا إلهي وحدانية العدد» فمعناه المبدئية لكل شيء.

يعني: كما أن الواحد مبدأ إيجاد الأعداد و مفنيها يكون اللّه تعالى مبدأ إيجاد الممكنات و مفنيها، و لعلنا نتعرض لذلك في الآيات المباركة المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أ.......

اشارة

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ

ص: 65

وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اَللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في ما سلف من الآيات المباركة حقيقة ملة إبراهيم (عليه السلام) و أنّها التوحيد الخالص و الاستسلام للّه تعالى، و بيّن أنها دين اللّه تعالى الواحد على لسان الأنبياء و إن اختص كل واحد منهم ببعض الأحكام بحسب المصالح.

بيّن سبحانه في هذه الآيات أنّ أهل الكتاب قصروا نظرهم على ما امتاز به كل دين عن غيره و جهلوا الحقيقة المشتركة بين الأديان، فادعى كل واحد أن دينه الحق و غيره على الباطل، و أن أنبياء اللّه تعالى على دينهم، فأبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم و حكم بأن الإيمان باللّه جلّ شأنه، و ما أنزله تعالى و الاستسلام لأمره هي الحقيقة المطلوبة لدى الأنبياء من دون فرق بين أحد منهم، و أنّ ذلك هو دين الفطرة التي أودعها في الإنسان و لا دخل لأحد فيها، فمن كان محاجا في ذلك فهو في شقاق.

ثم أقام الحجة على ذلك بأنه تعالى هو الرب و المدبر للجميع، و أنه لا علم لهم بأن الأنبياء السابقين على دينهم كيف و قد بشروا بنبوة خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله) و هم قد كتموه.

و ختم الكلام بأن كل واحد له جزاء عمله فلا يسئل عما يفعله غيره. فعلى كل فرد أن يجتني ثمار أعماله.

التفسير

قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا . الضمير في قالوا يرجع إلى أهل الكتاب، و (أو) للتنويع، و الجملة لبيان عقيدتهم.

ص: 66

أي: قالت اليهود إنّ دينهم على الحق و أنّ الهداية محصورة في اليهودية، و كذلك ادعت النصارى، بل إنّ ذلك معتقد كل ذي دين أنّ دينهم خير الأديان، و أنّ كتابهم أبدي لا يقبل التغيير و التبديل، و طرق الهداية منحصرة في دينه، و مقتضى ذلك أن يدعو كل واحد من الفريقين النّاس إلى دينه، و هذا النوع من المنهج من الفطريات لكل من يعتقد بشيء و يرى صحته، و هو من الجهل المركب وداء ابتلي به جميع الأمم حتّى بعض فرق المسلمين الذي يعتقد صحة مذهبه أو عقيدته و بطلان غيرهما، و قد أبطل سبحانه مدعاهم بدليل إلزامي لهم، فقال مخاطبا لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) إتماما للحجة و البيان، و تلقينا للبرهان، و تثبيتا لشريعته و نبوته، بل إظهارا للوحدة بين أصل الوحي و قول الموحى اليه في الحجية، و توطئة لأمر المسلمين بهذا المقال.

قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً . مادة (حنف) تأتي بمعنى الميل أي: الميل من الضلالة إلى الهداية و من الباطل إلى الحق فصارت تطلق على الموحد التابع لدين الحق، و هي بخلاف (جنف) فانه الميل من الحق إلى الباطل.

و قد استعملت هذه المادة بالنسبة إلى ملة إبراهيم في القرآن الكريم كثيرا، قال تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة آل عمران، الآية: 95] و قال تعالى: دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة الأنعام، الآية: 161] و قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة النحل، الآية: 120]. و تطلق على أصل الملة و الدين أيضا، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً [سورة الروم، الآية: 30]. و في الحديث: «أحب الأديان إلى اللّه تعالى الحنيفية السمحة».

و الوجه في إطلاق الحنيفية على إبراهيم و ملته دون غيره من الأنبياء السابقين أنّ إبراهيم كان في قوم مشركين، عبدة الأوثان و قد جاهد (عليه السلام) في دعوتهم الى التوحيد و نبذ الأوثان و عبادتها و ابتلى من قومه بما ابتلى حتّى اختاره اللّه تعالى لأقصى درجات الخلة و الإمامة و منحه الملة التي

ص: 67

كانت بمنزلة المادة لجميع الأديان الإلهية الكبرى - اليهودية و النصرانية و الإسلام - مع أنه (عليه السلام) يعتبر مؤسس حركة التوحيد في العالم، و به ابتدأت الشرايع الإلهية. و أما شرايع من قبله من الأنبياء فلم تكن لها تلك الأهمية التي جعلها اللّه لملة إبراهيم، و لذلك كانت ملته الملة الحنيفية الجامعة للمعارف الإلهية و الكاملة في التوحيد و نفي الشرك. و الارتقاء في معارج الكمال، و قد أنزلها تبارك و تعالى حسب المصالح و مقتضيات الظروف حتّى انتهى الأمر إلى الإسلام الدين الجامع لجميع الكمالات و المشتمل على أقصى المعارف الإلهية.

و من ذلك يعرف أن اختلاف المفسرين في معنى الحنيف و بيان المأخذ لا وجه له، بل هو اختلاف مصداقي. و الجامع هو الصحة و التمامية و السهولة و عدم الضيق و الحرج.

و إنما ذكر سبحانه إبراهيم (عليه السلام) و أمرهم باتباع ملته لأنه لا ينازع أحد من أهل الكتاب في أنه كان مهتديا، بل يعتبر إمام المهتدين، فإذا كان ادعاء كل واحد منهم صحيحا لكان إبراهيم (عليه السلام) غير مهتد، و هم لا يقبلونه.

و من ذلك يستفاد أن الهداية منحصرة في اتباع ملة إبراهيم (عليه السلام)، و أن موسى و عيسى (عليهما السلام) أيضا كانا متبعين لملته لأنها الدين الحنيف القائم على الصراط المستقيم، و المبني على التوحيد و الإخلاص و نفي الشرك، و الحق أحق أن يتبع.

قوله تعالى: وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ . أي لم يكن إبراهيم من المشركين باللّه تعالى. و فيه إشارة إلى اختلاط اليهودية و النصرانية المخترعتين لنوع من الشرك و التناقض على ما يأتي تفصيله.

قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ . الأسباط جمع سبط و هو بمعنى الانبساط في سهولة، و سمي ولد الولد سبطا لانبساطه و تفرعه من الجد. و منه

ص: 68

سمى الحسن و الحسين (عليهما السلام) سبطي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و الأسباط في بني يعقوب كالقبائل في بني إسماعيل. و كانوا اثنى عشر سبطا كل سبط ينتهي إلى ولد من ولد يعقوب، كل واحد منهم أمة و جماعة من النّاس، قال تعالى: وَ قَطَّعْناهُمُ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً [سورة الأعراف، الآية: 160] و لذلك لم يستعمل في القرآن إلاّ جمعا. و سموا بذلك أيضا في التوراة و غيرها.

و النزول مساوق للإيتاء في الجملة، لأنه يشمل الجواهر و الأعراض و التشريعات قال تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ [سورة الحديد، الآية: 25] و قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى [سورة الأعراف، الآية: 26]. و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجرات، الآية: 21]. و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ [سورة المائدة، الآية: 44] إلى غير ذلك من موارد استعمالات هذه المادة في القرآن الكريم التي هي كثيرة جدا بهيئات مختلفة. فأصل المادتين - الإيتاء و الإنزال - متحدتان في جامع قريب هو الإيصال و الوصول، إلاّ أنه لوحظ في النزول الانحطاط من العلو في الجملة بخلاف الإيتاء، لكنه إذا أضيف الممكن إلى الواجب بالذات و المخلوق إلى الخالق الغني بالذات ينطبق عليه الانحطاط من العلو - لوحظ ذلك أو لم يلحظ -، فكل إيتاء منه عزّ و جلّ إنزال دون العكس.

و لعل الوجه في التعبير بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السلام) و من تبعه بالإنزال للإعلان بأنه مؤسس الحركة الدينية و الملة الحنفية فلا بد من إفاضة ذلك من عالم الغيب.

ثم إنه قد يستدل على أنّ الأسباط كانوا أنبياء بالآية المباركة، و بقوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى [سورة النساء، الآية: 163].

ص: 69

و فيه: أن الآية المباركة أعم من حدوث الوحي و إبقائه و مناط النبوة هو الأول دون الثاني، فيكون من حفظ الوحي غير من أنزل الوحي عليه ابتداء، كما ستعرف قريبا.

و في بعض الأحاديث: «إن اللّه تعالى جعل النبوة في ولد بنيامين و نزعها من ولد يوسف» و عن أبي جعفر (عليه السلام) نفي كون الأسباط أنبياء؛ و لكنهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء.

و من ذلك يظهر الوجه في

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» أي في جهة حفظ الدين و الوحي المبين فان العلماء أمناء اللّه تعالى في أرضه ما لم يميلوا إلى الدنيا.

و هذه الآية المباركة دعوة عقلية إلى نبذ الاختلاف و العصبية و الأهواء، و هي تدعو الناس إلى الوحدة و الاتحاد بين جميع أفراد البشر في المبدأ و التشريع و المعاد، و الترغيب إلى الإيمان بأصل الدين الذي لا خلاف فيه بين جميع أنبياء اللّه تعالى. فكما أن البشر متحدون في أصل التكوين الإلهي كذلك لا بد و ان يكون بينهم اتحاد في نظام التشريع الربوبي. و الاختلاف إنما ينشأ من المصالح الزمنية، و ما يقتضيه السير التكاملي في الإنسان، كما أنه يختلف حفّاظ الوحي باختلاف العصور و القرون.

و المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا القرآن و جميع المعارف و التشريعات الإلهية التي أتى بها نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و باعتبار النزول عليه و على سائر الأنبياء صدق النزول علينا أيضا.

كما أن المراد بقوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ الصحف التي أنزلت عليه و ملته الحنفية المقدسة التي أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) باتباعها.

و إنّ المراد بما أنزل على إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط ذلك أيضا، لأنهم الحفظة للملة الحنيفية علما و عملا و بيانا، و إلاّ لم يعهد نزول كتاب عليهم كما أن علماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) كذلك، كما

ص: 70

عرفت.

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ . مادة (ا ت ي) تأتي بمعنى المجيء، بسهولة، و تستعمل في الأعيان و الأعراض، و الخير و الشر. و الكل مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، و قال تعالى: أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ [سورة التوبة، الآية: 70]، و قال تعالى:

وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 47] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و ما اوتي موسى و عيسى عبارة عن التوراة و الإنجيل و ما حباهما اللّه تعالى من كرامة الوحي و سائر المعجزات الباهرات. و إنما خصهما بالذكر لكثرة الاهتمام بهما، و لأن المقام مقام المحاجة مع اليهود و النصارى و الإحتجاج عليهما. و إلاّ فهما كسائر أنبياء اللّه تعالى يدعوان إلى التوحيد و الإسلام، و لذا أكد سبحانه و تعالى بعد ذلك ب:

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ . فلم يكن ذلك خاصا بموسى و عيسى، فيكون تعميما بعد التخصيص، و إيضاحا للسبيل، و إتماما للحجة. و الإشارة إلى أن أنبياء اللّه تعالى متحدون في الدعوة إلى الحق، و هو أيضا أعم من المعارف التشريعية و المعجزات التي خص اللّه تعالى بها كل نبي.

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ . أي: قولوا لا نفرق بين أحد من الرسل و الأنبياء و نحن للّه تعالى مسلمون.

قوله تعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اِهْتَدَوْا . (الباء) في (بمثل) بمعنى التشبيه فقط، و لفظة «مثل» تفيد معنى الآلية التي ينظر بها جيء به إتماما للحجة، و قطعا للخصومة، و هذا شايع و متعارف عند الناس فليست الكلمة زائدة بل بمعنى التوسعة في المثلية في جميع القرون اللاحقة.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ . التولي هو الإعراض

ص: 71

و مادة (ش ق ق) تأتي بمعنى الثقب و الخرم، و يلزمهما الفصل و التجزئة. و هي تستعمل في القرآن كثيرا، قال تعالى: ثُمَّ شَقَقْنَا اَلْأَرْضَ شَقًّا [سورة عبس، الآية: 26]، و قال تعالى: وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ [سورة الحج، الآية: 35]، و قال تعالى: بَلِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ [سورة ص، الآية: 2].

و للشقاق مراتب كثيرة بالنسبة إلى الأصول و الفروع و الأخلاق، و الشقاق بالنسبة إلى اللّه و رسله بمعنى الكفر و الضلالة؛ فالكافر في شق و المؤمن في شق، و المصلي في شق و تارك الصلاة في شق آخر، و العادل في شق و الفاسق في شق آخر و هكذا. فكل شيء و غيره يمكن أن يكونا من شقين و لو كانا من صنف واحد في الجملة.

و في أحاديث آخر الزمان: «لا بد من فتنة يسقط فيها الحاذق الذي يشق الشعرة شعرتين». أي بحذاقته و فكره.

قوله تعالى: فَسَيَكْفِيكَهُمُ اَللّهُ وَ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ . كفى يأتي بمعنى سدّ الخلة و بلوغ المراد في الأمر، قال تعالى: وَ كَفَى اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ اَلْقِتالَ [سورة الأحزاب، الآية: 25]، و قال تعالى: إِنّا كَفَيْناكَ اَلْمُسْتَهْزِئِينَ [سورة الحجر، الآية: 95] و غير ذلك من الاستعمالات القرآنية التي يأتي التعرض لها. فهو السميع لأقوالهم، العليم بأعمالهم و ما في ضمائرهم و ما يقدّره على عباده و ما ينفذه فيهم، فهو الكافي من كل شيء و لا يكفي منه شيء.

و الآية الشريفة من البرهان العقلي الذي قرره القرآن الكريم، بأن يقال: الإيمان بالأنبياء و الرسل سبب للهداية فكل من كان على إيمانهم فهو مهتد، فاليهود و النصارى إن كانوا على إيمانهم فهم مهتدون، ثم نقول إنهم ليسوا على إيمان الأنبياء و الرسل و كل من كان كذلك فهو في شقاق مع اللّه و رسله، فاليهود و النصارى في شقاق مع اللّه و رسله و كذا كل من يكون مثلهما في المخالفة الاعتقادية أو العملية مع اللّه و رسله، هذا بالنسبة إلى أصل ثبوت الموضوع. و أما الأثر المترتب عليه فهو أنّ اللّه تعالى يكفي أنبياءه و رسله و المؤمنين بهم من كيد أهل الشقاق و نفاقهم، كما يقتضيه نظام التكوين و التشريع.

ص: 72

و في الآية المباركة تسلية للمؤمنين بالنصر و وعد لهم بالكفاية و لن يخلف اللّه وعده، و قد ظهر صدقه مرارا. و سيظهر كذلك في ما بعد إلى آخر الزمان. كما أن هذه الآية المباركة من أدلة نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و رسالته.

قوله تعالى: صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً . الصبغة اسم للكيفية الحاصلة من صبغ الشيء. فكما أنّ للأجسام ألوانا تظهر للبصر، كذلك للنفوس و الأرواح، ما هو بمنزلة اللون يظهر لأهل البصائر و البصيرة من بياض و سواد، و صفاء و كدر، و نور و ظلمة، و طهارة و خباثة.

و تضاف إلى اللّه تعالى تارة: إذا حصل من الإيمان باللّه و ما أنزله على رسله و الاستسلام لأمره. و إظهار العبودية له عزّ و جلّ و هذا بياض معنوي، بل لمعان أنوار في النفس بحيث يكون نورا في ذاته و منورا لغيره، و لها مراتب كثيرة و درجات متفاوتة. و أخرى: تضاف إلى غيره تعالى، و هي الظلمة و الكدورة التي تحجب عن مبدأ النور.

فيكون المراد بالصبغة هو العقل الذي يعبد به الرحمن و يكتسب به الجنان الذي تجتمع فيه الشرايع الإلهية على ما يأتي من التفصيل المعبر عنها بالفطرة السليمة، و ما سوى ذلك ليس من صبغة اللّه تعالى؛ فصبغة اللّه تعالى هي الطهارة عن كل دنس روحي و معنوي، و لا يمكن أن تجتمع مع الشرك و الكفر و النفاق و الرذائل النفسانية فلا تتأثر بالتقاليد و الأهواء و العصبية، و إنما هي من صنع اللّه تعالى التي تبقى و تدوم، و هي المؤثرة في الإنسان في جميع العوالم التي ترد عليه. و هي التي تميز من كان على الصبغة الإلهية التي يظهر أثرها الكريم من التوحيد و الأخلاق الفاضلة و الأعمال الشريفة من غيرها الذي يكون على الصبغة البشرية التي هي في اضطراب و تعدد و تفرق.

فما يفعله النصارى من تعميد أولادهم لا ينفع لدنياهم - مع ما هم عليه من الكفر - إلاّ إذا كان ما قرره الإنجيل مصدقا بالقرآن فحينئذ ينفعهم التعميد لأنه من دين اللّه.

و بالجملة: صبغة اللّه ترجع إلى ارتباط العبد مع اللّه تعالى بنحو ما يشاء

ص: 73

اللّه تعالى و يريده لا بما يشاؤه العبد و يريده، كما يدل عليه صدر الآية المباركة و ذيلها، فان قوله تعالى: قُولُوا آمَنّا بِاللّهِ . و قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ بيان للصبغة و العلة لتحققها، و الإيمان و العبودية إنما يتحققان بما يشاء اللّه المعبود بالحق لا بما يشاؤه العابد.

و من ذلك يظهر أن تفسير الصبغة بالإسلام، أو ملة إبراهيم، أو دين اللّه كل ذلك صحيح و ينبئ عن شيء واحد. و هو: التوجه إلى اللّه تعالى و الانقطاع عن غيره؛ كما سيأتي في البحث الروائي.

ثم إن هذه الصبغة تنسب إلى اللّه تعالى نسبة الفعل إلى الفاعل، كما تنسب إلى العبد نسبة الشيء إلى قابله، و كل منهما على نحو الاقتضاء لا العلية التامة.

و من ذلك يظهر أحسنية هذه الصبغة من حيث الذات و المورد و الفاعل، فأصل اللون هو التوحيد و الإيمان و مكارم الأخلاق، و مورده المؤمن، و فاعله هو اللّه عزّ و جلّ، و غايته السعادة و الخلود في الجنان. و من آثارها العبودية التي كنهها الربوبية، فلا يتصور في العالم شيء أفضل و أحسن من هذه الصبغة، و فيها قال تعالى: فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ . أي: لا نشرك في العبادة و الألوهية غيره تعالى. و هو في موضع الحال، و بيان العلة لأحسنية الصبغة. كما أن نصب «صبغة اللّه» بالفعل المقدر، أي: اتبعوا، أو بدل من ملة إبراهيم، و إن كان الأخير هو الأوفق، كما عرفت.

ثم إن كمالات النفس الإنسانية على أقسام ثلاثة:

الأول: ما تكون للدنيا و من الدنيا و فيها أيضا و لا تتجاوز عنها و هذا هو الكثير الذي ابتلي عامة النّاس به و لا ربط له بصبغة اللّه تعالى أبدا. نعم هو مورد قضاء اللّه و قدره.

ص: 74

الثاني: ما تكون للدنيا و الآخرة معا بحيث يجعل الدنيا وسيلة و ذريعة للوصول إلى الكمال الأخروي.

الثالث: ما تكون للآخرة فقط بحيث لا نظر إلى الدنيا إلاّ على نحو الآلية و المرآتية،

كما قال علي (عليه السلام): «صحبوا الدنيا أبدان أرواحها معلقة بالمحل الأعلى». و القسمان الأخيران من صبغة اللّه؛ و لكل منهما درجات متفاوتة و مراتب كثيرة.

قوله تعالى: قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اَللّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ . المحاجة:

المجادلة، و مادة (ح ج ج): تأتي بمعنى القصد و الطلب و منه «حج البيت»، و حيث أن كل واحد من المتخاصمين و المتنازعين يطلب الغلبة على الآخر و يقصد جذبه أطلقت عليه المحاجة.

و تستعمل في كل من الحق و الباطل؛ قال تعالى: وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ [سورة الأنعام، الآية: 83]. و قال تعالى: وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اَللّهِ [سورة الأنعام، الآية: 80]. و العلوم الاستدلالية مشحونة من الإحتجاجات المتضادة المتناقضة مع العلم بكذب أحد الطرفين، و العلماء وضعوا علما مستقلا مفصلا لبيان الحجة الصحيحة مادة و صورة و التمييز بينها و بين أنحاء المغالطة.

و المعنى: أ تجادلوننا في اللّه و تدعون أنكم أحباء اللّه و أبناؤه و الموحدون له و ان دينكم الحق، و أن النبوة فيكم مع أنّ رحمته وسعت كل شيء و كل عبيده و لا تختص رحمته بقوم دون آخرين، و جميع تلك المقترحات باطلة، و أن اللّه يختار ما يشاء و ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة القصص، الآية: 68]، و كيف يخصكم برحمته دون غيركم؟ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ ، و الجميع عباده، و رحمته واسعة؛ و هو الرب و الكل مربوبون له.

قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ . مادة خلص؛ تأتي بمعنى ذات الشيء و خاصته و زوال كل ما يشوبه و ينافيه، و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى:

ص: 75

إِنّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى اَلدّارِ [سورة ص، الآية: 46]، و قال تعالى فَاعْبُدِ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ [سورة الزمر، الآية: 2]، و قال تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: 40]، و قال جل شأنه: أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و كل ما قيل في حقيقة الإخلاص يكون دون حده و رتبته،

و قد قال علي (عليه السلام): «بالإخلاص يكون الخلاص، و طوبى لمن أخلص للّه العبادة و الدعاء». و هو من الأمور الإضافية فيضاف إلى أصل التوحيد تارة بدرجاته، و في مقابله الشرك بمراتبه. و إلى العبادة أخرى، و في مقابلها الرياء بمراتبه. و إلى سائر الأعمال ثالثة، و في مقابلها كثير من مفاسد الأخلاق، و الجامع بين الجميع الإخلاص في الدين.

و العلماء و العرفاء ذكروا للخلوص و الإخلاص معاني متعددة، فعن الفقهاء ان معناه إتيان العمل للّه تعالى، بأن يكون الداعي على إتيانه هو اللّه تعالى؛ و قد فصلنا القول فيه في الفقه. و عن بعض العرفاء: إن الإخلاص؛ سر من أسرار اللّه تعالى يستودعه قلب من يحب من عباده. و عن آخر: إنه لا يحب أن يحمد على شيء من عمله. و قد ينسب هذان القولان إلى الحديث أيضا.

و الحق إنه من الحقائق التي لها مراتب كثيرة جدا، فأولى مرتبته أن يكون الداعي على إتيان العمل هو اللّه تعالى، و أقصى مراتبه ما تنتهي إلى حبه تعالى و في هذه المرتبة أيضا درجات غير محدودة حتّى ينتهي إلى ما أثبتوه من الفناء في اللّه الذي هو عين البقاء باللّه تعالى. و بالجملة أصل الحقيقة وجدانية عملية، لا ان تكون قولية بيانية؛ فكم من حقائق تقصر الألفاظ عن بيانها و إن كثرت و العبارات عن شرحها و إن تعددت.

و المعنى إنّ التفاضل يأتي من ناحية الأعمال فكل امرئ رهين عمله إن خيرا فخير و إن شرا فشر، و المدار على الإخلاص، و فيها تعريض لهم بعدم الإخلاص لهم.

ص: 76

و الآية من الآيات التي تبين كيفية رد من يخاصم الإسلام سواء أ كان من أهل الكتاب أم من غيرهم، و نظير الآية المباركة بوجه أبسط من المقام قوله تعالى: فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اِسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اَللّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ [سورة الشورى، الآية: 15] و هذه الآية شارحة لجميع الآيات الواردة في هذا السياق.

و المستفاد منها أن منشأ النزاع و التخاصم مع دين الإسلام إما أن يرجع إلى المبدأ، أو إلى المعاد أو إلى أحقية دين الإسلام، أو إلى جهات أخرى دنيوية. و جميع ذلك غير مقبول بالنسبة إلى الإسلام.

أما الأول: فإذا كان المعادي من لا يعترف بالمبدأ فلا بد له من الرجوع إلى الأدلة العقلية و البراهين الساطعة التي يثبت بها المبدأ؛ و قد أشار إليه سبحانه و تعالى بقوله: اَللّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ .

و أما الثاني: فلأنّ إثبات الجزاء للأعمال يستلزم الاعتراف بالمعاد، لأن العمل لا يعقل بدونه بعد الإعتقاد بالمبدإ فهما متلازمان ثبوتا و إثباتا، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و هو من قبيل ذكر اللازم و إرادة الملزوم.

و أما الثالث: و هو أحقية الإسلام - و يندفع بالآيات البينات و المعجزات الباهرات، و إليه يشير قوله تعالى: وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنْ كِتابٍ .

و أما الرابع: و هو الأغراض الدنيوية كالتي يدعيها اليهود و النصارى فإخلاص دين الإسلام للّه عزّ و جل ينفي ذلك كله، إذ لا معنى للدين الخالص الا ما كان له تعالى، فكل ما سواه باطل خصوصا ما يتعلق بمعبوديته و عبادته.

قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى . بيّن تعالى حجة أخرى لإبطال دعواهم بأحسن بيان و أتم حجة أي: أ تقولون إن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، و أن اليهودية أو النصرانية هما المرضيتان عند اللّه و لا

ص: 77

ينجو أحد إلاّ بهما و أن ما عداهما كفر و ضلال؟!!: كيف و قد كان إبراهيم (عليه السلام) و أبناءه و أحفاده على الملة الحنفية المرضية - التي بدأت بخليل الرحمن و ختمت بسيد المرسلين - الداعية إلى أصول المعارف الإلهية في المبدأ و المعاد. و الأحكام الشرعية، و البداهة و البرهان تدلان على كذبهم، و أن اليهودية و النصرانية إنما حدثنا بعد إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده بقرون، و هذا ادعاء باطل، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة آل عمران، الآية: 65]. إلاّ إذا ادعوا أنهم كانوا شهداء حين حضر هؤلاء الأنبياء الموت فأوصوا لأعقابهم بالتهود و التنصر، و هذا كسابقه باطل، و لذا رد عليهم سبحانه.

و في قوله تعالى: أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ توبيخ و تعيير لهم بابطال جميع محتملات كلامهم ثم إظهار ما هو الحق.

و «أم» متصلة و معادلة لما قبلها أي: إن كانت المحاجة في اللّه تبارك و تعالى فأنتم و المسلمون تعترفون بأنه تعالى رب الكل. و إن كانت في أن إبراهيم (عليه السلام) و أولاده و أحفاده كانوا هودا أو نصارى، فهو خلاف الوجدان و البرهان، لأن التوراة و الإنجيل نزلا بعد إبراهيم بقرون. و أن اللّه هو الجاعل للنبوة لإبراهيم و أولاده و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم.

قوله تعالى: قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ . أي: أنتم أعلم بالواقع مع ادعائكم الباطل أم اللّه الذي أخبر بأن إبراهيم كان حنيفا و أنه ارتضى لكم ملته؟! أو أن أولاده رضوا بعبادة اللّه إلها واحدا. كما عرفت، و أنه أنزل الكتب السماوية على رسله فهو أعلم بذلك منكم. و لا ريب في أنهم يعترفون بالثاني فيكون ادعاؤهم باطلا.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اَللّهِ . كتم بمعنى ستر، و كتم الشهادة أي سترها. و هو و شهادة الزور من المعاصي

ص: 78

الكبيرة. و المراد من الشهادة في المقام شهادة التحمل، كما هو الظاهر، فيكون التوبيخ و التعيير حقيقيا لأجل كتمان الواقع و إيقاع النفس في الكبيرة الموبقة و الهلاك الأبدي، و مثل هذا كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ اَلظّالِمُونَ [سورة الأنعام، الآية: 21]، و قوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اَللّهِ [سورة الزمر، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و المراد بالمشهود عليه إما رسالة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و قد أخبر اللّه تعالى اليهود بأنه يقيم لهم نبيا من إخوتهم و يجعل كلامه في فيه، كما أخبر المسيح برسول يأتي من بعده اسمه أحمد، و قد كتموا هذه الشهادة تعصبا و إنكارا للحق. أو الشهادة بأن إبراهيم (عليه السلام) كان على دين الحق و الإسلام و الملة الحنيفية و لم يكن يهوديا و لا نصرانيا، و قد كتموا الشهادتين ظلما.

و من المحتمل أن يكون المراد شهادة الأداء أي من أظلم من اللّه لو كان قد كتم الشهادة على أن إبراهيم (عليه السلام) كان يهوديا أو نصرانيا، و قد بيّن خلافها، فيكون الشرط تقديريا، و يصح مثل هذا التعبير في المحاورات حتّى مع امتناع المتعلق، كما في جملة كثيرة من القضايا الشرطية و ما في سياقها.

و يكون المراد من مثل هذا التعبير هو إيهام الطرف بأن كتمان الشهادة من الظلم القبيح، و فيه من المفسدة العظيمة و لا سيما إذا كانت الشهادة في المعارف الإلهية و الأمور الدينية فيكون أظلم، و لذا أوعد عليه تبارك و تعالى.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . تقدم معنى الغفلة في آية (75) من هذه السورة. و قد ذكرت هذه الكلمة في القرآن العظيم كثيرا، قال تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة النمل، الآية: 93]، و قال تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة آل عمران، الآية: 99] إلى غير ذلك من الآيات الشريفة. و بعد فرض إحاطته تعالى بما سواه إحاطة ربوبية قيومية تستحيل الغفلة بالنسبة إليه جل شأنه، لأنه من الجمع بين

ص: 79

النقيضين، فالغفلة منه ممتنعة و تقع من عباده بالنسبة إليه تعالى، و لها مراتب كثيرة جدا. هذا و لكن ليس من القبيح عقلا و لا شرعا غفلته تعالى عن سيئات عباده، و هي في الحقيقة ترجع إلى تغافله تبارك و تعالى عنها.

قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ . تقدم معناها و إنما كررت تأكيدا لسوء أخلاقهم، و بيانا لعدم اقتداء الخلف بالسلف الصالح، فكانت إحدى الآيتين بالنسبة إلى أصل الحدوث لطائفة، و هم الأنبياء و الرسل، و الأخرى كانت ناظرة إلى البقاء بالنسبة إلى طائفة أخرى، أي: أنهم يسألون عن أعمالهم مع هذا الدين الجديد و معاملتهم مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و الآية المباركة تشير إلى إنكار رذيلة الاستكبار عن قبول الحق و الإصرار على الباطل، و الافتخار بالدعاوى التي لا واقع لها، و التعلل زورا بمن مضى. و في تكرارها تأكيد أيضا إلى ارتباط السعادة بالعمل الصالح الذي أكد القرآن الكريم عليه، فكل يجزى بعمله، و لكن ذلك لا ينافي ثبوت أصل الشفاعة كما لا دل عليها، فان انتفاع الناس بعضهم ببعض في الدنيا و الآخرة مما لا ريب فيه عقلا و شرعا فالمقام كالآيات الشريفة الدالة على عدم تملك نفس عن نفس شيئا؛ قال تعالى: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ اَلْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلّهِ [سورة الإنفطار، الآية: 19] التي لا تنفي الشفاعة، و سيأتي الكلام في الشفاعة مفصلا إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:

مما تتضمنه الآيات السابقة كيفية المحاورة و المجادلة مع الخصم و محاجته، فقد أقام سبحانه و تعالى أربع حجج على بطلان ما ادعاه أهل الكتاب بأسلوب يقبله الطبع السليم متدرجا من ما هو المتسالم عند الخصم، ثم إلزامه بنتيجة مدعاه، ثم تلقينه بما أراده سبحانه. و للقرآن الكريم منهج رفيع في احتجاجاته و مراعاة الأدب الكامل في هذه الجهة؛ و ملاحظة مدركات الخصم كمية و كيفية، ثم الترقي من الداني بأسلوب رصين، قال

ص: 80

تعالى: اُدْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ اَلْمَوْعِظَةِ اَلْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [سورة النحل، الآية: 125]. و قد شرحت السنة المقدسة تلك الجهات قولا و عملا و وضع أهل الفلسفة العملية في ذلك كتبا و رسائل نافعة من المسلمين و غيرهم.

و من تأكيد القرآن الكريم على مراعاة تلك الجهات يستفاد أنه لا بد للعلماء و أهل النظر من رعاية ما ورد في الكتاب و السنّة، و ما وضع في الفلسفة العملية في منهج التعليم و التربية ليكون ذلك داعيا إلى إقبال النّاس على العلم، و أثبت في تكميل النفوس؛ و أشد ربطا لقلوب المتعلمين بالمعلمين و المربين.

بحث روائي:

في تفسير العياشي في قوله تعالى: قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قال الصادق (عليه السلام): «إن الحنيفية هي الإسلام».

أقول: لأنه تبارك و تعالى أمر نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) باتباع ملة إبراهيم، فأصل الحنيفية جامع بين ملة إبراهيم (عليه السلام) و دين محمد (صلّى اللّه عليه و آله)، و لو فرض اختلاف فهو جزئي بحسب اختلاف الظروف.

و فيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما أبقت الحنيفية شيئا حتّى أن منها قص الشارب و قلم الأظفار و الختان».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في أن جميع المعارف الإلهية و الأحكام التشريعية العملية داخلة في الحنيفية حتّى الجزئيات التي ندب إليها الشرع بالنسبة إلى التزيين و التطهير، كما في الحديث الآتي، فيكون قد ذكر الأدنى ليعرف أنّ شمول الحنيفية للأعلى بالفحوى.

و في تفسير القمي قال: «أنزل اللّه تعالى على إبراهيم (عليه السلام) الحنيفية، و هي الطهارة، و هي عشرة أشياء، خمسة في الرأس، و خمسة في البدن. فأما التي في الرأس: فأخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و طمّ الشعر، و السواك، و الخلال. و أما التي في البدن: فحلق الشعر من البدن، و الختان،

ص: 81

و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و هي الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم فلم ينسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول: قد ورد ذلك في عدة روايات عن العامة و الخاصة، و لكل ذلك آداب و شروط مذكورة في كتب أحاديث الفريقين و فقههم و طمّ الشعر جزّه، أو قصه في مقابل الحلق،

و منه الحديث: «ثلاثة من اعتادهنّ لم يدعهنّ: طمّ الشعر، و تشمير الثوب، و نكاح الإماء». و تقدم ما يتعلق به في الرواية السابقة.

و في أسباب النزول في قوله تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا . قال ابن عباس: «نزلت في رؤوس يهود المدينة كعب بن الأشرف، و مالك بن الصيف، و أبي ياسر بن أخطب. و في نصارى أهل نجران، و ذلك أنهم خاصموا المسلمين في الدين كل فرقة تزعم أنها أحق بدين اللّه تعالى من غيرها، فقالت اليهود: نبينا موسى (عليه السلام) أفضل الأنبياء، و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان؛ و كفرت بعيسى (عليه السلام) و الإنجيل، و محمد و القرآن. و قالت النصارى: نبينا عيسى أفضل الأنبياء، و كتابنا الإنجيل أفضل الكتب، و ديننا أفضل الأديان. و كفرت بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و القرآن، و قال كل واحد من الفريقين للمؤمنين:

كونوا على ديننا، فلا دين إلاّ ذلك و دعوهم إلى دينهم».

أقول: هذه شيمة كل من كان على الجهل المركب، و اعتقد بحسر شيء مع عدم التوجه إلى غيره.

و في تفسير العياشي عن حنان بن سدير عن الباقر (عليه السلام) في الأسباط قال (عليه السلام): «إنهم كانوا أولاد الأنبياء، و لم يكونوا فارقوا الدنيا إلاّ سعداء تابوا و تذكروا ما صنعوا».

أقول: و مثله ورد في عدة روايات، و الحديث نص في كونهم أولاد الأنبياء لا منهم، كما يدل على أن ما صدر منهم ليس منقصة لهم بعد تحقق التوبة منهم.

ص: 82

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه سبحانه: صِبْغَةَ اَللّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ صِبْغَةً . قال (عليه السلام): «الصبغة هي الإسلام».

أقول: ورد ذلك في عدة روايات، و تقدم ما يدل على ذلك.

و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: صِبْغَةَ اَللّهِ . قال (عليه السلام): «صبغ المؤمنين بالولاية في الميثاق».

أقول: هذا من باب التطبيق بالنسبة إلى بعض مراتب الصبغة، فان لها مراتب كثيرة، كمراتب الإيمان و الإسلام، و ذلك لا ينافي عموم الآية المباركة بالنسبة إلى جميع أهل التوحيد.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا قال (عليه السلام): «إنما عنى بذلك عليا و فاطمة و الحسن و الحسين و جرت بعدهم في الأئمة (عليهم السلام)».

أقول: رواه العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في مجمع البيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). و هذا من باب التطبيق على بعض خواص أهل الإيمان فلا ينافي تعميمه بالنسبة إلى الجميع.

و في الفقيه في وصايا أمير المؤمنين (عليه السلام) لابنه محمد بن الحنفية: «و فرض على اللسان الإقرار و التعبير عن القلب بما عقده عليه، فقال عزّ و جل: قولوا آمنا باللّه و ما أنزل إلينا».

أقول: الحديث في مقام بيان لزوم الموافقة بين مقام الإثبات و مرحلة الثبوت، فإن الأول يعرف باللسان و البيان، و الثاني بالاعتقاد و عقد القلب.

بحث فلسفي:

قد شاع بين الفلاسفة و المتكلمين أن الذاتي غير قابل للتغيير و التبديل و يعتبرون ذلك من القواعد المسلّمة بينهم. و كلامهم هذا يشمل كلا قسمي الذاتي أي: ما هو داخل في الذات، كالجنس و الفصل. و ما هو خارج عنه

ص: 83

و لازم للذات - المصطلح بذاتي باب البرهان - أي لازم الماهية، كالزوجية للأربعة. و تكرر في كلمات ابن سينا «أنه ما جعل اللّه تعالى المشمش مشمشا بل أوجده». و الأصل في هذه القاعدة يرجع إلى عدم إمكان الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و لوازمها، و أطالوا القول في ذلك بإيراد شواهد و مؤيدات.

و الحق أن يقال: إن ذلك و إن كان صحيحا في الجملة بالنسبة إلى الجعل و القدرة الإمكانية لأنها هي التي تقع مورد الإدراك الإنساني و الفهم البشري.

و أما أنّها كذلك حتّى بالنسبة إلى القدرة الأزلية التي غاية ما يمكن دركها للعقول إنما هي نفي العجز عنه تعالى - كما في الحديث - فهو تعالى قادر أي: لا يعجزه شيء، و لا يصح قياس ما هناك على ما نتعقل إلاّ أن يكون تحديدا في قدرته على ما نتعقله، و هو مناف لعموم قدرته و قيموميته تعالى من كل حيثية وجهة،

و في الحديث: «هو الذي أين الأين؛ و كيف الكيف».

و في حديث آخر: «إن اللّه تعالى مجسّم الأجسام و موجدها».

إن قلت: بعد ما ثبت استحالة الجعل التأليفي، فكلما ورد من مثل هذه الأحاديث لا بد من حملها و تأويلها. فإن قدرته لا تتعلق بالمحال، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قلت: الاستحالة إن كانت من البديهيات الأولية، فلا بد من الحمل أو التأويل، كما ورد في حديث جعل الدنيا في البيضة. و إن كانت من النظريات القابلة للبحث و الجدل، فقدرة اللّه تعالى تكون فوق ذلك كله.

و بناء على ذلك يمكن أن تدخل صبغة اللّه تعالى و فطرته، و السعادة و الشقاوة تحت قدرته؛ بل هي ليست من الذاتيات الأولية، و لا من لوازم الذات حتّى تقع مورد النقاش، و إنما هي أعراض خارجة عن الذات لها دخل في الذات على نحو الاقتضاء، لا العلية التامة المنحصرة، و إلاّ لطرأ البطلان على جملة كثيرة من مسائل المبدأ، و المعاد، كما سنبينها في المباحث المستقبلة إن شاء اللّه تعالى. و في بعض كلمات الأقدمين من فلاسفة اليونان أن القيوم المطلق: «مذوت الذوات».

ص: 84

و يمكن الجمع بين شتات الكلمات أن القاعدة التي أسسوها من عدم إمكان الجعل التأليفي بين الذات و ذاتياته. أي في مورد الجعل الاستقلالي، و أما الجعل التبعي فلا محذور فيه من عقل، بل قد وافقه النقل، و للمقام تفصيل يطلب من محله.

سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِ.......

اشارة

سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ (144) وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ (145) هذه الآيات المباركة و التي تتلوها وردت في تشريع أهم جهات وحدة المسلمين و هي وحدة قبلتهم، و من كثرة أهمية ذلك أكّد سبحانه و تعالى عليها بتعبيرات مختلفة هي بمنزلة البرهان و الدليل على ثبوتها، و بيان جهات إثباتها، و هي من حيث كونها محاجة مع أهل الكتاب ترتبط بالآيات التي قبلها بعبارات متسقة، و نظم بليغ.

التفسير

قوله تعالى: سَيَقُولُ اَلسُّفَهاءُ مِنَ اَلنّاسِ . السفه: هو الخفة و الضعف و الرداءة، سواء أ كان في الجسم، أم في النفس؛ يقال: ثوب سفيه، أي خفيف النسج و رديئه، و شخص سفيه أي ضعيف العقل. و سواء أ كانت السفاهة في الرأي أم في الأخلاق، أم كانت في الدين أم الدنيا أم

ص: 85

فيهما معا، يقال: سفه حلمه و رأيه و نفسه. و المراد بهم هم الذين خفّت حلومهم و أعرضوا عن الفكر و النظر، فاعترضوا على الدين من دون علم بحقائق الأمور، و هم المنكرون على تغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين.

قوله تعالى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها . التولي:

الصرف، و العدول عن الشيء. و هو من الصفات ذات الإضافة التي تختلف باختلاف المتعلق، فإن قيل: تولى عنه يكون بمعنى الإدبار. و إن قيل: تولى إليه يكون بمعنى الإقبال.

و المعنى: انه سيقول السفهاء الذين ضعفت عقولهم و اعترضوا على تحويل القبلة ماذا جرى للمسلمين ان يصرفوا عن قبلتهم التي كانوا عليها - و هي بيت المقدس - التي كانت قبلة الأنبياء باعتقادهم؟!.

و المقام - أي تقديم الإخبار على الاعتراض - من العتاب قبل الجناية، و هو من المحسنات البديعية، و له فوائد كثيرة: منها توطين النفس، و تقليل التأثير، لأن المفاجأة بالمكروه أشد إيلاما من غيرها.

و منها: الإعداد للجواب عن المعترض و مقابلته بالاحتجاج و تلقين الحجة، فيكون أقطع. و منها: بيان أن المعترض متصف بالسفاهة ذاتا من دون أن يكون للاعتراض دخل في ثبوتها. و منها: أن الوقوع بعد الإخبار معجزة له (صلّى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ . هذا هو الدليل لتحويل القبلة و تبديلها، فإن من بيده أزمة أمور التكوين و التشريع و له الحكمة البالغة في جميع الأشياء، و إنّ الجهات بجميعها له تعالى، فلا تحويه جهة خاصة. و إنّ استقبال إحدى الجهات من الأمور التعبدية يجريه بحسب الحكمة و المصلحة، فليس اعتراضهم على تحويل القبلة إلاّ من السفه.

و لا بد أن يكون سبب اعتراضهم هذا أحد أمور كلها باطلة، فإما أن يكون قد زعموا أنّ اللّه تعالى تحويه جهة خاصة، و هي بيت المقدس بحسب زعمهم، أو أن بعض الجهات تستحق الاستقبال لما فيها من الآثار دون

ص: 86

غيرها، أو للعصبية التي عندهم و إعلام النّاس بأن قبلتهم أحقّ أن تتبع من غيرها. و هذه الأمور كلها سببها الجهل بالحكمة الإلهية، و اتباع الهوى.

قوله تعالى: يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ . هذه الآية تعليل للتغيير و التحويل من ان المحول اليه هو الصراط المستقيم و من مورد مشيته الأزلية في هدايته و تقدم في سورة الحمد تفسير كل من الهداية و الصراط المستقيم، فراجع.

قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً . لفظ (كذلك) إشارة إلى ما مضى من جعل هدايته لمن يشاء إلى صراط مستقيم، و هو قرينة لتعيين معنى الوسطية في الجملة، كما يأتي، و الجعل: الإيجاد، و الخلق، و التقدير، و قد استعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يربو على مائة و خمسين موردا، مجردا تارة، كقوله تعالى: جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ [سورة المائدة، الآية: 97]، و مضافا إلى ضمير الخطاب، أو الغيبة أو غيرهما أخرى؛ كقوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً [سورة المائدة، الآية: 48]، و قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً [سورة الفرقان، الآية: 45]، و في الجميع يدل على عظمة الجاعل و جلاله و كبريائه. و الجعل في المقام تشريفي تعظيمي، كما يقتضيه كل جعل يتعلق بالشاهد الأمين.

و الأمة الجماعة، و هي من الألفاظ الإضافية تقع على الكثير و القليل و الأقل، و سياق الآية المباركة بقرينة سائر الآيات الشريفة يدل على أن المراد بها في المقام هو الأخير، كما ستعرف.

و الوسط معروف، فإن أضيف الى ما هو متصل - كالأجسام - أو ما هو منفصل - كالأعداد - يكون معيارا لتعيين الطرفين، و إن أضيف إلى المعنويات يكون معيارا لتمييز مرتبتي الإفراط و التفريط، و عليه تبتنى الفلسفة الأخلاقية.

و تفسيره بخيار الشيء، أو الصلاح و العدل، و الاستقامة و الإستواء لا بأس به، فإن هذه الألفاظ و إن كانت لها مفاهيم متعددة لكنها مظاهر لشيء واحد في الواقع، و في النفس الإنساني. و ذلك لأن الوسط هو المتوسط بين جانبي

ص: 87

الإفراط و التفريط المذمومين؛ و من جوامع كلمات

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خير الأمور أوساطها». و لأجل ذلك فسر الوسط في الأخبار بالعدل، و من المعلوم أن العدالة - التي هي من أهم كمالات النفس - هي المرتبة الوسطى بين مرتبتي الإفراط و التفريط من الملكات النفسانية.

و إذا كان معنى الوسط هو الخيار و العدل و نحو ذلك، فهل تكون جميع الأمة، كذلك، أو أنّ المراد منها بعض الأمة فقط؟ ذهب جمع من المفسرين إلى الأول، و قال إن المراد بالأمة هم المسلمون جميعا، فإن الإسلام قد جمع اللّه فيه بين حق الروح، و حق الجسد، فهي روحانية جسمانية، فليس المسلمون من أرباب الغلو في الدين المفرّطين، و لا من أرباب التعطيل المفرطين.

و لكن الحق أن يقال: إنّ الخطاب موجه إلى البعض فقط، و لا يمكن شموله لجميع المسلمين، و ذلك لعدة أمور:

الأول: إنه من المعلوم أن اللّه تعالى قد ذم أكثر الأمة في آيات كثيرة تارة: بأنهم لا يعقلون؛ و أخرى: بأنهم لا يعلمون، و ثالثة: بأنهم لا يشكرون، و رابعة: بأنهم لا يؤمنون، و خامسة: بأن أكثرهم الفاسقون، أو أكثرهم يجهلون، أو أن أكثرهم، للحق كارهون. و من كان هذه حاله كيف يمكن أن يتصف بالخيار و العدل و كونهم شهداء على النّاس.

الثاني: إنّ المراد بالشهادة في الآية الشريفة ليست الشهادة الجسمانية - تحملا و أداء - بل الشهادة الحضورية المعنوية على أعمال الجوارح و الجوانح إحاطة حضورية من اللّه تعالى في مقام التحمل في الدنيا، و في مقام الأداء في الآخرة، و يستلزم ذلك إحاطة الشاهد إحاطة معنوية من قبل اللّه تعالى، و لا يمكن أن يصل إلى هذه الدرجة كل أحد مع ما هم عليه، فمثل هذه الشهادة تختص بالأقل من أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله). فالشهادة مما تختلف باختلاف العوالم، و إنّ الشهادة على الأمور الظاهرية الدنيوية شيء، و هي بالنسبة إلى النشأة الأخرى شيء آخر.

الثالث: إنه يستفاد من لفظ الوسط - بأي معنى لوحظ - اختصاص الأمة

ص: 88

بالبعض دون الجميع.

الرابع: إنّ سوق الآية المباركة في سياق قصة إبراهيم (عليه السلام)، و اختصاص قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [سورة البقرة، الآية: 128] بالبعض، ثم جعل الشهادة في سياق شهادة الرسول كل ذلك يدل على أن المراد بالأمة قسم خاص منها.

الخامس: إنّ شهادة الفرد في الدنيا تحتاج إلى قيود و شروط في الشريعة، و إلاّ فلا تقبل شهادة كل فرد، فإذا كانت هذه حال الشهادة على الفرد، فكيف تكون الشهادة على النوع في النشأة الآخرة فهل تقبل بلا قيد و شرط؟!!.

السادس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا بعرض أعمال الناس على الشاهد من قبل اللّه تعالى، و إلاّ فلا يمكن أن يتحقق التحمل فلا يترتب الأداء في النشأة الآخرة. و من يعرض عليهم أعمال النّاس عدة مخصوصة، كما ورد في نصوص كثيرة. و بالجملة: أنه لا بد للشاهد على نوع البشر يوم الحشر الأكبر من اطلاعه على صحة أعمال الخلق و فسادها، و التمييز بين جيدها و رديئها، و ذلك لا يكون إلا في طائفة مخصوصة.

إن قيل: إنّ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ وَ اَلشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ [سورة الحديد، الآية:

19] يعم جميع الأمة بلا اختصاص له بطائفة، فليكن المقام نظير هذه الآية المباركة أيضا.

يقال: إنه لا ربط للمقام بالآية الشريفة المتقدمة، فإن المقام في الشهادة على النّاس، و الآية المتقدمة في مقام بيان أن للمؤمن مرتبة الشهادة عند اللّه تعالى، و هما مختلفان، و قد ورد في جملة من الأخبار: «أنّ المؤمن شهيد و لو مات في فراشه».

و من ذلك كله يعرف أن الآية المباركة لا تشمل جميع الأمة. و ما ذكره بعض المفسرين لا شاهد له لا من عقل و لا نقل، بل هو معترف في ضمن

ص: 89

كلامه بأن المراد بالوسط من كان متبعا لشريعة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و انه هو المثال الأكمل لمرتبة الوسط فاقتصر على الأمة التي تكون متبعة للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و إلاّ فليس كل أحد انتحل الإسلام دخل في الآية الشريفة.

و أما إذا كان مراده من تعبيره شرح دين الإسلام من حيث أنه حائز للمرتبة الوسطى بين الجسمانية المحضة و الروحانية الصرفة مع قطع النظر عن المتدين به، فلا ريب في كونه حقا و لكنه خلاف ظاهر الآية المباركة.

و ربما يتوهم أن مقتضى إطلاق الآية المباركة و كونها وردت في مقام الامتنان هو التعميم لجميع الأمة. و لكنه باطل، فإن المراد بالوسط هو الحقيقي منه، كما في نظائره من الصفات - كالإيمان، و الخير، و الصلاح، و العدل، و الصدق و نحو ذلك مما ورد في القرآن الكريم - دون مجرد الإطلاقي الظاهري، و ذلك لا يتحقق إلاّ في المسلم الحقيقي المتصف بحقيقة الإسلام حتّى يكون مفخر الأنام و شاهدا يوم الحساب، و لا امتنان في جعل من لا يعرف من الإسلام إلاّ اسمه، و من الدين إلاّ رسمه، و لا يعلم من القرآن حتّى درسه شهيدا بين الأمم، و لا أظن أحدا يرتضي ذلك.

ثم إنّ جعل اللّه تعالى الأمة وسطا يتصور على أقسام:

الأول: أن يكون من مجرد الجعل التكويني الذي لا اختيار للعبد فيه، كسائر مجعولاته التكوينية، قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ [سورة الاسراء، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية: 30]، و قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَلسَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً [سورة الأنبياء، الآية: 32] إلى غير ذلك من الآيات المباركة مما هو كثير في القرآن.

الثاني: الجعل الاجتماعي الانتظامي المشوب باختيار العبد في الجملة كقوله تعالى: وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا [سورة الحجرات، الآية:

13] و قوله تعالى: فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 66].

ص: 90

الثالث: الجعل الذي يكون تمام سببه كمال العبد في نفسه بينه و بين اللّه تعالى، و هذا القسم كثير في القرآن الكريم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمّا صَبَرُوا [سورة السجدة، الآية: 24].

و الجعل في المقام من هذا القسم، حيث أن أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) هم الوسط في جميع المعارف و الكمالات النفسية، و دينهم هو الحد الفاصل بين الروحانية البحتة و المادية الصرفة و لأجل ذلك صاروا شهداء على النّاس جعلا تفضليا، و لكنه يستلزم الجعل التشريعي الإلهي في المعارف و الأحكام و سائر الكمالات النفسية، إلاّ أن ذلك لا يستلزم كون جميع الأمة شهداء، و توجيه الخطاب إلى النوع و ارادة الصنف شايع في المحاورات العرفية لأغراض و مصالح، و القرآن ورد على هذا الطريق المحاوري المقبول، كما في قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 173] و غيره مما يكون فيه الظهور الاستعمالي العموم، و المراد الحقيقي هو الشخصي الخارجي، كما أن عكسه أيضا صحيح و وارد في القرآن الكريم. قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ [سورة الطلاق، الآية: 1] و ليس ذلك من المجاز في شيء، كما أثبتناه في الأصول، بل هو من شؤون البلاغة و الفصاحة لإفادة فوائد مختلفة.

قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . إنما جيء بلفظ «على» لبيان الإحاطة و الاستيلاء لجميع أعمال المشهود عليهم جليّاتها و خفياتها، فهو (صلّى اللّه عليه و آله) الحجة الإلهية بالنسبة إلى عباده، لأنه الفرد الأكمل في الكمالات الإنسانية و المعارف الإلهية. و تشمل الآية المباركة جميع أنحاء شهاداته (صلّى اللّه عليه و آله) كشهادته بالإبلاغ و إتمام الحجة، و شهادته لبعضهم بالإطاعة و على الآخرين بالمخالفة، و شهادته على أمته بالاستقامة و الانحراف، فهو الشاهد على جميع أمته في عالم الجمع.

و ذكر شهادة الرسول عقيب شهادة الأمة من قبيل ذكر العلة بعد ذكر المعلول، يعني تكونوا شهداء على الناس، لأن الرسول شهيد عليكم بأنّكم

ص: 91

تتصفون - علما و عملا - بما علمكم الرسول (صلّى اللّه عليه و آله). و قد شرح سبحانه هذه الآية شرحا وافيا في آية اخرى قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِرْكَعُوا وَ اُسْجُدُوا وَ اُعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ اِفْعَلُوا اَلْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَ جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اِجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ وَ اِعْتَصِمُوا بِاللّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ [سورة الحج، الآية: 78]. فجعل المناط في الشهادة على الناس و شهادة الرسول عليهم المجاهدة في اللّه حق جهاده، فيصير بعد رد شارحها إلى مشروحها، و مفصلها إلى مجملها هو أن الشهادة على الناس إنما تكون بالمجاهدة في اللّه و الاعتصام به جلت عظمته و كل من كان كذلك فقد اجتباه تعالى، و لا يكون ذلك إلاّ في عدة مخصوصة، و هي مورد دعوة إبراهيم خليل الرحمن و وصاية الأنبياء من بعده، و أهم مقاصد خاتم الأنبياء في تشريع شريعته.

و من ذلك يعلم أنّ مقام مثل هذا الشاهد الذي يحتمل شهادة اعمال الخلائق في الدنيا و أداءها كاملة في العقبى من أجلّ المقامات و ارفعها، إذ لا بد أن يتصف بصفات عالية و يرتقي إلى درجات الكمال حتّى يصل الى هذا المقام، و يتسم بوسام العلم، كما قال تعالى: آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [سورة الكهف، الآية: 65] و لا يليق بذلك الا الأخص من الخواص، كما عرفت.

و الخطاب لجميع الأمة تشريفي بمقتضى السير الاستكمالي في البشر حيث يقتضي أن تكون أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم و أرفعها، و نفس هذا السير التكاملي يقتضي أن يكون في هذه الأمة صنف خاص، و طائفة مخصوصة هي أشرفها و أعظمها؛ فيكون المراد من ذكر الكل هو البعض و هو شايع في المحاورات، و قد تقدم في قوله تعالى: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة البقرة، الآية: 122] أنّ التفضيل باعتبار خصوص أنبيائهم لا جميعهم.

ص: 92

و بذلك يظهر الجواب عما يتوهم من أنّ الوسطية لا تختص بامة خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، بل قد تتحقق في جميع الأمم الماضين، بل مقتضى قوله تعالى: ثُلَّةٌ مِنَ اَلْأَوَّلِينَ وَ قَلِيلٌ مِنَ اَلْآخِرِينَ [سورة الواقعة، الآية: 13] أنها فيهم أكثر، فلا تكون الشهادة منحصرة في أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أو في بعضهم. فان السير التكاملي يقتضي أن يكون خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أشرفهم، و قد برهن بالبراهين الكثيرة أن مقامه مقام جمع الجمع، جامع لجميع مقامات الأنبياء مع الزيادة عليها التي لا يحيط بها إلاّ اللّه تعالى، فهو بدء الخلق و غاية التكوين.

كما أن شرف و رفعة كل أمة بنبيها فتكون أمته (صلّى اللّه عليه و آله) أشرف الأمم، و شريعته أكمل الشرايع الإلهية و أتمها، فيصير العاملون بها شهداء الخلق، للارتباط بين الغاية و ذيها تكوينا، و الواسطة في الإفاضة و ذويها طبعا، فلا يبقى مجال بعد ذلك لغيرهم الذين هم دونهم في الدرجة.

و في الحديث انه قال (صلّى اللّه عليه و آله): «إن لواء الحمد بيدي و آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة».

و ربما يتوهم أيضا أنه لا فائدة في هذه الشهادة، لأنّها إما في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا. أما الشهادة في الدنيا فليس لها أثر؛ و أما في الآخرة فلا فائدة فيها بعد كون اليوم يوم ظهور الحقائق و بروزها يوم تبلى السرائر، و الإشهاد إنما هو لإبراز المخفيات لا ما هو ظاهر للعيان.

الجواب إنّه يقال: إنّ الإشهاد فيهما معا، أما الإشهاد في الدنيا فلأجل بيان أن له العمل. و أما في الآخرة فلابطال ما يعتذر به العبد، و بذلك تتم الحجة عليه، فالشهادة متحققة في المعاد حتّى يقع الخلود في الجنّة أو في النار، فإن كل قضية كثرت اهميتها كان الإحتجاج عليها أشد و لا قضية مطلقا في عالم الوجود أهم من الخلود فانه من أهم قضايا المبدأ و المعاد، و أهم ما يتعلق بأصل العبودية و الربوبية العظمى فلا بد من إتمام الحجة لتمييز الأخيار من الأشرار، و أهل الجنّة من أهل النار، و بذلك تتم الحجة في الدارين لئلا يكون للنّاس على اللّه حجة.

ص: 93

و من ذلك يعلم أنّ الشهادة ليست قولية فقط، بل يحتمل أن تكون تكوينية أيضا؛ و المراد من الأخيرة هي: أن أمة الإسلام بالمعنى المتقدم هي بنفسها تكوينا تكون بارزة بحقائقها و معارفها و أحكامها و تشهد على جميع الأمم و الأديان، كما تشهد الجوهرة النفيسة بين جملة الأحجار أن ليس للأخيرة شأن مقابلها، أو شهادة المؤمن الكامل الإيمان و المعرفة بنفسه على سائر الأفراد بأن ليس لهم شأن، و انه على الصراط المستقيم، و أن ما سواه على غير الصراط فيكون ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية.

ثم إنه يستفاد من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة أنّ الشهداء على الخلائق في يوم المعاد لا تنحصر بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أمته، فإن اللّه تبارك و تعالى أحد الشهداء على بريته، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 231]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ [سورة آل عمران، الآية: 5]، و قال تعالى: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاّ كُنّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة يونس، الآية: 61]. و لا معنى لقدرته التامة، و حكمته البالغة، و قيمومته المطلقة إلاّ ذلك.

و من الشهداء الملائكة، قال تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [سورة ق، الآية: 18].

كما أنّ منهم جوارح كل فرد من أفراد الإنسان، قال تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية:

24].

و منهم الأنبياء، قال تعالى: وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [سورة النحل، الآية: 89].

و من الشهداء القرآن، و الزمان، و المكان و غير ذلك مما يأتي شرح ذلك كله في مباحث الحشر و النشر.

ص: 94

و الإشكال على شهادة هؤلاء الشهداء، بأنها بدون فائدة بعد قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 30]، و قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزال، الآية: 8]. و بعد العيان لا وجه للشاهد و البيان، مع أن جميع الممكنات بجميع أطوارها و شؤونها، و تمام جهاتها و جزئياتها تحت قدرته المطلقة و قيمومته المهيمنة عليها فلا وجه للإشهاد و الشهود. فاسد، يظهر الجواب عنه مما تقدم من أن ذلك كله لرفع الجحد، و إتمام الحجة حسب اختلاف الاستعدادات في النفوس.

قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ . القبلة من المقابلة، و مفهومها قائم أولا بمن يستقبل غيره، فهي الحالة التي يكون عليها المقابل - كالجلسة التي هي حالة الجلوس - ثم شاع استعمالها في نفس الجهة التي يستقبلها النّاس في الصلاة. و لم ترد هذه الكلمة في القرآن إلاّ في آيات تشريع القبلة و تحويلها، و في قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً [سورة يونس، الآية: 87].

و مادة (ع ق ب) تشتمل على معنى التأخر في الجملة، و منه إطلاقها على مؤخر الرجل - إذا كان بفتح الأول و كسر الثاني و سكون الأخير - و على الأولاد و الأحفاد لتأخرهم بالنسبة إلى الآباء ممن تقدمهم، قال تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [سورة الزخرف، الآية: 28] و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الجميع كناية عن الإدبار و الإعراض. و أما

ما ورد في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ويل للأعقاب من النار» فهو كناية عن عدم التحرز و التنزه عما كان يصيب مؤخر الرجل من رشاش البول و غيره مما يضر بالطهارة المشروطة بها الصّلاة و بيان ذلك مذكور في كتب الفقه.

و الآية لبيان بعض الحكمة في جعل القبلة التي كان عليها الرسول قبل

ص: 95

تحويلها إلى غيرها، و ذلك للتمييز بين متابعي الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و الثابت على إيمانه عن مخالفيه و من لاثبات له على الإيمان فارتد على أعقابه، لأن تحويل القبلة إنما كان سببا لظهور طوائف: قوم هداهم اللّه تعالى فآمنوا بالرسول و ثبتوا على إيمانهم، و قوم ارتدوا على أعقابهم، و قوم نافقوا في ذلك. و قد أشار سبحانه و تعالى إلى هذه الطوائف الثلاثة في هذه الآيات المباركة فأراد تعالى أن يميز بين تلك الطوائف و يتميز كل فريق عن صاحبه.

و مثل هذا التعبير- في قوله تعالى: إِلَّا لِنَعْلَمَ في المقام أو «ليعلم» في غيره- في القرآن كثير، كما في قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى [سورة الكهف، الآية: 12]، و قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ [سورة محمد، الآية: 31]، و قوله تعالى: لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: 94]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 166]، و قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [سورة الحديد، الآية: 25] إلى غير ذلك. و من المعلوم أن علمه أزلي قديم و عين ذاته، و لا يتصور فيه التغيير و التجدد و الوجه في هذه التعبيرات أحد أمور:

الأول: إنّ مقارنة علمه تعالى لوجود المعلوم أثر كبير في الزجر و التوبيخ، أو البشارة عند الإنسان.

الثاني: أن يكون المراد بالعلم هو علم الوقوع و الظهور، و أن القضية الحادثة مطابقة لعلمه الأزلي و يترتب عليه الجزاء من الثواب و العقاب.

الثالث: إنّ التعبير بلفظ المستقبل إنما يكون لدفع شبهة الجبر و بيان أن العلم الأزلي ليس علة تامة لحصول المعلوم خارجا، و لا يعتذر العبد بأنه لا يقدر على ترك الفعل، لأنه يلزم الانقلاب في علمه.

الرابع: إنّه لبيان فائدة الإعلام إلى الإنسان بأنّ اللّه تعالى عالم بالأشياء.

الخامس: الجري على عادة العظماء حيث ينسبون حالات أتباعهم

ص: 96

منزلة شؤون أنفسهم، و نسبة فعل الأتباع إلى النفس باب من أبواب البلاغة تترتب عليه فوائد و حكم كثيرة.

السادس: إتمام حجة الإختيار على المخاطبين، و جميع هذه الوجوه صحيحة يمكن الاعتماد عليها في مثل هذا النهج من التعبير، كما في قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ الوارد في أكثر من عشرين موضعا في القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاّ عَلَى اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ . كبيرة أي عظيمة و ثقيلة. و قد وردت مادة (كبر) في القرآن بهيئات مختلفة، و الكبير و الصغير من الأمور الإضافية يتصف بهما جميع الجواهر و الأعراض، بل الاعتباريات أيضا، كما هو معلوم. و يطلق الكبير على اللّه تعالى قال سبحانه: عالِمُ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ اَلْكَبِيرُ اَلْمُتَعالِ [سورة الرعد، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ [سورة الحج، الآية: 62].

و الضمير في «كانت» يرجع إلى القبلة من جهة تحويلها أي: انه عظم أمر القبلة في تحويلها على أهل الكتاب و المنافقين و غيرهم ممن لم يثبت على الإيمان إلاّ أن الذين هداهم اللّه تعالى إلى دينه و هم الذين صدقوا الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و آمنوا به بحقيقة التصديق و الإيمان لم يفرقوا بين القبلة الأولى المحول عنها و القبلة الثانية المحول إليها، و أنهم يعلمون أن ذلك من أمر اللّه تعالى العالم بالمصالح و الحكم، و المبين لعبده ما لم يكن يعلم، فاستسلموا لأمره و أطاعوا رسوله. و في الآية إشارة إلى الطائفتين من الطوائف الثلاثة المتقدمة و هم المنافقون و المؤمنون.

قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ . الضياع الهلاك و الفساد، و الآية المباركة في مقام الجواب عما ارتكز في النفوس عن شأن الأعمال التي تقع على طبق الحجة السابقة إذا تبدلت إلى حجة اخرى؛ فكان الجواب أنها صحيحة و مقبولة لدى اللّه تعالى و يجزي عليها بالجزاء الأوفى.

و في الآية بشارة للمؤمنين و إيماء إلى أن أعمالهم إنما كان مبعثها هو الإيمان باللّه تعالى و التسليم لأمره.

ص: 97

و القول بأنّ المراد من الإيمان - في المقام - هو الصلاة، كما قال به جمع من المفسرين و ورد به الحديث إنما هو من بيان أحد المصاديق و إلاّ فإن سياق هذه الآية يدل على أن المراد به هو معناه المعهود. و قد ورد مفاد هذه الآية في عدة آيات أخرى، قال تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . الرأفة أخص من الرحمة من جهتين: من كونها أشد من الرحمة، و من أنها لا تكاد تقع في الكراهة بخلاف الرحمة. و هما من أسماء اللّه الحسنى و غالب ما تستعمل الكلمة في الدعوات مع الرحيم. و قد وردت في القرآن الكريم كثيرا إما مقرونة باللام - كما في المقام - و اما غير مقرونة به، كقوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207] و هذه الآية في مقام بيان العلة للحكم السابق أي: لا يضيع، إيمانكم لأنه رؤوف رحيم. و إنما ذكر سبحانه الرأفة لتعميمها بالنسبة إلى العاصي و المطيع.

و قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ . مادة راى لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة. و في مضارعها تحذف الهمزة مطلقا، كما في المقام. وسعة استعمال الكلمة تعم الدنيا و الآخرة بل الرؤيا و حتى الحيوانات. و تستعمل بالنسبة إلى اللّه جل شأنه، قال تعالى:

وَ سَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ [سورة التوبة، الآية: 94].

و المعنى الجامع: هو الإدراك بما له من المراتب الكثيرة، فيشمل علم اللّه تعالى و إدراكات المجردات و إدراكات القوى الحاسة الظاهرية و الباطنية، و الوهم، و الخيال، و التفكير و الوجدان، و العلم و الظن كل ذلك بحسب مراتبها.

و التقلب التحول من حال إلى حال، أو التردد المرة بعد المرة، و سمي القلب قلبا لتحوله و تصرفه من حال إلى حال، و المراد به في المقام تحويل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) وجهه المبارك في السماء من جهة إلى أخرى تطلعا للوحي و انتظارا لأوامر اللّه تعالى.

ص: 98

و يستفاد من الآية الكريمة أنه (صلّى اللّه عليه و آله) كان ينتظر تحويل القبلة و كان اللّه تعالى يعلم بأنه (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في قبلة جديدة.

قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها . أي سنأمرك باستقبال القبلة التي ترضاها، و لذا قرنه تعالى بالأمر، و قال عزّ و جل: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . و لا تختص التولية بتشريع الحكم، بل المراد الأعم منه و من تحقق التولية خارجا بواسطة أخذ جبرائيل (عليه السلام) بيد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و توليه إلى المسجد الحرام.

و الآية الكريمة لا تدل على أن القبلة الأولى لم تكن مرضية للّه تعالى و لا لرسوله (صلّى اللّه عليه و آله) بأي وجه من الدلالات؛ فإن إثبات الرضا في استقبال الكعبة لا ينافي ثبوت الرضا في استقبال البيت المقدس ما دام رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستقبله لمصلحة كما جميع التكاليف المنسوخة و المتبدلة لمصالح مختلفة، بل يمكن أن يستفاد من ظاهر الآية أن القبلة الحقيقة هي الكعبة المقدسة التي هي مورد محبته (صلّى اللّه عليه و آله): لأنها أقدم القبلتين و قبلة إبراهيم (عليه السلام) و مجمع العرب و ملاذهم و أهم ما يفتخرون به فكان ذلك مورد خطور قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و محبته و ان لم يظهره على لسانه تأدبا مع ربه، بل كان يردد وجهه الى آفاق السماء منتظرا لما هو المعلوم من إرادة اللّه تعالى و عليه يكون التوجه إلى القبلة الأولى من قبيل التكاليف الامتحانية و الصّلاة إليها قبل التحويل - على فرض عدم تصادف الكعبة في البين - من الصلاة الاضطرارية التي تصلى الى غير القبلة لمصالح كثيرة، منها المماشاة مع اليهود الذين هم ألدّ الخصام، و جلب قلوبهم.

قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . الشطر يطلق على القسم المنفصل من الشيء، أي النصف، و الجزء

و منه الحديث: «السواك شطر الوضوء»،

و قوله (عليه السلام): «من أعان على مؤمن و لو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوبا بين عينيه آيس من رحمة اللّه».

و المراد به هنا النحو و الجهة. و لم تستعمل هذه الكلمة في القرآن الكريم

ص: 99

إلاّ في تشريع القبلة إلى المسجد الحرام. و إنما ذكر المسجد الحرام، لتوسعة الأمر، و أن الاستقبال اليه طريق إلى استقبال الكعبة المقدسة، و إلاّ فإن القبلة هي الكعبة، لنصوص متواترة بين الفريقين كما يأتي في البحث الفقهي.

قوله تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ . تعميم للمستقبلين في جميع أنحاء العالم بأن يولوا وجوههم نحو المسجد الحرام، و تعميم أيضا لجميع الجهات خلافا للنصارى حيث يستقبلون جهة المشرق فقط.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ .

الحق يأتي لمعان متعددة، منها الإيجاد، و الحكمة التامة و مطابقة الواقع، و غير ذلك. و قد ورد في القرآن العظيم بالنسبة الى جميع المعارف من المبدأ و المعاد، و صفات الباري عزّ و جل و أفعاله و تشريعاته المقدسة.

و عن جمع من أعاظم الفلاسفة أن الحق يقال للمطابق للمخبر عنه و للموجود الحاصل بالفعل، و الموجود الذي لا سبيل للبطلان اليه أبدا فهو تعالى حق من حيث ذاته و صفاته و أفعاله و جميع شؤونه، و قد خصص بعض أكابرهم في شرح هذه المادة صفحات من كتابه الكريم و كلها تنطبق على المعارف الربوبية.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من أربعمأة مورد، فسبحان الذي يكون هو أصل الحق و منبعه و مرجعه. و لا حق غيره و ما سواه باطل.

و قد عد الحق من أسماء اللّه الحسنى، و ينبعث شعاعه إلى جميع تشريعاته المقدسة. و لا يخلو الحق عن الحقيقة بخلاف الباطل،

ففي الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «على كل حق حقيقة و على كل صواب نور».

ص: 100

و المعنى: إنّ أهل الكتاب بعد التفاتهم إلى كتبهم المنزلة عليهم من التوراة و الإنجيل ليعلمون أن كون الكعبة قبلة هو الحق من ربهم أو ليعلمون أنها قبلة إبراهيم (عليه السلام) المتفق بينهم أن ملته هي الحنيفية التي أمروا باتباعها.

و ما ذكره جمع من المفسرين من إرجاع الضمير في قوله جلّ شأنه: أَنَّهُ اَلْحَقُّ إلى دين الإسلام صحيح أيضا، لأنه من باب بيان الكبرى، و ما ذكرناه بيان لإحدى الصغريات.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا يَعْمَلُونَ . الغفلة: تستعمل في عدم التحفظ على الشيء و الاهتمام به، و مثل هذا المعنى محال بالنسبة إلى العالم الحكيم المدبر على نحو الحكمة التامة البالغة، لأن الحضور الفعلي الإحاطي من جميع الجهات مع الغفلة عنه خلف عقلا.

و يتصف بها الإنسان و تكون من أرذل صفاته التي تجعله في عرض الحيوان، قال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]. و يتصف الزمان و المكان بها، كما ورد في الأسواق، و سيأتي عند قوله تعالى: عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها [سورة القصص، الآية: 15] بعض أزمنة الغفلة.

و المعنى: أنه لا يعقل الغفلة عن كليات الأمور و جزئياتها بالنسبة إليه تعالى. و في الآية المباركة تهديد بالنسبة إلى مرتكب السيئات، و يصح أن يراد بعدم الغفلة عدم الغفلة العملية، أي: يجزي على الحسنات بالجنّة كما يجزي على السيئات بالنّار.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ . الآية هي الحجة و البرهان الواضح و هي إنما تنفع لرفع الجهل البسيط، و أما الجهل المركب فهو داء لا يقبل العلاج لا سيما إذا كان قرين العناد و اللجاج خصوصا إذا كان المورد مما يصح نسبته الى الدين السماوي.

و حينئذ يتضح الوجه في هذه الآية الشريفة، و مضمونها دليل عقلي وجداني لا يختص بعصر التنزيل، و لا بطائفة خاصة.

ص: 101

و المعنى: و لئن جئتهم بكل برهان و حجة على صدقك ما تبعوا قبلتك، و لم يعترفوا بملتك، فقد تمكن منهم الجهل و غلب عليهم العناد و اللجاج بارتكابهم السيئات، فلم يوفقهم اللّه تعالى للإيمان بك.

قوله تعالى: وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ . بعد ما أيأس سبحانه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من اتباعهم لقبلته أراد سبحانه و تعالى إياسهم من اتباعه قبلتهم بعد ما اتضح الحق، و أن قبلته (صلّى اللّه عليه و آله) أولى بالاتباع خصوصا بعد ما أمر بالتوجه إلى شطر المسجد الحرام، و لا وجه لمتابعة قبلة أوجب اللّه تعالى الانحراف عنها و أكد فيه التأكيد البليغ.

و يمكن أن يريد منه بيان بطلان أصل المتابعة، لأنه بعد وضوح بطلان شيء كيف يعقل على العاقل الحكيم متابعته، فيكون مفاد هذه الآية كالآية السابقة.

قوله تعالى: وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ . أي أن أهل الكتاب على خلاف و عناد في أمور دينهم فلا اليهود تتبع قبلة النصارى و لا هؤلاء تتبع قبلة اليهود، فإن كلاّ منهما يرى قبلة صاحبه باطلة، فكيف يتوجه إلى الباطل و يستقبله، و قد أعمى الجهل بصيرته فلا يتبع ما هو صالح واقعا.

قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ . قضية عقلية برهانها معها، أي: إنه إذا ثبت أنك على حق - كما هو الواقع - و كل من خالف الحق بعد ثبوته هو ظالم، فانك لو خالفته لكنت من الظالمين. و قد ثبت في محله. أن صدق القضية الشرطية بصدق النسبة بين الطرفين لا بتحقق موضوعها في الخارج.

و الخطاب موجه إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) تعظيما و تشريفا لأنه المشرع المسؤول عن الأمة في يوم المعاد، و قطعا لأطماعهم بأنه لا يتبع أهواءهم، و إلاّ فحقيقة مثل هذه الخطابات العقلية تكون لجميع العقلاء في القرآن الكريم بلا اختصاص لها بأحد، و لا بزمان دون آخر، و إلى ما ذكرنا يشير ما ورد في الحديث: «أنّ القرآن نزل على طريقة إياك اعني و اسمعي يا جارة». و في الآية توعيد و توبيخ لهم و تبكيت لهم بأنهم أصحاب أهواء

ص: 102

باطلة، و أنهم ليسوا على العلم و أن ادعوه.

ثم إنّه لا بد من الاعتبار من مثل هذه الآيات فإن الخطاب بهذا النحو يكون لأشرف خلقه و أعلاهم مقاما عند اللّه تعالى و إنما أفرده بالخطاب مع ان المراد به غيره من أمته، إعلاما بأن أمته لا بد لهم من متابعته و أن لا يؤثروا على الحق شيئا، و لا يتبعوا أهواءهم و يطلبوا مرضات غير اللّه تعالى. و إيذانا بأن مثل هذا الذنب - و هو متابعة الهوى - من الذنوب التي لا تغفر و لو كان صادرا من أعلى فرد و أقربهم إلى اللّه عزّ و جل.

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام) «يغفر للجاهل سبعون ذنبا قبل أن يغفر للعالم ذنب واحد»، و الأخبار في ذلك متواترة، و السيرة دالة عليه أيضا، و يأتي التفصيل إن شاء اللّه تعالى بعد ذلك.

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من مجموع هذه الآيات الشريفة أمور:

الأول: أنّ التعبير بالسفهاء في مطلع الآيات يشعر بأن أصل الاعتراض إنما نشأ عن السفاهة و الجهل، زعما منهم أن الحكم النوعي إذا حصل من اللّه عزّ و جل لا بد و أن لا يتغير و لا يزول، و أن نسخه يستلزم الجهل، و هذا هو الاعتراض الذي يبتني عليه إنكار النسخ عند اليهود، و قد أوضحنا المقال فيه في ما تقدم من مباحث هذا الكتاب، فراجع آية 106 من سورة البقرة.

الثاني: في قوله تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ إشارة إلى أنّ تحويل القبلة كان من ناحية الشمال الغربي إلى نقطة الجنوب.

الثالث: أنّ الوسطية صفة ممدوحة حسنة، و لذا اختارها اللّه سبحانه و تعالى في القرآن دون غيرها من الصفات الحسنة، و لا يتصف بها كل الأمة بالعيان و الوجدان فإن جمعا منهم في طرف العصيان، فلم تتحقق الوسطية بالدليل و البرهان.

الرابع: إنّ ذكر الوسط في الآية المباركة وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً

ص: 103

وَسَطاً بنفسه قرينة على تخصيص الأمة بالبعض دون الجميع، لأنه بأي معنى لوحظ ظاهر في التخصيص.

الخامس: لا بد في أداء الشهادة النوعية في الآخرة من أن يكون تحملها في الدنيا، و لا يتحقق ذلك إلاّ بعرض أعمال الناس، و التمييز بين جيدها و رديئها على الشاهد من قبل اللّه تعالى. و إلاّ فلا يتحقق التحمل فلا يترتب عليه الأداء. و من يعرض عليه أعمال النّاس عدة خاصة، للنصوص الكثيرة الدالة عليه،

و في بعض النصوص: «هم اللب و الأمة بمنزلة القشرة».

السادس: يظهر من هذه الآية لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً بضميمة قوله تعالى: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ [سورة الكهف، الآية: 51] نحو ملازمة بين الإشهاد على مبدأ الخلق و الإشهاد في المعاد، فإن من كان له الاستعداد لأن يشهد المبدأ، شهودا علميا إفاضيا من اللّه تعالى له الاستعداد أن يشهد على أعمال الخلائق في المعاد.

السابع: أنّ في قوله تعالى: فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها إيماء إلى أن القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة و القبلة الأولى كانت من التكاليف الامتحانية أمر بالتوجه إليها لمصالح خاصة على ما تقدم، كما يستفاد من ظاهر الآية المباركة أنها نزلت قبل تحوله (صلّى اللّه عليه و آله) إلى الكعبة، و أنها بمنزلة الوعد، و لذا قرنها بالأمر، و قال جل شأنه: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

الثامن: أنّ في تخصيص النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالخطاب في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ثم تعميمه لجميع المسلمين في قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ نوع تشريف لمقام النبوة، و لزيادة الاهتمام بالموضوع و التأكيد عليه، بغية الإلفة و الاجتماع و نبذ الفرقة و الاختلاف.

التاسع: ربما استدل بعضهم بمثل هذه الآيات على حرمة التأمل في علل الأحكام و السؤال عنها، لأنها تعبديات محضة، و العقل قاصر عن الوصول

ص: 104

إليها، و لا بد من الانقياد في جميع الأحكام.

و هذا الاستدلال على إطلاقه باطل لا وجه له؛ و الآيات المباركة أجنبية عن ذلك، و ما ذكره مخالف للآيات الكثيرة الآمرة بالتفكر و التعقل في ما يتعلق بالمبدأ، و المعاد، و تكميل النفس، و فهم الأحكام و دركها من أهم وجوه تكميل النفس، و لقد ذم سبحانه و تعالى قوما بقوله جل شأنه: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قد وردت في السنّة المقدسة نصوص كثيرة تبين المصالح و المفاسد و الحكم الكثيرة للأحكام الشرعية و قد جمعها المحدثون من الفريقين في كتب مستقلة ممتعة و نافعة من شاء فليراجعها.

فالسؤال عن الأحكام و عللها و حكمها صحيح و لا بأس به، بل حيث عليه الشارع. نعم مثل هذا السؤال يكون على أقسام:

فتارة يكون السؤال لأجل التعليم و الإعتقاد و العمل به. و أخرى: يكون لأجل العلم الإجمالي بأن الأحكام الإلهية تنشأ عن الحكم و المصالح بنحو الإجمال، و هذان القسمان لا بأس بهما. و ثالثة: يكون السؤال لأجل التشكيك به في الأحكام و تطبيق المصالح و الحكم على ما يوافق الأهواء مما اكتشف في هذه الأعصار، و هذا القسم باطل، إذ أن المكتشفات تتغير بمرور الزمن، و اتساع رقعة العلم و تطبيق الحكم عليها يوجب التغيير في الأحكام و الجرأة على ردها، و هذا مما لا يرتضيه أحد، و الآيات الشريفة على فرض تمامية دلالتها تدل على هذا القسم.

العاشر: أنّ إضافة القبلة الى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله تعالى: ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ إضافة تشريفية و إلاّ فالكعبة قبلة إبراهيم (عليه السلام) و قبلة جميع المسلمين: و فيه إيماء إلى أنه كان معهودا عندهم،

و في بعض الأحاديث: «انه كان في بشارة الأنبياء لهم - أنه يكون بين صفاته كذا و كذا - و أنه يصلي إلى القبلتين».

الحادي عشر: إنما ذكر الوجه في قوله تعالى: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ، و قوله تعالى: فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ، لأن الوجه أشرف أعضاء الإنسان و أجلها، و لذا يطلق و يراد به الإنسان نفسه من باب

ص: 105

استعمال البعض في الكل، لأهمية ذلك البعض أولا، و تقوّم أكل به ثانيا، و الإضافة إلى الذات و سقوط سائر الإضافات ثالثا. و عليه فالاختلاف بين العلماء في معنى الوجه ليس اختلافا حقيقيا، و إنما هو لأجل الكشف عن الذات، فقول الفقهاء في الوجه في المقام بأن المراد به هو مقاديم البدن إنما ذكر بنحو الكشف عن الذات و النفس الذي هو قول الفلاسفة، كما أن قول اللغوي فيه بأنه الجارحة الخاصة أي تلك الجارحة الحاكية عن الذات أيضا، و ليس المراد به الموضوعية الخاصة و إلاّ كان لغوا و باطلا إلاّ إذا دلت القرينة على أن المراد به الموضوعية الخاصة، كما في آية الوضوء و نحوها.

و حينئذ يصح أن يقال: بأن المراد بالوجه هو توجيه الأعضاء إلى أوامر اللّه تعالى الكاشف عن توجيه الذات إليها على نحو يسري الخضوع و الخشوع على سائر الأعضاء من الذات الخاضعة، و ليس المراد هو توجيه الأعضاء فقط الذي يجل مقام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و سائر عباد اللّه المخلصين عن ذلك، و آية الوضوء و إن أخذ الوجه فيها على نحو الموضوعية لكن من حيث اعتبار القربة في الغسلات و المسحات المنبسطة على الذات لوحظ بنحو الطريقية أيضا. هذا إذا استعمل اللفظ في الإنسان، و أما إذا استعمل في اللّه عزّ و جل، فيأتي شرحه في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ في السماء أنه (صلّى اللّه عليه و آله) في جميع حالاته يطلب رضاء اللّه تعالى و ينتظر أمره، و أن طلبه - بلسان الحال دون المقال، لكونه أقرب إلى أدب العبودية و ابلغ إلى نيل المقصود.

ثم إنّ للتوجه إلى الكعبة المقدسة نحو ابتهاج للكعبة ابتهاجا معنويا لأن التوجه في العبادة إليها، و الطواف حولها كاشف عن غاية عناية اللّه تعالى بها.

و هي نهاية الابتهاج لكل موجود، و يشهد له ما ورد في توجيه الموتى عند الدفن إلى الكعبة

ففي الحديث: «كان البراء بن معرور الأنصاري بالمدينة و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة و أنه حضره الموت و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و المسلمون يصلون إلى البيت المقدس فأوصى البراء إذا

ص: 106

دفن أن يجعل وجهه تلقاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى القبلة فجرت به السنة».

بحث علمي:

للّه تعالى أسماء عبر عنها بالأسماء الحسنى، قال اللّه تعالى: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة الأعراف، الآية: 180]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [سورة طه، الآية: 8]. و قد وردت في شأنها و إحصائها أخبار كثيرة من الفريقين، سيأتي التعرض لها في محله إن شاء اللّه تعالى. و قد وضعوا في شرحها كتبا من العامة و الخاصة، و من تلك الأسماء المقدسة (الرؤوف)، كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و ورد في الآيات المتقدمة: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . و اللفظ من صيغ المبالغة، و لا مبالغة بالنسبة إليه عزّ و جل؛ لأن صفاته الجمالية و الجلالية غير متناهية من كل جهة كذاته الأقدس، فالمبالغة من جهة الإضافة إلى المتعلق.

و الرؤوف من صفات الذات لا من صفات الفعل، و قابل للتشكيك شدة و ضعفا باعتبار المتعلق لا باعتبار الذات.

و الرأفة بالمعنى اللغوي لا يمكن إطلاقها عليه تعالى، و هي بمعنى اللطف بعباده و التساهل معهم، و لا تكاد تستعمل في الكراهة بخلاف الرحمة فإنها قد تكون في الكراهة للمصلحة. و لم تستعمل في القرآن الكريم - غالبا - إلاّ مقرونة مع الرحمة و مقدمة عليها كذلك في أغلب الدعوات المأثورة أيضا و هي أرق منها. فيكون من تقديم الخاص على العام، لأن الرحمة نحو محبة خاصة تستعمل غالبا في دفع المكروه و إزالة الضرر عن الغير.

و الرأفة تستعمل غالبا في إيصال النفع إليه، فيكون معنى قوله تعالى:

لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ أي يدفع المكاره و المضرات و يوصل المنافع و هما من مظاهر ربوبيته العظمى و قيموميته المطلقة على جميع ما سواه..

كما أنّ غالب استعمالاته إنما هو بالنسبة إلى ذوي العقول و العباد

ص: 107

و المؤمنين، و لم نجد في القرآن العظيم استعماله بالنسبة إلى سائر الخليقة من الحيوان و النبات.

و حقيقة معنى الرأفة مما يدرك و لا يوصف خصوصا إذا أضيفت اليه عزّ و جل، كسائر الصفات المضافة إليه تعالى، و جميع ما ذكره اللغويون و الأدباء و تبعهم المفسرون قول من وراء الحجاب لا يصلح لإزالة الشك و الارتياب، فحقيقتها مجهولة و إن كانت أخصيتها من مطلق الرحمة معلومة. و الرأفة تستعمل في المخلوق أيضا، قال تعالى: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [سورة النور، الآية: 2]، و في بعض الدعوات المأثورة (يا أرأف من كل رؤوف)، و تأتي تتمة المقال في سائر أسماء اللّه الحسنى في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الآيات المباركة المشتملة على الرأفة على أقسام بعضها مطلقات، كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 7]، و قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة الحشر، الآية: 10]. و بعضها الآخر ذكر فيه النّاس، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 143]. و في ثالث ذكر فيه العباد، قال تعالى: وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207]، و قد ذكر المؤمنين أيضا، قال جل شأنه: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]. و ليس ذلك من التقييد في شي ء، فإن ما سواه تعالى مورد رأفته و رحمته حدوثا و بقاء، و ذكر النّاس أو العباد، أو المؤمنين إما لأجل ذكر الفرد الأهم، أو لأجل بيان مراتب الرأفة الكثيرة. اما أن المرؤوف بهم أيضا كذلك.

بحث روائی:

القمي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ. قال (عليه السلام): «تحولت القبلة إلى الكعبة بعد ما صلّى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بمكة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس و بعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال (عليه السلام):

ص: 108

ثم وجهه اللّه إلى الكعبة، و ذلك أن اليهود كانوا يعيّرون على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقولون له: أنت تابع لنا تصلي إلى قبلتنا فاغتم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من ذلك غما شديدا و خرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء ينتظر من اللّه في ذلك أمرا، لما أصبح و حضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بني سالم قد صلّى من الظهر ركعتين فنزل عليه جبرائيل و أخذ بعضديه و حوله إلى الكعبة، و أنزل عليه قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ . و كان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدس و ركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود و السفهاء:

ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها .

أقول: قريب منه ما رواه الشيخ في التهذيب إلاّ أن فيه: «و تسعة عشر شهرا بالمدينة».

و في الدر المنثور عن البراء «لما قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستة عشر شهرا، أو سبعة عشر شهرا، و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يحب أن يوجه نحو الكعبة، فأنزل اللّه تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ - الآية -. و قال السفهاء من النّاس - و هم اليهود - ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ قال اللّه تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلْمَشْرِقُ وَ اَلْمَغْرِبُ .

و رواه البخاري عن عبد اللّه بن رجاء. و في صحيح مسلم نحوه إلاّ أن المدة ستة عشر شهرا.

أقول: الروايات في ذلك من طرق الخاصة و العامة متواترة في الجملة، و المشهور ان تاريخ الواقعة كان في النصف من شهر شعبان الشهر السابع عشر من الهجرة؛ و يأتي بعض الكلام في المباحث الآتية.

و في الكافي عن بريد العجلي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام): نحن الأمة الوسطى، و نحن شهداء اللّه على خلقه و حججه في أرضه. قلت: قول اللّه عزّ و جل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . قال (عليه السلام): إيانا عنى خاصة هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت، و في هذا القرآن يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . فرسول اللّه الشهيد علينا بما بلغنا عن اللّه عزّ و جل، و نحن الشهداء على النّاس، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة، و من كذّب كذبناه يوم القيامة».

ص: 109

و في الكافي عن بريد العجلي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام): نحن الأمة الوسطى، و نحن شهداء اللّه على خلقه و حججه في أرضه. قلت: قول اللّه عزّ و جل مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ . قال (عليه السلام): إيانا عنى خاصة هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ في الكتب التي مضت، و في هذا القرآن يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً . فرسول اللّه الشهيد علينا بما بلغنا عن اللّه عزّ و جل، و نحن الشهداء على النّاس، فمن صدّق صدقناه يوم القيامة، و من كذّب كذبناه يوم القيامة».

و في الكافي أيضا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . قال (عليه السلام):

«نحن الأمة الوسط و نحن شهداء اللّه على خلقه».

أقول: الروايات في ذلك متواترة و ما ورد في الروايات فانه من باب التطبيق، و قد تقدم وجهه.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً إلى آخر الآية. قال (عليه السلام): «فإن ظننت أن اللّه عنى بهذه الآية جميع أهل القبلة من الموحدين، أفترى أن من لا تجوز شهادته في الدنيا على صاع من تمر يطلب اللّه شهادته يوم القيامة، و يقبلها منه بحضرة جميع الأمم الماضية؟! كلا!! لم يعن اللّه مثل هذا من خلقه، يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ ، و هم الأمة الوسطى، و هم خير أمة أخرجت للنّاس».

و في المناقب عنه (عليه السلام): «إنما أنزل اللّه: و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على النّاس و يكون الرسول شهيدا عليكم. قال (عليه السلام): و لا يكون شهداء على النّاس إلاّ الأئمة و الرسول. فأما الأمة فإنّه غير جائز أن يستشهدها اللّه و فيهم من لا تجوز شهادته في الدنيا في حزمة بقل».

أقول: ذلك ظاهر لكل من تأمل في الجملة على الفرد، فكيف بالجماعة فضلا عن النّاس جميعا.

و في قرب الأسناد عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «مما اعطى اللّه أمتي و فضلهم على سائر الأمم الماضية أعطاهم ثلاث خصال لم يعطها إلاّ نبي: و كان إذا بعث نبيا جعله شهيدا على

ص: 110

قومه؛ و إنّ اللّه تبارك و تعالى جعل أمتي شهيدا على الخلق حيث يقول: لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ - إلى آخر الحديث -».

أقول: لا بد من حمله على ما تقدم من الروايات المفصلة بقرينة ذكر التعليل فيها، بل المنساق من الرواية هي الأمة المسلمة فقط، كما مر.

و في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث يصف فيه يوم القيامة، قال (عليه السلام): «يجتمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إلاّ من أذن له الرحمن و قال صوابا، فيقام الرسول فيسأل، فذلك قوله تعالى لمحمد (صلّى اللّه عليه و آله): فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً . و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل».

أقول: وجه شهادته على جميع الرسل انه غاية الكل و الغاية مفضلة على ما سواها فهو مقدم عليهم علما، و إن كان مؤخرا عنهم في الوجود الخارجي، كما ثبت ذلك في علم الفلسفة.

عن الشيخ في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ أمره به؟ قال (عليه السلام): نعم إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقلب وجهه في السماء فعلم اللّه ما في نفسه، فقال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ».

أقول: سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بالرواية.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ . قال (عليه السلام): «قال المسلمون للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ رأيت صلاتنا التي كنّا نصلي إلى بيت المقدس؟ فأنزل اللّه تعالى وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ - الآية - فسمى الصّلاة إيمانا، فمن اتقى اللّه عزّ و جل حافظا لجوارحه

ص: 111

موفيا كل جارحة من جوارحه بما فرض اللّه عليه لقى اللّه مستكملا لإيمانه من أهل الجنّة، و من خان في شيء منها، أو تعدى ما أمر اللّه فيها لقى اللّه تعالى ناقص الإيمان». و قريب منه في الكافي.

أقول: الحديث محمول على المرتبة الكاملة من الإيمان.

و في الدر المنثور: «كان من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ماتوا على القبلة الأولى جائت عشائرهم، فقالوا: يا رسول اللّه مات إخواننا و هم يصلون إلى القبلة الأولى و قد صرفك اللّه تعالى إلى قبلة إبراهيم، فكيف بإخواننا؟ فأنزل اللّه وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ - الآية -».

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا استقبلت القبلة بوجهك فلا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه عزّ و جل قال لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله) في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ و اخشع ببصرك، و لا ترفعه إلى السماء - الحديث -».

أقول: الحديث وارد في آداب الصلاة. و يمكن أن يكون المراد بالفريضة أنها كانت منشأ جعل الآداب في الصّلاة، لا أن تلك الآداب مختصة بها فقط. و قد ذكر التفصيل في الفقه، فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

و عن العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) أيضا قال: «استقبل القبلة بوجهك و لا تقلب وجهك عن القبلة فتفسد صلاتك، فإن اللّه يقول لنبيه في الفريضة: فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ ».

أقول: تقدم ما يتعلق بالحديث.

و في أسباب النزول عن البراء قال: «صلينا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم اللّه عزّ و جل هوى نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها ». و رواه البخاري عن

ص: 112

أبي نعيم، و رواه مسلم عن أبي الأحوص.

و في الفقيه: «أن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) صلّى إلى بيت المقدس ثلاث عشرة سنة بمكة و تسعة عشر شهرا بالمدينة - الحديث -».

أقول: الروايات في مدة الصّلاة إلى بيت المقدس مختلفة، و المشهور أنها سبعة عشر شهرا في المدينة و تأتي تتمة الكلام في بحث مستقل.

بحث فقهي:

الوارد في الآيات المباركة إنما هو لفظ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

و الشطر - في اللغة و العرف - جهة الشيء و نحوه، كما تقدم، و لم يبين الشارع الأقدس في هذا الأمر النوعي العام البلوى خصوصية خاصة غير لفظ الشطر و التولي و التحول و نحو، و أمثالها في السنة الشريفة، و المرجع في معاني هذه الألفاظ هو العرف، لأنه المحكم في كل ما لم يرد فيه تحديد شرعي، كما هو المتبع في الفقه. و ما ورد من العلامة في القبلة من الجدي و نحوها - كما ذكر في الفقه - مجملة أيضا ليس لها كلية و ليس من عادة الشرع الإيكال إلى مثله في الأمور العامة البلوى، فهو أيضا من قرائن كون الموضوع عرفيا، فلا يعتبر إلاّ صدق التوجه و التولي شطر القبلة عرفا من دون الابتناء على الدقة العقلية، و لأجل ذلك ذهب جمع من الفقهاء إلى جواز الاعتماد على ما يصممه خبراء الهيئة الموثوق بهم في تعيين القبلة.

ثم إنّ المعروف بين المسلمين أنّ القبلة هي الكعبة، و قد دلت عليه الأخبار المتواترة بين الفريقين،

ففي صحيح البخاري عن ابن عمر، أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ركع ركعتين في قبل الكعبة، و قال (صلّى اللّه عليه و آله) هذه القبلة».

و في جوامع أخبار العامة في حديث تحويل القبلة أنه كان الى الكعبة.

و أما عن الخاصة فقد وردت أخبار كثيرة تدل على أن الكعبة هي القبلة، و في أكثرها أن الكعبة هي القبلة المحول إليها،

ففي صحيح معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «كان يصلي في المدينة إلى بيت

ص: 113

المقدس سبعة عشر شهرا ثم أعيد إلى الكعبة»،

و في رواية أخرى «أنها قبلة من تخوم الأرض إلى عنان السماء».

و إنّما ذكر المسجد الحرام في الآيات الشريفة لأجل إظهار شأنه و عظمته للنّاس، مع إطلاق المسجد على الكعبة أيضا، اطلاق الكل على الجزء، فيجمع بين ما دل على التوجه الى المسجد و المتواترة الدالة على أن القبلة هي الكعبة أن المسجد الحرام ذكر بعنوان الطريقية الى الكعبة المقدسة.

و في بعض الأخبار: «أن الكعبة قبلة لأهل المسجد، و المسجد قبلة لأهل الحرم، و الحرم قبلة لأهل العالم» و لا معنى لذلك إلاّ الطريقية الصرفة، و المسألة فقهية تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث أدبي:

قد وردت «اللام» في خمسة موارد من الآيات الشريفة المتقدمة مما زاد في بلاغتها و جمالها:

(الأول): لام التعليل في قوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ . المعبر عنها في اصطلاح الأدباء بلام «كي».

(الثاني): لام الابتداء.

(الثالث): لام تأكيد الإثبات في قوله تعالى: وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ .

(الرابع): لام تأكيد النفي في قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ .

(الخامس): لام القسم في قوله تعالى: اَللّهَ بِالنّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ ، و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ .

و «قد» في قوله تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ للتكثير كما في قول الشاعر:

قد أشهد الغارة الشعواء تحملني *** جرداء معروفة اللحيين سرحوب

ص: 114

و «كان» في قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها منسلخة عن الزمان، و إنما جيء بها لبيان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) صاحب القبلتين، و ليترتب عليه قوله تعالى: إِلاّ لِنَعْلَمَ فلا تنافي بين ظواهر الآيات المباركة، كما زعمه بعض المفسرين.

و قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مؤكدة بأنحاء التأكيدات المحاورية من لام القسم، و إن الشرطية الظاهرة في فرض التحقق فضلا عن أصله، ثم لام التأكيد، ثم تعريف الظالمين و الجملة الاسمية و غير ذلك.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون: أن أدوات الشرط مثل «إن» و «لو» و نحوهما تدل على عليّة المقدم للتالي، أي: انتفاء التالي عند انتفاء المقدم، و رتبوا على ذلك ثبوت المفهوم للجمل الشرطية على ما فصل ذلك في علم الأصول. و هذا من موارد اشتباه العنوان الكلي ببعض المصاديق الخارجية، فإن أدوات الشرط مطلقا، و ما يرادفها من سائر اللغات لا يستفاد منها إلاّ جعل متلوها مورد الفرض و التقدير، و الترتب بأي قسم من أقسامه. و أما خصوص ترتب المعلول على العلة فلا بد في استفادته من التماس دليل آخر عقلا، أو نقلا فضلا عن العلية التامة المنحصرة.

و في المقام يدل العقل و النقل على أن متابعة الهوى بعد ظهور الحق، و ثبوته ظلم فيكون أصل الترتب ظاهرا من سياق الجملة، و العلية التامة المنحصرة ثبتت بالدليل العقلي و النقلي، بل من ظاهر التأكيد في الآية المباركة بلام القسم، كما عرفت.

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) ا.......

اشارة

اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا

ص: 115

تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) هذه الآيات مرتبطة مع سابقتها فيما يتعلق بتشريع القبلة و أن أهل الكتاب أيضا يعرفون الحق، و أن الكعبة هي القبلة، و قد أقام سبحانه و تعالى الحجة عليهم بأتم حجة و أبلغ بيان، ثم بيّن تعالى أن كلا منهم متعبد بشريعته و أن القبلة من الأمور المعتادة عندهم و أمرهم بالاستباق إلى الخيرات و التسليم لأمره ثم أمر نبيه و أمته باستقبال الكعبة أينما كانوا و الخشية منه، و أخيرا ذكر سبحانه و تعالى أن تشريع القبلة إنما كان لأجل إقامة الحجة على النّاس، و بطلان حجة الخلاف و التمييز بين الحق و الباطل، و بذلك أتم نعمته عليهم.

التفسير

قوله تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ . هذه الآية بيان لقوله تعالى: لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ . أي أنّ علمهم بالحق و معرفتهم به إنّما هو لأجل معرفتهم بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و صفاته؛ كما نطقت بها كتبهم بحيث لا تنطبق على غيره فلا يبقى مجال للشك فيه.

فكما أن القران العظيم يشتمل على ذكر الأنبياء السابقين (عليهم السلام) خصوصا أولي عزمهم، و على ذكر الكتب السماوية و لا سيما التوراة و الإنجيل - كذلك شأن سائر الكتب السماوية فإنها تشتمل على ذكر نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و نعوته و صفاته، بل الاسم الذي سمي به، لأن المبدأ و المعاد في الجميع واحد، و أنهم جميعا يشتركون في الدعوة إلى معبود واحد، و متفقون في الغرض من دعوتهم، فلا بد أن يبشر السابق باللاحق، و أن يذكر اللاحق حالات السابق، و أن ينوّه باسمه و يذكّر أمته بما جرى عليه و على أمته، و هذه سنّة اللّه تعالى في الإنسان، بل ذلك من مقتضيات المجتمع

ص: 116

الإنساني الذي يهتم بحفظ المجتمع و وحدته، و يعتني بأفراده بحيث يجعل الجميع كنفس واحدة في ما لهم و ما عليهم، فالآية المباركة تبين الحكم الفطري في المجتمعات في أن كل سابق يخبر باللاحق؛ و الأخير يؤيد السابق حتّى تتحقق الوحدة الاجتماعية و يبقى التآلف و الترابط بين أفراد المجتمع قائما.

و المستفاد من سياق الآية أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ راجع إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنه (صلّى اللّه عليه و آله) مذكور في الكتب السماوية بأوصافه، و نعوته، و حالاته، و يشهد له التشبيه في قوله تعالى: كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ .

و يستفاد من الآية المباركة أمور:

أحدها: إنها تشير إلى أنهم نشأوا على معرفة بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله) كما ينشأ الأب على معرفة ابنه و إن غاب عن أبيه مدة طويلة، و هو مقتضى إتمام الحجة عليهم.

ثانيها: إنها تشير إلى وجود المعرفة القلبية التكوينية لو لم يمنعها اللجاج و العناد.

ثالثها: إنها تشير إلى قبح الإنكار بعد وضوح الأمر.

رابعها: إنها تشير إلى أنّ الابن لمّا كان نتيجة سعي الوالدين و جهودهما، كذلك تكون شريعة خاتم الأنبياء نتيجة خلق العالم، و جهود الأنبياء و المرسلين، و سعي الأمم الماضين، و هو مقتضى السير التكاملي في الإنسان.

خامسها: الإشارة إلى الترغيب إلى لزوم العناية بشأن خاتم الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) كما يعتني الآباء بالأبناء نتيجة أعمارهم.

ثم إن عود الضمير إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يلازم معرفة أحكامه إجمالا، و انها من اللّه تعالى. و من ذلك يعرف أنه لا وجه للنزاع في أن الضمير في قوله تعالى: يَعْرِفُونَهُ يرجع إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، أو إلى

ص: 117

تحويل القبلة، أو إلى الكتاب لأن مرجع الكل إلى واحد على نحو الإجمال.

قوله تعالى: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ . المراد بالحق هنا هو ما بيّنه اللّه تعالى في الكتب السماوية من أوصاف النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و نبوته، و جملة كثيرة من معارف الإسلام و شريعته التي منها قبلته.

و نسب الكتمان إلى فريق منهم دون الجميع، لأنهم بين معترف بالحق و مؤمن بالنبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و بين من شهد بالحق و عانده عن لجاج و عناد، و بين من جحده عن جهل لا يعلم شيئا من كتبهم، و قد تقدم في الآيات السابقة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ . الحق: يشمل إرادته تعالى التكوينية و التشريعية، فهو تعالى حق، و لا حق إلاّ منه.

و قد استعمل (الحق) في القرآن الكريم بوجوه من الاستعمالات.

فتارة: ينسب الحق إلى ذاته الأقدس، و هو تعالى حق في ذاته و بذاته قال تعالى: فَذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمُ اَلْحَقُّ [سورة يونس، الآية: 32].

و أخرى: ينسبه إلى صفاته العليا، قال تعالى: هُنالِكَ اَلْوَلايَةُ لِلّهِ اَلْحَقِّ [سورة الكهف، الآية: 44].

و ثالثة: إلى أفعاله المقدسة، قال تعالى: وَ اَللّهُ يَقُولُ اَلْحَقَّ [سورة الأحزاب، الآية: 3]، و قال تعالى: لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اَللّهِ حَقٌّ [سورة الكهف، الآية: 21].

و رابعة: إلى نفس القرآن العظيم؛ قال تعالى: وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ اَلْكِتابِ هُوَ اَلْحَقُّ [سورة فاطر، الآية: 31] و قال تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ [سورة الشورى، الآية: 17].

و خامسة: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و دينه، قال تعالى: أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ [سورة الفتح، الآية: 28]، و قال

ص: 118

تعالى: إِنّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ [سورة فاطر، الآية: 24].

و الحق إذا أطلق لا يمكن الإحاطة بجميع جوانبه و نواحيه، و لا بد من الخضوع لديه و التسليم له، و هذا هو معنى الحق المطلق الذي قال عنه بعض فلاسفة الغرب المحدثين: «إذا قيل اللّه يعني الحق الواقع من كل جهة». و للعلماء و الفلاسفة في هذا الموضوع تعبيرات مختلفة نظما و نثرا، و المتفق بينهم - كما صرح به المعلم الأول - و هو صريح الكتب السماوية و الأحاديث الواردة في السنّة الشريفة: أن الحق لا بد أن يصدر منه تعالى فهو حق بذاته و في ذاته، و لا حق إلاّ منه عزّ و جل. و هذا مما لا مرية فيه.

و مادة (م ر ي) تأتي بمعنى التردد. فما ذكره الخليل من أنها في الأصل مسح ضرع الناقة للحلب. فهو من تفسير المفهوم بالمصداق لأن مسح الضرع للحلب يستلزم تردد الماسح لا محالة.

و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ [سورة السجدة، الآية: 23]، و قال تعالى: وَ لا يَزالُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ [سورة الحج، الآية: 55]. و المراء اللجاج، و في الحديث: «أترك المراء و إن كنت محقا».

و الحق في الآية الشريفة من استغراق الجنس أي: أن كل حق في الممكنات إنما هو من اللّه تعالى و يكون تطبيق هذه الكلية على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قهريا، فتصير النتيجة أنت بجميع شؤونك حق فلا يعقل الامتراء في ما هو من اللّه تعالى.

و الخطاب و إن كان موجها إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلاّ أن المراد به غيره، كما تقدم في قوله تعالى: وَ لَئِنِ اِتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ اَلظّالِمِينَ . و نظير هذه الآية كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ [سورة الفتح، الآية: 2]؛ و مثل هذا الخطاب مألوف عند النّاس فإن الملوك إذا

ص: 119

نصبوا شخصا لإدارة الرعية فإنهم يجعلونه مورد خطابهم مع الرعية في ما لهم و ما عليهم، و على ذلك جرى خطاب القرآن الكريم للرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و يمكن أن يكون الوجه في المقام هو تسلية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عما لاقاه في أمر القبلة من أهل الكتاب، و المنافقين، فيكون النهي عن صفة باعتبار عدم المنشأ لها أبدا، و لذلك أيضا نظائر كثيرة في المحاورات. أو أن المراد به تذكير المؤمنين لئلا يقعوا في شرك المخادعين و المنافقين و تضليلهم.

قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ . الوجهة:

الجهة. و الهاء في آخرها عروض عن الواو، و هي بمعنى ما يتوجه إليه كالقبلة لما يستقبل إليه.

و السبق: التقدم، و ما يحصله السابق من سبقه؛ و يستعمل في إحراز كل فضيلة، و منه قوله تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 10]،

و قول علي (عليه السلام): «ألا إنّ السبقة الجنّة، و الغاية النار». لأن الاستباق إنما يكون إلى أمر محبوب و غرض مطلوب لا محالة، و لا محبوب إلاّ و الجنّة أعلى منه، و الغاية ما ينتهى إليها و لو لم تكن محبوبة أو مطلوبة، بل و لو كانت مبغوضة.

و قد استعمل الفعل متعديا بنفسه لا أن يكون المفعول منصوبا بنزع الخافض، كما في قوله تعالى: وَ اِسْتَبَقَا اَلْبابَ [سورة يوسف، الآية: 25]، و قوله تعالى: فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ [سورة يس، الآية: 66].

و الخيرات جمع خير، و هو أعم من العمل الصالح، و البر. و معناه - كلفظه - مرغوب كل فرد، و مطلوب كل إنسان، فيكون كلفظ الكمال و العقل في محبوبية اللفظ و المعنى عند الجميع، و قد استعمل في القرآن الكريم في ما يقرب من مأة و ثمانين موردا. و في غالب الاستعمالات يكون اسما، كقوله تعالى: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اَللّهُ لِلنّاسِ اَلشَّرَّ اِسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ [سورة يونس، الآية:

11]، و قد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل، قال تعالى: فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ [سورة النمل، الآية: 36] و هو كثير أيضا. و ربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة و عناية خاصة.

ص: 120

11]، و قد يستعمل وصفا يتضمن معنى أفعل التفضيل، قال تعالى: فَما آتانِيَ اَللّهُ خَيْرٌ مِمّا آتاكُمْ [سورة النمل، الآية: 36] و هو كثير أيضا. و ربما يتردد اللفظ بين كونه اسما أو وصفا، فيحكم بكونه اسما لأن الصفتية تحتاج الى مؤونة زائدة و عناية خاصة.

و يستعمل تارة: في مقابل الشر، كقوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء، الآية: 35]. و في مقابل الضر أخرى، قال تعالى: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اَللّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاّ هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [سورة يونس، الآية: 107].

و هو من الأمور الإضافية التي لها عرض عريض جدا، فأطلق في القرآن بالنسبة إليه تعالى، قال سبحانه: وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 73]. و بالنسبة إلى الممكنات جواهرها، كقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ اَلْبَرِيَّةِ [سورة البينة، الآية: 7]. و أعراضها سواء كانت من أعمال الجوارح أم أفعال القلوب أم نفس المعتقدات.

و لم يبيّن سبحانه في هذه الآية الخيرات، لأن لها مراتب كثيرة غير متناهية تتصل بخير الآخرة التي هي غير متناهية، قال تعالى: وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ [سورة الأعراف، الآية: 169]،

و قال علي (عليه السلام): «و ما خير بخير بعده الجنّة، و ما شرّ بشر بعده النّار».

و قد عد اللّه سبحانه بعض المصاديق في القرآن الكريم، كالآخرة قال تعالى: وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة الأعلى، الآية: 17]، و الإيمان قال تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ [سورة النّساء، الآية: 170]، و التقوى قال تعالى:

فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى [سورة البقرة، الآية: 197]، و الرزق قال تعالى: وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 131]، و الصدقة قال تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 280]، و الصيام قال تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 184]، و الصبر قال تعالى: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: 25]، و الصلح قال تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128]، و الباقيات الصالحات

ص: 121

قال تعالى: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَلْباقِياتُ اَلصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 46]، و تعظيم حرمات اللّه قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اَللّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة الحج، الآية:

30] إلى غير ذلك.

و يستفاد من مجموع ذلك أن كل ما يقرب إلى اللّه تعالى و كان صالحا للإنسان في الدنيا و العقبى فهو من الخير، كما يظهر من السنة الشريفة أن الجامع بين الخيرات ما طلب فيه رضاء اللّه تعالى،

فعن الصادق (عليه السلام): «ليس الخير أن يكثر مالك، و ولدك، و لكن الخير أن يكثر عملك، و أن يعظم حلمك، و أن تباهي الناس بعبادة ربك». و من ذلك يظهر أن الاستباق الى الخيرات مما يحمده جميع العقلاء، فالآية إرشاد إلى طريق العقلاء، لا أن تكون تعبدية شرعية.

و معنى الآية: ان اللّه تعالى جعل لكل أمة شريعة خاصة و منهاجا معينا لا بد من متابعته؛ و المبادرة إلى الحق و متابعته لتحقيق المسارعة إلى الخيرات التي هي الغرض الأقصى من تشريع الشرائع.

و نظير المقام قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية: 48]. و إذا كانت الشرائع الإلهية تناسخ بعضها بعضا فلا بد من المسارعة إلى ما هو خيرها و هو الشريعة الناسخة لا المنسوخة.

و يمكن أن يراد بقوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ المعنى العام الشامل للجهات التكوينية و الاختيارية - عادية كانت أو شرعية - فإن كل فرد من أفراد الإنسان يختلف عن غيره بأمور و خصوصيات قد لا تكون في ما سواه و لا يحيط بها إلاّ علام الغيوب، فتشمل اختلاف العادات و الملكات و الصفات، و الاختلاف في القبلة و الشريعة. و إنما يسعى الإنسان لنيل هدفه و تحصيل غرضه باختياره، فأمر سبحانه و تعالى أن يكون سعي الإنسان إلى الحق و المبادرة إلى الخيرات، فإنّ به يتحقق الاتحاد في المجتمع و به يرتفع الاختلاف و التعاند إذا كان الغرض محبوبا لدى الجميع بعد ما كان فيه الصلاح و الخير، و إلى ما ذكرناه

ص: 122

تشير الآية الكريمة: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [سورة المائدة، الآية:

48].

و لذلك رغب سبحانه و تعالى في القرآن الكريم بالاستباق إلى الخيرات و المغفرة، قال تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الحديد، الآية: 21]، و قال تعالى: أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 61].

و مما ذكرناه يظهر الوجه في جعل نفس الخيرات، و المغفرة، أو الصراط سبقا (بفتح السين و الباء) للإعلام بأنها هي الغاية المطلوبة، و الهدف المرجو في المسابقة.

قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً . أينما: ظرف مكان يدل على العموم و يتضمن معنى الشرط و جوابه يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ ، و اللفظ شامل لجميع الحالات الممكنة الواردة على الإنسان و جميع التبدلات الحاصلة له من الجمع و التفرق و نحوهما، و جميع ما يرد عليه من التقلبات و الاستحالات من جوهر إلى جوهر، أو صفة إلى أخرى.

فهذه الجملة من أبرز مظاهر قيمومته و إحاطته على ما سواه عزّ و جل؛ و ذلك من شؤون القهارية و القدرة المطلقتين؛ كما في قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [سورة النساء، الآية: 78]؛ و قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و الآية نظير قوله تعالى: يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي اَلسَّماواتِ أَوْ فِي اَلْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اَللّهُ [سورة لقمان، الآية: 16]. و جميع ما سواه عزّ و جل في مقابل عظمته و قدرته و قيمومته أصغر من حبة الخردل بل لا وجه لملاحظة النسبة بين المتناهي و غير المتناهي.

و ترتب الآية على قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ من قبيل ترتب الجزاء على الشرط، أي: انكم ترون نتائج استباقكم بأنفسكم؛ فتشمل

ص: 123

الحشر.

و المعنى: ان اللّه تعالى يأت بكم أينما تكونوا و يجمعكم يوم القيامة للحساب و الجزاء و لا يعجزه شيء عن ذلك.

و سياقها و إن كان يدل على الجمع ليوم الحساب و لكن ذلك لا ينافي عمومها المنطبق على مصاديق كثيرة، كما عرفت آنفا، فيصح أن تنطبق على يوم ظهور العدل العملي في هذا العالم المعبّر عنه في السنة المقدسة المتواترة بيوم ظهور المهدي الموعود، و استشهد بها الأئمة (عليهم السلام) لذلك، كما سيأتي في البحث الروائي.

و في الآية الشريفة التأكيد البليغ على أمر القبلة و التوجه إليها في جميع الحالات. و فيها من التوعيد للعاصين و الوعد للمطيعين، كما لا يخفى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . و هو برهان للآية السابقة.

و في هذه الآيات - على اختصارها - إشارة إلى علوم:

منها: علم معرفة النفس و أسرارها الذي قد يفيضه اللّه تعالى الى بعض أوليائه، و قد وضعت كتب و رسائل فيه.

و علم الأخلاق و الاجتماع اللذان هما من أهم العلوم الإنسانية.

و علم المبدأ و المعاد و هما من أهم العلوم في الشرائع السماوية بل عليهما تدور المعارف الإلهية، و للقرآن الكريم كليات في هذه العلوم يأتي التعرض لها في محالها.

قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

كلمة «حيث» تستعمل في المكان، و الجملة التي بعدها تكون بيانا لها، نظير «أين» إلاّ أن الأولى أعم من الثانية؛ فإن الأخيرة لوحظ فيها السؤال عن المكان بخلاف الأولى. كما أن في لفظ «متى» لوحظ فيه السؤال عن الزمان، بخلاف «حين» الذي هو في الزمان كلفظ «حيث» في المكان.

و تستعمل «حيث» في مطلق التحيز، و يشهد له حديث نفي الصفات عنه

ص: 124

تبارك و تعالى،

قال (عليه السلام): «كيف أصفه بحيث، و هو الذي حيّث الحيث حتّى صار حيثا»،

و في بعض الأخبار: «و هو الذي أيّن الأين و أوجده».

و في مثل هذه الأحاديث إشارة إلى رد ما أثبته أكابر الفلاسفة من عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها، كما يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

و المعنى: أنه من أيّ مكان خرجت و إلى أية جهة توجهت فول وجهك شطر المسجد الحرام.

و قد تكرر قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ في هذه الآيات المباركة، و ذلك لأن الكعبة المقدسة قبلة لأهل العالم، و العالم متقوم بالمكان و الزمان و الجهة و يمكن أن تكون كل جملة إشارة إلى خصوصية من تلك الخصوصيات الثلاث، و من ذلك تعدد جهات الخروج من المشرق و المغرب، و الشمال و الجنوب، و في جميع الأمكنة من البر و البحر و الجو.

مع أن مخالفة اليهود و النصارى تستلزم التأكيد و التكرار، و بيان ان هذه القبلة على خلاف قبلة أهل الكتاب في أنه يمكن التوجه إليها من جميع بقاع الأرض المختلفة شرقا و غربا، شمالا و جنوبا.

قوله تعالى: وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ . تثبيت للمطلب و تأكيد للموضوع من وجوه أربعة: «إنّ»، و «لام» التأكيد، و لفظ «الحق» و جملة «من ربك».

و الضمير في «أنّه» يرجع إلى التوجه إلى المسجد الحرام، و سياق الكلام يدل على أنه كان حقا أزلا و هو كذلك أبدا؛ و ان كل توجه في العبادة بخلافه يكون باطلا، و لذا أوعد اللّه تعالى على من خالف ذلك.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ . أي أنّ اللّه ليس بغافل عن أعمالكم، لأنه عالم بما سواه حتّى خطرات القلوب و لحظات العيون فلا يتوهم الغفلة بالنسبة إليه مع هذا الحضور الفعلي و الاستيلاء المطلق على كل شيء، و هو المهيمن على الجميع، فهو الذي يتولى الجزاء على أعمالكم خير الجزاء.

ص: 125

قوله تعالى: وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ . يمكن أن يكون التكرار، لأجل أن الآية السابقة تحمل على المحال القريبة من المسجد الحرام، و الثانية على المحال البعيدة حتّى نفس بيت المقدس و الأخيرة على تمام الربع المسكون، و يمكن الحمل على حالتي الحضر و الذهاب إلى السفر و الإياب منه.

و الابتداء بالخطاب للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فانه و إن كان كافيا في عموم التكليف، إلاّ أنه أراد سبحانه التأكيد بالنص و بيان أهمية الموضوع، و لترتيب ما سيأتي. و الضمير في قوله تعالى: وُجُوهَكُمْ يرجع إلى جميع المسلمين باعتبار وجود النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيهم.

و كان النّاس في زمان تحويل القبلة طوائف ثلاث: اليهود، و النصارى، و المشركين، و الأولان كانا يعترضان عليه (صلّى اللّه عليه و آله) بأنه إذا كان نبي آخر الزمان فلما ذا لا يصلي إلى الكعبة المقدسة؟ و لم يصلي إلى قبلتنا؟ و المشركون كانوا يعترضون عليه بأنه لماذا يصلي إلى بيت المقدس مع أن الكعبة أقدم و أقدس؟ ثم الاعتراض أخيرا من المنافقين بأنّه ما الفائدة في هذا التشريع؟ فذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة لبيان حكمة التشريع و الفائدة منه، و الجواب عن اعتراض المعترضين و دفع شبه المنافقين.

قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ . هذا هو الأمر الأول. اللام لتعليل تحويل القبلة و تغييرها، أي: لئلا يكون للمحاجين - و هم الطوائف المتقدمة - عليكم حجة و سلطان.

و مما تقدم يعرف انتفاء حجتهم؛ لأن صلاة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس ظاهرا كانت لمصالح ظاهرية و بذلك اندحضت حجة الفريقين.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ . يصح أن يكون الاستثناء متصلا، إن عممنا المستثنى منه إلى الأعم من الحجة الواقعية و الحجة الاعتقادية الحاصلة عن العناد و اللجاج.

ص: 126

فيكون المعنى: لئلا يكون للنّاس عليكم حجة إلاّ حجة الظالمين الحاصلة عن اعتقادهم و ظلمهم و محاجتهم بعد ظهور الحق، نظير قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما اُسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ [سورة الشورى، الآية: 16].

كما يصح أن يكون الاستثناء منقطعا إن خصصنا المستثنى منه بخصوص الحجة الصحيحة، فيحتاج الكلام إلى مقدمة مطوية، و هي انه إن كان على المؤمنين حجة، فهي لا تكون إلاّ من الظالم، و لا حجة للظالم فليس عليهم حجة مطلقا، فان الظالم لا ينقطع عن اللجاج و العناد و الإحتجاج حسب الأهواء الباطلة و الآراء المزيفة و ما يمليه عليه ظلمه. و مثل هذا متعارف في المحاورات الفصيحة، قال النابغة:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

أي: لو كان فيهم عيب فهذا عيبهم، و هو ليس بعيب إذا لا عيب فيهم مطلقا.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِي . الخشية: هي الخوف المشوب بالتعظيم و إنّها أعم موردا من مطلق الخوف، لإطلاقها على الجمادات، قال تعالى: وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 74]. و أخص منه مفهوما لأنها مشوبة بالتعظيم.

و المعنى: لا موضوع لخشيتهم لفرض بطلان طريقتهم فتنحصر الخشية من اللّه تبارك و تعالى، لأنه الحق و الخشية لا بد و ان تكون من الحق.

قوله تعالى: وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ . هذا هو الأمر الثاني، و التمام:

انتهاء الشيء و كماله بحيث لا يحتاج إلى شيء خارج عنه، و يستعمل بالنسبة الى جميع الأمور المادية - جواهرها و أعراضها - و الأمور المعنوية، قال تعالى:

وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 23].

ص: 127

و مادة (نعم) تأتي بمعنى الحالة الحسنة، و تستعمل بالنسبة إلى الإنسان فقط دون غيره، و في جميع حالاته و نشآته في الدنيا و الآخرة و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و قد ذكرت هذه الجملة في موارد من القرآن الكريم، قال تعالى:

وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: 6]، و قال تعالى: كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ [سورة النحل، الآية: 81] إلى غير ذلك من الآيات الكريمة. و نعم اللّه تعالى كثيرة لا يمكن عدها، و هي إما معنوية أو مادية أو هما معا. و تكاليف اللّه سبحانه و تعالى من النّعم على الإنسان فإنها تقع في طريق استكماله و ما يترتب عليها من الفوائد.

و تمامها إنما يكون لأجل انها تقع في سبيل سعادة الإنسان في الدارين و ارتقائه إلى درجات الكمال،

و في الحديث عن علي (عليه السلام): «تمام النعمة الموت على الإسلام»،

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «تمام النعمة دخول الجنّة».

و المنساق من إتمام النعمة في المقام - بعد جعل الإمامة و بناء البيت - استقلال المسلمين بقبلة تخصهم، و تطهير دينهم من آثار الشرك و الضلال، و استيلاء المسلمين على غيرهم بالحجة و البيان إلى غير ذلك من النّعم التي أراد سبحانه جعلها حكمة لتشريع تحويل القبلة.

و ذكر بعض المفسرين أنّ في هذه الآية بشارة إلى فتح مكة، لأنه عزّ و جل ذكر في سورة الفتح، الآية 2: وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً و قد ذكرت - بعد الفتح - النصرة منه تعالى. و القرينة على ان المراد من النعمة ذلك قوله تعالى بعد ذلك: وَ يَنْصُرَكَ اَللّهُ نَصْراً عَزِيزاً .

و لكنه مخدوش بأن مجرد التشابه اللفظي في الموضعين لا يوجب اتحاد النعمتين في الموردين إلاّ مع قرينة خاصة. نعم لو أريد تشابه النعمة في مطلق جنسها فهو صحيح لا اشكال فيه، إلاّ انه خلاف ظاهر كلامه.

ص: 128

قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ . هذا هو الأمر الثالث. و كلمة «لعل» بمعنى التوجي في جميع الموارد إلاّ أنه بالنسبة إليه عزّ و جل يكون بداعي المحبة و الإيجاب لا بداعي الترجي الحقيقي حتّى يكون محالا عليه عزّ و جل، لأنه الكامل في ذاته و بذاته و لا يعقل النقص بالنسبة إليه تعالى، و التمني و الترجي إنما يتصوران بالنسبة إلى الناقص و أما إذا كانا بدواع أخرى غير داعي وقوع حقيقيّهما فلا محذور بالنسبة إليه عزّ و جل. و تستعمل في القرآن الكريم في كل فعل من أفعال الإنسان و كل غاية يقصدها باختياره.

هذه هي الغايات الشريفة في أمر القبلة و التعبد بها و كل غاية تشير إلى جانب من جوانب هذا الجعل الإلهي: جانب الحجة و الإحتجاج مع المخالفين و المعاندين و قطع حجتهم، و الجانب المادي و الفوائد التي يتوخاها الإنسان، و الجانب المعنوي و الروحي من التكاليف.

و كل واحد من هذه الغايات الشريفة و المنافع الجليلة قد ذكرت في جملة من الآيات الكريمة، و بذلك تتم نعمته على المسلمين و يظهر عظيم لطفه بهم في هذا التكليف.

بحوث المقام
بحث أدبي:

الشايع في المحاورات أن الاستثناء من الإثبات نفي و من النفي إثبات، و جرى عليه نظم القرآن الكريم، كما في قوله تعالى فيما تقدم من الآيات الشريفة إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ و لذلك تدل كلمة التوحيد على نفي الشرك و إثبات الوحدانية له تعالى.

و المعروف بين اللغويين و غيرهم أنّ كلمة «إلاّ» تستعمل في الاستثناء المتصل و المنقطع، و تأتي بمعنى «لكن» و «غير» أيضا و المرجع في التعيين القرائن المعتبرة، و إذا كانت بمعنى «غير» تكون صفة. و قالوا: إنّ الأصل في «إلاّ» أن تكون استثناء و الصفة عارضة، للقرينة، كما أنّ الأصل في «غير» أن تكون صفة و الاستثناء عارض، و في القرآن الكريم أمثلة على ذلك يأتي التعرض لها في محالها.

ص: 129

ثم إنّه وقع الالتفات في الآيات الكريمة المتقدمة بأنحاء.

و هو: أسلوب كلامي يظهر غالبا في كلام العظماء و الملوك عند تكلمهم في مجلس واحد عن قضايا كثيرة على حسب سعة نفوذ أمرهم و سلطانهم، فينتقلون من الحاضر الى الماضي، أو إلى المستقبل، أو إلى الأمر و النهي و قضايا متعددة، فهو يدل على كثرة نفوذ كلام المتكلم وسعة مقصده.

و الحكمة فيه إثارة العقول إلى ما يتحقق من الحكمة و الإتقان و التدبر، و به يتحقق النظم البليغ، لأنه نقل الكلام و تغييره من حالة إلى أخرى، فهو من محاسن الكلام و بدائعه و يهتم الأدباء به اهتماما بليغا، كما وقع ذلك في القرآن الكريم كثيرا.

و المشهور بينهم انه يشترط فيه شروط ثلاثة:

أحدها: أن يكون الانتقال على غير ما يقتضيه الكلام الظاهر، أي أنّ مقتضى الظاهر أن يكون التعبير بغير الالتفات فينتقل إليه.

ثانيها: أن يكون الضمير في المنتقل اليه عائدا في نفس الأمر إلى المنتقل عنه، بخلاف ما إذا كان كل واحد من الضميرين يرجع إلى واحد من اثنين، كما في قول: «أنت صديقي».

ثالثها: أن يكون في جملتين.

و هو عند أهل المعاني و البديع على أنواع:

الأول: تعقيب الكلام بجملة مستقلة بعد ما فرغ المتكلم من المعنى تتلاقى الجملة الأخيرة مع الأولى في المعنى على طريق المثل أو الدعاء أو نحوهما، مثل قوله تعالى: وَ زَهَقَ اَلْباطِلُ إِنَّ اَلْباطِلَ كانَ زَهُوقاً [سورة الإسراء، الآية: 81]، و قوله تعالى: ثُمَّ اِنْصَرَفُوا صَرَفَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 127]، و هو على سبيل الدعاء.

الثاني: أن يذكر المتكلم معنى فيتوهم ان السامع اعترض في قلبه شيء فليتفت في كلامه ليزيل ما وقع في قلبه من شك و نحوه ثم يرجع الى

ص: 130

مقصوده، كما في قول الشاعر:

فلا صرمه يبدو و في اليأس راحة *** و لا ودّه يصفو لنا فنكارمه

فإن في قوله: «فلا صرمه يبدو» إيهاما بأنه يريد هجر المحبوب إياه و هو غير لائق، فقال: «و في اليأس راحة» فكان هذا عذرا.

الثالث: التفات الضمائر و هو أن يقدر المتكلم في كلامه مذكورين مرتبين ثم يخبر عن الأول منهما ثم ينصرف عن الإخبار عنه إلى الأخبار عن الثاني ثم يعود إلى الإخبار عن الأول، نحو قوله تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ وَ إِنَّهُ لِحُبِّ اَلْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [سورة العاديات، الآية:

6].

الرابع: بناء فعل للمفعول بعد خطاب فاعله او تكلمه؛ نحو قوله تعالى: غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [سورة الحمد، الآية: 7] بعد قوله تعالى: أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ فان المعنى غير الذين غضبت عليهم.

الخامس: الانتقال من المذكر إلى المؤنث أو العكس على طريقة الالتفات.

السادس: انتقال الكلام من خطاب الواحد او الإثنين أو الجمع إلى الآخر، و هذا على أقسام - كما يأتي - نحو قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87]، فاتسع في الخطاب فثنى ثم جمع ثم وحد، و نحو قوله تعالى: وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ اَلَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة يس، الآية: 22] فانه عدول عن خطاب الواحد إلى خطاب الجماعة.

السابع: التفات الأفعال، و هو الانتقال من الماضي أو المضارع أو الأمر إلى آخر و هو على أقسام أيضا و هذا كثير في القرآن الكريم و فيه لطائف دقيقة.

الثامن: الانتقال في الكلام من كل من التكلم و الخطاب و الغيبة إلى آخر و هو أشهر ما عرف في الالتفات عند علماء الأدب، و يكون ذلك على

ص: 131

أقسام ستة:

الأول: من التكلم إلى الخطاب، نحو قوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ وَ أَنْ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ [سورة الأنعام، الآية: 71].

الثاني: الالتفات من التكلم إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: إِنّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اَللّهُ [سورة الفتح، الآية: 1].

الثالث: من الخطاب إلى التكلم، كقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ اَلْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ [سورة الأنعام، الآية: 114].

الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، نحو قوله تعالى: حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [سورة يونس، الآية: 22].

الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، قال تعالى: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ - إلى قوله تعالى - إِيّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة، الآية: 4].

السادس: من الغيبة إلى التكلم، قال تعالى: وَ اَللّهُ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ [سورة فاطر، الآية: 9].

و للالتفات فوائد كثيرة مستفادة من الجملة الواقع فيها تليق بذلك الكلام الخاص، و تختلف باختلاف المقامات، فمنها دفع ما يشتمل الكلام على سوء أدب بالنسبة إلى المخاطب بالالتفات إلى الغائب. و منها توبيخ الحاضر لأنه أبلغ في الإهانة فيلتفت إلى الخطاب. و منها الالتفات إلى الماضي لإظهار الاستمرار، أو الالتفات إلى المستقبل للدلالة على الكثرة و التلبس بالفعل في كل وقت. و منها الالتفات إلى المضارع في مورد الماضي لأنه أبلغ و آكد و أعظم وقعا. و منها الالتفات إلى الماضي في مورد المضارع في الأمور الهائلة التي لم توجد أو الأمور العظيمة التي تحدث. و منها إظهار التفخيم، و تذكير السامع بما وقع الى غير ذلك من الفوائد.

ص: 132

بحث روائي:

في تفسير القمي عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «نزلت هذه الآية في اليهود و النصارى يقول اللّه تبارك و تعالى: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعني: يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ، لأن اللّه عزّ و جل قد أنزل عليهم في التوراة و الإنجيل و الزبور صفة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و صفة أصحابه و مهاجرته، و هو قول اللّه عزّ و جل مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ . و هذه صفة محمد رسول اللّه في التوراة و صفة أصحابه، فلما بعثه اللّه عزّ و جل عرفه أهل الكتاب، كما قال جلّ جلاله فَلَمّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ . و قريب منه ما رواه في الكافي عن علي (عليه السلام).

أقول: هذه الرواية من الروايات التي وردت في بيان صفات رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المختصة به المذكورة في القرآن و في جميع الكتب السماوية التي يتلوها أنبياء اللّه تعالى على أممهم.

و في الدر المنثور في الآية: اَلَّذِينَ آتَيْناهُمُ اَلْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ نزلت في مؤمني أهل الكتاب عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كانوا يعرفون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بنعته و صفته و مبعثه في كتابهم، كما يعرف أحدهم ولده إذا رآه مع الغلمان. قال عبد اللّه بن سلام: لأنا أشد معرفة برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مني بابني، فقال له عمر بن الخطاب: كيف ذاك يا ابن سلام؟ قال: لأني أشهد أن محمدا رسول اللّه حقا يقينا و أنا لا أشهد بذلك على ابني لأني لا ادري ما أحدث النساء. فقال عمر: وفقك اللّه يا ابن سلام».

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ قال (عليه السلام): «الخيرات الولاية».

أقول: هذا من باب التطبيق كما ذكرنا غير مرة، و يصح تطبيق الآية

ص: 133

المباركة على القرآن و جميع المعارف الإلهية و قد تقدم الكلام فراجع.

و في الكافي أيضا عن أبي خالد الكابلي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً . قال: «الخيرات الولاية. و قوله تعالى: أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اَللّهُ جَمِيعاً يعني أصحاب القائم (عليه السلام) الثلاثمائة و البضعة عشر، قال: هم و اللّه الأمة المعدودة. قال: يجتمعون و اللّه في ساعة واحدة قزع كقزع الخريف».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «لقد نزلت هذه الآية في أصحاب القائم (عليه السلام) و انهم المفتقدون من فرشهم ليلا - الحديث -».

أقول: هذه الآية وردت في رجعة الحق إلى أهله، و الآيات في ذلك كثيرة كما تأتي. و أما الروايات الواردة في ذلك فهي متواترة بين الفريقين و عليه الإجماع أيضا، و سنثبت ذلك بالأدلة الكثيرة الآتية. و الرواية من باب التطبيق، كما تقدم.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا يعني: و لا الذين ظلموا منهم و «إلاّ» في موضع «و لا» ليست هي استثناء».

أقول: هذا وجه حسن لا ينافي ما ذكرناه من صحة الاستثناء في الواقع، و قد تقدم في البحث الأدبي فراجع.

بحث فلسفي:

ذهب أكابر الفلاسفة إلى عدم الجعل التأليفي بين الماهية و ذاتياتها و تقدم في ضمن الآية الشريفة وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ بعض الأخبار التي تشعر بخلاف ذلك.

و استدلوا على البطلان بوجوه - ذكروها في كتبهم - أهمها:

أنّ ثبوت الشيء لنفسه ضروري، و سلبه عنه ممتنع فلا موضوع للجعل التأليفي حينئذ، لأن مناطه إنما هو الإمكان لا الضرورة

ص: 134

و فيه: ان هذه القضية إنما تكون بعد الجعل و التحقق، و أما قبلهما فليس إلاّ العدم المحض و يستوي الثبوت و عدمه بالنسبة إليه، و قد اشتهر بين الفلاسفة: ان الشيء من ذاته ليس، و من علته أيس (الوجود) فلا مجرى لتلك القضية و إن أطالوا القول فيها في الفلسفة.

بل قد نسب إلى بعض أكابرهم تعيين القول بذلك حذرا من تعدد القدماء، فان الذوات في مرتبة الذات متميزة فلو لم تكن مجعولة يلزم المحذور. و دفعه: بأن الشيئية مساوقة للوجود؛ و قبله لا شيء حتّى يلزم العدم. مخدوش: بأنّ اعتبار الذات أمر و اعتبار الوجود أمر آخر، و لا ربط لأحدهما بالآخر. و المسألة مشكلة تعرضوا لها في مواضع في الفلسفة: منها مسألة اصالة الوجود في التحقق، و اصالته في الجعل، و ربط الحادث بالقديم كما يأتي. و لا مفرّ عنه إلاّ بما يظهر عن أئمة الدين (عليهم السلام) من أن قدرته التامة الأزلية تتعلق بتذويت الذوات و إخراجها من العدم إلى الوجود، و انه كان و لم يكن معه شيء - بأي معنى من معاني المعية و لو اعتبارا - و قدرته الكاملة على ما سواه بحيث لا يحيط بمعناها أحد و إنما عرّفها

أئمة الدين (عليهم السلام) بقولهم: «لا يعجزه شيء» كل ذلك يقتضي ما ذكرناه.

إن قيل: إنّ الموضوع محال و قدرته تعالى لا تتعلق بالمحال. يقال: على فرض المحالية فهو محال اعتقادي لا محال واقعي، و ما لا تتعلق القدرة به هو الثاني دون الأول.

و قد نقل عن بعض الفلاسفة الأقدمين أنّ المبدأ مذوّت الذوات و جاعلها، و القدرة الكاملة الأزلية إنما تحصل بذلك.

ثم إنّ جميع الفلاسفة اتفقوا على أن ما سواه تعالى مركب من ماهية و وجود، بلا فرق بين المجردات، و الماديات بمراتبها الكثيرة التي لا حد لها بوجه، و جعلوا ذلك من القواعد الفلسفية المسلّمة التي يستدلون بها في الفلسفة و هي قاعدة: «إن كل ممكن زوج تركيبي من ماهية و وجود»، فالبساطة الحقيقية منحصرة به تبارك و تعالى، و تدل عليها نصوص السنة المقدسة و ظواهر الكتاب المبين. و التركيب و التركّب يلازمان الحدوث،

ص: 135

و هو مناط الاحتياج و هو عين الفقر، فجميع ما سواه عزّ و جل حادث.

ثم إنه اختلف أعلام الفلاسفة في أمور ثلاثة:

الأول: في أنّ الأصل في التحقق و منشئية الأثر هو الوجود و الماهية تابعة له - و قد اصطلحوا عليه بأصالة الوجود - أو يكون الأمر بالعكس؟ و اصطلحوا عليه بأصالة الماهية، بعد اتفاقهم على أنها قبل جعل الجاعل لا حيثية لها أبدا.

الثاني: أنّ المجعول من الباري تعالى هو الوجود و الماهية تابعة له أو الأمر بالعكس؟ و اصطلحوا عليه باصالة الوجود في الجعل، أو اصالة الماهية فيه. و كل واحد من البحثين من المباحث المهمة المفصلة لديهم.

و الذي يظهر من السنة المقدسة أصالة الماهية في كل من التحقق و الجعل، بمعنى أنّ اللّه تعالى مذوت الذات و مفيض الوجود عليها لا بمعنى التشريك، بل بمعنى الترتب الدقي العقلي. و نسب إلى بعض أكابر أهل الدقة و التحقيق إنه وضع رسالة مستقلة في ذلك.

الثالث: ربط الحادث بالقديم، و هو أيضا من المباحث المهمة الدقيقة الذي اختلف الفلاسفة فيه اختلافا كبيرا فاختار كل مهربا، و لا طريق لهم إلاّ التمسك بالسنّة المقدسة من جعل إرادته تبارك و تعالى من صفات الفعل لا من صفات الذات. هذا موجز القول و التفصيل يطلب من محله، و من اللّه التوفيق و به الاعتصام.

بحث علمي:
اشارة

يظهر من الآيات المباركة الواردة في القبلة أهميتها و عظم أمرها فقد أمر الشارع باستقبال الكعبة في الصّلاة و الذبح و في حالة الاحتضار و غير ذلك و ندب إليها في حالات كثيرة، بل استقبالها مندوب في جميع الحالات إلاّ ما استثني. و حرم استقبالها في مواطن، كما نزّه عنه في مواطن أخرى، و هو يدل على الاهتمام بها، و لذلك نزلت الآيات الشريفة تستعرض جميع جوانب هذا التشريع الجديد و الاعتناء به اعتناء بليغا و التأكيد بمراعاته بأنحاء التأكيدات

ص: 136

بأسلوب رصين و عبارات بليغة.

فذكر سبحانه أولا فضائل البيت الحرام، و كونه مثابة للنّاس و أمنا و محلا لعبادة المتعبدين، و هو بذلك أراد سبحانه تهيئة النفوس لقبول تشريع جديد، ثم ذكر أنّ القبلة أمر تعبدي لا بد و ان يكون من اللّه تعالى - كما هو شأن كل عبادة إلهية - ثم أعلم نبيه بتغيير القبلة و أمر المسلمين باتباع القبلة الجديدة و أكد عليه تأكدا بليغا، و قد جمع سبحانه في ذلك بين رغبة رسوله الكريم في اتخاذ قبلة جديدة و بين استقلال المسلمين فيها بعد أن كانوا تابعين، و ذكر سبحانه أخيرا ان الاستقبال أمر اجتماعي لا يختص بطائفة خاصة، و في الضمن أبطل اعتراض المعترضين و دحض حججهم. و نحن نذكر في هذا البحث بعض الجوانب المهمة في القبلة.

القبلة أمر اجتماعي:

لا ريب في أنّ الإنسان واحد نوعي و هذه الوحدة النوعية تقتضي وحدة الاجتماع بالطبع، و الوحدة الاجتماعية من أهم الأمور النظامية التي يقوم بها النظام و يحفظ بها شؤون الأنام، فإذا كان تنظيم الأمور النظامية في الحيوان بإلهام من اللّه تعالى، كما يستفاد من آيات كثيرة، و يأتي في قوله تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ اَلشَّجَرِ وَ مِمّا يَعْرِشُونَ [سورة النحل، الآية: 68] بعض الكلام ففي استلهام طبيعة الاجتماع الإنساني التي يستكمل بها خصوصيات الاجتماع و الجهات اللازمة بالأشد و الأقوى.

و من تلك الجهات التي يستكمل بها الاجتماع وحدة التوجه الى الجهة الواحدة التي لا بد للمجتمع أن يهتم بها كما أن ارتباط كل عابد بمعبوده من الأمور الفطرية التي أظهرها أنبياء اللّه تعالى، كذلك التوجه إلى جهة معينة، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها [سورة البقرة، الآية: 148]. و لا تخلو الأمم البدائية القديمة من هذه العادة و إن كانت مشوبة ببعض الجهات المستنكرة إلاّ أنّ ذلك لا يوجب خروجها عن كونها من طرق توجه القلب و الروح الى المعبود، بل سيأتي في المحل

ص: 137

المناسب إثبات أنّ العباديات جميعها - من الطواف حول الكعبة و السعي في المسعى، و القيام بين يدي المولى، و الركوع، و السجود و القنوت، و غسل الوجه و اليدين، و ما يفعل بالرأس و الرجلين - من طرق توجه القلب إلى اللّه تعالى و عدم غفلته عنه و الخضوع و الخشوع لديه كل عضو بحسبه، و هذا هو معنى الروح في العبادة، و البقية بمنزلة اللفظ أو الجسد، و لا فائدة في لفظ بدون المعنى و جسد بلا روح فيه.

و بعبارة أخرى: إنّ فعل الجوارح مع غفلة الروح و القلب مما يستنكره العقل و العقلاء فكيف يرضى به إله السماء.

الحكمة في تشريع القبلة:

ذكرنا أنّ القبلة الجديدة كانت حدثا نوعيا و اجتماعيا الذي به تحفظ الوحدة بين المسلمين بعد أن كانوا متفقين في العبادة و المعبود، و بها تميز المسلمون عن غيرهم و احتفظوا استقلاليتهم بعد ان كانوا تابعين.

و الظاهر أنّ هذا التشريع النوعي الأبدي هو أول تشريع من نوعه في تاريخ الأديان الإلهية، فلم تكن قبلة بهذه الخصوصية في الأديان السابقة. نعم كان لأهل الكتاب قبلة معينة و لكنها كانت محدودة و موقّتة، فقد ورد في شأن موسى و أخيه أن أوحى اللّه تعالى إليهما أن يجعلا بيوتهما قبلة لقومهما، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّء ا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اِجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة يونس، الآية: 87] و لكنه كان محدودا بحدود خاصة زمانية و مكانية.

و يظهر من بعض الآثار أنّ قبلة اليهود كانت هي التابوت و كانوا يستقبلونه إذا كان معهم في أسفارهم ثم يضعونه عند صخرة بيت المقدس و يصلون إليه ثم عظم مكانه فصار قبلتهم.

و أما قبلة النصارى فكانت شرقي بيت المقدس باعتبار كونه مولد عيسى (عليه السلام) و مدفنه عندهم، و لم يثبت بدليل يصح الاعتماد عليه أنّ قبلة الطائفتين كانت بوحي سماوي أو هي كسائر مقترحاتهم التي اقترحوها من عند أنفسهم.

ص: 138

و لعل أحد وجوه تأكيد القرآن و اهتمامه بكون بيت الحرام قبلة انها أول قبلة شرعت في الأديان السماوية بها تحفظ الوحدة بين أفراد هذا الدين. و انها كانت سببا في هدايتهم، و إعلاما بأنهم على الصراط المستقيم و تدعيما لهم، و قد تكفل سبحانه و تعالى الجواب عن احتجاج المعترضين، كما وصم سبحانه المخالفين بخفة العقول و اتباع الأهواء الباطلة و الظلم و أوعدهم بسوء العقبى إن هم أصروا على الجحود و الإنكار. و لأجل ذلك كله كان هذا التشريع الجديد من موجبات إتمام النعمة على المؤمنين.

تحويل القبلة:

كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه يستقبلون بيت المقدس أول بعثته في مكة حتّى بعد هجرته إلى المدينة إلى نزول الوحي بتحويل القبلة و لقد كان (صلّى اللّه عليه و آله) يرغب في ذلك و يترقبه بشغف شديد، كما حكى عنه عزّ و جل: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها .

و يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ أنّ القبلة الحقيقية كانت هي البيت الحرام، فإنّ كون البيت مثابة يقتضي ان يكون مثابة أيضا لهم في أهم الجهات العبادية و هو الاستقبال و التوجه اليه في العبادة.

و يؤكد ذلك جملة من الأحاديث الواردة في أنّ الكعبة كانت قبلة الأنبياء السابقين (عليهم السلام) و أنّها كانت موضع تقدير العرب و حبهم لها و توجههم إليها، فهي من هذه الجهة اقدم القبلتين و أشرفهما و تربو فضيلتها على بيت المقدس من جهتين: ذاتية - لأنها أشرف بقاع الأرض مطلقا، كما تدل عليه الأخبار الكثيرة، و انها مقابل بيت المعمور - و عرضية، لأنها موضع عبادة المتعبدين من بدء تكوينها، فما زالت مطاف الملائكة المقربين و الأنبياء المرسلين و الأولياء و الصديقين و عباد اللّه الصالحين.

و لا يستفاد من آيات تشريع القبلة ما يخالف ذلك إلاّ ما قد يتوهم في قوله تعالى: ما وَلاّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها [سورة البقرة، الآية:

ص: 139

142]. و قوله تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها [سورة البقرة، الآية:

143] الى غير ذلك مما تقدم من الآيات المباركة:

و يمكن الجواب عنه: بأنّ الآية الأولى نسب الاستقبال فيها إلى المسلمين لا إليه عزّ و جل مما يؤكد عدم كون القبلة المولّى عنها قبلة حقيقية.

و عن الآية الثانية بأنها لا تدل على كون الجعل جعلا أوليا ذاتيا. نعم تدل على الجعل التقريري الظاهري لمصالح ظاهرية متعددة اقتضت استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس - نظير صلح الحديبية و غيره - و المصالح الزمنية قد تقتضي الفعل و قد تقتضي الترك و لذلك أمثلة كثيرة في الشريعة المطهرة، فلم يكن استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس لأجل كونه قبلة حقيقية فنسخت و حولت إلى قبلة أخرى، بل القبلة الحقيقية هي الكعبة المقدسة، و يشهد لذلك

ما ورد: «من أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي - و هو بمكة - نحو بيت المقدس و الكعبة بين يديه».

و عليه فلم تكن مصلحة واقعية في استقبال الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لبيت المقدس، بل كان الحكم إرشادا محضا لاستقرار ظاهر الشريعة، و الأمن من كيد الأعداء و خديعتهم ليحين حين إظهار الحق فهو تكليف مجاملي تأليفي، فيكون اطلاق النسخ عليه من باب المجاز و العناية، أو بالمعنى اللغوي، و هو مطلق التبديل إلاّ إذا أريد منه نسخ قبلة اليهود.

إن قلت: يظهر من ذيل الآية الشريفة: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها أنّ استقبال بيت المقدس كان لأجل كونه قبلة حقيقية لا أنه مجرد تكليف مجاملي. (نقول): إنّ الآية الشريفة في الخلاف أدل و أظهر، كما ذكرنا آنفا.

زمان تحويل القبلة:

قد صلّى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بأصحابه إلى بيت المقدس برهة من الزمن حتّى نزلت آيات تحويل القبلة فأمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 140

بالتحويل إلى القبلة الجديدة و هو في صلاة الظهر بينما كان يصلي بأصحابه فتحوّل إلى الكعبة المقدسة - و في بعض الروايات أخذ جبرائيل بيد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و حوله إليها - و تحول أصحابه إليها حتّى صار الرجال موضع النساء و النساء موضع الرجال، ثم صلّى بهم صلاة العصر إلى القبلة الجديدة، و هو في مسجد بني سالم و سمي بعد ذلك بمسجد القبلتين، و هو من المساجد المشهورة في المدينة المنورة يقصده المسلمون ليؤدوا فيه الصّلاة إعظاما لهذا الحدث العظيم و تخليدا لذكرى صاحبه.

و أما زمانه فالمروي في صحيح مسلم انه كان في رجب من السنة الثانية بعد الهجرة بستة عشر شهرا، و في رواية البخاري انه صلّى الى بيت المقدس بعد الهجرة بستة عشر أو سبعة عشر.

و لكن المشهور - و عليه جمهور العامة - انه كان في النصف من شعبان من السنة الثانية للهجرة. و على كلا التقديرين فلا بد و ان تكون الشهور بعد الهجرة - التي وقعت في شهر ربيع الأول - اما سبعة عشر إذا كان التحويل في رجب، أو ثمانية عشر إذا كان في شعبان.

و روى الشيخ المفيد في مسار الشيعة: «في النصف من رجب سنة اثنتين من الهجرة حولت القبلة» هذا.

و روى ابن بابويه في الفقيه «صلّى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى بيت المقدس بعد النبوة ثلاث عشرة سنة و تسعة عشر شهرا بالمدينة» و ذكره في قرب الأسناد أيضا و لا بد من حمله على بعض المحامل.

تعيين القبلة:

يمكن تعيين القبلة إما بالعلم بها، كما في أهل مكة و الحرم. و إما بالظن و قد عين الشارع له بعض العلامات، كالجدي و غيره، و قد فصل الفقهاء ذلك راجع كتابنا [مهذب الأحكام]. و يستفاد من مجموع ما وصل إلينا ان الشارع اكتفى في تعيينها بمجرد الاطمئنان المتعارف.

و أما ما عن جمع من أعلام الهيئة - رفع اللّه تعالى شأنهم - الذين

ص: 141

اجتهدوا في هذا الموضوع و بذلوا جهدهم في تعيين الجهة، و من ذلك ما تعارف عليه في هذه الأعصار كالآلات المغناطيسية، كل ذلك ان حصل منه الاطمئنان، فلا ريب في كفايته و إلاّ فلا اعتبار به.

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ ت.......

اشارة

كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152) هاتان الآيتان كالآيات السابقة في مقام بيان نعمه تعالى، و فيهما إشارة إلى استجابة دعوة إبراهيم (عليه السلام)، كما انهما تدلان على أصول التربية و التعليم، و لطفه تعالى بالنسبة إلى ذاكريه.

التفسير

قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً . مادة (ر س ل) تأتي بمعنى البعث و الانبعاث مع اللين و السهولة و السكون و الطمأنينة. و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «غبن المسترسل سحت» يعني: من سكن إليك فلا تغبنه. و كذا

قول علي (عليه السلام): «لا تثقنّ بأخيك كل الثقة فان سرعة الاسترسال لن تستقال».

و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من اربعمأة مورد، و هي تستعمل بالنسبة إلى الملائكة، قال تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى [سورة هود، الآية: 69]، و قال تعالى: لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ اَلسَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً [سورة الأسراء، الآية: 95]. و بالنسبة إلى الأنبياء - و هو كثير جدا بجميع الهيئات - و بالنسبة إلى غيرهما، قال تعالى: وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ [سورة الحجر، الآية: 22]؛ و قال تعالى: وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ [سورة الفيل، الآية: 3]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ اَلطُّوفانَ [سورة الأعراف، الآية: 133]، و غالب استعمالاتها في الخير، و قد تستعمل في الشر، قال تعالى: أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي اَلسَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ [سورة الملك، الآية:

17]

ص: 142

و الرسول هو المبعوث من قبل اللّه تعالى لهداية الإنسان و تكميله، و الفرق بينه و بين النبي من جهات:

الأولى: إنّ كل رسول نبي و ليس كل نبي رسولا فيكون بينهما العموم المطلق، لأن النبي يصح ان يكون نبيا في نفسه لنفسه من دون ان يؤمر بإبلاغ الشريعة إلى النّاس، فإذا أمر بذلك يصير رسولا حينئذ - سواء كانت شريعته مبتداة أم ناسخة،

و في الحديث: «ان للّه تعالى أنبياء مستخفين (مستورين) و أنبياء مستعلنين».

و النبي أعم من أن تكون له شريعة كمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) و عيسى، و موسى (عليهما السلام)، أو لم تكن له شريعة، كيحيى و ذي الكفل و لوط (عليهم السلام) و غيرهم ممن هو كثير خصوصا في بني إسرائيل الذين كانوا يبلّغون شريعة موسى (عليه السلام)، كعلماء أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) الذين يبلغون شريعة خاتم الأنبياء.

الثانية: في مبدأ إفاضاتهم من ربهم، فان الرسول يفاض عليه من اللّه تعالى بغير واسطة بشر و يرى الملك و النبي يفاض عليه بالواسطة منه تعالى، و لا يرى الملك؛

و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «الأنبياء و المرسلون على أربع طبقات: فنبي منبّئا في نفسه لا يعدو غيرها، و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و لا يعاينه في اليقظة و لم يبعث إلى أحد، و عليه إمام مثل ما كان ابراهيم (عليه السلام) على لوط. و نبي يرى في النوم و يسمع الصوت و يعاين الملك، و قد أرسل إلى طائفة - قلوا أو أكثروا - كيونس، قال تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ قال: يزيدون ثلاثين ألفا، و عليه امام، و الذي يرى في نومه و يسمع الصوت و يعاين في اليقظة، و هو امام مثل اولي العزم، و قد كان إبراهيم نبيا و ليس بإمام، حتّى قال تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ من عبد صنما أو وثنا لا يكون اماما».

الثالثة: إنّ الرسول قد يكون من الملائكة بخلاف النبي.

و لا ريب في اختلافهم في الفضل، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة البقرة، الآية: 253]، و عمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة و هم: نوح، و ابراهيم، و موسى، و عيسى (عليهم السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله)؛ و يأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [سورة الأحقاف، الآية: 35].

ص: 143

و لا ريب في اختلافهم في الفضل، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [سورة البقرة، الآية: 253]، و عمدة هذا الاختلاف هو العلم بالمعارف الربوبية. كما أن أولي العزم من الرسل خمسة و هم: نوح، و ابراهيم، و موسى، و عيسى (عليهم السلام) و محمد (صلّى اللّه عليه و آله)؛ و يأتي وجه تسميتهم بأولي العزم في قوله تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [سورة الأحقاف، الآية: 35].

و قد ورد أنّ عدد الأنبياء مائة الف و عشرون ألفا، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر على ما يأتي التفصيل.

و الكاف في قوله تعالى «كما» للتشبيه على النعمة السابقة، بلا فرق بين ان تكون «ما» كافة أو مصدرية.

و المعنى: انه كما جعلنا القبلة نعمة لكم و أتممناها عليكم كذلك أرسلنا رسولا منكم تعرفونه، فانه أيضا نعمة عظيمة لكم، لأنه يهديكم من الضلالة إلى الهدى و يرشدكم إلى سبيل الرشاد.

و يمكن أن تكون «كما» إشارة إلى دعوة إبراهيم (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 129]، فتكون إشارة إلى استجابة هذا الدعاء الذي هو من أهم دعواته.

و التعبير بقوله تعالى: مِنْكُمْ للتحريض على الإيمان به، لكونه أقرب إليكم، و لأنه سبب لفخركم و شرفكم. و قد عدد سبحانه بعض ما كلّفه بالنسبة إليهم، و كلها تتعلق بأصول العقائد و تهذيب النفوس.

قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا . تلو تأتي بمعنى المتابعة؛ و هي في القرآن ذكر الكلمة بعد الكلمة على وجه متسق منظّم. و هي أخص من مطلق القراءة، فان كل تلاوة قراءة و ليست كل قراءة بتلاوة، و تختص أيضا بتلاوة كتب اللّه المنزلة، و لو استعملت في غيرها تكون بالعناية:

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، لعل من أشدها عظمة على النفوس قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ [سورة آل عمران، الآية: 58]. و من أشدها حسرة قوله تعالى: أَ تَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ اَلْكِتابَ [سورة البقرة، الآية: 44]. و تقدم بعض الكلام في الآية الأخيرة.

ص: 144

و المعنى: إنّ الرسول يتلو عليكم الآيات الباهرات التي تهديكم إلى الصراط المستقيم و ترشدكم الى الحق القويم.

قوله تعالى: وَ يُزَكِّيكُمْ . أصل الزكاة هو النمو الحاصل من بركة اللّه تعالى سواء أ كان في الأمور الدنيوية، أم الأخروية، أم هما معا. و قد استعملت في القرآن الكريم بأنحاء شتى، فتارة: تضاف الى اللّه عزّ و جل، قال تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 49]. و أخرى: إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)؛ كما في المقام و ثالثة: إلى ذات الفاعل، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [سورة الشمس، الآية: 9]. و هذا هو شأن جميع الصفات ذات الإضافة.

و التزكية هي الطهارة و التقديس عن الأدناس و الأرجاس الظاهرية أو الرذائل المعنوية، سواء كانتا بالنسبة إلى النفس كما في بعض النفوس السعيدة مما يفيض عليها اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، كما قال تعالى: غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 19]، أو بالنسبة إلى الأعمال و الأفعال.

و الرسول الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) هو المثل الأعلى في التزكية بجميع مراتبها و القدوة الحسنة في الأخلاق الفاضلة و السجايا الكريمة لا يدانيه أحد و لا يجاريه فرد، و لقد جاهد في تزكية أمته بدينه و تعاليمه و تشريعاته، و بنفسه الشريفة، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 21]. و تطهيرهم من رذائل الأخلاق و سوء الإعتقاد، فإن بالتزكية يتخلى الإنسان عن الرذائل و الخبائث و يتحلى بالفضائل، فهي التربية العملية التي لها الأثر العظيم في مطلق التربية و التعليم.

و ترتب التزكية على التلاوة من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، و قد يكون من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة، كما

ص: 145

في بعض النفوس المستعدة.

ثم انه تعالى قدم التزكية على التعليم في هذه الآية الشريفة و أخرها عنه في دعاء ابراهيم (عليه السلام) قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ [سورة البقرة، الآية: 129]. و لعل الوجه في ذلك ان للتزكية مراتب كثيرة منها الإرشاد المحض و إتمام الحجة، و منها التخلي عن الرذائل، و منها التحلي بالفضائل، و منها التجلي بمظاهر الأسماء و الصفات الربوبية و لكل واحدة منها درجات، فيحمل ما قدمت فيها التزكية على بعض المراتب؛ و ما أخرت فيها على البعض الآخر.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ . لأنّ بالتعليم يرتقي الإنسان من أدنى درجات البهيمية الى أقصى درجات الإنسانية، فقد كان الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) المعلّم الهادي لأمته يبين لهم ما انطوت عليه شريعته و ما اشتمل عليه كتابه الكريم من الأسرار و المعارف الربوبية.

قوله تعالى: وَ اَلْحِكْمَةَ . تقدم معنى الحكمة في الآية 32 من هذه السورة. فان قلنا بمقالة الفلاسفة من أنّ الحكمة تارة: علمية، و هي: العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة البشرية، و أخرى: عملية و هي صيرورة الإنسان أكبر حجة للّه تعالى في خلقه، فان عظمة مقامها معلومة لكل احد.

و إن قلنا بما يستفاد من الكتاب و السنة المقدسة - و هي متابعة الشريعة أصولا و فروعا، و معرفة حجة اللّه على الخلق - فالأمر اظهر و أبين، و سيأتي شرح الحكمة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [سورة البقرة، الآية: 269].

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ . بفهم أسرار الكتاب العظيم و اخبار الأمم الماضين و العلوم التي تهمكم و تزيد في علوكم، و تكون سببا في تهذيب نفوسكم مما لم تكونوا تعلمونه سابقا.

و هذه الآية على اختصارها تحتوي على أصول التربية و التعليم بالترتيب الذي أراده القرآن العظيم ابتداء بالتلاوة و التذكر بآيات اللّه تعالى، ثم تزكية

ص: 146

النفس من الرذائل و تحليتها بالفضائل لتستعد لإفاضة العلوم عليها، ثم التعليم ثم معرفة الأشياء بحقائقها و العمل بما عرفه كل ذلك من طريق الشرع المبين.

و عليه ترجع التلاوة و الحكمة إلى الكتاب الذي هو القرآن العظيم فإنهما و ان اختلفتا في المؤدى و لكنهما متحدتان مصداقا، لكن الكتاب يظهر بأطوار مختلفة.

قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي . الذكر تارة: يطلق و يراد به التوجه و الالتفاف الفعلي، و هو عبارة أخرى عن الحفظ، و الفرق بينهما بالاعتبار، فإن الثاني يقال له باعتبار ذاته، و الأول يقال له باعتبار التوجه الفعلي الى الشيء، و لو لوحظ ذات الحضور من حيث هو فهما سواء من هذه الناحية.

و قد يطلق أخرى: و يراد به إظهار الشيء باللسان، أو القلب أو الجوارح، فمن الأول آيات كثيرة منها قوله تعالى: هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي [سورة الأنبياء، الآية: 24.] و من الثاني قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً [سورة البقرة، الآية: 200] فإنه عام لذكر القلب و اللسان. و من الأخير قوله تعالى: وَ أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِذِكْرِي [سورة طه، الآية: 14] حيث إنّ الصّلاة ذكر اللّه تعالى بالجوارح أيضا.

بل يطلق الذكر على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو الفرد الأكمل و المرآة الأتم لصفات الجلال و الجمال، قال تعالى: قَدْ أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اَللّهِ [سورة الطلاق، الآية: 10] بناء على أنّ لفظ «رسولا» من لفظ «ذكرا»، كما أطلقت «الكلمة» على عيسى بن مريم (عليه السلام) قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ [سورة النساء، الآية: 171].

و قد يكون بمعنى الشرف و علو المنزلة قال تعالى: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ [سورة الزخرف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [سورة الشرح، الآية: 4].

و الذكرى كثرة الذكر و أبلغ منه قال تعالى: رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 43]، و قال تعالى: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 55].

ص: 147

و الذكرى كثرة الذكر و أبلغ منه قال تعالى: رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة ص، الآية: 43]، و قال تعالى: وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ اَلذِّكْرى تَنْفَعُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الذاريات، الآية: 55].

و المراد به في المقام هو الالتفات الفعلي اليه تعالى قلبا و قولا و عملا عكس قوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].

و الالتفات اليه تعالى يتحقق بتذكر نعمه تعالى و إدمان الشكر عليها و الطاعة و العبادة له و إتيان ما اختاره اللّه تعالى مما فيه السعادة في الدارين فان الالتفات اليه عزّ و جل كذلك مبدأ العبودية المحضة المنتهية الى الكمال المطلق، لما ثبت في الفلسفة العملية من: أن آخر مقام الفناء في مرضاته تعالى أول مقام البقاء به عزّ و جل، و ان أخريات درجات التحلي مبشرات لأوليات مقامات التجلي.

و ذلك لأن أنس النفس بالكامل بالذات و الكمال المطلق، و الخير المحض العام، و الفيض الأقدس التام يوجب ترقي النفس و تعاليها عن حضيض البهيمية حينئذ إلى أوج الكمالات الحقيقية و كلما ازداد الأنس ازداد الارتقاء، و أساس هذا الأنس يدور مدار الالتفات الفعلي اليه عزّ و جل كما يريده تعالى، و هو المعبر عنه ب (الذكر) في الكتاب و السّنة الشريفة، و بعبارات مختلفة أخرى، كالتوجه، و التقرب، و التولية و غيرها.

و المناط كله أمران:

(الأول): الالتفات الفعلي إلى اللّه تبارك و تعالى المعبر عنه في الفقه ب (القربة)، كما يعبر عنه علماء الأخلاق ب (الحضور، و التوجه) و نحو ذلك.

(الثاني): كون ما يذكر به اللّه عزّ و جل مأذونا فيه من قبله تعالى، فقد ورد الإذن فيه في الشريعة المقدسة بشرائطه المعينة التي لا بد من مراعاتها، كما فصلها الفقهاء، فكل ما يكون مرضيا للّه تعالى و يؤتى به لوجهه عزّ و جل فهو ذكر اللّه تعالى، سواء أ كان من العقائد أم الأخلاق الحسنة، أم العبادات و المعاملات أم غير ذلك فإن ذكره تعالى - كرحمته - وسع كل شيء

ص: 148

إذا لوحظ فيه التوجه اليه، و قد جعله تعالى بهذه التوسعة تسهيلا لوصول عباده إليه عزّ و جل و ما ورد في الفلسفة العملية من: «أنّ الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق» فيه إشارة إلى ما ذكرناه. فكما لا حدّ للمذكور كذلك لا حدّ لمراتب الذكر.

فان الذكر اللفظي كالتسبيح و التحميد و التهليل و الشكر لنعمائه.

و الذكر العملي هو العبادة، و الطاعة، و الأفعال المرضية له تعالى كعيادة المرضى، و تشييع الموتى، و السعي في قضاء حوائج الأخوان.

و الذكر القلبي هو التوجه و الخلوص و التقرب إليه تعالى. و كلما ازدادت عبودية العبد لربه ازداد مقام توجه إليه؛ و لذا ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب و لا نبي مرسل». و فيه إشارة إلى بعض توجهاته الخاصة إلى مقامات ربه، أو

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّي أبيت عند ربي فيطعمني و يسقيني ربي».

ثم إنّ ترتيب قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي على الآيات السابقة ترتيب عقلي واجب من باب وجوب شكر المنعم الذي يحكم به العقل المستقل.

و المتحصل من جميع ما ذكرناه أمور:

الأول: إنّ الذكر منبث على القلب و اللسان و الجوارح، و لا يختص بخصوص الذكر اللفظي بل كل ما كان مضافا إليه عزّ و جل و كان مأذونا فيه من قبله تعالى و تقابله المعصية فإنها لا تصدر إلاّ مع الغفلة عنه عزّ و جل.

الثاني: إنّ حقيقته هو التوجه الفعلي إليه عزّ و جل، أي العلم الفعلي بأصل العلم لا مجرد العلم فقط، و لذلك مراتب كثيرة منها ما ذكره بعضهم: «أن ينسى العبد ما سوى اللّه تعالى و يكون مقصوده من جميع حركاته و سكناته و أفعاله و أقواله - بل و خطرات قلبه - هو اللّه تعالى».

الثالث: إنّ أمره بالذكر شامل لجميع المراتب و لا يختص بخصوص بعضها.

ص: 149

الرابع: إنّ ما يقترفه النّاس في كيفية ذكره تعالى لا أصل له إلاّ إذا ورد من الشرع المقدس الإذن فيه، و قد ورد في الأحاديث في ما يتعلق بالذكر - كمية و كيفية زمانا و مكانا - ما يشفي العليل و يروي الغليل، و قد وضع الأعلام فيه كتبا و رسائل.

الخامس: أقسام الذكر ستة فتارة: يتعلق بالنعم الطبيعية، قال تعالى:

أَ وَ لا يَذْكُرُ اَلْإِنْسانُ أَنّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية:

67].

و أخرى: يتعلق بالنعم العارضة التي أفاضها اللّه سبحانه على الإنسان، قال تعالى: لِيَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ اَلْأَنْعامِ [سورة الحج، الآية: 34].

و ثالثة: يكون محبوبا بذاته على كل حال و مجردا عن الإضافة قال تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اَللّهَ كَثِيراً [سورة الشعراء، الآية: 227].

و رابعة: يكون عند اهتمام النفس بشيء غير مرضي له تعالى فيذكر اللّه و يرتدع عنه، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ اَلشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 201]، و قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اَللّهِ أَكْبَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 45].

و خامسة: يكون بعد الارتكاب فيذكر طلبا لرضائه، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: 135].

و سادسة: حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه تعالى،

و قد ورد في الدعاء:

«و عزتك و جلالك ما أردت بمعصيتي مخالفتك و ما عصيتك إذ عصيتك و أنا بك جاهل و لا لعقوبتك متعرض و لا لنظرك مستخف و لكن سوّلت لي نفسي».

ص: 150

إن قيل: ذكره تعالى حين ارتكاب ما لا يرتضيه اللّه عزّ و جل كيف يكون محبوبا له تعالى. (يقال): إنّ الذكر إذا كان على نحو الاستخفاف و الاستهانة - نعوذ باللّه - فلا ريب في أنه ليس من الذكر بل يوجب الكفر و البعد عن ساحة الرحمن. و أما إذا كان من باب انه تعالى ستّار العيوب، و غفار الذنوب فهذا يوجب الحياء منه تعالى و لو في ما بعد، فينتهي إلى التوبة و الاستغفار فيكون محبوبا له.

قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ . للمفسرين في بيان متعلق الذكر أقوال:

منها: اذكروني بطاعتي أذكركم برحمتي، أو أذكركم بمعونتي.

و منها: اذكروني بالشكر على نعمائي أذكركم بالزيادة إلى غير ذلك مما قالوه.

و الحق هو الحمل على العموم و هو ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر العبودية حتّى يدرك ذكر اللّه تعالى في كل مظهر من مظاهر رحمته وجوده، و منه

ما ورد في الحديث: «أنا عند ظن عبدي المؤمن إذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، و إذا ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه - الحديث -» و هو يجازي عبده بالجزاء الأوفى و يعد له باللطف و الكرامة و الإحسان و مزيد في النعم و يضاعف لمن يشاء إنه ذو فضل عظيم.

فلا يختص ذكره تعالى لذاكريه بعالم دون آخر و لا بحالة دون أخرى.

ثم إن ترتب قوله تعالى: أَذْكُرْكُمْ على «اذكروني» من باب ترتب المعلول على العلة التامة، لأن التوجه الفعلي من العبد الى اللّه عزّ و جل ذكر منه تعالى للعبد بعناياته الخاصة، فيكون هذا المعنى من الذكر من الصفات ذات الإضافة، فان أضيف إلى العبد يكون ذكرا منه، و إن أضيف اليه عزّ و جل يكون من ذكر اللّه تعالى له.

و قد يكون من باب ترتب المقتضى [بالفتح] على المقتضي [بالكسر] لاختلاف مراتب الذكر و الذاكر كما هو معلوم، و الظاهر أن ملازمة الذكر للذكر من الملازمات المتعارفة بين العقلاء فهو حسن لديهم و يكون من اللّه تعالى

ص: 151

أحسن.

قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ . مادة (ش ك ر) كمادتي (ك ش ر)، و (ك ش ف) تأتي بمعنى الإظهار، و يقابلها مادة (ك ف ر) التي تأتي بمعنى الستر و يختلف ذلك باختلاف المتعلق اختلافا كثيرا. و الجامع القريب في الأولى الإظهار، و في الثانية الستر.

فإظهار وحدانية اللّه تعالى، و صفاته الحسنى، و أفعاله العليا إيمان و ستر ذلك كفر، و لهما مراتب. كما أن إظهار نعمه شكر و سترها كفر، و يطلق عليه الكفران أيضا.

و الإظهار تارة: يكون بالاعتقاد، و أخرى بالقول، و ثالثة بالعمل إما بفعل ما أوجبه اللّه تعالى أو ترك ما نهاه عنه تعالى، و قد قال علي (عليه السلام): «شكر كل نعمة الورع عن محارم اللّه تعالى».

و المعنى: أظهروا نعمائي و لا تكفروا بسترها.

و إنما قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ و لم يقل: و اشكروا لي أشكركم، لأمور:

أحدها: الإعلان بقبح الكفر و الكفران استقلالا.

ثانيها: التنبيه على عظم النعمة، و أنه بمنزلة كفر الذات.

ثالثها: إنه استفيد من مقابلة الذكر بالذكر - في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ - بالملازمة فلا وجه للتكرار بعد ذلك.

ثم إنّ الشكر من أجلّ الصفات الحسنة و من أرفع مقامات العبودية و هو على أقسام:

الأول: أن يكون من المخلوق للخالق، و قد رغّب اليه الكتاب و السنة المقدسة ترغيبا بليغا بأنحاء مختلفة: بأن أضاف الشكر تارة: إلى نفسه، قال تعالى: أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ [سورة لقمان، الآية: 14]

ص: 152

و قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ [سورة البقرة، الآية: 172] إلى غير ذلك من الآيات المباركة. و أخرى: إلى نعمه قال تعالى: وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ [سورة النحل، الآية: 114]. و هو يرجع الى الأول، لأن كل ما بالعرض لا بد ان ينتهي إلى ما بالذات. و ثالثة: إلى نفس الشاكر، قال تعالى: وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة لقمان، الآية: 12] فان غاية الشكر إنما يرجع الى نفس الشاكر، كقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ [سورة الأسراء، الآية: 7]، و لا فرق في هذا القسم بين أن يكون الشكر على الآراء و المعتقدات الحسنة و المعارف الحقة، أو على النعم الخارجية، و جميع ذلك مذكور في القرآن الكريم، قال تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة المائدة، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل، الآية: 78] و قال تعالى: وَ رَزَقَكُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 26] و هو مطابق للقواعد العقلية لأن أساس معرفة اللّه تعالى مبني على وجوب شكر المنعم عقلا - و هذا الوجوب عقلي لا أن يكون شرعيا - و معرفة اللّه تعالى من أرفع المقامات و الكمالات الإنسانية التي وصل الإنسان إليها بحكم عقله.

الثاني: أن يكون من الخالق للمخلوق، قال تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً [سورة النساء، الآية: 147]، و قال تعالى: وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً [سورة الإنسان، الآية: 22] بل الشكور من أسمائه الحسنى، فإن من عادة العظماء التشكر مما يستحسنونه من أعمال الرعايا، و له دخل كبير في سوق العباد الى العمل و جلب قلوبهم.

الثالث: أن يكون من الخلق لآخر مثله و هو من مكارم الأخلاق،

و قد ورد في الحديث: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» لانتهاء المخلوق و نعمه إلى الخالق فالشكر له ينتهي بالآخرة الى شكر نعمائه، و ترك شكر المخلوق ينتهي الى ترك شكر الخالق في سلسلة الأسباب.

ثم إنّ الشكر تارة: يكون للّه تعالى لذاته بذاته بلا لحاظ عناية أخرى، لأنه مبدأ الكل و منتهاه فيستحق الشكر و هو شكر أخص الخواص،

ص: 153

و أخلص أنواع الشكر و أعظمها.

و أخرى: يكون على ما يرد منه تعالى على عبده من البلايا و المحن فيشكر عليها كشكره على النعم، و هو شكر الخواص، و هو كالأول من أجل مقامات العارفين باللّه تعالى.

و ثالثة: يكون بإزاء النعمة و هو شكر العامة من الأنام، و سيأتي في قوله تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7] ما يناسب المقام إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنّ في اختيار صيغة التكلم في قوله تعالى: أَرْسَلْنا أو قوله تعالى: آياتِنا ثم توجيه الكلام إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إشارة إلى أنّ الاستكمال في المعارف الإلهية لا بد و ان ينتهي اليه عزّ و جل، و أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في ذلك واسطة محضة.

و فيه إشارة إلى الاتحاد في هذه الجهة بينه تعالى و بين نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) حيث شبك الكلام بالضمير الراجع إلى ذاته الأقدس و الضمير الراجع إلى نبيه المقدس.

الثاني: أنّ الآيات المباركة تدل على نبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي لم يكن من ذاته شيء و له من ربه كل شيء فجعله منشأ الفيوضات التامة في عالم الغيب و الشهادة فانه ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ اَلْقُوى [سورة النجم، الآية: 4].

الثالث: إنّها تدعو النّاس إلى جميع أنحاء الكمالات الظاهرية و المعنوية بالتعليم.

الرابع: أنّ مقتضى المطابقة و المجازاة بين ذكر العبد و ذكره تعالى أنه بكل وجه تحقق ذكر العبد يتحقق ذكره تعالى له بمثله و نظيره مع

ص: 154

الزيادة، لفرض سعة رحمته و فضله فإن ذكره العبد في نفسه يذكره اللّه عزّ و جل كذلك، و إن ذكره في ملأ من النّاس يذكره اللّه تعالى في ملإ من الملائكة و إن ذكره للدنيا أو الآخرة يكون ذكره تعالى لعبده كذلك، و يمكن أن يكون صرف وجود ذكره تعالى لعبده منشأ لسعادته الأبدية التي لا حد لها و لا حصر، و ذلك يختلف باختلاف الاستعدادات و النفوس. هذا بناء على ما هو ظاهر الآية الشريفة من سياق الشرط و الجزاء الظاهري. و أما بناء على ما أشرنا اليه من رجوع المعنى: ان أذكركم فلا تغفلوا عني، فللمقام لطائف أخرى نشير إليها في الآيات الأخرى.

الخامس: إنّ في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ لطف و عناية و تعليم للغير بمجازاة الخير بالخير.

السادس: إنّ في قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ تحذيرا لأمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) أن لا يتركوا ما أمرهم اللّه تعالى و لا يكفروا بما أنعم اللّه عليهم، لئلا يقعوا في ما وقعت فيه الأمم السابقة بعد ما كفرت بأنعم اللّه تعالى.

السابع: إنّ في ذكر العنوان الإثباتي بقوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا و العنوان السلبي بقوله عزّ و جل وَ لا تَكْفُرُونِ إشارة إلى الاهتمام بالموضوع أولا؛ و نفي أنحاء الكفر حتّى كفران النعمة ثانيا، و إلاّ فيصح الاكتفاء بأحد العنوانين.

بحث روائي:

في الكافي عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«مكتوب في التوراة التي لم تغير، أن موسى سأل ربه فقال (عليه السلام) : يا رب أ قريب أنت مني فأناجيك أم بعيد فأناديك؟ فأوحى اللّه عزّ و جل اليه: يا موسى أنا جليس من ذكرني. فقال موسى (عليه السلام): فمن في سترك يوم لا ستر إلاّ سترك؟ قال: الذين يذكرونني فأذكرهم و يتحابون فيّ فأحبهم فأولئك الذين إن أردت أن أصيب أهل الأرض بسوء ذكرتهم فدفعت عنهم بهم».

ص: 155

أقول: الروايات متواترة بين الفريقين في فضل الذكر و التحابب في اللّه و التباغض فيه بل في بعضها:

«ليس الإيمان إلاّ الحبّ في اللّه و البغض في اللّه».

و المراد من قوله تعالى: «ذكرتهم فدفعت عنهم» التوجه الخاص الذي يكون بالنسبة الى الأولياء و لأجلهم خلق هذا العالم و يدار هذا النظام، أي:

«العلة الغائية» كما عبروا عنها في الفلسفة الإلهية.

في عدة الداعي قال: روي «أن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) خرج على أصحابه فقال: ارتعوا في رياض الجنّة، فقالوا: يا رسول اللّه و ما رياض الجنّة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب ان يعلم منزلته عند اللّه فلينظر كيف منزلة اللّه عنده، فإن اللّه تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد اللّه تعالى من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر اللّه تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه، فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان».

أقول: المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «ارتعوا في رياض الجنّة» الترغيب في المسارعة إلى مجالس ذكر اللّه تعالى إن كانت المجالس و كان الذكر مستجمعا لجميع الشرائط التي ذكرها الفقهاء.

و المراد من المنزلة توجه قلب المؤمن و إخلاصه من كل جهة الى اللّه تعالى، و لازم ذلك ارتفاع منزلته عند اللّه تعالى فتكون القضية حينئذ من الملازمات العقلية، لأن الانقطاع من جميع الجهات اليه تبارك و تعالى بحيث لا يشوبه شيء آخر يوجب ان تكون عناياته متوجهة اليه، بل نفس هذا الانقطاع اليه هكذا عناية خاصة منه تبارك و تعالى.

و المراد من

قوله: أنا جليس من ذكرني نهاية القرب اليه جلت عظمته و الدنو المعنوي منه، كما يقرب إلينا جليسنا و يدنو منا لا أن يكون المراد

ص: 156

منه القرب المكاني.

و في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: من شغل بذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي من سألني».

أقول: إن شغل النفس بذكره تعالى عن بيان الحاجة يكون على قسمين:

الأول: ما إذا كان لسان حاله أنّ علمك بحالي يغني عن مقالي.

الثاني: ما إذا نسي ذلك كله و توجه اليه تعالى من كل جهة، و في القسمين يحصل التوجه التام بالنسبة اليه فيغفل عن شؤونه.

و في المعاني عن الحسين البزاز قال: «قال لي أبو عبد اللّه (عليه السّلام): ألا أحدثك بأشد ما فرض اللّه على خلقه؟ قلت بلى قال: إنصاف النّاس من نفسك؛ و مواساتك لأخيك، و ذكر اللّه في كل موطن، أما أني لا أقول سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلاّ اللّه و اللّه أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر اللّه في كل موطن إذا هجمت على طاعة أو معصية».

أقول: المراد بهذا الذكر - ما تقدم في أقسام الذكر - هو الذكر العملي الخارجي عند إرادة الطاعة أو إرادة المعصية بحيث يكون الذكر اللفظي كاشفا عنه.

في الكافي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ يا ابن آدم أذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك».

أقول: تقدم في ضمن الآية المباركة ما يرتبط بهذا الحديث.

و في المحاسن عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال اللّه عزّ و جلّ:

ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلإ أذكرك في خلإ، ابن آدم اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك. و قال: ما من

ص: 157

عبد ذكر اللّه في ملإ من النّاس إلاّ ذكره اللّه في ملإ من الملائكة».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بل متواترة بين الفريقين و هذا الحديث مبين لبعض أقسام الذكر فانه إما نفسي قلبي، أو باللسان في مكان خلوة، أو باللسان في الملإ، و الذكر في الملإ إن أوجب ذكر الملإ للّه تعالى، فلا ريب في أن ذلك يوجب تشعب أذكار كثيرة كلها من ناحية الذاكر، فيترتب عليه الثواب مضاعفا، و إن لم يوجب ذكر غيره يكون من إتمام الحجة على الغير فيكون كسابقه.

في الكافي عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «أوحى اللّه إلى موسى: يا موسى لا تفرح بكثرة المال و لا تدع ذكري على كل حال، فإن كثرة المال تنسي الذنوب، و إن ترك ذكري يقسي القلوب».

و في الدر المنثور أخرج الطبراني و ابن مردويه، و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب اللّه: من أعطي الذكر ذكره اللّه، لأن اللّه يقول: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ . و من أعطي السؤال أعطي الإجابة. لأن اللّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ . و من أعطي الشكر أعطي الزيادة: لأن اللّه يقول: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة، لأن اللّه تعالى يقول: اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفّاراً ».

أقول: و روي قريب منه عن علي (عليه السّلام) و لا بد من تقييد ذلك بما إذا وقع من العبد بشرائطه.

و في الدر المنثور قال: «رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): من أطاع اللّه فقد ذكر اللّه و إن قلّت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن. و من عصى اللّه فقد نسي اللّه، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن».

أقول: يستفاد من أمثال هذه الروايات أن منشأ كل معصية هي الغفلة عن اللّه تعالى، و تدل على ذلك آيات كثيرة نتعرض للتفصيل فيها إن شاء اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى

ص: 158

اللّه عليه و آله) ما من قوم اجتمعوا في مجلس فلم يذكروا اسم اللّه عزّ و جلّ و لم يصلوا على نبيهم إلاّ كان ذلك المجلس حسرة و وبالا عليهم».

أقول: الوبال هو سوء العاقبة و العذاب، و كون المجلس وبالا لتحقق الغفلة عن اللّه تعالى، لأنها منشأ كل معصية و لا وبال أشد منها.

و الوجه في كون ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) من ذكر اللّه تعالى لفرض انه رسوله و ينبئ عنه، و كذا جميع أولياء اللّه تعالى الذين يدعون إليه تعالى.

و في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «قلت له: للشكر حد إذا فعله الرجل كان شاكرا؟ قال (عليه السّلام): نعم. قلت: و ما هو؟ قال: الحمد للّه على كل نعمة أنعمتها عليّ، و إن كان لكم في ما أنعم عليه حق أداء منه، و منه قول اللّه: الحمد للّه الذي سخر لنا هذا».

أقول: هذا بيان لأدنى مرتبة حد الشكر، لإتمام مراتب الشكر.

عن العياشي أيضا عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) قال: «الكفر في كتاب اللّه على خمسة أوجه: فمنها كفر النعم و ذلك قول اللّه يحكي قول سليمان: هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ و قال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ . و قال: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ .

أقول: تقدم ما يتعلق بأقسام الكفر في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 6] و في البحث الروائي منه.

بحث عرفاني:

من أجلّ مقامات العارفين مقام الذكر، بل هو من أعظم مظاهر حب الحبيب لمحبوبه فإن «من أحب شيئا أكثر من ذكره»، و من علامات الحبيب الاستهتار بذكر حبيبه، و قد قالوا: إن المحب إذا صمت هلك، و العارف إذا نطق هلك، لأن الأول مجبول على ذكر الحبيب، و الثاني مأمور بستر

ص: 159

الأسرار،

و نسب إلى سيد الساجدين (عليه السّلام):

يا رب جوهر علم لو أبوح به * لقيل لي أنت ممن تعبد الوثنا و الذكر - عندهم - على أقسام ثلاثة:

الأول: ذكر اللسان المستمد من القلب.

الثاني: ذكر القلب مع عدم حركة اللسان، و يسمى مناجاة الروح و الاستجماع للمذكور بالكلية، و هذا ذكر الخواص.

الثالث: ذكر السرّ، و معناه غيبة الذاكر في المذكور - في الجملة - فكأن المذكور يكون هو الذاكر، و هذا ذكر أخص الخواص. و مثّلوا لكل ذلك بأمثلة مذكورة في محالها. كما بينوا لكل واحد منها ثمرات و نتائج.

و لو أضفنا إلى ما ذكروه من الأقسام، ذكر عامة النّاس الذي يقوم بالجارحة اللسانية فقط من دون استمداد من القلب، تصير الأقسام أربعة.

و لعلّهم لم يذكروا هذا القسم لتنزّههم عن مثل هذا الذكر.

ثم إنّ ذكر الذاكر إنما يتقوم بحبه للمذكور، و لولاه لم يذكره و المذكور قد يحب الذاكر قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 31]، بل حبه لجميع خلقه مما أثبتته الأدلة العقلية - كما برهن في الفلسفة الإلهية - و النقلية، فيقع التجاذب في البين لكل من الحبيبين. و بعد تحقق مراتب الحضور بينهما كيف يتحقق التخالف؟! لأن ذكر الحاضر من تمام الجهات قبيح قال الشاعر:

اما ترى الحق قد لاحت شواهده *** و واصل الكل من معناه معناكا

و البحث نفيس جدا لو وجدت لهذا العلم الشريف حملة.

بحث علمي:

يتضمن قوله تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ أهم

ص: 160

المناهج في تربية الإنسان في استكماله، و مثله في القرآن الكريم كثير.

و قد أشار سبحانه و تعالى إلى بعض الأصول المهمة في هذا المنهج - كما هو دأبه عزّ و جلّ في القرآن الكريم - فعلى الإنسان الجد و الاجتهاد في التفريع عليها و تطبيقها على مجالات الحياة.

و لا ريب في أهمية التربية و التعليم و ارتباطهما الوثيق بالإنسان و دخلهما في جميع جوانب حياته و بهما يستكمل الفرد و ينال السعادة في الدارين. و لا يمكن لأي فرد من أفراد الإنسان الاستغناء عنهما في أي دور من أدوار حياته و بهما يقوم النظام الاجتماعي، و لا يوجد أمر آخر يكون له هذا الاتصال بالواقع الإنساني و تكون له هذه الشمولية، و هما قرين الإنسان منذ أول الخليقة في جميع أدواره.

و لا يعقل بالنسبة إليه تعالى إهمال هذا الجانب المهم في الإنسان مع علمه عزّ و جلّ بما يترتب على إهماله من الآثار، و لم يشرع شريعة إلاّ لتهذيب النّاس و تكميلهم و إيصال الفرد إلى السعادة.

و منهج التربية و التعليم - كسائر المناهج و العلوم - قد طرأ عليه تغييرات و لم يصل إلى حده الفعلي إلاّ بفضل جهود العلماء و المربين و وضع النظريات العلمية مما أوجب التغلب على كثير من الصعاب.

و للتربية و التعليم مناهج متعددة و قد وضعوا في كل واحد منها كتبا و رسائل كثيرة جدا. و أهم تلك المناهج هو: المنهج العقلي، و المنهج المادي، و المنهج التجريبي، و جميع هذه المناهج قاصرة عن الإيصال إلى المطلوب إلاّ المنهج الإسلامي المبيّن في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و السبب في قصورها عدم كفاءتها في رفع المشكلات الإنسانية إلاّ في حدود معينة وصلت إليها أفكارهم القاصرة و لذا نرى الاختلاف و التناقض فيها بخلاف المنهج الإسلامي الذي يصدر عن منبع محيط بكل الجهات و في كل زمان.

ص: 161

و يمتاز هذا المنهج القرآني عن غيره بوجوه عديدة أهمها:

الأول: إنّ المنهج التربوي و التعليمي في الإسلام ليس ماديا صرفا و لا عقليا بحتا بل هو يشمل الجانبين و يعطي لكل جانب حقه.

الثاني: إنّه يراعي الجانب التطبيقي و يعطي للعمل أهميته و يهتم بالمربّين و المعلمين قبل كل شيء، فهو يأمر بالتزكية و إتيان العمل الصالح و لا يكتفي بالجانب النظري فقط.

الثالث: إنّه يهدف الكمال الإنساني و يبغي سعادة الفرد و الاجتماع و وضع لكل ذلك أسسا و قواعد لا يمكن التخلي عنها.

الرابع: إنه عام يشمل جميع مراحل الإنسان و جميع جوانب حياته بل يشمل مرحلة ما بعد الموت أيضا بحسب الآثار.

الخامس: إنّه مرتب ترتيبا دقيقا يبتدئ بالتلاوة ثم التزكية فالتعليم و طلب الحكمة، و التجاوز عن هذا الترتيب لا يوصل إلى ما يريده الإسلام.

و في القرآن الكريم إشارات إلى كل واحد من الأمور المتقدمة و في السنة الشريفة شرح ذلك و يأتي في الآيات المناسبة التعرض لها إن شاء اللّه تعالى.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ (155) اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ (157) الآيات متسقة منتظمة كلها وردت في سبيل استكمال الإنسان. و لذّة النداء و الخطاب في أولها نرفع عن العبد ثقل التكليف. و قد بيّن سبحانه و تعالى فيها أن الإنسان في طريق استكماله و إشاعة الحق و مقارعة الباطل

ص: 162

يقترن بأنحاء من البلاء و المحن في الأنفس و الأموال و لا يمكن التغلب عليها إلاّ بالصبر و التوجه إليه تعالى في كل أمر. و قد لطف سبحانه و تعالى على عبيده بما يهون عليهم احتمال المكاره و يخفف عنهم عظم المصاب بما أعده سبحانه للصابرين من البشارة العظمى، و لمن قتل في سبيله الأجر الجزيل. و لا يسعنا في ذلك إلاّ أن نقول بما

قاله الإمام زين العابدين (عليه السّلام) في صحيفته:

«و لو دل مخلوق مخلوقا من نفسه على مثل الذي دللت عليه عبادك منك كان موصوفا بالإحسان و منعوتا بالامتنان و محمودا بكل لسان» فهذه الآيات تكفي في عظمة الموحي و الموحى إليه و الوحي لكل من كان له سمع أو ألقى السمع و هو شهيد.

التفسير
اشارة

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . قد ورد هذا الخطاب في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا و فيه من التحبب و الملاطفة مع عبيده ما لا يخفى، و المنساق من سياقه تلبس المخاطب بالإيمان في الجملة، و هو يقتضي أن يكون الخطاب مدنيّا لا مكّيا. و تقدم ما يتعلق به في الآية - 104 من هذه السورة فراجع.

قوله تعالى: اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ . الصبر هنا مقاومة النفس مع ما يرد عليها من المكاره و الأذى. و حذف متعلقه يفيد العموم - كما هو المعروف في العلوم الأدبية - أي استعينوا بالصبر في جميع أموركم فإنه مفتاح النجاح، و هو في كل شيء حسن، و لا يتعلق بشيء إلاّ و صار محبوبا، فهو أمّ الفضائل و الجامع لجميع جهات استكمال الإنسان إذا كان الصابر مراعيا لتكاليف المولى.

و الاستعانة بالصبر استعانة بأهم الأسباب المؤدية إلى المطلوب و أعظم السبل في نيل المقصود، و الحاجة إليه في تأييد الحق و مقارعة الباطل و احتمال المصائب معلوم لكل احد، و آثاره ظاهرة لكل فرد، و تقدم ما يتعلق به في الآية - 45 من هذه السورة.

و أما الاستعانة بالصلاة فإنها استعانة بأبرز مظاهر العبودية لرب

ص: 163

العالمين، و أهم أبواب مناجاته تعالى، و الإستغاثة به عزّ و جلّ، لما تشتمل على عظيم الآثار، فإنها معراج المؤمن، و إنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر، و بها يحصل للنفس سكونها و اطمينانها عن الحوادث الواردة عليها، لأن فيها ارتباط بعالم الغيب المحيط بهذا العالم - و الإنسان خلق من ذلك العالم فإذا طابقت سنخية الذات مع العمل يحصل الانقطاع عن العلائق و يشتد الارتباط مع رب الخلائق، فينتظم النظام على الوجه الأصلح.

و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا حزبه أمر - أي اشتد عليه - فزع إلى الصلاة» و تقدم نظير هذه الآية في هذه السورة آية - 45 إلاّ أن في الأولى مدح سبحانه الصلاة و في هذه مدح الصبر و بشر الصابرين.

و الوجه في التكرار التأكيد على أهمية الصبر و الصّلاة في تنفيذ الأمور و تكميل النفوس و توطينها لاحتمال المكاره و تحصيل السعادة في الدارين.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ مَعَ اَلصّابِرِينَ . لفظ «مع» يأتي بمعنى الجمع و المصاحبة في الجملة، و يختلف اختلافا كبيرا بحسب الموارد و الخصوصيات، و يستعمل في الخالق و المخلوق، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 123] و قال تعالى حكاية عن نوح: وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء، الآية: 118].

و المعية نحو ارتباط حاصل تارة: بين الخالق و المخلوق حدوثا و بقاء، قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4] و يعبر عنها بالمعية القيّومية و تلازمها المعية الزمانية و المكانية و الجامع

ما ذكره علي (عليه السّلام): «مع كل شيء لا بالمجانسة و غير كل شيء لا بالمباينة».

و أما معية المخلوق مع خالقه فيعبر عنها بعبارات مختلفة، أولها العبودية و آخرها الفناء في اللّه تعالى و نتيجة الجميع البقاء باللّه تعالى.

و أخرى: تحصل من عونه و نصرته و توفيقه، و تسبيب أسباب الخير، و منها معيّته تعالى مع الصابرين و المتقين و الأنبياء و الصالحين، فتكون معيته تعالى لهم من جهتين جهة قيموميته تعالى، و جهة فعله و عنايته و نصرته لهم. و هناك معان أخرى للمعية تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 164

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ . المراد من القول هو الأعم من الإعتقاد و التعبير بالألفاظ، فاستعمل في الجامع.

و القتل إزهاق الروح عن الجسد إذا لوحظ فيه الإضافة إلى الفاعل. و أما إذا لوحظ فيه الإضافة الى المقتول فيصح التعبير عنه بالموت أيضا. هذا بحسب الشايع المتعارف و إلاّ فيصح إطلاق القتل بالنسبة إلى الجنين الذي لم تتعلق به الروح بعد كما ورد في بعض أحاديث دية الجنين.

كما لا يختص بإزهاق روح الإنسان بل يشمل الحيوان أيضا قال تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 2] و النصوص في هذا الإطلاق مستفيضة من الفريقين.

بل يطلق القتل على إزالة المعارف الحقة عن النفوس المستعدة أو دفعها عنها. فإنّ من تسبب في جهل الناس بالمعارف الإلهية فقد قتلهم شر قتلة لأنه أزال حياتهم الأبدية السرمدية كما يأتي التفصيل.

و قد ذكر القتل هنا بهيئة المضارع، و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا [سورة آل عمران، الآية: 169] بهيئة الماضي، و لا فرق بينهما من هذه الجهة، لما ذكرناه من القاعدة الكلية المؤيدة بالدليل العقلي بانسلاخ الأفعال عن الزمان بحسب ذاتها و الخصوصيات الزمانية تستفاد من القرائن الخارجية.

و السبيل هو الطريق الذي فيه السهولة، و يستعمل في كل ما يتسبب به إلى المطلوب - خيرا كان أو شرا - قال تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً [سورة الأعراف، الآية:

164].

و قد ذكرت جملة «سبيل اللّه» في القرآن الكريم ما يزيد على ستين موردا و هو يدل على سعته و شموله و عظمته و أهميته، و تقدم الفرق بينه و بين الصراط في سورة الحمد عند قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ و قد ذكر في القرآن الكريم و السنة المقدسة بعض المصاديق: مثل بذل النفس في إحياء كلمة التوحيد و تأييد الحق و قمع الباطل، و بذل المال للضعفاء، و إفشاء

ص: 165

الأخلاق الحسنة بين النّاس، و خدمة الوالد، و صلة الأرحام، و إغاثة اللهفان، و عون الضعيف و غير ذلك مما لا حد له و لا حصر، و تقدم قول: «إن الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق».

و المراد به في المقام الجهاد لإعلاء التوحيد و نصرة الحق و مقارعة الباطل و قمعه.

و ذكر القتل في سبيل اللّه بعد قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ من باب ذكر أهم الأفراد و أعظم الأمور الّتي لا بد من الاستعانة بالصبر فيها، يعني: إن اللّه تعالى مع كل صابر خصوصا هذا القسم من الصابرين فإنه آخر درجة التصبر و الاصطبار، فيمنحهم اللّه تعالى المعونة و الأجر الجزيل.

قوله تعالى: أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ . أي: لا تقولوا: في شأن من قتل في سبيل اللّه أنهم أموات مفقودون عن الحس ذهبوا الى دار الفناء بل هم أحياء حياة أبدية و لكن لا تشعرون بها، لأن حياتهم في غير هذا العالم المحسوس المدرك بالمشاعر.

و المراد بالحياة هنا الأعم من الحياة في عالم البرزخ و الحياة الحقيقية لأجل إحياء الدين، و الحياة في الذكر و اللسان،

نظير ما ورد عن علي (عليه السّلام): «هلك خزان المال و هم أحياء و العلماء باقون ما بقي الدهر أعيانهم مفقودة و أمثالهم في القلوب موجودة» و هو من باب ذكر بعض الأفراد الذي يبقى لا من باب الحصر.

و قد ذكر المفسرون في معنى الحياة هنا ما لا يرجع إلى محصّل كما يأتي تفصيل الكلام فيها.

و الحياة على أقسام:

الأول: الحياة الدنيوية الظاهرية المتقومة بتدبير النفس في البدن و إعمالها للقوى الظاهرية و الباطنية في الجسم الدنيوي فقط.

الثاني: الحياة الذكرى عند النّاس بعد ارتحال النفس عن البدن كما في العظماء و الأكابر الذين خلدت أسماؤهم في التاريخ تعظيما لجهودهم في

ص: 166

العلم و الأعمال الخيرية الصادرة منهم في حياتهم.

الثالث: الحياة الأبدية الخالدة التي لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

و ظاهر الآية المباركة و النصوص الواردة في حياة المقتول في سبيل اللّه هو القسم الأخير، لفرض أنّه بذل نفسه و نفيسه في سبيل الحي القيوم الأزلي الأبدي طلبا لرضائه و امتثال أمره، و لا تحديد في هذه الحياة كما بالنسبة إلى القسمين المتقدمين. و تتبع هذه الحياة الحياة بالمعنى الثاني، فما عن بعض المفسرين من أنّ المراد خصوص القسم الثاني فقط تخصيص للعموم بدون وجه.

إن قيل: مثل هذه الحياة ثابتة لكل فرد من أفراد المؤمنين و معلومة لهم، فلا وجه لتخصيصها بالشهيد.

يقال: إنّ أصل الحياة بعد الموت و إن كانت ثابتة للمؤمنين و معلومة لهم، لكن المستفاد من مجموع الآيات الشريفة و النصوص الواردة في حياة الشهيد أن فيها مزايا خاصة فوق أصل الحياة بمراتب كثيرة كما يدل عليها قوله تعالى: عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169].

و الخطاب في الآية عام لا يختص بطائفة خاصة لا المشافهين و لا غيرهم لما ثبت في علم الأصول من أن الخطابات الواردة في الشريعة المقدسة - خصوصا ما ورد منها في القرآن الكريم - من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لجميع الأفراد.

فمن قال باختصاص الخطاب في المقام و في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ [سورة آل عمران، الآية: 169] بطائفة خاصة.

لا وجه له إذ لا دليل عليه بل هو مخالف لطريقة العرف و العقلاء في محاوراتهم و لا سيما هذا الخطاب الوارد في مقام الترحم على العباد و الترأف بهم.

و القتل في سبيل اللّه تعالى هو الشهادة في سبيله تعالى: و الشهيد مشتق

ص: 167

منها الا أنّ الأول باعتبار أصل الحدوث و الثاني باعتبار الثبوت و الشهيد من أسماء اللّه تعالى و هو بمعنى الحضور الفعلي بالنسبة إلى جميع ما سواه، و لعل اطلاق الشهيد على من قتل في سبيل اللّه تعالى إنما هو لأجل حضوره لديه عزّ و جل متلبسا بما عاناه من الصعاب و الاضطهاد، أو حضور الملائكة لديه مبشرين له بأعلى المقامات و ارفع الدرجات التي أعدت له، و يصح الحمل على المعنى العام أي حضوره لديه للانتصار و حضور الملائكة لديه لبشارته بالجزاء، و المراد من حضوره تعالى هو توجهه الخاص به.

فالشهادة هي السفر من الخلق إلى الحق و لا تختص بخصوص من بذل دمه في سبيل اللّه بل تشمل كل من تحمل الأذية مطلقا في سبيله عزّ و جلّ،

و في جملة من الأحاديث: «المؤمن شهيد و لو مات في فراشه» إلاّ أن للشهيد الذي بذل دمه له أحكاما خاصة و يأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة.

و الآية تدل على تجرد النفس و هو حق لا ريب فيه كما ثبت بالأدلة الكثيرة و هو المستفاد من الكتب السماوية و القرآن المبين و النصوص المتواترة من السنّة الشريفة و يأتي في البحث الفلسفي تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ . مادة (بلا) تأتي بمعنى الامتحان و الاختبار و تقدم ما يتعلق بها في قوله تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ [سورة البقرة، الآية: 124].

و الشيء من الألفاظ العامة الشاملة للقليل و الكثير، و الجواهر و الأعراض.

و الخوف توقع المكروه - مظنونا كان او معلوما - بعكس الرجاء فإنه توقع المحبوب كذلك.

و المعنى: لنمتحنكم بشيء من الخوف من العدو أو بشيء من الجوع.

و لم يذكر سبحانه و تعالى متعلق الامتحان و لا مورد الخوف و الجوع تعميما للاختبار و الامتحان في كل زمان و مكان و بالنسبة الى كل شخص. و لهما مراتب كثيرة يحتمل أن يكون الامتحان بالنسبة الى كل مرتبة بما تقتضيه المصلحة الإلهية.

ص: 168

قوله تعالى: وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ . النقص يأتي بمعنى الخسران و هو في مقابل التمام. و المراد من الأموال الأعم من الأعيان و المنافع و ما يهتم الإنسان بحفظه فيشمل الحيوان و العبيد و كل ما يبذل بإزائه المال.

كما أنّ المراد بالأنفس كل ما يتأثر الإنسان بفقده و ورود النقص عليه - سواء كان من النقص في قوى النفس أو عروض الموت عليها - فيشمل النفس و الأقارب و الأصدقاء.

و الثمرات جمع ثمرة و هي و إن كانت داخلة في الأموال غالبا لكن أفردها سبحانه و تعالى لتشمل ما ينبت في الأرض بالطبيعة مما لا مالك لها فعلا و ينتفع بها الإنسان كالمرعى و جملة كثيرة من النباتات التي لها منافع هامة للإنسان و تكون غذاء للحيوان.

و يصح أن يراد بالثمرات مضافا إلى ما ذكرناه ثمرات القلوب أيضا و هي الأولاد كما يعبر عنهم بها كثيرا

و في الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة: أ قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون:

نعم. فيقول: أ قبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم. فيقول اللّه تعالى: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع، فيقول اللّه تعالى: ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة، و سموه بيت الحمد».

و الآية تشير الى ملازمة ما تقدم من الأمور لدار الدنيا المعبّر عنها في الفلسفة ب (دار الكون و الفساد). كما أنها تفيد بأن الإيمان باللّه تعالى لا يقتضي سعة الرزق و دفع الآلام و رفع المخاوف بل إن ذلك يجري حسب قانون السببية و ما سنّه اللّه تعالى في عباده و إنما يجريها حسب المصالح و الحكم و لذا نرى أنّ المؤمن يرى من البلاء ما لا يراه غيره ليعلم مقدار صبره أو يكمل إيمانه بها و يتهذب بالأخلاق الفاضلة.

ثم إنّ اختبار النّاس من قبله تبارك و تعالى إنما يكون لأجل حكم و مصالح متعددة منها: توطين النفس على المصائب، و تهذيب الأنفس و تكميلها، و التأدب بمقاومة الحالات، و إتمام الحجة، و التمييز بين الصابر

ص: 169

و غيره، و قوة البصيرة، و صفاء السريرة، و تعلّم اللاحقين من السابقين كيفية مجاهداتهم و استقامتهم في الدين و ما يترتب على ذلك من البشارة العظمى و الأجر الجزيل كما في ذيل الآية الشريفة.

و لا أثر لهذا الامتحان بالنسبة إلى علمه عزّ و جلّ فإن النّاس قبل الامتحان و بعده في علمه التام الأزلي على حد سواء.

و لأجل ذلك لا يختص الاختبار ببعض الأفراد دون بعض بل يشمل جميع أفراد الإنسان حتّى الأنبياء و الأولياء بل نقول إن ذلك من سنن الحياة الإنسانية.

نعم، تارة: يكون الامتحان لإتمام الحجة على نفس الممتحن (بالفتح) كما مر و هذا هو القسم الشايع و أخرى: يكون لأجل إتمام الحجة على النّاس بأن هذا الشخص خرج عن الامتحان و قابل للنبوة و الإمامة كما بالنسبة إلى إبراهيم (عليه السّلام)، و أما بالنسبة إلى سيد الأنبياء فإنه حاز مرتبة الجمع و يجل عن ذلك فانه (صلّى اللّه عليه و آله) أول الخلق كان كاملا و مكملا، و ان «آدم و من دونه تحت لوائه يوم القيامة»، و لو كان عيسى و موسى (عليهما السّلام) حين لم يسعهما إلاّ إتباعه كما ورد في الحديث، و

روى الفريقان إنه قال: «لي مع اللّه حالات لا يسعني فيها ملك مقرب و لا نبي مرسل» و على فرض وقوع الامتحان فإنما يكون لتثبيت علو مقامه عند النّاس كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ . أي: و بشر الصابرين على تلك المصائب الذين رضوا بقضاء اللّه تعالى و قدره و سلموا أمورهم إليه و لم تصدهم المحن و المصائب عن شكر اللّه تعالى و لا عن عبادته و طاعته.

و إنما اطلق سبحانه و تعالى البشارة لعدم إمكان تحديد المبشر به بحد معين، فإنه يختلف باختلاف مراتب الصبر و الرضاء، و المناط هو أهلية الصابر لتحمل البلاء و المحن خصوصا إذا اقترن مع الرضا و التسليم فإنه يكون حينئذ من أعلى الفضائل و أسناها كما قال عزّ و جلّ.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . مادة (ص و ب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير و الشر قال تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ [سورة التوبة، الآية: 50] و قال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79].

ص: 170

قوله تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . مادة (ص و ب) تستعمل في كل ما يصيب الإنسان من الخير و الشر قال تعالى: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ هُمْ فَرِحُونَ [سورة التوبة، الآية: 50] و قال تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79].

و استعملت المصيبة في كل ما يؤذي الإنسان في نفس، أو مال أو أهل.

و لكن اختصت عند العرف بالنائبة فقط. و في نصوص كثيرة أن كل ما يؤذي المؤمن فهو مصيبة حتّى انقطاع شسع نعله، و الشوكة تدخل في بدنه، فتكون المصيبة في الشريعة بمعناها في اللغة من مطلق الإصابة.

و الرجوع و العود بمعنى مصير الشيء إلى ما كان عليه أولا نظير قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف، الآية: 29].

أي: إنّ كل ما لنا من الحياة و النّعم هو من عند اللّه تعالى و ملك له، فهو اعتراف بالملكية له تعالى ذاتا و تدبيرا و تسليما و رضاء بقضائه و حكمته.

و قول إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالرجوع إليه تعالى و الجزاء على الأعمال. و فيه تسلية لكل مصاب و مظلوم و توعيد لكل جائر و ظالم.

و المعنى: و بشر الصابرين الذين يقولون: إنّا للّه و إنا اليه راجعون المعبرين بلسان مقالهم عن الإيمان بالقضاء و القدر و التسليم لأمره.

و قول إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار بالمبدأ و المعاد للّه تعالى بالمطابقة، و حيث إنّ مبدأ الكل و مرجعهم يستلزم وحدة الذات و الفعل و الا لزم الخلف، فهذه الآية تدل على توحيد الذات و توحيد الفعل بالملازمة، و لعظمة هذه الجملة

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أعطيت هذه الأمة شيئا لم يعطه الأنبياء قبلهم و هو إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .

و الرجوع إلى اللّه تعالى إما غير اختياري أو اختياري، و الأول هو المعاد الذي دلت عليه جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم الذي أكد في هذا الموضوع تأكيدا بليغا. و هو من الموضوعات التي ينبغي التأكيد عليها لأن به يثبت المبدأ و وحدانيته و إذا ثبت المبدأ ثبت المعاد لا محالة.

ص: 171

و أما الثاني أي الرجوع الاختياري اليه عزّ و جلّ فهو أن يهيئ الإنسان نفسه للحضور لدى الحي القيوم العالم بالسرائر و الضمائر حضور مجازاة لما فعل و عمل لا مطلق الحضور إذ الجميع حاضر لديه تعالى بهذا النحو من الحضور.

و بعبارة أخرى: إن هبوط الإنسان من المحل الأرفع الأعلى الى الحضيض الأسفل لا يوجب أن ينسى الإنسان ما نزل منه و أن يتدنس بما وقع فيه، و لا بد له من التفكر بالعروج و الصعود و هذا هو الاسترجاع العملي و لا ينفع مجرد الاسترجاع القولي. و للاسترجاع العملي مراتب كثيرة و مقامات شريفة فصّلها العرفاء في كتبهم العرفانية.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ . بيان لبعض مراتب البشارة بعد ذكر الوصف الذي يستحقون به البشارة.

و الصلاة هي التحية، و التزكية، و البركة و الثناء الجميل. و الجمع باعتبار الكثرة و التعدد من نوع واحد أو أنواع متعددة حسب مراتب المصيبة و شدتها.

و أما الرحمة فهي مطلق النعمة عاجلها أو آجلها. و إنما أتى بالجنس تعميما لكل رحمة يكون المورد قابلا لها في العاجل و هي حسن العزاء و التوفيق.

للرضا و التسليم بالقضاء، و في الآجل من المغفرة و الأجر الجزيل، فهو تعالى رحيم بهم أي رحمة مما يجدون أثرها في هذه الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ . الاهتداء إصابة طريق الحق في الدنيا، و الجنّة في العقبى فهم المستعدون لنيل سعادة الدارين. و لا ريب في تحقق الاهتداء في الاسترجاع القلبي العملي.

و إتيان الجملة الاسمية المعرّفة الطرفين، و التأكيد بضمير المنفصل يؤكد أن هذه الأوصاف لا تكون إلاّ في من صبر و سلّم الأمر إلى اللّه تعالى و اعترفوا بأنّهم للّه و أنهم اليه راجعون.

ص: 172

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدل الآيات المباركة على أمور:

الأول: إنّ الآيات المتقدمة و ما في سياقها تستنهض النّاس على المجاهدة في سبيل اللّه تعالى، بلا فرق بين ان تكون المجاهدة في قتل الكافرين و المعاندين للحق، أو المجاهدة في تهذيب النفس و تزكيتها بمكارم الأخلاق و ترويضها بصالح الأعمال؛ و يسمى هذا بالجهاد الأكبر كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله). أو المجاهدة في تحصيل المعارف الإلهية فإنها أعظم سبل اللّه تعالى و الجهاد فيه يربو على أجر الشهيد،

ففي الحديث: «إذا كان يوم القيامة يوزن مداد العلماء على دماء الشهداء فيرجح مداد العلماء على دماء الشهداء» أو المجاهدة في السعي في قضاء حوائج المؤمنين و غير ذلك مما يسمى بالجهاد في الشريعة المقدسة، فإن سبيل اللّه له مراتب كثيرة و جوانب متعددة و المجاهدة فيه أيضا كذلك.

الثاني: إنّ الآيات تدل على وجود عالم البرزخ و قد اثبته الفلاسفة ببراهين عقلية و تدل عليه آيات و روايات كثيرة و هو عالم وسيع جدا يتحقق من بعد الموت إلى البعث قال تعالى: وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 100] و لهذا العالم تفاصيل كثيرة لعلنا نتعرض للمهم منها في الموضع المناسب.

الثالث: استدلوا بهذه الآيات على تجرد النفس - كما سيأتي بيانه و التجرد و إن كان حقا في الجملة و العلم به حاليا أولى بأن يكون علما استدلاليا مقاليا.

إلاّ أنّ هذه الآيات بمعزل عن الدلالة على تجرد الروح فإنها لا تنافي كونها جسما لطيفا الطف من الهواء، و مع الاختلاف العظيم الذي وقع من العلماء في شرح حقيقة الروح كيف يمكن الجزم بتجردها أو الجزم بشيء آخر؟! و سيأتي الكلام في الروح إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

الرابع: المراد بحياة الشهداء في سبيل اللّه تعالى الحياة الكريمة الدائمية الأبدية التي هي في جوار اللّه تعالى من أول مفارقة أرواحهم لا خصوص الحياة البرزخية فانها تعم الجميع حتّى الكفار و المنافقين، و لا الحياة الذكرى فانها أيضا قد تكون لغير الشهيد و يصح إرادة الجميع كما تقدم ما يدل عليه.

الخامس: لم يذكر متعلق البشارة في قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ ليفيد العموم - كما هو المشهور بين علماء الأدب - و تعظيما للمبشر به. فكل شيء يذكر فيه يكون تحديدا بلا دليل و هي لا تختص بالمقامات الأخروية بل تعم الجميع و لا يصل إليها أحد إلاّ بالصبر.

السادس: يستفاد من حرف القسم و التأكيد في قوله تعالى: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ أنّ الإنسان لا ينفك عن المصائب و البلايا و هي إما نوعية أو شخصية و كل منهما إما جسمية أو روحية أو هما معا. و الدنيا لا تخلو عنها أبدا و هي من لوازم وجودها بل من لازم ذاتها و قد عرّفها علي (عليه السّلام) في خطبه المباركة بأحسن بيان. و يختلف أجر الصابر باختلاف المصائب و اختلاف المصابين فإما أن تكون المصائب لحبط السيئات أو لرفع الدرجات أو التفضل بهما معا و ينطبق على كل بحسبه.

السابع: إنّ ذكر البشارة و تعيين المبشر به بالإجمال يدل على رفعة مقام الشهداء و الصابرين و علوّ درجتهم و ان لا يدنسوا هذا المقام الرفيع بحطام الدنيا فإن أجرهم معلوم، و هذا من قبيل تقديم ذكر الأجر قبل العمل الذي حثّ عليه الشرع المبين.

الثامن: إنّما ذكر سبحانه الاستعانة بالصبر و الصّلاة لأنهما أقوى سبب في تكميل النفس ثم بين أنه تعالى مع الصابرين ترغيبا لهم و تخفيفا من معاناة الصبر لكثرة مرارته، ثم عقب سبحانه بعد ذلك الجهاد في سبيله لكونه من أجلّ المقامات و ارفعها ثم ذكر الابتلاء و الامتحان لأنهما مما يوجب الثبات و الاطمئنان في تحصيل الكمالات المعنوية، ثم ذكر بعض ما يفيضه على الممتحنين من أنحاء العطف و الرحمة كل ذلك مقدمة لما يأتي في الآيات

ص: 174

اللاحقة من تشريع الأحكام الإلهية التي يكون إتيانها و الخروج عن عهدتها من الجهاد الأكبر، فالآيات على اختصارها ترغّب النفوس إلى تحمل المتاعب سواء في مقارعة الباطل و إعلان الحق او في إتيان التكاليف الإلهية؛ و كل ذلك يدل على أن في تحصيل الكمال الأبدي لا بد من بذل الوسع و تحمل المشاق.

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن الفضيل عن أبي جعفر (عليه السّلام) قال: «يا فضيل بلّغ من لقيت من موالينا عنّا السّلام، و قل لهم: إني لا أغني عنكم من اللّه شيئا إلاّ بورع، فاحفظوا ألسنتكم، و كفوا أيديكم، و عليكم بالصبر و الصّلاة إن اللّه مع الصابرين».

أقول: في سياق ذلك روايات متواترة أخرى

فعن أبي جعفر (عليه السّلام) في الصحيح: «لا تتهاون بصلاتك فإن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال عند موته: ليس مني من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه»،

و عن الصادق (عليه السّلام) حين حضرته الوفاة: «إن شفاعتنا لا تنال مستخفا بالصّلاة».

و قد قطع أبو جعفر (عليه السّلام) بقوله هذا أمل كل مؤمل فيهم، و انه لا يفيد الشخص إلاّ الورع عن محارم اللّه تعالى، و ذكر (عليه السّلام) بعض أفراد العمل الصالح. و إنما خص (عليه السّلام) الصبر و الصّلاة لكون الأول من أهم موجبات الورع، و الثانية من أهم ما يوجب التوفيق للعمل الصالح و ترك المحارم.

في الكافي عن ابن أبي عمير عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام) في قول اللّه تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ قال: «الصبر الصيام، و قال إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فإن اللّه عزّ و جلّ يقول و استعينوا بالصبر يعني الصيام».

أقول: إنّه من باب التطبيق لأنّ الصوم يوجب الصبر عن الشهوات النفسانية، فلا منافاة بين هذا الحديث و سائر ما ورد في معنى الصبر.

ص: 175

في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كان علي (عليه السلام) إذا أهاله شيء قام إلى الصّلاة، ثم تلا هذه الآية: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ أقول: إنّه يستفاد منه أهمية الصّلاة لدفع المكاره و رفع الشدائد.

في الكافي و التهذيب عن يونس بن ظبيان عن الصادق (عليه السلام) «قال له: ما يقول النّاس في أرواح المؤمنين؟ قال: يقولون في حواصل طيور خضر في قناديل تحت العرش فقال (عليه السلام): سبحان اللّه المؤمن أكرم على اللّه من ان يجعل روحه في حوصلة طير - إلى أن قال (عليه السلام) - إذا قبضه اللّه تعالى صيّر تلك الرّوح في قالب كقالبه في الدنيا. فيأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا».

أقول: هذا الحديث ورد في بيان حياة البرزخ و سوف نفصل الكلام في الحياة البرزخية و لوازمها و ما يتعلق بها في محله إن شاء اللّه تعالى.

و الجزء الأول من الحديث قد نسب إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قد نفاه الإمام (عليه السلام) و هو حق لأنه لو لم يكن من التناسخ الباطل لكان نظيره و اللّه تعالى أقدر من أن يجعل بدنا مثاليا لكل إنسان في عالم البرزخ من ان يجعل له بدنا من الحيوان.

و في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «انه سئل عن أرواح المؤمنين؟ فقال: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان».

أقول: لكل بدن نشئات هو في جميعها واحد منها نشأة الدنيا، و منها نشأة النوم في عالم الدنيا، فإذا رأينا زيدا في الخارج ثم رأيناه في عالم النوم فهما واحد بلا إشكال، و منها نشأة البرزخ؛ فيكون البدن المثالي في عالم البرزخ كالبدن المثالي في عالم النوم، و منها نشأة الحشر و البعث و هو عين البدن الدنيوي كما سنبينه في مباحث المعاد.

و لا اختصاص لوجود البدن في هذه النشآت بطائفة دون أخرى: نعم الشهداء متنعمون في أبدانهم البرزخية، و في عالم الحشر بنعمة فاقت على

ص: 176

نعم غيرهم حتّى ورد في نصوص كثيرة أنهم يحشرون على نحو ما استشهدوا أو قتلوا.

و عن ابن بابويه عن محمد بن مسلم قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ قبل قيام القائم علامات تكون من اللّه للمؤمنين قلت و ما هي جعلني اللّه فداك؟ قال (عليه السلام): يقول اللّه عزّ و جل: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ يعني المؤمنين قبل خروج القائم بِشَيْ ءٍ مِنَ اَلْخَوْفِ وَ اَلْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَنْفُسِ وَ اَلثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ قال نبلوهم بشيء من الخوف من ملوك بني فلان في آخر سلطانهم، و الجوع بغلاء أسعارهم، و نقص من الأموال قال: كساد التجارات و قلة الفضل. و نقص من الأنفس قال: موت ذريع. و نقص من الثمرات، قال قلة ربح ما يزرع. و بشر الصابرين عند ذلك بتعجيل الفرج. ثم قال لي: يا محمد هذا تأويله إن اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ .

أقول: أما قيام القائم (عليه السلام) فأصله مسلّم بين جميع المسلمين بل بين المليين، و اتفاق الجميع على أنه لا بد و أن يظهر مصلح بين النّاس إنما الاختلاف في المصداق.

و قبل القائم أمر إضافي يشمل القريب بقيامه و البعيد عنه. كما أن ما ورد في علامات الظهور موكول إلى مشيئة اللّه تعالى و ليست كلها حتمية يمكن ان لا يظهر جملة كثيرة منها، و يمكن ان يظهر جملة منها و لم يأذن اللّه تبارك و تعالى بظهوره (عليه السلام) و هذا التفصيل موكول إلى الكتب المعدة لذلك و الروايات الواردة فيها.

و على أي تقدير ما ورد في الحديث من باب التطبيق و لذا

عبر (عليه السلام) بقوله: «هذا تأويله».

عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ بَشِّرِ اَلصّابِرِينَ أي: بالجنّة و المغفرة.

أقول: هذا بيان لبعض مراتب المبشر به و درجات البشارة في الجملة لا بالنسبة إلى جميع مراتبها، فإن للصبر مراتب و متعلقه أيضا كذلك، و لا ريب

ص: 177

في أنّ بعض مراتبه أشد من مرتبته الأخرى، فلا يعقل تسوية المبشر به بالنسبة إلى الجميع و تقدم في تفسير الآية ما يتعلق بالمقام.

و عن الباقر (عليه السلام) قال: «أتى رجل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: إنّي راغب نشيط في الجهاد قال: فجاهد في سبيل اللّه عزّ و جل فانك إن تقتل كنت حيا عند اللّه مرزوقا، و إن مت فقد وقع أجرك على اللّه».

أقول: لا فرق بين الشهادة و الموت إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات انفصال الروح عن البدن، فإنه في كل منهما واحد و إنما الشهادة بالنسبة إلى القتل في سبيل اللّه و الموت بالنسبة إلى غيره، ممن يخرج في سبيل اللّه فان مات في الطريق فهو في حكم الشهيد، و ان قتل بيد العدو فهو شهيد حينئذ

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «و ان مت فقد وقع أجرك على اللّه» تطبيق للآية الشريفة:

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 100].

في المجمع عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته و أحسن عقباه، و جعل له خلفا صالحا يرضاه. و قال (صلّى اللّه عليه و آله): من أصيب بمصيبة فأحدث استرجاعا و إن تقادم عهدها كتب اللّه له الأجر مثله يوم أصيب».

أقول: هذا الحديث يبين بعض ما قاله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ .

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام): «ما من عبد يصاب بمصيبة فيسترجع عند ذكره المصيبة و يصبر حين تفجعه إلاّ غفر اللّه له ما تقدم من ذنبه و كلما ذكر مصيبته فاسترجع عند ذكره المصيبة غفر اللّه له كل ذنب اكتسب فيما بينهما».

أقول: ترتب الثواب على الاسترجاع، لأنه اعتراف بالتوحيد الذاتي و التوحيد الفعلي، و اعتراف بالمبدأ و المعاد. فهذه الكلمة جامعة لجملة كثيرة من المعارف الإسلامية، و قد ورد في بعض الأحاديث أنها من خواص هذه الأمة كما تقدم.

ص: 178

في الخصال «أربعة من كنّ فيه كان في نور اللّه الأعظم: من كانت عصمة أمره شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه، و من إذا أصابته مصيبة قال: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، و من إذا أصاب خيرا قال: اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ ، و من إذا أصاب خطيئة قال: استغفر اللّه و أتوب إليه».

أقول: المراد بنور اللّه الأعظم رحمته الواسعة، و هدايته الكاملة إلى المعارف الإلهية، و ذلك لأن هذه الكلمات جامعة لجميع ذلك بنحو الإجمال.

و في الكافي عن عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه عزّ و جل إني جعلت الدنيا بين عبادي قرضا [فيضا] فمن أقرضني فيها قرضا أعطيته بكل واحدة [منهنّ] عشرا إلى سبعمائة ضعف، و ما شئت من ذلك و من لم يقرضني منها قرضا و أخذت منه شيئا قسرا أعطيته ثلاث خصال لو أعطيت واحدة منهنّ ملائكتي لرضوا بها مني، قال: ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): قول اللّه عزّ و جل: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُهْتَدُونَ فهذه واحدة من ثلاث خصال و رحمة من اثنتين، و أولئك هم المهتدون ثلاث. ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): هذا لمن أخذ اللّه منه شيئا قسرا».

أقول: يدل على الجزء الأول من الحديث قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة البقرة، الآية: 245]؛ و قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 17].

و أما

قوله (عليه السلام): «و أخذت منه شيئا قسرا» أي جبرا و كرها فهو بالنسبة إلى عامة النّاس، و أما بالنسبة إلى أولياء اللّه تعالى فلا يتصور القسر بالنسبة إليهم لأنّهم في مقام التسليم و الرضا بأمره تعالى.

و في نهج البلاغة قال علي (عليه السلام) و قد سمع رجلا يقول: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» : «يا هذا إن قولنا: إنّا للّه إقرار على أنفسنا

ص: 179

بالملك. و قولنا: إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . اقرار على أنفسنا بالهلاك».

أقول: يستفاد منه ان هذه الجملة المباركة تشتمل على الاعتراف بالمبدأ و المعاد اللذين هما أساس دعوة الأنبياء و الكتب النازلة من السماء.

و أمثال هذه الروايات كثيرة جدا.

و في المعاني عن الصادق (عليه السلام): «الصّلاة من اللّه رحمة، و من الملائكة تزكية، و من النّاس دعاء».

أقول: قريب منه روايات أخرى، و يمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد و هو الميل و العطف و لكنه يختلف باختلاف الموارد.

بحث فلسفي في تجرد النفس:
اشارة

البحث عن النفس من المباحث المهمة لتعدد الجوانب فيها فقد بحث عنها في الفلسفة القديمة و الحديثة كما بحث عنها في علم الأخلاق و علمي الحديث و التفسير، و العرفان، كما بحث عنها في علم الأحياء و أخيرا أفرد لها علم مستقل يعرف باسمها يبحث فيه عن معرفة النفس الإنسانية و طبيعتها و عوارضها و عملها و أمراضها و وضعوا فيها نظريات و قوانين.

و لقد حاول العلماء التوصل إلى طبيعة هذا المخلوق العجيب و معرفة المسائل التي تتعلق بها لعلهم يجدوا حلا للشبهات التي قد تنشأ من التفكر فيها إلاّ أنهم اعترفوا بعد طول الجهد بالعجز عن الكثير و إن أمكنهم الكشف عن بعض الجوانب و لكنه لا يغني عما يستجد من المشاكل فضلا عن ما ذكرناه فالحقيقة بعد تحت الحجاب، و في ذلك تنبيه الإنسان على أنه إذا عجز عن فهم حقيقة ما هو أقرب الأشياء اليه فكيف يطمع بالإحاطة بحقيقة ما اعترفت العقول بالعجز عنه و الخضوع امام عظمته.

و السبب في ذلك ان النفس - أو الروح - من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قال جلّ شأنه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] و لأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها و أنواع أشعتها الا اللّه تعالى.

ص: 180

و السبب في ذلك ان النفس - أو الروح - من عالم الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل، لتحقق الإضافة التشريفية فيها بما لا نهاية له بوجه من الوجوه قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قال جلّ شأنه: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] و لأجل هذه الإضافة صارت من الغيب الذي لا يحيط به إلاّ اللّه عزّ و جل أو من كشف عن بصيرته الستار فيرى أنوارا من المعارف لا يعلم مراتب رفعتها و أنواع أشعتها الا اللّه تعالى.

و نحن نذكر في المقام جانبا من تلك الجوانب و هو البحث عن تجرد النفس. و نتعرض للبقية في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و تمهيدا للبحث في الموضوع لا بأس بذكر ما يتعلق بالمراد من (النفس) و موقعها من الموجودات.

تقسيم الموجود:

لو نظرنا إلى ذات الموجود من حيث هو فانه ينقسم إلى أربعة أقسام:

الأول: أن لا يكون محتاجا إلى المادة مطلقا - لا في ذاته و لا في فعله - بل يكون منزها عنها مطلقا، و هذا القسم منحصر في اللّه تعالى الذي هو خالق الخلق جميعا من مجرداتها و مادياتها.

الثاني: أن يكون محتاجا إلى المادة في الذات و الفعل معا، و هو عالم الماديات المحضة التي تكون ذاتها من المادة و فعلها بها و فيها أيضا.

الثالث: أن لا يكون في ذاته محتاجا إلى المادة و لكن في فعله يحتاج إليها و هو النفوس مطلقا - نباتية كانت أو حيوانية أو إنسانية أو فلكية - المتعلقة بجسم الأفلاك، لا الساكنة فيها كالأملاك.

الرابع: أن يكون في ذاته محتاجا إلى المادة دون فعله و هذا باطل بالضرورة كما هو معلوم.

كما ينقسم الموجود باعتبار آخر إلى اربعة أقسام أخرى:

الأول: أن لا يكون له حدوث أبدا بل يمتنع عليه ذلك، فيكون أبديا سرمديا من ذاته بذاته، و هو منحصر في اللّه عزّ و جل.

الثاني: أن يكون جسمانيا في الحدوث روحانيا في البقاء، فيكون إبداعا إليها في الجسم بنحو ما جرت عليه إرادته البالغة التامة كالنفس، فهي

ص: 181

من جهة كثمرات الأشجار و أوراد النباتات و جمال كل جميل، و حسن كل حسن و غير ذلك مما هو من بدايع اللّه تعالى و ودائعه في الطبيعة، و الأعمال القريبة إلى الإنسان التي تفعلها النفس من هذا القسم أيضا فإنها جسمانية الحدوث روحانية البقاء، لبقائها ببقاء اللّه تعالى و عدم نفاذها و قد أشتهر بين الفلاسفة: «أن النفوس الناطقة جسمانية الحدوث روحانية البقاء».

الثالث: أن يكون روحاني الحدوث و روحاني البقاء كالروحانيين و الأملاك الذين هم سكنة الأفلاك المسيطرون على السفليات بإذن خالق البريات.

الرابع: أن يكون روحاني الحدوث جسماني البقاء كالملك إذا ظهر في صورة جسم، و قد مر في الحجر الأسود من أنه كان ملكا ثم صار حجرا فراجع الآية 137 من هذه السورة.

إذا عرفت ذلك يتبين موقع النفس من هذه الموجودات، فهي الموجود الذي يحتاج في فعله إلى المادة دون ذاته فلا يمكن استقلالها عن الجسد في العمل الذي يكون جسماني الحدوث، لأن حدوثها بحدوث الجسم و قبله لا يكون شيئا؛ و روحاني البقاء لبقائها بعد فناء الجسد. و قد عبر بعض الفلاسفة المحدثين (هيغل) عن النفس بأنّها أدنى تجل حسّي للروح في علاقتها بالمادة، أي: حساسة و فاعلة.

المراد من النفس:

النفس في اللغة تأتي بمعنى الذات و الشخص، و هي مشتقة من (النّفس) الذي هو بمعنى نسيم الهواء؛ و به تتعلق حياة الإنسان فالنفس ما تقوم به الحياة، و لذا سمي الدم (نفسا) في اللغة و الشرع كما ورد في أحاديث حيوان ذي النفس السائلة، و لعل ذلك من باب إطلاق الحال على المحل، لأن حركة الدم في الجسم منشأ لحصول الروح البخاري، و هي مورد تعلق النفس الحيواني. فالنفس هي ما تتقوم به الحياة و بها يتميز الكائن الحي مما لا حياة فيه. و هي بهذا المعنى تكون مرادفة (للروح) فإن الروح إذا انقطعت عن الحيوان فارقته الحياة و كذلك النفس.

ص: 182

و كيف كان فهي ظاهرة عند كل فرد حي، و هي المعبر عنها ب (أنا) و قد عرّفها العلماء بتعاريف مختلفة يقصد منها تقريب المعنى إلى الذهن، فقد عرّفها بعض أكابر الفلاسفة في منظومته الفلسفية:

و أنّها بحت وجود ظل حق *** عندي و ذا فوق التجرد انطلق

و عن العرفاء: أنها من مظاهر التجلي الإلهي، و هي جوهر مشرق للبدن.

و قال بعضهم: إنّها الجوهر البخاري اللطيف الذي هو منشأ الحياة و الحس و الحركة الإرادية. و يسميها أفلاطون بالفكرة الأبدية.

و أما عند الماديين فقد اتفقوا على أنها شيء مادي يمكن أن تقع تحت تجربة؛ و لكنهم اختلفوا في طبيعتها فعن الماديين القدماء انها عمليات أولية فيزيقية كيماوية. و تعتبرها الشعوب البدائية ظل الشخص أو الدم، أو النّفس و نحو ذلك، و من هنا جاء المعنى اللغوي.

و هي عند الجدليين منهم ظواهر عقلية و تفاعلات مادية يمكن كشفها و فحصها بالتجربة و نحوها، و بعبارة أخرى هي صفة خاصة للمادة في تنظيمها الأعلى فلا يمكن لها التجرد عن الجسد أبدا، و هي بهذا المعنى تكون مرادفة للفكر و الإدراك و الذهن و العقل و نحو ذلك.

و لكن النفس عند المتدينين إنها قوة لا مادية خالدة غير متجسدة قادرة على أن توجد في انفصال و استقلال عن الجسد في عالم آخر.

هذه كلمات القوم في تعريف النفس مع غض النظر عن المناقشات التي يمكن ان ترد عليها فان لها موضعا آخر. و قد ألّف المحقق الثاني كتابا في النفس و الروح في القرن العاشر الهجري سماه (الباب المفتوح إلى ما قيل في النفس و الروح) و جمع الأقوال فيها و أنهاها إلى ما يقرب من أربعين قولا؛ و ان أمكن إرجاع بعضها إلى بعض فتصير الأقوال أقل لا محالة.

و المستفاد من الكتب السماوية و القرآن الكريم أن النفس شيء فيها اقتضاء كل كمال معنوي من اللّه تعالى و كمال ظاهري بلا تحديد فيه بذلك، و هي متحدة مع الجسد زمنا ما ثم تنفصل و تبقى إما سعيدة أو شقية

ص: 183

حسب ما يختار صاحبها من الطريقين، فانها كصحيفة بيضاء لا أثر فيها الا بما ينتقش فيها إما للدنيا أو الآخرة أولهما معا، قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، فالآية تشمل كل واحدة من الدارين أو هما معا، قال تعالى: لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [سورة طه، الآية: 15] فلا نجاة لها إلاّ بالعمل الصالح الذي ورد من الشرع، و لا مقام و لا منزلة لها في الدنيا إلاّ بالسعي، و هي متفاوتة في ذاتها و مختلفة في آثارها، و هذا قريب من الوجدان. و قد قسمها العلماء إلى أقسام ليس هنا موضع ذكرها و سيأتي تفصيل ذلك كله في آية 281 من هذه السورة إن شاء اللّه تعالى.

تعدد النفس و الجسد:

إذا رجع كل فرد إلى وجدانه يرى انه شيئان: النفس و الجسد و يذعن بأن للإنسان بدنا (جسدا) و قوى ظاهرية، و ما يدبرها و هو ليس إلاّ النفس المعبر عنها ب (الروح)، و هما متحدان كاتحاد الماء مع الورد لا يمكن الفصل بينهما إلاّ من ناحية الآثار و العوارض و الحوادث و الآفات. فإن للجسم خواصا و آثارا و امراضا معينة، كما أن للنفس آثارا و ظواهر و حوادث، و لعل هذا الأمر أصبح من الواضحات في هذه الأعصار بعد تقدم العلم و كشف الظواهر النفسية و ما يترتب عليها من الآثار و الأمراض المتعلقة بالنفس دون الجسد و قد وضعوا لها علما مستقلا يتكفل جميع ما يتعلق بالنفس.

و مع ذلك فقد اثبت الفلاسفة و العلماء القدماء منهم و المحدثون ثنائية النفس و الجسد بأدلة كثيرة قويمة لا تبقي مجالا للقول بواحدية الإنسان كما عن الماديين و انه ليس إلاّ جسما فقط، فانه مخالف للوجدان و الدليل العقلي و جميع الأديان السماوية.

نعم يبقى شيء و هو أنّ الإنسان و إن كان مركبا بالتحليل العقلي من النفس و الجسد إلاّ أنه واحد شخصي يشار إليه باعتبار أنه شخص مادي ذو فكر، متعلم، يفعل كذا و كذا، و بمثل هذا الواحد الشخصي تعلق الخطاب في القرآن الكريم و الشريعة المطهرة و في المحاورات. و لعل من قال بواحدية

ص: 184

الإنسان أراد منها هذه الوحدة، و لا بأس بها، و لكنه حمل ينافي صريح كلماتهم.

معنى التجرد:

لم يرد هذا اللفظ بالنسبة إلى النفس في القرآن الكريم و لا في السنة الشريفة. و إنما استفيد ذلك من سياق الآيات و الأحاديث و الإشارات الواقعة فيها التي يستفاد منها التجرد كالآية التي تقدم تفسيرها و غيرها من الآيات التي نشير إليها.

و المراد من التجرد كفاية أمر اللّه تعالى و إنشائه في تحقق شيء بلا حاجة إلى سبق مادة و تبدل صورة أو غير ذلك في التحقق و الثبوت، و تكون نسبته إلى المادة نسبة القوى المحركة للآلات التي تتحقق بها الحركة، سواء كانت الآلات طبيعية، و يسمى ب (التجرد التكويني). أم صناعية و يسمى ب (التجرد الصناعي).

و هناك معنى آخر للتجرد و هو ابتعاد النفس عما سوى اللّه تعالى بالإرادة و الإختيار بواسطة المجاهدات و الرياضات الشرعية بأن تكون جميع مشاعره الظاهرية و المعنوية - كما أنها من اللّه تعالى - تكون في اللّه و باللّه تعالى، فيصير الشخص من جميع جهاته مظهرا من مظاهر اللّه عزّ و جل، فيتجرد عن دار الظلمة و الغرور و يتصل بينبوع النور، و يسمى هذا ب (التجرد الاختياري).

و لا ريب في أن الأول يكون معدا للثاني، إذ لولاه لما تحقق للأخير موضوع أبدا، و مع ذلك فهو أفضل من الأول بمراتب. كما أنّ الموت تارة طبيعي و أخرى اختياري رغّب اليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله: «موتوا قبل ان تموتوا» أي أميتوا النفس الأمارة بالسوء قبل أن تموتوا بالطبيعة. و قد وقع الخلط في جملة من الكلمات بين التجردين كما لا يخفى على من راجع عباراتهم.

الأدلة على تجرد النفس:

ص: 185

أما الأول: فقد استدلوا بجملة من الآيات المباركة، منها تلك الآيات التي أضيفت الروح فيها إلى اللّه تعالى حدوثا؛ كقوله تعالى: قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85]، و قوله تعالى: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر، الآية: 29] أو أضيفت اليه تعالى بقاء، كقوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [سورة الأنعام، الآية: 60] إلى غير ذلك من الآيات الظاهرة في أن هذه الإضافة المطلقة - بلا ذكر سبب مادي أصلا لا مقارنا، و لا سابقا، و لا لاحقا - إلى اللّه تعالى المنزه عن توهم المادة تدل على التجرد بوضوح إذ لا بد أن يكون المنسوب اليه تعالى منزها عن المادة أيضا. و الإهمال فيه مع كثرة أهمية الموضوع، و قيام نظام الدنيا و الآخرة به يكون قبيحا عقلا، لأن الأمر دائر فيه بين النفي و الإثبات فإما أن يكون مجردا محضا؛ أو ماديا لا بد و أن يذكر فيه الجهة المادية و لو في آية أخرى.

و منها: الآيات الكثيرة الدالة على التعقل و التفكر و ذم التغافل عنها فإن ذلك لا يتحقق إلاّ في ما هو مجرد عن المادة خصوصا على ما أثبته أكابر الفلاسفة و أعاظمهم من اتحاد العاقل و المعقول، و سنبين هذا البحث النفيس في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و منها قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [سورة الفجر، الآية: 27] و غير ذلك من الآيات التي تدل بظاهرها على تجرد النفس و بقائها بعد الموت و انتقالها من البدن المادي إلى بدن آخر برزخية أخروية.

أما الثاني: أي الاستدلال بالسنّة الشريفة، و هي نصوص كثيرة وردت في أبواب متفرقة، و منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «خلق اللّه الأرواح قبل الأجساد بألفي عام»، و لا ريب في دلالته على سبق الحدوث و التجرد في الجملة، و هل المراد بألفي عام الأعوام الربوبية، أو الأعوام الزمانية في عالمنا هذا؟ لم يتضح ذلك إلى الآن حق الوضوح. ثم ما وجه التخصيص بألفين دون غيرهما.

ص: 186

و منها

قول علي (عليه السلام): «إنّ هذه الأرواح تكلّ كما تكل الأبدان - الحديث -» و هو ظاهر في أنها من عالم آخر غير عالم المادة.

و بالجملة، النصوص من الأئمة الهداة أكثر من ان تحصى - و قد سبق في البحث الروائي بعضها - و مجموعها يدل على ان النفس و الروح من عالم آخر تعلقت بالبدن برهة من الزمن ثم تنفصل عنه ثم تعود متعلقة به و تبقى خالدة أبد الدهر.

يضاف إلى ذلك ما اثبته العلماء في العصر الحديث من أمور ترتبط بالنفس و قد وضعوا لها كتبا مستقلة، كما أثبت العلماء الأخلاق امراض النفس و آفاتها، و يشهد لذلك ما اثبت في هذه الأعصار من التفرقة الحسية بين الأرواح و الأجساد.

أما الثالث: أي الدليل العقلي فقد استدل في الفلسفة على تجرد النفس بأدلة كثيرة أنهاها بعضهم إلى عشرة لا يخلو بعضها عن المناقشة. و أهمها أمور:

الأول: حضور ذات النفس بذاته لكل أحد، و هذا بديهي، و هو يدل على التجرد، إذ لو كانت مادية لما أمكن ذلك إلاّ بالانطباع في ما هو أصفى و الطف منها، كما في حضور جميع الصور المادية في المرآة أو الماء الصافي و نحو ذلك.

الثاني: صدور الدقائق العلمية و الفكرية منها مما لا يمكن صدورها عن غير المجرد.

الثالث: قدرتها على تصور غير المتناهي. إلى غير ذلك مما فصل في علم الفلسفة و الكلام.

و من ينكر أصل الروح و النفس أو يقول بماديتها و أنها نفس البدن فلا يسعه إلاّ إنكار وجدانه.

ص: 187

ثمرة البحث:

نتيجة هذا البحث النفيس [تجرد النفس و عدمه] تظهر فى المعاد الروحاني فإن القول بتجرد النفس و عدم فنائها بفناء البدن يمهد الطريق للمعاد الروحاني و يسهل الالتزام به معه، كما عليه جمع كثير من الفلاسفة قديما و حديثا.

و بعكس ذلك، أي القول بعدم التجرد و كون النفس تابعة للبدن فإنه يدل على مسألة المعاد الجسماني. و قد صرح جمع من الفلاسفة بأن طريق إثباته منحصر بالدليل السمعي فقط.

و هذه الثمرة مبتنية على ان المجردات تبقى - و غيرها ينعدم و يفنى ثم يعاد. و لكن يظهر من الآيات المباركة أن ما سواء اللّه تعالى - من مجرداته و مادياته - ينعدم قبل قيام الساعة قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو اَلْجَلالِ وَ اَلْإِكْرامِ [سورة الرحمن، الآية: 26 و 27]، و كذا النصوص التي يأتي بيانها مفصلا في المورد المناسب إن شاء اللّه تعالى؛

قال علي (عليه السلام): «إن اللّه سبحانه يعود بعد فنائها الدنيا وحده لا شيء معه كما كان قبل ابتدائها، كذلك يكون بعد فنائها بلا وقت و لا مكان، و لا حين، و لا زمان عدمت عند ذلك الآجال و الأوقات و زالت السنون و الساعات فلا شيء إلاّ اللّه الواحد القهار الذي اليه مصير جميع الأمور». نعم يثبت المعاد مطلقا بالكتاب و السنة على ما يأتي بيانه مفصلا.

إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خ.......

اشارة

إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أمر القبلة و ما يلاقيه الإنسان - في سبيل استكماله و تزكية النفس - من المصائب التي لا بد من الصبر عليها و التسليم له تعالى، بيّن سبحانه بعض ما يكون دخيلا في كماله فذكر من مشاعر الحج الصفا و المروة و اعتبر التطوف بهما من الخير الذي يشكره عليه و يجزيه بالجزاء الأوفى.

ص: 188

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ ، مادة (ص ف و) تأتي بمعنى الخلوص عن الشوب، و منه الصفاة و هي الحجارة الملساء الصافية الخالصة، و منه أيضا اصطفاء اللّه لخاصة عباده لخلوصهم في عبوديته، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 33]، و قال تعالى: وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ اَلَّذِينَ اِصْطَفى [سورة النمل، الآية: 59].

و الصفا جبل بمكة تجاه البيت الحرام، سمي به، مضافا إلى الوجه اللغوي، أنّ صفي اللّه آدم (عليه السلام) هبط عليه فسمي المحل باسم الحال، و هو يذكر و يؤنث.

و المروة واحد المرو، و هي الحجارة البيض، أو الحجارة التي تقدح منها النار، و هي جبل بمكة أيضا، سمي الموضع بها مضافا إلى التسمية اللغوية أن المرأة - أي حواء - نزلت عليها فسمي المحل باسم الحال.

و بين الصفا و المروة من المسافة ما يزيد على 760 ذراعا يسعى بينهما في الحج و العمرة. و كان للمشركين عليهما أصنام إلى أن أظهر اللّه تعالى الإسلام فألقاها عنهما رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و الشعائر جمع شعيرة و هي العلامة تطلق تارة: على معالم الحج و مشاعره، و هي أعلامه الظاهرة المعدة للنسك و العبادة، و مشاعر اللّه كل ما يتعبد فيه للّه عزّ و جل، و أخرى: على العبادة و النسك من صلاة و صوم و دعاء، و قراءة القرآن و غير ذلك مما يصح أن تكون عبادة.

و المعنى: إنّ الصفا و المروة من مواضع عبادة اللّه تعالى و معالم طاعته، لأنّ المسعى من أحب البقاع إلى اللّه تعالى، و أن السعي بينهما تذلل خاص و خشوع كبير للّه تعالى، و أن فيه يذل كل جبار

ففي الحديث قيل للصادق (عليه السلام): «لم صار المسعى أحب البقاع إلى اللّه تعالى؟ قال:

لأنه يذل فيه كل جبار».

قوله تعالى: فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ . الحج هو القصد للزيارة، و في

ص: 189

الشرع قصد بيت اللّه الحرام لأداء النسك المخصوصة المعروفة في كتب الفقه.

و العمرة: الزيارة، و هي من العمارة لأن المزور يعمر بالزيارة و هي شرعا زيارة مخصوصة للبيت الحرام على ما هو المفصل في الفقه و الاعتمار أداء مناسك العمرة.

و قد ورد لفظ الحج في القرآن العظيم في تسعة موارد، كما ورد لفظ الاعتمار فيه في مورد واحد، و لفظ العمرة في موردين.

قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما . الجناح (بالضم) الميل، و المراد به هنا الترخيص و عدم الإثم و البأس و لو كان بحسب القرائن الحافة به. و أما وجوب المورد او عدمه فلا بد أن يستدل عليه بالدليل آخر، كما يقال لمن صلّى في ثوب أسود: لا جناح بالصلاة فيه، فإنه لا يدل على الترخيص في أصل الصّلاة بعد ثبوت وجوبها بأدلة خاصة، فيكون متعلق الجناح جهات أخرى لا أصل الصلاة.

و السر في التعبير به مع أنّ السعي بين الصفا و المروة واجب في الحج و العمرة عند المسلمين إما لأجل رفع توهم الحظر فان المسلمين توقفوا في بادئ الأمر من الطواف بينهما، لمكان الأصنام الموضوعة عليهما.

أو لأجل أنّ المشركين كانوا لا يرون الصفا و المروة من الشعائر، و أنّ السعي بينهما ليس من مناسك ابراهيم (عليه السلام) فعبر تعالى بذلك، و هو لا ينافي وجوب السعي بدليل خارجي، كما سيأتي في البحث الفقهي.

و التطوف: الطواف و هو المشي حول الشيء، أو بين شيئين، و قد استعملت المادة في القرآن كثيرا بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و العذاب و الرحمة، قال تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ [سورة الحج، الآية: 29]، و قال تعالى: فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ [سورة القلم، الآية: 29] و قال تعالى: وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ [سورة الإنسان، الآية: 19].

ص: 190

و يطلق الطيف على الخيال، و النوم، و الحادثة باعتبار الإحاطة بالإنسان.

و سمي السعي بينهما تطوفا باعتبار تكرره و الرجوع الى مبتدئه كما يطلق على المرأة طوافة البيت.

و إنما بدأ سبحانه في بيان أعمال الحج و احكامه بالسعي بين الصفا و المروة مع أنه مؤخر عن جملة من الأعمال - كالإحرام و الطواف بالبيت - إما لأجل أن حكمة تشريعة كانت بعيدة عن العقول، أو لأجل أن الصفا و المروة كانا محلا لأعظم أصنام المشركين، فكان المسلمون يتنزهون عن السعي بينهما. أو لأجل إنكار شعيرتهما و عدم كونها مما أتى به إبراهيم (عليه السلام) أول مشرع لأحكام الحج و يرشد الى هذا الاحتمال ذكر آية الكتمان بعد ذلك.

و يمكن أن يقال: انه قد ذكر سبحانه إجمالا بعض اعمال الحج في ما تقدم من الآيات، فقد ذكر الطواف في قوله تعالى: أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ [سورة البقرة، الآية: 125] و ذكر صلاة الطواف في قوله تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [سورة البقرة، الآية: 125] و هنا ذكر السعي، و سيأتي بقية الأحكام في هذه السورة و سورة الحج.

قوله تعالى: وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً . التطوع: هو الرغبة في الشيء متخذا له كما في التعلم و التفهم، و هذا هو شأن هيئة (تفعّل) و هو أعم من الطاعة فانها لا تصدق إلاّ إذا كان أمر في البين - واجبا كان او ندبا - و في غيره لا تصدق الإطاعة.

و لا يدل اللفظ على الندب و الاستحباب إلاّ بقرينة خارجية؛ و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: خَيْراً أن السعي كالطواف حول البيت الحرام انه خير و يكون محبوبا له تعالى، و يقتضيه المتعارف عند الملوك فإن كثرة تردد الرعايا على أبوابهم محبوبة لديهم.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ . شكره تعالى إنعامه على العباد، و الجزاء على ما فعلوه من الخير. و هو العليم بطاعة العباد لا يخفى عليه شيء فيجازي كل فرد بما يستحقه من الجزاء.

و في التعبير بالشكر إشارة إلى نهاية لطفه و كمال عنايته بعبيده، فان العبد

ص: 191

و عمله ملك له تعالى و منافع عمله عائدة إليه و مع ذلك فهو تعالى قد شكرهم عليها و يجزيهم بالخير الجزيل. و في ذلك إيماء إلى وجوب شكر المنعم و الترغيب اليه؛ و الحث على التخلق بأخلاق اللّه تعالى، و التشكر من النّاس و التقدير من أعمالهم.

و معنى الآية المباركة إنّ الصفا و المروة من مشاعر عبادة اللّه تعالى و طاعته فمن قصد زيارة البيت في الحج و العمرة يكون السعي بينهما مطلوبا لأنه خير.

بحث روائي:

ابن بابويه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمي الصفا صفاء لأن المصطفى آدم هبط عليه، فقطع للجبل اسم من اسم آدم (عليه السلام) يقول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ . و هبطت حواء على المروة و إنما سميت المروة، لأن المرأة هبطت عليها، فقطع للجبل اسم من اسم المرأة».

أقول: هذا من بعض وجوه التسمية كما تقدم في التفسير، و يمكن أن يكون هناك جهات أخرى للتسمية، و لا بأس بأن يجتمع في شيء واحد جهات متعددة للتسمية.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما قال: «لا حرج عليه أن يطوّف بهما».

أقول: تقدم ما يدل على وجوب السعي بينهما و أن قوله تعالى: فَلا جُناحَ و ما ورد في تفسيره بلا حرج إنما هو من جهات اخرى لا من جهة إباحة اصل السعي حتّى ينافي الوجوب.

في الكافي عن بعض أصحابنا قال: «سئل أبو عبد اللّه (عليه السلام) عن السعي بين الصفا و المروة فريضة أم سنة؟ فقال (عليه السلام): فريضة.

قلت: أو ليس قال اللّه عزّ و جل: فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما قال: كان ذلك في عمرة القضاء إن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) شرط عليهم أن

ص: 192

يرفعوا الأصنام من الصفا و المروة».

و مثله في تفسير العياشي إلاّ أنه زاد: «فتشاغل رجل من أصحابه حتّى أعيدت الأصنام قال: فأنزل اللّه. إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أي و الأصنام عليهما».

أقول: الرواية تبين ما تقدم من اختلاف متعلق الوجوب و هو ذات السعي و متعلق «لا جناح» باعتبار وجود الأصنام.

و في الكافي أيضا عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث حج النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «بعد ما طاف بالبيت و صلّى ركعتيه قال (صلّى اللّه عليه و آله): إن الصفا و المروة من شعائر اللّه فابدأ بما بدأ اللّه عزّ و جل، و ان المسلمين كانوا يظنون أن السعي بين الصفا و المروة شيء صنعه المشركون فأنزل اللّه: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما .

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إنّ المسلمين كانوا يظنون أنّ السعي ما بين الصفا و المروة شيء صنعه المشركون فأنزل اللّه هذه الآية» و روى السيوطي مثله في الدر المنثور.

أقول: حيث إنّ المسلمين كانوا يعتقدون أنّ السعي من فعل الجاهلية فيصير قوله تعالى: فَلا جُناحَ في مقام توهم الحظر كما تقدم.

و في تفسير القمي: «إنّ قريشا وضعت أصنامهم بين الصفا و المروة و كانوا يتمسحون بها إذا سعوا، فلما كان من أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما كان في غزوة الحديبية و صده عن البيت و شرطوا له أن يخلوا له البيت في عام قابل حتّى يقضي عمرته الثالثة، و قال لقريش: ارفعوا أصنامكم حتّى أسعى فرفعوها».

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و بين الرواية السابقة الدالة على السعي مع وجود بعض الأصنام لإمكان بنائهم على الرفع و اشتغالهم به و لم يتم ذلك إلاّ بعد مدة.

ص: 193

في الدر المنثور عن عامر الشعبي: «كان وثن بالصفا يدعى إساف، و وثن بالمروة يدعى نائلة فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت يسعون بينهما و يمسحون الوثنين فلما قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا: يا رسول اللّه إن الصفا و المروة إنما كان يطاف بهما من أجل الوثنين و ليس الطواف بهما من الشعائر فأنزل اللّه إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ - الآية - فذكّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه و أنّث المروة من جهة الصنم الذي كان عليها مؤنثا».

و في صحيح البخاري عن عاصم «كان المسلمون يمسكون عن الطواف بين الصفا و المروة و كانا من شعائر الجاهلية، و كنّا نتقي الطواف بهما فأنزل اللّه تعالى إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ - الآية -».

أقول: ورد من طرقنا قريب من ذلك أيضا.

بحث فقهي:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ أن السعي عمل عبادي يتقوم بقصد القربة فبدونه أو مع قصد الرياء - نستجير باللّه منه - أو غاية أخرى يكون السعي فاقدا لصلاحية الإضافة إلى اللّه تعالى و يكون السعي باطلا، كما في سائر العبادات فيفسد حينئذ اصل الحج أو العمرة، كما هو المفصل في كتب الفقه.

و السعي بين الصفا و المروة عبارة عن المشي بينهما سبع مرات بدءا من الصفا و انتهاء بالمروة كما هو مذكور في الفقه. و يصح ماشيا و راكبا؛ و لا يعتبر فيه الطهارة لا الحدثية و لا الخبثية، و لا الموالاة بين الأشواط، و لا بين أبعاضها على ما فصل في الفقه.

و هو واجب كما عليه جمهور المسلمين و تدل عليه نصوص كثيرة و إجماع الإمامية، و تقدم أن نفي الجناح إنما كان لرفع توهم الحظر الذي اعتقده المسلمون باعتبار أنّ السعي شيء صنعه المشركون أو لأجل وجود الأصنام على الجبلين فتوقفوا من السعي بينهما كما مر، و يمكن استفادة ذلك من ظاهر الآية الشريفة أيضا، فإن إثبات كون الصفا و المروة من شعائر اللّه يدل

ص: 194

على أنّ الإعتقاد كان على خلاف ذلك فأراد سبحانه و تعالى إعلام النّاس بشعيرتهما و نفي ما كان معتقدا عندهم.

و مما ذكرنا يعرف أنّ التطوع بالسعي أمر مرغوب فيه، لأنه خير و من تعظيم شعائر اللّه تعالى، و لا يستفاد منه الاستحباب الشرعي المصطلح عليه في الفقه و لا سيما مع القرينة المزبورة على الخلاف. و لذلك وردت الروايات الدالة على وجوب السعي لعدم التنافي بينه و بين ظاهر الآية الشريفة، و تقدم في البحث الروائي ذكر بعض الروايات و التفصيل يطلب من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ (159) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ (160) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) سبق و أن ذكر سبحانه عناد أهل الكتاب و الكفار في إنكار الحق و هم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، و في هذه الآيات يبين نوعا آخر من عنادهم، و هو أنهم يكتمون ما أنزل اللّه تعالى إما بإنكار أصله او بتحريفه عن مواضعه، و هو ظلم عظيم يعرف من عظم ما أوعد عليه اللّه تعالى مما أوجب طردهم من رحمته كما طرد من رحمته كل من مات منهم على الكفر فأوجب خلودهم في النّار.

و لعل في ذكر آية الكتمان بعد ذكر آيات القبلة و بعض أعمال الحج إشارة إلى لزوم الاهتمام بالاعتناء بأحكامه و إن كان يصعب على بعض العقول درك بعض أسرارها.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى . الكتمان إخفاء الحق و ستره خصوصا مع الحاجة الى الإظهار و البيان. و قد يستعمل في إظهار الخلاف و إزالة الشيء عن موضعه و وضع آخر مكانه. و البينات: هي

ص: 195

الأدلة الواضحة. و الهدى: كل ما يقع في طريق استكمال النفس أي الآيات و الحجج الواضحة الموجبة لهداية النّاس.

و عموم الآية يشمل جميع التشريعات السماوية المحكمة بالحكمة البالغة الإلهية سواء كانت في أصول الدين أم في فروعه. و جميع الأدلة العقلية المقررة بالشريعة المقدسة، فان العقل شرع إلهي داخلي كما أن الدين شرع إلهي خارجي أيد اللّه كلا منهما بالآخر؛ فهما حقيقتان متلازمتان بل حقيقة واحدة لها آثار مختلفة، و لذا

ورد أنه: «لا عقل لمن لا دين له» كما يصح ان يقال: لا دين لمن لا عقل له و سيأتي إثبات هذه الملازمة بل وحدة الحقيقة فيهما بالأدلة الكثيرة.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ . المراد بالكتاب هو ما أنزله اللّه تعالى في كل عصر فيشمل التوراة و الإنجيل في كل ما لم يثبت نسخه بالقرآن، و لا فرق بين كتابه تعالى و ألسنة رسله لأنّ كلا منهما يحكي عن الآخر. و إنما ذكر سبحانه الكتاب لأنه لا تتم الحجة من اللّه على الخلق إلاّ بإنزال الكتاب و بيانه.

قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ . اللعن: الطرد و الابعاد على سبيل السخط. و هو من اللّه تعالى العقوبة في الآخرة، و الانقطاع عن الرحمة و التوفيق في الدنيا. و من غيره دعاء على الملعون بالإبعاد عن رحمته عزّ و جل. و هو يعمّ الإنسان و الحيوان و غيرهما عما يلهمهم اللّه تعالى، كالرحمة، اللذين هما من أسرار التكوين و يعمان جميع العوالم المرتبطة بالحي القيوم، فإن جميع حقائق الموجودات ملهمة منه عزّ و جل، كما يلهمه سائر ماله دخل في نظامهم.

و المراد من «اللاعنون» كل من يتأتّى منه اللعن، سواء كان ملكا أو إنسانا أو حيوانا و ذكرهم بالخصوص لبيان قبح هذا العمل و شناعته عند من يتعقل و يعلم به.

و حكم هذه الآية عام يشمل كل من كتم علما من العلوم التي فرض اللّه تعالى بيانها للنّاس بل يشمل كل من فعل المحرمات بعد تمامية الحجة عليه

ص: 196

و لا سيما إذا كان ممن يقتدى بفعله فلا اختصاص له بخصوص ما كتمه أهل الكتاب في شأن الإسلام و أوصاف الرسول و نحو ذلك.

ثم إن كتمان ما أنزله اللّه تعالى على أقسام:

الأول: أن يكون الكتمان مع العمد و الالتفات و وجود المقتضي للإظهار و فقد المانع عنه و لا ريب في كونه من المعاصي الكبيرة و شمول اللعن له،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار»، و الأخبار في ذلك كثيرة بين الفريقين و كلها مطابقة للحكم العقلي الدال على قبح كتمان الحق و حسن إظهاره.

الثاني: أن يكون الكتمان عن جهل و كان الجاهل مقصرا في ذلك و هو مثل الأول في شمول اللعن. و أما إذا كان قاصرا - على فرض وجوده - و كان معذورا فيه فلا يشمله اللعن قهرا.

الثالث: أن يكون الكتمان لأجل مصلحة شرعية فحينئذ يجب و لا يشمله اللعن قهرا.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا . التوبة بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف بالإساءة. و الاعتذار يكون على أقسام:

الأول: أن يقول المعتذر لم أفعل.

الثاني: أن يقول فعلت لأجل كذا و كذا.

الثالث: أن يقول فعلت و أسأت و قد اقلعت.

و الأخير هي التوبة الواردة في الكتاب و السنة، و كل اعتذار يستلزم الرجوع إلى المعتذر منه فيصح تفسير التوبة ب «الرجوع» أيضا، فهي أيضا رجوع إلى اللّه تعالى بعد الإعراض عنه بالمخالفة.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من تسعين موردا بهيئات مختلفة منسوبة تارة: إلى الفاعل. و أخرى: إلى القابل، و هو اللّه تعالى قال سبحانه: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 39].

ص: 197

و المشهور بين العلماء أنها إذا أضيفت إلى الفاعل تكون بمعنى الاعتراف بالذنب و طلب الغفران، و إذا أضيفت إلى اللّه تعالى تكون بمعنى العفو و الغفران بل تبديل السيئة بالحسنة في بعض الأحيان.

و يصح استعمال الاعتذار بالنسبة إلى غير اللّه تعالى، و أما استعمال التوبة بالنسبة إلى غيره جلت عظمته فلم أجده في الاستعمالات الفصيحة.

و المراد من «أصلحوا»: أخلصوا النية للّه تعالى، و أصلحوا ما أفسدوه من أحوال النّاس - كما أن المراد من «بينوا» أي أظهروا ما كتموه و عملوا به.

و المعنى: إلاّ من تاب عن عمله و رجع إلى اللّه تعالى و أخلص النية له عزّ و جل فأصلح ما أفسده و آمن بالرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يكتم كتاب اللّه و عمل بما رجع إليه، فإنّ اللّه يتوب عليه و يفيض عليه رحمته و مغفرته.

و الآية الشريفة تدل على اعتبار أمرين في هذه التوبة - الأول: الإصلاح و الخلوص للّه تعالى و الإخلاص في النية.

الثاني: بيان الحق و إظهاره من بعد ما كتم و العمل به. فلا يكتفى بالتوبة الظاهرية و الرجوع بمجرد اللسان مع عدم عقد النية عليه.

و بعبارة أخرى: إنّ الموضوع اجتمع فيه حق اللّه تعالى و هو إظهار البيان و حق النّاس و هو الوقوع في الضلالة لعدم البيان و قد دلت الأدلة الكثيرة على أنّ كل مورد من موارد التوبة إذا تعلق به حق من حقوق النّاس لا تصح التوبة فيه إلاّ بأداء ذلك الحق.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . أي: أولئك أخصهم بالذكر و المغفرة بعد تحقق شرائط صحة التوبة فيهم، فانه هو الذي يرجع عباده اليه بعد الإعراض عنه بالمخالفة و الإدبار عنه بالمعصية؛ و الرحيم بهم يغفر للمسيء و يثيب المطيع.

و في الآية ترغيب شديد إلى التوبة، و الابتعاد عن اليأس مهما عظم الذنب.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ . ذكر سبحانه في

ص: 198

الآية السابقة حكم الكافرين الذين كتموا الحق في الدنيا و أنهم يستحقون اللعن إلاّ الذين تابوا و أظهروا ما كتموه.

و في هذه الآية يبين حالهم في الآخرة إذا أصروا على الكفر و العناد على الحق و الجحود له و ماتوا على الكفر، فانه يلزمهم الذل و الهوان و الطرد عن رحمته و الخلود في العذاب.

قوله تعالى: أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ . أي:

أنّ أولئك الكافرين الذين لم يتوبوا و ماتوا على الكفر أولئك عليهم لعنة اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين حتّى من أهل مذهبهم، لأن هذا الشخص أهل للعن فيستحقه من الجميع.

و لعن الملائكة و النّاس باعتبار استلهامهم التكويني اللعن الدائمي من المبدأ القيوم لكل من طرد من ساحته.

و إنما ذكر لعنهم مع أن لعن اللّه تعالى وحده يكون كافيا في خزيهم و عذابهم، لأجل بيان صلاحية أولئك الكفار للّعن و البعد عن ساحة الرحمن فيستحق اللعن من كل من امكنه الاطلاع على حالهم.

و الآية تشير إلى قضية عقلية فطرية، و هي أن من أصر على الكفر و الحجب عن منبع النور، فهو قد حجب بصره و بصيرته عما هو في غاية الجلاء و الظهور فلا محالة يكون محجوبا عن استشراق النور، و مطرودا عند كل من كان مرتبطا تكوينا او اختيارا أو كليهما معا مع منبع النور، و هم الملائكة و كل من يعتد بلعنه، و هذا معنى لعن اللّه و الملائكة و النّاس أجمعين، فلا وجه للانتظار و الإمهال في حقه بعد الإصرار على الكفر و الجحود للحق و عدم رجاء الإيمان و الصلاح منه.

و لعن الملائكة و النّاس لا يلزم أن يكون مسموعا او يحس به احد فإنه لا ريب في كون الملائكة و الأنبياء و الأولياء و من يتبعهم يحبون من أحبه اللّه تعالى، و يلعنون من لعنه تعالى لانبعاثهم جميعا عن إرادة اللّه تعالى و أمره.

و اما غيرهم من مخلوقاته فإنه يمكن أن يكون لعنهم كتسبيحهم لا يفقهه

ص: 199

أحد قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [سورة الإسراء، الآية: 44] فإن ما سوى اللّه تعالى في جميع العوالم العلوية و السفلية يرتبط بخالقه و صانعه بأقوى الروابط و العلائق يستلهم تدبيرات شؤونه من خالقه و صانعه، كما أن الخالق و الصانع يرتبط بمصنوعاته، و بهذين الارتباطين يقوم نظام التكوين من أوج المجردات إلى حضيض الماديات و به تتم القيمومة المطلقة على الممكنات جميعا و على هذا فكل من طرده الحي القيوم عن ساحة كبريائه يستلزم الطرد من الغير أيضا لأجل تلك الإضافة اليه تعالى، و كل ما كانت الإضافة أشد كان الطرد أقوى و المبغوضية أشد، و يستفاد ذلك من الأخبار الكثيرة الدالة على ثبوت الحياة المعنوية و التوجه إلى الخالق في جميع مخلوقاته، و للبحث تتمة تأتي في محله إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ مادة (خ ل د) تأتي بمعنى بقاء الشيء على ما كان عليه و عدم عروض الفساد بالنسبة إليه، و أما التأبيد فلا يستفاد من ذات المعنى بل لا بد فيه من الرجوع إلى القرائن، لأن الخلود من الأمور الإضافية، فما يبقى ألف سنة - مثلا - خالد بالنسبة إلى ما لا يبقى الا سنين قليلة. و أما بالنسبة إلى بدء الحدوث فله مبدأ معلوم معين كسائر الحوادث. و قد وردت هذه المادة في القرآن العظيم بهيئات مختلفة - مصدرا و مفردا و جمعا - و لا سيما بالنسبة إلى أصحاب الجنّة و النّار.

و الخلود و الدوام باعتبار أصل الحدوث لا فرق بينهما لما ثبت في محله من امتناع القديم بالذات الا في اللّه تعالى، و كذا باعتبار البقاء لا فرق بينهما.

نعم قد يقال: إن الدوام هو ما لم يزل و لا يزال بخلاف الخلود و هو باطل: لانحصار الأزلية و الأبدية في اللّه تعالى، فيكون من المغالطة بين المصداق و المفهوم، و لا ريب في اطلاق الدوام عليه تبارك و تعالى و من أسمائه الحسنى (يا دائم).

و أما الخلود فلم يطلق عليه تعالى إلاّ في بعض الدعوات: «لك الحمد حمدا خالدا بخلودك» فيصح اطلاق الدوام و الخلود بالنسبة إلى ما ليس له أول

ص: 200

و لا آخر و هو منحصر في اللّه تعالى، و بالنسبة إلى ما له أول و آخر، و بالنسبة إلى ما له أول و ليس له آخر، كنعيم أهل الجنّة و عذاب أهل النار.

و العذاب: هو الضرب ثم استعمل في كل عقوبة مؤلمة؛ و استعير للأمور الشاقة حتّى قيل: السفر قطعة من العذاب. و قيل: إنّه من الأضداد لاستعماله في الطّيب العذاب أيضا. و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يزيد على ثلاثمائة مورد.

و النظر: استعمال البصر و البصيرة لدرك الشيء و يلزمه التأمل و الإمهال، و منه قوله تعالى: فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة الحجر، الآية: 36].

و المعنى: إنّهم ماكثون في اللعنة الموجبة للعذاب و لا يخفف عنهم لفرض استقراره عليهم بموتهم على الكفر فلا يرفع عنهم العذاب و في الآية التفات من الضمير إلى الظاهر للدلالة على أن اللعنة هي العذاب.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول: قد وصف سبحانه و تعالى ما أنزله بالبينات أي: الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين و أن كتمان ذلك و إظهار ما هو خلافه موجب للضلالة و الاختلاف و الشقاء، و هذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس، قال تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة، الآية: 213]. و يستفاد من هذه الآية أن ما أنزله اللّه هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30]. و هو يدل على أنّ سبب الاختلاف و التفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق و عدم بيانه للناس، أو تأويله و عدم حفظه، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة، و لذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

ص: 201

الأول: قد وصف سبحانه و تعالى ما أنزله بالبينات أي: الحجج الواضحة المشتملة على هداية النّاس التي تجلب لهم السعادة في الدارين و أن كتمان ذلك و إظهار ما هو خلافه موجب للضلالة و الاختلاف و الشقاء، و هذا المعنى يستفاد من جملة كثيرة من الآيات الواردة في بيان هذه الآية أو التي وردت في بيان سبب اختلاف النّاس، قال تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة البقرة، الآية: 213]. و يستفاد من هذه الآية أن ما أنزله اللّه هو الحق الذي لا اختلاف فيه المعبّر عنه بالفطرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30]. و هو يدل على أنّ سبب الاختلاف و التفرق بين الأمم هو الابتعاد عن الفطرة الذي لا يعلمه كثير من النّاس لكتمان الحق و عدم بيانه للناس، أو تأويله و عدم حفظه، أو لكثرة الشبهات التي توجب الابتعاد عن دين الفطرة، و لذلك كله كان الكتمان ظلما عظيما.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا أنه لا أثر للتوبة عن كتمان الحق الا بعد إزالة الأثر الخارجي الناشئ عن كتمان الحق و إظهاره و إعلانه و العمل به و إرشاد النّاس اليه.

الثالث: يدل قوله تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ على أن كتمان كل ماله دخل في استكمال الإنسان جناية على المجتمع، فان كل كمال للفرد يكون كمالا للمجتمع و كذا العكس، لمكان التلازم بينهما في الجملة و الإظهار حق نوعي لازم لمن قدر عليه. و تركه - و إخفاء الحق - ظلم نوعي و لذلك يلعنه كل لا عن، إذ أن كل مظلوم يلعن ظالمه بالفطرة و لو لم يكن باللسان.

الرابع: يستفاد من الآية المباركة استمرارية اللعن و دوامه بالنسبة إلى كل من يكتم الحق فلا يختص حكمها بطائفة خاصة، و يدل على ذلك أيضا أن قبح كتمان الحق من المستقلات العقلية فمهما وجد موضوعه ينطبق الحكم عليه قهرا، كما في كل قضية عقلية.

الخامس: إنّما أجمل سبحانه و تعالى اللعن في الآية الأولى و فصّله في الآية الثانية، لتعدد الجهات في الآية الثانية من الموت على الكفر و عدم التوبة من كتمان الحق، و استقرار الظلم في نفوسهم

بحث روائي:

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قلت له:

أخبرني عن قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ . قال (عليه السلام): نحن يعنى بها و اللّه المستعان أنّ الرجل منا إذا صارت اليه لم يكن له او لم يسعه إلاّ أن

ص: 202

يبين للنّاس من يكون بعده».

أقول: مثل ذلك روايات كثيرة أخرى، و لا ريب أنها من التطبيق لكل حق لا بد أن يبين.

و في الإحتجاج في الآية المتقدمة عن علي (عليه السلام): «العلماء إذا فسدوا».

أقول: إذا فسدوا يعني لم يعملوا بعلمهم يكون ذلك كتمانا عمليا للحق الذي يقولونه للنّاس.

و في المجمع في الآية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه الجم يوم القيامة بلجام من نار، و هو فأنزل له تعالى: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ .

أقول: و ذلك لأنه سكت في الدنيا عن بيان الحق و ألجمه هواه عن ذلك، فيظهر ذلك في عالم الآخرة بلجام من النار، و الروايتان تؤيدان ما ذكرناه في الكتمان، و إطلاقهما يشمل كل عالم بكل حق.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله: أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ ، قال (عليه السلام):

«نحن هم، و قد قالوا: هو أمّ الأرض».

أقول: لأنهم شهداء الخلق و يعرض عليهم أعمالهم فيكونون هم اللاعنون لا محالة، و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلْأَشْهادُ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ [سورة هود، الآية: 18] و اما

قوله: «و قد قالوا: هو أمّ الأرض» فقد نسب ذلك إلى النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

و في تفسير القمي في الآية المتقدمة قال (عليه السلام): «كل من قد لعنه اللّه فالجن و النّاس يلعنهم».

أقول: و الوجه في لعن الجن و الإنس لمن يكتم الحق و ثنائهم لمن يظهر الحق كما في بعض الروايات، أنّ جميع الموجودات ترتبط بالحق

ص: 203

الواقعي تكوينا، فيكون كتمانه مبغوضا لديهم و إعلانه محبوبا عندهم، كما تقدم في تفسير الآية.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى : «نزلت في علماء أهل الكتاب و كتمانهم آية الرجم و أمر محمد (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: هذا من باب التطبيق.

بحث كلامي:
اشارة

التوبة باب من أبواب رحمة اللّه تعالى، و هي من أعظم أنحاء لطفه بعباده؛ و من أقرب الطرق اليه عزّ و جل، و هي أول منازل السائرين إلى اللّه سبحانه، و أساس درجات السير و السلوك الإنساني و هي مفتاح التقرب اليه عزّ و جلّ، و الوصول إلى المقامات العالية بل لا تتحقق التخلية عن الصفات الرذيلة و التحلية بالصفات الحسنة إلاّ بها، و يكفي في فضلها أنها من صفات الباري عزّ و جلّ فانه «التواب الرحيم»، و قد منّ على عبيده أن تقرب إليهم بالتوبة عليهم بعد البعد عنه تعالى بالمعاصي و الذنوب، فقال تبارك و تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 54]. و قد ورد في عظيم فضلها نصوص كثيرة،

ففي الكافي عن أبي عبيدة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى أشد فرحا بتوبة عبده من رجل أضل راحلته و زاده في ليلة ظلماء فوجدها، فاللّه أشد فرحا بتوبة عبده من ذلك الرجل براحلته حين وجدها».

و روي عنهم (عليهم السلام): «إنّ اللّه أعطى التائبين ثلاث خصال لو أعطى خصلة منها جميع أهل السموات و الأرض لنجوا بها، قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ فمن أحبه اللّه لم يعذبه. و قوله عزّ و جلّ: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اِتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ - الآية -. و قوله عزّ و جل: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً . إلى غير ذلك من

ص: 204

الأخبار الكثيرة الواردة في فضلها. و أنّ للجنّة بابا من أوسع أبوابها يسمى باب التائبين، و هي من مظاهر رحمانيته و رحيميته اللتين هما من أوسع صفات اللّه تعالى العليا بل لا حد لهما أبدا، و البحث عن التوبة من جهات كثيرة:

التوبة و تعريفها و حقيقتها:

التوبة معروفة عند كل من يقترف ذنبا و يعترف به عند اللّه تعالى و هي: بمعنى الاعتذار المقرون بالاعتراف المستلزم للرجوع إليه تعالى بعد البعد عنه بسبب الذنب، و هذا هو المعنى اللغوي، كما عرفت.

و قد عرّفها علماء الكلام و الأخلاق بتعاريف متعددة هي أقرب إلى المعنى اللغوي، و نحن نذكر تعريفين منها.

الأول: ما عن بعض علماء الكلام: أنها الندم على معصية من حيث هي مع العزم على أن لا يعود إليها إذا قدر عليها.

الثاني: ما عن بعض علماء الأخلاق: أنها الرجوع إلى اللّه تعالى بحل عقدة الإصرار عن القلب ثم القيام بكل حقوق الرب.

و هذان التعريفان مقتبسان مما ورد في الكتاب الكريم و السنّة المقدسة. و المستفاد من النصوص الواردة في المقام هو أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب كما

ورد في الأثر عنه (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».

و ذلك لأنّ الإنسان مزيج قوى متخالفة و مركب من شهوات متعددة، تجذب كل قوة ما يلائمها من الخير أو الشر كما هو المفصل في علم الأخلاق، فالقوة العاقلة تجذب الإنسان إلى الفضيلة و تمنعه عن الرذيلة، و القوة الشهوية ترغبه إلى ما تشتهيه، و القوى الغضبية تورده إلى المهالك و الأخطار إن لم يمسكها بزمام العقل. و الإنسان الكامل هو المدبر لهذه القوى المتخالفة و الملائم بينها بالتوفيق بينها بحيث لا تخرج كل قوة عن الحد الذي عيّن لها فيجلب بذلك سعادة الدارين. و هو في مسيره الاستكمالي لا يسلم من الموانع و العوائق التي تعيقه عن سيره إذا لم يتغلب عليها بالحكمة و التدبير، و من جملة تلك الموانع المعاصي و الذنوب. فإذا

ص: 205

اعترض على الإنسان ذنب يرى نفسه بين أمرين مخيرا بينهما إما الفعل و ما يتعقبه من الآثار، أو الترك و ما يلزمه من راحة النفس و الفوز بالسعادة، و هذا وجداني لكل فاعل مختار، فإذا عزم على الفعل و أقدم على الارتكاب تحصل في نفسه حالة خاصة توجب الندامة و الخجل و الحياء المسمى ب (تأنيب الضمير) في علم النفس المعاصر، و قد اعتبر الشارع هذه الحالة هي التوبة؛

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «التوبة الندامة»

و عن الصادق (عليه السلام): «كفى بالندم توبة».

و السر في ذلك: أنّ هذه الحالة تكشف عن تغليب العقل و القوى الخيرة على الجانب الآخر، و هي تدعو إلى ترك الذنب في المستقبل و الارتداع عن المعصية،

و لذا قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «إنّ الندم على الشر يدعو إلى تركه»، و تتكرر هذه الحالة النفسية عقيب كل ارتكاب للمعصية ما لم تترسخ المعاصي في النفس فيهون عنده ارتكاب الذنوب و اقتراف الآثام فيستولي عليه الفساد بالإصرار و يقسو قلبه، و هذه هي حالة إحاطة الخطيئة بالإنسان كما ورد في القرآن الكريم، و قد أشار تعالى إليها بقوله عزّ و جل: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14]. و تزول هذه الحالة بإتيان الأعمال الصالحة و مزاولة الطاعات و تقوية النفس بالحسنات و ترويضها بالأخلاق الفاضلة.

و من ذلك يعلم أن تعريف التوبة بالندم هو أقرب إلى ما يتحصل من الروايات، و اما تعريفها بالرجوع و الارتداع عن المعصية في المستقبل فهو تعريف باللازم الحاصل من الندم.

و إذا عرفت أن التوبة حقيقة هي الندم فلا بد و ان يكون منبعثا عن حرقة القلب و الشعور بالحياء منه عزّ و جل و الخجل عن ما صدر منه كما

في بعض الروايات «إن الرجل يذنب فلا يزال خائفا ماقتا لنفسه فيرحمه اللّه فيدخله الجنّة».

و أما إذا كان الندم حاصلا من اطلاع الغير عليه، أو خوفه من إعراض المجتمع عنه، أو سقوط منزلته عند النّاس فلا أثر له، بل لا بد من ان تسوءه

ص: 206

سيئته كما ورد في الخبر.

وجوب التوبة:

التوبة من الذنب واجبة على الإنسان بالأدلة الأربعة:

الأول: الكتاب الكريم، و تدل عليه آيات كريمة، منها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية: 31]، و منها قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة التحريم، الآية: 8] إلى غير ذلك من الآيات، و تدل عليه أيضا الآيات الكثيرة الدالة على إتيان الحسنات بضميمة قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و من أجلّ الحسنات الفرائض.

الثاني: السنة الشريفة، و الأخبار في وجوبها متواترة بين الفريقين بمضامين مختلفة:

ففي الكافي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ، قال: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه؛ و لا يحدث نفسه بالتوبة فذلك الإصرار».

و في مهج الدعوات عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «اعترفوا بنعم اللّه ربكم و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم، فان اللّه يحب الشاكرين من عباده».

و في الكافي أيضا عن أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: «ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فان عمل حسنا استزاد اللّه، و إن عمل سيئا استغفر اللّه منه و تاب اليه».

و في الكافي عن أبي بصير: قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام): «هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا. قلت: و أيّنا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إن اللّه يحب من عباده المفتن التواب».

ص: 207

الثالث: الإجماع من جميع المسلمين على وجوب التوبة، و هو مما لا ريب فيه.

الرابع: دليل العقل: فإن حدوث المخالفة و البقاء عليها قبيح عقلا، و ترك كل قبيح عقلي واجب عقلا و شرعا، و لا يتحقق ذلك إلاّ بالتوبة.

و بتقريب آخر: إنّ المعاصي من المهلكات، و إنّها تجلب الضرر على العاصي؛ و لا ريب في وجوب دفع الضرر عقلا.

فورية وجوب التوبة:

بعد ما ثبت أصل وجوبها يكون هذا الوجوب فوريا، و تدل عليه أمور:

الأول: ظاهر أدلة وجوب التوبة عن المعاصي.

الثاني: قوله تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 17].

الثالث: إنّ بقاء العصيان في النفس من أقذر القذارات المعنوية و الفطرة تحكم بفورية إزالتها.

الرابع: الإجماع القائم على الفورية.

الخامس: الأخبار الكثيرة الدالة عليها منها:

رواية مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «طوبى لمن وجد في صحيفة عمله يوم القيامة تحت كل ذنب استغفر اللّه»،

و في وصية النبي لأبي ذر قال (صلّى اللّه عليه و آله): «اتق اللّه حيثما كنت و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها»، و في وصية لقمان لابنه «يا بني لا تؤخر التوبة فإن الموت يأتي بغتة».

و منها الروايات الكثيرة الدالة على إمهال العاصي سبع ساعات،

فقد ورد في الكافي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): من عمل سيئة أجل فيها سبع ساعات من النهار، فإن قال: استغفر اللّه الذي لا إله إلاّ هو

ص: 208

الحي القيوم و أتوب إليه، ثلاث مرات لم تكتب عليه». و يستفاد من مجموع هذه الأخبار أن التوبة من الطاعات و من الأمور العبادية.

شروط التوبة:

قد ذكر العلماء للتوبة شروطا كثيرة، و هي على قسمين: شروط لصحة التوبة، فلا تصح إلاّ إذا اجتمعت فيها تلك الشروط. و شروط لكمالها و مع فقدها لا تكون كاملة و لا مقبولة.

أما القسم الأول فهي ثلاثة:

الأول: الندم و قد ذكرنا سابقا أن حقيقة التوبة هي الندم على الذنب، و يدل على اعتبار هذا الشرط ما تقدم من الأخبار،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «كفارة الذنب الندامة»،

و ما رواه في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «من سرته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن» إلى غير ذلك من الأخبار.

الثاني: أن ينوي عدم العود إلى ذلك الذنب، لأن حقيقة الندم لا تتحقق إلاّ بذلك، كما تقدم، و تدل عليه جملة من الأخبار كما سيأتي، و المعتبر من هذا الشرط ترك العود إلى الذنب الذي سبق مثله، و أما الذنب الذي لم يسبق صدوره منه فنية تركه لا تكون من التوبة، بل هي من التقوى.

ثم إنّ العزم على ترك المعصية في المستقبل بعد تحقق الندم عنها فعلا إن كان كاشفا عن تحقق حقيقة الندم من كل جهة فلا ريب في اعتباره، لأنه مع عدمه لا تتحقق حقيقة الندم الفعلي كما عرفت. و أما إذا تحقق الندم فعلا و لم يتحقق العزم على الترك لعدم التوجه إليه فلا دليل على اعتباره حينئذ، بل يستفاد من بعض النصوص عدمه،

فقد روى الكليني فى الكافي عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اَللّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً قال (عليه السلام) هو الذنب الذي لا يعود فيه أبدا.

قلت: و أينا لم يعد؟ فقال (عليه السلام): يا أبا محمد إنّ اللّه يحب من عباده المفتن التواب» و المراد بالمفتن من يذنب و يتوب. ثم يعود. و نحوه غيره من

ص: 209

الأخبار.

الثالث: أداء الحقوق وردها إلى أهلها،

و في الحديث: «لا توبة حتّى تؤدي إلى كل ذي حق حقه»،

و في حديث آخر: «الظلم الذي لا يدعه اللّه فالمداينة بين العباد» إلى غير ذلك من الأخبار.

و أما القسم الثاني، و هي شروط الكمال

فقد جمع أمير المؤمنين (عليه السلام) المهم منها في قوله: «الاستغفار درجة العليين؛ و هو اسم واقع على ستة معان: أولها الندم على ما مضى، و الثاني العزم على ترك العود إليه أبدا، و الثالث أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتّى تلقى اللّه عزّ و جل أملس ليس عليك تبعة، و الرابع أن تعمد إلى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، و الخامس أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتّى تلصق الجلد بالعظم و ينشأ بينهما لحم جديد، و السادس أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: استغفر اللّه» و لا يخفى انه (عليه السلام) جمع في كلامه كلا القسمين من الشروط.

و من شروط الكمال أن يترك المعصية لأجل المعصية لا لأجل شيء آخر من حياء أو خجل أو غير ذلك، بل تركها لأجل نقص في عضو او عدم الإمكان لا يسمى توبة. و هذا ظاهر.

قبول التوبة:

إذا تحققت التوبة من العبد و كانت مستجمعة للشرائط تكون مقبولة لا محالة، و يدل على ذلك أمور:

الأول: قوله تعالى: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 54]، و يستفاد من هذه الآية قاعدة كلية و هي أن كل ما هو من صغريات الرحمة بينة عزّ و جل و بين عباده يكون واجبا عليه عزّ و جل لأنه كتب على نفسه ذلك فقبول التوبة الجامعة للشرائط مما أوجبه اللّه على نفسه، فيستغنى بذلك عن قاعدة اللطف التي أثبتوها في علم الكلام.

ص: 210

و يدل عليه أيضا قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110].

الثاني: الأخبار الكثيرة الدالة على لزوم قبول التوبة،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) انه قال: «التائب من الذنب كمن لا ذنب له»،

و في الخبر عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب منها مغفورة له، فليعمل لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة أما و اللّه إنها ليست إلاّ لأهل الإيمان. قلت: فان عاد بعد التوبة و الاستغفار من الذنوب و عاد في التوبة؟ قال (عليه السلام): يا محمد ابن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه و يستغفر منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته؟!! قلت: فانه فعل ذلك مرارا، يذنب ثم يتوب و يستغفر، فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه عليه بالمغفرة و إنّ اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات، فإياك أن تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».

و روى ابن بابويه في ثواب الأعمال عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أوحى اللّه إلى داود النبي (عليه السلام): يا داود إن عبدي المؤمن إذا أذنب ذنبا ثم رجع و تاب من ذلك الذنب و استحيا منّي عند ذكره، غفرت له، و أنسيته الحفظة، و أبدلته الحسنة و لا أبالي و أنا ارحم الراحمين» و الروايات في ذلك كثيرة.

الثالث: يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي أيضا و هو أن الإنسان السائر في مسير الاستكمال الأبدي الذي هو أشرف موجودات هذا العالم بل لم يخلق العالم إلاّ لأجله و مع ذلك فهو ضعيف كما قال تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً [سورة النساء، الآية: 28]، قرين النفس الأمارة و محاط بالشهوات المادية، و الشيطان يحوط به إحاطة العروق بالدم و جميع ذلك له دخل في نظام التكوين و التشريع كما ثبت بالبراهين القطيعة في الفلسفة العملية. و حينئذ فلو كان صرف وجود العصيان مانعا دائميا عن إفاضة المبدإ القيوم فيضه عليه لزم تعطيل أعظم المخلوقات عما خلق له، و هو قبيح و القبيح محال بالنسبة اليه عزّ و جلّ، فيحسن قبول التوبة منه تعالى، و يرشد إلى ذلك ما

في بعض القدسيات: «بمعصية ابن آدم عمرت العالم» و منه يظهر سر

ص: 211

ابتلاء آدم بما ابتلي به في بدء الهبوط، كما يظهر شرح

قوله (عليه السلام): «إن اللّه يحب المفتن التواب».

فاليأس عن قبول التوبة معصية كبيرة، و لو عصى العبد مرات عديدة، لأنه يأس من رحمة اللّه تعالى، و هو من المعاصي الكبيرة،

و عن علي (عليه السلام) في بعض دعواته الشريفة: «اللهم إن استغفاري إياك و أنا مصرّ على ما نهيت قلة حياء، و تركي الاستغفار مع علمي بسعة فضلك و حلمك تضييع لحق الرجاء».

موارد التوبة:

تصح التوبة من جميع الذنوب و الخطايا، سواء كانت من الكبائر أم الصغائر، و هي توجب محوها إذا اجتمعت فيها الشرائط، و تدل على ذلك آيات من الكتاب الكريم و روايات من السنّة الشريفة.

اما الآيات فمنها قوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية 31]، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية:

110].

و يدل على خصوص التوبة عن الكبائر قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اَللّهِ مَتاباً [سورة الفرقان، الآية: 71].

و أما ما يدل على صحة التوبة عن الصغائر فهو كثير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة النساء، الآية: 31] و الآيات في ذلك كثيرة.

و أما الروايات فهي مستفيضة منها

ما روي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 212

قال: «اعترفوا بنعم اللّه ربكم، و توبوا إلى اللّه من جميع ذنوبكم فإن اللّه يحب الشاكرين من عباده».

و في تفسير القمي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لما اعطى اللّه إبليس ما أعطاه من القوة قال آدم يا رب سلطت إبليس على ولدي و أجريته منهم مجرى الدم في العروق، و أعطيته ما أعطيته فمالي و لولدي؟ قال: لك و لولدك السيئة بواحدة و الحسنة بعشر أمثالها، قال: يا رب زدني، قال: التوبة مبسوطة إلى ان تبلغ النفس الحلقوم، قال: يا رب زدني، قال: اغفر و لا أبالي. قال: حسبي».

و روى في الكافي عن سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إن اللّه لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء؛ الكبائر فما سواها قلت: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال (عليه السلام): نعم» و الروايات الدالة على صحة التوبة من الكبائر و الصغائر كثيرة جدا تقدم بعضها.

ثم إنه قد ورد إنه لا تقبل التوبة عن بعض الذنوب، منها ما ورد في عدم قبول توبة من أحدث دينا، و ما ورد في عدم قبول التوبة عن الشرك، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 116]، و عدم قبول توبة المرتد.

و لكن الحق أن يقال: إنّ جميع تلك الموارد لا بد و ان تحمل إما على عدم وقوع التوبة مستجمعة للشرائط او الموت على الشرك و عدم التوبة منه، و إلاّ فإن الإسلام يهدم الشرك بلا إشكال، و تدل على ذلك روايات منها

صحيح أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث الإسلام و الإيمان قال: «و الإيمان من شهد أن لا إله إلاّ اللّه - إلى ان قال - و لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار. قال أبو بصير: جعلت فداك و أينا لم يلق اللّه بذنب أوعد عليه بالنار؟ فقال (عليه السلام): ليس هو حيث تذهب إنما هو من يلق اللّه بذنب أوعد اللّه عليه بالنار و لم يتب منه».

و أما المرتد فتقبل توبته مطلقا - فطريا كان أو مليا - على ما فصلناه في الفقه و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و يدل على القبول

صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «من كان مؤمنا فعمل خيرا في

ص: 213

إيمانه ثم أصابته فتنة فكفر ثم تاب بعد كفره كتب له و حوسب بكل شيء كان عمله في إيمانه و لا يبطله الكفر إذا تاب بعد كفره».

إن قلت: إنه قد ورد في بعض الأخبار نفي الإيمان عمن يذنب بعض الذنوب و إثبات الكفر له،

ففي الخبر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لا يزني الزاني و هو مؤمن؛ و لا يسرق السارق و هو مؤمن»، و مثله غيره.

قلت: يحمل ذلك على نفي بعض مراتب الإيمان، أو إثبات بعض مراتب الكفر، و يدل عليه ما

رواه زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام):

«أ رأيت قول رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يزني الزاني و هو مؤمن، قال (عليه السلام): ينزع منه روح الإيمان». و لا يدل ذلك على سلب الإيمان منهم بالكلية، أو أنّ العاصي بذلك لا مؤمن و لا كافر كما يقوله بعض المعتزلة، و للكلام تتمة تأتي في المحل المناسب إن شاء اللّه تعالى.

التوبة و زمانها:

إنّ من رحمته تعالى و منّه على عبده أن فتح لهم باب التوبة بمصراعيه، و من عظيم لطفه جعله مفتوحا أمام العاصين حتى تبلغ النفس إلى الحلقوم، و يدل على ذلك روايات مستفيضة منها ما

رواه الكليني في الكافي عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من تاب قبل موته بسنة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن السنة لكثير، من تاب قبل موته بشهر قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل اللّه توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل اللّه توبته ثم قال: إن يوما لكثير، من تاب قبل ان يعاين قبل اللّه توبته».

و روى في الكافي أيضا عن أحدهما (عليهما السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ قال لآدم (عليه السلام): جعلت لك أن من عمل من ذريتك سيئة ثم استغفر غفرت له، قال: يا رب زدني، قال: جعلت لهم التوبة - أو بسطت لهم - حتّى تبلغ النفس هذه. قال: يا رب حسبي» إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة، و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ [سورة النساء، الآية: 18] أي في ما إذا عاين الموت

ص: 214

كما ورد في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) كما تقدم في بعض الروايات.

السبل لمحو الذنوب:

تقدم أن الذنوب كلها قابلة للتكفير عنها و محوها، و التوبة عنها و لذلك طرق كثيرة، و هي إما أن تكون محدودة و معينة في الشرع فلا تصح بغيرها، و إما ان لا تكون كذلك. و الجامع بين القسمين هو الندامة، و المجاهدة على ترك الذنب، و إرضاء صاحب الحق - خالقا كان أو مخلوقا - فطرق التوبة على قسمين:

القسم الأول: الطرق التي عينها الشارع و جعل لها حدودا و شروطا لا تصح التوبة بغيرها و هي كثيرة:

منها: الإسلام فإنه يهدم الشرك، و الآيات و الروايات فيه متواترة، و يكفي في ذلك

قوله (صلّى اللّه عليه و آله) المشهور بين الفريقين: «الإسلام يجبّ ما قبله».

و منها: قضاء الطاعات الواجبة مثل الصّلاة، و الصوم، و الحج و الزكاة، و الخمس، فإن النوبة المقررة في الشريعة عن الذنب الحاصل من تركها هي قضاؤها على ما هو المفصل في علم الفقه.

و منها: أداء حقوق النّاس إن ضيعها سواء كان الحق ماليا، أو جناية على النفس، أو حقا أدبيا أخلاقيا، و التوبة عن الذنب الحاصل من تضييعها أداؤها، و الاسترضاء من صاحب الحق، أو القصاص، أو إخراج الدية كما هو مفصل في كتب الفقه.

و منها: إظهار الخلاف و إعلام النّاس ببطلان ما أظهره كما لو استحدث دينا جديدا فطريق التوبة عنه إظهار خلافه و إعلام النّاس ببطلانه، و الإصلاح بعد الإفساد، قال تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 160].

و أما

ما ورد عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه

ص: 215

(صلّى اللّه عليه و آله) أنه قال: «إن اللّه غافر كل ذنب إلاّ من أحدث دينا، و من اغتصب أجيرا أجره، أو رجل باع حرا» فإنه محمول على عدم تحقق شرائط التوبة منه بقرينة غيره من الروايات المتقدمة.

القسم الثاني: الطرق العامة التي جعلها اللّه تعالى وسيلة للتوبة و التكفير عن الذنوب و الخطايا، و هي أيضا كثيرة.

منها: اجتناب الكبائر فانه موجب لمحو الصغائر، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ [سورة الطلاق، الآية: 5]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ [سورة الأنفال، الآية: 29].

و روى ابن بابويه في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): «من اجتنب الكبائر يغفر اللّه جميع ذنوبه و ذلك قول اللّه عزّ و جل: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

و في رواية محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «من اجتنب كبائر ما أوعد اللّه عليه النّار إذا كان مؤمنا كفر اللّه عنه سيئاته» و نحوهما غيرهما.

و منها: إتيان الحسنات و الأعمال الصالحة، فانه كفارة للذنوب قال تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114].

و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «الصلوات الخمس و الجمعة تكفر ما بينهنّ إن اجتنبت الكبائر»،

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): «أتبع السيئة الحسنة تمحها»،

و في وصية النبي لأبي ذر: «اتق اللّه حيثما كنت، و خالق النّاس بخلق حسن، و إذا عملت سيئة فاعمل حسنة تمحوها».

و في صحيح يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «و من عمل سيئة في السر فليعمل حسنة في السر، و من عمل سيئة في العلانية فليعمل حسنة في العلانية».

و في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ما أحسن الحسنات بعد السيئات و ما أقبح السيئات بعد الحسنات».

و منها: الاستغفار فانه الممحاة، و انه دواء الذنوب كما في الأثر قال

ص: 216

تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 110]، و قال تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 90]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 135].

و في الحديث: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يستغفر اللّه في كل يوم سبعين مرة يقول: استغفر اللّه ربي و أتوب اليه، و كذلك أهل بيته، و صالح أصحابه؛ يقول اللّه تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ؛

و في الحديث أيضا قال رجل: «يا رسول اللّه إني أذنب فما أقول إذا تبت؟ قال: (صلّى اللّه عليه و آله): استغفر اللّه، فقال: إني أتوب ثم أعود فقال: كلما أذنبت استغفر اللّه. فقال: إذن تكثر ذنوبي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله) عفو اللّه أكثر، فلا تزال تتوب حتّى يكون الشيطان هو المدحور»،

و عن عمار بن مروان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «من قال استغفر اللّه مأة مرة في يوم غفر اللّه له سبعمائة ذنب، و لا خير من عبد يذنب في يوم سبعمائة ذنبا»

و في رواية عبد الصمد بن بشير عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «إن المؤمن ليذكر ذنبه بعد عشرين سنة حتّى يستغفر ربه فيغفر له، و إن الكافر لينساه من ساعته». و الروايات في كون الاستغفار موجبا لمحو الذنوب كثيرة جدا.

و منها: الاستعانة باللّه بالصّلاة و الصيام في غفران الذنوب،

ففي الخبر عنهم (عليهم السلام): «ما من عبد أذنب ذنبا، فقام و تطهر و صلّى ركعتين و استغفر اللّه إلاّ غفر له، و كان حقا على اللّه أن يقبله، لأنه سبحانه قال: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ،

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: «ما أهمني ذنب أمهلت بعده حتّى أصلي ركعتين». و قد وردت روايات كثيرة على أن صوم أيام من الأسبوع أو أيام من السنة يوجب محو الذنوب، فراجع كتاب الصوم من الوسائل.

التبعيض في التوبة:

تصح التوبة عن بعض الذنوب دون بعض. لتعدد الذنوب و تعدد آثارها

ص: 217

شرعا، و عدم الارتباط بينها كذلك، سواء كانت الذنوب التي يتوب عنها موافقة بالنوع مع الذنوب التي لا يريد التوبة عنها، أو مخالفة لها كأن يريد التوبة عن الكذب دون الغيبة، أو يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلا، و الدليل عليه مضافا إلى ذلك إطلاقات الأدلة و عموماتها، و تسمى هذه بالتوبة المفصلة.

و ذهب بعض العلماء الى عدم صحة التوبة كذلك بل يجب العموم - كما هو مذهب المسيحيين - في التوبة، لأنها إنما تكون لسقوط استحقاق العقاب، و مع ثبوت الاستحقاق الفعلي لسائر المعاصي لا موضوع للتوبة حينئذ.

و هو مردود بأن اختلاف الجهة يدفع ذلك فيرتفع الاستحقاق من جهة، و يبقى من جهة أخرى و لا تنافي بين الجهتين، كما لا يخفى.

نعم، لو كان بقاؤه على بعض المعاصي كاشفا عن عدم تحقق الندامة بالنسبة إلى ما تاب عنها فلا تتحقق التوبة حينئذ، و به يمكن الجمع بين الكلمات فراجع.

و من جميع ما تقدم يظهر أيضا صحة التوبة الموقتة بأن يتوب عن الذنب مدة معينة و لا يذنب فيها.

صيغ التوبة:

للتوبة عبارات متعددة، منها «أتوب إلى اللّه»، و «استغفر اللّه»، و «استغفر اللّه و أتوب إليه» و غير ذلك مما تثبت التوبة بكل واحدة منها بعد تحقق الندم من مرتكب المعصية، كما تقدم. و ليست فيها صيغة خاصة.

أقسام التوبة و مراتبها:

التوبة على أنواع، منها توبة الإنابة، و هي عبارة عن الخوف من اللّه جلّ شأنه لأجل قدرته على العاصي.

و منها: توبة الاستجابة، و هي عبارة عن الحياء من اللّه لقربه من العبد.

و منها: توبة العوام، و هي ناشئة عن الخوف من عذاب اللّه تعالى.

ص: 218

و منها: توبة الخواص من الغفلة، و توبة الأنبياء من ترك الأولى و العجز عن ما ناله غيره، و هي أخص الخواص كما تقدم في آية - 37 من هذه السورة.

و أما مراتبها فهي ثلاثة:

الأولى: أن يتوب العبد عن الذنوب كلها و يستقيم على التوبة إلى آخر عمره و لا تصدر عنه المعاصي إلاّ اللمم و الزلات التي لا يخلو عنها غير المعصومين، و هي التوبة النصوح المعبر عنها

في الروايات «أن يكون ظاهره كباطنه».

الثانية: أن يتوب عن الذنوب و يستقيم على الطاعات إلاّ أنه لا يخلو في حياته عن بعض ذنوب قد تصدر منه و لكنه يندم و يأسف على كل ما صدر عنه، و هذا هو معنى التواب.

الثالثة: مثل السابقة و لكنه لا يحدث نفسه بالتوبة و لا يتأسف على ما صدر عنه.

التوبة في الأديان السماوية:

لا تختص التوبة و التطهير عن الأدناس و الخطايا بدين الإسلام فقط بل تعم جميع الأديان كلها و ان اختلفت في الكيفية و الشروط، و قد ورد في القرآن الكريم توبة آدم (عليه السلام)، قال تعالى: فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ [سورة البقرة، الآية: 37] و قول موسى (عليه السلام): فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 54] و قال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام): وَ يا قَوْمِ اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ [سورة هود، الآية: 52] إلى غير ذلك من الآيات المباركة الدالة على ذلك، و لكن التوبة عند أكثر المسيحيين أحد أسرار الكنيسة السبعة على تفصيل مذكور عندهم.

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّها.......

اشارة

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما

ص: 219

يَنْفَعُ اَلنّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) الآيات مرتبطة بالآيات السابقة فانها بمنزلة التعليل لجملة كثيرة من ما ورد في الآيات السابقة كجعل الإمامة، و بناء البيت، و تشريع بعض أعمال الحج، و جعل القبلة، و لعن الذين يكتمون ما أنزل اللّه من البينات، و قبول توبتهم، فذكر سبحانه و تعالى أوّلا أنّ المعبود واحد و رحمته عامة تشمل الجميع و إن اختلف متعلقها من حيث الرحمة الرحمانية و الرحمة الرحيمية، ثم شرح ذلك في الآية الثانية بذكر آيات عظام ينتظم بها أمور العالم و يعيش بها كل ذي حياة. و مجموعها تدل على أنّ من كانت صفاته هكذا فهو مبدأ كل خير و منتهى كل أمر.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ . تقدم ما يتعلق بلفظ الإله في البسملة من سورة الفاتحة و المستفاد من ما ذكرناه هناك أنه محبوب كل الأشياء، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44] و لا ريب أنّ التسبيح فرع المحبة.

و الواحد مبدأ التكثرات، أي أنه واحد الذات و الصفات و الأفعال و في عين ذلك هو مبدأ التكثرات و مفنيها، كما يكون الواحد كذلك

و قد نسب إلى مولانا الجواد (عليه السلام) في بيان معنى الواحد فقال (عليه السلام): «إجماع الألسنة عليه بالوحدانية، لقوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فجعل (عليه السلام) مناط الوحدانية الخلاقية العظمى التي اجتمعت الألسن عليها دون سائر جهات الوحدانية التي تقصر العقول عن درك بعضها فضلا عن جميعها.

و قد فرق العلماء بين الواحد و الأحد - بعد كون الأخير هو الواحد أبدلت الواو همزة ثم خفف اللفظ فصار أحدا - بوجوه تقدمت في آية 133 من هذه

ص: 220

السورة أهمها امور:

الأول: أنّ الواحد هو المتفرد بالذات، و الأحد أعم منه.

الثاني: أنّ الواحد يطلق على ذوي العقول و غيرهم، و الأحد لا يطلق إلاّ على الأول، و قد يطلق على غيره.

الثالث: أنّ الواحد يدخل في الضرب في العدد دون الأحد كما مر.

و إنّما اطلق سبحانه لفظ الواحد ليفيد العموم فيشمل الوحدة في الذات فلا جزء له، و الوحدة في الألوهية و العبادة فلا شريك له، و الوحدة في الصفات، و الوحدة في الأفعال فينتفي بذلك أنواع الشرك فهو واحد من جميع الجهات ليس كمثله شيء.

و كرر لفظ الإله لإفادة أن استحقاق العبادة و المعبودية إنما هو الوحدة في الألوهية فهو متقوم بها، فلو قال تعالى: «و إلهكم واحد» لما أفاد هذا المعنى.

ثم إنّ الألوهية إما أن تكون واقعية حقيقية، و أما أن تكون اعتقادية، و ما هو متقوم بالوحدة إنما هي الأولى دون الثانية، فإنها تحصل من التكثرات و تتنافى مع الوحدة، قال تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ [سورة ص، الآية: 5]، و قد حصل لهم التعجب، لأنها اعتقادية خيالية تابعة لأهوائهم. قال تعالى: أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [سورة الفرقان، الآية: 43]. و الآيات و الروايات و الأدلة العقلية تدل على كثرة هذا الإله و تعدده بحيث لا حصر له و لا عد.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ . هذه العبارة من أوضح العبارات الدالة على وجود اللّه و توحيده و نفي ما عداه، و هي كلمة نابعة من ينبوع الفطرة المستقيمة.

قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ . تقدم تفسيرهما في بسملة الفاتحة، و ذكر هما في المقام لتقوم الربوبية العظمى بهما.

ثم إنّ ما ورد في هذه الاية الشريفة من البيّنات الواضحة الدالة على وجود اللّه تعالى و وحدانيته و بديع صنعه الناشئ من رحمته التي وسعت كل

ص: 221

شيء، و مضمونها من أقرب الأشياء إلى الفطرة، و أوضح الأمور التي يقبلها العقل السليم و لا يحتاج إلى البرهان، لكنه تبارك و تعالى بعظيم لطفه و سابق منّه شاء أن يرشد الإنسان إلى ذلك بإقامة الحجة القيمة ليستفيد منها العالم و غيره كل بحسب استعداده، و ليكون العلم بذلك بالبرهان المتين، فذكر جلّت آلاؤه بعض الآيات من خليقته و ظواهر الكون الدالة على وحدانيته و رحمته.

قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ . مادة خلق تأتي لمعان منها: إبداع الشيء من غير مثال، كقوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [سورة الأنعام، الآية: 73]، فهو مثل البديع، قال تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 117]، و فاطر قال تعالى:

اَلْحَمْدُ لِلّهِ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الفاطر، الآية: 1] و هذا مما يختص به تعالى، قال عزّ و جل: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل، الآية: 17].

و منها: إيجاد شيء من شيء، قال تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [سورة النحل، الآية: 4]، و قال تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ [سورة الرحمن، الآية: 14]، و قال تعالى: وَ خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [سورة الرحمن، الآية: 15]، و بهذا المعنى يصح استعماله في غيره تعالى، قال عزّ و جل: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110].

و منها: التقدير، و يصح استعماله في غيره تعالى أيضا، لأن التقدير من مبادئ كل إرادة نفسانية، و لعل منه قوله تعالى: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، و ربما يكون المراد منه الخالق الاعتقادي لا الواقعي كقوله تعالى: أَ جَعَلَ اَلْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [سورة ص، الآية: 5]. و قد ثبت في محله امتناع تعدد الآلهة الواقعية.

و السموات هي الأفلاك العلوية بجميع أجرامها و كواكبها المختلفة و منظوماتها المتعددة - التي منها منظومتنا الشمسية - المختلفة في أعدادها

ص: 222

و أبعادها و أوزانها و المؤتلفة بينها بنظام دقيق، و هو قانون الجاذبية في الأفلاك السابحة في الفضاء الفسيح غير المتناهي بسير منتظم وفقا لقواعد فلكية، المؤثرة في حياتنا الأرضية بنحو من التأثير و غير ذلك مما فيه آيات بينات دالة على وحدة صانعها و حكمته البالغة، يبهر المتأمل في ظواهرها فكيف بمن اطلع على عجائبها.

و قد ورد لفظ السموات في القرآن الكريم بصيغة الجمع في ما يقرب من مأتي مورد، أو بصيغة المفرد أكثر من مائة مورد، و الجميع مقرون بما يدل على جلالة الصانع و بداعة صنعه و كمال الخلق و لم يرد لفظ السماء في القرآن بلفظ التثنية.

ص: 223

و الليل اسم جنس واحده ليلة، كتمر و تمرة، و النهار اسم جنس أيضا و يقع على القليل و الكثير على حد سواء، و لم يسمع له جمع في الاستعمالات الفصيحة.

و اختلاف الليل و النهار كذلك فيه من الحكم و المصالح الدالة على حكمته البالغة و عظيم صنعه، و فيه من المنافع للنّاس مما يدل على عظيم لطفه، و قد أشار سبحانه إلى بعض تلك المنافع في آيات أخرى فقال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اَللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ اَلنَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً [سورة الإسراء، الآية: 12]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان، الآية: 62]، و قال تعالى: وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص، الآية: 73].

قوله تعالى: وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ . الفلك - بضم الأول و سكون الثاني - السفينة و مفردها كجمعها و يفرق بينهما بالقرائن، قال تعالى: وَ تَرَى اَلْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ [سورة النحل، الآية: 14] و قال تعالى: وَ اِصْنَعِ اَلْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا [سورة هود، الآية: 37]. فإن الأول جمع و الأخير مفرد، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرين موردا، و أما الفلك - بفتح الأول و الثاني - فهو مجرى الكواكب.

و جريان الفلك في البحر و انتفاع الناس بها في نيل مقاصدهم في التجارة و حمل الأثقال و الأسفار البعيدة، كل ذلك من آيات اللّه تعالى الدالة على وجوده و وحدانيته و حكمته البالغة، لأن جريانها في البحر لم يكن إلاّ نتيجة قواعد علمية ثابتة، منها القواعد المعروفة في ثقل الأجسام؛ أو المتعلقة بجريان الريح قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ اَلْجَوارِ فِي اَلْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ اَلرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [سورة

ص: 224

الشورى، الآية: 23]. و منها القواعد المتعلقة بالبخار و الكهرباء الذين تجري بهما الفلك في هذه الأعصار، و غيرها من القواعد و القوانين التي هي من نعم اللّه تعالى على الإنسان قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَلْفُلْكَ تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اَللّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبّارٍ شَكُورٍ [سورة لقمان، الآية: 31].

قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ . فإنّ في نزول المطر و ارتواء الأرض و حياتها بعد موتها آية من الآيات الدالة على رحمته العامة و حكمته البالغة. و لم يبين سبحانه في هذه الآية كيفية تكوين المطر إلاّ أن آيات أخرى تبين ذلك، و سيأتي في قوله تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي يُرْسِلُ اَلرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي اَلسَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى اَلْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [سورة الروم، الآية: 48] إثبات أن مضمون هذه الآية هو الذي أثبته العلم الحديث بعد قرون عديدة.

قوله تعالى: فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ . البث التفريق، و الدابة من الدبيب، و هي كل ما يدب في الأرض و إن اشتهرت في العرف بما يركب.

و المراد من حياة الأرض بعد موتها هو جميع أنواع الحياة النباتية و الحيوانية و الإنسانية و خروجها من الجدب إلى الارتواء و قابلية إنماء النبات و قوة الإنبات، فان من نزول المطر ترتوي الأرض فتستعد لحياة النبات عليها، و به يعيش الحيوان و الإنسان، قال تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا اَلْماءَ اِهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [سورة الحج، الآية: 5]. و الأرض القاحلة الخالية عن الماء لا يعيش فيها نبات و لا حيوان فهي ميتة من هذه الجهة، و ان المطر يخرجها الى الحياة، و من ذلك يعرف أن الماء سبب في حياة الأرض و النبات و الحيوان، و نزوله بحسب حكمته البالغة يدل على عظيم لطفه و واسع رحمته.

قوله تعالى: وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ . التصريف: النقل و التغيير. و الرياح الهواء المتحرك و إذا استعمل اللفظ في القرآن الكريم جمعا يكون

ص: 225

للرحمة، و مفردا يكون للعذاب في ما إذا كان من فعله، قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً [سورة فصلت، الآية: 16].

و تصريف الرياح تغييرها و تبديلها و توجيهها بإرادة اللّه تعالى، فإن في ذلك دخلا في بقاء النبات و الحيوان بل في حياة الإنسان من حيث المرض و الصحة، و كدورة النفس و صحوتها، كما أثبته العلم الحديث.

و قد ذكر العلماء أن الرياح على طبايع مختلفة، منها: الصبا و محلها من مطلع الشمس، و الجدي عند الاعتدال، و الشمال من الجدي الى مغرب الشمس، و الدبور من سهيل إلى مغربه، و الجنوب من مطلع الشمس إلى مغربها.

و منها الأعاصير، و الملقحة للنبات، و العقيمة، و المتناوحة التي تهب من كل ناحية، و منها الإستوائية الدافئة، و القطبية الباردة، و الموسمية، و التجارية التي تجري بها السفن، و منها الهادئة التي تمنع خطر العواصف.

كل هذه الأقسام تجري و تهب وفق الإرادة الأزلية و بحسب الحكمة و النظام مما يدل على حكمة صانعها و رحمة مدبرها و منّه على خلقه.

قوله تعالى: وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ السحاب الغيم، سواء كان فيه الماء أم لا و الفرق يستفاد من القرائن و سمي به إما لجر الريح له، أو لجريان الماء منه، أو لانجراره من محل إلى محل آخر بتسخير اللّه تعالى له، و التسخير التذليل بأمر المسخر.

و تسخير السحاب فهي الجو و اعتراضه بين السماء و الأرض و جريانه إنما يكون بحسب قواعد علمية ثابتة قد كشف العلم الحديث بعضا منها، و توجيه هذا السحاب و تنظيمه بأحسن نظام فيه الدلالة الواضحة على ربوبيته العظمى و رحمته الواسعة.

قوله تعالى: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ . الآيات جمع آية و هي العلامة الظاهرة، أي: أن كل واحد من الأمور السابقة و الظواهر الكونية المنتظمة بأحسن نظام و المتحركة وفق الإرادة الأزلية التي اقتضت أن تسير هذه الأمور بحسب قواعد علمية ثابتة متقنة لم يتنبه الإنسان إليها إلاّ بعد مرور قرون

ص: 226

عديدة و قد كشف القرآن الكريم قبل ذلك عن بعض منها، و في كل ذلك دلالات واضحة على أنها من صنع اللّه تعالى القادر المتعال العليم الحكيم الرحيم، فإن كل مصنوع فيه الدلالة على صانعه، و إنّ فيها الدلالة على وحده صانعها و أنّه المستحق للعبادة و التعظيم لا يشاركه غيره، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 21].

بحوث المقام
بحث دلالي:

تتضمن الآيات المباركة أمورا:

الأول: ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات من الأسماء الحسنى الوحدة، و الرحمانية، و الرحيمية دون غيرها من الأسماء، و يمكن أن يكون الوجه فيه هو أن بالوحدة تتم له تعالى جميع أنحاء التوحيد و يتنزه عن جميع أنحاء الشرك فهو فرد في الألوهية و الصفات العليا لا يشاركه أحد من مخلوقاته، فيستحق بذلك الألوهية في الخلق و العبادة، كما سيأتي مزيد بيان في البحث الفلسفي و بالرحمانية و الرحيمية تتم له الربوبية العظمى في مخلوقاته.

الثاني: قد ذكر سبحانه في هذه الآيات أصول الخلق التي تتعلق بالإنسان من حيث حياته و نشأته و بقاؤه و انتفاعه، فقد ذكر خلق السموات و الأرض لأن بهما تتقوم حياة كل حي و ذكر اختلاف الليل و النهار من حيث مدخليتهما في نشأة الحيوان و الإنسان و بقائهما، ثم ذكر الماء و النبات، لأن بقاء كل كائن حي إنما يكون بهما، و ذكر أخيرا تصريف الرياح باعتبار مدخليتها في بقاء كل ذي حياة، و أما الانتفاع من الرياح و الفلك و غيرهما فهو ظاهر.

الثالث: إنما ذكر سبحانه وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ بعد اختلاف الليل و النهار، لأن تمامية النفع من الفلك إنما يتحقق بمعرفة الأوقات و ساعات الليل و النهار. و ذكر السحاب بعد تصريف الرياح،

ص: 227

لأن تسخير السحاب لا يكون إلاّ بتصريف الرياح و جريانها كما عرفت.

الرابع: إنما قدم عزّ و جل الليل على النهار في الآيات المشتملة عليهما، لأن ضوء النهار أمر وجودي متقوم بطلوع الشمس و غروبها و هو مسبوق بالعدم، فيكون الأصل هو الظلمة و إن كان الليل و النهار متلازمين في التحقق الخارجي، و يأتي تفصيل ذلك في محله إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: تدل الآيات المباركة و ما في سياقها على أن الأشياء في عالم الطبيعة و الماديات مطلقا لا تحصل إلاّ بأسبابها المقتضية لها، و عليه جرت سنة اللّه تعالى في خلقه، و يدل عليه الدليل العقلي و النقلي،

و في الحديث: «أبى اللّه ان يجري الأمور إلاّ بأسبابها»، و قد تقدم في أحد مباحثنا السابقة إثبات ذلك.

و لا فرق في ذلك بين الأمور النوعية، و الصنفية، و الفردية، و هو يدل على كمال قدرته و إحاطته بمخلوقاته و واسع رحمته، فلو لا إرادته الأزلية لم يتحقق شيء من الأشياء، و لو لا الأسباب التي جعلها اللّه تعالى وسيلة لتحققها لما وجدت أصلا، فانه يكون من تحقق المعلول بلا علة، و هو محال و لا ريب في أن لثبوت الحوادث أسبابا ثبوتية واقعية مستندة بنفسها، و ترتب مسبباتها عليها إلى إرادة قاهرة فوق الطبيعة تديرها بجميع شؤونها و جهاتها، و الجميع لا يعزب عن علمه و لا يخرج عن قدرته.

و من ذلك يعلم أنّ الاقتصار على الأسباب و إرجاع الحوادث كلها إليها فقط مع الغفلة عما وراءها من السبب الواقعي تفريط في الرأي، و باطل بالأدلة العقلية و النقلية.

كما أنّ إرجاعها إلى اللّه تعالى مسبب الأسباب و مبدأ الكل و منشئه من دون نظر إلى الأسباب و العلل إفراط في الكلام، و قد أبطلته الشرايع الإلهية بل الوجدان و الدليل العقلي ينفيه، و الطريق الوسط الذي أمرنا باتباعه هو ما ذكرناه.

السادس: تدل الآيات على وجوب التعقل و التفكر، و هو مما حكم به

ص: 228

العقل أيضا، و قد ورد الأمر به و الحث عليه في ما يقرب من خمسين آية بعبارات مختلفة تشمل جميع أصناف خلقه بما فيها العلوم و الحرف و الصناعات إلاّ ما نهى عنه في الشرع كما هو مفصل في الفقه.

السابع: بيّن سبحانه في هذه الآيات ما يحب التأمل و التعقل و التفكر فيه، و هو خلق اللّه دون ذاته تعالى، و السنة متواترة في ذلك

فقد ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «تفكروا في آيات اللّه و لا تتفكروا في اللّه».

الثامن: إنّ الآيات المتقدمة و ما في سياقها في مقام سوق العباد إلى معرفة الخالق و الاعتراف بوجوده من خلال صنعه و خلقه، و مثل هذا الاستدلال على وجود المبدأ و معرفته أقرب إلى أذهان عامة النّاس قال تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَ إِلَى اَلسَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ وَ إِلَى اَلْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ وَ إِلَى اَلْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ [سورة الغاشية، الآية: 17]. و قد يستدل سبحانه بالخالق على المخلوق و بالصانع على المصنوع، قال تعالى: فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الحج، الآية: 34]، و قال تعالى: أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة فصلت، الآية: 53] و تفصيلهما مذكور في علم الفلسفة و الكلام.

التاسع: ذكر سبحانه أنّ ما ذكر في الآيات المتقدمة آيات لقوم يعقلون و لم يبين ما فيه الآية و حذف المتعلق تعميما للفائدة، فإنها تدل على أصل وجوده تعالى دلالة الصنع على الصانع، و على قدرته و علمه، و حكمته التامة البالغة، و لطفه و عنايته بأمر خلقه، فتدل السموات و الأرض على حدوثها و استناد خلقها إلى خالق قديم، و اختلاف الليل و النهار على التغيير و الاستناد إلى مدبّر يدبرهما بالتدبير الحسن، و جريان الفلك على رأفته و عطفه على خلقه، و إحياء الأرض بعد موتها على ظهور أنواع الثمار و النبات و ظهور منافعها للنّاس، و على لطائف الصنع و بدايع الحكمة، و بث الدابة على خلق الغرائز المختلفة و غرائب الحكمة و بدائع الصنيعة. و تصريف الرياح على تفريقها في الجهات، و على دفع المضار و الأمراض بها و غير ذلك من الآيات الدالة على بديع صنعه و أنها من تقدير العزيز العليم.

ص: 229

جمالك في كل الحقائق ظاهر *** و ليس له إلاّ جلالك ساتر

تجليت في الأكوان خلف ستورها فنمّت بما ضمّت عليها الستائر

و قد نسب إلى الحسين بن علي (عليهما السلام) في بعض دعواته: «أ يكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتّى يكون هو المظهر لك متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك و متى بعدت حتّى تكون الآثار هي التي توصل إليك».

بحث أدبي:

يدل قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ على الاعتراف و الإقرار بوجود اللّه تعالى و تحققه فعلا، و نفي الشريك له عزّ و جل و هذا هو المقصود من دعوة الأنبياء.

لكن قد يقال: إن قدّر خبر «لا» النافية لفظ ممكن أي لا إله ممكن إلاّ اللّه فهو ممكن و يثبت الإمكان بالنسبة إليه تعالى، و هو أعم من الوجود الفعلي، إذ لا يلزم أن يكون كل ممكن موجودا.

و ان قدر الخبر كلمة «موجود» أي لا إله موجود إلاّ اللّه فهو موجود، فهو و ان دل على فعلية الوجود له تعالى لكن لا يدل على امتناع الشريك عنه عزّ و جل، إذ ليس كل معدوم ممتنعا.

و الجواب: إنّ كلمة «لا» تامة لا تحتاج إلى الخبر، كما في ليس التامة فيكون المعنى إنّه لا تحقق للمعبود بالذات إلاّ اللّه تعالى، فيثبت وجوده و امتناع غيره، مع أنه يمكن تقدير الخبر لفظ «ممكن» و لا يلزم المحذور لما أثبته الفلاسفة من أن كل ما هو ممكن بالنسبة إليه عزّ و جل و ليس فيه نقص فهو واجب بالنسبة إليه تعالى.

و عن جمع من أكابر الفلاسفة إن كان الوجود بذاته واجبا فيثبت المطلوب و إلاّ فيلازم ذلك ثبوت المطلوب و كذلك في الصفات التي لا يلزم النقص من ثبوتها لذات الوجود.

كما يصح تقدير الخبر لفظ «الموجود» أيضا و يكون نفي الوجود عن المستحق للعبادة ذاتا مساوقا لامتناعه، لأنه لو كان ممكنا لتحقق. و لعل لظهور

ص: 230

هذه الكلمة المباركة في ما ذكرناه اكتفى الأنبياء (عليهم السلام) بها في دعوتهم للعباد إلى الاعتراف بوجود اللّه تعالى و وحدانية و نفي الشريك عنه.

بحث قرآني:

الآيات التي تقدم تفسيرها مجموعة من الآيات الكثيرة في مواضع متعددة من القرآن الكريم التي يأمر اللّه تعالى فيها الإنسان بالتفكر و التأمل و التعقل في خلقه عزّ و جل و الاعتبار منه، و الغرض من ذلك هو إثبات الإله الواحد الأحد رب العالمين، و نفي الشريك و طرح الأنداد، و إعلام الإنسان بأنّ جميع ما سواه مخلوق و مربوب للّه تعالى و هو من أهم مقاصد القرآن الكريم بل و جميع الكتب السماوية.

و قد نزل القرآن في ذلك بأسلوب جديد تميز به عن غيره و هو إرجاع الإنسان إلى الوجدان و الفطرة عن طريق التفكر و التأمل في بديع صنع اللّه تعالى و أصناف خلقه.

و لقد اعتنى الحكيم عزّ و جل به اعتناء بليغا و أكد عليه بأنحاء التأكيدات لما له الأهمية الكبرى و عظيم الأثر في إثبات المطلوب، و ذلك لأنّ في استخدام هذا الأسلوب بعثا للشعور الوجداني الكامن في النفس الإنسانية، و الاعلام للطرف بأن الحجة فيك و لا تتعدى عنك، و هو أبلغ في الإحتجاج على الغير.

و لوضوح هذا النحو من الإحتجاج استخدمه القرآن الكريم في بيان أهم مقاصده في المبدأ و المعاد في ظروف كانت الوثنية و الشرك و الجهل المهيمنة على الإنسان الذي رفض استخدام العقل و التعقل في اختيار معتقداته و آرائه و اقتصر على المادة لحصول الانس بها، فسلب بذلك عن نفسه الرؤية الصحيحة للأشياء، فصار يعيش في خرافات موهومة و بنى عليها حضارات متعددة اتسمت كلها بالجاهلية، فجلب لنفسه الشقاء، و استبعدها عن السعادة و الكمال.

و كانت السمة المميزة للإنسان الجاهلي هي تعدد الآلهة و خوفه من الطبيعة و عناصرها التي خلقها اللّه تعالى لنفع الإنسان و خدمته، فصوّر لكل

ص: 231

عنصر من عناصر الطبيعة إلها استحق منه التعظيم و التقرب إليه بأنواع القرابين، فجعل السماء إلها، و للأرض إلها، و للمطر إلها. و للشجر إلها، و للحب إلها، و للشمس إلها و للقمر إلها إلى غير ذلك مما ضبطه التاريخ.

و نسب ما يصيبه من المكاره و المحن إلى هذه الآلهة إما لأجل غضبها على الإنسان، أو لأجل الصراع المستمر بين الآلهة أنفسها، حتّى يؤول الأمر إلى الغضب على الطبيعة، فيلحقها الدمار الشامل كما في قصة الطوفان.

و يمكن تلخيص ما اعتقده الإنسان في عصر التنزيل في الطبيعة و الإله فيما يلي:

الأول: تعدد الآلهة و الإعتقاد بأن لكل عنصر من عناصر الطبيعة إلها يفعل ما يريد و يحكم ما يشاء في حدود ما ثبتت إلهيته.

الثاني: انه يرى قدم العالم و أزليته بقدم الآلهة و أزليتها.

الثالث: إنّه يعتمد في نظرته للطبيعة و عناصرها أن لها أرواحا تعمل بالإرادة الكاملة و تستحق التعظيم و العبادة، و أن الإنسان مسيّر تحت ارادتها.

الرابع: إسناد الحوادث كلها إلى هذه العناصر الطبيعية، فان كانت رخاء و نعمة فهي من تقارب الآلهة كما اعتقد أنّ عمران الأرض بالنبات و الأنهار و الأمطار كان نتيجة التقارب بين آلهة السماء و آلهة الأرض. و أما إذا كانت الحوادث سوءا و دمارا فهي من غضب الآلهة على الإنسان أو من الصراع المستمر بينها.

الخامس: تأثير العناصر السماوية في العناصر الأرضية.

و لقد نزل القرآن الكريم في هذه الظروف و كان أول همه إرجاع الإنسان إلى وجدانه و وعيه عن طريق التأمل و التفكر في ما حوله من الأشياء و أحكمه بأشد الإحكام، و ذم التقليد و العصبية في الآراء، و بذلك بيّن الطريق المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى الكمال و الهداية عن غيره و في نفس الوقت حدّد علاقة الإنسان بالطبيعة، و هي بالإله، و بيّن بوضوح حقيقة الطبيعة و موقف الإله منها بأسلوب بياني رائع يقبله الطبع السليم، و كان له القول الفصل في ذلك

ص: 232

بحيث أصبح منارا يحتذي به كل متأله و حكيم، و منه استمد كل من كتب في الفلسفة الإلهية و الحكمة المتعالية.

و محصل ما يستفاد من القرآن في ذلك ما يلي:

الأول: أنّ الطبيعة بجميع عناصرها - السماوية منها و الأرضية - كلها حادثة و مخلوقة للّه تعالى و هي خاضعة لإرادته يفعل فيها ما يشاء و يحكم ما يريد، و هي تدل على وحدانيته تعالى و حكمته المتعالية، قال تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُغْشِي اَللَّيْلَ اَلنَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ وَ اَلنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ اَلْخَلْقُ وَ اَلْأَمْرُ تَبارَكَ اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأعراف، الآية: 54].

تبين هذه الآية بوضوح كيفية خلق السموات و الأرض و أنها حادثة و ليست أزلية.

الثاني: أنّها كما لا تكون أزلية - أي قديمة - لا تكون خالدة و أبدية، يصيبها الفناء كما يصيب كل مخلوق مسخر، قال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ وَ اَلسَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة إبراهيم، الآية: 48].

الثالث: أنّه خلق السموات و الأرض بلا شريك له في الخلق و لا وزير، قال تعالى: مَا اِتَّخَذَ اَللّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اَللّهِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 91].

الرابع: أنّه لا تنازع و لا صراع بين أفراد الطبيعة و عناصرها كما زعموه، بل كلها مسخرات بأمره كما في الآية المتقدمة.

الخامس: أنّها خلقت لأغراض صحيحة وفق نظام محكم و قواعد علمية متقنة، و إنها تدل على وحدانية و حكمته التامة و ربوبيته العظمى قال تعالى: وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّارِ [سورة ص، الآية: 27] و الآيات في ذلك كثيرة.

ص: 233

السادس: أنّها ليست شرا بل خلقت لأجل نفع الإنسان إن كان مطيعا للّه، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ اَلرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ اَلْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة الروم، الآية: 46].

و يتفرع عن كل واحد مما تقدم أمور أخرى يأتي تفصيل الكلام فيها في المواضع المناسبة إن شاء اللّه تعالى. و بذلك بيّن سبحانه أصول الإعتقاد بالمبدأ و المعاد و نبذ الشرك و الأنداد.

كما بيّن أن جميع مخلوقاته آيات و علامات على وجود المبدأ تبارك و تعالى الذي وصفه القرآن الكريم بأمور:

الأول: أنّه أزلي قديم، لأنّ كل حادث لا بد له من الانتهاء إلى علة قديمة، و إلاّ يلزم التسلسل الباطل، و بذلك أثبت الفلاسفة القاعدة المعروفة في الفلسفة الإلهية: «أنّ كل حادث في عالم الإمكان لا بد و أن ينتهي إلى علة قديمة و واجبة و إلاّ لاختل النظام». و القاعدة المشهورة: «إنّ كلما بالعرض لا بد و أن ينتهي إلى ما بالذات».

الثاني: أنّه موجود إذ لا يعقل استناد الحوادث إلى المعدوم.

الثالث: امتناع التعدد بالنسبة إليه، كما يأتي في الآيات المناسبة له.

الرابع: أنّه حي مدرك، إذ لا يمكن اسناد هذا النظام الحسن إلى غيره.

الخامس: أنّه منعم رحيم رؤوف، لأنّ الخلق و التقدير إنما هو رحمة و رأفة و نعمة في وجدان كل ذي شعور كما يأتي في الآيات اللاحقة.

السادس: أنّه حكيم عليم بدقائق الأمور كلياتها و جزئياتها، لما في بدايع صنعه من خصوصيات و دقائق علمية مما تدهش منه العقول و يعترف أهل الفن بالعجز و القصور في درك الحقيقة و يخرّون سجدا لإلهية و حكمته.

ص: 234

السابع: أنّه لا يعزب عن علمه و تدبيره و كمال قدرته مثقال ذرة في السموات و الأرض.

الثامن: أنّ جميع الموجودات مستندة إليه في الحدوث و البقاء و أنّ مناط الحاجة إلى العلة فيها إنما هو الإمكان، و هو قرين ما سواء حدوثا و بقاء، و لا ينفك عنه بوجه من الوجوه.

التاسع: أنّه يسير ما سواه تعالى اليه عزّ و جل سيرا استكماليا، لما ثبت في الفلسفة و العرفان من أنه محبوب الكل و لا كمال للحبيب إلاّ السير إلى محبوبه بكل وجه أمكن.

العاشر: كما أنه مبدأ الكل فهو منتهى الكل أيضا، لمكان التلازم بينهما.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام بن الحكم قال أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى أكمل للنّاس الحجج بالعقول و نصر النبيين بالبينات، و دلّهم على ربوبيته بالأدلة، فقال: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلرَّحْمنُ اَلرَّحِيمُ إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ وَ اَلْفُلْكِ اَلَّتِي تَجْرِي فِي اَلْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ اَلنّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلسَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ اَلرِّياحِ وَ اَلسَّحابِ اَلْمُسَخَّرِ بَيْنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ .

أقول: الأخبار في مضمون هذا الحديث متواترة من أنّ العقل يدعو إلى اللّه تبارك و تعالى، كما أنّ الأنبياء يدعون إليه إلاّ أنّ العقل حجة داخلية و النبي حجة ظاهرية.

و

قوله (عليه السلام): «أكمل للناس الحجج بالعقول» أي عرّفهم كيفية الاحتجاج على الشيء بما آتاهم من العقول.

و المراد من البينات البراهين الواضحة و لا ريب في كونها موجبة لنصرة النبيين عند ذوي العقول.

ص: 235

و المراد بالأدلة كلما يمكن أن يستدل به على الربوبية و هي كثيرة و يمكن حصر أنواعها في ثلاثة: دلالة الذات على الذات، كما

قال (عليه السلام): «يا من دل على ذاته بذاته». و دلالة المخلوقات عليه، كما هو المتعارف في القرآن الكريم كما مر و السنة الشريفة، و الأدلة العقلية الدالة على إثبات العلة بمعلولها. و دلالة المعاد و جزاء الأعمال عليه تبارك و تعالى لما مر مكررا من إثبات الملازمة بين المبدأ و المعاد. و سيأتي الكلام فيها في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

في الخصال و المعاني و التوحيد عن شريح بن هاني قال: «إنّ أعرابيا قام يوم الجمل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين أتقول: ان اللّه واحد؟ قال: فحمل النّاس عليه و قالوا: يا أعرابي ما ترى ما فيه أمير المؤمنين من تقسيم القلب؟ فقال أمير المؤمنين: دعوه فإن الذي يريده الأعرابي هو الذي نريده من القوم؛ ثم قال: يا أعرابي إن القول في ان اللّه واحد على أربعة أقسام: فوجهان منها لا يجوزان على اللّه عزّ و جل، و وجهان يثبتان فيه. فأما اللذان لا يجوزان عليه فقول القائل: واحد يقصد به باب الأعداد، فهذا ما لا يجوز، لأن من لا ثاني له لا يدخل في باب الأعداد، أما ترى أنه كفر من قال ثالث ثلاثة. و قول القائل الواحد من الناس يريد به النوع من الجنس، فهذا ما لا يجوز عليه لأنّه تشبيه جلّ ربنا عن ذلك و تعالى. و أما الوجهان اللذان يثبتان فيه فقول القائل: هو واحد ليس له في الأشياء شبه، كذلك ربنا. و قول القائل: إنه ربنا أحدي المعاني، يعني به إنه لا ينقسم في وجوده و لا عقل و لا وهم كذلك ربنا عز و جل».

أقول: هذا الحديث مما يدل على أن اطلاق الصفات عليه تعالى و على غيره ليس بالاشتراك المفهومي كما فصلناه قبل ذلك و يأتي إن شاء اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي هاشم الجعفري عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) في معنى الواحد قال (عليه السلام): «إجماع الألسن عليه بالوحدانية كقوله تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ ».

أقول: روى مثله ابن بابويه و المراد من الحديث اتفاق الأنبياء و من

ص: 236

تبعهم على وحدانيته، مضافا إلى حكم الفطرة بذلك.

و عن ابن عباس انه قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في الآيات - المتقدمة - «ويل لمن سمع هذه الآيات فمج فيها».

أقول: المراد من المجّ هنا عدم التعقل و التفكر فيها.

بحث فلسفي:

أثبت جمع من الفلاسفة اشتراك مفهوم الوجود و ما يتبعه من العلم و القدرة و الحياة بينه تعالى و ما سواه ممن يتصف بالعلم و القدرة و الحياة و استدلوا على ذلك بأمور كثيرة مذكورة في محلها لا تخلو عن النقض و الإبرام كما ستأتي في محالّها إن شاء اللّه تعالى.

إلاّ أنّ اطلاق الواحد عليه تبارك و تعالى في القرآن الكريم ينفي ذلك، فان المراد بالواحد كونه واحدا من جميع الجهات، و في كل شيء لا يدانيه أحد و لا يشبهه في ذلك شيء، و هذا ما يستفاد من اطلاق الواحد على شيء عرفا خصوصا إذا قرن ب «القهار» كما في قوله تعالى: اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ فهو متفرد متوحد في كل ما يطلق عليه عزّ و جل فتكون هذه الآيات و ما في سياقها أدلة لمن قال بالاختلاف و المغايرة كما هو مذهب جمع آخر من الفلاسفة و المتكلمين، و تشهد لها السنة المقدسة

فعن علي (عليه السلام): «باين عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». و تدل على ذلك الأخبار الكثيرة الواردة في تفسير صفات الباري عزّ و جل بالمعنى العدمي فإذا قيل: اللّه سميع. أي: لا تخفى عليه المسموعات، و بصير. أي: لا تخفى عليه المبصرات، و قدير. أي: لا يعجزه شيء، حذرا من تحقق الاشتراك و اللوازم الفاسدة المترتبة عليه. و البحث يحتاج إلى مزيد من البيان لا يسعه المقام، و من ذلك يظهر أنّ قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ بيان لقوله تعالى: إِلهٌ واحِدٌ »

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذ.......

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ

ص: 237

اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبابُ (166) وَ قالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ (167) بعد أن ذكر سبحانه جملة من مصنوعاته التي في كل واحدة منها آيات دالة على توحيد الخالق، و قدرته، و رحمته، و علمه و حكمته التامة البالغة، و رغب الناس إلى التفكر و التأمل فيها، عقبها بهذه الآيات للإشارة إلى أنه مع وجود هذا الإله القادر المحيط الحكيم و بعد تلك الآيات الباهرات لا موضوع لاتخاذ الند من دونه و من فعل ذلك فليس إلاّ من نهاية غفلته و سيأتي يوم يتبرّأ أحدهم من الآخر و يستحقون الخلود في النّار.

التفسير

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً . الأنداد، و الأكفاء، و الأشباه، و الإشكال، و الأقران، و النظير بمعنى واحد، و الفرق بينها بالاعتبار، ففي الاتحاد في الذات يقال: ند، و في الاتحاد في الأمور المتعارفة يقال: كفو، و في الاتحاد في عرض من الأعراض يقال: شبيه، و في الاتحاد في القدر و المساحة يقال: شكل، و في الاتحاد في الكيفية يقال: نظير. و ربما لا تلاحظ هذه الخصوصيات فيطلق بعضها في محل البعض الآخر، و المثل أعم من الجميع، فكل ند مثل و لا عكس، و من عبر عن الأنداد بالضد يكون من اشتباه المفهوم بالمصداق، لأن الضدين أمران وجوديان لا يجتمعان في موضوع واحد، فمن جهة شمول الوجود لهما يكونان مثلين، و في جملة من الدعوات: «و كفرت بكل ند يدعى من دون اللّه». و الأنداد أعم من تأليههم أو اتباعهم في الأفعال و الأعمال.

و إنما عبر تعالى بلفظ «الناس» تعميما لجميع أفراد الإنسان من حين نزول الآية المباركة إلى قيام يوم الحشر فانه يكون فيهم أفراد يتخذون من دون اللّه أندادا في كل زمان و مكان، و لا يختص ذلك بقوم دون آخرين بل يمكن أن

ص: 238

يكون الخطاب من قبيل القضايا الطبيعية الشاملة لما قبل نزول الآية أيضا.

و إنما ذكر تعالى لفظ «اللّه» دون الرحمن الرحيم و أمثالهما من الصفات لبيان إثبات الدليل على بطلان اتخاذ الند من دونه، فان لفظ «اللّه» اسم للذات المسلوب عنها جميع النقائص الإمكانية. يعني: أن من كان هكذا يكون أخذ الند في مقابله لغوا عند كل ذي شعور و دراية و يستقبح ذلك.

قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ . الحب معروف، و هو من المفاهيم التي قصرت الألفاظ عن بيان حقيقتها، و الكلمات عن الإحاطة بها، فإيكاله إلى الوجدان أولى من التعرض له باللفظ و البيان.

و قد وردت مادة (ح ب ب) في القرآن الكريم كثيرا و هو من اللّه تعالى لخلقه، قال تعالى: وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 195]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، و قال جلّ شأنه: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 146] و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 4] إلى غير ذلك مما هو كثير، و من الخلق للّه تعالى قال سبحانه: يَأْتِي اَللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ [سورة المائدة، الآية: 54]. و بالنسبة إليهما معا قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة، آل عمران، الآية: 31]. و من الخلق للخلق قال تعالى: وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي اَلْمَدِينَةِ اِمْرَأَتُ اَلْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا [سورة يوسف، الآية:

30].

و الحب أصل جميع المقامات و الأحوال؛ فهي إما وسيلة إلى حصوله أو هي ثمرة من ثمراته، كالتوحيد، و الرجاء، و الخوف، و التوكل، و غير ذلك؛ و لذا اختص بهذا المقام الخطير إمام الأنبياء و سيد المرسلين (صلّى اللّه عليه و آله) و لعلنا نتعرض لبعض الجوانب في المقامات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما تفسير المحبة بالإرادة، كما عن بعض المفسرين فهو خلاف الاستعمالات المتعارفة لأنه يصح أن يقال:

«اللهم و من أرادني بسوء فأرده» و لا يصح ان يقال: اللهم من أحبني بسوء. كما يصح ان يقال: أحببت القرآن

ص: 239

فقبّلته، و لا يصح استعمال الإرادة فيه، و من اختلاف استعمال كل منهما في مورد الآخر حسنا و قبحا يعلم اختلاف المعنى. نعم يصح جعل الإرادة و الشوق من مبادي المحبة.

و المعنى: و من الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا و أمثالا و نظائر إما في القدم، فيجعلون الذوات قديمة، او في الأثر، كما يجعلون الطبيعة مؤثرة، أو في الحكمة و البداعة فيجعلونها من مقتضيات الذوات أو في الاختيار و القدرة فيتبعون الرؤساء و يجعلونهم سببا مستقلا في مقابل إرادة اللّه تعالى، أو في الأفلاك و كائنات الجو فللناس فيها عقائد و مذاهب باطلة، و يظهرون العلاقة القلبية بالنسبة إليهم و يعظمونهم و يخضعون لهم على نحو تعظيم اللّه تعالى و إظهار العلاقة له عزّ و جل، لعدم التعقل و التفكر في الواقع و عدم فرقهم بين الحقيقة و المجاز و الاقتصار على الظاهر فقط.

و المراد (بحب اللّه) الحب الظاهري الناشئ من المعاشرة مع المسلمين المحبين للّه تعالى، و الحب الادعائي الذي يدعيه المنافقون.

و مقتضى المقابلة بين الآيات السابقة و المقام و سياق المخاطبة أن يقال:

و من الناس من يتخذ من دون اللّه أندادا يحبونهم كحب اللّه لأنهم لا يعقلون.

إلاّ أن من أدب القرآن، و الحث و الترغيب في دخولهم الإسلام و المدارة معهم مهما أمكن أوجب تغيير التعبير، و لذا نرى أن الآيات المشتملة على جملة: «لا يعقلون» نازلة في أواخر البعثة و بعد استقرار الإسلام، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحجرات، الآية:

4]، و قال تعالى: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ [سورة الحشر، الآية: 14] و قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [سورة المائدة، الآية: 103].

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ . لاعتقادهم بأنه جامع لجميع الصفات الحسنى، و انه مرجع الكل و منتهاه، و أنه أرحم الراحمين، و له القدرة و السلطان، و ان عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يشاء و يمنع عمن يريد، و ان

ص: 240

عنده الثواب و العقاب. فكان عرفانهم له أتم فلا يرجون غيره و لا يعبدون سواه فلا محالة يكون حبهم له أشد.

و حب الذين آمنوا باللّه تعالى ليس كالحب الحاصل من الشهوات النفسانية، بل له واقع غيرها و هو اللّه عزّ و جل، و انه حق لأن الاعتقاد بالحق حق لا ريب فيه، و أنه ظاهر في العمل لأن العمل المنبعث عن الواقع و الحقيقة مرآة صافية لا شائبة فيه غيرهما، فكان هذا الحب بالنسبة إلى الواقع و الاعتقاد و العمل، هو الحب الحقيقي الذي يربط بين الخالق و المخلوق و العابد و المعبود، و بقدر إخلاص العبد للّه تعالى تزداد محبته له تعالى، كما ان بقدر الاختلاط مع الغير تضعف درجة المحبة، فان كل من أحب شيئا أعرض عن غيره و ازداد الاتصال به.

و يظهر أثر هذه المحبة في الدنيا و الآخرة أما في الدنيا فباتصاف العبد بجميع الكمالات المعنوية و ارتقائه في المقامات العالية و الابتعاد عن الرذائل و التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود، فان للملكات النفسانية تأثيرات في ذات النفس و كذا بالعكس.

و أما في الآخرة فقد أعد اللّه للمحبين له ما لا عين رأت و لا اذن سمعت. هذا بالنسبة إلى حب العبد للّه تعالى.

و أما محبته عزّ و جل للعبد فهي من صفات فعله، و هي الهداية الى الصراط المستقيم و كشف الحجب عن قلبه، و توفيقه لما يحبه عزّ و جل، و التوجه إليه و حينئذ يطأ بساط قربه و لا يصل العبد إلى هذه المراتب إلاّ باتباع الشريعة المقدسة اعتقادا و قولا و عملا، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

قوله تعالى: وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ رأى مصدرها (رؤية) تحذف الهمزة في مستقبلها، فيقال: يرى و نرى و ترى. و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم و هذه المادة تستعمل في جميع القوى الظاهرية، يقال: لمسته فرأيته ناعما، أو سمعت صوته فرأيته حسنا، و تفكرت فيه فرأيته صحيحا، و تعقلت فيه فرأيته دقيقا و غير ذلك من الاستعمالات التي

ص: 241

لا تنحصر بالمحسوسات و الإنسان، و الدنيا، بل تشمل غيرها، قال تعالى:

وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية:

105]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ تَرَى اَلَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اَللّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ [سورة الزمر، الآية: 60]، و قال تعالى:

إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 27] فهو أعم لفظ يستعمل في الإدراكات.

و المراد به هنا هو الإدراك بعين اليقين و حق اليقين كما هو الشأن في جميع مدركات الآخرة، و أما في الدنيا فإنّ ذلك يختص بالأنبياء و الأولياء و المعنى: و لو يرى الظالمون الذين ظلموا عظيما باتخاذهم الأنداد و التعدي عن حدود اللّه تعالى و يرون بالعيان العذاب و يشاهدونه و يدركون أهواله لعلموا حق اليقين بأنه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام و ما جنوه من السيئات.

قوله تعالى: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ . جملة «أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ...» مفعول ل «يرى»، و الجملة الثانية عطف على المفعول. أي:

حينما يدركون بعين اليقين انحصار القوة و القدرة فيه تعالى وحده و ان غيره لا حول و لا قوة له، و ان العقاب و الثواب بيده عزّ و جل و انه شديد العذاب مع الظالمين.

و جواب «لو» مقدر حذف لدلالة سياق الكلام عليه، و لتعظيم الأمر و تهويله، أي: لندموا ندامة شديدة و أذعنوا بظلمهم و ضلالهم و رجعوا إلى الحق و اعتقدوا بالوحدانية، و انه ليس من دونه وليّ و لا نصير. و بالجملة انه يدخل عليهم ما لا يمكن دخوله تحت وصف من الحسرة و الندامة.

و في الآية تسفيه عظيم لهم بأنهم لا يهتدون بعقولهم، و توبيخ شديد.

قوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مِنَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا وَ رَأَوُا اَلْعَذابَ .

جملة «إذ تبرأ» بدل من «إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ» أو عطف بيان، و العامل فيهما «و لو يرى».

ص: 242

و التبري، و البرء، و البراء بمعنى واحد و هو الابتعاد عما يكره مجاورته، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا، قال تعالى: أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِيءٌ مِمّا تَعْمَلُونَ [سورة يونس، الآية: 41] و قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ بَرِيءٌ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ [سورة التوبة، الآية: 3].

و يقال في العرف: برئت من المرض.

و الاتباع هو اقتفاء الأثر، سواء في الخير أو الشر، قال تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ [سورة الأنعام، الآية: 142]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اِتَّبِعُوا اَلْمُرْسَلِينَ [سورة يس، الآية: 20]، و قال تعالى: أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النحل، الآية: 123].

و المراد بالرؤية هنا - كما تقدم - هو الانكشاف و المشاهدة بعين اليقين، لظهور الحقائق و انكشاف الحجب في الآخرة.

و المعنى: و لو يرى الظالمون تبرؤ المتبوعين - و هم الرؤساء - من الأتّباع حين ما يرون العذاب و يشاهدون أهواله و علموا بأنّه يصيبهم بما اقترفوه من الآثام و ما فعلوه من السيئات باتخاذهم الأنداد و التعدي عن حدود اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ اَلْأَسْبابُ . التقطع الانفصال، و زوال الأثر المطلوب و الأسباب جمع السبب و هو الحبل الذي يتوصل به إلى الصعود، و المراد بها هنا تلك الروابط التي كانت بين الظالمين - الرؤساء و الأتّباع - فتشمل رابطة المال، و الجاه، و العقيدة، و العشيرة و نحو ذلك من الروابط و الأسباب التي اعتقدوها سببا لنجاح مقصودهم.

و الجملة كناية عن خيبة آمالهم في الوسائل و الروابط حينما يرون العذاب و يدركون أهواله فلا يمكن الاستفادة من تلك الأسباب التي عاشوا بها برهة من الزمن فلا تجديهم نفعا.

و الآية تشير إلى غريزة من الغرائز في الإنسان و هي أن متابعة كل فرد للغير إما ان تكون لجلب النفع أو لدفع الضرر فإذا لم يرج ذلك عند انحصار الأمر في اللّه تعالى يثبت التبري عن الغير، و هي مثل غريزة دفع الضرر بل الأولى من فروع الأخيرة و لا اختصاص لها بعالم دون عالم فهي قرينة الإنسان

ص: 243

إلى ما بعد موته إلى خلوده في دار الخلد إما الجنّة أو النّار.

و من هذه الغريزة يتحقق كثير من أفعال الإنسان كسائر الغرائز - خيرا كانت أو شرا - إلاّ إذا وجهها صاحبها إلى طريق الخير فقط و من آثارها ما نشاهده في عالمنا من وقوع التبري بين الأتّباع و المتبوعين عند ما يتوقع أحدهما وقوع الضرر من الطرف الآخر أو عدم تمكن الانتفاع منه، و أما في الآخرة فان المتبوع حينما يرى العذاب الشديد و لا يمكن التخلص منه إلاّ بالعمل الصالح فلا تنفعه الأسباب و لا يقدر الأتباع مساعدته لا محالة يتبرأ منهم و الأمر في الأتباع أظهر، فتنكشف حقيقة التبعية، و أنّها كانت كالسراب لا واقع لها فتبطل التابعية و المتبوعية، و ينحصر الأمر في اللّه تعالى فيجازيهم بسوء أعمالهم.

و مضمون هذه الآية من القضايا العقلية التي يغني تصورها و التأمل فيها عن إقامة الدليل عليها.

كما أنه لا اختصاص لهذه الآية بطائفة خاصة و بقسم خاص من التبعية بل يشمل جميع الطوائف و الأفراد حتّى الفقهاء الذين إذا ادعوا لأنفسهم ما لا يستحقون لجلب قلوب الناس إليهم و الإتباع لهم، كما يشمل المبلغين و المرشدين الذين لم يظهروا حقيقة الإسلام قولا و عملا بل بينوا خلاف ما أسسته الشريعة المطهرة، و كذا المعلمين إذا كان التعليم خلاف ما أذن فيه سيد المرسلين،

و في الحديث: «من أصغى إلى ناطق فقد عبده فان كان الناطق ينطق عن اللّه فقد عبد اللّه و إن كان الناطق ينطق عن الشيطان فقد عبد الشيطان».

ثم إن في التعبير بقوله تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ اَلَّذِينَ اُتُّبِعُوا مع ادعائهم الحب للأنداد من اللطف ما لا يخفى، و من البلاغة و روعة الأسلوب ما يبهر منه الفطن اللبيب.

قوله تعالى: وَ قالَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنّا . بيان لقضية فطرية و هي مجازاة الشيء بمثله، و حيث انه لا موضوع لتبري الأتباع من المتبوعين في دار الآخرة لما يشاهدونه من العذاب علقوا

ص: 244

ذلك على الكرة إلى الدنيا و تمنوا الرجوع إليها فيتبرءوا من المتبوعين و يعودوا إلى الحق و يهتدوا بهدى المرسلين لينتفعوا به في الجزاء.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ . الحسرة واحدة الحسرات و هي أعلى درجات الندامة على شيء و أشد من الغم و سببها الجهل بالواقع و تركه و العمل على خلافه فيكون السبب الفاعلي للحسرة من العبد، و الفرار منها إنما يكون بالرجوع إلى الإيمان باللّه تعالى و رسله و العمل الصالح، أو التوفيق منه عزّ و جل.

أي: كما أنّهم رأوا العذاب و وقع التبري بينهم و انقطعت الأسباب التي علقوا عليها آمالهم كل ذلك يكون حسرة عليهم و ان جميع أعمالهم صارت وبالا عليهم فخلّفت أسوأ الآثار في نفوسهم حيث أورثت الحسرة و الشقاء فتكون أسباب الحسرة هي نفس الأعمال لتفريطهم فيها.

و إنّما أسند ذلك إلى نفسه المقدسة لبيان أنّ جميع الأمور مستندة اليه عزّ و جل سواء في الدنيا أم الآخرة إلاّ أنّه عزّ و جل جرت عادته على ترتب المسببات على الأسباب الظاهرية في دار الدنيا فيزعم الغافل السببية الحقيقية.

قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ . أي: خالدون في النار لا يمكنهم الرجوع إلى الدنيا، جزاء لأعمالهم و اعتقاداتهم السيئة.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنما عبّر سبحانه و تعالى بالاتخاذ للإشارة إلى أنه ليس من الصراط المستقيم و سواء السبيل بل فيه تكلف بإخراج الفطرة عن طريقتها و سبيلها المستقيم لأنّ الاتخاذ هو الافتعال و تدل المادة على كثرة العناية و الاهتمام بما اتخذ و هو أعم من الحق و الباطل، قال تعالى: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 125]، و قال تعالى:

ص: 245

أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [سورة الفرقان، الآية: 43] و كذا المقام الذي هو من الباطل للأدلة الكثيرة الدالة عليه.

الثاني: إنّما قال تعالى: أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ و لم يقل أحب للّه، لأن في التعبير الأول نحو عناية لم تكن في الثاني و تدل على ان محبة المؤمنين أشد من سائر أنحاء المحبة و أنها أتم لأن من شهد له محبوبه بالمحبة كان حبه أتم، و لأن المحبة إذا كانت للّه تعالى و في اللّه عزّ و جل و باللّه كانت لا محالة أشد و أبقى و أدوم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ان جميع ما يستدل به على وحدانية اللّه تعالى أو صفاته العليا أو أفعاله المقدسة بالأدلة العقلية و البراهين القويمة إما من المعلول على العلة أو بالعكس إنما يكون موطنها في هذا العالم، و أما في الآخرة فإنها عالم العيان و المشاهدة لانكشاف الواقع و ارتفاع الأستار و الحجب فيها، و قد يكون كذلك في هذا العالم لعباد اللّه المخلصين الذين تجلت عظمة الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم فلا يرون غيره تعالى،

قال علي (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلاّ و رأيت اللّه قبله و بعده و معه و فيه»،

و نسب إلى ابنه الحسين (عليه السلام):

«عميت عين لا تراك و خسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيب».

الرابع: إنّ قوله تعالى: يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ يدل على أن الحب للأنداد شيء و حب اللّه تعالى شيء آخر و لا يستفاد منه الاشتراك في المحبة بينه تعالى و بين الأنداد، و كذا في قوله تعالى: أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ لأنّ حب الأنداد مذموم و حب اللّه تعالى ممدوح، و هذا يدل على نفي الاشتراك بينهما من كل جهة.

و من ذلك يظهر أنّ ما ذكره بعض المفسرين من أنّ محبة أولياء اللّه تعالى و أنبيائه و الصالحين مذمومة أيضا لفرض وقوعها في مقابل محبة اللّه تعالى فيكون من الشرك في المحبة الذي عرفت انه مذموم أيضا. (ضعيف) لأن محبة أولياء اللّه تعالى، و الأنبياء ترجع إلى محبة اللّه تعالى، و لا يعتقد أحد

ص: 246

من المسلمين الاستقلالية بالنسبة إليهم في مقابل اللّه او الشرك به عزّ و جل فهم من حيث أنّ اللّه تعالى امر باتباعهم و تعظيمهم صاروا محبوبين لديهم، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

بحث روائي:

في تفسير العياشي و الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ - الآية -، قال (عليه السلام): «و اللّه يا جابر هم أئمة الظلمة (الظلم) و أشياعهم».

أقول: نفس الآية الشريفة دالة على ذلك، و كذا ما في سياقها من سائر الآيات فان اللّه تعالى وصف التابعين بالظلم فإذا كان المتبوع حقا لا تكون جهة المتابعة ظلما.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: كَذلِكَ يُرِيهِمُ اَللّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ قال (عليه السلام): «هو الرجل يدع ماله لا ينفقه في طاعة اللّه بخلا ثم يموت فيدعه لمن يعمل فيه بطاعة اللّه، أو في معصية اللّه فان عمل به في طاعة اللّه رآه في ميزان غيره فرآه حسرة و قد كان المال له، و ان كان من عمل به في معصية اللّه قواه بذلك المال».

أقول: قريب منه روايات كثيرة عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) و هذه الروايات و ان وردت في المال و لكن يمكن أن يقال ان ذلك من باب التطبيق فيشمل جميع مناشئ الخيرات من الأعمال و غيرها كما تقدم في تفسير الآية.

بحث فلسفي:

يدل قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ اَلنّارِ على الخلود في النار و هو من المسائل المتفق عليها بين الكتب الإلهية و الشرائع السماوية و مع ذلك لم تخرج عن موضع نقاش الإنسان و إشكالاته. و مما أورد عليه انه يستلزم القسر الدائم، و قد ثبت في الفلسفة بطلانه، و سيأتي في الموضع المناسب

ص: 247

التعرض لمسألة الخلود و البحث فيها مفصلا. و في المقام نتعرض للقسر فنقول:

القسر في اللغة هو القهر فيشمل كل إعاقة للفرد أو النوع و قهره عن مطلوبه و غايته، و المراد به عند الفلاسفة إيجاد المانع عن وصول الممكن إلى كماله اللائق به في سيره الاستكمالي في عالم الكون و الفساد الذي هو عالم الاستكمال، مع أنّ مقتضى الحكمة و العناية إيصال كل ممكن إلى المطلوب و الغاية.

و يستفاد من ذلك أن القسر إنما يكون بإيجاد المانع عن إجراء قانون المقتضي (بالكسر) و المقتضى (بالفتح) في أفعال الإنسان و غاياته و لا يختص بخصوص الإنسان بل يجري في كل مقتض بالنسبة إلى مقتضاه في السير الاستكمالي.

و قد يطلق في كلمات الفلاسفة على الفعل غير الطبيعي فإن سقوط الحجر من العلوّ فعل طبيعي له، و خلافه - أي الملقى إلى الأعلى - فعل قسري، و هو غير دائمي للزوم جريان قانون المقتضيات على اقتضائها وفق النظام الطبيعي كما فصل في الفلسفة الطبيعية.

و القسر على قسمين:

الأول: القسر الدائمي،: بأن يكون المنع في الإنسان أو غيره عن الوصول إلى الكمال دائميا، و قد ثبت في الفلسفة بطلانه لأنّه خلاف الحكمة من الخلق فيكون قبيحا عليه جل شأنه و كل قبيح يكون محالا عليه.

الثاني: القسر غير الدائمي، و هو في ما إذا كانت الإعاقة عن المطلوب موقتة، و هذا القسم لم يقم دليل على بطلانه بل هو واقع في الخارج كثيرا، كالحوادث و الكوارث الطبيعية مثل الزلازل و الفيضان و الأمراض و الأوبئة و غيرها مما يوجب هلاك الحرث و النسل قبل البلوغ إلى الغاية و المطلوب.

و لهذا القسم أسباب متعددة:

منها: الأسباب الطبيعية الخارجة عن قدرة الإنسان و اختياره.

ص: 248

و منها: القوانين التي تحدد حريات الفرد و تكبح جماحه عن الشهوات سواء كانت تلك القوانين شرعية إلهية أم وضعية وضعت لمصلحة الإنسان بحيث لو لاحظنا تلك المصالح لما كان قسر في البين و إنما يرجع القسر إلى عدم درك المنشأ.

و منها: العادات و التقاليد فإن لها تأثيرا في قهر الفرد، و هذه العادات و التقاليد إن كانت سيئة و غير موافقة للشريعة المطهرة يجب إزالتها و محوها و إلاّ رجعت إلى الشرع المبين.

ثم إنه قد ذكرنا انهم أشكلوا على الخلود في النار بأنه يستلزم القسر الدائمي و هو باطل، فيمتنع عليه تبارك و تعالى.

و الجواب عنه بأنّ الأفعال لا بد و أن تجري على وفق الموازين الطبيعية و الواقعية منها بما لها من الجهات و الخواص و الآثار التي لا يحيط بها إلاّ الحي القيوم، فما كان على خلاف ما نراه من الطبيعة لا يستلزم أن يكون كذلك في الواقع أيضا، لعدم إحاطة المدركات بالواقعيات مضافا إلى أن الخلود في النار إنما هو نتيجة سوء سريرة الإنسان التي تكون معه أينما كان فيكون أمرا واقعيا لقانون العلية و المعلولية فلا موضوع للقسر حينئذ.

بحث عرفاني:

من أقرب المعاني إلى النفس و أعذبها عليها الحب. ذلك هو الترابط الوثيق الذي يربط الموجودات بعضها مع بعض و به يجتذب كل صانع مصنوعه فهو الطريق إلى الكمال كل بحسب ما يريده كمالا و به تتحقق الحياة السعيدة و لأجله يعيش الفرد و يعمل.

يعرفه جميع الروحانيين و أملاك السبع الشداد، و دواب الأرض المهاد، و جميع الوحوش في الفلوات، و الحيتان في البحار الغامرات. بل ان جميع الموجودات تحبه تعالى و تعشقه كما أثبته جمع من الفلاسفة.

و بهذه الصفة يدرك المخلوق خالقه، و من هذه الجهة يعطف الخالق على خلقه، فلا حياة إلاّ بالحب و لا سعادة إلاّ بالعشق.

ص: 249

و هو من المعاني الوجدانية التي يدركها كل أحد و ان قصرت العقول عن الوصول إلى كنه حقيقته. فهل هو برق من نور الجمال الكامل المطلق يبرق ثم يختفي؟!! أم هو تجلّ من وجه اللّه الأعظم ظهر و تجلّى؟!! أم هو تلك الجاذبية التي أثبتها العلم الحديث في جميع الموجودات؟!! أم هو ما بينه علي (عليه السلام) في مقام العارفين و خطبة همام؟!! أم هو ما

نسب إلى ابنه الحسين (عليه السلام) في دعائه لربه: «تعرفت إليّ في كل شيء فرأيتك في كل شيء و أنت الظاهر لكل شيء؟!!أم هو ما شرحه السجاد (عليه السلام) في مناجاة المحبين؟!! أم هو ما ذكره ابن الفارض في قصيدته التائية الكبرى المسماة بنظم السلوك التي شرحت بشروح كثيرة مطلعها:

سقتني حميّا الحب راحة مقلتي *** و كأسي حميّا من عن الحسن جلّت؟!!

أم غير ذلك مما يقوله العلم الحديث كما مر. كل ذلك قطرات من البحر لا يدرك ساحله بل يغرق وارده، و مع ذلك فهو أوضح من كل شيء و يوجد في كل شيء.

و هو لا يختص بالإنسان بل يشمل جميع الموجودات الواجب منها و الممكن - و قد أثبت العلم الحديث عموم الجاذبية و المجذوبية في الموجودات، و في حب اللّه تعالى و حب الإنسان، قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31] و حبه تعالى لمخلوقاته من فروع رحمته الواسعة.

و أما محبة سائر الموجودات له تعالى فقد أثبتها جمع من الفلاسفة منهم صدر المتألهين في كتابه القيم (الأسفار الأربعة): أنّ الموجودات بأسرها

ص: 250

عاشقة لجماله، و يكفي في ذلك أنها سائرة إلى الكمال المطلق و لا كمال كذلك إلاّ فيه تعالى و منه عزّ و جل فهو محبوب من كل جهة.

فالقول باختصاص الحب في غيره عزّ و جل نظرا لتنزهه عن معناه (باطل) و لا يخفى فساده، لا سيما بعد ما ورد في القرآن الكريم من إثبات حبه عزّ و جل لبعض الأفراد قال تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية:

76]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران، الآية:

159]، و قال جلّ شأنه: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية:

148].

و الحب من المعاني القلبية المنبثة على جميع جوارح الإنسان و حواسه كما هو واضح و يتعلق بالأشخاص أو الأشياء العزيزة، أو الجذابة، أو النافعة و يكون باعثا إلى التقرب إلى المحبوب بكل وسيلة يحبها المحبوب كما في حب اللّه تعالى الداعي إلى إتيان ما يريده عزّ و جل و ترك ما لا يرضيه أو محركا إلى الإتيان بالعمل المحبوب، كما في الأعمال الصالحة و الحرف و الصنايع و نحو ذلك، أو يكون داعيا إلى قضاء الحاجة من المحبوب كما في حب الأكل، و حب المال، و حب النساء و غير ذلك؛ أو يكون مصاحبا إلى البذل و العطاء من دون انتظار مقابل كما في حب الأم للأطفال.

و الحب المجرد الذي لا يكون مقرونا بأي شيء لا أثر له بل هو من مجرد اللفظ فقط و هو تارة: يتركز حول النفس؛ و يسمى بحب الذات الذي لا يخلو عنه أي حيوان و هو المعبر عنه في الإنسان بالأثرة و أخرى: يتعلق بالغير فهو إما أن يكون مصحوبا بالغيرة و هو المسمى بالحب العذري او لا يكون كذلك.

و ثالثة: يتعلق باللّه تعالى و يسمى بالحب الإلهي الذي هو وليد كمال معرفة اللّه تعالى و الناشئ عن الجمال المطلق و لا يحصل إلاّ بالتخلية عن الرذائل و التطهير عن كل ما يشغل القلب عن اللّه تعالى، و التخلية بالفضائل. و هذا القسم هو أفضل أقسام الحب و لا يشعر به إلاّ العارفون باللّه؛ و هو ذو مراتب متفاوتة، و الجامع بينها أن يكون الحب للّه و في اللّه و كل ما كان الحب أشد كانت

ص: 251

السعادة أتم و أعظم.

و هو يختلف باختلاف المحبوب و ينقسم بحسب القوى الظاهرية في الإنسان كحب البصر للرؤية، و السمع لسماع الأصوات الحسنة، و كذلك الشم للأرياح الطيبة، و كذلك اللمس و الذوق.

كما أنه ينقسم بحسب القوى المعنوية - كالعقل و الفكر و الإيمان، و في جملة من الأخبار

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس الإيمان إلاّ الحب في اللّه و البغض في اللّه» أي حب اللّه و حب احكامه و تشريعاته و حب محبيه و البغض لأعداء اللّه و المحرمات الإلهية: و قد ذكرنا أن هذا القسم من أفضل أفراد الحب الموجب لسعادة الإنسان في الدارين.

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) بعد ما بين سبحانه و تعالى في الآيات السابقة أحوال متخذي الأنداد ذكر تبارك و تعالى في هذه الآيات ما أوجب ذلك و أنه أكل الخبائث و اتباع خطوات الشيطان العدو للإنسان الذي لا يرجى منه الخير و الصلاح، و تقليد الآباء و الاعتماد على أفعالهم من غير عقل و لا هدى ثم أعقب ذلك مثلا يبين بطلان عقائدهم و سخف آرائهم، و انهم كالحيوان الذي لا يعقل ما حوله إلاّ دعاء الداعي و زجره، فهؤلاء أيضا كذلك صمّ عن الحق كأنّهم لا يسمعونه و بكم لا يستجيبون لما يدعون اليه، و عميّ كأنهم لا يشاهدونه فهم لا يعقلون الحق و لا يهتدون اليه.

ص: 252

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً .

الحلال: هو المباح في مقابل المنع و الحرام، و بينه و بين المنع نسبة العدم و الملكة، و لذا لا تتصف أفعال اللّه تعالى بالحلال و المباح، لعدم تعقل الحظر و المنع بالنسبة إليه عزّ و جل.

و الطيب ما تستلذه النفس و لم يرد فيه نهي من الشرع.

و الأمر فيه للإباحة و «من» للتبعيض أي بعض ما في الأرض إذ ليس كل ما فيها يؤكل، أو من بعض ما في الأرض مما أحله اللّه تعالى. و الجمع بينهما إما لأجل التحريض في إناقة الأطعمة بأي وجه أمكن إذا لم يكن محذور شرعي في البين. أو لأجل أدب المقام و تكريم الأكل في قوله تعالى: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [سورة النساء، الآية: 4].

و تعميم الخطاب للنّاس أجمعين من جهة تعميم رحمته تعالى.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ . الخطوات [بضمتين] جمع خطوة و هي ما بين قدمي الماشي كالشهوة و الشهوات و قرئت بضمة و سكون، و خطؤات بضمتين و همزة، و خطوات بفتحتين، و خطوات بفتح فسكون جمع الخطوة و هي المرة من الخطو. و المعروف هو الأول. و اتباع خطوات الشيطان هو الاقتداء به و اقتفاء أثره و الاستنان بسنته. و لم تستعمل كلمة الخطوات في القرآن الكريم إلاّ بالنسبة إلى الشيطان الرجيم، و قد نهى سبحانه النّاس عن اتباعها في موارد متعددة.

و الشيطان سواء كان من شطن أو شطأ بمعنى المبتعد عن الحق و العدو اللدود. و لفظه عبرى الأصل.

و يعتبر في الأديان الإلهية الكبرى مبعث الشر متمثلا في شخص خاص و له أعوان من صغار الشياطين يأتمرون بأوامره، و هو يغري الإنسان و يكون سببا في غوايته على نحو الاقتضاء لا الجبر و لا يعدم اختياره، فيستطيع ان يدافع معه و ذلك بتوفيق من اللّه تعالى.

ص: 253

و هو في الأصل كان في زمرة الملائكة صورة تمرد و تكبر على اللّه تعالى فسقطت منزلته فأظهر حقيقته على ما حكى عنه الجليل في القرآن الكريم، و قد ورد ذكره في عدة مواضع من التوراة و الإنجيل، و في القرآن الكريم و سيأتي الكلام فيه مفصلا.

و المراد من خطوات الشياطين كل ما يوجب انحراف الإنسان عن الصراط المستقيم و الشرع القويم لأنه لا يأمر إلاّ بالسوء و الفحشاء قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة النور، الآية: 21]، فهو منشأ كل ضلال و فساد و هو المحرض على ارتكاب الجرائم و الآثام فيكون كل ما هو خارج عن الشريعة المقدسة، سواء كان في الإعتقاد او الأعمال من خطواته.

و يستفاد من الآية المباركة تعدد سبل إضلال الشيطان و اغوائه بخلاف الصراط المستقيم المقابل لخطواته و هي عبارة عن السبل التي قال تعالى فيها: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153] و من أهم سبله متابعة الهوى و الشهوات النفسانية قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ [سورة ص، الآية: 26].

و منها: إضلاله بجعل كل ما لم يكن من الدين في الدين بلا دليل معتبر عليه ففي روايات كثيرة ان الحلف على ذبح الولد، و الحلف بالطلاق و العتاق من خطوات الشيطان، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بها.

و منها: وسوسته و تزيين الحرام في نظر العبد ليرتكبه،

ففي الحديث عن ابن سنان عن الصادق (عليه السلام): «قلت له: رجل عاقل مبتلى بالوضوء قال (عليه السلام): و أي عقل له و هو يطيع الشيطان» و غير ذلك مما هو كثير.

و يقابلها هداية الرحمن فهما من الضدين اللذين لا ثالث لهما و مصير كل منهما معلوم إما رضوان اللّه تعالى أو سخطه، قال تعالى: أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ [سورة آل عمران، الآية: 162] فالإنسان واقع بين قائد شرير و هو الشيطان يدعوه

ص: 254

إلى متابعة خطواته، و سائق كذلك يرغبه إلى ذلك و هو النفس الأمارة، و هاد إلهي يهديه إلى الحق و الصراط المستقيم و هم الأنبياء و المرسلون و المبدأ في الأول هو الشر و الوسط خطوات الشيطان و المنتهى هو النار، كما أن المبدأ في الثاني هو اللّه تعالى و الوسط الأنبياء المرسلون و الصراط المستقيم و الغاية هي الجنّة.

و حقيقة الشيطان عبارة عن الجهل المركب و الظلمات المنتهية إلى الإختيار.

ثم إنّ لخطوات الشيطان مظاهر و مراتب مختلفة، فإنّ ترك كل واجب و إتيان كل محرم إلهي، بل إتيان المشتبهات يكون من خطوات الشيطان، و كذلك إتيان المكروه بالنسبة إلى كمال مرتبة الإيمان، و كذا الغفلة عنه تبارك و تعالى؛ بل اطلاق النهي يشمل القوى الباطنية من الوهم و الخيال، فإن ذلك كله مظاهر مختلفة من خطوات الشيطان أيضا، و الجميع تشترك في عدم الثبات، كما هو شأن الخطوة المتقومة بالحركة.

قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ . تعليل للنهي عن متابعة الخطوات بما هو ثابت في الفطرة التي تقضي بالفرار عن العدو و الحذر منه و مخالفته بكل وجه أمكن. و عداوة الشيطان للإنسان واضحة فانه لا يدعو إلاّ إلى ما يوجب الهلاك و البعد عن ساحة الرحمن، و هو لا يخفي عداوته للإنسان و أبان ذلك من حين خلق آدم (عليه السلام) و يسعى في إفساد أحوال العبد قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ اَلسَّعِيرِ [سورة فاطر، الآية: 6].

و قد أكد سبحانه و تعالى هذا الأمر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم بل في جميع الكتب السماوية. و الوجه في كونه عدوا مبينا أنه حلف على إغواء الإنسان كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83].

و من إخباره تعالى بأنّ الشيطان عدو للإنسان و إيكال الأمر إلى الفطرة يستفاد غاية التحذير و السعي في الابتعاد عنه.

ص: 255

قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ . بيان لعداوته مع الإنسان بإفساد فطرته و بصيرته بغوايته و إضلاله مما يوجب ابطال أعماله و معتقداته.

و المراد بالأمر هنا الدعوة إلى السوء و الفحشاء و تزيينهما للإنسان و إيجاد دواعيهما لديه.

و السوء كل ما يغم الإنسان في الدنيا أو في الآخرة، أو فيهما معا.

و الفحشاء ما يستعظم قبحه من الأفعال، و الأقوال و هو أعظم من السوء، فان كل فحش سوء و لا عكس.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ كل سوء و فحشاء يقعان في العالم إنما هو من فعل الشيطان و من طرق إضلاله و غوايته فلا يرجى منه الخير و الصلاح.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ . أي: و يأمركم ان تفتروا على اللّه و تنسبوا إليه عزّ و جل ما لا تعلمون أنه من شرعه و دينه و لا يختص ذلك بخصوص الأحكام الشرعية و تحليل الحرام أو تحريم الحلال بل يشمل العقائد الباطلة و الآراء المزيفة التي لم يقم دليل على صحتها كما يشمل ما ينسب إلى أنبيائه و رسله (عليه السلام) افتراء فإن الإضافة إليهم إضافة إلى اللّه تعالى، ففي جميع ذلك افتراء على اللّه و اعتداء على حقه،

و قد سئل الباقر (عليه السلام) عن حق اللّه تعالى على العباد قال (عليه السلام): «ان يقولوا ما يعلمون و يقفوا عند ما لا يعلمون» فيكون كل اعتقاد أو رأي في أصول الدين أو فروعه لم يمضه الشارع الأقدس داخلا في الآية الشريفة و ما في سياقها و لذلك ذكر العلماء أنّ الأصل عدم الحجية في الرأي و الاعتقاد إلاّ إذا قامت الأدلة القطعية على الحجية و قد تعرضنا لذلك في علم الأصول فراجع كتابنا [تهذيب الأصول] و سيأتي تتمة الكلام عند قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اَلْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ [سورة الحاقة، الآية: 46].

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا . ألفينا بمعنى وجدنا مع اتخاذ ذلك عادة و الايتلاف به. و الضمير

ص: 256

في «لهم» عائد إلى المشركين و المعاندين للحق.

و المراد من الآباء: الأعم من السادة و الكبراء و الآباء و المربين فانه يصح اطلاق الأب عليهم كما

في الحديث: «الآباء ثلاثة: أب ولدك، و أب علّمك، و أب زوّجك»، و يشهد للتعميم قوله تعالى: رَبَّنا إِنّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا اَلسَّبِيلاَ [سورة الأحزاب، الآية: 67].

و لعل في ذكر هذه الآية بعد النهي عن اتباع خطوات الشيطان إشارة إلى أن اتباع ما عليه الآباء يمكن أن يكون من اتباع خطوات الشيطان، و ان تقليد الآباء، و الإعراض عما أنزله اللّه من السوء، و الفحشاء و القول على اللّه بغير علم بلا فرق بين ان يكون الشيطان من شياطين الإنس أو الجن قال تعالى: شَياطِينَ اَلْإِنْسِ وَ اَلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ اَلْقَوْلِ غُرُوراً [سورة الأنعام، الآية: 112] و قد رد عزّ و جل عليهم و أبطل معتقداتهم.

قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ . تقبيح لهم و تفضيح لمعتقدهم و متابعتهم لآبائهم أي: أنهم يتبعون آبائهم و لو كان آباؤهم لا يعرفون شيئا من الدين و لا يهتدون إلى الحق فإذا كانوا كذلك فهم أيضا مثلهم لأنهم على غير هدى و كتاب منير. و فيه إرشاد إلى ان متابعة فرد لآخر لا بد و ان تكون مع المعرفة بأنّ المتبوع حائز على الكمال و الهداية و مع فقدهما لا يقدم العاقل على المتابعة و لا تكون إلاّ الضلالة و الدليل على ذلك نفس وجدان التابعين لو تخلوا عن العناد و اللجاج و رجعوا إلى التفكر و التعقل، و ما ورد في الكتاب و السنة من ذم التقليد إرشاد إلى ذلك.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: 104] و لعل الاختلاف في التعبير في الآيتين بحسب مراتب الجحود و العناد ففي الآية الأولى ادعوا متابعة الآباء و لم يدعوا شيئا وراء ذلك و في هذه الآية ادعوا وراء ذلك الاكتفاء بها، فعبر في الأولى بعدم التعقل و في الثانية بالجهل من هذه الجهة.

ص: 257

و من الآية الشريفة يستفاد تقسيم التقليد إلى قسمين: قسم يكون في الباطل و إلى الباطل، و قسم آخر يكون في الحق و بالحق كما ستعرف.

قوله تعالى: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً . المثل: الشبه، و القول في شيء يشبه قولا في شيء آخر يبين أحدهما الآخر. و المثال الصورة،

و في الحديث: «إذا خرج المؤمن من قبره خرج معه مثال يتقدم أمامه فيقول له المؤمن من أنت؟ فيقول له: أنا السرور الذي كنت أدخلته على أخيك المؤمن في الدنيا» و قد ذكرت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم في ما يزيد على أربعين موردا.

و ذكر الأمثال في الكلام من أهم جهات الفصاحة و البلاغة و إنما يؤتى بها لتقريب المعاني إلى الأذهان و قد اعتنى بها اللّه تعالى في القرآن الكريم قال سبحانه: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [سورة الروم، الآية: 58] و تقدم ما يتعلق بها في آية 17 من هذه السورة فراجع.

و النعيق صياح الراعي بالغنم و زجرها، و العرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل، و يستعمل النعيق، و النغيق، و النعيب في صوت الغراب أيضا بحسب اختلاف حالاته.

و الدعاء للقريب. و النداء للبعيد غالبا و قد يستعمل أحدهما في مقام الآخر أيضا.

و قد بين سبحانه و تعالى أنّ مثل الكفار في عدم التعقل و التدبر في ما يرتبط بشؤون دينهم و آخرتهم، و عدم تأملهم في ما أتى به الأنبياء لأجل سعادتهم و نجاتهم من المفاسد و المهالك، مثل الحيوانات التي لا تفهم من الخطاب إلاّ مجرد الأصوات التي يصدرها الإنسان لدعوتها إلى شيء أو زجرها عن شيء آخر فهي لا تعقل شيئا مما يقول و لا تفهم منها معنى كذلك شأن الكفار في الجهل و عدم التمييز بمداليل الألفاظ و عدم درك المعاني.

قوله تعالى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ . أي: أنّ الكافرين صم عن الحق فلا يدركونه، و بكم عن السؤال عما يفيدهم و عمي عن العبرة

ص: 258

و الاعتبار مما يرونه، و هذا شأن كل من غلب عليه الجهل المركب و لا يكون في مقام رفعه فليس له حظ من الكمال و لا يريد الاستكمال و قد تقدم نظير هذه الآية في آية 18 من هذه السورة.

و يمكن أن يستدل بمثل هذه الآية على أن الكفار الذين ركبهم الجهل و العناد أضل من الأنعام فانها تنزجر بزجر الراعي و تستجيب دعوته، و لذا يمثلون كل مجتمع ليس فيهم قائد بصير و لا مدبر خبير بأنهم كأغنام لا راعي لها، و هذا بخلاف الكفار فإنهم لا يرتبون أي أثر على دعوة الأنبياء و لم يعيروا لها بالا.

ثم إنّ المثل في المقام يحتمل وجوها أربعة:

الأول: أن يكون تشبيه حالهم في ترك دعوة الحق و اتباع آبائهم بالناعق للحيوان يعني أن التابعين كالحيوان و المتبوعين كالناعق لهم.

الثاني: أن يكون كالوجه الأول إلاّ ان التشبيه يكون بالنسبة إلى التابع، يعني: ان المتبوع كالحيوان و التابع كالناعق لهم.

الثالث: لحاظ التشبيه بالنسبة إلى المعبودات الباطلة من الأوثان و الأصنام، بل يمكن التعميم فيشمل كل ما يراد به غير وجه اللّه تعالى، فيكون المراد به أنه ليس له إلاّ التعب و النصب من دعائه.

الرابع: تشبيه واعظ الكفار - و هم الأنبياء - بالراعي الذي ينعق بالحيوان، فلا يسمع الكفار منهم و لا يفهمون ما يقولون لهم. و يمكن أن يؤخذ معنى عاما يشمل جميع ذلك.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تشير الآيات الشرية إلى أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ أنّ أمر الدين مختص باللّه تعالى و أنّ في غير ما أذن فيه تعالى يكون تشريعا محرما و اتباعا لخطوات الشيطان.

ص: 259

الثاني: أنّ التعبير بالخطوات إشارة إلى أن إغواء الشيطان إنما يكون من الأشياء الدنيئة و الخواطر الرديئة و الأمور السفلية التي يستقبحها العقل لأنه مرجوم عن العلويات و الأمور المعنوية العقلية، فيكون إضلاله ناشئا عن الجهل و عدم التفكر و التعقل اللذين هما من جهة العلو، فلا ينبغي لأحد ان يدع وحي السماء النازل على الأنبياء و متابعة من تكون ذاته الدناءة و الخسة و البعد عن ساحة الرحمن، فيكون التعبير بالخطوات كناية عن نهاية الخسة و الدناءة.

الثالث: أنّ قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ إرشاد إلى أمر فطري، و هو أنّ الإنسان لا يركن إلى عدوه و يتبعد عنه بل هذا ارتكازي في الحيوان في الجملة، فيكون من باب بيان الموضوع لترتب الحكم الفطري عليه قهرا.

الرابع: إنّما وصف سبحانه الشيطان بأنّه «عدو مبين» إما لأجل وضوح عداوته لكل عاقل لو تبصر و تأمل في أفعاله و وساوسه حق التأمل، و يكفي في ذلك الإعتبار من حال الكفار و المنافقين، أو لأجل قسمه و حلفه على الإغواء كما حكى عنه تعالى: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 83] أو لأجل إخراجه و رجمه عن قرب اللّه عزّ و جل، أو لأجل أنّ بني آدم أفضل منه، و يمكن أن يكون لاجتماع هذه الأسباب دخل في اشتداد إغوائه و إضلاله للنّاس.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ اَلْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ أنّ للشيطان ركيزتين في إضلال الإنسان و إغوائه:

الأولى: تزيين ما ترغب إليه النفس الأمّارة من السوء و الفحشاء و الترغيب إليهما بأساليب مختلفة، و هو بذلك يبعد الإنسان عن الجانب الأهم في طبيعته أي جانب التعقل و التدبر.

الثانية: تلبيس الحق بالباطل و اراءة الباطل حقا بحيث ينسب ما ليس من الدين إلى الدين فيجتهد في ذلك و يريد بذلك طمس الفطرة الإنسانية، فان الإنسان بفطرته يميل إلى الحق و التدين بالدين الإلهي.

ص: 260

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ عدم الاستقامة و الإستواء كما هو الشأن في الخطوات فانها لا تكون بمستوى واحد و الا لكان التعبير بالصراط و نحوه.

بحث أدبي:

أدوات الاستفهام كثيرة و الأصل فيها «الهمزة» و الباقي من المتفرعات و الشؤون و الحالات؛ و لذا اختصت همزة الاستفهام بأحكام خاصة في المحاورات لا تجري في غيرها من سائر الأدوات.

منها: أنّ ورودها لطلب التصور تارة و لطلب التصديق أخرى، و سائر الأدوات تختص بالأول إلا «هل» فإنّها تختص لطلب التصديق فقط.

و منها: تمام التصدير فتتقدم على حرف العطف، لأصالتها في الصدارة مطلقا. و لذلك أمثلة في القرآن الكريم قال تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ [سورة المائدة، الآية: 104] و قال تعالى: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ [سورة يونس، الآية: 51] و قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 46] و أما بقية أدوات الاستفهام فتتأخر عن العطف قال تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 101] و قال تعالى: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ [سورة التكوير، الآية: 26]، و قال تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَأَنّى تُؤْفَكُونَ [سورة غافر، الآية: 62] و قال تعالى: فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الأحقاف، الآية: 35] و قال تعالى: فَأَيُّ اَلْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ [سورة الأنعام، الآية: 81].

ثم إنّهم قد ذكروا معاني كثيرة للهمزة منها: التهكم، و التعجب و الأمر، و نحوها و جعلوها من متعدد المعنى، و الظاهر انه من الخلط بين دواعي الاستعمال و المستعمل فيه، و كم لهم من مثل هذا الخلط في الألفاظ.

بحث روائي:

في التهذيب عن منصور بن حازم عن أبي جعفر (عليه السلام): «ان

ص: 261

طارق النخاس قال: إني هالك خلعت بالطلاق و العتاق و النذر فقال له (عليه السّلام): يا طارق إنّ هذه من خطوات الشيطان».

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ قال (عليه السلام): «كل يمين بغير اللّه فهي من خطوات الشيطان».

و فيه أيضا عن عبد الرحمن بن أبي عبد اللّه قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل حلف ان ينحر ولده فقال (عليه السلام) ذلك من خطوات الشيطان».

أقول: الروايات في أن الحلف بالطلاق أو الحلف على شيء مرجوح شرعا من خطوات الشيطان جميع ذلك من باب ذكر بعض المصاديق و إلاّ فكل ما لم يرد به وجه اللّه تعالى و لم يكن مطابقا لرضائه جل جلاله فهو من خطوات الشيطان سواء كان من الأعمال و الأفعال أو المعتقدات.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إياك و خصلتين ففيهما هلك من هلك: إياك أن تفتي النّاس برأيك أو تدين بما لا تعلم».

أقول: هذا محمول على ما إذا لم تكن حجة معتبرة في البين و إلاّ فان كان مطابقا للموازين الشرعية فهو محبوب للّه تعالى و مرغوب اليه في السنة المقدسة.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كَمَثَلِ اَلَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاّ دُعاءً وَ نِداءً» قال (عليه السلام): «أي مثلهم في دعائك إياهم إلى الإيمان كمثل الناعق في دعائه المنعوق به من البهائم التي لا تفهم و إنما تسمع الصوت».

أقول: تقدم ما يتعلق بها.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً : انها نزلت في ثقيف و خزاعة و عامر بن صعصعة حرّموا على أنفسهم من الحرث و الأنعام».

ص: 262

أقول: لو صح السند فهو بيان لبعض مصاديق العام.

بحث فقهي:

استدل الفقهاء بقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً و جملة أخرى من الآيات الكريمة على إباحة الأشياء و حليتها إلاّ ما قام الدليل المعتبر على الحظر و الحرمة من الكتاب العزيز و السنة المقدسة، و الإجماع المعتبر، فان هذه الآية الشريفة صريحة في الإذن بالانتفاع فيما ليس فيه نهي شرعي.

و لكن عن جمع آخرين عكس ذلك و قالوا بحرمة الانتفاع بالأشياء مطلقا و ان الأصل في الأشياء الحظر إلاّ ما دل الدليل على الإباحة، و استدلوا بأدلة قابلة للمناقشة تعرضنا لتفصيلها في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم إنّه قد يستدل بمثل هذه الآيات على بطلان التقليد مطلقا في فروع الدين فضلا عن أصوله، لأنه تعالى إنما ذم الكفار باتباعهم لآبائهم.

و لا ريب في بطلان الاستدلال أما أولا: فلأنّ الآيات الشريفة ظاهرة في التقليد في أصول الدين و انما ذم تعالى الكفار باتباعهم الآباء في الباطل و الدعوة إلى الأوثان و الأصنام و لم يقل أحد من المسلمين بجواز التقليد كذلك.

و أما ثانيا: فلأن التقليد في الحق و متابعة من يحكم عن السنة المقدسة المنتهية إلى اللّه تعالى متابعة له عزّ و جل، و التقليد كذلك أصل من أصول الدين، و ملجأ يلجأ إليه الجاهل الذي لا يمكنه النظر و الاستدلال.

و التقليد و المتابعة في أمور الدين مأخوذ على نحو الطريقية لا الموضوعية بوجه من الوجوه؛ و البحث محرر في الفقه و الأصول فراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

ثم إنّ التقليد المبحوث عنه في المقام هو التقليد في أمور الدين، و قد ذكرنا أنّه لا يجوز في أصول الدين و أما في فروعه فهو فرض العامي الذي لا

ص: 263

يتمكن من استنباط الأحكام من الأدلة الشرعية، و أما التقليد و المتابعة في غير ذلك من أمور المعاش كلها - كالصنايع و الحرف و غيرهما - مما ليس فيه منع شرعي فهو صحيح بل قد يجب ان كان من الواجبات النظامية و لم يرد نهي شرعي عنه، كما انه ليس من متابعة خطوات الشيطان.

بحث اجتماعي:

المتابعة و التقليد هو العمل بما شرعه المتبوع و جعله سواء كان التابع قد قصد المتابعة أو لا. و بعبارة أخرى: المتابعة انطباقية لا أن تكون قصدية، و هي سنة من سنن الاجتماع الإنساني بل هي من غرائز الإنسان لا سيما في المراحل الأولى من حياته، و لعلماء الاجتماع في ذلك كلام طويل بل يظهر من بعضهم أنها من أسباب رقي الفرد أو الأمة، و لم يصل أحد إلى مرتبة الكمال إلاّ بفضل المتابعة و التقليد و المحاكاة.

و الظاهر أنّ القرآن الكريم لم ينه عن التقليد على النحو الكلي و إنما اعتبر في التقليد الذي يمكن أن يحقق الفائدة للفرد أو المجتمع أمرين.

الأول: أن يكون التقليد عن حق و في حق فلا يكون إلاّ ممن له الكمال و الهداية و الصلاح قال تعالى: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى اَلْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [سورة يونس، الآية: 35] فإنّ تبعية شخص لشخص آخر لا بد و أن يرى في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل بلا فرق بين ان تكون هذه التبعية شخصية أو نوعية دينية أو دنيوية و يدل على ذلك قوله تعالى: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ فجعل المناط في أمر التقليد عقل الآباء و اهتداؤهم و قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [سورة يونس، الآية: 89] فتكون التبعية حينئذ تبعية العقل و الكمال و بالأخرة ترجع إلى تبعية رضوان اللّه تعالى و الأمر الإلهي قال تعالى: وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: 157] و في غير ذلك لا تكون إلاّ متابعة للنفس الأمارة و متابعة الهوى التي لا يجتنى منها إلاّ الفساد و الضلال و يكون مآلها إلى النار

ص: 264

قال تعالى: قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اِتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاّ خَساراً [سورة نوح، الآية: 21] و الداعي إلى هذا التقليد هو الشيطان لأنه من طرق غوايته و إضلاله قال تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ اَلشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ اَلسَّعِيرِ [سورة لقمان، الآية: 21].

الثاني: أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة التوبة، الآية: 100]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اِتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ اَلرَّشادِ [سورة غافر، الآية: 38] و يستفاد ذلك مما ورد في قصة موسى و الخضر قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [سورة الكهف، الآية:

18] و قال تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18] و الآيات في ذلك كثيرة منطوقا و مفهوما.

و بالجملة: إنّ ذم التقليد و التشنيع على من يقلد الآباء ليس لأجل نفس التقليد و المتابعة بل لأجل عدم توفر الشروط التي حددها القرآن الكريم فيه، فيرجع إلى متابعة الشيطان و النفس الأمارة و متابعة الهوى التي هي من أهم أسباب الضلال و الابتعاد عن الحق.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) بعد أن ذكر سبحانه في الآيات السابقة أنّ أمر الدين و تشريع الأحكام لا بد و أن يكون منه تعالى، و في غير ذلك يكون من خطوات الشيطان، و أبطل التقليد في الدين، وجّه الخطاب في هذه الآيات إلى المؤمنين لأنهم أولى من غيرهم و أباح لهم الطيبات ثم حدد لهم بعض ما يجب اجتنابه من المطاعم و لذلك لا بد لهم من الشكر الدائم له تعالى.

ص: 265

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ . الأكل معروف، و الطيّب (بالتشديد) ما تستلذه النفس. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة إلاّ انه لم يرد فيه الطيب (بالتخفيف). و هو في مقابل الخبيث و كل ما نهى عنه الشرع يكون خبيثا واقعيا و إن استلذته النفس، فما هو في معرض أكل الإنسان على أقسام ثلاثة: الطيبات، و الخبائث، و المصائب. و المحرمات و إن لم تكن من الخبائث الظاهرية عند النّاس و الحلال هو الأول فقط دون الأخيرين.

و الأمر هنا استعمل في إنشاء الطلب بداعي الترخيص و الإباحة لا بداعي الطلب الحقيقي، فلا يستفاد منه سوى الإباحة و الترخيص لا الوجوب بقرينة قوله تعالى: وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: 157].

و توجيه الخطاب للمؤمنين خاصة، لأنّهم هم المقصودون في تحليل الطيبات و ان الغرض الأهم إنما هو انتفاع أهل الإيمان منها، كما إذا أجرى شخص ماء ليشرب هو و أهله منه و ينتفع به في زرعه فتشرب منه الحيوانات، فالمؤمن هو الغاية و أنه أولى من غيره، و لذا تكون الطيبات خالصة لهم يوم القيامة قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]. أو أنه تعالى خصهم بالذكر تفضيلا.

قوله تعالى: وَ اُشْكُرُوا لِلّهِ . الشكر إظهار نعمة المنعم على نحو من التعظيم اما بالقلب و هو تصور نعمة المنعم، أو باللسان و هو الثناء عليه، أو بالجوارح و الأركان و هو مكافآت النعمة بقدر الاستحقاق و حينئذ فان كان المنعم غير اللّه تعالى فالأمر واضح و أما إن كان هو عزّ و جل فلا أثر للشكر إلاّ استكمال الشاكر قال تعالى: وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [سورة النمل، الآية: 40] فالشكر للّه أي شكر نعم اللّه التي خلقها و أباحها و سهّل الانتفاع منها فانها كلها من فضله و مننه و إحسانه.

و الشكر كما يظهر - من الآيات و الروايات - من أجلّ مقامات الإنسان

ص: 266

و أفضل درجاته، و يكفي في ذلك النداء الربوبي: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة ابراهيم، الآية: 7]

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في المتفق عليه من جوامع كلماته المباركة: «الطاعم الشاكر له من الأجر كأجر الصائم المحتسب، و المعافى الشاكر له من الأجر كأجر المبتلى الصابر، و المعطى الشاكر له من الأجر كأجر المحروم القانع». و هو من العبادات التي يتقرب بها إلى اللّه تعالى.

و لا يحتاج فيه إلى قصد القربة لكن يضره الرياء و لا يختص بخصوص النعم الحادثة للشاكر بل هو ممدوح في نفسه و بالنسبة إلى النعمة الحادثة في المستقبل.

و الظاهر انه لم يرد تحديد خاص في الشكر بل يكفي مطلقه،

فقد قال الصادق (عليه السلام): «شكر كل نعمة و ان عظمت ان تحمد اللّه عزّ و جل عليها»

و عنه (عليه السلام) أيضا: «ما أنعم اللّه على عبد بنعمة صغرت أو كبرت فقال: الحمد للّه إلاّ أدّى شكرها».

و للشكر درجات و مراتب منها الشكر القلبي

قال الصادق (عليه السلام): «من أنعم اللّه عليه بنعمة فعرفها بقلبه فقد أدى شكرها». و منها الشكر بالتقوى و ترك المعاصي التي هي من أفضل مراتبه،

قال الصادق (عليه السلام): «شكر النعمة اجتناب المحارم» و يظهر ذلك من قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 123] فيتحقق بالقلب و اللسان و أعمال الطاعات و اجتناب المحرمات.

و مورد الشكر ليس هو النعم الدنيوية فقط بل الأخروية أيضا كالتوفيق للإيمان و إتيان الطاعات و العبادات و السعي في قضاء حوائج النّاس، الواردة من اللّه تعالى فإنها توجب رفع الدرجات و تكفير السيئات و هي مما يوجب الشكر عليها.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ . احتجاج على وجوب الشكر بأحسن بيان؛ يعني: إذا كنتم إياه تعبدون، لأنه إلهكم و معبودكم فاشكروه لأنه المنعم عليكم؛ أو إن كنتم تدعون عبادته فاشكروا للّه، لأن منشأ كونه أهلا

ص: 267

للعبادة عين منشأ كونه أهلا للشكر لعدم تعدد الحيثيات و الجهات في ذاته الأقدس، فكما انه إله الجميع بالاستحقاق الذاتي كذلك يكون مشكور الكل أيضا، لانتهاء جميع النعم إليه عزّ و جل، فالشكر على نعمائه ملازم لعبادته و هي متوقفة على معرفة المعبود و لو إجمالا، و من أهم مقدمات المعرفة وجوب شكر المنعم بل هو أساس العبادة و غاية العبودية؛ و لذا قدم عزّ و جل الشكر على العبادة في المقام، و في قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ [سورة النساء، الآية: 147] فالشكر يكون داعيا للعبادة بل هي نفسه في نفوس الأولياء كما قال سيدهم:

«ما عبدتك خوفا من نارك و لا طمعا في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك» و هذا من أدق مباني الفلسفة حيث اجتمع فيه العلة الفاعلية و العلة الغائية و المادية و الصورية.

قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ . مادة (ح ر م) تأتي بمعنى المنع، سواء كان تكليفيا أم غير تكليفي تكوينيا أم قهريا، قال تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ [سورة المائدة، الآية: 72] و هو من المنع التكويني لكونه من الجمع بين المتنافيين فلا يجتمع الخبيث من كل جهة مع الطيّب كذلك، و من المنع القهري قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً [سورة المائدة، الآية: 26] و المقام من المنع التكليفي الشرعي.

و الحرمة من احدى الأحكام الخمسة التكليفية: و هي الوجوب، و الحرمة، و الإباحة، و الندب، و الكراهة، و هي ثانية في جمع الشرايع الإلهية على اختلافها بل هي دائرة في الأحكام الوضعية و لو كانت غير سماوية.

و الميتة: من الحيوانات ما مات حتف أنفه، و عن الفقهاء تعميمها إلى كل ما زال روحه بغير تذكية شرعية.

و الدم: معروف و به يحيا الحيوان و تنتظم شؤونه و وظائفه: أو المراد به هنا الدم المسفوح لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [سورة الأنعام، الآية:

145].

ص: 268

و تأتي مادة (لحم) بمعنى اللزوم، و سمي اللحم لحما للزوم بعضه مع بعض.

و الخنزير: حيوان معروف و هو من المسوخات التي يأتي المراد منها في قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ [سورة يس، الآية: 67] و قد نهى سبحانه عن أكل لحم الخنزير في مواضع متعددة من الكتاب الكريم قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ [سورة المائدة، الآية: 3] و قال تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ [سورة الأنعام، الآية: 145] و قال تعالى:

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ [سورة النحل، الآية: 115] مضافا إلى السنّة المتواترة و إجماع المسلمين.

و ضرر هذا اللحم بيّن دلت عليه التجربة، و قد كشف العلم الحديث عن بعض مفاسده. و لا فرق في الحرمة بين البري منه و البحري و ان كان الأول يزيد عن الأخير في انه نجس عينا و أعظم خبثا.

و إنّما ذكر اللحم كناية عن جميع اجزائه لأنه أهمها.

و قد حرّم اللّه هذه الثلاثة لخباثتها و لما لا يؤمن الضرر منها و قذارتها و اشمئزاز النفس منها، و قد كشف العلم الحديث ما يترتب عليها من المفاسد و المضار.

قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ . الإهلال رفع الصوت عند رؤية الهلال، ثم استعمل في أول كل صوت يرفع، و منه استهل الصبي، و الإهلال بالحج، و الإهلال بالذبح أي التقرب بالذبائح إلى الأصنام و الأوثان و غيرها مما يعبد من دون اللّه تعالى، أو ذكر الوثن و الصنم عند الذبح فإنّ ذلك كله من عادات المشركين و الوثنيين و هو شرك باللّه تعالى، و قد اعتبر الشارع هذه الذبائح من الميتة التي لا يجوز أكلها، و إنما ذكرها بالخصوص للاهتمام به في ترك العادة التي جرت عليها قرون عديدة من الإهلال لغير اللّه تعالى.

و لعل من أسرار قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ التمهيد لما يأتي و إعلام الناس بأنهم أجلّ مخلوقاته عزّ و جلّ، و انه

ص: 269

تعالى خلق ما في الأرض له ليرفع نفسه عن درجات البهيمية الى الدرجات العالية و يتنزه عن ما ينافي مقام العبودية فلا يعبد غيره تعالى فان الجميع مخلوق و مربوب له عزّ و جل.

قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . قد ذكر الاضطرار إلى الأكل في موارد خمسة من الكتاب الكريم أحدها في هذه الآية و الثاني في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة المائدة، الآية: 3]. و الثالث في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية:

145]. و الرابع في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 115]. و الخامس في قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ أَلاّ تَأْكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاّ مَا اُضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ [سورة الأنعام، الآية: 119].

و كلمة «غير» منصوبة على الحالية و قبل على الاستثناء، و التمييز بينهما هو انه إذا صلح في موضعها لفظ (في) أو ما يفهم معنى الظرفية و الحالية، فهي حال و إذا صلح لفظ (الا) فهي استثناء.

و الاضطرار معلوم و المراد به الإلجاء إلى أكل شيء من المذكورات و مادة (بغي) تأتي بمعنى الميل، و له مراتب كثيرة و من بعض مراتبه الطلب، و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا إن اللّه يحب بغاة العلم» أي طالبي العلم.

و هي إما أن تكون متعدية أو لا تكون كذلك بل تتعدى بلفظ (على). و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم ربما تزيد على عشرين موردا، و جامعها الميل من الحق إلى الباطل، و قد تستعمل في الميل إلى الحق أيضا كمن أتى بالفرائض و بغى إتيان النوافل.

فالأقسام أربعة: الميل من الحق إلى الحق، و الميل من الباطل إلى

ص: 270

الحق، و الميل من الحق إلى الباطل، و منه البغي بمعنى الظلم، و البغاء أي الزنا، و الخروج على خليفة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

و قد روى الفريقان أنه (صلّى اللّه عليه و آله) قال لعمار بن ياسر «تقتلك الفئة الباغية». و القسم الرابع الميل من الباطل إلى الباطل، و القسمان الأخيران مذمومان، و الغالب في استعمالات البغي إنّما هو في الميل من الحق إلى الباطل.

و العادي: المتعدي عن الحق إلى الباطل، فيشمل كلا طرفي الإفراط و التفريط لأن كلا منهما باطل بالنسبة إلى الحد الوسط.

و قد اختلف العلماء في المراد منهما فقيل: المراد من الباغي الظلم. و قيل الاعتداء، و قيل الحسد، و قيل الفساد من بغى الجرح إذا فسد و قيل مجاوزة الحد عن الحق أو عن القصد. و الحق ما ذكرناه في بيان اللفظين، فيكون المراد منهما مطلق المعصية و ما ورد عن الأئمة الهداة (عليهم السلام)، و ما ذكروه في بيان اللفظين من باب التطبيق و تفسير المعنى الكلي بالفرد، و هذه عادة جارية بين اللغويين و المفسرين كما نبهنا عليها مرارا.

و المعنى: إنّه بعد أن أباح سبحانه و تعالى للمؤمنين أكل الطيّبات بيّن حرمة بعض الأشياء لخباثتها و فسادها و أضرارها، أو لإزالة الشرك و خلع الأنداد و إثبات التوحيد في جميع القربات و هي أربعة: الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما أهل لغير اللّه تعالى. و رخص سبحانه الأكل منها في حالة الاضطرار إليها بشروط خاصة مذكورة في كتب الفقه إلاّ أن يكون المضطر باغيا أو عاديا بأن يكون مائلا إلى الباطل و حينئذ يحرم الأكل عليهما.

و إنّما ذكر سبحانه «غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ» بعد الاضطرار للتنبيه على أنه ليس لأحد تحديد الاضطرار و تفسيره من قبله و الا كان من أحدهما و يأتي في البحث الفقهي زيادة إيضاح.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . أي: إنّ اللّه يغفر المعاصي رحيم بالعباد، إذ أباح لهم الطيبات و حرّم عليهم الخبائث و رخص لهم ما لم يقدروا عليهما. و ذكر الغفران في المقام مع انه لا معصية في مورد الاضطرار، للاعلام بانه إذا كان لا يؤاخذ على المعاصي ففي موارد الرخصة أولى أن لا يؤاخذ، أو

ص: 271

لأنّ تقدير الضرورة إنّما هو موكول إلى الناس و قليل منهم يقتصرون على قدر الضرورة فلا غناء عن غفران اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تتضمن الآيات الشريفة أمورا:

الأول: إنّ الحصر في قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ حقيقي إذا لوحظت الحرمة بالنسبة إلى خطوات الشيطان و ما افتعلوه من المحرمات، و إضافي بالنسبة إلى الحيوانات بقرينة قوله تعالى: وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ [سورة الأعراف، الآية: 157].

الثاني: إنّما أتى سبحانه و تعالى ب اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ في المقام معرفا و في غير المقام منكرا كما في قوله تعالى: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام، الآية: 145] للإشارة إلى حرمتها بجميع المراتب و الشؤون بحسب صرف الوجود في ما لا يكون شائعا، و بحسب الوجود الساري في غير ذلك، و بحسب نفس وجوداتها و تركيباتها مع ما هو حلال.

الثالث: إنّما ذكر سبحانه في هذه الآية المباركة فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ و ترك ذلك في غيرها من الآيات في سائر الموارد، لأن عدم الإثم في ظرف الاضطرار موافق للقانون العقلي، فتكفي الإشارة في موضع واحد، مع أنّ في قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 115] و في [سورة المائدة، الآية: 3] إشارة إلى ذلك.

الرابع: ذكر سبحانه في المقام: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ و في غير المقام أخّر الجار و المجرور، و لعل الاختلاف في التعبير لأجل اختلاف

ص: 272

عاداتهم، فان بعضهم يقدمون ذكر آلهتهم ثم يذبحون لها و البعض الآخر يذبحون الذبائح ثم يقربونها إلى الإلهية، و ثالث يقصدون التقرب إليهم مطلقا قبل الفعل و حينه و بعده.

الخامس: لا فرق في قوله تعالى: مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ بين كونه من إضافة الصفة إلى الموصوف، أو من قبيل قيام الصفة به بعد الالتفات إلى أن الخطاب إلى خصوص المؤمنين لأنهم هم الذين يعرفون الرازق و يشكرونه فهم الأصل في الرزق و لغيرهم التبعية فيه.

بحث روائي:

في الفقيه عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الذي يخرج على الإمام، و العادي الذي يقطع الطريق لا تحل لهما الميتة».

و في تفسير العياشي عن حماد بن عثمان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي الخارج على الامام و العادي اللص».

أقول: روى مثله في الدر المنثور عن ابن عباس.

و في المجمع عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ : «غير باغ على امام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحققين».

أقول: إنّ ذلك كله من باب بيان المصاديق، و قد ذكرنا المتحصل من الأخبار الواردة في المقام في الفقه في كتاب الصيد و الذباحة من كتاب [مهذب الأحكام].

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ قال: «الباغي باغي الصيد، و العادي السارق و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما، ليس هي عليهما كما

ص: 273

هي على المسلمين، و ليس لهما ان يقصرا في الصّلاة».

أقول: روي مثل ذلك في تفسير العياشي و التهذيب.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «الباغي الظالم، و العادي الغاصب».

و في الفقيه في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ عن الصادق (عليه السلام): «من اضطر إلى الميتة و الدم و لحم الخنزير فلم يأكل شيئا من ذلك حتّى يموت فهو كافر».

أقول: الوجه في كونه كافرا مخالفة اللّه تعالى حيث انه تعالى أمر بالأكل حينئذ و لم يفعل، فالكفر كفر عملي لا اعتقادي كما تقدم أقسامه في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 6].

بحث فقهي:

تدل الآية الشريفة على جملة من الأحكام الشرعية:

منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ يشمل جميع التقلبات و التصرفات في الميتة أكلا و انتفاعا و غيرهما. و تدل عليه الأخبار الكثيرة الشارحة للآية المباركة

ففي الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعوا من الميتة بشيء»

و في حديث عبد اللّه بن حكيم عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تنتفعون بإهاب و لا عصب»

و عن الصادق (عليه السلام): «لا ينتفع بشيء منها و لو بشسع منها» هذا بالنسبة إلى الانتفاعات التي يشترط فيها الطهارة، و أما في غيرها مثل التسميد و الزرع و نحوهما مما لا يشترط فيه الطهارة فلا دليل على الحرمة.

و منها: أنّ إطلاق قوله تعالى: اَلْمَيْتَةَ يشمل جميع أنواع الميتة سواء كانت برية أو بحرية ميتة ما له نفس سائل - أي الدم الخارج عن العروق حين الذبح - و ميتة ما ليس له نفس سائل و ان كانت الأخيرة غير محكومة بالنجاسة.

كما تشمل القطعة المبانة من الحيوان الحي، و في ذلك روايات كثيرة من الفريقين،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما قطع من البهيمة

ص: 274

و هي حية يكون ميتة».

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يشمل حرمة جميع أجزاء الميتة. و عن بعض علماء العامة جواز الانتفاع بجلد الميتة، بل طهارته بالدبغ و استدل

بالحديث المروي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) حين مر على شاة ميمونة فقال: «هلا أخذتم إهابها»

و لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أيما إهاب دبغ فقد طهر» و قد ناقشنا ذلك في الفقه مفصلا، و كذا

قول علي (عليه السلام) في البحر: «الحل ميتته» محمول على الطهارة لا حلية الأكل.

و منها: إطلاق قوله تعالى: وَ اَلدَّمَ يشمل القليل و الكثير و حرمة جميع التقلبات و التصرفات و الانتفاعات منه؛ كما يشمل جميع أنواع الدماء.

و منها: المراد من قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ ان يكون الذبح لغيره تعالى سواء ذكر غير اسم اللّه تعالى كما يفعله الوثنيون و المشركون، أو ذبح للأصنام و الأوثان من دون ذكر اسم عليه أبدا.

و المناط في حلية الذبيحة ذكر اسم اللّه عليها، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] فالإهلال بالذبيحة لغير اللّه شيء كما ان الإهلال بها للّه تعالى شيء آخر، ففي القسم الأخير لو أهل بالذبيحة للّه تعالى و تصدق بلحمها على فقراء مشهد أو مزار رغب الشارع في زيارته فهو حلال لا إشكال فيه.

فما عن بعض انه لا يحل تمسكا بقوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الأنعام، الآية: 121] أو أنه إهلال لغير اللّه تعالى خلط بين موضوعين لا ربط لأحدهما بالآخر. فان الذبح كان للّه تعالى و مصرفه كان للمنذور له أو الفقراء، و بعبارة أخرى: إنّ ذلك كان على نحو الطريقية إلى اللّه تعالى و التقرب إليه عزّ و جل لا الموضوعية للمنذور له أو الفقراء.

و منها: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أنّ الاضطرار يرفع الحكم التكليفي، لأن التكليف محدود بالقدرة و لا تكليف في ما لا قدرة للمكلف عليه، و الاضطرار إلى الفعل الحرام أو ترك

ص: 275

الواجب ينافي القدرة، لأن المضطر لا يقدر على الترك في الأول كما لا يقدر على الفعل في الثاني.

و المناط في القدرة: القدرة العرفية التي يعتمد عليها النّاس في أمور معاشهم و جميع أغراضهم نعم قد يتبدل الحكم في صورة الاضطرار إلى حكم آخر و لكنه يحتاج إلى دليل بالخصوص.

و الاضطرار الحاصل للإنسان المبيح لتناول المحرّم على قسمين:

الأول: ما لا ينتهي إلى اختياره، الثاني: ما ينتهي إلى اختياره، و لا ريب في انه لا تكليف و لا عقاب في الأول. و أما الثاني فلا ريب في أنّ العقل يحكم باختيار أقل القبيحين، لأن الأمر يدور بين إهلاك النفس و أكل الميتة مثلا، و لا إشكال في كون إهلاك النفس القبح من أكل الميتة، و أما الخطاب فهو باق على ملاكه، لبقاء العقاب لفرض الانتهاء إلى الإختيار، فمن ذهب إلى سفك دم معصوم أو هتك عرض محترم أو غصب مال كذلك فاضطر حينئذ إلى أكل الحرام يعاقب على الأكل، فيكون حكم القرآن الكريم موافقا للعقل السليم.

و من ذلك يعلم أنّ الاضطرار المبيح لأكل المحرمات - كالميتة و الدم و نحوهما - محدود في الشريعة المقدسة بحد خوف التلف على النفس في ترك الأكل، ثم الأكل بقدر سد الرمق من دون تعد عنه. و في المقام فروع كثيرة أخرى تعرضنا لها في كتب الفقه.

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّار.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة التي وردت في ذم قوم تركوا سبيل الحق و اتبعوا خطوات الشيطان لأن تبديل الحق بالباطل من أعظم خطواته و لذا

ص: 276

كان التوعيد عليه عظيما، كما أنه بين سبحانه و تعالى فيها أنّ الاختلاف في الحق هو الشقاق البعيد.

التفسير

ص: 277

قوله تعالى: وَ لا يُزَكِّيهِمْ . أي: لا يقبل منهم أعمالهم مع ما هم عليه من الكفر و الفعل الشنيع و لا يطهرهم من دنس الخطايا أو يزكيهم بالثناء عليهم كما يفعل بالنسبة إلى أهل الجنّة.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: عذاب شديد الألم.

و حكم هذه الآية عام يشمل كل من عرف الحق و كتمه قولا أو عملا فلا اختصاص له بأهل الكتاب، بل يصدق على المسلمين الذي عرفوا الحق فكتموه مع القدرة على الإظهار، أو لم يعملوا به خارجا.

ثم إنّه لا يخفى أنّ المعارف الإلهية و الأحكام المقدسة لها وجود واقعي حقيقي يتم بالجعل الإلهي و إتمام الحجة و وجود ظاهري إثباتي لا يتم إلاّ بالإظهار و إعلام النّاس. و الأول في مرحلة الحدوث و الثاني في البقاء، و المهم هو الأخير إذ لا أثر في حدوث ما لا بقاء له في ما يطلب منه البقاء و الاستمرار. و جاعل القانون مطلقا - إلهيا كان أو وضعيا - انما يهتم بإبقائه أكثر من اهتمامه بأصل الإيجاد و الحدوث. و الكتمان إنما يتحقق بالنسبة إلى الثاني، و به تبطل حكمة تشريع الأول، و لذلك كان وزر الكتمان عظيما يعرف من عظم ما أوعد عليه اللّه تعالى بتعدد نقمه عليهم من وعيده بالنار و عدم التكلم معهم و عدم التزكية، و العذاب الأليم.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 77] و لعل وجه التأكيد في الآية الأولى تعدد موجب العقاب فيها من الكتمان و الاشتراء بخلاف الآية الثانية.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلضَّلالَةَ بِالْهُدى . هذا كالنتيجة للآيات السابقة: أي أولئك الذين اشتروا بالكتمان ثمنا قليلا انهم في عملهم هذا اشتروا الضلالة بالهدى.

قوله تعالى: وَ اَلْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ . أي اشتروا العذاب بالمغفرة لمكان

ص: 278

اشترائهم الضلالة بالهدى، فيكون ترتب هذا على سابقه من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

قوله تعالى: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ . (ما) للتعجب و المراد أنّهم فعلوا فعلا يتعجب كل عاقل منهم و انهم كيف يدعون العقل مع أن فعلهم يدل على سفاهتهم و غفلتهم، و انه لو وقع من أحد مثل هذا الاشتراء في أمور الدنيا لكان دليلا على السفاهة، فهم أدخلوا أنفسهم في النّار باختيارهم و سلطوا عليهم غضب الجبار فكان صبرهم على العذاب شديدا.

و يصح أن تكون للتعجب من إحاطة النّار بهم كمية و كيفية و سائر الجهات أي: ان فعلهم الذي أوجب دخولهم في النار و أنّ صبرهم على العذاب ما يثير العجب.

و يجوز التعجب على اللّه تعالى إذا كان بداعي عظمة العقاب و شدته و إلاّ فأنّ التعجب الحقيقي لا يجوز بالنسبة إليه عزّ و جل لأنّه يستلزم الجهل و هو محال عليه تعالى، و مثل هذا الأسلوب كثير في المحاورات.

كما يصح أن تكون (ما) للاستفهام بداعي شدة العقاب، أو التوبيخ، أي أي شيء أصبرهم؟!.

و يحتمل أن يكون المراد من النّار نار جهلهم المركب التي تجعلهم عرضة للفساد و الشقاء، و يؤول أمرهم إلى النار في الآخرة.

و الآية تدل على بطلان كل عمل منهم و غضب اللّه تعالى و سخطه عليهم مع أن لهم اعمالا حسنة لها آثار عظيمة ينتفع منها الناس و ليس من سنته عزّ و جل اضاعة الأعمال الحسنة قال تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30].

و لكن يمكن أن يقال: إنّهم من حيث كفرهم و كتمانهم للحق يدخلون النار لكنهم ينتفعون بأعمالهم الحسنة سواء في الدنيا أو في البرزخ أو في الحشر و النشر أو في تخفيف العذاب بمقتضى قانون ترتب الجزاء على العمل الذي أسسه القرآن الكريم و المؤيد بحكم العقل و تدل عليه أخبار

ص: 279

كثيرة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ . مادة (نزل) تدل على الهبوط من العلو إلى السفل، و لها استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة تقرب من ثلثمائة مورد و تشمل التشريعيات و التكوينيات قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 174] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [سورة الحديد، الآية: 25] و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً طَهُوراً [سورة الفرقان، الآية: 48] و قال تعالى: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى [سورة الأعراف، الآية:

26] و تستعمل في الخير و الشر، و الأول كثير، و من الثاني قوله تعالى: فَأَنْزَلْنا عَلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً [سورة البقرة، الآية: 59] و قال تعالى: إِنّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ اَلسَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 34] فيصح استعمال الإنزال بالنسبة إلى جميع ما يصدر منه عزّ و جل بلا فرق بين الجواهر و الأعراض و الشرعيات و غيرها، لأن الكل صدر عن مبدإ لا نهاية لعلوه و لرفعته سواء كان بالتسبيب أو بدونه فان أزمة الأمور بيده و ما سواه يستمد من مدده.

و الفرق بين الإنزال و التنزيل أنّ الثاني لوحظ فيه التفرق في الجملة بخلاف الأول قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً [سورة الإنسان، الآية: 23] و قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً [سورة الفرقان، الآية: 25] و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10] فجميع ما سواه إنزال منه عزّ و جل كما أن الجميع تنزيل منه و أكمله القرآن العظيم.

و الكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع و الضم، سواء كان في الحروف و ضمها في الخط، أو اللفظ، أو الذهن، و المتعارف في الاستعمال هو الأول، و من لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم، و تستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183] و قال تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية: 75] أي في حكم اللّه، و الأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا و يكتب رابعا.

ص: 280

و الكتاب من كتب مادته تأتي بمعنى الجمع و الضم، سواء كان في الحروف و ضمها في الخط، أو اللفظ، أو الذهن، و المتعارف في الاستعمال هو الأول، و من لوازم الضم الثبوت كما ان من لوازمه الحكم، و تستعمل هذه المادة فيهما قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183] و قال تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية: 75] أي في حكم اللّه، و الأصل في ذلك ان ما يراد تثبيته يجمع في الذهن ابتداء ثم في الإرادة ثانيا ثم يحكم به ثالثا و يكتب رابعا.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة أكثر من مأتين و خمسين موردا.

و المراد من الكتاب في المقام مطلق ما كتبه اللّه تعالى على عباده، و القرآن مهيمن على ذلك كله، فلا فرق بين أن يكون المراد من الكتاب هو القرآن أو جميع الكتب السماوية غير المنسوخة إذا الجميع واحد في الحقيقة و ان اختلف في الصور.

و تقدم معنى الحق في آيتي 144 و 147 من هذه السورة.

و قد أسس الفلاسفة قاعدة كلية أحكموها ببراهين عقلية و فرعوا عليها أمورا، و هي: «ان من كان حقا بذاته و من ذاته يكون حقا من جميع جهاته، في صفاته و أفعاله، و جميع شؤونه» فإذا كان المبدأ القيوم حقا في الأزل الذي لا يتصور له أول كذلك يكون في ما لم يزل الذي ليس له آخر شأنا و صفة و فعلا، و في كل ما يتعلق به تعالى من الجهات التكوينية و التشريعية.

و من فروع هذه القاعدة التلازم بين المبدأ و المعاد في كل ما يتعلق بشؤون العباد سيأتي في الموضع المناسب شرحها مفصلا.

و للمفسرين في اعراب محل (ذلك) في قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ أقوال:

منها: الرفع على أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي ذلك الشأن.

و منها: أنّه خبر لمبتدأ محذوف أي الشأن ذلك.

و منها: النصب بفعل مقدر رأي: جعلنا ذلك، و كل واحد منها صحيح بعد عدم ثبوت الترجيح في البين.

ص: 281

و المعنى: إنّ ذلك الذي تقرر في شأنهم إنّما هو بسبب أنّ الكتاب نزل بالحق و أنّهم على الباطل، و لا يمكن للباطل مغالبة الحق الذي هو بيّن دلائله و واضح معالمه.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِي اَلْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ .

الاختلاف ضد الاتفاق الذي لا ينفك عنه كل مجتمع المنتهي إلى الاختلاف في الأفكار، و هو ينتهي إلى الاختلاف في الفهم و الاستعدادات، و هو طبيعي بالنسبة إلى الإنسان، و لذلك وجب الرجوع إلى الكامل في تدبير شؤون المجتمع و ادارته، و إلاّ انتهى الأمر إلى التنابذ و الاختلاف و اختلال النظام، و قد جعلوا ذلك من الأدلة العقلية على وجوب وجود النبي و الإمام بين النّاس.

و الشقاق عبارة أخرى عن الاختلاف كأن كل واحد من المختلفين يصير في شق،

و في الدعاء المأثور: «اللهم إنّي أعوذ بك من الشقاق و النفاق» و المراد به هنا الاختلاف البعيد أي: آخر مراتب الشقاق الذي لا يمكن فيه الايتلاف بوجه من الوجوه.

و من ذلك يعلم أن الاختلاف في الكتاب و أمور الدين موجب للابتعاد عن الصراط المستقيم الذي يدعوا اليه الكتاب، و السلك في سبل متعددة، و الابتعاد عن الحق قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153].

بحث دلالي:

تدل الآيات الكريمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ يدل على تجسم الأعمال، و سنخية العقاب مع العمل، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال و الجاه و الاستفادة منه في إشباع بطونهم و كان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل اللّه تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم، نظير ذلك قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة، الآية: 35] و آية الربا و سيأتي البحث في تجسم الأعمال.

ص: 282

الأول: أنّ قوله تعالى: ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ اَلنّارَ يدل على تجسم الأعمال، و سنخية العقاب مع العمل، فان كتمانهم للحق كان لأجل كسب المال و الجاه و الاستفادة منه في إشباع بطونهم و كان جزاء هذا العمل الشنيع ان أبدل اللّه تعالى تلك الأثمان إلى النار التي تستعر في بطونهم، نظير ذلك قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [سورة التوبة، الآية: 35] و آية الربا و سيأتي البحث في تجسم الأعمال.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اَللّهَ نَزَّلَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ ان اللّه تعالى إنما أنزل الكتاب و المعارف الحقة و الأحكام التشريعية للألفة و الاتحاد و نبذ الاختلاف، و ما كان خلاف ذلك فهو الباطل الذي لا يجلب منه إلاّ الفساد و التنازع، كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة و آيات أخرى.

الثالث: يصح أن يستدل بالآية الشريفة على أنّ القرآن الكريم ناسخ لجميع الكتب السماوية إلاّ إذا قرر القرآن العظيم شيئا منها. و النسخ بهذا المعنى موافق لقانون العقل القاضي بالسير التكاملي في الإنسان، و هذا أمر طبيعي حتى بالنسبة إلى القوانين الوضعية.

الرابع: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: فِي بُطُونِهِمْ ناراً اضطراب قلوبهم في الدنيا بما ارتكبوه من كتمان الحق بعد ما عرفوه فكانوا مخلدين في عذاب الضمير في هذه الدنيا و في البرزخ.

الخامس: لا منافاة بين هذه الآية المباركة أي: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ و الآية التي تدل على سؤال الناس أجمعين يوم القيامة قال تعالى: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92] لإمكان اختلاف الجهة إما ان يراد بالمنفي كلام التلطف و العناية و بالمثبت السؤال عن جرائم ما فعلوه، أو للتوبيخ و الإهانة، أو يراد اختلاف المواقف و المقامات، لأن ليوم القيامة مواقف كثيرة.

بحث روائي:

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ قال (عليه السلام): «ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيّرهم إلى النار» و رواه العياشي في التفسير.

و في تفسير القمي في تفسير الآية المباركة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى اَلنّارِ :

«يعني ما أجرأهم على النار».

ص: 283

و روي عن الصادق (عليه السلام): «ما أعملهم بأعمال أهل النار».

أقول: هذه الروايات قريبة المعاني و من باب ذكر السبب و ارادة المسبب، و الاجتراء على السبب الذي يوجب الدخول في النار اجتراء على النار لا محالة.

لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائ.......

اشارة

لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ (177) الآية على اختصارها تشتمل على أصول المعارف الإلهية، و هي اجمع آية في القرآن العظيم للكمالات الإنسانية، و فيها يدعو اللّه عزّ و جل الإنسان إلى مكارم الأخلاق التي بها يفضل على الاملاك، فقد ذكر سبحانه و تعالى الخصال الخمس عشرة الجامعة لأصول الإيمان و الاعتقاد و هي الإيمان بالمبدأ و المعاد، و الملائكة رسل الوحي و منزلي الكتب ثم الإيمان بالأنبياء و المرسلين، و أصول الأعمال الصالحة و هي إيتاء المال و إقام الصلاة، و أخيرا ذكر أصول مكارم الأخلاق و هي الوفاء بالعهد و الصبر في البأساء و الضراء و حين البأس، و بذلك يرشد الإنسان إلى الصراط المستقيم، و يعتبر العامل بها من الصديقين و المتقين فجدير لكل فرد أن يستنير بهدي الكتاب المبين و قول الحكيم العليم، و حقيق لمن عمل بهذه الآية أن يكون قد استكمل بها إيمانه كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

التفسير

قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ . الآية الشريفة تشتمل على مقاطع ثلاثة في كل مقطع مجموعة من الخصال تعتبر أصول المعارف الإلهية و أساس الكمالات الإنسانية.

الأول: في الاعتقاديات من المبدأ و المعاد.

ص: 284

الثاني: في تهذيب النفس بأعمال الجوارح.

الثالث: الأخلاق و المعاشرة بين الناس.

مادة (ب ر ر) تدل على الاتساع و الشمول في أي هيئة استعملت و يأتي البر (بفتح الباء) في مقابل البحر لاتساعه، و كذا لفظ (بر) بالفتح أيضا إذا أطلق على اللّه عزّ و جل قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلْبَرُّ اَلرَّحِيمُ [سورة الطور، الآية: 28] أي واسع خيراته و إفاضاته، و كذلك إذا اطلق على الإنسان قال تعالى حكاية عن عيسى: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي [سورة مريم، الآية: 32] و قال عزّ و جل كذلك: وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ [سورة مريم، الآية: 14] فانه يكون بمعنى كثرة الخير و منه (البر) بالضم و هي الحنطة الغذاء المتسع لنوع الإنسان و لكنه لم يرد في القرآن الكريم.

و يجمع على «بررة» في القرآن الكريم، قال تعالى: مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرامٍ بَرَرَةٍ [سورة عبس، الآية: 16] و هو يختص بالملائكة و الوجه في ذلك أنّ استعمال لفظ البر (الخيرات) أولى من لفظ البار لأنه أبلغ كقول زيد عدل أبلغ من عادل. و البار يجمع على الأبرار قال تعالى: إِنَّ اَلْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ [سورة الإنفطار، الآية: 13].

و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم كلها مقرونة بالمدح و الإختصاص بالمقامات العالية قال تعالى: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [سورة آل عمران، الآية: 193] و قال تعالى: إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ [سورة المطففين، الآية: 18].

و المراد به في المقام هو كل ما يتقرب به إلى اللّه تعالى من الخير و الفعل المرضي.

و يأتي البر (بالكسر) بمعنى فعل الخير إن أضيف إلى الناس، و إن أضيف إليه تعالى يكون بمعنى الاتساع في الثواب و الإحسان.

و قبل (بكسر القاف و فتح الباء) هو الجهة و الناحية.

و المشرق و المغرب هما جهتا قبلة أهل الكتاب. و يمكن أن يكون على

ص: 285

سبيل المثال لكل جهة و عمل يعتقد كونه برأ، كما يحتمل أن يكون كناية عن طرفي الإفراط و التفريط.

و يجوز رفع (البر) على أن يكون اسم ليس، و يكون خبره جملة (ان تولوا). كما يجوز نصبه على ان يكون خبر ليس و جملة (ان تولوا) الاسم و هذان الوجهان جائزان في كل مورد يقع بعد (ليس) معرفتان فيجعل أيهما الاسم و الخبر إلاّ إذا اقترن أحدهما بالباء فيتمحض في الرفع، قال تعالى: لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى [سورة البقرة، الآية: 189]. و لا يفرق المعنى على الوجهين.

كما يصح ان يكون بمعناه المصدري مبالغة، او يكون بمعنى الفاعل أي البار، أو بالتقدير أي: ليس البر بر من آمن باللّه فحذف المضاف.

و الكل صحيح و لا ترجيح في البين بعد صحة الاستعمالات و بناء المحاورات عليها.

و المعنى: ليس البر بتولي الوجه قبل المشرق و المغرب و كل ما يعتقد كونه برا مما يوجب الدخول في الجنّة بزعمهم، فنفى عزّ و جل البر عن كل ما يعتقده الإنسان برا إلاّ ما تنطبق عليه الآية الشريفة.

و ظاهر الخطاب و إن كان موجها إلى أهل الكتاب بدعوى ظهور لفظ (المشرق و المغرب) اللذين هما قبلة اليهود و النصارى، فيكون توبيخا لهم في افتعالاتهم و ردعا لذلك و لكنه من باب المثال لكل من كان خارجا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ . قرئ (لكن) بالتخفيف و التشديد و هذا هو القسم الأول الذي يتعلق بالاعتقاد و الإيمان بالمبدأ و المعاد، أي: إنّ البر يجب الاهتمام به هو الإيمان باللّه الواحد الأحد حق الإيمان، و ابتدأ به لأنّه أساس كل بر و أصل كل خير و لا يكون كذلك إلاّ إذا كان متمكنا في النفس بحيث يظهر أثره عليها بالتسليم و الإذعان و الخشوع و الاطمينان فلا يهدم ايمانه بالشرك و اتباع الهوى و مخالفة أحكام اللّه، و بهذا

ص: 286

الإيمان يكون الفرد كاملا و يرتفع من حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية.

قوله تعالى: وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ . أي يوم القيامة و الاعتقاد به يعني: الاعتقاد بعالم آخر يحيا فيه الناس للحساب و الجزاء و الايمان به يوجب سعي المؤمن لتحصيل ما ينجي به نفسه و يصرفها عن الحياة الفانية و لا يجعل أكبر همه الدنيا و حق الإيمان باليوم الآخر إنما هو في ما إذا ظهر أثره على الجوارح و الجوانح.

و إنّما أخر سبحانه الإيمان باليوم الاخر عن الإيمان باللّه لأنه لا يتحقق حقيقة الإيمان باللّه إلاّ بالإيمان باليوم الآخر لتلازم المبدأ و المعاد و رجوع كل منهما إلى الآخر.

قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةِ . تقدم في قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [سورة البقرة، الآية: 30] اشتقاق الكلمة؛ و الإيمان بهم لأنهم رسل اللّه تعالى إلى الأنبياء، و الإيمان بوجودهم إيمان بالوحي و سائر ما أنزل على الأنبياء و المرسلين، و الإيمان بهم إيمان بالغيب، لأن الملائكة من عالم الغيب و إنكارهم إنكار الوحي و النبوة و بالأخرة إنكار لليوم الآخر، و قد تقدم في قوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ [سورة البقرة، الآية: 97] بعض ما يتعلق بالمقام، و من ذلك يعرف وجه تقديم الملائكة على الكتب.

قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ . المراد بالكتاب جنس كتب اللّه تعالى، لعدم الاختلاف فيها أبدا بالنسبة إلى المعارف الإلهية و المبدأ و المعاد، و لو كان اختلاف فهو في بعض الأحكام و هذا طبيعي بالنسبة إلى السير التكاملي الحاصل للإنسان، أو القرآن الكريم فإنّ الإيمان به إيمان بجميع الكتب السماوية لذكرها فيه، و لأنه أعظمها و أتمها و أجمعها، و كتاب اللّه في الحقيقة هو قانون إلهي أنزل لتربية الإنسان و تكميله بجميع الكمالات الدنيوية و الأخروية المشتمل على القواعد المتقنة و الأحكام و العلوم التي ينتفع بها الإنسان في جميع نشأته.

و يصح أن يراد بالكتاب في المقام الكتب الأربعة التي أثبتها أهل

ص: 287

العرفان من التدويني، و التكويني، و الآفاقي، و الأنفسي التي يأتي شرحها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون المراد بالكتاب جنس ما فرضه اللّه تعالى على عباده و لو على ألسنة أنبيائه.

و الإيمان بالكتاب هو إيمان بما جاء به الأنبياء و المرسلون و هو يستدعي الامتثال بما جاء فيه و إنّما أتي عزّ و جل هذا اللفظ مفردا للإشارة إلى عدم الفرق بين جميع الكتب الإلهية ما لم يثبت النسخ بالقرآن فإنّ القانون واحد نزل من واحد لغرض واحد كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَلنَّبِيِّينَ . النبي هو معلم البشر من قبل اللّه تعالى يبين القانون الإلهي، و هو يدعو إلى الكتاب و الكتاب يدعو إلى النبي فهما متحدان في الواقع و مختلفان بالاعتبار بل يصح أن يقال: إنّ النبي عقل من الخارج و القوة المدركة للكتاب المميز بين الحق و الباطل أو بين الخير و الشر عقل من الداخل، و كل منهما يدعو إلى الآخر فلا أثر لقول الأنبياء مع عدم العقل، كما لا اثر للعقل مع عدم الاعتقاد بالأنبياء، هذا ما أثبته أكابر الفلاسفة و المتكلمين في مباحث النبوة و تدل عليه نصوص كثيرة ستأتي في موردها.

و الإيمان بالأنبياء هو الاهتداء بهديهم و الاستنان بسنتهم و امتثال أوامرهم و الانتهاء عما نهوا عنه.

و إنّما أتى سبحانه «النبيين» بلفظ الجمع للدلالة على أن المطلوب الإيمان بجميع الأنبياء لا سيما خاتمهم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ الإيمان به إيمان بجميع من سبقه من الأنبياء لأنّه المخبر عنهم و الحاكي قصصهم و الناقل إلينا معاجزهم، و لو لا ذلك ما وجدنا إلى معرفتهم سبيلا و بذلك تنتهي أصول الإعتقاد.

قوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ . من هنا يبتدئ القسم الثاني الذي يتعلق بتهذيب النفس بالأعمال الصالحة.

ص: 288

الإيتاء: يأتي بمعنى الإعطاء، و المال من (م ى ل) بمعنى التوجه و العطف، و سمي المال مالا لأنه يميل من صاحبه إلى غيره و لا يبقى عنده أبدا. أو لميل الطباع اليه، و يسمى عرضا أيضا. و قد ذكرت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و سياق الجميع ليس سياق المدح قال تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سورة سبأ، الآية: 37].

و الضمير في «حبه» يرجع إلى اللّه تعالى المدلول عليه سياق الآية الشريفة. أي: على حب اللّه خالصا لوجهه الكريم. و يصح أن يرجع إلى نفس المال يعني: انه على حبه للمال ينفقه.

و على الأول تستفاد الإضافة إلى اللّه عزّ و جل بالمطابقة، و على الثاني بالالتزام لأن إنفاق المحبوب لا بد أن يكون لغرض أعلى و أجل و هو اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ [سورة الدهر، الآية:

8].

و المعنى: أنّ البر هو إعطاء المال مع حبه له و بذله على الأصناف الآتية طلبا لمرضاة اللّه و خالصا لوجهه الكريم.

قوله تعالى: ذَوِي اَلْقُرْبى . أي: قرابة المعطي كما هو ظاهر اللفظ، و حسن الإنفاق عليهم مما تحكم به فطرة كل ذي شعور لما يمت إليهم بصلة القرابة و النسب و يشدهم الرحم فيألم لهم أشد مما يألم لغيرهم إذا نزل فيهم حاجة أو فاقة و لذا

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا صدقة و ذو رحم كاشح» لأنّ الصدقة على غير ذوي القربى و هم معدمون محتاجون بعيدة عن الفطرة و يحكم بمرجوحيتها العقل و العقلاء.

و يحتمل أن يراد به قرابة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و يكون الإنفاق عليهم أبعد من الدواعي النفسانية و أقرب إلى مرضاة اللّه تعالى، فيكون المراد بالمال المال الذي جعله اللّه تعالى لهم في سورة الأنفال.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى . اليتيم في الإنسان كل صبي انقطع عن أبيه، و في الحيوان ما انقطع عن أمه، كما تستعمل المادة في كل شيء

ص: 289

ينحصر بالفرد في نوعه، يقال: درة يتيمة. و الجامع هو الانقطاع. و تستعمل في القرآن الكريم كثيرا مفردا و جمعا قال تعالى: فَأَمَّا اَلْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ [سورة الضحى، الآية: 9] و قال تعالى: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ [سورة النساء، الآية: 127].

و الإنفاق على اليتيم مع انقطاعه عن من يكفله مما يحكم بحسنه الفطرة، و يحبذه العقل و العقلاء.

قوله تعالى: وَ اَلْمَساكِينَ . المسكين هو الذي أسكنه الفقر و الحاجة و ألزمه الحياء و العفة عن السؤال فيكون أشد فقرا من مطلق الفقير، و لكنه أعم استعمالا منه، إذ يستعمل في غير الفقراء أيضا قال الشاعر:

مساكين أهل الحب حتى قبورهم *** علاها تراب الذل بين المقابر

و في دعاء النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «اللهم أحيني مسكينا و أمتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين» و المراد به الخضوع و ذل العبودية للّه تعالى الذي هو أعلى درجات الغنى. و في مساعدتهم تجيب لهم و انقاذ لنفوسهم المنكرة.

قوله تعالى: وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ . و هو المسافر البعيد المنقطع عن أهله و قرابته حتّى كان السبيل ربّاه و بمنزلة أبيه، و في التعبير من اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اَلسّائِلِينَ . و هم الذين اضطرتهم الحاجة إلى السؤال و التكفف.

قوله تعالى: وَ فِي اَلرِّقابِ . أي: عتقهم أما بالشراء أو بإعانتهم ليؤدوا مال الكتابة فيعتقون بمقتضى القرار الذي وقع بينهم و بين مواليهم. و تشمل المديونين من الناس الذين عليهم الدين و لم يتمكنوا من أدائه المعبر عنهم ب (الغارمين) كما في آية أخرى و هي: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 60] و ذلك لأنّ رقبته مرهونة عند الدائن لأجل

ص: 290

الدين.

قوله تعالى: وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ . إقامة الصّلاة هي أداؤها كاملة بحدودها و المواظبة عليها و الالتزام بإتيانها في أوقاتها. و هي من أعظم مظاهر العبودية و أقوى الروابط الروحانية بين المخلوق و خالقه إذا أقيمت بشرائطها، و هي أول دعوة الأنبياء و آخر وصية الأوصياء و لها الآثار العظيمة في تزكية النفوس و تطهيرها من الرذائل و الفحشاء، و بسببها يكون الشخص خاضعا خاشعا، و بها يصل الإنسان إلى جنة اللقاء و لذا اعتبرها اللّه تعالى من البر الذي يوجب الوصول إلى الكمال. و قد تقدم في قوله تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 153] بعض ما ينفع المقام.

قوله تعالى: وَ آتَى اَلزَّكاةَ . أي أعطى الزكاة المفروضة على وجهها المطلوب شرعا. و الزكاة من أقوى الروابط بين أفراد المجتمع و هي ركن من أركان الإسلام و بها يستكمل المؤمن ايمانه، و هي قرينة الصلاة في القرآن الكريم في عدة مواضع قال تعالى: وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ [سورة التوبة، الآية: 5] و قال تعالى حكاية عن عيسى: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ [سورة مريم، الآية: 31] و قال تعالى: وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ [سورة مريم، الآية: 55] و قال تعالى: وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ [سورة التوبة، الآية: 71].

فان في الصلاة تهذيب الروح و في الزكاة توثيق الصلات و الروابط و الإنسان الكامل هو الجامع بينهما، و لو عمل المسلمون بهاتين الخصلتين لنالوا ذرى المجد و فاقوا الجميع.

قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا . هذا هو القسم الثالث من الخصال التي هي البر في الأخلاق و تهذيب المجتمع و هي الوفاء بالعهد، و الصبر في الأمور. و الوفاء بالعهد مما يجب بفطرة العقول، و هو يشمل العهود الواقعة بين النّاس بعضهم مع بعض، و العهود الإلهية مع الخلق التي هي عبارة عن التكاليف الشرعية و المستقلات العقلية كقبح الظلم و حسن العدل.

ص: 291

و حفظ العهود - و منها العقود - حفظ كيان المجتمع و حفظ الوحدة بين الأفراد و به تتم الثقة بينهم.

قوله تعالى: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ . البأساء أنحاء الفقر و الشدة. و الضراء أنحاء العلل و الأمراض و موت الأحبة. و البأس الحرب

و منه قول علي (عليه السلام): «كنا إذا احمرّ البأس اتقينا برسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلم يكن أحد منا أقرب الى العدو منه» و (حين) أي: حين القتال و مقاتلة العدو. و الجامع بين البؤس و البأس و البأساء هو شدة الكروب بالمراتب المختلفة.

و الصبر محمود في جميع الأمور و في جميع الأحوال، و إنما خص هذه المواطن لما فيها من الفضيلة الكبرى، فان بالصبر في شدة الفقر و تسليم الأمر اليه تعالى يهون على الصابر شدة وطأته و يسلمه عن المخاطر، و كذا في الصبر في الضراء، فان بالصبر عليها يحصل الشكر و الثبات و السلامة في المآل، كما أن الصبر في الحرب و مقارعة العدو نصرة الحق و السلامة من الضلال و الارتداد. و بالصبر في هذه المواطن يوجب توطين النفس في غيرها فقد أمكن الصبر من نفسه فيكون على غيرها أصبر.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا . أي: إنّ الذين جمعت فيهم هذه الخصال هم الذين اتصفوا بالصدق في دعواهم الإيمان فاتصفوا بصدق النية و الأقوال و الأعمال.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ . الذين اتقوا بأنفسهم عن حضيض الحيوانية و متابعة الشيطان و أوصلوها إلى أوج مقام الإنسانية و متابعة الرحمن فاتخذوا لأنفسهم وقاية عن سخطه و خذلانه في الدنيا و الآخرة.

و ترتب الحكمين على جميع ما سبق من ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

ص: 292

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآية المباركة أمور:

الأول: تقدم أنّ في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ فيه من روعة الأسلوب و بلاغته ما لا يخفى، فانه يخرج الكلام من الفرض و التقدير إلى الوقوع، فكأن البر هو الإيمان و ما ذكرت في الآية من الصفات و الأعمال باعتبار تمثلها في الشخص و هذا أبلغ تأثيرا في النفس من اسناد المعنى إلى المعنى، و الغرض من ذلك هو الإشارة إلى تحققها و الإحتجاج بمن تلبس بها، لا مجرد المقابلة بين البر و تولية الوجه و من لم يكن متلبسا به.

الثاني: يستفاد من الآية الشريفة تحقق من عمل بها لكونها في مقام الإحتجاج و لا ريب في أن أكمل فرد و أجلى مصداق من اجتمعت فيه هذه الخصال الأنبياء خصوصا سيدهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتلو تلوه الذي نزله رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) منزلة نفسه

فقال «علي مني بمنزلة هارون من موسى» على ما رواه الفريقان، مع أنا قد اثبتنا في محله انه لا يمكن ان تخلو الأرض من حجة للّه قائمة.

الثالث: أنّ الشرط في قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا إشارة إلى شمول العهد للعهود المتقومة بالإثنين أو العهد القائم بشخص واحد. و فيه من التعريض إلى من يخالف العهد و خروجه عن مقتضى الفطرة ما لا يخفى.

الرابع: أنّ النفي و الإثبات دليل الحصر كما هو الثابت في العلوم الأدبية، و الآية الكريمة تنفي البر مطلقا بنفي أبرز جهاته و أظهر آثاره و هو تولّي الوجه قبل المشرق و المغرب و تثبته في المذكورات فلا بر مطلقا إلاّ في ما تضمنته و هي كمالات فردية، و اجتماعية، دنيوية، و اخروية و هي الصراط المستقيم الذي أمرنا باتباعه و غيرها من السبل التي أمرنا بالابتعاد عنها.

الخامس: إنّما قدم سبحانه و تعالى الإيمان باللّه لأنه رأس كل

ص: 293

بر، و لعدم الفائدة في الجميع إلاّ به، ثم ذكر الإيمان باليوم الآخر للتلازم بين المبدإ و المعاد. ثم ذكر الملائكة، لأنّهم رسل الوحي و وسائل الفيض الربوبي ثم ذكر الكتب، لأنّها الوحي المبين المنزل من اللّه تعالى بواسطة الملائكة على الأنبياء و المرسلين، ثم ذكر إيتاء المال، لأن الإيمان لا بد و ان يظهر آثاره على العمل و من أشد الأعمال هو إعطاء المال و بذله لكثرة علاقة النفوس به،

و لذا قال علي (عليه السلام): «ينام الرجل على الثكل و لا ينام على الحرب» ثم ذكر إقام الصّلاة لأنها أول الفرائض و أرفعها شأنا في تهذيب النفس ثم ذكر إيتاء الزكاة لأن بها يستكمل الإنسان إيمانه فإن الصّلاة يلاحظ فيها الجانب الروحي، و في الزكاة يلاحظ الجانب العلمي المادي. ثم ذكر الوفاء بالعهد، لتقوم الجانب الأخلاقي في جميع التكاليف الإلهية و العهود المراعاة بين الخلق بالوفاء به ثم ذكر الصبر أخيرا لأن في الإخلال بالعهد و نبذه إيماء إلى إعلان الحرب و هو يتقوم بالصبر، أو لأن جميع الأمور المذكورة إنما تتقوم و تتحقق بالصبر، و عدم الظفر بالنتيجة إلاّ به و لذا أخره عن الجميع كتأخر الغاية عن ذيها.

السادس: أنّ الآية الشريفة مشتملة على أصول هي أصول نظام الإنسانية الفردية و الاجتماعية و هي محور جميع الشرايع الإلهية، و أساس الفلسفة العملية، و بها يرتبط الإنسان بعالمي الغيب و الشهادة و هي:

الأصل الأول: الإيمان باللّه و اليوم الآخر، و هو الكمال الذي ليس فوقه أي كمال، و ينطوي فيهما ما أوحي على المرسلين و هما أساس ما استلهمه أهل الفلسفة العلمية و العملية. و لا ريب في أنّ الإيمان كذلك له مراتب متفاوتة.

الأصل الثاني: الإيمان بالملائكة بما انهم وسائط في التدبير و التنظيم و إتقان الصنع فهم وسائط فيض اللّه تعالى؛ فكما أنّ شكر المنعم واجب بحكم العقل كذلك يجب شكر الوسائط، و الشكر لا يتحقق إلاّ بعد المعرفة.

و الملائكة من عالم الغيب الذي هو مقابل عالم الشهادة التي نحن فيها المتضمنة لأنواع الحيوان و النبات و الجماد، و لا يمكن درك أسراره و ان بذل

ص: 294

غاية الجهد.

الأصل الثالث: الإيمان بالكتب و الأنبياء معلمي البشرية و هاديها و لا يخفى أنّ بالتعلم و التعليم يقوم نظام إنسانية الإنسان و إلاّ لبقي على أصل الحيوانية، و ان بهما يتحقق السير الاستكمالي له و انهما وسيلة لإخراج ما هو المكنون في الكون من الأسرار، و لا يتحققان إلاّ بقوانين تنظم شؤون الفرد و المجتمع و ترشده إلى الطريق المستقيم و معلم يهديهم إلى ذلك. و الأول هو الكتاب و الثاني هو النبي، و بدونهما يكون التشريع لغوا و باطلا و هو محال عليه تعالى، و الجميع يرجع إليه تعالى فهو أول من وضع الكتاب و أول واضع لنظام التعليم و التعلم و أول من أرسل المعلم، و الآيات القرآنية تبين ذلك بوضوح.

الأصل الرابع: إيتاء المال و بذله لأن كل مجتمع - بدائيا كان أو حضاريا - فيه طبقات تختلف في الغنى و الفقر، و هذا من مقتضيات نفس العالم إن لوحظت بالنسبة إلى النظام الأحسن، و حينئذ يحكم العقل بحسن بذل المال و عدم احتكاره تقديما لحفظ المجتمع على مالكية الفرد أو سدا لحاجة الفقراء أو دفعا لسطوة الأغنياء، و هذا هو الأصل الذي ارتضاء العقلاء و قررته الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم و لذلك كله حدود و قيود مذكورة في الفقه الإسلامي.

و لا يقال: إنّ بذل المال مجانا يوجب ازدياد الكسل و البطالة، و بالأخرة الفساد الاجتماعي و الأخلاقي و لأجل ذلك أنكرت بعض المذاهب الاقتصادية الصدقات و العطيات و الكفارات.

و فساد ذلك بيّن فإنّ الشرايع الإلهية التي تحبذ على الصدقات و العطيات إنما تجعل حدودا و قيودا في بذلها منها الحاجة الماسة أي: فقر الآخذ، و عجزه عن التكسب اللائق بحاله، كما أنّ اهتمام العقلاء ببذل المال إنما هو لأجل عدم تمركز الثروة في فئة قليلة بل لا بد من توزيعها بالتدريج - بمثل ما هو المقرر في الشريعة - لئلا «يتبيّغ [يتأثر] بالفقير فقره».

الأصل الخامس: إقام الصّلاة بما فيها من الارتباط بعالم الغيب و الاستمداد منه، و فيها تتحقق المخاطبة بين العابد و المعبود و يتجلّى المعبود

ص: 295

في مظاهر عبودية العابد، و ليس المراد من إتيان الصّلاة هو مجرد الذكر اللساني و الأفعال الخاصة الفاقدة لروح العبودية بل المراد إقامتها على وجهها المطلوب شرعا بشرائطها الخاصة لتؤثر آثارها العظيمة، و قد ذكر لها الفقهاء شروطا خاصة مذكورة في كتب الفقه و هي شرائط الصحة. و أما شرائط القبول فقد جمعها سبحانه و تعالى في قوله: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 27].

الأصل السادس: إيتاء الزكاة المفروضة، و هي أقل جزء و أيسر ما فرضه اللّه تعالى على الأغنياء لرفع حاجة المحتاجين، و من تتبع تاريخ الحضارات و يلاحظ تاريخ الإسلام و المقارنة بينهما يرى بوضوح اهمية هذا التكليف في رفع كثير من المشكلات الاقتصادية الناشئة من تكتل الثروات و الفقر و لقد راعى الإسلام في الزكاة المفروضة حق المالك و حق الفقير و لأجل ذلك كان لهذا التكليف أهمية عظمى في تاريخ الإسلام و المسلمين. و قد جعل الشارع لها حدودا و قيودا في الصرف و المصرف مذكورة في كتب الفقه و تعرضنا لها في كتابنا [مهذب الأحكام].

الأصل السابع: الوفاء بالعهد، و الأهمية حفظ العهد في المجتمع الإنساني أكد عليه سبحانه و تعالى في مواضع متعددة في القرآن الكريم و ذلك لأن في نقض العهد انهيار للوحدة المتجانسة بين أفراد المجتمع و حلول الغدر و الخيانة و الفحشاء فيهم بدل الصلح و الوئام و الاحترام.

الأصل الثامن: الصبر و هو الركيزة الأولى في كل عمل يعمله الإنسان في حياته العملية فإن بالصبر يصل الفرد إلى كماله اللائق بحاله أو بالصبر يتصف الفرد بالأخلاق الفاضلة، فتكون نسبته إلى سائر الخصال كنسبة الروح الى الجسد، و نظام الأفعال التكوينية يقوم على التأني و التأمل فضلا عن الأفعال الاختيارية، فهو محبوب في كل موطن و كل حال. و إنّما اقتصر سبحانه على ذكر «البأساء و الضراء و حين البأس» لأهمية هذه المواطن و لأن الصبر فيها يمكن الإنسان على الصبر في غيرها بطريق أولى.

بل يمكن أن يكون المراد من «حين البأس» حين المجاهدة مع النفس

ص: 296

المعبر عنها بالجهاد الأكبر، لتقومه بالصبر و الثبات أكثر مما يتقوم به الجهاد الأصغر.

بحث أدبي:

ذكرنا أنّه يجوز قراءة «ليس البر» بالنصب على أنه خبر مقدم أو بالرفع على أنه اسم، و هذا جار في كل مورد يكون بعد (ليس) المعرفتان.

و قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ إخبار عن المعني بالذات و هو من أحسن أساليب الفصاحة و البلاغة، و هو يرجع إلى تغيير أسلوب الكلام من بيان الصفات إلى بيان الذات المتصفة بها لبيان إجلال تعظيم مثل هذه الذات، و ان المقصود إنما هو الذات المتصفة لا مجرد تعداد الصفات.

فما ذكره بعض المفسرين و غيرهم في المقام من التقدير و حذف المضاف صحيح بحسب القواعد النحوية و لكنه لا يفيد ما ذكرناه من براعة الأسلوب و حسن تأديته. و له نظائر كثيرة في الأساليب العربية الفصحى، قال الحطيئة:

و شر المنايا ميت وسط أهله *** كهلك الفتى قد أسلم الحي حاضره

و أما رفع قوله تعالى: وَ اَلْمُوفُونَ فلأجل العطف على «من آمن»، كما أنّ نصب «و الصابرين» يكون على المدح و الإختصاص.

و يمكن أن يكون الرفع و النصب كلاهما على المدح أي: و هم الموفون و أعني الصابرين، لأن النعوت و الصفات إذا طالت جاز الاعتراض بينهما بالمدح أو الذم، قال الشاعر:

إلى الملك القرم و ابن الهمام *** و ليث الكتيبة في المزدحم

و ذا الرأي حين تغم الأمور بذات الصليل و ذات اللجم

فنصب ليث الكتيبة، و ذا الرأي على المدح. و الأحسن هو الاختلاف في الإعراب في المقام ليكون النصب في «الصابرين» إشارة إلى أنّ في المقام سرا مكنونا، و هو بيان مقام الصبر و أهميته.

ص: 297

بحث فقهي:

تدل الآية المباركة على جملة من الأحكام الفقهية:

الأول: إنّها تدل على رجحان إيتاء المال و بذله في إعانة المحتاجين و الهدايا و صرفه في الخير و هو محبوب عقلا أيضا، إلاّ أنه قد يكون واجبا كالزكاة، و الكفارات، و النذور، و أداء الديون.

و قد يكون مندوبا و هو في ما إذا كان يراعى فيه الوظيفة الشرعية و لم يصل إلى الصرف المحرم و له مصاديق كثيرة مذكورة في كتب فقه الفريقين. و الظاهر أن قوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ناظر إلى القسم الثاني لذكر الزكاة بعد ذلك، و يمكن أن تكون الزكاة مثالا لجميع الحقوق الواجبة المالية.

الثاني: القيد في قوله تعالى: عَلى حُبِّهِ قيد توضيحي إن رجع إلى حب المال لأنه أمر غريزي مركوز في الإنسان أو أنه يرجع إلى حفظ النفس من الهلاك و هو أمر فطري أيضا. و ان رجع إلى اللّه تعالى يصح أن يكون احترازيا، لأن النّاس يختلفون في ذلك إلاّ أن يقال إنّ الآية وردت في وصف الأبرار، و صرفهم للمال لا يكون إلاّ للّه تعالى، قال عزّ و جل: وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً [سورة الدهر، الآية: 9].

الثالث: لا يعتبر الفقر في ما ذكر من الأصناف سوى المسكين لعدم كون دفع المال من باب الصدقة الواجبة بل أعم منها. نعم لو كان بعنوان الصدقة الواجبة يعتبر الفقر في موردها.

الرابع: ذكر تعالى السائلين، و السؤال إن كان لأجل الاضطرار و حفظ النفس يجوز، بل قد يجب و إن كان لغير ذلك يكره، بل قد يحرم.

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من فتح على نفسه باب مسألة فتح اللّه عليه باب فقر»؛

و عن الصادق (عليه السلام): «ثلاثة لا ينظر اللّه إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب اليم - إلى ان قال - و الذي يسأل الناس و في يده ظهر غنى»،

و عن أبي جعفر (عليه السلام): «لو يعلم السائل ما في المسألة ما

ص: 298

سأل أحد أحدا، و لو يعلم المعطي ما في العطية ما رد أحد أحدا، و من سأل و هو بظهر غنى لقي اللّه مخموشا وجهه يوم القيامة».

و يكره رد السائل مطلقا،

فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «للسائل حق و ان جاء على ظهر فرسه».

الخامس: يستفاد من الآية الكريمة انه يجوز صرف الزكاة في جميع الموارد التي ورد فيها مع تحقق الشرائط المذكورة في الفقه.

السادس: الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى: ذَوِي اَلْقُرْبى قرابة المعطي، و لكن يحتمل ان يكون قرابة للرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كما في قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ [سورة الأنفال، الآية: 41].

بحث روائي:

في تفسير القمي في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ قال (عليه السلام): «هي شروط الإيمان الذي هو التصديق».

أقول: الظاهر أنّ مراده (عليه السلام) بالإيمان الإيمان الكامل الذي يدخل به المؤمن في زمرة الأبرار و الصديقين.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

أقول: و لا ريب في ذلك لأن الآية الشريفة، كما مر جامعة للاعتقادات و الأعمال الجوارحية و لا معنى لكمال الإيمان إلاّ جامعية المؤمن للمعتقدات الصحيحة و الأعمال الصالحة. و يستفاد من الآيات الواردة في مدح الأبرار، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ اَلرَّحْمنُ وُدًّا [سورة

ص: 299

مريم، الآية: 96] و قال تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءِ اَلزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ اَلْقُلُوبُ وَ اَلْأَبْصارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة النور، الآية: 38].

و لكن الآية الشريفة هي أجمع الآيات التي ذكر فيها درجات الأبرار و منازلهم في الآخرة. و تبين الملازمة بين كون الإنسان برا في هذه الدنيا - بالمعنى المذكور فيها - و كونه من الأبرار في الآخرة فتكون حقيقته في جميع النشآت واحدة و ان السبق إلى البر في هذا العالم ملازم لكونه من السابقين في الآخرة، قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 10].

و في الدر المنثور عن أبي عامر الأشعري: «قلت يا رسول اللّه ما تمام البر؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): أن تعمل في السر ما تعمل في العلانية».

أقول: في سياق ذلك روايات متواترة من الفريقين، و يدل عليه حكم العقل، لأن المخالفة بين السر و العلانية نفاق، و يشهد لقوله (صلّى اللّه عليه و آله) ذيل الآية الشريفة: أُولئِكَ هُمُ اَلصِّدِّيقُونَ إذ لا معنى للصديق إلاّ من طابق قوله فعله و سره علانيته.

في مجمع البيان عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام): ذوي القربى قرابة النبي (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: يمكن أن يكون ذلك من باب أشرف المصاديق كما تقدم ما يدل على ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «الفقير الذي لا يسأل النّاس و المسكين أجهد منه و البائس أجهدهم».

أقول: ذكرنا ذلك في الفقه مفصلا، من شاء فليراجع كتاب الزكاة من كتابنا [مهذب الأحكام].

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «سئل عن مكاتب عجز عن

ص: 300

مكاتبته و قد أدى بعضها. قال (عليه السلام): «يؤدى عنه من مال الصدقة فإنّ اللّه عزّ و جل يقول: و في الرقاب».

أقول: سيأتي بيان ذلك في آية الزكاة: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 60].

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام): «ابن السبيل المنقطع به».

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ قال (عليه السلام): «في الجوع، و العطش، و الخوف، و قوله تعالى: حِينَ اَلْبَأْسِ ، قال (عليه السلام) عند القتال».

أقول: كل ذلك من باب التطبيق.

في الدر المنثور: «أن رجلا سأل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن البر فأنزل اللّه تعالى هذه الآية فدعا الرجل فتلاها عليه، و قد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلاّ اللّه و ان محمدا عبده و رسوله ثم مات على ذلك، وجبت له الجنّة فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: يدل الحديث على أن التوحيد الحقيقي لا يحصل إلاّ بذلك لأن الآية الشريفة حينئذ بمنزلة الشرح لكلمة التوحيد، كما يدل عليه ما استفاض من طرقنا

عن مولانا الرضا (عليه السلام): «قال اللّه تعالى كلمة لا إله إلاّ اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي، قال بشرطها و شروطها و أنا من شروطها».

بحث قرآني:

تدعو الآية الشريفة إلى الإيمان باللّه و اليوم الآخر و الملائكة و الكتب و الرسل، و إتيان الأعمال الصالحة، و تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة و قد وصف سبحانه العامل بما تضمنته هذه الآية الشريفة بأنه من الصديقين، و أنه من المتقين، و قد أعد لهم من الدرجات المعنوية و المنازل العالية كما بينها في

ص: 301

آيات أخرى، و هي تشرح حقيقة الإنسان من حيث نظر القرآن الكريم، و كل واحد من هذه الأمور له آثار خاصة تؤثر في النفس و تظهر في العمل و حياة الفرد في الدنيا و العقبى بما يجلب له السعادة في الدارين. و نشير هنا إلى بعض ما هو المقصود في القرآن الكريم من الإعتقاد المطلوب شرعا.

و قد أمر سبحانه الإنسان بالإيمان باللّه و اليوم الآخر في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و المراد به الإيمان الذي يترتب عليه الآثار التي ذكرها في هذه الآية، و آيات أخرى في سياقها التي تكون كاشفة عنه في مقام الإثبات على نحو كشف المعلول عن العلة، و هي:

الأول: إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى العمل الصالح، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنّاتُ اَلْفِرْدَوْسِ نُزُلاً [سورة الكهف، الآية: 118]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الأعراف، الآية: 42] إلى غير ذلك من الآيات التي يقترن الإيمان و العمل الصالح فيها، فان ذلك من الجمع بين المتلازمين.

الثاني: إنّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث على اتباع الرسول و ما جاء به الأنبياء، قال تعالى: وَ ما جَعَلْنَا اَلْقِبْلَةَ اَلَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [سورة البقرة، الآية: 143]، و قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 31].

الثالث: انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه و الراحة في النفس و الاطمينان في القلب، قال تعالى: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الفتح، الآية: 26] و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28] و قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام، الآية:

ص: 302

الثالث: انّ الإيمان المطلوب هو الذي يبعث السكينة لصاحبه و الراحة في النفس و الاطمينان في القلب، قال تعالى: فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ اَلتَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الفتح، الآية: 26] و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اَللّهِ أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28] و قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي اَلسَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اَللّهُ اَلرِّجْسَ عَلَى اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام، الآية:

125].

الرابع: إنّ الإيمان المطلوب هو ما كان باعثا على حب اللّه و رسوله بحيث يكونان أحب إليه من غيرهما، قال تعالى: قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اِقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْفاسِقِينَ [سورة التوبة، الآية: 24].

الخامس: انّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه على الصبر في الحوادث و المصائب، لأنّ صاحبه يعلم بأنّ المصيبة إنّما هي في الدين و أنّها أشد من المصائب في النفس و المال، و قال تعالى: اَلَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [سورة البقرة، الآية: 156].

السادس: إنّ الإيمان يدعو صاحبه إلى اجتناب المحارم و إنّه إذا عرضت له المعاصي و الآثام أعرض عنها، و لو صدرت منه معصية لغفلة أو جهل أو نسيان يبادر إلى التوبة و الانابة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 153].

السابع: إنّ الإيمان المطلوب ما كان يدعو إلى التسليم و الرضا بالقضاء و القدر، قال تعالى: وَ بَشِّرِ اَلْمُخْبِتِينَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ اَلصّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [سورة الحج، الآية: 35]، و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 142].

الثامن: إنّ الإيمان الصحيح يدعو صاحبه إلى مراقبة النفس و تزكيتها بأنواع البر و الاجتهاد في طلب مرضات اللّه تعالى و تهذيب النفس بالأخلاق الفاضلة.

التاسع: إنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب و جميع ما أنزل اللّه تعالى قال عزّ و جل: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 3].

ص: 303

التاسع: إنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر ما كان يدعو إلى الإيمان بالغيب و جميع ما أنزل اللّه تعالى قال عزّ و جل: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ وَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 3].

العاشر: إنّ الإيمان الصحيح هو ما يجلب لصاحبه سعادة الدارين و ما أعده اللّه تعالى للمؤمنين من المنازل و الدرجات و هي مذكورة في آيات كثيرة.

و أجمع آية تشتمل على كثير مما ذكرناه في الإيمان المطلوب هي الآية التي سبق تفسيرها، فإنها تبين المراد من الإيمان، و أنّه الداعي لإتيان الأعمال الصالحات، و الباعث لتهذيب النفس و تزيينها بالأخلاق الفاضلة الموجب كل ذلك لكون المتصف بها من الصديقين و المتقين، فللإيمان كمال و نقص، و الكامل منه ما ذكرناه.

بحث أخلاقي:
اشارة

الآية الشريفة التي تقدم تفسيرها هي من أجمع الآيات القرآنية لصنوف البر و الأخلاق الفاضلة، و هي بانضمام آيات أخرى من القرآن الكريم تبين مفهوم الأخلاق في الإسلام، فان له نظرا خاصا فيه يخالف سائر المذاهب الأخلاقية، و لكنه في ذاته يعتبر امتدادا لسائر الاتجاهات الأخلاقية الصحيحة.

و بتعبير آخر: إنّه يكون تركيبا لتراكيب، فهو يشتمل على روح التوفيق لشتى النزعات في المذاهب الأخلاقية الأخرى، فهو واقعي و مثالي، و محافظ، و تقدمي، و تطوري، و عقلي، و صوفي، و متحرر، و نظامي، كما انه يلبّي جميع المطالب الفردية و الاجتماعية، الشرعية و الأخلاقية. و لا يمكن الإلمام بجوانب هذا المفهوم القرآني للأخلاق إلاّ بعد معرفة النظريات الأخرى و لو على سبيل الإيجاز ثم الحكم بأفضليته و أكمليته من الجميع.

المذاهب الأخلاقية:

يختلف العلماء و الباحثون في علم الأخلاق النظري في تقسيم المذاهب الأخلاقية المتعددة بين مفصل لها بتعداد سائر الاتجاهات، و بين مجمل لها بذكر أصولها، و السبب في ذلك أن طائفة منهم ربطت المذاهب الأخلاقية بالمذاهب الفلسفية في المعرفة الإنسانية من الواقعية و المثالية،

ص: 304

و العقلية، و الحدسية، و التجريبية، و المادية، و التشكيكية و غير ذلك. و هذا المسلك و إن أمكن تطبيقه على بعض المذاهب الأخلاقية، فإنه يكون امتدادا لتلك المسألة إلاّ أنه لا يمكن تطبيقه على البعض الآخر مثل الأخلاق المسيحية فإن لها خصائص ما يخالف تلك الاتجاهات.

و طائفة أخرى أرجعت الاختلاف بعينه إلى الاختلاف في الغاية، و انها هي المنفعة، سواء كانت فردية أو اجتماعية و ابتغاء اللذة و السرور و دفع الآلام و الشرور. و هذا المنهج كسابقه فان كثيرا من المذاهب يخرج عن هذا التقسيم.

و طائفة ثالثة ذهبت إلى أنّ المناط هو الوجدان و الزهد و التقشف؛ كما يراه الاتجاه الصوفي.

و الحق أنّ شيئا مما ذكر لا يصلح لأن يكون المناط في تقسيم المذاهب الأخلاقية، بل إنّ جميعها تتفق على أنّ الكمال و السعادة هما الغاية القصوى و المقصد الأسنى للإنسان، و إنّما الاختلاف في ما يصدق عليه الكمال و السعادة فالاختلاف في المصداق فقط، و على هذا الأساس يمكن تقسيم المذاهب الأخلاقية إلى ثلاثة:

الاتجاه العقلي:

الاتجاه الذي يعتبر العقل هو الذي يحدد الغاية في حياتنا، و أنه الباعث الذي يحفزنا إلى ابتغاء الحياة السعيدة و الغزوف عن اللذات و أنّه الداعي إلى الطاعة لأوامر الشرع أو العقل، و أصحاب هذا الاتجاه يعترفون بأصول مسلّمة لا يمكن العدول عنها كحسن العدل، و قبح الظلم و أمثال ذلك، فلا بد للإنسان - الذي يتميز عن سائر الكائنات بطبيعته العاقلة - ان يتصرف وفق القوانين المجعولة من قبل العقل أو الشرع، و في ذلك ابتغاء السعادة. و يشمل هذا الاتجاه من المذاهب الأخلاقية المذهب الحدسي، و الواقعي، و المثالي، و بعض المذاهب اليونانية القديمة أمثال الرواقيين و الأفلاطونيين و غيرهم.

الاتجاه المادي:

و هذا الاتجاه يرفض كل القيم الإنسانية المسبقة التي تحدد للإنسان

ص: 305

سلوكه و التي لها التأثير في تشكيل حياته، بل يعتبر عامل المادة له الأثر الكبير في سلوك الإنسان، و زاد بعضهم أن الأفكار و المشاعر و الرغبات و القيم الخلقية و الجمالية هي وليدة النظام الاقتصادي و ما يستلزمه من العلاقات بين الأفراد بعضهم مع بعض، و ان المنفعة سواء في شكلها الحسي أو العقلي هي وحدها الخير الأقصى و المرغوب لذاته، و انها السعادة، و الضرر و الألم وحده هو الشر الأقصى، فالأفعال الإنسانية لا تكون خيرا إلاّ إذا حققت النفع مطلقا و إذا جلبت ضررا أو عاقت عن وصول النفع كانت شرا.

و بالجملة: إنّ في هذا الاتجاه على اختلاف مذاهبه يتوجه النظر على نتائج الأفعال و آثارها، بلا فرق بين أن تكون المنفعة فردية حسية عاجلة، كما في مذهب القورنائيين أو حسية و عقلية و روحية كما في مذهب الابيقوريين، و جميعهم أصحاب اللذة الفردية الانانية. نعم، تحول بعض المذاهب إلى منفعة المجموع و القول بالصالح العام و لكنه لا تخرجها عن ابتغاء اللذة و المنفعة، و لذا دعوا جميعا ب (الانانيين) حتّى في تصورهم للصالح العام، و تشترك جميع هذه المذاهب في تقييد حرمة الفرد، و القول بالجبر الأخلاقي و الفوضى في الأخلاق.

و من ذلك يعرف أنّه لا علاقة بين الفكر الفلسفي و المذهب الخلقي في هذا الاتجاه.

الاتجاه الصوفي:

و في هذا الاتجاه يتنكر الإنسان للمادة في جميع مظاهرها، و أنّ العزوف عن ملاذ الدنيا هو المناط في الأخلاق الفاضلة، و يرى أصحابه أنّ السعادة هي الابتعاد عما يشغل بال الإنسان عن التفكر، و الكمال هو الوصول إلى مرحلة يصل بها إلى درك الحقائق، و في هذا الاتجاه تعتبر المحبة أصلا لكل خير.

هذه هي الاتجاهات الأساسية للمذاهب الأخلاقية المختلفة المتعددة و هي جميعها قد أخفقت في حلّ المشكلات الخلقية للإنسان سواء الفردية أو الاجتماعية، و لم يصل الفرد بها إلى ما يصبو من السعادة و الكمال بل لم تجلب للإنسان إلاّ الشقاوة، و الوقوع في صراعات فكرية لا يجتنى منها فائدة تذكر.

ص: 306

المفهوم الأخلاقي في القرآن:

إنّ الطابع العام الأخلاقي الذي يستمد من القرآن الكريم يختلف كثيرا عما ذكرناه في المذاهب الأخلاقية المختلفة، سواء من الناحيتين النظرية و العملية فهو يحل جميع المشكلات الخلقية و يضع كل شيء في موضعه المعين، و يربط بين الفضل و الفضيلة، فطالما يكون المرء فاضلا و لا يعرف الفضيلة، و لذا ترى أنّ المفهوم الأخلاقي في القرآن الكريم لا يقتصر على الحاجة العقلية فقط؛ بل إنّ الجانب النظري و العملي كل واحد منهما مكمل للآخر و تكون لهما وحدة خاصة تشبع الحاسة الأخلاقية التي أودعها اللّه تعالى في الإنسان.

كما أنّ المفهوم الأخلاقي فيه يمتاز عن غيره في انه يشتمل على روح التوفيق بين سائر النزعات الأخلاقية، و يلبي جميع المطالب للإنسان، فهو ينظر إلى الفرد كما ينظر إلى المجتمع، و يعطي لكل واحد منهما حقه، و لهذه النزعة الأخلاقية خصائص يمكن تلخيصها في ما يلي:

خصائص الأخلاق في القرآن:

الأولى: إنّ في الإنسان انبعاثا داخليا فطريا إلى الأخلاق يساير جميع مراحله يمكن التعبير عنه به (الحاسة الأخلاقية) التي يميز بها بين الخير و الشر، كما يميز بالحاسة الجمالية المودعة فيه بين الجميل و القبيح، قال تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية:

8]. و من هذه الحاسة الخلقية نستطيع أن نؤسس القواعد الخلقية و القانون الأخلاقي العام.

و لكن قد يلقى هذا النور الباطني الفطري موانع توجب طمسه، و هي كثيرة مثل العادات، و الوراثة، و البيئة، و شواغل الحياة المادية بل إنّ نفس القواعد الخلقية الفطرية لم تكن كافية في إرضاء الجميع بحيث تكون قاعدة عامة تجلب رضاء الكل، و لهذا كان لا بد من بعث الأنبياء ذوي النفوس المصطفاة الملهمة بالوحي ليثيروا للنّاس دفائن العقول، و يزيلوا الغشاوة عن النور الفطري و يكملوا ما كانوا يحتاجون اليه في إكمالهم، فكان نور الوحي

ص: 307

الإلهي مكملا لنور الفطرة التي أودعها اللّه في الإنسان فكان «نور على نور».

الثانية: إنّ القواعد الخلقية هي تلك القواعد التي تخاطب الضمير الإنساني، و يرغب إليها الإنسان لأجل الحقيقة ذاتها و أهميتها الخلقية فهي لم تكن غريبة عليه، فكانت لها صفة الإلزام، قال تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ [سورة القيامة، الآية: 15]. و يظهر ذلك بوضوح في تلك الآيات القرآنية التي ترجع الإنسان إلى عواطفه، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، و قال تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ [سورة الحجرات، الآية: 12].

الثالثة: إنّ القرآن الكريم يقرر أنّ الإنسان مسئول عن عمله، فقد أظهر فكرة المسؤولية الأخلاقية الفردية و الاجتماعية بالمعنى الكامل قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، و قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الإسراء، الآية: 15]، فكل شخص مسئول بالشروط المقررة عن أفعاله الخاصة الشعورية و الإرادية، كما انه فرد من مجتمع يحمل جانبا من المسؤولية الاجتماعية.

الرابعة: إنّ الإنسان حرّ في اختيار أفعاله الإرادية، و لا شيء - سواء كان داخليا أو خارجيا - يستطيع إرغامه و سلب حريته، قال تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 284]، و قال تعالى: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 54] بل يعتبر القرآن أنّ أساس المسؤولية هي الحرية، و قد مضى في ضمن الآيات القرآنية البحث عن ذلك مفصلا و قد تنبّه إلى ذلك الفيلسوف الغربي [كانت] بقوله «يستحيل علينا ان نتصور عقلا في أكمل حالات شعوره، يتلقى بشأن احكامه توجيها من الخارج... فارادة الكائن العاقل لا تكون إرادته التي تخصه بالمعنى الحقيقي الا تحت فكرة الحرية».

الخامسة: الجزاء الأخلاقي وفقا لقانون أن كل مسئولية لا بد لها من

ص: 308

جزاء. و قد بين القرآن الكريم أنّ كل عمل له جزاء خاص يلائمه و قد تقدم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

السادسة: النية و أنّ كل عمل لا بد له من نية و إعطاء الأهمية للنية و البواعث الكامنة في النفس وراء العمل، و يعتبر أن قيمة كل عمل تدور مدار شدة التنزه، و أن الهدف من كل عمل هو ابتغاء وجه اللّه تعالى.

السابعة: أنّ كل عمل لا بد أن يقرن بالاعتقاد، كما هو ظاهر الآيات الشريفة التي يقرن فيها بين الإيمان و العمل الصالح، قال تعالى: لِيَجْزِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة سبأ، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي اَلصّالِحِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 9].

الإنسان كائن أخلاقي:

يتميز الإنسان عن سائر الكائنات الحية في أنه مزيج قوى متخالفة متصارعة، فهو مركب من عقل، و قلب و إرادة أي: له حياة عقلية، و انفعالية، و فاعلة. و لكل واحدة من هذه الثلاث آثارها و وظائفها التي من امتزاجها في هذا الكائن الخاص يكون إنسانا و هذا مما لا ريب فيه، و قد دلت عليه التجارب و أثبتته البراهين العلمية.

و بتعبير آخر: و هو المتبع في علم الأخلاق - إنّ الإنسان مركب من قوى ثلاث: هي القوة الشهوية التي هي مصدر الرغائب من محبة المال و النساء و غيرهما من الشهوات الحيوانية، و الأفعال المنسوبة إلى هذه القوة هي الأفعال التي تجلب المنفعة؛ كالأكل و الشرب و نحو ذلك.

و القوة الغضبية، و هي مصدر العواطف كالشجاعة، و الغضب، و الأفعال المنسوبة إليها هي الأفعال التي تدرأ المضار كالدفاع عن النفس و المال و العرض و غير ذلك.

و القوة العاقلة، و هي التي تدبر البدن و تسوسه، و الأعمال الفكرية كلها منسوبة إلى هذه القوة.

ص: 309

و لكل واحدة من هذه القوى الثلاث آثارها و خصائصها، و هي متباينة في صفاتها و ذواتها، و لكن من اجتماعها ينشأ الإنسان المفكر الدراك، و باتحادها تنشأ وحدة تركيبية تصدر منها أفعال خاصة، و بها يبلغ الإنسان إلى سعادته التي خلق لأجلها، و وظيفته هي أن يحافظ على هذه الوحدة التركيبية، و ان لا تخرج قوة من هذه القوى الثلاث عن حد الاعتدال إلى حدي الإفراط أو التفريط، و إنّ بذلك يصل إلى الغاية المرجوة من خلقه و هي السعادة الفردية و النوعية في الدنيا و الآخرة و لأجل ذلك كان الإنسان أخلاقيا دون سائر الكائنات الحية.

و علم الأخلاق يبحث عن كيفية المحافظة على الحد الوسط التي هي الفضيلة و الاجتناب عن طرفي الإفراط و التفريط اللذين هما الرذائل، لتصدر منه أفعال يصل بها إلى السعادة المرجوة.

الاعتدال في الأخلاق:

ذكرنا أنّ وظيفة الإنسان - ككائن أخلاقي - هي المحافظة على حد الاعتدال لكل واحدة من القوى الثلاث المتقدمة. و المراد بحد الاعتدال - هو الوسط الأخلاقي - أي استعمال كل قوة على ما ينبغي ليجلب بها السعادة.

و قد جعل العلماء حد الاعتدال في القوة الشهوية هي العفة، و الجانبين - الإفراط و التفريط - الشره، و الخمول. و في القوة الغضبية الشجاعة و الجانبين التهور، و الجبن. و في القوة الفكرية الحكمة و الجانبين الجربزة، و البلادة.

ثم قالوا إنّ في اجتماع تلك الملكات في النفس تحصل ملكة رابعة و هي العدالة و المراد بها هي وضع كل شيء موضعه الذي ينبغي له، و بها يمكن الإنسان ان يحافظ على حد الاعتدال في القوى الثلاث، فيخرج عن الظلم و الانظلام.

و هذه الأربعة هي أصول الأخلاق الفاضلة تكون نسبتها إليها كنسبة الجنس إلى النوع، و هي كثيرة - كالجود و السخاء و القناعة و الشكر و الصبر و نحو ذلك كما هو مفصّل في كتب الأخلاق.

ص: 310

و هذا هو التقسيم الشايع بين علماء الأخلاق منذ عصر أرسطو، و هو لا يخلو عن المناقشة، و لكن الأمر سهل بعد أن كان ذلك لأجل تصنيف الفضائل و الرذائل و التمييز بينها.

إلاّ أنّ للقرآن نظرية خاصة في الوسط تغاير النظريات الأخرى فقد اعتمد القرآن على التقوى التي ورد ذكرها فيه أكثر من مأتين و خمسين مرة، قال تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 8] و اعتبرها محور الكمالات الإنسانية و معيار الفضائل، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [سورة البقرة، الآية: 189]، و قال تعالى: وَ أَنْجَيْنَا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [سورة النمل، الآية: 53]، و قال تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 27]، و قال تعالى: اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 102]، و قال تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 7]، و قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 123].

و المراد من التقوى في نظر القرآن: هي الجهد المحمود - الحاصل من الفرد - المتواصل في خدمة التكليف في جميع نشاطاته و علاقاته مع نفسه، و مع ربه، و الناس أجمعين، و هذا هو المراد مما

ورد في النصوص الكثيرة بأنها «إتيان الواجبات و ترك المحرمات».

و تظهر أهمية هذا الملاك عن نظرية «الوسط العادل» أي: تجنب الإفراط و التفريط في أنّه يربط بين العمل و النية، فلا يمكن التفكيك بينهما، فيعتبر العمل بلا نية لا قيمة له، كما أنّ النية الخالية عن أي عمل لا ثمرة لها، كما يظهر ذلك بوضوح من الآيات التي تقارن بين التقوى و العمل الصالح، كما تقدم. قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ [سورة الشعراء، الآية: 110].

كما أنّ بالتقوى يصير الإنسان بارا و يصبح من الصديقين، و إنّ بها يتهيّأ لقبول الملكات الفاضلة و يحدد سلوكه الأخلاقي، و بها يصير الإنسان عادلا

ص: 311

موفقا بين رغباته و أحاسيسه و عواطفه، فهي المقياس الحسي للفضائل يسهل معرفته لكل أحد و يسلم عن الخطأ و الالتباس من دون أن يقع في متاهات النظرية الوسطية القديمة؛ و هي العلة الغائية في السلوك الأخلاقي و العلة الفاعلية لاكتساب الفضائل و إزالة الرذائل. و أخيرا هي القاعدة العامة التي يمكن التوفيق بها بين سائر التكاليف و يجلب بها الكمال، و الدين الذي أمرنا باتباعه. و بها صارت هذه الأمة وسطا في جميع الشؤون. نعم لها مراتب، كما تقدم سابقا، و يأتي بيانها مفصلا.

طرق اكتساب الأخلاق الفاضلة:

ذكرنا أنّ الأساس الذي يبتني عليه الأخلاق في القرآن هو التقوى فإنّها الطريق إلى التخلق بالأخلاق الفاضلة و اكتساب الفضائل و إزالة الرذائل، و تقدم أنّ التقوى هي الجهد التواصل من الفرد، فلا تتحقق إلاّ بالتواصل و العمل الدؤوب و تكرار الأعمال الصالحة لتتمكن الأخلاق الفاضلة في النفس و يتعذر إزالتها. و في التقوى يرتبط العمل بالنية فكل ما كانت النية خالصة للّه تعالى خالية عن الأغراض الدنيوية ازدادت قيمة العمل و قرب إلى القبول و صلح للجزاء الأوفى.

بل يعتبر القرآن أنّ الغايات المرجوة من الأعمال سواء كانت لجلب النفع، أو لدفع الضرر هي نقص في مقابل الكمال المطلق، قال تعالى: إِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة يونس، الآية: 65]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تحصر الكمال فيه عزّ و جل. و لهذا الأمر أثر كبير في النفس حيث يجعل العمل خالصا لوجه اللّه منزها عن كل غاية من غير اللّه تعالى، و أنّ الغاية هي اللّه تعالى و التخلق بأخلاقه، و هذا مسلك جديد لم يكن معروفا من قبل نزول القرآن و يختلف عن سائر المسالك المتّبعة في تهذيب النفس بوجهين:

الأول: أنّ في هذا المسلك يعد الإنسان إعدادا علميا و عمليا لقبول الأخلاق الفاضلة و المعارف الإلهية بحيث لا يبقى مجال للرذائل، و فيه تختلف

ص: 312

الفضائل عن غيره من المسالك.

الثاني: أنّ في هذا المسلك يكون الفعل صادرا عن العبودية المحضة و الحب العبودي، فيكون الغرض هو وجه اللّه تعالى فقط، فهو مبني على التوحيد الخالص بخلاف غيره.

و هنالك مسالك أخرى في تهذيب الأخلاق:

أحدها: هو تهذيب النفس بالآراء المحمودة و العقائد العامة الاجتماعية في الحسن و القبح و الغايات الصالحة الدنيوية، و هذا هو المعروف في علم الأخلاق، فهذا المسلك يدعو إلى الخلق الاجتماعي، و الغاية هي حياة سعيدة دنيوية يحمدها كل الناس؛ و لم يرد في القرآن الكريم ما يدل على حسن هذا المسلك. نعم في بعض الموارد إشارة إلى بعض الأمور الاجتماعية، قال تعالى: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ [سورة البقرة، الآية: 150]، حيث علل الحكم بأن لا يكون للناس عليكم حجة، و قال تعالى: وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 46]، حيث علل ترك الصبر أو الاتحاد بالفشل و ذهاب الريح. و لكن ذلك كله يرجع إلى الثواب و العقاب الاخرويين.

ثانيها: تهذيب النفس بما جاء به الأنبياء (عليهم السلام) و الكتب السماوية من العقائد و التكاليف الدينية و الآراء المحمودة بالغايات الأخروية، و قد ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة تدل على ذلك قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: اِتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اَللّهُ [سورة لقمان، الآية: 21]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [سورة الكهف، الآية: 30]، و قال تعالى: إِنَّما يُوَفَّى اَلصّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ [سورة الزمر، الآية: 10]. و غير ذلك من الآيات الشريفة التي ذكر فيها الأجر الأخروي بألسنة مختلفة.

ص: 313

و من مبادئ هذا المسلك هو إعداد الإنسان علميا بأنّ كل ما يصدر منه من الأفعال، و ما يقع من الأمور كلها صادرة عن قانون القضاء و القدر الإلهي؛ قال تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 11].

و إنّه لا بد من التخلق بأخلاق اللّه تعالى و التذكر بأسمائه الحسنى حتّى يمكن تهذيب النفس بالغايات الأخروية المتكفلة لسعادة الدارين، فإنّ الكمال الحقيقي و السعادة الواقعية هي الحياة السعيدة في الآخرة و تلازمها سعادة هذه الدنيا أيضا.

و هذا المسلك هو الغالب في الديانات الإلهية، و قد دعا اليه الأنبياء و المرسلون، و هو متين يغاير المسلك الأول في الغاية و السبب.

ثالثها: التغير في الأخلاق و التبدل في الفضائل، و القول بالتطور و التكامل في الأخلاق فلا يمكن أن يكون للحسن و القبح أصول مسلمة مطلقا، و المناط كله هو ابتغاء المنفعة و دفع المضرة سواء أ كانتا فرديتين او اجتماعيتين، و هذا مذهب قديم في الأخلاق دعا اليه بعض الماديين كما أشرنا اليه سابقا، و هو مذهب فاسد، و سيأتي في الموضع المناسب ذكر حججهم و دحضها.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ ع.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) ما ورد في الآيتين من التشريعات الكلية النافعة في النظام الفردي و الاجتماعي للإنسان، و قد لوحظ فيهما بقاء النوع و تهذيبهم بالأخلاق الفاضلة و نبذ الانتقام و العدوان، و قد اعتبر في القصاص المساواة بين القاتل و من يراد الاقتصاص له. و فيهما إشارة إلى بعض العادات السيئة التي كانت متبعة قبل هذا التشريع، و لذلك كله لا تخلو من الارتباط بالآيات السابقة.

ص: 314

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا . تقدم الكلام في مثل هذا لخطاب في آيتي 104 و 153. و كتابة هذا التشريع على المؤمنين لأجل الشرف لا يدل على نفيه عن غيرهم.

قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى . الأصل في مادة (كتب) هو الجمع و التثبت في جميع موارد استعمالاتها، سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى علم اللّه تعالى، أو اللوح المحفوظ أو الكتب النازلة من السماء. أو الإيجاب على العباد - تكليفا أو وضعا - أو التحقق العيني الخارجي، فالكل كتاب، و الجميع يدل على الثبوت و الدوام، و التحفظ. و المراد به في المقام هو الفرض و الإيجاب.

و مادة (ق ص ص) تأتي بمعنى تتبع الأثر، و حيث إنّ وليّ المقتول، يتبع أثر القاتل ليأخذ منه جريمة ما فعله، و كذا المجروح يتبع أثر الجارح كذلك، يقال له القصاص.

و منه القصة و القصّاص، لأنه فيها تتبع أثر ما وقع في الخارج كما أن منه القاص لأنه يتبع الآثار و الأخبار.

و المراد بالقصاص شرعا هو أخذ الجاني بمثل جنايته إن أراد وليّ المقتول ذلك، و هو مطلق لا بد من تقييده بما إذا كانت الجناية عمدية، لخروج الجناية الخطأية عن تحت هذه الآية بقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].

و الآية تبين أصل تشريع القصاص؛ و قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ يبين حكمة هذا التشريع.

و في الآية إشعار بأنّه لا بد من التساوي بين المقتول و من يراد القصاص منه، و أنه لا بد من العدل في القصاص و ملاحظة المثلية. و في ذلك رد على ما كان يفعل في الجاهلية من المغالاة في سفك الدماء و قتل الأبرياء

ص: 315

كالاقتصاص من رئيس القبيلة و السيد في قتل العبد ظلما و عدوانا.

و القتلى: جمع القتيل بمعنى المقتول، و القتل زوال الروح إذا أضيف إلى المتعدي إليه (أي من وقع عليه القتل). و إذا أضيف إلى ذات الشخص فهو موت فلا فرق بينهما إلاّ بالإضافة و الاعتبار، كما يقال: مات بالشهادة، أو مات بالقتل، و مات بالمرض. نعم يصح اعتبار التغاير بينهما بلحاظ السبب كما قال تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ [سورة آل عمران، الآية: 144].

و الجامع هو زوال الروح.

و عموم الخطاب يشمل الوضعي و التكليفي كما في جملة من الخطابات المتعلقة بإتلاف الأموال ففي المقام بالأولى، و الأحكام التكليفية هي الأحكام الخمسة المعروفة.

و أما الأحكام الوضعية و هي ما تعلق بها غرض الشارع المقدس و لم تكن من الخمسة التكليفية، و هي كثيرة كالضمان، و الولاية، و الطهارة، و النجاسة، و قد يجتمع الحكمان في شيء واحد كاشتغال الذمة بعوض فهو وضعي و وجوب تفريغها تكليفي، و قد ذكر التفصيل في محله فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

ثم انه ذكر سبحانه و تعالى بعض موارد المساواة و التكافؤ بين المقتول، و من يراد الاقتصاص منه.

قوله تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ . الحر: خلاف العبد لخلوصه عن الرقية، و الحر من كل شيء خالصه، و أحرار البقول ما يؤكل غير مطبوخ.

و العبد من فيه الرقّية، و في اصطلاح الكتاب و السنة هي المملوكية للغير بالملكية الظاهرية. و عند جمع من أهل العرفان: كل من كان له علاقة بغير اللّه تعالى فهو عبد له، و قالوا: إنّ عبد الشهوة و الهوى أشد رقّية من العبد المملوك للغير، و استشهدوا لذلك بأدلة عقلية و نقلية لعلنا نتعرض لذلك في محله.

و كيف كان، و المراد منه هنا المعنى الأول.

ص: 316

و في الآية من البلاغة ما لا يخفى و فيها إشارة إلى بيان ذكر المثلية إجمالا.

قوله تعالى: وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى . كان في أهل الجاهلية بغي و حمية و كانت القبائل تتحكم بحسب القوة و المنعة، فان قتل من حي أهل منعة و عز أحد لا بد لهم من الاقتصاص و كانوا لا يكتفون من القاتل فقط، و إذا قتل منهم أنثى لا يقتصون من أنثى مثلها بل يقتصون من الذكر. و قد أنكر الشارع هذه العادة و حكم بالمساواة بين القاتل و المقتول فإذا كان القاتل أنثى فلا بد و ان يقتص منها لا من غيرها، و فيها بيان للمثلية أيضا أي الحرة بالحرة و الأمة بالأمة.

قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ . بعد ان ذكر وجوب القصاص و أنّه أساس العدل في الجنايات، و أنّه الأصل في ردع الجاني من الاستمرار في الجناية بيّن هنا جواز العفو بل رجحانه و هو تعالى ينظر إلى الجانب الأخلاقي في هذا التشريع و يعطي أهمية خاصة إلى التراحم و التعاطف بين أفراد البشر في ظرف تسيطر على النفس الغرائز الدفينة و العادات السيئة الموروثة من الجاهلية، فكان هذا التشريع موفقا في الجمع بين الجانب العاطفي في الإنسان و الجانب الغريزي و الشهودي فيه.

و مادة عفو تأتي بمعنى المحو و الزوال و نفي الأثر، و التجافي عن الذنب، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 199]، و قال تعالى: عَفَا اَللّهُ عَمّا سَلَفَ [سورة المائدة، الآية: 95]، و قال تعالى: وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ [سورة الشورى، الآية: 25].

و العفوّ - بالتشديد - من أسماء اللّه الحسنى، و في بعض الدعوات: «اللهم إنّي أسألك العفو و العافية و المعافاة». و الأول محو الذنب، و الثاني الصحة من الأسقام و الأمراض، و الأخير الحفظ عن أن يظلم أحدا أو أن يظلمه أحد.

و الفرق بين العفو و الغفران أنّ الثاني يختص استعماله باللّه تعالى غالبا

ص: 317

و إن استعمل في غيره تعالى أحيانا؛ قال سبحانه: وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 14]؛ بخلاف الأول فانه يستعمل في غيره عزّ و جل كثيرا، قال تعالى: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة البقرة، الآية: 237]، و قال تعالى: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ [سورة البقرة، الآية: 237]. و يقال: عفت الدار إذا انمحت آثارها.

و يمكن الفرق بينهما باعتبار المورد أيضا، فان العفو يصح استعماله بالنسبة إلى مطلق سوء الأخلاق و إن لم يكن من الذنب الشرعي كما يصح استعماله بالنسبة إليه أيضا بخلاف الغفران.

و التعبير بالأخ ترغيب إلى العفو و المراد به ولي الدم.

و «شيء» صفة للمفعول المطلق النائب عن الفاعل أي بعض العفو و شيء منه، و هو حق الاقتصاص أولا و يشمل البدل و المبدل أيضا.

و المعنى: و من عفا لأخيه عن جنايته و لم يرد القصاص و رضي بالدية فهو خير له.

قوله تعالى: فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ . المعروف: ضد المنكر، و معناه كلفظه؛ و المراد به كل ما حسن عند العقلاء و لم ينه عنه الشرع سواء كان واجبا أو مندوبا أو مباحا. و هو يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار. و قد وقع هذا اللفظ في القرآن الكريم و السنة الشريفة كثيرا، قال تعالى: اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 180]؛ و قال تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة البقرة، الآية: 228]، و قال تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً [سورة البقرة، الآية: 263] إلى غير ذلك مما يقرب من أربعين موردا.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كل معروف صدقة».

و المعنى: إن رغب في العفو عن القصاص لا بد له من إتباعه بالمعروف على الجاني بأن لا يرهقه في الدية، أو ينظره إلى الميسرة إن كان ذا عسرة، أو الطلب منه بالرفق، أو يعفو عن بعض و نحو ذلك مما لا يستنكره

ص: 318

العرف، و ذلك مرغوب فيه لا سيما في هذه الحال التي يكون الإنسان فيها أقرب إلى قوى البطش و الانتقام منها إلى العقل.

قوله تعالى: وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ . أي أداء من الجاني إلى الولي بالإحسان كما أحسن اليه بالعفو و إتباعه بالمعروف.

قوله تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ . أي: أن تشريع القصاص و العفو عنه و الانتقال الى الدية و الاتباع بالمعروف و الأداء بالإحسان كلها تخفيف على الأولياء و الجانين و رحمة لهم، لأنه جل شأنه قادر أن يشرع عليكم بما يكون أشد من ذلك، فقد راعى عزّ و جل الوسط بين الإفراط، و التفريط. مع أن في هذا التشريع الجديد تخفيفا بالنسبة إلى ما كانوا قد اعتادوا عليه في الجاهلية فقد كان ذلك ثقلا كبيرا عليهم و رحمة عليكم في الامتناع عن إراقة الدماء ظلما و عدوانا، فلا يبقى بعد ذلك مجال للظلم و الاعتداء.

قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ . أي: فمن اعتدى و انتقم من الجاني بعد العفو، أو تعدى عن الحد الذي قرره اللّه تعالى فله عذاب أليم، لأنه متعد عن القانون الإلهي و كل متعد كذلك لا بد و أن يعاقب عقلا و شرعا، فيكون مصيره إلى النار.

قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ . بعد أن شرّع تعالى القصاص و حكم بأنّه لا بد من التساوي و التكافؤ بين الدماء. ذكر هنا حكمة هذا التشريع الجديد و علته بأفصح بيان و أبلغه و أوجز عبارة تفي بالمطلوب. فكان أحسن كلام يقرع الأسماع و ابلغ نظم يؤديه البيان، قرن فيه بين التلطف و العتاب فما أجمل هذا الخطاب فاح نسيم الوحي من السماء فانفتح الكمام و تواضع كل من يدعي الفصاحة أمام حسنه، و أعيى كل من جهد نفسه في البلاغة، و لو قورنت هذه العبارة مع ما قيل في مثل المقام كقولهم:

(القتل أنفى للقتل) و قولهم: (قتل البعض إحياء للجميع)، و قولهم (أكثروا القتل ليقل القتل) لكان ما ورد في القرآن كالنور في الظلماء، و النار على المنار من حيث البلاغة و الفصاحة، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق

ص: 319

بذلك.

و المعنى: أنّ في القصاص المذكور الحياة للفرد و المجتمع، أما بالنسبة إلى المجتمع فإنّه أحسن رادع عن الإقدام على قتل النفوس، إنّ فيه حفظ النّاس عن اعتداء بعضهم على بعض، و أما بالنسبة إلى الفرد فإنّ فيه حفظ من يريد الجناية فإذا علم بالقصاص يرتدع عنه، و بذلك يحفظ نفسه و من أراد قتله و لو فعله كان ذلك عبرة لغيره ممن يريد الإقدام على ذلك، ففي القصاص حياة الناس و الأفراد بل فيه تسلية لولي المقتول حيث يخفف عنه لوعة المصاب، فكانت الغاية من القصاص و ما يجتنى من عواقبه حميدة يعرفها كل من اعطي حق التأمل في هذا الحكم.

قوله تعالى: يا أُولِي اَلْأَلْبابِ . الألباب جمع اللب، و هو العقل الخالص عن الشوائب، لأنّ لب الشيء خالصه و صفوته، و لذا جعل اللّه تعالى أولي الألباب. مورد خطابه و عنايته في جملة كثيرة من الآيات القرآنية، لأنّ ذا اللب هو الذي يعرف حقائق الأشياء و موازينها، و آثارها و ما يترتب عليها. قال تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 197]، و قال تعالى: إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 9]، و قال تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 21] إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و قد فسر سبحانه اللب في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 18].

و لم يرد لفظ اللب مفردا في القرآن الكريم كما لم يرد لفظ العقل كذلك. و المتأمل في الآيات المتضمنة لذكر أولى الألباب يعلم أنها وردت في مدحهم بخلاف العقل فإنّه ليس كذلك، قال تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 67]، و قال تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [سورة النور، الآية: 61].

و لعل السر في عدم ورود المفرد لهذين اللفظين الإشارة إلى أنّهما من

ص: 320

الحقائق التي لا تحصل إلاّ من الاجتماع إما بعضهم مع بعض، أو مع الأنبياء و الإيمان بهم و العمل بما جاؤا به. مع أن مثل هذه الخطابات نوعية اجتماعية ملقاة الى المجتمع لا إلى الفرد المعين.

و اللب و العقل هما من أسرار اللّه تعالى التي أودعها في الإنسان، و قد قال عزّ و جل حين خلقه كما

في الحديث: «و عزتي و جلالي ما خلقت خلقا أحب إليّ منك إياك آمر، و إياك أنهى، و بك أثيب و أعاقب»، و هو أصل الإنسان و ما سواه من القشر، و هو مبدأ الاستكمالات و اليه المنتهى، و بالعمل و التقوى و الصلاح يرتقي العقل و اللب، و منهما ينشأ الخير، فيصح أن يقال: قد اجتمعت العلة الفاعلية و الغائية فيهما.

و الحاصل: إنّ اللب و العقل و الفلاح و الصلاح و التقوى كلها مفاهيم مختلفة لمعنى واحد إذا لوحظت النشآت فانها مرتبطة بعضها مع بعض؛ فان

«الدنيا مزرعة الآخرة» كما قال نبينا (صلّى اللّه عليه و آله) خصوصا بناء على الحركة الجوهرية التي أثبتها بعض أعاظم الفلاسفة. نعم أصل هذه المزرعة و أساسها العمل و به يرتقي العقل ثم منه ينشأ الخير الذي يرجع بالآخرة إلى العقل أيضا.

و إنّما ذكرهم في المقام للتنبيه على أنّ هذا الحكم بما فيه من المصالح و الآثار لا يعلمها إلاّ أولوا الألباب الذين يفقهون سر هذا الحكم باستعمال عقولهم. و لذلك فمن ينكر هذا الحكم فهو ممن ليس له لب و عقل، فكان هذا كالدليل لما تقدم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أي لعلكم تتقون اللّه في كل أموركم حيث شرع لكم هذا التشريع العظيم الذي ينبّئ عن الحكمة و العلم، أو تتقون الظلم خوفا عن القصاص فتكفون عن سفك الدماء أو يتقي بعضكم بعضا حرصا على الحياة.

و منه يستفاد أن اللب السليم يرشد إلى التقوى، و سبب استكمال ذوي الألباب.

ص: 321

بحوث المقام
بحث أدبي:

أنّ قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ أبلغ آية في القرآن الكريم و أفصحها و هي في إيجازها قد ارتقت سماء الإعجاز لما اشتملت على فنون البلاغة و الإيجاز و جمعت بين قوة الاستدلال و براعة اللفظ؛ فتحدت فرسان الفصاحة و البيان، و قد أفادت حكما لم يكن من قبل معروفا في أسلوب رصين و عذوبة في الألفاظ و تضمنت من الفوائد و الحكم في تنظيم النظام ما لا يبلغ به عقول الأنام، و اشتملت على أنحاء من البلاغة ما لا يوجد في أي أثر منقول عن العرب و نحن نذكر بعضا منها:

الأول: الطباق بين القصاص و الحياة فإنّ الأول يفوّت الثاني فهو في مقابلها.

الثاني: فصاحتها في تلائم الألفاظ و عذوبتها و سلامتها و رصانتها في الأسلوب، و الإيجاز في العبارة فقد جمعت بين جمال اللفظ و سموّ المعنى.

الثالث: اشتمالها على جعل الضد متضمنا لضده أي الحياة في الاماتة.

الرابع: تعريف القصاص بلام الجنس ليشمل كل أنواع القصاص من القتل و الجرح و الضرب.

الخامس: تنكير الحياة للإشعار بأنّ في الحكم حياة عظيمة لا يمكن الاستهانة بها، او لأجل أنّ القصاص لم يكن سببا لمطلق الحياة بل لنوع من أنواعها فيكون التنوين فيها إما لأجل التعظيم أو لأجل التنويع.

السادس: جعل القصاص ظرفا للحياة، لبيان أنّ القصاص يحمي الحياة من الآفات، و هذا من غرائب الحكم.

السابع: تقرير أنّ الحياة هي المطلوبة و أنّ القصاص وسيلة إليها و هذا من أسمى الحكم في جعل هذا التشريع.

الثامن: الإطراد في أنّ كل قصاص حياة.

ص: 322

التاسع: اشتمالها على التسلية لأولياء المقتول.

العاشر: اشتمالها على التخويف و الارتداع لمن تسول له نفسه الجريمة.

الحادي عشر: تحريض المجتمع - الذي تقوم به الحياة النوعية - على حفظ الأفراد.

الثاني عشر: خلوّ الآية المباركة من التعقيد و التكرار و الإبهام و غير ذلك مما ذكروه في المأثور عن العرب في المقام.

و هذا نزر يسير مما يمكن ذكره في هذه الآية الشريفة و قد صنف بعض العلماء كتابا في الأنحاء الأدبية لهذه الآية الكريمة، و هو لم يصل إلى الغاية كيف و قد صدرت ممن لا نهاية لكماله، و لهذه الآية وقع في النفوس في مثل المقام فإنّ فيه توطينا على تقبل هذا التشريع الجديد، و إنّ براعتها و عذوبتها لتخفف مما يترتب على هذا الحكم من إزهاق النفوس فسبحان من جلت آلاؤه و بهرت آياته و تمت حكمته.

بحث فقهي:

هذه الآية الشريفة تتضمن من الأحكام ما يلي:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أنّ الحكم الأولي في الجنايات مطلقا هو القصاص و التبديل إلى الدية إنما يكون لجهات أخرى و لفظ «كتب» يشمل الحكم الأولي و الثانوي.

الثاني: إنّها مسوقة لبيان التساوي و التكافؤ بين الدماء خلاف ما كانت عليه العادة في الجاهلية كما تقدم. و قد ذكر فيها بعض الأفراد إلاّ أنّها لا تدل على الحصر فيهم، و قد وردت في السنة الشريفة ما يبين حصول التكافؤ و التساوي في القصاص، و من ذلك التفرقة بين دية الرجل و المرأة و قتل واحد

ص: 323

لجماعة أو بالعكس، و قتل العبد للحر، فإنّ لكل واحد من هذه أحكاما خاصة مذكورة في الفقه مفصلا.

الثالث: إنّ اطلاق قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يدل على القصاص في الجناية، سواء كانت في القتل أو القطع أو الجرح كما هو مفصل في قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية:

45].

الرابع: إنّ إطلاقها يشمل ما إذا كانت الجناية عمدية أو خطئية و لكنها خصصت بالأولى، لقوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ [سورة النساء، الآية: 92].

كما أنّها خصصت بموارد:

منها: قتل الأدب لابنه و إن كان عمديا، للإجماع و النصوص.

و منها: قتل الحر للعبد، إجماعا و نصوصا.

و منها: قتل المسلم للكافر على ما هو المفصل في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا [مهذب الأحكام].

بحث روائي:

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «في رواية الحلبي في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ .

قال (عليه السلام): «ينبغي للذي له الحق أن لا يعسر أخاه إذا كان قد صالحه على دية و ينبغي للذي عليه الحق أن لا يمطل أخاه إذا قدر على ما يعطيه و يؤدي اليه بإحسان».

و عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ . قال (عليه السلام): «هو الرجل يقبل الدية أو يعفو أو يصالح ثم يعتدي فيقتل فله عذاب أليم، كما قال اللّه عزّ و جل».

ص: 324

أقول: روي مثله في عدة روايات.

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى قال (عليه السلام): «لا يقتل الحر بعبد و لكن يضرب ضربا شديدا، و يغرم دية العبد و إن قتل رجل امرأة فأراد أولياء المقتول ان يقتلوا أدوا نصف ديته إلى أهل الرجل».

أقول: الحديث يفسر التكافؤ في الدماء و الجراحات، كما هو مفصل في الفقه.

في الإحتجاج عن علي بن الحسين (عليهم السلام) في قوله تعالى:

وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ : «لكم يا أمة محمد في القصاص حياة، لأن من همّ بالقتل فعرف أنه يقتص منه فكفّ لذلك عن القتل كان حياة للذي همّ بقتله، و حياة للجاني الذي أراد أن يقتل و حياة لغيرهما من الناس إذا علموا أن القصاص واجب لا يجترءون على القتل مخافة القصاص - الحديث -».

أقول: ذكر أمة محمد من باب ذكر أفضل الأفراد لا التخصيص، لأن الحكم عام للجميع.

و في تفسير القمي قال: «لو لا القصاص لقتل بعضكم بعضا».

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى : «كان بين حيين من أحياء العرب قتال، و كان لأحد الحيين طول على الآخر فقالوا: نقتل بالعبد منا الحر منكم و بالمرأة الرجل فنزلت هذه الآية».

أقول: تقدم وجه ذلك.

بحث علمي:

ذكرنا أنّ آية القصاص نزلت في قوم كان الانتقام متبعا بينهم بأقبح الصور، فقد كانوا يقتلون لواحد جماعة و ربما قتل الحر بالعبد أو الرجل بالمرأة، و الرئيس بالمرؤوس، بل ربما وقعت حروب و غارات بسبب قتل

ص: 325

حيوان من قوم ذوي منعة و شرف، و كان المناط كله على قوة القبائل و ضعفها، و المتبع هو القتل و الانتقام، و الاقتصاص من دون أن يكون في البين قانون يحدده أو قواعد تهذب تلك العادات كما هي عادة الأقوام البدائية و الشعوب الهمجية.

نزلت آية القصاص و لم يكن أحد يعرف الصلح و الوئام بدل القتل و الانتقام، و كان ذلك تشديدا منهم على أنفسهم؛ كما يستفاد من ذيل الآية الشريفة قال تعالى: ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ .

و من المعلوم أنه لا ينكر أحد أنّ حب الانتقام طبيعة من طبايع الحيوان فضلا عن الإنسان، و ان دفع التعدي غريزة من غرائزه، و أنّه على ذلك مجبول و مفطور.

كما أنه ليس ثمة من ينكر أن العفو و الرحمة غريزة أخرى من غرائز الإنسان بها يحنو على بني نوعه، و يدفع عن أهله البلاء و يكافح في سبيلهم العيش و الرفاه.

و بحسب تلك الأسس و الغرائز نزلت آية القصاص؛ و قررت تشريع حق الاقتصاص لولي الدم، و أهدرت دم الجاني لولي المجني عليه فقط، و مهدت له السبيل و أمكنته كل التمكين من القصاص بشروط خاصة لإشباع غريزة الانتقام في الإنسان فكان ذلك أول خطوة في تهذيب هذه الغريزة.

لكنه تعالى لم يغفل عن الغريزة الأخرى الكامنة فيه فحبّب اليه العفو بمختلف الأساليب فتارة: رغب اليه العفو بأخذ الدية و أداء اليه بإحسان. و أخرى: بالثواب في الآخرة، و رضاء اللّه تعالى، و العفو و المحبة للمحسنين، قال تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ [سورة الشورى، الآية: 40]، و قال تعالى: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 134].

و لقد راعى الإسلام في هذا التشريع جميع من يهمه هذا التكليف القاتل، و المقتول، و وليه، و المجتمع، و الصالح العام، فحكم بالمعادلة بين

ص: 326

القاتل و المقتول، فقال عزّ و جل: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى فحفظ بذلك التهجم على الدماء، و وقف الإسراف في القتل.

و اهتم عزّ و جل بالجانب التربوي فحبب إلى الإنسان الرحمة و العطف و رغّب النّاس على نبذ مسلك الانتقام و الوعد لمن راعى هذا الجانب بعظيم الأجر و الإحسان.

و لذلك كان هذا التشريع موفقا كل التوفيق في رفع الخصام، و حلول الصلح و الوئام الذي هو السبب في حفظ الأمن و النظام هذا بالنسبة إلى الإسلام.

أما بالنسبة إلى سائر التشريعات الإلهية فإنّها تختلف بين إثبات تشريع القصاص و الإلغاء؛ ففي التشريع اليهودي اعتبر الحكم في الجنايات هو القصاص و لم يسنّ للعفو و الدية أحكاما إلاّ في حالات معينة راجع ما ورد في التوراة في الفصل الحادي و العشرين، و الثاني و العشرين من سفر الخروج، و الخامس و الثلاثين من سفر العدد، كما حكى عنها القرآن الكريم، فقال تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ [سورة المائدة، الآية: 48].

و أما التشريع في الدين المسيحي فلا يرى في مورد الجنايات إلاّ العفو و الدية، و ليس للقتل و القصاص فيه سبيل إلاّ في موارد خاصة.

و أما سائر التشريعات، سواء كانت وضعية أو غيرها فهي تختلف في هذا الحكم، و لا يمكن جعلها تحت ضابطة كلية، و إن كانت لا تخلو عن القصاص في الجملة.

و مما ذكرنا يعرف أن الإسلام اختار الطريق الأمثل و سلك مسلكا وسطا بين الإلغاء و الإثبات، فحكم بالقصاص و لكن ألغى تعيينه فأجاز العفو و الدية، و لا حظ جميع جوانب هذا الحكم و أحكمه أشد الأحكام و سدّ باب الجدال و الخصام، و أبطل شبهات المعترضين.

ص: 327

و مع ذلك فقد اعترض على تشريع القصاص في الإسلام خصومه فادعوا انه خلاف إنسانية الإنسان. و أنت بعد الإحاطة بما ذكرناه تعلم أن ما ذكروه في المقام واضح الفساد.

و قد استدل على إلغاء هذا الحكم بأمور هي:

الأول: ان تقرير حق الاقتصاص إقرار للعادات السيئة التي كانت سائدة في الشعوب الجاهلية، و الأقوام البدائية.

و هذا باطل أما أولا: فلأنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو تربية الإنسان تربية صالحة يرفض معها كل ظلم و انتقام، و لم يكن ينظر إلى تقرير عادة أو إبطالها.

و ثانيا: ذكرنا أنّ حب الانتقام غريزة من غرائز الإنسان و الإسلام إنّما أراد تهذيبها و كبح جماحها خلاف ما كانت بين الأقوام وقت نزول القرآن.

و ثالثا: فائدة تشريع القصاص إنّما ترجع إلى الجماعة و الصالح العام شأنه شأن غالب التكاليف الإلهية.

الثاني: إنّ القوانين الوضعية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جواز عقوبة الإعدام مطلقا، و ترفض إجراءها بين البشر معتمدين في ذلك على أنّ القتل مما ينفر عنه الطبع و يستهجنه وجدان كل إنسان.

و أنّ القتل على القتل يكون فقدا على فقد.

و أنّ القتل بالقصاص فيه من القسوة و الانتقام زيادة على نفس القتل الواقع من الجاني و لا بد من إزالة هذه الصفة من بين الناس بالتربية العامة و عقاب القاتل بما هو أدون كالسجن و الأعمال الشاقة.

الثالث: إنّ المجرم إنّما يكون مجرما و أقدم على الجريمة لأجل عذر له إما للجهل أو عدم التربية الصالحة، أو لمرض عقلي فيجب في هذه الحالة علاجه إما بالتربية الصالحة أو معالجة مرضه.

و إنّ إبقاء الفرد الجاني أولى من إفنائه لأنّ في إبقائه منفعة للمجتمع و لا ملزم لأن نقبل عقوبة القصاص إلى الأبد فيعاقب الجاني بما يعادل القتل، و في

ص: 328

نفس الوقت نستفيد منه فيكون توفيقا بين حق المجتمع و حق أولياء الدم، و غير ذلك من الوجوه. و لأجل ذلك عدلت القوانين الوضعية عن القصاص و القتل إلى عقوبات أخرى لردع الجناة أشدها عقوبة الحبس؛ سواء كان محدودا بوقت أو غير محدود به مع الأشغال الشاقة مثلا.

و لكن كل ذلك باطل أما أولا: فلأنّ في تشريع القصاص تهذيبا للطبيعة الإنسانية في حب الوجود و ملاحظة الجانب التربوي في هذا التكليف، بل جميع تكاليف الإسلام و قوانينه إنما وضعت لأجل ذلك، و لذلك حث على العفو، و لم يكن الإسلام ليمنع من رفع هذه العقوبة بعد التربية الصالحة و إعداد الأفراد في صالح المجتمع، و نبذ التخاصم و الانتقام، و الأمم الراقية إنما ذهبت إلى ذلك بعد جهد جهيد في تربية الأفراد و تنفير القتل بينهم، و هذا شيء حسن لم ينكره أحد، و هو مما يريده الإسلام كما تشير اليه نفس الآية الشريفة.

و ثانيا: فلأنّ الإسلام إنّما لا حظ في هذا التشريع الصالح العام و مصالح النوع كما هو شأن كل قانون، سواء كان إليها أو وضعيا، و يعتبر أن الاعتداء على فرد كالاعتداء، على الأمة، قال تعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً [سورة المائدة، الآية: 32]، و لا ريب أن الدفاع عن الأمة و الجماعة أمر غريزي، و لذا نرى أن الأمة تهبّ في دفع الأعداء و من يريد إهلاكهم فلا يتوقفون عن الدفاع عن أمتهم فكيف يمكن القول بالرأفة في هذه الحالة فهل تقبل الطبيعة الإنسانية مثل هذه الرأفة في هذه الحالة؟! بل لا تكون الرأفة إلاّ إبادة للأمة و اختلالا للنظام.

و ثالثا: فلأنّ ما ذكروه في تبرير قتل القاتل إنّما هو في الحقيقة تبرير لتطبيق قانون العقوبة، لا أنّه عيب في نفس القانون كم فرق بينهما؛ مع أنّ الإسلام قد لاحظ جميع الخصوصيات في القتل، كما هو مفصل في الفقه، فلا يبقى عذر بعد ملاحظة ذلك، مع أنّ ذلك تلقين للمجرم، و إعطاء السلاح بيد المجرم كما يقال.

ص: 329

و أخيرا إنّ تبديل هذه العقوبة إلى عقوبة أخرى أنفع للمجتمع و للفرد، فإنّه يسأل منهم هل كانت هذه العقوبات ناجحة في ذلك؟! و هل رفعت الفساد الأخلاقي؟!! و هل كان الحبس مطلقا ناجحا في رفع المشكلات و تقويض الجنايات؟! مع أنّ الملاحظ يعترف أنّه قد أدى تطبيق هذه العقوبة إلى نتائج خطيرة و جلبت مشاكل دقيقة:

منها: قتل الشعور بالمسؤولية في نفوس المجرمين، و أنّها سببت زيادة في سلطان المجرمين و إفسادا للمسجونين، و أوجبت انعدام قوة الردع إلى غير ذلك من المشاكل، و بعد ذلك كله فهل يمكن الاستفادة من المجرمين؟! و لعمري انه لا يمكن تفضيل أي قانون على القانون الإسلامي لما عرفت من أنه يراعى فيه جميع جوانب الحياة، و ما أورد عليه يكون من قبيل الشبهة في البديهيات، قال تعالى: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى اَلْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى اَلْقُلُوبُ اَلَّتِي فِي اَلصُّدُورِ [سورة الحج، الآية: 46].

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتّ.......

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) الآية تبين حكما قد لوحظ فيه الجانب المادي و الاجتماعي، و لذا أكد عزّ و جل عليه، و أوعد على من يبدله، و أمر بإصلاحه إن كان فيه الانحراف، و يناسب هذا الحكم ما تقدم في الآيات السابقة باعتبار أنّ القصاص يوجب إزهاق الروح، و إنّ الوصية توجب استمرارية التصرف لما بعد الموت.

التفسير

قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ . المراد بالكتابة هنا الثبوت الشرعي، و هو أعم من الوجوب و الندب و تستعمل في كل منهما مع

ص: 330

القرينة، و المنساق في المقام عدم الوجوب بقرينة كون الوصية للوالدين و الأقربين من أنحاء البر. نعم لو كان المورد واجبا كالديون المالية تكون الوصية واجبة، كما قرر في الفقه مفصلا.

و مادة حضر تأتي بمعنى وجود الشيء بحيث يمكن أن يدرك بإحدى الحواس، و هي من الصفات ذات الإضافة المتقومة بأكثر من واحد. و يعم استعمال هذا اللفظ بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و الخالق و المخلوق فإن من أسماء اللّه الحسنى [حاضر] فهو تعالى حاضر لدى الخلق بالحضور الإيجادي الإحاطي، كما أن الخلق حاضر لديه تعالى بالحضور العلمي. و قال تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ [سورة النساء، الآية: 128]، و قال تعالى: فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ [سورة يس، الآية: 53]، و قال تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً [سورة آل عمران، الآية: 30].

و لو قيل إنّ الحضور بمعناه العام الشامل لجميع الموجودات - من الجواهر و الأعراض و الواجب و الممكن - هو شعاع من حضور الأحدية المطلقة فيما سواها لكان حقا، فالكل منه تعالى و الجميع يعود إليه عزّ و جل، و لعلنا نتعرض لهذا البحث النفيس في ما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

و المراد من حضور الموت حصول موجباته التي ليس لها حد محدود.

و قد نسب الحضور إلى الموت في هذا المقام، و الآيات التي ذكر فيها حضور الموت و لم ينسب إلى الشخص، و لعله لعدم تهيئة النفوس و استعدادها له، أو لعدم أنسها به كما هو الشأن بالنسبة إلى أولياء اللّه تعالى،

فقد نسب إلى علي (عليه السلام) انه قال: «و اللّه ان ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه ما يبالي أوقع على الموت أو وقع الموت عليه».

قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ الخير معروف أي كل ما فيه نفع، و هو من الأمور النسبية الإضافية التشكيكية، و له مراتب كثيرة.

و المراد به كل ما فيه النفع عينا كان أو منفعة، و لكن نسب إلى

ص: 331

علي (عليه السلام) أنه فسره بالمال الكثير في المقام، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ . فإن الوصية لهم تقتضي عادة أن يكون المال كثيرا دون المال القليل أو مطلق ما فيه النفع، فإنّ النّاس لا يهتمون بذلك، فما قاله علي (عليه السلام) من باب تعدد الدال و المدلول، لا أن يكون معنى لغويا.

و قوله تعالى: لِلْوالِدَيْنِ أي بما هما والدان لا باعتبار الاجتماع كما أن قوله تعالى: وَ اَلْأَقْرَبِينَ باعتبار النّاس لا التقييد بالجمع.

و تقدم معنى الوصية في قوله تعالى: وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ [سورة البقرة، الآية: 132].

المعروف: هو العدل، و عدم الإفراط و التفريط في كل من الموصى اليه بأن لا يرجح أحدا على احد، و الموصى به بأن لا يكون مجحفا بالورثة أو قليلا يوجب الاستخفاف.

قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ . حقا منصوب على المصدر المؤكد، أو على تقدير الفعل أي يحق ذلك حقا، أو حال من الوصية و هو تأكيد للكتابة.

و ذكر المتقين لبيان أنّ التقوى هي موضوع كل عمل ينتفع به في الآخرة لا لتخصيص الوصية بهم فقط.

قوله تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ . التبديل التغيير مطلقا و يشمل الإنكار و الكتمان بالأولى. و الضمير في إثمه راجع إلى التبديل و سائر الضمائر إلى الوصية، و هي مصدر يجوز فيه الوجهان أو إلى الإيصاء المدلول عليه بذكر الوصية.

و المراد من قوله عزّ شأنه بَعْدَ ما سَمِعَهُ أي من بعد ما تمت عنده الوصية و لو بالبينة.

قوله تعالى: فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ . أي أنّ الإثم المترتب على التبديل و المخالفة على الذين يبدلونه، و أما الموصي فقد خرج عن

ص: 332

العهدة و ثبت له الأجر. و فيه التفات من الأفراد، لبيان تعميم الإثم للمباشر للتبديل، و كل من يرتب عليه الأثر بالقول أو العمل؛ فيكون كالربا الذي لعن اللّه دافعه، و آخذه، و شاهده و كاتبه. أو كالخمر التي لعن اللّه شاربها، و صانعها، و غارسها. و بالجملة، التبديل سواء كان فرديا، حدوثا و بقاء، أو كان جميعا حدوثا و فرديا بقاء، أو بالاختلاف. و سواء كان بالقول أو بالعمل كل ذلك حرام يشمله إطلاق الآية الشريفة.

و إنما ذكر تعالى: عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ و لم يقل عليهم للاعلام بأن سبب الإثم إنما هو التبديل، و ترتيب الأحكام التالية.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ . أي: إنّ اللّه سميع بإيصاء الموصين، عليم بتبديل المبدلين و فيه من الوعد للموصين، و الوعيد للمبدلين.

و قد جمع تعالى بين السمع و العلم اهتماما بهذا العمل الذي هو آخر ما يفعله العبد في هذه الدنيا و للإعلام بأن الموصي و إن لم يكن حاضرا و لكن اللّه تعالى عالم بالوصية رقيب عليها.

و في الآية إشارة إلى انه تعالى عالم بالجزئيات كما أنه عالم بالكليات.

قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً . الجنف هو الانحراف و الميل من الإستواء و الاستقامة إلى الخلاف، أو الميل عن الحق إلى الباطل فيشمل الظلم في الحكم، و لم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلاّ في موردين: أحدهما في المقام، و الثاني في قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ [سورة المائدة، الآية: 3].

و عن الخليل إن الجنف الميل عن الحق إلى الباطل في الحكم، و الحيف مطلق الميل عن الحق إلى الباطل في كل شيء.

و من مقابلة الجنف مع الإثم يستفاد أنّ الميل عن الحق إلى الباطل قسمان: قسم فيه إثم، و هو ما إذا كان الميل عن تقصير؛ و قسم آخر لا إثم فيه، و هو ما إذا كان ذلك عن قصور، كالجهل و نحوه.

و المراد بالخوف هنا الاطمينان بوقوع المخوف من باب ذكر اللازم

ص: 333

و إرادة الملزوم و هو كثير في كلام الفصحاء.

و الخطاب متوجه إلى أولياء الأمور، و مع العدم أو القصور فإلى حكام الشرع، أو يقال: إنّ الخطاب موجه إلى كل من يعرف حال الوصية، سواء أ كان من الورثة أم من غيرهم.

و الآية متفرعة على الآية السابقة فإنّه لما حكم تعالى بالإثم على كل من بدّل الوصية استثنى منه حالة، و هي ما إذا كانت الوصية خارجة عن المعروف، و فيها الجنف أو الإثم، فيجوز التبديل للإصلاح و إزالة التنازع، فلا إثم في هذه الحالة.

قوله تعالى: فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . أي: إذا عرف كمال الوصية فأصلحها بتبديل الجنف و الإثم حسب الموازين الشرعية فلا إثم عليه؛ لأنه من تبديل الباطل إلى الحق، و إزالة المفسدة بالمصلحة و الإصلاح بين حق الموصى له و الموصي و الورثة. و من كان صالحا في قصده و مصلحا في فعله فلا إثم عليه.

و ذكر تعالى الصلح للدلالة على الترغيب و التحريض اليه و هو مما يحكم بحسنه العقل و الفطرة، فاكتفى برفع توهم الحظر، لأن جهة الوجوب في مثل هذه الحالة معلومة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ . للمذنبين، و هو عام يشمل الإثم الواقع في أصل الوصية التي تحقق فيها الجنف، و إثم الإصلاح و التبديل في الوصية، فانه يكون بمنزلة التوبة فاللّه يغفر للمصلح، و للموصي و يثيبه على عمله.

بحوث المقام
بحث علمي:

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ يدل على وجوب الوصية، و أن لسان الآية لسان الوجوب، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث، و هي قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ [سورة النساء، الآية: 11]، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى، و بالسنة

ص: 334

المشهور بين العلماء أن قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ يدل على وجوب الوصية، و أن لسان الآية لسان الوجوب، ثم قالوا إنها منسوخة بآية المواريث، و هي قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ [سورة النساء، الآية: 11]، فان الأخيرة نزلت بعد الأولى، و بالسنة

فقد ورد في الحديث: «لا وصية لوارث».

و ذكر بعضهم أنها لو كانت منسوخة فالمنسوخ إنما هو الفرض دون الندب و أصل المحبوبية.

و ذكر بعض آخر أن الوجوب المذكور في الآية الشريفة كان في بدء الأمر و أوائل تغيير الشريعة لمواريث الجاهلية، فالحكمة اقتضت ان يكون التغيير تدريجيا بنحو الوصية أولا ثم بأحكام المواريث.

و الحق أن يقال: إنّ آية الوصية غير منسوخة بشيء لا بآية المواريث، و لا بالنسبة الشريفة، و آية الوصية تدل على محبوبيتها، و الكتابة يراد بهاهنا مطلق الثبوت الأعم من الوجوب و الندب، كما ذكرنا، فقد تكون الوصية واجبة كما في الوصية بالحقوق الواجبة. و قد تكون مندوبة كما في الوصية بالتبرعيات، و في الأخيرة يشترط أن لا تكون أكثر من ثلث المال، و في الأولى لا يشترط فيها ذلك بل لا بد و أن تخرج من جميع المال، و لا ربط لآية الإرث بآية الوصية و هما موضوعان مختلفان فأين يتحقق النسخ؟ مع أنّ الإرث متأخر عن الدين و الوصية.

و ما ذكروه من تأخر آية الإرث عن آية الوصية فتكون منسوخة.

ففيه أولا: أنه لم يثبت ذلك.

و ثانيا: على فرض الثبوت لا فرق بين الناسخ و المنسوخ في المتقدم و المتأخر بينهما، كما تقدم في بحث النسخ.

و أما الاستدلال بالسنة على نسخ آية الوصية.

ففيه: أولا: عدم ثبوته، كما ذكر جمع من علماء الفريقين.

و ثانيا: أن

حديث: «لا وصية لوارث» يمكن حمله على أنه لا وصية لوارث إذا كان أكثر من الثلث.

ص: 335

و الحاصل: أن آية الوصية غير منسوخة بشيء. نعم بين أحكام المواريث و الأحكام المتعلقة بالوصية جهات لا بد من مراعاتها كما هو مفصل في الفقه.

بحث فقهي:

يستفاد من الآية أمور:

الأول: تدل الآية على رجحان الوصية و الاهتمام بها و قد أكد تعالى عليها بأنحاء التأكيد، كما ورد في السنة المقدسة أيضا، و لا بد أن يراعى فيها جميع الشروط المذكورة في الكتب الفقهية، منها العدل و المعروف، و عدم الإضرار بالورثة كما يستفاد من قوله تعالى: بِالْمَعْرُوفِ .

الثاني: أنّ الوصية في الآية الشريفة هي الوصية التمليكية لما ذكر فيها الخير. و أما الوصية العهدية فلا يشترط فيها وجود المال، بل يكفي فيها وجود نفع للموصي.

الثالث: إطلاق الآية الشريفة يشمل الوصية بالقول، أو الكتابة أو الإشارة المفهمة مع العذر.

الرابع: تدل الآية على عدم تقوم الوصية بالوصي بل تتحقق بدونه، و المعتبر إنفاذ الوصية و لو من قبل الحاكم الشرعي.

الخامس: يستفاد من الآية الشريفة حرمة التبديل و أنه من الكبائر و قد دلت عليه نصوص خاصة.

السادس: يمكن أن يكون الإذن في الإصلاح من باب الإرشاد إلى الحكم إن كان الموصي جاهلا بالحكم، و يصح أن يكون من باب النهي عن المنكر ان كان عالما به، و يصح تصديه من كل أحد يعرف الحكم. و لا بد أن يكون هذا الإصلاح مطابقا للموازين الشرعية، و الا فلا يجوز،

فقد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصلح جائز بين المسلمين ما لم يحلل حراما أو يحرم حلالا».

ص: 336

بحث روائي:

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «الوصية حق و قد أوصى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فينبغي للمسلم أن يوصي».

أقول: الروايات في استحباب الوصية و رجحانها كثيرة، و في بعض الروايات

عن علي (عليه السلام): «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية». و المراد بالمعصية مطلق العمل المرجوح لا العصيان الموجب لاستحقاق العقاب.

و في الكافي أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «سألته عن الوصية للوارث، فقال (عليه السلام): تجوز ثم تلا هذه الآية: إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ».

أقول: قد روي قريب من ذلك في عدة روايات.

و في الفقيه عن سماعة بن مهران عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ . قال (عليه السلام): «هو شيء جعله اللّه عزّ و جل لصاحب هذا الأمر قلت: فهل لذلك حد؟ قال (عليه السلام): نعم. قلت: و ما هو؟ قال (عليه السلام): أدنى ما يكون ثلث الثلث».

و مثله في تفسير العياشي إلاّ أن فيه أدناه «السدس و أكثره الثلث».

أقول: المستفاد من مجموع هذه الروايات أنّ الوصية في قوله تعالى تشمل وصية السابق للاحق بأصول الإعتقاد بذوي القربى، كما في قوله تعالى: وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ و حيث لا نبوة بعد نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فتكون الوصية حينئذ بالنسبة إلى ذوي قرباه.

و أما تفسير المال بالسدس، أو الثلث، و هو أيضا صحيح من باب تطبيق الكلي على بعض المصاديق، و الا فقد ورد في روايات أخرى أن أدناه الربع. و ليس ذلك في مقام التحديد و الحصر، بل المراد بيان أنّ المال

ص: 337

الموصى به يكون معتنى به في الجملة، كما ذكرنا في التفسير.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ . قال (عليه السلام): «هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هو المواريث».

أقول: يمكن أن يحمل النسخ في المقام على غير معناه الاصطلاحي كما يمكن أن يحمل على نسخ بعض مراتب الإلزام، دون أصل الرجحان أو الوجوب في مورد وجوب الوصية كما في الوصية بالديون.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ : إنما هي منسوخة بقوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

أقول: تقدم وجه ذلك.

في تفسير القمي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إذا أوصى بوصية فلا يحل للوصي أن يغير وصيته، بل يمضيها على ما أوصى، إلاّ أن يوصى بغير ما أمر اللّه فيعصي في الوصية و يظلم، فالموصى اليه جائز له أن يرده إلى الحق. مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته و يحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق، و هو قوله تعالى: جَنَفاً أَوْ إِثْماً . فالجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، و الإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران، و اتخاذ المسكر، فيحلّ للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك».

أقول: ما ذكر في بيان الجنف و الإثم من باب ذكر بعض المصاديق، كما هو معلوم. و يستفاد من لفظ «فأصلح» الوارد في الآية الشريفة أنّ كل ما يكون خلاف الصلاح الشرعي يجري عليه حكم الجنف.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «في رجل أوصى بماله في سبيل اللّه، فقال (عليه السلام): أعطه لمن أوصى به له و إن كان يهوديا أو نصرانيا إنّ اللّه تعالى يقول: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ».

ص: 338

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و لا بد من تقييدها بما إذا لم يكن صرف المال إليهم من الصرف إلى المحرم، كما يظهر من سائر الروايات.

في تفسير العياشي عن محمد بن سوقة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى اَلَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ . قال (عليه السلام): «نسختها التي بعدها، و هي قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني: الموصى اليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده في ما أوصى به اليه في ما لا يرضى اللّه به من خلاف الحق فلا إثم عليه، أي على الموصى اليه أن يبدله إلى الحق، و إلى ما يرضى اللّه به من سبيل الخير».

أقول: المراد بالنسخ التقييد، لا النسخ الاصطلاحي.

في العلل عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ . قال (عليه السلام): «يعني: إذا اعتدى في الوصية».

أقول: و مثله في تفسير العياشي إلاّ أن فيه «و زاد على الثلث». و ما ورد في الروايتين من باب ذكر بعض مصاديق الجنف، و ليس من جملتهما ما إذا لم يمض الورثة ما زاد عن الثلث، و إلاّ فلا إثم حينئذ.

و في المجمع: «الجنف أن يكون على جهة الخطأ من حيث لا يدري انه يجوز، قال: روي ذلك عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: هذا لا إثم فيه إن كان خطؤه مع قصور، و أما إذا كان مع التقصير فيكون مثل الرواية الآتية.

في الفقيه أيضا عن علي (عليه السلام): «أنّ الجنف في الوصية من الكبائر».

أقول: يستفاد ذلك من عدة روايات. و اللّه العالم.

ص: 339

المجلد 3

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ ف.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) الآيات المباركة - كما تقدمها - هي في بيان الأحكام و تشريعها حيث شرّع سبحانه و تعالى في هذه الآيات أهم الفرائض التي بني عليها الإسلام، أي: (الصوم) الذي هو مجمع الكمال الفردي و الاجتماعي و الروحي بل الجسماني أيضا.

ص: 5

التفسير

183 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ .

تقدم الكلام في مثل هذا الخطاب، و ذكرنا أنّه مدنيّ نزل بعد تشريع جملة من الشرايع الإلهيّة. و لذة النداء و تخصيصه بالمؤمنين مما يخفف من عناء هذا التكليف في الدنيا و يزيد الثواب في العقبى.

و فيه إشعار: بأنّ العبادة لا تصح إلا مع وصف الإيمان.

و مادة (كتب) تدل على مطلق الثبوت الأعم من الوجوب و الندب، و إنّما يستفاد أحدهما من القرائن، و في المقام يراد به الفرض و الوجوب لقرائن كثيرة كما هو واضح.

و مادة (ص و م) تدل على السكون، و الإمساك، و تستعمل في الجماد و الحيوان و الإنسان، يقال: صام الماء إذا سكن و ركد، و صامت الخيل إذا أمسكت عن السّير و الحركة و الاعتلاف، و منه قول النابغة:

خيل صيام و خيل غير صائمة *** تحت العجاج و أخرى تعلك اللجما

و صام زيد إذا أمسك عن الطعام أو الكلام، قال تعالى حكاية عن ابنة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم - 26] و مثل هذه المادة (ص م ت) إلا أنّها تختص بالجارحة اللسانية.

ص: 6

و بهذا المعنى اللغوي جعلت مورد الاستعمال الشرعي مع زيادة شروط و قيود، كما هو دأب الشارع في جميع موضوعات أحكامه - كالصلاة، و الزكاة، و الحج، و البيع و نحو ذلك. و بذلك لا يخرج عن المصداق اللغوي، و البحث مفصّل في علم (أصول الفقه) فراجع كتابنا [تهذيب الأصول].

قوله تعالى: كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

أي: كما ثبت على الأنبياء السابقين و أممهم، منهم من حكى اللّه تعالى في القرآن الكريم، كيحيى و زكريا و مريم، و منهم من لم يحك و لا يستفاد من ذلك تطابق الصوم في هذه الشريعة مع الصوم في الشرايع السابقة من حيث الحدود، و الوقت، و الكيفية، بل التشبيه إنّما هو لبيان أنّكم حضيتم بفضله كما حظي الذين من قبلكم به، و إلا فإنّ الآثار تدل على الاختلاف فيه،

فقد ورد عن الإمام الحسن (عليه السلام) عن جده رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الصوم على الأمم كان أكثر مما هو على المسلمين في شهر رمضان، و سيأتي في البحث الروائي مزيد بيان.

و يمكن أن يراد من قبلكم جميع الملل، فإنّ الثابت أنّ الصوم أمر محبوب في جميع الملل حتى الوثنية و هو مشروع فيهم، بل يمكن أن يقال:

إنّ الإمساك عن الطعام في الجملة من لوازم العبودية بالنسبة إلى كل معبود، فإنّ أول قدم الوصول إلى المحبة الحقيقية الإمساك عن جملة من الأمور المادية و التنزه عن المستلذات الجسمانية حتى يليق العبد بالمقامات العالية التي منها

قول اللّه عز و جل: «لخلوق فم الصائم أحب إليّ من ريح المسك»، نعم في هذا الإمساك اختلاف كبير بين الملل و سيأتي في البحث التاريخي تتمة الكلام.

و كيف كان ففي الآية إشارة إلى وحدة أصول المعارف في الأديان الإلهية.

و فيها التسلية للمؤمنين و تطييب أنفسهم لتحمّل هذا التكليف و الترغيب في الصوم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ .

تعليل لثبوت الصوم، و ذكر أهم غايات جعله أي: فرض عليكم الصوم لتتقوا.

ص: 7

و إنّما أبدلت بلعلّ لبيان أنّ التقوى أمر اختياري للإنسان، لأنّ الصيام إنّما يعدّ نفوس الصائمين لتقوى اللّه، و للإشعار بأنّ المرجو من هذا التكليف و سائر التكاليف الإلهية هو التقوى.

و فيه من البشارة بأنّ الصوم يوجب الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين، و هو من أقرب المقامات إلى حريم كبرياء ربّ العالمين.

و السر في ذلك واضح، فإنّ الصوم من أقوى الوسائل في كفّ النفس عن الشهوات، و البعد عن التشبه بالحيوان، و القرب إلى ذروة مقام الإنسان، و به يتهيّأ إلى القيام بالطاعات لا سيما إذا اقترن الإمساك الظاهري بإمساك القلب عما لا يليق بمقام الربّ، و لذلك كان

«الصوم نصف الصبر» كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و بالصبر و الاصطبار يستعد الإنسان لنيل الكمال و السعادة.

و ذكر كلمة «لعل» في المقام و نظائره - مع امتناع حقيقة الترجي بالنسبة إليه تعالى، لأنّه من صفات الممكن الناقص، و لا يعقل النقص بالنسبة إليه جلّ شأنه - إما لأجل حال المخاطبين، أو بداعي محبوبية التقوى لديه تعالى، أو لأجل بيان أنّها أمر اختياري، كما ذكرنا.

184 - قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ .

مادة (ع د د) تأتي بمعني جمع الآحاد، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا [مريم - 94] و قال تعالى:

وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ [الإسراء - 12] و قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [النحل - 18].

و لفظتا «معدودات» و «معدودة» لم تستعملا في القرآن الكريم إلا صفة للأيام قال تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة - 203] و قال تعالى:

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ [آل عمران - 24] و قد ورد في قوله تعالى: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ [يوسف - 20] و لكنه كناية عن القلة.

و يمكن أن يراد بها في المقام القلّة أيضا أو عدم التغيير و التبديل إلى الأبد،

ص: 8

و قد بين العدد و محله في قوله تعالى بعد ذلك شَهْرُ رَمَضانَ [سورة البقرة - الآية 185].

و في الآية رد على ما وقع من التغيير و التبديل في صوم أهل الكتاب بواسطة رؤسائهم.

قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً .

المرض: هو الخروج عن الاعتدال سواء كان في الجسم، كما في قوله تعالى:

وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ [الفتح - 17]. أو في القلب و الروح، كما في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [الأحزاب - 60]. و الأخير أشد من الأول بمراتب كثيرة، و ما بعث الأنبياء و لا أنزلت الكتب الإلهية إلا لمعالجة الأمراض النفسانية التي تكون في علاجها الحياة الأبدية.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

عطف على قوله تعالى: مَرِيضاً و مادة (سفر) تأتي بمعنى الكشف في جميع استعمالاتها، و سمي السّفر سفرا، لأنّ فيه يكشف عن أخلاق القوم، أو يكشف عن خصوصيات الأمكنة.

و سميت الكتب العلمية أسفارا لأنّها تكشف عن الحقائق. و سميت الكرام البررة: سفرة، لأنّهم يكشفون أحكام اللّه تعالى،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «مثل الماهر بالقرآن مثل السّفرة» أي: المزاول للقرآن مثل الملائكة السّفرة فكما أنّها تبين الشيء كذلك الماهر يبين القرآن و يوضحه. و تسمى سفرة الطعام لأنّها تكشف عن الطعام و ألوانه.

و لم تذكر هيئة (سفر) في القرآن الكريم إلا في ضمن موارد جميعها مقرونة ب - (على)، و فيه إشارة إلى اعتبار التلبس الفعلي بالسفر.

و تستعمل لفظة السفر في الجواهر. و أما الأعراض فتستعمل فيها لفظة «أسفر» قال تعالى: وَ اَلصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ [المدثر - 34]، و قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ [عبس - 38]. و مسافر مفرد جمعه سفر، كراكب و ركب أو صاحب و صحب

قال علي عليه السلام: «إنّما مثلكم و مثل الدنيا كسفر».

و المراد من السّفر في المقام ما بينته السنة المقدسة حدودا و شروطا و إلا فليس

ص: 9

كلّ سفر موجبا لسقوط الصوم.

قوله تعالى: فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ .

عدّة بالرفع على أنّه خبر، و التقدير - كما يدل عليه سياق الآية - كتب عليه صوم عدة أيام أخر، و هذا هو الذي اصطلح عليه الشرع بالقضاء.

و عدّة فعلة من العد، و هي بمعنى المعدود أي: عليه أيام معدودات مكان الأيام المعدودة التي فاتته بسبب المرض أو السفر.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ .

مادة (طوق) تدل على ما يحيط بالعنق إما خلقة، كطوق الحمامة، أو صفة كالقلادة، و الطوق من الذهب، أو جزاء في الآخرة، كقوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 180]. و تطلق على ما يعمله الإنسان بمشقة،

و في الحديث: «كل امرء مجاهد بطوقه» فيكون معنى قوله تعالى: يُطِيقُونَهُ :

و على الذين يصومون بمشقة، و يكون إتيانهم للصيام جهد طاقتهم، و قد فسر في الأحاديث بالشيوخ و الضعفاء و ذي العطاش، و يأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

و الآية المباركة ليست منسوخة بشيء كما نسب إلى جمع إذ لا دليل عليه إلا أن يراد من النسخ غير معناه الاصطلاحي كما هو كثير في كلام المتقدمين.

و مادة (فدي) تأتي بمعنى العوض و البدل فإن كان المبدل منه إنسانا يسمى (فداء) بكسر الفاء و المد، أو (فدى) بالفتح و القصر، و إن كان عبادة مركبة تسمى (فدية) مثل كفارة اليمين و الصوم، و كفارات الإحرام. و قد ورد الاستعمالان في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَإِمّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّا فِداءً [سورة محمد - 4]، و قال تعالى: فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ [الحديد - 15]، و قال تعالى:

يَوَدُّ اَلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج - 11]، و قال جلّ شأنه:

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات - 107].

و اصطلح في السنة المقدسة على بدل الصوم إذا ترك لعذر الفدية و إذا ترك عمدا و بلا عذر مقبول فالجزاء الكفارة، و عليه اصطلاح فقهاء الفريقين، و قد يطلق أحدهما على الآخر.

ص: 10

و يستفاد من مجموع هذه الآية أنّ القدرة الحاصلة في التكاليف الشرعية على قسمين:

الأول: القدرة العرفية التي هي المناط في جميع التكاليف الإلهية المستفادة من قوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78] و قوله تعالى:

يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185]،

و قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «بعثت بالشريعة السهلة السمحاء»،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله) «الدين يسر».

الثاني: القدرة العقلية التي تجتمع مع الحرج و المشقة بل حتى مع العذر أيضا، و هي ليست مناط التكاليف الإلهية الثابتة لعامة الناس.

و بناء على ذلك إنّ الصوم كتب على من يقدر عليه بالقدرة الشرعية مع عدم عسر و حرج، و أما من تمكن منه بالقدرة العقلية أي: مع المشقة و الجهد، فيتبدل تكليفه إلى الفدية.

و قرئ (يطوقونه) أي يتجشمونه و يتكلفونه، و رويت هذه القراءة عن جملة من الصحابة و التابعين.

قوله تعالى: طَعامُ مِسْكِينٍ .

بيان للفدية في اليوم، و قدّر في الروايات - كمية - بمد، و هو سبعمائة و خمسون غراما، و - كيفية - بكل ما يأكله الإنسان لإشباعه من الجوع.

و المسكين هنا مطلق الفقير، لما تعارف بين العلماء من أنّ الفقير و المسكين كالظرف و الجار و المجرور إذا اجتمعا افترقا، و إذا افترقا اجتمعا، و لم يجتمعا في القرآن الكريم إلا في مورد واحد و هو قوله تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها [التوبة - 60].

قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ .

الظاهر أنّه راجع إلى كيفية الطعام و كميته زائدا على أصل الإطعام. و أما رجوعه إلى أصل الصوم و إثبات استحبابه بعد سقوط تشريعه بالنسبة إلى المسافر

ص: 11

و المريض، فإنّه يحتاج إلى دليل خاص و هو مفقود، بل الأدلة على خلافه، و يحتمل رجوعه إلى أصل الصيام لا الصيام الساقط عن المريض و المسافر إلاّ بعنوان القضاء و هو خارج عن مدلول اللفظ و داخل في قوله تعالى: أَيّامٍ أُخَرَ .

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

عدل إلى الفعل للترغيب في إتيانه، و للإعلام بصدوره من الفاعل، و الجملة مركبة من المبتدأ و الخبر أي: و الصيام خير لكم إن كنتم تعلمون بأنّ التكاليف الإلهية ألطاف من اللّه تعالى لعبيده، و أنّ الطاعة هي السبب في سعادة الإنسان، و أنّ الصوم فيه فضل كبير، و فوائد كثيرة للناس و أنّه لمصلحة المكلفين.

ص: 12

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ العامل في أياما هو «الصيام» الذي يكفي في العمل في الظرف من دون حاجة إلى التقدير، أو النصب لأجل التعظيم و التوقير، فإنّ النصب أعظم شأنا من غيره من الإعراب.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ عطف على قوله تعالى «مريضا» و ما هو المشهور في العلوم الأدبية من أنّ الظرف لا يعطف على الاسم موهون - بأنّه على فرض تسليمه - إنّما هو فيما إذا لم يكن الظرف بمعنى الاسم و إلا فلا محذور فيه، و المقام من هذا القسم أي مريضا أو مسافرا، فعطف الاسم على الاسم.

قوله تعالى: فَعِدَّةٌ بالرفع على أنّه خبر لمحذوف أي كتب عليه صوم، أو فالواجب عليه صوم عدة أيام أخر.

و قرئ بالنصب بمعنى فليصم عدّة أيام أخر، و هذا على سبيل الرخصة.

و لكنه موهون بأنّ القراءة المتداولة و الموجود في المصاحف الشريفة: الرفع.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ جملة مركبة من المبتدأ - و هو المصدر المؤول من (أن تصوموا) - و الخبر، ذكر فيها الفعل للترغيب في إتيانه و للإعلام بصدوره من الفاعل كما مر.

و قرأ أهل المدينة و الشام «فدية طعام» مضافا إلى «مساكين» جمعا، و الباقون

ص: 13

فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ بالإفراد لبيان أنّ لكلّ يوم إطعاما واحدا.

ثم إنه قد ذكر الخليل و تبعه الأدباء أنّ لفظ «على» يأتي بمعنى الاستعلاء إما حقيقة أو اعتبارا، و لكن يستعمل في عدة معان أخر:

منها: الحال أو الحالة، نحو قوله تعالى: عَلى سَفَرٍ في جملة من الآيات الشريفة.

و منها: المصاحبة، كقوله تعالى: وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ [البقرة - 37]. أي مع حبه، و قوله تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ [الرعد - 6]. أي مع ظلمهم.

و منها: معنى الباء، كقوله تعالى: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ [الأعراف - 105] إلى غير ذلك مما فصلوه و ظاهرهم جعل الكلمة من متعدد المعنى، و لها نظائر كثيرة في كلماتهم.

و لكنه ممنوع لأنّ هذه المعاني إنّما تستفاد من (على) بالقرائن الداخلية أو الخارجية، و إلا فهو مستعمل في جميع ذلك في ذات الاستعلاء و لو اعتبارا و ما ذكروه من المعاني يستفاد من جهات أخرى فيكون من باب تعدد الدال و المدلول لا من تعدد ذات المعنى.

ص: 14

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: قد تكرر التأكيد على الصوم بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، و قوله تعالى: فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ و قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ و ذلك للترغيب في هذه العبادة أي الصوم لما فيه من الفضل العظيم و الثواب الجزيل - الذي عد منه أنّه

«جنّة من النار» - و الفوائد الجمة، و لما فيه من الإمساك عن الشهوات النفسانية فيحصل الشبه بين الصائم و الروحانيين و إنّه من أقوى الروابط بين العابد و المعبود.

الثاني: إنّ في قوله تعالى: أَيّاماً مَعْدُوداتٍ من التلطّف و العناية، و إسقاط كلفة الصيام ما لا يخفى.

الثالث: إنّ في ترتب التقوى على الصوم بشارة عظيمة للصائمين، لأنّ التقوى من أقرب وسائل القرب إلى اللّه تعالى و أقوى الزواجر عن إطاعة الشيطان، و فيه من البشارة إلى الوصول إلى مقام المتقين الذي هو من مقامات الصدّيقين.

الرابع: تدل الآية الشريفة على أنّ المكلّفين بالنسبة إلى الصيام على حالات ثلاث:

ص: 15

الأولى: المقيم الصحيح القادر فيجب عليه الصوم و لا يجوز له تركه بوجه.

الثانية: المسافر أو المريض الذي لا يمكنه الصوم - إما لأجل أنّ الصوم يزيده ضررا أو يبطئ برءه - فيجب عليهما الإفطار مع وجوب القضاء بعد البرء و الحضر، إلا أنّ الفدية تختص بالمريض غير المتمكن من القضاء دون المسافر على تفصيل مذكور في الفقه.

الثالثة: الشخص الذي يقدر على الصوم مع المشقة و غاية الجهد كالشيخ و الشيخة و ذي العطاش و نحو ذلك يجب عليه الفدية عن كل يوم بمد على ما مر، و الأحكام مفصلة في الفقه.

الخامس: إنّ قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يدل على محبوبية الصيام و الترغيب إليه، و رفع الكلفة في الإمساك.

و قيل: إنّه يرجع إلى من رخص له بالفدية، فيكون تكليف من يطيق الصوم و يبلغه غاية جهده أنّ الصوم خير له من الفدية.

و يرد عليه: أنّ سياق الآية يدل على أنّ الجملة راجعة إلى من خوطب بأصل الصيام و من كتب عليه، و يؤكد ذلك أنّ الخطاب في من عليه الفدية إنّما هو بلفظ الغيبة، مضافا إلى ذلك أنّه لا يناسب التأكيد بقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ مع أنّ التكليف بالنسبة إليه إنما هو الفدية بدلا عن الصوم فلا يصح إرجاع الجملة إلى ما ذكروه.

ص: 16

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام الشرعية التالية:

الأول: وجوب الصوم في أيام معدودات، و هي: شهر رمضان كما ذكره تبارك و تعالى في الآية التالية، فالآية الشريفة من المبينات، و ليست هي منسوخة، و ما ذكر في ذلك واضح البطلان.

الثاني: المرض الموجب للإفطار ليس المراد منه كلّ مرض، كما هو ظاهر الإطلاق، بل سياق الآية المباركة يدل على أنّه المرض الذي يخاف فيه الشخص على نفسه من زيادته أو بطء برئه، كما فصّل في السنة المقدسة.

الثالث: تدل الآية المباركة على أنّ السفر موجب للإفطار و قد حددته السنة بحدود و شروط مذكورة في الفقه مفصّلا.

و قال بعض: إنّ قوله تعالى: وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ راجع إلى الصيام في السفر، فقالوا بأفضلية الصوم للمسافر.

و يرد عليه: ما ذكرناه آنفا مع منافاته للروايات الكثيرة الدالة على عدم الصوم في السفر،

فقد روى أحمد بن حنبل، و البخاري، و مسلم، و أبو داود، و النسائي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس من البر الصيام في السفر».

و رواه ابن حبان في صحيحه عن جابر عنه (صلّى اللّه عليه و آله). و رواه

ص: 17

غيره عن كعب بن عاصم الأشعري عنه (صلّى اللّه عليه و آله).

و روى ابن ماجة عن عبد الرحمن بن عوف عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر» و رواه النسائي عن عبد الرحمن موقوفا.

و روى عبد الرزاق في جامعه عن ابن عمر عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«إنّ اللّه تصدّق بإفطار الصائم على مرضى أمتي و مسافريهم أ يحب أحدكم أن يتصدّق على أحد بصدقة ثم يظل يردها».

و رواه الديلمي في الفردوس، و بمضمونه ورد في أحاديثنا عن أئمتنا الهداة (عليهم السلام).

و روى مسلم و النسائي و الترمذي عن جابر قال: «خرج رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى مكة عام الفتح حتى بلغ كراع الغميم (و هو واد أمام عسفان) و صام الناس معه، فقيل له: إنّ الناس قد شق عليهم الصيام، و إنّ الناس ينظرون في ما فعلت، فدعا بقدح من ماء بعد العصر فشرب و الناس ينظرون إليه، فأفطر بعضهم و صام بعضهم، فبلغه أنّ أناسا صاموا، فقال (صلّى اللّه عليه و آله):

«أولئك العصاة». و روي ذلك في الكافي و الفقيه عن الصادق (عليه السلام) أيضا.

و أخرج أحمد و الأربعة و جماعة عن أنس الكعبي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أنّه دعاه إلى الطعام فاعتذر بالصيام، فقال له (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه وضع عن المسافر شطر الصلاة و الصيام». و أخرج قريبا منه النسائي عن عمر ابن أمية الضمري عنه (صلّى اللّه عليه و آله).

و روى البيهقي في المعرفة عن سعيد بن المسيب، و المتقي الهندي في كنز العمال عن الشافعي مرسلا عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خياركم الذين إذا سافروا قصروا الصلاة و أفطروا». و رواه في الكافي و الفقيه عن الباقر (عليه السلام).

ص: 18

و أما الروايات عند الإمامية في وجوب الإفطار في السفر، فهي متواترة، و عليه إجماعهم بل عدّ من ضروريات مذهبهم، و لأجل تلك الروايات ذهب كبار الصحابة إلى أنّ الصائم في السفر عليه الإعادة.

و مع ذلك ذهب قوم إلى التخيير و أنّ من صام في السفر فقد أدّى فرضه، و من أفطر وجب عليه القضاء، و بذلك مضت السنة العملية و استدلوا

بما رواه أحمد و مسلم و أبو داود عن عائشة أنّ حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ أصوم في السفر و كان كثير الصيام؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إن شئت فصم و إن شئت فأفطر».

و في مسلم أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) أجابه بقوله: «هي رخصة من اللّه فمن أخذ بها فحسن و من أحب أن يصوم فلا جناح عليه».

و الكل مردود إذ السنة العملية غير ثابتة، و الحديث ظاهر في الصوم المندوب لا الواجب، و على فرضه فهو معارض بالروايات المتقدمة و إجماع أهل البيت، مضافا إلى أنّ الروايات الدالة على التخيير أو الرخصة في الصوم في السفر - مع غض النظر عن الأسانيد - لا يعلم ورودها بعد نزول آية الصوم و تحريمه في السفر، و عليه فلا يبقى مجال للقول بأنّ الإفطار أفضل إن كان في الصوم مشقة و الصوم أفضل مع عدمها. و التفصيل بأكثر من ذلك يطلب من السنة.

الرابع: إطلاق الآية الشريفة يدل على أنّ السفر موجب للإفطار سواء كان السفر قصيرا أم طويلا، و سواء كان فيه المشقة أم لا إذا توفرت الشروط كما هو مفصّل في الفقه.

الخامس: تدل الآية الكريمة على أنّ من كان يقدر على الصوم مع الإطاقة و بلوغ الجهد - غير المسافر و المريض و الصحيح القادر على الصوم بدون مشقة - يجب عليه الإفطار و الفدية على تفصيل ذكرناه في الفقه.

السادس: الآية المباركة تدل على أنّ المسافر إذا حضر، و المريض إذا برىء يجب عليه القضاء.

السابع: ظاهر سياق الآية الشريفة هو السفر الاتفاقي، لا الدوام به فإنّه

ص: 19

حينئذ لا يوجب الترخيص في ترك الصوم كما هو مفصل في كتابنا [مهذب الأحكام].

الثامن: المراد من الطعام الوارد في الآية المباركة هو مطلق ما يطعم و يرفع جوع المسكين، و لا اختصاص له بالبرّ، كما عن بعض، و لو كان وجه اختصاص فهو من باب الغالب كما هو مذكور في محلّه.

ص: 20

بحث روائي

في العلل و المحاسن عن علي (عليه السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في جواب مسائل اليهودي قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من مؤمن يصوم شهر رمضان احتسابا إلا أوجب اللّه له سبع خصال: أولها - يذوب الحرام في جسده. و الثانية - يقرب من رحمة اللّه. و الثالثة - يكون قد كفّر خطيئة أبيه آدم.

و الرابعة - يهون عليه سكرات الموت. و الخامسة - أمان من الجوع و العطش يوم القيامة. و السادسة - دخول الجنة و براءة من النار. و السابعة - يطعمه من ثمرات الجنة».

أقول: في هذا السياق روايات كثيرة من الفريقين، و اقتضاء الصوم لهذه الأمور إذا كان للّه تعالى مع شرائطه المقررة في الشريعة مما لا ريب فيه، لأنّه رياضة نفسانية و يزيل الشهوات الحيوانية. و يمكن أن يكون ترتب هذه الأمور عليه في بعض النفوس من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامة. و لا ريب في تحقق السنخية بين الصوم و هذه الأمور.

في الحديث القدسي قال اللّه تعالى: «الصوم لي و أنا أجزي به».

أقول: أما كون الصوم للّه تعالى فلأنّه أمر قلبي ليس من فعل الجوارح فلا يطّلع عليه غيره تعالى، فيكون الخلوص فيه أكثر من سائر العبادات.

و أما

قوله: «و أنا اجزي به» فهو كناية عن كمال الجزاء و عدم حصر له و عدم

ص: 21

اطلاع أحد عليه، فيكون المقام نظير قوله تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة - 17]، هذا إذا قرئ بصيغة المعلوم. و أما إذا قرئ بصيغة المجهول - أي أنّه تعالى بذاته الأقدس يكون جزاء لهذا العمل - فيكون كناية عن قرب الصائم إلى ربه تعالى بحيث لا يمكن تحديده بحد.

في تفسير العياشي عن جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ - و يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ .

قال (عليه السلام): «هذه كلّها يجمع الضلاّل و المنافقين، و كل من أقر بالدعوة الظاهرة».

أقول: لا اختصاص لذلك بخصوص الصوم بل يشمل كل من جمع شرائط التكليف، كما في سائر التكاليف الإلهية.

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ قال: «هي للمؤمنين خاصة».

أقول: يمكن أن يحمل بحسب مراتب القبول لا بحسب أصل التكليف كما في سائر التكاليف الإلهية. إن كان المراد بالمؤمنين طائفة خاصة، و إلا فالحديث يكون مثل سابقه.

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ . قال: «أول ما فرض اللّه تعالى الصوم لم يفرضه في شهر رمضان على الأنبياء، و لم يفرضه على الأمم فلما بعث اللّه نبيه (صلّى اللّه عليه و آله) خصه بفضل شهر رمضان هو و أمته، و كان الصوم قبل أن ينزل شهر رمضان يصوم الناس أياما».

أقول: قريب منه في الفقيه عن حفص بن غياث النخعي. و الحديثان بظاهرهما مخالفان للآية الشريفة. و مخالفان للروايات الدالة على أنّ الصيام كان مكتوبا على الأنبياء السابقين و أممهم، و أنّ الأنبياء كانوا يصومون شهر رمضان.

و يمكن حملهما على أنّ التفضيل بالنسبة إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) باعتبار

ص: 22

إيجابه في شهر رمضان خاصة دون سائر الأمم فإنّ صوم الأنبياء في هذا الشهر كان أعم من الإيجاب عليهم.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أول ما بعث يصوم حتى يقال: ما يفطر. و يفطر حتى يقال: ما يصوم، ثم ترك ذلك و صام يوما و أفطر يوما، و هو صوم داوود، ثم ترك ذلك و صام الثلاثة الأيام الغر، ثم ترك ذلك و فرقها في كل عشرة خميسين بينهما أربعاء، فقبض (صلّى اللّه عليه و آله) و هو يعمل ذلك».

أقول: هذا وارد في صوم التطوّع.

في الكافي أيضا عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام): «فأما صوم السّفر و المرض فإنّ العامة قد اختلفت في ذلك، فقال قوم: يصوم، و قال آخرون: لا يصوم، و قال قوم: إن شاء صام و إن شاء أفطر. و أما نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعا، فإن صام في السّفر، أو في حال المرض فعليه القضاء فإنّ اللّه عز و جل يقول: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ ».

أقول: تدل عليه روايات متواترة عندنا، و إجماع الإمامية و قد تقدم عدم صلاحية ما ذكروه لثبوت الصّوم في الحالتين أو التخيير فراجع.

العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لم يكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصوم في السّفر تطوّعا و لا فريضة يكذبون على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) نزلت هذه الآية فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ بكراع الغميم عند صلاة الفجر، فدعا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بإناء فشرب و أمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد توجه النهار و لو صمنا يومنا هذا، فسماهم رسول اللّه العصاة، فلم يزالوا يسمون بذلك الاسم حتى قبض رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: وردت روايات أخرى قريبة منها عن طرق العامة أيضا.

و في تفسير العياشي أيضا عن الصباح بن سيابة عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ ابن أبي يعفور أمرني أن أسألك عن مسائل فقال (عليه السلام): و ما

ص: 23

هي؟ قلت: يقول لك: إذا دخل شهر رمضان و أنا في منزلي أ لي أن أسافر؟ قال (عليه السلام): إنّ اللّه يقول: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فمن دخل عليه شهر رمضان و هو في أهله فليس له أن يسافر إلا لحج أو عمرة أو طلب مال يخاف تلفه».

أقول: لا بد من حمله على الكراهة جمعا بينه و بين الأخبار الدالة على الجواز.

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «عن حدّ المرض الذي يجب على صاحبه فيه الإفطار؟ كما يجب عليه في السّفر في قوله تعالى:

وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ . قال (عليه السلام): هو مؤتمن عليه، مفوّض إليه، فإن وجد ضعفا فليفطر و إن وجد قوة فليصم كان المريض على ما كان».

أقول: و يدل عليه روايات أخر شارحة لقوله تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة - 14].

و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): «ما حد المرض الذي يفطر فيه الرجل و يدع الصلاة من قيام؟ قال (عليه السلام): بل الإنسان على نفسه بصيرة و هو أعلم بما يطيقه».

أقول: يستفاد من مثل هذه الروايات أنّ موضوعات الأحكام موكولة إلى العرف ما لم يحدها الشارع بحد معين.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله اللّه عز و جل: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ قال (عليه السلام): «الشيخ الكبير و الذي يأخذه العطاش».

في الفقيه عن ابن بكير قال: «سألته عن قول اللّه عز و جل: وَ عَلَى اَلَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ . قال (عليه السلام): «الذين كانوا يطيقون الصوم، ثم أصابهم كبر، أو عطاش، أو شبه ذلك فعليهم لكل يوم مد».

أقول: هذه الروايات قرينة على ما ذكرنا سابقا من أنّ المراد بالقدرة على الصوم القدرة المتعارفة لا القدرة العقلية.

ص: 24

بحث تاريخي

تقدم أنّ الصوم من أهمّ الوسائل التي يلتمس بها العبد التقرب إلى خالقه، و أعظم السبل في تحلية النفس بالفضائل و تخليتها عن الرذائل و أنّه أول ما يمكن أن يصدر من الحبيب في لقاء حبيبه بالتنزه عما تشتهيه النفس من المستلذات، فهو من الخير الذي أمرنا اللّه تعالى بالاستباق إليه و لأجل ذلك و غيره مما هو كثير كتبه اللّه على الأمم السابقة، بل هو محبوب لدى جميع الأمم حتى الوثنية منها فلم يخل منه دين من الأديان سواء السماوية منها أم الوضعية، فقد يظهر من بعض الروايات أنّ المجوس كان لهم صوم، و أنّ الصيامية نحلة منهم تجردوا للعبادة و أمسكوا عن الطيبات من الرزق، و عن النكاح و الذبح على ما هو المقرر عندهم و توجهوا في عبادتهم للنيران.

و أما اليهود فالصوم عندهم هو الإمساك عن الأكل و الشرب و لم يفرض عليهم إلا صوم يوم واحد، كما ورد في عهد [اللاويين 29/16] و كان اليهود يصومون بعد ذلك أياما في مناسبات. و كانوا في ذلك اليوم يلبسون المسوح، و ينثرون الرماد على رؤوسهم، و يصرخون و يتضرعون و يتركون أيديهم غير مغسولة إلى غير ذلك من العقائد التي كانت عندهم في الصوم، و كان اليوم هو يوم التكفير أي: اليوم العاشر من الشهر السابع، كما في سفر اللاويين، و فيه يحاول اليهودي التشبه بالملاك، و هذا اليوم يسبق بتسعة أيام تسمى ب (أيام التوبة) حيث يطهرون خلالها تطهيرا يكفل لهم النقاء في خلال العام القادم، و الصوم عندهم يكون من

ص: 25

غروب الشمس إلى مساء اليوم التالي.

و في غير ذلك يصومون تذكارا للرزايا التي وردت عليهم فخصصوا أربعة أيام للصوم حزنا بعد خراب الهيكل الأول، و هي اليوم التاسع من الشهر الرابع من كل سنة، و هو يوم استيلاء الكلدان على القدس. و اليوم العاشر من الشهر الخامس، و هو يوم احتراق الهيكل و المدينة. و اليوم الثالث من الشهر السابع، و هو يوم استباحة نبوخذ نصّر لاورشليم قتلا و نهبا. و اليوم العاشر من الشهر العاشر، و هو يوم ابتداء حصار القدس.

و أما النصارى - على اختلاف مذاهبهم - فهم متفقون على وجوب الصوم في الجملة فقد ورد في إنجيل [متى 6 ر 16] «و متى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنّهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحق أقول لكم إنّهم قد استوفوا أجرهم، و أما أنت فمتى صمت فادهن رأسك و اغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائما». و قد نسب إلى السيد المسيح أنّه صام أربعين يوما بلياليها.

و الصوم عندهم مفروض في أزمنة معينة خاصة و إن اختلفوا في قواعده فإنّه عند أكثرهم الانقطاع عن المأكل من نصف الليل إلى الظهر، فالكاثوليك منهم الصيام عندهم كثير و شديد، و هو عندهم: الإمساك عن الطعام و الشراب يومهم و ليلهم و لا يأكلون إلا قرب المساء، و إذا أفطروا لا يشربون خمرا، و لا يتأنقون في المأكل، و الفرض عندهم هو الصوم الكبير السابق لعيد الفصح و ما سواه فهو نفل، و هو كثير كصوم يوم الأربعاء تذكارا للحكم على السيد المسيح و يوم الجمعة يوم صلبه، و كذا صوم الأيام الأربعة السابقة للميلاد و عيد انتقال العذراء، و عيد جميع القديسين، هذا ما كان عليه الكاثوليك أول الأمر و لكن جرت تغييرات في فروض الصوم حتى صار صوم كثير من الأيام السابقة فرضا، و من ذلك وجوب الصوم و الانقطاع عن اللحم يوم الجمعة ما لم يقع يوم عيد، و أضيف إليه يوم السبت أيضا. و من ذلك صوم البارامون أي: صوم الاستعداد للاحتفال بالأعياد الكبرى.

و أما الروم الآثوذكس فأيام الصيام عندهم أكثر، و قوانينهم أشد، و أهمها

ص: 26

أربعة أولها: الصوم السابق لعيد الفصح. الثاني: من العنصرة إلى آخر حزيران.

الثالث: خمسة عشر يوما قبل انتقال العذراء. الرابع: أربعون يوما قبل الميلاد.

و أما الأرمن و القبط و النساطرة فهم أشد الملل النصرانية في الصوم و أكثرها صوما، و هو عندهم إجباري لا يجري فيه من التساهل ما يجري عند غيرهم، فإنّ الأرمن يصومون الأربعاء و الجمعة من كل أسبوع إلا ما وقع منهما بين الفصح و الصعود، و لهم أيضا عشرة أسابيع يصومونها كل سنة. و بالجملة إنّ الصّوم عندهم يذهب بنصف السنة.

و أما البروتستانت فالصوم عندهم سنة حسنة لا فرض واجب، و هو عندهم الإمساك عن الطعام مطلقا بخلاف سائر الطوائف المسيحية فإنّ الصوم عندهم الانقطاع عن بعض المآكل كما عرفت.

و الصوم عند المسلمين هو الإمساك عن الأكل و الشرب و غيرهما من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، و فيه من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم يكن لغيرهم، و لذا يفسده عندهم ما لا يفسده عند غيرهم.

و أما الفرض عندهم هو شهر رمضان، و غيره نفل يعم السنة إلا ما كان محرما كصوم يومي العيدين، و له أحكام كثيرة عندهم فلتراجع الكتب الفقهية.

و أما الصوم عند غير الأديان الإلهية، فالمصريون القدماء كانوا يصومون تعبدا لا يزيس و اليونان لذيميتيز - آلهة الزراعة - و كذا إذا أراد أحدهم أن ينخرط في زمرة المطلعين على أسرار كيبلي استعد لذلك بصوم عشرة أيام.

و أما الرومان فقد كانوا أكثر صوما من اليونان، و لهم أيام معلومة يصومونها كل عام تعبدا لزفس و سيريس، و إن ألمّت بهم حادثة صاموا استعطافا لمعبوداتهم.

و أما الهنود فقد فاقوا جميع الأمم بالصيام حتى إنّهم يقضون أياما لا يأكلون و لا يشربون و يألفونه صغارا فلا يوهن قواهم كثرته كبارا.

ص: 27

شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ.......

اشارة

شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الآيات مرتبطة بعضها مع بعض ذات نسق منظّم و أدب رفيع و أسلوب رائق في بيان حكم إلهيّ ألقاه عز و جل متدرّجا ليأنس به الطبع، فبيّن سبحانه مدّة الصيام و أنّها قليلة و لكنّها عظيمة بسبب نزول القرآن الفاصل بين الحق و الباطل فيها، و وضع الصيام عن المرضى و المسافرين و قد أخبر سبحانه و تعالى أنّه يريد اليسر للإنسان في تكاليفه و لم ينزّل الأحكام الشرعية لتعسيره ثم بيّن بعض الغايات لهذا التكليف العظيم.

ص: 28

التفسير

185 - قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ .

جملة مستأنفة. بيان للأيام المعدودات. مرفوعة على الابتداء، و الخبر «الذي أنزل».

و مادة (شهر) تأتي بمعنى الظهور، و سمي الشهر شهرا لظهوره، و هو جزء من اثني عشر جزء التي تحصل من دوران الأرض حول الشمس سواء عدت بالأهلة أو بغيرها، و جمعه في القلة أشهر، و في الكثرة: شهور.

و قد ورد في القرآن الكريم مفردا و جمعا في موارد كثيرة، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ [المائدة - 2] و قال تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ [البقرة - 192]، و قال تعالى: إِنَّ عِدَّةَ اَلشُّهُورِ عِنْدَ اَللّهِ [التوبة - 36]. و تحديد الزمان بالأشهر قديم جدا يأتي في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ [البقرة - 189] البحث في ذلك.

و رمضان مأخوذ من [رمض] و هو شدة وقع الشمس على الرمل و غيره، و يقال رمض الصائم يرمض إذا حرّ جوفه من شدة العطش، و الرمضاء: الحجارة الحارة، و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أي: وقت نافلة الظهر هو أن تحمى الرمضاء فتبرك الفصال من شدة

ص: 29

حرها و إحراقها أخفافها.

و عن جمع من اللغويين أنّ هيئة فعلان - بفتح الأول و الثاني - يراعى فيها الاضطراب و الحركة في الجملة، كالخفقان و اللّمعان، و السّيلان و نحوهما، و قد ادعى الكلية في ذلك.

سمي هذا الشهر بهذا الاسم، لأنّ حدوث هذه التسمية كان في شدة الحر، فإنّهم لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة عدوها بالأزمنة التي وقعت فيها، أو لأنّه يحرق الذنوب و يسقطها عن الصائمين

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما سمي رمضان لأنّه يرمض ذنوب عباد اللّه»، أو إنّه مأخوذ من الرمضاء - بسكون الميم - و هو مطر يأتي قبل الخريف يطهّر وجه الأرض عن الغبار، كما نقل عن الخليل، فكذلك شهر رمضان يطهّر قلوب هذه الأمة عن الخطايا و الرذائل.

و هو ممنوع من الصرف للتعريف، و النون الزائدة، و لم ترد هذه المادة في القرآن الكريم إلا في هذا المورد.

و في بعض الأخبار أنّ رمضان اسم من أسماء اللّه تعالى

فعن أبي جعفر الباقر (عليهما السلام): «لا تقولوا جاء رمضان و ذهب رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه»، و قد روي عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) مثله كما في كنز العمال. و لعل الوجه فيه أنّه عز و جل يسقط ذنوب عباده و يغفر لمن يشاء، و يشهد له ما في بعض الآثار أنّه شهر اللّه تعالى، و لذا من الأدب أن لا يفرد في الكلام، بل يقال: شهر رمضان، و لكن وقع التعبير به مفردا في بعض الأخبار، لبيان أصل الجواز، و لم أظفر في الدعوات المأثورة أنّه اطلق عليه تعالى (رمضان) في ما تفحصت عاجلا.

قوله تعالى: اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ .

بيان لحكمة تخصيص هذا الشهر بالصوم. و القرآن يأتي بمعنى الجمع، و سمي كتاب اللّه به، لأنّه جمع فيه المعارف و الأحكام، و العلوم. و هو علم للكتاب المنزل على رسول اللّه خاتم النبيين محمد بن عبد اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 30

الذي جمع فيه المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية و العلوم المتعالية.

و قد ورد هذا اللفظ في القرآن فيما يزيد على خمسين موردا كلّها مقرونة بالتجليل و التعظيم، و له أسماء كثيرة للقاعدة المعروفة: كلما ازداد المعنى بهاء و كمالا ازدادت ألفاظه جمالا و جلالا. و هو المهيمن على جميع الكتب السماوية، و المشتمل على أسرار يصعب على الأذهان فهمها، و لا يمكن الإحاطة بها إلا نزرا يسيرا ممن شملتهم عناية اللّه تعالى، فعلّمهم ما لم يمكن دركه بغير إفاضة منه عز و جل مع اعترافهم بالقصور، و التواضع أمام عظمته، فإنّ درك حقيقة الوحي يختص بالموحي، و أمين الوحي و الموحى إليه، و هي من الأسرار التي لا يتقدمهم فيها أحد.

و مادة (نزل) تدل على الانحطاط من العلوّ في جميع مشتقاتها سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا. و أما التنزيل فقد لوحظ فيه التفرق بخلاف الإنزال فإنّه أعم منه.

و للتنزيل و الإنزال مراتب مختلفة و غايات متعددة يتعددان بتعددهما و يختلفان باختلافهما:

فتارة: ينزل من مرتبة العلم الأزلي إلى مرتبة فعله تعالى.

و أخرى: ينزل جملة على أقدس قلب و أصفاه في الممكنات، و هو قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيكون كشهاب برق إلهي يبرق على شمس الحقيقة ليزيدها بهجة و جلالا، و لمعة و إجلالا.

و ثالثة: ينزل متفرقا ليقرأه على مكث، و سيأتي في المبحث الآتي ما يتعلق بنزول القرآن.

و الآية تدل على أنّ القرآن الكريم نزل في شهر رمضان إلا أنّها لم تعيّن في أيّ وقت منه، و لكن ورد في آية أخرى أنّه في ليلة مباركة، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]. و في ثالثة: ذكر أنّها ليلة القدر، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]. و الأخيرة تكون مبينة للآيات السابقة، فلا منافاة في البين.

ص: 31

و قد تشرف هذا الشهر بنزول القرآن فيه، و لذا اختص بالصيام و لا يعقل شرف فوق شرف كتاب اللّه عز و جل، و إن كان هذا الشهر مقدس من القديم و كان الصوم فيه عبادة قديمة، و قد ورد في الأخبار بأنّ الكتب السماوية من صحف إبراهيم، و التوراة، و زبور داوود، و الإنجيل، و القرآن نزلت في هذا الشهر. و فيه تقدر جميع الأمور بكليّاتها و جزئياتها، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان - 4]. و فيه القضاء المبرم الذي لا تغيير فيه و لا تبديل، و يأتي في المحلّ المناسب تفصيل ذلك.

قوله تعالى: هُدىً لِلنّاسِ .

الهداية: هي الدلالة بلطف، و الهدية: الإعطاء، ففي الإعطاء و البذل تسمى هدية، و في الدلالة هداية، و قد ذكرت هذه المادة بجميع مشتقاتها في القرآن الكريم في ما يزيد على ثلاثمائة مورد، و في جميع استعمالاتها مقرونة بالشرف و التعظيم، إلا في مثل قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ اَلْجَحِيمِ [الصافات - 23]، و قوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ [البلد - 10]. و يمكن الاستعمال بداعي التهكم لا الحقيقة.

و المعروف بين الأدباء أنّ الهداية إن تعدت إلى المفعول الثاني بنفسها كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب، و إن تعدت (باللام أو إلى) كانت بمعنى إراءة الطريق، و هذا من إحدى القرائن التي يجدها المتتبع في الكلمات.

و الهداية: إن كانت بمعنى الإيصال إلى المطلوب بالنسبة إلى اللّه عز و جل فهو غير متناه. لأنّ المطلوب لا حد له بوجه من الوجوه. نعم استعداد من يهدى له مراتب متناهية، لفرض إمكانه.

و إن كانت بمعنى إراءة الطريق فهي كثيرة، و للمجاهدات و الرياضات الشرعية دخل كثير في الهدايتين، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت - 69]. و تقدم ما يتعلق بهذه المادة في أول سورة البقرة فراجع.

و لفظ الناس قد ذكر في القرآن في ما يقرب من مأتين و خمسين آية،

ص: 32

و أصل معناه من الاضطراب. و هو اسم جنس له أنواع كثيرة تعرف بالقرائن المحفوفة بالكلام و مع عدمها يرجع إلى العموم.

و المعنى: إنّ القرآن أنزل في شهر رمضان لهداية الناس إلى الصراط المستقيم بحسب اختيارهم، و لا معنى للهداية الجبرية و إن كانت مقدورة للّه تعالى، قال عز و جل: أَنْ لَوْ يَشاءُ اَللّهُ لَهَدَى اَلنّاسَ جَمِيعاً [الرعد - 31].

و لكن عنايته الأزلية اقتضت أن تكون اختيارية لأنّ الكمال في الهداية بالاختيار.

قوله تعالى: وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ البينات جمع البينة، و هي الدلالة الواضحة الكافية عقلا لإتمام الحجة، قال تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال - 42].

و الفرقان: ما يفرق بين الحق و الباطل، و هو كثير مثل الكتب السماوية، قال تعالى: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى اَلْكِتابَ وَ اَلْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة - 53].

و الزمان الذي يغلب فيه الحق على الباطل، قال تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ [الأنفال - 41]. و المكان الذي يقضى فيه بالحق و يعمل فيه. و المعاجز الصادرة من الأنبياء فرقان، كما أنّ السنة المقدسة فرقان، و العقل الداعي إلى عبادة الرحمن و اكتساب الجنان فرقان، و العالم الذي يعمل بعلمه فرقان. و كلّ ما يضاف إليه تعالى فرقان مقابل ما يضاف إلى الشيطان.

و القرآن أجلى تلك المظاهر بل هي منطوية في القرآن فهو قرآن بوجوده الجمعي، و فرقان بوجوده التفصيلي، و لا يختص الفرقان بالتفرق الحسي و بحسب المدارك الظاهرية، بل يشمل التفرق بحسب جميع المدارك، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان - 4]. فجميع التقديرات الإلهية و جميع مراتب قضائه عز و جل من الفرقان، و في الحديث: «إنّ الفرقان المحكم الواجب العمل، و القرآن جملة الكتاب» و هو من بيان بعض المراتب، و إلا فالقرآن بجميع آياته فرقان.

ص: 33

و قد ذكر سبحانه و تعالى في المقام ثلاث خصال للقرآن الكريم: و هي أنّه هدى للناس، و هذه خصلة من لوازم ذات القرآن، بل جميع الكتب السماوية، و اشتماله على البينات الواضحة لكل فرد، و الفرقان بين الحق و الباطل. فإنّ لكل حق حقيقة، و على كل حقيقة نور. و في مقابل كل حقيقة باطل، و شأن الكتب السماوية و الأنبياء و من يحذو حذوهم علما و عملا تمييز الحق عن الباطل، و عرضه على عقول الناس، كل ذلك على حسب التدرج و التأنّي، كما هو سنته تعالى في أصل الإيجاد، أو في جهات التشريع.

قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ .

الشهود بمعنى الحضور، سواء كان بالبصر أو البصيرة، أو الواقع فالكل شهود، و هو من الصفات ذات الإضافة، فكما أنّ الشاهد يشهد المشهود فهو أيضا حاضر لدى الشاهد.

و في المقام يمكن أن يكون المراد بالشهود الحضور مقابل الغيبة و السّفر، و يعضده قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ . أو يكون المراد الأعم منه و من استجماع شرائط صحة الصوم، و يعضده قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً .

قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ .

العدة: هي المعدودة، أي عليه صوم أيام أخر مثل الأيام التي فاتته من صوم شهر رمضان. و من التفصيل بين حكم الحاضر و حكم المسافر في شهر رمضان و إثبات وقتين لهما يستفاد أنّه لا رجحان لصوم المسافر في شهر رمضان، و يدل عليه ما يأتي من قوله تعالى، و إلا لما كان لهذا التأكيد و التمييز بين الموضوعين و الحكمين معنى.

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ .

الإرادة: هي من الوجدانيات لكل ذي شعور، لأنّ من لوازم الحياة التحرك بالإرادة، و اشتقاقها من ورد.

و عن جمع من المفسرين و غيرهم أنّها بمعنى الطلب، و لا كلية فيه كما

ص: 34

أثبتناه في (تهذيب الأصول). و الإرادة من اللّه جل شأنه فعله.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى أراد في كلّ ما شرعه من الأحكام اليسر النوعي، و منه إفطار المريض و المسافر.

و في التعبير من التحريض و الترغيب ما لا يخفى، سواء في الترخيص أم في العزيمة، لأنّ «اللّه يحب أن يؤتى برخصه كما يحب أن يؤتى بعزائمه»، و مثل الآية المباركة قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء - 28]، و قوله تعالى: ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78].

قوله تعالى: وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ .

تأكيد لما سبق. و العسر: خلاف اليسر.

و المعنى: إنّ اللّه تعالى لا يريد العسر في تشريعه الأحكام، و منها الصيام أداء و قضاء، و يستفاد منه أنّ الصوم في السفر غير مراد للّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ .

أي: و لتعظموا اللّه تعالى على هدايتكم إلى الدين و شرائعه المقدسة لا سيما الصيام، فإنّ فيه إصلاح النفوس و تكميلها، و هذه الغاية من أعلى الفضائل.

و قد وردت روايات تدل على أنّ هذا التكبير وارد في آداب ليلة الفطر إلى أربع صلوات بعدها. و هذا من ذكر بعض المصاديق لكلّ ما يكبّر العبد ربه العظيم، و إن كان ما يصدر من العبد لا يبلغ ما أنعم عليه ربه الرحيم، إذ لا وجه لنسبة المتناهي لغير المتناهي،

قال علي (عليه السلام): «و ما قدر أعمال أقابل بها نعمك و إنّي لأرجو أن تستغرق ذنوبي في كرمك كما أستغرق أعمالي في نعمك».

قوله تعالى: وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

أي: تشكرون اللّه على نعمه عليكم كلّها و منها الصيام، و في إتيان [لعل] دلالة على أنّ للأعمال و المجاهدات دخل في قوة اختيار العبد للشكر.

ص: 35

بحوث المقام
بحث أدبي

يجوز أن يكون «شهر رمضان» مرفوعا على الابتداء، و الخبر قوله تعالى:

اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ أو يكون خبرا لمبتدأ محذوف و الصلة صفة له، و التقدير: الواجب عليكم، و نحوه.

«و رمضان» غير منصرف لزيادة النون و العلمية. و «هدى» في موضع نصب على الحال من القرآن و «بيّنات» عطف عليه.

و اللام في «فليصمه» لام الأمر، و إذا أفردت كسرت، و أما إذا وصلت بشيء ففيها الوجهان: الجزم و الكسر. و ما يوصل بها ثلاثة أحرف: الفاء مثل قوله تعالى: فَلْيَصُمْهُ ، و قوله تعالى: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا اَلْبَيْتِ [قريش - 3]. و الواو مثل قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج - الآية 29]. و ثم مثل قوله تعالى: ثُمَّ لْيَقْضُوا [الحج - 29].

و الشهر منصوب على الظرفية أي حضر فيه.

و اللام في وَ لِتُكْمِلُوا للتعليل، و الجملة عطف على سياق الجملة السابقة، و قرئ «لتكمّلوا» بالتشديد.

ص: 36

بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: أنّها تدل على فضل شهر رمضان على سائر الشهور، و ذلك لنزول القرآن الذي هو أشرف الكتب السماوية - كما مر - و أعظم تجلّ إلهي أبدي في عالم الإمكان، و فرق بينه و بين تجليه تعالى لموسى بن عمران (عليه السلام) بوجوه:

الأول: أنّه تجلّ جزئي بالجزئية الوجودية - لا المفهومية - لفرد واحد من أفراد الإنسان اللائق، و القرآن تجلّ إلهي نوعي.

الثاني: أنّ الأول كان في محلّ خاص و هو الجبل، و هذا من قمة العرش الأعلى إلى قرار الأرض.

الثالث: أنّ في الأول كان التجلّي موجبا لصعق موسى (عليه السلام) و تجلّي القرآن موجب لارتقاء القلوب من حضيض الدنيا إلى عالم الغيب المحيط بها، فيصير المتجلّى له عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

الرابع: أنّ تجلّي القرآن على قلب نبينا الأقدس (صلّى اللّه عليه و آله) لم يوجب أن يخر صعقا بل بقي مستقيما باستقامة شروق النور المقدّس الأحدي، و بقي المتجلّي لهم ببقاء النور المحمدي المقتبس من النور الأقدس الأحدي.

ص: 37

الثاني: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ يدل - أي هذه الجملة المركبة من الشرط و الجزاء - على أنّ المناط هو ثبوت الشهر و حضوره حقيقة و ذلك برؤية الهلال، أو تقديرا فيما إذا لم يمكن ذلك. و هو لا يدل على أنّ من حضر شطرا من شهر رمضان لا بد له من الإتمام و لو كان مسافرا.

الثالث: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ تأكيد لما ذكره عز و جل من سقوط الصوم عن المريض و المسافر دفعا للشكوك و الأوهام.

و إنّما ذكر السفر مع الظرف دون المرض، لأنّ الثاني من قبيل الوصف بحال الذات، و الأول من قبيل الوصف بحال المتعلق فيصح بذلك اختلاف التعبير بينهما.

الرابع: أنّ تكملة العدة في شهر رمضان تتحقق بالصيام بين الهلالين - أي هلال رمضان و هلال شوال - و مع الخفاء فثلاثين يوما

كما رواه الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الصوم للرؤية و الفطر للرؤية»،

و عن عليّ (عليه السلام): «صم للرؤية و أفطر للرؤية، فإن خفي عليكم فأتموا الشهر الأول ثلاثين يوما».

الخامس: أنّ قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ يدل على أنّ الملاحظ اليسر و العسر النوعيان منهما لا الشخصيان فلا يرد عليه أنّنا نرى تخلّف ذلك في الصوم وجدانا، لأنّ الشخص المكلّف إنّما يستفيد من هذه العبادة روحا و جزاء أكثر مما يبذله من الجهد.

السادس: لم يذكر في القرآن الكريم قضاء عبادة إلا حكم قضاء شهر رمضان في قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ . و يستفاد منه فروع فقهية كثيرة مذكورة في الكتب الفقهية.

ص: 38

بحث علمي
اشارة

الآية الشريفة تدل على نزول القرآن الكريم في شهر رمضان، و قد ذكر سبحانه في آيات أخر أنّه كان في ليلة القدر منه، و هي واحدة من الآيات الكثيرة الدالة على نزوله من اللّه تعالى على رسوله (صلّى اللّه عليه و آله) و جميعها تدل على عظمة المنزل و أهميته، قال تعالى: وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ [الإسراء - 105]. و الكلام في نزول القرآن يقع من ناحيتين:

الأولى: في حقيقة النزول و للعلماء و الفلاسفة كلام فيها، و هو مورد البحث عندهم و قد أفردوا لمسألة الوحي كتبا مستقلة، و سيأتي البحث عنه في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثانية: في كيفية النزول و أنّه هل نزل جملة واحدة أو نزل متفرّقا أو هما معا؟ و ما يتعلق به من حيث زمان النزول و مكانه و أول ما نزل. و الكلام في المقام في هذه الناحية يقع في أمور:

النزول و التنزيل:

الآيات التي وردت في إنزال القرآن الكريم على قسمين: قسم ورد فيه لفظ النزول الدال على الانحطاط من العلو - سواء كان ذلك حقيقيا أو اعتباريا - جملة واحدة من دون ملاحظة التفرق و التدرج فيه، قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]، و قال تعالى: وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ [الأنعام

ص: 39

- 6]، و قال تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]، و قال تعالى:

كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ [ص - 29] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

و قسم آخر ورد فيه لفظ التنزيل الدال على الانحطاط من العلو مع التفرق و التدريج قال تعالى: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى اَلنّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً [الإسراء - 106]، و قال تعالى: نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْقُرْآنَ تَنْزِيلاً [الإنسان - 23] و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على نزول القرآن تدريجا في مجموع مدة بعثة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و هي مدة دعوته البالغة عشرين سنة.

و قد استعملت هاتان المادتان بالنسبة إلى غير القرآن أيضا، كما ورد في نزول الملائكة قال تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [المؤمنون - 24]، و قال تعالى: وَ نُزِّلَ اَلْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً [الفرقان - 25]، و بالنسبة إلى المطر النازل من السماء، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً [النحل - 10]، و قال تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً [الأنفال - 11].

و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنّه يلاحظ تارة المجموع فيستعمل النزول و الإنزال، و أخرى يلاحظ البعض و الأجزاء فيستعمل التنزيل.

تعدد النزول:

لا ريب في تعدد نزول القرآن حسب المستفاد من الآيات الشريفة و السنة المقدسة الواصلة إلينا و ما ذكره العلماء في ذلك الوجوه:

الأول: أنّه أنزل جملة في شهر رمضان إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم أنزل على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) متفرقا ليقرأه على الناس في مجموع مدة الدعوة و قد وردت في ذلك روايات ففي الكافي عن حفص بن غياث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن قول اللّه تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ و إنّما أنزل في عشرين سنة بين أوله و آخره.

فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): نزل القرآن جملة واحدة في شهر رمضان إلى

ص: 40

البيت المعمور ثم نزل في طول عشرين سنة». و روي قريب منه عن ابن عباس.

و قد ادعي الإجماع على ذلك. و البيت المعمور الوارد في هذه الرواية و السماء الدنيا في رواية أخرى شيء واحد كما يأتي في محله و إن صح الاختلاف بالاعتبار.

و أشكل عليه: بأنّ نزوله إلى السماء الدنيا لم يكن فيه أي منة علينا و لا معنى لاتصافه بالهداية و الفرقان و بقائه في السماء الدنيا مدة سنين و هذا مما ينفيه قوله تعالى: هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ .

و أجيب عنه: بأنّ اتصاف القرآن بالهداية و الفرقان اقتضائي أي: من شأنه أن يهدي من التمس الهداية منه، و أن يكون فرقانا إذا التبس الحق بالباطل.

و بعبارة أخرى: إنّ اتصافه بهما يكون بتتميم إنزاله إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله).

و نوقش في ذلك بأنّه لا يمكن إنزاله جملة واحدة و لو إلى السماء الدنيا، لأنّ منه الناسخ و المنسوخ، و منه ما يكون جوابا لسؤال، أو إنكار قول، أو حدوث حادثة، و لا يتأتى ذلك إلا إذا نزل متفرقا.

و يمكن الجواب عنه: بأنّ الحوادث المتدرجة الزمانية المتقدمة بعضها على بعض أو المقارنة بعضها مع بعض إنّما تكون بالنسبة إلى سلسلة الزمان المتدرجة في الحوادث المحصورة في الزمان الذي لا ينفك عن التغير و الحدثان. و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى المحيط بما سواه بكل معنى الإحاطة و العالم بالجزئيات قبل حدوثها، فتكون جميع الحوادث المتعاقبة في الزمان عنده شيئا واحدا واقعا في آن واحد و الإشكال إنّما هو بالنسبة إلى الزماني لا بالنسبة إلى المنزّه عن الزمان.

الثاني: أنّ المراد بنزول القرآن في شهر رمضان هو ابتداء نزوله فيه ثم أنزل بعد ذلك متفرقا في أوقات مختلفة، و القرآن كما يطلق على المجموع يطلق على البعض أيضا.

و يرد عليه: أنّه مخالف لظاهر الآيات المباركة الدالة على نزول القرآن

ص: 41

بأجمعه في شهر رمضان و في الليلة المباركة منه كما مر، مضافا إلى أنّ بعثة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كانت في غير شهر رمضان، و من المستبعد جدا أن لا ينزل في أول البعثة شيء من القرآن الكريم و تخلو مدة منه، مع أنّ المشهور أنّ أول سورة نزلت مصاحبة للبعثة إما سورة العلق، أو سورة المدثر، و فيهما شواهد على أنّهما نزلتا حين البعثة و أمر الرسول بالرسالة.

الثالث: أنّ المراد بنزول القرآن في ليلة القدر هو نزول سورة من سوره المشتملة على جلّ معارف القرآن كسورة الحمد، فكأنّ نزولها في ليلة القدر من شهر رمضان هو نزول القرآن بأجمعه، و يصح أن يقال نزل القرآن جملة، و بذلك يمكن الجمع بين نزول القرآن في أول بعثته (صلّى اللّه عليه و آله) و نزول القرآن في الليلة المباركة من شهر رمضان.

و يرد عليه ما أورد على سابقه من أنّه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي تدل على أنّ القرآن نزل جملة في ليلة القدر، مع أنّ هذا الوجه في نفسه بعيد جدا، كما لا يخفى.

الرابع: أنّ المراد بإنزال الكتاب جملة في الليلة المباركة هو حقيقة الكتاب التي وصفت بالمحكمة و المفصّلة و التي يأتي تأويلها في يوم القيامة، و التي لها وقع في الكتاب المكنون الذي لا يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ و إنّه في أمّ الكتاب أو في اللوح المحفوظ قبل التنزيل، كما دلت عليها الآيات المباركة، و هذه هي التي نزلت على قلب سيد المرسلين جملة ثم أنزل بعد ذلك بالتدريج حسب الوقايع و الحاجة، و لذا أمر بأن لا يعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليه وحيه قال تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ص - 114]. و هذا الكتاب المنزل تدريجا متكئ على تلك الحقيقة المتعالية المنزهة عن تلبيسات المبطلين و شكوك المعاندين، و قد أنزلها اللّه تعالى على رسوله فعلّمه تأويله و حقيقة ما يعنيه من الكتاب المبين.

و فيه: أنّه مخالف لسياق القرآن الذي نزل بلسان الأمة. نعم للقرآن حقيقة واحدة واقعية يحيط بها قلب نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لكن مورد الكلام في الأول دون الثاني.

ص: 42

و الحق أن يقال: إنّ القرآن يختلف عن سائر الكتب الإلهية من جهات كثيرة فهو آخرها، المهيمن عليها، و أنّه أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود - 1]، و أنّ فيه تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً [يوسف - 111]، و أنّه لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [يونس - 37]، و أنّه فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف - 4]، و يكفي في عظمة أمره قوله تعالى:

رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى - 52]. و لا ريب في أنّ مثل هذا الكتاب له من الجلال و العظمة و الكبرياء ما لا يمكن دركه بالعقول و إن بلغت ما بلغت، و حينئذ لا يمكن لنا أن نقول بنزوله مرة واحدة، سواء كان دفعة واحدة أم تدريجا من دون أن يعرف من أنزل عليه تأويله، و هو النبي العظيم حبيب ربّ العالمين و صاحب الشرع المبين، الذي هو سر من أسرار عالم الجبروت، و قد انطوى فيه العالم الأكبر، و هو بنفسه كتاب إلهي تكويني، و له المقام المحمود عند رب العالمين، و مع ذلك كلّه يكون غافلا عمّا ينزل عليه، و هذا بعيد جدا فلا بد و أن يكون عارفا به و بتأويله و حقيقته و جميع خصوصياته فأنزل جميعا على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). كما هو المتيقن من قوله تعالى: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى . [سورة النجم - الآية - 10]، ثم بعد ذلك أنزل عليه تدريجا في مدة الدعوة و لا مانع من تعدد الوحي الذي هو سر إلهي بين الموحي و الموحى إليه، و فيه ابتهاج للمنزل عليه، و يدل على ذلك قوله تعالى: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة - 19]، و قوله تعالى: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ [ص - 114]، و من المعلوم أنّه إن لم يكن عارفا به و عالما بخصوصياته لا معنى لتعجيل القرآن و إظهار بيانه فبالوحي يظهر ما في قلبه على ظاهر لسانه.

و لا ينافي ذلك أنّ القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، أو إلى البيت المعمور - أو بيت العز - حسب اختلاف التعبيرات في الروايات، أو أنّه ينزل ما يراد إنزاله في السنة في ليلة القدر، كما في بعض الروايات، أو له نزول آخر، فإنّ للنزول و التنزيل غايات متعددة و مراتب مختلفة يتعددان

ص: 43

بتعددها، فتارة ينزل من مرتبة العلم الأزلي و هو مرتبة الذات - لفرض أنّ علمه تعالى عين ذاته جل شأنه - إلى مرتبة فعله عز و جل، و أخرى ينزل جملة أو تفصيلا على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). و ثالثة ينزل لإبراز عالم الغيب في عالم الحس و العيان، أو بالعكس. و هذا ظاهر لكل من تأمل في المقام.

هذا إذا لوحظ النزول و الإنزال و ما يماثلهما من التعبيرات بالنسبة إلى ذات الكتاب العظيم و حقيقته. و أما إذا لوحظ من حيث إضافته إلى ذات المبدإ تبارك و تعالى فالنزول و الإنزال لا وجه لهما، لأنّهما من صفات الأجسام، و هو تعالى منزه عنها فإنّه جل شأنه محيط بجميع ما سواه بالإحاطة الحقيقية.

و من ذلك يظهر ما

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا» فلا بد من حمل هذه الرواية و أمثالها على نزول الرحمة و الألطاف الإلهية و قربها من العباد - كما ورد في عشية عرفة - و تخصيصها بالليل، و الثلث الأخير منه، لأنّه وقت التهجد و غفلة الناس عمن يتعرض لنفحات رحمة اللّه و الانقطاع إليه أشد و عند ذلك تكون النية خالصة و الرغبة إليه تعالى وافرة و ذلك مظنة القبول و الإجابة.

الغاية من تعدد النزول:

لا ريب في أنّ تعدد نزول القرآن يدل على عظمته، و تفخيم أمره، و إعلاء شأن من نزل عليه و الاعتناء به، و أنّه تكريم لبني آدم حيث نزل فيهم هذا الكتاب الكريم و إعلام للملائكة و سكان السّماوات بأهميته، و أنّه آخر الكتب السماوية، و إتمام الحجة على الخلايق، و لذا لم يكن كتاب إلهي غيره ينزل متعددا أو ينزل نجوما و قد خفي على المشركين و الكافرين عظمة هذا الكتاب حيث اعتبروه كسائر الكتب الإلهية على ما حكى عنهم عز و جل فقال:

وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ اَلْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً فأجابهم عز و جل:

كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ [الفرقان - 32]. و يمكن أن يكون المراد بتثبيت الفؤاد عنايته تعالى بجهة ابتلائه مع الناس و شدة معاداتهم للوحي و الموحى إليه.

ص: 44

محل النزول و زمانه:

ذكرنا أنّ القرآن نزل تارة جملة، و أخرى نجوما، و عرفت أنّ نزوله الجمعي كان في الليلة المباركة من شهر رمضان بمقتضى الآيات الشريفة، و لكن نزوله التدريجي لم يكن له محلّ معيّن أو زمان كذلك فقد كان ينزل على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حسب المقتضيات إلا أنّ ابتداءه كان من حين بعثته (صلّى اللّه عليه و آله) و انتهاءه قبل رحيله (صلّى اللّه عليه و آله) و هو مدة دعوته البالغة عشرين سنة أو أكثر على اختلاف الروايات.

فقد نزل جملة من سور القرآن في مكة المكرمة مهبط الوحي المبين، و جملة منها في المدينة مهجر الرسول الأمين (صلّى اللّه عليه و آله)، و قد نزل عليه من القرآن في الحضر و في السفر و في النهار و في الليل، و بعض السور نزلت مكررة كسورة الحمد، و بعضها نزلت و قد شيعتها ملائكة السماء، كسورة الأنعام، و إنّ بعض السور مكي و البعض الآخر مدني كل ذلك معلوم مذكور في الكتب المؤلفة في علوم القرآن، و إن كان لهم اختلاف في بعض الجهات.

و قد ذكر العلماء وجوها للتمييز بين السور المكية و السور المدنية و أهمها هي:

الأول: أنّ السور المكية تمتاز بقوة نبرتها و أسلوبها التهكمي فإنّها نزلت في قوم عتاة جبابرة فاتخذت وجه التهديد و التعنيف لهم و الإنكار عليهم و لذا وردت السجدة فيها، بخلاف السور المدنية فإنّها نزلت في قوم ذوي ذلة و ضعف فاتخذت أسلوب اللين و العطف.

الثاني: أنّ السور المكية أكثرها تشير إلى إثبات الإله الواحد العزيز الجبار، و إثبات يوم القيامة و المعاد و أوصافه. و أما السور المدنية فتشير إلى صفات الإله و الحساب.

الثالث: أنّ السور المكية خالية تقريبا عن القصص و الأحكام و الفرائض و السنن، بخلاف السور المدنية.

ص: 45

الرابع: أنّ في السور المدنية ذكر المنافقين بخلاف السور المكية فإنّ فيها ذكر الأمم و القرون.

الخامس: أنّ السور المدنية أغلبها فيها جملة: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» ، بخلاف السور المكية فإنّ الأغلب فيها «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ» أو أولها حرف تهج غالبا.

عروج القرآن:

كما أنّ للقرآن نزولا حسب ما تقدم كذلك له صعود و تجليات أي:

ظهور في المظاهر اللايقة به.

منها: تجلياته في قلوب أولياء اللّه المخلصين و أحبائه العارفين، كما هو ظاهر عند أهله و إشراقاته المعنوية على النفوس المستعدة لها.

و منها: صعوده إليه جلّت عظمته فمنه المبدأ و إليه المنتهى، لقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ [الفاطر - 10].

و منها: صعوده إليه تعالى، و تجسّمه لأهل الحشر، لأن يشفع في من له أهلية الشفاعة، كما في كثير من الأحاديث و شكواه ممن ضيّعه.

و منها: صعوده إلى مقام الشهادة عند الميزان، كما هو الشأن بالنسبة إلى الأنبياء و المرسلين، و يدل عليه كثير من الآيات، كما يأتي.

بل يمكن أن يقال: إنّ جميع آثاره الباهرة الظاهرة منه من مراتب صعوده كشفائه للمرضى و حجبه عن الأرواح الشريرة إلى غير ذلك مما وضع له كتب مستقلة،

و عن عليّ (عليه السلام) في القرآن «لا تحصى عجائبه و لا تنقص غرائبه».

خلق القرآن:

وقع الكلام بين العلماء السابقين في قدم القرآن و خلقه و ذهب إلى كل واحد منهما فريق و أقام الدليل على مختاره و لا فائدة في هذا النزاع الذي أشغل بال المسلمين برهة من الزمن.

ص: 46

فالحق ان يقال: إنّ للقرآن اعتبارات فإذا لوحظ من حيث إنّه علم اللّه عز و جل فهو قديم واجب بالذات، لما ثبت بالأدلة العقلية و النقلية من أنّ علمه جلّت عظمته عين ذاته. و إذا لوحظ من حيث معارفه الحقيقية الواقعية، فهو الذي لا يزول و يبقى و يدوم و إن مرت الأمم و العوالم و تغايرت النشآت و المعالم، و بناء على ذلك فهو أزلي أبدي من حيث أنّ مبدأه من اللّه تعالى و منتهاه إليه عز و جل.

و إذا لوحظ من حيث إنّه فعل من أفعاله فهو حادث.

و يمكن الجمع بين من يقول بأنّه قديم و من يقول بأنّه حادث و رفع النزاع بينهم و إن كان هذا الجمع خلاف ظاهر الكلمات.

ص: 47

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لا تقولوا جاء رمضان، و ذهب رمضان، فإنّ رمضان اسم من أسماء اللّه و لكن قولوا شهر رمضان».

و روي قريب منه عن عليّ (عليه السلام) و كذلك في كنز العمال.

أقول: تقدم الكلام فيه، و قلنا إنّه محمول على نحو من التأدب.

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به».

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدق فيه من كان قبله من الأنبياء».

و مثله في تفسير القمي.

أقول: بحسب هذا الاصطلاح يكون الفرقان أخصّ من القرآن فلا يطلق الفرقان على المتشابهات، و إلا فقد قلنا إنّ الفرقان يصح إطلاقه على جميع القرآن باعتبار أنّه الفارق بين الحق و الباطل.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «فمن شهد منكم الشهر فليصمه، ما أبينها!! من شهد فليصمه و من سافر فلا يصمه».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) مثله.

ص: 48

أقول: هذا الحديث ظاهر في أنّ المراد من الشهود الحضور مقابل السفر كما هو ظاهر الآية الشريفة بقرينة المقابلة و لو أريد من لفظ «شهد» الشهادة بمعنى الرؤية يستفاد الحضور بالملازمة أيضا من ذيل الآية الشريفة.

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «إذا دخل شهر رمضان فلله فيه شرط قال اللّه تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ فليس للرجل إذا دخل شهر رمضان أن يخرج إلا في حج أو عمرة، أو مال يخاف تلفه، أو أخ يخاف هلاكه. و ليس له أن يخرج في إتلاف مال أخيه، فإذا مضت ليلة ثلاث و عشرين فليخرج حيث شاء».

أقول: هذا محمول بالنسبة إلى أصل المسافرة في الشهر على المرجوحية بقرينة سائر الروايات و تتأكد الكراهة في العشرة الأخيرة فهو حكم أدبي.

في تفسير العياشي عن ابن أبي عمير عن الصادق (عليه السلام) قلت له: «جعلت فداك ما يتحدث به عندنا أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) صام تسعة و عشرين أكثر مما صام ثلاثين أحق هذا؟ قال (عليه السلام): ما خلق اللّه من هذا حرفا، فما صام النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إلا ثلاثين، لأنّ اللّه يقول: وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ فكان رسول اللّه ينقصه؟!».

أقول: في هذا الموضوع روايات كثيرة بعضها دالة على أنّ شهر رمضان تام لا ينقص و بعضها دال على أنّه قد يتم و قد ينقص، و لا بد من الأخذ بالقسم الأخير للوجدان و حمل القسم الأول على بعض المحامل، و قد فصّلنا القول في ذلك في الفقه.

في الكافي عن سعيد النقاش قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): أما إنّ في الفطر تكبيرا، و لكنّه مسنون قلت: و أين هو؟ قال (عليه السلام): في ليلة الفطر في المغرب و العشاء الآخرة، و في صلاة الفجر، و في صلاة العيد ثم يقطع، قلت: كيف أقول؟ قال (عليه السلام): تقول: اللّه أكبر، اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، اللّه أكبر على ما هدانا. و هو قول اللّه: «وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ» يعني

ص: 49

الصّيام، «وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ» ، و التكبير أن تقول: اللّه أكبر، لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر، و للّه الحمد».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «إنّ في الفطر تكبيرا.

قلت: ما التكبير إلا في يوم النحر؟ قال: فيه تكبير، و لكنّه مسنون في المغرب و العشاء و الفجر، و الظهر، و العصر، و ركعتي العيد». و قريب منه ما أخرجه ابن جرير في التفسير بسنده عن زيد بن أسلم و ابن عباس.

أقول: التكبير مندوب و قد وردت في ذلك روايات كثيرة من الفريقين في كيفية التكبير و كميته مذكورتان في كتب الفقه، من شاء فليرجع إليها.

في محاسن البرقي عن بعض أصحابنا في قول اللّه تعالى: وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ عَلى ما هَداكُمْ . قال: «التكبير التعظيم للّه، و الهداية الولاية».

أقول: هذا من بيان بعض مصاديق التكبير، و الهداية، و لا منافاة بينه و بين ما تقدم.

ص: 50

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (18.......

اشارة

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) تحريض للدعاء بأسلوب بليغ يشعر بالعطف و الحنان و المحبة، و ترغيب الإنسان بالوصول إلى الفيض المطلق و غاية الكمال و هي الرشاد و في الآية الشريفة تلميح لبعض شروط الدعاء التي إذا توفرت تجعل الدعاء مستجابا، و في تعقيب شهر رمضان بهذا الخطاب فيه من الحث على الدعاء في هذا الشهر و أنّ له اختصاصا به و القبول فيه مما يخفف ثقل التكليف بالصوم فيه، و هذا مما دلت عليه السنة المقدسة

ففي بعض الأخبار: «من فاته الدعاء في شهر رمضان فلينتظر يوم عرفة، و من فاته الدعاء فيه فلينتظر شهر رمضان المقبل».

ص: 51

التفسير

186 - قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي .

السؤال: طلب معرفة شيء و استدعاؤها، أو طلب مال. و في الأول يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه تارة، و بحرف الجرّ أخرى، تقول: سألته كذا، و سألته عن كذا، قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ [الأنفال - 1]، و قال تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ [البقرة - 189]، و قال تعالى: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ [المعارج - 1]. و إذا كان لطلب المال يتعدى إليه بنفسه أيضا، و بمن أخرى، قال تعالى: وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ [الأحزاب - 53] و المعروف أنّ الطلب إذا كان من العالي إلى السافل، فهو أمر.

و إذا كان بالعكس فهو سؤال. و إذا كان من المساوي فهو استفهام، و قد ذكرنا في الأصول أنّه لا كلية في ذلك، و يختلف الدعاء عن السؤال في أنّ الأخير بمنزلة الغاية للأول.

و العبد، و العبودية، و العبادة: بمعنى التذلل و الخضوع، و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به. و للعبد في القرآن دلالات:

الأولى: في مقابل الحر، و هو الذي يباع و يشترى كسائر الأمتعة و له أحكام خاصة في الإسلام مذكورة في الكتب الفقهية، قال تعالى: اَلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ اَلْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ اَلْأُنْثى بِالْأُنْثى [البقرة - 178].

ص: 52

الثانية: عبد الإيجاد يعني خلقهم للعبودية و الخضوع له تعالى، كما في قوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ إِلاّ آتِي اَلرَّحْمنِ عَبْداً [مريم - 93].

الثالثة: المخلصون من عباده تعالى الذين لهم مع اللّه جل جلاله حالات، و له عز و جل معهم عنايات، و لهم في القرآن قصص و حكايات، و هم الذين استثناهم الشيطان عن غوايته فقال تعالى حكاية عنه: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [ص - 83]، لأنّهم اتخذوا اللّه تعالى بذاته الأقدس معبودا لأنفسهم بتمام معنى العبودية الحقيقية، فاتخذهم اللّه تعالى عبادا لنفسه و مدحهم بأبلغ المدائح، و لعلّ أرقّها قوله تعالى: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63].

الرابعة: عبد للّه تعالى و لكنّه يطيع الشيطان و يتبعه، قال تعالى حكاية عنه: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً [النساء - 118]، سواء كان مسبوقا بالكفر ثم آمن كذلك أم لم يكن، و الجميع عبيده عزّ و جلّ لكثرة رأفته و عنايته بخلقه، و يدل على ذلك قوله تعالى: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الحجر - 49] و قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ [الشعراء - 52] مع أنّهم كانوا من سحرة فرعون، فإنّ المنساق من هذه الآيات أنّ مجرد الإيمان باللّه جلت عظمته في مقابل الكفر به يكفي في شمولها له و هو مقتضى الرحمانية و الرحيمية المطلقة له عز و جل.

و في الكلام من العناية و اللطف ما لا يخفى.

قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ .

القرب معلوم. و القريب من أسماء اللّه الحسنى - و جميع أسمائه المقدسة حسنى، و إنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا - و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود - 61]، و قال تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ - 50]، و يبيّن هذا المعنى قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، و قد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

ص: 53

القرب معلوم. و القريب من أسماء اللّه الحسنى - و جميع أسمائه المقدسة حسنى، و إنّما التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيّا - و هو إما أن يلحظ بالنسبة إلى الذات المقدسة، قال تعالى: إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ [هود - 61]، و قال تعالى: إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ [سبأ - 50]، و يبيّن هذا المعنى قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، و قد فصل ذلك في الفلسفة تفصيلا دقيقا لعلنا نشير إليه في ضمن المباحث الآتية.

أو يلحظ بالنسبة إلى رحمته الواسعة، قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [الأعراف - 56].

و يطلق القرب بالنسبة إلى المكان، كقوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ [التوبة - 28]، و هو كثير في القرآن. و أخرى: بالنسبة إلى الزمان، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ [الأنبياء - 1]. و ثالثة:

بالنسبة إلى الفعل كالتصرف و غيره، قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [الإسراء - 34]، و قال عز و جل: وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى [الإسراء - 32]، و قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [الأنعام - 151]. و رابعة: بالنسبة إلى النسب، كقوله تعالى: أَنْ يُؤْتُوا أُولِي اَلْقُرْبى [النور - 22]، و قال تعالى:

وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى [النساء - 36].

كما يطلق و يراد به القرب المعنوي من طرف الخلق، قال تعالى: وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ [النساء - 172]، و قال تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [آل عمران - 45]، و قال تعالى: عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا اَلْمُقَرَّبُونَ [المطففين - 28].

و القرب المعنوي: إما من اللّه تعالى بالنسبة إلى خلقه و يصح أن يعبّر عنه باللطف، و العناية، و الرعاية، و القدرة، و نحو ذلك. و إما من المخلوق بالنسبة إليه عز و جل و هو حالة انقطاع إلى اللّه تبارك و تعالى بحيث لا يعلم حقيقتها إلا المتقرّب إليه جلّت عظمته و العبد المتقرّب منه و لا يحيط بها إلاّ اللّه عز و جل، و لكلّ ما ذكرناه مراتب كثيرة.

و المراد بقربه تعالى - في المقام -: القرب باللطف و الرحمة و الإجابة الذي لا حد له و لا نهاية لا أن يكون قربا زمانيا أو مكانيا فإنّه تعالى يجلّ عنهما و هو محيط بهما بالإحاطة القيّومية الحقيقية.

و ربما يكون القرب فيه من قبيل قرب العلّة الحقيقية من المعلول المحتاج

ص: 54

إليها حدوثا و بقاء،

و قد ورد في بعض الدعوات المأثورة عن الأئمة الطاهرين (عليهم السلام): «يا جاري اللصيق، يا ركني الوثيق»،

كما ورد في بعض مخاطبات اللّه تعالى مع موسى بن عمران: «يا موسى أنا بدّك اللازم».

و كيف كان و فيه الكناية اللطيفة فإنّ فيه تمثيلا لحاله في سهولة إجابة دعائه و سرعة إنجاح حاجة من سأله بحال من قرب مكانه.

قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ مادة [ج و ب] تأتي بمعنى القطع، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، و الجواب يطلق غالبا في مقابل السؤال. و السؤال إن كان لطلب المقال فجوابه المقال، و إن كان لطلب المنال فيكون جوابه المنال. و من الأول قوله تعالى: أَجِيبُوا داعِيَ اَللّهِ [الأحقاف - 31]. و من الثاني قوله تعالى:

قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما [يونس - 89] أي أعطيت سؤلكما.

و الاستجابة: التحري و التهيؤ للجواب، يعبّر بهما عن الإجابة لعدم الانفكاك بينهما غالبا لا سيما بالنسبة إلى الغنيّ المطلق و الرحيم بعباده في جميع العوالم، فهذه المفاهيم الثلاثة أي: الدعاء، و الإجابة، و الاستجابة، من المفاهيم الإضافية بالنسبة إليه عز و جل، قال تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ [آل عمران - 172]، و قال تعالى:

لِلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ اَلْحُسْنى [الرعد - 18].

فالآية الشريفة في المقام تشتمل على علل الحكم أي: أنّ الداعين لكونهم عباد اللّه فإنّ اللّه قريب منهم و قربه إليهم موجب لإجابة دعواتهم، و ذلك أنّ عباده ملك له بالملكية الحقيقية، و هذه هي المقتضية لكونه قريبا منهم على الإطلاق و إلا فإنّ ما سواه تعالى فقير بحد ذاته و إنّما يملك بالملكية الاعتبارية بتمليك المالك الحقيقي للأشياء له و هو اللّه سبحانه و تعالى فلو لم يشأ الملكية لم يملك أحد، كما يظهر من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [الفاطر - 15].

ثم ذكر سبحانه أنّ استجابة الدعاء منوطة بأمرين:

ص: 55

أحدهما: أن يكون الداعي داعيا بحسب الحقيقة كما يدل عليه قوله تعالى: إِذا دَعانِ فلا بد للداعي الذي يدعو لحاجته أن يكون عالما بحقيقة الدعاء صادقا عليه التوجه إلى اللّه جل شأنه، و متوجها إليه صادرا عن معرفة بحكمته و سعة رحمته دون ما يدور في اللسان مع الغفلة عنه تعالى، و ترشد إلى ذلك الآيات التي تدل على استجابة السؤال إذا كان عن فطرة مثل قوله تعالى:

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن - 29]، و ذلك لأنّ الاستحقاق كان بحسب الذات فالسؤال كان عن الفطرة، و من ذلك يظهر السر في إطلاق السؤال دون الدعاء على السؤال الصادر عن الفطرة و إن لم يكن للسان فيه عمل، و هذا بخلاف الدعاء.

و الأمر الثاني ما ذكره تعالى بعد ذلك:

قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي .

أي أنّهم إذا أرادوا الإجابة و الاستجابة، و إذا كان اللّه تعالى قريبا منهم لا يحول بينه و بين دعائهم شيء فلا بد لهم من الاستجابة فيما دعاهم إليه و العمل بما أمرهم من الإيمان و العبادات التي فيها صلاحهم و سعادتهم و رشدهم، و لا بد لهم من الإيمان بما يتصف به من الصفات الحسنى، و لا بد لهم من المعرفة بأنّه قريب يجيب دعوة الداع.

قوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ .

الرشاد: ضد الغي. أي أنّ الأعمال و الدعاء إذا صدرت عن روح الإيمان يكون صاحبها راشدا مهتديا، و قد تقدم الوجه في إتيان كلمة [لعلّ] في أمثال المقام.

ص: 56

بحوث المقام
بحث أدبي

الآية الشريفة تشتمل على مضمون رفيع بأحسن بيان و أرق أسلوب و أبلغ خطاب يلقى إلى السامع و هو يشعر بالعطف و الحنان، و استقرار النفس بأنّ خالقها قريب منها يسمع دعاء من يدعوه بكل ما يدعوه، و هي تتضمن من الأنحاء الأدبية ما يلي:

الالتفات عن خطاب المؤمنين بأحكام الصيام إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيه من التذكير لهم بالدعاء و الطاعة و التنويه بشرف الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و عظمته.

إلقاء صيغة التكلم للدلالة على كمال العناية بالدعاء و المدعوّين.

دلالة قوله تعالى: عِبادِي على كمال الرأفة و الاعتناء بالخلق و الاهتمام بالأمر، و لو قال: [خلقي أو الإنسان] و ما أشبههما لما أفاد ذلك.

إتيان الصيغة المؤكدة في قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ دون الفعل للدلالة على ثبوتها و دوامها، كما أنّه حذف الواسطة و لم يقل: [فقل إنّي قريب] ليدل على أنّ الإجابة منحصرة فيه تعالى.

إتيان الفعل في قوله تعالى: أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ للدلالة على استمرار الإجابة و تجددها. و يأتي في البحث الدلالي وجه إتيان ضمير المتكلّم مفردا.

ص: 57

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: إتيان ضمير المتكلم المفرد في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي للدلالة على مزيد العطف و العناية. و من سنته جل شأنه في القرآن الكريم أنّه إذا كان في مقام إظهار الاقتدار و الكبرياء و الهيمنة يأتي بضمير الجمع غالبا، مثل قوله تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ [ق - 43]، و قوله جلّ شأنه: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا [يس - 12]، و قوله عز و جل: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَلْجِبالِ [الأحزاب - 72]، و قوله تعالى:

إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ [الدخان - 3]، و قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ اَلْقَدْرِ [القدر - 1]، و غير ذلك مما هو كثير.

و إذا كان في مقام الامتنان و الرأفة و التحنن و إظهار المعية يأتي بضمير المفرد قال تعالى: لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [طه - 46]، و قال تعالى: إِنَّنِي أَنَا اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ أَنَا [طه - 14]، و في المقام قال تعالى:

فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ ، فهو مشعر بالتوجه و الإلفة و تهييج الشوق - كأنّه مما يشبه اختلاط المتكلم مع المخاطبين - ما لا يدركه الإعلام و يقصر دون بيانه الأعلام.

ص: 58

الثاني: الوجه في إلقاء الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بقوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) قائد الأمة و رأسها و رئيسها بل إنّ ذلك ثابت له بالنسبة إلى جميع الخليقة للإشارة إلى أنّ الدعاء لا بد من وروده من بابه و هو خاتم الأنبياء فإنّه الواسطة في الفيوضات الإلهية و خاتمة جميع المعارف الربوبية، فهو الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل.

و فيه نحو تعليم للناس في أن يسألوا أمهات الأمور الدينية من النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أو من يتبع طريقه علما و عملا، مع أنّ أسرار الحبيب لا يعرفها إلا الحبيب.

الثالث: إنّ شأن العبد بالنسبة إليه عز و جل هو الدعاء، و قد وعد تعالى الإجابة إن كان الدعاء جامعا للشرائط إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ [آل عمران - 9]. و أما السؤال عن كنهه و ذاته سبحانه و تعالى فهو مرغوب عنه إذ لا يدرك الممكن كثيره و لا ينفع قليله، بل ربما يضر، و لذا ورد النهي في السنة عن التعمق في ذاته تعالى، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ و لا معنى للسؤال عما هو قريب حاضر.

و من العجائب أن أكون مسائلا *** عن حاضر لا زلت أصحبه معي

الرابع: تكريم الداعي السائل بالاضافة التشريفية المعبودية في قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي و فيه من الأدب ما لا يخفى و تعليم للعلماء باحترام السائل عن الحق.

الخامس: تضمين الأمر بالدعاء معنى الإجابة في قوله تعالى:

فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي فإنّه بشارة باستجابة الدعاء ثم التأكيد بقوله تعالى:

وَ لْيُؤْمِنُوا بِي فإنّه سواء كان خاصا بخصوص هذه الآية أم عاما لجميع التشريعات فإنّه يدل على تحقق مفاد الآية و اتباع ذلك بقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ و هو تأكيد آخر، و لبيان أنّ الدعاء سبب الرشد الذي هو إصابة الحق و الخير، و إليه يشير

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أعجز الناس من عجز عن الدعاء، و أبخل الناس من بخل عن السلام».

ص: 59

السادس: إنّ قوله تعالى: إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي يدل على شروط استجابة الدعاء أحدها سيق لبيان الموضوع، و هو قوله تعالى: إِذا دَعانِ فإنّه معلوم مما قبله و لكنّه ذكر لأجل التنبيه على أنّه ليس كل من يدعو اللّه لحاجة هو داعيا للّه بحقيقة الدعاء لفقد الانقطاع و عدم التوجه إليه تعالى فلا يكون هناك مواطاة بين القلب و اللسان و لا يكون دعاء بل التبس الأمر على الداعي فيسأل ما يجهله أو ما لا يريده لو انكشف الأمر له، أو يكون سؤال لكن لا من اللّه تعالى وحده، و لذا ورد إنّ اللّه لا يستجيب دعاء من قلب لاه متعلق بالأسباب المادية أو الأمور الوهمية فلم يكن دعاؤه خالصا لوجه اللّه تعالى فلم يسأله بالحقيقة، و هذا هو المستفاد من مجموع الآيات الواردة في الدعاء و الأحاديث الشارحة لها.

السابع: إنّ إفراد الضمير في (عنّي) و (إنّي) و (أجيب) فيه إشارة إلى أنّ إجابة الدعاء منحصرة به تعالى و لا دخل لغيره فيها لأنّه تصرّف من عالم الملكوت الأعلى في عالم الملك الأسفل و لا يليق بذلك غيره عز و جل. نعم الاستشفاع و التوسل بعباد اللّه الصالحين الذين جعلهم اللّه تعالى واسطة الفيض لديه شيء آخر لا ربط له بإجابة الدعاء، كما لا يخفى.

مع أنّ الحنان و الرأفة و جذب الداعي إلى مقام القرب يقتضي توحيد الضمير لئلا يعرض على قلب الداعي هيبة العظمة فتشغله عمّا يحتاجه من قليل أو كثير.

كما أنّ في تكرار ضمير الإفراد في (عنّي) و (إنّي) إشارة إلى أنّ المسؤول عنه نفس القريب المجيب و عينه و لا فرق إلا بالاضافة الاعتبارية. فإنّه إذا أضيف إلى السائل يكون مسئولا عنه و إذا أضيف إلى نفسه الأقدس يكون قريبا مجيبا و إن كانت إضافته من صفات فعله لا من صفات ذاته، و في المقام سرّ آخر، لعله يظهر في الآيات المناسبة.

ص: 60

بحث روائي

في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة الدعاء».

و في عدة الداعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد» أقول: الروايات في فضل الدعاء و آدابه و كيفيته كثيرة متواترة بين المسلمين يأتي التعرض لبعضها في البحوث الآتية.

في تفسير العياشي عن ابن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي قال (عليه السلام): «يعلمون أنّي أقدر على أن أعطيهم ما يسألون».

أقول: يريد (عليه السلام) أنّه ليس المراد بهذا الإيمان الإيمان بأصل التوحيد في مقابل الشرك، بل الإيمان باستجابة الدعاء.

و في المجمع عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أي: و ليتحققوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه: لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي:

«لعلهم يصيبون الحق أي يهتدون إليه».

ص: 61

أقول: يظهر وجهه مما سبق.

و عن ابن عباس: «قالت اليهود كيف يسمع ربّنا دعاءنا و أنت تزعم أنّ بيننا و بين السماء خمسمائة عام و غلظ كل سماء ذلك؟ فنزلت الآية: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ .

و روي أنّ قوما قالوا للنبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أ قريب ربّنا فنناجيه أم بعيد ربنا فنناديه؟ فنزلت الآية المباركة».

و روي أنّ سبب نزولها: «أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) سمع المسلمين يدعون اللّه بصوت رفيع في غزوة خيبر فقال لهم النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

أيّها الناس أربعوا على أنفسكم فإنّكم لا تدعون أصمّا و لا غائبا إنّكم تدعون سميعا قريبا و هو معكم».

أقول: يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار معتبرة كل بحسب طائفة و قوم فتختلف باختلاف الجهات.

أما الأول: فبحسب مزاعم اليهود حيث زعموا أنّ سمع اللّه يكون كسمعنا يحجب بالحجاب، و لكنّه باطل، لأنّ المراد بسمعه تبارك و تعالى: العلم بالمسموعات و الإحاطة بها كما في جملة من الروايات، و لذا لا يشغله سمع عن سمع لأنّ علمه الإحاطي يشتمل على جميع ما سواه.

أما الثاني: فيكشف عن جهلهم بالحقائق.

و أما الأخير: فهو ناش عن سوء أدبهم، فإنّ الآية المباركة ترشد إلى نبذ بعض العادات السيئة التي كانت سائدة عندهم فيكون مثل قوله تعالى: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ اَلرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور - 63]، و قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ اَلْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات - 4].

ص: 62

بحث علمي
اشارة

الدعاء من أقوى الأسباب في نجح المطلوب و أعظمها في نيل المقصود و من أشد روابط القرب إلى المعبود و لا ينفك عنه الإنسان في جميع مراحله و أطواره، و جميع نشئاته سواء بلسان الاستعداد و الفطرة أم بلسان المقال، و لا يخلو كتاب إلهيّ من الحث عليه، و هو العبادة التي أمرنا بإتيانها و الراغب عنه عدّ من المستكبرين عن رحمة الرحمن قال تعالى: وَ قالَ رَبُّكُمُ اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ اَلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر - 60]،

و عن السجاد عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في صحيفته الملكوتية بعد ذكر الآية المباركة: «فسمّيت دعاءك عبادة و تركه استكبارا و توعّدت على تركه دخول جهنم داخرين، فذكروك بمنّك و شكروك بفضلك، و دعوك بأمرك، و تصدقوا لك طلبا لمزيدك، و فيها كانت نجاتهم من غضبك و فوزهم برضاك» و البحث في الدعاء من جهات كثيرة نذكر في المقام الأهم منها، و يأتي المهم في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

فضل الدعاء:

للدعاء فضل كبير، و قد أمرنا به في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و قد عبّر عنه بالعبادة في الآية الشريفة المتقدمة، و يكفي في فضلها قوله تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان - 77] فهو سبب اعتناء اللّه تعالى

ص: 63

بخلقه، و قوله تعالى: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي [البقرة - 186] فإنّه كفى فضلا في أنّه تعالى بنفسه الأقدس يجيب دعوة الداع من دون واسطة في البين، و قوله تعالى اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، حيث رتب الاستجابة على الدعاء، و هذا من عظيم الفضل.

و أما السنة: فقد وردت روايات كثيرة متواترة من الفريقين في فضل الدعاء و استحبابه مطلقا:

فعن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدّين و نور السماوات و الأرض».

و عن الصادق (عليه السّلام): «الدعاء يرد القضاء بعد ما أبرم إبراما».

و عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليهما السلام): «عليكم بالدعاء، فإنّ الدعاء و الطلب إلى اللّه عز و جل يرد البلاء و قد قدّر و قضي فلم يبق إلا إمضاؤه فإذا دعي اللّه و سئل صرف البلاء صرفه».

و عن الصادق (عليه السّلام): «إنّ الدعاء يرد القضاء المبرم و قد أبرم إبراما، فأكثر من الدعاء فإنّه مفتاح كل رحمة و نجاح كل حاجة، و لا ينال ما عند اللّه إلا بالدعاء، فإنّه ليس من باب يكثر قرعه إلا أوشك أن يفتح لصاحبه».

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السّلام): «عليكم بالدعاء فإنّكم لا تتقربون بمثله، و لا تتركوا صغيرة لصغرها أن تدعوا بها إنّ صاحب الصغار هو صاحب الكبار».

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ اللّه تبارك و تعالى يعلم ما يريد العبد إذا دعاه و لكنّه يحب أن تبث إليه الحوائج، فإذا دعوت فسمّ حاجتك».

و في الكافي عن ميسر عن الصادق (عليه السلام): «يا ميسر أدع و لا تقل:

إنّ الأمر قد فرغ منه إنّ عند اللّه عز و جل منزلة لا تنال إلا بمسألة».

و عن الصادق (عليه السلام) أيضا في رواية ابن القداح: «الدعاء كهف

ص: 64

الإجابة، كما أنّ السحاب كهف المطر».

و عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «الدعاء هو العبادة التي قال اللّه: إنّ الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين. أدع اللّه عز و جل و لا تقل إنّ الأمر قد فرغ منه».

و عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «الدعاء ترس المؤمن و متى تكثر قرع الباب يفتح لك».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالة طويلة إلى أصحابه: «أكثروا من أن تدعوا اللّه، فإنّ اللّه يحب من عباده المؤمنين أن يدعوه، و قد وعد عباده المؤمنين الاستجابة، و إليه مصير دعاء المؤمنين يوم القيامة لهم عملا يزيدهم في الجنة».

و عن الباقر (عليه السلام): «و لا تمل من الدعاء فإنّه عند اللّه بمكان».

و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مخ العبادة».

و عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «أفضل العبادة الدعاء، و إذا أذن اللّه لعبد في الدعاء فتح له أبواب الرحمة، إنّه لن يهلك مع الدعاء أحد».

و عن الرضا (عليه السلام): «عليكم بسلاح الأنبياء، فقيل: ما سلاح الأنبياء؟ قال (عليه السلام): الدعاء».

و عن الصادق (عليه السلام): «الدعاء أنفذ من السنان».

و عن العبد الصالح (عليه السلام): «الدعاء جنّة منجية ترد البلاء و قد أبرم إبراما».

و عن علي (عليه السلام): «الدعاء مفاتيح النجاح و مقاليد الفلاح، و خير الدعاء ما صدر عن صدر نقي و قلب تقي، و في المناجاة سبب النجاة، و بالإخلاص يكون الخلاص، فإذا اشتد الفزع فإلى اللّه المفزع».

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ألا أدلّكم على سلاح ينجيكم

ص: 65

من أعدائكم، و يدرّ أرزاقكم؟ قالوا: بلى. قال: تدعون ربكم بالليل و النهار فإنّ سلاح المؤمن الدعاء».

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ادفعوا أبواب البلاء بالدعاء» إلى غير ذلك من الأخبار المذكورة في كتب الفريقين.

حقيقة الدعاء:

الدعاء: هو الوسيلة بين العبد و خالقه، و اتصال من عالم الملك بعالم الملكوت الذي هو من أهم الأسباب الطبيعية الاختيارية الواقعية لنجح المطلوب و النيل إلى المقصود، فإنّه كما تترتب المسببات على الأسباب المقتضية لها، فإنّ قانون السببية الذي جعله اللّه تعالى وسيلة لتحقق المسببات الوجودية من دون أن يكون في البين فيض من الأسباب مستقلة من دون اللّه تعالى، كذلك فإنّ للإنسان شعورا باطنيا و حسا وجدانيا أنّ له ملجأ يأوي إليه في حوائجه ليقضيها، و أنّ له سببا معطيا لا ينضب معينه و هو مسبّب الأسباب، و هو ليس كالأسباب الظاهرية التي يمكن أن يتخلف عنها أثرها. و هذا الشعور الباطني يمكن أن يشتد عند فرد بحيث لا يرى للمسببات إلا سببا واحدا و ينقطع عن أي سبب دونه، فيعتصم به و لا يتخلّى عنه و يتوكل عليه في كلّ حوائجه، فتنكشف لديه الأشياء على حقائقها و يرى زيف الأسباب.

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسي الوجداني بعض الظلمات و الأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله و ضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [يونس - 22].

ص: 66

نعم، قد يعرض على هذا الشعور الباطني و الحسي الوجداني بعض الظلمات و الأوهام فيوجب طمس هذا النور الفطري أو خفائه تبعا لشدة ما يتخيله و ضعفه، فيتخيل خلاف ما هو المركوز في فطرته، و هذا لا يختص بهذا النور الفطري بل يشمل جميع ما يتعلق بالفطرة و الشعور الباطني، و لذا قد يرجع و يفيء إلى فطرته عند تزاحم المشاكل و عدم نفع أي سبب في رفعها، كما ورد في قضية من ركب البحر فانكسرت به السفينة و أيقن بالهلاك فعند ذلك يدعو من ينجيه، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ حَتّى إِذا كُنْتُمْ فِي اَلْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ اَلْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [يونس - 22].

و لا يستفاد من ذلك أنّه حينئذ لا يمكن تخلف المدعو عن الدعاء إذا كان الأمر كذلك فإنّ أمر الدعاء و المسببات الظاهرية في ذلك سواء، فإنّه كثيرا ما كانت هناك عوامل تثبّط الأسباب و تمنعها عن الأثر، فكذلك في الدعاء فإنّ هناك موانع كثيرة عن تحقق المدعو به قد ندركها و قد لا ندركها بل الأمر في الدعاء أشد، لفرض أنّه ارتباط مع عالم الغيب غير المتناهي الخارج عن الحس، فلا بد أن تكون الأسباب الموصلة إليه أدقّ و أرقّ، و هذا محسوس في عالم الماديات أيضا، فإنّ كلّما كان الشيء ألطف و أدقّ كان السبب الموصل إليه كذلك.

فحقيقة الدعاء هي الشعور الباطني في الإنسان بالصلة و الارتباط بعالم لا مبدأ له و لا نهاية، و لا حدّ و لا غاية لسعة رحمته و قدرته و إحاطته بجميع ما سواه، فوق ما نتعقل من معنى السعة و الإحاطة و القدرة يقضي له حوائجه بحيث يجعل المدعو تحت قدرة الدّاعي جميع وسائل نجح طلباته فيقع التجاذب بين الموجودات الخارجية و بين قلب هذا الداعي، فيصير موجدا و فاعلا لما يدعو به، فيتحد الداعي و الدعوة و المدعو به في بعض المراتب، و لا تحصل هذه المرتبة إلا لمن انسلخ عن ذاته بالكلية و فنى في مرضاة الواحدية الأحدية فلا يرى في الوجود سوى المدعو، سواء كان ذلك ملكة أم حالا، فيتحد العاقل و المعقول، كما أثبته بعض أكابر الفلاسفة، و لعله المراد من الاسم الذي هو غيب الغيوب و السّر المحجوب، فروح الدعاء هي ارتباط الداعي مع اللّه عز و جل بالشرائط المقررة المذكورة في محالها.

ما أورد على الدعاء:

بيّنا أنّ حقيقة الدعاء هي ارتباط خاص بين الإنسان و عالم لا مبدأ له و لا حد، و لكن أورد على الدعاء إيرادات كثيرة أهمها هي:

الأول: ما عن الماديين الذين ينكرون الغيب أي: ما وراء المادة من المبدإ الحي الأزلي و إنكار ربط الحوادث به و ارتباط العالم بالمادة فقط على

ص: 67

نحو العلية التامة و لذلك أنكروا الدعاء و التوسل إليه في نيل المطلوب و نجحه.

و يرده: ما أثبته جميع الفلاسفة من وجود مبدإ غيبي و أنّ الحوادث جميعها مستندة إليه، و أنّ الشرايع الإلهية قد أثبتت ذلك بألسنة مختلفة و تفصيل البحث موكول إلى الفلسفة الإلهية و علم الكلام. و أنّ المادة و الجهد من قبيل المقتضيات لا العلل التامة، و لذلك لا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه بعد السّعي و الجد لتمهيد السبيل للنيل إلى المطلوب.

الثاني: أنّ المبدأ موجود و أنّه حيّ أزليّ و لكنّ الحوادث الجزئية الخاصة غير مستندة إليه بل أصل حدوث العالم و خلقه في الجملة ينتهي إليه بخلافها، و قد تشعب عن هذا الرأي مذاهب: منها: ما عن اليهود كما حكاه اللّه تعالى عنها: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ [المائدة - 64]. و منها: ما نسب إلى بعض من أنّ مناط الحاجة الحدوث في الجملة فقط دون البقاء، حتى قال:

«لو جاز على الواجب العدم لما ضرّ عدمه وجود العالم». و هناك مذاهب أخرى قد تعرضوا لها كلّ في محله، و لذلك أنكروا الدعاء و قالوا إنّه لا يسمن و لا يغني من جوع.

و يرده: ما أثبتوه بالأدلة العقلية من أنّ مناط الحاجة الإمكان و هو حليف ما سوى اللّه تعالى حدوثا و بقاء في جميع الأزمنة و الأمكنة، و إذا كان كذلك فلا بد من التوسل إليه و الإفاضة منه لفرض الافتقار إليه في ما سواه تعالى بلا فرق في تلك المذاهب.

الثالث: أنّ الحوادث معلومة عنده جلت عظمته و لا تغيّر في العلم، فلا تغيّر في الحوادث أيضا، فلا مجال للدعاء حينئذ في الحوادث بعد فرض تعلق علمه تعالى بها.

و يرده أولا: أنّ هذا مبنيّ على كون علمه تعالى علة تامة منحصرة لمعلوماته عز و جل، و هو باطل عقلا و نقلا كما ثبت في الفلسفة الإلهية و سنتعرض في الآية المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و ثانيا: العلم تعلق بها متغيّرا، فالتغير في المعلوم بالعرض لا في العلم

ص: 68

و المعلوم بالذات إذن لا إشكال في صحة التوسل إليه تعالى و الدعاء للنيل إلى ما هو الصالح.

الرابع: أنّ الحوادث التي ترد على عالمنا مقدّرة و مقضية أزلا و لا تغيّر و لا تبدل في القضاء و القدر فلا معنى للدعاء و التوسل بعد نزول الحادثة، و قد عبّر عن هذا الإيراد بتعابير مختلفة أخرى.

و يرده: أنّ القضاء و القدر من مراتب فعله جلّ شأنه و ليسا في مرتبة الذات، و فعله تعالى قابل للتغير مطلقا، و قد ورد في بعض الروايات أنّ الدعاء يرد القضاء و قد أبرم إبراما. فيصح التوسل إليه لأجل زوال الحادثة أو تغيير الحال.

الخامس: أنّ الدعاء من قبيل تحقق المعلول بلا علة، و هو محال كما ثبت في محله.

و يرده: أنّ الدعاء لا ينافي قانون العلية و المعلولية أو سائر نواميس الطبيعة بل إنّه يكون سببا لتحقق المسبب المستند إلى سببه الخاص.

السادس: أنّ الآيات الشريفة الدالة على الحث على العمل و نيل الأجر به تنافي سبل الدعاء، مثل قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ [التوبة - 105]، و قوله تعالى: إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً [الكهف - 30] و قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40]، و غيرها من الآيات المباركة فإنّ ظاهرها حصر التأثير في العمل و أنّ الأجر منحصر فيه.

و يرده أولا: أنّه لا تنافي بين تلك الآيات المباركة و بين ما أمر بالدعاء مثل قوله تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً [الأعراف - 53]، و قوله تعالى: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر - 60]، لأنّ الدعاء بلا عمل لا أثر له و إنّه مما لا يستجاب، كما يأتي في الروايات.

و ثانيا: أنّ الدعاء بنفسه عمل خاص و توجه إليه تعالى فلا تنافي بين ما دل على الترغيب بالعمل و بين أن يأمر بالدعاء.

ص: 69

و هناك دعاوى أخرى نسبت إلى من لم يعتقد بالدعاء أدلتها موهونة جدا أعرضنا عن ذكرها.

الدعاء ارتباط روحي:

ذكرنا أنّ حقيقة الدعاء هي الاتصال بمبدإ لا نهاية لعظمته و قدرته و مالكيته و قهّاريته، و التوسل إليه بالترابط الروحي بين الداعي و المدعو. يلتمس منه الداعي نجح مطلوبه و قضاء حاجته فيلهم اللّه تعالى الداعي ما يرشده إلى مطلوبه، فيكون الدعاء ضربا من التأثير الروحي، و ذلك يتوقف على معرفة اللّه جلّ شأنه رب الأرباب و له السلطان التام و أنّ جميع الأسباب راجعة إليه عز و جل، و الإذعان بأنّها الواسطة في التأثير فقط و أنّ المؤثر هو اللّه وحده، و إلى ذلك يشير

ما ورد عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «لو عرفتم اللّه حق معرفته لزالت لدعائكم الجبال». و الوجه في ذلك واضح فإنّ الجهل بمقام الربوبية العظمى و الإعتقاد بقانون السببية التامة في الأسباب و المسببات الخارجية يوجب البعد عن ساحة الرحمن، و الإذعان بحقيقة التأثير للأسباب العادية، و ينتهي إلى الغفلة عنه و يقابل ذلك التوجه إليه و معرفته تبارك و تعالى فإنّ مقتضى مالكيته جلّت عظمته لجميع ما سواه، و ربوبيته العظمى لها و استغناؤه عز و جل عن الكل و احتياج الكل إليه هو سؤال الكل منه عز و جل، و دعاؤه له بلسان الحال و الاستعداد، لأنّ مناط السؤال و الدعاء إنّما هو الحاجة، و هي من لوازم الإمكان. و كلّ ممكن، سواء كان من المجردات أم الماديات بجواهرها و أعراضها، جميعا داع له وسائل منه بلسان الافتقار إليه و الانقهار لديه و إن لم نفقه سؤال كثير من الممكنات. نعم السؤال، و الدعاء القصدي الاختياري و التوجه الفعلي من شؤون الإنسان فإنّ له شأنا و منزلة عنده تعالى يحب السماع إليه فيلتذ أولياء اللّه تعالى بالدعاء و المناجاة، و يبتهج اللّه جلّت عظمته بذلك ابتهاجا لا يحيط به غيره،

ففي الحديث: «إنّ اللّه يعلم حاجتك، و ما تريد و لكن يحب أن تبث إليه الحوائج فإذا دعوت فسمّ حاجتك» و في أخبار كثيرة أنّ اللّه تعالى قد يؤخر إجابة دعاء عبد لأن يسمع صوته

ص: 70

و تضرّعه، و يعجّل إجابة بعض الدعوات لأنّه تعالى لا يحب سماع صوت داعيه و تضرعه.

و لكن ذلك لا يوجب إلغاء ناموس العلية و المعلولية بين الأشياء، بل قد أثبتنا في المباحث السابقة أنّ هذا القانون حق لا ريب فيه و أنّه

«أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها» إلا أنّ الدليل العقلي أثبت الواسطة لها دون الانحصار و الدعاء داخل تحت هذا القانون و أنّه من طرق العلية للأشياء و التقريب بين الأسباب و المسببات واقعا و إن لم ندركه ظاهرا، و إليه يشير

ما ورد عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في وصيته لابنه الحسن (عليه السلام):

«ثم جعل في يديك مفاتيح خزائنه بما أذن لك فيه من مسألته فمتى شئت استفتحت بالدعاء أبواب نعمته و استمطرت شآبيب رحمته فلا يقنطنك إبطاء إجابته».

شروط الدعاء:

للدعاء شروط كثيرة جدا مذكورة في القرآن الكريم و السنة المقدسة و هي تنقسم إلى شروط الصحة فلا يصح الدعاء بدونها، و شروط كمال له. أما شروط الصحة فهي:

الأول: الإيمان باللّه تعالى قال عز و جل: وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة - 186].

الثاني: الإخلاص في الدعاء و عقد القلب عليه، و حسن الظن بالإجابة، قال تعالى: فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ اَلدّاعِ إِذا دَعانِ و قال تعالى: وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ اَلظّالِمِينَ [يونس - 106].

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أراد أحدكم أن لا يسأل ربه شيئا إلا أعطاه فلييأس من الناس كلّهم، و لا يكون له رجاء إلا عند اللّه فإذا علم اللّه ذلك من قلبه لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه»،

و عن الصادق (عليه

ص: 71

السلام): «إذا دعوت فأقبل بقلبك و ظنّ حاجتك بالباب»

و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، لعلي (عليه السلام): «لا يقبل اللّه دعاء قلب ساه».

و في الكافي عن سليمان بن عمرو قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ اللّه عز و جل لا يستجيب دعاء بظهر قلب ساه، فإذا دعوت فأقبل بقلبك ثم استيقن بالإجابة».

و في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «إنّ العطية على قدر النية».

و في عدة الدّاعي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه: «ما من مخلوق يعتصم بمخلوق دوني إلا قطعت أسباب السموات و أسباب الأرض من دونه فإن سألني لم أعطه و إن دعاني لم أجبه. و ما من مخلوق يعتصم بي دون خلقي إلا ضمّنت السموات و الأرض رزقه فإن دعاني أجبته و إن سألني أعطيته و إن استغفرني غفرت له»، و الحديث ظاهر في أنّ إجابة الدعاء منوطة بالإخلاص.

و في الحديث القدسي: «أنا عند ظنّ عبدي بي فلا يظن بي إلا خيرا» و هو ظاهر في أنّ في التردد و اليأس لا تكون إجابة فلا بد من العزم على السؤال.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ادعوا اللّه و أنتم موقنون بالإجابة» إلى غير ذلك من الأخبار، و قد تقدم الوجه في ذلك أيضا بأنّ في الإعراض و السهو و الغفلة لا تتحقق حقيقة الدعاء.

الثالث: اليأس من غير اللّه تعالى لأنّه ربّ السموات و الأرض عنده مفاتيح الغيب يعطي لمن يريد و يمنع عمن يريد، و العلم بأنّه تعالى إنّما يقضي الحوائج حسب المصلحة فإنّ الإنسان لا يعرف الحقائق و يجهلها و ربما يسأل ما هو شرّ و أنّ اللّه تعالى يبدّله إلى الخير، و ربما يسأل الخير فيؤخره إذ المصلحة في التأخير،

ففي نهج البلاغة عن عليّ (عليه السلام): «و ربما

ص: 72

أخرت عنك الإجابة ليكون ذلك أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الآمل، و ربما سألت الشيء فلا تؤتاه و أوتيت خيرا منه عاجلا أو آجلا، أو صرف عنك لما هو خير لك فلربّ أمر قد طلبته فيه هلاك دينك لو أوتيته فلتكن مسألتك فيما يبقى لك جماله و ينفى عنك و باله، و المال لا يبقى لك و لا تبقى له».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال اللّه عز و جل: من سألني و هو يعلم أنّي أضرّ و أنفع استجبت له»، و ذلك لأنّ إجابة دعاء الداعين لا بد أن تكون على طبق الحكمة البالغة و العناية التامة المحيطة بالحقائق كلياتها و جزئياتها لا على طبق مشتهيات الداعين و السائلين، قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [البقرة - 216]. فإنّ الإنسان كثيرا ما يهتم بشيء حتى إذا ما تحقق وجده ضارا أو يكره شيئا حتى ما إذا تحقق وجده نافعا، و هذا وجداني محسوس لدى كل فرد فالدعاء بما يتخيله الإنسان أنّه نافع شيء و ما هو الواقع الذي في علمه تعالى شيء آخر. فإنّ التسرّع في إجابة الدعاء و قضاء الحوائج بلا تأمل في اللوازم و الملزومات و الآثار نقض في الحكمة و هو محال بالنسبة إليه تعالى. نعم نفس الدعاء و المسألة من سنن العبودية و لا بد من تحققها من العبد، و أما الاستجابة فهي منوطة بالحكمة البالغة و العلم الأزلي.

الرابع: أن يكون المراد خيرا ممكنا بأن لا يكون من المحالات الذاتية أو العادية، و مما لا نفع له أو مما يضرّ بحال الآخرين، أو نهى عنه الشارع و نحو ذلك، فإنّ مثل هذا الدعاء مما لا يستجاب و ذلك لأنّ اللّه تعالى:

«أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها». و قد تقدم في أحد المباحث السابقة أنّ المستحيلات و إن كانت تحت قدرته تعالى و لكنّه عز و جل لم يفعلها لاستلزامه نقض الحكمة،

ففي الحديث عن علي (عليه السلام): «اثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج يا صاحب الدعاء لا تسأل ما لا يحل و لا يكون».

و في الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): «لا تمل من الدعاء

ص: 73

فإنّه من اللّه بمكان، و عليك بالصبر و طلب الحلال، و صلة الرحم»، إلى غير ذلك من الروايات.

الخامس: طيب المكسب و العمل الصالح،

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «من سرّه أن تستجاب دعوته فليطب مكسبه»،

و في وصية النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لأبي ذر: «يا أبا ذر يكفي من الدعاء مع البر ما يكفي الطعام من الملح، يا أبا ذر مثل الذي يدعوه بغير عمل كمثل الذي يرمي بغير وتر، يا أبا ذر إنّ اللّه يصلح بصلاح العبد ولده و ولد ولده و يحفظه في دويرته و الدور حوله ما دام فيهم».

و عن زرارة عن الصادق (عليه السلام): «الداعي بلا عمل كالرامي بلا وتر».

و في عدة الداعي: «إنّ اللّه أوحى إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل: لا تدعوني و السحت تحت أقدامكم، و الأصنام في بيوتكم، فإنّي آليت أن أجيب من دعاني، و إنّ إجابتي إياهم لعنا عليهم حتى يتفرقوا».

و في الحديث القدسي: «لا تحجب عنّي دعوة إلا دعوة آكل الحرام».

و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لرجل حين ما قال له: أحب أن يستجاب دعائي، فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «طهّر مأكلك، و لا تدخل بطنك الحرام».

السادس: أداء مظالم الناس و حقوقهم،

فقد ورد عن الصادق (عليه السلام): قال اللّه عز و جل «و عزتي و جلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة، أو لأحد عنده مثل تلك المظلمة».

و في عدة الداعي: «أوحى اللّه إلى عيسى قل لظلمة بني إسرائيل إنّي لا أستجيب لأحد منهم دعوة و لأحد من خلقي عندهم مظلمة» و تقدم في بحث التوبة ما يتعلق بالمقام.

ص: 74

شروط الكمال للدعاء:

تقدم أنّ من الشروط في الدعاء هي شروط الكمال له، و لا ريب في حسن مراعاتها في هذه الحالة التي يرغب الداعي استجابة دعواته و هي كثيرة.

الأول: الطهارة من الحدث و الخبث لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة - 222].

الثاني: الدعاء بالمأثور عن المعصومين لأنّه تكلم مع اللّه عز و جل كما أنّ القرآن تكلم اللّه مع العبد فينبغي في الدعاء أن يكون مأثورا و مستندا إلى الشرع، قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ [فاطر - 10]، و قال عز و جل: وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ [الحج - 24].

و عن صدر المتألهين (قدس اللّه نفسه الشريفة): «فكما أنّ أجساد البشر تكرّم بكرامة الروح فكذلك أصوات الكلام تكرم و تشرف بشرافة الحكمة التي فيها» فلا بد للدعاء من نزوله من محل أمين و مهبط شريف و إرساله من نفوس زكية ذكية حتى يناسب الخطاب مع العظيم كما تدل عليه روايات كثيرة.

نعم، فرق بين الدعاء و المسألة فإنّ الأخيرة لا يشترط فيها ذلك بل يكفي بكل ما جرى على اللسان حتى يوجهه تعالى إلى الطريق الصحيح أو يقضي حوائجه و يحل مشاكله،

قال زرارة للصادق (عليه السلام): «علمني دعاء فقال (عليه السلام): إنّ أفضل الدعاء ما جرى على لسانك» و المراد به المسألة و طلب الحاجة.

الثالث: أن يكون الدعاء بالأسماء الحسنى و غيرها من أسماء اللّه تعالى،

فعن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للّه عز و جل تسعة و تسعون اسما من دعا اللّه بها استجيب له و من أحصاها دخل الجنة، و قال اللّه عز و جل: وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها .

و عن الصادق (عليه السلام): «و أكثر من أسماء اللّه عز و جل فإنّ أسماء اللّه كثيرة».

الرابع: تقديم تمجيد اللّه و الثناء عليه و الإقرار بالذنب و الاستغفار منه،

ص: 75

ففي الكافي عن الحارث بن المغيرة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إياكم إذا أراد أحدكم أن يسأل من ربه شيئا من حوائج الدنيا و الآخرة حتى يبدأ بالثناء على اللّه عز و جل، و المدح له، و الصلاة على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ثم يسأل اللّه حوائجه».

و عن معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «إنّما هي المدحة ثم الثناء، ثم الإقرار بالذنب، ثم المسألة إنّه و اللّه ما خرج عبد من ذنب إلا بالإقرار».

و عن علي (عليه السلام): «السؤال بعد المدح فامدحوا اللّه عز و جل ثم اسألوا الحوائج، أثنوا على اللّه عز و جل و امدحوه قبل طلب الحوائج». و المراد بالثناء و التمجيد مطلق ما يكون ثناء و تمجيدا.

الخامس: أن يشتمل على ذكر محمد و آل محمد، لأنّهم وسائط الفيض و وجهاء الخلق،

ففي الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد»

و عن هشام بن سالم عن الصادق (عليه السلام): «لا يزال الدعاء محجوبا حتى يصلّى على محمد و آل محمد».

و عن صفوان الجمال عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أيضا: «كل دعاء يدعى اللّه عز و جل به محجوب عن السماء حتى يصلّى على محمد و آل محمد».

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): صلاتكم عليّ إجابة لدعائكم و زكاة لأعمالكم».

السادس: أن يكون الدعاء بعد الانقطاع إليه عز و جل و رقة القلب و البكاء،

ففي الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «إذا رقّ أحدكم فليدع، فإنّ القلب لا يرقّ حتى يخلص».

و عن الصادق (عليه السلام): «إذا اقشعر جلدك و دمعت عيناك فدونك دونك فقد قصد قصدك».

ص: 76

و عن سعد بن يسار: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) إنّي أتباكى في الدعاء و ليس لي بكاء قال (عليه السلام): نعم و لو مثل رأس الذباب».

و عن عنبسة العابد عن الصادق (عليه السلام): «إن لم تكن بكّاء فتباك».

و قد اعتبر بعض العلماء (رحمهم اللّه تعالى) أنّ بعض مراتب الانقطاع التام إليه عز و جل إذا كانت الحالة جامعة للشرائط من الاسم الأعظم و قد جربت ذلك في بعض أسفاري إلى بيت اللّه الحرام بعد انقطاع الرجاء إلا منه.

فكان ما كان مما لست أذكره *** فظنّ خيرا و لا تسأل عن الخبر

السابع: الدعاء في الأوقات المعينة، و هي كثيرة منها السحر و آخر الليل

فعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «خير وقت دعوتم اللّه الأسحار».

و عن الصادق (عليه السلام): «من قام من آخر الليل فذكر اللّه تناثرت عنه خطاياه، فإن قام من آخر الليل فتطهّر و صلّى ركعتين و حمد اللّه و أثنى عليه و صلّى على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لم يسأل اللّه شيئا إلا أعطاه إما أن يعطيه الذي يسأله بعينه و إما أن يدخر له ما هو خير له منه».

و منها: الصباح و المساء،

فعن الصادق (عليه السلام): «إنّ الدعاء قبل طلوع الشمس و قبل غروبها سنة واجبة مع طلوع الشمس و المغرب».

و منها: عند نزول المطر، و زوال الشمس، و هبوب الرياح، و قتل الشهيد، و قراءة القرآن، و الأذان، و ظهور الآيات،

ففي الكافي عن زيد الشحام قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «اطلبوا الدعاء في أربع ساعات: عند هبوب الرياح، و زوال الأفياء، و نزول المطر، و أول قطرة من دم القتيل المؤمن، فإنّ أبواب السماء تفتح عند هذه الأشياء».

و عن الصادق (عليه السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال:

«اغتنموا الدعاء عند أربع، عند قراءة القرآن، و عند الأذان، و عند نزول الغيث، و عند التقاء الصفين للشهادة».

ص: 77

و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال: «كان أبي إذا كانت له إلى اللّه حاجة طلبها في هذه الساعة يعني زوال الشمس».

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من أدى للّه مكتوبة فله في إثرها دعوة مستجابة».

و منها: الأزمنة المتبركة مثل ليلة الجمعة، و ليالي القدر، و شهر رمضان، و شهر رجب، و ليلة النصف من شعبان، و ليلة عرفة و يومها، و العيدين و غيرها مما هو كثير كما في كتب الأدعية.

الثامن: الدعاء في الأمكنة المتبركة مثل الحرم الإلهي المقدس، و المسجد الحرام، و مسجد النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و عند الأئمة الكرام، أو المساجد الأربعة و غيرها من المساجد.

التاسع: الدعاء بعد تقديم الصدقة و شم الطيب،

فعن الصادق (عليه السلام): «كان أبي إذا طلب الحاجة طلبها عند الزوال، فإذا أراد ذلك قدّم شيئا فتصدّق به و شمّ من طيب و راح إلى المسجد و دعا في حاجته بما شاء اللّه».

العاشر: مراعاة الأدب و تجنب اللحن في الدعاء،

ففي عدة الداعي عن أبي جعفر الجواد (عليه السلام) قال: «ما استوى رجلان في حسب و دين قط إلا كان أفضلهما عند اللّه عز و جل آدبهما قال: قلت جعلت فداك قد علمت فضله عند الناس في النادي و المجالس فما فضله عند اللّه عز و جل؟ قال: بقراءة القرآن كما أنزل، و دعائه اللّه عز و جل من حيث لا يلحن، و ذلك أنّ الدعاء الملحون لا يصعد إلى اللّه عز و جل».

و يمكن أن يستفاد ذلك من كراهة اختراع الدعاء من نفس الداعي فإنّ في الدعوات المأثورة عن نبينا الأعظم و الأئمة الهداة غنى و كفاية فهم أعرف بالأدب مع اللّه تعالى و كيفية التكلّم معه من سائر الرعية لأنّهم سدنة الملك و عيبة علم اللّه و خزان وحيه.

الحادي عشر: رفع اليدين حال الدعاء،

ففي عدة الداعي: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يرفع يديه إذا ابتهل و دعا كما يستطعم المسكين».

ص: 78

و عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: فَمَا اِسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ . قال (عليه السلام):

الاستكانة هي الخضوع و التضرّع رفع اليدين و التضرّع بهما».

و عن الباقر (عليه السلام): «ما بسط عبد يده إلى اللّه عز و جل إلا استحيى اللّه أن يردها صفرا حتى يجعل فيها من فضله و رحمته ما يشاء، فإذا دعا أحدكم فلا يرد يده حتى يمسح بها على رأسه و وجهه» و الروايات في رفع اليدين و التبصبص بالأصابع كثيرة مروية عن الفريقين. و كل ذلك من جهة حصول الخضوع و الخشوع للدّاعي و تقرّبه إلى المدعوّ لا لأجل أنّه تعالى يختص بمكان دون مكان و زمان دون آخر.

الثاني عشر: الدعاء سرّا،

ففي الكافي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «دعوة العبد سرّا دعوة واحدة تعدل سبعين دعوة علانية». و الوجه في ذلك لأنّه أحفظ في الإخلاص و أبعد عن شوائب الرياء.

الثالث عشر: العموم في الدعاء فإنّه آكد في الاستجابة،

ففي الكافي عن ابن القداح عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا دعا أحدكم فليعمّ فإنّه أوجب للدعاء».

و عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من صلّى بقوم فاختص نفسه بالدعاء دونهم فقد خانهم»، و قد وردت روايات كثيرة على أنّ دعاء المؤمن لأخيه المؤمن مستجاب و أنّ للداعي مثل ما يدعو لأخيه و أكثره.

الرابع عشر: لبس الداعي خاتم عقيق أو فيروزج

فقد روى ابن بابويه عن الصادق (عليه السلام): «ما رفعت كفّ إلى اللّه أحبّ من كفّ فيها عقيق».

و في عدة الداعي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). قال اللّه عز و جل: إنّي لأستحيي من عبدي يرفع يده و فيها خاتم فيروزج فأردها خائبة».

الخامس عشر: أن يكون الدعاء لتكميل النفس و الحوائج الشرعية

ص: 79

و سؤال المغفرة و رضوان اللّه و نعم الجنة، أي يكون جامعا للدنيا و الآخرة بحيث يكون نفعه غير منقطع و أثره لا يضمحل، و في الدعوات المقدسة المأثورة من ذلك شيء كثير منها: ما يسمى بدعاء الفرج و هو مذكور في كتب الأدعية.

ثم إنّ الدعاء مطلوب لنفسه و محبوب لذاته و لا تختص محبوبيته بوقت دون وقت و لا مكان دون آخر و لا بلغة دون أخرى بل هو محبوب في جميع الأحوال و الأوقات و الأمكنة. نعم لبعض الأيام و الليالي و الأمكنة المقدسة دخل في مراتب فضله لا في أصل صحته و محبوبيته و إذا توفرت شروط صحة الدعاء و شروط كماله و وقع الدعاء مورد الاستجابة فإنّه قد يوجب التغيير في العالم مما يوجب تحيّر ذوي الألباب و لا ريب في ذلك كما مر فإنّ الدعاء عظيم أثره لأنّه حضور العبد الذليل لدى المولى الجليل، و توجه نحو التوحيد الفطري فلا تغفل عنه و لا تعرض بوجهك عنه فإنّ المحروم من حرم من الدعاء، و لا تجعل للشيطان على عقلك سبيلا بشبهاته فإنّه عدو للإنسان يحاول أن يجنب العبد عن الدعاء لأنّه من أعظم السبل في رده و اللّه الهادي و هو المولى و نعم النصير.

ص: 80

بحث عرفاني

لا ريب في أنّ أقوى مراتب سلوك السالكين إلى اللّه جلت عظمته و أهم مقامات سيرهم و سفرهم إنّما هو السفر من الخلق إلى الحق أي: التوجه التام بحيث ينقطع عما سواه تعالى و هو السير في الحق بالحق. و هذا السفر الروحاني يصح أن يعبّر عنه: بأنّه سفر من المحدود من كل جهة إلى غير المحدود من جميع الجهات، و عطف و حنان ممن لا حد لرحمته و حنانه و عنايته إلى ما هو المحتاج على الإطلاق و هذا السفر و هذه الرحمة و العطف يتحققان في حقيقة الدعاء مع الإيمان باللّه جلت عظمته و بما جاء به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ هذه الحقيقة مع ذلك عبارة عن تخلّي النفس عن جميع الرذائل و طهارة روحية عن جميع الصفات الذميمة و الأهواء الشريرة و ارتباط روحي مع عالم الغيب.

و إن قلت: إنّها تجلّي الرحمة الرحيمية و الرحمانية بالنسبة إلى الداعين.

أو قلت: إنّها عروج النفوس المستعدة عند الانقطاع عما سوى رب العالمين إلى أعلى الدرجات التي أعدت لها، و لذا قال تعالى: ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [الفرقان - 77]،

و قال الصادق (عليه السلام) كما تقدم:

«الدعاء مخ العبادة» و لذا كان الأنبياء و الأوصياء و العلماء العارفون باللّه تعالى يواظبون عليه أشد المواظبة في جميع أحوالهم حالا و مقالا.

ص: 81

و هناك أمور أخرى مهمة مرتبطة بالدعاء نتعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

بقي هنا أمران:

الأول: الفرق بين الدعاء و غيره من الأسباب المؤثرة مثل السحر و العين مثلا فإنّ الأول - أي الدعاء - تأثير غيبي في عالم الشهادة كما مر و لما سواه تأثيرات من هذا العالم و فيه و هي غير مرتبطة بعالم الغيب و الملكوت أصلا بل بعضها منهي عنه شرعا.

الثاني: أنّ الدعاء إنّما يؤثر بحسب معتقدات الداعي فربما يكون الدعاء الصادر من الذي لا يعتقد بالمبدإ يؤثر بحسب معتقده و هو خلاف الواقع قال تعالى: وَ ما دُعاءُ اَلْكافِرِينَ إِلاّ فِي ضَلالٍ [الرعد - 14]، و تدل عليه السنة المقدسة بل التجربة و يأتي التعرض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 82

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أ.......

اشارة

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أنّ الصوم كتب على المؤمنين كما كتب على من قبلهم، و بيّن موارد الرخصة في الصوم و موارد عزيمته، ثم ذكر وقت الصوم و أنّه لا بد أن يكون في شهر رمضان.

ذكر في هذه الآية بعض أحكام الصوم فبيّن جواز غشيان النساء في الليل، و أنّ مدة الصيام من طلوع الفجر الصادق إلى الليل، و ذكر حرمة مباشرة النساء في المساجد مدة الاعتكاف، و بذلك كلّه امتاز صيام المسلمين عن غيرهم، و أخيرا بيّن أنّ جميع ذلك من حدود اللّه التي لا بد من مراعاتها لمن يريد التقوى و التقرب إليه عز و جل.

ص: 83

التفسير

187 - قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ .

الإحلال: الرخصة و الإباحة، من الحلّ مقابل المنع أو العقد.

و الرفث: بمعنى الكلام المستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد كنى به عن الجماع للتلازم بينهما كما هو أدب القرآن في استعمال الألفاظ الكنائية عما يستقبح ذكره من الوطي و الجماع كالمباشرة، و المس، و اللمس، و الدخول، و الفرج، و الغائط و نحو ذلك.

و يمكن أن يكون المراد من الرفث: الكلام الذي يقال عند حصول دواعي الجماع و هيجان الشهوة، كما تدل عليه الهيئة التركيبية لهذه الكلمة المركبة من الحروف الإخفاتية، فيستفاد منها أنّه القول الخفي الذي لا يسمعه إلا من به نواله، فأطلق على نفس الجماع من باب الملازمة و حيث إنّ مثل هذا الكلام غالبا يوجب الوصول إلى المقصود عدّي ب (إلى)، فضمن معنى الإفضاء.

و لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام، و الثاني آية الحج قال تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ [البقرة - 197]. و لعلّ السر في استعمالها في هذين الموردين أعني الصيام و الحج استهجانا لما كانوا عليه قبل الحكم بالاباحة في الصيام.

ص: 84

قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ .

جملة مستأنفة فيها من التعليل للحكم السابق أي: أنّ سبب الإحلال هو كثرة المخالطة و قلة الصبر عنهنّ.

و مادة: (ل - ب - س) تأتي بمعنى ستر ما يقبح إظهاره غالبا، و اللباس ما يستر به، و حيث أنّ كلّ واحد من الزوجين يستر الآخر من الوقوع في الحرام أو يستر قبائح الآخر سمي كل واحد منهما لباسا، كما أنّ التقوى تستر جميع القبائح عبّر عنها باللباس في قوله تعالى: وَ لِباسُ اَلتَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ [الأعراف - 26]. و قد تأتي بمعنى مطلق الستر قال تعالى: وَ لا تَلْبِسُوا اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ [البقرة - 42]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ [الأنعام - 83].

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تتعلق بالدنيا و الآخرة، قال تعالى في شأن أهل الجنة: وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ [فاطر - 33]، و قال تعالى: وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ [الكهف - 31]. و قد يستعمل لكل ساتر قال تعالى: وَ جَعَلْنَا اَللَّيْلَ لِباساً [النبأ - 10]، و لم يستعمل اللباس بالنسبة إلى أهل النار و إن استعمل لفظ الثياب قال تعالى: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ [الحج - 19]، و ربما يكون الوجه في ذلك أنّ اللباس يدل على نحو اهتمام و عناية باللابس و لا يليق أهل النار بذلك.

و في الكلام من اللطف و الحسن ما لا يخفى، و فيه من الاستعارة لأعظم أمر اجتماعي و هي الحياة الزوجية، كما أنّ فيه من الترغيب إلى حسن المعاشرة و الملاطفة و الاعتناء بالحياة الزوجية كما يعتني الإنسان بلباسه و ثيابه فيصح التعبير عن الزوجة بلباس الزوج، كما يصح التعبير عنها بالفراش

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الولد للفراش» و قال تعالى: وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ [الواقعة - 34]، أي مرتفعة عن الأقذار.

قوله تعالى: عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ .

ص: 85

مادة - خ - و - ن) تدل على المخالفة و نقض العهد، و هي خلاف الأمانة. و النفاق أعم من الخيانة. و هيئة الاختنان تدل على ملازمة هذه الصفة و المداومة عليها كقوله تعالى: إِنَّ اَلنَّفْسَ لَأَمّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف - 53].

و الآية المباركة تدل على أنّ تلك الخيانة كانت سرّا بين المسلمين و أمرا مستمرا بينهم و كانت كثيرة عندهم.

يعني: علم اللّه - الذي هو العالم بالجزئيات كما هو عالم بالكليات يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور - بأنّكم كنتم تخونون أنفسكم و توقعونها في الحرام و هو مباشرة النساء.

و الآية تدل على وجود حكم تحريمي قبل نزولها و هو حرمة مباشرة النساء ليلة الصيام، فكان المسلمون أو بعضهم يعصون اللّه تعالى سرّا و لذا عقب سبحانه ذلك بالتوبة عليهم و العفو عنهم و إباحة المباشرة بالرخصة بعد المنع.

قوله تعالى: فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ .

أي: تاب عليكم فيما صدر منكم من المخالفة و ما ارتكبتموه من المحظور و عفا عن خيانتكم.

و التوبة: عبارة عن غفران ما فعلوا و ارتكبوا من المخالفة، و العفو:

عبارة عن رفع أصل الحكم و تبديله بحكم آخر سهل يسير.

قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ .

ترخيص للمباشرة من حين رفع الحرمة و المنع، و المباشرة إيصال البشرة إلى البشرة. كني بها عن الوقاع، لكونها من مقدماته، أو وقوع التلاصق بين البشرتين فيه.

و لعل الإتيان بها في المقام للدلالة على جواز استمتاع الزوج من زوجته بكلّ جزء من بدنه من كلّ جزء من بدنها ما لم يكن نهي شرعي في البين، و إن كان ظهور الآية في الجماع مما لا يستنكر.

ص: 86

و الابتغاء: هو الطلب، و المراد بما كتب اللّه هو النسل و الولد، فإنّ طلب الذرية هو مما كتبه اللّه في مباشرة النساء و الوقاع و إن لم يكن ملحوظا حين المباشرة إلا قضاء الحاجة و نيل اللذة و لكنّه مطلوب فطري و تسخير إلهي.

و يصح أن يكون المراد بما كتب اللّه هو الحلال من المباشرة، فإنّ اللّه تعالى «يحب أن يؤخذ برخصه كما يحب أن يؤخذ بعزائمه» و على هذا يصح أن تحمل الآية على مطلق الرجحان في الجملة أيضا.

و مجموع الآية الشريفة يدل على نسخ الحرمة بحلية الجماع ليلة الصيام كما هو ظاهر من موارد مختلفة منها. نعم، إنّ هذا الحكم يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ آيات الصيام لا تدل على حرمة المباشرة و الأكل و الشرب بعد النوم.

و قيل: إنّ الآية ليست ناسخة لحكم تحريمي شرعي، لعدم وجوده قبل نزول الآية الشريفة. نعم ذهب جماعة من الصحابة باجتهادهم إلى تحريم ما يحرم على الصائم في النهار في الليل أيضا بعد النوم، و لكنّهم خانوا أنفسهم، فكانوا عاصين بما فعلوا، فكانت الخيانة بحسب الزعم و الحسبان، فنزلت الآية تبيّن أنّ ذلك لم يكن حكما تحريميا عليهم. و قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ يدل على تحقق الحلية كما في قوله تعالى:

أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ اَلْبَحْرِ [المائدة - 96]، إذ لم يكن صيد البحر محرما قبل نزول الآية المباركة.

و يمكن المناقشة فيه بأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت، و أنّ اشتمال الآية على حكم ليلة الصيام لا يدل على أنّ ذلك كان بحسب اجتهاد بعض الصحابة، بل يمكن أن يكون مما بينه الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) فالآية تنسخ ما بينته السنة المقدسة.

إلا أن يقال: إنّ ترك المباشرة في الليل لم يكن بأمر من النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و إنّما كان من فعل الصحابة تجليلا لهم لشهر الصيام و لم ينههم

ص: 87

النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عن ذلك فتوهموا من عدم النهي تقريرا منه (صلّى اللّه عليه و آله) فيكون التشريع من حيث التقرير، فمن يقول بالنسخ يلاحظ جهة التقرير و من لا يقول به يلاحظ أصل الفعل فيصير مجموع هذه الآيات المباركة من قبيل قوله تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ اِبْتِغاءَ رِضْوانِ اَللّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها [الحديد - 27] فإنّهم مع بنائهم على ترك المباشرة مع ذلك خانوا أنفسهم و باشروا النساء، و يستفاد ذلك من سياق الآية:

عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ .

قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ .

ترخيص للأكل و الشرب في ليلة الصيام إلى أول طلوع الفجر الصادق الذي هو عبارة عن البياض المعترض في الأفق آخر الليل و يكون معترضا مستطيلا كالخيط الأبيض، و سمي بالصادق لصدقه في إخباره عن قدوم النهار، مقابل الفجر الكاذب الذي يشبه بذنب السرحان.

و من ذلك يظهر أنّ ليلة الصيام هي عبارة عما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الصادق، كما أنّ اليوم الصومي عبارة عما بين طلوع الفجر إلى غروب الشمس و اليوم العملي [الإيجاري] عبارة عما بين طلوع الشمس و غروبها لو لم يكن جعل آخر في البين.

و قوله تعالى: مِنَ اَلْفَجْرِ بيان للخيط الأبيض أي: يتبيّن الخيط الأبيض من الفجر و ذلك بطلوع الفجر الصادق أي: نور الصبح من ظلمة الليل، و في الكلام تشبيه بليغ يشبّه الفجر بالخيط الأبيض و غبش الليل بالخيط الأسود، و العرب تشبه النور الممتد بالحبل أو الخيط،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في صفة القرآن: «كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض» يعني: نور هداه المؤمن من العذاب و الحيرة ممدود من السماء إلى الأرض و منه قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا [آل عمران - 103].

ص: 88

و لعل وجه التشبيه أنّهم لم يعرفوا من قواعد الهيئة و الأفلاك العلوية شيئا و إنّما كان أنسهم بالأمور المادية، فشبّه الجليل جلّ و علا الفجر بالأمر المحسوس، لتقريبه إلى أذهانهم و لبعده عن الالتباس و سهولة معرفته.

و من تحديد الفجر بتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود يستفاد أنّه يكون من أول حين طلوع الفجر، لأنّ ارتفاع الشعاع يوجب اضمحلال الخيطين و إبطالهما.

و هذه العلامة من العلامات العامة في الأوقات بلا اختصاص لها لبلد أو أفق معيّن، كغروب الشمس الذي هو علامة لدخول ليل كل بلد بحسب أفقه.

و ذلك لأنّ حدّ الظلمة في هذا العالم المتحرك الدوار ينتهي إلى النور، كما أنّ حد النور ينتهي إلى الظلمة لفرض تناهي كل واحد منهما في فلكهما المتحرك الدائر، فيحصل نحو اختلاط بين النور و الظلمة حتى يغلب النور على الظلمة، كما في الاختلاط الحاصل في الفجر، أو تغلب الظلمة على النور كما في الاختلاط الحاصل في الغروب، و الأول يسمى الفجر أو الخيط الأبيض و الخيط الأسود بالتعبير القرآني، و الثاني يسمى الشفق، و كلاهما مذكوران في القرآن الكريم أحدهما في المقام و الثاني في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ [الإنشقاق - 16]، و كل منهما لا ينعدمان آنا مّا من هذا العالم، لاختلاف الآفاق، ففي كل حين في هذا العالم غروب، و دلوك، و شفق، و فجر ذلك تقدير العزيز العليم الذي يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ [لقمان - 29]، هذا في العالم الذي نحن فيه، و أما في سائر العوالم أو سائر المجموعات الشمسية التي يكون عالمنا الذي نحن فيه كخردلة في فلاة، فليس للعقول الدراكة إلى ذلك من سبيل، و قد اعترف المتخصصون بالتحيّر و القصور.

قوله تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ .

التمام: ضد النقصان، و يستعمل في انتهاء الشيء بحيث لا يحتاج إلى شيء آخر خارج عنه.

ص: 89

لما حدد سبحانه ابتداء الصيام بالفجر ذكر هنا تحديد انتهائه بإتمامه إلى الليل - المعاقب للنهار - الذي يبدأ بغروب الشمس و ذهاب الحمرة المشرقية.

و ذكر بعض المفسرين أنّ في قوله تعالى: أَتِمُّوا دلالة على أنّ الصوم واحد بسيط و عبادة واحدة تامة لا أن يكون مركبا من أجزاء، و هذا هو الفرق بينه و بين الكمال حيث إنّه انتهاء وجود مّا لكلّ من أجزائه أثر مستقل وحده.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ الصوم كسائر العبادات يلحظ فيه جهة تمام وجهة كمال يمكن أن تكون الثانية بالنسبة إلى الشرائط الأعم من شرائط الصحة و الكمال، و تكون الأولى بالنسبة إلى الأجزاء هذا إذا لم تكن قرينة على الخلاف و إلا فهي المتبعة، و منه يعلم ما في المقام من ذكر التمام دون الكمال، و يأتي في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة - 3]، تتمة الكلام.

و حيث إنّ بين الشروع في نية الصيام و المضيّ فيه نحو فصل عرفي عطف سبحانه ب (ثم) للتنبيه إلى هذه الجهة.

قوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ .

استثناء من العموم الذي ربما يتوهم من قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ ليشمل جواز المباشرة ليالي الاعتكاف في المسجد فنهى تعالى عن ذلك حالة الاعتكاف مطلقا.

و العكوف: هو الإقبال على الشيء و ملازمته على سبيل التعظيم. و في الشرع: ملازمة المسجد و المكث فيه على سبيل القربة للعبادة.

و تستعمل المادة في مطلق الحبس أيضا قال تعالى: سَواءً اَلْعاكِفُ فِيهِ وَ اَلْبادِ [الحج - 25]، و قال تعالى: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ [الشعراء - 71] و قال تعالى: فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ [الأعراف - 138] و قال تعالى: وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح - 25].

ص: 90

و حالة الاعتكاف في المسجد هي حالة القرب إلى اللّه تعالى بخلاف حالة الجنابة، فإنّها حالة البعد عنه عز و جل، فلا تجتمعان، و لذلك نهى الشارع عنها.

و المباشرة: الجماع كما تقدم و هو يبطل الاعتكاف، لما ذكرناه في الفقه.

و الاعتكاف: عبادة خاصة رغّب إليه الإسلام بشروط مقررة في الكتب الفقهية، و يدل على رجحانه و محبوبيته الكتاب و السنة و الإجماع فمن الكتاب قوله تعالى: طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ [البقرة - 125]، و أما السنة فهي متواترة بين الفريقين منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين و عمرتين»، و أما الإجماع فهو من المسلمين فتوى و عملا.

و يدل على حسنه العقل أيضا فإنّ اللبث في بيت المحبوب راجح و محبوب.

و يعتبر أن يكون في المسجد الجامع و أفضله المساجد الأربعة و هي:

المسجد الحرام، و مسجد النبي (صلّى اللّه عليه و آله)، و مسجد الكوفة، و مسجد البصرة. و له شروط، و آداب، و أحكام مذكورة في الكتب الفقهية راجع الصوم من كتابنا [مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام].

قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَقْرَبُوها .

الحد: يأتي بمعنى المنع، و حدود اللّه: هي شرائعه و أحكامه المحرمة التي قرنها بالعقوبة، و النهي عن الاقتراب إليها كناية عن مخالفتها عبّر عنها بالاقتراب لشدة الحيطة و مبالغة في التحذير، فإنّ من قرب من شيء أوشك أن يتعداه،

و قد ورد في الحديث «أنّ لكل ملك حمى و أنّ حمى اللّه محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

و هذا التعبير أبلغ في التحذير من قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة - 229]، و لهذا لم يستعمل مثل هذا التعبير إلا في موارد خاصة مثل قرب مال اليتيم، و الزنا و المقام.

ص: 91

و هذا التعبير أبلغ في التحذير من قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها [البقرة - 229]، و لهذا لم يستعمل مثل هذا التعبير إلا في موارد خاصة مثل قرب مال اليتيم، و الزنا و المقام.

و المعنى: إنّ ما ذكر من الأحكام المشتملة على الإيجاب و التحريم هي حدود اللّه تعالى فلا تضيّعوها و لا تعصوا اللّه تعالى بتركها، فإنّ نقض الحد المحدود كنقض العهد المعهود مبغوض بالفطرة.

و الآية تشير إلى أمر فطري و هو الاهتمام بالقانون مطلقا - خالقيا كان أو خلقيا - و احترامه و تعظيمه ما لم ينه عنه الشرع، لأنّ في حفظ القانون حفظا لنظام النوع الإنساني، و تكميل المجتمع، و جلب السعادة للأفراد هذا في القوانين الوضعية الممضاة من قبل الشرع، فكيف بالقوانين الإلهية التي تنفع الإنسان في الدنيا و الآخرة كما تنفع الفرد و المجتمع سواء، و سيأتي في الآية اللاحقة ما يتعلق بالمقام.

و يستفاد من الآيات الشريفة كمال المذمة لعدم العلم و العمل بحدود اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: اَلْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اَللّهُ [التوبة - 97].

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ .

أي: أنّ بهذا النحو من البيان في أحكام الصيام يبيّن اللّه آياته و دلائله للناس بما فيه الصلاح و السعادة ليتقوا اللّه عز و جل.

و قد ذكر تعالى [لعل] في المقام و غيره فيما يزيد على مائة موضعا و قد تقدم ما يرتبط بذلك. و فيه من الموعظة الحسنة بأحسن أسلوب و أرقه، و بلسان الألفة و الرحمة لتكميل الإنسان نفسه و إخراجها من الظلمات و الجهالة و الغرور إلى عالم النور، و يكون مفاد مثل هذا الخطاب أنّه قد آن زمان تطهير النفوس عن كلّ رذيلة و خسيسة، فسارعوا إلى التطهير و الكمال.

ص: 92

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) قال: «كان الأكل و النكاح محرّمين في شهر رمضان بالليل بعد النوم يعني كلّ من صلّى العشاء و نام و لم يفطر ثم انتبه حرم عليه الإفطار، و كان النكاح حراما في الليل و النهار في شهر رمضان و كان رجل من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقال له خوات بن جبير الأنصاري أخو عبد اللّه بن جبير الذي كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) وكّله بفم الشعب يوم أحد في خمسين من الرماة ففارقه أصحابه و بقي في اثني عشر رجلا فقتل على باب الشعب و كان أخوه هذا خوات بن جبير شيخا كبيرا ضعيفا و كان صائما مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في الخندق فجاء إلى أهله حين أمسى فقال: عندكم طعام؟ فقالوا: لا تنم حتى نصنع لك طعاما فأبطأت عليه أهله بالطعام، فنام قبل أن يفطر فلما انتبه قال لأهله: قد حرم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأغمي عليه فرآه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فرقّ له، و كان قوم من الشبان ينكحون بالليل سرّا في شهر رمضان فأنزل اللّه تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ - الآية - فأحل اللّه تبارك و تعالى النكاح بالليل في شهر رمضان و الأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر بقوله تعالى: حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ مِنَ اَلْفَجْرِ قال هو بياض النهار من سواد الليل».

ص: 93

أقول: قريب منه ما رواه الكليني و العياشي في تفسيره عن الصادق (عليه السلام). أيضا و من طرق العامة ما رواه في الدر المنثور بطرق متعددة.

و يستفاد منها أنّ الأكل و الشرب كان حلالا قبل النوم، و أما النكاح فكان محرّما في الليل و النهار من شهر رمضان، و يمكن استفادة ذلك من اختلاف التعبير في الآية الشريفة أيضا.

في الدر المنثور أخرج ابن جرير، و ابن المنذر عن ثابت عن ابن عباس: «أنّ المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلّوا العشاء حرم عليهم النساء و الطعام إلى مثلها من القابلة، ثم أنّ أناسا من المسلمين أصابوا الطعام و النساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ اَلصِّيامِ اَلرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ - إلى قوله تعالى - فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ يعني: انكحوهنّ.

أقول: و في بعض الروايات إنّ جمعا من الصحابة كانوا كذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ اَلْخَيْطُ اَلْأَبْيَضُ مِنَ اَلْخَيْطِ اَلْأَسْوَدِ قال (عليه السلام): «بياض النهار من سواد الليل».

أقول: تقدم الوجه في ذلك.

في الدر المنثور: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: الفجر فجران، فأما الذي كأنّه ذنب السرحان فإنّه لا يحلّ شيئا و لا يحرّمه، و أمّا المستطيل الذي يأخذ الأفق فإنّه يحلّ الصلاة و يحرّم الطعام».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين تعرضنا لبعضها في [مهذب الأحكام] في بحث الأوقات.

في صحيح البخاري و مسلم و الترمذي و أبي داود و ابن جرير و النسائي عن عمر قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا أقبل الليل من هاهنا و أدبر النهار من هاهنا و غربت الشمس فقد أفطر الصائم».

ص: 94

أقول: وردت روايات كثيرة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) أنّ الليل لا يدخل إلا بذهاب الحمرة المشرقية عن سمت الرأس و عليه إجماع الإمامية و لا تنافي بين الروايات فإنّ المتحصّل من مجموعها أنّ غروب الشمس له مراتب متفاوتة أدناها غيبوبة قرص الشمس و آخرها ذهاب الحمرة المشرقية و يعرف غروب الشمس بالأخيرة.

في الفقيه عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين و عمرتين».

أقول: الروايات في فضل الاعتكاف في شهر رمضان كثيرة تعرضنا لبعضها في الصوم من كتابنا (مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام).

ص: 95

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ.......

اشارة

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) تبيّن الآية الشريفة أهم الأحكام النظامية الاجتماعية التي تتحدد بها الحياة السعيدة الهنيئة، و لا تخلو الآية المباركة عن الارتباط بالآيات السابقة لكون جميعها في مقام سرد الأحكام الشرعية الإلهيّة التي شرعها اللّه تعالى، لتكميل الإنسان و جلب السعادة إليه.

ص: 96

التفسير

188 - قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .

الأكل معروف، و المراد به مطلق التصرّف، لكونه أقرب التصرّفات إلى الإنسان من بدء نشأته و أهم الغايات المتوخاة من سائر التصرّفات، و لأجل ذلك أطلق الأكل و أريد به مطلق التصرّف.

و المال: ما تميل إليه النفس، و المراد به ما تتعلق به الرغبة من الملك.

و الباطل: يأتي بمعنى الزوال و الفساد و الاضمحلال، و هو خلاف الحق في جميع أطوار استعمالاته، فإنّ للحق أطوارا من الظهور و للباطل أيضا في مقابله كذلك و هما يشملان الذات، و الاعتقاد، و العمل فيعمان أعمال الجوارح و الجوانح.

و الباطل: معروف بين الناس و الصّراع بينه و بين الحق قديم جدا ينتهي إلى ظهورهما من العدم إلى الوجود، فهما متخالفان في المفهوم و الذهن و الخارج، و الدنيا و الآخرة كما يأتي في الآيات المناسبة.

أي: لا يأكل بعضكم أموال بعض بغير حق.

و من إضافة الأموال إلى الناس يستفاد تقرير الشارع الملكية الظاهرية الدائرة بين الناس و عليه استقر المجتمع الإنساني، و تدل على ذلك جملة من

ص: 97

الآيات الشريفة كقوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء - 29].

و في الآية إشارة إلى أصل من الأصول الاجتماعية التي يقوم عليها نظام المجتمع الإنساني و هو أصالة احترام مال الغير فإنّ قوله تعالى: أَمْوالَكُمْ يدل على أنّ احترام مال الغير لا بد و أن يكون مثل احترام مال الشخص نفسه، و الخيانة فيه جناية على النوع و الاجتماع.

و لم يبيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية وجوه الباطل و قد ذكر في مواضع أخرى بعضا منها قال تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ [النساء - 161]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء - 10]، كما بينت السنة الشريفة البعض الآخر و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك.

قوله تعالى: وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ .

الإدلاء: الإرسال و الإلقاء من إدلاء الدلو في البئر لنزح الماء منها قال تعالى: وَ جاءَتْ سَيّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ [يوسف - 19].

أي: لا ترسلوا أموالكم و تلقوها إلى الحكام رشوة لهم ليحكموا لكم كما تريدون.

و في اختيار لفظ الإدلاء دلالة على أنّ المراد مجرد جلب النفع بأي سبب حصل، و قد ذكر في هذه الجملة أحد وجوه الباطل و هو الرشوة، فنهى سبحانه عن التسبب لأن يأكل الحكام أموالهم بالباطل و إن رضي الطرفان به.

قوله تعالى: لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ .

الفريق: القطعة من الشيء أي: لا ترسلوا أموالكم إلى الحكام رشوة لهم ليحكم الحاكم بحكم باطل فيأخذ الراشي قطعة من أموال الناس مقابل ما يأخذه الحاكم من الراشي الرشوة.

ص: 98

و المراد بالإثم موجباته كاليمين الكاذبة و شهادة الزور، و الحكم بغير الحق و أمثال ذلك.

و الآية بوضوح حكمها تقطع اطماع الحكام في أموال الناس، و تجعل الناس أمام الحاكم سواء بلا تفاضل بينهم إلا في الحق و بالحق.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي: و أنتم جميعا تعلمون بأنّ ذلك باطل، و محرّم عليكم، و فيه من التوبيخ ما لا يخفى، لأنّ ارتكاب الإثم مع العلم بقبحه أقبح، و الجناية حينئذ أشنع.

ص: 99

بحوث المقام
بحث دلالي

الآية الشريفة تدل على تقرير ما عليه الناس في الملكية الدائرة بينهم كما ذكرنا، فإنّ قيام الإنسان في هذا العالم و تعميره و إيصاله من الاستعداد إلى ذروة الكمال إنّما يكون بالمال، و ثبوت الملك، و العقل يحكم برعايته و الاحتفاظ به عن التلف و السرف و مع عدمه يعد الشخص سفيها. و قد قررت الشرائع السماوية هذا الحكم العقلي، و يدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء - 5]، و قوله تعالى: وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا [الأعراف - 31]، و أمثال ذلك مما هو كثير، و لم يختلف في هذا الحكم أحد من العقلاء.

إنّما وقع الخلاف في نواحي أخرى مثل كيفية الملكية و كميتها و قد وضعوا في ذلك نظريات متعددة مثل النظرية التي ترى الملكية الجماعية و تنكر الملكية الفردية، أو النظرية التي تثبت الملكية الفردية و كل واحدة من هذه النظريات ترمي الاخرى بالبطلان، و الفشل في ابتغاء السعادة للإنسان إلا أنّ جميعها متفقة على أصل الملكية و لم تنكرها، كما يأتي في البحث الاجتماعي.

ص: 100

و لكن المستفاد مما ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة في هذا الأمر أنّه اهتم بالموضوع من ناحيتين:

الأولى: أصل ثبوت الملكية عند الفرد، و اعتبر فيه أن يكون من الحلال ففتح أبواب حيازة المباحات، و أبواب المكاسب و التجارات و رغب إلى سائر الفنون و الصناعات و اهتم بالزراعة و حببها إلى الإنسان و جعل الزارع و الكاسب حبيبه تعالى في أرضه، و نظم ذلك بأحسن نظام و وضع حدودا محكمة متقنة مذكورة في الكتب الفقهية، و اعتبر أنّ كلّ ملكية تحصل من غير الوجه المقرّر شرعا ملغاة لا اعتبار بها فحرّم الغصب، و الابتزاز، و الغش، و الخيانة.

الثانية: صرف المال فاعتبر أن لا يكون في الباطل، و قد ذكر في القرآن الكريم وجوها منه، مثل الإسراف، و التبذير، و الرشوة، و وجوه الحرام، و غير ذلك مما هو مذكور في السنة الشريفة الشارحة للقرآن الكريم.

و أعظم آية في القرآن ترشد إلى هاتين الناحيتين قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ [النساء - 29]. فإنّها بمنزلة الشرح و البيان لجملة كثيرة من الآيات الشريفة الواردة في هذا الموضوع. و من توجيه الخطاب إلى المؤمنين يستفاد أنّ مراعاة الحدود التي حدّدها الشارع الأقدس في الملكية إنّما يمكن مع تحقق وصف الإيمان فبدونه يصعب على الإنسان ابتغاء الغاية المتوخاة من المال، و سيأتي مزيد بيان لذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّ علم الحاكم أو المدعي بشيء لا يغير الواقع، فلو ادعى الخصمان في مال لدى الحاكم و يعلم المدعي أنّه باطل لا يجوز له أخذ ذلك المال، و إن حكم الحاكم بكونه له بحسب الظاهر، و يدل على ذلك

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في المتواتر عنه بين الفريقين: «إنّما أقضي بينكم بالبينات و الأيمان إنّما أنا بشر و إنّكم تختصمون إليّ، و لعلّ بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة

ص: 101

من النار» فلا يكون حكم الحاكم مغيّرا للواقع و إن تمت عنده موازين الحكم شرعا. فالمناط كلّه إحقاق الحق و إبطال الباطل بحسب الوظيفة الشرعية التي بيّنها سبحانه و تعالى في كتابه الكريم و شرحتها السنة الشريفة.

ص: 102

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ قال: «أن يكون للمديون مال فينفقه على نفسه و لا يفي به دينه».

أقول: هذا من بيان ذكر بعض المصاديق و يشمل المسامحة في كلّ حق و إن لم يكن من الدّين المصطلح عليه.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام): «كانت قريش تقامر الرجل بأهله و ماله فنهاهم اللّه عن ذلك».

و في المجمع عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في الباطل: «أنّه أكل المال باليمين الكاذبة».

أقول: جميع ذلك من باب ذكر المصداق كما مر، و لا تنافي بين هذه الأخبار أصلا.

في الفقيه عن الصادق (عليه السلام): «الرجل منا يكون عنده الشيء يتبلّغ به و عليه الدّين أ يطعمه عياله حتى يأتيه اللّه بميسرة، فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان و شدة المكاسبة أو يقبل الصدقة؟ فقال (عليه السلام): يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل أموال الناس إلا و عنده ما

ص: 103

يؤدي إليهم إنّ اللّه عز و جل يقول: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - الآية -».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): «يتبلغ» أي يبلغ به حاجته. كما أنّ المراد من

قوله: «أو يستقرض على ظهره» أي: لأجل مصرف عياله.

و يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّه من يستقرض لا بد و أن يطمئن أنّ عنده ما يؤدي به دينه من كسب أو تجارة أو زراعة و نحوها، و إلا يدخل في قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ - الآية - كما ذكرنا في كتاب الدّين من [مهذب الأحكام].

في الكافي عن أبي بصير: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): قول اللّه في كتابه: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ قال:

يا أبا بصير إنّ اللّه عزّ و جل قد علم أنّ في الأمة حكاما يجورون، أما إنّه لم يعن حكام أهل العدل و لكنّه عنى حكام أهل الجور، يا أبا محمد لو كان لك على رجل حق فدعوته إلى حكام أهل العدل فأبى عليك إلا أن يرافعك إلى حكام أهل الجور ليقضوا له لكان ممن يحاكم إلى الطاغوت، و هو قول اللّه عز و جل: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ .

أقول: ذكرنا المراد من حكام الجور في كتاب القضاء من [مهذب الأحكام] و من شاء فليرجع إليه.

في التهذيب عن الرضا (عليه السلام): «الحكام القضاة و هو أن يعلم الرجل أنّه ظالم فيحكم له القاضي فهو غير معذور في أخذه ذلك الذي حكم له إذا كان قد علم أنّه ظالم».

أقول: لا تنافي بين هذه الرواية و بين ما تقدم، لأنّ جميعها من باب ذكر ذلك المصداق.

ص: 104

بحث فلسفي

قد ثبت في الفلسفة العملية أنّ جميع أنواع الممكنات - بجواهرها و أعراضها - لها سير تكويني و قانون طبيعي لا تتخلف عنهما بشيء أصلا و أبدا و إن كان ذلك يسيرا و لو تخلّف نوع منها - و لو قليلا - لبطل النظم و تعطل الانتظام، و حيث إنّ جملة من الأنواع يرتبط بعضها مع بعض يسري خلل النظم إلى سائر الأنواع المرتبطة أيضا فيوجب الفساد و يمنع عن الوصول إلى مرتبة الكمال المحدّد له، فيكون ذلك كالأمراض المعدية و لو بوسائط كثيرة.

و طرق معرفة ذلك بجميع المقتضيات و الموانع منحصرة بعلم الموهبة و الإفاضة الربوبية هذا في الحقائق و الأنواع التكوينية.

و كذلك في الاعتباريات و المجعولات السماوية التابعة للمصالح و المفاسد الواقعية التي لا نحيط بهما، بل القوانين الوضعية الجعلية فيكون لجميع ذلك طريق معيّن خاص لا يصح التعدي عنه إلا بتغيير القانون من الجاعل و إلا لاختل نظام الاجتماع و تعطلت الأمور التي توجب رقي المجتمع و ينهار، و يكون ذلك في المجتمع كالمرض المعدي لا يسلم أفراده منه.

و من أهم ذلك الرشوة التي هي ما يبذل للتوصل إلى الحكم له بالباطل، فإنّ القوانين السماوية المبنية على المجانية لأجل صلاح المجتمع و رقيه، كالقضاوة، و الولاية، و الحكومة، و الطبابة و غيرها أجلّ و أشرف من أن يبذل

ص: 105

بإزائها المال، فلو بذل بإزائها المال و ارتبطت بالمادة لاختل نظام المجتمع و عاق عن سيره التكاملي، كما في الطبيعيات، بل قد يكون ذلك في القوانين الوضعية الخلقية أيضا، فيشرف القانون على الفناء و الاضمحلال.

و لذا ورد في الشريعة المقدسة الإسلامية التأكيد البليغ في ذم الرشوة حتى فيما يبذل للقاضي لأجل التوصل إلى حق فيحرم عليه أخذها فكيف بما يبذل لأجل التوصل إلى الباطل كما ذكرنا في كتاب القضاء من [مهذب الأحكام].

و قد ورد اللعن على الراشي، و المرتشي، و الوسيط بينهما. و لم يرد مثل هذا التعبير في غالب المحرّمات، بل

قال الصادق (عليه السلام): «و أما الرشاء في الأحكام فهو الكفر باللّه العظيم» فتكون الآية المباركة إرشادا إلى أمر فطري غريزي، و ما هو السبيل في فناء الإنسان.

و لذا نرى أنّ العذاب و اللوم النفسي الواقعي و تأنيب الضمير موجود في دافع الرشوة و آخذها و الساعي بينهما.

و من ذلك يعلم أنّ هذا البحث كما هو مرتبط بالفلسفة العلمية يرتبط بالفلسفة العملية أيضا، فله الشأن في كلتا الفلسفتين.

ص: 106

بحث اجتماعي

لا ريب في أنّ غريزة جلب النفع و دفع الضرر ثابتة في جميع من له الحياة من الإنسان و الحيوان و النبات، كل حسب استعداده لأجل حفظ وجوده و كيانه. و هذه الغريزة توجب لوازم كثيرة فردية و اجتماعية منها البقاء في الحياة، و منها توليد النوع، و منها الاختصاص و الملكية إلى غير ذلك من اللوازم.

فأساس الملكية و المالكية يرجع إلى غريزة جلب النفع و دفع الضرر الحاكمة بها طبيعة كل حي ممكن.

فالمدافعة مع من يزيل الملكية و حق الاختصاص من لوازم الغريزة الحيوانية - كما نشاهدها في الحيوان لو زاحمه حيوان آخر في وكره أو طعامه - و هي التي قررتها الشرائع السماوية.

كما أنّ جلب النفع و تحصيل الملكية بأسبابها أيضا كذلك، و به يكون قيام الإنسان بفرده و مجتمعه كما مرّ، و هذا هو المراد من قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً [النساء - 5]، فإنّ الآية الشريفة تكشف عن قانون فطري غريزي كما عرفت، و المال يطلق على كلّ ما يميل إليه الشخص عينا كان، أو منفعة، أو انتفاعا.

و سلب هذه الملكية عن الفرد على الإطلاق بدون مبرر سماوي هدم

ص: 107

للفطرة و لذلك نرى أنّ الشرائع السماوية تقابل ذلك شديدا، و سيأتي في الآيات المناسبة البحث عن ذلك مفصلا.

ص: 108

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرّ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) الآية الشريفة تبين حكما آخر من الأحكام الشرعية و الأمور الوضعية و تأمر الناس بالبرّ، و إتيان الأمور من طرقها المقررة لا من عند أنفسهم بكلّ ما شاؤا. و هي مرتبطة بآيات الصوم في شهر رمضان فناسب ذكر التوقيت و سائر التحديدات الشرعية المحدودة بأوقات خاصة. و من ذكر الحج فيها تكون كالمقدمة للآيات الآتية المرتبطة بالحج.

ص: 109

التفسير

189 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قد تكرر لفظ «يسألونك» في القرآن الكريم في ما يزيد على عشرة موارد، و غالبها السؤال عن الأحكام، و في بعضها السؤال عن الأمور التكوينية الطبيعية، كالمقام، و قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ [الإسراء - 85]، و قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلسّاعَةِ [الأعراف - 187]، و في جميعها وقع الجواب بغير الفاء إلا في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً [طه - 105]، فإنّه كاشف عن عظمة المسؤول عنه، لأنّه من أشراط الساعة.

و الأهلة: جمع الهلال، سمي بذلك لأنّ الناس يرفعون أصواتهم بالذكر حين رؤيته، من قولهم استهل الصبي إذا صرخ عند الولادة و أهلّ القوم بالحج إذا رفعوا أصواتهم بالتلبية.

و للقمر أدوار من حين خروجه عن تحت شعاع الشمس إلى حين دخوله تحت الشعاع و هو المحاق كلّ دور ثلاث ليال فتسمى في الثلاث الأول - و قيل إلى أن يستدير بخطة دقيقة - هلالا، ثم قمرا، ثم بدرا، و العرب تسمي كلّ ثلاث ليال من الشهر باسم.

و قيل: إنّ ظاهر الآية الشريفة أنّ السؤال كان عن السبب الغائي للأهلّة

ص: 110

و طلب الحكمة، و اختلافها، و فائدتها دون حقيقتها كما يقتضيه الجواب أيضا.

و لكن يمكن أن يقال: بأنّ الجواب منزّل على ما تدركه عقولهم من الحكمة، فالمناسب أن يكون السؤال عن الحقيقة و السبب الفاعلي أيضا.

فيكون الجواب تعريضا لهم.

و فيه من التنبيه إلى أنّ السؤال لا بد أن يكون محدودا بحدود خاصة بحيث تكون فيه الفائدة الدينية أو الدنيوية، و أنّ السؤال بغير ذلك يكون لغوا.

و يؤيد ذلك أنّ السؤال كان من تلقين اليهود الذين كانوا في مقام تعجيز المسلمين بأي وجه أمكنهم، فالمنساق من السؤال أن يكون عن السبب الفاعلي لذلك، و لكن عقولهم كانت قاصرة عن درك ذلك فأعرض سبحانه و تعالى عنه إلى جواب آخر يكون أنفع لهم، و هذا من جهات البلاغة و محاسنها فيجيب بمصلحة الوقت و حال السائل.

و كيف كان ففي السؤال و تلفيق الجواب من اللطف و الحنان ما لا يمكن أن ينطق باللسان كيف و فيه إعلام علاقة المعلّم بالمتعلّم و هي من أشد مراتب المحبة لأنّها سبب لرفع الجهل و موجبة لتكميل النفوس و تزويدها بنور العلم.

و من أسئلة أمة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) يعرف الفرق بينهم و بين سائر الأمم في الجملة، كأمة موسى (عليه السلام) حيث قالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [النساء - 153]، و هكذا بقية الأمم التي حكى اللّه تعالى عنها في كتابه الكريم، و هذا الفرق من مقتضيات قانون الارتقاء في نظام التكوين.

قوله تعالى: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ مادة [و ق ت] تأتي في الأصل للزمان المفروض للفعل، و لها استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النساء - 103]، و قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدخان - 40]، لأنّه يوم عرض الأعمال على العظيم المتعال، و قال تعالى: وَ إِذَا اَلرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ [المرسلات

ص: 111

11 و 12] لأنّ للرسل عملا مخصوصا في ذلك اليوم مما يتعلق باممهم من كيفية تبليغهم و إرشادهم و إتمام الحجة عليهم، و كيفية قبول الأمم دعوة الرسل.

و يطلق الوقت على المكان المعيّن لفعل، كمواقيت الإحرام بالملازمة إذ كل عمل في زمان مخصوص يستلزم المكان المعيّن لكون الزمان و المكان من الإضافات العامة لجميع الأجسام، فمواقيت الحج. كما أنّها زمانية هي مكانية أيضا وقّتها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لحجاج بيت اللّه الحرام، كما هو مفصّل في كتب الفقه، و إلا كان كل منهما مجعولا بجعل مستقل و تشريع خاص.

و يصح أن يطلق على جميع المساجد فإنّها مواقيت للّه تعالى أي: أمكنة التكلم معه و الخضوع لديه.

و المعنى: إنّ الأهلة هي مواقيت للناس بها يعرفون أوقاتهم في جميع أمورهم الدينية - كالصلاة و الصيام و المعاملات و العدد - و الدنيوية كالزراعة و الصناعة و الرعي بل و تربية الأولاد و تنظيم شؤونهم و نحو ذلك مما هو كثير، و تميز لهم ما يحتاجون إليه في المهمات بتوقيت مخصوص معروف لدى عامة الناس، و بها يمكن معرفة ساعات الليل و النهار. و بها يعرف مواقيت الحج الذي هو أشهر معلومات.

و من المعلوم أنّ لتقدير الزمان طرقا مختلفة ربما يصعب بعضها على عامة الناس و لا يمكن معرفته إلا بعد بلوغ الإنسان منزلة من العلم، و لذلك كان الطريق الأسهل لجميع الناس الذي يستفيد منه العالم و الجاهل و الحضري و البدوي إنّما هو التوقيت بالأهلة، و يكون الحساب بالشهور القمرية و هو قديم جدا بل هو أصل لجميع أقسام الحساب التي نشأت بعد ذلك بعدة قرون، و إليه ترجع سائر التقاويم كما ستعرف في البحث العلمي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .

تقدم ما يتعلق بالبر في آية 177، من هذه السورة.

ص: 112

و الإتيان هو المجيء بسهولة، و له استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة، و يستعمل بالنسبة إلى اللّه عز و جل، قال تعالى: فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ [النحل - 26]، و قال تعالى: أَتى أَمْرُ اَللّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل - 1]، و في غيره سبحانه من الجواهر و الأعراض، قال تعالى: وَ لا يَأْتُونَ اَلصَّلاةَ إِلاّ وَ هُمْ كُسالى [التوبة - 54]، و قال تعالى: فَتَوَلّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه - 60]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و البيت: مأوى الإنسان بالليل، يقال: بات، أي أقام بالليل، كما يقال ظلّ بالنهار، و غلب استعماله لمطلق السكن من غير اعتبار الليل، و جمعه بيوت و أبيات. و الأول في السكن أشهر، و الثاني في الشّعر.

و قد استعمل لفظ بيت، و بيوت في القرآن الكريم كثيرا، و لم يرد فيه لفظ أبيات.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة» و يمكن حمله على الأعم من البيوت الظاهرية و القلب الحريص على الدنيا، فإنّ أشهر الصفات الرذيلة للكلب هي الحرص حتى يضرب بذلك المثل، و حمل الصورة على الأعم منها و من القلب الذي فيه العلاقة بغير اللّه تعالى، كما أنّ الملائكة لهم درجات كذلك لهبوطهم و دخولهم و الإشراق بواسطتهم.

و المراد بظهورها: الطرق غير المتعارفة للسلوك إلى البيوت دون بابها المعدّ له عادة.

و الآية تدل على ثبوت عادة سيئة كانت متعارفة في العصر الجاهلي و قد نهى سبحانه عن ذلك، فقد ورد أنّهم إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره، كما سيأتي في البحث الروائي، فنفي البر عن هذا العمل يدل على أنّه لم يكن مرضيّا للّه تعالى.

و لكن الظاهر أنّ الآية الشريفة كناية عن مطلق التشريعات الحاصلة عن الجهل بالواقع، و الزعم بأنّها هي البر من غير اختصاص بقوم دون قوم، و لا عصر دون آخر، و ما ورد في شأن نزول الآية إنّما هو من ذكر أحد المصاديق.

ص: 113

فيكون المعنى: ليس البرّ و عمل الخير هو إتيان الأحكام و التشريعات غير المنزلة من قبل اللّه تعالى أو إتيان الأحكام الإلهية بغير الوجه الذي أنزله اللّه تعالى.

و يكون وجه الارتباط بصدر الآية واضحا فإنّ الأوقات المضروبة للأحكام الشرعية لا يجوز التعدي عنها و إتيانها في غير أوقاتها المضروبة إلا بترخيص من الشرع.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها .

بعد أن نفى البرّ عن أعمالهم السيئة و تشريعاتهم الباطلة أثبت سبحانه و تعالى البرّ في التقوى و إتيان الأمور من وجهها المطلوب، و من حيث أمر اللّه تعالى، و لا يتحقق ذلك إلا بالتخلّي عن المعصية و ارتكاب الرذائل و التحلي بالفضائل و اتباع الشرع، و التجلّي بمظاهر الحق، و قد ذكر سبحانه تفصيل البر في آية 107 من هذه السورة.

و الباب: هو الطريق المؤدي إلى المقصود و المطلوب، و لا يختص استعماله بالماديات و الجسمانيات، بل يستعمل في المعنويات أيضا، و منه استعمال الباب في غالب العلوم،

و قد روى الفريقان عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا مدينة العلم و عليّ بابها و من أراد المدينة فليأت الباب».

و الآية تنطبق على ذلك أيضا بل هو المتيقّن من مفادها. فقلب النبي (صلّى اللّه عليه و آله) عيبة علم اللّه تعالى، و منطقه من أدلة الرشاد، و لا ينطق إلا من وحي السماء، و فعله حجة على العباد، و الباب المؤدي إليه من كان حليف جميع حالاته، و ينبوع علمه و كمالاته، و هو الباب الذي فتحه اللّه تعالى على آدم (عليه السلام) و أبرار ذريته إلى أن وصل إلى خاتم الأنبياء و سيد المرسلين، ففتحه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعليّ (عليه السلام) و أبرار ذريته،

و قد ورد عنه (عليه السلام) أنّه قال: «علمني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ألف باب من العلم يفتح من كل باب ألف باب» و قد اعترف فضلاء

ص: 114

الصحابة بمقامات عليّ (عليه السلام) العلمية و العملية و الكتب مشحونة بذلك، فهو معجزة الدّهر، كما هو مقتضى مقارنة أحد الثقلين بالكتاب العزيز في الحديث المتواتر عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و يأتي في الموضع المناسب تتمة ذلك.

و تقدم الوجه في جعل (من) الموصولة خبرا للبر دون نفس التقوى، و ذكرنا أنّه إشارة إلى أنّ المطلوب هو الإنصاف بها دون مجرد المفهوم.

و الأمر في قوله تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إرشاد إلى حكم العقل، سواء كان بالمعنى الحقيقي أم بالمعنى الكنائي.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

تقدم معنى التقوى في أول السورة.

و الفلاح: الظفر بالمطلوب و إدراك المقصود، و قد ورد لفظ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ في آيات كثيرة من القرآن العظيم كلّها من قبيل ترتب الجزاء على الشرط.

و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ التقوى هي الأساس لجميع الكمالات و هي الصفة التي تكون جامعة لمكارم الأخلاق، فهي الوسط الأخلاقي في القرآن الكريم.

و جميع الآيات التي ذكر فيها الفلاح مثبتا - مجرّدا عن حرف النفي - يستفاد منها البشارة بخلاف ما ذكر فيها حرف النفي مفردا أو جمعا.

و تقديم التقوى على الفلاح أينما ورد في القرآن الكريم من قبيل تقديم العلّة على المعلول، و يختلف ذلك حسب اختلاف النفوس و الاستعدادات.

ثم إنّ المراد بالفلاح في الآيات الكريمة الفلاح الأخروي الدائم الذي لا يزول فهو بقاء بلا فناء، و غنى بلا فقر، و عز بلا ذل، و علم بلا جهل على ما يظهر من الآيات و الروايات دون الفلاح الدنيوي الذي هو عبارة عن الغنى و العز و البقاء الزائل فإنّه غير معتنى به عند أولياء اللّه تعالى فضلا عنه عز و جل.

ص: 115

و المستفاد من الكتاب العزيز و السنة الشريفة أنّ كلّ ما ينفع للآخرة فهو من فلاح الآخرة و لو كان في الدنيا، و كلّ ما لا ينفع لها يمكن أن يكون من فلاح الدنيا، و قد شرح ذلك عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة بما لا مزيد عليه. و نعم ما نسب إلى الخليل في المقام: «هو كلام يقال لكلّ من له عقل و حزم و تكاملت فيه خصال الخير».

و ذكر كلمة الترجي إنّما هو من باب ملاحظة كيفية التكلم مع المخاطب لا ملاحظة حال المتكلم، إذ لا يعقل الترجي بالنسبة إليه عز و جل، و إنّما أتى بها بلحاظ محبوبية الفلاح لديه تعالى، و قد تقدم ما يتعلق باستعمال هذه الكلمة فراجع.

ص: 116

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ هذا مما سأل عنه اليهود و اعترضوا به على النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقال معاذ: «يا رسول اللّه إنّ اليهود تغشانا و يكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي و يستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

و في الدر المنثور أيضا عن ابن عباس قال: «سأل الناس رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن الأهلة فنزلت هذه الآية: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ يعلمون بها أجل دينهم، و عدة نسائهم، و وقت حجهم».

أقول: وردت عدة روايات في هذا المعنى و سياقها السؤال عن اللوازم و الخصوصيات، لأنّ السؤال عن الذات في المحاورات مطلقا سؤال (بما) الحقيقية و ليس في تلك الروايات ما هو ظاهر في السؤال عن الحقيقة، و لو علم فرض إفادة بعضها للسؤال عنها، فجواب الحكيم لا بد أن يكون مطابقا لعقول المخاطبين و هو بيان الصفات و اللوازم، مع أنّه يمكن استكشاف الحقائق عن اللوازم و الخصوصيات بل لا تستكشف الحقائق إلا بها.

في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز و جل: قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنّاسِ وَ اَلْحَجِّ . قال (عليه السلام): «لصومهم و فطرهم و حجهم».

ص: 117

أقول: هذا من باب المثال و ذكر بعض المصاديق.

روى البخاري و ابن جرير عن البراء: «كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل اللّه هذه الآية: وَ لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنِ اِتَّقى وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها ».

أقول: روى مثله في الدر المنثور عن وكيع، و أخرج ابن جرير عن الزهري في سبب ذلك أنّهم كانوا يتحرّجون من الدخول من الباب من أجل سقف الباب يحول بينهم و بين السماء. و لا ريب في أنّ ذلك كان من اختراعات الجاهلية و مبتدعاتهم.

في الدر المنثور أيضا عن ابن أبي حاتم: «كانت قريش تدعى الحمس و كانوا يدخلون من الأبواب في الإحرام و كان نبينا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في بستان إذ خرج من بابه و خرج معه قطبة بن عامر الأنصاري فقالوا: يا رسول اللّه إنّ قطبة بن عامر رجل فاجر و انه خرج معك من الباب، فقال له: ما حملك على ما فعلت؟ قال: رأيتك فعلته ففعلته كما فعلت قال (صلّى اللّه عليه و آله): إنّي رجل أحمس. قال: فإنّ ديني دينك فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ اَلْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها .

أقول: إنّ ردعه (صلّى اللّه عليه و آله) لعامر كان نحو مداراة معهم، لا أن يكون تقريرا و تثبيتا لعادتهم السيئة حتى تكون الآية ناسخة لذلك، و مثل ذلك في بدء الإسلام و أوائله كثير.

قال ابن عباس في رواية أبي صالح: «كان الناس في الجاهلية و في أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج، فإن كان من أهل المدر - يعني من أهل البيوت - نقب في ظهر بيته فمنه يدخل و منه يخرج، أو يضع سلّما فيصعد منه و ينحدر عليه، و إن كان من أهل الوبر - يعني أهل الخيام - يدخل من خلف الخيام إلا من كان من الحمس».

أقول: و روى في المجمع قريبا منه و الحمس: جمع أحمس و هم:

قريش، و كنانة، و خزاعة، و ثقيف، و جشم، و بنو عامر بن صعصعة، و بنو نضر

ص: 118

ابن معاوية و غيرهم من أهل الحرم، و سموا بذلك لتشديدهم في دينهم.

و الحماسة الشدة.

و الأحمس: هو الذي يهب نفسه أو يهبه أهله للآلهة فينصرف لشؤونها و خدمتها و هو نوع من الرهبنة و كانت الأمهات تتخذ هذه الصفة لأولادهنّ إن كتب لهنّ النجاح في حوائجهنّ كشفاء أمراض أولادهنّ و غيره.

و كانت للحمس صفات خاصة و طقوس معينة فيمتنعون عن أكل الطعام الذي يحملونه معهم إلى الحرم، و لو كانوا حرما لا يدخلون بيتا من شعر و لا يستظلون إلا في بيوت من جلد، و كانوا يتحرّجون من المرور في ظلّ أو الوقوف تحت سقف و هم حرم و لذلك صاروا يدخلون البيوت من أظهرها لئلا يظلّهم ظلّها أو يقفون تحتها. و قد حرم الإسلام هذه العادة فنزلت فيهم الآية المباركة و كانوا يطوفون حول البيت و هم عراة و يصفقون حين الطواف كما ورد في الآية الشريفة: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ اَلْبَيْتِ إِلاّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً [الأنفال - 35].

في تفسير العياشي و محاسن البرقي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها . قال (عليه السلام): «يعني أن يأتي الأمر من وجهه أيّ الأمور كان».

أقول: هذا هو معنى الآية الشريفة على نحو الكلّي، فيكون ما ورد في نزولها من باب ذكر بعض المصاديق.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «الأوصياء هم أبواب اللّه التي منها يؤتى، و لولاهم ما عرف اللّه عز و جل، و بهم احتج اللّه تبارك و تعالى على خلقه».

أقول: في سياق هذه الرواية روايات أخرى متواترة، و معناها واضح لكلّ من كان له بصيرة و لو في الجملة في المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية. و المراد من

قوله (عليه السلام): «و لولاهم ما عرف اللّه عز و جل» المعرفة الحقيقية لأنّهم الأدلاء على اللّه تعالى على نحو المطلوب لديه عز و جل.

ص: 119

بحث علمي

الآية الشريفة تدل على أنّ الحكمة في الأهلة هي معرفة الأوقات و تحديد الزمن بها، و قد ذكر سبحانه و تعالى ذلك في آية أخرى ببيان أوضح و أشمل، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ اَلسِّنِينَ وَ اَلْحِسابَ ما خَلَقَ اَللّهُ ذلِكَ إِلاّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [يونس - 5]، و توقيت الزمان و الحساب من الأمور الضرورية للإنسان في جميع أموره و به يرتب شؤون حياته و نظام دينه، فإنّ أفعال الإنسان هي من الأمور الزمانية - أي: الواقعة في سلسلة الزمان - و ذلك يتطلب تحديد الأفعال و تنظيم جميع الشؤون تنظيما زمنيا دقيقا.

و من المعلوم أنّ العام و الشهر و اليوم هي وحدات فلكية لقياس الزمن، و أنّ أوجه القمر الأربعة (الهلال - الربع الأول - البدر - الربع الأخير) كان لها تأثير مباشر في تقسيم السنة إلى الشهور، و هي إلى وحدات زمنية معينة كالاسبوع و اليوم. فكان أقرب الطرق إلى الإنسان هو قياس الزمن بالقمر و دورته الشهرية، و يرجع ذلك إلى عدة أسباب طبيعية و اعتبارية و دينية.

و قد كان للجداول و التقاويم في جميع المراحل التاريخية شأن كبير لمعرفة الوحدات الفلكية، و هي و إن كانت مفيدة بل صارت من التراث، و لكنّها لا تخلو من فوضى لأنّ وضع أي تقويم لا بد و أن يكون مستندا إلى اعتبارات إما دينية أو سياسية، أو علمية.

ص: 120

و بالمراجعة إلى كتب التاريخ و الفلك نرى أنّ أقدم الطرق في معرفة الوقت و تحديد السنة و الشهر هو القمر، فقد كانت الأمم السابقة تستند استنادا أساسيا إلى التقويم القمري، و إن كان في عرض ذلك بعض التقاويم الأخرى كالتوقيت بطلوع نجم، أو موت إنسان عظيم، أو حادثة و نحو ذلك، و لكنّهم أساسا لم يحيدوا عن التقويم القمري، بل كان يساير سائر التقاويم حتى عصرنا الحاضر.

فالمصريون القدماء كانوا يحسبون الزمن بواسطة القمر قبل أن ينتقلوا إلى التقويم الشمسي و قد قسّموا السنة إلى اثني عشر شهرا، و كلّ شهر إلى ثلاث وحدات متساوية، و كانت السنة تبتدئ عندهم في أول يوم من شهر (توت) و هذا هو اليوم السادس عشر من شهر يوليه، و مجموع السنة عندهم 365 يوما.

و كذلك البابليون فقد كان تقويمهم الخاص هو التقويم القمري و اعتمدوا عليه أشد من غيرهم، و كان كلّ شهر عندهم مكوّنا من (29) يوما، و الشهور تعقب بعضها بعضا. و معدّل السنة عندهم 354 يوما قصيرا، و لكنّهم أضافوا شهرا ثالث عشر عند كلّ ثمان سنوات لاعتبارات، و قسموا الشهر إلى أسابيع و أيام، و لكن أسابيعهم لم تكن مثل أسابيعنا، بل كان يحتم عليه أن يكون اليوم الأول من كل شهر هو اليوم الأول من الأسبوع، و يعزى إليهم أنّهم قسموا اليوم إلى ساعات متساوية لكلّ من الليل و النهار، و إن كانت الصورة الكاملة لهذه الوحدات حدثت في عصر متأخر عنهم و لكن لهم الشأن الكبير في علم الفلك فقد وصفوا حركات الكواكب وصفا دقيقا و شرحوا ذلك في جداول حسابية.

و أما السومريون فقد تبعوا غيرهم في التقويم القمري إلا أنّهم اعتبروا السنة مكوّنة من (360) يوما، و قسّموا اليوم الكامل إلى ست ساعات أي: ثلاث ساعات لليوم، و ثلاث أخرى للّيل مع اختلاف طول كلّ ساعة عن الأخرى، و لكنّهم أعرضوا عن ذلك لدركهم بعدم صلاحية الساعات غير المتساوية.

و أما اليونانيون القدماء فكان تقويمهم تقويما قمريا صرفا مع شيء من التغيير في فصول السنة.

ص: 121

و أما الرومانيون فإنّ أقدم تقويم عندهم كان تقويما قمريا، و لهم في ذلك بعض المراسيم التي كانت تحت سلطنة الكهنة.

و أما العبريون فهم يتبعون التقويم القمري حتى عصرنا الحاضر، و إنّ أحد المهام الملقاة على عاتق الكهنة هو تعيين غرة الهلال، و وضع الأسماء للشهور.

و من هذه النبذة التاريخية يعلم بأنّ التقويم القمري هو الأصل في جميع الأدوار التاريخية التي مرت بها التقاويم الموضوعة لمعرفة قياس الزمن.

و لكن التقويم القمري مع ما فيه من المحاسن لا يخلو من مشاكل و متاعب، و لذلك عدل بعض الأقوام إلى تعيين السنة الشمسية و هذا التقويم الشمسي مر بأدوار مختلفة و لم يصل إلى ما وصل إليه الآن إلا بفضل جهود و متاعب، فقد كانت مشكلات التقويم في البلاد القديمة كثيرة خصوصا إذا أريد التوفيق بين تواريخ الأمم المختلفة فكان زمن التحويل من نظام إلى نظام آخر أمرا عسيرا.

فقد أخذ بعض الأقوام التقويم المختلط من التقويم القمري و التقويم الشمسي ثم عدلوا عن ذلك و اثروا استخدام التقويم الشمسي، و بقي هذا التقويم مع ما عليه من الاختلاط بين الأمم معمولا به إلى أن اقتضت الضرورة إلى إصلاح التقاويم و وضع التقويم اليوليوسي بأمر من يوليوس قيصر و تحت إشرافه في أول مارس، ثم عدل إلى أول يناير عام 153 قبل الميلاد، و ابتدأ العمل به عام 45، و سمي هذا التقويم باسم التقويم الميلادي و أصبحت السنة 365 و ربع يوما تكبس كل أربع سنوات بيوم واحد بعد 23 شباط [فبراير] و وضع أسماء خاصة لشهور هذه السنة و طرحت بقية التقاويم.

إلا أنّ هذا التقويم قد بان فيه الاختلاف فجرى إصلاحه على يد البابا جريجوري الثالث عشر في 4 أكتوبر عام 1582 و هو المعمول به في أغلب البلدان، و يسمى بالتقويم الجريجوري.

و أما عند المسلمين فهم يتبعون التقويم القمري المتكوّن من اثني عشر

ص: 122

شهرا لكلّ شهر اسم خاص به كان مشهورا عند العرب قبل الإسلام، و ابتداء السنة الجديدة من أول محرّم الحرام و يسمى بالسنة الهجرية تخليدا للحدث العظيم، و هو الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، و الهجرة و إن كانت في شهر ربيع الأول، لكنّهم آثروا أن يكون ابتداء السنة من أول محرّم الحرام.

و قد وضع هذا التقويم في زمن الخليفة الثاني بمشورة من عليّ (عليه السلام) و ذلك في سنة سبع عشرة أو ثماني عشرة و وقع اختيارهم على أن يكون أول السنة شهر محرم منصرف الناس من حجهم و هو شهر حرام.

و لكن يستفاد من بعض الروايات أنّ جعل أصل التاريخ الهجري كان بوحي من السماء

فقد ورد في سند الصحيفة الملكوتية للسجاد (عليه السلام) عن عليّ (عليه السلام): «أتى جبريل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بهذه الآية: وَ ما جَعَلْنَا اَلرُّؤْيَا اَلَّتِي أَرَيْناكَ إِلاّ فِتْنَةً لِلنّاسِ وَ اَلشَّجَرَةَ اَلْمَلْعُونَةَ فِي اَلْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاّ طُغْياناً كَبِيراً [الإسراء - 60] قال: يا جبريل على عهدي يكونون و في زمني؟! قال: لا و لكن تدور رحى الإسلام من مهاجرك فتلبث بذلك عشرا ثم تدور رحى الإسلام على رأس خمس و ثلاثين من مهاجرك».

و مع ذلك فقد كانوا يعملون بالسنة الشمسية في كثير من الأمور المدنية و قد تصدّى بعض العلماء للتوفيق بين السنة الهجرية و السنة الشمسية فوضع تقويما هجريا شمسيا.

و لم يكن للعرب تاريخ يجمعهم بل كان كلّ طائفة منهم تؤرخ بما وقع من الحوادث المشهورة بينهم إلا أنّ قريشا كانت تؤرخ من عام الفيل و كان عليه العمل حتى أرخ بالهجرة.

و هناك تقاويم أخرى عفا عليها الزمن و أصبحت مهجورة، أو انحصر العمل بها عند أقوام معينين لا يتعداهم إلى غيرهم.

ثم إنّه تقدم أنّ الزمان عبارة من مجموع الشهر و الأسابيع و ساعات الليل

ص: 123

و النهار، و السنة وحدة كبيرة مؤلفة منها، و هي وحدات فلكية لقياس الزمن و لكن هذه الوحدات متدرجة في الكبر فالسنة وحدة كبيرة جدا ثم الشهر ثم الأسبوع ثم الساعات.

و قد دعت الحاجة إلى قياس الزمان بوحدات صغيرة فوقع اختيارهم على الأسبوع، و تقدم أنّ سير القمر في منازله و أوجهه الأربعة كان لها التأثير الكبير في تقسيم الشهر إلى أربعة أسابيع، و قد مرت أدوار كثيرة على هذه الوحدة الزمنية حتى صارت مثل ما عليها اليوم من الثبات و ربما يكون السبب الديني هو المهم في اختيار عامة الأقوام القديمة الأيام السبعة و إن كان وراء ذلك أسباب طبيعية و اعتبارية ثانوية اخرى، و يظهر ذلك جليّا بوجود يوم مقدّس عند الأديان الإلهية في الأسبوع و إن كانت أسماء الأيام ترجع إلى أصل طبيعي فلكي كما ستعرف.

و يذكر التاريخ أنّ من الشعوب القديمة كان البابليون و من بعدهم اليهود أول من فكر باسبوع يتألف من سبعة ايام.

فقد نشأت فكرة الأسبوع عن البابليين من الكواكب السبعة السيارة التي تشمل الشمس و القمر عندهم، و لذا خصص كلّ يوم من أيام الأسبوع لأحد الكواكب السبعة.

و أما عند اليهود فيرجع اختيارهم الأسبوع إلى الوحي، و قد ورد في سفر التكوين الإصحاح الأول و سفر الخروج الإصحاح الثاني عشر ذكر الأيام و يبتدئ الأسبوع من يوم الأحد و آخره يوم الراحة أو الشبات [أي السبت] بخلاف ما عليه النصارى فإنّ آخر يوم الأسبوع عندهم يوم الأحد.

و لم يكن عند المصريين الأسبوع بل كان الشهر عندهم مقسما إلى ثلاثة وحدات زمنية تسمى (بالديكاد).

و أما عند الرّومانيين فقد كان الأسبوع عندهم مؤلفا من ثمانية أيام و كان السبب في ذلك أنّهم اعتبروا الخير لهم أن يقسموا كذلك من دون أن يكون سببا دينيا أو فلكيا وراء ذلك.

فجعلوا: اسم الشمس على الأحد، و القمر على الاثنين، و المريخ على

ص: 124

الثلاثاء، و عطارد على الأربعاء، و المشتري على الخميس، و الزهرة على الجمعة، و زحل على السبت. و قد أقرت الكنائس المسيحية هذه الأسامي مع شيء من الحذر.

و لكن يبقى شيء هو أنّ ترتيب الكواكب السبعة غير ما هو عليه في التقويم و لم يعلم السبب لذلك.

و تستمر أيام الأسابيع طوال الشهر و السنة دون انقطاع و مع الاستمرار تامة.

و أما عند المسلمين فلم تختلف الحال عندهم عن غيرهم فالأسبوع عندهم مكوّن من سبعة أيام يبتدئ من يوم السبت و يكون اليوم الآخر هو يوم الجمعة.

و أما تقسيم اليوم إلى الساعات فهو أيضا قديم فقد قسم المصريون النهار إلى 12 ساعة و قسموا الليل كذلك لكن إن تزايد النهار تزايدت ساعاته أيضا و إن تناقص تناقصت، و قسم السومريون أولا الليل و النهار إلى ثلاث نوايات للنهار و ثلاثة أخرى للّيل كذلك و أخذ اليهود ذلك منهم كما ورد في سفر الخروج 14 و 24.

و لكنّهم بعد ذلك أعرضوا عن حساب الساعات غير المتساوية فقسموا اليوم بكامله إلى ساعات متساوية عددها اثنى عشر ساعة و كل ساعة إلى ثلاثين (جشا) و هكذا يتألف اليوم من 360 جشا، كما تألفت السنة عندهم من 360 يوما.

و بذلك فقد ورثنا تقسيم اليوم إلى أربع و عشرين ساعة من المصريين و فكرة الساعات المتساوية و تقسيم الساعة من السومريين.

ثم بعد ذلك قسم هيبارطوس النهار و الليل إلى أربع و عشرين ساعة اعتدالية و أما عند عامة الناس فقد قسم اليوم إلى ساعة موسمية غير متساوية. و هكذا الأمر عند الرومان مع شيء من التعديل.

هذا ما أردنا ذكره من التقويم بإيجاز في هذا البحث و إن كان مثل هذه الدراسة معقدة جدا لاختلاط الموضوع بالخرافات و العادات و التقاليد السائدة قد كان للعلماء شأن كبير في تهذيبه.

ص: 125

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (190) وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُ.......

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ (190) وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ (191) فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ (193) اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ (194) وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (195) الآيات الشريفة تتضمن حكما آخر من الأحكام الإلهية، و هو تشريع القتال مع المشركين، و لأهمية الحكم في نشر الحق، و إبطال الباطل، و لاستلزامه اعتراض المعترضين من المخالفين، فقد بيّن سبحانه جميع ما يتعلق به من حيث الحدود و الشروط، و المتعلق، و الزمان، و المكان، و الغرض و سائر اللوازم.

و هي تتضمن من القواعد التي يحكم بها العقل في النظام الأحسن: قتل المقاتل، و كونه بإذن اللّه و في سبيله، و ترك الاعتداء. و لذلك اعتبر أنّ القتال مع المشركين دفاع عن النفس، و مقابلة بالمثل.

ص: 126

و سياقها يدل على أنّها نازلة دفعة واحدة، لارتباط بعضها مع بعض في بيان غرض واحد، و اتفاقها في الأسلوب.

و يستفاد من مجموعها أنّها نزلت لبيان حكم جديد في هذا الموضوع، و تشريع للقتال لأول مرة مع مشركي مكة، فإنّها نزلت بعد الهجرة و الإخراج عن مكة، و لم يشرع القتال قبلها.

و بذلك يكون الفرق بين هذه الآيات و بين آية الإذن في القتال: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اَللّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * اَلَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اَللّهُ [الحج - 40]، فإنّ الثانية إذن عام من غير شرط، بخلاف الأولى، فإنّها محدودة و مشروطة.

و من ذلك كلّه يتبيّن عدم نسخ شيء من هذه الآية.

ص: 127

التفسير

190 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ .

القتال معروف، و هو محاولة قتل القاتل. و المعروف بين الأدباء و تبعهم المفسرون أنّ المفاعلة تتقوّم بطرفين في جميع استعمالاتها و لكن ذكرنا سابقا أنّ ذلك مخالف لجملة كثيرة من موارد استعمالها في القرآن الكريم، قال تعالى:

يُخادِعُونَ اَللّهَ [البقرة - 9]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ [النساء - 100]، و قال تعالى: شَاقُّوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [الأنفال - 13]، إلى غير ذلك من الآيات، فاضطروا إلى التكلف في مثل هذه الآيات و الاستعمالات الفصيحة.

و في المقام لو التزمنا بمقالتهم يلزم التكرار، لكفاية قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ عن قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ .

و الحق أن يقال: إنّ المفاعلة إنّما يؤتى بها لإنهاء المادة إلى الغير، سواء كان الغير متلبسا بها أم لا، و حينئذ لا بد في تلبس الغير من ملاحظة القرائن و يكفي في التلبس الشأنية القريبة مع وجود أمارات معتبرة تدل عليها، كما فصّل الفقهاء ذلك في المحارب، و المهاجم على النفس و العرض و المال، و تعرضنا له في كتابنا (مهذب الأحكام).

و المراد من سبيل اللّه مرضاته و دينه الحق، و ذكره في المقام لبيان أنّه

ص: 128

الغاية، بل غاية الغايات و أقصى الأغراض، فإنّ الإسلام إنّما جاء لحفظ إنسانية الإنسان و الدفاع عن الأنفس و الأموال و الأعراض، و لا بد في ذلك من ملاحظة سبيل اللّه تعالى و الإخلاص فيه و عدم التعدي عما حدّده اللّه تعالى، و أعظم ما يمكن نقله في المقام تأييدا لما ذكرناه ما نقل عن عليّ (عليه السلام) في بعض الغزوات أنّه ظفر على عدوّ له فلما أراد قتله أهان العدوّ في وجهه الكريم (بصق) فألقى عليّ (عليه السلام) سيفه من يده هنيئة ثم أخذه و قتله، و لما سئل عن السبب

قال: «لو قتلته في تلك الحالة لما كان خالصا لوجه اللّه تعالى». و هذا مثل إسلامي يدل على عظمة ما جاء به الإسلام، و سموه عن العواطف الشخصية، و الحزازات القبلية.

و يستفاد من قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللّهِ أنّ الجهاد عبادة لا بد و أن يقصد به وجه اللّه تعالى، و فيه إشارة إلى قطع جميع الإضافات، و القلع عن جميع الشهوات، و إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية و الهمجية من قتل الناس، و الاستيلاء على أموالهم، و هتك أعراضهم من غير سبب و لا غرض عقلائي، فضلا عن أن يكون في سبيل اللّه تعالى.

و المعنى: قاتلوا أيّها المؤمنون في سبيل اللّه و وجهه الكريم و نصرة دين الحق الذين يقاتلونكم و ينكثون عهدكم، و يريدون سفك دمائكم.

قوله تعالى: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ .

الاعتداء و العدوان: المجاوزة عن الحد، سواء كان في القول أم الفعل أم المال أم غيره. و هو من أقبح الصفات المذمومة، و هي مكروهة عند اللّه تعالى، و قد استعمل عبارة لا يُحِبُّ بالنسبة إلى اللّه عز و جل في أكثر من عشرين موردا، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [البقرة - 205]، و قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ [الحديد - 23]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ [الأنفال - 28]، و قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ [آل عمران - 57]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و هي من الكنايات البليغة اللطيفة فإن أدب القرآن هو التعبير عن الملزوم

ص: 129

باللازم لمصالح في ذلك.

و يكون المراد من عدم محبته تعالى - الذي هو من أشد الخسران - الكراهة و السخط، و هما و الحب من صفات فعله عز و جل.

و الآية تأكيد لما سبق فإنّ قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اللّهِ يدل على عدم مشروعية التجاوز و الاعتداء في الدفاع و القتال بالملازمة. و إنّما كرره صريحا لأهمية الموضوع، و لبيان علة النهي في قوله تعالى: لا تَعْتَدُوا ، كما علّل الإذن بالقتال بأنّه دفاع في سبيل اللّه تعالى.

و إطلاق الآية الشريفة يقتضي النّهي عن كلّ اعتداء صغيرا كان أو كبيرا، و سواء كان في الابتداء بالقتال أم في التجاوز في القتل أم في المكان، و سواء كان في النفس أم في المال أم في العرض أم في الأدب في الكلام أم في الفعل و غير ذلك مما ورد في السنة الشريفة.

و يختلف قبح الاعتداء باختلاف المعتدين، فمن كان في طريق الإرشاد و الدعوة إلى اللّه عز و جل يكون اعتداؤه أقبح و أبغض.

191 - قوله تعالى: وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ .

تستعمل «حيث» في المكان المبهم، كحين في الزمان المبهم و يرتفع الإبهام مما بعدهما في سياق الكلام، فيكون التعريف و التعيين من باب الوصف بحال المتعلق.

و يختص استعماله بالممكنات، و لا تستعمل فيه تبارك و تعالى،

و في الحديث: «هو الذي حيّث الحيث فلا حيث له و أيّن الأين فلا أين له». و هذا مبنيّ على قاعدة فلسفية أسسها الأئمة الهداة (عليهم السلام) و هي: «أنّ كل ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»،

و عن عليّ (عليه السلام): «كيف أصفه بحيث و هو الذي حيّث الحيث حتى صار حيثا».

و هناك قاعدة أخرى

ذكرها عليّ (عليه السلام) في بعض خطبه المباركة:

ص: 130

«بائن عن خلقه بينونة صفة لا بينونة عزلة». و القاعدتان موافقتان للأدلة العقلية، و الذوق العرفاني الذي لا ينال إلا بالانقطاع عن العلائق و التوجه التام إلى ربّ الخلائق.

و أصل مادة (ثقف) تدل على الحذق في إدراك الشيء و فعله أي سريع التعلم، ثم استعملت في مطلق إدراك الشيء.

و في حديث الهجرة عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «غلام شاب لقن ثقف» أي: ذو فطنة و ذكاء، ثابت المعرفة.

و المعنى: و اقتلوهم حيث أدركتموهم و وجدتموهم كما في آية أخرى:

فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة - 6]، إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثقف هو الوجود على وجه الغلبة، و الوجدان أعم من ذلك، و التعميم بلحاظ الحل و الحرام.

قوله تعالى: وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ .

أي: و أخرجوهم من ديارهم كما أخرجوكم، و هي مكة المكرمة، فإنّهم عدوا على المسلمين يقاتلونهم، لأنّهم أسلموا، و أخرجوهم من ديارهم، و لا يزالون يجهدون في الفتنة.

قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ .

أصل مادة (فتن) تأتي بمعنى إدخال الذهب في النار ليعلم جودته من ردائته، ثم استعملت في عدة معان تلازم ذلك بالعناية كمطلق الاختبار، و العذاب، و الهلاك، و الابتلاء، و الخلوص و غير ذلك مما يأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المسلم أخو المسلم يتعاونان على الفتّان» أي يعاون المسلم أخاه على الذين يضلون الناس عن الحق أو الشريعة الإلهية كالشيطان لخلاصه منهم.

و الافتتان تارة: من اللّه تعالى بالنسبة إلى عباده. و أخرى: من عباده بعضهم لبعض.

ص: 131

و الأول: موافق للمصالح الواقعية المترتبة عليه كإتمام الحجة، أو إظهار مقام العبد و درجته عند غيره في الدنيا و الآخرة، أو اعتبار غيره به، أو تعويضه عن ذلك بعوض أحسن و أفضل في الدنيا أو الآخرة أو هما معا إلى غير ذلك من المصالح التي لا تبلغها العقول،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «المؤمن خلق مفتنا» أي ممتحنا يمتحنه اللّه تعالى بما يشاء له.

و الثاني: إنّما هو لإزالة الجهل و تحصيل العلم غالبا. و ربما يكون ممدوحا كما أنّه ربما يكون مذموما، و يختلف بحسب الجهات و الخصوصيات.

و المراد به هنا الشرك و صرف المسلمين عن دينهم بكلّ سبيل قتلا و تعذيبا و إغراء.

و هذه الآية قضية عقلية من مداليل الفحوى و الأولوية، يعني: إذا أرادوا قتلكم فاقتلوهم، كما أنّهم إذا كانوا في معرض الافتتان بالكفر و الشرك فاقتلوهم بالأولى، لأنّ في القتل انقطاع الحياة الدنيا، و في الفتنة انقطاع حياة الدنيا و الآخرة، و أنّ الضال المضل منشأ الفساد و الإفساد، فيوهن قوى المجتمع، و لذا أوعد اللّه تعالى عليه أشد العذاب فقال جل شأنه: إِنَّ اَلَّذِينَ فَتَنُوا اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ اَلْحَرِيقِ [البروج - 10].

كما أنّ في قتلهم إياكم إزالة حياة نفر منكم في الظاهر مع بقاء الحياة الأبدية، و أما الافتتان بالشرك و الكفر إزالة للحياة الأبدية الدائمة، فيكون أشد لا محالة. و لذلك نظائر كثيرة في المحاورات الفصيحة، مثل قول الشاعر:

جراحات السّنان لها التيام *** و لا يلتام ما جرح اللسان

و قولهم:

قتل بحدّ السيف أهون موقعا *** على النفس من قتل بحدّ فراق

و الآية بمجموعها تبيّن حكما من الأحكام النظامية الاجتماعية، فإنّ فيها قمع مادة الشرك و إزالة مناشئ الشرك و الكفر بعد الجحود و الإصرار عليهما.

و فيها أحكام ثلاثة: قتل المشركين، و الإخراج من ديارهم كما أخرجوا

ص: 132

المسلمين، و أنّ البقاء على الشرك أشدّ و أعظم من القتال مع المسلمين.

قوله تعالى: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ .

استثناء عن الأمر بالقتال في كلّ مكان، فنهى عنه عند المسجد الحرام، للزوم احترامه و تعظيمه إلا أن يقاتلوكم فيه و يهتكوا حرمته فلا حرمة لهم و لا أمان حينئذ.

و إنّما عبّر سبحانه بلفظ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ ليشمل المسجد و الحرم الأقدس الإلهيّ المحيط به، فإنّه حرم منذ أن خلق اللّه تعالى الأرض و إلى أن يرثها و من عليها فتظهر وحدة المبدأ و المرجع، و تظهر حقيقة كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [الأعراف - 29].

و الضمير في «فيه» يرجع إلى الحرم و المكان المدلول عليه بقوله تعالى:

عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

قوله تعالى: فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ .

تأكيد للحكم السابق و تحذير لهم بأن لا يقدموا على قتلهم من غير ابتداء قتال منهم، و لا يهتكوا حرمة المسجد الحرام من غير سابق هتك منهم، فإذا قاتلوكم عند المسجد الحرام فاقتلوهم فإنّهم هتكوا حرمته و لا يمكن أن يكون الحرم حينئذ أمنا لهم فلا بد من عقابهم بعقوبة مماثلة.

و يمكن أن يكون التكرار لأجل بيان شناعة الذنب فلا بد من الشدّة في العقوبة.

قوله تعالى: كَذلِكَ جَزاءُ اَلْكافِرِينَ .

أي: أنّ جميع ما مر من القتل، و الإخراج، و القتل في المسجد الحرام عند هتكهم له جزاء الكافرين، و قد جرت سنته تعالى أن يجازي الكافرين بمثل هذا الجزاء، لأنّهم هتكوا حرمات اللّه تعالى و بدءوا بالعدوان، و تعرّضوا لعذاب اللّه تعالى و سخطه. و الآية المباركة تدل على قمع أصلهم و استئصال نسلهم.

ص: 133

192 - قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

الانتهاء: الامتناع أي: إذا امتنعوا عن القتال، و كفّوا عنه عند المسجد الحرام فإنّ اللّه غفور رحيم أو فاقبلوا منهم توبتهم فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ كما في قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و الظاهر أنّ هذه الآية بالنسبة إلى انتهائهم عن قتال المسلمين، و الآية التالية في إغرائهم عن الشرك الذي هو أشد من الأولى فلا تكرار.

193 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ .

بيان لغاية القتال و أمده، كما أنّ الجملة الاولى بيان لمبدئه أي: قاتلوا المشركين حتى لا تكون فتنة و ضلال في البين.

و المراد بالفتنة هنا: الشرك فإنّه يسبب الضلال و الصرف عن الحق و يأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

قوله تعالى: وَ يَكُونَ اَلدِّينُ لِلّهِ .

أي: يكون الدّين هو الدّين الحق المستقر على التوحيد الذي لا شرك فيه و لا ضلال. و نظير هذه الآية قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ اَلدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ [الأنفال - 39] إلا أنّ الفرق بينهما أنّ الثانية إعلان للقتال مع جميع المشركين و لذا قيّد الدّين بقوله جل شأنه كُلُّهُ بخلاف الاولى فإنّها أمر بقتال مشركي مكة.

و المراد من الدّين هنا: معتقدات الناس،

و في الحديث أنّه (عليه الصلاة و السلام): «كان على دين قومه» أي: دين إبراهيم (عليه السلام) و معتقداته من الحج و سائر العبادات، و النكاح، و الميراث و غيرها من أحكام الإيمان، بل و مكارم الأخلاق.

و المراد بكونه للّه. صيرورة جميع تلك المعتقدات المختلفة اعتقادا واحدا محبوبا للّه تعالى، و هو الدين الذي جاء به القرآن على لسان نبينا الأعظم (صلّى اللّه

ص: 134

عليه و آله) و بيّنه بأحسن بيان و أفضله، و قال تعالى فيه: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [المائدة - 3].

قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ .

أي: إذا كفوا عن القتال و الفتنة و آمنوا فلا عدوان إلا على الظالمين المعتدين.

و من جميع ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة ليست منسوخة بشيء، و لا هي ناسخة لبعض قيودها إذ أنّ كل قيد إنّما هو في موضعه.

و المعنى: فإن انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم بالقتل و الأسر، لأنّه يختص بالظالمين، و تسمية ذلك عدوانا مع أنّه حق من باب المجانسة الحسنة، لأنّهم إنّما يكونون في مقام الاعتداء فسمى جزاء الاعتداء اعتداء أخذا عليهم و إلزاما لهم بفعلهم أي: إنّ أصل العدوان إنّما وقع عليهم بفعلهم.

194 - قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ .

تقدم معنى الشهر عند قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ و أشهر الحرم أربعة:

ذو القعدة، و ذو الحجة، و محرّم، و رجب، سميت بذلك لحرمة القتال فيها حتى في الجاهلية فلو أنّ أحدا منهم لقي قاتل أبيه أو أخيه فيها لم يتعرّض له بسوء حتى ينقضي الشهر الحرام و لعل الأصل فيه شريعة إبراهيم (عليه السلام) و استمر العرب عليه و أمضاه الإسلام.

و المعنى: إنّ الشهر الحرام يقابل الشهر الحرام في الحرمة و الهتك فإذا هتك الشهر الحرام بالقتال فيه فلا محذور في قتالهم فيه و معاملتهم بالمثل، و ليس ذلك بهتك و إنّما هو إعلاء كلمة التوحيد و دفاع عن الدّين و قيمه.

و قد أذن سبحانه و تعالى للمسلمين بقتال المشركين في عمرة القضاء سنة سبع بعد أن صدهم المشركون من النسك عام الحديبية سنة ست و إن كرهوا قتالهم في الشهر الحرام، فبين سبحانه أن ذلك ليس بعدوان بل هو معاملة بالمثل و لم يكن

ص: 135

هتكا للشهر الحرام.

قوله تعالى: وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ .

الحرمات: جمع حرمة كظلمة و ظلمات و هي: ما يجب احترامه و تعظيمه و يحرم هتكه،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يسألوني خطّة يعظّمون فيها حرمات اللّه إلا أعطيتهم إياها» أي: لا يسألوني عن أمر خطب و مشكل يعظمون فيه حرمات اللّه إلا أجبتهم.

و القصاص من المقاصة و المقابلة أي: إنّ كلّ هتك لحرمة ما يجب احترامه و تعظيمه يقابل بالمثل، فلو هتكوا حرمة الشهر الحرام و البيت الحرام، و الحرم المقدّس الإلهي جاز للمؤمنين قتالهم فيه و لم تسقط الحرمات عن الحرمة بل هو نصرة الدّين الحق و نصرة التوحيد و سيد المرسلين.

و بذلك كسب المسلمون العزة و الاحترام و كسب المشركون الخزي و العار بهتك الحرمات و قتال المسلمين فيها.

و في الكلام الكريم جمع بين اللطف و العتاب، و أخذ الظالم بظلمه و فيه كمال العناية بحيث يجلب قلب الإنسان و خطاب مع الضمير، و مثل هذا له التأثير الكبير في النفس.

قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ .

خطاب عام بعد خاص أمر بالاعتداء مع أنّه لا يحب المعتدين، لأنّ المذموم منه ما كان ابتداء و أما إذا كان في مقابل اعتداء آخر فليس إلا دفع الاعتداء و قهر شوكة الظالم و التعالي عن الذل و الهوان.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى بالاعتداء من باب المجانسة اللفظية و الازدواج في الكلام و إلا فليس ذلك اعتداء، نظير ذلك

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تكلفوا من العمل ما تطيقون فإنّ اللّه لا يمل حتى تملوا» أي: إنّ اللّه لا يملّ أبدا مللتم أو لم تملّوا و لا يقطع عنكم فضله حتى تملّوا فسمى فعله سبحانه و تعالى مللا على طريق الازدواج في الكلام كما هو عادة العرب في كلامهم.

ص: 136

و فيه إيماء إلى أنّ الاعتداء ما إذا كان صادرا عن ابتداء، فأخذ عليهم و ألزمهم بفعلهم، أي أنّه وقع عليهم بفعلهم.

و المعنى: من اعتدى حدود الحق عليكم فاعتدوا عليه مجازاة و معاملة بالمثل بمقداره دون الزيادة.

و هذا حكم عقلي يجري في جميع شؤون حياة الإنسان النظامية و الاجتماعية.

و قد استدل فقهاء المسلمين بهذه الآية المباركة في مواضع متعددة في الفقه الإسلامي و أسسوا قاعدة المثلية في الضمانات طبقا لهذه الآية الشريفة، و هي قاعدة فطرية إلا أنّ التحديدات الواردة عليها إنّما هي شرعية كما هو الشأن في كثير من القواعد الفطرية.

و المراد بالمثلية المتعارفة منها في الكم و الكيف و سائر الجهات الفرعية المختلفة لأجلها الأغراض العقلائية، و من التحديد بالمثل يستفاد أنّ الزيادة عليه اعتداء لا بد و أن يقتص بها.

و ليس المراد بالمثلية العقلية منها فإنّها غير ممكنة بل هي مستحيلة إذ كيف يمكن تحصيلها مع ما يعتبر فيها من تحقق جميع النسب و الإضافات العامة كالزمان و المكان و نحو ذلك، و لذا لم تعتبر في الإسلام المبني على التيسير و التسهيل.

و إنّما أفرد الضمير في «عليه» باعتبار لفظ «من».

و يستفاد من الآية الشريفة العدل الإسلامي الجاري في القليل و الكثير و الضعيف و القوي. و الفقير و الغني و كان ذلك معيارا للتمييز بين الحق و الباطل.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ .

ترغيب إلى ملازمة الاحتياط مهما أمكن، فإنّ المقام مقام الشدة و البأس، و استيلاء القوة الغضبية الداعية إلى الانتقام و الطغيان و الانحراف عن الاعتدال أمرهم بملازمة التقوى و الاستقامة في الدّين و تحذير لهم بأن لا يتعدّوا عما رخصه اللّه تعالى، فاتقوا اللّه في جميع شؤونكم و في جميع حالاتكم، و اعلموا أنّ اللّه مع المتقين و ناصرهم، و هم محتاجون إلى نصرته و ولايته في مثل هذه الحالة.

ص: 137

و في الخطاب كمال العطف و العناية، و إعلام لهم بأنّ اللّه تعالى قادر على الانتقام من المعتدين ورد اعتدائهم عليهم و أنّ معية اللّه تعالى مع أهل التقوى في مثل هذه الحالة تزيل أثر الاعتداء.

قوله تعالى: وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

أمر بإنفاق المال في سبيل اللّه تعالى بعد الأمر بالجهاد و مقاتلة أعداء اللّه تعالى، لأنّ الجهاد يتقوّم بالمال و النفس، بل لا يكون الجهاد بالنفس إلا بالجهاد بالمال أيضا فهما متلازمان.

و الإنفاق: إخراج المال عن الملك لغرض صحيح، و هو إما أن يكون شرعيّا - واجبا كان أو مندوبا، أو مباحا - أو يكون فيه غرض صحيح عقلائي، و بدون ذلك يكون مذموما بل قد يكون حراما أو مكروها.

و سبيل اللّه كلّ ما يرجى فيه ثواب اللّه تعالى، و من أهم سبله تعالى الجهاد مع المشركين و إعلاء كلمة الدّين و إحقاق الحق و إبطال الباطل و قد تقدم الوجه في تقييد كون الإنفاق في سبيل اللّه.

قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ .

مادة (لقي) تأتي بمعنى مطلق الدرك في الجملة، سواء كان حسيا للمحسوس، كقوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا [البقرة - 76]، أو لغير المحسوس، كقوله تعالى: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ [آل عمران - 143]، و قوله تعالى: وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً [طه - 39]، أو من عالم آخر غير عالم الدّنيا قال تعالى: وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً [الإسراء - 13]. أو من المعنى للمعنى الذي هو فوق جميع الممكنات كالآيات المشتملة على لقاء اللّه تعالى الذي له مراتب كثيرة و لا بد من حملها على مراتب كبريائه و عظمته على ما يأتي التفصيل في محلّه.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و تستعمل في المتعارف في كلّ طرح، يقال: ألقيت إليك سلاما و كلاما، و مودة، قال

ص: 138

تعالى: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ [الشعراء - 44]، و قال تعالى: أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفّارٍ عَنِيدٍ [ق - 24]، و قال تعالى: فَلْيُلْقِهِ اَلْيَمُّ بِالسّاحِلِ [طه - 39]، و قال تعالى: أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً [يوسف - 96]، و هو المراد منه في المقام.

و كلمة «يد» تستعمل في الجارحة الخاصة، أصلها (يدي) بدليل جمعها على أيدي. و حيث إنّها أقوى الجوارح العاملة في الإنسان و أن أكثر أفعال النفس تظهر بها، يصح أن يكنّى بها عن ذات النفس، و عن كلّ ما يحصل منها بالاختيار.

و في مناجاة عليّ (عليه السلام) مع ربه: «إلهي هذه يداي و ما جنيت على نفسي»،

و في أخرى منه (عليه السلام): «إلهي مددت إليك يدا بالذنوب مملوءة و عينا بالرجاء ممدودة»،

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«على اليد ما أخذت حتى تؤديه» الشامل لجميع الضمانات الحاصلة و لو بغير اليد.

و تصح الكناية بها عن مطلق الاقتدار، قال تعالى: اَلسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ [الذاريات - 47]، و هي تأتي لمعان كثيرة في الكتاب و السنة،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال في المسلمين: «هم يد واحدة على من سواهم».

كما ورد عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «ما من صلاة يحضر وقتها نادى ملك بين يدي الناس قوموا إلى نيرانكم التي أوقدتموها على ظهوركم فأطفؤها بصلاتكم».

و في جملة من الدّعوات المأثورة: «اللهم لا تجعل لفاجر عليّ يدا و لا منّه».

و الباء في بِأَيْدِيكُمْ للتأكيد و التزيين، و الاهتمام بالموضوع فإنّ لفظ الإلقاء متعدّ بنفسه قال تعالى: فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ [الشعراء - 45].

و التهلكة: ما تصير عاقبته إلى الهلاك، و هو الفساد و الضياع، و تطلق على تبدل الصور بأنحاء الاستحالات أيضا، كما تطلق على الفناء المطلق أيضا، قال تعالى: كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ [القصص - 88].

و النهي عام يشمل كلّ ما يوجب الإلقاء إلى التهلكة كالبخل و التقتير،

ص: 139

و الإسراف، و التبذير في الإنفاق، و بذل جميع المال و ترك النفس و العيال عالة بحيث يؤدي إلى اضطراب الحال و انحطاط الحياة و بطلان المروة. فلا بد من الإحسان في كلّ شيء، و هو الطريق الوسط الممدوح عقلا و شرعا. و لذا عقّب سبحانه هذه الآية بالإحسان للاعلام بأنّه لا بد من إحراز الحسن و الإحسان و أن يتجنب عن مشكوك التهلكة فضلا عن مقطوعها و مظنونها.

و مما يوجب الهلاك و الضياع هو الإحجام عن الإنفاق في سبيل اللّه بكلّ ما يستطاع عند القتال و غيره فإنّ ذلك يوجب ذهاب القدرة و هلاك الأنفس و ظهور العدوّ فلا بد للمؤمنين من الاستعداد للجهاد و إلا فقد ألقوا أنفسهم في التهلكة و ضيّعوا الدّين.

و الآية تتضمن قاعدة عقلية قرّرها القرآن الكريم، و هي من القواعد التي تمسك بها الفقهاء في مواضع متعددة من الفقه، و هي تدل على أنّ كلّ تكليف يخاف منه على النفس، أو العرض، أو المال بحيث يصدق عليه الوقوع في الهلاك بحسب المتعارف يسقط أصل التكليف إن لم يكن له بدل و إلا فإلى البدل إن كان له أو إلى القضاء إن كان له قضاء.

قوله تعالى: وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

الإحسان معلوم عند كلّ أحد و فاعله محبوب عند اللّه تعالى، و قد ذكرت هذه الجملة في عدة مواضع من القرآن الكريم، و هي من أهم القواعد في تهذيب النفس و أعظم أنحاء التعليم الجامع للخير، و أصل من أصول التربية العمليّة،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حديث الإيمان حيث سئل عنه: «فما الإحسان؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): أن تعبد اللّه كأنّك تراه» فأراد بالإحسان المراقبة و حسن الطاعة أي: الإخلاص. فإنّ من راقب اللّه أحسن عمله، لأنّه

«إن لم تكن تراه فإنّه يراك»،

و قد ورد أنّه «إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف اللّه عمله بكلّ حسنة سبعمائة و ذلك قول اللّه عز و جل: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب اللّه. فقيل: و ما الإحسان؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا صلّيت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك و كل عمل تعمله للّه فليكن نقيا من الدنس».

ص: 140

و الآية تشير إلى أمر غريزي واضح غير خفي و إن التبس الأمر في موارد، و لكنّه واضح عند العقل و للإحسان مراتب بل إنّه من الأمور الإضافية.

ص: 141

بحوث المقام
بحث أدبي

لفظ «حيث» لا يستعمل إلا مضافا، و هو مبنيّ على الضم تشبيها له بالغايات مثل قبل، و بعد و نحوهما، لأنّها لا تستعمل إلا مضافا إلى جملة.

و لا يختص استعماله بالماديات المحضة فقط، بل يستعمل في غيرها أيضا، قال تعالى: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124] و مقتضى القاعدة استعماله في النشأة الآخرة أيضا، لأنّ فيها زمانا و مكانا، كما يصح استعمال (حين) فيها.

و يصح استعمال (حيث) في مطلق التحيّز و لو لم يكن من المكان بناء على أنّ الحيّز أعم من المكان.

ثم إنّ المعروف بين الأدباء أنّ فعولا و فعالا من أوزان المبالغة و قد ورد لفظ (غفور) في القرآن الكريم في ما يزيد على سبعين موردا غالبها مقرون بالرحيم، و لفظ (غفار) في موارد غالبها مقرونة بالعزيز قال تعالى: أَلا هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْغَفّارُ [الزمر - 5] كما ورد على وزن فعّال في القرآن أيضا، قال تعالى: ذُو اَلْعَرْشِ اَلْمَجِيدُ فَعّالٌ لِما يُرِيدُ [البروج - 16]، و قال تعالى:

وَ أَنَّ اَللّهَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ [التوبة - 78]، كما ورد كثيرا لفظ «وهاب».

ص: 142

و المبالغة بالنسبة إلى الذات الأقدس الربوبي - الذي هو فوق ما لا يتناهى بما لا يتناهى بالنسبة إلى الفوقية - لا يمكن تصورها و كذا جميع صفاته الجلالية و الجمالية لا سيما بالنسبة إلى العلم الذي هو عين الذات الأقدس، و كيف تتعقل المبالغة في ذاته المتعال، فلا بد من حمل المبالغة بالنسبة إليه عزّ و جلّ على أمور:

إما على غاية الكمال الذي لا حدّ له فإنّ المبالغة في المحاورات تكشف عن كمال الشخص فيما بولغ فيه، فكما أنّ معنى السمع فيه عزّ و جلّ عبارة عن أنّه لا تخفى عليه المسموعات - كما عن أئمة الهدى (عليهم السلام) - تكون المبالغة فيه أنّه لا حدّ لكماله، فتكون أوزان المبالغة فيه عزّ و جلّ عبارة عن أنّه لا حدّ لموردها، و لا يمكن للعقول أن تتصوّر لها حدّا.

أو تكون بمعنى الفاعل كما قال ابن مالك في منظومته النحوية:

فعال أو مفعال أو فعول *** في كثرة عن فاعل بديل

أو تكون باعتبار حال المخاطبين، و مراعاة كيفية المخاطبة معهم لقاعدة أنّ العاقل الحكيم لا بد و أن يلاحظ حال المخاطبين في خطاباته.

و غالب ورود أوزان المبالغة إنّما يكون في رحمته و غفرانه، و لم أظفر على ما يكون بالنسبة إلى غضبه تعالى و سخطه لا في القرآن الكريم و لا في الأسماء الحسنى، و لا في غيرها. نعم ورد لفظ «شديد العقاب» و «شديد العذاب» و «عذاب شديد» و «قهار» في عدة مواضع من القرآن الكريم و الدعوات المأثورة و لكن ذلك بيان لكيفية العذاب و العقاب و لا يفيد المبالغة فيه، و إنّ القهار أعم من أن يكون في غضبه و عذابه.

ثم إنّ المعروف بين علماء الأدب أنّ من محسّنات الفصاحة و البلاغة الازدواج و المزاوجة في الكلام، و هي إتيان لفظين متحدي المعنى في الجملة مع اتصاف أحدهما بالحسن و الآخر بالقبح في الواقع كما مرّ في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فإنّ الاعتداء الأول قبيح و الثاني حسن لأنّه من دفع الظلم و العدوان و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى - 40]، فإنّ الثانية ليست من السيئة في الواقع بل هي دفع السيئة و قوله تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل - 126]، و تقدم قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذلك في كلمات الفصحاء و البلغاء أمثال و نظائر و هي من شؤون الفصاحة و البلاغة في الكلام.

ص: 143

ثم إنّ المعروف بين علماء الأدب أنّ من محسّنات الفصاحة و البلاغة الازدواج و المزاوجة في الكلام، و هي إتيان لفظين متحدي المعنى في الجملة مع اتصاف أحدهما بالحسن و الآخر بالقبح في الواقع كما مرّ في قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فإنّ الاعتداء الأول قبيح و الثاني حسن لأنّه من دفع الظلم و العدوان و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى - 40]، فإنّ الثانية ليست من السيئة في الواقع بل هي دفع السيئة و قوله تعالى: وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ [النحل - 126]، و تقدم قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذلك في كلمات الفصحاء و البلغاء أمثال و نظائر و هي من شؤون الفصاحة و البلاغة في الكلام.

و أما لفظ «مع» الوارد في الآية المباركة وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَعَ اَلْمُتَّقِينَ فإنّه يدلّ على المصاحبة في الجملة و تختلف استفادة أنحاء المصاحبة بحسب القرائن الداخلية أو الخارجية، فتارة: تكون زمانية. و أخرى: مكانية. و ثالثة:

رتبية. و رابعة: في سائر الإضافات و الجهات.

و قالوا: إنّه اسم بدليل حركة آخره و دخول التنوين عليه يقال: خرجنا من الدار معا. و دخلنا السوق معا، و معية اللّه تعالى مع خلقه معية قيومية ربوبية إحاطية فوق ما نتعقل من معنى المعية و الإحاطة و مع المؤمنين أو المتقين أو الصابرين، أو المحسنين عبارة عن النصرة، و الغلبة، إذ لا يعقل مغلوبية من كان اللّه معه و لو فرض ذلك برهة من الزمن فهي عنوان الشرف و وسام الغلبة الأبدية و المغلوبية مع التقوى في الدنيا عين الغلبة الحقيقية في الآخرة كما هو المشاهد و المحسوس، و قد تقدم في قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتٌ [البقرة - 154]، بعض الكلام فراجع.

ص: 144

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة المتقدمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ يدل على أنّ الاعتداء من السيئات المبغوضة عند اللّه تعالى و إطلاقه يشمل الاعتداء بابتداء القتال، و الاعتداء في القتل بأن يقتلوا من يحرم قتله، و الاعتداء في كيفية القتل كالمثلة بالمقتول و أنواع التعذيب و الاعتداء بغير ذلك كالتخريب و قطع الأشجار، و منع الماء، و إلقاء السم فيه و استعماله و نحو ذلك، كلّ ذلك لعموم الفعل المنفي.

الثاني: أنّ قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ اَلْقَتْلِ يدل على أنّ الفتنة و الافتتان في الدّين من أشد الأمور التي لا بد من علاجها فإنّ في الفتنة و هن القوى و انهيار المجتمع و إنّ فيها إشاعة الفساد و البقاء على الشرك فهي بؤرة الفساد، و إنّ فيها إذلال النفس و انحطاطها إلى أسفل السافلين بحيث لا تنفعه موعظة الواعظين، و في محوها إزالة مناشئ الشرك و الكفر بعد الجحود و الإصرار و في إزالتها قمع مصادر الشرّ و الفساد، و لذا كانت الفتنة أشد قبحا من القتل الذي هو أعظم من كلّ قبيح، و إنّها أكبر من كلّ جرأة.

الثالث: أنّ الآيات الواردة في جهاد المشركين و قتالهم و الإذن في مقابلة ما فعلوه تدل على الإذن في قلع مناشئ الشرك و استئصالهم

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان» و الحكم

ص: 145

موافق للعقل فإنّ جحود المنعم الحقيقي من أقبح القبائح العقلية التي يوجب سلب الاحترام عنه، و من كان كذلك فقد ألقى احترام نفسه و أقدم على هتكها و إزالة حرمتها و بذلك قد أسقط جميع حرماته بنفسه عند نفسه قال تعالى: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل - 118]، و بذلك صحت القاعدة التي ذكروها: «إنّ كلّ ما ينبعث عن الذات يرجع أثره إليه» و لها شواهد كثيرة من الكتاب و السنة و العقل يأتي التعرض لها في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أنّ الانتهاء عن المعصية يكفي في التوبة و يدل عليه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و إطلاقه يشمل قبول التوبة عن الشرك و الكفر و القتال و نحو ذلك. و حينئذ لا بد من حمل قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء - 48]، على ما إذا أسلم ثم كفر و أشرك باللّه العظيم أي: لا يسقط الحكم المترتب على شركه ظاهرا بالتوبة. و أما بينه و بين اللّه تعالى فإنّ الحق - كما ذهب إليه المحقّقون - هو القبول و البحث محرّر في الفقه.

الخامس: إنّما لم يذكر الإضافة إلى الفاعل في قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تجليلا و تعظيما للغفران و الرحمة، و للإعلام بأنّهما عامّان لا يختصان بمورد دون آخر، و بشخص غير شخص بل هما من أوسع الصفات و أعمهما، و إنّما اسندا إلى اللّه تعالى لبيان عدم تناهيهما كعدم تناهي الذات.

السادس: إنّما كرر سبحانه و تعالى فَإِنِ اِنْتَهَوْا للترغيب إلى الكف عن القتال و أنّ الانتهاء يرفع القتل عمن ينتهي و يدخله في غفرانه و رحمته في المآل و يوجب محو ما سلف عنه.

السابع: إنّ قوله تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ بيان لعلة الاعتداء عليهم أي: أنّهم إذا انتهوا عن عدوانهم فلا تعتدوا عليهم لأنّه يختص بالظالمين و المفروض انتهاؤهم عن الظلم.

الثامن: إنّ قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ من القواعد العقلية الجارية في جميع شؤون الحياة و في كلّ الحالات و هي من أهمّ القواعد

ص: 146

النظامية التي لا بد من النظر فيها و الاستفادة منها و يتفرّع عليها فروع كثيرة.

و لا تختص التهلكة بالدنيوية منها بل تشمل الأخروية، و هي تدل على ترك الإقدام على كلّ تكليف يخاف منه على النفس أو العرض أو المال. و يشمل كلّ ما يوجب الهلاك من إفراط و تفريط دون ما يكون فيه الحسن و الإحسان الذي هو الطريق الوسط.

التاسع: إنّ في اختتام الآيات بالأمر بالإحسان و بيان أنّ اللّه يحبّ المحسنين، و قد بدأت بالنّهي عن الاعتداء فيه من روعة الأسلوب و حلاوة الكلام ما لا يخفى.

ص: 147

بحث فقهي

القتل و القتال من دون أي مجوّز إلهيّ من القبائح العقلية، فإنّ من الأصول المسلمة لدى جميع الأمم هي أصالة احترام النفس و العرض و المال و عليها تدور جملة كثيرة من القوانين الوضعية، و قد قرّرتها الشريعة المقدسة الإلهية و رتب عليها أحكاما كثيرة.

كما أنّ (قاعدة تقديم الأهم على المهم) من أمتن القواعد العقلية التي أمضاها الإسلام و جعلها محور فروع كثيرة. و لكن إحراز الأهم لا بد أن يكون عن طريق الوحي المبين أو بفطرة من العقل الكامل السليم.

و هذه الآيات و نظائرها الواردة في الجهاد مع المشركين تدور على هاتين القاعدتين العقليتين، و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات جملة كثيرة من الأحكام أهمها:

الأول: الإذن في قتال المشركين و أنّه عام لا يختص بعصر دون آخر و حكمها باق إلى أن يظهر دين اللّه عز و جل و يكون الدّين كلّه للّه تعالى و تصير كلمته هي العليا، و لا بد أن يكون ذلك بمحضر من النبيّ الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتلو تلوه في العلم و العمل و التدبير و التقوى و هم أئمة الدّين (عليهم السلام) أو من يحذو حذوهم من العلماء الجامعين للصفات القائمين مقامهم. هذا إذا كانت الفتنة الكفر و الشرك.

ص: 148

و أما إذا كانت غيرها مما يخاف على معتقدات الناس الحقة و هتك النفوس و الأعراض و الأموال المحترمة فلها حكم آخر فصّلناه في الفقه.

الثاني: إنّ إطلاق النّهي عن الاعتداء يشمل جميع أنحاء الاعتداء سواء كان على النفس أو في العرض أو في المال، و لكلّ واحد من هذه الأمور الثلاثة أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

و ذكرنا في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) أنّ الاعتداء في المال إن كانت العين موجودة عند المعتدي يجب عليه ردها إلى مالكها كما يجب رد قيمة المنافع المستوفاة منها بل و غير المستوفاة و يقتضيه

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتى تؤدي».

و أما إذا كانت تالفة فإن كانت من المثليات بحسب المتعارف وجب عليه رد المثل، و إن كانت من القيميات كذلك وجب عليه رد القيمة، و إن كانت مرددة بينهما لا بد من التراضي مع صاحب المال.

و مقتضى ظواهر الأدلة الشرعية اعتبار المماثلة في كيفية الاعتداء و كميته و سائر الجهات،

و قد ورد في الحدود: «إنّ اللّه جعل لكلّ شيء حدّا و جعل لكلّ من تعدّى ذلك الحدّ حدّا» فلا بد من مراعاة إذن الشارع في جميع ذلك.

و ما قيل: من أنّ «الغاصب يؤخذ بأشق الأحوال» فهو مردود لم يقم على إطلاقه دليل لا من العقل و لا من النقل هذا صفوة القول و من أراد التفصيل فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

الثالث: قد استدل الفقهاء بقوله تعالى: فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ و نظائره من الآيات الدالة على لزوم المماثلة في الاعتداء بلزومها أيضا في الجنايات و الضمانات.

الرابع: إنّ قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ يدل على حرمة الإقدام على ما يخاف الإنسان على نفسه أو عرضه أو ماله. و أما المجاهدة مع أعداء الدّين فهي ليست من الإلقاء في التهلكة لما فيها من المصالح الواقعية

ص: 149

الكثيرة الراجعة إلى الإنسان، و لذا لو لم تكن في مقاتلة الأعداء مصلحة إما لأجل الخوف من غلبتهم على المسلمين، أو عدم القدرة لهم على المقاتلة و نحو ذلك يجب الصلح و إلا كان من إلقاء النفس في التهلكة و من ذلك صلح نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مع المشركين في عام الحديبية، و صلح عليّ (عليه السلام) في صفين، و صلح الحسن (عليه السلام) مع معاوية.

و أما نهضة الحسين (عليه السلام) مع علمه من قرائن الأحوال أنّه مقتول و مهتوك ظاهرا لا محالة، فاختار الشهادة تقديما للأهم على المهم. و من ذلك ما جاء

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «لو أنّ رجلا أنفق ما في يديه في سبيل اللّه ما كان أحسن و لا وفق أليس اللّه يقول: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ أي المقتصدين؟!!» فإنّ تفسيره (عليه السلام) المحسنين بالمقتصدين يوضح معنى التهلكة في بذل المال، و هو يدل على ما ذكرناه أيضا كما مر.

ص: 150

بحث روائي

في المجمع عن ربيع بن أنس و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في الآية المباركة وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اَلَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ : «هذه أول آية نزلت في القتال، فلما نزلت كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقاتل من قاتله و يكفّ عمن كفّ عنه حتى نزلت فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فنسخت هذه الآية».

أقول: تقدم عدم النسخ في مثل هذه الآيات بل سياق الجميع بعد رد بعضها إلى بعض ليس إلا من سنخ العام و الخاص إلا أن يراد من النسخ ذلك كما هو كثير في كلماتهم.

في المجمع أيضا عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ . الآية: «نزلت هذه الآية في صلح الحديبية و ذلك أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لما خرج هو و أصحابه في العام الذي أرادوا فيه العمرة و كانوا ألفا و أربعمائة فساروا حتى نزلوا الحديبية فصدّهم المشركون عن البيت الحرام فنحروا الهدي بالحديبية ثم صالحهم المشركون على أن يرجع من عامه و يعود العام القابل و تخلى له مكة ثلاثة أيام فيطوف بالبيت و يفعل ما يشاء، فرجع إلى المدينة من فوره فلما كان العام المقبل تجهز النبي و أصحابه لعمرة القضاء، و خافوا أن لا تفي لهم قريش بذلك و أن يصدّوهم عن البيت الحرام و يقاتلوهم،

ص: 151

و كره رسول اللّه قتالهم في الشهر الحرام فأنزل اللّه هذه الآية.

أقول: روي قريب منه في الدر المنثور عن ابن عباس و غيره و ما ورد في هذه الروايات يكون من ذكر مناشئ النزول و يصح أن تكون لآية واحدة مناشئ له.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ - الآية - «نزلت في رجل من الصحابة قتل رجلا من الكفار في الشهر الحرام فعابوا المؤمنين بذلك فبيّن اللّه سبحانه أنّ الفتنة في الدّين - و هو الشرك - أعظم من قتل المشركين في الشهر الحرام و إن كان غير جائز».

أقول: تقدم الوجه في ذلك.

و في المجمع أيضا في قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الآية - قال: «أي الشرك» قال: و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

أقول: الوجه في أنّ الشرك أعظم من القتل في المسجد الحرام معلوم لأنّ الأول بالنسبة إلى أصول الدّين و الثاني بالنسبة إلى فروعه و تقدم ما يرتبط بذلك.

العياشي في تفسيره في قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ عن العلاء بن الفضيل قال: «سألته عن المشركين أ يبتدئ بهم المسلمون بالقتال في الشهر الحرام؟ قال (عليه السلام): إذا كان المشركون ابتدءوهم باستحلالهم، و رأى المسلمون أنّهم يظهرون عليهم فيه و ذلك قوله تعالى: اَلشَّهْرُ اَلْحَرامُ بِالشَّهْرِ اَلْحَرامِ وَ اَلْحُرُماتُ قِصاصٌ .

و في الدر المنثور عن جابر بن عبد اللّه قال: «لم يكن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يغزو في الشهر الحرام حتى يغزى، و يغزو فإذا حضر أقام حتى ينسلخ».

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ - الآية - عن قتادة قال: «و قاتلوا حتى لا تكون فتنة أي شرك و يكون الدّين للّه قال حتى يقال: لا إله إلا اللّه، عليها قاتل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و إليها دعا،

ص: 152

و ذكر لنا أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقول: إنّ اللّه أمرني أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين قال: و إنّ الظالم من أبى أن يقول لا إله إلا اللّه يقاتل حتى يقول، لا إله إلا اللّه».

أقول: ذيل الآية المباركة يدل على أنّ المراد بالفتنة الشرك و الحديث مأخوذ من نفس الآية الشريفة.

في الكافي عن معاوية بن عمار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل قتل رجلا في الحلّ ثم دخل الحرم فقال (عليه السلام): لا يقتل، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يبايع و لا يؤوى، حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد.

قلت: فما تقول: في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ قال (عليه السلام): يقام عليه الحد في الحرم صاغرا لأنّه لم ير للحرم حرمة، و قد قال اللّه عز و جل: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فقال (عليه السلام): هذا هو في الحرم فقال: لا عدوان إلا على الظالمين».

أقول: يستفاد من تمسكه (عليه السلام) بالآية الكريمة أنّ المراد هو المثلية المكانية إذا كان للمكان حرمة و احترام.

روى الصدوق عن ثابت بن أنس قال: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «طاعة السلطان واجبة و من ترك طاعة السلطان فقد ترك طاعة اللّه عز و جل و دخل في نهيه إنّ اللّه عز و جل يقول: و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة».

أقول: إن كان المراد بالسلطان سلطان العدل فوجوب إطاعته معلوم لأنّه من إطاعة اللّه تبارك و تعالى و إن كان من غيره فهو تابع للعناوين الثانوية.

ص: 153

وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ م.......

اشارة

وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (196) اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ (197) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (202) وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

ص: 154

بعد أن ذكر سبحانه أنّ الأهلة هي لمعرفة الأوقات و الحج فكان ذلك تمهيدا لما يأتي من أحكام الحج فذكر هنا بعضا منها فبيّن أولا وجوب إتمام الحج و العمرة للّه، ثم ذكر أحكام المحصور و عدم جواز الحلق حتى يبلغ الهدي محلّه إلا من كان معذورا في ذلك يفدي فيحلق و إذا أمن الحاج و زال الخوف، فإنّه يجب على المتمتع بالعمرة إلى الحج أن يذبح ما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام عشرة أيام ثلاثة في الحج و سبعة عند الرجوع إلى الأهل.

ثم بيّن أنّ زمان الحج هو أشهر خاصة، فمن أوجب على نفسه الحج فيها يجب عليه ترك الرّفث و الفسوق و الجدال.

و قد ذكر أنّ خير الزاد الذي يتزود ليوم المعاد هو التقوى و أنّ الإنسان لا بد أن يتوخاها بما أوجبه اللّه تعالى عليه.

و بيّن أنّه يجب على الحجيج أن يفيضوا من عرفات إلى المشعر الحرام و يذكروا اللّه فيه كما هداهم و أمرهم بعد ذلك أن يفيضوا منه كما يفيض الناس.

كما أمرهم بملازمة ذكره تعالى في جميع حالاتهم و أنّ الأولى لهم أن يطلبوا من اللّه تعالى ما يرجع إليهم نفعه في الدنيا و الآخرة.

و قد أمرهم بالبقاء في منى في أيام معدودات، و أشار سبحانه و تعالى إلى أنّ جميع أعمال الحج إنّما هي صورة مصغّرة من الحشر إليه تعالى.

و هذه الآيات نزلت في حجة الوداع آخر حجة حجها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و فيها تشريع حج التمتع.

ص: 155

التفسير

196 - قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ .

مادة (ت م م) تدل على انتهاء الشيء إلى حد لا يحتاج إلى شيء خارج عنه بخلاف النقص و الناقص.

و يطلق التمام على الجواهر و الأعراض و الأمور المعنوية، و يطلق التمام على الكمال مع إمكان التفرقة بينهما في الجملة، كما يأتي.

و الحج هو شعيرة من شعائر الإسلام بل هو أحد أركان الإسلام الخمسة، و قد شرعه إبراهيم الخليل (عليه السلام) و كان عليه العرب في الجاهلية و أقره الإسلام إلى يوم القيامة.

و هو على ثلاثة أقسام:

حج التمتع - و هو أفضل الأقسام.

و حج القرآن.

و حج الإفراد.

و واجباته: هي الإحرام، و الوقوف بعرفات، و الوقوف بالمشعر الحرام، ثم إتيان منى و رمي العقبة و التضحية بها، و رمي الجمرات الثلاث، و طواف الحج، و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة، و طواف النساء و صلاته.

ص: 156

و العمرة عبادة معروفة أيضا، و هي على قسمين:

عمرة مفردة.

و عمرة التمتع.

و واجباتها: هي الإحرام، و الطواف و صلاته، و السعي بين الصفا و المروة.

و لكلّ واحد منهما أجزاء و شروط و آداب وردت في السنة الشريفة، و قد شرح أبو عبد اللّه جعفر الصادق (عليه السلام) خصوصيات هذين العملين بما لا مزيد عليه حتى نسب إلى أبي حنيفة أنّه قال: «لو لا جعفر بن محمد ما عرف الناس مناسك حجهم». و تضمنتها كتب الأحاديث و الفقه، و في الحج و العمرة اجتمعت أنحاء العبادات الروحية و البدنية و المالية، الفردية و الاجتماعية.

و المراد بإتمام الحج و العمرة: إتيانهما تامّين بأجزائهما و شرائطهما بحسب ما شرعه اللّه عز و جل، و شرحته السنة الشريفة.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ أنّهما عبادتان يعتبر فيهما قصد التقرب للّه تعالى، فلا يتمّان إلا لوجه اللّه عزّ و جل.

و ذكر بعض المفسرين أنّ المراد من قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ أي ائتوا بهما تامّين فيكون محض أمر بالإتمام بعد الشروع فيهما، ثم ذكر أنّ العمرة غير واجبة فيكون الأمر بالإتمام للوجوب و الندب، كما تقول: صم رمضان و ستة من شوال.

و يرد عليه أولا: أنّ العمرة واجبة بمقتضى الآية و الروايات، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل عليه.

و ثانيا: أنّ حمل الأمر على الوجوب و الندب باطل إلا بالعناية، و قد نبّه عليه هو في تفسير آية الوضوء أيضا، فقال بأنّ تناول الكلمة لمعنيين مختلفين من باب الألغاز و التعمية.

قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

ص: 157

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضّيق و الحبس يقال: حصره العدو في منزله حبسه، و أحصره المرض منعه من السفر.

و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة تناسب هذا المعنى،

و في الحديث «هلك المحاصير» أي المستعجلون، لأنّ الاستعجال في الشيء نحو تضييق في الجملة.

و قيل: إنّ الإحصار في المنع الظاهر عن الوصول إلى بيت اللّه تعالى، كالعدوّ، و الحصر، يقال في المنع الداخل كالمرض.

و لكن عن جمع من أهل اللغة أنّه لا فرق بين الإحصار و الحصر فإنّ كليهما يستعملان في الممنوعية عن الإتمام، سواء كان بسبب عدوّ أو مرض، إلا أنّه ورد في الأخبار المعتبرة عن الفريقين أنّ المحصور غير المصدود، فإنّ الأول هو المريض، و الثاني هو الذي يرده العدو.

و الاستيسار من اليسر يقال: يسر الأمر و استيسر، كما يقال صعب و استصعب، و هو السهولة أي: ما تيسّر كلّ فرد بحسب حاله.

و الهدي يصح أن يكون من الهدية و التحفة، و من السوق إلى الرشاد، و هو يرجع إلى الأول، لأنّ الهدية إلى اللّه عزّ و جل نحو سوق لفاعليها إلى الرشاد كلّ بحسبه، فهدايا العباد إلى اللّه جلّ جلاله سياق لهم إلى الرشاد لا سيّما إذا تشرّفت بالقبول.

و المراد به: ما يسوقه الناسك من النّعم للتضحية به في مكة أو في منى.

و المعنى: إن منعتم عن الإتمام بسبب مرض أو غيره فليرسل كلّ ناسك ما تيسّر له من الهدي كلّ بحسب حاله من الإبل و البقر و الغنم، و من موارد ما استيسر من ساق الهدي ثم أحصر فإنّه يكفيه ذلك كما هو المشهور عند الإمامية.

قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ .

الحلق: استيصال الشعر،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

ص: 158

«اللهم اغفر للمحلّقين - قالها ثلاثا -». و المراد بهم في الحج و العمرة، و إنّما قال (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك لأنّ أكثر من حج معه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يكن معهم هدي فلما حلق من كان معه هدي، و أمر النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من لم يكن معه هدي أن يحلق. و لكنّهم اثروا البقاء على إحرامهم، فتدارك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منهم بالدعاء لهم.

و الرأس: معروف و يكنّى به عن أعلى كلّ شيء، و عن الرئيس أيضا.

و المعنى: و لا تحلّوا بالحلق فإنّ الشارع جعل الحلق أول الإحلال حتى يبلغ الهدي محلّه المقرّر شرعا، و قد حددته السنة الشريفة بأنّه منى إن كان حاجا، و إن كان معتمرا فمحلّه مكة و فناء الكعبة أو حزورة.

و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للهدي محلا معينا لا يصح أن يذبح في غيره، إلا أنّ السنة حدّدته بمنى أو مكة، كما عرفت.

قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ .

الأذى: ما يصل إلى الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته.

و كذا بالنسبة إلى مطلق الحيوان.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، فقد ورد استعمالها بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و رسوله أيضا، قال تعالى: يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [الأحزاب - 53]، و قال تعالى: لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اَللّهُ [الأحزاب - 69].

و الفاء للتفريع على الحكم السابق الدّال على النهي عن حلق الرأس فيكون المراد بالمرض خصوص المرض في الرّأس الناشئ من ترك الشّعر و عدم الحلق، و من مقابلته للأذى يستفاد أنّ الأخير حاصل من غير المرض، كالهوام و غيره،

ففي الحديث: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). مر على كعب بن عجرة الأنصاري و القمل يتناثر من رأسه، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ يؤذيك هوامك؟ قال: نعم - الحديث -».

ص: 159

و المعنى: فمن كان منكم في حال الإحرام مريضا يضرّه توفير الشّعر، أو بالرّأس ما يؤذيه كالقمل و نحوه من الهوام، فإنّه يجوز الحلق مع الفدية.

قوله تعالى: فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ .

الصدقة: ما يتطوّع به في سبيل اللّه واجبا كان أم غيره. و مادة «نسك» تأتي بمعنى العبادة، و الناسك العابد، و اختصت بأعمال الحج، كما أنّ النّسيكة تختص بالذبيحة.

أي: إنّ المحرم الذي جاز له الحلق حال الإحرام يفدى بواحدة من هذه الخصال الثلاث: إما الصيام، أو الصدقة، أو النسك. و لم تبيّن الآية حدود كلّ واحدة من هذه الخصال إلا أنّه ورد في السنة المقدّسة ما يبيّن ذلك، فالصيام بثلاثة أيام، و الصدقة إطعام ستة مساكين، و النسك ذبح شاة.

قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ .

الأمن: طمأنينة النفس، و زوال الخوف. و الأمن و الأمان، و الأمانة تستعمل مصدرا تارة، و اسما أخرى و يفرق بالقرائن.

و مادة (متع) تأتي بمعنى الارتفاع و الانتفاع، يقال: متع النهار و متع النبات إذا ارتفع. قال تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ [البقرة - 36]، أي: انتفاع. و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، و غالب استعمالاتها تشعر بالقلّة و الزوال و التحديد، و هو كذلك إذ لا نسبة بين المتناهي من كلّ جهة و غير المتناهي كذلك، و في الحديث: «لو كانت الدنيا تزن عند اللّه جناح بعوضة ما سقى منها كافرا شربة ماء».

و سمي حج التمتع تمتعا، لأنّ المحرم يحلّ من إحرامه بعد تمام العمرة، فينتفع بما حرّم عليه لأجل الإحرام حتى يهلّ للحج، فهو إحلال بين إحرامين.

و هذه الآية صريحة في تشريع حج التمتع لأنّ الجملة الخبرية أصرح في التشريع من الإنشائيات، و قد أثبتوا ذلك في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا

ص: 160

(تهذيب الأصول). و لم يخالف في ذلك أحد من المسلمين، و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

و الفاء في قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ للتفريع على الإحصار. كما أنّ الباء للسببية.

أي: تمتع بسبب العمرة بأن ختمها و أحل منها، فإنّه يتمتع بما كان محرما عليه حال الإحرام حتى يهلّ بالحج.

و المعنى: فإذا أمنتم بارتفاع المانع من عدوّ، و مرض و نحوهما فمن كان متمتعا بالعمرة بأن أحلّ منها إلى وقت الإهلال بالحج فعليه ما استيسر من الهدي.

قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

أي: عليه ما استيسر من الهدي يذبحه في منى كلّ بحسب حاله من إبل أو بقر أو شاة.

و الظاهر من الآية المباركة أنّه دم نسك لا جبران لما فات منه من الإهلال بالحج من الميقات، كما قال به الشافعي.

قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ .

أي: فمن لم يجد الهدي لعدم التمكن من المال لشرائه أو لعدم وجدانه، فعليه صيام ثلاثة أيام من الأيام التي من شأنها أن يقع فيها الإحرام بالحج.

و في جعل الحج ظرفا للصيام باعتبار اتحاد زمانهما، و ذلك لأنّ الزمان الذي يعدّ عرفا من الحج هو من زمان الإحرام إلى الحج إلى الانتهاء عنه، فتكون أيام الصيام هي يوم التروية و ما قبله و ما بعده و من فاته في ذلك فعليه الصيام بعد أيام التشريق، و لا يصح الصيام فيها، و في ذلك وردت روايات كثيرة من السنة المقدّسة، و عليه الإجماع، و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

ص: 161

قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ .

التفات من الغيبة إلى الحضور لبيان أنّ السبعة بعد الرجوع لا حينه.

أي: و سبعة بعد الرجوع إلى أهله و وطنه، فلا يكفي إرادة الرجوع، أو حينه.

قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ .

إجمال بعد تفصيل أي: أنّ تلك الأيام الثلاثة في أيام الحج، و السبعة بعد الرجوع إلى الأهل عشرة كاملة في النسك.

و يستفاد من هذه الآية أمور:

منها: أنّ تلك الأيام العشرة تعد نسكا واحدا عند اللّه تعالى لا يضرّ الفصل فيها و إن بلغ ما بلغ.

و منها: أنّه لا يضر إتيان السبعة في غير أيام الحج، بل في غير أشهره.

و منها: أنّه لا يفسدها الصوم في السفر.

و منها: أنّ كلّ واحدة من الثلاثة أو السبعة عمل خاص و تام في حدّ نفسه، و له حكمه و إنّما الأخيرة مكملة للأولى.

و منها: دفع توهم الإباحة و الاستغناء بإحديهما.

و منها: الاهتمام بالعشرة و التأكيد على إتيانها كاملة من دون نقص و لا إغفالها بوجه.

و منها: إفادة أنّ البدل يقع مقام المبدل منه كاملا و أنّه كامل ككمال الهدي و الاضحية.

قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ .

ذلك: إشارة إلى التمتع بالعمرة إلى الحج، و الأهل يقال: لمن يختص بشيء، سواء كان ذلك الشيء إنسانا أم غيره. يقال: أهل الرجل، و أهل الدار، و أهل الذكر. و الآل لا يقال إلا فيما إذا كان للمختص به شرف، سواء كان دنيويا، كقوله تعالى: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ اَلْعَذابِ [غافر - 46]، أم

ص: 162

معنويّا كآل موسى و هارون. أم هما معا كآل محمد (صلّى اللّه عليه و آله).

و حاضري من الحضر - بفتحتين - و الحضور خلاف البعد، و الغيبة، و البدو. و المراد به: المقيم عند المسجد الحرام، و ليس المراد منه مقابل السفر.

و المستفاد من الآية: أنّ المدار صدق الحضور عليه مقابل النائي فيدخل فيه من كان مقيما في الحرم، و قد حدّدته السنة الشريفة بما إذا كان بينه و بين المسجد الحرام بما يعادل أقل من ثمانية و ثمانين كيلو مترا و النائي من يكون أكثر من ذلك.

و حج التمتع وظيفة الآفاقي الذي يأتي من آفاق الأرض، و لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام فقد أمر بالإهلال من المسجد الحرام أو غيره بعد الإحلال من إحرام العمرة و جواز التمتع بما كان محرما عليه بسبب الإحرام، ذلك تخفيف من ربّه عليه لتحمّله مشقة السفر و مقاساته لعنائه، و في العبارة من اللطف و العناية ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

أي: اتقوا اللّه بطاعته و امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه أنّ الحكمة في جعل الأحكام الإلهيّة إنّما هي التقوى، كما في قوله تعالى: لَنْ يَنالَ اَللّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ اَلتَّقْوى مِنْكُمْ [الحج - 37].

كما يستفاد من الأمر بالتقوى في المقام أنّ هناك مخالفة تصدر و عصيان على هذا الحكم، فأمرهم بملازمة التقوى، و إتيان الأحكام الشرعية على وجهها المطلوب من دون تعيير و تبديل.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

حذرهم من المخالفة و هتك الحرمات، و أوعد عليها لما يعلمه تعالى من عبث الأهواء في هذا الأمر، فإنّ الحج من الأمور التي كانت سائدة عند العرب من عصر إبراهيم (عليه السلام) و قد دخلته عادات و تقاليد لم يمضها الإسلام، فلم يكن التغيير أمرا سهلا على نفوس اعتادت بعض الأمور، و لذا

ص: 163

فقد قابلوا الوضع الجديد بالإنكار و المخالفة فكان ذلك هو الموجب لهذا التشديد و التوعيد على المخالفة، و لذلك كلّه تعهّد النبي (صلّى اللّه عليه و آله) هذا التشريع الجديد بوجوه من الكلام في خطبته المباركة تضمّنت كثيرا من أحكام الحج. و أكّد عليه بأنحاء التأكيدات، فأمر (صلّى اللّه عليه و آله) بأنّه حكم أبدي لا يدخله أي تغيير و عام لا يستثنى منه أحد.

197 - قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ .

أي: إنّ زمان الحج أشهر معلومات معيّنات، و معروفات عند الناس، و هي: شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة، كما تدل عليه السنة المقدسة، فلا يقع شيء منه في غيرها و إن كان ذلك الإحرام لأنّه من أجزاء الحج، و كذلك عمرة التمتع لأنها من الحج، و يدل عليه

الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة».

فما ذكره بعض الفقهاء من أنّه يجوز تقديم الإحرام في غيرها لأنّه شرط للحج، كالطّهارة للصلاة فيجوز التقديم على وقت الأداء. غير صحيح كبرى و صغرى كما هو مذكور في كتب الفقه.

و المراد من الآية: أنّ مجموع الوقت من الأشهر الثلاثة وقت للمجموع من أفعال الحج فلا ينافي كون بعض الشهر هو زمان الحج فقط، كما لا ينافي اختصاص بعض أفعال الحج ببعض الأيام، لجريان العرف على عدّ جزء من الزّمان منزلة الكلّ، و عدّ جزء من العمل منزلة تمامه، يقال رأيته يوم الجمعة و إنّما رآه في بعضه دون الجميع و كذا اجتمعت معه سنة كذا، و غير ذلك.

و يستفاد من قوله تعالى: مَعْلُوماتٌ أنّه لا يجوز تأخيرها و إنساؤها إلى شهر آخر، كما كان المشركون يفعلونه.

قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ .

مادة (فرض) تأتي بمعنى قطع الشيء الصّلب، و التأثير فيه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً [النساء - 7]،

ص: 164

أي: مقطوعا معلوما، و تستعمل في فرائض اللّه تعالى لأنّها تقطع الأوهام و الشكوك و المحتملات بالنسبة إلى موردها.

و يطلق في اصطلاح الفقهاء على المواريث أيضا لأنّها تقطع و تقسم من مال الميت،

و نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تعلموا الفرائض فإنّها نصف العلم».

و في الحديث عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إنّما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنة قائمة».

و فرائض اللّه تعالى هي: الأحكام التي أوجبها على العباد، و الفرق بين الفرض و الوجوب من وجوه:

الأول: أنّ الفرض يختص بالنسبة إلى ما فرضه اللّه تعالى فقط بخلاف الوجوب فإنّه أعم، يقال: وجوب عقلي، و لا يقال: فريضة عقلية.

الثاني: الوجوب يطلق و لو على مرتبة الإنشاء، و الفرض لا يطلق إلا على مقام العمل.

الثالث: يطلق الفرض في الشريعة على ما ألزمه اللّه تعالى، بخلاف الوجوب فإنّه أعمّ من السنة و ما فرض اللّه جلّ شأنه.

و المعنى: فمن أوجب على نفسه الحج فيهنّ و ذلك بالشروع فيه بعقد الإحرام إمّا بالتلبية أو الإشعار بالهدي أو التقليد.

قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ .

نفي لجنس هذه الأمور الثلاثة مبالغة و هو يتضمن النّهي عنها، و هذا أبلغ.

أي: إنّ الحج بطبعه و الحكمة في تشريعه يأبى هذه الأمور كما يستفاد من تكرار لفظ «الحج» أيضا.

و تقدم الكلام في الرّفث في آية 187 من هذه السورة، و يراد به كلّ ما يستقبح ذكره من الجماع و دواعيه، و قد يكنّى به عن نفس الجماع، فالرّفث

ص: 165

بالفرج الجماع، و باللسان المواعدة عليه، و بالعين الغمز له.

و مادة (فسق) تأتي بمعنى الخروج، يقال: فسق الرطب إذا خرج عن قشره، و يستفاد من موارد استعمالاتها أنّ الفسق خروج الشيء من الشيء على وجه الفساد، و منه الفسق في الشرع و هو الخروج عن الطاعة، و هو أعم من الكفر، و العصيان أعم منهما، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة فيما يقرب من أربعين موردا كلّها تشعر بالذّم، و في المتعارف يستعمل فيمن عرف بذلك. و يقال للفأرة: الفويسقة، لأنّها تخرج من بيتها مرة بعد أخرى،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقتلوا الفويسقة فإنّها توهي السقاء و تضرم البيت على أهله»،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «خمس فواسق تقتل في الحل و الحرم: الغراب، و الحداءة، و الكلب، و الحية، و الفأرة» و شرح هذا الحديث يطلب من كتب الفقه في مسائل تروك الإحرام.

و المراد بالفسوق هنا: مطلق ارتكاب المناهي، و ما يوجب الخروج عن طاعة اللّه عزّ و جل، و هو و إن كان حراما في غير الحج أيضا و لكن تكون حرمته في الحج أشدّ و آكد، فإنّ قصد الحاج السّفر إلى اللّه تعالى و الإقبال عليه عزّ و جلّ، و مع تلبسه بالفسوق يكون خارجا منه و بعيدا عنه تعالى، و لأنّ في الحج تكون حالة الارتباط و الاتصال بساحة ذي الجلال فما أقبح القطع و الانفصال في مثل هذا الحال.

و الجدال: المفاوضة على نحو المنازعة و المغالبة، و المراء بالكلام، و هو داخل في المصارعة لأنّها إمّا بالآلات الخارجية أو باليد، أو باللسان.

و الأخير يسمى جدالا، و ما كان منه لغير اللّه فهو قبيح، و ما كان لإظهار الحقّ فهو حسن، و ما كان لتثبيته و إيضاحه فهو أحسن.

و قد فسّر الجدال في الآية المباركة في السنة بقول: «لا و اللّه، و بلى و اللّه».

و الظاهر أنّ الآية المباركة تنهى عن أمور كانت متبعة عند العرب في

ص: 166

زيارتهم لبيت اللّه الحرام و حجهم له، فقد كانت الأسواق في الموسم تعقد للمفاخرة بين القبائل و كان يجري فيها، التنابز بالألقاب و الخصام و المراء، و غير ذلك من المناهي المتعلقة باللسان فناسب ذلك النهي عن هذه الأمور في الحج و إلا فهي محرّمة في جميع الأحوال، و لبيان أنّ الحج بطبعه لا يقبل هذه الأمور فإنّه السّفر إلى اللّه و الإقبال عليه لغرض أسمى، و لا تناسب بين ما كان كذلك و بين ما هو من شأنه البعد و الفرقة و الانفصال.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اَللّهُ .

التفات من الغيبة إلى الخطاب و التكلّم لبيان كمال العطف و الاهتمام و الاقتراب إلى المتعبدين، و فيه من الترغيب إلى فعل الخير، كما أنّ في الآية من التذكير بأنّ أعمال العباد لا تغيب عنه عزّ و جل، فإنّ ما يفعله الإنسان من الخير سواء في الحج أو في غيره يعلمه اللّه و يجازي عليه، و هو الذي لا يضيع أجر المحسنين و لا يهمله عز و جل.

و ذكر الخير بالخصوص مع أنّه تعالى عالم بالخير و الشر، ظاهرهما و باطنهما كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ [البقرة - 284]، و قوله تعالى:

وَ اَللّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ [النور - 29]، إنّما هو للترغيب إلى الخير و حث الناس عليه، فتكون إرشادا إلى مطلوبيته له تعالى، مع أنّ ظاهر الحال و المكان يقتضي ذكر الخير و لو فرض وجود شرّ من المعاصي في البين فهو مضمحل في جنب ذلك الخير العظيم لغلبته عليه في تلك المشاعر العظام.

و التصريح باسم الجلالة ليكون إثبات الشيء ببرهان.

و فيه من التنبيه إلى أنّ الإنسان لا بد أن لا يفقد روح العمل، و هي الحضور لديه عزّ و جلّ في جميع أفعاله، و أنّه لا بد من التطابق بين العلم و العمل فإنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له في نظر القرآن.

قوله تعالى: وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ اَلزّادِ اَلتَّقْوى .

ص: 167

الزاد: ما يتهيّأ للسفر، و هو يختلف كمية و كيفية باختلاف حالات السفر، و السفر على قسمين: سفر في الدنيا، و سفر من الدنيا. و في كلّ منهما لا بد من الزاد و زاد الأول هو: الطعام و الشراب و المركب و نحوه، و زاد الثاني: هو معرفة اللّه تعالى و الطاعة، و الاستعداد للآخرة.

و قد بيّن سبحانه أنّ خير الزاد لهذا السفر هو التقوى، أي فعل الطاعات و ترك المعاصي، و ترك ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التقوى هي الصراط المستقيم إلى الإنسانية الكاملة و الجنان العالية، و هي الارتباط الوثيق مع مالك الدنيا و الآخرة.

و ذكرها في المقام لبيان أنّ الحاج إذا كان في سفره القصير لا بد له من الزاد و إلا هلك، فكيف بالسفر الطويل البعيد المحفوف بالمخاطر العظام، فيكون احتياجه إلى الزاد أهم و أعظم.

و من تعريف الخبر (التقوى) يستفاد أنّ الأمر مقطوع به، و لا يدخله الشك، و أنّ الحكم على التحقيق كذلك.

و الآية تنحل إلى برهان قويم، و ترجع إلى قول: تزودوا بخير الزاد، و خير الزاد التقوى، فتزودوا بالتقوى، و الكبرى معلومة بالأدلة الأربعة.

ثم إنّ ظاهر الآية المباركة العموم بالنسبة إلى تمام الحالات و الأزمنة و الأمكنة و إنّما ذكر في المقام بالخصوص لاقتضاء الحالة بتزود التقوى لأنّه السفر إلى اللّه تعالى.

و أما ما عن ابن عباس أنّه قال: «كان أهل اليمن يحجون و لا يتزوّدون و يقولون نحن متوكلون ثم يقدمون فيسألون الناس فنزلت الآية المباركة» فهو من باب ذكر المصداق لا الحصر الحقيقي، و يمكن تعميم الأمر بالتزود في خصوص الحرم الإلهي حتى بالنسبة إلى ما تعارف بين الحجيج من حمل الهدايا معهم إلى بلادهم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُونِ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ .

ص: 168

اللب: هو العقل الخالص عن شوائب الأوهام، خصّهم بالذكر لأنّهم المؤهّلون لذلك، فإنّهم يعرفون حاجتهم إلى التزوّد بالتقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و ما للتقوى من فضل عظيم خطير، و أنّ بالعقل يخشى اللّه و تتقى المعاصي.

و من حذف المتعلّق يستفاد أنّه تعالى هو المقصود من التقوى، و أنّه لا بد من قطع النظر عن كلّ شيء سواه، و هذا هو الذي يستشعره ذو اللب الخالص و العقل السليم.

و هذا الخطاب جذب لأولياء اللّه تعالى إلى عالم لا نهاية لعظمته و كبريائه و لا غاية لكماله و تقريب لهم إلى صور لا حدّ لجمالها و دلالها كيف فإنّ التقوى مفتاح بركات السماء و الأرض، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [الأعراف - 96]، و هي أساس الفلاح، قال تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة - 100]، و هي الوسيلة لجلب السعادة للإنسان.

و هذه الآيات تدل على الترغيب إلى اكتساب الفضائل و التجنب عن الرذائل، و التشبّه بربّ الأرباب جلّ شأنه، و استكمال الإنسان بجميع ما أعد له من الكمال، فيترتب عليه جميع ما أعد له من الجزاء الموعود في القرآن و الكتب السماوية ترتب المعلول على العلّة التامة المنحصرة.

198 - قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ .

مادة (ج ن ح) تستعمل في الإثم المائل عن الحق، و يسمّى كلّ إثم جناحا، و قد ورد لفظ جناح في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موردا منفيّا بليس، أو لا، و لكن لم يرد مثبتا فيه و إن ورد بهيئاته الأخرى، مثل قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و المراد به في المقام: نفي الحرج و الإثم، أي: لا بأس في ابتغاء الفضل من ربّكم، و المراد من ابتغاء الفضل هو طلب الرزق بالكسب و التجارة، نظير قوله تعالى: وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي اَلْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اَللّهِ [المزمل - 40]، و قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ اِبْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اَللّهِ وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [الجمعة

ص: 169

- 10]. و قد ورد في السنة الشريفة أنّ الابتغاء من الفضل هو الرزق، فالآية المباركة تدل على إباحة البيع و زيادة الرزق بالتجارة.

و عليه فتكون الآية المباركة في مقام الاستدراك عما يتوهّم و ينسبق إلى الفهم من الأمر بالتزود من التقوى، و من مخاطبة أولي الألباب بالأمر بالتقوى خلاف ما كان الأمر عليه في الجاهلية من الكسب و التجارة و عقد الأسواق في الموسم لها، و لأجل ذلك كان بعض المسلمين في أول الإسلام يتأثّمون من ذلك فأزال تعالى هذا الوهم، و أعلمنا بأنّه لا بأس بالكسب و التجارة و أنّ ذلك من فضل اللّه تعالى بل يستفاد من قوله تعالى: مِنْ رَبِّكُمْ أنّه داخل في العبادة،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الكاسب حبيب اللّه».

فتكون الآية المباركة صريحة في عدم المنافاة بين الحج و طلب المال.

و لكن يمكن أن نقول: إنّ المراد من الابتغاء بالفضل هو الأعم من طلب الرزق بالتجارة و من طلب المغفرة كما ورد في بعض الروايات فإنّها المطلوب الأهم للإنسان، فتكون ترغيبا إلى ازدياد الخير بعد الترغيب بالتقوى، و الحث عليها، و إشارة إلى عدم الاعتماد على مجرد التقوى بل الاعتماد كلّه على فضل اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ .

مادة (فيض) تأتي بمعنى سيلان الماء مع الكثرة، و تستعمل في كلّ دفع مع كثرة كما في المقام، و الاستفاضة هي الشيوع و الكثرة و الانتشار.

و عرفة هي بمعنى الإصابة يقال: عرفه أي أصاب عرفه - أي رائحته - أو خدّه. و عرفات علم للمكان المخصوص المعروف، و هي في معنى الجمع و ليس بجمع شيء، و ما

في بعض الأخبار: «الحج عرفة» إنّما هو باعتبار الزمان لا باعتبار كون عرفة مفرد عرفات، و تنوينه تنوين المقابلة لا تنوين التمكن.

و سمي الزمان و المكان بها لتحقق تعرف في البين إما لأجل أنّ خليل الرحمن (عليه السلام) عرف صدق رؤياه، أو لأجل أنّ جبرائيل عرفه مشاعر

ص: 170

الحرام في هذا المكان، أو لأنّ اللّه عز و جل يتجلّى لأهل عرفات، أو لأجل أنّ في هذا المكان يعرف العباد أنفسهم إلى اللّه تعالى بالدعاء و الثناء، أو لأجل أنّ الناس في هذا المكان يعرف بعضهم بعضا، أو لأجل ارتفاع المحلّ ارتفاعا ظاهريا أو معنويا من عرف الدّيك.

و الآية تدل على الوقوف في عرفات بالملازمة فإنّ الإفاضة من محلّ يستلزم الكون فيه لا محالة. مع أنّ الكون فيها كان معهودا في الجاهلية و قرره الإسلام، و إنّما يراد بيان بقية أعمال الحج، فالموضوع مفروض الوجود عند بيان اللواحق و الأحكام.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ .

و هو المزدلفة، و جمع. و سمي مشعرا لأنّه معلم لشعائر اللّه تعالى و عبادته، و هو المكان المعروف. و المراد بالذّكر هو الصلاة، و التهليل، و التسبيح، و الدّعاء، و هو ما يعلم الواجب و المستحب.

و الآية المباركة تدل على وجوب الوقوف بالمشعر الحرام و لو بالمسمّى الذي هو الكون لدلالة الذّكر عليه و إن كان بالملازمة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ اَلضّالِّينَ .

تأكيد للجملة السابقة و ترغيب إلى ذكره تعالى و الحث على الإقبال إليه و إرشاد للإنسان إلى أنّه ينبغي أن يكون على ذكره تعالى دائما أي: و اذكروه بالثناء و الشكر على هدايته إيّاكم و أنّكم كنتم من قبل الهدى لمن الضالين.

و ال (واو) للحال و (ان) مخففة من الثقيلة لدلالة اللام عليه، و هي تفيد التأكيد.

و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ ذكر المنعم و شكره لا بد أن يكون لأجل نعمته، و لا نعمة أولى و أحسن و أتم و أكمل من الهداية إلى الإيمان و ترك الكفر و الضلال.

199 - قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ .

ص: 171

حيث للمكان المبهم يفسره ما بعده، و يمكن أن يطلق على المكان المبهم باعتبار حالة من يحلّ فيه من الوقار و السكينة و الذكر و نحو ذلك.

و المراد من الناس من يصلح للاقتداء و الايتمام به و العالمين بحدود الحج و أحكامه العاملين بها، و هم منحصرون في خليل الرحمن و ذريته القائمين مقامه العاملين بشريعته، فهو (عليه السلام) أول هذه السلسلة و أئمة الحق من ذريته آخرها، و العلماء العاملون الذين يتلونهم علما و عملا حفظة هذه التشريعات.

و إنّما ذكر لفظ الناس ليشمل جميع من له دخل في تشريع هذه المشاعر حدوثا و بقاء و حفظا و إبقاء.

و معنى مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ أي على الحالة التي أفاض الناس المعهودون في هذا المكان. و يستفاد من قوله تعالى أمرهم بالإفاضة التي يريدها اللّه جلّ شأنه و نبذ الحركة الهمجية في هذه الحالة التي ينبغي فيها ملاحظة الخضوع و الخشوع للّه تعالى.

و ظاهر الآية الشريفة: أنّه إيجاب للإفاضة المعهودة بين الناس، و بعد ذكر الإفاضة من عرفات يستفاد أنّه إفاضة إلى منى بعد الوقوف في المزدلفة.

فيكون قد ذكر سبحانه الوقوفين أحدهما بالصراحة و هو الوقوف بعرفات و الإفاضة إلى المزدلفة بقوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و الآخر بالملازمة و هو الوقوف في المشعر الحرام و الإفاضة منه إلى منى فتكون (ثم) على الحقيقة لوجود التراخي الزماني بين الإفاضتين.

و في ذلك خلاف ما كانت عليه قريش و حلفاؤها الذين هم (الحمس) فإنّهم كانوا لا يقفون بعرفات ترفعا بل بالمزدلفة، و كانوا يقولون نحن أهل حرم اللّه لا نفارق الحرم و كانوا يمنعون الناس من أن يفيضوا معهم من المزدلفة، فأثبت سبحانه إفاضتين و وقوفين لأنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد وقوف و لو بمقدار الذكر، و يدل على ما ذكرنا بعض الأخبار كما يأتي في البحث الروائي.

و قيل - و عليه أكثر المفسرين - أنّ المراد الإفاضة من عرفات كما كان

ص: 172

عليه دأب الناس فأمر اللّه تعالى أولئك العرب الّذين كانوا لا يقفون مع غيرهم في عرفات. و بذلك يكون تشريعا للوقوف بعرفات و أنّ الكلام بمنزلة الاستدراك بعد قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ و تكون (ثم) دالة على التراخي الرتبي و الخطاب مع قريش فقط.

و لكن فيه نظر فإنّه بناء على ذلك تكون الجملة تكرارا لمفاد الجملة الاولى و هو لا يليق بكلامه تعالى، فلا بد من حمل الإفاضة إمّا على الإفاضة من المشعر إلى منى كما ذكرنا أو حملها على كيفية الإفاضة في الإفاضتين بأن يكون المفيض على هدوء و وقار بلا تهجم، و للإعلام بأنّ الإفاضة المطلوبة هي الإفاضة المشروعة فإنّها هي من رحمة اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تحريض على طلب المغفرة و دعوة منه تعالى إلى الجنة لأجل أنّ الزمان و المكان من مبشرات ذلك فهما من أفضلهما، فكما أنّ الوقوف بعرفات و المشعر و أيام منى يوجب تخفيف الذنوب و التقرّب إلى المحبوب و أنّه تعالى يتجلّى لعباده في تلك المشاعر ليتجاوز عن المسيئين و يرفع درجات المخلصين، أمر تعالى بطلب الغفران لينطبق الحال مع المقال و يصير اللسان و المكان جميعا فيضان الرحمة و إفاضة النعمة، فكأنّه تعالى يريد أن يطهّر ضيوفه الواردين إليه عن دنس المآثم و يزيل عنهم شرّ الوسواس الخنّاس ثم يأذن لهم في الخروج عن حرمه و هذا هو أعظم أنواع الهدايا و أشرف أنحاء العطايا منه للعباد.

و في الآية إشارة إلى أنّ ذكر الآباء بمعزل عن هذه الهدية و لا أثر له في هذه العطية و لا ينافي ذلك استفادة العموم من جملة وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ لجميع الناس و في جميع الأمكنة كما تدل عليه العلة التامة الشاملة بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي كثير الغفران و وسيع الرحمة.

و قد ذكر لفظ «الغفور» في عدة آيات كثيرة كلّها مقرونة بالتأكيد و التثبيت مثل لفظ «انّ» و «كان» و مقرون بالرّحيم و الحليم.

ص: 173

و في حال التلبس بأفعال الحج يشملهم استغفار الملائكة أيضا و النبي (صلّى اللّه عليه و آله) لعظمة الموقف.

و قد كررت هذه الآية في [سورة المزمل - 20]، و قد رغّبت السنة المقدسة في التوبة و الاستغفار مما لا يمكن إحصاؤها و استقصاؤها و لعلّ هذا بعض معاني

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «عجبت من أقوام يجرّون إلى الجنّة بالسلاسل».

200 - قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ .

مادة (قضى) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بالنسبة إلى الخالق، و الخلق، و القول، و الفعل، و الدنيا و الآخرة و إنّها بمعنى فصل الأمر قولا كان أو فعلا، و يلزمه الإتمام و الفراغ.

و المناسك جمع منسك مصدر نسك و هو: العبادة، و الناسك: العابد، و اختص بأعمال الحج. و تأتي اسم مكان و هي: مواقيت النسك و أعمالها، و النسيكة مختصة بالذبيحة المتقرب بها إلى اللّه تعالى.

و المعنى: إذا فرغتم من أفعال الحج.

قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً .

تحريض إلى ذكر اللّه تعالى و الإكثار منه و المبالغة فيه و عدم الغفلة عنه كما لا يغفل أحد عن ذكر آبائه لا كما اعتادوا عليه من ذكر الآباء و الاكتفاء بهم. و (أو) للإضراب. و (أشد) غير منصرف لوزن الفعل و الوصفية، و الشدة تأتي بمعنى الكثرة في الكيفية و الكثرة في الكمية. أي إنّ ذكركم للّه تعالى إمّا أن يكون كذكر آبائكم أو أشد و أكثر و أعلى.

و الذكر: هو حضور المذكور في القلب و اللسان. و تقدم ما يتعلق به في قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اُشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ [البقرة - 152]، و المراد به في المقام مطلق الذكر في تلك المواطن.

و في الخطاب كمال العناية و اللطف و التآلف حيث أمرهم بالذكر

ص: 174

كذكرهم لآبائهم لئلا ينزجروا عن طريقتهم التي كانوا عليها ثم قال: أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً لتقريب أنّ نعم اللّه عليهم و على ءابائهم أكثر و أجل و أعلى من كل نعمة فلا بد و أن يكون الذّكر بما يناسب جلال اللّه و نعمائه.

قوله تعالى: فَمِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا .

تفريع على ما تقدّم. و هو بيان لبعض أحوال الناس المختلفة، فإنّهم بالنسبة إلى السؤال من اللّه تعالى على أقسام:

فمنهم: من يطلب منه تعالى الدنيا فقط مع الغفلة عن الآخرة.

و منهم: من يطلب الدنيا من حيث كونها طريقا لتحصيل الآخرة.

و منهم: من يطلبهما معا.

و منهم: من يطلب الآخرة فقط. و الثاني يرجع إلى الثالث في الواقع.

كما أنّ الأخير يرجع إليه أيضا لأنّ طلب الدنيا إذا كان للظفر بالآخرة يكون من طلب الآخرة و بقي قسمان قسم يدعو لدنياه فقط و هو الذي ذكره تعالى بأنّه ليس له في الآخرة من خلاق و قسم يدعو لدنياه و آخرته و هو الذي مدحه تعالى، و هذا التقسيم حقيقي واقعي.

و المراد من الناس: مطلق أفراد الإنسان الأعم من المؤمن و غيره فإنّه من يطلب الدنيا و لا يبغيها إلا لأجل المفاخرة.

كما أنّ المراد من القول الأعم من السؤال بالمقال و الطلب بلسان الحال.

و إنّما أجمل سبحانه و تعالى المتعلّق في قوله تعالى: آتِنا فِي اَلدُّنْيا لاختلاف مراد الناس و لأنّه كالمعلوم و لبيان أنّ الدنيا أكبر همه و هو يريدها بأي وجه كان.

و المعنى: إنّ من الناس من يطلب من اللّه تعالى الدنيا مع الغفلة عن الآخرة.

ص: 175

قوله تعالى: وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ .

مادة (خلق) تأتي بمعنى التقدير المستقيم سواء كان من شيء كقوله تعالى: خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ [النحل - 4]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ [الرحمن - 15]، أو من غير شيء و لا مادة بل إبداعا كقوله تعالى: اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ [إبراهيم - 32]، بانضمام قوله تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [البقرة - 117] و الثاني مختص به تعالى، بل الأول أيضا إذ لم يطلق في القرآن إلا بالنسبة إلى عيسى (عليه السلام) قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [المائدة - 110]، و لكنّه مقيّد في جميع ذلك بكونه من إذنه تعالى.

و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى بالنسبة إلى الجواهر و الأعراض، و النبات و الحيوان و الإنسان و الدنيا و الآخرة.

و هيئة (خلاق) لم تستعمل في القرآن إلا في موارد ثلاثة كلّها مضافة إلى الآخرة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ [البقرة - 102]، و الثالث قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ [آل عمران - 77]، و هو بمعنى النصيب و تقدير الخير، و يأتي بيان ما يتعلق بسائر هيئات هذه المادة في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و المعنى: إنّه ليس لهذه الطائفة الذين يطلبون من اللّه تعالى الدنيا فقط نصيب في الآخرة، لأنّهم أعرضوا عن الآخرة و لم يعملوا لها فقد استولى على قلوبهم حبّ الدنيا و لم يعملوا إلا لأجلها و حليت الدنيا في أعينهم فكانت هي الحسنة عندهم فقط دون غيرها فلم يرجوا غيرها و لم يدعوا اللّه تعالى إلا إيتاءها و لم يؤمنوا بالآخرة فلم يعملوا لها.

و في الخطاب كمال المعاتبة و التوبيخ في أنّهم سألوا ما هو المتفاني و الزائل و طلبوا أدون المطالب و أعرضوا عن الحياة الباقية و النعيم الدائم

ص: 176

و العيش الهنيء.

201 - قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً .

أي: و من الذاكرين من يطلب خير الدنيا و الآخرة جميعا. و المراد من الحسنة أنواعها و ليس المراد جنسها، إذ الجنس لا تحقق له بدون الأنواع، و حيث إنّها مختلفة بحسب اختلاف الدواعي و الأغراض في الدنيا و الآخرة، إذ الحسنات المطلوبة لأهل المعرفة الذين أفنوا جميع شؤونهم في اللّه تعالى فحازوا مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به جلّت عظمته غير الحسنات المطلوبة لغيرهم و لذلك أتى باللفظ مجملا ليشمل الجميع.

و إنّما أورد لفظ الحسنة في هذه الطائفة دون الطائفة الأولى، لأنّهم آمنوا بأنّ في الدنيا حسنة و سيئة و في الآخرة كذلك و لم يسألوا من اللّه تعالى إلا الحسنة.

قوله تعالى: وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ .

بالعفو و المغفرة و احفظنا مما يؤدّي إليها من الذنوب و المعاصي.

202 - قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا .

النصيب: الحظ المنصوب، أي المعنّى و قد ذكرت المادة في موارد من القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ [هود - 109]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [القصص - 77].

و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام - 158]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام - 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر - 45]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.

ص: 177

و مادة (كسب) تستعمل فيما يجلب به نفع أو يدفع به مضرّة و ما يناله الإنسان من عمله و تستعمل في الأعم من الصالحات و السيئات فمن الأولى قوله تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [الأنعام - 158]، و المقام، و من الثانية قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْسِبُونَ اَلْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ [الأنعام - 120]، و قوله تعالى: وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [فاطر - 45]، و يقال: فيما أخذه لنفسه أو لغيره، و لهذا قد يتعدى إلى مفعولين يقال: كسبت فلانا كذا.

و الاكتساب يختص بما أخذه لنفسه فكلّ اكتساب كسب و لا عكس، و يستفاد من قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) أنّ الكسب يستعمل في الأمور التكوينية إذا كان بعض مباديها اختياريا

قال (صلّى اللّه عليه و آله):

«أطيب ما يأكله الرجل من كسبه و إنّ ولده من كسبه».

و المعنى: إنّ أولئك الذين يطلبون حسنة الدّارين لهم ما يريدون و يعطون ما يدعون. و سمي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال.

و يستفاد من هذه الآية مع مقابلتها للآية السابقة أنّ أعمال الطائفة الأولى باطلة لا وزن لها عند اللّه تعالى، قال عز و جل: يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ [الأحقاف - 20]، و نظير هذه الآيات المباركة قوله تعالى:

مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى - 20].

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

السرعة خلاف البطء، و تستعمل في الأجسام و الأفعال و فعل اللّه تعالى، و ترجع في فعله عزّ و جلّ إلى قوله تعالى: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [النحل - 40]

و في السنة المقدّسة: «إنّ حساب جميع العباد عنده تعالى على قدر حلب شاة» و هذا من باب ضيق التعبير و إلا فهو أقلّ من ذلك فإنّ جميع الزمان و الدّهر و السّرمد عنده تعالى أقلّ من آن و لمحة البصر و إنّ جميع الممكنات - بجواهرها و أعراضها و روحانيّاتها و مجرّداتها - أقلّ من ذرة ملقاة في فلاة لا حدّ لها فهو أسرع الحاسبين مع هذه الإحاطة و الاقتدار و القهارية.

و سريع الحساب من أسماء اللّه الحسنى، و هو من صفات فعله لرجوعه إلى إرادته التي هي من صفات فعله تعالى أيضا، فيصح تصوير سريع

ص: 178

الحساب في مرتبتي القضاء و القدر أيضا لأنّهما من صفات الفعل أيضا، و إن رجعا إلى العلم و الحكمة فيكونان من صفات الذات لكون العلم و الحكمة من صفات الذات، و لا بأس بأن تكون بعض الصفات برزخا بينهما باعتبار منشأ انتزاعهما.

و الأولى جعله من صفات الذات لكونه من أجلى مظاهر علمه التام الكامل جلّ شأنه، و يدل عليه ما عن بعض الأعاظم من المحدّثين و الفلاسفة بل نسب إلى الرواية أيضا: «من أنّ كلّ صفة لا يصح إطلاق خلافها عليه تكون من صفات الذات و ما صح إطلاق خلافها عليه عزّ و جل في الجملة فهي من صفات الفعل» و عليه لا يصح إطلاق خلاف سريع الحساب عليه فهو صفة الذات.

و قد ذكر ذلك في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ [آل عمران - 19]، و المراد به جميع ما يتعلق بيوم القيامة من الجزاء و مقدماته و هو يرجع إلى قهاريته.

و إطلاقه يشمل سرعة مجازاة العباد على أعمالهم في الدنيا و العقبى فهو تعالى يسرع في الحساب و يجازي الصنفين من عباده و لا اختصاص لحسابه بخصوص جزاء أعمال عباده بطائفة دون أخرى أو بعالم دون آخر، بل شؤون جميع الممكنات حدوثا و بقاء داخلة تحت تربيته العظمى الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض و لا في السماء بل عمّت قهّاريّته من أول حدوث العالم إلى آخر ما يتصوّر من الخلود و هذا هو مقتضى الملازمة بين المبدأ و المعاد.

و إنّما عبّر عن الجزاء بالحساب لأنّ الجزاء كفاء العمل فهو حساب له.

و لعلّ ذكره في المقام لأجل دفع ما يتوهّم من عدم إمكان الإحاطة بحوائج كلّ واحد من أهل هذا المجمع الذي هو الحشر الأصغر كما في بعض الروايات فأزال سبحانه و تعالى هذا الوهم بقوله جلّ شأنه إنّه سَرِيعُ اَلْحِسابِ يحيط بهم و بأعمالهم و يجازيهم على إيمانهم.

ص: 179

و في الآية تحريض على الدّعاء و ترغيب إليه، و طلب الحوائج في المواطن الشريفة، و ترهيب عن المعاصي و أنّه تعالى يحاسب العباد في أسرع ما يمكن و يجازيهم على ما كسبوا، و في عالمنا هذا كلّما كانت أجهزة الضبط و الحساب أدقّ كانت النتائج أسرع كما نراه و قد ثبت ذلك في العلم الحديث هذا بالنسبة إلى عالم الماديات فكيف بما إذا كان الحساب و الجزاء بنفس الإرادة أي من إذا قال لشيء كُنْ فَيَكُونُ [يس - 82].

203 - قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ .

مادة (عدد) تأتي بمعنى ترتب الآحاد أو آحاد مركبة. و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في مواضع كثيرة يأتي التعرّض لها في محالّها.

و لفظ «معدودات» ورد في القرآن في موارد ثلاثة تقدم مورد منها في آية 184 البقرة و هذا هو الثاني. و يكنّى به عن القلّة - كما هو الشأن في الجمع بالألف و التاء غالبا - و هي في المقام أيام التشريق و هي اليوم الحادي عشر، و الثاني عشر، و الثالث عشر من ذي الحجة و تسمّى أيام النّحر أيضا و هو المستفاد من الآية الشريفة أيضا فإنّه تعالى بعد أن أمر بذكره جلّ شأنه في المشعر الحرام و أمر بذكره تعالى بعد تمام المناسك و أعمال الحج أمر بذكره جلّت عظمته بعد الفراغ من ذلك فيكون بعد العشرة الأولى من ذي الحجة في منى.

كما أنّ كونها ثلاثة يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ إذ التعجيل في يومين لا بد و أن يكون مع ثالث ينفر فيه و هي كانت معهودة في زمان الجاهلية. و على ذلك وردت روايات كثيرة من الفريقين.

و المراد بذكره تعالى: هو التكبير في أيام التشريق من بعد صلاة الظهر من النّحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و يأتي صورته و عدده في البحث الروائي، و الأمر محمول على الاستحباب لدلالة السنة عليه كما يأتي.

ص: 180

قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ .

العجلة: طلب الشيء و تحرّيه قبل أوانه، و هي مذمومة في عامة آيات القرآن الكريم، و لذا ورد: «إنّ العجلة من الشيطان و التأنّي من الرّحمن». نعم ورد مدحها في جملة من الموارد مذكورة في السنّة المقدّسة يأتي بيانها في محلّها إن شاء اللّه تعالى، و قوله عز و جل في شأن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ [القيامة - 16]، يمكن أن يكون من العجلة الممدوحة، و مع ذلك أدّبه اللّه تعالى بأدب نفسه ترغيبا إلى التّأنّي مهما أمكن و يأتي الفرق بين العجلة و المسارعة في قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ [آل عمران - 114].

و الإثم و الآثام: اسم للأفعال المبعدة عن الثّواب و الخير، و يطلق على العقوبة أيضا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و «لا» لنفي الجنس في الموضعين أي: لا إثم على الحاج و قد غفرت ذنوبه بما كان من حجته المبرورة.

و المعنى: فمن تعجّل النّفر من منى في يومين و هما يوم النفر و الذي بعده و من تأخر في النّفر إلى اليوم الثالث عشر لا إثم عليه في الحالتين لأنّه مغفور له سواء استعجل أو تأخر.

و الآية تبيّن أمرين:

الأول نفي الإثم مطلقا عن المتنسّك فإنّه قد غفرت ذنوبه.

و الثاني التخيير في النّفر فإنّ الاستعجال في النفر و التأخير سواء فهو مغفور له على أي حال، و ذلك لدفع توهّم أنّ في التعجيل إثما، فيكون الكلام من باب المزاوجة التي تعد من أنحاء الفصاحة و إلا فإنّ التأخير فضيلة. كما يقال: إن أعلنت الصدقة فحسن و إن أسررتها فحسن أيضا و إن كان الإسرار أحسن و أفضل و لذلك نظائر كثيرة في كلمات الفصحاء.

قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى .

ص: 181

أي: لمن اتصف بصفة التّقوى التي هي من أجلّ المقامات فيكون بالنسبة إليه كلّ واحد من النفر الأول و الثاني على حدّ سواء، و يشمل ذلك التجنب عن محرّمات الإحرام كالصيد و نحوه فمقام المتقين أوجب التوسعة و التخيير لهم في النفر فيكون قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى قيدا لتمام الجملة التي قبله، و يدل عليه بعض الأحاديث أيضا.

و قد يقال: إنّ المراد بقوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى الاجتناب عن المحرّمات في الإحرام و يكون على هذا قيدا لخصوص فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ يعني أنّ من اجتنب المحرّمات في إحرامه لا بأس عليه أن ينفر في النفر الأول، و يشهد عليه سياق الآيات الواردة في الحج بعد ملاحظة مجموعها كما تدل عليه جملة من الأحاديث.

و يمكن إرجاع هذا الوجه إلى الأول بعد القول بأنّ إطلاق التّقوى نص في المورد.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ .

أمر بالتّقوى بفعل الطّاعات و الاجتناب عن المعاصي، و الحث عليها و تذكير بالحشر و الحساب فإنّ أمر التّقوى لا يتمّ إلا مع ذكر الحشر و الحساب و الجزاء، فيكون ذلك داعيا إلى العمل و باعثا على ملازمة التّقوى قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ [ص - 26]، و قال جل شأنه: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19]، و إطلاق هذه الآية المباركة يشمل نسيان المبدأ و المعاد فأنساهم أنفسهم.

و في الآية ترغيب إلى ملازمة التّقوى في جميع الحالات و إرشاد إلى عدم الاتكال على الطّاعات التي صدرت منه و عدم الاغترار بما فعل من الحسنات.

و من تكرار الأمر بالتّقوى و الذّكر يستفاد أنّه لا بد من ملازمتهما و تمكين النّفس منهما و عدم الغفلة عنهما بحال. و أنّ قبول الأعمال إنّما يكون بهما.

ص: 182

بحوث المقام
بحث دلالي

تدلّ الآيات الكريمة على أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ يدل على ثبوت حج التمتع و أنّ قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ يدل على أنّه وظيفة الآفاقي دون الحاضر المقيم.

الثاني: أنّ الإتيان بضمير الجمع في قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ يدل على أنّ المناط رجوع الأصحاب إلى الأهل فلو أقام بمكة يقدر له زمان رجوع أصحابه إلى بلده، فيجوز له حينئذ أن يصوم السبعة.

الثالث: أنّ قوله تعالى: تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ يدلّ على أنّ هذه العشرة كاملة في النّسك تقوم مقام المبدل عنه في الحكم، و قد تقدّم بعض الكلام في هذا التعبير فراجع.

الرابع: أنّ في قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ كمال اللطف و العناية. و فيه إشارة إلى حكمة هذا التشريع فإنّ الإنسان في السفر يحتاج إلى الأهل ليخفف عنه ما قاساه من أهوال السّفر و أتعابه فيطمئنّ إليهم و يستريح عندهم و الإحلال من إحرام العمرة و التمتع بما

ص: 183

حرّمه اللّه عليه بسبب إحرامه و عدم احتياج الإهلال بالحج إلى الذّهاب إلى الميقات مرة أخرى، فيهلّ بالحج من المسجد الحرام أو غيره من أرض مكة كلّ ذلك مما يخفّف عنه ثقل ذلك عن النائي إذ لم يكن له أهل عند المسجد الحرام و لذا عبّر عنه بمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام.

الخامس: المنساق من قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أنّ الأيام في الثلاثة و في السبعة تكون متوالية.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّ أشهر الحج كانت معلومة عند العرب في الجاهلية و معروفة قبل الإسلام و قد قرّرت الشريعة المقدّسة ذلك و لم تغيّرها.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ أنّ للحج تحريما و تحليلا فمن شرع فيه يجب عليه إتمامه و التحلّل منه.

الثامن: إنّما ذكر سبحانه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ لأنه مع العلم يكون الإنسان أشد احترازا عن الوقوع فيما يوجب العقاب و العذاب، و لأنّ العالم لا يخالف أمر اللّه تعالى، لأنّ علمه يمنعه و يرجى مع العلم استصلاح الحال فيكون الإعلام بالعلم بشدة العقاب لطفا في التقوى للعالم به.

التاسع: من بلاغة القرآن أنّه تعالى صرّح في مقام الإضمار، فذكر الحج ثلاث مرات و المراد من الأول: زمان الحج، و الثاني: الحج نفسه، و الثالث: ما يعم زمانه و مكانه. و لأنّ اللّه تعالى أراد من ذكره بالخصوص لبيان أنّ عدمها ليس تكليفا محضا يختص بمن فرض فيهنّ الحج بل هو مطلوب للشارع بنفسه و أنّ الحج بطبعه ينافر ذلك فلو قال تعالى: وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ لأوهم أنّه تكليف لمن فرض فيه الحج كذلك، فيكون تكليفا خاصّا به لا من حيث طبيعة الحج.

العاشر: أنّ في قوله تعالى: وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ الاهتمام بنفي الجدال أشد من نفي الرّفث و الفسوق، لأنّ الجدال أهمّ و أعمّ، و لذلك اهتم الجليل به و ذكر الحج عقيبه.

ص: 184

الحادي عشر: أنّ في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ إشارة إلى تحقيق المساواة، و ترك التفاخر، و لزوم الجماعة، و للإعلام بأنّ الإفاضة شرع قديم و إرشاد إلى اختيار الإفاضة المشروعة المبنية على السكينة و الوقار دون غيرها.

الثاني عشر: يستفاد من تكرار الأمر بالذّكر خمس مرّات شدة عناية اللّه بخلقه، و ذلك بالحضّ و الترغيب بفعل الأصلح، و إرشادهم إلى القيام بما هو كثير الفائدة و الجزاء لهم فأمرهم بالذّكر في هذه المواطن الكريمة و الأزمنة الشريفة.

الثالث عشر: إنّما شبّه ذكره تبارك و تعالى بذكر الآباء، لأنّ أكثر الناس لا يغفلون عن ذكر الآباء و التفاخر بهم، بل لا يخلو اجتماع بين أفراد الإنسان من التفاخر بما يرونه من الكمال، و لم يكن جهة كمال في العصور الجاهلية إلا ذكر الآباء و الأنساب و التفاخر بها فأرشدهم سبحانه إلى الأحسن و الأصلح، و هو ذكره تعالى لما فيه من النفع العظيم و الأجر الجزيل. و الترديد إنّما هو بلحاظ اختلاف التّقوى و تفاوتها في مراتب الذّكر، فمنهم من يقنع بالذّكر كذكر الآباء، و منهم من يكون أشد.

الرابع عشر: أنّ في قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لطفا ظاهرا و إعلاما بأنّ اجتماع الحجيج في المواطن الشريفة و إفاضتهم منها إنّما هي حشر مصغر لا بد أن يتذكر منه الحشر الأكبر، و هو حشر الناس إلى اللّه تعالى.

ص: 185

بحث روائي
اشارة

في الكافي و التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قال: «هما مفروضان».

أقول: تمسك (عليه السلام) بظاهر الأمر الوارد في الآية المباركة بناء على أنّ وجوب الإتمام في هذا العمل يستلزم أصل الوجوب. و الوجوب بالنسبة إلى حجة الإسلام من ضروريات الدّين، و يدل عليه قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران - 97]، و أما بالنسبة إلى العمرة فإنّ العمرة التمتعية واجبة و يكفي في صدق الفرض ذات الطبيعة و لو في الجملة.

و في العلل عن الصادق (عليه السلام): «العمرة واجبة على الخلق بمنزلة الحج على من استطاع، لأنّ اللّه يقول: و أتمّوا الحج و العمرة للّه. قيل:

فمن تمتع بالعمرة إلى الحج أ يجزي ذلك عنه؟ قال (عليه السلام): نعم».

أقول: تقدم بيانه و لا وجه للإعادة مرّة أخرى.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام): «العمرة واجبة بمنزلة الحج لأنّ اللّه يقول: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ هي واجبة مثل الحج، و من تمتّع أجزأته، و العمرة في أشهر الحج متعة».

أقول: صدر الرواية مرّ بيانه. و أما ذيلها فلأنّ الإحلال بعد الإحرام متعة

ص: 186

يتمتع بها المحلّ بما حرّم عليه بالإحرام.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قالا: «فإنّ تمام الحج أن لا يرفث، و لا يفسق، و لا يجادل».

أقول: هذا بيان لأهم تروك الإحرام، و أنّ ذلك من باب ذكر بعض أفراد التروك لا الحصر، و قريب منه ما في الكافي و الخصال و العيون.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ قال (عليه السلام): «يعني بتمامهما أداؤهما و اتقاء ما يتقي المحرم فيهما».

في الكافي أيضا عنه (عليه السلام) قال: «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه، و ذكر اللّه كثيرا و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ .

أقول: هذا يبيّن ما قلناه في معنى الإتمام.

و في المجمع عن أمير المؤمنين و السجاد (عليهما السلام): «يعني أقيموهما إلى آخر ما فيهما».

أقول: هذه الرواية تبيّن ما سبق من الروايات، و تقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي و التهذيب عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «المحصور غير المصدود، و قال (عليه السلام): المحصور هو المريض، و المصدود هو الذي يرده المشركون، كما ردوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنّه ليس من مرض، و المصدود يحلّ له النساء و المحصور لا يحل له النساء».

أقول: نسب ذلك إلى المشهور بين الفقهاء أيضا.

ص: 187

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ قال: «يجزيه شاة و البدنة، و البقرة أفضل».

أقول: يكون المراد بالاستيسار الاستيسار بالنسبة إلى النّوع.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ قال (عليه السلام): «يعني شاة وضع على أدنى القوم قوة ليسع القويّ و الضعيف».

أقول: هذا بيان لبعض حكم التشريع.

في التهذيب عنه (عليه السلام): «في رجل أحصر في الحج قال (عليه السلام): فليبعث بهديه إذا كان مع أصحابه و محلّه أن يبلغ الهدي محلّه و محلّه منى يوم النحر إذا كان في الحج، و إن كان في عمرة نحر بمكة، و إنّما عليه أن يعدهم لذلك يوما فإذا كان ذلك اليوم فقد وفى، و إن اختلفوا في الميعاد لم يضرّه إن شاء اللّه تعالى».

أقول: المسألة مذكورة في الفقه و من شاء فليراجع كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أحصر الرجل بعث بهديه فإن أذاه رأسه قبل أن ينحر هديه فإنّه يذبح شاة في المكان الذي أحصر فيه، أو يصوم، أو يتصدّق، و الصّوم ثلاثة أيام، و الصّدقة على ستة مساكين نصف صاع لكلّ مسكين».

أقول: يصير مدّين أي: كيلو و نصف تقريبا من الطعام أو من كلّ ما يؤكل.

في التهذيب و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «مرّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على كعب بن عجرة و القمل يتناثر من رأسه، و هو محرم فقال (صلّى اللّه عليه و آله) له: أ يؤذيك هوامك؟ فقال: نعم، فأنزلت الآية: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فأمره رسول اللّه

ص: 188

(صلّى اللّه عليه و آله) أن يحلق رأسه، و جعل الصيام ثلاثة أيام و الصدقة على ستة مساكين، مدّين لكلّ مسكين. و النسك: شاة. قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) و كلّ شيء في القرآن أَوْ فصاحبه بالخيار يختار ما شاء، و كلّ شيء في القرآن فَمَنْ لَمْ يَجِدْ كذا، فعليه كذا. فالأول بالخيار.

أقول: قوله (عليه السلام) مطابق للمحاورات العرفية، كما ذكرنا في علم الأصول.

و في صحيح مسلم عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: «كعب بن عجرة فيّ أنزلت هذه الآية قال أتيته (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: أدنه فدنوت مرّتين أو ثلاثا. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أ يؤذيك هوامك؟ - قال ابن عود و أظنه - قال نعم، فأمرني بفدية من صيام أو صدقة أو نسك ما تيسّر».

أقول: المراد بالتيسر أي كلّ ما أمكن.

أحاديث حج التمتع:

في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حين حج حجة الإسلام خرج في أربع بقين من ذي القعدة حتّى أتى الشجرة فصلّى بها، ثم قاد راحلته حتّى أتى البيداء فأحرم منها و أهلّ بالحج و ساق مائة بدنة و أحرم الناس كلّهم بالحج لا ينوون عمرة و لا يدرون ما المتعة، حتى إذا قدم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مكة طاف بالبيت و طاف الناس معه ثم صلّى ركعتين عند المقام و استلم الحجر، ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): أبدأ بما بدأ اللّه عز و جلّ به.

فأتى الصفا فبدأ بها، ثم طاف بين الصفا و المروة سبعا فلما قضى طوافه عند المروة قام خطيبا و أمرهم أن يحلّوا و يجعلوها عمرة و هو شيء أمر اللّه عزّ و جلّ به فأحلّ الناس و قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لو كنت استقبلت من أمري ما استدبرت لفعلت كما أمرتكم، و لم يكن يستطيع أن يحلّ من أجل الهدي الذي كان معه إنّ اللّه عز و جل يقول: لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ .

ص: 189

فقال سراقة بن جشعم الكناني: يا رسول اللّه علّمنا ديننا كأنّا خلقنا اليوم. أ رأيت هذا الذي أمرتنا به لعامنا أو لكلّ عام؟ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا بل للأبد، و إنّ رجلا قام فقال: يا رسول اللّه نخرج حجاجا و رؤوسنا تقطر!! فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّك لن تؤمن بهذا أبدا قال (صلّى اللّه عليه و آله): و أقبل عليّ (عليه السلام) من اليمن حتى وافى الحج فوجد فاطمة قد أحلّت، و وجد ريح الطيب فانطلق إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) مستفتيا، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يا علي بأيّ شيء أهللت؟ فقال (عليه السلام) أهللت بما أهلّ به النبيّ. فقال (صلّى اللّه عليه و آله): لا تحلّ أنت فأشركه في الهدي و جعل له سبعا و ثلاثين، و نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ثلاثا و ستين فنحرها بيده. ثم أخذ من كلّ بدنة بضعة فجعلها في قدر واحد، ثم أمر به فطبخ فأكل منه و حسا من المرق، و قال (صلّى اللّه عليه و آله): قد أكلنا منها الآن جميعا، و المتعة خير من القارن السائق، و خير من الحاج المفرد. قال: و سألته (عليه السلام) أ ليلا أحرم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أم نهارا؟ فقال (عليه السلام): نهارا فقلت: أي ساعة؟ قال (عليه السلام): صلاة الظهر».

أقول: روي قريب من هذا المعنى في عدة روايات.

و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام) قال: «دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة، لأنّ اللّه يقول: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ فليس لأحد إلا أن يتمتع، لأنّ اللّه أنزل ذلك في كتابه، و جرت به السنة من رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

أقول: تقدّم ما يدل في الروايات السابقة.

و في الدر المنثور عن البخاري و مسلم عن ابن عمر قال: «تمتع رسول اللّه في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج و أهدى، فساق معه الهدي من ذي الحليفة، و بدأ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأهلّ بالعمرة، ثم أهلّ بالحج فتمتع الناس مع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بالعمرة إلى الحج فكان من الناس من أهدى فساق الهدي، و منهم من لم يهد، فلما قدم النبيّ (صلّى اللّه عليه

ص: 190

و آله) مكة قال للناس: من كان منكم أهدى فليطف بالبيت، و بالصّفا و المروة، و ليقصّر و ليحلّ، ثم ليهلّ بالحج فمن لم يجد هديا فليصم ثلاثة أيام في الحج و سبعة إذا رجع إلى أهله».

أقول: قد كثرت الرّوايات في ذلك عن العامة بعدة طرق.

و في صحيح البخاري و مسلم و النسائي عن أبي موسى قال: «قدمت على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو بالبطحاء - فقال (صلّى اللّه عليه و آله) أهللت؟ قلت: أهللت بإهلال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال (صلّى اللّه عليه و آله) هل سقت من هدي؟ قلت: لا. قال (صلّى اللّه عليه و آله):

طف بالبيت و بالصفا و المروة، ثم حلّ، فطفت بالبيت و بالصفا و المروة، ثم أتيت امرأة من قومي فمشطتني رأسي و غسلت رأسي، فكنت أفتي الناس في إمارة أبي بكر و إمارة عمر، فإنّي لقائم بالموسم، إذ جاءني رجل، فقال: إنّك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في شأن النسك. فقلت: أيّها الناس من كنا أفتيناه بشيء فليبتد، فهذا أمير المؤمنين قادم عليكم فيه فأتموا فلما قدم، قلت: ماذا الذي أحدثت في شأن النسك؟ قال: أن نأخذ بكتاب اللّه فإنّ اللّه قال: وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ و أن نأخذ بسنّة نبيّنا (صلّى اللّه عليه و آله) لم يحل حتى نحر الهدي».

و في مسند أحمد عن أبي موسى أنّ عمر قال: «هي سنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) - يعني المتعة - و لكن أخشى أن يعرّسوا بهنّ تحت الأراك ثم يروحوا بهنّ حجاجا.

و في صحيح الترمذي و زاد المعاد: «سئل عبد اللّه بن عمر عن متعة الحج قال: هي حلال، فقال له السائل: إنّ أباك قد نهى عنها، فقال: أ رأيت إن كان أبي نهى و صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أ أمر أبي تتبع، أم أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)؟!! فقال الرجل: بل أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: لقد صنعها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في سنن البيهقي عن مسلم عن أبي نضرة عن جابر قال: «قلت: إنّ

ص: 191

ابن الزبير ينهى عن المتعة و ابن عباس يأمر بها قال: على يدي جرى الحديث تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و مع أبي بكر، فلما ولي عمر خطب الناس، فقال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هذا الرسول، و القرآن، هذا القرآن و إنّهما كانتا متعتين على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، إحداهما متعة النساء، و لا أقدر على رجل تزوج امرأة إلى أجل الا غيبته بالحجارة، و الأخرى متعة الحج».

أقول: الروايات في مضامين هذه الأخبار كثيرة مروية في صحاحهم تدلّ جميعها على تشريع المتعتين عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و عمل الصحابة بهما، فإن كان نهي الخليفة في مقابل النبي الأعظم و ردا له (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّ أحدا من المسلمين لا يرتضي بذلك، و لذا اعترض بعض الصحابة في عصره عليه، و إن كان لأجل مصلحة الوقت التي رآها الخليفة باجتهاده فهو إنّما ينفع للوقت الخاص و للأشخاص المخصوصين كما أثبتوا ذلك في أصولهم و لا ينفع ذلك للحكم الأبدي.

مع أنّ الاستدلال عليه بأنّه يوجب التمتع بالنساء و الرّواح تحت الأراك و التعريس بهنّ فهو مجمل لا يمكن أن يكون سببا للتحريم بعد حلية النبي الأعظم له، و اجتهاد في مقابل النص الذي اتفق المسلمون على بطلانه.

مع أنّه يجري في من حج التمتع ابتداء الذي اتفق جميع الفقهاء على صحته، فيكون هذا القول مخالفا للنص و إجماع الفقهاء.

و في الدر المنثور أخرج مسلم عن عبد اللّه بن شفيق قال: «كان عثمان ينهى عن المتعة و كان عليّ يأمر بها، فقال: عثمان لعليّ كلمة. فقال عليّ (عليه السلام): لقد علمت أنّا تمتعنا مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أجل و لكنّا كنّا خائفين».

أقول: هذا أحد الإشكالات التي أوردوها على حج التمتع.

و فيه مضافا إلى قصور السند قصور الدلالة فإنّه كيف يمكن أن يكونوا خائفين مع كونهم مع النبي الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و في منعة و قوة

ص: 192

عظيمة إذ أنّ تشريع حج التمتع إنّما كان في حجة الوداع و المسلمون في منعة و شوكة.

و إن أراد بذلك قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فهو مردود لأنّ الآية تبيّن كليّ الحكم لا أنّ أصحاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) في خوف في حجة الوداع، أو أنّه شرط في هذا الحكم.

و في الدر المنثور أخرج مسلم عن أبي ذر قال: «لا تصلح المتعتان إلا لنا خاصة يعني: متعة النساء و متعة الحج».

أقول: هذا هو الإشكال الثاني.

و فيه أيضا أخرج ابن أبي شيبة و مسلم عن أبي ذر: «كانت المتعة في الحج لأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) خاصة».

أقول: هذا مخالف للروايات الصحيحة الدالة على أنّهما مشروعان إلى الأبد، و لعلّ مراده «لنا خاصة» أي لمن يعلم خصوصيات الموردين فيعمّ كلّ مسلم عالم بالحكم و شرائطه.

و يأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بحج التمتع أيضا.

في الكافي و التهذيب في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ عن الصادق (عليه السلام): «شاة».

أقول: إنّه محمول على أقلّ ما يجزي بقرينة التفصيل التي تقدّمت في الروايات السابقة.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) أيضا: «في المتمتع لا يجد الهدي؟ قال: يصوم قبل يوم التروية بيوم، و يوم التروية، و يوم عرفة. قلت:

فإنّه قدم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق قلت:

لم يقم عليه جماله؟ قال (عليه السلام) يصوم الحصبة و بعده يومين قلت و ما الحصبة؟ قال (عليه السلام): يوم نفره، قلت: يصوم و هو مسافر؟ قال (عليه السلام): نعم، أ ليس هو يوم عرفة مسافر إنا أهل بيت نقول ذلك لقول اللّه عز

ص: 193

و جل فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ نقول في ذي الحجة».

أقول: هذا تخصيص لما دلّ على عدم جواز الصوم للمسافر.

و في التهذيب عن عبد الرحمن بن الحجاج قال: «كنت قائما أصلّي و أبو الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) قاعد قدامي، و أنا لا أعلم به فجاءه عباد البصري فسلّم عليه و جلس فقال له: يا أبا الحسن ما تقول في رجل تمتع و لم يكن له هدي؟ قال (عليه السلام): يصوم الأيام التي قال اللّه.

قال: فجعلت اصغي إليهما، فقال له عباد: و أيّ أيام هي؟ قال (عليه السلام): قبل التروية، و يوم التروية، و يوم عرفة، قال: فإن فاته ذلك؟ قال (عليه السلام): يصوم صبيحة الحصبة و يومين بعده. قال: أ فلا تقول كما قال عبد اللّه بن الحسن؟ قال (عليه السلام): و أيّ شيء قال؟ قال: يصوم أيام التشريق. قال (عليه السلام): إنّ جعفرا (عليه السلام) كان يقول: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أمر بلالا ينادي أنّ هذه أيام أكل و شرب فلا يصومنّ أحد. فقال: يا أبا الحسن إنّ اللّه قال: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ . قال (عليه السلام): كان جعفر (عليه السلام) يقول: ذو الحجة كلّه من أشهر الحج».

أقول: في سياقه وردت روايات كثيرة من الخاصة و العامة.

في الكافي عنهم (عليهم السلام) في قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ : «إن بدا له الإقامة بمكة نظر مقدم أهل بلاده فإذا ظنّ أنّهم قد دخلوا فليصم السبعة».

أقول: استفاد (عليه السلام) ذلك من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ و قد مرّ في التفسير فراجع.

و في تفسير العياشي عن موسى بن جعفر (عليه السلام): «سألته عن صوم ثلاثة أيام في الحج و السبعة أ يصومها متوالية أم يفرّق بينها؟ قال (عليه السلام): يصوم الثلاثة و السبعة لا يفرّق بينها، و لا يجمع الثلاثة و السبعة جميعا».

ص: 194

أقول: يستفاد ذلك من ظاهر الآية المباركة.

و في التهذيب في قوله تعالى: فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ قال الصادق (عليه السلام): «كمالها كمال الاضحية سواء أتيت بها أو أتيت بالأضحية تمامها كمال الأضحية».

أقول: تقدم أنّه يستفاد من الآية ذلك.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ قال: «من كان منزله على ثمانية عشر ميلا من بين يديها، و ثمانية عشر ميلا من خلفها، و ثمانية عشر ميلا عن يمينها، و ثمانية عشر ميلا عن يسارها فلا متعة له مثل (مر) و أشباهها».

أقول: الروايات في التحديد مختلفة تجمعها هذه الرواية و أمثالها.

و مر: موضع بقرب مكة من جهة الشام على قدر مرحلة.

و في التهذيب عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تعالى قال:

«يعني أهل مكة ليس عليهم متعة كلّ من كان أهله دون ثمانية و أربعين مثلا ذات عرق، و عسفان يدور حول مكة فهو ممن دخل في هذه الآية: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ و كلّ من كان أهله وراء ذلك فعليهم المتعة».

و في التهذيب أيضا عن الصادق (عليه السلام): «ما دون المواقيت إلى مكة فهو حاضري المسجد الحرام و ليس لهم متعة».

أقول: لا بد و أن تحمل هذه الرواية على ما مرّ بعد رد بعضها إلى بعض.

و في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ قال: «شوال، و ذو القعدة، و ذو الحجة ليس لأحد أن يحج فيما سواهن».

أقول: قد ورد في ذلك عدة روايات و في بعضها

«و من أحرم بالحج في

ص: 195

غير أشهر الحج فلا حج له».

و في الكافي و تفسير العياشي في قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ قال الصادق (عليه السلام): «و الفرض التلبية و الإشعار و التقليد فأيّ ذلك فعل فقد فرض فيهنّ الحج».

و في الكافي في قوله تعالى: فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ قال الصادق (عليه السلام): «إذا أحرمت فعليك بتقوى اللّه و ذكر اللّه كثيرا، و قلّة الكلام إلا بخير، فإنّ من تمام الحج و العمرة أن يحفظ المرء لسانه إلا من خير، كما قال اللّه عز و جل: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي اَلْحَجِّ و الرّفث: الجماع، و الفسوق: الكذب و السباب، و الجدال: قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه - الحديث -».

أقول: يأتي ما يتعلق بهذه الرواية في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ قال الصادق (عليه السلام): «يعني الرّزق فإذا أحلّ الرجل من إحرامه، و قضى نسكه فليشتر و ليبع في الموسم».

أقول: تدلّ عليه العمومات و الإطلاقات و أنّ الآية المباركة نزلت لرفع توهم الحظر كما يدل عليه الحديث الآتي.

و روى في المجمع عن جابر عن الباقر (عليه السلام): «ليس عليكم جناح أن تطلبوا المغفرة من ربكم».

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و ما تقدّم من الروايات لأنّ الرزق أعم من المعنوي و الظاهري.

و في الدر المنثور: «كان ذو المجاز و عكاظ متجرا للناس في الجاهلية فلما جاء الإسلام كأنّهم كرهوا ذلك حتى نزلت هذه الآية».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في حج النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ثم غدا و الناس معه - إلى أن قال - و كانت قريش تفيض من المزدلفة

ص: 196

- و هي جمع - و يمنعون الناس أن يفيضوا فأنزل اللّه عزّ و جل عليه ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ وَ اِسْتَغْفِرُوا اَللّهَ يعني إبراهيم، و إسماعيل، و إسحاق في إفاضتهم منها و من كان بعدهم».

أقول: يستفاد من الحديث أنّ المراد بالناس خصوص من كان ملتفتا إلى أحكام الإفاضة، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ قال: «يعني إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و من بعدهم من أفاض من عرفات».

و في رواية عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّ قريشا كانت تفيض من جمع، و مضر، و ربيعة من عرفات».

أقول: إنّ الآية المباركة نزلت في رفع هذه العادة السيئة.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «كانت قريش و حلفاؤهم من الحمس لا يقفون مع الناس بعرفات، و لا يفيضون منها، و يقولون: نحن أهل حرم اللّه تعالى فلا نخرج من الحرم، فيقفون بالمشعر و يفيضون منه فأمرهم اللّه تعالى أن يقفوا بعرفات و يفيضوا منه».

أقول: قد روي قريب منه في الدر المنثور، و تقدم الكلام عن الحمس في البحث الروائي من آية 189.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: رَبَّنا آتِنا فِي اَلدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي اَلْآخِرَةِ حَسَنَةً قال: «رضوان اللّه و الجنة في الآخرة، و المعاش، و حسن الخلق في الدنيا».

و في رواية أخرى عنه (عليه السلام) أيضا: «رضوان اللّه و التوسعة في المعيشة، و حسن الصحبة، و في الآخرة الجنة».

و عن عليّ (عليه السلام): «في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار المرأة السوء».

ص: 197

أقول: لا منافاة بينها لأنّ ذلك من بيان بعض المصاديق.

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ قال: «إنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة».

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله اللّه عز و جل:

وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «قال عليّ (عليه السلام): التكبير في أيام التشريق في دبر الصلوات».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ قال: «التكبير في أيام التشريق من صلاة الظهر من يوم النحر إلى صلاة الفجر من اليوم الثالث، و في الأمصار يكبّر عقيب عشر صلوات».

أقول: يأتي ما يتعلّق بذلك في البحث الفقهي.

في الفقيه في قوله تعالى: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ليس هو على أنّ ذلك واسع إن شاء صنع ذا، لكنّه يرجع مغفورا له لا ذنب له».

أقول: قريب منه في تفسير العياشي و المراد منه أنّه ليس على التخيير مطلقا.

و في الفقيه أيضا في قوله تعالى: لِمَنِ اِتَّقى قال الصادق (عليه السلام): «يتقي الصيد حتى ينفر أهل منى».

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى منهم الصيد، و اتقى الرّفث، و الفسوق، و الجدال، و ما حرّم اللّه عليه في إحرامه».

و عن الصادق (عليه السلام): «لمن اتقى الكبائر».

و عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لمن اتقى اللّه عزّ و جل».

أقول: كلّ ذلك صحيح و لكنّ الظاهر المنساق من الآية اتقاء ما حرّم في الإحرام.

ص: 198

بحث فقهي

تضمنت الآيات الشريفة كثيرا من أحكام الحج و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و قد ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهية. و نحن نذكر المهمّ المستفاد من هذه الآيات في المقام و هي:

الأول: دلّت الآية الشريفة وَ أَتِمُّوا اَلْحَجَّ وَ اَلْعُمْرَةَ لِلّهِ . على أنّ الحج و العمرة من العبادات المتوقفة على قصد القربة، كما تدلّ على وجوب إتيانهما تامّين جامعين للأجزاء و الشرائط، و على وجوب إتمامهما بعد الشروع فلا يجوز الإحلال إلا بعد تمام أفعال الحج و العمرة، فمن أفسد حجه أو عمرته لجهة من الجهات لا يبطلان و يجب عليه المضي فيه و الإتمام ثم الإحلال، و حينئذ فإن كان فيه القضاء وجب و إلا فلا. و تفصيل ذلك يطلب من الفقه.

كما تدل على وجوب العمرة و أنّها بمنزلة الحج، و تدلّ عليه روايات كثيرة مروية من الفريقين ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

و الآية المباركة لا تدل على أنّ الحج و العمرة واجبان فلا بد من إثبات الوجوب لهما من دليل آخر:

أما الحج: فقد دلّت الآية الشريفة وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران - 97] و النصوص المتواترة بين الفريقين بل الضرورة الدّينيّة على وجوب حجة الإسلام مع استجماع الشرائط.

ص: 199

و أما العمرة: فقد دلّت على وجوبها السنة كما ذكرناها في الفقه، و تكفي عمرة التمتع عن العمرة الواجبة و يكون كلّ منهما مندوبا بالذات و يجبان بالعارض من نذر و نحوه.

الثاني: أنّ قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ يدل على أنّ مطلق المنع من إتمام الحج و الوصول إلى بيت اللّه الحرام لأداء المناسك سواء كان السّبب عدوّا أم مرضا أم غير ذلك يوجب تبدل الحكم بالنسبة إلى المحصور مطلقا و أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ لا تكون قرينة على أنّ المراد هو الحصر من العدوّ بل هو عام يشمل الأمن من رفع المانع، و لكن تكرّر في الروايات أنّ المحصور غير المصدود فالأول هو المريض و الثاني هو الذي يرده المشركون كما صدوا النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) عن الحج عام الحديبية.

و الظاهر: أنّ الحصر متعلّق بالحج و العمرة كليهما فلا اختصاص له بالأول فقط لأنّه ذكر عقيبهما فيرجع إليهما معا.

الثالث: يدل قوله تعالى: حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ أنّ للهدي محلاّ معيّنا لا يجوز ذبحه في غيره، و لكنّه تعالى أجمل ذلك و قد حدّدته السنة المقدّسة بمكة المكرمة أو منى، و نظيره قوله تعالى: هُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ اَلْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ [الفتح - 25].

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّه لا يجوز الحلق و التحلّل من الإحرام حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ سواء ذبح أم لا و يدلّ عليه

صحيحة معاوية بن عمار عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن رجل أحصر فبعث الهدي قال: يواعد أصحابه ميعادا إن كان في الحج فمحلّ الهدي يوم النّحر فإذا كان يوم النحر فليقص من رأسه و لا يجب عليه الحلق حتى تنقضي مناسكه و إن كان في عمرة فلينتظر مقدار دخول أصحابه مكة و الساعة التي يعدهم فيها، فإذا كان تلك الساعة قصّر و أحلّ» و عليه فلو ظهر خلاف المواعدة و أنّ أصحابه لم يكونوا قد ذبحوا عنه أصلا أو ذبحوه بعد تحلّله فإنّه لا شيء عليه، و يدلّ على ذلك

صحيحة معاوية بن عمار أيضا عن الصادق (عليه السلام): «فإن

ص: 200

ردوا الدّراهم عليه و لم يجدوا هديا ينحرونه و قد أحلّ لم يكن عليه شيء و لكن يبعث من قابل و يمسك أيضا» أي يمسك عن النساء إذا بعث هذا في المحصور.

و أما المصدود: فإنّه يذبح في مكانه حلا كان أو حرما و قد نطقت بذلك جملة من الرّوايات، و قد نحر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) هديه بعد أن صدّه المشركون في الحديبية و أحلّ من الإحرام و التفصيل يطلب من كتاب الحج من الفقه.

الرابع: أنّ قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ يدل على تشريع حج التمتع الذي هو أحد الأقسام الثلاثة في الحج و القسمان الآخران هما حج الإفراد، و حج القران. و الفرق بين الأول و الأخيرين هو:

1 - أنّ الأول وظيفة من لم يكن مقيما و حاضرا عند المسجد الحرام و يدل عليه قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ [البقرة - 196]، و هو الآفاقي الذي يبعد عن المسجد الحرام بما يعادل 88 كيلومترا كما حدّدته السنة الشريفة.

2 - أنّ الأول مركب من عملين: هما العمرة و الحج، و لا يقع الثاني بدون الأول، و أما الأخيران فلا يكونان كذلك بل هما عمل واحد و هو الحج إلا أنّ حج القران يساق فيه الهدي مع عقد الإحرام بخلاف حج الإفراد.

3 - أنّ وجوب الهدي يختص بالتمتع بخلاف القسمين الأخيرين و هناك فروق أخرى مذكورة في كتب الفقه.

و لا خلاف و لا إشكال في أصل تشريع حج التمتع بإجماع الأمة و أئمة الحق (عليهم السلام) و النصوص المتواترة بين الفريقين، و هو أفضل أنواع الحج مطلقا لنصوص معتبرة كثيرة منها:

ما ورد عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «لو حججت ألفا و ألفا لتمتّعت» و هو يتحقق على نحوين:

الأول: أن يحرم أولا بعمرة التمتع ثم بعد قضاء مناسكها و الانتهاء منها يحلّ و يحرم بالحج، و هذا مما لا نزاع في مشروعيته من أحد من المسلمين

ص: 201

و لا تختص مشروعيته بأصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و يدلّ عليه قوله تعالى: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ و النصوص المتواترة بين الفريقين منها

ما عن أهل البيت (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة»،

و روي عن جابر أنّ سراقة بن مالك قال: «يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به - يعني الإحلال بعد العمرة إلى الحج - لعامنا هذا أم إلى الأبد فقال (صلّى اللّه عليه و آله): بل إلى الأبد إلى يوم القيامة» و رواهما الجمهور في مجامعهم.

و أخرج البخاري و أحمد و النّسائي و غيرهم عن عليّ (عليه السلام) قال:

«إنّ المتعة سنّة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلا يدعها لقول أحد من الناس»، و ادعى الإجماع على ذلك.

و لهذا القسم شروط مذكورة في كتب الفقه.

الثاني: أن يحرم بالحج حتّى إذا دخل مكة محرما بحج الإفراد يعدل عن حجه إلى عمرة التمتع و يتم حج التمتع، و قد وقع النزاع بين الفقهاء فيه.

أما عند الخاصة: فالمشهور جوازه حتى في فرض العين، و منهم من منعه في فرض العين و جوّزه في الندب و الفرض غير المتعين.

و أما عند العامة: فمنعه جمهورهم و هو الذي توعّد عليه الخليفة الثاني فقال: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أما أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما: متعة النساء و متعة الحج». و قد وردت في صحته و مشروعيته الأخبار الكثيرة عن الفريقين:

ففي الصحيح عن معاوية بن عمار عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام): «لما فرغ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من سعيه بين الصفا و المروة أتاه جبرئيل عند فراغه من السعي فقال: إنّ اللّه يأمرك أن تأمر الناس أن يحلّوا إلا من ساق الهدي. فأقبل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) على الناس بوجهه فقال: «أيّها الناس هذا جبرئيل، - و أشار بيده إلى خلفه - يأمرني عن اللّه عزّ و جل أن آمر الناس بأن يحلّوا إلا من ساق الهدي» فأمرهم بما

ص: 202

أمرهم اللّه تعالى.

فقام إليه رجل فقال: يا رسول اللّه نخرج من منى و رؤوسنا تقطر من النساء؟! و قال آخرون: يأمرنا بشيء و يصنع هو غيره.

فقال: «أيّها الناس لو استقبلت من أمري ما استدبرت لصنعت كما صنع الناس، و لكن سقت الهدي فلا يحلّ من ساق الهدي حتّى يبلغ الهدي محلّه». فقصّر الناس و أحلّوا و جعلوها عمرة.

و قام إليه سراقة بن مالك المدلجي فقال: يا رسول اللّه هذا الذي أمرتنا به لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «بل للأبد إلى يوم القيامة - و شبك بين أصابعه -» و أنزل اللّه بذلك قرآنا: فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى اَلْحَجِّ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ .

و قريب منه: ما رواه مسلم، و أبو داود، و النسائي، و ابن ماجة في جوامعهم و أحمد في مسنده و غيرهم عن الصادق و عن الباقر عن جابر و قد ذكرت في مجامعهم روايات كثيرة بمضامين مختلفة.

قال القرطبي: «قد تواردت الآثار عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فيه - أي في مشروعية هذا القسم - أنّه أمر أصحابه في حجة من لم يكن معه هدي و لم يسقه و قد كان أحرم بالحج أن يجعلها عمرة، و قد أجمع العلماء على تصحيح الآثار بذلك عنه (صلّى اللّه عليه و آله) و لم يدفعوا شيئا منها إلا أنّهم اختلفوا في القول بها و العمل لعلل» ثم ذكر بعض تلك العلل و هي موهونة لمن تدبر فيها و لذلك لم يعمل بها كثير من علمائهم.

و أما قول الخليفة فهو مردود من جهات و قد ذكرت في الكتب الكلامية، و سيأتي في الموضع المناسب في هذا التفسير إثبات أنّ أحدا لا يقدر أن يدفع حكما إلهيّا نطق به القرآن الكريم أو جاء به الرّسول الأمين (صلّى اللّه عليه و آله).

الخامس: إطلاق قوله تعالى: فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ يقتضي إجزاء

ص: 203

ما صدق عليه الهدي من النّعم الثلاثة إلا أنّ الفقهاء قيّدوه و اشترطوا في الهدي شروطا كثيرة لأدلة خاصة و هي مذكورة في كتب الفقه فراجع.

كما أنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه لا بد و أن يكون الهدي كاملا و عن واحد فلا يجزي بعض الهدي.

السادس: ظاهر قوله تعالى: ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ إجزاء الصيام في تمام ذي الحجة و أفضله السابع و الثامن و التاسع كما في روايات كثيرة منها ما

في صحيح رفاعة عن الصادق (عليه السلام) «عن المتمتع لا يجد الهدي قال: يصوم قبل التروية بيوم و يوم التروية و يوم عرفة، قلت: فإن قدّم يوم التروية قال (عليه السلام): يصوم ثلاثة أيام بعد التشريق - الحديث -».

و لا يجوز له صوم أيام التشريق إذا فاته ذلك و تدل عليه روايات كثيرة و إجماع الإمامية منها ما في

صحيح ابن سنان: «أنّ الصادق (عليه السلام) استشهد بأنّ بديل بن ورقاء أمره رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) بأن ينادي بمنى في الناس: أن لا يصوموا» و غيره من الأخبار المروية عن الفريقين.

السابع: الانتقال إلى الصّوم هو في زمان تعذر ثمن الهدي في محلّ وجوبه على تفصيل مذكور في كتاب الحج من (مهذب الأحكام).

الثامن: الظاهر من قوله تعالى: وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ أن يكون الرجوع إلى الأهل كما تدل عليه الرّوايات و لكنّ الرّجوع على قسمين حقيقي و هو أن يرجع بنفسه إلى الأهل أو حكمي فيما إذا رجع أصحابه و أقام بمكة فإنّ عليه الانتظار مدّة وصول أصحابه إلى الأهل و ذكرنا أنّ ذلك ربما يستفاد من قوله تعالى: إِذا رَجَعْتُمْ .

التاسع: ذكرنا أنّ ظاهر قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أنّ الحضور مقابل النائي و هو من لم يكن من أهل مكة و قراها، و هو مطلق و لكنّ السنّة حدّدت الحضور و قيدته بما إذا كان بينه و بين مكة ما يساوي ثمانية و ثمانون كيلومترا، لأدلة خاصة ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام) قسم الحج منه.

ص: 204

العاشر: ظاهر قوله تعالى: اَلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ أنّها أشهر معلومة عند العرب و قد أقرّها الإسلام. و يستفاد منه أنّ ذا الحجة من أشهر الحج يصح إيقاع بعض الأعمال التي يعتبر أن تكون في الحج فيه كما في ثلاثة أيام الصّوم و يدل عليه صحيح عبد الرحمن بن الحجاج.

كما يستفاد منه أنّه لا يجوز الإحرام بالحج في غير الأشهر الثلاثة كما لا يصح إحرام عمرة التمتع في غيرها لأنّها داخلة في الحج كما عرفت.

الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ اَلْحَجَّ أنّه يجوز إيقاع إحرام الحج في أيّ وقت من هذه الأشهر الثلاثة إذ أنّ فرض الحج يتحقق بالإحرام فيهنّ. كما أنّ ظاهر قوله تعالى: فَمَنْ فَرَضَ أنّه يجب إتمامه لأنّه جعله فرضا على نفسه.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ وجوب الوقوف فيها و أنّ له وقتا محدودا يجتمع الناس فيها و يفيضون فإنّ الإفاضة لا تكون إلا بعد الكون كما يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ وجوب الوقوف و لو بقدر الذكر عند المشعر الحرام.

و المراد من الذكر: مطلق التسبيح و التهليل و الدعاء،

و قد ورد في رواية أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «يكفيه اليسير من الدعاء».

الثالث عشر: المستفاد من سياق قوله تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ أنّه الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى لأنّه تعالى ذكر الوقوف بعرفات و الإفاضة منها فيكون كلاما مستأنفا لا أن يكون تأكيدا للإفاضة من عرفات و التأسيس خير من التأكيد لكثرة الفوائد فيه.

الرابع عشر: إنّ قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ مطلق من حيث الكيفية و الكمية إلا أنّ السنة حدّدته بخمسة عشرة تكبيرة من بعد كلّ فريضة من صلاة الظهر يوم النّحر إلى صلاة الصبح من اليوم الثالث عشر.

و صورته المتفق عليها بين المسلمين: «اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلا اللّه، و اللّه أكبر اللّه أكبر و للّه الحمد». و قد زاد أصحابنا تبعا

للمأثور عن الأئمة الهداة

ص: 205

(عليهم السلام): «اللّه أكبر على ما هدانا و الحمد للّه على ما أولانا و رزقنا من بهيمة الأنعام» و يدل على كلتي صورتيه عدة روايات من الخاصة و العامة.

الخامس عشر: المستفاد من سياق الآية الشريفة: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اِتَّقى أنّه راجع للعموم المستفاد من حكم ما قبله أي: الاتقاء عما يحرم على المحرم و قد فسرت في الروايات بخصوص الصيد و النساء و هذا هو المشهور عند الإمامية.

ثم إنّ أعمال الحج الواردة في القرآن الكريم المشروحة في السنة المقدّسة هي:

الأول - الإحرام: قال تعالى: وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ اَلْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً [المائدة - 96]. و قال تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة - 95] و غيرهما.

الثاني - الطواف: قال تعالى: وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ اَلْعَتِيقِ [الحج - 29]، و قال جل شأنه: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ .

الثالث - صلاة الطواف: قال تعالى: وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى [البقرة - 125].

الرابع - السعي بين الصفا و المروة: قال تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [البقرة - 158].

الخامس - الوقوف بعرفات: قال تعالى: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة - 200].

السادس - الوقوف بالمشعر الحرام: قال تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ [البقرة - 200].

السابع - الإفاضة إلى منى و الكون فيها: قال تعالى: ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ اَلنّاسُ [البقرة - 201].

ص: 206

الثامن - الهدي: قال جل شأنه: وَ اَلْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا اَلْقانِعَ وَ اَلْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الحج - 38].

التاسع - الإحلال و التقصير: قال تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا [المائدة - 2]، و قوله تعالى: وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتّى يَبْلُغَ اَلْهَدْيُ مَحِلَّهُ [البقرة - 196].

العاشر - أيام منى: قال تعالى: وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ فِي أَيّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة - 205].

الحادي عشر - قضاء المناسك: قال تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ [البقرة - 200]، و لم يذكر سبحانه في القرآن رمي الجمرات و لا العيد و لعلّ السرّ في ذلك أنّه بعد ذكر الرّجم الكبير المذكور في قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [ص - 77]، يكون جميع أنحاء الرّجم من المؤمنين قولا و عملا من صغريات ذلك الرّجم، و أما عدم ذكر العيد فيمكن أن يكون قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة - 201] إشارة إليه.

ص: 207

بحث عرفاني

تقدّم في أحد المباحث السابقة أنّ الطاعات و العبادات في الإسلام إنّما هي ألطاف إلهيّة لتكميل النّفوس المستعدّة و الوصول إلى الغاية المتوخاة من خلق الإنسان، فبالعبادة ينال الإنسان مقام العبودية التي هي مجمع الكمالات الإنسانية و بها يصل إلى درجة الخلّة الحقيقية، و بها يتقرب العبد إلى خالقه و يصل إلى ساحة قدسه، و بها تتخلّى النفس من الرّذائل و تتحلّى بالفضائل و تتخلّق بالأخلاق الإلهيّة لتتجلّى أنوار الغيب على القلوب و تفوز بالسعادة التي هي فوق كلّ مطلوب و بها ينال العبد مرتبتي الفناء في اللّه تعالى و البقاء به عزّ و جلّ. كلّ ذلك إذا أتى العبد بها على وجهها المطلوب.

و من العبادات في الإسلام الحج الذي هو السّفر إلى اللّه تعالى للوقوف بين يدي عظمته و الدخول في ضيافته في بيته و حرمه الذي جعله من أبواب رحمته فمن دخله كان من الآمنين.

و هو سفر يتضمّن كثيرا من الأسرار التي لا يطّلع عليها إلا من خلع عن نفسه الأغيار و دخل في حريم كبرياء الجبار.

و هو السّفر الذي تتحقق فيه الأسفار الأربعة التي تكون للسّلاّك من العرفاء و لا ينال العبد ما في هذا السّفر و لا يصل إلى الوجه المطلوب إلا إذا كان ملتفتا إلى سفره: مبدئه و غايته، و متوجها إلى كلّ جليل و دقيق في

ص: 208

الحركات و الأفعال بل حتى الخطرات، فإنّ المقام جليل و المطلب خطير و لا يناله إلا من كان بانيا على التكميل، لأنّ أصل تشريع هذا السّفر إنّما هو لتحريك النفس الإنسانية إلى المشاعر الربوبية و الانتقال منها إلى المنازل المعنوية و التوجه فيها إلى المعارف الإلهية، و تحلّي النفس بأخلاق اللّه تعالى فتصير الدّنيا و الآخرة عنده كمرآتين متقابلتين تحكي إحداهما عن الاخرى على نحو النقص و التمام اللذين هما من خصوصيات الذات و الزمان لا من جهات أخرى.

و في هذا السّفر منازل و مقامات لا يمكن الوصول إليها إلا بعد طيّها و الخروج منها على الوجه المطلوب و نبذ ما هو المعتاد و المألوف فإنّ الشيطان حريص على الغواية و التضليل.

و أول تلك المنازل حمل الزاد و تهيئة المركب كما في سائر الأسفار الدنيوية فإنّ أول ما يفعله المسافر حمل الزاد و معرفة أمن الطريق و توثيق الصلة مع أرباب النّواحي و تثبيت الارتباط مع مدبّر كلّ بلد و مديره ليأمن كيدهم، و كلّ ما عظم السفر اشتدت الحاجة إلى الزاد.

و السّفر إلى الحج سفر إلى اللّه تعالى فلا بد من الاهتمام بما يأخذه من الزّاد و قد أخبرنا اللّه عزّ و جلّ أنّ التقوى هي خير الزاد فإنّها من أعظم السبل في توثيق الصلة و الارتباط مع مالك الملك و مدبّر الأمور و هي مالكية أزمة الآخرة و يتبعها مالكية أزمة الدنيا فإنّها تبع الآخرة فإنّ للدنيا جهتين: الأصالة.

لكونها محلّ العمل، فلو لا الدنيا لما كان عمل و لا عامل و لا تكليف و لا جزاء.

و جهة التبعية لكونها مزرعة الآخرة. فلو لا الآخرة لما خلقت الدّنيا، فبالتقوى ينال محبة اللّه تعالى و بها يمتطي ضهوة النّفس الأمارة و يأخذ لزمامها. و هي مفتاح كلّ خير و صلاح.

و من منازل هذا السّفر الخطير الإعراض عما سواه عزّ و جل و الابتعاد عن الأغيار، لأنّه السّفر إلى اللّه و السّير إلى حريم كبريائه عزّ و جل فلا بد أن يكون حجه و عمرته للّه ربّ العالمين.

ص: 209

و من منازله أيضا البناء و العزم على إتيان العمل جامعا للشرائط و أن لا يقدم عليه إلا و هو مطمئنّ النفس على إتمامها فإنّ قطع العمل و الرجوع عن السّير بعد التلبّس به مما لا يليق بمقام العبودية بل قد يوجب الحرمان كما هو معروف لدى أهل العرفان.

ثم يحرم عند الوصول إلى الميقات و هو أول المقامات فيحرم النفس عن المشتهيات و يوقفها عن كافة الشهوات و يطرح عنها كلّ مشتبه و حرام عند خلعه الثياب عن الأبدان.

و يتهيّأ للدخول في الحرم الإلهي و الورود في ضيافة الرّحمن و لا بدّ أن يلاحظ أنّه في المأمن الإلهي، و هو من أهمّ ما يبتغيه أهل السّير و السلوك في اللّه تعالى فيجب أن يكون السّعي و العمل متفقين مع الإرادة القلبية و كلاهما للّه تعالى فترتفع الأغيار و تزول الحجب و الأستار.

ثم الطواف بالبيت رمز العشق باللّه عزّ و جل و هو جذب روحي و إظهار للعبودية فلا بد و أن يكثر من ذلك كالمحب الذي تيّمه الحب و ذلله و هو يطوف حول بيت الحبيب و قد علا صوته بالبكاء و النحيب لعلّه يلقاه أو يجيب، و في الطّواف حكم و إشارات منها التردد في محالّ القدس و الإعلام بأنّ الطالب للحبيب لا بد له من الفناء فيه ليفوز بلقياه و نيل إفاضاته.

و الصلاة في المقام إشارة إلى التشبّه بخليل الرّحمن في تركه طاعة الشيطان.

و في السّعي بين الصّفا و المروة انقطاع إلى ربّ الخلائق و إبراز التحيّر في ذاته المقدّسة و اظهار العشق له و نبذ كلّ صنم و وثن و معبود سواه.

و الوقوف بالمشاعر العظام إنّما هو تذكير بالوقوف بين يدي اللّه تعالى في عرصات يوم القيامة و إبراز الخضوع و الخشوع لعظمته تعالى و إظهار التذلّل و العبودية لساحة قدسه فلا بد و أن يكون على سكينة و وقار طالبا مغفرته و رضوانه، فإنّ تلك المشاعر العظام ليست إلا من مظاهر التوحيد و إلقاء الشرك و الكفر. و الوقوف فيها مع ما فيها من الزحام إراءة نموذج ما يكون في طريق

ص: 210

المصير إليه تعالى و ظهور الحق و فناء التكثّرات فيه.

ص: 211

و كم من نفس تلوثت بالذنوب و الآثام تطهر عند إراقة الدّماء في منى!! و كم من ذنوب يحطّمها الرّبّ العظيم عند الحطيم!!.

و كم من خطايا يغفرها الرّبّ الغفور الرّحيم عند التعوّذ بالملتزم و المستجار!!.

و كم من نفس تصل إلى مناها عند الوصول إلى منى!!.

و كم من عناية و لطف تظهران لعبده عند استلام الرّكن الذي هو يمين اللّه في الأرض يصافح بها عباده!!.

ص: 212

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّ.......

اشارة

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهادُ (206) وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) قسّم سبحانه و تعالى في الآيات السابقة الناس إلى المؤمنين الذين يطلبون الدّنيا و الآخرة و الكافرين الذين يطلبون الدّنيا لوحدها. و أتم الكلام بذكر التّقوى و ذكر هنا أحوال الناس من حيث الصفات و نتائج الأعمال، و أنّهم على صنفين:

المنافقون: الذين يراؤون في أعمالهم، يظهرون الإيمان و يسرّون الكفر، و قد ذكر سبحانه و تعالى بعض صفاتهم التي عرفوا بها و أوعدهم النار بسوء صنيعهم و ما عملته أيديهم من الذنوب و الآثام.

و الصنف الثاني: هم المخلصون في أعمالهم الذين يبتغون مرضاة اللّه في جميع أحوالهم و لا يريدون إلا وجهه تعالى ثم ختم كلامه عزّ و جل بذكر بعض الأسماء الحسنى حيث وعد عباده الخير و الإحسان و دفع الشر و الفساد.

ص: 213

التفسير

204 - قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

العجب و التعجب حالة تعرض على الإنسان عند الجهل بسبب الشيء و لذا لا يطلق على اللّه تعالى، لعدم إمكان تعقل الجهل بالنسبة إليه جلّت عظمته.

و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: إِنّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً [الجن - 1]، و قال جلّ شأنه: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ [الرعد - 5]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و العجب - بضم الأول و سكون الثاني - من الصفات الرذيلة التي يجب الابتعاد عنها، و لذا

قال عليّ (عليه السلام): «إعجاب المرء بنفسه أحد حسّاد عقله» و المراد به استكثار العمل و السّرور به من نفسه و لنفسه، و في الحديث:

«أوحى اللّه إلى داود فقال: يا داود بشر المذنبين و أنذر الصدّيقين! فقال داود:

يا ربّ كيف ذلك؟ فقال تعالى: بشر المذنبين أنّي أغفر ذنوبهم، و أنذر الصدّيقين أن لا يعجبوا بأعمالهم». و من المفسرين من لم يفرّق في بيان المعنى.

و متعلق الظرف في قوله تعالى: فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا هو يُعْجِبُكَ أي: إنّ التعجب في الدنيا يحصل من جميع جهاته، فيشمل القول أيضا

ص: 214

فيكون قَوْلُهُ بدل البعض عن الكلّ.

و قيل: إنّه متعلق ب قَوْلُهُ و هو صحيح أيضا، و على أي تقدير الآية تشير إلى التعجب من الظاهر المختلف مع الباطن الذي يكشفه اللّه تعالى بحسب ما شاء و أراد، و في المقام بقوله تعالى: يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ .

أي: و من الناس من يظهر الإيمان و يدّعي صفاء السّريرة و حسن الصّحبة و يوهم الزّهد عن الدّنيا و العزوف عن ملاذّها و يدّعي توافق ظاهره مع الباطن و أنّ ذلك في القلب و أنت تعجب من براعته في الكلام، و حسن أدائه.

قوله تعالى: وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ .

أي: يحلف باللّه و يجعله شاهدا على ما في قلبه من المحبة و الإيمان، و أنّ قلبه موافق لما يقوله، و هذا التعبير آكد من الحلف و اليمين، و من يقوله كاذبا ينسب الجهل إليه تعالى.

قوله تعالى: وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ .

اللّدد: شدة الخصومة، و الألدّ صفة مشبهة، و هي تدل على المبالغة أي:

شديد الخصام و المجادلة، و جمعه (لدّ) بالضم، قال تعالى: وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا [مريم - 97].

و الخصام مصدر يقال: خاصمته خصاما و مخاصمة، و قيل: إنّه جمع خصم كصعب و صعاب.

و المعنى: إنّه في نفسه من أشدّ الناس عداوة و مخاصمة للنبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و للمسلمين يضمر في قلبه كلّ عداوة للحق و لأهله.

205 - قوله تعالى: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها .

التولّي إذا كان متعديا بنفسه يفيد معنى الإقبال و التوجه إلى شيء و إذا عدي ب (عن) لفظا أو تقديرا - كما في المقام - يكون بمعنى الإعراض

ص: 215

و الانحراف عنه، و قد استعمل هذا اللفظ في كلّ من التوجه و الإعراض في القرآن الكريم في موارد كثيرة.

و السعي يأتي بمعنى المشي السريع دون العدو، قال تعالى: فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى [طه - 66]، و يستعمل في الجد و الاجتهاد، و في كلّ من الخير و الشّر، قال تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40].

و الفساد: خروج الشيء عن الاعتدال و الاستقامة و هو خلاف الصّلاح.

و يشمل جميع الأنحاء، سواء كان قليلا أو كثيرا، في الجزء أو الكلّ أو فيهما.

و المعنى: إذا تولّى عنك بعد إظهار الإيمان و حسن القول كانت غيبته مخالفة لحضوره و إنّ سعيه يكون على ضدّ ما قاله، فهو يدّعي الصّلاح و يسعى في الأرض الفساد و الخراب، لسوء سريرته و فساد فطرته، و لا همّ له إلا التمتع في الدنيا و الكيد في الناس.

و يمكن أن يكون المراد أنّه إذا تولّى و صارت له الولاية في بلد من البلاد و تسلّط على الناس أظهر الظلم و الفساد فيحدث بسوء ظلمه في الرعية ظلمة البلاد فيهلك الحرث و النسل، و يدل عليه بعض الروايات كما يستفاد ذلك من سياق الآية أيضا.

قوله تعالى: وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ .

الهلاك: زوال الانتفاع المطلوب من الشيء و انتفاؤه، سواء كان بزوال موضوعه أو بنحو آخر.

و الحرث: إلقاء البذر في الأرض و تهيئته للزّرع، و يطلق بالعناية على الزّرع، و مطلق العمارة، قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا [الشورى - 20].

و أصل النسل: الانفصال عن الشيء، و الولد يسمى نسلا لانفصاله عن صلب والده فلا يختص بالإنسان، و يصح التعميم بالنّسبة إلى كلّ مفصول عن

ص: 216

شيء، فيكون كالفصيلة المصطلح عليها في الأعم من النباتات أيضا.

و المعنى: أنّهم يبالغون في فسادهم و ذلك بإفسادهم الحرث و النسل أي فساد الأرض و الناس بأنواع الظلم و الطغيان و أساليب الفتن و الخراب و ضروب الإيذاء.

و هلاك الحرث و النسل على قسمين:

قسم: يكون بسبب الاختلال في الأسباب الطبيعية من قتل و نهب و تعطيل أعمال الناس و أنحاء الظلم على ما هو المشاهد المحسوس عند وقوع هذه الأمور - كليّا أو جزئيا - فتهلك المزارع و تعطّل الصّنايع، و تظهر في الناس البطالة و تختل أمورهم على كلّ حالة.

و قسم آخر يكون بسبب كثرة المعاصي و إفشاء الظّلم فتمنع السّماء بركاتها و تحبس الأرض خيراتها و تنزل النقمات و البليّات و هي مذكورة في القرآن الكريم، قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [الروم - 41]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و هذا القسم أهم و أعظم من الأول، بل يكون كالنتيجة لما يحصل من ظلم الناس و معاصيهم، و قد حذّرنا اللّه تعالى من ذلك في القرآن الكريم بأساليب متعددة، و سيأتي في الموضع المناسب بيان كيفية تأثير المعاصي في هذا العالم إن شاء اللّه تعالى.

و الآية في المقام تشمل كلا القسمين من الفساد، لإطلاقها و عدم تقييدها بقسم دون آخر.

و لا ريب في شمول الآية الكريمة للفساد المعنوي أيضا، و هو تحريف الشرايع الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى لإصلاح النفوس و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و اعتدال أحوالها، و سعادة الإنسان في الدّارين. فيكون عمل هذا الشخص المخالف ظاهره لباطنه تبديل الأحكام الإلهيّة و تغيير الكلم عن مواضعه، و التصرّف في المعارف الربوبية و إشاعة الفساد و سفاسف الأخلاق

ص: 217

فيوجب ذلك محو نور الفطرة و فساد الأخلاق و الفرقة و الاختلاف، و في ذلك هدم لصرح الإنسانية الشامخ و فناؤها و اضمحلال المجتمع الإنساني و إبادته، و فساد الدّنيا و اضطرابها. و أخيرا موت الدّين فتموت الإنسانية بموته فلم يكن الإنسان إلا من الهمج الرّعاع الذين هم أضلّ من الأنعام سبيلا.

و يدل على هذا المعنى ما ورد في بعض الروايات أنّ المراد بالحرث و النّسل هما الدّين و الإنسانية.

و في التاريخ كثير من هؤلاء في مختلف الأمم الذين غلبوا على البلاد و جلبوا الفتن و الاضطراب و تصرّفوا في الدّين و ما أنزله اللّه تعالى من الكتاب و أحيوا البدعة و أماتوا الحقّ و أبادوا أهله و انحرفوا عن جادة الصّواب و أعقبوا الدّمار و الوبال فكان من سعيهم أنّه شاع الفساد و أصبح الدّين ملعب كلّ لاعب يتصرّف فيه بما شاء و أراد، فقد أفنوا الإنسانية بسوء صنائعهم و أهلكوا الدّين بفساد الأخلاق و سيبقى الأمر كذلك حتى يغيّر الناس ما بأنفسهم، قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد - 11].

و من ذلك يعرف أنّ مورد نزول الآية و إن كان شخصا خاصّا - و هو الأخنس بن شريق الثقفي كما يأتي في البحث الروائي - و لكن حكمها عام يشمل الجميع، كما أنّها لا تختص بالمرائي كما قيل، بل هي عامة تشمل الجميع و في جميع الملل و القرون أي كلّ من خالف ظاهره باطنه، و أنّ المرائي أحد أفراده،

و قد ورد عن عليّ (عليه السلام): «يدعى المرائي بأربعة أسماء يوم القيامة: يا كافر، يا مشرك، يا فاسق، يا منافق» و إنّ السبب الخاص لا ينافي عموم الحكم، مع أنّ حكمها من القضايا العقلية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

تقدّم معنى الفساد، و لا ريب أنّه مبغوض له تعالى و يعاقب عليه.

و إنّما عبّر سبحانه في المقام بأنّه لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ و قال تعالى في آية أخرى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ [القصص - 77]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ اَلْمُفْسِدِينَ [يونس - 81]، لأنّ فساد شيء و عدم محبته

ص: 218

يستلزم مبغوضيته عقلا، فبالدلالة العقلية تثبت المبغوضية و بالدلالة اللفظية يثبت عدم المحبة.

فيكون مثل هذا التعبير من الحكيم تعالى أوقع في نفوس أهل الإيمان في ترك الفساد من سائر التعبيرات و كذا في نظائر المقام.

و عباد اللّه المخلصين إنّما يتركون ما لا يحبّه اللّه تعالى فيزداد إيمانهم و تعلو درجاتهم. و مثل هذه التعبيرات نحو تمييز بينهم و بين غيرهم و بذلك تعرف درجات الإيمان و مراتب كماله.

ثم إنّ الفساد إما شخصي، أو نوعي، و الجميع إما في المعتقدات أو في العادات أو الملكات و الأخلاق أو في الأفعال، و الجميع إما أن يراه صاحبه حسنا أو يكون من الجهل المركب أو يعتقد قبحه و مع ذلك يرتكبه، و لجملة مما ذكر مراتب مختلفة حتى أنّ ارتكاب المكروهات قد يكون من الفساد سيّما في الأخلاقيات و الاجتماعيات.

و لأجل ذلك كرّر سبحانه و تعالى بتعبيرات مختلفة مذمّة الفساد و التحذير عنه و لعلّ أشمل التعبيرات لجميع هذه الخصلة السيئة قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

206 - قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُ اِتَّقِ اَللّهَ أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ .

التقوى: عبارة عن إتيان أوامر اللّه تعالى و اجتناب نواهيه، أو الإصلاح و عدم الفساد.

و العزة: حالة تعرض للإنسان مانعة من أن يغلب، و أصلها القوة و العزيز هو الذي يغلب و لا يغلب، و أَخَذَتْهُ اَلْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ أي: حملته قوته التي يراها لنفسه على المخالفة، و قد اكتسب العزّة من الإثم و النفاق و التفاف المنافقين حوله، لأنّ كلّ منافق مغرور بقوّته و عزّته و هذه هي الحمية الجاهلية المذمومة، و كما هو شأن كلّ مغرور بما لديه من القوّة و الغلبة عند إرشاده إلى ما فيه صلاحه.

ص: 219

و ليست هي العزّة الحقيقية التي تكون للّه تعالى و لرسوله و للمؤمنين كما قال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون - 8] بل هي ادعائية و إنّها حالة يراها لنفسه اكتسبها من الإثم كما حكى اللّه تعالى عن أصحاب فرعون: وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْغالِبُونَ [الشعراء - 44].

و المعنى: إذا أمر بالتّقوى و الإصلاح أخذته العزّة الظاهرة التي يراها لنفسه و التي اكتسبها من الإثم و اجتماع أتباعه حوله على الضّلال فيأنف لما قيل له. أو فتدعوه عزّته على زيادة الإثم و الفساد.

و الباء في قوله تعالى: بِالْإِثْمِ إما للتعدية متعلقة ب أَخَذَتْهُ أو للسببية أي العزّة بسبب الإثم الذي في قلبه من الكفر و النفاق و ما اكتسبه من الآثام.

قوله تعالى: فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ اَلْمِهادُ .

المهاد: المأوى من كلّ شيء، و جهنّم مهاد للمنافق أي مأوى له، و الأرض مهاد للمشي و الزرع و نحوهما. و مهد الصبيّ مأوى راحته.

و المعنى: إنّه تكفيه نار جهنم جزاء له على كفره و نفاقه و كبريائه، و هي مأوى له و لبئس المهاد الذي مهّده لنفسه بسبب سوء أعماله، و هذا الجزاء نتيجة حتمية على ما كان يفعله، فهو من القضايا العقلية التي يغني نفس تصوّرها عن إقامة البرهان كما أنّ كون الجنّة مهادا للمتقين كذلك، فالتّقوى توجب حصول نعم المهاد، و مخالفتها موجبة للورود في بئس المهاد.

207 - قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ .

هذا هو الصنف الذي يقابل الصنف الأول الذي يكون معتزّا بنفسه مضمرا للنفاق مكتسبا للآثام لا يرجى منه إلا الفساد و الإفساد و لقد مهّد لنفسه بسبب سوء أعماله جهنّم و لبئس المهاد، و هذا الصنف يقابله في جميع الصفات كما ستعرف.

و الشراء من الأضداد يقال: شراه إذا باعه، و شراه إذا اشتراه، و قد

ص: 220

استعمل في القرآن الكريم في كلّ منهما، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، و قال تعالى:

وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [يوسف - 20].

و المراد به هنا الأول أي: باع نفسه للّه تعالى، و لا يبتغي إلا إرادته عزّ و جل و مرضاته و لا يهتم إلا بإصلاح الأمور و تشييد أركان الدّين و إحياء الحق و إماتة الباطل، و يسعى في سبيل الدّين و الإنسانية فلا يريد إلا ما أراده اللّه تعالى في الأرض و من عليها و ما يريده عزّ و جل هو الإصلاح، و قد نصب نفسه لتقويم ما أفسده المفسدون و من سنته تعالى في خلقه أنّه إذا ظهر رجال أظهروا في الأرض البغي و أشاعوا الفساد أعقبهم رجالا آخرين وهبوا أنفسهم للّه تعالى فيقيمون الحق و يميتون الباطل، فيصلح بهم أمر الدّنيا و الدّين، و بهم ينوّر اللّه الأرض و يتمّ بهم ما نقص، و إلا لما قام للدّين عمود و لا اخضرّ للإنسانية عود، و لم يكن للإنسان اجتماع، قال تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اِسْمُ اَللّهِ كَثِيراً [الحج - 40].

و يستفاد من سياق الآية الشريفة: تجدّد الشّراء و دوامه، و أنّ العوض ليس خصوص رضاء خاص من مراضيه تعالى، بل كلّ ما يرتضيه و جملة مرضاته، و لها مراتب لا نهاية لها.

و في التعبير بالشراء هنا، و في قوله عز و جل: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، لطف و عناية و جذبة روحانية، و أدب قرآني، كما في قوله تعالى: وَ أَقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً [المزمل - 20]، و إلا كيف يعقل أن يشتري أو يستقرض المالك الحقيقي من المملوك الفقير من كلّ جهة. أو ليس ذات الإنسان و جميع شؤونه منه جلّت عظمته حدوثا و بقاء؟! و هل التوفيق و التأييد لمثل ذلك إلا منه عزّ و جل؟!! و قد شرح سبحانه و تعالى هذا الشراء في آيات أخرى، و سيأتي التعرّض لتفسيرها في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 221

قوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

الرؤوف من أسماء اللّه الحسنى، و تقدم أنّ الرأفة أخص من الرحمة في آية 143 من هذه السورة. و كلّ ما ورد في القرآن الكريم جملة رَؤُفٌ بِالْعِبادِ يؤتى بها من غير توصيف بالرّحيم مثل المقام، و قوله تعالى:

وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [آل عمران - 30]، و في غيرهما يتبع بالرّحيم، و لعلّ السرّ في ذلك أنّ العبودية حيث إنّها أخص المقامات و الدّرجات تقتضي أخص الألطاف و العنايات.

و مما تقدم يستفاد الوجه في ذكر هذه الجملة المباركة في المقام فإنّ وجود مثل هذا الإنسان الكامل في الخلق - الذي قد اتصف بما وصفه اللّه تعالى من أهمّ مصاديق رأفة اللّه بعباده، و هو من مننه تعالى على خلقه، و من الخير العام لجميع عبيده.

و من ذلك يعلم أنّ الآية الشريفة و إن نزلت في شخص معيّن لكن حكمها عام، و قد ذكرنا مرارا أنّ المورد لا يخصّص عموم الوارد. نعم مثل هذا الشخص الذي وصفه تعالى بما وصفه و جعله منّة على خلقه لا يكون كلّ أحد بل هو المؤمن الخالص الذي باع نفسه لمرضاة اللّه تعالى، و قد نصبه سبحانه نورا يهتدى به و منارا يستضاء منه، و جعله سبيلا للرّشاد و مرجعا للعباد، و من أجلى أفراد هذا الصنف هو عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) الذي ورد فيه

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - قولا و عملا - على ما رواه الفريقان: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسى» و ما صدر عن عليّ (عليه السلام) بالنسبة إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) كذلك ما يبهر منه العقول و من سيرة عليّ (عليه السلام) و أعماله و أقواله التي ورد بعضها في كتاب نهج البلاغة و سائر جهاته التي تكفي أن يعدّ (عليه السلام) معجزة لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بعد القرآن العظيم. و من غير ذلك مما هو كثير يعلم علما قطعيا بأنّ هذه الآية الشريفة و ما في سياقها ينحصر مصداقها في عليّ (عليه السلام) و إن كان لجميع أصحاب الرّسول (صلّى اللّه عليه و آله) مقام رفيع و شأن منيع.

ص: 222

و من أراد مزيد الاطلاع فليراجع ما ضبطه العامة في شأن هذا الرّجل العظيم يعترف بصدق ما قلناه. و لنعم ما نسب إلى الخليل حيث قال: «أخفى أعاديه فضائله حسدا، و لم يبدها أحبّاؤه خوفا، و مع ذلك ظهرت كالنجم اللامع يشرق للكلّ».

و قد وردت عدة روايات بطرق مختلفة أنّ هذه الآية المباركة نزلت في عليّ (عليه السلام) حين بات على فراش النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) لما أرادت قريش قتله (صلّى اللّه عليه و آله)، و سيأتي في البحث الرّوائي بعضها.

و من تأمل في أحوال عظماء العالم و أكابره يرى أنّه لا قصور فيهم من وجه إلا عدم استعداد الظروف و قصورها عن إبراز مقاماتهم العلميّة و العمليّة و جهات فضائلهم، و مع ذلك فقد أفنوا جميع شؤونهم و حيثياتهم في سبيل اللّه تعالى و الإنسانية.

فكما أنّ الطبيعة تظهر بالتدريج أسرارها و كنوزها كذلك تكون كنوز الحقائق من أفراد البشر تظهر بالتدريج بل التسرّع في الظهور مع عدم ملائمة الظروف و عدم استعداد المظروف تضييع لها كما هو معلوم، و لذا ورد في علامات انبساط الحق و العدل الحقيقي أنّ اللّه تعالى يتمّ عقول العباد و يكمل أحلامهم لئلاّ يستهان بالحجة و يوضع من قدره، و ليس إرسال الرّسل و بعث الأنبياء في زمان سيطر فيه الجهل و الظلم إلا نورا في الظّلمات تنتفع به الأجيال اللاحقة، و للبحث تتمة تأتي إن شاء تعالى في الموضع المناسب.

ص: 223

بحوث المقام
بحث روائي

في الدر المنثور عن السدي في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف لبني زهرة أقبل إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) في المدينة و قال: جئت أريد الإسلام، و يعلم اللّه إنّي لصادق فأعجب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) ذلك منه، فذلك قوله تعالى: وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ ثم خرج من عند النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) فمرّ بزرع لقوم من المسلمين و حمر، فأحرق الزّرع و عقر الحمر، فأنزل اللّه: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ .

أقول: نقله جمع من المفسرين. و الأخنس لقب لهذا الرّجل لأنّه خنس يوم بدر بثلثمائة رجل من حلفائه من بني زهرة عن قتال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). قيل و كان رجلا حلو المنظر و القول، و تقدم ما يتعلّق بالرواية في التفسير فراجع.

و في المجمع عن ابن عباس أنّ الآيات الثلاث نزلت في المرائي و المنافق، لأنّه يظهر خلاف ما يبطن. قال: «و هو المروي عن الصادق (عليه السلام)».

أقول: مرّ ما يتعلّق بذلك أيضا.

ص: 224

في تفسير العياشي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ قال (عليه السلام): «النسل هم الذرية و الحرث الزرع». و روي أنّ الحرث الذرية.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «المراد من الحرث في هذا الموضع الدّين، و النّسل الناس (الإنسان)».

أقول: يصح إطلاق الحرث على الدّين أيضا لأنّه بمنزلة البذر الذي يبذر في الأرض ليستفاد منه، و لكنّه يبذر في القلوب.

في تفسير العياشي عن جابر عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ قال:

«إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) حين بات على فراش رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لما أرادت قريش قتله (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: تواترت الروايات أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) ليلة المبيت في فراش النبي (صلّى اللّه عليه و آله). فقد روى الشيخ في أماليه بأسانيده عن رجال أهل السنة و غيرهم عن زين العابدين و ابن عباس و أنس و أبي عمرو بن العلا، و عن عمّار عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله). و روى في تفسير البرهان بخمسة طرق، و عن الثعلبي عن ابن عباس، و عن جابر عن الباقر (عليه السلام).

و رواه جمع غفير من العامة، فقد روى الحافظ أبو نعيم عن ابن عباس، و أبو السعادات في فضائل العشر بأسانيده عن أبي اليقظان عمار. و رواه الحاكم في المستدرك، و الذهبي في تلخيص المستدرك و أخطب خوارزم في المناقب، و الجويني في فضائل الصحابة و فرائده بأسانيدهم عن زين العابدين. و رواه أحمد بن حنبل في مسنده. و مسلم عن أبي داوود الطيالسي و غيره. و النسائي في خصائصه صحيحا و رواه الغزالي في كتاب الإحياء باب الإيثار، و رواه القرطبي في تفسيره و غيرهم من علماء العامة و رواتهم.

و في الدر المنثور أنّها نزلت في صهيب: «أنّه أقبل مهاجرا إلى رسول اللّه

ص: 225

(صلّى اللّه عليه و آله) فاتبعه نفر من قريش و قالت له: يا صهيب قدمت إلينا و لا مال لك و تخرج أنت و مالك، و اللّه لا يكون ذلك أبدا فقلت لهم: أ رأيتم إن دفعت لكم تخلّون عنّي؟ قالوا: نعم. فدفعت إليهم مالي فخلّوا عنّي فخرجت حتى قدمت المدينة، فبلغ ذلك النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قال: ربح البيع صهيب مرّتين».

أقول: روي أيضا أنّها نزلت في أبي ذر بشرائه نفسه بأمواله و الآية لا تلائم شيئا منها، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بمثل هذه الروايات. و العجب من السيوطي و غيره من المفسرين أنّهم ينقلون الأحاديث المتعلّقة بالآيات حتّى الشواذ و المناكير و لكنّهم لم يذكروا المستفيضة الواردة في نزول هذه الآية.

و في المجمع أنّها نزلت في الرجل يقتل على الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر. و قيل: إنّها نزلت في من يقتحم القتال فيقتل.

أقول: إنّه من باب التطبيق، و لكن تطابقت نصوص الفريقين على أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه السلام) بل الشواهد العقلية دالة على ذلك كما ذكرنا. و لكن مقتضيات الظروف اقتضت تارة أن يقال إنّها نزلت في صهيب.

و أخرى: إنّ معاوية يرشي و يعطي لسمرة بن جندب مالا كثيرا حتى يفتعل و يقول إنّها نزلت في حق عبد الرحمن بن ملجم.

و لا عجب في ذلك من مثل معاوية الذي ليس له أيّ دافع ديني كما يعترف به المؤرخون من المسلمين و غيرهم و ما ضبطه التاريخ من حياته. و أما سمرة بن جندب فهو معروف عند الكلّ و هو الذي رد على

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في حديث «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» المعروف بين الفريقين و يكفينا فيهما

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لعن اللّه الراشي و المرتشي».

ص: 226

بحث فلسفي

سرّ التفدية و آثارها: لا شك في أنّ أكمل ما في الوجود و أجلّه و الساعي إليه جميع الموجودات إنّما هي السعادة الأبدية يطلبها بالفطرة كلّ ذي حياة و شعور، بل كلّ ممكن موجود، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [الإسراء - 54] و هذه السعادة تختلف باختلاف الموجودات و كذلك الطرق المنتهية إليها، كما تقدّم في أحد المباحث السابقة.

و لكن لا يفوز أحد بالسعادة الحقيقية الأبدية، و لا يصل إليها إلا بالتقرّب إلى الحقّ جلّ و علا و إنّ طرق التقرب إليه متعددة، كما أنّ مراتب التقرب إليه كذلك بل إنّها غير متناهية.

و للمتقرّبين إليه درجات و منازل حسب تجلّيه عزّ و جلّ لهم و الإشراقات و الجذبات الحاصلة من الأحدية المطلقة لهم بلا فرق بين الأنبياء و الأولياء و المؤمنين، بل مطلق العباد إن كان لهم الاستعداد للاستكمال و ترقية النفس.

و أولو العزم من الأنبياء - و في مقدمتهم نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) - من أشرف المتقرّبين إليه تعالى، و إنّهم أول سلسلة التفدية الحقيقية و الفداء الخالص لخالق الأرض و السّماء، و لأجل ذلك حازوا آخر مقامات الفناء فيه جلّت عظمته، قال تعالى: ثُمَّ دَنا فَتَدَلّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى [النجم - 10]،

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي

ص: 227

فيطعمني ربّي و يسقيني»، و قال تعالى حكاية عن خليله إبراهيم (عليه السلام):

وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء - 80].

و إنّ للّه جلّ جلاله بالنسبة إليهم عنايتان فبعناية يحبّهم و يجذبهم إلى نفسه و بعناية أخرى يحفظهم عن الطمس و المحق.

و من ذلك يظهر: أنّ أهم آثار التفدية و الفداء إنّما هو الفناء في المفدّى و هذا يختص بالأنبياء و أولياء اللّه تعالى العظام لما فيهم من الاستعداد الكامل لذلك من كلّ جهة، و هم اللائقون لذلك، كما يأتي البحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و هناك تفدية أخرى و هي و إن رجعت آخر الأمر إلى التفدية للخالق و الفناء فيه، و لكن بواسطة من تقرّب إليه تعالى، كتفدية الحواريين لعيسى (عليه السلام) قال تعالى حكاية عنه (عليه السلام): قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ [آل عمران - 52].

و تفدية عليّ (عليه السلام) لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال تعالى:

وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [البقرة - 207].

و تفدية كل بحسب شأنه، و إنّها التفدية الواقعية لما عرفوا من الدّلائل و انكشفت لهم الحقائق و إنّ شأنها كشأن تفدية الأنبياء للخالق.

و من فروع ذلك تفدية المؤمنين بالنسبة إلى نبيّهم أو مشاعر دينهم فهي ترجع إلى الفداء للخالق لكن بحسب شأنهم و استعداداتهم.

و أما تفدية الناس بعضهم لبعض فإن رجعت إلى التفدية لأولياء اللّه تعالى كما مر و كانت مأذونا فيها من قبل الشرع فهي استكمال للنفس و موجبة للسعادة و إلا فهي فضيلة إن لم ينه الشرع عنها.

ثم إنّ التفدية تارة: غير اختيارية كما في تفدية التكوينيات كلّ ناقص لكامله و كلّ كامل لأكمله. و أخرى: اختيارية، و لكن قد يستلزم ذلك سلب

ص: 228

الاختيار في بعض الموارد حسب التجليات و الإشراقات، و غالب هذه المباحث حاليّ لا أن يكون مقاليّا.

و إذا تحققت التفدية الحقيقية يتحقق التجلّي بمرتبته الكاملة، مع أنّه علّة فاعلية للتفدية ببعض مراتبه كما أنّه العلّة الغائية حيث إنّها علة فاعلية بوجودها العلمي و غائية بوجودها الخارجي، فليس المبتدأ و المنتهى إلا شروق النور القدسي الإلهيّ الذي هو أصل الوجود و الحياة، فيكون الفداء للسعادة الأبدية غاية تجرّد النّفس و نهاية كمالها.

تفدي لحب جلال اللّه نفسك إن *** أردت تكشف سرّ العالمين معا

فإنّما النفس كالمرآة إن ظهرت أرتك فيها جمال الكلّ منطبعا

و الفرق بين التفدية و الحب - الذي هو ميل النفس مع العقل - بالشدة و الضعف، فالحب و القرب و الفداء مفاهيم مختلفة لحقيقة واحدة ذات مراتب متفاوتة تشكيكية و كذا العشق، و لا تختص تلك بالمعنويات الواقعية بل تجري في غيرها أيضا، بل ربما يفدي بعض الناس نفسه و إن لم يكن فيه غرض صحيح عقلي.

ص: 229

بحث عرفاني

قد ثبت في الفلسفة العملية و حققه العرفاء الشامخون أنّ أنس النفس بالكليّات يوجب ارتقاءها عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الحقيقية مطلقا فضلا عمّا إذا كانت تلك الكليّات من العالم الغيبي الرّبوبي فتأنس النفس إلى عالم لا حدّ لأية جهة من جهاته لتباعدها حينئذ عن دار الغرور و اتصالها بمنبع النور الذي لا يمكن تحديد أشعته بأيّ حدّ من الحدود الإمكانية، و مرضاة اللّه تعالى لا تكون إلا من منبع النور، و تجرّدها بالكلية عن دار الغرور فتشرق على النفس حينئذ أنوار ذلك العالم فتبتهج بما لا تدرك و لا تعلم، هذا إذا لوحظ ذات تبديل النفس بمرضاة اللّه جلّت عظمته.

و أما إذا انطبق عليه عنوان آخر فيعظم ذلك بحسب عظم ذلك العنوان و كمال أهميته، فإذا كانت التفدية مثلا بإزاء حفظ نفس حبيب اللّه تعالى و صفيّه من خلقه، و هو مبدأ الإفاضات و غاية خلق المخلوقات، بل هو صورة إجمالية لنظامي التشريع و التكوين، فما أعظم هذه التفدية!! فإنّها وقعت بإزاء الجميع في الجميع، و لا تصل النفس إلى هذه المرتبة و لم تتصدّ لها إلا بعد لياقتها و استعدادها لمثل هذا الفداء، و إذا كان اللّه جلّت عظمته يقول في فداء إسماعيل: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [الصافات - 107]، فما ذا ينبغي أن يقول جلّ جلاله في مثل هذا الفداء، و منه يعلم عظم المفدّى - بالفتح - و المفدي - بالكسر -.

ص: 230

و من ذلك يظهر سرّ التعبير في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

و جميع ما في الكون من مستحسن *** فإليك نسبته و باسمك ينطق

من مات في دير الهوى بك صبوة نال الشهادة و هو حيّ يرزق

من لي سواك أحبّه أو أعشق و لك الملاحة و الجمال المطلق

هذا كلّه في الإنسان الكامل الذي ارتقى عن حضيض البهيمية إلى أوج الكمال و يقابله أنس النفس بالماديات و الرّجوع إلى أقصى درجات حضيض البهيمية، الذين قد وصفهم سبحانه و تعالى في هذه الآية بقوله: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اَللّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ اَلْخِصامِ * وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ .

و من ذلك يعرف أنّه إذا لوحظ الإنسان من حيث الإضافة إلى اللّه جلّت عظمته لا يخلو عن أقسام:

الأول: من حيث كونه مخلوقا و مربوبا له تعالى، و هذه الإضافة تعمّ جميع الممكنات و لا تختص بالإنسان لأنّ الجميع مخلوق و مربوب له، و تحت قدرته تعالى و إحاطته، و تدلّ عليها الأدلة العقلية و جميع الكتب الإلهية.

الثاني: أن تحصل الإضافة من حيث التدبير الظاهري و الاقتصار عليه فقط من جهة قصور النفس عن درك ما وراء ذلك، فيكون مثل اعتضاد بعض الناس لبعضهم من جهة المنافع الدّنيوية فقط. فيطلب من اللّه تعالى حسنات الدنيا فقط، لقصور السائل عن إحاطة المسؤول عنه.

الثالث: ما إذا حصلت من جهة الاعتقاد بأنّه تعالى محيط بالدنيا و الآخرة إحاطة واقعية حقيقية، و هو جلّ شأنه فوق الكلّ فيطلب منه حسنات الدنيا و الآخرة و الوقاية عن عذاب النار.

الرابع: ما تكون الإضافة باللسان فقط، و يكون ظاهره خلاف باطنه بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هو المنافق و المرائي الذي يرتكب كلّ إثم، و قد ذمه اللّه

ص: 231

تعالى في القرآن الكريم و أوعده الخزي في الدّنيا و أشد العذاب في الآخرة و هو الذي لا يقوّمه إلا السيف.

الخامس: أن تكون الإضافة حاصلة من بذل النفس و المال و الإرادة في مرضاة اللّه تعالى فلا يشاء إلا ما شاء اللّه تعالى، و لا يريد إلا ما أراده.

و قد ذكرت الأقسام الأربعة الأخيرة في هذه الآيات الشريفة، و ذكر القسم الأول في موارد كثيرة من القرآن بالنسبة إلى جميع المخلوقات لا سيما الإنسان.

ص: 232

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ اَلْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) الآيات الشريفة تشتمل على مضامين عالية، و معارف إلهية، و أحكام اجتماعية. و هي ترشد الإنسان إلى اتباع الحق، و تحذره عن الباطل، و تبيّن له طريق السعادة، و ترغّبه إلى الإنسانية الكاملة، و تأمره بالابتعاد عما يوجب الانحراف عنها.

و الآية الأولى مع إيجازها تتضمّن جميع المعارف الإسلامية، و الكمالات الإنسانية المقرّرة في الشرايع السماوية. و تنهى عن اتباع جميع القبائح العقلية و الشرعية.

و اشتملت الآيات على كلّ ما يوجب تثبيت ما ورد فيها من الأحكام و المعارف من الوعد و الوعيد، و الاعتبار من أحوال الماضين. و مضامينها من

ص: 233

المستقلات العقلية التي تحكم بها فطرة العقول. و لأجل ذكر فرق الناس و أصنافهم و اختلاف أحوالهم في الآيات السابقة أمرهم سبحانه و تعالى بأحكام اجتماعية ترشدهم إلى نبذ الاختلاف، و التفرّق و عدم تبديل نعم اللّه بما يوجب سخطه في هذه الآيات.

ص: 234

التفسير

208 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً .

الخطاب مدني - كما مرّ - و الإضافة تشريفية لا اختصاصية و التعبير - ب اُدْخُلُوا لكمال الأهمية كما يأتي.

و مادة (سلم) تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات، سواء كانت ظاهرية أم باطنية في الدّنيا أو الآخرة.

و هي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة و منها الإسلام، و السلام، و السلامة. و لعلّ أعذب استعمالاتها قوله تعالى في وصف المتقين: وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63]، و قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [الأنفال - 61].

و هذه المادة في جميع هيئاتها محبوبة عند الناس، قد أطلقها اللّه تعالى على ذاته الأقدس في جملة من أسمائه الحسنى، قال تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلَّذِي لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْمَلِكُ اَلْقُدُّوسُ اَلسَّلامُ [الحشر - 23]، فهو تعالى سلام فوق ما نتعقله من معنى السلام، و سبيله تعالى سبيل السلام و عباده الصالحين سلام من سلام، و داره دار السلام الذي هو مظهر غيبي و صورة حقيقية لهذه الآية، فهما متحدتان في الذات و مختلفتان بالاعتبار، إحداهما جوهر قائم بالذات و هو عالم الآخرة و الأخرى عرض قائم بالغير.

ص: 235

تكون و تبدل العرض بالجوهر و بالعكس سهل في نظام التكوين فضلا عن قدرة العزيز الحكيم، و الجميع عبارة عن الصراط المستقيم الذي له أطوار من الظهور في عالم البقاء و دار الغرور، و لكنّ الحقيقة واحدة التي هي عبارة عن العبودية الواقعية، فهو من أعظم تجلّيات اللّه تعالى لبني آدم و أعظم عناياته على خلقه، لأن يخرجه من الظلمات إلى النور.

و كافّة هنا بمعنى الجمع و الجميع حال من ضمير الجمع في قوله تعالى اُدْخُلُوا جيء به ليشمل جميع الأفراد للإعلام بأنّ الأمر متعلّق بالأمة بقدر ما هو متعلّق بالأفراد، فإنّ الجهات الاجتماعية الإسلامية يتقوّم المجتمع بها كما ينتفع الفرد منها لا محالة، بقرينة ذكر فرق الناس قبل ذلك.

و يحتمل أن تكون كَافَّةً تأكيدا للسّلم فتشمل جميع التكاليف الفردية و الاجتماعية، و الكمال الفردي و النوعي.

و الأولى أن يكون قوله تعالى: كَافَّةً تأكيدا لجميع ما سبق ليشمل جميع ما ذكرناه، بل بينهما ملازمة في الجملة.

و الخطاب للمؤمنين - كما ذكرنا - لكونهم أفضل الأفراد، و أقرب إلى الرشاد، و لتكميل الإيمان باللّه تعالى بالتسليم له سبحانه و الإخلاص له عزّ و جل، و البقاء عليه، فيكون أمرا بالثبات و الدّوام كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [النساء - 136] فعبّر بالدخول للإشارة إلى أنّ المطلوب في الكمالات المعنوية و المعارف الإلهية إنّما هو الإدامة و البقاء لا مجرّد الحدوث فقط، بل كلّ فضل و كمال شأنه كذلك، فإنّ المطلوب فيه هو الاستقامة و الدّوام، لأنّ المعارف الإلهية الحاصلة للنفس بالاختيار إنّما تؤثر في ذات الإنسان بواسطة الملكات الحاصلة منها حتّى تصير النّفس بالمواظبة عليها و ممارستها شعاعا من أشعة عالم الغيب على النفس فتنبعث عن الذات الأفعال الخيرية، فتصبح الذات من الذوات المقدّسة.

فيكون المعنى: يا أيّها الّذين آمنوا اثبتوا على الطاعة و التسليم لأمر اللّه

ص: 236

تعالى و لا تختلفوا و تتفرّقوا و لا تتبعوا الهوى، فإنّ في ذلك هلاككم و ذهاب سعادتكم.

و مقتضى إطلاق الآية الشريفة خصوصا بعد التأكيد بقوله تعالى:

كَافَّةً بناء على كونه تأكيدا للسلم شمولها لجميع ما يتعلّق بالشريعة المقدّسة الإسلامية بأصولها و فروعها، فإنّ جميع ذلك سلم حقيقي للإنسان صدر عن سلام مهيمن على الكلّ.

و إرشاد إلى الدعوة إلى العقل المقرّر بالشريعة، و الشريعة المتممة للعقل، إذ لا فرق بينهما في الواقع.

و على هذا يشمل جميع ما ذكر في معنى الآية، فإنّ عنوان السّلم للحق الواقعي ينطبق على ذلك كلّه، كما ينطبق على الإنسانية الكاملة و القرآن، و الخلافة الإلهية لتلازمها مع السّلم للحق الواقعي.

و المراد بالسّلم: السّلم الواقعي لا الادعائي، و هو يتحقق بعد الإيمان باللّه تعالى و الاعتقاد بأصول الشريعة اعتقادا تاما و العمل بما اعتقده، و جميع ما ورد في الروايات في تفسير هذه الآية الكريمة و ما ذكره المفسرون ليس إلا من بيان التطبيق و المصداق، و عمومها يشمل السّلم الشخصي و النوعي، و الدّنيوي و الاخروي لانطواء الكلّ في السّلم الذي يدعو إليه عزّ و جلّ.

و تشمل الآية الحدوث و البقاء، و الثاني أشدّ من الأول بمراتب و يعلم من ذلك كلّه كثرة ما عليه الناس من المخالفة لمثل هذه الآية.

و مفهومها الالتزامي يدل على أنّ مخالفة السّلم للحق المطلق لا يكون إلا باطلا، فيكون ذيل الآية بيانا للمفهوم الالتزامي المستفاد من صدر الآية المباركة.

و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى ب «السّلم» دون الإسلام لمحبوبية السّلم حتّى عند المنافقين أيضا، فيكون مفاد الآية نظير قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ [النساء - 136].

ص: 237

و هذه الآية من الآيات التي تدل على ثبوت مراتب للإيمان، لأنّه عزّ و جلّ جعل موضوع الحكم اَلَّذِينَ آمَنُوا و أمرهم بالدّخول في السّلم.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ .

الخطوات جمع خطوة: و هي تتبع الأثر، و خطوات الشيطان عبارة عن جميع ما يدعو إلى الباطل و الضلال، و جميع مصائده و مكائده في سبيل الانحراف عن الصراط المستقيم، و ما يدعو إليه الرّب الرّحيم.

و ذكره في المقام بيان للمفهوم الالتزامي لصدر الآية الشريفة و قد تقدم ما يتعلق بهذه الآية في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [البقرة - 168].

قوله تعالى: إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ .

بيان للسبب في النّهي عن اتباع خطوات الشيطان، و هذا التعليل علّة عقلية له، فإنّ العاقل، بل كلّ ذي شعور لا يتبع عدوّه المبين في العداوة، و قد ذكرت عداوة الشيطان للإنسان في آيات كثيرة من القرآن، قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يوسف - 5]، و في بعض الآيات المباركة عدوّ مضل مبين قال تعالى: إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ [القصص - 15]، و في بعضها: إِنَّ اَلشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا [فاطر - 35]، و قد اهتم القرآن بل جميع الكتب السماوية ببيان عداوته بطرق مختلفة، لأنّه أساس أنحاء الكفر و النفاق، و الفساد، و سلب السعادة عن الإنسان، و قد أقسم بعزّة اللّه تعالى لإغواء العباد فقال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص - 82].

و تنشأ هذه العداوة من أسباب عديدة:

أولا: إنّها ذاتية حيث قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [الأعراف - 12]، و لا أثر للنار إلا إزالة الطّين و تفريقه.

و ثانيا: إنّها إرادية إذ لا إرادة له إلا الفساد و الضّلال بخلاف المؤمنين

ص: 238

فإنّهم لا يريدون إلا ما أراده الحق تعالى.

و ثالثا: دركه لكرامة الإنسان و فضيلته عليه، قال تعالى، وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ [الإسراء - 70]، و قال تعالى حكاية عن الشيطان: أَ رَأَيْتَكَ هذَا اَلَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاّ قَلِيلاً [الإسراء - 62].

و رابعا: طرده لخبث ذاته عن عالم النّور إلى مهوى الغرور، قال تعالى:

فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ اَلصّاغِرِينَ [الأعراف - 13].

و خامسا: شعوره بأنّه لا حظّ له في دار النّعيم بل انحطاطه إلى أسفل درك من الجحيم بخلاف الإنسان فإنّه يدرك في الجملة أنّ له مقامات عالية إن أطاع ربّه الكريم، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ [الدخان - 51].

و سادسا: اللعن و الطّرد و الرجم من اللّه تعالى و الإنسان في كلّ حين و آن، قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [ص - 78]، و قال تعالى: وَ إِنَّ عَلَيْكَ اَللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ اَلدِّينِ [الحجر - 35].

و العجب من الإنسان مع أنّه يلعن الشيطان لا ينفك عن اقتفاء أثره و تتبع خطواته، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها أجلّ دعوة بأعذب لفظ و أحسن أسلوب للإنسانية الكاملة و التحذير عن المخالفة مع التضمّن للدّليل و البرهان، خصوصا بعد ملاحظة الآيات اللاحقة.

209 - قوله تعالى: فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ اَلْبَيِّناتُ .

الزلة: هي العثرة و الاسترسال من غير تعمّد و قصد. أي: فإن أعرضتم عن الدخول في السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان بعد ما جاءتكم الحجج الواضحات من تشريعاته المباركة و أحكامه المقدّسة، و بعد ما تبيّن لكم عداوة الشيطان و شقاوته و ضلاله و إفساده فلا عذر لكم في الميل عن الحق و الإعراض عن الصراط المستقيم.

ص: 239

و التعبير بالزلة و هي ما يصدر من غير عمد و التفات، للإعلام بأنّ التعمد في التقصير بعد تمامية الحجة مفروض العدم. و فيها كناية عن أنّه لا ينبغي أن يصدر من العاقل ذلك، و الكناية أبلغ من التّصريح في المحاورات.

و لم يذكر عزّ و جلّ العقاب مع الزلة لأنّها كالعثرة تكون بلا قصد، فلا وجه لثبوت العقاب في ما لا قصد فيه و لا اختيار، نعم، توعدهم على ذلك.

قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

العزيز: القدير الذي لا يغلب و هو من أسمائه الحسنى، و قد اطلق عليه تعالى في القرآن الكريم فيما يقرب من ثمانين موردا مع تعقبه غالبا بالحكيم أو الرّحيم أو العليم أو الحميد أو الكريم و غيرها.

و لعل وجه إتباعه بهذه الأسماء الحسنى المقدّسة أنّه يطلق مجرّدا على غيره تعالى كقوله سبحانه: حكاية عن بني يعقوب يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا اَلضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ [يوسف - 90]، و قال تعالى حكاية عن أخوة يوسف: قالُوا يا أَيُّهَا اَلْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنّا نَراكَ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [يوسف - 80]، و قد استعمل في غيره تعالى موصوفا أيضا، كقوله عز و جل: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْكَرِيمُ [الدخان - 49]، لكنّه للتهكم.

و الحكيم هو الذي يفعل بمقتضى الحكمة.

و المعنى: فإن زللتم عن السّلم و اتبعتم خطوات الشيطان فاعلموا أنّ اللّه تعالى مقتدر غير مغلوب في إنفاذ أمره يفعل فيكم بمقتضى حكمته المتعالية بلا إلجاء.

و في إتيان حكمته المطلقة المتعالية مع قدرته و عزته للإعلام بأنّ قدرته عزّته مقهورتان تحت حكمته التامة التي هي تنظيم الأشياء على وفق النظام الأحسن الرباني، و ليست هي مرسلة من كلّ جهة حتّى و لو حصل محذور في البين.

ص: 240

و فيه إرشاد للناس بأن لا يعملوا عزتهم و قدرتهم كيف ما شاؤا و أرادوا من دون فكر و روية، بل لا بد من تطبيقها على النظام العقلي و الشرعي، و إلا فقد يكون وبالا على العزيز القادر، و قد وردت في السنة الشريفة أحاديث كثيرة في ذلك.

و قد ذكر تبارك و تعالى العزة و الحكمة في المقام للإشارة إلى مكان العفو و الغفران، إذ القدرة على الانتقام شيء، و الانتقام الفعلي المنجز شيء آخر كما هو معلوم لكلّ من تدبر.

و من ذلك يعلم أنّ في الآية روعة الأسلوب في بيان المعنى المقصود و تقدم الوجه في أمثال قوله تعالى: فَاعْلَمُوا و ذكرنا أنّ هذا التعبير أشد في التذكير و العتاب.

210 - قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ .

بيان لقوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ المتضمّن للتوعيد فيكون احتجاجا آخر لعلّ الناس يرتدعون به عن العناد و اللجاج و يتركون متابعة الشيطان، و يدخلون في الصّراط المستقيم بأحسن أسلوب في بيان الحجة.

و قد تغيّر فيه الخطاب من الناس إلى خطاب الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) كما أنّه اختلف فيه الأسلوب ففيه الالتفات من الخطاب إلى الغيبة للإيهام بأنّ من يزل عن الصراط المستقيم غير لائق بالخطاب و للإعلام بأنّ الأمة قد يتغيّر حالهم و يزلّون عن الطريق المستقيم و يقع فيهم الاختلاف و التفرّق، فيشملهم ما أوعده اللّه تعالى في هذه الآية المباركة.

و الاستفهام إنكاري بمعنى النفي.

و مادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء، و هو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر، أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار و الإمهال، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك. نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ كما في قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 77]، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة و رفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.

ص: 241

و مادة (نظر) تدل على الطلب لإدراك الشيء، و هو الجامع القريب بين جميع استعمالاتها الكثيرة، سواء كان بالبصر، أم البصيرة، أم كان بمعنى الانتظار و الإمهال، لأنّ فيهما يطلب وقوع الشيء بعد ذلك. نعم، إذا استعملت بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ كما في قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [آل عمران - 77]، فإنّه يكون بمعنى إنزال الرّحمة و رفع العذاب لأنّه من صفات فعله المقدّس.

و في المقام يكون بمعنى الانتظار، أي ينتظرون هذا الأمر و قضاءه فيهم.

و الظّلل جمع ظلة: و هي ما يتستّر به، و سمي السحاب و الغمام بذلك.

و لم يرد لفظ «ظلل» في القرآن الكريم إلا في أربعة مواضع و جميعها كناية عن التهويل و العظمة، كما هو المستفاد في استعمال هذا اللفظ في المحاورات.

و الغمام: السحاب الأبيض الرّقيق سمّي به لأنّه يغمّ أي يستر، و المشهور بين المفسرين القول بالمجاز و الحذف في مثل الآية فإما أن يكون المحذوف (العذاب) بقرينة قوله تعالى: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ اَلْمُجْرِمُونَ [يونس - 50]، و حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه كثير في المحاورات الفصيحة.

أو يكون أمره تعالى بقرينة قوله جل شأنه: أَتى أَمْرُ اَللّهِ [النحل - 1]، و قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ اَلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ [النحل - 33]، و غير ذلك مما يصح إضماره، و لا بد من المصير إلى ذلك - كما هو كثير في القرآن الكريم - فيما لا تلائم نسبته إلى ذاته الأقدس. و الكلّ يرجع إلى إرادته المقدّسة.

و الملائكة عطف على اسم الجلالة أي: تأتي الملائكة الموكلة بقضائه.

و لعلّ الحذف و إسناد الفعل إلى الذات إنّما هو لأجل أن يعمّ الجميع و ليذهب المخاطب إلى أيّ مذهب ممكن و لزيادة التوعيد و التخويف.

و يمكن أن تكون الآية المباركة على المعنى الحقيقي من دون إضمار شيء في الموردين، أي يأتي اللّه تعالى و تأتي الملائكة. و يكون المراد من الظّلل من الغمام الحجب

كما ورد في الحديث: «إنّ للّه تعالى سبعين ألف حجاب من نور و سبعين ألف حجاب من ظلمة لو كشفت لأحرقت سبحات وجهه كلّ ما انتهى إليه بصره» فيكون مفاد مثل هذه الآية المباركة عبارة عن

ص: 242

بعض أفراد التجلّي له جلّت عظمته. و لعلّ اللّه تعالى يوفقنا لبيان معنى الحجب و كشف بعض أسرارها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و لا يستفاد من قوله تعالى: يَأْتِيَهُمُ في المقام و غيره أنّه قد نسب إليه صفة من صفات الأجسام فإنّه تعالى منزّه عنها بالأدلة القطعية الضرورية، بل المراد به بعض مراتب التجلّي، أو الإحاطة أو غيرهما مما يليق بالذات الربوبي لا الإتيان الظاهري، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يرتبط بالمقام.

و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ ما يكون بمنزلة الجنود لبيان الأهمية، و إلا فإنّ جنود ربّك كثيرة، قال تعالى:

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [الفتح - 7]، و قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الأحزاب - 9].

و لعلّ إنزال القهر و العذاب في الغمام عند إرادة التعذيب و الانتقام يكون أشد، و القهارية أظهر، قال تعالى: فَلَمّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اِسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف - 24]، و هذه سنته تعالى في عباده فيبلي العصاة و الظالمين بما يراد فيه النفع، و ينتفع أولياؤه بما يئسوا من نفعه، و تنحصر هممهم في الانتفاع من النافع العظيم و الملك البار القديم.

و كيف كان فالآية الشريفة متضمنة لتوعيد آخر و فيها بيان لبعض آثار متابعة خطوات الشيطان.

يعني: ما ينتظر من يتبع خطوات الشيطان إلا نزول عذاب اللّه تعالى الذي له طرق كثيرة تختلف حسب اختلاف الجهات و الخصوصيات فقد ينزل العذاب على الإنسان و تحيط به النقمة، كإحاطة الغمام بالأرض فيسترها عن الشمس، كذلك يستره عن رحمة اللّه تعالى.

و هذه الجملة المباركة تشير إلى أمرين:

أحدهما: السّتر عن الحقائق الواقعية، و عدم الوصول إليها، و أنّ متابعة

ص: 243

خطوات الشيطان تستر شمس الحقيقة عن البصائر كما تستر الشمس عن الأبصار بالغمام.

الثاني: أنّه تحيط به المكاره و المتاعب كإحاطة ظلل الغمام بما أظلّت عليه، و إن كان الإنسان لا يدرك ذلك ما دام متابعا لخطوات الشيطان، و الوجه في ذلك معلوم فإنّ التابع إنّما يتبع المتبوع في ما يدعو إليه حتّى يصير مثله و تسري فيه غريزته و طبيعته، فإذا كان المتبوع من أهل الضّلال و الفساد تسري في التابع هذه الغرائز فيصير نسخة أخرى من المتبوع فإذا اشتدت و قويت هذه الغرائز في الناس و استفحل الأمر و لم تنفعه النصائح و النذر لا بد من نزول العذاب في ظلل كالغمام لتحسم به مادة الفساد و تنقلع أسباب الضلال.

و الحاصل: إنّ ما ورد في الآية الشريفة يبين الحكم الوضعي لمتابعة الشيطان و الزلل عن الدخول في السّلم، و يستفاد منها سنخية العذاب مع المعصية و ملائمته مع الإثم.

و فيها إشارة إلى بعض كيفيات عذاب الاستقبال و عذاب الآخرة فيرجع تحصّل معنى الآية الشريفة: هل ينتظر هؤلاء علامات قيام الساعة، و انقضاء الأمر بالنسبة إلى أهل الجنة و أهل النار و حينئذ فلا تنتفع كلّ نفس بإيمان لم تكن آمنت به من قبل.

ففي الآية تهويل عظيم و توعيد شديد لأمر متوقع الحصول في هذه الدنيا، فتكون مرآة لما يقع في الآخرة.

و من ذلك يعلم أنّ العذاب لا يختص بالدنيا فقط أو الآخرة كذلك بل تكون وعيدا لما سيقع في الدنيا و الآخرة.

قوله تعالى: وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ .

جملة حالية، أي: حضر زمان القضاء و فصل الأمر فيقضي بالحق و لا رادّ لقضائه، و حذف الفاعل المعلوم في المقام للتهويل و إظهار الكبرياء كما هو كثير في المحاورات الفصيحة.

ص: 244

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ .

بيان لصدر الآية المباركة فإنّ من ترجع إليه الأمور بجميع جزئياتها و كليّاتها لا بد و أن يكون مبدأ لجميع تلك الأمور، لما أثبتناه سابقا من تلازم المبدأ و المرجع.

و في الآية الشريفة من التهديد و تهويل الأمر ما لا يخفى و إعلام بأنّ من كان يتوجه إليه في الجملة لا بد و أن يعدّ نفسه للرجوع إليه تعالى.

211 - قوله تعالى: سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ .

تثبيت و تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة و قد أورد عزّ و جل من أحوال بني إسرائيل بعد ما ذكر من الوعيد للاعتبار من أحوال الماضين، و للإعلام بأنّه يجري في المخاطبين ما جرى في الأمم السابقة إن هم استمروا في العناد و اللجاج و أعرضوا عن الدّخول في السّلم و زلّوا عما جاءهم من البينات.

و الاعتبار بأحوال الماضين أمر تربوي له أهميته الكبرى في تهذيب النفوس و التأثير العظيم في إصلاحها. و قد اعتنى به عزّ و جل في القرآن الكريم بذكره تعالى أحوال الأمم السابقة و ما جرى عليهم و فيه من الفوائد الكثيرة، بل هو أمر فطري في الجملة حتى لقد ارتكز في النفوس: «أنّ التاريخ يعيد نفسه» و لعلّنا نتعرّض للبحث عنه في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان ففي الآية المباركة تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله). و إنّها تشير إلى أنّ الجحود و اللجاج طبيعة واحدة و إن تعددت مظاهرهما في الأمم المختلفة كقوم إبراهيم، و قوم لوط و قوم موسى، و مشركي العرب، و كلّ ذلك ينشأ من الصّراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم، هو الصّراع بين العقل و الجهل.

و قد ذكر سبحانه بني إسرائيل لأنّهم كانوا وثيقوا الصلة بالعرب، و كانوا مجاورين لهم يعرفون من أخبارهم و يتتبعون آثارهم فهم بمرأى منهم و منظر.

ص: 245

و المعنى: إنّ هؤلاء بني إسرائيل قد آتاهم اللّه الآيات البينات التي تهديهم إلى الحق، و توضح لهم طريق السعادة، و ترشدهم إلى سبيل الرشاد.

فاسألهم أيّها الرسول الكريم كم آتيناهم من آية بينة فأنكروها و كذّبوها فعاقبهم اللّه تعالى أشد العقاب و عذّبهم بسوء العذاب، فاعتبروا بحالهم و ما آل إليه أمرهم من سوء العاقبة و ذهاب الملك و النبوة عنهم.

و في السؤال تقريع و توبيخ لهم بما صدر عنهم من الطغيان و الكفران بعد ما أنعم اللّه عليهم بأنواع النّعم و الإحسان.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اَللّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

بيان لسنة اللّه تعالى في خلقه و تطبيق للكلّي أي و من يغيّر نعمة اللّه تعالى بالكفران و الجحود و يضعها غير موضعها بعد ما جاءته من الآيات البينات التي أرسلها اللّه لتكون سببا في سعادته فإنّ اللّه تعالى يعاقبه بأشد العذاب، و اللّه شديد العقاب، لأنّه يرجع إلى وجوب شكر المنعم الذي هو أصل جميع الكمالات الإنسانية و درك المعارف الربوبية، فشدة العقاب إنّما هي أمر وضعي يترتب على من رضي بالذّل و الهوان، و الهمّ و الخسران، و قد عاقب نفسه بنفسه فحصلت له الندامة العظمى، قال تعالى: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [النحل - 118].

و في الآية الشريفة تهديد و توعيد لمن يتعدّى حدود ما أنزله اللّه تعالى، و بيان لسنته الجارية في خلقه، و تقدم في الآيات السابقة نظير هذه الآية.

و قد نسب سبحانه العقاب إلى نفسه في المقام و غيره مع أنّ الفعل منسوب إلى العبد بسبب سوء أعماله، و لكن نسبته إلى العبد بنسبة العلة الفاعلية، و أما جزاء الفعل فإنّه منسوب إليه بنسبة العلّة الغائية و ليس من اللّه تعالى إلا جعل القانون و بيان الجزاء على الموافقة و المخالفة و هو داخل في باب الإرشاد، و قد رجحنا في أصول الفقه تبعا للمحققين أنّ الأوامر و النّواهي في التشريعيات إنّما هي إرشاد إلى المصالح اللازمة الدرك أو المفاسد اللازمة

ص: 246

الدفع، و بعد ذلك يحكم العقل باللزوم.

فالآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام المستقلّة العقلية، و هو وجوب شكر المنعم، و قد ابتنى الفلاسفة جملة من المسائل العلمية عليه.

212 - قوله تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا .

الزينة معروفة، و هي إما نفسانية كالعلوم و المعارف الحقة، أو بدنية كالجمال و نحوه. أو خارجية كالمال و الجاه و نحوهما. و القسم الأول إمّا دنيوية أو دنيوية و اخروية معا، كالمعارف الحقة و الاعتقادات الحسنة و الأخلاق الفاضلة. و بالجملة الزينة إما واقعية حقيقية، أو وهمية خيالية التي هي ما سوى ما ينفع في الآخرة.

ثم إنّ الزينة المستعملة في القرآن الكريم تارة: تنسب إلى اللّه تعالى قال سبحانه و تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [الحجرات - 7]، و أخرى: إلى الشيطان قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام - 42]، و ثالثة: تستعمل من دون أن تنسب إلى أحد قال تعالى: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ [الرعد - 33].

و الآية في موضع التعليل لما تقدم في الآيات، و ذلك أنّ السبب في الزّلل و عدم الدّخول في السّلم و تغيير نعم اللّه تعالى و الجحود بآياته عزّ و جلّ إنّما هو تزيين الحياة الدّنيا و حبها هو الذي رأس كلّ خطيئة كما في الحديث و هذه قضية وجدانية، و ذلك لأنّ كلّ إنسان محفوف بالشهوات الكامنة فيه التي خلقها اللّه تعالى لحفظ النظام الأحسن فإذا كان معتقدا بالمبدأ و المعاد يكون مانعا من أن يتابع شهوات النفس و يعمل بها، و كلّ ما قوي هذا الاعتقاد يضعف المقتضي عن الفعلية حتّى يصل إلى مرتبة ينعدم الرادع و المانع فيصير المقتضي علّة تامة للغواية، و كذا بالعكس و حينئذ يكون حب الدنيا و زينتها سببا في صرف النفس عما يوجب كمالها، و الإعراض عما يؤثر في إصلاحها و تهذيبها فلا يعمل إلا ما ترتضيه نفسه و هواه و لا يكون همه إلا إعمال شهواته، و تكون الدنيا أكبر همّه فلا تنفع فيه النذر و الزواجر، و لا يؤثر فيه ما أنزله اللّه

ص: 247

من الآيات البينات.

و من ذلك يعلم أنّ الأمر لا يختص بالكافرين، بل يشمل كل من جرى فيه ما ذكرناه، فتشمل الآية الشريفة كل من بدّل النعيم الأبدي و السعادة الدائمة بالزخرف العاجل الفاني من المسلمين و غيرهم الذين نسوا اللّه فأنساهم أنفسهم بل ربما كان العقاب فيهم أشد لتمامية الحجة عليهم بعد الاعتقاد بالإسلام و معارفه.

و تزيين الدنيا إمّا أن يكون من الشيطان و ميل النفس الأمّارة إليها كما في قوله تعالى: وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ اَلْيَوْمَ مِنَ اَلنّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمّا تَراءَتِ اَلْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [الأنفال - 48]، و قوله جل شأنه: فَزَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اَلْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [النحل - 62]، و قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ [النمل - 24]، أو يكون قد زينها اللّه تعالى للناس لأجل الامتحان و ابتلائهم كما في قوله تعالى: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً [الكهف - 7]، و في هذه الصورة إن وقعت الدّنيا و زينتها في طريق اكتساب المعارف الإلهية و الكمالات الإنسانية و تهذيب النفس و إصلاحها فهي ممدوحة من كلّ جهة، بل هي الآخرة بنفسها. و أما إذا لم تكن كذلك بل كانت صارفة عنها و مضيّعة لها فهي الدّنيا المذمومة، و بذلك يجمع ما ورد في السنة المقدّسة من ذم الدنيا و ما ورد في مدحها فتحمل الذامة على الثانية و المادحة على الأولى.

قوله تعالى: وَ يَسْخَرُونَ مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

مادة (سخر) تستعمل لإعمال الغرض المقصود قهرا فإن كان استخفافا بالطّرف و استهزاء بالنسبة إليه تسمّى سخرية، و إن كان لغرض آخر من الأغراض الصحيحة تسمّى تسخيرا. و لهذه المادة استعمالات كثيرة بهيئات مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى: لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ [الحجرات

ص: 248

- 11]، و قال تعالى: لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف - 42]، و قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [الجاثية - 13].

و المعنى: و يسخر الكافرون من الذين آمنوا. و الأسباب لذلك كثيرة فإما أن يكون لأجل الزهد في الدنيا و الإعراض عن ملاذها و فقرهم فيها، أو لأجل تحملهم الشدائد و المصائب في جنب اللّه تعالى، أو لأجل إيمانهم، أو غير ذلك. و سخرية من زيّن له شيء و رآه حسنا ممن ليس على طريقته أمر فطري في الجملة فأهل الدنيا يسخرون من أهل الآخرة، قال تعالى: إِنْ تَسْخَرُوا مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ [هود - 38].

و سخرية أهل الباطل لأهل الحق من مظاهر الصراع القديم بين الحق و الباطل، و الآية في مقام ذم سخرية المؤمنين و قد أجمل سبحانه الذمّ كما أجمل مدح فوقية المتقين على الكافرين ليشمل جميع مراتب المدح و الذم، لأنّ لكلّ منهما مراتب بل مراتب الفوقية غير متناهية.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

بيان لحال المؤمنين في نعيم الآخرة و أنّهم فوق الكافرين يوم القيامة جزاء لاستعلاء الكافرين عليهم في الدنيا و السخرية منهم.

و لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء سخرية الكفار في الدنيا و اكتفى جلّت عظمته بأنّهم فوقهم يوم القيامة لأجل تعليم أهل الإيمان بأنّ خسة الطرف تمنع عن مجازاة المؤمن له، بل ينبغي له أن يكون ممن مدحه اللّه تعالى بقوله جلّت عظمته: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان - 72]، و قوله تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الفرقان - 63].

و إنّما عبّر سبحانه ب اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا و أثبت الفوقية لهم دون سائر المؤمنين لبيان أنّ التقوى هي الأصل في الوصول إلى الدرجات العالية، و إشارة إلى أنّ المقصود من الإيمان إنّما هو التّقوى لا مجرّد القول باللسان بلا عمل من الجوارح و الأركان.

ص: 249

و يمكن أن يكون المراد من التّقوى في المقام الإيمان في مقابل الكفر، فيكون ذكر التّقوى للإشادة بفضلها و عظم منزلتها.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

أي: إنّه تعالى يرزق من يشاء من عباده كلاّ حسب الأهلية و الاستحقاق بغير حساب، لأنّ الذات و الفضل فيه جلّت عظمته غير متناهيين و اللّه ذو الفضل العظيم.

و إنّما ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذه الآية ليعلم الناس أنّ الدنيا أيضا بجميع جهاتها و شؤونها تحت إرادته الربوبية القيومية و أنّ لإرادته عزّ و جل دخلا في الأسباب الظاهرية التي يؤتى بها لتحصيل الرّزق، كما لها دخل في تنظيم النظام الأحسن الربوبي بل رزق مخلوقاته داخل في هذا النظام الربوبي فلا يدور رزق عبد مدار صلاحه أو عدم صلاحه فإنّا نرى كثيرا من الفجار أغنياء و كثيرا من الأبرار فقراء، بل الأمر يدور مدار الأمور التكوينية و المصالح الواقعية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى، و في الحديث: «إنّما وسع اللّه أرزاق الحمقى ليعتبر العقلاء أنّ الدنيا لا تنال بمكر و حيلة».

ص: 250

بحوث المقام
بحث دلالي

تقدّم أنّ المراد من قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ و ما في سياقه من الآيات المباركة هو التجلّي الأعظم لإقامة الحقّ في النّوع. و المستفاد من مجموع ما وصل من الكتاب المبين و السنة الشريفة أنّه ثلاثة:

الأول: ليلة إسراء نبينا الأعظم سيد الأنبياء و خاتمهم حيث به ختمت التشريعات السماوية، كما أنّ به فتحت أبواب العلوم الربانية فوضع فخر الكائنات الدنيا تحت قدميه، و شرّف العرش بغبار نعليه، فأوحى اللّه جلّت عظمته إلى عبده ما أوحى، و قد أخذ (صلّى اللّه عليه و آله) الحق من الحق بالحق، و هو يوم تشريع القوانين الإلهية،

و قد ورد في بعض الدّعوات المعتبرة في البعثة و الإسراء «اللهم إنّي أسئلك بالتجلّي الأعظم».

الثاني: يوم كمال عقل جميع الناس واقعا و عملا، و هو يوم ظهور الإمام المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه) و هو أعظم أيام التجلّي الربوبي، و قد أجمعت الأنبياء على أنّه سيأتي هذا اليوم، و أثبتته القواعد الفلسفية المتقنة،

و في الحديث «إذا ظهر الحجة وضع اللّه يده على رؤوس العباد فتمّت بها

ص: 251

عقولهم، و كملت بها أحلامهم»

و قد روى الفريقان بأسانيد متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «لو لم يبق من الدنيا إلا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتى يظهر رجل من ولدي يملأ اللّه به الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا».

الثالث: يوم الجزاء الأكبر، و هو يوم الجزاء على القوانين السماوية، يوم ظهور الحق و العدل الإلهي. هذا ما يمكن القول في هذه الموضوعات الثلاثة بإيجاز، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل كلّ واحد منها.

و يصح أن يراد بهذه الآية المباركة جميع هذه الموارد الثلاثة، إذ الحقيقة واحدة و إن اختلفت بالاعتبار، و قد ورد تفسير الآية بكلّ واحد منها:

فعن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ قال: «هو يوم القيامة».

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) في تفسير الآية المباركة «ظهور المهدي (عليه السلام)» كما ورد تفسيرها بالرجعة، كما رواه الصّدوق عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

هذه هي تجلّيات اللّه تعالى الكبرى، و هي أهم بمراتب كثيرة من تجلّيه لموسى بن عمران (عليه السلام) و الاختلاف بينهما بالكلية و الجزئية.

و من عجائب الأمر أنّ هذه التجلّيات الثلاثة غاية خلق العالم مع أنّها من مبادئه.

ص: 252

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً قال: «في ولايتنا».

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) في قوله عز و جل: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُدْخُلُوا فِي اَلسِّلْمِ كَافَّةً قال: «أمروا بمعرفتنا».

أقول: حيث إنّ معرفتهم و الدخول في ولايتهم يشتمل على معرفة اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة، فيكون من باب التطبيق لا محالة.

و في التوحيد و المعاني عن ابن فضال قال: «سألت الرضا (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ اَلْأَمْرُ . قال (عليه السلام): «يقول: هل ينظرون إلا أن يأتيهم اللّه بالملائكة في ظلل من الغمام و هكذا نزلت. و عن قول اللّه عز و جل: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا . فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه لا يوصف بالمجيء و الذهاب، تعالى عن الانتقال و إنّما يعني بذلك: و جاء أمر ربّك و الملك صفّا صفّا».

أقول: ما ورد في الحديث بيان حسن جدّا للآية الشريفة كما هو شأنه (عليه السلام) في بيان الآيات المتشابهات. و المراد

بقوله (عليه السلام):

ص: 253

«هكذا نزلت» هو النزول البياني و التفسيري على قلب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

في تفسير العياشي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ وَ اَلْمَلائِكَةُ قال: «ينزل في سبع قباب من نور لا يعلم في أيّها هو حين ينزل في ظهر الكوفة فهذا حين ينزل».

أقول: المراد من قوله «ينزل» أي القائم بقرينة سائر الروايات الواردة في ظهور المهدي، مثل

ما رواه أبو حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «يا أبا حمزة كأنّي بقائم أهل بيتي - إلى أن قال - إنّه نازل في حباب من نور حين ينزل بظهر الكوفة».

و في روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «أيام اللّه ثلاثة: يوم الظهور، و يوم الكرّة، و يوم القيامة». و في بعضها: «أيام اللّه ثلاثة: يوم الموت، و يوم الكرّة، و يوم القيامة».

أقول: المراد من الظهور التجلّي، كما مرّ. و إنّ الحصر فيهما إضافيّ و ليس حقيقيّا. و قد تقدّم في البحث الدّلالي ما يرتبط بهذه الرّوايات.

ص: 254

بحث فلسفي

لقد ثبت في علمي الفلسفة و الكلام بالأدلة القطعية أنّ اللّه تعالى منزّه عن الجسم و صفات الأجسام، و لذا ذكر العلماء أنّ ما ورد في الكتاب و السنة مما ينسب إليه تعالى صفة من صفات الأجسام لا بد من تأويله بما يليق بذاته المقدّسة.

و ذلك: لأنّ ما أثبته محققوا الفلاسفة قديما و حديثا في درك حقائق الأشياء إنّما هو كشف الآثار و الخواص بحسب القدرة و الطاقة. و أما كشف حقائقها و الوصول إلى كنهها فإنّه يصعب جدّا لو لم يكن مستحيلا، فمثلا أقرب الأشياء إلى الإنسان إنّما هو النفس الناطقة التي تحيط بالبدن كإحاطة المدبّر الآمر بالمأمور المطيع المنقاد، و قد اجتهد العلماء منذ القدم في الفوز بحقيقتها و كشف النقاب عن هذا السّر المكنون و لكنّهم لم يظفروا باللّقيا، و اعترفوا بالعجز و القصور و لم يصلوا إلى حقيقة هذا الغيب المحجوب هذا بالنسبة إلى الممكن المخلوق الضعيف و مثله كثير.

أما بالنسبة إلى الخالق العظيم اللطيف فلا يمكن الإحاطة بذاته و كنه صفاته، و لا حقيقة أفعاله، و مع ذلك هو داخل في مخلوقاته لا دخول صفة.

و خارج عنها لا خروج عزلة، فسبحان من لا يتناهى جلاله، و لا يدرك جماله، و لا يعلم أفعاله.

ص: 255

و في جملة من الدّعوات الشريفة المأثورة: «يا من لا يعلم ما هو و لا كيف هو و لا أين هو إلا هو» فإذا كانت الذات هكذا فكلّما ينسب إليها أيضا لا بد أن يكون كذلك.

و لم يقتصر وضع الألفاظ للمعاني بعالم خاص، بل هي موضوعة للمعاني العامة في جميع العوالم من مادياتها و مجرداتها و غيبها و شهودها فإنّ العلم مثلا بالنسبة إلى عالم عرض قائم بالموضوع، و في عالم جوهر في المحلّ، و في عالم ثالث عين ذات الواجب الأقدس، و مع ذلك العلم علم بمفهوم واحد لا يتعدّد و لا يتغيّر و لا يتبدّل.

و مثال آخر تقول: رأيت زيدا في المنام جاءني و قال لي كذا. مع أنّه ليس في الخارج من ذلك شيء. و يأتي ما ذكرناه في الألفاظ المنسوبة إليه عزّ و جل مثل المقام: إِلاّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اَللّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ اَلْغَمامِ . و قوله تعالى:

وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [الفجر - 22]، و قوله تعالى: فَأَتاهُمُ اَللّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا [الحشر - 2]، و قوله جل شأنه: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ [الزمر - 42]، فإنّها مستعملة في المعنى الحقيقي، و لكنّ العوالم مختلفة لا أن يكون المعنى متعدّدا، فقولك: جاءني زيد يشمل مجيئه راجلا و راكبا على الدابة أو في المراكب الحديثة كالسيارة و الطائرة و غيرهما، و المجيء بالخلع و اللبس في عالم المعنى. و في الجميع يصدق مجيء زيد حقيقة، فيكون إتيان اللّه تعالى عبارة عن قربه إلى خلقه و الإحاطة به لا بمعنى فراغ مكان و إشغال مكان آخر. و سيأتي في نظائر المقام مزيد توضيح إن شاء اللّه تعالى.

ص: 256

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلن.......

اشارة

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) الآية المباركة تبيّن الحالة الاجتماعية التي كان الإنسان عليها و حاله من حيث ارتباطه باللّه تعالى و إظهار صفاته عزّ و جل في خلقه، و قد بينت أنّ الإنسان بطبعه يحب الاتحاد و الاجتماع و يطلب بفطرته التفوّق و حصول المزية في الحياة و أمر الدّنيا، و لقطع التنازع و التشاجر بين الأفراد بعد أن لم يكن العقل وحده كافيا و لذلك استدعى وضع القوانين المحكمة و إنزال المعارف الإلهية فبعث الأنبياء و المرسلين و معهم الكتاب ليحكم بين الناس.

ثم بيّن أنّ النبوة العامة هي لطف للناس تنير لهم الطريق، و تهديهم إلى الصراط المستقيم، و ترشدهم إلى السعادة و صلاح أمورهم الدنيوية و الاخروية.

و بيّن عزّ و جل حكما عاما في النبوة أنّها لا بد من اقترانها بالتبشير بالثواب و الإنذار بالعقاب ليتصف ما يأتي به الأنبياء بصفة الإلزام و الثبوت، و بذلك بيّن سبب إرسال المرسلين و بعث النبيين.

ص: 257

و ذكر سبحانه و تعالى أنّ الناس اختلفوا في أمر الدّين و معارفه فاختلّت بذلك الوحدة التي قصدها الأنبياء و المرسلون و وقع الاختلاف بعد التآلف و الاتحاد.

و أعلمنا أنّ الاختلاف في الدّين و ما جاء به الأنبياء إنّما يكون ممن أوتوا الكتاب بغيا و ظلما منهم بعد ما أتم اللّه الحجة عليهم، و هذا غير الاختلاف الذي هو فطريّ في أمر الدّنيا و وسائل الحياة بخلاف الاختلاف الذي هو افتعالي في أمر الدّين.

و في ذلك تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنين.

ثم ذكر أنّ اللّه تعالى هدى المؤمنين إلى الحق بإذنه و اللّه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.

و الآية مرتبطة بما سبقها من الآيات في أنّها جميعا تشير إلى ما يكون دخيلا في سعادة الإنسان و ما هو سبب في شقاوته، كما ذكرنا.

ص: 258

التفسير

213 - قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً .

مادة (الناس) مما اختلف فيها أهل اللغة في مبدأ اشتقاقها، فقيل إنّه أناس. و قال آخر: إنّه أنوس. و قال ثالث: إنّه إنسان. و كيف كان فهو معروف، و المراد به الأفراد المجتمعون من بني آدم. و قد ذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين و أربعين موردا، و جميع الكتب السماوية مشحونة به بلغات مختلفة، و هو محور حكايات ربّ السّماء، و مورد دعوة الأنبياء، لا حدّ لمقصده و مسعاه إذا كان للّه و إلى اللّه تعالى، كما لا غاية لمنتهاه لبقائه ببقاء اللّه تعالى.

و هذا القرآن المهيمن على كتب السّماء قد أشار إلى بعض أحواله و بيّن ما يجب عليه أن يكون من أقواله و أفعاله، و ذكر ما ينتهي إليه أمره في مآله، و يكفي في هداية الإنسان أن يتأمّل في نفسه و يعرف منزلته من أمته،

و في الحديث عن عليّ (عليه السلام) «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين».

و الأمة كلّ جماعة يجمعهم جامع واحد، سواء كانوا من ذوي العقول أم لا، و سواء كان ذلك الجامع زمانا أو مكانا أو شيئا آخر، تسخيريا كان أو اختياريا.

ص: 259

و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن، قال تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ [آل عمران - 110]، و قال تعالى: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ [الأنعام - 28]، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاّ خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر - 24]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً [النمل - 82]، و قال تعالى: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء - 29]، و قال تعالى: وَ لَمّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ اَلنّاسِ يَسْقُونَ [القصص - 28].

و قد يطلق على الواحد قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [النحل - 120]، باعتبار أنّه سبب في اتحاد جماعة و اتفاق في الدّين.

و لم يبيّن سبحانه متعلّق الوحدة لإفادة العموم فكان الناس متحدين في جميع الشؤون لا تفرق بينهم في الشرائع و النّحل، و إنّ الاختلاف بينهم في أمور الدنيا و ما يتعلّق بشؤون حياتهم، لما كانوا عليه من السذاجة و البساطة فكانوا على الفطرة الأولية التي لا اختلاف فيها و لا تفرق و ليس لهم من العلوم إلا البديهيات و الفطريات.

و يمكن تحديد هذا الدور بدور الطفولة في الحياة الإنسانية فلم يكن يعرف من رموز الحياة و أسرار الطبيعة و لم يكن همه من العيش سوى نيل البقاء بالطرق الأولية، فكان يأوي إلى الكهوف و المغارات للعيش، و يتغذّى على النبات و ما يقع تحت يده من الصيد، و يدافع عن نفسه بأبسط وسائل الدفاع.

و بالجملة إنّ في هذا الدّور من تاريخ حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة لم يكن تعقيد في أيّ وسيلة من وسائل حياته، و هو على فطرته الأولية في جميع شؤونه العلمية و الاجتماعية و الدينية،

و قد ورد في الحديث: «كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلاّلا». فالوحدة هي الأصل ما لم يثبت التكثر و التعدد اللذين حصلا بعد قرون عديدة و لم يبق الإنسان

ص: 260

على هذه الحالة بل بمقتضى السّير التكاملي إنّه استقبل أمورا لم يكن يعرفها من قبل، و ازدادت معارفه و علومه بعد أن كانت مقتصرة على المحسوسات فقط، و تمكن من الاستيفاء من الحياة بأفضل مما كان عليه فاقتضى هذا الوضع أن يبعث اللّه النبيين مبشرين و منذرين و ينزل معهم الكتاب ليبين لهم طريق السعادة و تحفظ لهم الوحدة و يرفع الاختلاف و التزاحم بينهم، و يسهّل لهم الاستفادة من مزايا الحياة بعد أن لم يتمكن العقل الذي هو شرع داخلي لوحده أن يتصدّى لذلك بل لا بد من شرع خارجي يعضده كما ذكرنا مرارا.

و من ذلك يعلم أنّه لا يشترط أن يكون بعث الأنبياء (عليهم السلام) إلا بعد حصول الاختلاف بين أفراد الناس، كما ذكره بعض المفسرين.

و المشهور بين المفسرين أنّ المراد بالآية الشريفة أنّ الناس كانوا أمة واحدة على الهداية، و الاختلاف إنّما نشأ بعد نزول الكتاب و بعث الأنبياء، فإن كان مرادهم من ذلك ما ذكرناه من أنّهم كانوا على الفطرة غير جاحدين للربوبية فلا إشكال، و إلا فإنّ الهداية إنّما تحصل من بعث الأنبياء (عليهم السلام) و إنزال الكتب و المعارف الإلهية.

ثم ما هو الدّاعي لزعزعة الوحدة ببعث الأنبياء الذين هم يبغونها و إشاعة الاختلاف و التنازع بين أفراد الإنسان؟!!.

و قيل: إنّ المراد بالاية المباركة أنّ الناس كانوا أمة على الضلالة بقرينة قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ لأنّ إرسال الرسل و إنزال الكتب إنّما يكونان لرفع الضلالة.

و لكن فساده واضح:

أما أولا: فلأنّ مصلحة إرسال الرسل و بعث الأنبياء لم تقتصر على ما ذكر، بل يمكن أن تكون لإتمام الحجة عليهم.

و ثانيا: إذا كانوا جميعا على الضلالة فما وجه نسبتها إلى البعض منهم و هم حملة الكتاب.

ص: 261

و قيل: إنّ المراد من الآية المباركة أنّ الناس أمة واحدة من حيث بعض الأمور الاجتماعية الفطرية فلا غنى لهم عن الاجتماع و التعاون و لا يمكن حصول الكمال إلا بهما بلا تحديد لذلك بوقت من الأوقات بل هو سنة جارية بعد أن كان الإنسان مدنيا بالطبع، و الاجتماع يؤدي إلى الاختلاف و التشاجر فلذلك بعث اللّه الأنبياء و المرسلين، فيكون الفعل الناقص في الآية المباركة (كان) منسلخا عن الزمان، و يدل على الثبوت.

و يشكل عليه: بأنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة، كما أنّ تفريع بعث الأنبياء و المرسلين على مجرّد كون الإنسان مدنيّا بالطبع و أنّ الاجتماع يوجب الاختلاف غير صحيح، بل ذكرنا أنّ بعث الأنبياء (عليهم السلام) لم يشترط فيه الاختلاف و التنازع بل هو لأجل بيان الصراط المستقيم، و جلب السعادة، و إتمام الحجة عليه و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال و جلب السعادة و لا يتحقق ذلك إلا بإنزال الكتب الإلهية و المعارف الربوبية، كان هناك اختلاف أولا.

قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ .

البعث يأتي بمعنى توجيه الشيء و إثارته، و يختلف باختلاف المتعلّق و بعث الأنبياء إنّما هو لتوجيه الناس إلى المعارف الحقة و إثارة ما في عقولهم،

فعن عليّ (عليه السلام): «فبعث فيهم رسله و واتر إليهم أنبياءه، ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول» فجميع المعارف الربوبية كانت موجودة في الفطرة الإنسانية على نحو الاقتضاء و الاستعداد، و لكن احتجبت بالحجب الظلمانية، و قد بعث اللّه الأنبياء لإزالة تلك الحجب. و هذا بحث نفيس من مباحث الروح، و قد أيدته نظريات علمية حديثة في مطلق علوم الإنسان، و يأتي في المحلّ المناسب الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و البشارة: هي الوعد برحمة اللّه و رضوانه و جنته.

و الإنذار: هو الوعيد بعذاب اللّه تعالى و عقابه، و هما من حكمة بعث

ص: 262

الأنبياء و إرسال الرسل، و بهما يتصف ما يأتيه الأنبياء بصفة الثبوت، و التمكين في نفوس أغلب أفراد الإنسان و إن كان بعض المؤمنين الصالحين يعبدون اللّه تعالى خالصا لوجهه الكريم من دون أن تتعلّق نفوسهم بغيره.

و تقديم البشارة على الإنذار لأجل أنّه تعالى سبقت رحمته غضبه فيكون ذلك بلحاظ الجاعل و المشرّع، أو لأنّ تلك الوحدة التي كانت بين الناس في الاعتماد على الأمور الفطرية مما اقتضى تقديم البشارة على الإنذار في المقام.

و في بعض الآيات الأخرى قدم سبحانه النذير على البشير، قال تعالى:

إِنْ أَنَا إِلاّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الأعراف - 188]، و قال تعالى: أَلاّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اَللّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ [هود - 2]، و يكون ذلك بلحاظ حال العباد و المكلّفين حيث إنّ التوعيد أقوى لديهم على الحث على العمل من التبشير، فمجموع الآيات الواردة في هذا السّياق تجمع بين ما هو مقتضى شأنه تعالى و ما هو مقتضى حال العباد، فيكون الاختلاف باختلاف حالات الأمم و سائر الجهات.

و إنّما عبرّ سبحانه و تعالى بالبعث دون الإرسال، لأنّ حال الإنسان في هذا الدور من حياته على الأرض كانت حال خمود و خمول لا يقصد إلا البقاء و الاستفادة من وسائل الحياة البسيطة كما ذكرنا فكان الأنسب أن يبعث اللّه النبيين ليثيروا لهم الدّفائن التي أودعها اللّه تعالى في عقل الإنسان و ينبهه بما يمتاز به عن سائر مخلوقاته، و ما يؤول إليه أمره و ينير له طرق كماله و منازل سيره الاستكمالي، و هذا هو وظيفة النبي الذي يبعثه اللّه تعالى إلى خلقه.

و قد ذكر سبحانه النبيين دون المرسلين، لأنّ النبي أعم من الرّسول فيشمل من ليس له كتاب و شريعة مستقلة، فإنّه بنفسه يكفي في الحجية و الدّاعوية إلى اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ .

بيان لكون الأنبياء مبشرين و منذرين أي: إنّ تبشيرهم و إنذارهم لا

ص: 263

يكونان إلا من كتاب اللّه تعالى، و هو القانون الأتم الأكمل و النظام الرباني التشريعي.

و المراد به في المقام: هو الضم، سواء كان في الإرادة أو في اللفظ أو في الحروف، أو في الصحيفة، أو في الخارج، و كلّ شيء يراد فهو جمع في الإرادة، فإذا قيل فهو جمع في اللفظ، و إذا كتب فهو جمع في الصحيفة. و إن أنشئ خارجا فهو جمع في الاتحاد، و إذا عمل به فهو جمع في الخارج.

فالجامع في الجميع هو النظم و الجمع.

و قد استعمل الكتاب بتمام هذه الاستعمالات في القرآن الكريم، كما وردت هذه المادة بهيئات مختلفة في القرآن العظيم، و في خصوص لفظ (الكتاب) في أكثر من مأتي مورد، و تستعمل في المعارف المعنوية و الشؤون الأخروية.

و الكتاب أخص من الصحيفة قال تعالى: صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة - 2]،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنزل اللّه مائة و أربعة كتب و أنزل منها على آدم (عليه السلام) عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ - و هو إدريس - ثلاثين صحيفة، و هو أول من خطّ بالقلم. و على إبراهيم (عليه السلام) عشر صحف، و التوراة، و الإنجيل، و القرآن».

و المراد من الكتاب في المقام جنسه ليشمل الشرائع السماوية الخمسة المختصة بأولي العزم من الأنبياء: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام)، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى [الشورى - 13].

و يستفاد من هذه الآية المباركة بانضمام الآيات الأخرى أنّ نوحا أول من أتى بشريعة في كتاب سماوي متضمن لمنهاج إلهي يرشد إلى الصّلاح و يشمل من الأحكام و المعارف التي تهدي الإنسان إلى السعادة في الدّارين، كلّ شريعة بحسب ما يلائمها من الظروف و القابليات إلى أن انتهت إلى شريعة

ص: 264

خاتم الأنبياء الجامعة لجميع الشرائع الإلهية السابقة مع ما تختص بها من معارف ربوبية و أحكام إلهية.

و لا يستفاد من الآية أنّ لكلّ نبي كتابا مستقلا - كما عن بعض المفسرين - كما هو المعلوم من مثل هذا التعبير في المحاورات بل قصد منها أنّ النبيين يحكمون بالكتاب النازل من السّماء و لو كان نازلا على بعضهم، فيسمى من أنزل عليه الكتاب صاحب الشريعة و سائر الأنبياء إنّما يتبعون أحد هؤلاء، فإنّ النبوات السّماوية ذات مراتب متفاوتة، إما من جهة نفس النبيّ، و الأنبياء يختلفون في مرتبة الاستعداد الذاتي كاختلاف سائر أفراد الناس فيه، أو من جهة ما أمروا بالإنباء عنه فإنّه يختلف اختلافا كثيرا حسب المقتضيات و الظروف التي لا يحيط بها إلا اللّه عزّ و جل، أو من جهة الامة بعد اتفاق الجميع في الإنباء عن المبدأ و المعاد و بعض المستقلاّت العقلية. فالآية تشمل كلا القسمين من الأنبياء (عليهم السلام).

و قوله تعالى بِالْحَقِّ يصح تعلقه بالكتاب كما يصح تعلقه بالنزول للتلازم بين حقيقة النزول و حقيقة الكتاب، فإذا تعلّق بأحدهما يستلزم التعلق بالآخر.

و إنّما وصف سبحانه الكتاب بالحق لأجل إعلام الناس بأنّ الأنبياء إنّما بعثوا و أنزل معهم الكتاب لبيان الحقّ و الهدى، فالقيد توضيحي أتي به تجليلا و تعظيما للكتاب السّماوي لا أن يكون احترازيّا، و له نظائر في القرآن الكريم تأتي الإشارة إليها.

قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ .

أي ليحكم الكتاب المنزل من اللّه تعالى المتضمن للشرع الإلهي. أو ليحكم اللّه عزّ و جل المنزل للكتاب بين جميع الناس. و لا فرق بين الوجهين بعد اعتبار الحكم مطلقا عند العقلاء بحسب الفطرة ففي العرف يقال: حكم القانون، أو حكم الجاعل للقانون.

و هذه الآية و ما في سياقها بيان لإحدى حكم و فوائد إنزال الكتب

ص: 265

السّماوية، و يدل عليه البرهان العقلي بالقول: بأنّ الاختلاف وجداني بين الناس و يجب رفعه في تنظيم النظام، و رفعه منحصر بالحكم بالحق فيجب الحكم بالحق لرفع الاختلاف بين الناس، سواء كان في أمور الحياة أو في غيرها مما يكون منشأه الجهل و الأهواء الباطلة.

و الحكم بين الناس بالحق من أهم الأمور النظامية، و بزواله و اختلافه يختل النظام، و لذلك اهتم الإسلام به و حصر الحكم و الحاكم في أربعة:

الأول: أن يكون الحاكم و الحكم كلّ منهما بالحق، و الحاكم يعلم أنّ حكمه حق، و هذا مطلوب للرّحمن و يكون مصيره إلى الجنان.

الثاني: أن يكون الحاكم فاقدا للشرائط و كان حكمه حقّا، و هذا مبغوض للرّحمن و مصيره إلى النّيران.

الثالث: الصورة السابقة مع كون حكمه باطلا و هذا أيضا مثل السابق بالأولى.

الرابع: أن يكون الحاكم جامعا للشرائط، و حكمه حق، و هو لا يعلم أنّه حق، و هو أيضا مبغوض و مصيره إلى النّار، كلّ ذلك لكثرة أهمية الحكم بالحق الذي هو من صفات اللّه تعالى و أعظم منصب من مناصب الأنبياء فلا وجه لأن يدنّس بما لا ينبغي أن ينسب إليهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، و قد ذكرنا بعض ما يتعلّق بالمقام في كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

الاختلاف: هو التغاير في الجملة، و المتخالفين أعم من الضدين و المتناقضين لإمكان ارتفاعهما و اجتماعهما، و الثاني لا يمكن اجتماعهما و إن أمكن ارتفاعهما، و الأخير لا يمكن فيه ارتفاعهما و لا اجتماعهما. و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة.

و الاختلاف إما تكويني، كاختلاف الليل و النّهار، و اختلاف الألوان و الألسنة؛ أو اختياري ينتهي إلى الإرادة و هي تنتهي إلى خصوصيات

ص: 266

الاستعدادات الذاتية فتنتهي أخيرا إلى الذات، و هو ينتهي إلى القدرة الأزلية، و أشير إلى ذلك في قوله تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ [الروم - 22].

و لو قلنا بأنّ الاختلاف بين الناس في المقاصد و الغايات و سائر الفطريات لهم في الجملة مقهورة تحت إرادة الحي القيوم على نحو الاقتضاء لا العلية التامة لكان حسنا، و يترتب على ذلك أهم أمور النظام الأحسن و أعظمها، و يأتي شرح هذه الجمل في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و مادة (بغي) تأتي بمعنى تجاوز الاقتصاد في ما هو قابل للتجاوز سواء تجاوز أم لا. و هو على أقسام: فتارة من الحق إلى الحق. و أخرى من الباطل إلى الحق، و هما ممدوحان. و ثالثة من الحق إلى الباطل. و رابعة من الباطل إلى الباطل، و هما مذمومان.

و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله تعالى: يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فهو بالمفهوم يدل على ثبوت البغي بالحق.

و المراد به في المقام القسمان الأخيران من الأقسام.

و قد تستعمل بمعنى أصل الطلب، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة كلّها بالنسبة إلى الناس، و لم أجد استعمالها بالنسبة إلى اللّه تعالى، و لا بالنسبة إلى أهل الآخرة فيها، سواء كان في النعيم أو في الجحيم.

و المعنى: إنّ الاختلاف إنّما حصل من حملة الكتاب العالمين به بغيا منهم و تجاوزا فحرّفوا كتاب اللّه تعالى و ضيّعوه و تعدّوا حدوده.

و يستفاد من قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ أنّ الاختلاف الحاصل في الكتاب و الشريعة لا يكون إلا من حملة الكتاب الذين قد استبانت لهم الآيات، و هم الأصل في الاختلاف الواقع في الأديان الإلهيّة و أنّ غيرهم و إن كانوا على الخلاف، و لكنّهم منحرفون عن الصّراط و ليسوا بغاة، و يشهد لذلك

ص: 267

الاختلاف في كلّ علم فإنّه يكون من العالمين به دون غيرهم ممن لا علم له به.

كما يستفاد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ أنّ الكتاب إنّما نزل لرفع الاختلاف و التوفيق بين الناس و إسعادهم بما فيه من الحجج الواضحة و البراهين القويمة، و لكن يشوب الحق أهواء العالمين به و أغراضهم الفاسدة و زيغهم بتحريف الكتاب أو تأويله بما لا يرتضيه عزّ و جل، أو بتبديل آياته، أو الأخذ بمتشابهاته و الإعراض عن محكماته.

و من مجموع الآية المباركة يستفاد أنّ الدّين المنزل من اللّه تعالى لا اختلاف فيه، و هو موافق للفطرة التي لا تلبيس فيها، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها [الروم - 30]، و الاختلاف إنّما يكون من غيره عزّ و جل الحاصل بين علماء الكتاب و حملته من بعد علم، و لذا يكون من بغي و هو تعالى لا يعذر الباغي في الدّين، و أما غيره ممن انحرف عن الدّين فقد يعذره إن اشتبه عليه و لم يستطع حيلة، و على ذلك دلّت آيات كثيرة قال تعالى: إِنَّمَا اَلسَّبِيلُ عَلَى اَلَّذِينَ يَظْلِمُونَ اَلنّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الشورى - 42].

قوله تعالى: فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ .

مادة (أذن) تأتي بمعنى الإرادة و المشيئة، و قد استعملت فيهما في القرآن الكريم فيما يقرب من عشرين موردا. و يلزمهما العلم، و لا ريب في أنّ الإرادة و المشيئة أخص من العلم، قال تعالى: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [البقرة - 102]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ [النساء - 64]، أي بإرادة اللّه و أمره. و قال تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ [آل عمران - 49]، و قال تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ [البقرة - 339]، إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و الآية في مقام بيان الإيمان الحق الذي لا اختلاف فيه واقعا إلا اختلاف حصل من بغي حملة الكتاب.

ص: 268

و المعنى: إنّ اللّه تعالى هدى الّذين آمنوا في مورد اختلاف الناس في الحق الّذي هو الدّين و المعارف الإلهية بعلمه و إرادته، فالهداية الحقيقية التي هي أشرف المقامات الإنسانية و أجلّ المعارج العرفانيّة تنتهي إليه جلّت عظمته على نحو الاقتضاء لا على نحو العلية التامة ليلزم الإلجاء و الجبر، فإنّ اللّه تعالى لا يجبر أحدا على الإيمان و الهداية و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

و يستفاد من الآية المباركة: أنّ للّه تعالى أفرادا من الناس في كلّ أمة لهم قابلية الهداية و الاهتداء إلى الحق و هم المؤمنون الذين لا يؤثر فيهم اختلاف الناس في الحق. بهم ينوّر اللّه السّبيل، و قد أفنوا حياتهم في سبيل اللّه تعالى، و هم في سكون و اطمئنان و سائر الناس في اختلاف و اضطراب، و بهم تتم الحجة على العباد.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

أي: يهدي و يوصل - على سبيل الاقتضاء - من أراد من عباده إلى الواقع الذي هو الصراط المستقيم كما مر.

ص: 269

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ الآية المباركة تدل على أنّ الفطرة الإنسانية و إن كانت سبب الاتحاد في برهة من الدّهر إلا أنّها غير كافية في رفع الاختلاف و التنافر بين الناس. و الدّين المنزل من اللّه تعالى المتضمن لمنهاج الأمة في الحياة.

و المتكفّل لجميع شؤون الإنسان في الدّارين هو السبب الوحيد لرفع الاختلاف و التنافر و الاضطراب، و أنّه يوجب سكون النفس و اطمينان القلب و الاستفادة مما أودعه اللّه تعالى في الإنسان من الفطرة و العقل، و في الأرض من الوسائل بأحسن وجه و هو الذي يوجب الاتحاد بين أفراد الناس.

الثاني: أنّ الأديان الإلهية التي جاءت في سبيل سعادة الإنسان في الدّارين تختلف في الكمالات حسب مقتضيات الظروف، فكلّ دين لا حق أكمل من سابقه إلى أن ينتهي إلى خاتم الأديان فإنّه يستوعب جميع احتياجات الإنسان و قوانينه أكمل القوانين. و لا كمال فوق ما جاء به خاتم النبيين (صلّى اللّه عليه و آله)، و لذا ختم سبحانه و تعالى النبوة بما جاء به (صلّى اللّه عليه و آله).

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أنّ حكمة إرسال الرسل و بعث الأنبياء

ص: 270

(عليهم السلام) إنّما هي تكميل الإنسان و بيان سبل السعادة له و رفع الاختلاف الذي هو من غرائز الإنسان بعد أن لم يتمكن العقل و الفطرة بانفرادهما بتوجيه الإنسان إلى ذلك، و قد خلق اللّه تعالى الإنسان و هو يحب الكمال و يسير نحو الاستكمال، و اللّه تعالى هو الذي اعتنى بهداية كلّ شيء إلى تمام خلقه و كماله المعدّ له، قال تعالى: رَبُّنَا اَلَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه - 50]، و لا شيء أكمل من أن يهتدي الإنسان إلى سعادته و كماله في الدنيا و العقبى، فهو يرسل الرسل و الأنبياء لتكميل الإنسان و جلب السعادة له.

الرابع: تعلق المشيئة بهداية عبد من عباده غير معلوم لغيره تعالى، فلا يمكن أن يحيط بالخصوصيات غيره جلّت عظمته، و كذا بالنسبة إلى تعلق المشيئة بضلالة أحد من عباده.

الخامس: يستفاد من الاقتصار على الصّراط المستقيم في قوله تعالى:

وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أنّه هو الهداية الحقيقية الأبدية التي لا نفاد لها، و أنّه أعلى مراتب الهداية، بل هو الغاية القصوى لكلّ مؤمن، و هو أعظم و سام يمنحه اللّه عزّ و جل لمن يشاء من عباده يتعزّز به في الدنيا و يرفع به إلى الدّرجات العليا في العقبى، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الحمد، فراجع.

و ذكر لفظ (من) الظاهر في ذوي العقول من باب التغليب لا الحصر.

السادس: الحكم نحو من الإيجاد و هو إما خارجي أو اعتباري و في قوله تعالى: لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ هو الثاني، و الإيجادي منه يختص باللّه جلّت عظمته، و هو يشمل جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها و مجرداتها، فإن جميع مخلوقاته تحت حكمه الشامل للسّماوات و الأرض. و أما التشريعي ففي القرآن الكريم و السنة الشريفة منه شيء كثير.

ص: 271

بحث روائي

في تفسير العياشي عن يعقوب بن شعيب عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام): «كان هذا قبل نوح أمة واحدة فبدا للّه فأرسل الرسل قبل نوح. قلت: أعلى هدى كانوا أم على ضلالة؟ قال (عليه السلام):

بل كانوا ضلاّلا كانوا لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين».

أقول: الظاهر أنّ في

قوله (عليه السلام): «فأرسل الرسل قبل نوح»، إجمالا لا سيّما بعد ملاحظة صدر الرّواية و ما يأتي من الرّوايات فإن أمكن حمله على محمل صحيح، و إلا يردّ علمه إلى أهله.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «فبدا للّه» هو إظهار المخفي، كما يأتي شرحه في قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرّعد - 39].

كما أنّ المراد من

قوله (عليه السلام): «بل كانوا ضلاّلا» أي عدم إعمال فطرتهم بما أراده اللّه تعالى لا الضّلالة في أصل الفطرة حتى يناسب

قوله (عليه السلام): «كانوا لا مؤمنين و لا كافرين و لا مشركين» و ما يأتي من الروايات.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام):

ص: 272

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ . قال (عليه السلام):

«كانوا قبل نوح أمة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلاّلا فبعث اللّه النبيين».

أقول: هذا موافق للأمر التكويني لعدم تشعب الأفكار، بل كانوا على سذاجة الفطرة لا مهتدين بالهداية التشريعية، و لا ضلاّلا بضلالة الكفر، لعدم إتمام الحجة بالرسل و عدم حدوثها بعد فلما بعث اللّه الرسل و أتم الحجة بهم اختلفوا و تفرقوا.

و في تفسير العياشي عن مسعدة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ قال (عليه السلام): «كان ذلك قبل نوح فقيل: فعلى هدى كانوا؟ قال (عليه السلام):

بل كانوا ضلاّلا، و ذلك أنّه لما انقرض آدم و صالح ذريته و بقي شيث وصيّه لا يقدر على إظهار دين اللّه الذي كان عليه آدم و صالح ذريته. و ذلك أنّ قابيل توعّده بالقتل كما قتل أخاه هابيل فسار فيهم بالتقية و الكتمان فازدادوا كلّ يوم ضلالا حتّى لم يبق على الأرض معهم إلا من هو سلف، و لحق الوصي بجزيرة في البحر يعبد اللّه، فبدا للّه تعالى أن يبعث الرسل، و لو سئل هؤلاء الجهال لقالوا قد فرغ من الأمر، و كذبوا، إنّما هو شيء يحكم به اللّه في كلّ عام ثم قرأ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فيحكم اللّه تبارك و تعالى: ما يكون في تلك السنة من شدّة أو رخاء أو مطر أو غير ذلك. قلت: أ فضلاّلا كانوا قبل النبيين أم على هدى؟ قال (عليه السلام): لم يكونوا على هدى، كانوا على فطرة اللّه التي فطرهم عليها، لا تبديل لخلق اللّه، و لم يكونوا ليهتدوا حتى يهديهم اللّه، أما تسمع لقول إبراهيم: لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ اَلْقَوْمِ اَلضّالِّينَ أي ناسيا للميثاق».

أقول: هذه الرّواية تجمع بين ما دلّ على أنّهم كانوا قبل نوح ضلاّلا، و ما دلّ على أنّهم لم يكونوا كذلك، فيكون المراد بالضلال أي عدم فعلية دعوة الرسل الإلهية فيهم. و سيأتي شرح البداء و ما قيل من أنّه قد فرغ من الأمر في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 273

و في تفسير العياشي عن الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام): «كان ما بين آدم و بين نوح من الأنبياء مستخفين و مستعلنين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن فلم يسمّوا كما سمي من استعلن من الأنبياء - الحديث -».

أقول: إنّ الوجه في كونهم مستخفين عدم صلاحية الظروف لإظهار الدّعوة، كما عرفت في الرواية السابقة.

و في نهج البلاغة قال (عليه السلام) في خطبة له يذكر فيها خلق آدم (عليه السلام): «و أهبطه إلى دار البلية، و تناسل الذرية، و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرسالة أمانتهم لما بدّل أكثر خلقه عهد اللّه إليهم، فجهلوا حقه، و اتخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشياطين عن معرفته، و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله، و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، و يذكّروهم منسيّ نعمته، و يحتجوا عليهم بالتبليغ، و يثيروا لهم دفائن العقول، و يروهم الآيات المقدّرة - الخطبة -».

أقول: إنّ هذه الخطبة تشتمل على حكمة بعث الأنبياء و إرسال الرسل (عليهم السلام) و أنّهم يدعون إلى الفطرة الإنسانية كما أنّ الفطرة تدعو إليهم أيضا، فهم مع الفطرة متلازمان في الواقع، و لكنّ الفطرة بوجودها الوجداني لا تكفي في نوع الإنسان للداعوية فلا بد من تكميلها بحجة خارجية، و هي الأنبياء و الرسل، كما ذكرناه في البحث الفلسفي.

و

قوله (عليه السلام): «و اجتالتهم الشياطين» أي استخفتهم فجالوا معهم في الضّلال.

و قوله (عليه السلام) «ليستأدوهم» أي يؤدّي لهم الأنبياء ميثاق الفطرة، و سيأتي إن شاء اللّه في الموضع المناسب شرح الخطبة الجليلة.

و في التوحيد عن هشام بن الحكم قال: «سأل الزنديق أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال: فمن أين أثبتّ أنبياء و رسلا؟ قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): إنّا لما أثبتنا أنّ لنا خالقا صانعا متعاليا عنّا و عن جميع ما خلق، و كان ذلك الصانع حكيما لم يجز أن يشاهده خلقه، و لا أن يلامسه و لا يلامسهم، و لا يباشرهم

ص: 274

و لا يباشروه، و لا يحاجهم و لا يحاجوه فثبت أنّ له سفراء في خلقه و عباده يدلونهم على مصالحهم و منافعهم و ما فيه بقاؤهم و في تركه فناؤهم، فثبت الآمرون و الناهون عن الحكيم العليم في خلقه، و ثبت عند ذلك أنّ له معبّرين و هم الأنبياء و صفوته من خلقه، حكماء مؤدبين بالحكمة مبعوثين بها غير مشاركين للناس في أحوالهم و على مشاركتهم لهم في الخلق و التركيب، مؤيّدين من عند الحكيم العليم بالحكمة و الدّلائل و البراهين و الشواهد: من إحياء الموتى و إبراء الأكمه و الأبرص، فلا تخلو أرض اللّه من حجة يكون معه علم يدل على صدق مقال الرّسول و وجوب عدالته».

أقول: حديث شريف يبيّن احتياج الناس إلى النبوة و وجوبها في الخلق و بيان ارتباط الخلق مع الخالق.

و يتضمّن الحديث ما يجب أن يتصف به الأنبياء، و لزوم كون الأنبياء مظهرين للمعجزة في الخلق ليكون ذلك علامة على أنّهم بعثوا من عالم الغيب إلى عالم الشّهادة، و أنّه لا يمكن خلوّ الناس من أول خلقهم إلى آخر فنائهم عن حجة للّه تعالى عليهم إمّا ظاهرة أو مستورة خفية، لعدم استعداد الظروف لظهورها. و كل ما ورد في الحديث الشريف مطابق للآيات القرآنية و الشواهد العقلية، كما ستعرف في المحلّ المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 275

بحث فلسفي

إنّ موضوع النبوة مطلقا من الموضوعات العامة التي ترتبط بالإنسان من جميع جهاته من نشأته إلى مماته، و برزخه و خلوده، و من حيث حياته الفردية و الاجتماعية، و من حيث ارتباطه مع الخالق العظيم و مع الخلق، و من حيث سعادته و شقاوته، و بالجملة إنّ لها تأثيرا مباشرا في كمال الإنسان، و لها ارتباط وثيق بالنفس الإنسانية و قد بحث عنها في غير واحد من العلوم كعلمي الفلسفة و الكلام، و علوم الدّين.

و قد اعتنى اللّه تبارك و تعالى بها اعتناء بليغا، فأرسل الرسل و بعث الأنبياء و أنزل الكتب مع ما أودع في فطرة الإنسان من حب الكمال و السّعي إلى الصّلاح، و ما ألهمه من العقل الذي يدعوه إلى الاستكمال بالحق اعتقادا و عملا، و لكن كلّ ذلك لن يقدر على النّهوض إلا مع الانضمام بالنبوة، كما ستعرف.

و هي بالإضافة إلى أنّها تبليغ للأحكام الإلهية و المعارف الربوبية إنّها أهمّ وسيلة لتربية الإنسان وفق النظام الأحسن و أعظم سبيل لتثبيت تلك المعارف و الأحكام في النفس الإنسانية لأنّ لها ارتباطا قريبا بها من حيث إنّها توجب رسوخ تلك المعارف و العلوم في النفس فتحدث ملكات تصدر عنها أعمال ترتسم بموجبها في النفس صور فيكتسب بها كمالات تعيّن لها طريق

ص: 276

السعادة و القرب من اللّه تعالى.

و بالعكس لو كانت تلك الملكات هي مجموعة صور عن الأعمال الفاسدة و العلوم الباطلة فتوجب الشقاوة و البعد عن اللّه تعالى.

و لا ريب في أنّ تلك الملكات تحصل من الأفعال الاختيارية التي تصدر من شعور نفسي كامن في الإنسان أنّه يسعى إلى الكمال و أنّ له مبدءا فياضا يفيض عليه بما يليق به من الكمال لأنّ وصول ذلك الكمال إلى المرتبة الفعلية و تبديل القوة إلى الفعل بحسب اختياره فإن كانت تلك الملكات و الأعمال صحيحة و فاضلة توجب السعادة و إلا فالشقاوة و البوار، و لا يمكن أن يدفع هذا الشعور الباطني في الإنسان إلا اعتقاد الصلاح و الفساد الذي يكون منشأ للنبوة العامة.

فتكون سعادة السعداء و شقاوة الأشقياء دخيلتين في نظام العالم، لأنّ الإنسان أعظم المخلوقات و أفضل الموجودات، فهذا الموجود العجيب الذي خلق لأجله ما في البرّ و البحر، و سخّر اللّه له الليل و النّهار، فهو بوجوده النوعي غاية الخليقة، و لم يبارك اللّه جلّت عظمته على نفسه في جميع مخلوقاته بمثل ما بارك في خلق هذه الجوهرة الثمينة و الدّرّة اليتيمة، فهو مع ذلك كلّه معرض الكون و الفساد، و تزاحم الأضداد، و إهمال تربية مثل هذا الموجود العظيم يكون نقضا في النظام الأحسن. و هذا الأمر الفطري الوجداني هو منشأ التشريعات السّماوية، و إرسال الرّسل و بعث الأنبياء، و يمكن تسمية ذلك بقاعدة اللطف كما سماه أهل الفلسفة و الكلام. و لا بأس بذلك إذ لا مشاحة في الاصطلاح.

هذه خلاصة الدّليل العقلي للنبوة العامة، و ينطبق على النبوة الخاصة أيضا.

قد يقال: إنّ في ذلك تعطيل العقل الذي أودعه اللّه تعالى في الإنسان و شرّفه به على جميع من عداه، فإنّ العقل بانفراده يكون كافيا للدّاعوية في السّير إلى الاستكمال، فلا يحتاج إلى النبوة و الخلافة الإلهية.

ص: 277

و لكنّه باطل: لأنّ العقل لو كان بمجرده من دون أن تشوبه الأفكار المادية و الإحساسات الناشئة من القوى الشهوية و الغضبية، لكان كافيا فإنّه نور إلهيّ. و لكن أنّى يكون مثل هذا. نعم، هو بالقوة أما الذي موجود بالفعل فهو مشوب بالأفكار المادية و الإحساسات الشهوية و الغضبية، فلا يمكن له النهوض مستقلا إلا بتأييد غيبي إلهي، و يدلنا على ذلك الأقوام الجاهلية الهمجية و البربرية فإنّهم من أفراد الإنسان و فيهم العقل، و مع ذلك هم أقرب إلى الحيوان في تصرفاتهم.

مع أنّه يمكن أن نقول بأنّ الاستكمالات إن كانت دنيوية فقط أمكن القول بالاكتفاء بالعقل، و أما الاستكمالات المعنوية التي توجب سعادة الدّارين فهي لا بد أن تكون من المبادئ السّماوية، و العقل بدونها لا يكفي.

فالكمال إما دنيوي أي للدنيا و في الدنيا، أو أخروي أي في الدنيا للآخرة، أو هما معا أي لهما في الدنيا. و لو فرض الاكتفاء بالعقل فإنّما هو في القسم الأول فقط، دون الأخيرين اللذين هما الكمال الحقيقي الذي يطلبه الإنسان بالفطرة، و هو لا يمكن طلبه إلا بتأييد إلهي. و أما الأول فهو كمال جسماني ناقص.

ثم إنّ النبوة العامة التي جاءت لتكميل الإنسان و هدايته، ليست على نحو العلية التامة بحيث يكون لها فعلية التأثير في الفرد و المجتمعات الإنسانية حتى يستشكل بأنّ النبوة ليست إلا فرضية غير قابلة الانطباق على الحقيقة، لكثرة ما نرى من الشقاء و الخلاف في أفراد الإنسان.

لأنّ النبوة كسائر ما يدعو الإنسان إلى الكمال هي من قبيل المقتضي إنّما تؤثر إذا رفعت الموانع و الحجب و وظيفة النبوة إنّما هي إراءة الطريق و إنزال المعارف و الأحكام التي لها تأثير مباشر في النفس الإنسانية و تثبت بالأعمال الصالحة و الأفعال المرضية صفات و ملكات راسخة تصدر عنها الأعمال و تورث مع الأجيال، فهي كاشفة عن أخلاق الفرد و صفاته هذا بالنسبة إلى الفرد.

ص: 278

و أما بالنسبة إلى المجتمع فهو إنّما يصلح بصلاح أفراده، و هذا مما لا يمكن إنكاره، و ما وصلت الإنسانية إلى ما نراه في الوقت الحاضر من الانحطاط و سوء الأخلاق و الشقاء إلا بإهمال الدّين و الأخلاق الفاضلة و المعارف الحقة.

هذا بالنسبة إلى أصل النبوة التي تقرن بالوحي الذي هو محاورة بين الموحي و الموحى إليه تتعلّق بما يريده اللّه تعالى من عباده.

و أما عدد الأنبياء و المرسلين فإنّ الوارد في القرآن الكريم أنّهم كثيرون مختلفون في الفضل قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة - 253]، و لم يذكر لهم عددا معينا، و لم يقصص القرآن عن جميعهم، و إنّما قص عن بعضهم قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ [المؤمن - 78].

فقد عدّ اللّه تعالى في كتابه الكريم خمسة و عشرين منهم، و هم: آدم، و نوح، و إدريس، و هود، و صالح، و إبراهيم، و لوط، و إسماعيل، و اليسع، و ذو الكفل، و إلياس، و يونس، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف، و شعيب، و موسى، و هارون، و داود، و سليمان، و زكريا، و يحيى، و إسماعيل صادق الوعد، و عيسى، و محمد (صلوات اللّه عليهم أجمعين). و ذكر تعالى بعضهم بالكناية و التوصيف، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً [البقرة - 246]، و قال تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها [البقرة - 259]، و قال تعالى: وَ اَلْأَسْباطِ [البقرة - 136]، و قال تعالى: فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنّا عِلْماً [الكهف - 65]، و قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اِثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس - 14].

و أما الأحاديث الواردة في عددهم فهي مختلفة، و المشهور أنّ عددهم مائة و أربعة و عشرون ألف نبيّ،

ففي الحديث عن أبي ذر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ الأنبياء مائة و أربعة و عشرون الف نبي، و المرسلون منهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر نبيا».

ص: 279

و أما أولو العزم منهم فهم خمسة - و هم سادات الأنبياء - نوح، و إبراهيم و موسى، و عيسى، و محمد (صلوات اللّه عليهم)، قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [الأحقاف - 35]، و لكلّ واحد من هؤلاء شريعة، قال تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى [الشورى - 13].

كما أنّ لكلّ واحد منهم كتابا، قال تعالى: إِنَّ هذا لَفِي اَلصُّحُفِ اَلْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [الأعلى - 19]، و قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ [المائدة - 46].

و المراد باولي العزم: أولو الثبات و الاستقامة فيما عهد إليهم مما أمرهم اللّه تعالى به و نهاهم عنه، و تبليغ ذلك إلى الأمة، أي الاستقامة في الدّين بالدّين و للدّين بوحي سماوي، قال تعالى: وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً [الأحزاب - 7].

ص: 280

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِل.......

اشارة

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ (214) كلام في غاية البلاغة، و خطاب في منتهى الفصاحة، يقرع الأسماع بجواهر لفظه، و يشدّ القلوب بآثار وعظه، و أجلى بيان لشرح سنة اللّه تعالى الجارية في الأمم من أنّه لا يمكن الحصول على المقصود و لا الظفر بالمطلوب إلا بعد بذل غاية الجهد، و لا يتحقق الانتصار إلا بعد الصبر و الاصطبار، و مقاساة الهموم و الشدائد، و الآية مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها تثبت ما ورد فيها، فقد دلت على لطف اللّه تعالى بالناس أن بعث إليهم الأنبياء و المرسلين ليرشدوهم إلى الكمال و السعادة، و ذكر تعالى هنا أنّ ذلك لا يتم و لا ينال الفوز و الصّلاح إلا بعد الجهد و مقاساة الهموم و الشدائد و الثبات و المصابرة حتّى يأتيهم النصر.

ص: 281

التفسير

214 - قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

(أم) هنا منقطعة تفيد الإضراب بمعنى بل. و (الحسبان): مجرد الوهم بلا تصوّر لخصوصيات الموضوع حتى يؤخذ بالراجح منها.

و الخطاب لمن هداه اللّه تعالى إلى الإيمان، و هم المسلمون الذين أمرهم اللّه عزّ و جل بالدّخول في السّلم و عدم اتباع خطوات الشيطان فإنّ في ذلك سعادة الدّارين، كما أمرهم بالاعتبار من أحوال الماضين الذين بدّلوا ما أنعم اللّه عليهم كفرا فحلّ عليهم غضب من ربّهم.

و في الآية تثبيت لما ورد في الآيات السابقة، و بيان لها بأنّ ما ذكر فيها لا يتحقق و لا يمكن الوصول إلى ما يريده ربّ العالمين و الدّخول في الجنة التي وعد المؤمنين بها إلا بالثبات و المصابرة و التسليم و الرضا.

و هي تبيّن حكما فطريّا عقليّا بني عليه صلاح الفرد و النوع، و المجتمع - بل هو عادة الطبيعة أيضا - و هو أنّه لا يمكن الفوز بالمقصود و الوصول إلى المطلوب إلا بعد العمل و بذل الجهد، و أنّ الأجر على قدر المشقة، فكلّما عظم المقصود اشتد السعي و الجهود، و يستحيل في السنّة الطبيعية حصول الثمرة من دون غرس الشجرة، كما يستحيل الأخذ بالنتائج و الغايات إلا بعد تحصيل المقدمات.

ص: 282

و في الآية التفات من الغيبة إلى خطاب المؤمنين بعد ما نزّلوا منزلة الغيبة في أول الكلام، و العدول عنهم في أثنائه ثم الرجوع إليهم بالخطاب معهم، و ذلك لوجوه بلاغية.

قوله تعالى: وَ لَمّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ اَلَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ .

المثل - بكسر الميم و سكون الثاء، أو بفتحتين -، كالشّبه و الشّبه، و هو وصف الشيء و بيان نعوته التي توضحه، و تضرب الأمثال للامتحان و الابتلاء.

و مادة (خ ل و) تستعمل في المكان و الزمان. و إذا استعملت في الثاني تكون بمعنى المضيّ، و الذهاب، و الانقضاء، قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [آل عمران - 144]، و قال تعالى: وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ [الرعد - 6]، و قال تعالى: سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ [غافر - 85]، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و كذلك في السنة المقدّسة

ففي الحديث «إنّ اللّه تعالى خلو من خلقه، و خلقه خلو منه». و المراد به المباينة لا العزلة، كما فسر في أحاديث أخرى.

و المعنى: يا أيّها المؤمنون كيف تتوهمون و تطمعون أن تدخلوا الجنة و لما يجر عليكم ما جرى على الصالحين من قبلكم في شؤون دينهم و دنياهم، فإنّكم تبتلون و تمتحنون بمثل ما جرى على الغابرين فإنّ الطريق المسلوك واحد، فكلّما جرى على السالكين الواصلين إلى المطلوب يجري على اللاحقين لوحدة المبدأ، و الغاية، و السلوك.

و في الآية تسلية لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه مما كانوا يلاقونه من المشركين المعاندين من صروف البلاء و أنواع الأذى.

قوله تعالى: مَسَّتْهُمُ اَلْبَأْساءُ وَ اَلضَّرّاءُ وَ زُلْزِلُوا .

بيان للمثل الذي ذكره سبحانه فيما تقدم.

و (المس): هو اللمس إلا أنّ الثاني أعم من الأول، لأنّه لا يقال في

ص: 283

المس إلا و الممسوس معه، بخلاف الثاني فإنّه يصح أن يقال: لمسته فما وجدته.

و التعبير به في المقام لبيان أنّ البأساء و الضرّاء لم يعرضا عليهم فقط بل أصابتاهم و مستا و ذاقوا شدائدهما فصبر المؤمنون و ثبتوا على دينهم و لم يهنوا.

و (البأساء): ضدّ النّعماء، و هي ما يصيب الإنسان في غير نفسه من أنحاء الأذى. و (الضرّاء): ضدّ السرّاء، و هي ما يصيب الإنسان في نفسه، كالقتل و الجرح و نحوهما. و (الزلزلة) هي الاضطراب الشديد، و تضاعف حروف لفظها يشهد على تضاعف معناها، و لم ترد هذه الهيئة في القرآن الكريم إلا في ستة مواضع كلّها تدل على الشدّة و الاضطراب العظيم، سواء أ كان في الدنيا أم في الآخرة، قال تعالى: هُنالِكَ اُبْتُلِيَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً [الأحزاب - 11]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ اَلسّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ [الحج - 1].

قوله تعالى: حَتّى يَقُولَ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اَللّهِ .

أي: أنّ الرسول و المؤمنين مع ثباتهم و صبرهم على تحمل المكاره و الأذى، و إحاطة أعداء اللّه تعالى بهم و وقوعهم في الاضطراب و الهول الشديدين يفزعون إلى اللّه تعالى، يطلبون منه النصرة، و يستمدّون منه عزّ و جلّ العون، و يستنزلون رحمته.

و قوله تعالى: مَتى نَصْرُ اَللّهِ مقول قول المرتبطين مع اللّه تعالى من الرسول و المؤمنين دعاء منهم و استنصارا للحق، و رغبة منهم في إظهار دين اللّه عزّ و جلّ، و النصرة على الأعداء.

و يصح أن يكون مقول المؤمنين لرسولهم، أو يكون مقولهم للّه تعالى، و يجوز أن يكون بالاختلاف.

و في الآية إرشاد للمؤمنين إلى أن يكونوا مثلهم في الصّبر و تحمّل الأذى و الفزع إليه عزّ و جلّ.

ص: 284

قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ .

جملة مستأنفة لا تتمة لمقول الرسول و الذين آمنوا معه. و وعد من اللّه تعالى لهم بالبشرى بالنصر و قربه منهم، كما وعد عزّ و جلّ به في آيات أخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ [الصّافات - 171-172].

و لفظ (ألا) - بالفتح -: يفتتح به الكلام للتنبيه و الإعلام، يؤتى به للإشعار بعظمة الكلام و أهميته، و في المقام لا شيء أهم و أعظم من قرب نصر اللّه تعالى لأهل البلاء و المحن، كما في قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس - 62].

ص: 285

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: تدل الآية الشريفة على دوام الابتلاء و الامتحان في الأمم و جريانهما وفق السنة الإلهية، و لا يستثنى من ذلك قوم و لا أمة.

و تدل أيضا على تكرار الحوادث و ما جرى على الأمم الغابرة، و هو المعبّر عنه بعود التاريخ و تكراره.

الثاني: أنّ تمنّي الجنة بدون تحمّل متاعب التكليف و مشاقه في مرضاة اللّه من اللغو الباطل، و من جوامع

كلمات نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«حفّت الجنة بالمكاره». و يمكن أن يجعل ذلك من القواعد العقلية من باب ملازمة المعلول للعلة التامة، و عدم انفكاكه عنها.

الثالث: أنّ تمنّي النّصر من اللّه جلّت عظمته عند تناهي الشدّة لا يكون منافيا للشكر و التسليم، و الرضا بالقضاء، لفرض أنّ الجميع منه تعالى و إليه عزّ و جلّ. و من ذلك يعلم أنّه لا يضرّ بمقام الرسول لو طلب من اللّه تعالى النّصر مع علمه بوعده عزّ و جلّ له به، فإنّ الرسل يطلبون من اللّه تعالى دائما النّصر بلسان الحال أو المقال.

ص: 286

الرابع: يدل قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ على أنّ عند شدة البلاء يكون النّصر، و تدل عليه أحاديث من السنة الشريفة منها

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «عند تناهي الشدة يكون الفرج».

الخامس: لم يذكر سبحانه درجات الجنة و مقاماتها لعدم تناهيها و لأنّها تختلف باختلاف مراتب المبتلين بالبأساء و الضّرّاء.

و إذا كان هذا حال من أراد الوصول إلى الجنان فكيف حال من أراد الوصول إلى ساحة الرّحمن و ظهور تجلياته عزّ و جلّ فالطريق يكون أصعب، و الامتحان أشد، فلا بد من ترك ما سواه و التوجه إلى من لا يقصد الملأ الأعلى إلا إياه، و التفاني في حبّ اللّه تعالى، و مراقبة النفس في جميع الأحوال.

ألاحظه في كلّ شيء رأيته *** و أدعوه سرّا بالمنى فيجيب

ملأت به سمعي و قلبي و ناظري و كلّي و أجزائي فأين يغيب

السادس: إنّ قوله تعالى: أَلا إِنَّ نَصْرَ اَللّهِ قَرِيبٌ يتضمّن قاعدة عقلية عرفانية، و هي محبة الخالق لخلقه، و المعبود الحيّ القيوم لعباده، و استباق العلّة التامة لمعلولها، و تربيبه العظيم لجميع جهات العبد بذاته و أعراضه، و قد أثبت أهل الفلسفة العملية أنّ هذا الشوق تكويني، كما فصّلوا ذلك في مباحث النفس، و شرح المقام يأتي في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 287

بحث أدبي

ص: 288

الثاني: أنّ «لمّا» تنفي مع توقع الحصول، و «لم» لنفي المنقطع، و قد ذكروه في المقام.

الثالث: أنّ «لمّا» للنفي المستمر إلى الحال، و منفي «لم» يحتمل الاتصال.

الرابع: أنّ منفيّ «لمّا» لا يكون إلا قريبا من الحال و لا يشترط ذلك في منفيّ «لم».

الخامس: أنّ منفيّ «لمّا» جائز الحذف لدليل و لا يجوز ذلك في منفيّ «لم».

ص: 289

بحث روائي

ذكر الواحدي في أسباب النزول في قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

نزلت هذه الآية في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد و الشدّة و الحرّ (و الخوف) و البرد، و سوء العيش و أنواع الأذى، و كان كما قال اللّه تعالى:

وَ بَلَغَتِ اَلْقُلُوبُ اَلْحَناجِرَ [الأحزاب - 10].

أقول: هذا من باب التطبيق و بيان بعض الصغريات و إلا فحكم الآية عامّ إلى قيام الساعة.

ص: 290

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) هذه الآية تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية التي يتقوّم بها نظام المعاش و المعاد، فقد بينت أصل الإنفاق و ما ينفق به، و من ينفق عليه. و هي مرتبطة بالآيات السابقة من حيث إنّها جميعا ترشد الإنسان إلى ما هو السبيل في سعادته، و توطئة لما يأتي من الآيات الواردة في الجهاد من حيث إنّ بذل المال كبذل النفس من علامات الإيمان، فمن وطّن نفسه على بذل المال هان عليه بذل النفس في سبيل اللّه تعالى.

ص: 291

التفسير

215 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ .

(الإنفاق) من المعاني المعروفة بين الناس. و أصله النقل و التبديل. سواء كان بالعوض - كما في المعاوضات - أو بدونه - كما في المجانيات لأغراض صحيحة أم فاسدة. في سبيل الدّنيا أم الآخرة. فالكل إنفاق إلا أنّ بعض المذكورات ممدوح و بعضها مذموم. و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات شتّى.

و السؤال يعرض لكلّ مؤمن يريد معرفة تكاليفه الشرعية، و منها أصل الإنفاق و جنسه، و من ينفق عليه، و سائر خصوصياته، لئلا يكون هدرا و باطلا.

و قد ورد مثل هذا السؤال في خمسة عشر موردا في القرآن العظيم قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَنْفالِ [الأنفال - 1]، و قال تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [البقرة - 219]، و في جميعها ترغيب للناس إلى السؤال عن الأحكام، و تحريض لهم بالاهتمام في رفع الجهل و إعلان بأنّ السؤال من الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) سؤال من اللّه تعالى، و إبلاغ بأنّ معلّم النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و مربيه هو اللّه عزّ و جلّ، و لذا عقّب سبحانه في جميع تلك الموارد بجملة قُلْ . و قد تقدم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْأَهِلَّةِ [البقرة - 189] بعض ما ينفع المقام.

ص: 292

و السؤال و إن كان لمعرفة جنس ما ينفق و نوعه، فإنّ (ما) إنّما تكون لمعرفة حقيقة الشيء، سواء بالمعنى المنطقي أم بالمعنى العرفي الذي تنزّل عليه الخطابات القرآنية. و لكنّ الجواب عام يشمل جنس ما ينفق، و من ينفق عليه، لأنّ الخير يتضمن جميع جوانب الموضوع و خصوصياته زمانا و مكانا و صفة. فإنّ الخير ما كان محبوبا عقلا و شرعا. و الحرام و المشتبه لا يكونان كذلك، فقد ورد في السنة الشريفة أنّ الإنفاق منهما يكون إثما و زورا على المنفق، و هو مستفاد من هذه الآية الشريفة، فإنّ السنة شارحة للقرآن العظيم الذي هو الأصل لجميع المعارف الإلهية، و لو ظهر القرآن في صورة التكثرات فإنّه يظهر في السنة المقدّسة. و لو تجلّت السنة الشريفة في الصورة الوحدانية لتجلّت في الصورة القرآنية. و الجميع شروق غيبي على العقل الكلّي المجرّد، و تجلّ إلهي في عالمي الملك و الملكوت حصل لسعادة الإنسان و لتكميل العقول الناقصة.

و من ذلك يعلم: أنّ الجواب لم يكن تحويلا لجواب آخر، بل كان جوابا شاملا لما كان يقصد السائلون معرفته، و ما هو الأفضل لهم و هو من ينفق عليه، فأجمل سبحانه في الأول لشمول لفظ الخير للجميع من الأعيان و المنافع و الانتقاعات و غير ذلك. و فصّل في الثاني لأجل الاهتمام به.

و يظهر مما تقدم: أنّ ما ذكره المفسرون في المقام لا يخلو من مناقشة واضحة.

قوله تعالى: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ .

(الخير) مقابل الشر، و هما يتصفان بالحقيقية و الإضافية، و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم. و يطلق على ذات المبدأ جلّت عظمته، و كلّ ما هو في صراطه و طريقه و مضاف إليه حتّى الخلود في الجنة، فهو من أعم الأشياء لفظا و معنى. كما أنّ الشر يطلق على ذات الشيطان، و كلّ ما في سبيله و يضاف إليه إلى الخلود في النار، و قد جمعهما

عليّ (عليه السلام) في كلمته المباركة: «ما خير بخير بعده النّار و ما شرّ بشرّ بعده الجنّة و كلّ نعيم دون الجنّة فهو محقور و كلّ بلاء دون النّار عافية».

ص: 293

و لم يعين سبحانه الخير هنا لأنّه يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الأمم، فكلّ ما هو خير عرفا داخل في هذه الآية ما لم يرد نهي شرعي في البين.

و المعنى: قل في جوابهم ما يظهر لهم خصوصيات الموضوع، فيعرفون ما ينفقونه و هو ما كان خيرا لوجه اللّه تعالى يرجع نفعه للمنفق و المنفق عليه، و يعرفون مواضعه حتى لا يكون الإنفاق في غير موضعه تضييعا للمال و تترتب عليه المفاسد.

قوله تعالى: فَلِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ .

(اليتم) في الإنسان: انقطاع الصبي عن أبيه قبل بلوغه، و في الحيوان عن أمه، و كلّ متفرد في نوعه يتيم، يقال: درة يتيمة. و ابن السبيل المنقطع عن ماله. و المساكين الفقراء.

و قدّم سبحانه الوالدين لأنّهما أقرب الناس، و لما تحمّلا من المشاق في التربية، و قد تقدم في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ [البقرة - 177]، ما يتعلّق بالمقام فراجع.

ثم إنّ الإنفاق ينقسم حسب التكاليف الخمسة الشرعية، فهو إما واجب كالزكاة، و الخمس، و الكفارات، و الفدية. أو مندوب كالهدايا و العطيات و نحوهما مما هو كثير. أو مكروه، كالإنفاق على الأجنبي مع وجود ذي رحم محتاج، أو الإنفاق على البعيد مع احتياج الجار و فقره، و عدم المانع من الدفع إليهما في البين أو حرام، كالإنفاق بالأموال المحرّمة أو المشتبهة في ما إذا وجب الاحتياط و الاجتناب عن أطراف الشبهة، و هي كثيرة. أو مباح، كالإنفاق للتوسعة من غير الحقوق الواجبة على فقير عنده ما يكفيه لضروريات معاشه.

و التفصيل مذكور في كتب الأحاديث و الفقه.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

وعد من اللّه تعالى بالجزاء على الخير الصادر من كلّ فاعل، و إعلام بأنّه لا يغيب عنه فهو محفوظ عنه لا يذهب هدرا باطلا بل يجازي عليه بالجزاء الأوفى.

ص: 294

و إنّما ذكر سبحانه الخير مع أنّه عالم بجميع ما يصدر عن الإنسان من خير و شر، قال تعالى: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [التوبة - 16] للاهتمام به، و كثرة العناية به مطلقا.

و الآية مع إيجازها تشتمل على الخير، و ثمرته، و علم اللّه تعالى به، و جزائه عليه، و ذلك لأنّ الخير محبوب له، و هو عالم بصدوره و محبته لشيء تكون جزاء حسنا له.

و يستفاد من هذه الآية أمور:

الأول: ترغيب الناس في فعل الخير، و الاستكثار منه، لغرض أنّه في علم اللّه تعالى لا يغيب عنه.

الثاني: الإيماء إلى كون الإنفاق و فعل الخير ينبغي أن يكون بعيدا عن الرياء و الشرك، و المنة و جميع أنحاء الشر، فإنّ الإنسان إذا استحضر عند فعله الخير علم اللّه تعالى به خلص عمله.

الثالث: عدم احتقار اليسير من المال في الإنفاق، فإنّ المناط كله خيرية الإنفاق و محبوبيته عند اللّه تعالى و عند الناس قال تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ [آل عمران - 92]، و لذا استبدل عزّ و جل الإنفاق في صدر الآية و ذيلها بالخير و فعله.

الرابع: يستفاد من إطلاق هذه الآية و أمثالها أنّ ذات الخير محبوبة له عزّ و جل، سواء قصد في فعله القربة أم لا، نعم، لا بد أن يكون خالصا من أنحاء الشر، كما ذكرنا.

ص: 295

بحث روائي

في المجمع في الآية أنّها نزلت في عمرو بن الجموح، و كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول اللّه بماذا أتصدّق؟ و على من أتصدّق؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

و في الدر المنثور عن ابن المنذر عن ابن حيان مثله.

أقول: السؤال و إن كان عن أصل الإنفاق و من ينفق عليه، و لكن لا وجه لتخصيص ظاهر الآية بذلك بعد صحة إرادة جميع خصوصيات الإنفاق، كما ذكرنا.

و في الدر المنثور عن ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح قال: سأل المؤمنون رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أين يضعون أموالهم؟ فنزلت يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ . فذلك النفقة في التطوع، و الزكاة سوى ذلك كلّه.

أقول: يجري فيه ما تقدّم في سابقه. و يأتي أنّ الآية شاملة لجميع أقسام الإنفاق واجبا كان أو غيره بحسب ما فسّرت في السنة فلا وجه للتخصيص، كما لا وجه للنسخ.

و في الدّر المنثور أيضا عن السدي قال: يوم نزلت هذه الآية لم يكن

ص: 296

زكاة، و هي النفقة ينفقها الرجل على أهله، و الصدقة يتصدّق بها فنسختها الزكاة.

أقول: لا نسبة بين هذه الآية و بين آية الزكاة، إلا أن يراد من النسخ شيء آخر.

ص: 297

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ.......

اشارة

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) بعد أن ذكر سبحانه في الآية المتقدمة بذل المال في سبيل اللّه فكان توطئة لهذه الآيات الواردة في الجهاد في سبيل نصرة الدّين، و بذل النفس لإعلاء الحق، و قد ذكر عزّ و جل بعض الاعتراضات على هذا التكليف الجديد، و بيّن أنّ الفتنة في الدّين أكبر من القتل، و به أجاب عن اعتراض المعترضين، ثم ذكر أنّ صراع الحق مع الباطل قائم لا بد من إزالته، و أنّ الارتداد عن الدّين يوجب الحبط و الخلود في النار، كما أنّ الاستقامة في الدّين و الجهاد في سبيله يكون موجبا للدخول في رحمة اللّه و غفرانه.

ص: 298

التفسير

216 - قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ .

الكتابة هنا: تأتي بمعنى المفرض و الوجوب، و الضمير يرجع إلى المسلمين سوى من خرج بالدّليل، كما يأتي.

و المراد بالقتال: الجهاد مع الكفار و قتالهم و محاربتهم.

و الكره: عدم الرغبة إلى الشيء في مقابل الرغبة إليه، و يصح اجتماعهما في شيء واحد باعتبارين فيقال: إنّي أرغب إلى هذا الشيء و أكرهه من حيث إنّ الشرع أو العقل ذمه. أو يقال: إنّي أكرهه و لا أرغب فيه من حيث الطبع، و أرغب إليه من حيث إنّ العقل أو الشرع مدحه، و المقام من قبيل ذلك فإنّه مكروه من حيث الطبع و مرغوب من حيث الشرع، و ذيل الآية الشريفة يبيّن ما قلناه.

و قيل: إنّ الكره - بالضم - ما كان فيه مشقة ذاتا، - و بالفتح - تحميل المشقة على الإنسان من الغير فالحقيقة واحدة و الفرق بالاعتبار قال تعالى:

لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً [النساء - 18]، و قال تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً [فصّلت - 11]، و لا بأس بذلك، و هو من محسنات الكلام.

و قيل: إنّ الكره - بالضم و بالفتح - واحد حقيقة، كالضّعف و الضّعف.

ص: 299

ابن جحش أصحابه أن ينزلوا و يحلقوا رؤوسهم، فنزلوا فحلقوا رؤوسهم فقال ابن الحضرمي: هؤلاء قوم عبّاد ليس علينا منهم بأس فلما اطمأنوا و وضعوا السّلاح حمل عليهم عبد اللّه بن جحش، فقتل ابن الحضرمي و أفلت أصحابه و أخذوا العير بما فيها و ساقوها إلى المدينة و كان ذلك في أول يوم من رجب من أشهر الحرم، فعزلوا العير، و ما كان عليها فلم ينالوا منها شيئا، فكتبت قريش إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّك استحللت الشهر الحرام، و سفكت فيه الدم، و أخذت المال و أكثروا القول في هذه، و جاء أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقالوا: يا رسول اللّه أ يحلّ القتل في الشهر الحرام؟ فأنزل اللّه يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ - الآية. قال: القتال في الشهر الحرام عظيم و لكن الذي فعلت قريش بك يا محمد من الصدّ عن المسجد الحرام، و الكفر باللّه، و إخراجك منها هو أكبر عند اللّه، و الفتنة يعني الكفر باللّه أكبر من القتل».

أقول: روي في المجمع قريب منه، و الروايات في ذلك كثيرة.

و في الدر المنثور: أخرج ابن إسحاق. و ابن جرير، و ابن أبي حاتم، و البيهقي من طريق يزيد بن رومان عن عروة قال: بعث رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عبد اللّه بن جحش إلى نخلة، فقال له: كن بها حتى تأتينا بخبر من أخبار قريش و لم يأمره بقتال و ذلك في الشهر الحرام، و كتب له كتابا قبل أن يعمله أنّه يسير، فقال: أخرج أنت و أصحابك حتّى إذا سرت يومين فافتح كتابك و انظر فيه، فما أمرتك به فامض له، و لا تستكرهنّ أحدا من أصحابك على الذهاب معك، فلما سار يومين فتح الكتاب فإذا فيه: أن امض حتى تنزل نخلة فتأتينا من أخبار قريش بما اتصل إليك منهم.

فقال لأصحابه حين قرأ الكتاب: سمع و طاعة، من كان منكم له رغبة في الشهادة فلينطلق معي، فإنّي ماض لأمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، و من كره ذلك منكم فليرجع، فإنّ رسول اللّه قد نهاني أن أستكره منكم أحدا، فمضى معه القوم حتّى إذا كانوا بنجران أضل سعد بن أبي وقاص، و عتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يعتقبانه فتخلّفا عليه يطلبانه، و مضى القوم حتى نزلوا

ص: 300

نخلة، فمرّ بهم عمرو بن الحضرمي و الحكم بن كيسان، و عثمان و المغيرة بن عبد اللّه معهم تجارة قد مرّوا بها من الطائف أدم و زيت، فلما رآهم القوم أشرف عليهم واقد بن عبد اللّه، و كان قد حلق رأسه فلما رأوه حليقا، قال عمار: ليس عليكم منه بأس، و ائتمر القوم بهم أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو آخر يوم من جمادى، فقالوا: لئن قتلتموهم إنّكم لتقتلونهم في الشهر الحرام و لئن تركتموهم ليدخلنّ في هذه الليلة مكة الحرام فليمتنعنّ منكم، فأجمع القوم على قتلهم، فرمى واقد بن عبد اللّه التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، و استأسر عثمان بن عبد اللّه، و الحكم بن كيسان و هرب المغيرة فأعجزهم، و استاقوا العير فقدموا بها على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال لهم: و اللّه ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، فأوقف رسول اللّه الأسيرين و العير فلم يأخذ منها شيئا، فلما قال لهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ما قال سقط في أيديهم، و ظنوا أن قد هلكوا و عنّفهم إخوانهم من المسلمين، و قالت قريش - حين بلغهم أمر هؤلاء -: قد سفك محمد الدم الحرام و أخذ المال، و أسر الرجال، و استحل الشهر الحرام، فأنزل اللّه في ذلك: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ - الآية فلما نزل ذلك أخذ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) العير، و فدى الأسيرين.

فقال المسلمون: يا رسول اللّه أ تطمع أن يكون لنا غزوة؟ فأنزل اللّه:

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ . و كانوا ثمانية، و أميرهم التاسع عبد اللّه بن جحش.

أقول: الروايات في عدد السرية مختلفة ففي بعضها سبعة و أميرهم عبد اللّه بن جحش. كما أنّها مختلفة في السائلين، و قد ذكرنا أنّه يمكن أن يكون السؤال من المشركين و المسلمين، و يؤيده رواية تفسير القمي.

ص: 301

و قد ذكر في كون القتال كرها وجوه:

منها: أنّ القتل و القتال متضمن لفناء النفوس و التعرض للآلام، و ذهاب الأموال، و مفارقة الأهل و الأحبة، و ارتفاع الأمن و الرفاهية، و غير ذلك مما أوجب كراهية النفوس له و مشقته على الناس طبعا، و إن كان المؤمنون لا يرفضون ذلك من حيث إنّ اللّه تعالى أراد منهم ذلك و يشبه ذلك الدواء الذي يتناوله المريض فإنّه يرفضه بطبعه، و لكن من حيث إنّه يريد الصحة و الشفاء فإنّه يرغب إليه.

و منها: أنّ ذلك بالنسبة إلى بعض المؤمنين دون جميعهم، فإنّ اللّه تعالى مدح طائفة بالطاعة و الصدق و الاستقامة في الدّين، و عاتب طائفة أخرى بالتهاون و الزيغ و النفاق فنسب الكراهة إلى جميعهم باعتبار أنّ بعضهم كاره له، و هذا جار في معاتبة الأقوام و الأمم، كما هو ظاهر من الآيات القرآنية.

و منها: أنّ المؤمنين كانوا يكرهون القتال لأنّهم كانوا يخافون الغلبة للعدوّ الذي له من القوة و العدّة ما لم تكن للمسلمين، فلا يتم لصلاح الإسلام و المسلمين، فهم في الواقع يكرهون الاستعجال فيرون الأصلح فيه التأخير حتّى يتم لهم الاستعداد.

و منها: أنّ المؤمنين تربّوا بتربية القرآن و تخلّقوا بالأخلاق الفاضلة فامتازوا بالشفقة و الرحمة، فهم يكرهون القتال لكونه خلاف ذلك و الحق ما ذكرناه من أنّ القتال مع أعداء الدّين و المشركين من حيث كونه إزهاقا للروح و موجبا لتوارد الآلام و البعد عن الأوطان، و إفناء للأموال فهو مكروه للنفوس، و من حيث كونه مأمورا به و موجبا لإعلاء كلمة الحق و كون مآله الراحة الأبدية و إن اقترن بالهموم و الغموم الدنيوية، فهو محبوب للمؤمنين المخلصين في إيمانهم الراغبين في نصرة الإسلام و دين الحق. فحكم هذه الآية من الأحكام العقلية الواقعية.

قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ .

ص: 302

عسى في مثل هذه الآيات إنّما أتي بها بلحاظ حال المخاطب، فيصح الكلام حينئذ من دون عناية، كما يقول الأب الحكيم لولده: شاور في أمورك أهل النصيحة و الإخلاص عسى أن يكمل عقلك. و إن استعملت بلحاظ حال المتكلّم فلا بد أن تصرف عن معناها الحقيقي لاستحالة التمنّي و الترجي و الطمع بالنسبة إليه جلّت عظمته، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فيما مرّ من الآيات.

و هذه الآية الكريمة و ما في سياقها تدل على أنّ ما وراء هذا العالم المادي الذي يدور مدار الأوهام و الخيال عالم آخر لا يكون فيه إلا الحقائق المتأصلة و الإدراك الصحيح المطابق للواقع، فربما يكون ما نزعمه خيرا في هذا العالم شرّا في ذلك العالم، و ربما يكون شرّا في هذا خيرا في ذاك، و قد ثبت ذلك بالأدلة العقلية أيضا، و أيدت بالتجارب الشخصية و النوعية، و لا معنى للاستكمال إلا ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

تأكيد لما تقدّم، و بيان لخطأ معتقدهم، فإنّه بعد أن ذكر ما تزلزل به جهلهم المركب و حصل لهم الشك في اعتقادهم و تصورهم أعقب سبحانه ذلك بأنّه عالم بحقائق الأمور و أثبت العلم المطلق و نفاه عنهم و أنّهم لا يعلمون إلا ما علّمهم اللّه تعالى، فلا بد من تسليم الأمر إليه.

و الآية تثبت العلم المطلق للّه عزّ و جل، و قد دلّت الأدلة العقلية و الشرعية عليه، فإنّ العلم الحقيقي إنّما هو فيما إذا كان علما بمبدإ الشيء، و غايته، و مادته، و صورته، و جميع عوارضه الشخصية. و تمام جهات استكماله و زمانه، و مكانه، و بقائه، و فنائه و ما يتعلق به، و ما يتفرّع عنه كلّ ذلك على نحو العلم الحضوري الفعلي الإحاطي و مثل ذلك محال بالنسبة إلى غيره جلّت عظمته، لأنّ الأشياء من أول حدوثها إلى آخر ما يتوارد عليها من الصور و الاستكمالات حاضرة لديه فعلا بلا تدرج وجودي، أو تخلل زمان في البين، فهي في هذا العالم كنقطة واحدة حاضرة لديه بلا تقدم و تأخر في البين.

ص: 303

و هذا هو الذي حيّر جميع الأفهام و زلت فيه الأقدام، مع كون العلم عين ذاته الأقدس فكيف يمكن أن يوجد مثل هذا العلم في غيره. مضافا إلى أنّ العلم الحضوري الحقيقي مختص به و علم ما سواه حصولي على مراتبه الكثيرة، مع أنّ غالب علوم ما سواه اعتقادي و هو أعم من الإحاطة الواقعية بحقيقة الشيء، و لذلك كلّه كان علمه عزّ و جل على الإطلاق، كما هو قوله عزّ و جلّ: «وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ» ،

و في بعض الدّعوات المأثورة:

«سبحانك تعلم وزن الظلمة و النور، سبحانك تعلم وزن الفيء و الهواء، سبحانك تعلم وزن الرّيح كم هي من مثقال ذرة، سبحانك تعلم عجيج الوحوش في الفلوات و معاصي العباد في الخلوات و أنين الحيتان في البحار الغامرات، سبحانك تعلم لمحات العيون و خطرات القلوب و خائنة الأعين و ما تخفي الصدور». و مبحث علمه عزّ و جل من المباحث الجليلة المهمة في علمي الفلسفة و الكلام، و سيأتي في الموضوع المناسب شرح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

217 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ .

جملة قتال فيه بدل اشتمال عن الشهر الحرام، لأنّ الزمان يشتمل على ما يقع فيه، و نظيره في المكان قوله تعالى: قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنّارِ ذاتِ اَلْوَقُودِ [البروج - 4].

و المعنى: يسألونك عن القتال في الشهر الحرام.

و إنّما وقع السؤال عن الشهر تعجبا من هتك حرمته، و إلا فإنّه كان لأجل القتال فيه.

و من مجموع السؤال و الجواب يستفاد أنّ حادثة وقعت في الشهر الحرام اقتضت هذا السؤال، و قد ورد في الروايات ما يبيّن تلك الحادثة، و يأتي في البحث الروائي ذكرها.

و السؤال يمكن أن يكون من المسلمين على سبيل الاستفهام، أو من المشركين على سبيل الإنكار.

ص: 304

قوله تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ .

أي: قل في جوابهم إنّ القتال في الشهر الحرام كبير إثمه إن لم يعارضه ما هو أكبر منه، فإنّ ترك القتال في الشهر الحرام إنّما هو لأجل حرمة الشهر الحرام و احترام الناس له فإذا عارض ذلك ما هو أعظم و أكبر، كالفتنة من المشركين و الصد عن سبيل اللّه أو إذا ابتدأ المشركون بالقتال في الشهر الحرام فلا ريب في جواز قتالهم حينئذ. و كيف كان فالآية تدل على حرمة القتال في الشهر الحرام.

قوله تعالى: وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ .

هذه الآية وردت في ذم المشركين، و ذكر مطاعنهم و ما اقترفوه من الكبائر التي أوجب قتالهم، فذكر سبحانه أمورا أربعة:

الأول: الصدّ عن سبيل اللّه. و الصدّ يأتي بمعنى الصّرف و المنع، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ [النمل - 24]، و ربما يأتي بمعنى الانصراف أيضا، قال تعالى: يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً [النساء - 61].

و غالب استعمال هذه الكلمة إنّما هو في الصّرف و المنع عن الحق و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و المراد من سبيل اللّه: عبادته و الدخول في دينه، و منه منع النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و من معه من المؤمنين عن دخول مكة المكرمة.

الثاني: الكفر باللّه جلّت عظمته.

الثالث: الصّد عن المسجد الحرام إذا كان عطف وَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ على سبيل اللّه، فيكون من باب ذكر الخاص بعد العام تأكيدا و تعظيما، و يصح العطف على الضمير في بِهِ ، أي كفر بالمسجد الحرام، لأنّ إلقاء احترام المسجد الحرام المجعول له كفر به شرعا.

ص: 305

الرابع: إخراج أهل المسجد منه، و هم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنون. و هذه كلّها جرائم ارتكبها المشركون بحق النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و المؤمنين و الإسلام، و قد وصفها سبحانه بأنّها أكبر عند اللّه، يعني أنّه لو فرض أنّ قتال بعض أصحاب النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) للمشركين في الشهر الحرام وقع عن علم أو غير علم، فإنّ ما يصدر من المشركين من الجرائم و الجنايات أكبر عند اللّه تعالى.

و قوله عزّ و جل: أَكْبَرُ عِنْدَ اَللّهِ خبر للمبتدءات الثلاثة في الجملة السابقة المعطوف بعضها على بعض.

قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ .

جملة مستأنفة تبيّن العلّة التي من أجلها شرع القتال مع المشركين.

يعني: إنّ ما أنتم عليه من الشرك الاعتقادي الموجب لكلّ فتنة و افتتان بين المسلمين أكبر و أعظم من القتل فلا يحق للمشركين الطعن في المؤمنين.

و لقد جاهد المشركون في افتتان المؤمنين عن دينهم بشتّى الأساليب من إلقاء الشبهات، و الدّعوة إلى الكفر، و التعذيب و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا .

بيان لحكم من أحكام الصراع بين الحق و الباطل الذي يظهر في كل عصر في مظاهر، و يتطوّر في كلّ دهر بأطوار، و هو من شعب معاداة الشيطان للرّحمن و الإنسان.

و فيه التفات إلى خطاب المسلمين لتحذيرهم و إرشادهم إلى عداوة المشركين لهم ما داموا على الإيمان. أي أنّ المشركين لا همّ لهم إلا أن يقاتلوكم ليردوكم عن دينكم، و هم يجهدون في ذلك غاية جهدهم و استطاعتهم.

و قوله عز و جل: إِنِ اِسْتَطاعُوا استبعاد لما يريدونه، و إيعاز إلى عدم

ص: 306

الوصول إلى غرضهم. و فيه إيماء إلى غاية جهدهم في ذلك. كما أنّ فيه البشرى بأنّهم لا يستطيعون مهما جهدوا في ذلك فإنّ الحق لا يزول فقد نزل من السّماء و له دولة، و إن كان للباطل جولة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الارتداد و الردة: الرجوع إلى الطريق الذي جاء منه، و الرّدّة في الدّين:

الرّجوع من الإيمان إلى الكفر.

و مادة (حبط) تأتي بمعنى الفساد و الهلاك و البطلان، و غالب استعمالاتها في القرآن إنّما هو بالنسبة إلى الآثار المترتبة على الأعمال في نظر الشرع، قال تعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر - 65]، و قال تعالى:

أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ [آل عمران - 22].

و في الآية تهديد للمرتد، و من يرجع عن دينه إلى الكفر ببطلان أعماله في الدنيا من حيث الأحكام الظاهرية المترتبة على الإيمان، كحقن دمه و موالاة المؤمنين له، و غير ذلك. و في الآخرة باعتبار الجزاء و الثواب الأخروي لأنّه مشروط بالموافاة على الإيمان.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

تهديد آخر للمرتد بالخلود في النار لفرض تحقق الكفر، و الارتداد منه.

218 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا .

مادة (أمن) تأتي بمعنى الطمأنينة و زوال الخوف، و كذا الأمان و الأمانة، و قد تستعمل اسما، و الفارق القرائن. و هذه المادة في هذه الهيئة (آمنوا) استعملت في القرآن الكريم فيما يقرب من مأتين و ستين موردا غالبها مقرون بالمدح و الثناء لكثرة عناية اللّه تعالى بالمؤمنين.

و الهجرة تعني: مفارقة الإنسان غيره بالبدن أو اللسان، أو القلب و المهاجرة: متاركة الإنسان غيره، و لها درجات أعظمها المهاجرة من الباطل

ص: 307

إلى الحق، و من الشهوات إلى العقل، و من حضيض الحيوانية إلى الروح الإنسانية، و هي مورد دعوة الأنبياء، و ترغيب كتب السّماء،

و في الحديث «المهاجر من هجر المحرّمات» و يتصف بها حينئذ جميع الأنبياء و المرسلين و عباد اللّه الصالحين فإنّهم يهاجرون إلى ربّهم في جميع حالاتهم و شؤونهم.

و يكون مقصدهم من ذلك السّفر من الخلق إلى الحق، و غاية هذا السّفر هو التحلّي بأنوار الحق و التجلّي بنور العظمة على قلوبهم. و يدل على ذلك قوله تعالى حكاية عن نبيّه لوط (عليه السلام): إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ [العنكبوت - 26]، و هي من الهجرة إلى الجمال القدسي المطلق، و سرّ الكلّ مما تحقق و لم يتحقق.

و المراد به في المقام: الذين آمنوا و هاجروا من بلادهم لأجل إعلاء كلمة الحق، و القيام بنصرة الدّين.

و إنّما كرّر اَلَّذِينَ للعناية بالهجرة و الجهاد، و الاهتمام بهما.

قوله تعالى: وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

الجهاد و المجاهدة: استفراغ الوسع في مدافعة العدو، و هو على أقسام: مجاهدة العدو الظاهر، و مجاهدة الشيطان، و مجاهدة النفس الأمارة، و قد يعبّر عن الأخيرة بالجهاد الأكبر، كما ورد

في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) قال بعد الفراغ من بعض الغزوات: «فرغنا عن الجهاد الأصغر و عليكم بالجهاد الأكبر». و يتحقق باليد و اللسان،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «جاهدوا بألسنتكم كما تجاهدون بأيديكم».

و سبيل اللّه: كلّ ما أذن اللّه تعالى فيه، و يرجى ثوابه، و يبتغى رضوانه.

و الجهاد بمعناه العام - أي استفراغ الوسع في دفع الموانع عن الوصول إلى المقصود و المراد - من أعظم ما بني عليه نظام التكوين و من أهم أركان النظام الأحسن، فلو فرض عدم الجهاد و المجاهدة و المصابرة في سبيل المرام لاختل النظام و بطل الاستكمال بين الأنام مطلقا و لا يختص ذلك بالإنسان بل يعم الحيوان أيضا. فالوصول إلى المقامات العالية دنيوية كانت أو أخروية لا

ص: 308

يكون إلا بالمجاهدة، و قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى [النجم - 40]، و قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت - 69]، شرح لحقيقة ما عليه نظام العالم و بيان لواقع مصير بني آدم في النشأتين، و مرآة لما هو عليه في الحالتين، هذا في سلسلة الاستكمالات الاختيارية، و هكذا بالنسبة إلى سلسلة الاستكمالات التكوينية غير الاختيارية التي لا تتم إلا بالجهد الأكيد الشديد و لذا سمي هذا العالم بعالم التغيّر و الكون و الفساد، فالجهاد و المجاهدة داخلان في السلسلتين، و مصيرهما إلى اللّه تعالى: أَلا إِلَى اَللّهِ تَصِيرُ اَلْأُمُورُ و مبدؤهما هو اللّه عز و جل أيضا.

قوله تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ .

أولئك خبر للذين. أي إنّهم يطلبون رحمة اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و هي محيطة بهم بسبب أعمالهم الصالحة، فيكون طلبهم طلبا عمليّا لا مجرّد اعتقاد الرّجاء و الرّغبة إليه.

و يستفاد من هذه الآية أنّ رحمة اللّه لا تنال إلا بالعمل الصالح و المجاهدة في مرضاته.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تثبيت لرجائهم، و وعد منه عزّ و جل بتحقق رجائهم. أي: و اللّه يغفر لهم سيئاتهم السابقة، و رحيم بهم من حيث أعمالهم الصالحة.

ص: 309

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: لم يذكر الفاعل في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ لأنّ خفاءه أنسب صونا له من الهتك و الاستخفاف إذا نسب المكتوب الذي هو مورد الكراهة إليه.

الثاني: إنّما كرر عَسى في قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ لأجل أنّ القتال مورد كراهة المؤمنين، و السّلم مورد محبتهم. فأعلمهم سبحانه بأنّهم مخطئون في الموردين، و لو ذكره سبحانه مرّة واحدة لما أفاد ذلك.

الثالث: تدل هذه الآيات و ما في سياقها على أنّ معاشرة الكفار مع المسلمين قد توجب زوال أصل الدّين، فضلا عن المسامحة و التساهل في الالتزام بأحكام الإسلام.

الرابع: يدل قوله تعالى: فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ على أنّ الحبط مشروط بالموت على الكفر، فتكون الأقسام أربعة:

1 - إمّا أن يكون مؤمنا و يموت على إيمانه و لم يلبس إيمانه بظلم، فهو

ص: 310

من أهل الجنة و يستحق الثواب الدائم.

2 - و إمّا أن يكون كافرا و يموت على الكفر فهو من أهل النار.

3 - و إمّا أن يكون قد خلط عملا صالحا و آخر سيئا، فإن وفّق للتوبة يكون من أهل الجنة.

4 - و إن لم يوفق للتوبة فإمّا أن يستحق ثواب إيمانه أولا، و الثاني باطل بالأدلة الشرعية و العقلية، فيتعيّن الأول، و حينئذ فإمّا أن يثاب ثم يعاقب، و هو باطل إجماعا، أو يعاقب ثم يثاب بالجنة، و هو صحيح، للنصوص الدالة عليه.

فلا موضوع للإحباط و الموازنة الكليتين. نعم لا بأس بهما في الجملة.

هذا إجمال الكلام، و يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيهما.

الخامس: يدل قوله تعالى: فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ أنّ الحبط إنّما يكون بالنسبة إلى الأعمال و آثارها، ففي الدنيا يحكم على المرتد بكفره و موته، و تبين منه زوجته، و تعتدّ عدة الوفاة، و تقسّم أمواله بين ورثته، و لا توبة له بالنسبة إلى هذه الأربعة، و أما بالنسبة إلى غيرها فالمحققون من الفقهاء على قبول توبته، و أما بالنسبة إلى الآخرة فلا ثواب له و مأواه النار، هذا حال المرتد الفطري. و أما الملّي فله أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ أنّ سبب القتال مع المشركين إنّما هو الفتنة و الافتتان في الدّين، و يرجع ذلك إلى تعاند الحق و الباطل الذي هو من الأمور العقلية، بل الفطرية و الشرعية. و المراد بالحق كلّ ما حققه اللّه جلّت عظمته، كما أنّ المراد بالباطل كلّ ما أبطله اللّه و هو تعالى عالم بهما و لا يخفى عليه شيء مما خلق. فلا بد من إحقاق الحق و إبطال الباطل، اللذين هما أساس النظام الأحسن، و يجب عقلا مراعاته، و يقبح إهماله، و هو محال بالنسبة إلى الحكيم جلّ جلاله لا سيّما إذا كان إحقاق الحق و إبطال الباطل بالنسبة إلى الحياة الأبدية للإنسان الذي هو أشرف

ص: 311

مخلوقاته عزّ و جل، و من أبرز مظاهر ذلك إزالة الشرك و الكفر و الجحود، التي هي من موجبات الفتنة في الدّين، و من أهم الموانع في إحقاق الحق، فيكون قتال المشركين من الواجبات العقلية النظامية.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ أنّ موضوع الرّجاء هو العمل الصالح، و إلا فلا أثر له بل يكون غرورا.

ص: 312

بحث روائي

في الدّر المنثور عن ابن جرير عن ابن عباس قال: كنت رديف رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: يا ابن عباس ارض عن اللّه بما قدّر، و إن كان خلاف هواك، فإنّه متبت في كتاب اللّه، قلت: يا رسول اللّه فأين و قد قرأت القرآن؟! قال (صلّى اللّه عليه و آله): وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

أقول: الحديث مطابق لعموم الآية الشريفة و إطلاقها الشاملين للأمور الوضعية و التشريعية، و كلّ ما هو مقدّر. كما أنّ الحديث إرشاد إلى اختيار رضاء اللّه تعالى على رضى النّفس، فلا يستفاد منه أنّ عسى دالّة على الوجوب و الإلزام.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلشَّهْرِ اَلْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ - الآية -. «أنّه كان سبب نزولها أنّه لما هاجر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إلى المدينة بعث السرايا إلى الطرقات التي تدخل مكة تتعرّض لعير قريش، حتى بعث عبد اللّه بن جحش في نفر من أصحابه إلى نخلة، و هي بستان بني عامر ليأخذوا عير قريش حين أقبلت من الطائف عليها الزبيب و الأدم و الطعام، فوافوها و قد نزلت العير و فيهم عمرو بن عبد اللّه الحضرمي، و كان حليفا لعتبة بن ربيعة، فلما نظر الحضرمي إلى عبد اللّه بن جحش و أصحابه فزعوا و تهيّئوا للحرب، و قالوا: هؤلاء أصحاب محمد، فأمر عبد اللّه

ص: 313

بحث فقهي

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على حرمة قتال المشركين في الشهر الحرام، و هو المشهور بين الإمامية، و يدل عليه مضافا إلى ما تقدم قوله تعالى: فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة - 5]، و بعض الروايات.

هذا هو الحكم الأولي، و لكن قد يعرض على ذلك ما يوجب رفع هذا الحكم و تبديله، لقاعدة تقديم الأهم على المهم، التي هي من القواعد العقلية المهمة، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ اَلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ اَلْقَتْلِ ، و لأجل ذلك قاتل الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) المشركين في ذي القعدة، لأنّ الذين قاتلهم الرسول ممن هتكوا حرمة الشهر و بدأوا بالقتال.

ثم إنّ الهجرة من الأمور الإضافية، و لها مراتب كثيرة كمية و كيفية، شدة و ضعفا، و قد ذكرنا أنواعها، و هي في اصطلاح الفقهاء الهجرة من بلاد الكفر، و قد بحثوا في وجوبها. و لكن ذكرنا في الفقه أنّ الهجرة عن المعصية أو للقيام بنصرة الدّين واجبة مطلقا.

و ما ورد من أنّه «لا هجرة بعد الفتح» إنّما هو بالنسبة إلى بعض أقسام الهجرة لا مطلقا.

كما أنّ الجهاد أيضا له مراتب كثيرة، فكلّ من ترك المعاصي و المشتبهات فهو مجاهد، و إلى ذلك يشير

ما ورد من أنّ «المؤمن مجاهد».

ص: 314

بحث فلسفي

تقدم أنّ قوله تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ يشير إلى وجود عالم الحقائق التي لا تغيير فيها و لا تبديل، و هو بمعزل عن الأوهام و الخيالات النفسانية التي تتعلّق بما هو المحسوس و المأنوس من المادة و الماديات مع الغفلة عمّا وراء ذلك. فإذا تعلّق الحب و الكراهة بما هو قابل للتغيير و التبديل كانا متغيّرين فربّ شيء يكون خيرا في عالم المادة هو شرّ في عالم الواقع، و هكذا بالعكس. و على هذا يمكن تقسيم الحبّ و الكراهة في النفوس إلى أنواع:

الأول: ما إذا حصلا عن مباد وهمية خيالية، و في مثل ذلك لا يكونان إلا خيالا في خيال. و موطن هذا النوع إنّما هو الدّنيا بما هي دنيا، فتحصل المحبة و الكراهة في نفوس أهل الدّنيا بالوهم و الخيال من دون أن يكون لهما حقيقة و واقع، قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ [الحديد - 20].

كلّ ما في الكون و هم أو خيال *** أو عكوس في المرايا أو ظلال

و لو تأملت أحوال أهل الدنيا لا تجدها إلا كما ذكرناه.

ص: 315

الثاني: ما إذا حصلا من مباد عقلية اعتقادية لكنّها غير مبنية على كراهة اللّه عزّ و جل و رضائه، و يتحقق ذلك غالبا في العلوم النظرية، فإنّ المتأمل فيها يرى أنّ أحدهم يستدل على شيء بدليل عقلي، و يستدل الآخر بدليل عقلي آخر على نقيض الأول مع أنّ الواقع لا خلاف فيه و لا اختلاف، و أهل الشهود و العرفان يبطلون جميع ذلك و يجعلونه حجابا عن الوصول إلى الواقعيات.

إن قيل: على هذا لا وجه لاختلاف الفقهاء مع أنّ علمهم في الواقع و عن الواقع.

يقال: الاختلاف إنّما هو في كيفيات الاستظهار عن الواقع.

الثالث: ما إذا حصلا عن مباد عقلية مقررة بالشريعة الإلهية المحيطة بالجميع إحاطة واقعية، و هذا هو المناط فيما ينفع للآخرة بل الدنيا أيضا نفعا واقعيا لا وهميّا، و هذا النوع مبرّأ عن الاختلاف و التغيير.

و يمكن أن تكون الأمور تختلف باختلاف الأفراد بحسب ما ذكرنا، فإنّ بعضهم يعد القتال في سبيل اللّه تعالى سعادة ليست فوقها سعادة، و إنّ بعضهم يكرهونه لأجل أنّه فناء للنفوس و الأموال، كما ذكرنا.

ص: 316

بحث أخلاقي

الرجاء: فضيلة عالية، و له منزلة كريمة سامية، و من الأخلاق الفاضلة أمرنا بالتخلّق بها، و هو يورث المجاهدة بالأعمال و المواظبة على الطّاعات، و هو من دعائم الإيمان و ركائز الأعمال لا يليق إلا بمن كان مؤمنا مجاهدا، و قد اعتبره علماء الأخلاق و السلوك من جملة مقامات السّالكين و أحوال الطالبين.

بل هو من ملازمات الحياة التي لا ينفك عنها الإنسان، و بدونه لا يمكن الفوز بنعم الحياة، و لا الظفر بالعيش الهنيء. فهو و الرّغبة و الأمل من الأمور الدخيلة في نظام هذا العالم، فإنّ بالآمال يتقبل الإنسان المشكلات و يقتحم الصّعاب. و بالرغبات تقوم الأسواق و تتحقق أنواع التجارات، و بالأماني تقضى الحاجات و تقبل الطلبات، و بالرجاء يعمل الإنسان و يكافح في سبيل العيش و البقاء. و لنعم ما قيل:

أعلّل النّفس بالآمال أرقبها *** ما أضيق العيش لو لا فسحة الأمل

و بالجملة إنّ للرجاء أثرا كبيرا في حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية و له الأهمية الكبرى في الجانب التربوي و الدّيني له، مضافا إلى كونه من أركان الإيمان إذا كان متعلّقا باللّه تعالى. فإنّه يكشف عن عبودية صاحبه له عزّ و جل، و قوة معرفته به و خوفه منه، لأنّه يرجع إلى حسن الظن باللّه تعالى الذي هو مجمع جملة من الأخلاق الفاضلة، و لذا ورد الأمر به في كثير من الروايات.

فالرجاء يضاعف العزيمة، و يجعل صاحبه مثابرا على العمل بالصبر

ص: 317

و الثبات، و هو عامل من عوامل النصر و الغلبة، قال تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [النساء - 104].

و لقد ورد ذكر الرّجاء في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و اعتبره من الأخلاق الفاضلة التي ينبغي للمؤمن أن يتحلّى بها، بل اعتبره من أجزاء الإيمان، قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف - 110]، و قد أدرجه الأنبياء و المرسلون (عليهم السلام) في جملة ما يدعون إليه، قال تعالى: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [العنكبوت - 36]، و قد نوّه الجليل عزّ و جل بعظيم فضله حيث وعد المؤمنين الصالحين تحقيق رجائهم، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اَللّهِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر - 29]، و يعرف كمال أهميته أنّ الحرمان منه يعد عند اللّه تعالى استكبارا، قال تعالى: وَ قالَ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا اَلْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اِسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً [الفرقان - 21]، و قد أوعد من لا يرجو لقاء اللّه بعظيم العذاب، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اِطْمَأَنُّوا بِها وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ أُولئِكَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [يونس - 7]، كما أهمله عزّ و جل، قال تعالى: فَنَذَرُ اَلَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [يونس - 11]، و لذلك كان اليأس - الذي هو ضد الرجاء - من المعاصي الكبيرة التي توجب البعد عن اللّه سبحانه، و الانحراف عن الصراط، قال تعالى: قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْقانِطِينَ * قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ اَلضّالُّونَ [الحجر - 55-56]، و قد ورد في السنة الشريفة أخبار كثيرة تبيّن فضله، يأتي ذكر بعضها في ضمن هذا البحث.

و لا تختص هذه الفضيلة بالإسلام بل يعتبر الرجاء ثانية الفضائل الثلاث عند المسيحيين، و هي الأمانة، و الرجاء، و المحبّة، و هو عندهم فضيلة عظمى

ص: 318

ينتظر بها أنواع النّعم في الدنيا، و السعادة في الآخرة.

ثم إنّ الرّجاء، و التمنّي، و الأمل و إن كانت مفاهيم مختلفة إلا أنّها في أصل الحقيقة واحدة، و الفرق بينها اعتباري فقط، فإنّ الأمل يطلق على رغبة ما هو مرضيّ و محمود، و التمنّي يطلق في المجهول المطلق و ما لم يعلم بحصول المتوقّع بل حتى مع استحالته أيضا بخلاف الرّجاء فإنّه يطلق في الأعم مما هو مرضيّ و محمود كما أنّه لا يطلق الا على انتظار المتوقع إذا حصل أكثر أسبابه، و لأجل ذلك كان الرّجاء ممدوحا و التمنّي مكروها،

ففي الحديث: «الأماني بضائع النّوكى» أي الحمقى.

فالرّجاء هو تعلّق النفس بما هو المحبوب عند تحقق أكثر أسبابه و لذا يرتاح القلب من انتظاره، لأنّ الإنسان يشتاق إلى حصول نتيجة عمله و ثمرة جهده.

قال الشاعر:

أمانيّ إن تحصل تكن غاية المنى *** و إلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

و قد اعتبر علماء الأخلاق الرجاء من العوامل الدّاعية إلى العمل، و يجعل صاحبه صبورا يتحمّل في سبيل تحقيق غرضه أنواع المشاق ذا عزيمة قوية، و الوجه في ذلك معلوم لأنّ العلم بالمراد تصوّرا و تصديقا من مقدّمات الإرادة، و بدونه لا يتحقق لها موضوع، كما ثبت في علم النفس، و لذا كان طلب المجهول المطلق محالا، و إذا حللنا ذلك بالدقة العقلية نرى أنّه ينحل إلى العلم بالمراد إجمالا، و التصديق بفائدته كذلك، و الرجاء بترتبها عليه و الخوف عما يوجب البعد عنه فيرغب إلى ارتفاعه و يرجو زواله، فيكون الرجاء و الخوف مأخوذين إجمالا في تحقيق الإرادة، بلا فرق في ذلك بين الأمور التشريعية و غيرها.

فيكون للرجاء و الخوف دخل في أصل الأعمال، و هما متلازمان و يتقابلان في الوجود و العدم، فإنّ الخوف عن عدمه يلزمه الرجاء و جودا، و اعتبرهما علماء الأخلاق جناحين يطير بهما المؤمنون إلى كلّ مقام محمود،

ص: 319

و مطيتين يقطع بهما العامل كلّ طريق مخوف حتى يصل إلى المطلوب. فهما جزءا إرادته، يكشفان عن شدة تعلّق صاحبهما بمتعلّقهما و محبته لهما، فكلّ حبّ مصحوب بالخوف و الرجاء، و على قدر تمكنه من قلب المحب يشتد خوفه و رجاؤه، فإنّ التطلع إلى رؤية المحبوب و رجاء ملاقاته يصحبهما توقع حدوث المكروه و لا أقلّ من احتمال صرفه عن رؤية المحبوب فيظلّ الإنسان دائما بين الخوف و الرّجاء، و هو يعيش بينهما امنا مطمئنّ النّفس إذا كانا متعلّقين باللّه تعالى، قال عزّ و جل: يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ اَلْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ [الإسراء - 57]، و في الحديث «ما اجتمعا في قلب عبد في هذا الموطن - أي عند النزع - إلا أعطاه اللّه ما رجا و آمنه مما يخاف».

و مما ذكرنا يظهر أنّ حقيقة الرّجاء تتقوّم بأمور:

الأول: إنّه جزء من الإرادة في الإنسان التي بموجبها صارت أفعاله ذات قيمة أخلاقية.

الثاني: إنّه يتعلّق بما هو متوقع الحصول بعد ما مهد جميع أسبابه الاختيارية و لم يبق إلا الأسباب الخارجة عن الاختيار فيرجو تمهيدها و رفع الموانع عن تحقيق المرجو، و لأجل ذلك لا ينفك الرجاء عن العمل، و هذا مما أكد عليه القرآن الكريم في مواضع متعددة، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [البقرة - 218]، أي إنّ الرجاء لا يليق إلا بهؤلاء فلا يستحقه غيرهم. و قال تعالى:

فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف - 110]، و لقد ذم الإسلام من يرجو الغفران بدون العمل و الإيمان، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [الأعراف - 169]،

و قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) «الأحمق من أتبع نفسه هواها و تمنّى على اللّه الجنة».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قيل له: إنّ قوما من مواليك يلمّون بالمعاصي، و يقولون: نرجو، فقال (عليه السلام): «كذبوا ليسوا لنا بموال

ص: 320

أولئك قوم ترجحت بهم الأماني من رجا شيئا عمل له، و من خاف شيئا هرب منه»،

و عنه (عليه السلام) أيضا «لا يكون مؤمن مؤمنا حتّى يكون خائفا راجيا و لا يكون خائفا راجيا حتى يكون عاملا لما يخاف و يرجو».

فالرجاء لا بد أن يكون مقرونا بالعمل و مع فقده يكون غرورا، مثل من يلقي البذر في الأرض السبخة، و قد عزم على عدم تعهد الزرع بالسقي، و تنقية الأرض و هو يرجو جني الثمار من بذره، و هذا لا يكون إلا غرورا. بخلاف من ألقى البذر في أرض طيبة، و قد بنى على التعهد و التنقية و سوق الماء، و تحقيق كلّ ما هو داخل تحت اختياره في سبيل الحصول على الثمار من زرعه، ثم يرجو اللّه تعالى أن يدفع عن زرعه الحوادث و الصوارف فيكون رجاؤه محمودا، و كذا من يرجو اللّه تعالى و الدخول في رضوانه و رحمته لا بد له من الإيمان به، و متابعة أنبيائه، و تطهير القلب من الأخلاق الرذيلة و التحلّي بالأخلاق الفاضلة ثم التعهد بإتيان الطّاعات و ترك المعاصي و السيئات، فيرجو حسن الخاتمة و الثبات على الإيمان و المغفرة، و مثل هذا الرجاء يكون محمودا في نفسه و باعثا على القيام بما يقتضيه الإيمان و يوجب العزيمة في المؤمن و يجعله مثابرا على العمل.

الثالث: إنّ المرجو منه لا بد أن يكون أهلا لما يرجى منه و قادرا على الإجابة، و هو منحصر به عزّ و جل لأنّ غيره في معرض الزوال، و لأنّ عروض الحوادث و أسبابها الخفية غير معلومة لأحد إلا للّه تعالى.

نعم، حيث إنّ الدنيا دار الأسباب و لا تجري الأمور فيها إلا بأسبابها لا بد من تهيئة الأسباب الظاهرية و الجدّ و الاجتهاد فيها، و يرجى من اللّه رفع الموانع التي هي غير معلومة لنا، فانحصر الرجاء المطلق بالحيّ القيوم، لأنّ غيره يفنى و لا يدوم.

ثم إنّ للرجاء مراتب و درجات أعلاها ما إذا كان متعلّقا باللّه تعالى و بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و هذا هو الرجاء المحمود الذي مدحه القرآن الكريم و اعتبره أساس العمل الصالح و الإيمان الصحيح و موجبا للغفران و الارتقاء إلى الدّرجات العليا، بل ذكرنا أنّ الرجاء الحقيقي لا يكون إلا هذا و يكون

ص: 321

العمل مع هذا الرجاء أعلى من العمل مع الخوف، فإنّ مثل هذا الرجاء ينبئ عن عبودية صاحبه له عزّ و جل، و قوّة معرفته به، و خوفه منه، و يكشف عن محبة صاحبه للّه تعالى و على قدر قوّة المعرفة و شدّة الحب و الإخلاص تكون درجات الرّجاء و على ذلك يحمل ما ورد في القرآن الكريم من الاختلاف في ذكر المرجو، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21]، و قال تعالى: فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً [الكهف - 110]، و قال تعالى: أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [البقرة - 218]، و قال تعالى: يا قَوْمِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اُرْجُوا اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [العنكبوت - 36]، و قال تعالى: يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ [فاطر - 29].

ثم إنّ الرجاء - كسائر الفضائل - لا بد أن لا يخرج عما هو المطلوب و إلا كان مذموما، و هو الحد الوسط بين اليأس و القنوط و بين الرجاء بلا عمل.

و للرجاء فوائد و حكم ظاهرة في الدنيا و الآخرة، نذكر المهم منها:

منها: تمامية الإيمان و الخلوص و الإخلاص فيه و الحب للّه تعالى.

و منها: ظهور العبودية المحضة للّه تعالى على القلب و الجوارح، و إحساس الافتقار إليه عزّ و جل.

و منها: جعل صاحبه مثابرا على الجد و الاجتهاد.

و منها: حصول الاطمينان و السعادة، فإنّ الرجاء بالمبدأ القيوم الحيّ يؤثر في النفس و يبعد عنها القلق و الاضطراب، لأنّه يرى نفسه متعلّقة بالمبدأ القيوم الذي لا حدّ لقدرته و فضله، و لذا نرى أنّ المؤمنين الراجين أسعد الناس بالا و أبعدهم عن القلق و الاضطراب.

و منها: حصول المراقبة التي هي من أفضل مقامات الأولياء.

و منها: أنّه ارتباط معنوي و ذكر حالي للّه جلّت عظمته، في جميع الأحوال.

و منها: أنّه يرغب صاحبه على العمل و يحرّضه على الجهد و الاجتهاد

ص: 322

و يبعده عن التكاسل و التهاون.

و منها: أنّ العمل معه أقرب إلى القبول لأنّ اللّه يحب من عباده أن يرجوه و يسألوه من فضله، كما في الحديث.

و منها: محبوبية الرّاجين للّه تعالى عند الناس و توجه القلوب إليهم كما كان كذلك سيرة الأنبياء و الأولياء، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21].

ص: 323

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) ذكر سبحانه في هاتين الآيتين بعض الأحكام الشرعية و التكاليف الإلهية التي لها دخل عظيم في تنظيم حياة الإنسان الفردية و الاجتماعية كما أنّ لها تأثيرا كبيرا في تهذيب النفوس و إصلاح الأخلاق، فقد حرّم الخمر و الميسر اللذين يجلبان الشقاء و الدمار، ثم بيّن عزّ و جل أنّ الإنسان لا بد له أن يطلب في حياته العفو في جميع شؤونه. و أخيرا أمرهم بإصلاح أمر اليتامى الذين هم جزء من المجتمع الإنساني و الاعتناء بهم و تنظيم شؤونهم و المخالطة معهم و جعلهم إخوانهم فلا بد من مراعاة الأخوة معهم.

ص: 324

التفسير

219 - قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ .

تقدم الكلام في جملة يَسْئَلُونَكَ . و نزيد هنا أنّ هذه الجملة ذكرت في ستة مواضع متواليات ثلاث منها مع حرف العطف، و ثلاثة أخرى مفصولة بدونه.

و لعلّ الوجه في ذلك أنّ التي مع العطف وقع السؤال فيها دفعة واحدة، و التي بدونه وقع السؤال فيها متفرّقا و في مجالس متعددة.

و مادة (خمر) تأتي بمعنى الستر، و سمي المسكر خمرا لأنّه يستر القوة العاقلة فلا تميّز بين الخير و الشر، و الحسن و القبيح. و منها الخمار لأنّه يستر رأس المرأة. و الخمرة هي السجادة الصغيرة سميت بذلك لأنّها تستر الوجه عن الأرض،

و في الحديث «كان النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يسجد على الخمرة».

و خمرت الإناء إذا غطيت رأسها. و الخمر: كلّ مايع مسكر، و يتخذ من أغلب الفواكه، و يختلف في درجات السكر.

و الميسر: هو القمار مشتق من اليسر، و هو وجوب الشيء لصاحبه أو من اليسر لسهولة اقتناء المال من غير مشقة، و يسمّى المقامر ياسرا. و أما كيفيته فإنّ له طرقا مختلفة في كلّ عصر بحسبه، و إن كان له عند العرب كيفية مشهورة.

و قد ذكر الخمر و الميسر في موارد متعددة من القرآن الكريم مقرونين بالشيطان و الإثم.

ص: 325

قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ .

الإثم و الأثام: هو العقاب، و ما يمنع عن الخير و الثواب، و لا يستعمل إلا فيما يوجب الشقاء و الحرمان، و يذهب السعادة و الإيمان.

و مادة (نفع) تأتي بمعنى ما يتوصل به إلى الخير، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و تستعمل في الدنيا و الآخرة قال تعالى:

لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ [النحل - 5]، و قال تعالى: هذا يَوْمُ يَنْفَعُ اَلصّادِقِينَ صِدْقُهُمْ [المائدة - 119]، و إن كان ما يتوصل به شرّا فهو ضرّ، قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً [الفرقان - 3]، و في العرف يستعمل النفع في المنافع المحرّمة أيضا، و كذا في اصطلاح الفقهاء، و هي ليست من الخير في شيء إلا أن يراد بالخير مطلق المنفعة و الانتفاع، كما هو الظاهر. فتتطابق اللغة و العرف و الاصطلاح.

و التنكير في الآية إشارة إلى هوان النفع و مجهوليته.

و قد ذكر العلماء مضار الخمر و الميسر و منافعهما، و صنفوا في ذلك كتبا كثيرة، و قد أثبتت التجارب صدق ما قاله القرآن الكريم في شأنهما.

قوله تعالى: وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما .

المراد من النفع: ما يقصده الناس و إن كان خياليا وهميا. و الآية تبيّن واقعهما بما لهما من الآثار في الدّنيا و الآخرة، لاشتمالهما على ما يضرّ الفرد و المجتمع، بل تأثيرهما في معيشة الإنسان و نسله في الدنيا و سوء العاقبة في الآخرة، فإذا كان الأمر كذلك فيهما فلا بد للمؤمن أن يترك الإثم الكبير فيهما.

و إنّما وصف سبحانه الإثم بالكبر دون الكثرة، لبيان عظمة الإثم و العقاب حتّى كأنّ النفع في مقابله يكون معدوما، و لذا أفرده عزّ و جل و لم يقل من منافعهما، لأنّ العدد لا تأثير له في الكبر.

و لم يصف سبحانه الإثم بالكبر إلا في الخمر و الميسر. نعم، وصف الشرك بالعظيم، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء

ص: 326

- 48]، و لم يشك أحد في حرمة الشرك. و لعلّ ما ورد في السنة المستفيضة من جعل الخمر و الميسر من المعاصي الكبيرة مقتبس من هذه الآية الشريفة.

و من ذلك يعرف أنّ الآية الشريفة ظاهرة في التحريم، و لا ينبغي الشك في ذلك، و لو كان بضميمة قوله تعالى: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ [الأعراف - 32]، فإنّ هذه الآية تدل على حرمة الإثم صريحا، و الخمر و الميسر من مصاديقه. و أما ما ذكره جمع من المفسرين من أنّ الآية لا تدل على حرمة الخمر صريحا، لأنّها تدل على أنّ فيهما الإثم و هو أعم من الحرمة، فلا يستفاد منها تشريع عام يطالب به جميع الأمة، و لذا كانت مورد اجتهاد الصحابة فترك الخمر بعضهم و لم يتركها آخرون، و كان ذلك تمهيدا للقطع بتحريمها حتّى نزل قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ [المائدة - 93]. فإنّ فساده واضح، لأنّ الآية نص في أنّ في الخمر و الميسر إثما، و الإثم بمعنى العقاب كما يظهر من موارد استعمالاته، قال تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [النساء - 48]، و مجرد مقابلته للنفع في المقام لا يدل على كونه بمعنى الضرر، كما عرفت، فصرف الآية بالاجتهاد إلى غير ما هي نص فيه اجتهاد في مقابل النص، يضاف إلى ذلك أنّ آية المائدة التي نزلت بعد هذه الآية تدل على توبيخ شديد لمن هتك الحكم و استعمل الخمر و لا يكون ذلك إلا فيما هو محرّم مؤكد في الشريعة قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائدة - 92 - 93].

قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ .

مادة - (نفق) تأتي بمعنى المضيّ و النفاذ أي المضيّ من محل إلى محل آخر، و النفاذ من موضع و الوجدان في موضع آخر، و هي كثيرة الاستعمال في

ص: 327

القرآن الكريم بالنسبة إلى اللّه تعالى، و بالنسبة إلى العباد و تنقسم إلى الواجب و غيره، كما تعم المال و غيره، كالأخلاق الفاضلة و نحوها.

و مادة (عفو) في جميع استعمالاتها الكثيرة تتضمن معنى السهولة سواء كانت خالقيا أو خلقيا، و لعلّ من أعذبها قوله تعالى: خُذِ اَلْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ اَلْجاهِلِينَ [الأعراف - 199]، الذي هو مجمع الكمالات. و قوله تعالى: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ [الشورى - 40]، و العفو من أسماء اللّه المقدّسة، لأن تدبير النظام الأحسن في الدنيا لا يتم إلا بذلك.

و المعنى: يسألونك عما يتعلّق بالإنفاق ذاتا و صفة، و صرفا، و مصرفا قل إنّه سهل عليكم، و منه الوسط لا الإفراط و لا التفريط و منه تقديم النّفس و ذوي القرابة، و منه نزاهة المنفق به عن الحرام و الشبهات، كما أن منه خلوص الإنفاق عن الرياء و المنة.

و من ذلك يعرف: أنّ جميع ما ذكره المفسرون من صغريات ما ذكرناه لا أن يكون من المعاني المتباينة، و كذا ما ورد في الأخبار على ما يأتي في البحث الروائي.

و ماذا من المبهمات، كما أثبته علماء الأدب تبعا للمحاورات، فيطلق على الذات، و الصّفات، و الحالات، و لا يختص بخصوص السؤال عن الذات لا سيّما بعد كون حسن الإنفاق بأصل الحال من الفطريات مع أنّ السائلين هم من العرب الذين تضرب بجود بعضهم الأمثال فيكون السؤال عن الجهات الخارجة عن الذات، و إنّما عبّر تعالى بهذا التعبير، لكونه أشمل و أجمع.

و قد كرر هذا السؤال في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ - الآية [البقرة - 215]، و قد بيّن سبحانه فيه المصرف. و لعلّ الوجه في ذلك بيان أهمية الإنفاق و الإيثار على النفس، فإن له التأثير الكبير في النظام الاجتماعي، و التكافل بين الأفراد و الاتحاد بينهم لا سيّما إذا كانوا محتاجين قد داهمهم الفقر و الحاجة، فيظهر أثر الإنفاق في وحدتهم و تماسكهم و عزّتهم، و كان ذلك ظاهرا في بدء الدّعوة

ص: 328

و أول الإسلام، و لأنّ الإنفاق يشوبه ما لا يرتضيه الرّب، و ما لا يليق بالإنفاق المحمود، فاقتضى ذلك تكراره و بيان الخصوصيات بكلمات جامعة تبيّن جميع جوانبه.

و في الآية روعة الأسلوب، و جمال في اللفظ و المعنى تؤثر في النفس فيرغب الإنسان عند سماعها إلى الإنفاق، و بذل المال، و اعتباره سهلا يسيرا و إن كان ما أنفق مالا كثيرا، و تحصل حالة انبساط للغني و الفقير، و الجواد و البخيل، و هي تدعو المنفق إلى إمعان النظر فيما ينفقه و المنفق عليه و أصل الإنفاق.

و سياق الآية مثل قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج - 78]، و قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185].

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ .

الآيات جمع آية، و هي العلامة الظاهرة الملازمة لظهور شيء آخر، فإذا أدركت الآية أدرك ذلك الشيء أيضا. و بعبارة أخرى الآية دليل ظاهر لمدلول يظهر بها بعد إدراكها، كما هو شأن جميع العلل الإثباتية. و جميع ما في القرآن من الأحكام الإلهيّة و الآثار الوضعية علامات واضحة و أدلة قاطعة لمداليل تظهر بها بعد التأمل و التفكر. كما أنّ شعاع الشمس علامة لإثبات وجودها كذلك جميع الموجودات آيات كونية على وحدانية اللّه تعالى و حكمته و كماله.

و في كلّ شيء له آية *** تدل على أنّه واحد

و كتابه التشريعي مطابق لكتابه التكويني من هذه الجهة، فيكون جميع ما سواه من آيات جماله و جلاله و كبريائه، و العوالم في كتابه التكويني كسور القرآن في الكتاب التشريعي. و أما كتابه الأنفسي - أي الإنسان الكامل - الجامع بين كتابيه التكويني و التشريعي، ففيه من الآيات و الحكم ما لا يخفى.

ص: 329

و المعنى: بمثل هذا البيان و بهذا النحو من الحكمة يشرّع اللّه تعالى الأحكام و يبيّن الآيات التي تتعلّق بمصالح العباد و سعادتهم.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الظرف - في الدنيا و الآخرة - متعلق بقوله تعالى: تَتَفَكَّرُونَ . أي أنّ غاية تشريع الأحكام، و الحكمة في جعلها أنّها تجعلكم تستعملون عقولكم و تتفكرون في أمر الدّنيا و الآخرة و شؤونهما، و تعملون ما فيه صلاحكم في الدّارين.

و الفكر: قوة مودعة في الإنسان توجب العلم بما يراد، و بها امتاز عن سائر المخلوقات، و التفكر إعمال تلك القوة، و قد ورد في الكتاب العزيز و السنة الشريفة الاهتمام الكبير بإعمال هذه القوة التي هي من أعظم و ودائع اللّه جلّ جلاله في هذا العالم،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة». و سيأتي في الآيات المناسبة ما يتعلّق بذلك.

و في الآية حث للإنسان على البحث عن حقائق الموجودات و أسرار الطبيعة، و التفكر في أمور المبدأ و المعاد، و جميع ما هو مرتبط بمصالح الإنسان من حيث سعادته أو شقاوته و كشف المعارف و العلوم و ترغيب له في أن لا يأخذ شيئا إلا بعد التروّي و التفكر فيه.

ثم إنّه لم يرد في القرآن الكريم بالنسبة إلى الفكر المطلوب له تعالى إلا لفظ التفكر، و الغالب اقترانه بالآيات، و مثل هذا التأكيد لا ينبغي أن يكون مورده الزائل الفاني، و الحادث المتغيّر، بل يقصد القرآن من ذلك أن يستعمل الفكر فيما هو الأصلح و الأنفع للإنسان في الدنيا و الآخرة، و هو جميع العلوم و الأمور المرتبطة بالمبدأ و المعاد، فإنّ التفكر فيهما يدعو الإنسان إلى اختيار الطّريق المستقيم و ما هو سبب لنجاته من أهوال المعاد، كما يدعوه إلى اتباع رشده و الإيمان باللّه تعالى و ما أنزله على الأنبياء و المرسلين، و العمل بما هو الصّلاح له في الدّارين، و هذا هو التفكير الصحيح الذي تدعو إليه جميع

ص: 330

الكتب السّماوية و السنة الشريفة، و يأتي تفصيل هذا الإجمال بعد ذلك.

220 - قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ .

الآية تتضمن حكما من الأحكام الاجتماعية النظامية، و هو الاهتمام بشؤون اليتامى، فأمر سبحانه بالإصلاح لهم في جميع شؤونهم فإنّه من الخير المحبوب لدى الجميع، فيشمل إصلاح نفوسهم بالتربية و الأدب، و إصلاح أموالهم بالتنمية و التكثير، و إصلاح المعاشرة معهم، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة فإنّها تشمل جميع أنحاء الإصلاح في النفوس و الأموال و الأحوال.

و التنكير فيها يدل على أنّ هذا الإصلاح لا بد أن يكون واقعيا لا مجرّد الإصلاح الظاهري الادعائي فقط، و يرشد إلى ذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

و سياق الآية المتضمنة لنوع من التسهيل في أمر اليتامى حيث إنّها أجازت مخالطة اليتامى، و ذكر سبحانه في ذيلها: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ يكشف عن أنّ الحكم في أمر اليتامى كان شديدا، و يدل على ذلك قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [النساء - 9]، و قوله تعالى: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً [النساء - 2]، و من ذلك يظهر أنّ هذه الآية نزلت بعد تلك الآيات، و هذا مما يؤكده بعض الروايات كما سيأتي في البحث الروائي.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ .

عناية أخرى بأمر اليتامى حيث أمر الناس بالمخالطة معهم، و اعتبرها كمخالطة الأخ لأخيه، و ليس من شأن الأخوة ابتعاد بعضهم عن البعض.

و الآية تشير إلى أهم ركن من أركان الاجتماع الذي به تتحقق المساواة بين الأفراد، و هو الأخوة بينهم فإنّها إن تحقّقت في أي اجتماع جلبت الخير و السعادة لهم و الإخلاص بين أفراده مع الصفاء و حسن النيّة، و تجعل الفرد يشعر بأنّه يسعى إلى مصلحة المجتمع و هذه هي الأخوة الحقيقية التي نادى

ص: 331

بها الإسلام في قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات - 10]، و فيها تلغى الأنانية و ما يوجب فساد المجتمع من أنواع البغي و الظلم، كالاستعباد و الاستكبار و نحوهما، و بذلك تتحقق المعادلة بين جميع الأفراد و يعم الخير و السعادة بينهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

إعلام منه تعالى بأنّه لم يكل أمر اليتامى إلى الناس فقط بل جعل نفسه الأقدس مشرفا عليهم لعناية خاصة بهم، فقد بيّن عزّ و جل أنّه العالم بحقيقة الأمر و ما تضمره القلوب، و يميّز بين من قصد الإصلاح و من قصد الإفساد، فلا تفسدوا بالنسبة إلى اليتامى فإنّه يجازيكم على ذلك، و هذا من باب ذكر السبب و إرادة المسبب، و هذه الآية ترشد الناس إلى مراقبة النفس، و هي لا تتم إلا بمراقبة اللّه تعالى في الأعمال و النيات.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَأَعْنَتَكُمْ .

مادة (عنت) تأتي بمعنى المشقة، و الهلاك، و الذلة، قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ [التوبة - 128]، و قال تعالى:

وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ [طه - 111].

و المعنى: و لو شاء اللّه لأوقعكم في المشقة و الكلفة في أمر اليتامى و لكن ما جعل عليكم في الدّين من حرج، و هو يريد لعباده اليسر لا العسر، فلا يكلّفهم إلا بما يناسب حالهم فأباح مخالطتهم و المعاملة معهم معاملة الأخوة.

و هذه الآية تدل على أنّ في الحكم نوعا من التخفيف و التسهيل.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي إنّ اللّه قويّ يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا راد لقضائه، حكيم في أفعاله يحكم وفق الحكمة، و يجري التكاليف على حكمة العدل و المصلحة.

و العزّة و الحكمة من صفات الذات و هي غير محدودة بحد أبدا، و هكذا الصفات الذاتية.

ص: 332

بحوث المقام
بحث روائي

في تفسير العياشي عن عامر بن السمط عن عليّ بن الحسين (عليه السلام) قال: «الخمر من ستة أشياء: التمر، و الزبيب، و الحنطة، و الشعير، و العسل، و الذرة».

أقول: الخمر: ما يخمر العقل و يصح إطلاقها بهذا المعنى على كلّ ما له هذا الأثر، فيكون الحصر في الحديث إضافيا و قد تقدّم أنّ الخمر تؤخذ من أغلب الفواكه.

في الكافي عن الباقر (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه تعالى أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما و إنّما ينقلون من خصلة ثم خصلة و لو حمل ذلك عليهم جملة لقطع بهم دون الدّين».

أقول: يستفاد منه أنّ تشريع القوانين إنّما هو بالتدرج و التأني بحسب مقتضيات الظروف و الاستعدادات. و أنّ الخمر حرام في جميع الأديان الإلهية بل حرمتها عقلية كما ذكرنا مرارا.

في الكافي عن عليّ بن يقطين قال: «سأل المهدي أبا الحسن (عليه

ص: 333

السلام) عن الخمر قال: هل هي محرمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، فإنّ الناس إنّما يعرفون النّهي عنها و لا يعرفون التحريم لها؟ فقال له أبو الحسن (عليه السلام): بل هي محرّمة في كتاب اللّه فقال: في أي موضع محرّمة في كتاب اللّه عزّ و جلّ يا أبا الحسن؟ فقال (عليه السلام): قول اللّه عزّ و جل: إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ اَلْإِثْمَ وَ اَلْبَغْيَ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ فأما قوله ما ظَهَرَ مِنْها : يعني الزنا المعلن، و نصب الرايات التي كانت تعرفها الفواجر للفواحش في الجاهلية.

و أما قوله تعالى: وَ ما بَطَنَ . يعني: ما نكح من الآباء، لأنّ الناس كانوا قبل أن يبعث النبي (صلّى اللّه عليه و آله) إذا كان للرجل زوجة و مات منها تزوج بها ابنه من بعده إذا لم تكن أمه فحرّم اللّه عزّ و جل ذلك.

و أما الإثم فإنّها الخمر بعينها، و قد قال اللّه عزّ و جل في موضع آخر:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فأما الإثم في كتاب اللّه عزّ و جل فهي الخمرة و الميسر و إثمهما أكبر كما قال اللّه تعالى فقال المهدي: يا عليّ بن يقطين هذه فتوى هاشمية فقلت له: صدقت و اللّه يا أمير المؤمنين الحمد للّه الذي لم يخرج هذا العلم منكم أهل البيت قال: فو اللّه ما صبر المهدي - الى أن قال لي -: صدقت يا رافضي».

أقول: هذه الرواية مطابقة لما قلناه.

و في الكافي أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ الخمر رأس كل إثم».

أقول: يشهد له الاعتبار و العقل و كنيتها بأم الخبائث كما في النصوص.

و في الكافي أيضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لعن رسول اللّه في الخمر عشرة: غارسها، و حارسها، و عاصرها و شاربها، و ساقيها، و حاملها، و المحمول إليه، و بايعها، و مشتريها، و آكل ثمنها».

و في الخصال قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ملعون ملعون من جلس على مائدة يشرب عليها الخمر».

ص: 334

أقول: إطلاقه يشمل ما إذا كان الخمر بصورته المتعارفة أو في ضمن شيء آخر.

و في الكافي عن إسماعيل قال: «أقبل أبو جعفر (عليه السلام) في المسجد الحرام فنظر إليه قوم من قريش فقالوا: هذا إمام أهل العراق فقال بعضهم: لو بعثتم إليه ببعضكم فسأله فأتاه شاب منهم فقال: يا عم ما أكبر الكبائر؟ قال (عليه السلام): شرب الخمر».

أقول: يمكن أن يكون المراد من قوله: «أكبر الكبائر» بالإضافة إلى سائر المحرّمات فإنّ الكبائر متفاوتة في الإثم و يستفاد من بعض الأخبار أنّ الشرك باللّه تعالى أكبر الكبائر فلا منافاة بين الرّوايات لأنّ الأكبرية من الأمور الإضافية شدّة و ضعفا و يأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

و في الكافي عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما نزل قول اللّه عزّ و جل على رسوله (صلّى اللّه عليه و آله): إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ قيل: يا رسول اللّه ما الميسر؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): كل ما تقامر به حتى الكعاب و الجوز».

أقول: الميسر موضوع للحكم باعتبار معناه اللغوي، فيشمل مطلق القمار.

و في تفسير العياشي عن علي بن محمد الهادي (عليه السلام) عن قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما فما المنفعة جعلت فداك؟ فكتب (عليه السلام): كل ما قومر به فهو الميسر، و كل مسكر حرام.

أقول: هذا إعراض عن تفصيل الجواب لمصلحة و تقدّم ما يدل على ذلك.

في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ قال (عليه السلام): «العفو: الكفاف».

ص: 335

و في رواية أخرى عن أبي بصير قال: «العفو القصد».

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «العفو ما فضل عن قوت السنة».

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام)، «العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار».

أقول: كلّ ما ذكر من المعاني في العفو مطابق لما ذكرناه في التفسير و الروايات متقاربة في المعنى.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ عن ابن عباس: إنّ نفرا من الصحابة حين أمروا بالنفقة في سبيل اللّه أتوا النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فقالوا: لا ندري ما هذه النفقة التي أمرنا بها في أموالنا، فما ننفق منها؟ فأنزل اللّه تعالى وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ و كان قبل ذلك ينفق ماله حتّى ما يجد ما يتصدّق به و لا مالا يأكل حتّى يتصدّق عليه».

أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى - الآية - عن الصادق (عليه السلام) قال: «إنّه لما نزلت: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً أخرج كل من كان عنده يتيم، و سألوا رسول اللّه في إخراجهم فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ اَلْمُفْسِدَ مِنَ اَلْمُصْلِحِ .

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «لما نزلت: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».

أقول: يستفاد من الحديث أنّهم زعموا أنّ التجنب عن الأيتام من حسن المعاشرة معهم فنهى اللّه عن ذلك و أمر بالإصلاح.

و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: «لما أنزل اللّه وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى - الآية - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه:

ص: 336

و في الدر المنثور عن ابن عباس قال: «لما أنزل اللّه وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ . و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى - الآية - انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه و شرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيجس له حتى يأكله أو يفسد فيرمى به فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فخلطوا طعامهم بطعامهم و شرابهم بشرابهم».

أقول: الجسّ هو التتبع و مرّ ما يتعلق بالحديث.

ص: 337

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة أحكام شرعية و هي:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ حرمة الخمر و الميسر بل الحرمة فيهما من ضروريات الدّين و لا ينكرها أحد، و الخمر لا تختص بصنف خاص، بل كل مسكر خمر و كلّ خمر حرام بإجماع أئمة الحقّ و المسلمين و نصوص سيد المرسلين و أئمة الدّين (صلوات اللّه عليهم أجمعين) و منه الفقاع فإنّه خمر استصغره الناس كما في الحديث.

كما أنّه لا يختص الميسر بصنف خاص من القمار بل يشمل كلّ ما يسمّى قمارا و إن لم يكن مثل ما كان شايعا في عصر التنزيل.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ محبوبية الإنفاق و الصّدقات مطلقا و لا يختص بخصوص قسم خاص من الإنفاق بل يشمل جميع أقسام الإنفاق من الواجب و المندوب و لكن للإنفاق مطلقا آدابا و شروطا مذكورة في كتب الفقه.

الثالث: إنّ حفظ اليتيم و مراعاته و القيام بشؤونه من التكاليف النظامية و قد يصير تكليفا عينيا لأجل أمور كما هو مفصّل في الفقه و قد اهتم الشرع بهذا الموضوع و ورد في فضله روايات كثيرة

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فيما رواه الفريقان: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في

ص: 338

الجنة» و جمع بين إصبعيه السبابة و الوسطى، و يتضاعف الثواب لأجل عروض عناوين خاصة كما إذا انطبق عنوان القرابة و الرحمية كما يتضاعف إذا كان أنثى و نحو ذلك.

و اليتيم كل صبيّ انقطع عن أبيه و هو محجور عن التصرف في أمواله و يرتفع حجره إذا بلغ رشيدا و انقطع يتمه بعد بلوغه، لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في جوامع كلماته المباركة التي اختص بها: «لا يتم بعد احتلام، و لا رضاع بعد فطام».

و لا يجوز لأحد التصرّف في أموال اليتامى و نفوسهم إلا مع وجود المصلحة، و قيل يكفي عدم المفسدة، و قد ذكرنا التفصيل في الفقه في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

الرابع: لا يختص اليتيم بمن علم انتسابه إلى أب معلوم مات بعد ولادة اليتيم، بل يشمل اللقيط في بلاد الإسلام و علم بموت والده و لو بالقرائن.

الخامس: يجوز للمتصدي لأمور اليتيم بالوجه الشرعي أن يأخذ أجرة مثل عمله من مال اليتيم إذا لم يقصد المجانية، لأصالة احترام العمل إلا ما خرج بالدّليل، و لو لم يكن لليتيم مال يجرى عليه من بيت المال، و المتصدّي لذلك الحاكم الشرعي أو من يكون مأذونا من قبله.

السادس: أطلق سبحانه إصلاح اليتامى و لم يقيّده بقيد و هو من الأمور العرفية المختلفة باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، فالمناط كلّه عرف المتشرعة و لكن لا بد من الاهتمام بالتربية الدينية لهم لأنها أكبر إصلاح لهم و أهم، و من فقد العلم و الآداب فهو أشد يتما و إن كان في حياة والده و سيأتي في الآيات المناسبة ذكر بقية أحكام اليتامى.

ص: 339

بحث أخلاقي

من الأمور التي اهتم الإسلام بها و اعتنى بها اعتناء بليغا و شدّد النكير على ارتكابها. و نهى عنها بأساليب مختلفة و وصفها بأوصاف متعدّدة تنبئ عن أنّها من شرّ الرذائل و أخبث الأمور، الخمر و الميسر فقد ذكرهما في مواضع متعددة من القرآن الكريم و وصفهما بأنّهما من خطوات الشيطان الذي يريد أن يوقع بهما بين أفراد الإنسان العداوة و البغضاء، و أثبت فيهما الإثم الكبير، كما اعتبرهما من الرّجس الذي يجب الاجتناب عنه و أصرّ الإسلام على ذمهما و الاستهانة بهما ففي السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير، و يكفي في خستهما أنّهما من أفعال أهل الجاهلية فقد كانا منتشرين قبل الإسلام، و نزل القرآن ينهى عنهما على سبيل التدرج، فنزل قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ فذكر فيه الإثم و المنفعة و رجح الإثم عليها و كان ذلك كافيا في الرّدع ثم نزل قوله تعالى في الخمر:

لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى [النساء - 43]، و أخيرا ورد الأمر بتركهما في قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْخَمْرُ وَ اَلْمَيْسِرُ وَ اَلْأَنْصابُ وَ اَلْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ اَلشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة - 91].

و قد ذكر سبحانه كلمة جامعة تكشف عن جميع ما يتعلّق بهما و ما ينطوي فيهما من الأضرار و المخاطر، فقال عز و جل: قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما و إذا ألقي هذا الخطاب الكريم إلى

ص: 340

العاقل يستفيد أنّه تعالى نفى عنهما جميع المنافع لما أثبت الإثم الكبير فيهما، فإنّ المنافع إما دنيوية أو أخروية، و لا وجه لثبوت الأخيرة مع وجود الإثم الكبير بل لا يمكن اجتماعهما في مورد.

و أما المنافع الدنيوية فهي إنّما يرغب إليها الإنسان إذا جلبت له الخير أو دفعت عنه الضّرر و هما منفيان في الخمر و الميسر سوى ما يتخيل من المنفعة اليسيرة الوهمية و لا يقدم عليها عاقل. و من ذلك يستفاد أنّ الخمر و الميسر يخلوان من الخير مطلقا.

و قد تصدّى العلماء في مختلف العلوم لذكر أضرارهما و مفاسدهما الفردية و الاجتماعية، فذكر الأطباء تأثير الخمر على صحة الإنسان و ما تجلبه من الأسقام و الآلام، و اعتبر علماء النفس الخمر من أشد الأشياء تأثيرا على النفس لأنّها تسبب الأمراض النفسية التي تعاود صاحبها حتّى الممات، و قد بحث عنهما علماء الدّين من حيث تأثيرهما في سعادة الإنسان و شقاوته في الدنيا و الآخرة.

و أما أضرارهما الاقتصادية فهي غير خفية على أحد حتّى اعتبرهما علماء الاقتصاد من الأسباب التي تعيق الكمال الاقتصادي في المجتمعات و لا أظنّ أنّ موضوعا كان له هذه الأهمية و التأثير من جوانب متعددة في حياة الإنسان المادية و المعنوية و الصحية النفسية و العقلية الفردية و الاجتماعية، و لأجل ذلك

ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ الخمر رأس كلّ إثم».

و عن الباقر و الصّادق (عليهما السلام): «إنّ اللّه جعل المعصية بيتا ثم جعل للبيت بابا و جعل للباب غلقا، ثم جعل للغلق مفتاحا فمفتاح المعصية الخمر»،

و عن الصادق (عليه السلام): «إنّ الخمر أم الخبائث و رأس كلّ شر».

و عن الباقر (عليه السلام): «أفاعيل الخمر تعلو على كلّ ذنب كما تعلو شجرتها على كلّ شجرة».

و عن الأئمة الهداة (عليهم السلام): «إنّ اللّه جعل للشر أقفالا و جعل

ص: 341

مفاتيح تلك الأقفال الشراب».

و قد ألف العلماء في كلّ واحد من الخمر و الميسر كتبا مستقلة تشتمل على فوائد جليلة من شاء فليرجع إليها.

و تحريمهما لا يختص بهذه الشريعة بل حرّمتهما جميع الأديان الإلهية

ففي الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ما بعث اللّه نبيا قط إلا و في علم اللّه أنّه إذا أكمل له دينه كان فيه تحريم الخمر و لم تزل الخمر حراما، إنّ الدّين إنّما يحوّل من خصلة إلى أخرى، فلو كان ذلك جملة قطع بهم (بالناس) دون الدّين».

و نحن نتكلّم في هذا البحث عن الجانب الخلقي للخمر و تأثيرها في الصفات الخلقية للإنسان إجمالا.

من المعلوم أنّه لم يخلق اللّه جلّ جلاله خلقا أعزّ و أشرف لديه من العقل الذي جعله مدار إنسانية الإنسان، و به امتاز عن سائر المخلوقات و فاق به عليها، و هو مناط التكليف، و عليه يدور الثواب و العقاب، كما أنّ به يقوم الجزاء في يوم الحساب. و تدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية و النقلية فكلّ ما يضاد العقل و ينافيه، أو يسلبه و يعاديه يكون من أبغض الأشياء لدى اللّه و جميع الأنبياء و المرسلين و الملائكة أجمعين، و الخمر لا أثر لها إلا ذلك، فهي أم الخبائث كما كنّاها به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و قد لعن شاربها:

فعن الصادق (عليه السلام): «من شرب جرعة من خمر لعنه اللّه و ملائكته و رسله و المؤمنون».

و من غير المعقول أن يرتكب عاقل ملتفت أم الخبائث، و ما يزيل النظم و الانتظام عما يصدر منه من أعمال جوارحيّة و أفكار جوانحيّة، فعدّ شرب الخمر من المقبّحات العقلية أولى من عدّه من المحرّمات الشرعية، مع أنّهما متلازمان كما ثبت في محلّه، و يدل على ذلك

قول الأئمة الهداة: «إنّ اللّه حرّم الخمر لفعلها و فسادها».

ص: 342

فمن الآثار الخلقية المترتبة على شرب الخمر: أنّها تسلب لبّ شاربها و تجعل زمام عقله بيد الأهواء و النفس الأمارة،

فعن الصادق (عليه السلام):

«السّكران زمامه بيد الشيطان إن أمره أن يسجد للأوثان سجد و ينقاد حيثما قاده».

و من الآثار أنها تذهب الإيمان،

ففي الحديث عن يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «يا يونس أبلغ عطيّة عنّي أنّه من شرب الخمر حتى يسكر منها نزع روح الإيمان من جسده، و ركّبت فيه روح سخيفة خبيثة ملعونة».

و في حديث آخر عن الصادق (عليه السلام) أيضا قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): مدمن الخمر يلقى اللّه يوم يلقاه كافرا» و في كثير من الروايات: «أنّ مدمن الخمر يلقى اللّه كعابد وثن».

و من الآثار: أنّ الخمر تذهب بنور شاربها فتستولي على قلبه الحجب الظلمانية فلا يعرف ربّه فيكون في حيرة و ضلالة فيجسر على ارتكاب المحرّمات و تهون عليه المعاصي و الآثام،

فعن ابن يسار عن الصادق (عليه السلام): «إنّ شارب الخمر يصير في حال لا يعرف معها ربّه».

و عن الصادقين (عليهما السلام): «ما عصي اللّه بشيء أشدّ من شرب المسكر إنّ أحدهم يدع الصّلاة الفريضة و يثب على أمه و بنته و أخته و هو لا يعقل».

و في حديث آخر عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «قيل له: إنّك تزعم أنّ شرب الخمر أشدّ من الزنا و السرقة؟ قال (عليه السلام): نعم، إنّ صاحب الزنا لعلّه لا يعدو إلى غيره، و إنّ شارب الخمر إذا شرب الخمر زنا، و سرق، و قتل النفس الّتي حرّم اللّه، و ترك الصلاة» إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة.

و من الآثار: أنّها تورث الندامة و تأنيب الضمير،

ففي الحديث عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «أنّه قال لأم خالد العبدية: لا تذوقي منه - النبيذ - قطرة، لا و اللّه لا آذن لك في قطرة منه، فإنّما تندمين إذا بلغت نفسك

ص: 343

هاهنا - و أومى بيده إلى منحره - يقولها ثلاثا».

و من الآثار: أنّه تجعل الإنسان مضطرب البال غير مستقرّ النفس تحدّثه نفسه بارتكاب الجناية، لم يكن للآخرين عنده منزلة و كرامة، فهو في عداوة دائمة مع غيره، قال اللّه تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ فِي اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [المائدة - 91].

و من الآثار: أنّها توجب الصّد عن ذكر اللّه تعالى الذي هو أقوى رادع عن ارتكاب المعاصي، فلا يراقب اللّه في أقواله و أفعاله قال تعالى:

وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ عَنِ اَلصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [المائد - 91].

و من الآثار: أنّها تورث سوء العاقبة،

فعن مسعدة بن زياد عن أبي عبد اللّه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «يجيء مدمن الخمر المسكر يوم القيامة مزرقّة عيناه، مسودّا وجهه، مائلا شدقه، يسيل لعابه، مشدودا ناصيته إلى إبهام قدميه، خارجا يده من صلبه، فيفزع منه أهل الجمع إذا رأوه مقبلا إلى الحساب».

و عن الباقر (عليه السلام): «من شرب المسكر و مات و في جوفه منه شيء لم يتب منه بعث من قبره مخبّلا مائلا شدقه، سائلا لعابه، يدعو بالويل و الثبور» إلى غير ذلك من الأخبار التي تدل على سنخية العقاب مع المعصية و تناسب الجزاء مع العمل كما هو واضح.

إلى غير ذلك من الآثار التي تترتب على شرب الخمر و يشترك الميسر في كثير من تلك الآثار و هي وجدانية يعرفها كلّ مرتكب لهذه المعصية فجدير بالإنسان أن يترك هذا الإثم الكبير كما وصفه الجليل في كتابه الكريم.

ص: 344

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى .......

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى أنّ حب الإنسان لشيء أو كرهه له لا يغيّر الواقع بل هو محفوظ في حدّ نفسه و لا يعلمه إلا اللّه تعالى و أنّ شأن الإنسان أن يبغي الصّلاح في أفعاله ذكر تعالى في هذه الآية المباركة من مصاديق تلك القاعدة نكاح المشركات و المشركين، و حكم بأنّه ليس من صلاح المؤمن نكاح المشركة و إن أعجبه هذا النكاح، بل لا بد للناس أن يذكروا اللّه تعالى و يختاروا ما يدعو إليه في الدنيا و الآخرة.

ص: 345

التفسير

221 - قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ .

النكاح: اسم للعقد الموجب لحلية الجماع. و قال بعضهم: إنّه محال أن يكون اسما للجماع، لأنّ أسماء الجماع كلّها كنايات لاستقباح اسمه كاستقباح فعله، فيلزم من ذلك الخلف و هو محال.

و فيه: أنّه ليس من المحال الذاتي حتّى يقبح بالنسبة إليه تعالى بل هو تكلّم مع الناس على حسب اصطلاحهم كما في قوله تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [التحريم - 12].

و قد اختلفوا في أسماء جميع العقود هل هي أسماء للأسباب، و تستعمل في المسببات مجازا أو بالعكس؟ و قد سرى هذا الاختلاف إلى الفقه و الفقهاء أيضا.

و الظاهر: أنّه لا معنى لهذا النزاع و سقوط هذا الاختلاف، لأنّ المراد بالأسباب الأسباب الجامعة للشرائط المعتبرة مطلقا و هي من الأسباب التوليدية لحصول مسبباتها و ظاهر الأدباء الاتفاق على أنّه لا فرق في الأسباب التوليدية بينها و بين مسبباتها في أنّ الاستعمال فيهما على كلّ تقدير يكون حقيقيّا، فلا فرق في المقام بين أن يقال النكاح اسم العقد الموجب لحلية الوطي. أو اسم للوطي الحاصل حليته من العقد، و قد استعمل في كلّ منهما بالقرائن.

ص: 346

و (لا تنكحوا) - بالفتح - من الثلاثي متعدّ بنفسه إلى مفعول واحد أي:

لا تزوّجوا الكافرات، فيكون الخطاب متوجها إلى الأزواج.

و المشركات جمع مشركة: من الإشراك و هو اتخاذ الشريك للّه سبحانه و تعالى، فيختص بالوثني و الوثنيّة و لا يشمل حينئذ سائر الكفار من أهل الكتاب المنكرين لنبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، و استدل على ذلك بقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ وَ اَلْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ [البينة - 1]، و العطف يقتضي المغايرة، و لأنّ المشرك في اصطلاح القرآن يطلق على ذلك و على هذا القول تكون الآية الشريفة مقتصرة على خصوص المشركين و المشركات من الوثنيين دون أهل الكتاب.

و لكن الحق أن يقال: إنّ الآية عامة تشمل مطلق الكافر من دون اختصاص بطائفة خاصة من الكفار، لعموم التعليل في الآية الشريفة الشامل للجميع، و قد ثبت في العلوم الأدبية - و تبعهم علماء الأصول - أنّ الخطاب المعلّل بعلّة يكون المدار في خصوص ذلك الخطاب أو عمومه على التعليل دون أصل الخطاب، فتفيد الآية عموم التحريم للكتابيات و الوثنيات معا و يدل عليه قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ [الممتحنة - 10]، فإنّه يشمل كلّ كافر بنبوة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) سواء كان كتابيا أو مشركا.

و ما ذكروه من أنّ العطف يقتضي المغايرة لا كلية فيه و لم يثبت ذلك بل هو في الآية المباركة من قبيل عطف العام على الخاص و هو كثير.

كما أنّه لم يثبت أنّ إطلاق المشرك على الوثني اصطلاح قرآني بل قد اطلق على الكافر أيضا قال تعالى: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [البقرة - 135]، و قال تعالى:

هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْمُشْرِكُونَ [الصف - 9].

فالصحيح ما ذكرناه إلا إذا كان في البين دليل يدل على اختصاص

ص: 347

اللفظ بخصوص طائفة خاصة من الكفار.

و قد خرج عن عموم الآية المباركة خصوص الكتابيات لقوله تعالى اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة - 6]، و ليس ذلك من النسخ بشيء كما عن بعض المفسرين، و المسألة فقهية ذكرناها بفروعها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع كتاب النكاح منه.

قوله تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ .

المراد من الأمة: المملوكة أي: إنّ الزّواج بالمملوكة المؤمنة خير من الزّواج بالمشركة و إن كانت حرّة لأنّ الإيمان باللّه تعالى من أعظم الصفات و أجلّها و أفضلها و هو باق و ما سواه من الصفات التي هي البواعث على النكاح التي هي خيرات دنيوية وهمية زائلة و لو كانت بحيث توجب الإعجاب.

و في الآية رد لعادة كانت متبعة عندهم من استذلال الإماء، و التعيير بالزّواج منهنّ، فنفى سبحانه ذلك بأنّ المؤمنة و لو كانت مملوكة خير من المشركة و لو كانت حرّة و إن أعجبتكم.

قوله تعالى: وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ .

وَ لا تَنْكِحُوا - بضم التاء - من باب الإفعال متعدّ إلى المفعول الثاني و الخطاب متوجه إلى من يتولّى النكاح.

يعني: لا تزوّجوا المؤمنات بالمشركين حتّى يؤمنوا فإنّ العبد المؤمن خير من حرّ مشرك و إن أعجبكم حسنه و ماله و شرفه. و الواو في قوله تعالى:

وَ لَوْ حالية، و (لو) بمعنى إن.

و الآية تدل على كراهة التزويج للأغراض الدنيوية الزائلة. و أنّ الكفؤ المعتبر في الزّواج إنّما يتحقق بالإيمان فقط.

ص: 348

قوله تعالى: أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ .

بيان لحكمة هذا الحكم. و الإسلام في أُولئِكَ إشارة إلى المشركين و المشركات المذكورين آنفا.

يعني: أنّ المشركين من شأنهم الدّعوة إلى ما يوجب الدخول إلى النار لاعتقادهم الباطل و سلوكهم طريق الشرك و الضلال و قد رسخت فيهم رذائل الصفات، و تربّوا على سوء الأخلاق فعميت أبصارهم عن الحق و الحقيقة فهم يرشدون إلى الضّلال و يدعون إلى أسباب النار قولا و عملا فيجب الاجتناب عنهم و الحذر منهم لا سيّما في الحياة الزوجية التي هي من أقوى الأسباب في انتقال صفات أحد الزّوجين إلى الآخر فيكون له الأثر السيّئ على هذه المعاشرة و يوجب الشقاء و الدّمار و هذا على نقيض ما يرتجى من هذه المعاشرة.

و أما المؤمنون فهم على خلاف المشركين فإنّهم بسلوكهم مسلك الإيمان و اعتقادهم الصّحيح، و استكمالهم بمكارم الأخلاق، فهم يدعون إلى ما يوجب الدخول إلى المغفرة و الجنة قولا و عملا بإذن اللّه تعالى و هو الذي هداهم إلى الإيمان و إلى ما يوجب الدخول إلى الغفران و الجنان، فتكون دعوتهم و دعوة اللّه تعالى متطابقتين و كلتاهما توجبان المغفرة و الجنة.

و في الآية كمال العناية بالمؤمنين، و فيها دلالة على أنّ المؤمنين يرجعون في دعوتهم و في جميع شؤونهم إلى اللّه تعالى و لا يستقلّون في شيء.

أو لأنّ اللّه تعالى يدعو إلى المغفرة و الجنة بما يشرعه من الأحكام التي تكون لمصلحة الإنسان و تهديه إلى السعادة، فقد أمرهم بمخالطة من يتقرّب بهم إلى اللّه تعالى و ردع عن عشرة من يكون في عشرته البعد عن ساحة الرّحمن فهي دعوة منه عزّ و جل إلى المغفرة و الجنة و يشير إلى ذلك ذيل هذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ .

ص: 349

بيان لحكمة أصل هذا التشريع، أي أنّه تعالى ينزل الأحكام و الأدلة و يوضحها للناس لأجل أن يتذكروا ما فطر اللّه في أنفسهم من قبول التوحيد و الحق و الحقيقة، و المعارف الواقعية. و لفظ «لعلّ» المستعمل في المقام و غيره، و كذا (عسى) و نحوهما إما بمعنى التعليل أي: (لكي، أو لأن) و نحوهما كما هو المعروف بين الأدباء. أو تستعمل في معانيها الحقيقية لكن بداعي أصل المحبوبية لا بداعي تحقق نفس تلك المعاني حتّى يستلزم النقص بالنسبة إليه جلّ جلاله.

ص: 350

بحوث المقام
بحث دلالي

الآية الشريفة تبيّن جانبا من الجوانب التي تبتني عليها الحياة الزوجية التي اهتم بها الإسلام و وضع لها قوانين و ضوابط و آدابا إذا روعيت حق المراعاة لتم الصّلح و الوئام بين الأفراد و خلص الإنسان من الشقاء و الدّمار و حظى بالحياة السعيدة الهنيئة.

فإنّ الآية تبيّن ما يجب مراعاته في تحقيق هذه العشرة، فإنّ كلّ واحد من الزوجين لباس للآخر و خليط معه، و من شأن كلّ خليط اكتساب صفات الآخر فأمر عزّ و جلّ بلزوم التحفظ على الجانب المعنوي و الرّوحاني في هذه الحياة بماله من الأثر التربوي و الاجتماعي و الفردي و عليه تستند قدسية الزّوج و هو ملاحظة الإيمان باللّه تعالى الذي هو فطري في الجملة لا سيّما في النفوس الضعيفة و مرحلة الشباب في الإنسان و قد دلت على ذلك الأدلة العقلية كما ثبت في الفلسفة القديمة و الحديثة و لعلّه لأجل ذلك قدّم سبحانه و تعالى هذا الأمر على ما يتعلّق بأحكام النّساء لما له الأهمية الكبرى بالنسبة إلى الحياة الزوجية بين الزوجين و لما له الأثر الكبير في نشوّ الأولاد و الصّلة بالاجتماع، بل الرضاع فإنّ اللبن يعدي كما ورد في عدة من الأخبار، فهذا الحكم له من الآثار ما لا يدركها أحد إلا اللّه تعالى و لذا أكد عليه بأنحاء

ص: 351

التأكيدات في القرآن الكريم و السنة الشريفة، ففي المقام نهى عن الزّواج بالمشركين و المشركات و بيّن عزّ و جل العلّة في ذلك بأنّهم يدعون إلى النار لما يقترفونه من المعاصي و الآثام و ليس لهم أيّ رادع نفساني يردعهم عن ذلك لعدم اعتقادهم باللّه تعالى، فليس لهم شأن إلا الدّعوة إلى النار مطلقا.

و على نقيض ذلك المؤمن فإنّه يدعو إلى المغفرة و الجنة و الإحسان و التحلّي بمكارم الأخلاق فهو يدعو إلى اللّه قولا و عملا، فالإيمان باللّه هو أساس كلّ خير و سعادة و له الأثر الكبير في نشوء الأولاد الصالحين بل و صلاح الاجتماع و تقدمه.

ثم إنّه لا فرق في الدّعوة إلى النار بين أن تكون قصدية كإيقاع الناس في المحرّمات و تسهيل أسبابها عليهم أو تكون انطباقية قهرية كمن يعمل منكر يعلم تقليد الناس له فيه فهو يدعوهم إلى النار و لو لم يكن من قصده ذلك.

كما لا فرق بين أن تكون بالمباشرة أو التسبيب قلّت الأسباب أم كثرت، و كذا لا فرق بين أن يكون موردها النفوس و الأعراض أو الأموال المحترمة و إن كان بينها تفاوت بالشدة و الضعف.

و تشمل الآية جميع الاعتقادات الباطلة و الآراء الفاسدة التي لا يرضى الشرع بها، بل إنّها تشمل الدّعوة إلى النار بالقول أو الفعل أو الكتابة و نحوها.

و تجري جميع هذه الأقسام بالنسبة إلى المغفرة و الجنة و لكن يشترط أن تكون بإذن اللّه تعالى و إمضائه و إلا كان من التشريع المحرّم.

و ما ذكره جمع من الفقهاء من تحقق الاستحباب الشرعي بأخبار قاصرة السند تمسكا بأخبار من بلغه ثواب عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) فعمل به فله ذلك الثواب و إن كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لم يقله.

فهو مخدوش: لأنّ مجموع تلك الأخبار بعد رد بعضها إلى بعض لا يستفاد منها إلا المطلوبية النفسية الفعلية من كلّ جهة، و قد ذكرنا بعض الكلام في كتابنا (تهذيب الأصول) فراجعه هناك.

ص: 352

ثم إنّه يستفاد من قوله تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ أنّ إعجاب الناس لشيء و حكمهم بحسنه لا أثر له ما لم يكن ممضيا شرعا لأنّ الإعجاب و التحسين إنّما يكونا بالنسبة إلى الظاهر دون الحقيقة و الواقع فرب إعجاب في الظاهر يكون بخلافه في الواقع.

ص: 353

بحث روائي

في الكافي عن الحسن بن جهم عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «قال لي: يا أبا محمد ما تقول في رجل يتزوج نصرانية على مسلمة؟ قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك؟ قال (عليه السلام) لتقولنّ فإنّ ذلك تعلم به قولي. قلت: لا يجوز تزويج النصرانيّة على مسلمة و لا غير مسلمة قال (عليه السلام): و لم؟ قلت: لقول اللّه عز و جل: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ قال (عليه السلام): فما تقول في هذه الآية: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قلت: فقوله:

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ نسخت هذه الآية فتبسم ثم سكت».

أقول: النسخ قد يطلق على التخصيص أيضا.

و في أسباب النزول عن مقاتل بن حيان قال: «نزلت في أبي مرثد الغنوي استأذن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في عناق أن يتزوجها و هي امرأة مسكينة من قريش، و كانت ذات حظّ من جمال و هي مشركة، و أبو مرثد مسلم. فقال: يا نبيّ اللّه إنّها لتعجبني فأنزل اللّه عزّ و جل: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ .

و في الدّر المنثور عن ابن عباس قال: «نزلت في عبد اللّه بن رواحة و كانت له أمة سوداء، و إنّه غضب عليها فلطمها، ثم إنّه فزع فأتى النبي (صلّى

ص: 354

اللّه عليه و آله) فأخبره خبرها فقال له النبي (صلّى اللّه عليه و آله): ما هي يا عبد اللّه؟ فقال: يا رسول اللّه هي تصوم و تصلّي، و تحسن الوضوء، و تشهد أن لا إله إلا اللّه و أنّك رسوله فقال (صلّى اللّه عليه و آله): يا عبد اللّه هذه مؤمنة.

فقال عبد اللّه: فو الذي بعثك بالحق (نبيا) لأعتقها و لأتزوجها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: نكح أمة و كانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين و ينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل اللّه تعالى فيهم: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ - الآية -.

و في المجمع إنّ الآية نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي بعثه رسول اللّه إلى مكة، ليخرج منها ناسا من المسلمين، و كان قويا شجاعا فدعته امرأة يقال لها: عناق إلى نفسها فأبى و كانت بينهما خلة في الجاهلية، فقالت: هل لك أن تتزوج بي؟ فقال: حتّى أستأذن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فلما رجع استأذن في التزويج بها».

أقول: روى قريبا منه الواحدي في أسباب النزول و السيوطي في الدر المنثور عن ابن عباس. و يمكن أن يكون سبب النزول متعدّدا فلا تنافي بين الروايات.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ أنّه منسوخ بقوله: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و قوله تعالى: وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا على حاله لم ينسخ.

أقول: ذكرنا أنّ المراد من النسخ هو التخصيص، و يأتي الكلام في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 355

بحث فقهي

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ وَ اَلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ و ما في سياقه من الآيات الشريفة و الرّوايات أنّ المناط كلّه في رابطة الزواج الإيمان و الاعتقاد باللّه تعالى و الدّين، و قد صرّح بذلك في عدّة روايات

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إياكم و خضراء الدّمن قيل: يا رسول اللّه و ما خضراء الدّمن؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): المرأة الحسناء في المنبت السوء».

و في حديث آخر عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالط».

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «عليك بذات الدّين تربت يداك».

كما تدل الآية الشريفة على كراهة قصد الجمال و المال و الشرف و الحب فقط في النكاح، و تدل على ذلك روايات مستفيضة.

و صريح الآية الكريمة حرمة النكاح مع الكافر و الكافرة مطلقا لعموم العلة و هو المشهور بين الإمامية، و ليست هي منسوخة و لكنّها خصصت بقوله

ص: 356

تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ - إلى قوله تعالى - وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ [المائدة - 7]، و ذكرنا تفصيل ذلك في الفقه و من شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

ص: 357

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوه.......

اشارة

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ (223) ذكر سبحانه و تعالى حكما من الأحكام التي ترشد الإنسان إلى حفظ نوعه و بقائه و قد نبهه إلى ما يتحفظ به طهارته المعنوية و الظاهرية.

و ذكر بعض أحكام النساء من وجوب الاعتزال عنهنّ في زمان الحيض و أمر الإنسان بالسّعي إلى ما أمره اللّه تعالى حتى يعد عند اللّه مؤمنا متقيا و قد بشّره بعظيم الثواب.

ص: 358

التفسير

222 - قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً .

مادة (حيض) تأتي بمعنى السّيلان و سمّي هذا الدم المخصوص حيضا لسيلانه في الجملة، و إذا كان عين الفعل منه واوا فهو بمعنى الجمع و منه الحوض، و يصح إطلاقه في المقام أيضا، لأنّه لا يسيل الدم إلا إذا اجتمعت مادته في الرحم و لو في الجملة.

(و المحيض) مصدر ميمي و هو اسم للدم الخاص في وقت معين، و لم يستعمل في القرآن الكريم إلا بهذه الهيئة كما في قوله تعالى: وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ [الطلاق - 4]، و يأتي المحيض اسما لزمان الحيض و مكانه، و الفارق القرائن المعتبرة.

و الحيض من الأمور الطبيعية للنساء و هو منشأ تكوّن الجنين في الرحم، و له أحكام شرعية، كما أنّ له اثارا صحية و نفسية معروفة ذكرها علماء الطب و النفس.

و إنّما عبّر سبحانه بالمحيض دون الحيض، لأنّ للإضافة الحدوثية إلى الحائض دخلا في الجملة في أحكامه و لأجل ذلك صحح عود الضمير (هو) إليه.

و الأذى: ما يصيب الإنسان من المكروه في نفسه أو جسمه، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن بهيئات مختلفة حتى استعملت بالنسبة إلى اللّه تعالى

ص: 359

قال سبحانه و تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اَللّهُ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ [الأحزاب - 57].

و كون الحيض أذى أمر معلوم فإنّه مستقذر ينفر عنه الطبع لكون هذا الدم خارجا عن مزاج الدم الطبيعي لفساده فلا يصلح لتغذية الجنين أو تهيئة اللبن للإرضاع فيرفضه الرحم إلى الخارج مصحوبا بآلام بدنية و نفسية فيكون أذى للنساء كما أنّ لهذا الدم أحكاما خاصة يصعب عليهنّ تحمّلها و هو أذى للزوج لأنّه يحرم عليه مدة الحيض أهم الاستمتاعات إذ الرّحم مشغول بتطهيره و تنقيته و الوقاع يضرّه بل هو أذى للنطفة إذا فرض انعقادها في زمان الحيض. و قد كشف العلم الحديث عن كثير مما يتعلّق بهذا الدم و يشمل جميع ذلك إطلاق هذه الكلمة الفصيحة بإيجازها قُلْ هُوَ أَذىً .

و قيل: إنّ المراد بالمحيض محلّ الحيض و مكانه و باعتبار الملازمة بين الحال و المحل عبّر تعالى بذلك، فيصح عود الضمير حينئذ بلا استخدام و هذا و إن كان صحيحا و لكنّه صرف لعموم الآية الشريفة إلى بعض المحتملات، فالصحيح ما ذكرناه.

قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ .

العزل و الاعتزال: التجنب سواء كان بالبدن فقط أو القلب أو بهما و المراد به هنا الأول أي: عدم المقاربة معهنّ في محلّ الحيض فقط بقرينة قوله تعالى:

وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ . و هو المراد أيضا إن أريد بالمحيض زمان الحيض لانسباقه إلى الذهن، و ليس المراد وجوب الاعتزال عن النساء مطلقا فإنّه مخالف لظاهر الآية الشريفة و للنصوص المتواترة و إجماع المسلمين. و بذلك أخذ الإسلام الطريق الوسط بين التشديد التام الذي عليه اليهود فإنّهم لا يساكنون النساء حال الحيض و لا يؤاكلوهنّ و لا يمسوهنّ و لا يضاجعوهنّ ففي التوراة كثير من الأحكام الشديدة بالنسبة إليهنّ فقد جاء في سفر اللاويين الفصل الخامس عشر «كل من مسّها - أي المرأة في أيام طمثها - يكون نجسا إلى المساء و كلّ ما تضطجع عليه في طمثها يكون نجسا و كلّ ما تجلس عليه يكون نجسا، و كلّ من

ص: 360

مس فراشها يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و كلّ من مس متاعا تجلس عليه يغسل ثيابه و يستحم بماء و يكون نجسا إلى المساء و إن كان على الفراش أو على المتاع الذي هي جالسة عليه عند ما يمسه يكون نجسا إلى المساء و إن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجسا سبعة أيام كلّ فراش يضطجع عليه يكون نجسا» و قد أخذ العرب بعض الأحكام من اليهود فشدّدوا على الحائض فكانوا في الجاهلية لا يساكنونها و لا يؤاكلونها.

و بين الإهمال و التهاون كما عليه النصارى، فالإسلام أخذ الطريق الوسط و أوجب اعتزال النساء في محل الدم فقط و حرم إتيانه في وقت الحيض و أباح سائر الاستمتاعات و معاشرتهنّ و مخالطتهنّ.

و وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ لأنّ المحيض الأول بالمعنى المصدري و يراد من الثاني مكان الحيض أو زمانه فهو غير المعنى الأول فلا يصح عود الضمير إليه.

ثم إنّه تعالى قدم قوله: قُلْ هُوَ أَذىً و هو كالعلة لما يأتي و يترتب عليه الحكم بوجوب الاعتزال عنهنّ و عدم المقاربة معهنّ في محل الدم.

قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ .

المراد من القرب: خصوص الوطي، و هو في مقابل البعد، لأنّ من أدب القرآن الكريم الكناية عما يستقبح ذكره بألفاظ أخرى حسنة كقوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ [البقرة - 187]، و هذا دليل على أنّ المراد من الاعتزال خصوص المجامعة في موضع الدم و إنّما جيء به تأكيدا للاعتزال و بيانا له.

و قوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ بالتخفيف هي القراءة المعروفة بين المسلمين و هو المرسوم في المصاحف المتداولة و هو ظاهر في انقطاع الدم أي: حتى يخرجن من الحيض بانقطاع الدم عنهنّ.

و يكون الأمر بالاعتزال مقيّدا بحصول نقاء المحل، و الغاية في عدم القرب

ص: 361

هي انقطاع الدم و الطهر بعد الحيض و لو لم تغتسل المرأة، و يؤيد ذلك قوله تعالى: وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ و هو المناسب للتعليل في صدر الآية المباركة و هو المشهور بين المسلمين.

و قرئ بالتشديد أي: يطهّرن بالغسل بعد نقاء المحل من الدم و هو ظاهر في الاغتسال عن حدث الحيض و تكون الغاية حينئذ في وجوب الاعتزال الغسل و لا يكفي نقاء المحل فقط. و هذه القراءة شاذة لا عبرة بها مضافا إلى أنّ فيها تكلّفا زائدا لم يعلم ثبوته شرعا فيشمله

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«رفع عن أمتي ما لا يعلمون».

قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ .

أي: فإذا تطهّرن بالنقاء أو بالغسل فلا محذور لكم في مقاربتهنّ على النحو الذي أراده اللّه تعالى من النكاح، و قد كنّى سبحانه و تعالى عن الجماع بالإتيان كما يقتضيه الأدب القرآني.

و التفريع لأجل بيان إباحة الوطي بعد تحريمه حال الحيض و لا يكون تكرارا كما ذكره بعض المفسرين.

و الظاهر أنّ المراد من قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ مطلق ما كتبه اللّه في هذا الموضوع و هو ابتغاء النسل و الذرية و بقاء النوع لا مجرّد التلذذ من الزّواج و في سياقه قوله تعالى: فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ [البقرة - 187].

و يكون المعنى: فأتوهنّ من حيث الوظائف الشرعية التي جعلها اللّه تعالى لكم في هذا الأمر العظيم الذي هو منشأ حياتكم و بقاء نوعكم فإنّ للنكاح أهمية عظمى في الشريعة الإسلامية التي لم تدع جانبا من جوانبه و جهة من جهاته.

و لم يكن النّكاح في نظر الشرع مجرد لهو و نزوة كما ينزو حيوان على آخر و إعمالا للقوة الشهوية بل أراد ما هو أعظم و أنبل من ذلك و تكفي وصية نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) إلى عليّ (عليه السلام) المعروفة التي ذكر فيها بعض آداب النكاح و أحكامه و التي إذا روعيت كان لها الأثر العظيم في تنظيم

ص: 362

النسل و سعادة الحياة الزوجية و قد أيد كثيرا منها العلم الحديث و لعلّه يكشف عن سائر ما جاء به الإسلام في المستقبل.

و قد ذكر المفسرون و الفقهاء في تفسير هذه الآية وجوها بعيدة عن سياقها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ .

الحب في المقام: بمعنى الأجر و الثواب و التأييد، و هو من صفات فعله تعالى. نعم، حبه تعالى لذاته بذاته هو عين ذاته، و قد تقدم الفرق بين صفات الفعل و صفات الذات في أحد مباحثنا السابقة.

و التوبة: هي الرجوع بعد الانحراف و البعد، و توبة العاصي هي الرجوع إلى اللّه تعالى بعد البعد عنه بفعل المعصية.

و المتطهّر: هو الآخذ بالطهارة و المتنزه عن القذارة و النجاسة، و إتيان الأحكام الإلهية بالايتمار بأوامره تعالى و الانتهاء عن نواهيه هو تطهر من المكلّف عن قذارة ارتكاب المنكرات و المخالفة، و توبة منه إلى اللّه تعالى و لأجل ذلك ذكر سبحانه هذه الجملة في ختام هذا الحكم.

و إطلاق قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ يشمل جميع مراتب التوبة من صغائر الذنوب و كبائرها، و إنّ المبالغة تفيد مطلوبية الاستمرار و كثرتها مطلقا.

كما يشمل جميع مراتب التطهر و كثرته و من حيث العدد و النوع فيهما لمطلوبية التوبة و الطهارة ذاتا و هما من المحسّنات العقلية التي رغب الشرع إليهما، و اللّه يحب ما هو حسن ذاتا و ما هو محبوب الجميع.

و إنّما قدم سبحانه التوبة على الطهارة لتقديم تطهير الروح و الباطن على تنظيف الجسم و الظاهر بل الثاني طريق إلى الأول و الجمع بينهما لبيان أنّ أحدهما بدون الآخر لا أثر له فلا فائدة في التوبة إذا لم يراع فيها جهات الطهارة الظاهرية و كذا بالعكس.

223 - قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 363

الحرث: هو تهيئة الأرض للبذر و إلقاؤه فيها و زراعتها و يطلق الحرث على المحروث قال تعالى: أَنِ اُغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ [القلم - 22]، و قال تعالى: وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ [البقرة - 205].

و لفظ أنّى من المبهمات سواء في الزّمان أو المكان و لكن استعماله في الزّمان أشهر. و قيل باستعماله في كلّ منهما في المقام أي أين شئتم، أو في أيّ محلّ شئتم، و لكن من إيكال الحكم إلى المشيئة - و هي غير محدودة بحد إلا ما نهى عنه الشرع - يستفاد التوسعة في إتيان النساء من حيث المكان و الزمان.

و ذكره بعد اية المحيض لأجل بيان خروج زمان الحيض فإنّه لا استعداد فيه للحرث و غشيان النساء لأنّه أذى لهنّ، و فيه من القذارة التي يحب اللّه التطهير منها. فنسبة هذه الآية نسبة الشرح للآية السابقة فتكون مطلقة من حيث الزمان و المكان إلا ما نهى عنه الشرع المبين.

فالآية واضحة في دلالتها على التوسعة، فلا وقع للبحث عن أنّ كلمة (أنّى) زمانية أم مكانية، بل هي بمعنى ما شاء لتشمل الجميع بقرينة عموم المشية و إطلاقها و عمومات الحلية و الإباحة، و لا نحتاج إلى أقوال اللغويين أو المفسرين و إعمال الترجيح بينها، و لا فرق بين ملك الانتفاع المطلق، و المنفعة المطلقة، و ملك الذات من هذه الجهة، و يدل عليه

قول جعفر بن محمد (عليهما السلام):

«لك أن تستمتع بكلّ جزء منك من كلّ جزء منها». نعم، هناك موارد استثناها القرآن الكريم، و السنة المقدسة، و الفقهاء و تعرضنا لها في الفقه بما لا مزيد عليه.

و من تعليق الأمر بإتيان النساء على مشية المكلّفين و اختيارهم يستفاد أنّ الأمر للإباحة دون الوجوب.

كما يستفاد من تشبيه المرأة بالحرث في الآية الكريمة أمور:

الأول: أنّ الإنسان يحتاج إلى الحرث لأنّه منشأ بقاء الحياة و حفظها، كذلك النساء فإنّهنّ منشأ بقاء النوع و دوامه ببقاء النسل، و لولاهما لنفذ النوع و زالت الحياة.

ص: 364

الثاني: أنّ الحارث لما كان يلاحظ خصوصيات الحرث من حيث زمانه و مكانه، إذ ليس كلّ أرض صالحة للحرث و الزرع، و ليس كلّ زمان صالحا للزراعة كذلك لا بد أن يلاحظ في النساء هذه الجهة و هي من أهم جهات الحياة الزوجية و بدونها لم يحصل التعاطف و لم تتحقق المودة و المحبة بين الزوجين، و قد حرص الإسلام على ملاحظة هذه الجهة، و العقل يقضي بذلك أيضا.

الثالث: لزوم مراعاة الجهات الخارجية في الحرث: من سقي الماء و التحفظ عن حوادث الجو و غير ذلك، كذلك لا بد من مراعاة أحوال النساء و ملاحظة الزوجة التي يريد أن يختارها لعشرته و المخالطة معها فلا تقتصر على خصوص أمور خارجة كالجمال و المال و نحو ذلك التي لا ترتبط بسعادة الحياة الزوجية و تنشئة الأولاد و تربيتهم.

الرابع: عدم تحميل الأرض ما يضرّها من كثرة الماء و زيادة البذر، فإنّه و إن أوجب الانتفاع بذلك عاجلا لكنّه يضرّ بها آجلا و هكذا حال المرأة في كلّ ما يتعلق بها من الاستمتاعات.

الخامس: مراعاة البذر في الحرث بالحفظ و التنمية كذلك لا بد من مراعاة المرأة و ما في رحمها من البذر الإنساني فإنّ احتياج المجتمع الإنساني إلى النساء لأجل بقاء النوع و دوام النسل كما يحتاج إلى الحرث في إبقاء البذور، و تحصيل الغذاء للإنسان لحفظ حياته فجعل اللّه تبارك و تعالى رحم المرأة منشأ تكوّن الإنسان كما جعل في الرجل المادة الأصلية، فكلّ واحد من الزوجين يكمّل الآخر و يستعين به في رفع الحاجات، و قد جعل اللّه بينهما مودة و رحمة يخدمان النوع خدمات شرعية.

السادس: أنّ الحارث مسلّط على الأرض بأنحاء التعمير و الاستفادة منها، لأنّ الحرث وسيلة لبقاء النّوع و هو غير مقيّد بوقت كذلك الزوج مسلّط على الانتفاع من الزوجة في أيّ وقت شاء بأيّ كيفية أراد بحسب الوظيفة الشرعية.

السابع: أنّ بهجة الأرض و خضرتها و زيادة زرعها مما يوجب انبساط الحارث و فرحه كذلك جمال الزوجة و نظافتها و نزاهتها الفاضلة من موجبات فرح

ص: 365

الزوج و انبساطه و رغبته على الحياة الزوجية. و غير ذلك مما هو منشأ لحسن هذا التشبيه و التنزيل.

ثم إنّ إعطاء هذه السلطة الانتفاعية المطلقة للزوج و تسليطه عليها يستلزم في جملة من النفوس التعدي عن الحقوق التي لا بد للزوج من مراعاتها بالنسبة إلى الزوجة، و لذلك أمرهم بالتقوى، و أنذرهم على المخالفة، و وعد المؤمنين بالبشارة.

قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

أي: عاملوا النساء معاملة إذا ظهرت يوم عرض الأعمال تكون زينا لكم و لا تكون شينا فتنتفعوا منها في الدنيا و الآخرة، فإنّ اللّه تعالى يراكم فعلا، و يوم ظهور الأعمال و سرائر النفوس تتمثل أمامكم أعمالكم، فإن أحسنتم لهنّ أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها.

و أكد سبحانه ذلك بقوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ و بقوله جلّ و علا: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ و في سياق ذلك قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ [الحشر - 18].

و يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ هو التقديم في الدنيا بالاستيلاد و إنجاب الأولاد لبقاء المجتمع الإنساني الذي يكر على أفراده الفناء و الموت و ببقائه يبقى الدّين الإلهي و تتحقق عبادة اللّه تعالى و يظهر توحيده عزّ و جلّ، و ذلك يتطلب تنشئة الأولاد صالحين قد تربوا على دين الحق و الأخلاق الفاضلة، و يكون فيهم بقاء ذكر الآباء و بقاء للنسل الذي طلبه اللّه تعالى من الزواج، فيكون تقديم الأولاد الصّالحين من تقديم العمل الصالح الذي طلبه اللّه عزّ و جل، و الأمر بالتقوى لأجل عدم تعدّي حدود اللّه تعالى و انتهاك حرماته.

قوله تعالى وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ .

أي: لا بد أن يكون عملكم عمل من أيقن بملاقات اللّه تعالى و هو يجازيه على أعماله خيرا كان أو شرّا و كل من علم بأنّه يلاقي المحاسب المرتقب لا

ص: 366

يتساهل في تهيئة نفسه للحساب.

و في الآية المباركة إرشاد إلى مراقبة النفس، و التحفظ على الأعمال لئلا يصدر العمل عن غفلة، و فيها من التوعيد على المخالفة ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

وعد منه تعالى لأهل الإيمان الذين يراعون أحكام اللّه تعالى و يراقبونه في أعمالهم و فيه إرشاد إلى أنّ الخوف من اللّه تعالى و التقوى من لوازم الإيمان.

و هذه الآية تدل على أنّ لكلّ واحد من الزوجين حقّا على الآخر يحاسبه الرقيب، و هي أعظم اية في تشريع قانون الزواج و التأكيد في مراعاة حق الزوجة و في السنة الشريفة ما يفسر ذلك

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«أحبّكم عند اللّه أحسنكم إلى زوجته» و لا يعقل أن يكون قانون أضبط و أشمل لحقوق الزوجية من هذه الآية. و لم تصل الإنسانية في أمر الزواج إلى هذا المستوى من الانحطاط و لم يتحمل المجتمع الإنساني من الآلام و المتاعب في الحياة الزوجية إلا لأجل الإعراض عما أنزله اللّه تعالى فيها.

ص: 367

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً أنّه كان في الحيض عادة متبعة عندهم إما شديدة قاسية عليهم كما كانت اليهود تفعله بالنسبة إلى النساء عند عروض الحيض أو مهملة و بسيطة كما كانت تفعله النّصارى، أو بعض العرب من رجحان إتيان النساء في هذه الحال.

و في الجواب كان الحكم الشرعي الذي يعتبر وسطا بين تلك العادات.

الثاني: يدل قوله تعالى: قُلْ هُوَ أَذىً على جميع ما يتعلق بهذا الدم من الآثار الصحية و النفسية بالنسبة إلى الحائض و ما يتعلق بالنسبة إلى الزوج الذي يمنعه هذا الدم من أهم الاستمتاعات و ما يتعلق بالنطفة إن فرض انعقادها في هذه الحالة. فتشمل هذه الجملة الفصيحة الموجزة على كثير مما يذكره الأطباء و غيرهم في هذا الدم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ الأخذ بالاحتياط في هذا الأمر فإنّه و إن كان كناية عن إتيان النساء إلا أنّه يدل على شدة الاهتمام

ص: 368

لأنّه يصير الإنسان في حالة تغلب عليه الشهوة فلا يتوجه إلى فعله كما هو واضح.

الرابع: يدل قوله تعالى: مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ على أنّه وراء هذا الحكم الشرعي أمر مكتوب من عند اللّه جعله في الزواج الذي لا بد من ابتغائه في هذه الحياة لتسلم عن المشكلات و تبتعد عن الشقاء.

و إطلاقه يشمل ما أمره اللّه من حيث كيفية المعاشرة و المخالطة، و حسن الأخلاق، و ابتغاء النّسل الصّالح و غير ذلك مما له دخل في هذه الحياة التي أحبّ اللّه تعالى أن تكون هنيئة سعيدة.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ الجانب الخلقي في الأحكام الشرعية التي أنزلها اللّه تعالى من حيث إنّها جاءت لتكميل النفوس الناقصة بإتيان ما أمره اللّه تعالى و الانتهاء عن نواهيه و تطهيرها عن القذارات المعنوية بالابتعاد عن سفاسف الأمور و رذائل الأخلاق.

السادس: يستفاد من صيغة الجمع في التوابين و المتطهرين و المبالغة فيهما تعميم التوبة و التطهير بالنسبة إلى جميع الذنوب صغائرها و كبائرها و تكرارها و الإدامة عليها بالاستغفار أو بإتيان الوظائف الشرعية و حسن التطهير عن جميع القذارات الحسية و المعنوية كالأخلاق الرذيلة و العلوم الباطلة و الإدامة على الطهارة و تكرارها.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ حسن الثواب لمن يتبع أوامر اللّه تعالى و ينتهي بنواهيه لا سيّما في المقام الذي تهيج فيه القوى الشهوية و النزوات الشيطانية، و لذا ورد في بعض الأخبار أنّ المرأة إذا عملت بوظائفها حال الحيض يكون ثوابها كثواب الشهيد في سبيل اللّه تعالى.

الثامن إنّما كرّر سبحانه و تعالى «الحب» لبيان تعدد الموضوع و الاهتمام بهما، و هما قد يجتمعان و قد يفترقان. مع أنّ تكرار لفظ الحب محبوب في حد نفسه و أنّه يوجب زيادة الترغيب.

ص: 369

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ احتياج المجتمع الإنساني في بقاء النوع إلى النساء كاحتياجهم إلى الزرع، و أنّهنّ الجزء المكمّل لهذا المجتمع بل الأصل في مادته، و بالتآلف معهنّ تتم الحياة السعيدة و في هذا التعبير كمال العطف بهنّ و فيه من حسن الأسلوب و روعة البيان ما لا يخفى.

العاشر: يدل قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ الاهتمام بتربية الأولاد، لأنّهم أهمّ شيء يقدمه الإنسان لنفسه كما

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: ولد صالح يستغفر له، و صدقة جارية، و مصحف يقرأ فيه» و في قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، بيان و شرح لمثل هذه الآية.

الحادي عشر: إطلاق قوله تعالى: وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ يشمل جميع ما يصلح لأن يقدم للآخرة من الأعمال الصالحة أو الأخلاق الفاضلة أو المعتقدات الحقة كما يستفاد منه كمال الترغيب إلى ذلك و الاهتمام بالتقوى.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ نهاية الاهتمام بمراقبة النفس و التحذير و عن المعاصي كما يستفاد البشارة لمن عمل بذلك و أنّ مراقبة النفس و العمل بالأحكام الإلهية من مقوّمات الإيمان و تدل على ذلك آيات كثيرة.

ص: 370

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة ما يلي من الأحكام الفقهية:

الأول: الحيض دم يخرج من الرحم ذو أوصاف معلومة تختلف باختلاف الأمزجة و الأمكنة و الأزمنة و قد حددته الشريعة الإسلامية بحدود خاصة و قيود مخصوصة وردت في السنة المقدسة، و شرحها الفقهاء بما لا مزيد عليه تعرضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و هو يختلف عن كلّ دم خارج عن الرّحم تراه المرأة كالنفاس و الاستحاضة و دم العذرة، و لا فرق في حصول الحيض بين أن يكون طبيعيا أو بالعلاج و المناط تحقق شرائطه المعتبرة شرعا.

و الحيض من الحدث الأكبر و هو ما يوجب الغسل كالجنابة، و النفاس، و كذا بعض أقسام الاستحاضة، فلا يرتفع حدث الحيض إلا بالغسل و لا يكفي تطهير المحل.

الثاني: الطهارة و النجاسة من الأمور الشايعة عند الناس بلا اختصاص لهما بقوم دون آخرين أو ملة دون أخرى.

و هما ناشئتان عن وجدان الأشياء ما يوجب تنفر الطبع و الرغبة عنها، أو ما يوجب الإقبال و الرغبة إليها، و هذا المنشأ و إن كان بادئ الأمر محسوسا و لكنّ الإسلام عمّهما بالنسبة إلى المحسوسات و المعقولات كالأخلاق و العقائد و الأقوال

ص: 371

و الأفعال و نحو ذلك.

و النجاسة: هي القذارة المحدودة شرعا. و الطهارة: صفة خاصة تنافي النجاسة و هي إما ظاهرية - التي تحصل من زوال النجاسة و التجنب عنها - أو معنوية و لها مراتب كثيرة قال تعالى: وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر - 5]، و قال تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب - 33]، و قال تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلاَّ اَلْمُطَهَّرُونَ [الواقعة - 79].

فكما أنّ ظاهر البدن و اللباس يستقذر بالقذارات الظاهرية فلا بد في تطهيرهما بالكيفية المقررة في الشريعة الإسلامية، كذلك تستقذر الروح بالمعاصي و الذنوب و الأخلاق الرذيلة و لا بد من تطهيرها بالإيمان و التوبة و الاجتناب عما يوجب التنفر و الكراهة و إلا حصل التباعد بينها و بين المبدأ الفياض فتبتعد عن محالّ القدس، و تخرج عن الصراط المستقيم و تهوي أخيرا إلى سواء الجحيم و قد اهتم الإسلام بكلّ منهما نهاية الاهتمام و كماله.

و الطهارة في جميع الكتب السماوية تكون على قسمين: إما طهارة حدثية، أو طهارة خبثية، و الأولى ترفع الأحداث و هي: الوضوء، و الغسل، على ما هو المقرّر في الشرع الإسلامي. و الثانية تزيل النجاسة الحاصلة بملاقاة إحدى الأعيان النجسة و هي في الشريعة الإسلامية إحدى عشرة: الدم، و البول، و الغائط، و المني من الإنسان و بعض الحيوانات، و الميتة، و الكلب، و الخنزير البريان، و المشرك، و المايع من المسكر على ما هو مفصّل في الفقه.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ أنّ المحرّم هو إتيان النساء في محلّ الحيض فقط، لاختصاص العلة التي ذكرها سبحانه في الآية الشريفة بهذا الموضع، فيحرم الجماع في الفرج لا مطلق التلذذ و التمتع و المعاشرة و يكون ذلك حدّا وسطا بين تحريم مطلق المعاشرة مع الحائض كما يفعله اليهود و بعض العرب و بين الإباحة المطلقة كما يفعله النّصارى أو بعض مشركي العرب الذين كانوا يستحبون المعاشرة معهنّ في هذا الوقت.

ص: 372

الرابع: ربما قيل بدلالة قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ على حرمة إتيان النساء من أدبارهنّ، و لكنّه فاسد، لأنّ الآية وردت لبيان حكم خاص في حالة مخصوصة و لا دلالة لها على شيء آخر إلا بضميمة مفهوم اللقب، أو أنّ الأمر يقتضي النّهي عن ضده. و قد أثبتنا بطلان كلّ منهما في الأصول و من شاء فليراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ التوسعة في إتيان النساء و جواز الاستمتاع من الزوجة من حيث المكان و الزمان إلا ما ورد النّهي عنه شرعا، و إطلاق الآية المباركة يشمل جواز إتيان الزوجة قبلا و دبرا و هو المشهور بين فقهاء الفريقين و المسألة مذكورة في كتب الفقه مفصّلة.

السادس: ربما قيل بأنّ إطلاق قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ يدل على جواز العزل عند الجماع.

و لكنّه موهون جدّا لأنّ الإطلاق إنّما يؤخذ به إذا كان في مقام البيان و مع العدم أو الشك في البيان لا يمكن التمسك به كما ثبت في علم الأصول.

السابع: يدل قوله تعالى: حَتّى يَطْهُرْنَ على كفاية نقاء المحل و لو بملاحظة مجموع الآية بصدرها و ذيلها بعد رد بعضها إلى بعض كما هو الشأن في استفادة حكم من الأحكام الشرعية من الأدلة.

ص: 373

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ قال: «الذي سأل عن ذلك أبو الدحداح و هو ثابت بن الدحداح».

و في أسباب النزول للواحدي عن أنس: «أنّ اليهود كانت إذا حاضت منهم امرأة أخرجوها من البيت فلم يواكلوها، و لم يشاربوها و لم يجامعوها في البيت فسئل رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) عن ذلك فأنزل اللّه عزّ و جل:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا اَلنِّساءَ فِي اَلْمَحِيضِ - الآية - فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): جامعوهنّ في البيوت و اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح، فبلغ ذلك اليهود، فقالوا: ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئا إلا خالفنا فيه. فجاء أسيد بن خضير، و عباد بن بشر فقالا: يا رسول اللّه إنّ اليهود قالت كذا و كذا أ فلا نجامعهنّ؟ فتغيّر وجه رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) حتى ظننا أن قد وجد عليهما فخرجا، فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأرسل في أثرهما فسقاهما فعرفنا أنّه لم يجد عليهما».

أقول: روى مثله أحمد و الدارمي، و مسلم، و أبو داود، و الترمذي، و النسائي، و أبو يعلى، و ابن المنذر، و أبو حاتم، و النحاس في ناسخه، و أبو حيان، و البيهقي في سننه عن أنس. و تقدم في التفسير ما يدل على صحة ما

ص: 374

ورد في الرواية من التوراة.

في الكافي: «سئل الصادق (عليه السلام) ما لصاحب المرأة الحائض منها؟ فقال (عليه السلام): كلّ شيء ما عدا القبل بعينه».

و فيه أيضا عنه (عليه السلام): «فليأتها حيث شاء ما اتقى موضع الدم».

أقول: الروايات في هذا المعنى متواترة.

في الكافي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام): «المرأة ينقطع عنها دم الحيض في آخر أيامها قال (عليه السلام): «إذا أصاب زوجها شبق فليأمرها فلتغتسل فرجها ثم يمسها إن شاء قبل أن تغتسل. و في رواية و الغسل أحبّ إليّ».

أقول: في سياقها روايات أخرى تدل على أنّ المراد بالتطهير انقطاع الحيض لا الاغتسال، و هي تؤيد قراءة يَطْهُرْنَ بالتخفيف.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَإِذا تَطَهَّرْنَ أي اغتسلن.

أقول: هذا محمول على الاستحباب جمعا بين الروايات فيجوز الوطي بعد النقاء و إن كان الأفضل أن يكون بعد الغسل.

و أما ما يقال من ظهور لفظ التطهر في الغسل لأنّه ظاهر في الأمر الاختياري. فهو مخدوش أولا لكونه أعم من ذلك كما لا يخفى.

و ثانيا: الروايات في شرح الآية الكريمة تكون قرينة على أنّ المراد هو النقاء من الحيض فلا وجه لتعيّن هذا الاستظهار بعد الجواز قبل الغسل و كون الغسل أحب كما ورد في الحديث السابق.

في التهذيب عن عبد اللّه بن أبي يعفور عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اَللّهُ قال (عليه السلام): «هذا في طلب الولد فاطلبوا الولد من حيث أمركم اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 375

أقول: الحديث يبيّن أنّه لا تنافي بين صدر الآية و ذيلها فإنّ طلب الولد على ما أمره اللّه تعالى شيء و التمتع بالزوجة شيء آخر.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ قال (عليه السلام): «كان الناس يستنجون بالكرسف و الأحجار ثم أحدث الوضوء، و هو خلق كريم فأمر به رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و صنعه و أنزل اللّه في كتابه: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ .

أقول: يستفاد من الحديث أنّ الاستنجاء بالكرسف و الأحجار مجز أيضا و لكن التطهر الحاصل من الماء مبالغة في الطهارة و هي مما يحبه اللّه تعالى.

و الروايات في هذا المعنى كثيرة.

و في الكافي أيضا عن محمد بن النعمان الأحول عن سلام بن المستنير قال: «كنت عند أبي جعفر (عليه السلام) فدخل عليه حمران بن أعين و سأله عن أشياء فلما همّ حمران بالقيام قال لأبي جعفر (عليه السلام) أخبرك أطال اللّه تعالى بقاءك لنا و أمتعنا بك أنّا نأتيك فما نخرج من عندك حتى ترق قلوبنا و تسلو أنفسنا عن الدنيا و يهون علينا ما في أيدي الناس من هذه الأموال، ثم نخرج من عندك فإذا صرنا مع الناس و التجار أحببنا الدّنيا قال: فقال أبو جعفر (عليه السلام): إنّما هي القلوب مرّة تصعب و مرّة تسهل، ثم قال أبو جعفر (عليه السلام) أما إنّ أصحاب محمد (صلّى اللّه عليه و آله) قالوا: يا رسول اللّه نخاف علينا النفاق فقال (صلّى اللّه عليه و آله): و لم تخافون ذلك؟ قالوا: إذا كنا عندك فذكّرتنا و رغّبتنا و جلنا و نسينا الدّنيا و زهدنا حتّى كأنا نعاين الآخرة، و الجنة و النار و نحن عندك، فإذا خرجنا من عندك و دخلنا هذه البيوت و شممنا الأولاد و رأينا العيال و الأهل يكاد أن نحوّل عن الحال التي كنا عليها عندك و حتّى كأنا لم نكن على شيء، أ فتخاف علينا أن يكون ذلك نفاقا؟ فقال لهم رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): كلاّ إنّ هذه خطوات الشيطان فيرغبكم في الدنيا، و اللّه لو تدومون على الحالة التي وصفتم أنفسكم

ص: 376

بها لصافحتكم الملائكة و مشيتم على الماء، و لو لا أنكم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى لخلق اللّه خلقا حتّى يذنبون فيستغفروا اللّه تعالى، فيغفر لهم، إنّ المؤمن مفتن تواب أما سمعت قول اللّه عزّ و جل: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ و قال تعالى: اِسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ .

أقول: أطوار القلوب و حالاتها في قربها إلى اللّه تعالى و بعدها عن غيره تارة و التوجه إلى الدّنيا أخرى معلومة لمن كان له قلب أو ألقى السّمع و هو شهيد، و تدل على ذلك الأدلة الكثيرة العقلية و النقلية.

و لا ريب في أنّ طهارة القلب بالتوجه إلى اللّه تعالى و الإعراض عن غيره نحو طهارة معنوية هي غاية استكمال الإنسان، و الطهارة الظاهرية من طرق حصولها و كلّ منهما محبوبة لدى اللّه تعالى.

و المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو تدومون على هذه الحالة» أي: الانقطاع إلى اللّه تعالى و الانقلاع عن غيره و هي العبودية الخالصة التي لا يشوبها شيء، و قد تقدّم بعض الكلام فيها في قوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124].

و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا أنّكم تذنبون فتستغفرون اللّه تعالى لخلق خلقا حتى يذنبوا فيستغفروا اللّه تعالى فيغفر لهم» إشارة إلى قاعدة أثبتها الفلاسفة الإلهيّون و العرفاء: أنّ جميع ما في هذا العالم مظهر من مظاهر أسمائه تعالى المقدّسة، فلو لم يتحقق الذنب لم يتحقق العفو و الغفران و التوبة بالنسبة إليه عزّ و جل، فمن لوازم هذه الأسماء المقدّسة تحقق الذنب مع أنّه بنفسه يوجب استكانة المذنب عند ربه و طلبه العفو و الغفران منه. و الحديث يشرح الطهارة المعنوية.

في تفسير العياشي و القمي في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ عن الصادق (عليه السلام): «أي متى شئتم في الفرج».

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«سألته عن الرجل يأتي أهله في دبرها فكره ذلك و قال: إياكم و محاشي النساء

ص: 377

و قال إنّما يعني نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ : أيّ ساعة شئتم».

و في تفسير العياشي عن معمر بن خلاد في قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) أنّه قال:

«أي شيء تقولون في إتيان النساء في أعجازهنّ؟ قلت: بلغني أنّ أهل المدينة لا يرون به بأسا قال (عليه السلام): إنّ اليهود كانت تقول إذا أتى الرجل من خلفها خرج ولده أحول فأنزل اللّه تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ يعني: من خلف أو قدام خلافا لقول اليهود و لم يعن في أدبارهنّ».

أقول: يستفاد من مجموع الأخبار الواردة في هذه الآية أنّ كلمة أَنّى تستعمل في الأعم من الزمان و المكان و المحلّ و هو صحيح مطابق لعموم اللفظ. نعم، هناك بحث آخر مستقل أنّ إتيان النساء من أعجازهنّ هل يجوز أو يحرم أو يكره؟ و المسألة مذكورة في الفقه و المشهور بين الإمامية الجواز مع الكراهة خصوصا مع عدم رضاها بذلك.

في الدر المنثور عن الدارقطني في غرائب مالك مسندا عن نافع قال:

«قال لي ابن عمر: أمسك عليّ المصحف يا نافع: فقرأ حتّى أتى على:

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قال لي: تدري يا نافع في من نزلت هذه الآية؟ قلت: لا، قال: نزلت في رجل من الأنصار أصاب امرأته في دبرها فأعظم الناس ذلك فأنزل اللّه: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ قلت له: من دبرها في قبلها قال: «إلا في دبرها».

أقول: ذكر ابن عبد البر الرواية بهذا المعنى عن ابن عمر معروفة عنه مشهورة.

و فيه أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

ص: 378

و فيه أيضا: أخرج ابن راهويه و أبو يعلى و ابن جرير و الطحاوي في مشكل الآثار و ابن مردويه بسند حسن عن أبي سعيد الخدري: «أنّ رجلا أصاب امرأته في دبرها فأنكر الناس عليه ذلك فأنزلت: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ .

أقول: تدل على إباحة الوطي من الدبر روايات كثيرة عن الجمهور بعدة طرق.

و فيه أيضا عن الطحاوي عن عبد اللّه بن القاسم قال: «ما أدركت أحدا أقتدي به في ديني يشك في أنّه حلال - يعني وطي المرأة في دبرها - ثم قرأ:

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ - الآية - ثم قال: فأيّ شيء أبين من هذا؟».

في الدر المنثور أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه قال: «كانت الأنصار تأتي نساءها مضاجعة، و كانت قريش تشرح شرحا كثيرا فتزوج رجل من قريش امرأة من الأنصار فأراد أن يأتيها فقالت: لا إلا كما يفعل فأخبر بذلك رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأنزل اللّه تعالى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ أي قائما و قاعدا و مضطجعا بعد أن يكون في صمام واحد».

أقول: روي قريب من ذلك عن الصحابة بعدة طرق و المراد من الشرح: وطي المرأة نائمة على قفاها، و المراد من الصمام: الفرج.

في تفسير القرطبي عن عمرو بن دينار قال: سمعت سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو يخطب يقول:

إنّكم ملاقو اللّه حفاة عراة مشاة غرلا. ثم تلا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

و اتقوا اللّه و اعلموا أنّكم ملاقوه».

أقول: أخرج قريبا منه مسلم في صحيحه. و الغرل جمع أغرل: و هو الأغلف أي غير مختون. و الوجه في ذلك ثبوت المعاد الجسماني بجميع الأجزاء و الخصوصيات التي كان الجسم عليها.

ص: 379

بحث اجتماعي

ذكرنا أنّ الحيض في النساء من الأمور الطبيعية كسائر الأمور التكوينية المتعلقة بالإنسان - الرجال و النساء على حدّ سواء - كالتنفس و الصحة، و المرض و نحو ذلك إلا أنّها تختلف من حيث إنّ بعضها فيه نوع من الأذية و يتنفر الطبع منه، و البعض الآخر ليس كذلك و الإنسان مركب منهما و هذا معلوم لكلّ أحد.

و الحيض من القسم الأول فهو أذى للنساء كما نطقت به الآية الشريفة.

و لكن ذلك لا يوجب الحطّ من منزلة المرأة في المجتمع الإنساني، فإنّها و الرجل عضوان منه يشتركان في بقائه و تحقيق مقاصده و أغراضه، و يتحمل كل واحد منهما المسؤولية الملقاة على عاتقه فيه، و يسعيان في سعادته أو شقاوته.

مضافا إلى ذلك أنّ بالرجل و المرأة تقوم الحياة الزوجية التي هي أساس المجتمع الإنساني.

هذا هو نظر الإسلام إلى المرأة، لا كما تراه الأقوام البدائية التي لم تجعل لهنّ أي دور بارز في المجتمع، و ما عليه المدنية الحاضرة التي جعلت المرأة مبتذلة يخذها الرجل العوبة في تحقيق مآربه و أغراضه مما أوجب صرفها عن المسؤولية التي جعلها اللّه تعالى عليها.

و الآية المباركة التي تقدم تفسيرها تكشف عن جوانب متعددة مما يراه

ص: 380

الإسلام فيهنّ، فهي تدل على أنّ دم الحيض أمر طبيعيّ للنساء أذى لهنّ ينبغي مراعاتهنّ في هذه الحالة، و ليس هو نقص لهنّ يحط من منزلتهن ثم أعطت المنزلة السامية لهنّ عند ما اعتبرهنّ بمنزلة الحرث للرجال، و بذلك تتحمل مسئولية الحمل و الرضاع و نشأة الأولاد و قد أعدها اللّه تعالى لهذه المسؤولية إعدادا حسنا، فخلقها صابرة تتحمل الصعاب في هذا السبيل، عطوفة حساسة للأمور التي تحيط بها، شغوفة في حبّ الأولاد و تربيتهم و غير ذلك مما تتطلبه هذه المسؤولية.

و قد حذر سبحانه و تعالى الرّجل من استغلال هذه الصفات فيهنّ بالاستخفاف بهنّ أو استحقارهنّ في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

و أما الرجل الذي هو الجزء الآخر من المجتمع الإنساني و على جانب من المسؤولية الاجتماعية و قد خلقه اللّه تعالى و حمّله مسئولية تربية الأولاد و معيشتهم فقد جعل عزّ و جل المادة الأساسية في الرجل، و جعل محل انعقادها رحم المرأة التي هي كالوعاء لنشوء الجنين و حفظه، و قد أعد اللّه سبحانه الرجل إعدادا جميلا يتحمل هذه المسؤولية فخلقه قويا يتحمل المكاره، مكافحا في سبيل عيشه و عيش أولاده، صعبا لا يخرج عن إرادته بسهولة. و غير ذلك مما لا بد منه في هذه المسؤولية و بمقتضى تغاير المسؤوليتين امتاز كلّ واحد منهما بصفات و أخلاق، و لكن ذلك لا يوجب الفرق بينهما بحسب النوع بحيث يعد أحدهما من أفراد الحيوان، بل هما متماثلان في الذات و الشعور و الحقوق... أو من قبيل الإنسان القليل الاستعداد و الكثير.

و قد أيدت ذلك التجارب العلمية الصحيحة، و الفت كتب خاصة فيما يمتاز به الرجل عن المرأة تكوينا.

و يدل على ذلك: أنّ الأحكام الشرعية الإلهية التي نزلت لتكميل الإنسان تعم الرجل و المرأة على حدّ سواء، و قد أسس الفقهاء «قاعدة الاشتراك» و المراد منها اشتراك النساء مع الرجال في جميع الأحكام الوضعية

ص: 381

و التكليفية إلا ما خرج بالدليل، و لكن اختص كلّ واحد منهما بجملة من الأحكام الشرعية بمقتضى وظيفة كلّ واحد منهما في المجتمع، و ليست تلك الأحكام التي تخص المرأة مما يدل على نقص المرأة عن الرجل، بل هي أحكام تتلائم مع مسئوليتها و تكوينها.

و يمكن تقسيم شؤون النساء إلى أقسام:

الأول: التكاليف الشرعية المجعولة لهنّ كما هي مجعولة للرجال.

الثاني: الفضائل و العلوم التي تعتبر من الكمالات التي يرغب إليها شرعا و عقلا فهي مطلوبة منهنّ ما لم يردع عنها الشارع أو تترتب عليها المفسدة و على ذلك يحمل ما ورد من النّهي عن تعليمهنّ بعض الأمور.

الثالث: الأمور الاجتماعية التي يفرضها الاجتماع الإنساني فلا بأس بممارسة المرأة لها مع التحفظ على ما يريده الشرع منها كالستر و العفاف.

الرابع: الأمور التي تنافي عفتها و توجب تبذلها و احتكاكها مع الأغيار و هذه لا تجوز عقلا و شرعا بل و عرفا.

هذا موجز الكلام في شأن النساء بحسب نظرة الإسلام و سنتابع البحث في الآيات الشريفة المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 382

وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ .......

اشارة

وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى بعض الأحكام الشرعية التي تهدي الإنسان إلى الكمال و توجب له الطهارة، و حذّره جل شأنه عن المخالفة و المعصية.

و أمره بالتقوى ذكر هنا بعض الأحكام العامة في الإيمان و بيّن أنّ من التقوى الاجتناب عن الحلف باسم اللّه تعالى في كلّ شيء فإنّه مانع عن البر و التّقوى و الإصلاح التي لا بد أن يبتغيها المؤمن في كلّ أعماله ثم بيّن سبحانه أنّه لا يؤاخذكم بالأيمان اللاغية التي لا يعقد العزم عليها فإنّه لا كفارة فيها و لا عقاب و إنّما يؤاخذ اللّه تعالى الإنسان بالنيات التي يعقد عليها الأعمال ثم بشره بالغفران.

ص: 383

التفسير

224 - قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ .

مادة (عرض) تأتي بمعنى الإظهار للغير لمصلحة فيه، و لهذه المادة استعمالات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: إِنّا عَرَضْنَا اَلْأَمانَةَ عَلَى اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [الأحزاب - 72]، و قال تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ [الأحقاف - 34]، و قال تعالى: وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [الكهف - 100]، و لم تستعمل هيئة عُرْضَةً إلا في المقام فقط.

و الأيمان جمع يمين: و هي بمعنى الحلف و القسم، تذكّر و تؤنث، و هي فعيل من اليمن بمعنى البركة لأنّها تحفظ الحقوق، أو لأجل أنّ العرب كانت تضرب اليمين على اليمين عند الحلف فسمّي الحلف يمينا. و قد وردت جميع مشتقات اليمين و الحلف في القرآن الكريم.

و من عادة الناس الحلف بالعظماء و الأكابر و ما هو محترم لديهم على اختلاف مذاهبهم و مللهم.

و في القرآن الكريم حلف الخالق بالمخلوق، و المخلوق بالخالق، و لعل أحلى قسمه تعالى قوله عز و جل: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ

ص: 384

[الحجر - 72]، و من أشده و أعظمه قوله جل جلاله: «و عزتي و جلالي و علو قدري و ارتفاع مقامي لأقطعنّ أمل كلّ مؤمل أمل غيري».

و المعنى: لا تجعلوا اللّه تعالى في معرض حلفكم إذا أردتم أن تحلفوا، و هذا يشمل المرة الواحدة فضلا عن الزائد لأنّ عظمته تعالى غير متناهية و لا يمكن دركها بالعقول مطلقا فكيف يحلف بما لا يدرك إلا مفهوم لفظه.

قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ .

بيان لأيمانكم، أي: لا تجعلوا اللّه في معرض الحلف به في هذه الأمور الثلاثة التي هي مرضية له تعالى فضلا عما لا يكون مرضيا له، أو شككتم في أنّه مرضيّ له تعالى، فتشمل الآية الحلف على ترك البر و التّقوى و الإصلاح بين الناس بالأولى.

و إنّما ذكر سبحانه هذه الأمور لأنّ سائرها يرجع إليها، أو لأنّها أهم الأمور النظامية الاجتماعية، أو لأنّها مورد النذور و الأيمان بين الناس غالبا، فتشمل الآية غيرها بالأولى، و يؤيد هذا المعنى بعض الروايات كما يأتي.

و للمفسرين في تفسير هذه الآية الشريفة أقوال:

منها: أنّ هذه الآية غاية للحكم أي النّهي في لا تَجْعَلُوا أي: لا تحلفوا باللّه لأن تبروا و تتقوا و تصلحوا فتكون تعليلا لما تقدم.

و منها: أنّ قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا تقدير (أن لا تبروا) أي: لا تكثروا الحلف باللّه فإنّه يؤدي إلى أن لا تبروا و لا تتقوا و لا تصلحوا بين الناس، فإنّ من أكثر الحلف بشيء أدّى إلى استصغار ما أقسم به فلا يبالي الكذب و لا الحنث.

و منها: لا تجعلوا اللّه بواسطة الحلف به مانعا و حاجزا عما حلفتم على تركه، فإنّه لا يرضى أن يكون اسمه حاجبا عن الخير. و غير ذلك من الوجوه، و لكنّ الوجه الذي ذكرنا أنسب و أشمل و إن أمكن إرجاع بعض الوجوه المتقدمة إلى ما قلناه.

ص: 385

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه سميع لأيمانكم و جميع أقوالكم عليم بنياتكم و أحوالكم و لا يخفى عليه شيء في السّموات و الأرض، و في الآية نوع من التهديد و فيها إرشاد إلى مراقبة الإنسان لأقواله و نياته.

225 - قوله تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ .

مادة (لغو) تأتي بمعنى ما لا فائدة فيه و لا نفع، و يطلق اللفظ على صوت الطّير و العصافير من هذه الجهة.

و المراد به في المقام: الحلف الخالي عن القصد الاستعمالي الجدي الذي تدور عليه المحاورات المتعارفة بين الناس فإنّه إذا لم يحرز ذلك لا يترتب الأثر على الكلام بلا فرق بين الإخباريات و الإنشائيات و الوضعيات و الأحكام مطلقا.

فيكون الأصل في بيان المراد و الظهور هو القصد الاستعمالي الجدي و عليه يبتني التفهيم و التفهّم و المؤاخذات و الكلام بدونه تكون لغوا بالنسبة إلى المعنى المطلوب لا فائدة فيه و لا يترتب عليه الأثر المقصود.

و الآية المباركة تبيّن أنّ الأيمان الخالية عن القصد الاستعمالي الجدي تكون لغوا لا يترتب عليها الأثر، فلا يؤاخذ اللّه تعالى الناس عليها. و تقع مثل هذه الأيمان في حشو الكلام و تجري على اللسان كثيرا من دون أن يعقد صاحبها على أنّها يمين و يدل على ما ذكرنا قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ اَلْأَيْمانَ [المائدة - 89].

و المراد بعدم المؤاخذة عدم الكفارة و عدم العقاب.

قوله تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .

المراد من كسب القلب في المقام: القصد الجدّي و النية و العزم أي:

و لكن يؤاخذكم بما نوت قلوبكم في الأيمان من المخالفة العمدية و الكذب و الحنث و ما يكسبه الإنسان من الإثم فيما عقد قلبه بالأيمان.

ص: 386

و الآية تدل على أنّ قسما خاصا من اليمين يكون مورد المؤاخذة و هو ما تصلح النية فيه، و في غيره لا مؤاخذة فيه، للقاعدة العقلية من انتفاء الحكم بانتفاء الموضوع.

و يستفاد من الآية الكريمة كمال الأهمية للنيات، فإنّ عليها يدور صلاح الأعمال و فسادها و الثواب و العقاب، و ظاهر اللفظ إنّما يكون معتبرا لأجل كونه كاشفا عن النيات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

الغفور و الحليم من أسماء اللّه تعالى الحسنى، و الأول مبالغة في التجاوز و الغفران عن الذنب بالشرائط المقرّرة في الشريعة، و الثاني عبارة عن الإمهال و ترك التعجيل في العقوبة.

و تعقيب هذه الآيات المباركة بهذين الاسمين الشريفين للإشارة و الترغيب إلى عدم اليأس من رحمة اللّه تعالى لو تحققت المخالفة لبعض تلك الأحكام أحيانا لإغواء الشيطان فيتوب إليه تعالى و يرغم أنف الشيطان، فذكر جل شأنه هذين الاسمين للإعلام بزيادة التوجه و التنبيه و المبالغة في عدم حصول اليأس عند صدور المعصية.

ص: 387

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ اَلنّاسِ فيه وجوه من الإعراب:

الرفع: على أنّه مبتدأ و الخبر محذوف أي البر و التقوى و الإصلاح، أولى من اليمين باللّه تعالى.

و النصب: إما على تأويل لا تمنعكم اليمين باللّه تعالى البر و التقوى و الإصلاح.

أو على أنّه مفعول لأجله، أي: لأجل أن تبروا و تتقوا و تصلحوا.

أو على أنّه منصوب بنزع الخافض.

و قيل: إنّ التقدير: أن لا تبرّوا و لا تتقوا و لا تصلحوا. و حذف كلمة «لا» كثير، مثل قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء - 176]، أي: أن لا تضلّوا.

و قال الخليل و الكسائي إنّه في موضع خفض و التقدير: في أن تبروا فأضمرت و خفضت بها.

ص: 388

بحث فلسفي

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم و السنة المقدسة: القلب و هو من التقلّب، و الصرف و التصرّف، و له إطلاقان:

الأول: العضو المعروف في جسم الحيوان، أي: اللحم الصنوبري النابت في الطرف الأيسر من الحيوان و هو كمضخة للدم السائل في العروق.

الثاني: اللطيفة الربانية أو العقل العملي أو النفس الناطقة الإلهية في مقام فعليتها، أو النفس اللوامة الفعلية، أو الجميع بحسب مراتبها المختلفة شدة و ضعفا، لأنّه على أيّ تقدير من الحقائق التشكيكية، و إن كان الحق هو الأخير كما هو المستفاد من الأخبار الشريفة و كلمات العلماء.

و من هذا الإطلاق قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ اَلرُّوحُ اَلْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ اَلْمُنْذِرِينَ [الشعراء - 194]، و مفهوم قوله تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها [الأعراف - 179]، و قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى اَلسَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ [ق - 37]،

و ما ورد في الحديث:

«قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرّحمن»

و في القدسيات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي و إنّما يسعني قلب عبدي المؤمن»

و ما ورد في الحديث:

«سأل موسى ربّه أين أجدك يا ربّ؟ قال عزّ و جل أنا عند المنكسرة قلوبهم».

ص: 389

و من أسمائه الحسنى المباركة: «يا مقلّب القلوب» إلى غير ذلك مما هو كثير.

و عن بعض أكابر الفلاسفة أنّ القلب بهذا المعنى من أبواب الجنة و به تصير ثمانية بخلاف النار فإنّ أبوابها سبعة، و ليس لها باب القلب و استظهر ذلك من الآيات المباركة منها قوله تعالى: نارُ اَللّهِ اَلْمُوقَدَةُ اَلَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى اَلْأَفْئِدَةِ إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ [سورة الهمزة - 9]، و قد تحير العلماء في ذلك.

و لعلّ إطلاق القلب و إرادة الرّوح أو النفس أو الإنسان نفسه في بعض الآيات كقوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة - 283]، و قوله تعالى: وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ [ق - 33]، و قوله تعالى: يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة - 225]، لأجل أنّه مبدأ الروح و بتلفه يتلف الحيوان و لذا ينسب إليه عند العرف كلّ ما فيه شوب درك مثل الحب و البغض و نحوهما.

كما يطلق عندهم الصدر و يراد به القلب باعتبار الحال و المحل كقوله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ [الأنعام - 125]، و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): رَبِّ اِشْرَحْ لِي صَدْرِي [طه - 25]، و غير ذلك من الآيات الشريفة.

ص: 390

بحث روائي

في تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال: «هو قول الرّجل في كل حاله لا و اللّه و بلى و اللّه».

و في تفسير العياشي عنه (عليه السلام) أيضا في الآية المباركة قال (عليه السلام): «هو قول الرّجل لا و اللّه و بلى و اللّه».

أقول: إنّ إطلاق الرواية يشمل جميع ما ذكر في تفسير الآية الشريفة و لفظ الجلالة من باب المثال لكل اسم مختص به عزّ و جل.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال: «إذا دعيت لتصلح بين اثنين فلا تقل عليّ يمين أن لا أفعل».

و في تفسير العياشي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ يعني: «الرجل يحلف أن لا يكلّم أخاه و ما أشبه ذلك أو لا يكلّم أمه».

أقول: إنّ الرواية تدل على أنّ المعتبر في الحلف الرجحان أو التساوي فلا ينعقد في المرجوح فتكون بيانا لبعض معاني قوله تعالى: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا .

ص: 391

و فيه أيضا قال (عليه السلام): «يا سدير من حلف باللّه كاذبا كفر و من حلف باللّه صادقا أثم إنّ اللّه عزّ و جل يقول: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ قال (عليه السلام): «اللغو قول الرجل: لا و اللّه و بلى و اللّه و لا يعقد على شيء».

أقول: روى مثله العياشي عن أبي الصباح و المراد بذلك أن لا يكون له قصد استعمالي جدّي.

ص: 392

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام:

الأول: أنّ الأيمان على ما يستفاد من الآية الشريفة بضميمة ما ورد في شرحها من السنة المقدسة على أقسام ثلاثة:

الأول: يمين التأكيد و التثبيت كما إذا قال: و اللّه إنّ هذا اليوم يوم الجمعة، و هو كذلك.

الثاني: ما تقرن بالطلب و السؤال، و حث المسؤول على إنجاح المقصود، كقول الحالف: «أسألك باللّه أن تقضي لي حاجتي» و الدّعوات المأثورة مشحونة بذلك.

الثالث: ما تقع تأكيدا لما التزم به كقول القائل: «و اللّه لا أرضى - مثلا».

و لا يترتب شيء على القسم الأول سوى الإثم لو كان كاذبا في حلفه، و هي من المعاصي الكبيرة و تسمى باليمين الغموس لأنّها تغمس صاحبها في النار و

في بعض الأخبار: «إنّها تذر الدّيار بلاقع من أهلها».

و كذا لا أثر بالنسبة إلى القسم الثاني و لا كفارة أيضا على الحالف و لا على المحلوف عليه لو لم ينجح المقصود.

ص: 393

و أما القسم الأخير ففيه شرائط مذكورة في الفقه و يترتب على حنثه الإثم و الكفارة.

الثاني: لا أثر لليمين إلا إذا كانت باللّه عزّ و جل أو بأسمائه المقدسة المختصة به لفظا أو بالقرينة الظاهرية، فاليمين بغير ذلك لا أثر لها و لو كان عظيما.

الثالث: الأيمان الصادقة كلّها مكروهة، سواء كانت على الماضي أو المستقبل و تتأكد الكراهة في الأول،

فعن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الموثق: «لا تحلفوا باللّه صادقين و لا كاذبين فإنّه عزّ و جل قال: وَ لا تَجْعَلُوا اَللّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ .

و عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في موثق ابن سنان قال: «اجتمع الحواريون إلى عيسى (عليه السلام) فقالوا يا معلّم الخير أرشدنا فقال: إنّ موسى نبيّ اللّه (عليه السلام) أمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين و أنا آمركم أن لا تحلفوا باللّه كاذبين و لا صادقين».

نعم، لو أراد بها دفع مظلمة عن نفسه أو عرضه أو غيرهما جاز بلا كراهة و التفصيل يطلب من الفقه.

الرابع: يتعلّق اليمين بكلّ مباح فيه غرض صحيح غير منهي عنه شرعا كما يتعلّق بترك كلّ حرام أو مكروه، و بفعل كلّ واجب أو مندوب و لا يتعلّق بغير ذلك بل يكون لغوا و باطلا.

ص: 394

بحث عرفاني

كل من أحب شيئا و عشقه لا يحلف بمحبوبه و معشوقه إلا نادرا بل لا يحلف به في الأمور المهملة و إذا حلف يبر بحلفه و لا يحنث و لو أدى إلى بذل النفس و النفيس و اللّه تعالى أحب الموجودات إلى خلقه و هو تعالى يطلب من خلقه أن يكونوا عبادا له عزّ و جل يأتمرون بأوامره و ينتهون عن نواهيه مطيعين له يراقبونه في جميع أمورهم و تنظيم نظام العبودية يقتضي أن لا يبادروا إلى الحلف به.

كما لا يحلف أحد بمحبوبه فإنّه تعالى المحبوب الحقيقي لكلّ موجود و لو حلفوا به فإنّ عبوديتهم له عزّ و جل تقتضي الوفاء به بكلّ ما أمكنهم.

ص: 395

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَل.......

اشارة

لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى حكما عاما من أحكام الأيمان و اعتبر أنّ المناط فيها عقد النية و كسب القلب فيها و إلا كانت من اللغو الذي لا يؤاخذه اللّه تعالى به.

ذكر عزّ و جل في هاتين الآيتين حكم اليمين الخاصة و هي إيلاء الرّجل من الزوجة على ترك مباشرتها فأمر سبحانه يتربص أربعة أشهر بعد الرفع إلى الحاكم فإمّا أن يرجع الزّوج أو يطلق لأنّ اللّه تعالى لا يرضى بالظلم.

ص: 396

التفسير

226 - قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ .

مادة الإيلاء و الإلية تأتي بمعنى: الحلف المقتضي للتقصير فيما يحلف.

و شرعا: الحلف المانع عن مقاربة المرأة و مباشرتها، و له أحكام خاصة في السنة المقدسة، و قد وضع الفقهاء له كتابا مستقلا.

و هاتان الآيتان وردتا في تشريعه و بيان بعض أحكامه، و لم يرد في القرآن الكريم غيرهما في الإيلاء.

و المجرور الموصول لِلَّذِينَ في محلّ رفع على أنّه خبر مقدم لقوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

و الإيلاء من شأنه أن يتعدّى ب (على) و لكنّه في المقام عدّي ب (من) لتضمنه معنى البعد و الابتعاد و لذلك يعتبر في الإيلاء أن يكون على قصد الإضرار بالزوجة.

قوله تعالى: تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ .

مادة (ر ب ص) تأتي بمعنى الانتظار لما يرجى حدوثه أو زواله و لهذه المادة هيئات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة - 52]، و قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ [الطور - 40]، و قال تعالى حكاية عن شأن المنافقين: يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اَللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ [الحديد - 14]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و المراد به في المقام مطلق المكث و التأمل.

ص: 397

مادة (ر ب ص) تأتي بمعنى الانتظار لما يرجى حدوثه أو زواله و لهذه المادة هيئات كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اَللّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة - 52]، و قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ [الطور - 40]، و قال تعالى حكاية عن شأن المنافقين: يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ اِرْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ اَلْأَمانِيُّ حَتّى جاءَ أَمْرُ اَللّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللّهِ اَلْغَرُورُ [الحديد - 14]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و المراد به في المقام مطلق المكث و التأمل.

و لم يضف سبحانه و تعالى التربص إليهنّ كما في آية الطلاق:

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة - 228]، و لا إليهم لعدم اختصاص ذلك بأحدهما بل هو شامل لكلّ واحد منهما و مشترك بينهما.

أي: أنّ هذه المدة حق ثابت لهما لا يطالب فيها الفيئة أو الطلاق بل هي أمد مضروب للمباشرة و المقاربة.

قوله تعالى: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

الفيء: الرجوع إلى حالة محمودة. أي: إن رجعوا عن حلفهم إلى احقاق حق المرأة و الوفاء بما أوجب اللّه تعالى عليهم من حقّها يغفر اللّه تعالى لهم لأنّ اللّه غفور رحيم.

و الحلف على ترك المباشرة و الوطي للإضرار بها مخالف لأمر اللّه تعالى، فيغفر اللّه عزّ و جل هذه المخالفة بواسطة رجوعه الذي يعتبر كالتوبة و لكن ذلك لا يوجب سقوط الكفارة لأنّها لتدارك المنقصة - الحاصلة من عمل غير المرغوب شرعا - سواء كانت ذنبا أو نحوه.

227 - قوله تعالى: وَ إِنْ عَزَمُوا اَلطَّلاقَ فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

العزم و العزيمة: إرادة إيجاد الشيء جامعا للشرائط المعتبرة فيه، أي إن أوقعوا الطلاق فإنّ اللّه سميع لأقوالهم - و منها الإيلاء و الطلاق - عليم بأحوالهم و مكنون أسرارهم، و يستفاد من الآية المباركة تفضيل الفيئة و الرجوع على الطلاق حيث وعد لهم المغفرة و الرحمة إن فاؤا.

ص: 398

بحوث المقام
بحث دلالي

لعلّ وجه تعقيب الآية المباركة بقوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أنّها مشتملة على حكم من الأحكام الإلهية فيتناسب ذكر السمع و العلم و أما في قوله عز شأنه: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إنّه في معرض بيان فعل المكلف الذي يمكن أن يشتمل على الإثم فيناسب ذكر الغفران و الرّحمة و لذلك نظائر كثيرة في القرآن العظيم.

ثم إنّه جلّ شأنه جعل الحد الأقصى للإيلاء أربعة أشهر - و هي المدّة التي حدّدها الشارع الأقدس لمطلق المباشرة الجنسية للرجل - إما مراعيا جانب المرأة حتّى لا تقع في حرج أو فساد فتأوي إلى غير زوجها و تهين عفتها و تهتك ما حدّده اللّه تبارك و تعالى عليه لأجل رفع حاجتها الفطرية فحينئذ قرّر الشارع بعد الفترة المحدّدة إمّا برجوع زوجها أو طلاقها.

أو أنّ تلك المدّة كافية غالبا لاختبار الرّجل نفسه فإمّا أن يفيء - و يستأنف حياته الزّوجية - أو يظلّ في نفرته و في هذه الصورة لا بد من الطلاق حتى ترد إلى الزوجة حريتها التامة لاختيار حياة زوجية أخرى مع شخص آخر.

ص: 399

و على أية صورة إنّ الطبايع و إن كانت تختلف في كلّ منهما و لكنّ التربص في تلك المدة كاف لتهيئة الحياة الزوجية و في الأكثر منها ضرر بالنسبة إلى المرأة أو نفس الرّجل هذا مع قطع النظر عن جانب التعبد و الانقياد.

ص: 400

بحث روائي

في الكافي عن بريد بن معاوية العجلي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام) أنّهما قالا: «إذا آلى الرجل أن لا يقرب امرأته فليس لها قول و لا حق في الأربعة الأشهر و لا إثم عليه في كفّه عنها في الأربعة الأشهر فإن مضت الأربعة الأشهر قبل أن يمسّها فسكتت و رضيت فهو في حلّ وسعة فإن رفعت أمرها قيل له: إما أن تفيء فتمسها و إما أن تطلق، و عزم الطلاق أن يخلّي عنها فإذا حاضت و طهرت طلّقها و هو أحق برجعتها ما لم تمض ثلاثة قروء، فهذا الإيلاء الذي أنزل اللّه في كتابه و سنة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) «و الإيلاء أن يقول الرجل: و اللّه لا أجامعك كذا و كذا و يقول: «و اللّه لاغيظنّك ثم يغاضبها فيتربّص بها أربعة أشهر ثم يؤخذ بعد الأربعة أشهر فيوقف فإن فاء و هو أن يصالح أهله فإنّ اللّه غفور رحيم و إن لم يف جبر على أن يطلق و لا يقع طلاق فيها بينهما و لو كان بعد أربعة أشهر ما لم ترفعه إلى الإمام».

أقول: هذه الرواية تدل على ما تقدم و الروايات في أحكام الإيلاء كثيرة مذكورة في كتب الأحاديث و قد ذكر الفقهاء أحكامه في الكتب كما تعرّضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام) و المراد بقوله (عليه السلام): «حتى يوقف» أي يأمره الحاكم الشرعي بالطلاق.

ص: 401

بحث فقهي

ذكرنا أنّ الإيلاء على ما يستفاد من الآية الشريفة و السنة المقدسة هو:

الحلف على ترك مباشرة الزوجة المدخول بها أبدا - أي غير محدود - أو مدة تزيد على أربعة أشهر للإضرار بها فلا يتحقق الإيلاء بالحلف بغير اسم اللّه تعالى، كما لا يقع بالحلف على ترك وطي المملوكة و لا المتمتّع بها و لا غير المدخول بها، و لا مدة لا تزيد على الأربعة أشهر، و لا فيما إذا كان لغرض صحيح شرعي كمرض و نحوه فإنّ في جميع ذلك يتحقق الحلف و لكن لا يتحقق عنوان الإيلاء الذي له أحكام خاصة.

إذا الإيلاء يخالف سائر الأيمان من جهتين:

الأولى: أنّه يجوز فيه الحنث بل قد يجب و مع ذلك فيه الكفارة على كلّ حال.

الثانية: أنّ سائر الأيمان لا تنعقد مع مرجوحية متعلّقها بخلاف الإيلاء فإنّه ينعقد و لو مع مرجوحية المتعلّق.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ الإيلاء ليس محرّما ذاتيا بل الحرمة إنّما هي لأجل مراعاة حق المرأة فإذا رضيت بذلك و صبرت عليه فلا حرمة في البين، و إلا فلها المراجعة إلى الحاكم الشرعي فيحضر الزوج و ينظره أربعة أشهر فإن رجع في هذه المدة و إلا أجبره على أحد الأمرين: إمّا الرجوع، أو

ص: 402

الطلاق. و تفصيل هذه الأحكام يطلب من الفقه.

كما يستفاد من الآية الشريفة أيضا: أنّ المباشرة في أثناء الأربعة الأشهر موجبة لانحلال اليمين مع الكفارة فلا تتكرّر الكفارة بتكرّر الوطي للانحلال و لأنّ اللّه تعالى وعد بالمغفرة و الرحمة لمن فاء مطلقا إلا كفارة واحدة في المرة الأولى لأجل الدّليل الخاص.

و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 403

المجلد 4

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة البقرة

اشارة

الآية 228-229 بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْم.......

اشارة

وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (229) الآيتان في بيان بعض أحكام الطلاق فإنّه لما ذكر سبحانه أنّ المولي من زوجته مكلّف بأحد أمرين: إمّا الفئة أو الطلاق عقّب عز و جل ذلك ببعض أحكام الطلاق و أقسامه، فذكر سبحانه عدة المطلقة و رجوع الزوج في العدة ثم قسم الطلاق إلى البائن و غيره خلافا لما كان عليه العرف السائد في الجاهلية في أمر الطلاق.

و تتضمن الآيات المباركة أصلا من أصول نظام الزوجية و الأحوال الشخصية في الإسلام بأحسن بيان و أجمع كلام، كما تتضمن قانونا من قوانين النظام الاجتماعي المشتمل على العدل و الإنصاف في جميع الأحوال.

ص: 5

التّفسير

228 - قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ .

الطلاق معروف و هو بمعنى الفراق و السراح، و التخلية عن الوثاق، و في اصطلاح الشرع هو: الفراق بين الزوجين و التخلية عن وثاق الزوجية بشرائط خاصة.

و إنّما ذكر سبحانه المطلّقات لبيان تلبسهنّ بالطلاق المشروع و المراد من المطلّقات هنا بيان حكم صنف خاص منهنّ أي: خصوص المدخول بها، غير اليائسة و غير الحامل، لأنّ غير المدخول بها و اليائسة لا عدة لهما حتّى يجب عليهما التربص ثلاثة قروء. و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق - 4].

و التربص: هو الانتظار و الإمساك. و يتربصن بأنفسهنّ أي: يمسكن بأنفسهنّ و يحبسنها عن الازدواج و التمكين و هو يفيد معنى الاعتداد.

و جملة (يتربصن) خبرية يراد بها الإنشاء لأنّها أبلغ في الطلب من غيرها كما هو مذكور في أصول الفقه.

و قروء جمع القرء و يجمع على الأقراء أيضا،

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اقعدي عن الصلاة أيام إقرائك» و مادة (قرء) تدل على الجمع و الاجتماع الذي يعقبه التحويل و التفرق، فتطلق على القراءة. و سمي القرآن

ص: 6

قرآنا لأجل أنّه جمع في حروفه.

و يطلق هذا اللفظ على نفس الحيض كما مرّ في قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما يطلق على حالة الانتقال من الحيض إلى الطهر بحسب الوضع كما عن جمع من اللغويين، و لا يطلق على نفس الطهر، لأنّ المرأة الطاهر التي لا ترى أثر الحيض لا يقال لها ذات قرء فهو من الأضداد.

و كيف كان فالمراد به في المقام الطهر لما ذكرنا و عليه إجماع الإمامية، و وردت فيه أحاديث كثيرة و به يقول المالكية و الشافعية و جمع كثير من الفقهاء.

و لكن عن الحنفية و الحنابلة و جمع آخرين أنّ القرء في الآية المباركة هو الحيض،

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «دعي الصلاة أيام إقرائك»

و بما روي عن عليّ (عليه السلام): «إنّ القرء هو الحيض».

و لكن المناقشة فيه ظاهرة لأنّ اللفظ المشترك إذا وقع في استعمال مقرونا بقرينة تدل على أحد معنييه لا يكون ذلك دليلا على أنّه كلّ ما استعمل فيه هذا المشترك - و لو بلا قرينة على التعيين - يكون المراد منه ما استعمل فيه مع القرينة، و هو خلاف المحاورات العرفية، و لا يقول به أحد في نظائر المقام.

و القرينة في الحديث المروي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أنّ المراد من الإقراء الحيض ظاهرة، و أما قول عليّ (عليه السلام) فهو - مضافا إلى كونه قاصرا سندا - إنّه معارض بغيره مما هو أقوى منه من جهات.

و دعوى: أنّه لو دار تكليف بين القصير و الطويل يكون الأول معلوما و الثاني مرفوعا

لقوله (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع ما لا يعلمون» المتفق عليه بين الأمة غير صحيحة لوجود النص الخاص و البحث مذكور بالتفصيل في كتب الفقه.

و المعنى: إنّ المطلقات ينتظرن و يمسكن بأنفسهنّ عن قبول الزوج حتّى يرين ثلاثة أطهار.

قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ .

الأرحام جمع رحم، مثل كتف و الأكتاف. و الرحم في المرأة منشأ نمو

ص: 7

النطفة و تربيتها، كما أنّ الأرض منشأ نمو البذرة و تربيتها و تسمّى القرابة رحما لانتهائهم إلى رحم واحد.

و ما خلقه اللّه في الرّحم أعم من الدم و الحمل و إن كان الأصل هو الدم لأنّه أهم مادة في تكوين الجنين، و يمكن اعتبار الأول كمادة و الثاني كصورة متبادلة استعدادية للأول، فلا فرق بين أخذ الموصول بمعنى الدم بما له من الأطوار، أو بمعنى الحمل بما له من المنشأ فالجميع واحد، و هذا مروي كما يأتي، فلا وجه لاختلاف المفسرين في ذلك.

و المعنى: لا يحل للنساء أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ من الحيض أو الحمل استعجالا للخروج من العدة و إضرارا بالزوج في رجوعه أو تطويلها لأجل أخذ النفقة و نحو ذلك.

و في تقييد ما في الأرحام بكونه مما خلقه اللّه للإعلام بأنّه عالم به و قادر على أن يفعل خلاف إرادتهنّ .

قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

أي: إن كنّ مؤمنات باللّه الذي ينزل الأحكام لمصالح العباد و يفعل مقتضى الحكمة، و اليوم الآخر الذي يجازى فيه كلّ عامل، فلا يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهنّ .

و في التقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر حث و ترغيب إلى مطاوعة الحكم، و لبيان أنّها من لوازم الإيمان بهما، فالكتمان ليس من فعل أهل الإيمان، و فيه من التوعيد الشديد و التهديد ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً .

البعولة جمع البعل مثل الفحولة و الفحل: و هو الذكر من الزوجين سمي به لاستعلائه على المرأة، و لأجل ذلك استعمل هذا اللفظ في كلّ ما فيه هذا المعنى فسمي الصنم بعلا قال تعالى: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً [الصّافات - 125] أي ربا.

ص: 8

و البعال مباشرة النساء

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أيام العيد: «إنّها أيام أكل و بعال» و لعلّ الوجه في التعبير به دون غيره ليترتب عليه أحقية الزوج برد الزوجة المطلقة أو لإخراج غير المدخول بها.

و الضمير في بعولتهنّ يرجع إلى بعض المطلقات على سبيل الاستخدام هنّ الرجعيات دون جميع المطلقات.

و المعنى: إنّ بعل المرأة أحق بإرجاعها إلى الزوجية في العدة إن قصد الإصلاح و المعاشرة بالمعروف في رجوعه أما إذا كان قصده الإضرار و المضارة و منعها من التزويج كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة - 231] فهو آثم.

و لفظ «أحق» أفعل التفضيل جيء به تأكيدا لثبوت الحق للزوج في الرجوع في العدة فتكون الآية المباركة مثل قوله تعالى: فَاللّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ [التوبة - 13]، فالتعبير بصيغة أفعل التفضيل للمبالغة و الاهتمام لاستيناف الحياة الزوجية و إعادتها ما دامت في العدة و هذه الأحقية تتحقق برد الزوج لها و الرجوع بها إلى العصمة الأولى. و هذا الحكم مختص بالرجعيات فقط دون غيرها من المطلقات و ليس للمرأة حق المعارضة في ظرف العدة.

و إنّما ثبتت هذه الأحقية للزوج باعتبار كونه معاشرا لها قبل الطلاق و قد أفضى بعضهم إلى بعض، و في هذا التعبير تحريض للزوج على المراجعة.

قوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

تتضمن هذه الآية الشريفة أتقن القوانين المتكفّلة لأهم ما يناط به النظام الاجتماعي بالنسبة إلى الفرد و النوع بأحسن بيان و أعذب أسلوب و أجمع كلام.

تبتهج له النفوس، و تطمئن إليه القلوب و يشعر الإنسان عند سماعه بلذة العدل و الإنصاف في جميع الأحوال و يسعد الزوجان به في حياتهما الزوجية، و ترغب كلّ فتاة خلية بالزواج كرغبتها بلبس الحرير و الدّيباج.

و تتجلّى من هذه الكلمة أهمية النظام العائلي في الإسلام و هي تنص على مساواة الرجل مع المرأة في الحقوق و المماثلة في الوظائف إلا ما اختص

ص: 9

أحدهما بما ورد في الشريعة به و لا يمكن ابتغاء ما كتب في هذه الحياة المشتركة إلا باحترام كلّ واحد من الزوجين حقوق الآخر. و بقدر إتيان الوظائف تتم السعادة و الرخاء.

فالآية المباركة ميزان الحق و العدل في جميع الشؤون و الأحوال و بذلك امتاز الإسلام عن سائر الأديان الإلهية في شأن النساء و القوانين الوضعية التي لم تصل إلى ما تدعيه في مساواة النساء و احترامهنّ إلا بعد قرون عديدة و هي مع ذلك لم تبلغ إلى ما تريده بل جلبت الشقاء و الفساد لهنّ .

و المعنى: إنّ لهنّ من الحقوق فيما تعارف بين الناس على الرجال مثل ما للرجال عليهنّ .

و لم يذكر سبحانه و تعالى ما هو الثابت على كلّ واحد منهما و إنّما أوكله إلى ما تعارف عليه الناس ليشمل جميع ما يتعلّق بحسن المعاشرة و الخلق الحسن و ما ورد في الشرع و ما يحكم به العقل فإنّ جميع ذلك من المعروف.

و قد كرر سبحانه و تعالى هذا اللفظ في الآيات المتعلقة بالنكاح و الطلاق اثنتي عشرة مرة لبيان أنّ جميع ذلك من سنن الفطرة و شؤون المجتمع الإنساني و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و المجتمعات.

قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ .

الدرجة: المنزلة و المراد بها الفضل و التفوّق و القيام بالمصالح الشرعية.

و الإسلام مع أنّه سوّى بين النساء و الرجال قد أعطى للرجال درجة عليهنّ .

و قد بيّن سبحانه و تعالى تلك الدرجة في آية أخرى فقال عزّ شأنه: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ [النساء - 34]، و إعطاء هذه الدرجة للرجال من الأمور الفطرية التي بنى الإسلام عليها أحكامه، فإنّ المجتمع يحتاج إلى من يعتمد عليه فيما يطرأ عليه من المخاطر و الاختلاف و من يحميه عنها و يقدر على تنفيذ ما يراه من المصلحة و الإنفاق عليه، و الحياة الزوجية لا تخرج عن هذه السنة بل احتياجها إلى الرجل أشد فهو الذي يتحمل الصعاب في تحصيل النفقة و المطالب بحماية المرأة

ص: 10

و الأولاد، و لذا أمر الشارع المرأة بتنفيذ أوامره إلا ما حرّم حلالا أو حلّل حراما و إذا خرجت من هذه الطاعة تعتبر ناشزة فذاك موضوع آخر له أحكام خاصة تأتي في الآيات اللاحقة و من ذلك يعرف سر التعبير ب «الرجال» في المقام دون الأزواج، و فيه من الإشارة إلى وجه التفوق و المنزلة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه قويّ لا منازع له و لا معترض عليه. حكيم في أفعاله يفعل وفق المصلحة.

و فيه من التوعيد و التهديد للمعترض على أحكامه و المخالف لما أنزله اللّه تعالى ما لا يخفى.

قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

المرة من المرور بمعنى الاجتياز و المضي. و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردة و تثنية و جمعا، قال تعالى: فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [يونس - 12]، و قال تعالى: سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ [التوبة - 101]، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الفرقان - 72].

و المراد بها في المقام: التكرار و الوقوع مرة بعد أخرى.

و مادة (مسك) تأتى بمعنى التعلق و الحفظ و الاعتصام قال تعالى:

وَ يُمْسِكُ اَلسَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى اَلْأَرْضِ إِلاّ بِإِذْنِهِ [الحج - 65]، و قال تعالى:

فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ [الزخرف - 43]، و قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى اَلطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ اَلسَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اَللّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [النحل - 79]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ [الأعراف - 170].

و المسك - بالفتح - الإهاب لأنّه يمسك البدن، و المسك - بفتحتين - الأسوار لاستمساكها باليد، و المسك - بالكسر - دم الغزال - و هو عطر مخصوص - سمّي به لمساك عطره و بقائه مدة كثيرة، و في الحديث: «لخلوق فم الصائم أحب عند اللّه من ريح المسك».

ص: 11

و مادة (سرح) تأتي بمعنى الإطلاق و الإرسال قال تعالى: وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [الأحزاب - 49]، و قال تعالى: وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ [النحل - 6].

و الطلاق إذا وقع مستجمعا للشرائط المعتبرة و كان طلاقا صحيحا يوجب ارتفاع الزوجية و انقطاع العلقة بين الزّوجين و زوال العصمة بينهما فلا ترجع تلك العلقة إلا بالرجوع إليها في العدة أو بعقد جديد بعد انقضائها فقوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ يدل على الأول. و قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يدل على الثاني. و على هذا فيكون قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة - 230]، بيانا للطلاق الثالث.

و قيل: إنّ الآية المباركة في مقام بيان الطلاق الرجعي و الطلاق البائن، فإنّ الأول هو الذي يجوز فيه الإمساك بالمعروف و الثاني هو التطليقة الثالثة، و يدل عليه التفريع في قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ

و حديث أبي رزين الأسدي أنّه سأل النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «سمعت اللّه تعالى يقول:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ . فأين الثالثة ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ . و على هذا فيكون قوله تعالى بعد ذلك: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ بيانا تفصيليا بعد البيان الإجمالي. و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بذلك.

ثم إنّ تقييد الإمساك بالمعروف و التسريح بالإحسان لبيان أنّ النكاح و المعاشرة و الطلاق إنّما هي أمور عرفية فطرية فلا يجوز أن يتأتّى منها الإضرار أو المنكر أو الانتقام، فالرد إلى الزوجية الذي يجوّزه الشرع المبين إنّما هو فيما إذا كان بقصد الالتثام و الأنس و سكون النفس الذي كتبه اللّه تعالى في الحياة الزوجية.

و كذا التسريح الذي شرّعه اللّه تعالى إنّما يكون معتبرا فيما إذا لم يكن عن انتقام و سخط بل لا بد أن يكون مما تعارف عليه الناس و حسن المعاملة و أداء النفقة و هذا هو المراد من قوله تعالى في الآية الشريفة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

ص: 12

و كذا التسريح الذي شرّعه اللّه تعالى إنّما يكون معتبرا فيما إذا لم يكن عن انتقام و سخط بل لا بد أن يكون مما تعارف عليه الناس و حسن المعاملة و أداء النفقة و هذا هو المراد من قوله تعالى في الآية الشريفة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

و من ذلك يعرف أنّ في هذين القيدين كمال العناية و اللطف.

قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً .

بعد ما ذكر سبحانه و تعالى من أنّ التسريح لا بد أن يكون بإحسان حرّم في المقام أن يأخذ الزوج من الزوجة شيئا مما آتاها، فإنّه من الظلم و الغصب و هو خلاف الإحسان المأمور به، بل الإحسان إليهنّ أن يمتعهنّ بشيء كما قال تعالى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً [الأحزاب - 49]، ليكون قد تدارك بذلك ما فات عن المرأة من مزايا الحياة الزوجية.

و المراد من مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ هو المهر أو ما ملّكها إياه.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ .

أي: الوظائف المجعولة لهما. و الخوف توقع وقوع المحذور ظنا أو علما، كما أنّ الرجاء توقع المطلوب كذلك أي: أن لا يقيما أحكام اللّه تعالى فيخافا أن يقعا في المعصية بارتكاب المخالفة.

و المراد خوف الزوج و إنّما ذكر خوف الزوجة معه للاقتران بينهما في ذلك و تأكد تحقق الخوف و عدم كونه من مجرد دعواه فقط فجعل اللّه تعالى ذلك الحق لها إشفاقا عليها لعلّها ترجع عما يوجب الفرقة.

أو لبيان أنّ إقامة حق اللّه تعالى أهمّ من كلّ شيء بالنسبة إلى كلّ واحد من الزوجين بل بالنسبة إلى كلّ أحد.

قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ .

العدول من التثنية إلى الجمع إما لأجل الإرشاد إلى حسن الاجتماع في الإصلاح و السعي في ذلك.

أو لبيان أنّ المدار على الخوف أن يكون معلوما يعرفه العرف لا أن

ص: 13

يكون من مجرد التوهم و الوسوسة و نحو ذلك.

أو للإرشاد إلى أنّ ذلك من المصالح العامة فيطالب به المجتمع و الأمة فيلزمهم مراعاة حال الزوجين و مساعدتهما في هذه الحالة، و لأجل ذلك عدل عن الإضمار إلى التصريح فقال تعالى: أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فإذا خافا عدم إقامة حدود اللّه فلا جناح على المرأة أن تبذل شيئا و تجعله فداء لها من الزوج. كما لا جناح على الزوج أخذ ما افتدت به الزوجة فيتوافقان على الطلاق بالفدية و هذا هو طلاق الخلع و لا يدخل في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ لأنّ ذلك كان لأجل عدم رضاء الزوجة و الإضرار بها و أما في المقام فقد تراضيا على ذلك و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها .

أي: إنّ تلك الأحكام المتقدّمة من الحدود التي يلزم مراعاتها لتتم السعادة بين الزوجين، و يرتفع التنافر و الظلم و يسود العدل و الإنصاف. و هذه الأحكام كما أنّها تشتمل على فروع فقهية تشتمل أيضا على أصول المعارف و الأخلاق الفاضلة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

أي: و من يتجاوز أحكام اللّه بأن يخالفها و لا يهتم بمراعاتها فإنّ في ذلك إماتة للدين و هدما للسعادة و تخريبا للعمران و إبطالا لما أراده اللّه تعالى في إنزال الأحكام من المصالح.

ص: 14

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ جملة خبرية في مقام الإنشاء و مثل هذا التعبير مألوف في القرآن الكريم، و إنّما يستعمل في مقام التأكيد و الاهتمام بالمراد.

و هو أبلغ من الإنشاء في الطلب و الإيجاب، لظهوره في وقوع المطلوب حتّى صار من شؤون المطلوب منه و ليس في صيغة الأمر ما يفيد ذلك.

و في كلمة بِأَنْفُسِهِنَّ من البلاغة و الإبداع ما لا يخفى، فإنّها بإيجازها تشتمل على معان دقيقة بالإشارة و التلويح فإنّ فيها ترك التصريح إلى ما تتشوق النساء إليه و الاكتفاء بالكناية عما يرغبن فيه، و عدم إيئاسهنّ مع اجتناب إخجالهن و توقي تنفيرهنّ أو التنفير منهنّ فإنّ الكلام في المطلّقات و هنّ معرّضات للزواج و خلوهنّ عن الأزواج و لا بد من ضبط النفس و منعها أن تقع في غمرة الشهوة المحرمة.

و لو لا هذه الكلمة لما أفادت الجملة تلك اللطائف الدقيقة. و لا يبلغ إلى هذا الإعجاز سواه تبارك و تعالى.

مضافا إلى اشتمال الجملة على وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم

ص: 15

و هو التحفظ عن اختلاط المياه و فساد الأنساب.

و التاء في بُعُولَتُهُنَّ زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة و هو شاذ لا يقاس عليه و يعتبر فيه السماع.

و قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ منصوب على أنّه مفعول به على تقدير مضيّ ثلاثة قروء، و على أنّه مفعول فيه على تقدير مدة ثلاثة قروء.

و إنّما ذكر العدد مؤنثا «ثلاثة» باعتبار لفظ القرء المذكور سواء أريد به الطهر أو الحيض.

و القرء من الأضداد و يصح أن نقول: إنّه إذا كانت حقيقة واحدة ذات حالات مختلفة يصح وضع ألفاظ متعدّدة باعتبار تلك الحالات، فدم الحيض حقيقة نوعية واحدة من حالاتها الاستعداد في عروق الرحم و الجريان منه، فتسمّى حيضا باعتبار الجمع و الجريان أو هما معا، و من حالاتها تبادلها مع الطهر و الانتهاء إليه أو البدء منه فتسمّى قرءا، و باعتبار الافتضاض فتسمى طمثا قال تعالى: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ [الرحمن - 56]، و بانبساط الرحم تسمى ضحكا كما في قوله تعالى: - إن أريد به الحيض - وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ [هود - 71]. أي: حاضت. و أما إذا أريد منه التعجب بقرينة قوله تعالى: أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ [هود - 73]، فلا ربط له بالمقام. و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و لغة العرب.

و لنا أن نجعل المقام من متحد المعنى و تلك الحالات من دواعي الاستعمال لا من خصوصيات الموضوع له أو المستعمل فيه و هذا هو المتيقّن و الأخيران مشكوكان و إثباتهما يحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و في قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ نوع من الاستخدام الذي هو من المحسنات الكلامية و هو عبارة عن أن تكون الكلمة لها معنيان فيذكر أحدهما ثم يراد بالضمير الراجع إليها معناه الآخر.

ص: 16

ففي المقام يراد من المطلّقات العموم - الأعم من البائن و الرجعي - و من الضمير الراجع إليها قسم خاص منها. و هو من الأساليب المعهودة في كلام العرب و وارد في القرآن الكريم كثيرا.

و اختصاص الضمير بالبعض لا فرق فيه بين أن يكون لقرينة داخلية كما قيل في المقام من أنّ الأحقية إنّما تتحقق في الرجعيات دون البائنات التي لا رجوع فيها، أو لأجل أخبار خاصة أو نحو ذلك فالضمير في جميع الحالات يرجع إلى بعض المطلّقات دون العموم.

و إنّما جيء بلفظ (إن) في قوله تعالى: إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً لذكر الحالة التي يتحقق بها الرد و إرادته كما في قوله تعالى: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [النور - 33].

ثم إنّ قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ التفات عن خطاب الجمع الوارد في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ و قوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها إلى خطاب المفرد بقوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ ثم إلى الجمع بقوله تعالى: فَلا تَعْتَدُوها ثم إلى المفرد في قوله تعالى: فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ كلّ ذلك لتنبيه المخاطب و رفع الكسل في الإصغاء و تتشيط الذهن ليستعد لسماع الحكم من غير ملل.

و في قوله تعالى: أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ التفات من الخطاب إلى الغيبة تكريما و استبعادا للمخاطب عن الوقوع في المخالفة و عدم إقامة حدود اللّه.

ص: 17

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يدل قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ على وجوب الاعتداد على المطلّقة و وجه الحكمة في تشريع هذا الحكم و إن كانت الحكمة لا تطّرد و لا تنعكس.

الثاني: تدل جملة يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ على أنّ الأمر الذي لا بد منه في مدة التربص هو حفظ النساء أنفسهنّ فيمسكنها عما تقتضيه طبائعهنّ من الطموح إلى الزّواج.

و فيها دلالة على وجوب أن لا يخرجن من رعاية الزوج و حيطته.

و هذه الجملة من روائع الأسلوب في الدّلالة و الفصاحة بإيجاز كما ذكرنا.

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ بالملازمة على اعتبار قولهنّ إذا أخبرن بما في أرحامهنّ من الحيض، و الطهر، و الحمل.

و لعلّ

ما ورد في الأحاديث: «إنّ اللّه فوض إلى النساء ثلاثة أشياء:

الحيض، و الطهر، و الحمل» مستفاد من هذه الآية الشريفة.

و قد سيق ذلك مساق القاعدة الكلية، و أجمع الفقهاء على اعتبار قولهنّ

ص: 18

في هذه الثلاثة ما لم يعلم الكذب و هو موافق للقاعدة النظامية المذكورة في الفقه من أنّ «كلّ من استولى على شيء فقوله معتبر فيما استولى عليه» و لهذه القاعدة موارد كثيرة في فقه المسلمين.

الرابع: قوله تعالى: إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يدل على أنّ الحكم و هو وجوب حفظ أنفسهنّ في العدة و حرمة كتمانهنّ لما في الأرحام من لوازم الإيمان فلا استغناء عنه و فيه الزجر الشديد.

و يستفاد منه الردع الأكيد عن عادة كانت متبعة بينهنّ قبل نزول الآية الشريفة و أنّها مخالفة للإيمان.

الخامس: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على كمال عطفه و شدة اهتمامه عزّ و جل ببقاء العصمة الأولى حيث عبّر تعالى. «بردهن» دون غيره، فجعل للزوج حق الرد باعتبار الحالة التي قبل الطلاق فكأنّها لم تقطع، و لا حق للمرأة في المعارضة و لا منافاة في ذلك مع القول بأنّ للزوج حق في المطلقة و لسائر الخطاب حق أيضا و لكن الرد لا يتحقق إلا مع الزوج الأول في العدة.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة رجحان المراجعة و حسنها، و يدل عليه العدول عن التعبير بالزوج إلى البعولة لإخراج غير المدخول بها و للترغيب في المراجعة و تذكر الحالة السابقة و العصمة الأولى.

السادس: يستفاد من تعقيب الآية المتقدمة بقوله تعالى: وَ لَهُنَّ مِثْلُ اَلَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ أنّ رد الرجل امرأته إلى حبالته و عصمته على ما يريده اللّه تعالى إنّما يتحقق بإرادة الإصلاح و هي القيام بحقوقها و يلازم ذلك قيام المرأة بحقوق الزّوج فذكر سبحانه و تعالى حقّ كلّ واحد منهما على الآخر و أجمل في ذلك بعبارة فصيحة و هي بإيجازها تشتمل على جميع ما ينبغي ذكره في هذه الحالة ثم أرجع ذلك إلى العرف المتداول في كلّ مجتمع.

السابع: يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات المباركة - فقد ذكر فيها اثنتا عشر مرّة - حجية العرف كما عليه المحققون من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم).

ص: 19

الثامن: إنّما ذكر سبحانه و تعالى لفظ الرجال في قوله: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ للإشارة إلى وجه التفوق و أنّه كمال الرجولية و فضل قيامه بأمورها و رعايتها كما فسرت هذه الدرجة في آية أخرى على ما ذكرنا في التفسير فراجع.

التاسع: يدل قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ على مرجوحية الطلاق و الفرقة يعني: أنّ أصل الطلاق مرجوح و لو أريد العمل بهذا المرجوح فمرّتان و الا فسيرى أثر عمله في الدنيا و الآخرة التي تظهر فيها منويات العبد فإنّها عالم الظهور و الشهود، و قد ذكر العلماء آثارا خطيرة على الطلاق حيث إنّه يوجب فساد الأخلاق بين الزوجين، و سوء تربية الأولاد و يوجب الأمراض النفسية إلى غير ذلك، فهذا الأمر من الأمور التي تترتب عليه آثار كثيرة و متعددة الجوانب منها الصحية و الأخلاقية و التربوية الفردية و الاجتماعية، و لذا لا بد من تقييده بقيود توجب الإقلال منه و حصره في موارد كما سنذكرها في بحث آخر.

العاشر: أنّ قوله تعالى: فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يلهم الزوجين بأعذب أسلوب و ألطف بيان و بعناية خاصة نبذ الفرقة و الاختلاف و يلقي بينهما الايتلاف و الانس و سكون النفس الذي جعله اللّه تعالى بين الرجل و المرأة، و لذا اعتبر أن يكون الإمساك بمعروف و ألغى الإمساك الواقع عن مضارّة و إضرار و هكذا التسريح.

الحادي عشر: إنّما قيّد سبحانه و تعالى الإمساك بمعروف، لنفي الإمساك المضار كما في قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [البقرة - 231]، و قيد التسريح بالإحسان ليترتب عليه قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً لأنّه قد ينافي أخذ شيء من المرأة العرف الدائر بين الناس، و لأنّ من الإحسان هو أداء النفقة و الإسكان و حسن المعاشرة حتى تنقضي العدة و هذه مزية في الإحسان لم تكن في المعروف، و لذا اختلف القيد في الموردين.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ أنّه لا بد من كراهة الزوجة لأنّ الافتداء إنّما

ص: 20

يستعمل فيما إذا كان إكراه أو أسر في البين و هذه الكراهة و النفرة هي التي توجب الخوف بأن لا يقيما حدود اللّه. و هذا هو طلاق الخلع الذي هو قسم من الطلاق و تجري عليه نفس الأحكام التي تترتب على مطلق الطلاق إلا ما استثني.

ص: 21

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في صحيح زرارة في قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ قال (عليه السلام):

«الأقراء: هي الأطهار».

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ عن زرارة قال: «سمعت ربيعة الرأي يقول: إنّ من رأيي أنّ الأقراء التي سمى اللّه تعالى في القرآن إنّما هي الطهر فيما بين الحيضتين و ليس بالحيض قال: فدخلت على أبي جعفر (عليه السلام) فحدثته بما قال ربيعة فقال (عليه السلام): كذب و لم يقل برأيه إنّما بلغه عن عليّ (عليه السلام) فقلت: أصلحك اللّه أ كان عليّ (عليه السلام) يقول ذلك ؟! قال:

نعم، كان يقول: إنّما القرء: الطهر، تقرأ بما فيه الدم فيجمعه فإذا حاضت قذفته قلت: أصلحك اللّه رجل طلق امرأته طاهرا من غير جماع بشهادة عدلين قال: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد انقضت عدتها و حلت للأزواج - الحديث».

أقول: الروايات في كون القرء هو الطهر كثيرة و هو المشهور بين الفقهاء.

و قول أبي جعفر (عليه السلام): «نعم كان يقول: إنّما القرء الطهر» رد على

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام) من أنّه يقول إنّ القرء: هو الحيض.

ص: 22

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «لا يحل للمرأة أن تكتم حملها أو حيضها، أو طهرها و قد فوّض اللّه إلى النساء ثلاثة أشياء: الطهر، و الحيض، و الحبل».

أقول: ما ذكر في الحديث بيان لإطلاق ما ورد في الآية الشريفة و تقدم سابقا ما يتعلّق بذلك.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «الحيض و الحبل».

أقول: ليس ذلك في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في الآية المباركة: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ قال (عليه السلام): «يعني لا يحل لها أن تكتم الحمل إذا طلّقت و هي حبلى، و الزوج لا يعلم بالحمل فلا يحلّ لها أن تكتم حملها و هو أحق بها في ذلك الحمل ما لم تضع».

أقول: مرّ في الرواية السابقة أنّها ليست في مقام الحصر فلا تنافي غيرها.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ قال (عليه السلام): «حق الرجال على النساء أفضل من حق النساء على الرجال».

أقول: إنّ الفضيلة لا تنافي أصل التساوي في الجملة.

و في التهذيب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ قال (عليه السلام):

«التطليقة الثالثة التسريح بإحسان».

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».

ص: 23

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «التسريح بالإحسان التطليقة الثالثة».

و في الفقيه عن الحسن بن فضال قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن العلة التي من أجلها لا تحل المطلقة للعدة لزوجها حتى تنكح زوجا غيره فقال (عليه السلام): «إنّ اللّه عزّ و جلّ إنّما أذن في الطلاق مرّتين فقال عزّ و جل: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ يعني في التطليقة الثالثة و لدخوله فيما كره اللّه عزّ و جل من الطلاق الثالث حرّمها عليه فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا غيره لئلا يوقع الناس في الاستخفاف بالطلاق و لا يضاروا النساء».

أقول: لا ريب في أنّ التطليقة الثالثة من التسريح بإحسان لعدم تحقق التلاعب و الاستخفاف بالمرأة في طلاقها.

و أما أنّ هذه الآية الشريفة تدل على وقوع الطلقات الثلاث بلفظ واحد أو في مجلس واحد ففيه منع و مذهب أهل البيت (عليهم السلام) على خلاف ذلك و قد حرّرنا الكلام في الفقه فمن شاء فليراجع (مهذب الأحكام).

في أسباب النزول عن عروة عن أبيه: «كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان ذلك له و إن طلّقها الف مرة، فعمد رجل إلى امرأة له فطلقها ثم أمهلها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها ارتجعها ثم طلقها، و قال: و اللّه لا آويك إليّ و لا تحلّين أبدا، فأنزل اللّه عزّ و جل:

اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ .

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ عن الصادق (عليه السلام) قال: «الخلع لا يكون إلا أن تقول المرأة لزوجها: «لا ابرّ لك قسما و لأخرجنّ بغير إذنك، و لأوطئنّ فراشك غيرك، و لا أغتسل لك من جنابة، أو تقول: لا أطيع لك أمرا أو تطلّقني، فإذا قالت ذلك فقد حلّ له أن يأخذ منها جميع ما أعطاها و كلّ ما قدر عليه مما تعطيه من مالها فإذا تراضيا على ذلك طلّقها على

ص: 24

طهر بشهود فقد بانت منه بواحدة، و هو خاطب من الخطاب، فإن شاءت زوّجته نفسها و إن شاءت لم تفعل فإن تزوجها فهي عنده على اثنتين باقيتين و ينبغي له أن يشترط عليها كما اشترط صاحب المباراة فإن ارتجعت في شيء مما أعطيتني فأنا أملك ببضعك، و قال (عليه السلام): لا خلع و لا مباراة و لا تخيير إلا على طهر من غير جماع بشهادة شاهدين عدلين، و المختلعة إذا تزوجت زوجا آخر ثم طلّقها يحلّ للأول أن يتزوّج بها و قال: لا رجعة للزوج على المختلعة و لا على المباراة إلا أن يبدو للمرأة فيرد عليها ما أخذ منها».

أقول: قد حرّرنا تفصيل طلاق الخلع في الفقه فمن شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

و في الفقيه عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا قالت المرأة لزوجها جملة لا أطيع لك أمرا مفسرة أو غير مفسرة حلّ له ما يأخذ منها و ليس له عليها رجعة».

أقول: المراد بالمفسرة التصريح بالمقصود جملة و غير المفسرة الكناية و غيرها.

في الدر المنثور أخرج أحمد عن سهل بن أبي حثمة قال: «كانت حبيبة ابنة سهل تحت ثابت بن قيس بن شماس فكرهته و كان رجلا دميما فجاءت و قالت يا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إنّي لا أراه فلو لا مخافة اللّه لبزقت في وجهه، فقال لها: أ تردين عليه حديقته التي أصدقك ؟ قالت: نعم فردت عليه حديقته و فرق بينهما فكان ذلك أول خلع في الإسلام».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه تبارك و تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها فقال: إنّ اللّه غضب على الزاني فجعل له مائة جلدة فمن غضب عليه فزاد فأنا إلى اللّه منه بريء فذلك قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ فَلا تَعْتَدُوها .

أقول: يريد (عليه السلام) بذلك الوقوف عند ما عينه اللّه تعالى في أحكامه المقدسة وضعية كانت أو غيرها فكلّ من تعدّى عنها فقد تعدّى عن حدّه تعالى و الشرع منه بريء.

ص: 25

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الشرعية الفقهية التالية:

الأول: يدل قوله تعالى: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ أنّ مدة العدة ثلاثة أطهار كما هو الحق و عليه جمع كثير من الجمهور - منهم المالكية و الشافعية و في الدر المنثور عن ابن شهاب أنّه قال: «سمعت أبا بكر بن عبد الرحمن يقول ما أدركت أحدا من فقهائنا إلا و هو يقول هذا أي أنّ القرء بمعنى الطهر» فيكفي في الطهر الأول مسماه و لو لحظة فلو طلقها و قد بقيت من الطهر لحظة يحسب ذلك طهرا واحدا، فإذا رأت طهرين آخرين بينهما حيضة واحدة انقضت أيام التربص (العدة).

و إذا كان المراد من القرء الحيض فإنّ أقل الحيض ثلاثة أيام و لا يكون أقل منها، و أكثره عشرة أيام لا يكون أكثر منها، و أقل الطهر عشرة أيام لا يكون أقل منها و أكثره لا حدّ له و التفصيل يطلب من (مهذب الأحكام) أحكام العدد.

الثاني: إنّ المراد من قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ هو الصنف الخاص منهنّ ، أي: المدخول بها و غير اليائسة، و غيرهما لا تشملهنّ الآية الشريفة فإنّ غير المدخول بها لا عدّة لها حتى يجب عليها التربص ثلاثة قروء.

و الحامل عدتها وضع الحمل كما يأتي في قوله تعالى: وَ أُولاتُ اَلْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق - 4].

ص: 26

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ على قبول قولهنّ في إخبارهنّ بما في أرحامهنّ من الحمل، و الحيض، و الطهر. و لا يختص الحكم بخصوص الحمل كما ذكره بعض الفقهاء لأنّ هذا الزجر الشديد يناسب أن يكون على كتمان الحمل و لكن إطلاق اللفظ يشمل جميع ما ذكر.

الرابع: يدل قوله تعالى: وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ أنّ الزوج إذا طلب الرجوع لا حق للمرأة في معارضة البعل في ردها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: اَلطَّلاقُ مَرَّتانِ أنّ طبيعي الطلاق على نوعين نوع يجوز للزّوج المراجعة في العدة ورد الزوجة إلى العصمة الأولى، و النوع الآخر لا يجوز للزوج رد الزوجة حتى تنقضي العدة فلا بد من عقد جديد حينئذ.

السادس: يدل قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً عدم جواز استرداد المهر من الزوجة لأنّها تملك صداقها بمجرد العقد الصحيح الجامع للشرائط و إن استقرت ملكية التمام بالدخول.

و بالجملة: إنّ التصرف في صداقها بدون رضاها يكون تصرفا في حق الغير بدون الإذن و هو حرام بالأدلة الأربعة كما قرّرناه في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و أما مع الرضا و طيب النفس فلا بأس به لكونه حلالا كما في قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النساء - 4].

السابع: يدل قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ على مشروعية طلاق الخلع و يفترق عن غيره من أقسام الطلاق بأنّ الأول إنّما يشرع إذا كان نفرة من الزوجة للزوج و بذلها الفداء عوضا عن الطلاق، و يدل على كلا الأمرين قوله تعالى: فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ و يصح الفداء بكلّ ما يتموّل قليلا كان أو كثيرا، كان بقدر المهر أو أنقص أو أزيد.

ص: 27

و طلاق الخلع بائن لا يصح فيه الرجوع من الزوج ما لم ترجع المرأة فيما بذلت، و لها الرجوع في الفدية ما دامت في العدة فإذا رجعت كان له الرجوع.

و لو طلّقها مع عدم الكراهة و كون الأخلاق ملتئمة لم يملك العوض و حرم عليه التصرف و لكن يصح أصل الطلاق و إن بطل الخلع.

الثامن: لا بد في الكراهة الموجبة لجواز الخلع من الزوجة أن تكون بحيث يخاف منها الوقوع في المعصية، و عدم إقامة حدود اللّه و هي أحكامه المقدسة.

ص: 28

بحث علمي

الآيات المباركة المتقدمة تدل على مشروعية الطلاق في الإسلام و هي من جملة المؤاخذات التي أخذها أعداء الإسلام عليه باعتبار أنّ الطلاق تفريق بين الزوجين و إلغاء العصمة بينهما.

و الزواج حاجة إنسانية شرّعه اللّه تعالى لمصلحة الفرد و المجتمع، و بقاء النوع الإنساني كما قلنا ذلك سابقا.

و الطلاق إبطال لهذه المصلحة فإنّه سبب للفراق الذي هو مبغوض لكل ذي شعور و هو يجلب جملة من المفاسد التي هي أساس كلّ محظور، و لذا حرمته بعض الشرائع السماوية كشريعة عيسى (عليه السلام) و بعض القوانين الوضعية.

و الجواب عن ذلك: أنّ الإسلام دين الرحمة و الألفة و التعاطف، و قد حث على الاجتماع و التواصل و الاتحاد بين الأفراد و حرّم كلّ ما يوجب الفرقة و الاختلاف، و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة المقدسة، و من مظاهر ذلك: الزواج، فإنّه حرض عليه في مواضع متعددة من القرآن الكريم بأساليب مختلفة قال تعالى: وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [الروم - 21]، و يستفاد منه كمال العناية بهذه الحياة التي جعلها سبحانه حياة سكن و راحة و فيها المودة و الرحمة التي

ص: 29

هي سبب السعادة في الحياة.

و اهتم الإسلام بجميع جوانب هذه الحياة و بيّن كلّ ما يرتبط بسعادتها و شقاوتها شرحا وافيا قلّما يوجد في أمر من الأمور مثل ذلك و من مجموع ما ورد في ذلك يستفاد أنّ الزواج هو المحبوب لدى الشارع الأقدس و الطلاق مرغوب عنه فإنّه حاجة موقتة يرجع إليه فيما إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهدّد كيانها و هذا مما أكد عليه الإسلام في مواضع متعددة من القرآن الكريم و السنة الشريفة

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبغض الحلال إلى اللّه تعالى الطلاق»

و في حديث آخر: «أبغض الأشياء إلى اللّه تعالى الطلاق» و يمكن استفادة ما ذكرناه من أمور:

الأول: أنّه لم يرد في القرآن الكريم الأمر بالطلاق بخلاف الزواج و المعاشرة الزوجية قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [النساء - 3] و قال تعالى: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [النور - 32]، فقد حث عليه الإسلام بأساليب مختلفة كما ذكرنا و هو يكشف عن أنّ الطلاق أمر ثانوي يرجع إليه في حالات خاصة.

الثاني: أنّ الإسلام جعل أمر الطلاق بيد شخص واحد و هو الزوج و تحت سلطته الخاصة ففي الحديث المتواتر بين المسلمين «الطلاق بيد من أخذ بالساق» بخلاف الزواج فإنّ لكلّ واحد من الطرفين السلطة فيه. و هذا هو تحديد آخر في الطلاق يخرجه عن تلاعب الأهواء و العواطف و يبعده عن النزوات الشخصية.

الثالث: أنّه جعل في الطلاق حدودا و قيودا لم يكن مثلها في الزواج مما يقلل أفراده في الخارج.

الرابع: يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الطلاق في هذه السورة و غيرها أنّ الطلاق آخر ما يمكن الرجوع إليه، فقد جعل سبحانه و تعالى لحلّ

ص: 30

ما يطرأ من المشكلات على الحياة الزوجية طرقا متعددة منها الرجوع إلى العرف، أو التحكيم، أو أهل الزوجين، أو الهجر في المضاجع، أو الضرب بحدود و قيود و غير ذلك، فلو كان الطلاق هو الحل الوحيد في نظر الإسلام لما كان لهذه الطرق المختلفة وجه معتبر فهو آخر الطرق و مع ذلك هو أبغض الحلال إلى اللّه تعالى.

و هو الطريق الأمثل لحل المشكلات إذا طرأ على الحياة الزوجية ما يهددها، فإنّ الحل الذي يمكن تصوره في هذه الحالة إما وجوب التحفظ على الحياة الزوجية مهما بلغ الأمر و لو رجع إلى الفرقة إلى آخر عمر الزوجين كما يقول به بعض مذاهب النصارى. و هذا تعطيل لحقوق الأفراد و تحديد في حريتهما من دون مبرّر و إبقاء للمشكلات من دون حلّ لها. مع أنّه يرجع إلى الفرقة العملية بينهما و هو من أعقد المشاكل و أصعبها.

و إما الرجوع إلى قطع العلاقة بين الزوجين بعد استنفاذ جميع الحلول الملائمة فتنتهي الحياة الزوجية بالطلاق و التفرقة بين الزوجين لئلا يقعا في الحرام و تخرج الحياة الزوجية عن الكمال المطلوب منها فتجلب الشقاء للزوجين و الأولاد و هذا أمر لا يرتضيه أحد، فالطلاق هو آخر ما يتصوّر في حلّ المشكلات و إرجاع كلّ واحد من الزوجين إلى حياته الخاصة.

و من ذلك يعلم: أنّ الطلاق إنّما يصح إذا استجمع جميع الشروط المقررة في الشرع و منها أن لا يكون اقتراحيا من قبل الزوج من دون أيّ موجب مع كمال الملائمة بين الزوجين فإنّ صحة مثل هذا الطلاق موضع بحث لدى الفقهاء.

ص: 31

بحث عرفاني

تقدم بعض ما يرتبط بطلاق الزوج لزوجته و هو أمر مبغوض عند الخالق و المخلوق. و هناك طلاق آخر هو مجمع الكمالات الإنسانية و أهم طرق السّير و السلوك إلى اللّه تعالى و تتجلّى أهميته في اجتماع التخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل، و التجلية بصفات الباري عزّ و جل فيه، و هو طلاق الدنيا و ما سوى اللّه جلّت عظمته و هو أيضا مرتان فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و إنّ له درجات:

الأولى: ما إذا كانت الدنيا سببا للانغمار في عالم الغرور و حجابا عن عالم النور. فترتع النفس في الجهالات و الظلمات فلا يفيدها منع مانع و لا ترتدع بأيّ رادع. و طلاق مثل هذه الحالة واجب على كلّ نفس تريد الاستكمال و الترفع عن دار الوهم و الخيال و الارتقاء إلى عالم الحقائق التي لم تزل و لا تزال.

الثانية: ما إذا أمسك نفسه عن الانغمار في عالم الغرور طلبا للاستكمال، فتشرق على النفس من عالم الأنوار فترفض الدنيا و ما يبعدها عن ساحة قدسه تعالى، و لا ريب في حسن هذا الطلاق بالشرائط المقرّرة في الشريعة المقدّسة و بعد ذلك تصل النوبة إلى الإمساك بالمعروف فيعمل بما يرتضيه الرّحمن و يرتقي بذلك إلى درجات الجنان.

ص: 32

الثالثة: و هي آخر المراتب و أعلاها و هي قطع العلاقة و الإضافة القلبية مطلقا عملا بما يقال: «إنّ التوحيد إسقاط الإضافات» و هذا هو التسريح بالإحسان.

و طلاق الدنيا في أيّ مرتبة حصل لا ينافي بقاء الدنيا تحت سلطته و إرادته كما في طلاق أولياء اللّه تعالى للدنيا فقد تمثلت الدنيا في صورة خارجية - و هي صورة أجمل النساء - لسيد الأنبياء في ليلة المعراج، و في صورة بثينة التي كانت أجمل نساء عصرها

لعليّ (عليه السلام) فقال لها:

«غرّي غيري لا حاجة لي فيك قد طلّقتك ثلاثا لا رجعة فيها» فطلاق الدنيا بالشرائط المقرّرة في الشرع من أفضل الدّرجات و أعلى المقامات واجب عند المخلصين و الصدّيقين المتفانين في حبّ اللّه تعالى.

و هو أول منزل من منازل السّير إلى ربّ العالمين، و من جهة الاستقامة و البقاء عليه تجتمع فيه سائر المقامات من التخلية و التحلية و التجلية بل الفناء، و الثبات عليه ثبات في الرحمة الواسعة التي لم تزل و لا تزال و يشتد مقام التوحيد فيعبد اللّه جلّت عظمته حبّا له لا لشوق الوعد و لا خوف الوعيد.

ص: 33

سورة البقرة الآية 230

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِي.......

اشارة

فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) الآية الشريفة في غاية إيجازها و اشتمالها على أربعة عشر ضميرا هي في منتهى الفصاحة خالية عن التعقيد، فيها جملة من الكنايات مما زادت في بلاغتها. و هي تبيّن حكما آخر من أحكام الطّلاق و هو عدم حليّة المطلّقة ثلاثا على الزوج حتى تنكح زوجا غيره فإن طلّقها بعد العقد و التزويج يجوز لهما أن يتراجعا بشرط اطمينانهما أن يقيما حدود اللّه تعالى. و هذا الحكم يعتبر تحديدا لعدد الطلقات الواقع من الزوج و ردعا له لئلا يقدم على تكرار الطلاق و إعادته.

ص: 34

التفسير

230 - قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ .

المراد من الطلاق هو التطليقة الثالثة، و نفي الحلية عن نفس الزوجة لبيان أنّها لا تحلّ لا بالعقد و لا بالمراجعة فالحرمة متعلّقة بهما معا.

و المعنى: فإن طلق زوجته بعد مرّتين من الطلاق فلا تحلّ له بعد الطلاق الثالث مهما طال الزمن و تقادم العهد حتى تنكح زوجا غيره.

قوله تعالى: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ .

يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ الحرمة في هذه المرأة غير دائمية أي:

فلا تحلّ له حتى تنكح زوجا آخر نكاحا صحيحا مشتملا على العقد الصحيح و المباشرة - و قد كنّى سبحانه و تعالى عنهما بكناية لطيفة مؤدبة - فتكون زوجة له.

و تدل هذه الآية على أنّ النكاح لا بد أن يكون صحيحا مصاحبا للمباشرة و الغشيان لا مجرد العقد فقط، فيختص بخصوص العقد الدائم الصادر عن البالغ العاقل.

و قد استدل بعض المفسرين و جمع من فقهاء الجمهور بهذه الآية المباركة على أنّ النكاح الذي تحلّ به المطلّقة ثلاثا لا بد أن يكون زواجا

ص: 35

صحيحا عن رغبة مقصودة لذاتها، فلو نوى بالتزويج التحليل أي: إحلال الزوجة للزوج الأول كان زواجه غير صحيح و لا تحلّ به المرأة إذا هو طلقها بل هو معصية

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لعن اللّه المحلل و المحلل له».

و يمكن المناقشة في ذلك: بأنّ الآية المباركة لا تدل على ما ذكروه بل هي أجنبية عنه، و الحديث - على فرض اعتباره - إرشاد إلى ترك ذلك منهما لا أن يكون النّهي عنه نهيا تحريميا و على فرض كونه كذلك فإنّهم لا يقولون بأنّ النّهي في غير العبادات يوجب الفساد و النّكاح ليس بعبادة محضة، فلا فرق في النكاح بين أن يكون بنية التحليل إذا حصل قصد النكاح الدّائم الصحيح الجامع للشرائط. نعم، إذا لم يحصل قصد أصل النكاح الدائم يبطل من هذه الجهة.

قوله تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا .

المراد بالتراجع: هو العقد و قد كنّى به عنه، و هو يختلف عن الرجوع الذي كان حقا للزوج في التطليقتين الأولتين بأنّ التراجع إنّما يكون بين اثنين فلا بد من التوافق بينهما بخلاف الرجوع.

و المعنى: فإن طلّقها الزّوج الثاني طلاقا صحيحا يوجب انقطاع العصمة بينهما فلا جناح أن يتراجع الزّوجان إلى الحياة الزوجية بعقد شرعي و يستأنفا تلك الحياة الجديدة برغبة منهما مع حسن المعاشرة بينهما و إلغاء الحزازات السابقة، فالتراجع مشروط بذلك. و يلحق بطلاق الزّوج الثاني موته، لأنّه يوجب انقطاع العصمة بينهما كالطلاق.

قوله تعالى: إِنْ ظَنّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ .

أي: أنّ التراجع بينهما و الرجوع إلى الحياة الجديدة مشروط بما إذا ظنّ كلّ واحد من الزوجين أن يقوم بحقوق الآخر و هي حسن المعاشرة و الإخلاص و سلامة النية و نحوها التي هي حدود اللّه تعالى التي كتبها في مثل هذه الحياة و الا فالرجوع مرجوح و إن كان العقد صحيحا إن وقع جامعا للشرائط.

ص: 36

قوله تعالى: وَ تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ .

وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّ الحدود في المقام غير الحدود السابقة.

و خص العالمين بالذّكر تشريفا للعلم و تعظيما لحدود اللّه تعالى، و لأنّ أهل العلم هم الذين يدركون مصالح تلك الحدود و آثارها و خصوصياتها و غيرهم عاجزون عن ذلك.

ص: 37

بحث دلالي

تكرر في هذه الآيات المباركة جملة حُدُودَ اَللّهِ و ذلك لإزالة ما شاع في الجاهلية من أقسام التفرقة و الطلاق و انحصارها في الإسلام بما قرّره الشارع بحدوده و قيوده و التجاوز عنها تجاوز عن حدود اللّه تعالى و لذا كرّرت تلك الجملة للتأكيد كما كرّر التوجه إلى القبلة في الآيات السابقة لأجل إزالة ما سبق و إثبات قبلة أخرى.

و يستفاد من قوله تعالى: أَنْ يَتَراجَعا أنّه لا بد من رضاء الطرفين في الرجوع و لا يتحقق ذلك إلاّ بعقد جديد جامع للشرائط كما عرفت آنفا بخلاف الرجوع في الطلاق الأول أو الثاني فقد عبّر سبحانه و تعالى بالرد و قال:

وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ و في السنة المقدسة و كلمات الفقهاء عبّر بالرجوع و هو عبارة أخرى عن الرد.

ثم إنّه ربما يستدل بقوله تعالى: حَتّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ على صحة استقلالها في النكاح من دون مراجعة الوليّ لأنّه أضاف النكاح إلى نفسها فقط.

و هذا صحيح بالنسبة إلى البالغة الرشيدة الكاملة، و أما بالنسبة إلى غيرها فالدّليل لا يشملها، و إنّ التمسك بالآية المباركة فيها من التمسك بالدليل في الموضوع المشكوك و هو باطل عند الجميع و قد فصلنا البحث في الفقه و من شاء فليراجع النكاح من المهذب.

ص: 38

بحث روائي

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «المرأة التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره ؟ قال (عليه السلام): هي التي تطلق ثم تراجع ثم تطلق ثم تراجع ثم تطلق الثالثة فهي التي لا تحل لزوجها حتى تنكح زوجا غيره و يذوق عسيلتها».

و في الكافي أيضا: «في الرجل يطلق امرأته الطلاق الذي لا تحل له حتّى تنكح زوجا غيره ثم تتزوج رجلا و لم يدخل بها قال (عليه السلام) «لا حتّى يذوق عسيلتها».

أقول: العسيلة تصغير العسلة: و هي القطعة من العسل شبه لذة الجماع بذوق العسل،

و في الحديث «إذا أراد اللّه بعبد خيرا عسّله في الناس» أي طيّب ثناءه فيهم.

و احتمل بعض اعتبار الإنزال فيه مضافا إلى لذة الجماع لكنّه مردود بالأصل و الإطلاق كما ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

و في الدر المنثور عن البزار و الطبراني و البيهقي «أنّ امرأة رفاعة أتت النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و قالت: «كنت عند رفاعة فبتّ طلاقي فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير و ما معه إلاّ مثل هدبة الثوب فتبسّم النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و قال لها: لعلّك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ؟ لا، حتّى تذوقي

ص: 39

عسيلته و يذوق عسيلتك».

أقول: إنّما صغره إشارة إلى القدر القليل أو المسمّى الذي يحصل به الحل.

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «أنّه سئل عن رجل طلّق امرأته طلاقا لا تحلّ له حتّى تنكح زوجا غيره و تزوجها رجل متعة أ يحل له أن ينكحها؟ قال (عليه السلام): لا، حتّى يدخل في مثل ما خرجت منه».

أقول: الروايات في أن المتعة لا توجب التحليل كثيرة تعرضنا لبعضها في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام).

و في التهذيب عن محمد بن مضارب قال: «سألت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) عن الخصيّ يحلّل ؟ قال (عليه السلام): لا يحلّل».

أقول: هذا في الخصيّ الذي لا يقدر على الجماع كما هو الغالب و أما إذا قدر فتشمله العمومات و الإطلاقات.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام): «بيّن سبحانه و تعالى حكم التطليقة الثالثة فقال تعالى: فَإِنْ طَلَّقَها يعني التطليقة الثالثة».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا قال: «في الطلاق الأول و الثاني».

أقول: لو فرض هذا من كلام المعصوم فلا بد فيه من التأويل أو الحمل و الا فالإشكال فيه ظاهر.

ص: 40

سورة البقرة الآية 231-232

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا .......

اشارة

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231) وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) الآيات المباركة تبيّن أحكاما أخرى في الطلاق فذكر سبحانه و تعالى أنّه يجب معاملة النساء المطلّقات معاملة متعارفة و حسن المعاشرة معهنّ و أرشد الإنسان إلى أنّ مصلحته الايتمار بأوامر اللّه و الانتهاء عن نواهيه و الا كان ظالما لنفسه. و نهاه عن الإضرار و الاعتداء. و توعّد على من يتخذ آيات اللّه هزوا و أمره بالتقوى.

ثم نهى الأولياء و غيرهم عن منع المرأة المطلقة عدوانا و سخطا أن تنكح زوجا ثانيا بعد انتهاء العدة إن هي رغبت و تراضى الزوجان بالمعروف.

و حذرهم عن مخالفة أحكامه و أرشدهم إلى أنّهم لا يعلمون إلا أن يعلّمهم اللّه تعالى.

ص: 41

التفسير

231 - قوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ .

المراد ببلوغ الأجل: الإشراف على تمامية العدّة، لأنّه لو كان المراد انقضاؤها و تمامها فلا موضوع للإمساك و التسريح حينئذ.

و البلوغ كما يستعمل في الغاية يستعمل أيضا في الإشراف عليها و الاقتراب منها.

و المعروف: من العرف و هو ما استحسنه العقل و لم يردع عنه الشرع فيشمل الفطريات و المحسنات العقلية و بناء العقلاء فإنّ جميعها حسن و معروف و إن كان الفرق بينها بالاعتبار، و الشرع حاكم و مسلّط عليها جميعا فإنّه يتمّمها.

و قد اهتم الشارع بالمعروف و العرف كما يستفاد ذلك من مجموع هذه الآيات المباركة و غيرها. و قد أسس الفقهاء قاعدة «أنّ كلّ ما لم يرد من الشرع في موضوع من الموضوعات تحديد خاص يرجع إلى العرف في تعيينه» و مصاديق هذه القاعدة كثيرة على ما هي مفصّلة في الفقه.

و المعنى: و إذا طلّقتم النّساء و أشرفن على الوصول إلى آخر عدّتهنّ فإما

ص: 42

إمساك المرأة بالرجوع إليها أو تركهنّ على حالهنّ حتى تنقضي عدتهنّ كلّ ذلك بمعروف في معاملتها من النفقة و المهر من دون إضرار بهنّ في شيء من ذلك.

قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا .

تأكيد لما سبق، و نهي عن الرجوع بقصد الإضرار أي: و لا تراجعوهن تريدون بذلك إضرارهنّ و إيذائهنّ لتعتدوا عليهنّ بالاستيلاء على أموالهنّ و غيره كما كان يفعل في الجاهلية.

و الضّرار: مصدر إما نائب عن المفعول المطلق أي: لا تمسكوهنّ إمساكا أو مفعول لأجله و هو الأصح.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

بيان لوجه حكمة النّهي أي: و من يمسك بقصد الإضرار فقد أوقع نفسه في الهلاك و التعب و الغضب الإلهي بمعصية اللّه و خرج عن جادة الصواب و انحرف عن الفطرة الإنسانية، بل حرّم على نفسه سعادة الحياة. و الرجوع بالمعروف رجوع إلى تلك السعادة فإنّه وصل و اجتماع بعد الفصل و الانقطاع.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً .

مادة (الهزء) تأتي بمعنى الخفة و الاستخفاف و الاستهزاء، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن و غالبها من المخلوق بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و بالنسبة إلى أنبيائه و رسله قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر - 11]، و قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف - 7]، و قال تعالى: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام - 10]، و كذا بالنسبة إلى آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة قال تعالى: وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً [الكهف - 56]، و قال جلّ شأنه في شأن أهل النار: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية - 35]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً [المائدة - 57]، و قد كرر ذلك في القرآن بأساليب مختلفة تسلية لأهل الحق و إرشادا لهم بأن لا يتأثروا من استهزاء أهل الباطل، و هذا من شعب الصراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم جدّا بل يستفاد من أدلة كثيرة أنّ الدنيا لا تقوم إلا بهذا الصراع، و لا يختص بالإنسان بل المضادة و المعاندة موجودة في جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها لكنّها خفية لا يمكن دركها إلا لبعض النفوس المستعدة و قد كشف العلم الحديث عن بعض جوانبها في موارد مخصوصة.

ص: 43

مادة (الهزء) تأتي بمعنى الخفة و الاستخفاف و الاستهزاء، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن و غالبها من المخلوق بالنسبة إلى اللّه عزّ و جل و بالنسبة إلى أنبيائه و رسله قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الحجر - 11]، و قال تعالى: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الزخرف - 7]، و قال تعالى: وَ لَقَدِ اُسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ [الأنعام - 10]، و كذا بالنسبة إلى آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة قال تعالى: وَ اِتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً [الكهف - 56]، و قال جلّ شأنه في شأن أهل النار: ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اِتَّخَذْتُمْ آياتِ اَللّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [الجاثية - 35]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً [المائدة - 57]، و قد كرر ذلك في القرآن بأساليب مختلفة تسلية لأهل الحق و إرشادا لهم بأن لا يتأثروا من استهزاء أهل الباطل، و هذا من شعب الصراع بين الحق و الباطل الذي هو قديم جدّا بل يستفاد من أدلة كثيرة أنّ الدنيا لا تقوم إلا بهذا الصراع، و لا يختص بالإنسان بل المضادة و المعاندة موجودة في جميع الموجودات بجواهرها و أعراضها لكنّها خفية لا يمكن دركها إلا لبعض النفوس المستعدة و قد كشف العلم الحديث عن بعض جوانبها في موارد مخصوصة.

و أما المجردات فلا يتحقق التضاد و الصراع بينها لأنّه لا معنى للتجرد عن المادة إلا ذلك و الا لزم الخلف.

و المعنى: لا تتهاونوا بحدود اللّه و أحكامه فتتركوا العمل بها فإنّ فيها صلاحكم و رشدكم، فاللّه تعالى لم يشرع حدوده و أحكامه و معارفه إلا على مصالح عامة و حكم نوعية و الأخذ بها يصلح النوع و الاجتماع و يوصل الإنسان إلى الكمال المعدّ له و تتم له سعادة الحياة، و يستقيم بها نظام الاجتماع و الخليقة.

و الاستهزاء بحدود اللّه تعالى و آياته يتحقق بعدم العمل بها أو التعدّي عليها أو الاقتصار على ظواهرها و نبذ غيرها، فإنّ جميع ذلك من مظاهر الاستهزاء و التهاون.

و في الآية المباركة تهديد أكيد و وعيد شديد لمن يتعدّى حدود اللّه تعالى و فيها ردع عن العادات التي كانت متبعة عند نزول الآية الشريفة بشأن طلاق النساء و التزويج بهنّ .

ثم إنّ حذف الهمزة في كلمة هُزُواً أولى، لثقلها

و قد ورد في الحديث عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) «لو لا أنزل جبرئيل القرآن بالهمزة ما همزنا أهل البيت» أي ما نطقنا أهل البيت بالهمزة و قد وضع الأدباء بابا مستقلا لتخفيف الهمزة و جعلوا ذلك من المحسّنات و هو حسن ما لم يكن دليل على الخلاف.

ص: 44

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

المراد بالنعمة: نعمة الرحمة و الألفة و المودة التي بين الزوجين و ما شرع بالنسبة إلى الحياة الزوجية، أو نعمة الدّين، أو المعارف و الأحكام، أو مطلق النعم الإلهية التكوينية و التشريعية التي أعدت في سبيل كمال الإنسان و سعادته.

و في الآية الشريفة حث على العمل بالأحكام و تذكير لهم بالنعم التي لا بد لهم أن يؤدوا شكرها بالإيمان و العمل الصالح و الايتمار بأوامره جلت عظمته و الانتهاء عن نواهيه.

قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ .

مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان و المنع عن التعدّي و هي ملازمة في الجملة للعقل النظري و العملي.

و قد اختلف العلماء في معناها:

فقيل: إنّها عبارة عن العلم بحقائق الموجودات بقدر الطاقة الإنسانية و هي بهذا المعنى ترادف الفلسفة.

و قيل: إنّها عبارة عن صيرورة الإنسان عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني.

و قيل: إنّها الأسفار الأربعة النفسانية التي جعلها بعض الأكابر مفتتح كتابه القيم.

و قيل: إنّها العالم الأكبر،

كما نسب إلى عليّ (عليه السلام):

أ تزعم أنّك جرم صغير * و فيك انطوى العالم الأكبر إلى غير ذلك مما ورد في معناها، و يمكن إرجاع الجميع إلى معنى واحد.

و لكن المستفاد من الآيات الشريفة التي ذكر فيها هذا اللفظ أنّها معرفة

ص: 45

ظاهر الشريعة و باطنها و المعارف العالية من التوحيد و النبوة و الأخلاق الفاضلة، و معرفة المصالح و الحكم المبتنى عليها دين اللّه عزّ و جل فإنّ بها تصفو النفوس و تصل إلى الكمال المطلوب و تتصف بالأخلاق الفاضلة.

و بعبارة أخرى: هي معرفة الصراط المستقيم من جهة التكوين و التشريع كما جعله اللّه تعالى و العمل بما عرف.

و لها أهمية عظمى في كمال النفس بل هي الكمال بعينها، و قد اعتنى بها عزّ و جل اعتناء بليغا في القرآن الكريم و جعلها من الخير الكثير فقال تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة - 269]، و ذكرها في مقابل الكتاب في جملة كثيرة من الآيات منها المقام و يأتي في الموضع المناسب شرحها شرحا وافيا إن شاء اللّه تعالى.

و مادة (وعظ) من المواد الكثيرة الاستعمال في الكتاب الكريم و السنة المقدّسة، و نسب إلى الخليل أنّه التذكير بالخير و نحوه مما يرق له القلب.

و العظة و الموعظة اسمان.

و عن آخر أنّه زجر مقترن بتخويف، و تستعمل بالنسبة إلى اللّه تعالى و الأنبياء و غيرهم

و في الدعاء: «اللهم إنّي أعوذ بك أن تجعلني عظة لغيري» أي موعظة لغيري بأن يتعظ بي.

و المعنى: اذكروا نعم اللّه عليكم و ما أنزل من الأحكام و حدودها الظاهرية و الباطنية و المعارف الحقة التي لم ينزلها إلا للصلاح و السعادة و بيّنها بلسان الوعظ و الإرشاد بما هو خير لكم فلا تتوانوا في العمل بها و لا تعرضوا عنها، فإنّ الإعراض عنها إعراض عن الكمال الذي أعدّه اللّه لكم و السعادة التي أرادها منكم.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

في شرعه بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه لا سيما تلك الأحكام التي شرعها في النساء و ما يوجب التآلف و السكون بين الزوجين و ما بينه في أمر الطلاق.

ص: 46

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

بيان لعلة الحكم السابق أي: و ليكن عملكم و تقواكم عن توجه بأنّ اللّه عليم بكلّ شيء لا تخفى عليه أعمالكم و يجازيكم على ذلك فإنّ من علم بأنّ اللّه كذلك وجب عليه بحكم العقل أن يتقيه و يعمل بما أنزله، فيوافق بين ظاهره و باطنه و لا يخالف بينهما.

و هذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على لزوم مراقبة اللّه تعالى في العمل و حسن النية و الإخلاص له، و تطابق الظاهر مع الباطن.

و هذه الآية تفيد معنى زائدا على نفس العلم و هو أنّه تعالى حاضر مراقب و كذا جميع الآيات المباركة التي وقعت هذه الجملة فيها بعد الأمر بالتقوى، مع أنّ الرقيب من أسمائه الحسنى و هو يرجع إلى ما هو عين الذات لأنّه من شؤون علمه عزّ و جل بل لنا أن نقول إنّ مبدأ الخلق و مبدأ التشريع الذي هو المحاسب و المجازي لا بد أن يكون رقيبا بكلّ معنى الكلمة بعد فرض حضوره لدى الأشياء و حضورها عنده تعالى و الا لزم الخلف و هو باطل.

فالأسماء الحسنى المتفرعة عن علمه الأتمّ الأكمل و اللازمة للذات باللزوم العقلي كثيرة تجمعها لفظ «اللّه» الذي هو اسم للذات الجامع لجميع الكمالات الواقعية و الإدراكية المنفي عنه جميع النقائص الواقعية و الإدراكية.

فتكون جميع الأسماء المباركة منطوية في هذا اللفظ الجليل المبارك انطواء الفرد في الكلّ . فالوحدة حاصلة في هذا المقام و في الواقع بالعين و الحقيقة و لا أقول بوحدة الصنف و النوع، و لا بوحدة الشعاع و الشمس، و لا بوحدة القطرة و البحر، لجلالة ذلك المقام الأقدس عن كلّ ذلك. و إن كان التشبيه يقرب من جهة و يبعد من جهات بل الوحدة الحقة الحقيقية التي هي إسقاط جميع الإضافات و انقهارها في القهارية المطلقة التي لا حد لها من كل جهة، و يشير إلى ذلك

ما نسب إلى عليّ بن الحسين (عليهما السلام) في دعائه: «إلهي كيف تخفى و أنت الظاهر أم كيف تغيب و أنت الرقيب الحاضر» و سيأتي شرح ذلك في المستقبل إن شاء اللّه تعالى.

ص: 47

232 - قوله تعالى: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ .

مادة (عضل) تأتي بمعنى الشدة و الضيق و الحبس و المنع، فهي بمنزلة الجنس لهذه الأنواع و تستعمل في الجميع، فتكون من متحد المعنى لوجود الجنس القريب بين جميع الأنواع و لا يعتبر في الجامع القريب أن يكون معلوما من جميع الجهات بل يكفي صحة الانطباق على الأنواع المستعمل فيها اللفظ عرفا، و ربما يكون هذا سببا في تعدد الموضوع له في جملة كثيرة مما حكم أهل اللغة بالتعدد فيها.

و كيف كان، فإنّ هذه المادة لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موردين كلاهما بالنسبة إلى النساء أحدهما المقام. و الثاني قوله تعالى: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ [النساء - 14]، و المعروف كما تقدم هو ما تعارف بين الناس و لم ينه عنه الشرع، و هو مما يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و العادات.

و المراد بالبلوغ: الانتهاء من العدة و الخروج منها، فإنّها ما دامت في العدة لم يكن لأحد عليها ولاية و سلطة إلا لبعولتهنّ فإنّهم أحق بردهنّ .

و الخطاب عام لكلّ من كان له علقة بزواج المرأة و يرجع فيه إليه سواء كان وليّا شرعيّا أم غيره فيشمل كلّ عاضل.

كما أنّ المراد من أزواجهنّ مطلق الأزواج الأعم من الزوج الأول قبل الطلاق و غيره باعتبار أنّ في المستقبل يكون زوجا إذا تحقق التراضي بين الزوجين بالمعروف.

و يمكن تعميم المعروف بما هو المتعارف شرعا، فيشمل جميع الشرائط الشرعية بالدلالة المطابقيّة.

و الآية تدل على نهي من بيده أمر الزوجة و يرجع في الزواج بها إليه عن منع المرأة من الزواج بأيّ رجل شاءت عدوانا و عنادا.

ص: 48

كما أنّها تردع عن عادة سيئة كانت في الجاهلية حيث يتحكم الرجال في تزويج النساء بمحض إرادتهم فقط و ربما يمنعن من التزويج بعد الطلاق لجاجا و عنادا و قد نهى سبحانه و تعالى عن هذه العادة.

قوله تعالى: ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

التفات من خطاب الجمع إلى خطاب المفرد لأنّ الخطاب المشتمل على الأحكام موجه إلى الجميع ثم وجّه الخطاب إلى شخص الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لأنّه واسطة الفيض و المخاطب من غير واسطة و لكن غيره مخاطب بواسطته.

و المعنى: ذلك الذي تقدم من الأحكام و المواعظ يوعظ بها من كان مؤمنا باللّه و اليوم الآخر فإنّهم يتقبلون تلك الأحكام و يعملون بها طاعة للّه تعالى و رجاء لمثوبته، و هم الذين تنفعهم المواعظ و يقفون عند حدود اللّه و لا يتجاوزونها.

و التقييد بالإيمان باللّه و اليوم الآخر لأجل أنّهما يدعوان إلى نبذ كل اختلاف و افتراق فإنّ دين اللّه هو دين التوحيد، و تشريف للمؤمنين و قد مرّ في قوله تعالى: وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اَللّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [البقرة - 228]، ما يتعلق بالمقام فإنّ الموردين واحد.

قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ .

التفات من خطاب المفرد إلى خطاب الجمع لبيان كثرة الاهتمام بالمراد و تصريحا بالتعميم و إعلاما بالفضل العظيم.

و أصل الزكاة النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى و هذا اللفظ أعم من التنمية المعنوية و الجسمانية لأنّ العمل بالأحكام الإلهيّة كما ينمّي المعنويات كذلك يفعل بالجسمانيات.

و المشار إليه باسم الإشارة: الحكم السابق و هو النّهي عن العضل.

أي: أنّ هذا الحكم كغيره من أحكام اللّه تعالى يوجب نمو الكمالات الإنسانية

ص: 49

و العمل بها يوصل العبد إلى الكمال المطلق و يفاض عليه من المولى ما لا يمكن دركه بالحواس الظاهرة. و أنّها أطهر لنفوس المؤمنين من الرذائل و تحليتها بالفضائل و الكمالات. ففي المقام إنّ الحكم السابق و الارتداع عن منع الزوجة من نكاح الزوج إرجاع إلى الوصل بعد الفصل و يزيد كمالات النفس و تتربّى على الملكات الفاضلة كالحياء و العفة و تتحفظ عن الوقوع في الحرام.

فالآية المباركة تبيّن بعض الحكم و المصالح في هذه الأحكام، و هي ترشد الإنسان إلى أنّ المهمّ هو طهارة النّفس و العمل بالأحكام الشرعية من طرق تحصيلها، و قد اهتم الإسلام بتطهير الروح و النفس.

و المستفاد من مجموع الآيات الشريفة: أنّه الغاية المتوخاة من تشريع الأحكام الإلهية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

أي: أنّكم لا تعلمون الأحكام و مصالحها و حكمها إلا ما يعلّمكم اللّه تعالى، و هذه قضية عقلية أثبتها محققوا الفلاسفة قديما و حديثا من أنّ العلم بالحقائق المستورة عن الحواس الظاهرية لا يحصل إلا لمن كان منزّها عن المادة و الماديات، و اللّه تبارك و تعالى فوق ما نتعقله من التنزه عنها، فيكون علمه بالحقائق تاما و لا بد أن يكون كذلك لأنّ علمه عين ذاته و ذاته لا تدرك فعلمه أيضا كذلك.

و أما عدم علم من سواه بشيء الا ما يعلّمه اللّه بواسطة أنبيائه فلفرض تعلق النفس بالمادة و هو مانع عن العلم بالحقائق و بقدر تجرد النفس عنها تنكشف لها الحقائق قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [البقرة - 282]، فما هو الدائر بين الناس لا يكون إلا من كشف الظواهر بالظواهر كما هو معلوم.

ص: 50

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من تكرار المعروف في هذه الآيات و غيرها اعتبار العرف و حجيته عند الشارع إلا إذا ورد الرّدع عنه في مورد مخصوص، و قد ذكرنا أنّه يرجع إلى حكم العقل بحسن شيء أو قبحه، فيشمل بناء العقلاء أيضا بل يظهر منها أنّ الأحكام الشرعية مبتنية على العرفيات ما لم يحدها الشارع بحد معيّن.

الثاني: أنّ إرجاع أولياء الأمور في النكاح و الطلاق إلى المعروف فيه كمال العناية بمراعاة ما تعارف عليه أهل كلّ واحد من الزوجين و إرشاد إلى حسن الاجتماع و التآلف، فإنّ النكاح و الطلاق من الأمور الاجتماعية فلا بد أن يرجع فيما يرتبط بهما إلى الاجتماع و العرف فلا يستبد أحدهما بأمر ينكره العرف و الاجتماع.

الثالث: يدل قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا أنّ من أضرّ بالغير يستلزم رجوع الضّرر عليه فيكون هو المتضرّر الوحيد بقرينة كلمة ضِراراً و يؤكد ذلك قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ .

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ أنّ

ص: 51

الإعراض عما أنزله اللّه تعالى و عدم الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه يكون ظلما على نفس المكلّف حيث حملها على الانحراف عن السعادة و الصراط المستقيم و ما أعده اللّه تعالى له من الكمال فهو بين اثنين القلق و الاضطراب و الذل في الدنيا، و التعرّض لسخط اللّه تعالى في العقبى، فلا تختص هذه الحكمة بالمقام بل تشمل جميع التكاليف الشرعية و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

الخامس: يدل قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اَللّهِ هُزُواً على وجوب احترام حدود اللّه تعالى و أحكامه. و حرمة التهاون بها و التواني في العمل بها و الإيراد عليها لأنّه يعدّ استهزاء بأحكامه المقدّسة التي شرعها لمصالح العباد.

ص: 52

الاخلاقي، و ذكرنا أنّها تعتبر التقوى هي الوسط في جميع الفضائل و هي المدينة الفاضلة التي وعد بها الأنبياء و المرسلون.

و التقوى: عبارة عن جعل النفس في وقاية مما يخاف و يحذر، فيتحد الفاعل و القابل ذاتا و يختلفان اعتبارا. و لها درجات لا تتناهى و في بعض الدّرجات يصل العبد إلى مرتبة تجلّي الحق تعالى في مشاعر العبد و قواه و ذلك التجلّي يبقى و يدوم و لا يفنى و إن تبدلت العوالم و تغيرت.

أ أمنع عن ذاك الحمى و هو موطني ؟! *** أ ابعد عن جيرانه و هم إلفي ؟!

و سيأتي في الموضع المناسب من الآيات المباركة بقية الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ بعد تشريع الأحكام و بيان الحدود الإلهية الاهتمام بالباطن و حسن النية و الاعتناء بتوافق الظاهر مع الباطن فإنّ حسن الظاهر إن لم يكن من حسن الباطن لا اعتبار به بل هو نفاق مذموم و اجتراء على اللّه تعالى و هدم للباطن، و الأحكام الإلهية و المعارف الربوبية إنّما نزلت لتكميل النفوس و تحسينها فإنّ الآية الشريفة ترشد إلى مراقبة النفس.

التاسع: ربما يقال إنّ قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ يدل على عدم صحة العقد إلا بإجازة الوليّ .

و لكنّه مردود فإنّ الخطاب لم يكن مختصّا بالأولياء فقط و النّهي إرشادي إلى ما يترتب من المصالح و المنافع فالآية أجنبية عمّا ذكروه بل إنّها ترشد إلى قاعدة السلطنة فقد أثبتت الولاية للمرأة في تزويج نفسها إذا تراضيا بالمعروف و نهي من له علقة بها أن يعضلها عن ذلك.

العاشر: يدل قوله تعالى: ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ على بعض مصالح تشريع الأحكام الإلهية فإنّها شرّعت لتطهير النفوس عن رذائل الأخلاق و تنمية الملكات الفاضلة.

الحادي عشر: يستفاد من هذه الآيات و ما في سياقها علم النفس

ص: 53

بالحقائق كما هي عليها في الواقع. و قد ذكر أكابر الفلاسفة أنّه من ثمرات تجرد النفس، و لكن ذكرنا أنّ ذلك لا كليّة فيه، و تقدم أنّ العلم بحقائق الموجودات مطلقا من الغيب الذي يختص به جلّ جلاله أو من يفاض عليه من عنده عزّ و جل بل إنّ إفاضة جميع العلوم لا بد أن تنتهي إليه، فيصح نفي العلم عن غيره عزّ و جل بقول مطلق و يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

الثاني عشر: قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ مشتمل على الحكم و علته و الأول عبارة عن الأمر بالتقوى التي هي إتيان الواجبات و ترك المحرّمات.

و الثاني: هو أنّ الحاكم بذلك عالم بكلّ شيء من الجزئيات و الكليات و يجازي على ذلك، و من كان هكذا وجب بحكم العقل أن يتّقى، فتقوى اللّه واجبة إما لذلك، أو لأنّ دفع الضرر الأخروي واجب عقلا.

و من هذه الآية الشريفة بقرينة غيرها من الآيات نستفيد قاعدة جليلة و هي: أنّ كلّ ما يصدر من الذات المقدسة التي لا تناهي في أيّ جهة من جهاتها بالنسبة إلى جميع مخلوقاته فضلا عن أجلّها لا يكون إلا عن علم و حكمة و خبرة و لطف و رحمة و بصيرة، و إحاطة بالجزئيات حدوثها و بقائها و فنائها و ما تصير إليه بعد الفناء و صورها و تبدلها، و أطوار الوجود و تغييراتها - فهو تعالى عليم حكيم خبير بصير لطيف رقيب يعلم جميع الموجودات من ذرة التراب إلى أشرف فرد من ذوي العقول و الألباب علما إحاطيا، قال تعالى:

أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ [الملك - 14]، و علمه بما سواه لا يقبل التغيير و التبديل لأنّه عين الذات و هو غير متناه أيضا فهو قبل الجعل و مع الجعل و بعده و مع التغيير و التبديل و ما يصير إليه كلّ ذلك في عرض واحد بالنسبة إلى علمه الفعلي و السبق و اللحوق و التقدم و التأخر إنّما هو في المعلوم بالعرض في سلسلة الزمان لا في العلم و لا في المعلوم بالذات. و لا تتصوّر الكلية و الجزئية في هذا النحو من العلم المختص به جلّت عظمته و إنّ إطلاقهما عليه باعتبار المعلوم بالعرض لا في مرتبة ذات العلم و لا المعلوم

ص: 54

بالذات بالنسبة إليه عزّ و جلّ . و ستأتي تتمة الكلام في علمه عزّ و جلّ إن شاء اللّه تعالى، و إن كان مثل هذا البحث عميقا جدا.

ما زلت أنزل من صفاتك منزلا *** تتحيّر الألباب عند نزوله

فتصير صرعى عند قرب حلوله فبأيّ وجه حام حول نزوله

ص: 55

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قال: الرجل يطلّق حتى إذا كاد أن يخلو أجلها راجعها، ثم طلّقها ثم راجعها يفعل ذلك ثلاث مرات فنهى اللّه عنه».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا قال (عليه السلام): «إذا طلّقها لم يجز له أن يرجعها إن لم يردها».

أقول: يدل على أنّ المراجعة لا أثر لها ما لم تكن عن إرادة جدية.

و في الفقيه عن الحسن بن زياد عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثم يراجعها و ليس له فيها حاجة ثم يطلّقها، فهذا الضّرار الذي نهى اللّه عنه إلا أن يطلّق ثم يراجع و هو ينوي الإمساك».

أقول: هذا معنى الضّرار بأن يراجع تلاعبا بها من دون إرادة جدية للمراجعة كما مر.

و في تفسير العياشي عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «من قرأ القرآن من هذه الأمة ثم دخل النار فهو ممن كان يتخذ آيات اللّه هزوا».

أقول: تدل الرواية الشريفة على أنّ قراءة القرآن من دون العمل استهزاء و استخفاف بالقرآن و في سياقها روايات كثيرة أخرى منها

قول نبينا الأعظم (صلّى

ص: 56

اللّه عليه و آله): «ربّ تال القرآن و القرآن يلعنه».

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ : «نزلت في معقل بن يسار قال: كنت زوجت أختا لي من رجل فطلّقها حتّى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها فقلت له:

زوجتك و أفرشتك و أكرمتك فطلّقتها ثم جئت تخطبها لا و اللّه لا تعود إليها أبدا قال:

و كان رجلا لا بأس به و كانت المرأة تريد أن ترجع إليه فأنزل اللّه عزّ و جل هذه الآية فقلت الآن أفعل يا رسول اللّه فزوجتها إياه».

أقول: قريب من ذلك في البخاري و السنن الكبرى للبيهقي.

و في الدر المنثور و أسباب النزول عن السدي قال: «نزلت في جابر بن عبد اللّه الأنصاري كانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة فانقضت عدتها ثم رجع يريد رجعتها فأبى جابر و قال: طلّقت ابنة عمنا ثم تريد أن تنكحها [الثانية]؟! و كانت المرأة تريد زوجها فقد رضيت به فنزلت الآية».

أقول: لا بأس بتعدد منشإ النزول، و إنّ الآية الشريفة في مقام بيان الكبرى الكلية - تعدد منشأ نزولها أولا - و هذه الروايات لا تدل على ثبوت الولاية لمن ذكر فيها بوجه و ذكرنا في تفسير الآية أنّها أجنبية عن الولاية المدّعاة في المقام و إنّما تدل على الترغيب إلى الايتلاف بينهما بأي وجه أمكن شرعا.

ص: 57

سورة البقرة الآية 233

وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُ.......

اشارة

وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) الآية الشريفة تقرر أمرا من الأمور التكوينية الاجتماعية بأسلوب بليغ مشعر بالعطف و الحنان و الألفة، و هو تنشئة الأولاد بالرضاع و الحضانة و التربية، فأمر تعالى الوالدين بالقيام بشؤون الأولاد و العناية بهم، كما أمر الوالدات بارضاعهم مع التراضي و التوافق بينهما كل ذلك مع لحاظ المعاشرة بالمعروف التي أمرنا بها في الآيات السابقة فإنّ هذه الحياة متقومة بهما فلا بد من التعاون بينهما لانقاذها من المشكلات و الصعاب و جلب السعادة لهما و صلاح الأولاد الناشئين في حضانتهما.

ثم أمر بالتقوى لأنّها الغاية من كل تكليف و ارشاد و لا تحصل الا بمراقبة النفس و ما ورد في هذه الآية الشريفة يعترف به العقل السليم و الطبع المستقيم الذي نزل به الوحي المبين على قلب سيد المرسلين.

ص: 58

التفسير

233 - قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ .

مادة (رضع) تأتي بمعنى شرب اللّبن من الثّدي. و الرضاع من صفات الأنثى كالحائض، و الحامل، فإذا أريد الصفة يقال مرضع و إذا أريد الفعل يقال مرضعة قال تعالى: يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ [الحج - 2]، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ [القصص - 12].

و مادة (حول) تأتي بمعنى التغير و التبدل و الانفصال، و بهذا الاعتبار يقال: حال فلان بيني و بينك. قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ [الأنفال - 24]، و قال تعالى: وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ [سبأ - 54]، و قال تعالى: وَ حالَ بَيْنَهُمَا اَلْمَوْجُ فَكانَ مِنَ اَلْمُغْرَقِينَ [هود - 43].

و التغير و التبدل إما بالذات، أو بالصفات، أو بالإضافات، و يمكن أن يجتمع في الزمان جميع ذلك، لأنّه متغيّر بالذات، و كذا بالصفات و الإضافات.

و المراد بالحولين الكاملين: أربعة و عشرون شهرا، فلا يكفي الحول و بعض الحول لما ورد في الآية المباركة من التحديد و التوصيف.

و الآية إخبار عن سنّة من سنن الطبيعة الجارية في النظام الأحسن حفظا للنوع، لأنّ شفقة الأم على الولد و اهتمامها بحفظه من حين الولادة إلى أن

ص: 59

يستقل الولد، و عطفها عليه بحيث لا تدخر عنه شيئا، و تبذل النفس و النفيس له و تقاسي في سبيله، فقرّر سبحانه و تعالى هذا القانون الطبيعي التكويني في التشريع السّماوي.

و يستفاد من هذا الخطاب الحنان و الرأفة و كمال العناية بتربية الأولاد فقدم تعالى الوالدات، لكثرة علاقتهنّ و عنايتهنّ بالأولاد.

و ذكر سبحانه و تعالى الولد حتّى يشمل الذكر و الأنثى من دون فرق بينهم خلاف ما كان شايعا في عصر نزول الآية الشريفة ثم جعل الوالدة في كفالة الوالد.

و يختص الحكم في الآية المباركة بالوالد و الوالدة و الولد و إنّما عدل سبحانه عن الأمهات إلى الوالدات، لأنّ الأخيرة تشعر بالعناية الشديدة و تشتمل على الحكمة أيضا فإنّ الولد يولد من الوالدة و يكون بمنزلة الثمرة لها.

قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ .

يستفاد منه أنّ التحديد المذكور غالبي فإن اقتضت المصلحة عدم البلوغ إلى آخر المدة كان لهما ذلك، فإنّ الأمر موكول إلى الوالدين بلا فرق في ذلك بين الوالدة المطلّقة و غير المطلّقة، و لكن يستفاد من الآية المباركة أنّ الرضاعة من حق الوالدة، و لا يمكن أن يستبد الوالد بالأمر من دون موافقتها، و يدل عليه ذيل الآية الشريفة.

و إنّما عدل سبحانه و تعالى من خطاب الإناث إلى خطاب الذكور لأجل أنّ الحضانة و الرضاعة لا تتمان إلا بموافقة الوالد و تقريره، لأنّه الركن الأساسي في المجتمع الزوجي.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

أي: كلاهما مسئولان تجاه هذا الرضيع، و إنّما عدل سبحانه من الوالد إلى المولود له لاشتمال الأخير على الحكمة أيضا، فإنّ الولد ملحق بالوالد و بعض منه، فعليه كفالته و القيام بمصالحة و منها النفقة على الوالدة و كسوتهنّ

ص: 60

لقيامهنّ بحفظ الولد و رعايته و قد تحملن مشقة الحمل و الرضاع فلا بد من رعايتهنّ و الإنفاق عليهنّ و كسوتهنّ بحسب المعروف و اللائق بحال الوالدين، و المتعارف يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الغنى و الفقر و العادة.

و هذه الآية شارحة لقوله تعالى: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ و إنّما الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل.

قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاّ وُسْعَها .

تأكيد لما سبق من الأحكام أي: لا تكلّف نفس إلا ما تتسع قدرتها و تقدر على تحمله، و قد شرح سبحانه ذلك في آية أخرى، قال تعالى:

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمّا آتاهُ اَللّهُ لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اَللّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً [الطلاق - 7]، و هذا التعليل عام يشمل جميع التكاليف الإلهية قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [البقرة - 185]، فالتكاليف الإلهيّة بأقسامها إنّما تتنجز في حدود طاقة الإنسان و لا تتجاوزها، و في سياق ذلك جملة من الآيات المباركة و الأخبار المتواترة

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في كلمته المباركة:

«بعثت بالشريعة السهلة السمحاء».

قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ .

تفريع على الحكم السابق. و الضرر مقابل النفع، و المضارة الضّرار من الجانبين. و الكلمة مجزومة ب لا، الناهية، و حركت آخر الكلمة بالفتحة لمشاكلتها للحرف الذي قبلها و ذلك لرفع التقاء الساكنين.

و قرئ بالرفع و لا يوجب ذلك اختلافا في المعنى، و هو النّهي الإلزامي.

و المعنى: إنّه يحرم إضرار كلّ واحد من الزوجين الآخر في ولده فلا يستغل الوالد عواطف الأم و حنانها على ولدها الرضيع بإضرارها في منعها عن إرضاع الولد مع قدرتها و مكنتها أو حرمانها من الحضانة أو رؤيته، أو التضييق عليها برضاعه بلا مقابل أو الامتناع عن إعطائها الولد و سائر أنحاء المضارة. كما

ص: 61

لا تستغل هي عطف الوالد بإضراره في منعه عن الاستمتاع بها أو طلب النفقة منه فوق وسعه أو تمنع الوالد من المعاشرة مع ولده و نحو ذلك، و مع الاختلاف لا بد من التراضي و الرجوع إلى العشرة بالمعروف.

و إنّما وضع سبحانه الظاهر موضع الضمير فقال تعالى: وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ لبيان أنّ الولد لهما و متكوّن منهما معا فلا بد من مراعاة الجانبين له فإنّه كما يحتاج إلى الرضاع و الحضانة يحتاج إلى التربية و الرعاية من الوالد و الإنفاق عليه و هذا أمر تكويني قرّر في ظاهر الشرع أيضا.

أو لأجل بيان أنّ الولادة تضاف إلى الجانبين فيقال ولد الأب و ولد الأم فهما في النسبة سواء، فلا بد من ملاحظة كلّ منهما الولد و الاهتمام به.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ .

المراد بالوارث: ورثة كلّ واحد من الأب و الأم لو مات أحدهما تنتقل المسؤولية و التكفل إلى وارثه فلا يضار الوارث الطرف الآخر، فإذا ماتت الأم لا يضار وارث الأم الوالد بسبب الولد و لو مات الوالد فوارثه هو المكلّف في البذل على الأم بالمعروف و الحسنى حتى لا يضيع شأن الطفل و تنهار مصلحته، ففي الجميع لا بد من الإصلاح و المعاشرة بالمعروف، فإنّ فيه النجاة و الفلاح، و قد وردت روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) تدل على ما ذكرنا. و قيل في تفسير الآية الشريفة وجوه أخرى مذكورة في كتب الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما .

الفصال: هنا: بمعنى فصل الصّبيّ عن الرضاع أي الفطام، و الفطيم أي المفطوم يقع على الذكر و الأنثى فلهذا لم تلحقه الهاء.

و التشاور: استخراج الرأي بمراجعة البعض مع البعض و منه المشورة و الشورى و مثله المفاوضة في الكلام لظهور الحق، و قد حبذ الإسلام التشاور

ص: 62

و الاجتماع على المشورة، و يأتي في قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [آل عمران - 159]، ما يتعلّق بالمشورة.

و المعنى: إذا أراد الوالد و المرضعة أو الوارث و الوالدة أن يفطما الرضيع عن الرضاع قبل استيفاء الحولين عن مراضاة بينهما و تشاور في مصلحة الرضيع الموكول إليهما رعايته و عدم الإضرار به فلا بأس في ذلك لأنّ الحقّ لا يعدوهما و إنّ الحد المذكور للرضاع ليس من الواجبات التي لا تقبل التغيير و التبديل.

و التحديد إنّما كان لمصلحة الولد فإذا كانت تقتضي الفطام قبل ذلك أو كانت المصلحة تقتضي أن يكون الفصل و الفطام بعد الحولين فلا بأس بذلك إذا تراضيا عليه و كان صلاح الطفل في ذلك.

و إنّما قيّد سبحانه الحكم بالتشاور بعد التراضي لبيان أنّه لا بد من مراعاة صلاح الولد الواجب عليهما حمايته و رعايته لا مجرّد تراضيهما مراعاة لرغبتهما و أهوائهما، و يستفاد منه الترغيب إلى المشورة أيضا في الأمور و نبذ الاستبداد فيها.

قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ .

تفريع على الحكم السابق من أنّ الحق لهما فإذا أراد الوالد أن يسترضع لولده من ترضعه فلا بأس به إذا سلّم لها الأجرة تسليما بالمعروف بحيث لا تكون الإجارة مزاحمة لحق الوالدة، و لا أن تكون الأجرة مجحفة، و بها يكون الضمان لتربية الطفل و رعايته أشد إن كان إرضاع غير الأم في مصلحة الولد أو غير ذلك مما يجب أن يكون معروفا غير مزاحم لحق أحد من الأطراف.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

أمر بالتقوى بعد تشريع تلك الأحكام و ربط العمل بها بالتقوى لبيان أنّ المهم هو الإخلاص في النية و توافق الظاهر مع الباطن لأنّه العالم بما تعملون، و قد تقدم تفسير ذلك.

ص: 63

و البصير من الأسماء الحسنى و يرجع إلى علمه أي لا يخفى عليه المبصرات، و يستفاد منه الحضور العلمي في الجزئيات فضلا عن الكليات.

و قد ذكرنا أيضا أنّ جملة وَ اِعْلَمُوا أدعى للعمل لأنّه حينئذ يشتد قبح التقصير مع العلم، و سيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بتكرار هذا التعبير في الآية المباركة المتقدمة مع الاختلاف في الصفة.

ص: 64

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ يرشد - كما ذكرنا - إلى أمر طبيعي، و هو رضاع الأم ولدها نظرا إلى شفقة الأم و لطفها و حنانها، و احتياج الطفل إلى عناية تامة قد لا تتوفر في غير الأم، و أما الوجوب فلا يمكن استفادته من الجملة الخبرية فإنّها إنّما تدل على الوجوب إذا كانت في مقام الإنشاء و لم تكن قرينة على الخلاف، و هي موجودة في المقام، كما عرفت.

الثاني: أنّ الآية الشريفة ترشد إلى أهمية لبن الأم و أولويته بالنسبة إلى غيره و ترغّب الأم في إرضاع ولدها لما فيه من الأثر الكبير في جسم الطفل و أخلاقه و صحته و نشأته بل و جميع صفاته النفسية و العقلية و أثبتت التجارب العصرية و العلوم الصحية و النفسية أنّ رضاع الام في فترة الحولين ضروري لنمو الطفل نموّا سليما، و لا يقوم مقامه غيره فهو الغذاء الذي لا يقابله غيره له، و هذه قرينة أخرى على عدم دلالة الجملة على الوجوب، فيجوز لغير الأم إرضاع الولد إن كان في إرضاع الأم موانع خلقية أو خلقية أو لجهات أخرى.

الثالث: يدل قوله تعالى: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ على أنّ المعتبر هو أربعة و عشرون شهرا فلا يصدق الحولان على الحول الواحد و بعض من الحول

ص: 65

الثاني، و يمكن حمله على التأكيد فإنّ الطفل في هذه المدة أحوج منه في غيرها إلى العناية و الرعاية و قد ذكر علماء الطب و التربية أنّ الغذاء في هذه المدّة يعين مصير الطفل من حيث صحته و سقمه و صفاته النفسية و الخلقية، و قد كشف القرآن بهذه الكلمة الوجيزة عن كلّ ما وصل العلم إليه بعد جهدهم الأكيد في قرون، فعلى المسلمين أن يرجعوا إلى دينهم فإنّه تعرض إلى كلّ ما يرشدهم إلى الهداية و الصلاح و السعادة في الدنيا و الآخرة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ اَلرَّضاعَةَ أنّ المدة المذكورة إنّما هي لمصلحة الطفل فإذا اقتضت أن تكون الرضاعة أقل منها فلا بأس به و أوكل ذلك إلى اجتهاد الوالدين، و لهذا عدل عن خطاب الأم إلى خطاب الذكور لبيان أنّها لا بد من الرجوع إلى الوالد في تقرير مصير الطفل في أمر الرضاع و الفطام، و هذا مما يؤكده قوله تعالى: فَإِنْ أَرادا فِصالاً في ذيل الآية الشريفة.

الخامس: ذكر بعض المفسرين أنّ قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ يدل على أنّ الوالدات إنّما ولدن للآباء فقط، و لذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات، و استشهد بقول القائل:

و إنّما أمهات الناس أوعية *** مستودعات و للآباء أبناء

و المناقشة في ما ذكره واضحة، فإنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الولد لوالديه فهو بمنزلة الثمرة لهما، و إنّما يرجع فيه إلى الاعتبارات، و ما عليه المجتمع الإنساني، و هو يختلف باختلاف الأمم، كما هو واضح.

و إنّما عبّر سبحانه بالمولود له لبيان الحكمة في الحكم و إثارة العاطفة و الحنان فيه، فما ذكره المستدل مخالف لصريح الآية الشريفة و إنّما هو عادة جاهلية قد أبطلها الإسلام.

السادس: يدل قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ على أنّ إضرار كلّ واحد من الوالدين بالآخر موجب للإضرار بالولد، و يؤثر ذلك في تربيته و نشأته و صحته و نفسيته. و النهي عام يشمل جميع أقسام الإضرار.

ص: 66

السابع: إطلاق قوله سبحانه و تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ يشمل جميع الورثة فإنّه يحرّم الإضرار مطلقا من أيّ شخص كان وارث الوالد أو وارث الوالدة أو وارث الولد و إن كان المنصرف من الآية المباركة وارث الوالدين.

الثامن: إنّما عبّر سبحانه و تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لأنّه ورد في المقام أحكام كثيرة مرتبطة بالوالد و الوالدة و الولد و لذلك عقبها بعلمه الإحاطي بالجزئيات و علمه يستلزم حكمه بما هو الصّلاح.

و أما الآية السابقة فقد ورد فيها: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ و هي تشتمل على مصالح العباد و سبل هدايتهم و سعادتهم فعقبها بقوله تعالى:

وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ ليشعروا بأهمية الإنعام و غزارة الفيض.

ص: 67

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ اَلْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ قال (عليه السلام): «ما دام الولد في الرّضاع فهو بين الأبوين بالسوية فإذا فطم فالأب أحقّ به من الأم فإذا مات الأب فالأم أحق به من العصبة و إن وجد الأب من يرضعه بأربعة دراهم، و قالت الأم: لا أرضعه إلا بخمسة دراهم فإنّ له أن ينزعه منها إلا أنّ ذلك أخير له و أقدم و أرفق به أن يترك مع أمه».

أقول: يستفاد من هذه الرواية أفضلية لبن الأم من لبن غيرها.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا تجبر الحرة على إرضاع الولد و تجبر أم الولد».

أقول: أما عدم إجبار الحرة فلعدم ثبوت حق له عليها في هذه الجهة، و الآية الشريفة إنّما تبيّن حكم المرأة لا حكم الرجل. نعم، لو اقتضت المصلحة الوجوب تجبر على الإرضاع بإذن الحاكم لأنّه حينئذ من موارد الأمر بالمعروف.

و أما إجبار المملوكة فلفرض كونها و لبنها ملكا للوالد.

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال (عليه السلام): «كانت امرأة منا ترفع يدها إلى زوجها إذا أراد مجامعتها تقول: لا أدعك أنا أخاف أن أحمل على ولدي، و يقول الرجل لا أجامعك إنّي أخاف أن تعلقي فأقتل ولدي فنهى اللّه عزّ

ص: 68

و جل أن تضارّ المرأة الرجل و أن يضارّ الرجل المرأة».

أقول: هذا بيان بعض مصاديق الإضرار و الآية المباركة عامة لجميع أنحاء الإضرار.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ قال الصادق (عليه السلام): «الجماع».

أقول: تقدم ما يتعلق به لو كان مضرّا.

و فيه أيضا عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ قال (عليه السلام): «هو في النفقة على الوارث مثل ما على الوالد».

أقول: الآية الشريفة عامة، و ما ورد في هذه الرواية بيان بعض المصاديق.

و في تفسير العياشي أيضا في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عن الصادق (عليه السلام): «لا ينبغي للوارث أن يضارّ المرأة فيقول: لا أدع ولدها يأتيها و يضارّ ولدها إن كان لهم عنده شيء فلا ينبغي له أن يقتر عليه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

في الكافي في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ ، عن الصادق (عليه السلام): «نهى أن يضارّ بالصبيّ أو يضارّ أمه في رضاعه و ليس لها أن تأخذ في رضاعه فوق حولين كاملين فإن أرادا فصالا عن تراض منهما و تشاور قبل ذلك كان حسنا و الفصال: هو الفطام».

أقول: هذا بيان لبعض المصاديق و الآية المباركة عامة شاملة للجميع.

في الدر المنثور عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لا يتم بعد حلم، و لا رضاع بعد فطام، و لا صمت يوم إلى الليل، و لا وصال في الصيام، و لا نذر في معصية، و لا نفقة في معصية، و لا يمين في قطيعة رحم، و لا تعرّب بعد الهجرة، و لا هجرة بعد الفتح، و لا

ص: 69

يمين لزوجة مع زوج، و لا يمين لولد مع والد، و لا يمين لمملوك مع سيده، و لا طلاق قبل نكاح، و لا عتق قبل ملك».

أقول: المراد من

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): لا رضاع بعد فصال أي:

بعد فطام، و هو بعد الحولين، كما يدل عليه

ما رواه حماد في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا رضاع بعد فطام قلت له: جعلت فداك و ما الفطام ؟ قال (عليه السلام): الحولان اللذان قال اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: هذا بحسب الحكم الأولي، و أما العناوين الثانوية فقد توجب الرضاع و لو كان بعد الفطام.

ص: 70

سورة البقرة الآية 234-235

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُ.......

اشارة

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى جملة من أحكام الطلاق و ما يتبعه كالعدة بيّن هنا حكم المتوفى عنها زوجها و عدتها و بعض ما يتعلّق بها حين العدة مثل خطبتها في أثنائها أو بعدها و أنّ مدّة عدتها أربعة أشهر و عشرا و بذلك يرفع توهم اتحاد عدّة الوفاة و الطلاق.

و يضع حدّا لما كان عليه أهل الجاهلية في المتوفّى عنها زوجها التي كانت تلقى العنت و المشقة الكثيرة.

و هو حكم اجتماعي أدبيّ يحفظ به نظام الأسرة بعد فقد قيّمها و اهتماما بحقوق الزوجية بأسلوب رفيع يخفف لوعة المصاب.

ثم بيّن سبحانه و تعالى كيفية المعاشرة و التحدث مع المعتدّة بعدة الوفاة و اعتبر أن يكون الكلام معها بالتعريض مشتملا على المعروف و الحشمة.

ص: 71

التفسير

234 - قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً .

مادة (و في) تأتي بمعنى التمام و الإتمام في جميع استعمالاتها الكثيرة في القرآن الكريم، و الوفاة هي تمام مدة الحياة قال تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها [الآية - 42]، أي يتم قضاؤه عليها في الحياة أو الموت و قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [النجم - 37]، أي أتم عهد اللّه عليه بالكمال، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة - 1]، أي أتموها، و قال تعالى: وَ أَوْفُوا اَلْكَيْلَ وَ اَلْمِيزانَ [الأنعام - 152]، أي أتمّوهما و لا تنقصوا منهما شيئا.

و قد استعملت في القرآن بهيئات مختلفة متفاوتة

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في ليلة المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت» أي تمّت و طالت.

و يذرون أي: يتركون و الفعل مضارع ليس له ماض من لفظه و إنّ ماضيه ترك - بالفتحات الثلاث -. و تقدم في قوله تعالى: يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة - 228]، ما يتعلّق بهذه العبارة الفصيحة.

و المعنى: و الذين يتمّون مدة حياتهم و يموتون و يتركون زوجات يجب

ص: 72

عليهنّ الانتظار و حبس أنفسهنّ من الازدواج و الزينة و غيرهما مدة أربعة أشهر و عشرا، و المراد بالعشر الأيام مع لياليها، و حذفت لدلالة السياق عليه، لأنّ المراد اتصال هذا المقدار من الزمان، كما في أصل العدة مطلقا.

قوله تعالى: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ .

أي: إذا أتممن عدّتهنّ فلهنّ الاختيار و لا سبيل لأحد عليهنّ ، فلا إثم عليهنّ في أن يخترن الأزواج و يفعلن ما وجب عليهنّ تركه في أثناء العدة، فيجوز لهنّ استعمال الزينة بما هو المتعارف بالنسبة إليهنّ و لا يستنكر من أمثالهنّ و كذا التعرض للخطبة، و الخروج من البيوت فإنّ جميع ذلك جائز لهنّ بالمعروف و الاستقامة و العفة.

و في قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إبطال للعادات السيئة التي كانت المتوفى عنها زوجها تعانيها من أهلها و قرابة الزوج بل من المجتمع الجاهلي، كما أنّ فيه إشعارا بإلزام الأقارب بعدم التدخل في شؤون الزوجات.

و الحداد: عبارة عن إظهار الحزن على فقد عزيز بعلامات خاصة و هو من الأمور الاجتماعية التي لا تخلو عنه أمة من الأمم و التي تتفاوت في هذه العادة فبعض الأمم تشرك الذكور و الإناث فيها في حين أنّ امة أخرى تخص هذه العادات بالإناث، كما أنّ مدّة الحداد لم تكن متساوية لدى الجميع، و قد اختلطت بكثير من الأوهام و الخرافات حتّى أنّ بعض الأمم كانت تقضي بإحراق الزوجة الحية، أو دفنها مع الزوج و هي حية، أو الاغتراب من بلد الزوج، أو عدم تزويجها إلى آخر العمر، أو سنة واحدة، أو تسعة أشهر، أو من دون مدة معينة، و هذه العادات و إن كانت قاسية في بعض الحالات و يشمئز منها الضمير الإنساني إلا أنّ أصل الحداد في الجملة أمر يقبله الطبع لأنّه يرجع إلى حفظ حقوق الزوجية و احترام مشاعر أسرة البيت و رعاية الحب الذي كان متبادلا بين الزوجين.

فهو معنى قائم بالطرفين إلا أنّه آكد في الزوجة و ألزم، فالحداد من تلك

ص: 73

الأمور الاجتماعية التي يجتمع فيه الجانب الأخلاقي و الأدبي، و يحفظ فيه حق الحاضر و المتوفّى لكن بشرط خلوه عن العادات السيئة و الأوهام و الخرافات و لا يتحقق ذلك إلا بالرجوع إلى الوحي السماوي و الشرايع الإلهية.

و قد قبله الإسلام و عيّن له مدة محدودة و هي أربعة أشهر و عشرا و ألزم المرأة ترك الزواج و الزينة، و الخروج عن المنزل فيها إلا في موارد يدعو الإلزام و الضرورة إليها.

و لعلّ الحكمة في اعتبار هذه المدة المعينة ظاهرة فإنّ ثلاثة أشهر منها العدة الغالبية التي تجب في كلّ فراق سواء كان اختياريا - كالطلاق - أو قهريّا كالموت و الأربعون الاخرى هي مدة الحداد على الميت و احترامه كما هو المعتاد في كلّ ميت، و قد تقدم في قوله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة - 226]، بعض الكلام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .

أي: و اللّه عليم بالأعمال رقيب عليها، و هو مطلع عليكم اطلاع ذي الخبرة بالنسبة إلى ما يكون خبيرا فيه إلا أنّه خبير بما يؤدي إليه الظاهر، و اللّه جل شأنه خبير بالباطن و الحقيقة و السرائر.

و قد ختمت الآية المباركة بهذا الخطاب اهتماما بالموضوع لأنّ الغريزة الجنسية داعية لكل فساد إلا إذا أمسك زمامها بما يرتضيه الرحمن فإنّه الخبير بالحقائق و الأعمال و عالم بالمصالح فيحكم وفق المصلحة فيجب إطاعته و يحرم مخالفته.

235 - قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ .

مادة (جنح) تأتي بمعنى الإثم المائل عن الحق، و استعير لفظ الجناح لكلّ إثم و معنى وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ : لا إثم عليكم و قد استعمل هذا اللفظ

ص: 74

في مواضع كثيرة من القرآن الكريم تقدم بعضها و يأتي الآخر منها.

و (التعريض): قسم من الكناية التي هي أبلغ من التصريح و لكنّه خلافها فالكلام إما ظاهر في المعنى المقصود، أو صريح فيه، أو تعريض به، و الجميع معتبر في المحاورات العرفية و يترتب الأثر عند المتعارف فقول: إنّي أريد أن أنكحك، صريح في المطلوب. و قول: إنّي أريد معاشرتك - مثلا - ظاهر فيه. و قول: كم راغب فيك تعريض، ففي التعريض يكون المعنى المقصود غير ما عرّض به كالمثال الأخير، و في الكناية لا يقصد من اللفظ غير المكنى عنه.

و الخطبة - بكسر الخاء - من الخطب و المخاطبة. و التخاطب بمعنى المراجعة في الكلام، و تستعمل في طلب المرأة للنكاح من هذه الجهة و يصح استعمالها في الحالة الخاصة الكلامية مطلقا، و الفارق القرائن الخاصة، فيقال: خطب الخطيب على المنبر كما يقال خطب المرأة بمهر كذا إلا أنّ في الخطبة - بالضم - يأتي الخطيب و في الخطبة - بالكسر - يأتي الخاطب.

و الإكنان من الكن - بالكسر - و هو ما يحفظ به الشيء، قال تعالى:

كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ [الصافات - 49]، و قال تعالى: كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [الطور - 24]، و ما يستر في النفس يسمّى كنّا أيضا، قال تعالى: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل - 74].

و المعنى: لا إثم على الرجل في التعريض بخطبة المرأة المتوفّى عنها زوجها أي: بالإشارة التي تفيد المرأة أنّ الرجل يريدها زوجة له أو يخفي في نفسه الرغبة في الزّواج بها و لا يظهرها إلا بعد انتهاء العدة.

و ظاهر الآية الشريفة و إن كان يشمل جميع المعتدات لكن سياقها يدل على اختصاصها بعدة الوفاة.

قوله تعالى: عَلِمَ اَللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ .

بيان للسبب في الحكم السابق أي: أنّ ذكركم لهنّ أمر غريزي قهري

ص: 75

و اللّه تعالى أصلح هذا الأمر الفطري بما هو صلاح لكم فإنّ الشرايع الإلهية تراعي الميول الفطرية و لا تحطمها و إنّما تضبطها و تهذبها حتى تستقيم معها الحياة السعيدة الصالحة للبشرية، فرخص لكم التعريض بهنّ و إخفاء الرغبة في نكاحهنّ دون ذكرهنّ باللسان حفظا للآداب و صونا لجرح المشاعر لأنّ الدين دين الفطرة.

قوله تعالى: وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا .

السر معروف و هو مقابل الإعلان أو الجهر قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ [النحل - 23]، و إنّه من صفات ذات الإضافة و له مراتب كثيرة حتّى إنّه يمكن أن يكون شيء واحد سرّا من جهة و جهرا من جهة أخرى.

و هو عام يشمل الجماع و الزواج، و قيل: إنّ المراد به الجماع و استشهد بقول امرئ القيس:

ألا زعمت بسباسة اليوم أنّني *** كبرت و أن لا يشهد السر أمثالي

و قول الأعشى:

و لا تقربن جارة إنّ سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

و لكن تقدم مرارا أنّ غالب هذه الإطلاقات، بل جميعها من باب اشتباه المصداق بالمفهوم و ليس من متكثر المعنى في شيء.

و المعنى: لا تواعدوهنّ على الزواج أو الرّفث و ما يرجع إليهما وعدا صريحا في السّر، فإنّ ذلك خلاف الحشمة، و مظنة للفتنة بخلاف التعريض بالخطبة فإنّه لا بأس به.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً .

أي: إلاّ أن يكون ما وعدتموهنّ في السّر موافقا للمعروف و الحياء و الحشمة و الأدب بحيث لو كان ذلك في العلن لما كان فيه عيب و لا يستحيى منه.

ص: 76

و الآية المباركة بمجموعها تدل على كيفية المعاشرة مع المرأة المعتدة بعدة الوفاة و التحدث معها في أمر الزواج فاعتبر الشارع أن يكون التحدث معها موافقا مع الحشمة و الحياء و لا ينافي الآداب العامة و يخدشها، فرخص التعريض و كريم الخطاب، فإنّ المرأة في هذه الحالة لم تكن مسلوبة الحقوق و الأحكام سوى أنّها تعمل ببعض الواجبات احتراما للزوج المتوفّى.

و في الآية الشريفة رد لعادات كانت سائدة في عصر النزول من منع التحدث معهنّ و اعتباره من الأمور المستهجنة جدّا لا سيّما إذا كان في أمر الزواج. و من المؤسف جدّا أنّ بعض تلك العادات السيئة الجاهلية متبعة عند بعض المجتمعات الإسلامية، و لا بد من الرجوع إلى تعاليم الإسلام فإنّ فيها الهداية و السعادة.

و هذه الآية و ما بعدها قرينة على أنّ موردها هو المعتدات بعدة الوفاة لا مطلق العدة فتكون اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ للعهد دون جنس العدة، كما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ .

العزم و العزيمة بمعنى عقد القلب على إمضاء الشيء و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ [آل عمران - 159]، و قال تعالى: إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [لقمان - 17]، و قال تعالى: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا اَلْعَزْمِ مِنَ اَلرُّسُلِ [الأحقاف - 35]، أي الذين لهم قدم ثابت و راسخ في هذا المقام الذي تزل فيه الأقدام حتّى من الأنبياء العظام.

و في السنة المقدسة: «خير الأمور عوازمها» أي ما وكدت نفسك عليه في مرضاة اللّه تعالى.

و العقدة من العقد بمعنى الشدّ و هما و العهد بمعنى واحد، و في الآية استعارة بليغة حيث شبه عقد النّكاح بالعقدة التي يعقد بها أحد الحبلين بالآخر، و جعلها أمرا قلبيا لبيان أنّ هذه الأمور من الاعتبارات العقلائية التي يقوم عليها نظام المجتمع.

ص: 77

و المعنى: لا توقعوا عقد النكاح بالإرادة الجدية بحيث يترتب عليه الأثر حتى تنقضي مدّة العدة، فمن أوجد العقد عليها في العدة مع العلم بها يكون العقد باطلا و تحرم عليه المرأة أبدا كما فصل في السنة المقدسة.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ .

ربط بين ما شرعه سبحانه و تعالى و الخشية منه لأنّه العالم بالسرائر و تأكيد بليغ لسوق الناس إلى إتيان أوامره جلّت عظمته و التحذير عن مخالفته.

و إنّما ذكر تعالى: وَ اِعْلَمُوا لأنّه آكد في الترغيب و التحذير و يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ إحاطته الفعلية بضمائر القلوب و سرائرها، و لبيان أنّ مخالفته تعالى فيما ذكر في الآية الشريفة و ارتكابه من المهلكات، و لكن باب التوبة في جميع الخطايا مفتوح و لذا عقبه ب:

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

ترغيب في التوبة و الرجوع إليه تعالى و أنّه لا يعجّل بالعقوبة.

و «حليم» من أسماء اللّه الحسنى و جميع أسمائه المقدّسة حسنى و التوصيف إضافي لا أن يكون حقيقيا.

و هو بمعنى عدم العجلة في عقوبة العصاة. كما أنّ «صابر» من أسمائه الحسنى يرجع إليه أيضا، و قد علّل ذلك في بعض الآثار «و إنّما يعجل من يخاف الفوت، و إنّما يحتاج إلى الظلم الضعيف و قد تعاليت عن ذلك علوّا كبيرا». و هذا مطابق للأدلة العقلية فإنّ قهاريته على جميع ما سواه، و حكمته المتعالية على الإطلاق كيف يعقل فيهما العجلة، فيصح أن يجعل الحليم من شؤون حكمته تعالى فيرجع معناه إلى الحكيم بتوسعة في معناه في الجملة، فيكون الإمهال و ترك التعجيل على الأخذ بالمعاصي من شؤون العلم و الحكمة علما إحاطيا مطلقا بما مضى و ما يأتي، و حكمته بالغة يراعى فيها كليات الأمور و جزئياتها.

ثم إنّ الغفور من الأسماء الحسنى الذي لم يرد في القرآن الكريم إلا مقرونا باسم آخر كالرّحيم و الحليم و نحو ذلك، كما مرّ في آية (226) ما يرتبط بالمقام.

ص: 78

بحث أدبي

الفاعل للوفاة في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ هو اللّه تعالى أي: و الذين يأخذهم اللّه تعالى وافين و يستوفون مدة حياتهم.

وَ اَلَّذِينَ مرفوع بالابتداء و جملة: يَتَرَبَّصْنَ خبره و جملة: يُتَوَفَّوْنَ صلة و جملة: يَذَرُونَ عطف عليها.

ثم إنّه إذا جعلنا المبتدأ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ و الخبر جملة:

يَتَرَبَّصْنَ تكون المطابقة بين المبتدإ و الخبر خفية و قد قيل في ذلك وجوه منها ما قاله الكسائي و الأخفش أنّ الرابط بينهما هو الضمير العائد إلى الأزواج الذي هو من متعلّقات المبتدإ.

و هذا من الموارد التي لا بد من التكلف فيها لتطابق قول النحويين.

و الصحيح أن يقال: إنّه يراعى في الأخبار صحة المعنى سواء تطابق المبتدأ و الخبر أم لا، و المعنى في المقام واضح و جلي بل المستفاد من هذه الجملة الاتحاد بين الزوجين و كمال التقارب بينهما بحيث يعدان في نظر الإسلام واحدا، و تدل عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة - 187].

و يَذَرُونَ مثل (يدعون) لفظا و معنى، و لا ماضي لهما من مادتهما و ماضيهما (ترك).

ص: 79

و اللام في قوله تعالى: مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ للعهد دون الجنس كما تقدم.

ص: 80

بحث روائي

في التهذيب عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «كلّ النكاح إذا مات الزوج فعلى المرأة حرة كانت أو أمة أو على أي وجه كان النكاح منه متعة أو تزويجا أو ملك يمين فالعدة أربعة أشهر و عشرا».

أقول: يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة أيضا.

في تفسير العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً جئن النساء يخاصمن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و قلن لا نصبر فقال لهن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): كانت إحداكن إذا مات زوجها أخذت بعرة فألقتها خلفها في دويرها في خدرها ثم قعدت فإذا كان مثل ذلك اليوم من الحول أخذتها ففتتتها ثم اكتحلت بها ثم تزوجت فوضع اللّه تعالى عنكنّ ثمانية أشهر».

أقول: لعل ترك ذكر عشرة أيام أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان في مقام بيان تعداد الشهور لا مطلق زمان العدة.

في الكافي عن محمد بن سليمان عن أبي جعفر الثاني (عليه السلام) قال: «قلت له: جعلت فداك كيف صارت عدة المطلقة ثلاث حيض أو ثلاثة أشهر، و عدّة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر و عشرا؟ فقال (عليه السلام): أما عدة المطلقة ثلاثة قروء فلاستبراء الرحم من الولد. و أما عدة المتوفّى عنها

ص: 81

زوجها فإنّ اللّه عزّ و جلّ شرط للنساء شرطا و شرط عليهنّ شرطا فلم يجابهن فيما شرط لهنّ و لم يجر فيما اشترط عليهنّ . شرط لهنّ في الإيلاء أربعة أشهر إذ يقول اللّه عزّ و جلّ : «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ» فلم يجوّز لأحد أكثر من أربعة أشهر في الإيلاء لعلمه تبارك و تعالى أنّه غاية صبر المرأة من الرجل. و أما ما شرط عليهنّ فإنّه أمرها أن تعتدّ إذا مات زوجها أربعة أشهر و عشرا فأخذ منها له عند موته ما أخذ منه لها في حياته عند الإيلاء قال اللّه تعالى: «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً» و لم يذكر العشرة الأيام في العدّة إلا مع الأربعة أشهر و علم أنّ غاية صبر المرأة الأربعة أشهر في ترك الجماع فمن ثم أوجبه عليها و لها».

أقول: روي قريب من ذلك في تفسير العياشي و غيره عن الباقر و الرضا (عليهما السلام) و ما ورد فيها من بيان وجه الحكمة في تشريع هذه العدة و تقدم في التفسير ما يتعلّق بها أيضا.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ اَلنِّساءِ - الآية - قال (عليه السلام):

«المرأة في عدّتها تقول لها قولا جميلا ترغبها في نفسك، و لا تقول: إنّي أصنع كذ، أو أصنع كذا القبيح من الأمر في البضع و كلّ أمر قبيح».

أقول: ما ذكره (عليه السلام) مقتضى الأدب المعاشري أيضا.

و في رواية أخرى: «تقول لها و هي في عدّتها: يا هذه لا أحب إلا ما أسرّك و لو قد مضى عدّتك لا تفوتيني إن شاء اللّه و لا تستبقي بنفسك و هذا كلّه من غير أن يعزموا عقدة النكاح».

و في الكافي عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً قال (عليه السلام):

«هو الرجل يقول للمرأة قبل أن تنقضي عدّتها أوعدك بيت آل فلان ؟ ليعرّض لها بالخطبة، و يعني بقوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً : التعريض بالخطبة و لا يعزم عقدة النكاح حتّى يبلغ الكتاب أجله».

أقول: روي قريب من ذلك في عدة روايات.

ص: 82

سورة البقرة الآية 236-237

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَ.......

اشارة

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ (236) وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أقسام الطلاق و عدته و بعض أحكامه بيّن في هاتين الآيتين حكم الطلاق قبل الدخول فذكر ما يجب على الزوج في هذه الحالة من العطاء إلى الزوجة المطلقة إن لم يفرض لها مهرا معينا و طلّقها قبل المس و المباشرة و لهذه العطية أثرها النفسي في المرأة التي انفصمت عنها عقدة الحياة الزوجية و ذاقت ألم الفراق و مرارة العتاب كما حفظ تعالى استطاعة الزوج فيها فعلى الغني بقدر غناه و على الفقير حسب ما يستطيع.

و لو فرض لها مهرا فيجب عليه دفع نصفه إن طلّقها قبل المس إلا إذا عفى الولي أو عفت الزوجة عن بعض المهر و أرشد الإنسان إلى توخي المودة و الإحسان، و اختتمها بمراقبة اللّه تعالى و أنّه مطلع على النيات لتبقى القلوب نقية خالصة موصولة به جلّ شأنه فيتم الترهيب و الترغيب.

ص: 83

التفسير

236 - قوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً .

المس و المسيس هو اللمس يكنّى به عن المباشرة الجنسية و غشيان النساء بالقرائن الخارجية.

و الفريضة: المهر لأنّه يقطع من مال الزوج للزوجة. و فرض الفريضة تسمية المهر و تقديره تفصيلا أو إجمالا.

و المراد ب لا جُناحَ رفع المنع و المسؤولية في كلّ من الموردين أي:

عدم المس، و عدم ذكر الصداق و المهر فإنّهما لا يمنعان عن صحة الطلاق، و لا يجب على الزوج شيء.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين المباركتين و غيرهما كما في قوله تعالى: وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً [النّساء - 4]، و ما ورد في السنة أقساما أربعة:

الأول: أن يكون الطلاق قبل المباشرة و غشيان النساء و قد فرض المهر،

ص: 84

فتستحق المرأة نصف المهر المسمّى.

الثاني: أن يكون الطلاق قبل الدخول و لم يسم لها مهرا في عقد النكاح فيجب عليه أن يمتعها على الموسع قدره و على المقتر قدره.

الثالث: أن يكون الطلاق بعد المس و بعد التسمية فتستحق المرأة المهر المسمّى.

الرابع: أن يكون الطلاق بعد المس و لم يسم المهر في عقد النكاح فيجب عليه مهر المثل.

و لكلّ واحد من هذه الأقسام أحكام خاصة مذكورة في كتب الفقه مأخوذة من الكتاب الكريم و السنة المقدّسة الشارحة.

قوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ .

الموسع اسم فاعل، و يراد به من كان في سعة، و المقتر خلافه أي من يكون في ضيق. و أصل القتر: قلة النفقة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان - 67]، و قال تعالى:

وَ كانَ اَلْإِنْسانُ قَتُوراً [الإسراء - 100]، و هو يدل على أنّ البخل مما جبل عليه الإنسان فيكون مثل قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ [النساء - 128].

و القتر - بالتحريك -: سوء الحال، قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ [عبس - 41].

و المتعة و المتاع: ما يتمتع به أي ينتفع به، و التمتيع: هو إعطاء المتعة.

و القدر - بفتح الدال و سكونها - قدر الطاقة و الإمكان.

و المعنى: يجب على الأزواج أن يمتعوا المطلّقات - اللّواتي لم يفرض لهنّ فريضة و لم يدخل بهنّ - شيئا بحسب حال الزوج في الغنى و الفقر.

و يستفاد من سياق الآية المباركة أنّ المتعة من الحقوق التي تستحقها المرأة على الرجل بحسب حاله، و يشهد له الاعتبار أيضا كما مر، و لكنّ

ص: 85

الكلام في أنّها من الحقوق الواجبة التي يلزم على الرجل وفاؤها أو أنّها من الحقوق المجاملية الأدبية ؟ ظاهر الآية الشريفة هو الأول لظاهر الأمر.

و هذه الآية الشريفة و الآية التالية تشتركان في أنّ الطلاق فيها قبل المس و الغشيان و إنّما تفترقان في أنّ الآية التالية قد فرض لها فريضة فيجب إخراج نصف المهر، و في الأولى لم يفرض لها فريضة فيجب إعطاء المتعة لها و هي غير مهر المثل و إنّما جعلت لها المتعة تطييبا لنفسها و جلبا لخاطرها.

و إنّما كرّر سبحانه و تعالى كلمة قَدَرُهُ لبيان أنّ الموسع يلاحظ قدر وسعه و لا ينقص عن ذلك، و المقتر أيضا يلاحظ حاله و لا يزيد على ذلك و لو لم تكن مكررة لما أفاد هذه الفائدة.

قوله تعالى: مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ .

متاعا مفعول مطلق، لقوله تعالى: وَ مَتِّعُوهُنَّ و هو إما بمعنى ما يتمتع به أو بمعنى التمتيع.

و قيل: إنّه حال من قَدَرُهُ . و قيل: إنّه تأكيد لمتعوهنّ و الجميع يرجع إلى معنى واحد.

و حقا صفة للمتاع. و المعروف: ما تعارف عليه الناس على اختلاف طبقاتهم و حالاتهم.

و المعنى: إنّ المتعة هي حق واجب على من يريد الإحسان، أو إنّها من الإحسان الذي يرغب إليه المحسنون، و هذه قرينة أخرى على أنّها من الحقوق الإلزامية كما سيأتي في البحث الرّوائي.

و إنّما ذكر المحسنين تعظيما لشأنهم و ترغيبا إلى الإحسان، و تحريضا للناس على أن يدخلوا في زمرة المحسنين، كما في سائر الخطابات التي تكون في هذا السياق، كقوله تعالى: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ .

و الحسن عبارة عن كل مرغوب إليه - بأي قوة من القوى النفسانية ظاهرية كانت أو باطنية - و تتصف به جميع الأشياء من الجواهر و الأعراض بل

ص: 86

جميع الاعتباريات، و هو و الإحسان بمعناهما الأعم من المعاني التي تدرك و لا توصف كما هو كذلك في جملة كثيرة من المعاني.

و من فسره ببعض المعاني الخاصة فهو من باب التطبيق لا التخصيص و ليس للحسن حد معيّن إلا أنّه محدود بما لم ينه عنه الشرع، و هو من الصفات الإضافية فربّ حسن عند قوم لا يكون حسنا عند آخرين و ما ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة من الترغيب إلى الإحسان و الحسنة إنّما يراد بهما ما هو المتعارف. و المحسن من أسماء اللّه الحسنى و أما الحسن - بفتحتين - فلم أجد استعماله فيه تعالى منفردا نعم ورد في المأثورات «يا حسن التجاوز».

237 - قوله تعالى: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ .

بيان للقسم الأول من الأقسام المتقدمة، و فيه تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أي: و إن وقع الطلاق قبل الدخول بهنّ و قد فرض لهنّ المهر فلهنّ نصف المفروض.

و تدل الآية المباركة على أنّ نصف المهر حق ثابت لهنّ يجب إعطاؤه، و النصف الثاني يرجع إلى ملك الزوج، و ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ مجرد العقد مقتض لثبوت المهر في الجملة.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَعْفُونَ .

أي: إلا أن تعفو المطلّقات عن النصف كلاّ أو بعضا و حق الإسقاط و العفو إنّما يكون للمرأة البالغة الرشيدة جائزة التصرف في أموالها بلا فرق بين أن يكون العفو منهنّ مباشرة أومن وكيلهنّ في العفو فقط أو المأذون له في كلّ تصرّف.

و العفو: أعم من الإبراء و الهبة، فيكون كالتنازل من الإنسان الراضي.

و يعفون في موضع نصب ب إِنْ ، و هو مبني لاتصاله بضمير جماعة المؤنث.

ص: 87

قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ .

أي: أو يعفو وليّ الزوجة الصغيرة الذي جعل اللّه في يده عقدة النكاح، و الولي هو الأب أو الجد للأب أو الأخ القائم على أمرها و تدل على ذلك جملة من الروايات.

و قيل: إنّ المراد به الزوج أيضا لأنّ بيده عقدة النكاح و حلّها أيضا.

و لكنّه مردود فإنّه حينئذ يكون مخيّرا بين دفع نصف المهر كلاّ أو تشطيره و تبعيضه، فلا يكون الطلاق مشطرا في نفسه، أو يعفو عن جميعه، و هو مناف لملكية المرأة المهر بالعقد و التصرف في حقها.

و أما عفو الزوج عن النصف الآخر فهو أيضا ليس بصحيح فإنّه ليس للمرأة حق في النصف الآخر و لا يجب على الزوج دفعه إليها حتّى يصح في مورده العفو، فإذا دفع إليها النصف فهو إحسان و فضل منه.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .

أي: أنّ العفو على أية حال و من أيّ واحد صدر هو أقرب للتقوى لأنّ عفو الإنسان عن حقّه فيه الفضل الكبير و هو أقرب إلى فضيلة التقوى، و لأنّ فيه من التشبه بأخلاق اللّه تعالى لأنّه عفوّ غفور فيكون أقرب للتقوى.

قوله تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ .

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك و الإهمال، و التأخير، و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صلة الرحم منسأة للأجل و مثراة للمال» و تأتي بمعنى الذهول و الغفلة في مقابل الذكر و الالتفات، و منه قوله تعالى: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ اَلشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [الكهف - 63]، و قال تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19].

و المراد به في المقام: هو الأول بقرينة تعلّق التكليف به، و يمكن إرادة الأخير أيضا إن كان منتهيا إلى الاختيار و لو ببعض أسبابه.

و الفضل: هو الزيادة في المكارم و ما يكون ممدوحا و ليس بواجب و في

ص: 88

المقام الفضل بالنسبة إلى الرجل: أن يعطي أكثر من النصف و لو بقليل، و بالنسبة إلى المرأة: أن تأخذ أقل منه و لو بقليل.

و الآية المباركة تحرّض الإنسان على ابتغاء الفضل و الإحسان بالعفو عن الحقوق و التخفيف، و عدم التغافل عن المكارم عند عروض أسباب التخاصم و التنازع، فإنّها تشير إلى قاعدة عقلية تشمل كلّ ما يقع في طريق الاستكمال و السعادة الأبدية، و إن كانت باعتبار سياق الكلام و المورد ظاهرة في الحقوق المجاملية المتعارفة بين الناس.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

ربط ذلك بمراقبته تعالى حتّى تكون الأعمال - كالقلوب - خالصة موصولة باللّه على كلّ حال. فيكون ذلك زيادة في الترهيب و الترغيب أي: أنّ أعمالكم ظاهرة و غير خفية لدى من يحيط بها و أنّه يجازيكم بها.

ص: 89

بحث روائي

في الكافي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «في رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها قال (عليه السلام): عليه نصف المهر إن كان فرض لها شيئا، و إن لم يكن فرض لها فليمتعها على نحو ما يمتع مثلها من النساء».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام) «ما يمتع مثلها من النساء» أي مثلها في مراعاة حال الزوج فلا اختلاف بين هذه الرواية و غيرها الدالة على اعتبار حال الزوج فقط.

في تفسير العياشي عن أبي الصباح عن الصادق (عليه السلام): «إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يدخل بها فلها نصف مهرها و إن لم يكن سمّى لها مهرا فمتاع بالمعروف على الموسع قدره و على المقتر قدره و ليس لها عدة و تتزوج من شاءت من ساعتها».

أقول: قريب من هذه الروايات روايات كثيرة أخرى ذكرناها في الفقه.

في الكافي و التهذيب و تفسير العياشي في عدة روايات عن الباقر و الصادق (عليهما السّلام): «إنّ الذي بيده عقدة النكاح هو الولي».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة.

في الفقيه و التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ قال: «يعني الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

ص: 90

في الفقيه و التهذيب عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ قال: «يعني الأب و الذي توكله المرأة و توليه أمرها من أخ أو قرابة أو غيرهما».

أقول: المستفاد من هذا الحديث أنّ المراد ممن بيده عقدة النكاح من يتولاها إما بوكالة من المرأة وكالة تفويضية أو بولاية من الشرع مع مراعاة المصلحة كما ذكرنا في الصداق من (مهذب الأحكام).

في التهذيب عن رفاعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سألته عن الذي بيده عقدة النكاح قال: الولي الذي يأخذ بعضا و يترك بعضا و ليس له أن يدع كلّه».

أقول: يمكن حمله على وجود المصلحة و الا فليس من شرائط العفو ذلك.

في تفسير العياشي في قوله تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ .

قال: «هو الأب و الأخ و الرجل يوصى إليه».

و في الدر المنثور عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ الذي بيده عقدة النكاح: الزوج».

أقول: وردت عدة روايات عن طريق الجمهور دالة على تفسير الآية الشريفة بالزوج و لكن يمكن حملها على ما إذا فوضت المرأة أمر المهر إلى الزوج حتّى العفو و تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير أيضا.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يأتي على الناس زمان عضوض يعض كلّ امرئ على ما في يديه و ينسون الفضل بينهم قال اللّه تعالى: وَ لا تَنْسَوُا اَلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ».

أقول: المراد بالعضوض: الشدة في الإمساك لأجل تركهم مكارم الأخلاق و فضائلها.

ص: 91

سورة البقرة الآية 239

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُو.......

اشارة

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة من الأحكام المتعلقة بشؤون الحياة الزوجية و بيّن ما يكون سببا في سعادة هذه الحياة و نبّه الإنسان إلى ابتغاء الإحسان في جميع شؤونه، و عدم تناسي الناس الفضل بينهم.

بيّن في هاتين الآيتين المباركتين ما هو من أعظم الشؤون العبودية التي لها دخل في تكميل الحقيقة الإنسانية و هي الصلاة التي دعا إليها جميع الأنبياء و بها يتشرف المصلّي بالتكلّم مع الحيّ القيوم و هي إسراء النفوس إلى الملكوت الأعلى و معراج أرواح المتعبّدين إلى قاب قوسين أو أدنى، و هي التي تنهى عن الفحشاء و المنكر، و تبعث النفوس الغافلة إلى التذكر بجلال اللّه عزّ و جل و جماله، و تذكير الإنسان إلى مكانته الحقيقية، و تجعله مراقبا لنفسه لتطهيرها من رذائل الأخلاق و تحليتها بفواضلها، و تمكنها على تحمل المصاعب و الآلام في طريق الاستكمال.

و في تعقيب تلك الأحكام بالأمر بالصلاة التي هي أكبر العبادات إشارة إلى أنّ الايتمار بأوامر اللّه سبحانه و تعالى و الانتهاء عن نواهيه إنّما يكون في

ص: 92

النفوس المستعدة و هي لا تحصل إلا بإقامة الصلاة و المحافظة عليها و أدائها بخضوع و خشوع لتنال النفس سعادتها. فهي الروح لتلك الأحكام و إنّها بدون الصلاة كالجسم الذي لا روح له.

ص: 93

التفسير

238 - قوله تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ .

مادة (حفظ) تأتي بمعنى المواظبة على الشيء و الإقبال عليه مرة بعد أخرى، و المحافظة على الصّلوات هي المواظبة عليها بإقامتها في أوقاتها بحدودها و شرائطها، و الإقبال عليها بالإخلاص و الخشوع و الخضوع، فالمحافظة أخص من مطلق الإتيان لأنّ الحفظ عبارة عن التفقد و التعهد و الرعاية.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى بهذا اللفظ المشعر بفعل الإثنين لبيان أنّ كلّ من حافظ على الصّلاة و أدّاها على ما هي عليه في الواقع هي أيضا تحافظ على رعايته، فهي تردعه عن الفحشاء و المنكر، كما قال تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [العنكبوت - 45]، و في السنة الشريفة من ذلك الشيء الكثير.

و للصلاة أنحاء من الوجودات و المظاهر فهي في هذا العالم مركبة من جملة من الأعراض، و في عالم آخر لها وجود مستقل تمدح فاعلها و تشفع له أو تذمه و تلعنه، و في نشأة أخرى: غيب الغيوب تكون من صقع اللّه جلّ جلاله لا يعلمها إلا هو.

و الصّلوات في الإسلام من أهم العبادات التي أمر الناس بها فهي عمود

ص: 94

الدين إن قبلت قبل ما سواها و إن ردت رد ما سواها.

تنهى عن المنكر و الفحشاء *** أقصر فذاك منتهى الثّناء

و أعدادها كثيرة و الواجب منها الصّلوات الخمس المعروفة بين المسلمين التي ورد ذكرها في القرآن الكريم و شرحتها السنة المقدّسة شرحا وافيا و بيّنت أركانها و شروطها و آدابها و سائر جهاتها بيانا قوليا و عمليا.

قوله تعالى: وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى .

تخصيص بعد تعميم للاهتمام بها و الترغيب إليها.

و الوسطى تأنيث الأوسط و هو من الأمور الإضافية يصح إطلاقه على ما يقع وسطا بين الاثنين أو أكثر و لهذا اختلف العلماء في تعيين الوسطى من الصّلاة:

فقيل: إنّها الصبح لكونها وسطا بين فرائض الليل و فرائض النهار و القيام إليها شديد و قال به جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و قيل: إنّها الظهر، لأنّها وسط بين العشاء و الصبح، و العصر و المغرب، و أنّها وسط النهار المبتدئ من طلوع الفجر و المنتهي بغروب الشمس، و لأنّها أول صلاة صلّيت في الإسلام، و في قراءة عائشة و حفصة «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر» بالواو و روى مالك في موطّئه، و الطيالسي في مسنده عن زيد بن ثابت قال: «الصلاة الوسطى: صلاة الظهر»

و زاد الطيالسي «و كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يصليها بالهجير». و قال بهذا جمع من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هو المشهور بين الإمامية المروي في عدة أخبار كما يأتي في البحث الروائي.

و قيل: إنّها العصر، لكونها وسطا بين الظهر و المغرب، و أنّ ما قبلها صلاتان نهاريتان و هما الصبح و الظهر، و بعدهما صلاتان ليليتان و هما المغرب و العشاء، و قال بهذا جمع آخر من أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و به قال الجمهور،

و أخرج الترمذي عن ابن مسعود «قال رسول اللّه (صلّى اللّه

ص: 95

عليه و آله): الصلاة الوسطى صلاة العصر»،

و روى مسلم و أبو داود عن عليّ (عليه السلام) مرفوعا: «شغلونا عن الصّلاة الوسطى صلاة العصر» يعني يوم الأحزاب،

و في رواية الشيخين أنّ النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال يوم الأحزاب: «ملأ اللّه قبورهم و بيوتهم نارا كما حبسونا و شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس».

و قيل: إنّها المغرب لأنّها متوسطة في عدد الركعات، و لا تقصر في السفر، و أنّها وسط بين صلاتي جهر و صلاتي إخفات.

و قيل: إنّها العشاء الآخرة لأنّها بين صلاتين لا تقصران، و لأنّها يستحب تأخيرها، و ذلك شاق فوقع التأكيد في المحافظة عليها، هذا بحسب الأقوال:

و أما بحسب الأخبار فسيأتي في البحث الرّوائي ما يتعلّق بها، و لكن نفس الآية الشريفة لا تدل على شيء مما ذكر و هي مجملة لا يظهر المراد منها فلا بد من ترجيح أحد الاحتمالات من الرجوع إلى السنة الشريفة و القرائن القطعية.

و مذهب أهل البيت عليهم السلام: أنّها صلاة الظهر كما يأتي في البحث الروائي بل يمكن أن يستشهد له بقوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 115]، حيث إنّه تعالى لم يذكر صلاة الوسطى بين الطرفين و خصوصا بعد الأمر في قوله تعالى: أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ [الإسراء - 78] المتفق بين المسلمين على أنّها صلاة الظهر المعبّر عنها في لسان عليّ (عليه السلام) بصلاة الأوّابين.

مع أنّ وقت الظهر عظيم جدّا

ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): «سألته عن ركود الشمس فقال: يا محمد ما أصغر جئتك و أعضل مسألتك و إنّك لأهل للجواب، إنّ الشمس إذا طلعت جذبها سبعون ألف ملك بعد أن أخذ بكلّ شعاع منها خمسة آلاف من الملائكة بين جاذب و دافع حتّى إذا بلغت الجوّ و جازت الكوّ قلبها ملك النور ظهرا لبطن فصار ما

ص: 96

يلي الأرض إلى السماء و بلغ شعاعها تخوم العرش فعند ذلك نادت الملائكة:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلا اللّه و اللّه أكبر و الحمد للّه الذي لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و لم يكن له شريك في الملك و لم يكن له وليّ من الذل و كبّره تكبيرا فقال له: جعلت فداك أحافظ على هذا الكلام عند زوال الشمس ؟ فقال: نعم حافظ عليه كما تحافظ على عينك».

و سيأتي شرح الرواية في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى. و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في الصحيح: «إذا زالت الشمس فتحت أبواب السماء و أبواب الجنان و استجيب الدعاء فطوبى لمن رفع له عند ذلك عمل صالح».

قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ .

مادة (قوم) تدل على الثبوت و العزم و الاستقامة و الرعاية و الحفظ و قد ورد جميع ذلك في الآيات الشريفة المتعدّدة، كما يأتي إن شاء اللّه تعالى و المراد به هنا ما يكون عن استقامة و تثبت.

و أما مادة (قنت) فقد وردت في القرآن كثيرا بهيئات مختلفة منتسبة إلى الرجال تارة و إلى النساء أخرى و إلى مخلوقاته و موجوداته ثالثة و كلّها مقرونة بالمدح و التمجيد، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [النحل - 120]، و قال تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اَللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً [الزمر - 9]، و قال جل شأنه: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ [آل عمران - 43]، و قال تعالى:

وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْقانِتاتِ [الأحزاب - 35]. و قال تعالى: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ [البقرة - 116]. فإنّ جميع الموجودات تتصف بالقنوت له جلّت عظمته لأنّ كلّ مربوب قانت و خاضع لربه.

و أصلها ينبئ عن خضوع خاص يكون مظهرا للعبودية، و ما ذكره المفسرون و اللغويون من الدعاء، و العبادة، و الخشوع، و الصلاة، و السكوت، و طول القيام كلّ ذلك من المصاديق لا أن تكون معاني مستقلة في حدّ نفسها، فلا يكون من مشترك اللفظ أو المعنى.

ص: 97

و قد اطلق على السكوت، كما في حديث زيد بن أرقم: «كنا نتكلم في الصلاة حتّى نزلت: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فأمسكنا عن الكلام». و لكنّه سكوت خاص بقرينة

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ هذه الصلاة لا يصح فيها شيء من كلام الآدميين إنّما هي قرآن و تسبيح».

و القنوت من أفضل مقامات العبودية و له مراتب كثيرة شدة و ضعفا.

و المراد به في المقام: الخضوع و الخشوع الخاص، كما يأتي في البحث العرفاني.

و المعنى: اشتغلوا بطاعة اللّه عزّ و جل طاعة خضوع و خشوع مخلصين له لا تغلبكم زخارف الدنيا و زبرجها.

و لا يختص القيام للّه تعالى و القنوت له جلّت عظمته بحالة دون أخرى بل يجريان في جميع الحالات لا سيّما في العبادات فإنّهما روحها و لا ينال العبد سرّ التوحيد إلاّ إذا كانت جميع أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة بل تمام حركاته للّه تعالى، فيكون مسيره من الحق إلى الحق، و يخرج عن الفقر إلى الغنى المطلق، و يتنزه عن كلّ ما يوجب البعد عنه تعالى حتّى يكون جل شأنه سمعه الذي يسمع به و بصره الذي يبصر به، كما ورد في الحديث، لأنّه قام في الحق بالحق للحق.

239 - قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً .

الخوف: توقع المكروه، و رجال جمع راجل كقيام جمع قائم و أصحاب جمع صاحب، و هو الكائن على رجليه في مقابل الركبان الذي هو جمع الراكب كفرسان جمع فارس، و كل شيء علا شيئا آخر فقد ركبه.

و الآية الشريفة عطف على الآية السابقة و هي بمنزلة الشرط لها أي:

حافظوا على الصّلوات إن لم يكن هناك خوف و الا فتتقدر المحافظة بقدر الخوف، فأدّوا الصّلاة حينئذ رجالا أو ركبانا.

و هذه الآية المباركة تكشف عن الأهمّية البالغة التي ينظر بها سبحانه و تعالى إلى الصّلاة و المحافظة عليها و لا تسقط حتّى في ساعة الخوف

ص: 98

و الشدة، فإنّ كلّ موضوع كثر الاهتمام به ازداد ابداله و أطواره و شؤونه، و لا يوجد موضوع شرعي و لا قانون إلهي أفضل و أجل من هذه العبادة الخاصة أي الصلاة فإنّ فيها جذب العبد إلى عالم الأحدية و السعادة الأبدية فأيّ قانون يتصوّر أفضل منها، و لأجل ذلك أرسل الفقهاء قاعدة

«أنّ الصّلاة لا تسقط بحال»، و قد وردت في السنة المقدسة قواعد تسهيلية امتنانية في الصلاة لم نرد في غيرها من العبادات.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: إجزاء الصلاة في حالة الخوف بأي نحو اقتضاه الخوف، و لا تحتاج إلى الإعادة أو القضاء بعد الأمن لعدم الإشارة إلى ذلك، و هذا هو الذي تقتضيه سهولة الشريعة.

و لم يحدد سبحانه و تعالى الخوف الموجب لتبدل التكليف بل أوكله إلى نفس الإنسان بعد مراعاة جانب عقله، قال تعالى: بَلِ اَلْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ [القيامة - 14]، فيكون المناط تحقق الخوف العقلائي لدى المكلّف من أي مصدر تحقّق سواء كان في القتال المأذون فيه شرعا أو كان في الدّفاع عن النفس و العرض و المال، أو الحاصل من السبع و الحرق أو الغرق و نحو ذلك. و يتقدّر التكليف بقدره فيترك كلّ ما ينافي الحذر و يبقى ما لا ينافيه على حاله، و يجب تحرّي المقدور مهما أمكن فيسقط جملة من شرائط الصّلاة الاختيارية عند عروض الخوف كالاستقرار، و القبلة، و الطمأنينة بل قد يوجب سقوط الركوع و السجود و التعويض عنهما و الإيماء لهما لأنّه الميسور له، و قد ذكر سبحانه و تعالى كيفية صلاة الخوف في القتال في سورة النساء.

و إنّما قدم الراجل على الراكب لاشتداد الأمر بالنسبة إليهم، و لأنّ الغالب في عصر النزول كانوا راجلين، و ذكرهما بالخصوص لبيان وجوب المحافظة على الصّلاة على كلّ حال يمكن من المشي و الركوب و عدم سقوطها بحال، و لا يجب تأخيرها عن وقتها في هذه الحالة، كما يراه بعض الفقهاء، و الآية مجملة في كيفية صلاة الخوف، و لكن شرحتها السنة الشريفة و ذكرها الفقهاء في كتب الفقه.

ص: 99

قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ .

تفريع على المحافظة على الصّلاة أي: إذا زال الخوف و اطمأنت النفس فاذكروا اللّه ذكرا مثل ما علّمكم في كيفية عباداته و شرايع دينه. و إطلاق الآية المباركة يدل على مطلق الذكر كمّا و كيفا، و يمكن الاختلاف باختلاف الحالات و الخصوصيات، و ربما تجب الصلاة بالكيفية المعهودة في حال الاختيار و الأمن.

و لعل الوجه في وجوب ذكر اللّه تعالى في هذه الحالة لأنّ الناس غالبا بعد زوال الخوف يذكرون الأشخاص و يفتخرون بالألقاب و الأعمال، فأمرهم عزّ و جل بذكر اللّه تعالى لأنّه المنعم الحقيقي و السبب الواقعي في زوال الخوف، و قد أنعم الأمن و الأمان و الخير و الإحسان فيجب شكره على ما علّمكم معالم دينكم.

ص: 100

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ الإجمال في الصلاة الوسطى و عدم تعيينها بالخصوص لأجل أهمية شأن الصّلوات فإنّ المحافظة عليها كلّها توجب الإصابة بالوسطى منها قهرا، فيكون كالإجمال في الاسم الأعظم، و ليلة القدر، و ساعة الاستجابة في يوم الجمعة فيهتم الإنسان بجميع أسمائه تعالى حتّى يصيبه و كذا في ليالي شهر رمضان أو ساعات يوم الجمعة.

الثاني: إنّما خص اللّه تعالى الصّلاة الوسطى زائدا على سائر الصّلوات بالفضل، لأنّ المحافظة بالوسطى تستلزم المحافظة على طرفيها أو باعتبار وقتها لأنّ وقت الظهر - كما في صحيح ابن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) - له أهمية كبرى كما مر.

الثالث: أنّ التعبير بالقيام في قوله تعالى: قُومُوا لِلّهِ يدل على لزوم نصب العبد نفسه للعبادة للّه تعالى و الخضوع له و الاستقامة في ذلك و الرعاية فيها حق الرعاية بلا اختصاص لها بحالة دون أخرى.

الرابع: أنّ اللام في قوله تعالى: قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ للغاية حتّى يكون

ص: 101

القيام - أي: مطلق الحركات و السكنات في كلّ عمل - له جل شأنه فهو الغاية القصوى صلاة كانت أو غيرها بناء على ظاهر السياق، و هذا هو معنى قصد القربة المعتبر في كلّ عمل عبادي على ما فصّله الفقهاء في العبادات و غيرها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: فَاذْكُرُوا اَللّهَ كَما عَلَّمَكُمْ توقيفية العبادات و توقيفية أسمائه المقدسة، لأنّ ذكره تعالى لا بد أن يكون باسمه و صفاته عزّ و جل فقط.

السادس: يدل قوله تعالى: فَإِذا أَمِنْتُمْ على أنّ تكليف الصّلاة مطلقا يدور مدار وسع المكلّف و عدم العسر و الحرج و أنّ تغيير التكليف بحسب الحالات يكون بيد من كان أصل التشريع بيده كما ثبت ذلك في علمي الفلسفة و الكلام.

ص: 102

بحث روائي

في تفسير العياشي عن زرارة و محمد بن مسلم أنّهما سألا أبا جعفر (عليه السلام) عن قول اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى قال (عليه السلام): «صلوة الظهر و فيها فرض اللّه الجمعة و فيها الساعة التي لا يوافقها عبد مسلم فيسأل خيرا إلا أعطاه اللّه إياه».

أقول: المأثور عن الأئمة الهداة (عليهم السّلام) في روايات كثيرة أنّ الصّلاة الوسطى هي صلاة الظهر، و ادعى شيخ الطائفة الإجماع عليه، و قوله (عليه السلام): «فيها» أي في صلاة الظهر لأنّ الجمعة و الظهر واحدة حقيقة و إنّما سقطت ركعتا الجمعة، لمكان الخطبتين فليستا حقيقتين مختلفتين.

و في الكافي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «عما فرض اللّه عزّ و جل من الصّلاة فقال (عليه السلام): خمس صلوات في الليل و النهار.

فقلت: فهل سماهنّ و بينهنّ في كتابه ؟ قال: نعم قال اللّه تبارك و تعالى لنبيه (صلّى اللّه عليه و آله): أَقِمِ اَلصَّلاةَ لِدُلُوكِ اَلشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اَللَّيْلِ و دلوكها زوالها ففيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات سماهنّ و بينهنّ و وقتهنّ و غسق الليل هو انتصافه، ثم قال: وَ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ اَلْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً فهذه الخامسة، و قال اللّه تعالى في ذلك: أَقِمِ اَلصَّلاةَ طَرَفَيِ اَلنَّهارِ فطرفاه المغرب و الغداة و زُلَفاً مِنَ اَللَّيْلِ و هي صلاة العشاء الآخرة، و قال اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى و هي

ص: 103

صلاة الظهر، و هي أول صلاة صلاّها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و هي وسط النهار، و وسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة و صلاة العصر. و في بعض القراءات «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين» قال: و نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) في سفره فقنت فيها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): و تركها على حالها في السفر و الحضر، و أضاف للمقيم ركعتين و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام فمن صلّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيام».

أقول:

قوله (عليه السلام) «في بعض القراءات» لا بد أن يكون المراد قراءة غيرهم (عليهم السلام) و إنّما ذكر ذلك لبيان أنّ كون الوسطى صلاة الظهر منقولا عن غيرهم أيضا، و لكن في نفس القراءة أيضا بحث لأنّه يمكن أن يكون محاذرة من الوقت و أهله فيكون الحكم الأول هو المتبع.

في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قرأ «حافظوا على الصّلوات و الصلاة الوسطى و صلاة العصر و قوموا للّه قانتين».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قريب منه، و لكن فيه «و كذلك كان يقرأها رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)».

أقول: إنّه يحتمل أن يكون قوله «صلاة العصر» من القرآن فتكون صلاة الوسطى الظهر، و يستفاد أهمية صلاة العصر أيضا، كما يحتمل أن يكون تفسيرا للصلاة. لا أن يكون قراءة للقرآن، و يدل عليه أنّ الجمهور نقلوا في مجامعهم «صلاة الوسطى: صلاة العصر» و مع تعارض القراءتين و عدم ترجيح في البين فالحكم هو التخيير لو لم نقل بكون الوسطى هي الظهر أرجح من جهات كثيرة.

و في الدر المنثور أخرج أحمد و ابن المنيع، و النسائي، و ابن جرير و غيرهم من طريق الزبرقان: «أنّ رهطا من قريش مرّ بهم زيد بن ثابت و هم

ص: 104

مجتمعون فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى ؟ فقال: هي الظهر، ثم انصرفا إلى أسامة بن زيد فسألاه فقال: هي الظهر، إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يصلّي الظهر بالهجير فلا يكون وراءه إلا الصف و الصفان، و الناس في قائلتهم و تجارتهم فأنزل اللّه تعالى: حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ وَ اَلصَّلاةِ اَلْوُسْطى وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لينتهينّ رجال أو لأحرقنّ بيوتهم».

أقول: تقدم في التفسير ما يدل عليه أيضا، و لكن بإزاء ذلك روايات مختلفة مروية عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) من طرق الجمهور. منها ما يدل على أنّها صلاة العصر، و منها ما يدل على أنّها صلاة الصبح و منها غير ذلك.

و مع التعارض لا يصح الأخذ بأحدها بالخصوص، و لكن تقدّم أنّ الترجيح مع ما يدل على أنّها صلاة الظهر.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال (عليه السلام): «إقبال الرجل على صلاته و محافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها و لا يشغله شيء».

أقول: تقدّم في التفسير أنّ من معاني القنوت الرعاية، و ما ورد في الرواية يكون من باب التطبيق.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ قال: «هو الدعاء في الصّلاة حال القيام، و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السلام)».

أقول: إنّ ذلك من باب التطبيق فلا تعارض في البين أصلا.

و في الكافي عن عبد الرّحمن بن أبي عبد اللّه عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً قال: «كيف يصلّي ؟ و ما يقول إذا خاف من سبع أو لص كيف يصلّي ؟ قال (عليه السلام): يكبّر و يومي إيماء برأسه.

أقول: يدل على ذلك الإجماع و نصوص أخرى و هي تدل على تبدل

ص: 105

الصلاة إلى الأبدال الاضطرارية حسب ما تقتضيه الظروف.

في الفقيه عنه (عليه السلام) أيضا قال: «تكبّر و تهلّل، تقول: اللّه أكبر، يقول اللّه: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً .

أقول: تقدم ما يدل على ذلك في التفسير.

و في الفقيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «إن كنت في أرض مخوفة فخشيت لصّا أو سبعا فصلّ الفريضة و أنت على دابتك».

أقول: المسألة محرّرة في الكتب الفقهية فلا مجال لذكرها هنا.

ص: 106

بحث عرفاني

يستفاد من هذه الآية الكريمة و أمثالها كمال العناية بشأن الصلاة لأنّ فيها إضافة إلى عالم لا نهاية له في الجلال و الجمال و الإفضال إضافة اختيارية يظهر أثرها على أفعال الجوارح و الجوانح توجب عظمة المضاف و ارتفاع درجاته و مقاماته المعنوية الأبدية لا سيّما إذا كان المضاف إليه داعيا لإيجاد تلك الإضافة و مرغبا إليها فإنّه من سنخ تعلق المحبوب بحبيبه. ففي الصّلاة هذا السّر المعنوي الذي تدركه العقول بحقائق الإيمان لا الحواس الظاهرة التي في الإنسان.

فالصّلاة هي العمود النوري المتصل بين الحيّ القيوم و العبد الذي هو في معرض الحوادث و الآلام، و لذا أمرنا بالاستعانة بها إذا أهمنا أمر. قال تعالى: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ [البقرة - 45]، و كانت الأنبياء (عليهم السلام) إذا دهمهم أمر استعانوا بالصلاة.

و الصّلاة علامة الإيمان باللّه تعالى و بها و بقرينتها الزكاة تتحقق الأخوة الدينية، قال تعالى: فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ [التوبة - 11].

و إنّ تاركها من الكافرين،

فعن نبينا الأعظم: «بين الرجل و بين الشرك و الكفر ترك الصلاة». و إنّ تركها يوجب الحسرة العظمى في الدار العقبى، قال

ص: 107

تعالى حكاية عن أهل سقر: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ [المدثر - 44]، و إنّ إهمالها و تضييعها و قطع تلك الرابطة التي بين العبد و الباري يوجب ارتكاب المعاصي و اتباع الشهوات، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [مريم - 59].

و الصّلاة هي آية الإنسانية الكاملة لأنّها تنهى عن الفحشاء و المنكر فتتحقق بها التخلية عن الرّذائل و تتجلّى فيها الفضائل فيكون المصلّي المحافظ عليها هو الإنسان الكامل الذي تتجلى فيه جميع الصّفات الحسنة.

و الصلاة هي الرادع الباطني في الإنسان تمنعه عن ارتكاب الجرائم و الآثام، و توقظ الضمير الإنساني فيردعه عن ركوب الشهوات و تضييع الحقوق فيعظم الحق و يكبر عليه تركه إلى غير ذلك من الصفات الحميدة و الآثار الرفيعة التي لو أردنا ذكرها لما وسعه المقام.

و قوله تعالى: وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ على إيجازها تكفي في الاهتداء إلى عالم النور العالم الذي يرى فيه الإنسان آثار أعماله بل يجد فيه حقيقة نفسه و فطرته، و يلتذ بما يشاهد من مقامه الرفيع.

و هو يعم جميع أوامر اللّه جل جلاله و أحكامه المقدسة و يرشد إلى ترك نواهيه حتّى يصير الفرد من اللّه و إلى اللّه، و تنهدم فيه الأهواء النفسانية و لا يبقى في نفسه سوى حبه جلّ شأنه و هذا الإطلاق موافق لإطلاق قول نبينا الأعظم «إنّما الأعمال بالنيّات» و تقتضيه أذواق المتألهين و العرفاء الشامخين، و لعل أولياء اللّه تعالى و أحبّاءه اقتبسوا من هذه الآية الشريفة ما أبرزته قلوبهم عند مناجاتهم لخالقهم منها

ما نسب إلى الحسين بن عليّ (عليهما السّلام):

«إلهي أنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتّى لم يحبوا سواك و لم يلجؤا إلى غيرك، و أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، و أنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم، ماذا وجد من فقدك و ما الذي فقد من وجدك». و ما ذكره (عليه السلام) من أهم آثار القيام للّه من كل جهة قانتا له

ص: 108

و خاضعا لربوبيته، فالقيام بامتثال أوامر اللّه تعالى و ترك نواهيه و الاستقامة فيه غاية آمال المخلصين و العارفين به تعالى.

و هذه الآية المباركة من أهم الآيات التي تحن إليها قلوب ذوي البصائر و الأحلام، و تزل دون الوصول إليها الأقدام إلا من عصمه العليم العلام.

ص: 109

سورة البقرة الآية 240-242

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَ.......

اشارة

وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الآيات المباركة تتمة لما جاء في الآيات السابقة في أمر الطلاق و العدة.

و الآية الأولى تبين حكم الزوجة أثناء عدة الوفاة و لا بد من ملاحظتها مع ما ورد في ما سبق من الآيات فيها أيضا. و يبيّن عزّ و جل في الآيتين الأخيرتين وجه الحكمة في إنزال الأحكام الإلهية و الشرايع الدينية.

ص: 110

التفسير

240 - قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً .

أي: و الذين يتمون مدة حياتهم و يشرفون على الوفاة و يتركون أزواجا و قد تقدم مثل هذا التعبير في آية (235) فراجع ما ذكرناه هناك.

قوله تعالى: وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ .

كلمة وصية مفعول مطلق لمقدّر أي: يوصون وصية. و متاعا منصوب بفعل مقدّر أي: يمتعون أزواجهم متاعا. و جملة: غَيْرَ إِخْراجٍ بدل من متاعا بدل البعض من الكل.

و قيل: إنّ متاعا بدل من وصية بمعنى الموصى به غَيْرَ إِخْراجٍ صفة المتاع ليعم السكنى.

و المعنى: و الذين يموتون و يتركون أزواجا ليوصوا وصية لأزواجهم و يمتعوهنّ متاعا تمام مدة الحول المبتدإ من حين الوفاة من غير إخراج لهنّ من البيوت.

و يمكن أن يكون تعريف الحول لأجل كونه مدة الحداد في الجاهلية فنزلت الآية توصي الأزواج أن يمتعوهنّ في مدة الحداد مالا يتمتعن به في بيوت الأزواج من غير إخراجهنّ منها.

ص: 111

و يحتمل أن يكون تحديدا شرعيّا لهذا الحكم و لم تكن مدة الحداد لعدة الوفاة فإن شاءت أن تبقى في بيت زوجها فلها الإنفاق و السكنى.

و على الاحتمال الأول تكون الآية المباركة منسوخة بآية عدة الوفاة و آية الميراث و هذا هو المشهور بين الفقهاء و المفسرين، و يدل عليه بعض النصوص، و هو من حسن التدبير في جعل القانون بأن يقرّر جاعله بعض القوانين السابقة ثم ينسخها بالتدريج و الإمهال فإنّ في ذلك الوصول إلى المطلوب مع جلب القلوب.

و على الثاني فلا نسخ في البين بل هو حكم أدبي نظير قوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ [البقرة - 181].

و إذا كان نسخا فهو لوجوب الوصية و أما رجحانها فلا نسخ فيه و هذا هو الظاهر من الآية الشريفة و قد تقدم في آية 181 من هذه السورة ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى: فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ .

أي: فإن خرجن من بيوت أزواجهنّ من عند أنفسهنّ بلا جبر و إكراه فلا إثم عليكم - على أهل الزوج و عشيرته - فيما فعلن في أنفسهنّ من حيث الزواج أو ما تختار بحسب المعروف و ما يوافق حالهنّ لأنّ ذلك حق لها يجوز تركه.

و إخراج الزوجة من بيت زوجها المتوفّى إما أن يكون جبرا و على كره منها أو يكون بالتماس منها أو يكون برضائها بلا إكراه و التماس و المتيقّن من الآية الشريفة على فرض عدم النسخ هو الأول، لما ذكرنا.

و الآية المباركة في مقام الترخيص لهنّ في استعمال ما هو المعروف سواء كان في الزواج أو استعمال الزينة و لكن بشرط أن تنقضي أربعة أشهر و عشرا إن قلنا بعدم نسخ الآية.

ص: 112

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه عزيز غالب على أمره يعاقب من خالفه حكيم يراعي في أحكامه مصالح العباد.

241 - قوله تعالى: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ .

المتاع: ما يتمتع به و هو يدور في المقام بين أن يكون المراد منه المتعة التي تقدمت في آية (236) أو المهر كما في آية (237) أو نفقة المطلقة الرجعية و الأخير هو المتيقن، لأنّ الأولين يستلزمان التكرار كما لا يخفى و إنّ ذكر المطلق و إرادة بعض أفراده قسم من الاستخدام الذي هو من المحسنات البديعية فيكون المراد من قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ مطلق الحق الشامل للواجب و المندوب و لما هو أدبي محض و الخصوصيّات تعلم من الجهات الخارجية من باب تعدد الدال و المدلول.

و ذكر المتقين ليس من باب التخصيص بل لبيان أنّ المتقين أهل للايتمار و للإشعار بأهمية هذه الصفة.

242 - قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ .

المراد من الآيات في القرآن الكريم: ما يفرق به بين الحق و الباطل، و كل ما ينزله تبارك و تعالى حق، لما أثبتوه بالأدلة القاطعة أنّه جلّ شأنه حق محض بذاته و جميع صفاته و أفعاله و ما ينسب إليه.

و لعلّ في المقام: في معنى التعليل أي يبينها لكي تعقلوا و ترتفع بذلك نفوسكم عن حضيض البهيمية إلى أوج الإنسانية الكاملة، و يستفاد من هذه الآية الشريفة أمور:

الأول: أنّ العقل بذاته لا يكفي في نيل السعادة و الوصول إلى الكمال إلا أن يؤيد من عالم الغيب و الحق المطلق فيكتسب من ذلك نورا يمشي به في ظلمات المادة.

الثاني: أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ غاية إرسال الرسل و إنزال الشرايع

ص: 113

الإلهية ليست إلا لأجل تعقل الإنسان و تفكره في أنّه لماذا، و إلى أين مسيره و مال أمره، و هل أنّ عمله دليل على أنّه من السعداء أو يدل على أنّه من الأشقياء، و يشير إلى ذلك

ما ورد عن علي (عليه السلام): «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» فإنّ ما سوى ذلك و هم زائل و خيال محض لا حقيقة له في الدنيا فضلا عن الأخرى.

الثالث: أنّ ما أنزله اللّه تعالى إنّما يرجع نفعه إلى الإنسان و اللّه هو الغني المطلق.

الرابع: أنّ التعقل النافع هو التعقل في آيات اللّه تعالى من حيث الإضافة إليه عزّ و جلّ ليعرف بذلك الخالق و المعبود، و أما التعقل في ذوات الأشياء من حيث هي فإنّ فطرة الإنسان داعية إلى ذلك لا يحتاج إلى ترغيب منه عزّ و جلّ .

ص: 114

بحث روائي

في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جل: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى اَلْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال (عليه السلام): منسوخة نسختها آية:

يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً و نسختها آية الميراث».

و في تفسير العياشي أيضا عن أبي بصير في قول اللّه تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً - الآية - قال (عليه السلام): «هي منسوخة قلت: و كيف كانت ؟ قال (عليه السلام): كان الرجل إذا مات أنفق على امرأته من صلب المال حولا ثم أخرجت بلا ميراث، ثم نسختها آية الربع و الثمن فالمرأة ينفق عليها من نصيبها».

أقول: قد ورد في عدة روايات عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) أنّ هذه الآية منسوخة و هي على فرض النسخ لا يضرها تقدم آية عدة الوفاة في التلاوة لما ذكرنا في أحد مباحثنا أنّ التقدم و التأخر و التقارن لا يعتبر كلّ ذلك في النسخ.

ثم إنّ النسخ في المقام لا يستلزم أن يكون بالنسبة إلى أصل التشريع بل يجوز أن يكون بالنسبة إلى الوجوب و الإلزام و يبقى أصل التشريع و حسنه

ص: 115

بحاله و بذلك يمكن أن يرتفع الاختلاف بين الكلمات و قد تقدم في التفسير ما ينفع المقام فراجع.

في الكافي عن حفص البختري عن الصادق (عليه السلام): «في الرجل يطلق امرأته أ يمتعها؟ قال (عليه السلام): نعم أما تحب أن يكون من المحسنين أما تحب أن يكون من المتقين!!».

أقول: هذه الرواية عامة تشمل جميع المطلقات سواء كنّ مدخولا بهنّ أولا، و سواء فرض لهنّ المهر أولا، و هو أيضا أمر ممدوح و يشهد له قوله تعالى: حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ .

في الكافي أيضا عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جل: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ قال: متاعها بعد ما تنقضي عدتها على الموسع قدره و على المقتر قدره، و كيف لا يمتعها و هي في عدتها ترجوه و يرجوها و يحدث اللّه عزّ و جل بينهما ما يشاء؟ قال (عليه السلام): إذا كان الرجل موسعا عليه متع امرأته بالعبد و الأمة. و المقتر يمتع بالحنطة و الزبيب، و الثوب، و الدراهم، و إنّ الحسن بن عليّ (عليهما السلام) متّع امرأة له بأمة و لم يطلّق امرأة إلا متعها».

أقول: كلّ ذلك يدل على الرجحان و أنّ متاع المطلقة من محاسن الأخلاق و من الحقوق المجاملية. و أما استفادة الوجوب بنحو الإطلاق فمشكلة فلا بد من مراعاة القرائن الخارجية، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق بذلك.

ص: 116

سورة البقرة الآية 243

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اَللّهَ لَذُو .......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) الآية الشريفة في أسلوبها الرائع و بلاغتها الخلابة تبيّن آية من الآيات الإلهية التي وقعت في الأمم السابقة للعبرة و الموعظة. و قد ذكرها سبحانه و تعالى في ختام آيات الأحكام لتثبيت ما ورد فيها من الأحكام التي لوحظ فيها مصلحة الفرد و النوع و توطئة لما يأتي من الآيات التي تدعو إلى بذل النفس و الإنفاق.

و ترشد الإنسان إلى الرجوع إلى اللّه تعالى في مواضع الخطر و أنّ الموت و الحياة بيده جلّ شأنه و أنّ الحذر لا يقي القدر.

و تبيّن أنّ جميع التدبيرات الأرضية مقهورة تحت إرادة السماء و هي التي تحفظ الإنسان من جميع الشرور و الأخطار فيجب شكره تعالى و لكنّ أكثر الناس لا يشكرون.

ص: 117

التفسير

243 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ .

ألم أداة استفهام تستعمل في مقام التعجب و لم تأت في القرآن الكريم غالبا إلا و هي معدّاة ب (إلى) و إن كانت هي في نفسها متعدية فيستفاد منه أسلوب خاص يستعمل في الأمثال.

و الرؤية في المقام بمعنى العلم حيث نزّل علم المخاطب بما فيه من الإيمان و اليقين أو ما عليه من الظهور منزلة الرؤية بالبصر.

و الديار جمع الدار و هي المنزل و تستعمل في البلد أيضا بل الدنيا و الآخرة يقال الدار الدنيا و الدار الآخرة قال تعالى: وَ لَنِعْمَ دارُ اَلْمُتَّقِينَ [النحل - 30]، و قال تعالى: فَنِعْمَ عُقْبَى اَلدّارِ [الرعد - 24].

و المراد بجملة: وَ هُمْ أُلُوفٌ هو الكثرة الموجبة للاستغراب و يضرب به المثل للكثرة.

و مادة (حذر) تأتي بمعنى الاحتراز عما يخاف منه، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ [آل عمران - 28].

ص: 118

و هو إما مفعول له أي: خرجوا حذر الموت، أو مفعول مطلق أي:

يحذرون الموت حذرا.

و الخطاب و إن كان موجّها إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) لكن يراد به الأمة أيضا و كلّ من بلغه لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) واسطة الفيض.

و المعنى: ألم تعلم أيّها الرسول أو من يبلغه الخطاب إلى حال الذين خرجوا و هم على كثرة تثير الدهشة و العجب فرارا من الموت. و لم يبيّن سبحانه و تعالى سبب الموت في المقام هل هو مهاجمة الأعداء أو شيء آخر.

قوله تعالى: فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ .

تعبير عن الإرادة التكوينية بالأمر بالموت لبيان تمام قدرته و نفوذ أمره و هذا لا ينافي أن يكون الموت بسبب من الأسباب الطبيعية كالطاعون - على ما ورد في الأخبار - أو الغرق أو استيلاء الأعداء و نحو ذلك. ثم أحياهم بعد موتهم للعيش إما إتماما للحجة أو لأجل اعتبار الأمم اللاحقة من ذلك، أو لبيان تمام قدرته و نحو ذلك من المصالح لأنّ حذف المتعلّق يفيد العموم.

ص: 119

قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [التوبة - 111]، و من المعلوم أنّ كلاّ من المشتري و ملكه و قدرته و أوصافه حتى صفة الاشتراء ترجع إليه تعالى بنحو الاقتضاء و جميع ذلك فضل منه عزّ و جل فهو تعالى يعرّف عباده قدرته و يحوطهم بألطافه، و يجللهم برحمته و نعمائه، و يرشدهم إلى مواعظه و أحكامه.

و الفضل و الجود و الرحمة مفاهيم مختلفة و هي من صفاته الحسنى فإنّه تعالى جواد رحيم ذو الفضل، فالمفاهيم و إن كانت مختلفة لكنّها متصادقة فيه عزّ و جل، و الفرق إنّما يكون بالاعتبار.

و لعلّ الفرق أنّ الرحمة و الجود يعمّان جميع الموجودات، و الفضل يختص بالإنسان، هذا إذا لوحظت الرحمة بالمعنى العام و أما إذا لوحظت بعنوان الرحمانية و الرحيمية فقد تقدم الفرق بينهما في أول سورة الفاتحة.

و إنّ فضل الإنسان لا بد أن يرجع إلى كمال عقله العلمي و العملي و تأدبه بآداب اللّه و تخلّقه بمكارم الأخلاق فإنّه حينئذ يدوم بدوام الحيّ القيوم و ما سوى ذلك كظلّ زائل و نجم آفل.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَشْكُرُونَ .

وضع الظاهر (النّاس) موضع المضمر لبيان أنّ الأكثر من جميع الناس لا الطائفة السابقة الذين أحياهم اللّه تعالى.

و هذه هي الأكثرية المذمومة في جملة من الآيات الشريفة الذين وصفهم عزّ و جل بأوصاف مختلفة قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنعام - 37]، و قال تعالى: وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [غافر - 59]، و قال تعالى: فَأَبى أَكْثَرُ اَلنّاسِ إِلاّ كُفُوراً [الفرقان - 50]، إلى غير ذلك من الآيات.

و شكر اللّه واجب عقلي و ما ورد في الآيات إرشاد إلى حكم العقل و إتمام الحجة ليصح الجزاء ثوابا على الفعل و عقابا على الترك.

ص: 120

و هو يتحقق بالعمل بما يرتضيه المنعم المشكور و الاجتناب عما يسخطه و لا يرضيه و هو الشكر الحقيقي و مع وجوده يستغنى عن الشكر اللساني و لو مرة و مع عدمه لا يكفي الأخير و لو ألف مرة.

و هذه الآية المباركة تشير إلى حقيقة من الحقائق التاريخية التي وقعت في الأمم الماضية و لها شؤون في الكتب، و قد ورد ما يماثلها في العهد القديم.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّها مثل لا حقيقة لها. و ذكر آخرون: أنّ المراد من الموت هو استيلاء العدو و استعمار الأقوام و استعبادهم و إزالة استقلالهم و سلب مواردهم و نهب إمكانياتهم المادية و المعنوية و أنّ المراد بالإحياء هو نهوض الأمة في إبادة الأعداء و استعادة الاستقلال إليهم و دفاعهم عن حقوقهم.

و لكن ذلك خلاف سياق الآية الشريفة فإنّها كما ذكرنا تدل على حقيقة تاريخية واقعة في الخارج و سيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق بها.

ص: 121

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من هذه الآية المباركة أمور:

الأول: ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار عن مقدّرات اللّه تبارك و تعالى و أنّ الهلع لا يرد قضاءه و أنّ الواجب عليه التسليم و يشير إلى مدلول هذه الآية قوله تعالى: قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ اَلْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ اَلْمَوْتِ أَوِ اَلْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاّ قَلِيلاً [الأحزاب - 16]، فلن ينفع الفرار في دفع القدر المحتوم و إذا فروا فإنّهم ملاقوه لا محالة.

الثاني: لم يرد في الآية المباركة تفصيل و بيان كيفية الموت من أنّه كان جماعيا أو انفراديا في زمان محدود؟ و هل أنّهم ماتوا بسبب ما هربوا منه ؟ و لعلّ السّر في إخفاء كلّ ذلك أنّ الآية في مقام بيان أصل التسليم و أخذ العبرة من طبيعة الواقعة بأنّ الفزع و الجزع و الحذر لا يغيّر المصير أو القضاء المبرم و أنّ الصبر و الثبات و الرجوع إلى قضائه هو المتعيّن و أما جزئيات الواقعة، فهي لا تكون موضع العبرة غالبا.

الثالث: إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى اَلنّاسِ أولا: لتعدد الموضوع و هذا يقتضي الإظهار. و ثانيا:

الاهتمام بالفضل و إظهار قدرته عزّ و جل و انحصاره فيه تعالى.

ص: 122

بحث روائي

في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ اَلْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اَللّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ فقال: إنّ هؤلاء أهل مدينة من مدائن الشام و كانوا سبعين الف بيت و كان الطاعون يقع فيهم في كلّ أوان فكانوا إذا أحسّوا به خرج من المدينة الأغنياء لقوّتهم و بقي فيها الفقراء لضعفهم، فكان الموت يكثر في الذين أقاموا و يقلّ في الذين خرجوا، و يقول الذين خرجوا: لو كنا أقمنا لكثر فينا الموت، و يقول الذين أقاموا لو كنا خرجنا لقل فينا الموت.

قال: فاجتمع رأيهم جميعا أنّه إذا وقع الطاعون فيهم و أحسّوا به خرجوا كلّهم من المدينة فلما أحسّوا بالطاعون خرجوا جميعا و تنحوا عن الطاعون حذر الموت، فساروا في البلاد ما شاء اللّه ثم إنّهم مروا بمدينة خربة قد جلا عنها أهلها و أفناهم الطاعون فنزلوا بها، فلما حطوا رحالهم و اطمأنوا بها قال لهم اللّه تعالى: موتوا جميعا، فماتوا من ساعتهم و صاروا رميما تلوح و كانوا على طريق المارة فكنستهم المارة فنحوهم و جمعوهم في موضع فمرّ بهم نبيّ من أنبياء بني إسرائيل يقال له (حزقيل) فلما رأى تلك العظام بكى و استعبر و قال: يا ربّ لو شئت لأحييتهم الساعة كما أمتهم فعمروا بلادك و ولدوا عبادك و عبدوك مع من يعبدك من خلقك، فأوحى اللّه إليه أ فتحب ذلك ؟ قال: نعم يا ربّ ، فأحياهم اللّه فأوحى اللّه عزّ و جل إليه قل كذا و كذا فقال الذي أمره اللّه

ص: 123

عزّ و جلّ أن يقوله - فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) و هو الاسم الأعظم - فلما قال حزقيل ذلك الكلام نظر إلى العظام يطير بعضها إلى بعض فعادوا أحياء ينظر بعضهم إلى بعض يسبّحون اللّه عزّ و جل و يكبّرونه و يهلّلونه، فقال حزقيل عند ذلك: أشهد أنّ اللّه على كلّ شيء قدير. قال عمر بن يزيد فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام): فيهم نزلت هذه الآية».

أقول: سواء كان حزقيل من أوصياء بني إسرائيل كما عن بعض أو نبيا من أنبياء بني إسرائيل فإنّ له شأنا لمكان الاسم الأعظم الذي عنده، فأصل الواقعة مما لا ينكر و إنّما ذكرت في القرآن للردع عن الاعتماد على النفس من كلّ جهة و الحث على التوكل على اللّه تعالى، و للتنبيه على أنّ إرادته تعالى قاهرة و مهيمنة على ما سواه كما مرّ في الآيات السابقة و يأتي في الآيات اللاحقة إن شاء اللّه تعالى.

و عن عليّ (عليه السلام): «عند التقادير ضلت التدابير» فكم من هارب من بلية و هو واقع فيها بأشد مما فرّ منها. و أما محل الواقعة فسيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق به.

هذا، و إنّ رجلا من أمناء فرعون في مصر كان يدعى حزقيل أيضا و كان أول أمره نجارا و هو الذي سألته أم موسى (عليه السلام) أن يصنع لها تابوتا صغيرا تضع فيه ابنها الوليد ثم ألقت بوليدها في النّهر و قد حبس لسانه عند ما أراد إفشاء سرّ موسى (عليه السلام) و سيأتي في الآيات المناسبة تتمة الواقعة.

و لكن لا يخفى أنّ حزقيل النبيّ غير هذا الرجل. كما أنّه غير ذي الكفل كما توهمه بعض.

الطبرسي في الاحتجاج في حديث عن الصادق (عليه السلام) قال:

«أحيا اللّه قوما خرجوا من أوطانهم هاربين من الطاعون لا يحصى عددهم فأماتهم اللّه دهرا طويلا حتّى بليت عظامهم و تقطعت أوصالهم و صاروا ترابا فبعث اللّه في وقت أحبّ أن يري خلقه قدرته نبيا يقال له (حزقيل)، فدعاهم فاجتمعت أبدانهم و رجعت فيها أرواحهم و قاموا كهيئة يوم ماتوا لا يفتقدون من أعدادهم رجلا فعاشوا بعد ذلك دهرا طويلا».

ص: 124

أقول: قريب منه ما عن أبي جعفر (عليه السلام) كما في الكافي و يستفاد من هذه الروايات أنّ المعاد عين المبتدإ كما أثبتوه في الفلسفة الإلهية. و حزقيل أي: قوة الربّ .

ص: 125

بحث تاريخي

ذكر جمهور المفسرين أنّ الآية الشريفة تشير إلى قوم من بني إسرائيل وقع فيهم الوباء فخرجوا هاربين فنزلوا واديا فأماتهم اللّه تعالى، و قد اختلفوا في القرية التي كانوا فيها فنقل عن بعضهم أنّها (داوردان) من نواحي شرقي واسط. و قيل: إنّها قرية من قرى الشام.

كما أنّهم اختلفوا في عددهم بين مقلل لهم و هو أربعة آلاف و مكثر لهم و هو ستمائة ألف.

و قد اختلفوا أيضا في مدّة موتهم، و قيل أماتهم اللّه قبل آجالهم عقوبة لهم ثم بعثهم إلى بقية آجالهم.

هذا، و لكن بعثهم كان معجزة لنبي من أنبيائهم و هو حزقيل بن يوزي ثالث أنبياء العبرانيين الكبار كان معاصرا لأرميا و دانيال في القرنين السادس و السابع قبل الميلاد، و كان من الذين ساروا إلى السّبي و هو صغير السّن و كان يخبر رفقاءه في السّبي بالأخطار و المصائب المحدقة بهم، و له سفر من أسفار التوراة تكثر فيه الرؤيا و التشابيه الشعرية و الاستعارات التي كان الغرض منها تهذيب الأسرى و توبيخهم على تذمرهم و إصرارهم على خطاياهم و دعوتهم للتوبة و تسلية للأتقياء منهم برجاء العودة إلى ديارهم و هلاك أعدائهم.

و قد وردت هذه الواقعة تقريبا في الإصحاح السابع و الثلاثين من سفر

ص: 126

حزقيال حيث ورد فيه «كانت عليّ يد الربّ فأخرجني بروح الربّ و أنزلني في وسط البقعة و هي ملآنة عظاما، و أمرّني عليها من حلوها و إذا هي كثيرة جدّا على وجه البقعة و إذا هي يابسة جدّا فقال لي: يا ابن آدم أ تحيا هذه العظام ؟ فقلت: يا سيد الرّب أنت تعلم، فقال لي: تنبّأ على هذه العظام و قل لها:

أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الربّ هكذا قال السيد الربّ لهذه العظام هانذا ادخل فيكم روحا فتحيون و أضع عليكم عصبا و أكسيكم لحما و أبسط عليكم جلدا و أجعل فيكم روحا فتحيون إنّي أنا الربّ فتنبأت كما أمرت و بين ما أتنبأ كان صوت و إذا رعش فتقاربت العظام كلّ عظم إلى عظمه و نظرت و إذا بالعصب و اللحم كساها و بسط الجلد عليها من فوق و ليس فيها روح فقال لي:

تنبأ للروح تنبأ يا ابن آدم و قل للروح هكذا قال السيد الربّ هلمّ يا روح من الرياح الأربع و هبّ على هؤلاء القتلى ليحيوا، فتنبأت كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيوا و قاموا على أقدامهم جيش عظيم جدا جدا».

و كيف كان فإنّ كثيرا مما ذكره المفسرون لم يقم عليه دليل معتبر و قال ابن عطية: «إنّ هذه القصص كلّها لين الأسانيد» و إنّ الآية الشريفة لم يذكر فيها الا أصل الواقعة كما عرفت.

و أكبر الظن أنّ منشأ القول في هذه الواقعة بأنّ النبيّ هو الذي دعا اللّه تعالى في بعثهم و إحيائهم ما تقدم في سفر حزقيال و أنّه صاحب رؤيا قيام العظام اليابسة و كان متأخرا عن عصر موسى بكثير.

ص: 127

سورة البقرة الآية 245

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْع.......

اشارة

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) بعد ما بيّن سبحانه أنّ الإنسان لا يمكنه الفرار من القضاء الإلهي و أنّه تعالى هو الحافظ له في الأخطار و المصائب فكان ذلك توطئة لهاتين الآيتين و هو فرض القتال، و القرض الحسن، فإنّه مع العلم بأنّ الإنسان لا ينفعه الخوف و لا الاغترار بنفسه، و أنّ الأمر كلّه بيد اللّه تعالى و لا بد من متابعته في كلّ ما ينزله ليحوز السعادة و النجاح فأمر الناس بالجهاد و التضحية في سبيل اللّه لإعلاء كلمة الحق و حرضهم على الإنفاق بأسلوب رفيع خلاّب لأنّ الدفاع عن الحق يلازم الاستعداد له و تجهيز العدة و القوة من بذل المال و يبيّن سبحانه أنّه سميع لما يصدر من الإنسان في الاعتذار عن العمل و التثبيط عن الجهاد عليم بالنيات و أنّه القابض لما ينفقه المؤمنون و إليه مرجع الجميع.

ص: 128

التفسير

244 - قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

الخطاب عام لجميع الناس و هو ظاهر في الفرض و الوجوب، و قد قيده سبحانه في المقام و غيره بكونه في سبيل اللّه، و المراد به كل ما يؤدي إليه جلّت عظمته و التقييد به ظاهر فإنّ القتال في سبيل اللّه إعلاء للحق و نشر لدين اللّه الذي فيه صلاح الإنسان، و لأنّ القتال في سبيله فيه الحياة السعيدة و الكمال الذي يطلبه الإنسان و لأنّه المحفّز على مقارعة السيوف و اقتحام الصفوف، و لئلا ينسبق إلى الذهن أنّ القتال إنّما هو لإيجاد الحكومة الدنيوية و التسلط على رقاب الناس و توسيع المملكة الظاهرية كما يدعيه خصوم الإسلام.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه تعالى سميع لا تخفى عليه المسموعات سواء كانت منكم أو من غيركم عليم بالنيات و خطرات القلوب.

و فيه تحذير عن المخالفة و تحريض إلى مراقبة النفس فلا بد من الامتثال و نبذ ما يوجب الجبن و الفتور و التعلّل بما يوجب النفاق كما كان يفعله المنافقون و اليهود فإنّ من علم بأنّ اللّه سميع لما يتعلّل به و ما يقوله في الجهاد، عليم بالنيات راقب نفسه و استعد للقتال و مبارزة الأبطال و هان عليه

ص: 129

عمل الشدائد و الصعاب و تحمّل المشاق

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «صفرة في سبيل اللّه خير من حمر النّعم» أي: جوعة في سبيل اللّه.

245 - قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً .

خطاب في منتهى الفصاحة و أعلى مراتب البلاغة يتضمّن الحثّ على الإنفاق و التحريض على تقديم الخير بأسلوب رفيع يجد الفرد لذة النداء في البذل و العطاء و فيه غاية التأثير على النفوس الضعيفة يدعو الغنيّ و الفقير إلى البذل و تقديم الخير على السواء و يفتخر العاقل بالمبادرة إلى العمل بمفاده، و لذة المخاطبة تذهب كلّ مشقة و صعوبة كيف و إنّ الخطاب صادر من المالك الحقيقي و الغنيّ عن العالمين يستقرض عباده مما أنعم عليهم و يعدهم الدّفع بأضعاف مضاعفة و ما أبعد من حرم عن هذه المرابحة و ما أشد خسارة من بقي في الخسران و المخاطرة.

و من ذلك يعلم وجه تغيير الخطاب من الأمر في الآية السابقة إلى الاستفهام للتهييج و تنشيط الذهن بتغيير الخطاب و للإكبار و الاستعظام له كما هو مستعمل في كلّ أمر يراد إعظامه و يندر الإقدام عليه قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255].

و القرض: يأتي بمعنى القطع، لأنّ المقرض يقطع إضافة ما يقرضه عن نفسه و يربطها بالمقترض و هو على قسمين:

قرض حاجة، و هو محال بالنسبة إليه عزّ و جل لاستغنائه عن الغير بالذات و احتياج الكل إليه كذلك.

و قرض رباح، لأن يرجع المال إلى المقرض مع الربح الحلال و هو جائز بالنسبة إليه تعالى، و عليه يدور النظام المصرفي فيصرف المال المقترض في المنافع العامة ثم يرجع إلى صاحبه مع النفع، و لكن لا بد من تقييده بما إذا كان مطابقا للموازين الشرعية.

و المراد به في المقام: كلّ ما يقدّمه الإنسان من الخير الذي يرجع نفعه

ص: 130

إلى النفس أو المجتمع، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى به لبيان التنظير، و ليس المراد القرض الاصطلاحي الذي يؤخذ لرفع الحاجة و الضرورة و يشرح هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ أَقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً [المزمل - 20].

و قد اعتبر سبحانه ما يقدمه الإنسان من الخير إلى النفس أو المجتمع و ما ينفقه في سبيله قرضا لنفسه للحث و الترغيب فإنّ رغبة الإنسان إلى البذل ضعيفة في نفوس الكثيرين فلا بد فيه من الحث الأكيد و المبالغة الشديدة لقرضه تعالى، و للإرشاد إلى أنّ القرض إنّما يكون قرضا له إذا كان في سبيله و لوجهه عزّ و جلّ .

و القرض الحسن: ما كان خالصا لوجهه الكريم خاليا عن شوائب الشرك و الرياء و فاقدا للمنّ و السمعة و ما كان فيه منفعة عامة ترجع إلى الصالح العام و أن يتضمن الخير و ما يقرّبه إلى الربّ الكريم.

قوله تعالى: فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً .

جواب للطلب المؤكد في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ و يضاعفه منصوب جوابا للاستفهام و قرئ بالرفع أيضا.

و الأضعاف واحدها ضعف و هو: أداء المثل و زيادة، و منه الحديث:

«تضعف صلاة الجماعة على صلاة الفذ خمسا و عشرين درجة».

و هذه الآية المباركة تؤكد ما ورد في صدرها فإنّه يدل على أنّ ما يقدمه له تعالى لا يضيع و لما كان ذلك غير كاف في الترغيب أكده بأنّ الجزاء إنّما يكون أضعافا مضاعفة كثيرة - في الدنيا و الآخرة - لا نهاية لها و لا حدّ و لا يحصي عددها إلا اللّه تعالى.

و قد ورد في آيات أخرى تحديد الجزاء تارة بالعشرة قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام - 160]، و أخرى بالسبعمائة مثل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة - 261]، و ثالثة بقوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ - 39]، و يحمل الاختلاف على مراتب الخلوص عن الشرك و الرياء و الموانع، أو مراتب حسن النية و مراتب الانقطاع التام.

ص: 131

و قد ورد في آيات أخرى تحديد الجزاء تارة بالعشرة قال تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها [الأنعام - 160]، و أخرى بالسبعمائة مثل قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة - 261]، و ثالثة بقوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ [سبأ - 39]، و يحمل الاختلاف على مراتب الخلوص عن الشرك و الرياء و الموانع، أو مراتب حسن النية و مراتب الانقطاع التام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ .

حث منه تعالى على الإنفاق و إرشاد إلى أنّ أمر الرزق بيده عزّ و جل و القبض: القتر و الضيق. و يقابله البسط. و قرئ بالصاد تفخيما للسين لمجاورته للطاء.

أي: إنّ اللّه تعالى غنيّ عن العالمين لا يضرّه منع مانع فهو الباسط للرزق و القابض له يقترّ على وفق المصلحة و الحكمة المتعالية فإنّ الأمر كلّه بيده فلا ينبغي أن يخاف المنفق الفقر بإنفاقه لأنّ بيده تعالى بسط الرزق فلا بد من اغتنام الفرصة في البذل و الإنفاق من قبل أن يضيق الرزق و يذهب المال و تبقى الحسرة.

و يمكن أن يحمل هذان اللفظان على المعنى الأعم مما قلناه و من أنّه تعالى يقبض بيده المال المنفق في الخيرات و يبسط الجزاء بيده أيضا، و يشهد له قوله تعالى: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ هُوَ يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ اَلصَّدَقاتِ [التوبة - 104]، و ما ورد في السنة المقدسة من أنّ المال المنفق يصل إلى اللّه تعالى أولا ثم إلى المنفق عليه.

و إنّما ذكرهما في المقام لئلا يستبعد الجزاء العظيم الذي وعده اللّه تعالى على الإنفاق و القرض.

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ .

وعد للذين آمنوا و أنفقوا فإنّهم إليه يرجعون فيوفّيهم جزاء ما أنفقوا و وعيد للذين تركوا نهج الهدى و اتبعوا النفس الأمارة فتشتد حسرات المقتر الشحيح على ما فرط.

ص: 132

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآية المباركة على أمور:

الأول: أنّ تقييد القتال بكونه في سبيل اللّه في قوله تعالى: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ للإرشاد إلى أنّه لا بد من أن يكون الجهاد و القتال خالصا عن الأوهام المنحرفة و الأفكار السيئة و يكون لوجهه الكريم لتشييد الدّين و أركان الحق، و لبيان أنّ الجهاد في الإسلام إنّما يكون لتوسعة سلطان الحق و الدّين الذي فيه سعادة الدنيا و الآخرة، و ليس لأجل توسيع الرقعة و إيجاد السلطة الدنيوية.

الثاني: أنّ ذكر: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ في ذيل آية القتال للإعلام بشدة الاهتمام بالجهاد في الإسلام فإنّ في القتال هيجان النفس و اشتداد الغضب و ربما يقع المقاتل بسبب ذلك فيما لا يرضيه تعالى فأكد سبحانه بأنّ اللّه مراقب له في هذه الحال و حذّره عن المخالفة و النفاق.

الثالث: إنّما عبّر سبحانه بالقرض دون غيره لأنّ في القرض حفظ الرد و الجزاء و يشعر باحتياج المستقرض إلى المقرض فيكون أدعى لرفع اليد عن

ص: 133

كلّ ما يملكه و إنفاقه ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، و إثارة العطف في قلب المؤمن على كلّ ذي حاجة وفاقة.

الرابع: إنّما عبّر سبحانه و تعالى ب: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً زيادة في التلطف و إثارة للحنان و أيّ لطف أشد منه ؟! و هو مالك السّموات و الأرض غنيّ عن العالمين يستقرض منهم بالإنفاق.

الخامس: إطلاق القرض يشمل بذل النفس و المال و المنافع و الانتفاعات بل ما يعتقده الإنسان و مكارم الأخلاق فإنّ كلّ ذلك يعتبر قرض اللّه تعالى إذا كان حسنا خالصا عن شوب النفاق و الشرك و الرياء.

السادس: تدل الآية المباركة على التوحيد العملي و الحرية في الأعمال فإنّ اللّه يستقرض عباده فهم مخيّرون في الأداء و الوفاء و أحب أن يكون حسنا لوجهه الكريم فيتجلّى التوحيد العملي على الجوانح و الجوارح.

السابع: تشمل هذه الآية الشريفة و أمثالها ما إذا كان القرض مباشريّا أو تسبيبيا فإنّ فضله الكريم يعم الجميع، و تدل على ذلك أخبار كثيرة في السنة المقدسة.

الثامن: تشمل هذه الآية ما إذا كان الإقراض في زمان الحياة أو بعد الموت فتشمل جميع الوصايا التبرعية و غيرها من الخيرات.

التاسع: لا ريب في تفاوت مراتب الإقراض من حيث الفضل و الأفضلية كما شرح ذلك في السنة المقدّسة فعموم الآية المباركة تشمل جميعها كما أنّها تشمل ما إذا اشترط المقرض الزيادة على اللّه تعالى أو لم يشترط.

العاشر: أهم ما تشمل هذه الآية قرض الجاه بجميع مراتبه خصوصا لو كان لنجاة النفوس المحترمة و كان خالصا لوجهه الكريم.

ص: 134

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): ربّ زدني فأنزل اللّه تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ربّ زدني فأنزل اللّه: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً و الكثير عند اللّه لا يحصى.

أقول: قريب منه ما رواه في المعاني أيضا و لا بد أن يكون كذلك لأنّ الإضافة إليه غير محدودة بحد أبدا و إنّما التحديد يتحقق باعتبار متعلّقه و موضوعه و هو يختلف باختلاف المقاصد و النيات.

في تفسير العياشي عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً قال:

هي صلة الإمام (عليه السلام).

أقول: قريب منه غيره و إنّه من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق و قد تقدم في التفسير ما يتعلّق به أيضا.

القرطبي عن زيد بن أسلم قال: «لما نزل: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً قال أبو الدّحداح: فداك أبي و أمي يا رسول اللّه إنّ اللّه يستقرضنا و هو غنيّ عن القرض ؟! قال (صلّى اللّه عليه و آله): نعم يريد أن يدخلكم

ص: 135

الجنة به، قال: فإنّي أقرضت ربّي قرضا يضمن لي به و لصبيتي الدحداحة معي الجنة. قال (صلّى اللّه عليه و آله): نعم، قال: فناولني يدك فناوله رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): يده فقال: إنّ لي حديقتين إحداهما بالسافلة و الاخرى بالعالية، و اللّه لا أملك غيرهما قد جعلتهما قرضا للّه تعالى. قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): اجعل إحديهما للّه و الأخرى دعها معيشة لك و لعيالك. قال: فأشهدك يا رسول اللّه أنّي قد جعلت خيرهما للّه تعالى و هو حائط فيه ستمائة نخلة قال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا يجزيك اللّه به الجنة.

فانطلق أبو الدحداح حتّى جاء أم الدحداح و هي مع صبيانها في الحديقة تدور تحت النخل. فأنشأ يقول:

هداك ربّي سبل الرشاد * إلى سبيل الخير و السداد يبني من الحائط بالوداد * فقد مضى قرضا إلى التناد أقرضته اللّه على اعتمادي * بالطوع لا منّا و لا ارتداد إلا رجاء الضّعف في المعاد * فارتحلي بالنفس و الأولاد و البر لا شك فخير زاد * قدّمه المرء إلى المعاد قالت أم الدحداح: ربح بيعك بارك اللّه لك في ما اشتريت ثم أجابته أم الدحداح و أنشأت تقول:

بشّرك اللّه بخير و فرح * مثلك أدّى ما لديه و نصح قد متع اللّه عيالي و منح * بالعجوة السوداء و الزهو البلح و العبد يسعى و له ما قد كدح * طول الليالي و عليه ما اجترح ثم أقبلت أم الدحداح على صبيانها تخرج ما في أفواههم و تنفض ما في أكمامهم حتّى أفضت إلى الحائط الآخر فقال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): كم من عذق رداح و دار فياح لأبي الدحداح».

أقول: روي ذلك بطرق متعددة و في بعضها قال (صلّى اللّه عليه و آله):

ص: 136

«كم من عذق مدلل لأبي الدحداح في الجنة» و يدل عليه قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ و أما أمر رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله)، بإبقاء إحدى الحديقتين على ملك أبي الدحداح لأنّ البذل على العيال أيضا صدقة للّه لئلا يصير أبو الدّحداح عالة على الغير و ذلك مذموم في الشرع المقدس.

ص: 137

بحث عرفاني

تقدم أنّ اللّه جلّ جلاله محيط بما سواه إحاطة واقعية قيوميّة بالقدرة التامة و الحكمة البالغة و العلم الأكمل الأتم لا يعزب عنه شيء في السّموات و لا في الأرض، و من أهم جهات إحاطته السلطة على كلّ ما يضاف إليه عزّ و جل و لا يعقل بينونة عزلة له مع خلقه.

فسبيل اللّه تعالى لا بد أن يرجع إلى علمه و حكمته و هما عين ذاته الأقدس بالوجود العلمي الواقعي، و إن كان بالوجود الخارجي قتل العدو أو الظالم أو المنافق أو الكافر، و إماطة الأذى عن طريق العابر فإنّ كلّ ذلك من سبيله عزّ و جل بالوجود العلمي و إن كان فعلا خارجيا للعبد و الجزاء على ذلك كلّه من شؤون ذاته المقدّسة لأنّه يرجع إلى رحمته و هي من صفات الذات و كيف تعقل غفلته تعالى عن ذلك لا سيّما في مثل هذه الحياة التي لا يمكن درك حقيقتها، و استقراض هذا الحيّ القيوم و القبض و البسط بالنسبة إليه.

و كذا جميع ما يتعلق به من أهم جهات رحمته و حنانه و حكمته و كل ذلك من صفات الذات و جامعيته لتلك الكمالات غير المتناهية فلا بد أن يكون المتوجه إلى اللّه تعالى متوجها إلى هذه الجهات، فإنّه لا يفني نفسه بالقتال و لا ينعدم عنه المال بل يتحوّل في جميع ذلك إلى أحسن الأحوال و ينكشف عنه الغطاء و يرى ذلك في الحال و المال. و قد أخبر سبحانه و تعالى أنّ الكلّ يرجع إليه بجميع شؤونه و حيثياته لفرض كون مبدإ عملهم منه و هو تعالى هو المبدئ المعيد فلا بد في قوس الصعود من رجوع الشيء إلى مبدئه.

ص: 138

سورة البقرة الآية 246-252

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ قالَ .......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ (246) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ قالَ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ (249) وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ (252)

ص: 139

الآيات الشريفة نزلت عقيب الأمر بالقتال و الترغيب إلى القرض الحسن و بذل النفس و المال في سبيل اللّه تعالى و إقامة الحق و تبيّن موردا خاصا مما يمكن أن ينطبق عليه ما ورد في الآيتين السابقتين من جميع الجهات التي بينها سبحانه و تعالى.

فترشد الآيات المباركة إلى ما للقتال من الدخل في النظام الاجتماعي و التربوي و الديني، و ما يترتب عليه من السعادة إن كان في سبيل اللّه تعالى و الدفاع عن الحق و هي تبيّن الشروط التي لا بد من توفرها في متولّي الأمر و هي العلم و الصحة و الإيمان و بعض الصفات التي لا بد من أن تتحلّى بها الأمة و هي الإيمان و الجرأة و التوكل و عدم مخالفة القائد و نبذ الضعف و الجبن.

و بيّن سبحانه أنّ باجتماع تلك الشروط و الصفات تتحقق السعادة و الوصول إلى الكمال و القرب إلى التأييد الإلهي و النصر.

و هذا الذي ذكره سبحانه هو قصة قوم من بني إسرائيل طلبوا من نبيّ لهم أن يبعث لهم قائدا يقودهم إلى الدفاع عن النفس و الرجوع إلى الوطن و الأهل بعد أن اجتمع رأيهم على ذلك و قد وعدهم نبيهم بالنصر إن هم وفوا بما عاهدوا عليه، و لكن وهن عزمهم و انفسخت إرادتهم و انعدم فيهم الثبات و الاستقامة إلا قليلا منهم ممن ألهمهم اللّه تعالى الرشد و الصواب فبلغوا النصر.

و إنّما ذكر سبحانه هذه القصة، ليعتبر بها من بعدهم من الأمم و يسيروا على هدى القرآن حتّى يصلوا إلى ما كتبه لهم من النصر و السعادة.

و قد ذكر سبحانه في هذه الآيات كل ما له دخل في القيادة الصحيحة و النظام الاجتماعي السعيد.

ص: 140

التفسير

246 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى .

الملأ اسم جمع لجماعة من الناس يجتمعون على أمر و لا واحد له من لفظه كلفظ القوم، سموا بذلك لأنّهم يملؤون العيون منظرا و النفوس عظمة و بهاء.

و بعبارة أخرى: الجمع المعني بهم الناس.

و يأتي بمعنى الخلق و منه الحديث لما ازدحم الناس على الميضاة:

«أحسنوا الملأ فكلكم سيروى» أي أحسنوا خلقكم.

و هذا اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ [النحل - 29]، و قال تعالى: إِنَّ اَلْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ [القصص - 20]، و قال تعالى: وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا اَلْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [القصص - 38]، و هو من الأمور الإضافية فإنّ لكلّ قوم ملأ و لكل ملإ رأيا.

و تقدم الكلام في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ .

و المراد به: ألم تعلم قصة هؤلاء الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى (عليه السلام).

ص: 141

قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

المراد ببعث الملك: إقامته فيهم و إمارته عليهم. أي: طلبوا من نبيّ لهم أن يقيم فيهم ملكا و أميرا تصدر الناس عن رأيه في السلم و الحرب و النظام يقاتلون تحت لوائه في سبيل اللّه.

و قد اختلف المفسرون في اسم هذا النبيّ فقيل: إنّه أرميا النبي. و قيل:

إنّه يوشع بن نون. و قيل: إنّه شمعون.

و لكن جميع ذلك لا يمكن المساعدة عليه فإنّ أرميا معاصر لنبوخذ نصّر و سبي بابل و بينه و بين ما ورد في الآية الشريفة زمان طويل يقارب أربعمائة سنة و تسعة أجيال. و أما يوشع بن نون فهو فتى موسى و هو يخالف صريح الآية التي ذكر فيها أنّها كانت بعد موت موسى. و أما شمعون فإن كان هو ابن يعقوب فهو باطل و إن كان غيره فلم يعلم من هو هذا.

و لكن المشهور أنّه اشموئيل الذي هو معرب صموئيل المذكور في التوراة و كتب التاريخ و هو المروي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و في مجمع البيان و هو بالعربية إسماعيل و ذكره المحاسبي أيضا هذا و لكن ذكر شيخنا البلاغي (قدس سرّه) أنّ فيه منعا فإنّ إسماعيل في العبرانية (يشمع إيل).

و كيف كان فإنّ طلبهم من نبيهم كان بعد تسلط الملك الجبار عليهم و نالوا منه الذلة و الهوان و التشريد عن الديار و الأهل فطلبوا منه الجهاد.

و المستفاد من سياق الآية الشريفة و ذيلها وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ أنّ السبب في ذلك ظلمهم، فإنّهم عملوا المعاصي و أظهروا الخطايا و الأحداث المغيّرة للدّين، فسلّط اللّه تعالى عليهم من ينتقم ذلك منهم فأخرجهم من ديارهم و أبنائهم، فتوسّلوا في ذلك إلى نبيّ لهم ليجاهدوا مع الجائرين.

و الملك الذي سلّطه اللّه عليهم هو جالوت الذي تملكهم و سار فيهم بما أوجب فقد استقلالهم في الحياة و إخراجهم من الديار و بعدهم عن الأهل

ص: 142

و الأبناء حتّى بلغ بهم الأمر أن تيقظت فيهم روح العصبية فطلبوا من نبيهم أن يبعث فيهم ملكا يسيرون تحت لوائه و يقاتلون معه في سبيل اللّه، و يستفاد ذلك ممّا ورد في التوراة أيضا كما يأتي في البحث التاريخي.

قوله تعالى: قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا .

عسيتم - بفتح السين - و هي القراءة المشهورة و قرئ شاذا بالكسر.

و المراد بها في المقام: الإشفاق في المكروه أي: هل أتوقع منكم الجبن و التولّي في القتال إذا كتب عليكم.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ الأمر ليس بيد النبيّ الذي طلبوا منه الملك، بل أوكل الأمر إلى اللّه تعالى و لم يصرّح باسمه عزّ و جل تعظيما، لأنّ ما أوجب سؤالهم و هو المخالفة كانت مرجوة منهم و لذا ورد الخطاب على نحو الاستفهام و فيه إيماء إلى تولّيهم عن القتال و إنكارهم بعد ذلك لما ذكروه و تعهدوا به و إتمام للحجة عليهم. و الآية في كمال الفصاحة و البلاغة.

قوله تعالى: وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا .

أي: و ما يمنعنا من القتال و قد أخرجنا من الوطن و بعدنا عن الأهل و الأولاد، و الإخراج من الديار يوجب ذهاب الاستقلال و الوهن في العزيمة و المنع عن التمتع بملاذ الدنيا فقد كنّى سبحانه و تعالى عن جميع ذلك بالإخراج.

و ألاّ: هي أن المصدرية و لا النافية كما ذكر في العلوم الأدبية.

و قد ذكر في الآية الشريفة سببان للقتال:

أولهما: كونه في سبيل اللّه و أنّه دفاع عن الحق و العقيدة و هذا أهمّ دافع في الجهاد.

الثاني: الظلم عليهم بإخراجهم من الديار و البعد عن الأولاد و منعهم عن

ص: 143

التمتع بضروب الحياة فلا عذر بعد ذلك في ترك القتال و لا سبب عقليّ يتصوّر في الجبن و التولّي.

قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

التولّي: هو ترك العمل بالتكاليف بلا عذر.

أي: فلما فرض عليهم القتال و بعث الملك لهم بسؤال النبي من اللّه تعالى أعرضوا و تخاذلوا و جبنت نفوسهم لما رأوا العدوّ و فترت عزائمهم الا قليلا منهم ثبتوا على ما عاهدوا عليه و استمرت عزائمهم على القتال في سبيل اللّه تعالى.

و يستفاد من هذه الآية: أنّ إشفاق النبي عليهم في المخالفة لأجل أنّهم كانوا أهل الدّعة و العيش الرغيد و قد طلبوا الحرب بعد أن ثارت في نفوسهم الحمية الوقتية و أنفت نفوسهم من الظلم و لم يكن عن عقيدة راسخة، و التجربة تقضي بأنّ كلّ من كان كذلك يفتر عند الحرب و ينقاد إلى الطبع حين الشدة.

أو كان عن وحي من اللّه تعالى إليه بأنّهم سيتولّون عن القتال.

و كيف كان ففي الآية المباركة العبرة العظيمة و الإرشاد إلى الثبات و الاستقامة على العهد و الذمام و عدم الاغترار بالنفس في هيجانها و حماسها و لكنّها في الواقع لم تكن مستعدة و لم يثبت العزم فيها و إلى ذلك يشير

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تتمنّوا لقاء العدوّ و سلوا اللّه العافية فإذا لقيتموه فاثبتوا».

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ .

أي: و اللّه يعلم بالذين ظلموا من قبل ذلك، و الظلم ينطبق على التولّي عن أوامر اللّه تعالى و هو يوجب استحقاق العقاب عقلا، فهذه الآية الشريفة تفيد قضية عقلية مشتملة على العلة و المعلول أي: يجازيهم على ظلمهم لأنّه تعالى عالم بصدور ذلك منهم باختيارهم فتمت الحجة عليهم باستحقاقهم العقاب، و تسمّى مثل هذه القضية في علم الفلسفة بالقضايا التي قياساتها معها.

ص: 144

247 - قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً .

طالوت: هو من ملوك بني إسرائيل و يدعى المختار، لأنّه اختاره اللّه تعالى ملكا عليهم، ليجمعهم تحت سلطة واحدة و يمنعهم عن أعدائهم.

و كان أطول من سائر الناس من كتفه فما فوق و ذلك من المحاسن المأثورة لدى العبرانيين، ففي سفر صموئيل الأول: «من كتفه فما فوق كان أطول من كل الشعب» و لعلّه لذلك سمّي في القرآن الكريم بهذا الاسم و إلاّ فإنّه يدعى في كتب التاريخ و العهد العتيق ب (شاءول).

و هو ممنوع من الصّرف للتعريف و العجمة.

و في نسبة البعث إلى اللّه تعالى و تأكيده تنبيه لهم بأنّ اختيار الملك و إقامته إنّما يكون من اللّه تعالى و إرشاد لهم بأنّ الطلب لا بد أن يكون منه عزّ و جل و إن كان بواسطة النبي.

قوله تعالى: قالُوا أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ .

أنّى: أداة استفهام للسؤال عن الحال و المكان، و هي تدل على تحيّرهم في اختياره ملكا عليهم مع أنّ الملك بزعمهم يجب أن يكون من بيت الشّرف و العزّة و أن يكون واسع المال، و لم يتوفر في طالوت ذلك فكان سببا في اعتراضهم على هذا الاختيار.

و لا يختص ما زعموه بهم، بل كلّ ملإ إذا أعرض عن الحقيقة و غفل عن قضاء اللّه و قدره و اقتصر على المحسوس الظاهر يذعن بأمور هي مخالفة للواقع، ففي المقام إنّهم اقتصروا على الظاهر و ما اعتاد عليه الناس من أنّ الملك إنّما يكون ملكا إذا كان شريفا من بيت العزّ و الشرف ذا مال يمكنه أن يؤسس ملكه عليه و يديره به و هما كانا منتفيين في طالوت و لذا اعترضوا على اختياره.

و قال بعض المفسرين: إنّ سبب إنكارهم أنّهم كانوا من أولاد لاوي أو

ص: 145

بهوذا اللذين اجتمع فيهما النبوة و الملك و طالوت كان من أولاد بنيامين و أنّه كان فقيرا معدما.

و لكن ذلك غير صحيح:

أما الأول: فإنّ طالوت كان من أولاد شمعون كما في سفر التكوين - 9/46 أو من بني قهات كما في سفر أخبار الأيام الأول الإصحاح السادس:

34 و لم يكن من أولاد بنيامين بل هذا هو بولس الرسول الذي كان اسمه شاءول أيضا كما هو مذكور في كتب التاريخ و سيأتي في البحث التاريخي مزيد بيان لذلك.

كما أنّ الملوكية لم تكن في بني إسرائيل قبل طالوت و هو أول ملك فيهم فكيف كانت في أولاد يهوذا.

و أما الثاني: فإنّ المذكور في كتب التاريخ أنّه لم يكن فقيرا معدما بل حصل جانبا من ثروة أبيه و ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّه لم يكن واسع المال و هو أعم من الفقر، و أنّهم أحق بالملك لأنّهم الملأ من بني إسرائيل أصحاب عزّة و شرف و قد جبّل في نفوسهم إنكار من لم يكن مثلهم في العزّة و الشرف و الغنى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ .

الاصطفاء: الاختيار أي: اختاره لتدبير شؤونكم و إصلاح أموركم و تحقيق طلباتكم.

و يستفاد منه: أنّ الملوكية مزية خاصة يجعلها اللّه تعالى في بعض الأفراد لما فيه من الاستعداد و القابلية للتصدي لها. و فيه رد لمزاعمهم و أنّ الفضل ما فضله اللّه تعالى و الشريف من شرّفه عزّ و جل. و الملك هبة ربانية و منحة إلهية يمنحها لبعض عباده و لو كان خاملا حسب الحكمة المتعالية.

قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ .

البسطة: السعة، أي: أعطاه اللّه سعة في العلم و عظم الجسم و هما

ص: 146

صفتان ينبغي وجودهما في كلّ ملك و قائد، فإنّ بالأول يدير النظم و يدبر الأمور و هما يتطلبان معرفة المصالح و المفاسد و العلم بخصوصيات الإدارة فإنّ الملك عبارة عن تدبير الرعية و استقرار السلطة عليهم بما يوجب وصولهم إلى الكمال اللائق بهم.

و بالثاني يمكن بسط نفوذه و هيبته في المجتمع و تحقيق إرادته و سلطته و هذه الآية تشير إلى ما هو القوام في كلّ ملك و رأي من العلم و الشجاعة و أحدهما مكمّل للآخر فإنّ بالأول تساس الرعية بالصلاح و بالأخير يجلب الأمن و الأمان في البلاد.

و من ذلك يستفاد: أنّه لا دخل للمال و لا الشرف في الملك بل الملوكية الحقة تستلزم إيجاد المال لتدبير الملك.

قوله تعالى: يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ .

حصر للملكية به تعالى وحده و بيان أنّ جميع المناصب الدنيوية تحت مشيته المباركة و إرادته المقدسة، فهو الذي يفيض الملك على من يشاء و يمنعه عمن يشاء و ليس لأحد الاعتراض عليه فهو السبب المطلق، و تبيّن ذلك عدة آيات منها قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [آل عمران - 26].

فلا يمكن أن ينال الملك بالمكر و الحيلة و الخديعة و الكذب، فإنّ الخلق عباد اللّه و لا يرضى لعباده ذلك.

هذا إذا كان الملك من قبل اللّه تعالى لأوليائه و أصفيائه قال تعالى:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ [القصص - 68]، و أما الملك الظاهري الدنيوي فإنّه أمر اعتباري يدور مدار تحقق أسبابه و لكنّه أيضا لا بد أن ينتهي إلى قضاء اللّه و قدره اللذين يعمان كلّ ممكن و لكن رضاه و ارتضاءه أخص منهما.

و هذه الإرادة و المشيئة و إن كانت مطلقة إلا أنّه تعالى لا يفعل ذلك

ص: 147

جزافا من غير حكمة بل هو الحكيم العليم يفعل وفق الحكمة المتعالية يراعي في أفعاله صلاح العباد و كمالهم و يدل على ذلك أيضا عدة آيات.

كما لا يفيض فيضا على أحد إلا بالأسباب الظاهرية فإنّه تعالى:

«أبى أن تجري الأمور إلا بأسبابها» و تشهد لذلك الأدلة العقلية، و لهذا اعتبر سبحانه في الملك البسطة في العلم و الجسم و هو الموفق بتسخير الأسباب له.

فالآية بصدرها و ذيلها تبيّن أهم القواعد في النظام الأحسن فهو المفيض المطلق على العباد بما يرجع إلى مصالحهم و لكن الإفاضة لا تكون إلا بالأسباب الظاهرية لئلا يختل النظام و يعطل الإنسان عن العمل و يبطل قانون الجزاء.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه واسع في الفضل و التصرف و القدرة إذا شاء أمرا يقع لا محالة و لا يمنعه شيء.

عليم بوجوه الحكمة يفعل بما تقتضيه الحكمة في كلّ مقام.

و الواسع من أسمائه الحسنى يستعمل في كلّ جهاته المتصوّرة فيه جل شأنه ذاتا و صفة و فعلا و لهذا اللفظ سعة استعمالية يستعمل في الواجب و الممكن الجوهر و العرض. و إذا أطلق عليه سبحانه و تعالى يراد به أنّه ليس له حد محدود.

و قد قرن لفظ (واسع) بالعلم في عدة آيات، و لعله كناية عن السعة العلمية لجميع ما سواه و يستلزم ذلك السعة الوجودية و الغناء عن كلّ شيء و احتياج الكلّ إليه أي: فوق ما نتعقله من معنى السعة لأنّ العلم عين الذات فإذا كان للذات سعة فيكون العلم كذلك، و لكن لا يمكن درك هذه السعة.

فكما أنّ أسماء اللّه المقدسة توقيفية لا بد في إطلاقها عليه جل شأنه من ورود الإذن من الشرع و ليس لأحد استعمال كلّ لفظ فيه جلّت عظمته و إن كان مدحا، فكذلك المعاني في تلك الأسماء الواصلة إلينا من الكتاب و السنة

ص: 148

المقدّسة و ليس للعقول تحديدها بما تتعقّلها فهو جلّت عظمته واسع في جميع شؤونه و جهاته فوق ما نتعقله من معنى السعة و لهذا كان الأولى تحديدها بالمعنى السلبي أي: لا يحده و لا يعجزه شيء. و إنّما التحديد يكون في المتعلّق. و لا نقص في العقل إن عجز عن درك ذلك بل كمال العقل الاعتراف بالتقصير و العجز أمام عظمته و كبريائه تعالى.

248 - قوله تعالى: وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ .

الآية: هي العلامة الظاهرة و الحجة المعروفة الدامغة. و التابوت:

صندوق من الخشب يوضع فيه ما يراد حفظه و ستره.

و هذا التابوت كان له شأن كبير في بني إسرائيل، و قد وصفه العهد العتيق بأوصاف متعدّدة غريبة و يستفاد منه أنّ له أصلا أصيلا و موقعا محترما لدى الأنبياء بل كانت أمة موسى (عليه السلام) يتبركون به و يتوسلون إليه في الشدائد و يغلبون به على أعدائهم.

و يقال: إنّه الصندوق الذي وضعت أم موسى ابنها فيه بعد ولادته و ألقته في اليمّ بوحي من اللّه تعالى كما حكى اللّه قصتها في القرآن الكريم.

و روي أنّ بني إسرائيل كانوا في مأمن به من الأخطار و الشدائد تحترمهم الأمم و الشعوب ما داموا مهتمّين باحترام التابوت و تعظيمه و بقدر احترامهم تلك الآية الربانية كانوا معزّزين محترمين حتّى عصوا و استخفوا به فغلبوا على أمرهم و انتزع منهم فوقع فيهم الأحداث و تشتت جمعهم ثم رده اللّه تعالى إليهم تحمله الملائكة.

و ذكر بعض المفسرين: أنّ الأصل في هذا التابوت النزعة الوثنية التي كانت عند بني إسرائيل التي عرفوها من أيام المصريين الوثنيين.

و لكن ذلك باطل نشأ من الجهل بالتاريخ، بل المستفاد من الأدلة الواصلة إلينا أنّ التابوت من المقدسات الدينية التي كانت محترمة حتّى عند الأنبياء كغلاف المصحف الشريف الذي هو مقدّس عند المسلمين لكونه حاويا

ص: 149

لأعلى المعارف الإلهية و أسناها و كل مقدّس ديني - كالحجر الأسود مثلا - إذا استهين به يرفعه اللّه تعالى بلا فرق بين أمة و أمة أخرى، و لم يلاق المسلمون ما لا قوه إلا من جهة استهانتهم بالقرآن الكريم و ما أنزله اللّه تعالى

و قد ورد في بعض الأخبار «لتتبعنّ سنن من قبلكم باعا فباعا حتّى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه» و تشهد به التجربة أيضا و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بالتابوت.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل لم يقتنعوا بما احتج به نبيهم عليهم فجعل لهم علامة تدل على أنّ طالوت مختار من قبل اللّه تعالى و مؤيد منه و ستتحقق به أمانيهم و ترد إليهم عزّتهم و شوكتهم و وحدتهم فيكون التابوت من أدلة صدق ذلك الملك كما هو كذلك في جميع الدّعاوى، لأنّ نسبة التابوت في أمة موسى (عليه السلام) كنسبة المقدّسات الدينية في سائر الأديان السّماوية فإذا ظهر على يد أحد و هو يعمل بما فيه يكون ذلك دليلا على صدقه.

قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ .

السكينة: من السكون، و يراد منها ما تسكن إليه النفس فقد تكون موهبة ربانية كالحكمة توجب سكون النفس و قوة العزيمة تنبث على الجوارح و الجوانح فتصدر الأفعال و الأعمال وفق الحكمة و الشريعة قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ اَلسَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ اَلْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [الفتح - 4].

و قد تكون السكينة مكتسبة مما أنزله اللّه تعالى من الأحكام و المعارف، لأنّها توافق الفطرة فتطمئنّ النفس إليها و تبتعد عن الاضطراب و الشكوك و الأوهام.

و كان التابوت يشتمل على ألواح موسى (عليه السلام) و ما أنزل اللّه تعالى على أنبياء بني إسرائيل و قد رأوا منه العجائب و الغرائب في حياتهم في سلمهم و حربهم، فأوجب فيهم السكينة و اطمينان القلب و ربط الجأش و غيرها

ص: 150

من الصّفات الحميدة و ما ورد في الروايات من أنّ فيها ريحا هفافة من الجنّة كلّها مصاديق و إشارات إلى ما يوجب السكون.

و لا ريب في أنّ هذه السكينة بأيّ معنى أخذت تشتمل على لطيفة ربانية هي معجزة، فتكون بمنزلة الروح بالنسبة إلى الأجساد كما يسمّى القرآن و الوحي السّماوي روحا قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى - 52]، و قال تعالى:

رَفِيعُ اَلدَّرَجاتِ ذُو اَلْعَرْشِ يُلْقِي اَلرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ اَلتَّلاقِ [المؤمن - 15]، و إدراك هذا الرّوح يختص بمن كان مؤمنا له الأهلية لذلك، و هذا هو المستفاد مما وصل إلينا من النصوص.

قوله تعالى: وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ .

آل الرجل: خاصته، و يطلق على الفرد تعظيما كإطلاق الأمة عليه. و آل موسى و آل هارون نفسهما و من يتبعهما في العمل بما أتيا به، و هذا الإطلاق صحيح لا ريب فيه.

و بقية آل موسى و آل هارون: تشمل البقايا الجسمانية و المعنوية و آثار النبوة كعصا موسى و بعض ثياب الأنبياء (عليهم السلام) التي كانوا فيها يعبدون اللّه تعالى و يجاهدون في سبيله عزّ و جل لإزالة الشرك و العدوان و الألواح و غيرها من الآيات.

و هي موجودة كسائر آثار الأنبياء (عليهم السلام) و لا تقدر الطبيعة على إزالتها و فنائها و إنّها باقية مدى الدّهر و ستظهر إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ .

جملة حالية من يأتيكم. و هي تدل على أهمية التابوت و عظمته و فيها إشارة إلى أنّ التابوت بمكان من القداسة لا يليق بكلّ يد أن تلمسه لما فيه من السّكينة من اللّه فإنّه لا يمسّه إلا المطهّرون من الأقذار المعنوية و الظاهرية لا سيّما في شريعة موسى (عليه السلام) التي بنيت على التشديد و لذلك كانت

ص: 151

تحمله الملائكة و لم يكن أحد يرى الملائكة إلا أنبياء اللّه تعالى و أصفياؤه و هم الأقلون.

و قد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية الشريفة ما لا يليق بكلام اللّه تعالى و قداسة هذه المأثرة النبوية الخالدة فإنّ أغلب ما ذكروه هو من الإسرائيليات التي وردت في العهد القديم و هي غير سليمة من التحريف.

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

أي: إنّ في الإخبار بأنّ طالوت جعل ملكا و إتيانه بالتابوت الذي فيه السكينة و آثار النبوة و غير ذلك علامة مشخصة على أنّه منصوب من اللّه تعالى إن كنتم من المؤمنين باللّه و آياته لا من المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم فإنّهم لا تنفعهم آيات اللّه تعالى و دلائله، إذ المنافق عرف بالجحود و اللجاج فلا ينفعه البرهان و الاحتجاج.

و في الآية الشريفة دلالة على أنّهم سألوا نبيّهم الآية على صدق دعواه.

249 - قوله تعالى: فَلَمّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي .

فصل الجنود: إخراجهم عن مقرهم و السير إلى الحرب. و الفصل يأتي بمعنى القطع و المفارقة و منه قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْفاصِلِينَ [الأنعام - 57]، كما أنّ منه مفارقة المكان قال تعالى: وَ لَمّا فَصَلَتِ اَلْعِيرُ [يوسف - 94]، و منه الفصل المعروف في العلوم لانقطاع ما قبلها عما بعدها.

و الجنود جمع جند و هو: بمعنى المجتمع القوي من كلّ شيء، و سمي العسكر به لتزاحم الأفراد فيه و قوتهم. و في الكلمة دلالة على كثرة عددهم.

و الابتلاء: الاختبار قال تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ [البقرة - 124].

و النّهر: مجرى الماء الفائض و جمعه أنهار، و النّهر - بفتحتين - لغة في النهر بالفتح و السكون، و النّهار: الوقت الذي ينتشر فيه الضوء، فالفيضان

ص: 152

و الانتشار مأخوذ فيهما لكن الأول في الماء و الثاني في النور.

و الشرب معلوم: و هو تناول الماء بالفم و بلعه.

و المعنى: فلما ملك طالوت و جنّد جنوده من بني إسرائيل خرج بهم عن معسكرهم و قال لهم: إنّ اللّه يمتحنكم في طريقكم بنهر ليبين المطيع من العاصي.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ بني إسرائيل بعد أخذ المواثيق من نبيهم وفوا بما قاله لهم و اتخذوا طالوت ملكا عليهم فنظّم الجنود و رتبهم حسب درجاتهم و مراتبهم و استعرضهم ليعرف مقدار استعدادهم و أرشدهم إلى الحقّ و اختبرهم، لمعرفة الرّوح المعنوية فيهم و تمييز الثابت على إيمانه و الحافظ لذمامه عن غيره.

و أضاف الاختبار إلى اللّه تعالى ليعظم ذلك في قلوبهم، و لأنّه ولي الجميع و من عنده النصر و الظفر، و كان إبلاغ الاختبار قبل وقته لتتم الحجة به عليهم، و لا بد أن تكون الظروف و الحالات هي التي أوجبت أن يكون الاختبار بالشرب من النهر حتّى يكون مناسبا لحالهم، و قد ورد في التاريخ:

أنّهم كانوا في مفازة و كان الوقت حارا فشكوا قلة الماء فابتلاهم اللّه بالنهر و شرب الماء منه، كما هو مذكور في الآية الشريفة.

و يمكن أن يكون المرشد له إلى هذه الأمور هو النبي الذي نصبه ملكا على بني إسرائيل، و يدل عليه قوله تعالى: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي لأنّ مخالفة الأمر توجب سلب الانتساب عن المخالف فيسلك حينئذ في مسلك العدو.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي .

الطعم: تناول الغذاء و نسبته إلى الطاعم كنسبة الأكل إلى الآكل، و قد يطلق على ما يتناول أيضا قال تعالى: وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيّارَةِ [المائدة - 96]، و يطلق الطعام على البرّ كثيرا كما في الاستعمالات الفصيحة

ففي

ص: 153

الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في صدقة الفطرة: «صاع من طعام أو شعير».

و تستعمل المادة في شرب الماء على الطعام إما لأجل التغليب أو لأجل أنّ طعم الماء لا يدرك غالبا إلا في هذه الحالة، و قد أطلق على ماء زمزم أيضا

كما قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّه طعام طعم و شفاء سقم».

و لا يختص الطعام بالجسمانيات بل يشمل المعنويات أيضا،

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي فيطعمني و يسقيني ربّي»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «لا تكرهوا مرضاكم على الطعام و الشراب، فإنّ اللّه يطعمهم و يسقيهم»

و قد ورد في تفسير قوله تعالى:

فَلْيَنْظُرِ اَلْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ [عبس - 24]، أي: إلى علمه عمّن يأخذه.

و المراد به في المقام: الذوق، أي: و من لم يذقه فإنّه من أصحابي و سيكون معي.

قوله تعالى: إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ .

الغرفة - بالضم -: المقدار الذي يتجمع في الكف، و الاغتراف: الأخذ من المائع باليد و نحوها، و الاستثناء من الشرب، فيكون المنهي عنه هو الشرب بحيث يرتوي الشارب إلا من أخذ غرفة بيده.

و الآية تدل على أنّ الامتحان كان بالشرب بحيث يرتوي من الماء فالذين شربوا منهم كذلك هم الخارجون الذين تبرأ منهم، و من لم يشرب كذلك كان من المؤمنين المطيعين و هذا القسم على درجات في الصبر فمنهم من لم يتذوق الماء أصلا و هم على أكمل و أعلى درجات الإخلاص و الاعتماد على اللّه تعالى، و منهم من اغترف الماء بيده فقط و هم أدنى من الطائفة السابقة في الإيمان و الصّبر.

قوله تعالى: فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً .

أي: فخرج أكثرهم من الابتلاء عاصين إلا قليلا منهم وفوا بما عاهدوا

ص: 154

اللّه عليه و قد ثبت فيهم الإيمان و هذه الطائفة قليلون في كلّ عصر، و لا بد أن يجتاز الإنسان الامتحان ليعرف المؤمن الخالص عن غيره قال تعالى: الم أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ وَ لَقَدْ فَتَنَّا اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اَللّهُ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ اَلْكاذِبِينَ [العنكبوت - 3]، فليس كلّ من يدّعي الإيمان يكون صادقا في إيمانه إلا إذا خرج من الامتحان الإلهيّ مطيعا ثابتا. و امتحاناته تبارك و تعالى كثيرة لا حدّ لها و لا حصر يمتحن بها عباده حسب الاستعداد و مراتب الإيمان.

و اختلفوا في عدد الذين ثبتوا معه و المروي أنّ عددهم كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و يأتي في البحث الروائي ما يتعلّق به.

قوله تعالى: فَلَمّا جاوَزَهُ هُوَ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ .

الطاقة: القوة و القدرة. و جالوت هو القائد الفلسطيني المشرك الذي أذل اليهود و أخرجهم من ديارهم و الضمير في (جاوزه) يرجع إلى النّهر.

و الجواز: التخطي و المفارقة عن المكان قال تعالى: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ [يونس - 90].

أي: فلمّا تخطّى طالوت و جنوده المؤمنون به النّهر قال بعضهم لبعض:

لا قدرة لنا على محاربة جالوت و جنوده لكثرة عددهم و عدتهم.

و يستفاد من تعقيب هذه الآية بعد الامتحان بالكيفية السابقة أنّ المغترفين هم الذين قالوا هذا الكلام لأنّهم لم يكونوا على اليقين الذي عليه الطائفة التي لم تطعم الماء أبدا.

قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ .

الظن يستعمل في القرآن الكريم بمعنى اليقين، و بمعنى مطلق الرجحان، و بمعنى الوهم، و الفارق القرائن و تقدم في آية (46) ما يرتبط بالمقام.

ص: 155

و قيل: إن استعمل مع (أنّ ) المؤكدة يكون بمعنى اليقين، و يمكن أن يكون ذلك قرينة.

و هو في المقام: بمعنى اليقين، و القرينة على ذلك ملاقاة اللّه تعالى أي: غلبهم الشوق إلى لقاء اللّه تعالى و استيقنوا بالموت الذي يرفع به الحجاب عنهم و عن ملاقاة ربّهم فيجازيهم.

و هذه هي الطائفة التي لم تطعم من الماء و لم يغترفوا منه.

قوله تعالى: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ .

الفئة: الجماعة المتظاهرة التي يرجع بعضهم إلى بعض.

و الإذن بالنسبة إليه عزّ و جل: يستعمل في العلم و القدرة و الإرادة، و الأولان من صفات الذات و الأخيرة من صفات الفعل، فيستعمل الإذن في كلّ من صفات الذات و صفات الفعل و إن كان استعماله في الإرادة أغلب.

و العلم و القدرة و الحكمة و إن كانت مفاهيم مختلفة لكنها بالنسبة إليه تعالى ترجع إلى شيء واحد، لأنّ علمه جلّ شأنه عين ذاته الأقدس، و قدرته العليا ترجع إلى علمه و كذا الحكمة، و أما إرادته فإنّها عين فعله و الفعل منبعث عن العلم و الحكمة، فيرجع الجميع إلى شيء واحد، و الفرق بينها في القرآن العظيم يستفاد من القرائن التي منها سياق الآية المباركة بملاحظتها مع نظائرها.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ كثرة الجنود أو القوى الدافعة ليست بأنفسها منشأ للغلبة، بل هي من بعض الأسباب الظاهرية و السبب الحقيقي إرادة اللّه جلّت عظمته، و الأدلة العقلية و النقلية، بل التجربة تدل على ذلك، و في الكلام احتجاج على الخصم لإقناعه ببيان بعض المصاديق.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ .

وعد منه عزّ و جل بالمعية مع الصابرين، و هذه المعيّة معيّة قيّومية لا يعقل معها الهزيمة فإنّها من الخلف.

ص: 156

و فيه بشارة للصابرين بالجزاء الجميل و تلقين الجنود الصّبر و الثبات عند تقلب الأحوال و توارد الأهوال فتزداد شوكتهم و تشتد عزائمهم.

250 - قوله تعالى: وَ لَمّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

مادة (برز) تأتي بمعنى: الظهور في الفضاء، و الظهور من الأمور الإضافية، له مراتب كثيرة، و هو إما تكوينيّ كقوله تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً [الكهف - 47]، أو اختياري كقوله تعالى: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ [النساء - 81]، و منه مبارزة الصفوف للقتال، و المقام منه أو تسخيري مثل قوله تعالى: وَ بَرَزُوا لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [ابراهيم - 48].

و الإفراغ: الصب السيال بحيث يخلو المحل منه، و أصل الفراغ الخلو، شبّه الصّبر بالماء الذي في وعاء و هو كناية عن كمال الصّبر و نهايته، فطلبوا إفراغه عليهم.

و المراد منه: إفاضة الصّبر عليهم بتمامه.

و التنكير فيه لأجل شمول أنحائه من القتل و الجرح و الجوع و فراق الأهل و الأحبة و غير ذلك.

و مادة (ثبت) في أي هيئة استعملت تدل على اللزوم و الاستقرار فهي ضد الزوال و المحو في جميع استعمالاتها و هي كثيرة في القرآن الكريم قال تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرعد - 39]، و قال تعالى: وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً [الإسراء - 74]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [محمد - 7]، و قال جلّ شأنه: يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ [ابراهيم - 27]، إلى غير ذلك مما هو كثير في القرآن و السنة الشريفة و العرف، و المراد به الاستقامة في الحق.

و ثبوت الأقدام الذي هو الفاصل بين الإنسان و غيره و الاستقامة من أعلى منازل السالكين إلى اللّه عزّ و جل، و هي أول مقامات السير في الربوبيّة

ص: 157

العظمى المطلقة و الأحدية التي لا يعقل تحديدها بحد.

و النصرة: العون، و اللفظ كثير الاستعمال في القرآن الكريم قال تعالى:

وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ [آل عمران - 126]، و قال تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ [آل عمران - 160]، و النصير من الأسماء الحسنى.

و المعنى: و لما ظهر طالوت و جنوده المؤمنون في ساحة الحرب و القتال مع أعدائهم جالوت و جنوده لجأوا إلى اللّه تعالى يطلبون منه الصّبر في الوغى و الثبات على الحق و الجهاد و العون و النصرة على القوم الكافرين و لم يعتمدوا على أنفسهم مهما بلغوا في الإيمان و الطاعة.

و إنّما قدّموا الصّبر على الثبات و النصرة لأنّ بالصّبر يتحقق الثبات على الحق و به تتحقق النصرة على الأعداء فيكون ترتب النصر على الاستقامة من قبيل ترتب المعلول على العلة، فهم راعوا الترتيب الطبيعي.

و قد لوحظ في الآية الشريفة ما هو المطلوب في أدب الدعاء و هو أمور:

الأول: استعمال لفظ (الرّبّ ) فإنّه يدل على قربه مع مربوبه و معيته معه، و قد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلق به و قلنا: إنّه يستعمل في دعوات الأنبياء و من يتلو تلوهم عند انقطاعهم إلى ربّهم.

الثاني: طلبهم جميعا العون و الثبات و النّصر منه تعالى، قال تعالى:

وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ * وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ [آل عمران - 147].

الثالث: مراعاة الترتيب في كيفية الدعاء كما ذكرنا و تدل على كل واحد من هذه الأمور السنة الشريفة.

ص: 158

251 - قوله تعالى: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اَللّهِ .

الهزم و الدفع و الحطم و الكسر و الخرم نظائر، و الفرق بينها بالاعتبار، و يمكن أن يجعل الجامع الفصل و القطع، و لم تستعمل هذه المادة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام و الثاني قوله تعالى: جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ اَلْأَحْزابِ [ص - 11].

و المراد بإذن اللّه هنا: إرادته القاهرة الغالبة في استجابة دعوتهم و هزيمة عدوّهم.

و إنّما قدّم سبحانه الهزم مع أنّه يكون بعد قتل جالوت عادة للدلالة على سرعة استجابة دعائهم، فإنّ الدّعاء حين تحقق الابتلاء أقرب إلى الاستجابة لانكسار القلوب و توجهها إلى الواحد الأحد المحبوب، و إنّ النصر حليف ثبوت الاستقامة و الجد و الاجتهاد، و الأخبار في ذلك متواترة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و آله الطّاهرين (عليهم السّلام).

قوله تعالى: وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ .

أخر ذكر القتل ليكون ما ذكره عزّ و جلّ لداود من الفضائل على وتيرة واحدة و نسق متحد، فإنّه أبلغ في التمجيد و لبيان عظم النعمة عليه.

و المراد بالملك الملك الظاهري، كما أنّ المراد بالحكمة الملك المعنوي سواء أريد بها النبوة، أو المعارف الإلهية.

و حكمة داود و آله معروفة في السير و الأحاديث، و قد ورد فيها: «أنّ زبور داود كان مائة و خمسين سورة كلّها مواعظ و حكم و تمجيد ليس فيها حكم من الأحكام» و قد علّم سبحانه داود فصل الخطاب و ما يتطلبه الملك و الحكم و الإدارة و التدابير الظاهرية.

قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ .

الآية المباركة تبيّن حكما من الأحكام الاجتماعية الواقع في النوع

ص: 159

الإنساني، كما تذكر وجها من وجوه الحكمة في مشروعية القتال و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.

و المعنى: و لو لا دفع اللّه أهل البغي و الشر و الظلم بأهل الصّلاح و الإيمان لعمّ الطغيان و الفساد الأرض و أهلها، و يفسد المجتمع الإنساني باستيلاء أهل الشرور و الآثام.

و الآية تبيّن حقيقة من الحقائق و هي أنّ فساد النوع الإنساني يوجب فساد الأرض و ما عليها بالتبع كما أنّ صلاح الأرض إنّما يكون بصلاح أهلها، و يدل على ذلك آيات متعدّدة مثل قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96].

و ذلك لأنّ اللّه تعالى خلق الأرض و ما فيها من القوى المادية الطبيعية و جعل بينها تجاذبا طبيعيا تسير وفق النظام الأحسن و حكمة متعالية لا يمكن التخلف عنها، و هي تتحرّك نحو الكمال المعدّ لها، فلو اختلت هذه الوحدة المجعولة بينها لاختل النظام الكوني و نتج منه خلاف المطلوب هذا بالنسبة إلى النظام الكوني.

و أما بالنسبة إلى الإنسان الذي خلقه فوق هذه البسيطة و سخر له عالم المادة بجميع أجزائها و جزئياتها ليتمتع بها و قد جعله مختارا في أفعاله يفعل وفق إرادته و لكنّ اللّه تعالى أنزل التشريعات السّماوية و أودع العقل في الإنسان ليهديه إلى سبل السعادة و يرشده إلى الكمال الذي يتوخاه في سعيه، و لا يمكن الوصول إلى السعادة إلا بالاتحاد و التعاون بين أفراد المجتمع الإنساني و باختلال تلك الوحدة يغلب الفساد على النوع و من ثمّ يسري إلى الأرض التي سخرها له، و إنّما تختل الوحدة في النوع الإنساني لغلبة أهل الشر و الفساد على أهل الصّلاح و الإيمان و يعم الظلم أرجاء العالم و لا يمكن رفعه الا بدفع أهل الشر و الفساد و الغلبة عليهما ليمكن إعادة الوحدة بين الأفراد و تتحقق السعادة بها، فهي إنّما تقوم على أساس المغالبة بين الأفراد و الا كانت إرادة كلّ فرد من أفراد المجتمع هي الملزمة و لا يمكن للآخر دفعها و في ذلك

ص: 160

إبطال الاجتماع باستيلاء الفساد و الشر دائما و لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه، و هذا خلاف الحكمة.

فالدفع و الغلبة من فطريات كل ذي شعور و عليهما يتحقق الاجتماع الإنساني و هما يوقفان الفساد عند الأفراد و هذا من أهم القوانين التي بينها القرآن الكريم في النظام الاجتماعي للإنسان.

ثم إنّ الدفع و الغلبة لهما مصاديق مختلفة فقد يتحقق كلّ منهما بغلبة المؤمن على الكافر المفسد كما في مورد الآية المباركة، و قد تتحقق بدفع اللّه العذاب عن الأشرار و الفجار بسبب الأبرار و في ذلك وردت روايات خاصة عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ففي الحديث «إنّ اللّه يصلح - بصلاح الرجل المسلم - ولده و ولد ولده، و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم» و ربما يتحقق بدفع الظالم بالظالم و تضعيف شوكته ليستعد المصلح و يتمكن من قهره و الغلبة عليه. و ربما يكون من إلقاء اللّه تعالى الخوف في نفوس المفسدين من صولة القوة و ثورة النزاع و فوز الخصوم فيكون رادعا نوعيا في وقف الفساد و كبح جماح المفسد من الطغيان.

و يمكن تعميم دفع اللّه الناس بعضهم ببعض بمطلق الإرشاد إلى الحق سواء كان بالقول أو العمل أو العلم، و يشمل جميع أنحاء الأمر بالمعروف و النّهي عن المنكر مع تحقق الشرائط، كلّ ذلك صحيح و لا بأس به بعد انطباق الآية المباركة عليه.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

أي: أنّ دفع الفساد في الأرض بدفع الناس بعضهم ببعض تفضل من اللّه تعالى، و اللّه ذو فضل على الخلق لأنّ في تركه مفسدة عظيمة و إخلالا بالحكمة و إبطالا للاجتماع كما عرفت.

252 - قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ .

التلاوة: عبارة عن القراءة المتتابعة فكلّ تلاوة قراءة و لا عكس.

ص: 161

أي: أنّ تلك الحوادث التي وقعت في القرون الماضية و ما حكاه اللّه تعالى في هذه الآيات من إحيائه جلّت عظمته الموتى، و سؤال الملإ من بني إسرائيل من نبيهم ما سألوه في أمر الملك و القتال مع الأعداء و ابتلائهم بما قال لهم نبيهم، و صيرورة طالوت ملكا عليهم و ظهور التابوت و ودائع النبوة و غلبة داود على جالوت، و غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، و جعل اللّه داود ملكا و إعطائه الحكمة و العلم كلّ ذلك علامات علم اللّه و حكمته و قدرته تلاها للنبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالحق لتكون دليلا على نبوته و رسالته و إنّ الإحاطة بها من الأمي الذي لم يكن مرتبطا مع أحد من أهل الكتاب مستحيلة عادة إلا بوحي من السّماء و لا ينزل وحي السّماء إلا على الرسل و الأنبياء.

و قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ في مقام التعليل لقوله تعالى:

نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ . كما أنّ قوله تعالى: بِالْحَقِّ يبيّن معنى تلاوته جلّ شأنه.

يعني: إنّ تلك التلاوة حق و صدق لا مرية فيها فتكون تلاوته عز و جل بذاتها برهانا متقنا على حقية نبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)، لأنّ الممكن لا يصل إلى حد الواجب بالذات و ما من شؤونه إلا بنحو الإشارة. كما يقول أحدنا (أنا) مشيرا إلى نفسه و هو لا يعلم نفسه إلا بهذه الإشارة بل جميع العلماء مع نهاية جهدهم لم يحيطوا بها، فإذا كان هذا حال الممكن المحتاج فكيف بالواجب الغني بالذات، و يشهد لما قلناه كثير من الأدلة العقلية و النقلية تقدم بعضها و يأتي بعضها الآخر.

و لو عبّرنا عن ذلك بتجلّي الحق لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) لا بأس به فإنّ تجلياته المباركة لا تختص بجهة دون أخرى فهو كما يريد و يشاء.

ثم إنّ ذكر رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في آخر الآيات المتقدمة لبيان أنّ العلّة الغائية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الوجود الخارجي، و يكون توطئة لذكر الرسل في الآية التالية، و للإشارة إلى جلالة و عظمة رسالة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله).

ص: 162

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى أنّ بني إسرائيل لم تنفعهم المواعظ و الآيات التي كانت فيهم فاضطروا إلى الالتماس من نبيّهم أن يرسل إليهم من يجري فيهم القوة القضائية.

الثاني: يدل قوله تعالى: وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا على أنّ الإخراج من الديار و الأهل من الفساد الذي يحكم العقل و الشرع بلزوم المدافعة عنه، و قطع أصله و أساسه.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: اِبْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أنّ القتال في سبيله تعالى لا بد أن يكون مع ملك مبعوث من قبل اللّه تعالى بواسطة نبيّ أو وصيّ نبيّ منصوب من قبله بحيث ينتهي إلى اللّه تعالى.

الرابع: أنّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ يدل على انطباق الظلم على من تولّى عن أوامر اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة بلا عذر، و الظلم يوجب

ص: 163

استحقاق العقاب عقلا.

الخامس: يمكن أن يكون عدم ذكر النبيّ الذي طلبوا منه أن يبعث لهم ملكا لأجل أنّه من الأنبياء الذين كانت مهمتهم شرح التوراة و بيانها لبني إسرائيل، كما أنّ علماء أمة سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) شأنهم بيان ما يستفيدون من القرآن الكريم و السنة الشريفة للأمة.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ أنّ الملك الذي به تستقيم الأمور و تنظّم به البلاد و يسود العدل و الوئام و يقطع به دابر الأعداء و ذوي الآثام إنّما يكون بنصب من اللّه تعالى و في غيره يكون ملكا ظاهريا لا يتحقق منه الكمال المطلوب، و يشترط فيه العلم و الحكمة و الشجاعة أحدهما مفيد في تنظيم النظام و التدبير بين الأنام و الآخر في بسط العدل و الأمان و إذلال الأعداء و الكفار.

السابع: يدل قوله تعالى: تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ على أهمية التابوت و عظمته لأنّه لا يليق لكلّ أحد أن يلمسه إلا من كان طاهرا من الأقذار المعنوية و الظاهرية، كما أنّ قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يدل على أنّ سبب نصرتهم على أعدائهم هو التابوت الذي حلّت فيه السكينة التي أوجبت شد قلوبهم و تمسكهم بمبادئهم.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أنّ الامتحان لا بد منه في تمييز المستقيم عن غيره فإنّ مقام القتال و الجهاد شديد و تختلف درجاته حسب اختلاف استعداد الأفراد و الآية المباركة تدل على ذلك أيضا.

التاسع: يدل قوله تعالى: قالَ اَلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اَللّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ على أنّ ظنّ ملاقاة اللّه تعالى يوجب سكون النفس و اطمينانها و تحقير ما يصيب الإنسان في جنب اللّه تعالى و أنّ الملاقاة هي الغاية القصوى و الهدف الأسمى فلا يبالي بما يبتلى به لأجل تحصيل تلك الغاية فلا يهتم لكثرة الأعداء و شدتهم و قوتهم أية أهميّة كما حكى تعالى عنهم

ص: 164

بقوله جل شأنه: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً .

العاشر: يشمل قوله تعالى: وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ كلّ ما يشاء داود و أراده في امور الدين و الدنيا من دون اختصاص بشيء خاص، و لذا ورد في جملة

من النصوص: «إذا ظهرت دولة الحق يحكم فيها بحكم داود و لا يسئل الناس البينة» و لعلّ ذلك لشمول حكم داود لجميع متطلبات الحياة، و لغلبة الصدق عليهم و صفاء قلوبهم لا يحتاج إلى البينة، و يستفاد ذلك من الآيات المباركة الواردة في شأن داود كما يأتي إن شاء اللّه تعالى.

الحادي عشر: الفرق بين الحكمة و العلم كما في قوله تعالى: وَ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّا يَشاءُ أنّ الأولى في كليات الأمور، و الثاني في الخصوصيات و الجزئيات التي لا تختص بعصر دون آخر.

الثاني عشر: عن بعض المفسرين من الجمهور أنّ قوله تعالى: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ و ما في سياقه من الآيات المباركة يدل على ما اشتهر بين بعض الفلاسفة في العصر الحديث من التنازع في البقاء ثم بقاء الأصلح و استشهد بقوله تعالى: فَأَمَّا اَلزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمّا ما يَنْفَعُ اَلنّاسَ فَيَمْكُثُ فِي اَلْأَرْضِ [الرعد - 17].

و فيه أنّ الآيات الشريفة ليست في مقام بيان ما ذكره حتّى يصح التمسك بها في مقام الاستدلال و البرهان.

و أما أصل البحث أي: (التنازع في البقاء و بقاء الأصلح) فله وجه سواء لوحظ ذلك بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى، أو بالنسبة إلى نظام الطبيعة:

أما الأول - فلما أثبتوه في محلّه من قاعدة «إمكان الأشرف فالأشرف» و قد فصّلوا القول في ذلك.

و أما الثاني - فلأنّ الدار دار الاستكمال و التعالي و الترقي بالتجربة و الحس، فيثبت ذلك كلّه و هذا إجمال ما لا بد في شرحه من تفصيل المقال في محلّ آخر.

ص: 165

الثالث عشر: أنّ ما ورد في الآيات الشريفة هو من القضايا الحقيقية التي لا تختص بأمة دون أخرى و يمكن جريانها في هذه الأمة أيضا.

ص: 166

بحث اجتماعي

قد ثبت بالبراهين العقلية أنّه لا بد لكلّ موجود من سبب يستند وجوده و تحققه إليه فلا يعقل تحقق شيء بلا سبب من غير فرق بين الكليات و الجزئيات و الجواهر و الأعراض و الاعتباريات إلا في الواحد الأحد الصمد الذي هو موجود بذاته من ذاته لذاته. و عليه فإنّ الحكومة الظاهرية الحاصلة في هذا العالم لا بد لها من سبب يوجب حدوثها في المجتمع، و قد اختلفوا فيه على نظريات متعددة و نشير إلى أهمها على سبيل الإيجاز معرضين هنا عن صحتها و سقمها إلى موضع آخر يأتي إن شاء اللّه تعالى و هي:

الأولى: نظرية الحق الإلهي - و يرى أصحاب هذه النظرية أنّ الملك و الزعيم منصوب من قبل الإله، و الملوكية منحة إلهية يهبها الرب لمن يشاء، فلم يكن للشعب و المجتمع اختيار في تعيينه، و لهذه النظرية جذور تاريخية، بل كانت معتقد الشعوب السالفة في غابر العصور حيث كان الجمهور يرى أنّ المجتمع يتكوّن من عشائر مختلفة و أصول متعددة متنافرة و متعادية و لا يمكن دمجها إلا بقوة قاهرة و لا تتيسر هذه القوة إلا إذا كانت من الإله.

الثانية: نظرية الحق الطبيعي أو الانتخاب الطبيعي - حيث إنّ الأمة تحتاج إلى الأشخاص الموهوبين فلا بد أن يكون على رأس المجتمع من يكون موهوبا و قادرا على الإدارة و التدبير الأكمل فيكون سبب الحكومة

ص: 167

صلاحية الملك و الزعيم و توفر شرائط الحكومة فيه، و هذه النظرية حدثت بعد تقدم الإنسانية في الحضارة، فإنّ الإدارة و الحكومة تتطلب العلم بكيفية الإدارة و شؤون الحكم كما تتطلب الشجاعة و الإقدام لكبح جماح المعتدين، و هذان الأمران لا يتوفران في كلّ فرد فمن كان منهم موهوبا فهو الملك و الزعيم.

الثالثة: نظرية العقد الاجتماعي - التي نادى بها الفيلسوف الفرنسي روسو في عصر النهضة و هذه النظرية حدثت كرد فعل للاستبداد و النظريات السابقة، و لكن لها جذور تاريخية أيضا فإنّ أصحابها يرون اختيار الشعب للزعيم و لهم أدلة و شواهد يقيمونها على صحة هذه النظرية.

الرابعة: النظرية القائلة بأنّ الحكومة إنّما تنشأ بالقهر و الغلبة و لا يخلو عصر من الأعصار عن مثل هذه الحكومة خصوصا في الأقوام البدائية و العصور القديمة و ما بعدها.

هذه هي أهم النظريات في الحكومة و الإدارة و قد الّفت كتب كثيرة فيها و أقيمت الحجج على صحة كلّ واحدة منها.

و لكن الحق أن يقال: إنّ أصحاب كلّ نظرية من تلك النظريات إن أرادوا منها العلية التامة المنحصرة بحيث يمتنع تخلف المعلول عن العلة فالفرض بعيد في غالب ما ذكروه، و إن أرادوا بيان مجرد الاقتضاء فإنّ الجميع صادق، إذ يمكن أن يكون لشيء واحد مقتضيات كثيرة و حيث إنّ العالم الذي نعيش فيه عالم الأسباب و قد أبى اللّه أن يجري الأمور إلا بأسبابها فلا بد من انتهاء الجميع إلى مشيته و إرادته بنحو القضاء و القدر، و الأديان الإلهية و الكتب السماوية تحكم بأنّ السبب هو اللّه تعالى قال عزّ و جل: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [آل عمران - 26]، و قال تعالى:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [القصص - 68]، و لكنّ ذلك لا ينافي أن يتحقق ما أراده اللّه تعالى بسبب من الأسباب الظاهرية. و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ حيث إنّ مجرد كونه فردا من الأفراد لم يكن مستحقا للملك الظاهري بل اجتمع فيه بعض الصّفات التي أوجبت استحقاق هذا المنصب.

ص: 168

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ [القصص - 68]، و لكنّ ذلك لا ينافي أن يتحقق ما أراده اللّه تعالى بسبب من الأسباب الظاهرية. و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ حيث إنّ مجرد كونه فردا من الأفراد لم يكن مستحقا للملك الظاهري بل اجتمع فيه بعض الصّفات التي أوجبت استحقاق هذا المنصب.

و مما ذكرنا يعرف أنّ أكثر تلك النظريات ترجع إلى أمر واحد و هو أنّ الزعيم و الملك إنّما يكون كذلك إذا اجتمعت فيه الشروط المطلوبة و لكنّهم اختلفوا في الشروط فقد يجعل بعضها اختيار الشعب له ملكا و زعيما، أو شجاعته و سطوته و قهره الأعداء و الاستيلاء على الملك أو غير ذلك هذا بالنسبة إلى الحكومة الظاهرية.

و أما الحكومة الواقعية فلها شأن آخر لا يعلم أحد خصوصياتها إلا اللّه تعالى قال عزّ و جلّ : اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124].

ص: 169

بحث تاريخي

ذكر سبحانه و تعالى بعض ما جرى في بني إسرائيل في الآيات الشريفة المتقدمة و قد ذكرها جل شأنه في القرآن للاعتبار منها و العمل بما ورد فيها من الحقائق إذا عرض علينا ما يماثل تلك الحوادث.

و قد بيّن سبحانه و تعالى حقيقة تلك القصص و الصحيح منها و أعرض عزّ و جل عما ورد في التوراة و غيرها و هو يدل على وقوع التحريف فيها و عدم صحتها عقلا.

و قد ذكر العلماء و المفسرون في تفسير هذه الآيات أمورا لم يقم عليها دليل بل إنّ بعضها ينافي ما ضبط في الكتب التاريخية المعتبرة و قد أشرنا إلى ذلك في التفسير.

و لهذه القصص جذور إسرائيلية توافق ما ورد في العهد القديم في الجملة، و قد ذكرت القصة في سفر صموئيل الإصحاحات الحادي عشر فما بعد و نحن نذكر ما ورد فيها بإيجاز: «إنّ ناحاش زحف على مدينة يابيش جلعا في شرق الأردن التي كان يقيم فيها فريق من بني إسرائيل فطلبوا منه الأمان على أن يخضعوا له فقبل منهم ذلك بشرط و هو أن يقلع كلّ عين يمنى لهم ليكون ذلك عارا على جميع بني إسرائيل، أو لأجل الازدراء و الاحتقار و الاستهانة بهم و قد طلبوا منه مهلة سبعة أيام و أرسلوا إلى إسرائيل بحبر من

ص: 170

أحبارهم و هم يرفعون أصواتهم بالبكاء.

و لما بلغ الخبر صموئيل النبي جمع الناس في الجلجال و أعلنوا هناك تمليك شاءول و ذبحوا ذبائح سلامة أمام الرب و فرح الجميع فرحا عظيما، و قد استنفر شاءول بني إسرائيل فنفروا و كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثين ألفا فزحف بهم على يابيش و حرب العمونيين حتّى لم يبق منهم اثنان، ثم تحرّش شاءول بالفلسطينيين».

و ورد في الإصحاح الثاني عشر من السفر المزبور: «أنّ أحد قواده و ابنه يوناتان ضرب محرس الفلسطينيين في جبع فثاروا و صعدوا إلى بني إسرائيل و كان معهم ثلاثون ألف مركبة و ستة آلاف فارس و شعب كالرمل الذي على البحر في الكثرة و نزلوا على نحماس شرقي بيت آون - و هي قرية من رام اللّه - فذعر الإسرائيليون في المنطقة و التجأوا إلى المغاور و الكهوف و الفيافي و منهم من فر إلى شرق الأردن و سرى الذعر إلى بقية الملك حارب كلّ من كان موله من الأعداء من المؤابين و بين عمون و الادوميين و ملوك صوبة و الفلسطينيين و كان حيثما اتجه ظافرا و ضرب عماليق و أنقذ بني إسرائيل من أعدائهم و كانت حربا شديدة على الفلسطينيين أيام شاءول و كان رئيس جنده انير ابن عمه».

و في الإصحاح الخامس عشر: «أنّ صموئيل أوعز لشاؤول أمر الرب و تعالى و تقدس بضرب عماليق و تحريم كلّ أموالهم و عدم العفو عنهم و قتل كلّ رجل و امرأة و طفل و رضيع و كلّ بقرة و جمل و حمار و غنيمة لأنّ الرب افتقد ما عمله عماليق بإسرائيل فحشد شاءول مأتي ألف رجل و عشرة آلاف من يهوذا و زحف على عماليق و قبض على أجاج ملك عماليق حيّا و حرم جميع الشعب بحد السيف و عفا عن أجاج».

و في الإصحاح السادس عشر من سفر صموئيل الأول: «أنّ الرب أذهب عن شاءول روحه انتقاما منه لمخالفته لأمره في عماليق و بغته بروح رديئة - أي الصرع - و نصحه عبيده بدعوة داود لأنّه يجيد الضرب على العود و كان مجرّبا للصراعة فدعاه و أحبه و جعله حامل سلاحه و كان يضرب له على العود فيذهب الروح الردي».

ص: 171

و في الإصحاح السابع عشر: «ثم تجمع الفلسطينيون لأخذ ثارهم و حشد شاءول رجالا و سيره للقائهم و بروز جليات - و هو جالوت الذي ورد ذكره في القرآن الكريم - الذي كان طوله ستة أذرع و شبر على رأسه خوذة من نحاس و على جسمه درع حرشفي وزنه خمسة آلاف شاكل و جرموق نحاسي في رجليه و مزراق نحاسي بين كتفيه و سنان رمحه ستمائة شاكل حديد و نادى إسرائيل بالبراز و قال: إن قدر أحد منكم أن يقتلني يصير الفلسطينيون لكم عبيدا و إن قدرت عليه تصيرون أنتم عبيدا لنا و ظلّ يتحداهم أربعين يوما فارتاع شاءول و بنو إسرائيل من التحدّي فتقدم داود إلى شاءول و أبدى استعداده للمبارزة و اختبره - إلى أن قال - و لكن داود رماه من مقلاعه بمحجر فوقع في جبهته فسقط على وجهه و سارع داود و قطع رأس الفارس بسيفه و هرب الفلسطينيون و لحقهم بنو إسرائيل حتّى أبواب عقرون و فتكوا بهم و نهبوا معسكرهم و حمل داود رأس الجبار و أتى به إلى أورشليم».

هذه خلاصة ما ورد في هذه الأسفار من هذا الإصحاح. و لكن الفساد بيّن على كثير منها. و الحق ما ورد في الآيات المباركة كما مر و ما تضمنته السنة الشريفة.

ص: 172

بحث روائي

في تفسير القمّي عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) «أنّ بني إسرائيل بعد موت موسى (عليه السلام) عملوا المعاصي و غيّروا دين اللّه، و عتوا عن أمر ربّهم و كان فيهم نبي يأمرهم و ينهاهم فلم يطيعوه. و روي أنّه ارميا النبي (عليه السلام) فسلّط اللّه عليهم جالوت و هو من القبط فأذلّهم و قتل رجالهم و أخرجهم من ديارهم و أموالهم، و استعبد نساءهم، ففزعوا إلى نبيهم و قالوا: سل اللّه أن يبعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، و الملك و السلطان في بيت آخر، و لم يجمع اللّه النبوة و الملك في بيت واحد، فمن أجل ذلك قالوا لنبيّ لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه فقال لهم نبيهم: هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ أَلاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا و كان كما قال اللّه تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ فقال لهم نبيهم: إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً فغضبوا من ذلك و قالوا: أَنّى يَكُونُ لَهُ اَلْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ و كانت النبوة في ولد لاوي، و الملك في ولد يوسف، و كان طالوت من ولد بنيامين أخي يوسف لأمه و أبيه و لم يكن من بيت النبوة و لا من بيت المملكة، فقال لهم نبيهم: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي اَلْعِلْمِ وَ اَلْجِسْمِ وَ اَللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ و كان أعظمهم

ص: 173

جسما و كان شجاعا قويّا و كان أعلمهم إلا أنّه كان فقيرا فعابوه بالفقر فقالوا:

لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ فقال لهم نبيهم: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ .

و كان التابوت الذي أنزله اللّه على موسى فوضعته فيه أمه و ألقته في اليمّ و كان في بني إسرائيل معظّما يتبركون به فلما حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آيات النبوة و أودعه يوشع وصيه فلم يزل التابوت بينهم حتّى استخفوا به و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف ما دام التابوت عندهم، فلما عملوا بالمعاصي و استخفوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلما سألوا النبي بعث اللّه طالوت عليهم ملكا يقاتل معهم فرد اللّه عليهم التابوت كما قال: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ قال: البقية ذرية الأنبياء».

أقول: في هذه الرواية جهات من البحث:

الأولى: إنّ

قوله (عليه السلام): «و روي أنّه أرميا النبي» يمكن أن يحمل على أنّ هذه الرواية كانت منقولة إلى الإمام (عليه السلام) من ناقل فنسبه إلى الرواية، و يمكن أن يحمل لفظ «و روي» على نقل الراوي فتكون رواية معترضة.

الثانية: إنّ

قوله (عليه السلام): «و هو من القبط» لا بد أن يحمل على نحو من العناية فإنّ جالوت كان من العمالقة، كما مر.

الثالثة:

قوله (عليه السلام): «و كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت و الملك و السلطان في بيت آخر» يستفاد منه أنّه كان في بني إسرائيل نبوة و ملك يفترق كلّ واحد منهما عن الآخر، و لكن السّبر للتواريخ يشهد بأنّه لم يكن فيهم ملك و إنّما حدث في طالوت و هو أول ملك فيهم من بني إسرائيل و كان قبله عهد القضاة.

و أمّا قوله تعالى: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ اَلْمُلْكِ [يوسف - 101]، فليس

ص: 174

المراد منه الملك الظاهري، بل المراد النبوة، فإنّ يوسف (عليه السلام) لم يكن ملكا بل كان عزيز مصر و أميرها. و أما قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً [المائدة - 20]، فالمراد منه الملك المعنوي باعتبار الإيمان و عناية اللّه بهم بقرينة صدر الآية و ذيلها. مع أنّه لو كان المراد الملك الظاهري لصدق بحدوثه بعد طالوت و هو المتيقن و غيره لم يشهد له تاريخ معتبر.

و يمكن حمل الملوكية في كلام الإمام (عليه السلام) على القاضي المدبر للشؤون. و يحتمل أنّهم إنّما اختاروا الملوكية لأنّ السطوة في تلك الأعصار كانت بيد الملك.

الرابعة:

قوله (عليه السلام): «إلا أنّه كان فقيرا فعابوه بالفقر» يمكن حمله على الفقر الإضافي بقرينة قوله تعالى: وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ اَلْمالِ .

و تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك.

الخامسة: أنّ

قوله (عليه السلام): «و كان التابوت الذي أنزل اللّه على موسى (عليه السلام) فوضعته فيه أمه و ألقته في اليمّ » يشهد على صحة ذلك ما ورد في التوراة و بعض الأخبار، كما يشهد له الاعتبار أيضا.

السادسة: أنّ

قوله (عليه السلام): «البقية ذرية الأنبياء» ليس شرحا لما كان في التابوت بل هو كلام مستأنف، أو يفسر آل موسى و آل هارون.

السابعة: يستفاد من مجموع هذه الرواية أنّ الاستخفاف بالمقدّسات الدينية و مشاعرها يوجب استحقاق العقاب و رفع البركة و الأمان من بين الناس.

و في المجمع عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ هو شموئيل و هو بالعربية إسماعيل».

أقول: تقدم ما يرتبط بذلك في التفسير، و قلنا: إنّ الصحيح أنّ اشموئيل هو صموئيل و ليس إسماعيل و قصور سند الحديث يغنينا عن البحث في متنه.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ :

ص: 175

إِنَّ اَللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قال: «لم يكن من سبط النبوة و لا من سبط المملكة».

أقول: تقدم في التفسير ما يرتبط بالحديث.

في الكافي عن هارون بن خارجة عن أبي بصير عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث: «و قال اللّه تعالى: إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي فشربوا منه الا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا منهم من اغترف، و منهم من لم يشرب فلما برزوا لجالوت قال الذين اغترفوا: لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ . و قال الذين لم يغترفوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ اَللّهُ مَعَ اَلصّابِرِينَ ».

أقول: ورد هذا العدد في روايات كثيرة عن المسلمين. و أما قول الذين لم يغترفوا: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ لتمكن قدرة اللّه في قلوبهم فرأوا العدوّ كالعدم فضلا عن احتمال غلبته عليهم. و أما من قال: لا طاقَةَ لَنَا اَلْيَوْمَ بِجالُوتَ فلحصر أنظارهم على الأسباب الظاهرية، و تقدم في التفسير ما يتعلّق به أيضا.

في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى:

تَوَلَّوْا إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ قال: «كان القليل ستين ألفا».

أقول: اختلفت الأخبار في عددهم، فالمشهور ما ذكرناه، و في رواية أخرى أنّهم عشرة آلاف، و ما تقدم في الرواية هو أكثر العدد الذي ورد فيهم، و يمكن الجمع بينها بحمل الأقل على المخلصين منهم و البقية على مراتب إيمانهم و خلوصهم.

في تفسير القمي في قوله تعالى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قال الرضا (عليه السلام): «السكينة: ريح من الجنة لها وجه كوجه الإنسان فكان إذا وضع التابوت بين يدي المسلمين و الكفار فإن تقدم التابوت لا يرجع رجل حتّى يقتل أو يغلب، و من رجع عن التابوت كفر و قتله الإمام فأوحى اللّه إلى نبيّهم أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى، و هو رجل من ولد لاوي ابن يعقوب اسمه داود بن آسي - و كان آسي راعيا و كان له عشرة بنين أصغرهم

ص: 176

داود فلما بعث طالوت إلى بني إسرائيل و جمعهم لحرب جالوت بعث إلى آسي أن أحضر ولدك، فلما حضروا دعا واحدا واحدا من ولده فألبسه الدّرع درع موسى فمنهم من طال عليه و منهم من قصر عنه فقال لآسي هل خلفت من ولدك أحدا؟ قال: نعم أصغرهم تركته في الغنم يرعاها فبعث إليه فجاء به فلما دعي أقبل و معه مقلاع قال فناداه ثلاث صخرات في طريقه قلن: يا داود خذنا فأخذها في مخلاته و كان شديد البطش قويا في بدنه شجاعا فلما جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى (عليه السلام) فاستوى عليه ففصل طالوت بالجنود و قال نبيهم: يا بني إسرائيل إِنَّ اَللّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ في هذه المفازة فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فليس من حزب اللّه و من لم يشرب منه فإنّه من حزب اللّه.

إِلاّ مَنِ اِغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فلما وردوا النّهر أطلق اللّه لهم أن يغرف كلّ واحد منهم غرفة بيده فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فالذين شربوا منه كانوا ستين ألفا و هذا امتحان امتحنوا به كما قال اللّه تعالى».

أقول: الروايات في معنى السكينة مختلفة، و سيأتي التعرض لبعضها و الجامع بينها. و أما نطق الحجر لداود فليس ببعيد لأنّه من الأسرار المعنوية التي وهبها اللّه تعالى لنبيه داود (عليه السلام).

عن يونس بن عبد الرحمن عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال:

«جعلت فداك ما كان تابوت موسى (عليه السلام) و كم كان سعته ؟ قال (عليه السلام): ثلاثة أذرع في ذراعين قلت ما كان فيه ؟ قال: عصا موسى، و السكينة قلت و ما السكينة ؟ قال: روح اللّه يتكلّم كانوا إذا اختلفوا في شيء كلّمهم و أخبرهم».

و في المجمع قال: «إنّ السكينة التي كانت فيه ريح هفافة من الجنة لها وجه كوجه الإنسان عن عليّ (عليه السلام).

أقول: المستفاد من مجموع الأخبار الواردة في تفسير السكينة أنّها أمر معنوي من عالم الغيب مؤيد من قبل اللّه تعالى فيه إدراك و شعور، و لا ينافي ذلك تصورها بصور مختلفة، لأنّ ذلك من شأن موجودات عالم الغيب كما أثبتنا ذلك في أحد مباحثنا السابقة، فجميع الروايات تشير إلى معنى واحد

ص: 177

- و هو الأمر المعنوي من عالم الغيب - و إن كانت العبارات مختلفة. و المراد من الروح هي روح مخلوقة من اللّه تعالى.

في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلتّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ اَلْمَلائِكَةُ قال (عليه السلام): «تحمله في صورة البقرة».

أقول: يمكن أن تكون صورة البقرة منقوشة على التابوت و مزخرفة عليه بفعل الناس ترمز إلى شيء عندهم و الإمام (عليه السلام) ينقل ذلك الموجود الخارجي و إلا فليس ذلك من قبل اللّه تعالى، و على أي تقدير فلا ربط لصورة البقرة بما في التابوت.

في تفسير العياشي عن محمد الحلبي عن الصادق (عليه السلام) قال:

«كان داود و أخوة له أربعة و معهم أبوهم شيخ كبير و تخلف داود في غنم لأبيه ففصل طالوت بالجنود فدعا أبوه داود و هو أصغرهم، فقال: يا بني اذهب إلى إخوتك بهذا الذي قد صنعاه لهم يتقوّون به على عدوّهم و كان رجلا قصيرا أزرق قليل الشعر طاهر القلب، فخرج و قد تقارب القوم بعضهم من بعض.

فذكر عن أبي بصير قال سمعته يقول: فمر داود على حجر فقال الحجر: يا داود خذني فاقتل بي جالوت فإنّي إنّما خلقت لقتله فأخذه فوضعه في مخلاته التي تكون فيها حجارته التي كان يرمي بها عن غنمه بمقذافه فلما دخل العسكر سمعهم يتعظمون أمر جالوت، فقال لهم داود: ما تعظمون من أمره فو اللّه لئن عاينته لأقتلنّه فتحدثوا بخبره حتّى ادخل على طالوت.

فقال: يا فتى و ما عندك من القوة و ما جربت من نفسك ؟ قال: كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه فآخذه برأسه فأفك لحييه فآخذها من فيه. قال: ادع لي بدرع سابغة. قال: فأتي بدرع فقذفها في عنقه فتملأ حتّى راع طالوت و من حضره من بني إسرائيل، فقال طالوت: و اللّه لعسى اللّه أن يقتله به. قال: فلما أن أصبحوا و رجعوا إلى طالوت و التقى الناس. قال داود:

أروني جالوت فلما رآه أخذ الحجر فجعله في مقذافه فرماه فصك به عينيه فدمغه و نكس عن دابته. و قال الناس: قتل داود جالوت، و ملكه الناس حتّى

ص: 178

لم يكن يسمع لطالوت ذكر و اجتمعت بنو إسرائيل على داود، و أنزل اللّه عليه الزبور و علمه صنعة الحديد فلينه له، و أمر الجبال و الطير يسبحن معه. قال:

و لم يعط على أحد مثل صوته فأقام داود في بني إسرائيل مستخفيا و اعطي قوة في عبادته».

أقول: يمكن أن يكون تكلّم الحجر بإيجاد كلام من اللّه تعالى فيه ليكون تسكينا لقلب داود، و هو نحو معجزة كما أوجده تعالى في شجرة الطور لموسى (عليه السلام) قال تعالى: فَلَمّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ اَلْوادِ اَلْأَيْمَنِ فِي اَلْبُقْعَةِ اَلْمُبارَكَةِ مِنَ اَلشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اَللّهُ رَبُّ اَلْعالَمِينَ [القصص - 30]. و كالحصى التي نطقت في كفّ نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و ذلك كلّه يسير في قدرته الكاملة التامة.

و أما قوة داود و استواء الدرع عليه و قتله جالوت فإنّها كلّها من الأسرار المعنوية التي وهبها اللّه تعالى لرسوله داود، و كثير مما ورد في هذا الحديث مذكور في التوراة أيضا.

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) كما عن الثعلبي: «إنّ اللّه يدفع العذاب بمن يصلّي من أمتي عمّن لا يصلّي، و بمن يزكّي عمّن لا يزكّي و بمن يصوم عمّن لا يصوم و بمن يحج عمّن لا يحج و بمن يجاهد عمّن لا يجاهد، و لو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما أنظرهم اللّه طرفة عين ثم تلا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ ».

و قريب منه ما عن الصادق (عليه السلام) كما في تفسير القمي.

أقول: هذا من باب التطبيق و بيان أنّ دفع اللّه الناس بعضهم ببعض أعم من الغلبة الظاهرية الجسمانية و الروحانية المعنوية، و قد تقدم في التفسير بيان ذلك.

في ربيع الأبرار للزمخشري عن ابن عمر قال: «سمعت رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) يقول: إنّ اللّه ليدفع بالمسلم الصالح نحو مائة ألف بيت

ص: 179

من جيرانه البلاء ثم قرأ: وَ لَوْ لا دَفْعُ اَللّهِ اَلنّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ اَلْأَرْضُ .

أقول: تقدم في الحديث السابق ما يرتبط بهذا الخبر أيضا.

ص: 180

سورة البقرة الآية 253

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّنا.......

اشارة

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة وجوب الإنفاق و الجهاد في سبيل اللّه و إقامة الحق و قد ضرب عزّ و جلّ لذلك مثلا من الأمم الماضية ليعتبر به المؤمنون و لتطيب به نفوسهم بما يلقونه من العنت و المشقة في سبيل اللّه تعالى و إقامة دينه عزّ و جلّ و قد وعد المؤمنين بالنصر و بشرهم بالفوز و ختم الكلام بالمرسلين الذين هم واسطة الفيض أرسلهم اللّه ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور.

ذكر في هذه الآية الشريفة أنّ تلك الرسل ميّزهم اللّه تعالى في الفضل و الدّرجات بعد ما أيدهم بالبينات.

و ذكر من أسباب التفضيل ثلاثة: تكليم اللّه تعالى، و رفع الدّرجات و التأييد بروح القدس، و خص سبحانه من الأنبياء الذين بقي لهم أتباع، فأمرهم بالاتحاد و نبذ الاختلاف اللذين هما من أركان الأديان الإلهية. و لكنّهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات فآل أمرهم إلى الاقتتال، و لو شاء اللّه لأزال ما يوجب الاختلاف و الاقتتال و لكن قضت حكمة اللّه المتعالية أن يجري الأمور بالأسباب و لا رادّ لحكمه و هو يفعل ما يريد.

ص: 181

التفسير

253 - قوله تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ .

تلك إشارة إلى الرسل الذين تضمنهم قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَمِنَ اَلْمُرْسَلِينَ و أنّثها باعتبار الجماعة، و إنّما أتى بها بعيدا لبيان فخامة أمرهم و عظم شأنهم كما ذكرنا في قوله تعالى: ذلِكَ اَلْكِتابُ [البقرة - 3].

و مادة رسل من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم مفردة و جمعا، تكسيرا و سالما، مقرونا باللّه تعالى كقوله عزّ و جل: رَسُولٌ مِنَ اَللّهِ [البينة - 2]، و قوله تعالى: جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ [المائدة - 32]، و قوله تعالى: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي [المجادلة - 21]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ [الفتح - 28]، و غير ذلك مما هو كثير.

و الرسالة فضيلة إلهية و سفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات و الفضائل لها من الرفعة و البهاء و العظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزّ و جل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124]، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له و لا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح - 10]، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة و الدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان و العالم الرّبوبي غير المحدود بحد.

ص: 182

و الرسالة فضيلة إلهية و سفارة ربانية تشتمل على جميع الخيرات و الفضائل لها من الرفعة و البهاء و العظمة ما تقصر عن بيانها الألفاظ يمنحها عزّ و جل لبعض أفراد الإنسان كما قال جلّت عظمته: اَللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام - 124]، لأنّها ترجع إلى كمال الإنسان غير المحدود بحد المؤيد من عالم الغيب فإنّ آخر قوس الصعود في الممكنات إنّما هو مقام الإنسانية ثم ترتفع في عالم لا حدّ له و لا نهاية له لا سيما إذا زالت الاثنينية بالكلية، كما في قوله تعالى مخاطبا لحبيبه: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح - 10]، فإنّ آخر مقامات الإنسانية الكاملة و الدرجات المعنوية الشاملة هي الرسالة الإلهية فهي برزخ بين العالم المحدود بحد الإمكان و العالم الرّبوبي غير المحدود بحد.

و للرسول شأن عظيم في ربط عالم الشهادة بعالم الغيب، و هو السفير الخاص من العالم الربوبي اختاره اللّه تعالى لتبليغ الرسالة و هداية العباد إلى ما فيه السعادة.

و السفير لا بد أن يكون مطلعا على أسرار ما يكون سفيرا فيه و يحيط بخصوصيات من يكون سفيرا إليه، فإنّ عظم المنصب يقتضي ذلك و إنّ بالرسول يعرف المرسل

و قد قال عليّ (عليه السلام): «يعرف عقل الرجل من سفيره».

و رسل اللّه تعالى كلّهم يشتركون في فضيلة الرسالة و يستوون في هذه الموهبة الإلهية و المنحة الربانية و يتفقون في أصل النبوة القابلة للتشكيك إلى مراتب متفاوتة، و هم حقيقون بالاتباع و جديرون بالاقتداء بهديهم إلاّ أنّهم متفاضلون في الدّرجات و يتفاوتون في المقامات، ففيهم من هو أفضل و من يكون مفضّلا عليه بما امتاز به الأفضل من الخصائص التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى قال عزّ و جلّ : اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ [آل عمران - 179].

و المراد بالرسل جميعهم و لكن خصّ بعضهم بالذكر و الوصف تعظيما، أو لأجل بقاء اتباعهم و هم ثلاثة من أولي العزم: موسى، و عيسى، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله و عليهم).

قوله تعالى: فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الفضل معروف و هو إما فردي كفضل زيد على عمرو مثلا، أو صنفي كفضل العالم على الجاهل، أو نوعي كفضل الإنسان على الحيوان، أو جنسي كفضل الحيوان على النبات، و فضل الرسل بالنسبة إلى غيرهم من قبيل الثاني، و فضل بعضهم على بعض من قبيل الأول.

ص: 183

ثم إنّ تفاضل الرسل بعضهم على بعض يكون من جهات:

الأولى: اختلاف الاستعدادات التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

الثانية: اختلاف نفس هذا المقام الإلهيّ و الجمال المعنوي، فإنّه إذا كان للجمال الظاهري مراتب لا تحصى، فالجمال المعنوي أحق بذلك و أولى.

الثالثة: الاختلاف في العلوم و المفاض عليهم من عالم الغيب.

الرابعة: الاختلاف في مراتب الانقطاع إليه عزّ و جل التي لا نهاية لها.

الخامسة: الاختلاف في مراتب تحمل الأذى في إبلاغ الرسالة الإلهية.

السادسة: الاختلاف في عدد الأمة و الأتباع و فضائلهم المعنوية.

السابعة: الاختلاف في الشريعة في كمالها و تأييدها و نحو ذلك.

الثامنة: الاختلاف في كون كتبهم السماوية شرعة و منهاجا لعدد من الأنبياء اللاحقين.

التاسعة: الاختلاف في تشعير المشاعر الدّينية و إعلامها.

العاشرة: الاختلاف في البينات و الآيات و المعجزات كمية و كيفية.

الحادية عشرة: الاختلاف في التصرف في هذا العالم و هم في عالم البرزخ في كونهم واسطة الفيض و البركات التي تنزل عليهم ثم منهم إلى غيرهم.

الثانية عشرة: الاختلاف في الغرض و هو مراتب الجنان فإنّ الأنبياء (عليهم السلام) يختلفون فيها فإنّ بعضهم في جنة الرضا و بعضهم في الرضوان.

و بعض تلك الأمور من الأمور التكوينية الذاتية و بعضها من المجعولة للذات، و الجميع تنتهي إليه عزّ و جل إمّا بالجعل البسيط أو المركب و لا يسع المقام تفصيل ذلك.

ص: 184

و كيف كان فإنّ جميع تلك الجهات موجودة في نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي جعله خاتما لما سبق و فاتحا لأبواب المعارف على اللاحقين و هو صاحب المعجزة الخالدة.

قوله تعالى: مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ .

في الآية المباركة التفات عن الضمير إلى الظاهر، و عن الحضور إلى الغيبة تفخيما لهذه الدرجة و المنقبة و تعظيما لهذه الفضيلة، و لأنّ التكليم إنّما يكون فضيلة عالية و خصلة سامية إذا كان مع عظيم، فاكتساب الفضل و السّموّ - في المقام - بإضافته إلى اللّه عزّ و جلّ .

و مادة (كلم) تأتي بمعنى التأثير المدرك بإحدى الحاستين كالكلام بالسمع، و الجرح بالبصر، فالكلام إظهار المراد، و لا يعتبر في التأثير و الإظهار أن يكون بالآلات الجسمانية، لأنّ الألفاظ موضوعة للمعاني الأعم مما يمكن إحاطة العقل بها أو ما لا يمكن ذلك، و لكن لو فرض أنّه أحاط بها لحكم عليه بالصدق و الحقيقة، و هذا وجداني فإنّه كم كانت من معان غير معقولة في غابر العصور إلا أنّها صارت معقولة و محسوسة في عصرنا، و سيأتي في البحث الفلسفي ما يتعلق بالكلام الإلهي.

و الآية المباركة مجملة في المقام و تشرحها آية أخرى من أنّه كان مع موسى بن عمران (عليه السلام) قال تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و قال تعالى: قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف - 144]، و قد ورد في السنة الشريفة متواترا تكليم اللّه تعالى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بدون توسط جبرائيل كما في المعراج و غيره.

و قيل: إنّ المراد مطلق الوحي لأنّه تكليم خفي و قد اطلق عليه التكليم في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اَللّهُ إِلاّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى - 51].

و لكن هذا الوجه لا يمكن المساعدة عليه فإنّ وحي اللّه و إن كان عاما

ص: 185

لجميع الرسل و الأنبياء و لكن المعهود من التكليم غير الوحي العام مضافا إلى أنّه ينافي التبعيض الوارد في الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ .

فيه التفات عن الحضور إلى الغيبة أيضا تعظيما و تفخيما لهذه الفضيلة السامية حيث نسب الرّفع إلى اللّه تعالى كما ذكرنا آنفا.

و رفع الدّرجة من الأمور الإضافية النسبية فيصح أن يكون لرسول رفع درجة من جهة و لآخر رفع درجة من جهة أخرى، و لا ريب في أنّ لسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) أرفع الدّرجات على سائر المرسلين (عليهم السلام)

لما ورد عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «آدم و من دونه تحت لوائي يوم القيامة» و في الدنيا أيضا، يكون العلة الغائية للخليقة مطلقا، و قد ثبت في محلّه أنّ العلة الغائية علة فاعلية بوجودها العلمي و غائيّة بوجودها الخارجي، و مع ذلك قال تعالى مخاطبا له (صلّى اللّه عليه و آله): أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [النحل - 123]،

و في بعض المأثورات المعتبرة: «أللهم صلّ على محمد كما صلّيت على إبراهيم» و يستفاد من مجموع ذلك رفع درجة إبراهيم (عليه السلام) من جهة و إن كان لسيد الأنبياء أرفع الدّرجات من سائر الجهات.

و لا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم و السنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك، و قد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة، قال تعالى في إبراهيم: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [الصّافات - 79]، و قال تعالى في إدريس (عليه السلام): وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم - 76]، و قال تعالى في يوسف (عليه السلام): نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يوسف - 76]، و قال تعالى في داود: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء - 163]، و غير ذلك مما خص به بعض الأنبياء، و أما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا و سنة قال تعالى: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم - 4]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء - 107]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ - 28]، و قال تعالى: وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ [الأحزاب - 40]، و خص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب، و أنّ فيه تبيان كلّ شيء، و أنّه محفوظ من التحريف و الزيغ و الباطل، فقال تعالى فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، إلى غير ذلك من خصائصه (صلّى اللّه عليه و آله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء و مما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.

ص: 186

و لا بد من استفادة رفع الدّرجات لكلّ نبيّ من القرآن الكريم و السنة الشريفة لأنّ العقل لا يحيط بذلك، و قد ورد في القرآن الكريم في بعض الأنبياء (عليهم السلام) ما يدل على رفع درجاته من جهة، قال تعالى في إبراهيم: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً [البقرة - 124]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [الصّافات - 79]، و قال تعالى في إدريس (عليه السلام): وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم - 76]، و قال تعالى في يوسف (عليه السلام): نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ [يوسف - 76]، و قال تعالى في داود: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [النساء - 163]، و غير ذلك مما خص به بعض الأنبياء، و أما نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فقد ورد فيه ما لا يحصى كتابا و سنة قال تعالى: إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم - 4]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء - 107]، و قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سبأ - 28]، و قال تعالى: وَ لكِنْ رَسُولَ اَللّهِ وَ خاتَمَ اَلنَّبِيِّينَ [الأحزاب - 40]، و خص كتابه المنزل عليه بأن جعله المعجزة الخالدة المهيمن على جميع الكتب، و أنّ فيه تبيان كلّ شيء، و أنّه محفوظ من التحريف و الزيغ و الباطل، فقال تعالى فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، إلى غير ذلك من خصائصه (صلّى اللّه عليه و آله) التي رفع بها درجاته على سائر الأنبياء و مما ذكرنا يظهر الوجه في كثير مما قاله المفسرون في المقام.

قوله تعالى: وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ .

البينات جمع بينة: و هي الدلالات الواضحة و العلامات الظاهرة لكلّ أحد كإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطير، و نزول المائدة من السّماء و نحو ذلك من المعجزات و الآيات التي تفرّق بين الحق و غيره.

و مادة (قدس) تأتي بمعنى الطهارة المعنوية في كلّ ما لا ينبغي و لا يليق كالتي في قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً [الأحزاب - 33]، فهي نزاهة معنوية توجب الارتباط بعالم الغيب.

و لها استعمالات كثيرة في الكتاب و السنة. و حظيرة القدس فسّرت بالشريعة المقدّسة كما فسّرت بالجنة أيضا، و هما واحد في الحقيقة و إن اختلفا مفهوما.

و روح القدس هو جبرئيل كما في بعض الأخبار، و عليه جمع من المفسرين و بعض أهل اللغة. و في بعض الأخبار أنّ روح القدس أعظم من جبرئيل.

و قيل: إنّ روح القدس عبارة عن الروح الطيبة المقدّسة.

ص: 187

و فيه: أنّه خلاف المنساق من هذه الكلمة التي يستفاد منها أنّها علم لفرد خاص.

و التأييد: النصرة و التقوية، و تأييد عيسى بروح القدس غير خلقه من نفخة روح القدس كما هو الظاهر، فإنّ هذه النفخة كالمادة العاقدة في رحم مريم ابنة عمران، و التأييد إنّما هو بعد الخروج من الرّحم.

و قد كرّر سبحانه و تعالى تأييد عيسى (عليه السلام) بروح القدس في القرآن الكريم ثلاث مرات إحداها في آية (87) من هذه السورة و الثانية هنا، و الثالثة في قوله تعالى: إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ [المائدة - 110]، و لم يذكره تعالى في سائر الأنبياء حتّى في شأن إبراهيم (عليه السلام) الذي هو مؤسس الملّة الحنيفية و صاحبها، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه تعالى حيث خلق عيسى من غير أب، و هو خرق لنظام التكوين كرّر تعالى ذلك و صرّح باسمه لتثبيت القلوب و عدم المبادرة إلى جحود الواقع المحجوب، كما كرّر عزّ و جل قصة خلق آدم (عليه السلام) في موارد من القرآن الكريم، فيكون التصريح باسمه (عليه السلام) في المقام مع عدم ذكر غيره من الرسل ردا لما كان يفعله اليهود في تحقيره و ما يعتقده النصارى في ألوهيته.

ثم إنّ التأييد بروح القدس أو غيره من الملائكة المدبرة لهذا العالم بإذن اللّه تعالى لا يلزم أن يكون بنحو الاتحاد أو الحلول، بل يكفي فيه نزول شارقة من شوارق عالم الغيب على من أراد اللّه تعالى تأييده و هذه الإشراقات الغيبية مسخرات بأمر اللّه عزّ و جل و إرادته الكاملة التامة فلا تختص بحال أو زمان بل هي تدور مدار مشيئته عزّ و جل.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

فيه التفات من الإضمار إلى الإظهار، لأنّه تعالى في مقام إظهار القدرة الأزلية، و بيان أنّ الإرادة و المشيئة لا يغلبها شيء فهو عزّ و جل المهيمن على جميع الحوادث كلياتها و جزئياتها يحكم ما يريد و يقضي ما يشاء وفق الحكمة

ص: 188

المتعالية فهو الإله الذي لا يعجزه شيء، و لذا أظهر في مقام الإضمار، و عدل إلى الغيبة.

و المشيئة الإلهية تارة تكون حتمية و أخرى اقتضائية، و الأولى هي المراد في قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا ، و الثانية هي المراد في قوله تعالى:

وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا و بذلك يرفع الجبر.

و المعنى: و لو شاء اللّه أن يلجئ عباده على عدم الكفر و العصيان و ترك الاقتتال فهو المهيمن على جميع عباده القادر القاهر الذي لا يعجزه أحد و لكن اقتضت حكمته المتعالية أن لا يلجئهم على ذلك فقد خلقهم و أنعم عليهم بأنواع النعم ظاهرة و باطنة و ميزهم عن سائر خلقه بالعقل و جعلهم أحرارا و أنزل عليهم البيّنات الواضحات و لكنّهم اختلفوا بعد وضوح الحق و بيان الرسل سبل الهداية لهم و إتمام الحجة عليهم فهم باختيارهم نبذوا الاتحاد الذي أراده اللّه تعالى و طرحوا السعادة التي كتبها عزّ و جل لهم.

قوله تعالى: وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ .

أي: أنّ سبب الاختلاف كان من أنفسهم فمنهم من آمن إيمانا صحيحا. و منهم من اتبع هواه و كفر بما جاء به النبيون و هذا الاختلاف إنّما هو لأجل اختلاف الاستعدادات اقتضاء كما هو سنته في خلق الأسباب في هذا العالم.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ .

أي: و لو شاء اللّه لخلقهم على فطرة واحدة و جبلهم على الاتحاد و المحبة و نبذ الاختلاف و الاقتتال، و لكن اللّه يفعل ما يريد حسب الحكمة البالغة التامة.

و يمكن التفرقة بين هذه الجملة و سابقتها بالاختلاف بحسب الحدوث و البقاء، أو بحسب دفع الاختلاف قبل الفطرة بأن يجبرهم على الاتحاد أو بعد جعل الفطرة فيرفع عنهم الاختلاف و يلجئهم على الاتحاد.

ص: 189

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: الآية الشريفة تنص على تفضيل اللّه الرسل بعضهم على بعض، و هو لا يكون على حد الإلجاء و الاضطرار بل ينتهي إلى الاختيار لترتفع الدّرجات و تزداد المثوبات و ليس ذلك من قبيل تفضيل الأحجار الكريمة على سائر الأحجار، فقد شاء اللّه تعالى أن يكون بين رسله تفاضل حاصل من اختيارهم ليكون لهم الجزاء الأوفى و الدّرجات العالية.

إن قلت: إنّه ذكرتم أنّ التفاضل قد يكون بحسب الذوات الشريفة فربما يكون بعض الأنبياء أكثر استعدادا من غيره و هو خارج عن الاختيار،

كما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة».

قلت: إنّ ذلك لم يكن على نحو العلية التامة المنحصرة بل هو من مجرد الاقتضاء فقط و إلا لزم فيه مفاسد كثيرة لا يمكن الالتزام بها فيكون المقام مثل قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً

ص: 190

[النساء - 95] و ليس مثل قوله تعالى: وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي اَلْأُكُلِ [الرعد - 4] الذي يكون غير اختياري.

الثاني: أنّ تفضيل اللّه تعالى بعض الرسل على بعض يتضمّن رفع الدّرجات أيضا و عليه ربما يتوهم أن يكون ذكر الأخير - و هو قوله تعالى:

وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ - مستدركا. و هو مردود بأنّ التفضيل إنّما هو باعتبار بعض الجهات، و رفع الدّرجات إما عام أو مختص بالمقامات الاخروية.

الثالث: يستفاد من نسبة الاختلاف إلى الإنسان و عدم نسبته إلى اللّه تعالى أنّ الاختلاف في الإيمان و الكفر و جميع المعارف الإلهية إنّما يكون من الإنسان و هو يحصل بالبغي و الجحود و الظلم، و يدل على ذلك قوله تعالى:

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة - 213]، و قد تقدّم في تفسيرها ما يرتبط بالمقام.

الرابع: يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء (عليهم السلام) إنّما بعثوا بالرسالة الإلهية و أيدوا بالبينات الواضحة التي تبين الحق و تدحض الباطل، و الغرض من ذلك هداية الإنسان و إيصاله إلى الكمال اللايق به و لكن ذلك لا يزيل العناد و اللجاج بل هما من غرائز الإنسان التي لا يصلحهما الا القتال، و يدل عليه قوله تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا اَلْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ [الحديد - 25]، حيث قرن سبحانه إنزال الحديد مع إنزال الكتاب و الميزان و بهما يفصل بين الحق و الباطل فيكون الحديد كذلك فالجهاد في سبيله تعالى مما لا بد منه في كلّ تشريع إلهيّ لإقامته و إبطال زيغ المبطلين و رفع عناد المعاندين. و لكن لو شاء اللّه لرفع الجهاد في سبيله و ما اقتتلوا و لكنّ اللّه يفعل ما يريده فإنّ الحكمة اقتضت أن يرسل الرسل و يأمر بالجهاد في سبيله، لإقامة دينه و نشر الحق

ص: 191

و يستفيد الإنسان من الرسالة الإلهية و المعارف الربوبية حتّى يصل إلى الكمال المطلوب.

الخامس: ذكر بعض المفسرين إشكالا على تفسير هذه الآية المباركة

بما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بطرق مختلفة: «لا تخيّروا بين الأنبياء فإنّ الناس يصعقون - أي يغشى عليهم - يوم القيامة»،

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تفضلوا بين أنبياء اللّه»

و في بعض الأخبار عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «لا تخيّروني على موسى» أو «لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس ابن متى».

و هو مردود لأنّ النّهي راجع إلى الترجيح من عند أنفسهم لا التفضيل و الترجيح الذي أثبته اللّه تعالى لهم، و قد ذكرنا أنّ التفضيل بما فضّله اللّه تعالى أمر لا بد منه.

و يمكن أن يحمل على أصل النبوة و الرسالة الإلهية كما أمرنا بذلك قال تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [البقرة - 285]، و التفضيل في غير ذلك كما بينه اللّه تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

ص: 192

بحث روائي

في العيون عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «ما خلق اللّه خلقا أفضل منّي و لا أكرم عليه منّي قال عليّ (عليه السلام): يا رسول اللّه أ فأنت أفضل أم جبرائيل ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إنّ اللّه تعالى فضّل أنبياءه المرسلين على ملائكته المقرّبين و فضلني على جميع النبيين و المرسلين - الحديث -».

أقول: ما ورد في هذا الحديث تشهد له جملة من الأخبار، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة تلويحا و تصريحا، كما يأتي في محلّه إن شاء اللّه تعالى. و تؤيده الأدلة العقلية أيضا، و قد تقدم ذلك في التفسير غير مرة.

ص: 193

القوم و صلّينا فعلى م نقاتلهم ؟! فقال عليّ (عليه السلام): على هذه الآية:

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ اَلْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ اَلْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلَ اَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ فنحن الذين من بعدهم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اِخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ مَا اِقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ فنحن الذين آمنّا و هم الذين كفروا. فقال الرجل: كفر القوم و ربّ الكعبة ثم حمل فقاتل حتّى قتل رحمه اللّه».

أقول: يظهر من انتهاء كلّ هذا الاختلاف و المقاتلة من بعد الرسل إلى اختيار الناس باستعداداتهم و إدراكاتهم المقتضية للاختلاف طبعا الموجب للبغي و الظلم قهرا، كما تقدم في التفسير.

و ما وقع بعد سيد الأنبياء يكون كما وقع بعد سائر الأنبياء (عليهم السلام) و يمكن استناد ذلك إلى اختلاف الاستعدادات كما مرّ، أو إلى الاجتهاد مثلا أو إلى أسرار القضاء و القدر كلّ ذلك على نحو الاقتضاء. و قد مرّ أقسام الكفر في آية (7) من هذه السورة.

و في الاحتجاج عن صفوان بن يحيى قال سأل أبو قرة المحدّث الرضا (عليه السلام) فقال: «أخبرني (جعلني اللّه فداك) عن كلام اللّه لموسى فقال (عليه السلام): اللّه أعلم بأيّ لسان كلّمه بالسريانية أم بالعبرانية فأخذ أبو قرة بلسانه فقال: إنّما أسألك عن هذا اللسان فقال أبو الحسن (عليه السلام):

سبحان اللّه عما تقول و معاذ اللّه أن يشبه خلقه أو يتكلّم بمثل ما هم به متكلّمون و لكنّه سبحانه ليس كمثله شيء و لا كمثله قائل فاعل قال: كيف ذلك ؟ قال (عليه السلام): كلام الخالق لمخلوق ليس ككلام المخلوق لمخلوق، و لا يلفظ بشق فم و لسان، و لكن يقول له كن فكان بمشيته ما خاطب به موسى من الأمر و النّهي من غير تردد في نفس - الخبر -».

أقول: من هذا الحديث و أمثاله يظهر أنّ الكلام من صفات الفعل لا أن يكون من صفات الذات، كما يأتي في البحث الفلسفي.

ص: 194

في أمالي المفيد عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السّلام) يقول: «لم يزل اللّه جل اسمه عالما بذاته و لا معلوم و لم يزل قادرا بذاته و لا مقدور، قلت: جعلت فداك فلم يزل متكلما؟ قال (عليه السلام) الكلام محدث كان اللّه عزّ و جلّ و ليس بمتكلم ثم أحدث الكلام».

أقول: هذا الحديث ينص على ما ذكرناه من أنّ التكلم من صفات الفعل كما سيأتي أيضا.

في نهج البلاغة في خطبة له (عليه السلام): «متكلّم لا بروية مريد لا بهمة».

و فيه أيضا في خطبة له (عليه السلام): «الذي كلّم موسى تكليما، و أراه من آياته عظيما، بلا جوارح و لا أدوات و لا نطق و لا لهوات».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و اللهوات جمع لهات و هي لحمات في سقف أقصى الفم.

في تفسير العسكري: «أنّ روح القدس هو جبرائيل».

و في الكافي عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث قال: «فأما ما ذكر من أمر السابقين فإنّهم أنبياء مرسلون و غير مرسلين جعل فيهم خمسة أرواح: روح القدس، و روح الإيمان، و روح الشهوة، و روح القوة، و روح البدن، فبروح القدس بعثوا أنبياء مرسلين و غير مرسلين، و بها علموا الأشياء».

و في رواية أخرى: «أنّ روح القدس ملك أعظم من جبرئيل».

أقول: لا ريب في أنّ روح القدس من عالم المجرّدات التي أثبته الفلاسفة بالأدلة الكثيرة العقلية و النقلية. و قد اختلفت تعبيراتهم فيه فبعض عبّر عنه بالعالم المحيط، و آخر بعالم الأملاك و الرّوحانيين، و ثالث بعالم النور. و لا مشاحة في الاصطلاح، إذ لا يمكن حصر موجودات ذلك العالم و لا دليل على انحصارها من عقل أو نقل، بل إرادة اللّه قاهرة غالبة و المحلّ ممكن غير ممتنع فلا وجه للحصر أبدا، فما ورد في السنة المقدّسة في تفسير روح القدس من أنّه جبرائيل أو أنّه ملك أعظم منه، أو روح يؤيد الأنبياء و المرسلين يمكن

ص: 195

إرجاع جميع ذلك إلى شيء واحد لأنّ لجبرائيل الذي هو مدير عالم الإمكان أعوانا و جنودا يمكن أن يكون ما يؤيد الأنبياء و المرسلين من بعض أعوانه.

و ما ورد أنّه أعظم يراد العظمة من بعض الجهات لا من جميع الجهات فترجع جميع الروايات إلى شيء واحد، و يشهد لذلك ما عن بعض قدماء الفلاسفة في شأن جبرائيل أنّه «رباني العقول».

ص: 196

بحث فلسفي
اشارة

ذكرنا أنّ قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ يدل على ثبوت صفة التكليم له تعالى مع بعض الأفراد، و قد ورد ما يدل على وقوعه منه عزّ و جل في القرآن الكريم في موارد أربعة: أحدها المقام، و الثاني في قوله تعالى:

وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و الثالث في قوله تعالى: وَ لَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف - 143]، و الرابع في قوله تعالى:

اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [الأعراف - 144].

و لقد حظي موسى (عليه السلام) بهذه الفضيلة السامية و الموهبة العظمى في جميع تلك الموارد.

و المستفاد منها أنّها تثبت صفة من الصفات الربوبية و حقيقة من الحقائق الواقعية و هي من الوضوح بمكان بحيث لا يحتاج إلى تأويل أو ارتكاب مجاز.

و البحث في الكلام مذكور في علوم متعدّدة كعلوم اللغة و الآداب و علمي الفلسفة و الكلام الذي أخذ اسمه منه و البحث فيه يقع في أمور:

حقيقة الكلام:

خلق اللّه تعالى الإنسان مدنيّا بالطبع اجتماعيا بالفطرة يحتاج هذا الاجتماع الإنساني إلى التعاون بين الأفراد و الترابط بينهم و قد ولد هذا الترابط

ص: 197

بين المجتمع و الأفراد بعض الأمور التي لا يمكن التخلّي عنها و من أهمّها الكلام و التكلّم بين الأفراد و هو الوسيلة التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و إذا رجعنا إلى السّير الطبيعي التكاملي في هذا الأمر الاجتماعي نرى أنّ أقدم وسيلة لإبراز ما في الضمير هي الإشارة ثم تطوّرت و قرنت الإشارة بالصّوت للدلالة على المعنى المشار إليه، ثم استقر التفاهم بالأصوات للدلالة على المعاني و نبذت الإشارة و استغني بالصّوت عنها و وضع لكلّ شيء صوتا معيّنا و الكلام هو الأصوات الحلقية التي يتحقق بها التفاهم بين أفراد الإنسان و وسيلة للتعبير عمّا في الضّمير وضعا و كان لذكاء الإنسان الأثر الكبير في تنضيد الألفاظ و تنسيقها و وضعها بهذه الكيفية المعهودة و لأجل ذلك تعتبر اللغة أول مظهر من مظاهر الذكاء البشري، و لا يمكن للإنسان الاستغناء عن الكلام و هو نتيجة تفاعل الأفراد المجتمعين للتفاهم فيما بينهم و كلّما اتسعت دائرة تفاهمه صارت عنده ألفاظ تدل على المعاني، و لا تزال تزيد تلك الألفاظ و اللغات تبعا لتقدم الاجتماع و الاحتياج الإنساني.

و لأجل ذلك صار الإنسان يشعر بالحاجة إلى التفاهم عن بعد، فوضع الخط و الكتابة و هي أيضا مرّت بمراحل من الخط بالرسوم ثم الخط بالرموز ثم الخط بالحروف ثم اتسعت دائرة تفاهمه و احتياجه فوضع أنظمة أخرى كما في هذه الأعصار تبعا لكثرة احتياجاته الاجتماعية.

و من ذلك يعرف: أنّ الكلام وليد التعاون الاجتماعي و هو الأصوات الحلقية المؤتلفة الدالة على المعاني بالوضع لأجل التفهيم بين أفراد الإنسان المجتمعين، و لذلك يختص بالإنسان، لأنّه اجتماعيّ كما تقدم و في غيره الذي لا يحتاج في وجوده إلى التعاون الاجتماعي لا يعهد فيه الكلام الا على نحو المحاكاة التي هي فارغة عن الذكاء الخاص و لا يمكن التفاهم به و قد تقدم في قوله تعالى: وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة - 31] بعض القول.

و لكن هذا الكلام المبحوث عنه عند الإنسان لا يمكن صدوره عن اللّه تعالى و لا يصلح الانتساب إليه من جميع جوانبه لا من حيث أصله و حقيقته و لا من حيث صدوره و لا من جهة غايته فهو منزّه عن خروج الأصوات الحلقية

ص: 198

المعتمدة على مقاطع النفس المبتنية على الدلالة الوضعية، و منزّه عن احتياجه إلى التفاهم فإنّه تعالى أجلّ ، و أنزه من أن ينسب إليه جميع ذلك فهو الغنيّ المطلق لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [الشورى - 11]، و سيأتي المراد من كلامه عزّ و جل الذي أثبته لنفسه الأقدس نعم حقيقة كلّ كلام - سواء كان من الخالق أو من المخلوق - أنّه إبراز للحقائق و المعاني، و هذا هو الأصل و البقية فرع عليه، بل يمكن أن نقول إنّ النظام الأحسن الأكمل الذي اتفق العقل و الشرع على حسنه و كماله يبتني على هذا الأصل الأصيل. و لكن هذا الإبراز إما أن يكون بالوحي، أو الإلهام، أو الكلام، أو القول، أو الإشارة، أو الكتابة و الخط، و غير ذلك فإنّ جميعها تشترك في حقيقة واحدة و الاختلاف إنّما هو بالاعتبار.

دلالة الكلام:

ذكرنا أنّ اللغة إنّما هي ألفاظ دالة على المعاني ينتقل الذهن إليها بمجرّد سماعها و قد مرّ الوضع اللغوي بمراحله المتعدّدة، فقد كان استعمال الألفاظ في المعاني المحسوسة أولا ثم استعملت في المعاني الأقرب إلى الحس ثم إلى المعنويات و كانت المرحلة الأخيرة هي التجريد الذي هو أعلى درجات الذكاء و القوى العقلية و من مميزات المرحلة الأولى أنّ الألفاظ كانت معدودة و هي مجموعة من بعض الأفعال و الأسماء.

و قيل: إنّ استعمال الألفاظ الموضوعة للمعاني المحسوسة في غيرها من المعاني المعقولة يكون مجازا حتّى يستقر الاستعمال و يحصل التبادر.

و لكنّه مردود بأنّ الألفاظ موضوعة للحقائق الواقعية غير المقيّدة بعالم دون آخر فالاستعمال يكون حقيقة كما يظهر ذلك من بعض أعاظم العلماء من الفلاسفة و غيرهم فلا مجاز في البين مع هذا الاتساع كاتساع المدنية و الحضارة التي أوجبت التغيير في الوسائل مع بقاء أصل الفائدة و الأثر المطلوب في جميع موارد الاستعمال و التفصيل حرّرناه في (تهذيب الأصول).

الفرق بين الكلام و غيره:

تقدم معنى الكلام الذي هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع

ص: 199

النّفس الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و بهذا المعنى يرادف اللغة و هو يختص بالإنسان فقط و لم يرد في القرآن الكريم استعماله في غير مورد الإنسان. و أما قوله تعالى: أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ اَلْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ اَلنّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل - 82]. فالمراد به الإنسان أيضا كما في ورد في السنة المقدّسة، و لو شاء اللّه لأظهر التكلم من يد الإنسان كما في قوله تعالى:

اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ [يس - 65] هذا و قد استعمل لفظ «كلمة» أو «كلمات» في غير مورده مثل القضاء و الخلق، و ذات الإنسان و نفسه مثل قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً [الأنعام - 115]، و قوله تعالى: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ [هود - 119]، و قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ [النساء - 171]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة و ليس البحث في ذلك.

و قد يطلق و يراد به القول و لكنّه أعم موردا من الأول فإنّ الأخير استعمل في الكتاب الكريم في الإنسان و غيره ففي الإنسان قال تعالى حكاية عن الحواريين: إِذْ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ اَلسَّماءِ [المائدة - 113]، و غيره من الآيات المباركة. كما اطلق منه تعالى على الإنسان و غيره قال تعالى: وَ قُلْنا يا آدَمُ اُسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ اَلْجَنَّةَ [البقرة - 35]، و في مورد الملائكة قال تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ [آل عمران - 42]، و قد اطلق عليه جلّ شأنه في قوله تعالى: إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [ص - 71]، و غيره من الآيات الشريفة. و في مورد الشيطان أو الجن قال تعالى: وَ قالَ اَلشَّيْطانُ لَمّا قُضِيَ اَلْأَمْرُ [إبراهيم - 22]، و قال تعالى في قصة سليمان: قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ اَلْجِنِّ [النمل - 39]، و في مورد غير ذوي العقول قال تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت - 11]، و في جميع ما سواه تعالى من الممكنات قال تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [مريم - 35].

و من المعلوم أنّ القول بالمعنى الوضعي الذي هو دائر في الإنسان لا

ص: 200

يمكن إطلاقه على اللّه تعالى و على سائر مخلوقاته غير الإنسان فلا بد أن يكون المراد من استعماله هو إبراز المقصود بعناية خاصة ففي مورد الكلام يكون بألفاظ موضوعة في المخاطبة و المشافهة و في القول بمطلق الإبراز بحيث يفهم المعنى المقصود، و في الوحي و الإلهام بعناية خاصة خفيّة و نحو ذلك فالجامع القريب في الجميع هو إبراز المقصود بعناية خاصّة و يختلف ذلك باختلاف الموارد و الخصوصيات.

كلام اللّه تعالى:

لا ريب في أنّ التكلم من صفات الباري عزّ و جل بنص من القرآن الكريم و السنة الشريفة كما عرفت، و يمكن الاستدلال عليه بالقاعدة المعروفة: «أنّ كلّ ما كان ممكنا في ذاته عزّ و جل و لم يستلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له تعالى» و هذه القاعدة من القواعد الحكمية المتينة التي استدلوا عليها بأدلة كثيرة، و قد أثبتوا أصل وجوب الذات بها قال بعض الفلاسفة:

إذ الوجود كان واجبا فهو *** و مع الإمكان قد استلزمه

و التكلم صفة كمال ممكن في ذاته جلّت عظمته و لم يلزم من ثبوته له تعالى قبح فهو واجب له عزّ و جل حسب تلك القاعدة.

و تكلّمه عزّ و جل غير علمه و سائر صفاته الجمالية، و الجلالية، للقاعدة التي أسست في محله - المشهورة عند الفلاسفة و غيرهم من: «أنّ اختلاف المفهوم كاشف عن اختلاف الذات و الحقيقة الا إذا دل دليل على الاتحاد» مثل العلم فإنّه عين ذاته و متحد معه و إن اختلف مفهومه مع الذات بدليل خارجي و هو مفقود في المقام.

و البحث في كلامه تعالى الذي هو معترك الآراء و إليه ينسب علم الكلام المعروف يقع في ناحيتين:

الأولى: في المراد من كلامه تعالى فإنّ الكلام حادث بالضرورة لأنّه

ص: 201

متدرج الوجود و كلّ متدرج الوجود حادث لا محالة فلو كان المراد من كلامه عزّ و جل هذا يلزم منه أن يكون تبارك و تعالى محلاّ للحوادث و هو باطل بالضرورة و قد أثبتوا استحالته.

الثانية: في قدم كلامه أو حدوثه.

و الحق أن يقال: إنّ الكلام بالمعنى المعهود في الإنسان لا يصح نسبته إليه عزّ و جل، كما عرفت آنفا. إلا أنّ الكلام يشترك مع غيره في أنّه إبراز للحقيقة، فالجامع بين كلّ كلام - سواء كان من الخالق أو المخلوق - هو إبراز المراد و المقصود في اللفظ و الحروف و إن اختلف بالاعتبار. هذا هو حقيقة الكلام و أما خروجه من العضو المخصوص و نحو ذلك فهو خارج عن تلك الحقيقة.

نعم، قيام هذا التكلم فيه تعالى إنّما يكون قياما صدوريا كسائر أفعاله المقدّسة مثل الخلق و الرّزق و نحوهما بخلاف صفاته الذاتية فإنّها عين ذاته جلّت عظمته.

فالكلام من صفاته الفعلية، للقاعدة التي ذكرناها مرارا في الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية من أنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها - أي الثبوت و السلب - كانت من صفات الفعل، و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه عزّ و جلّ فهي من صفة الذات، و التكلّم مما يمكن سلبه عنه عزّ و جل و إثباته له تعالى فهو من صفات الفعل، قال تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً [النساء - 164]، و قال تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ [آل عمران - 77]، فهو كالرّزق و الهداية و غيرهما من صفات الفعل التي يصح الاتصاف بها و بنقيضها من دون أن يلزم محذور في البين. و فعله حادث فالتكلم حادث فلا يكون قديما، كما أنّ إرادته جلّت عظمته فعله فهي أيضا حادثة. نعم، منشأ كلامه إنّما هو علمه تعالى، فهو بمنشئه في مرتبة الذات و بفعليته و إرادته في مرتبة الصّفات الفعلية الحادثة.

ص: 202

و يمكن إرجاع كلمات القوم إلى ما ذكرناه و إن أبى ظاهر بعضها عن ذلك فإنّهم اختلفوا في ذلك فقال بعضهم بقدم كلامه و قال آخر بأنّه حادث مخلوق. و قال ثالث إنّ التجدد و التبدل إنّما يكون في المتعلّق بالعرض كالعلم.

و لكن مما ذكرناه تعرف المناقشة في جملة مما ذكره الفلاسفة و المتكلّمون في المقام و أطالوا فيه الكلام فيكون أصل النزاع صغرويّا بينهم، و اختلاط بين صفات الفعل و صفات الذات، فمن جعل الكلام من صفات الذات ذهب إلى الكلام النفسي.

الكلام النفسي:

قلنا: إنّ الكلام و القول في الإنسان عبارة عن إبراز المقصود و المراد بواسطة الحروف و الأصوات الحلقيّة، و في اللّه تعالى: إبراز المراد بواسطة الحروف على نحو الإيجاد فإذا سمعها المخاطب ينتقل ذهنه إلى المدلول عليه باللّفظ فيحصل التفهيم و التفهيم، و قد ذكرنا أنّ الكلام يشترك مع كثير من الدّلالات في هذا الغرض كالإشارة و المحاكاة و نحوهما فإنّ من ذلك محاكاة وجود المعلول عن وجود العلّة و دلالته على خصوصياتها، و من ذلك ما يقال من حكاية عالم الإمكان عن علّته الحقيقية، و كونه مظهرا من مظاهر علمه عزّ و جلّ و صفاته العليا المقدسة و أسمائه الحسنى تبارك و تعالى و دالاّ عليه عزّ و جل، فهو تعالى الدال على ذاته بذاته.

و كيف كان فالكلام هو الألفاظ الدالة على المعاني بالدلالة الوضعية و هذا هو المعنى المعروف فيه الذي ينصرف الذهن إليه عند إطلاقه في العرف و اللغة.

و لكن ذهبت الأشاعرة إلى أنّ الكلام على قسمين: الكلام اللفظي و هو الأصوات الحلقية المعتمدة على مقاطع النّفس و الحروف. و الكلام النفسي و هو المعاني الذهنية التي يدل عليها الكلام اللفظي و قالت: إنّ الكلام اللفظي في اللّه تعالى حادث زائد على الذات، و الكلام النفسي فيه عزّ و جل شيء قائم

ص: 203

به قديم بقدمه و استشهدوا بقول الأخطل:

إنّ الكلام لفي الفؤاد و إنّما *** جعل اللسان على الفؤاد دليلا

و قالوا: إنّ هذا هو الكلام حقيقة الذي لا يختلف باختلاف العبارات و الألفاظ و لا يتغيّر بتغيرها، و يدل عليه اللفظ و الإشارة و الكتابة. و أنكر سائر الفلاسفة ذلك و أبطلوا الكلام النفسي و اعتبروا المعاني النفسية صورة علمية و ليست من الكلام بشيء، فالكلام عندهم ليس إلا الأصوات و الألفاظ التي تعبّر عن المعاني الذهنية التي هي صور علمية تصورية.

و البحث فيه يقع تارة: في مرحلة الثبوت و التصوير و أخرى: في مرحلة الإثبات و مقام الحجة و البرهان.

أما الأول: - فلا يعقل ثبوتا معنى للكلام النفسي، لأنّهم يقولون في تعريفه: إنّه ليس من العلم و لا الإرادة بل هو شيء في مقابلهما قائم بالنفس حادث في الإنسان قديم في اللّه تعالى.

و فيه: أنّه لا تعقل صفة أخرى في النفس في مقابل العلم و الإرادة حتّى تسمّى بالكلام النفسي و إن أرادوا مما يسمونه بالكلام النفسي في اللّه تعالى علمه الأزلي فلا مشاحة في الاصطلاح و لكن أكابرهم يصرّحون بالاختلاف، فالكلام في اللغة و العرف و العقل يطلق حقيقة على تلك الأصوات الحلقية الدالة على المعاني، كما عرفت. و المعاني في الذهن إنّما هي صور علمية ذهنية و هي غير الكلام النفسي.

قد يقال: إنّ الشيء الواحد قد يختلف باعتبارين فإنّ الصور الذهنية إنّما تكون علما و انكشافا للواقع من هذه الجهة و كلاما من جهة كونها علما مفاضا للغير.

و هو باطل لأنّ الصور العلمية هي نفس العلم و هم يصرحون بأنّ الكلام النفسي غير العلم. مع أنّ القول بالكلام النفسي بمعنى الصور الذهنية في اللّه تعالى يستلزم ثبوت تلك الصور الذهنية له عزّ و جل و تكثرها، و كون علمه حصوليا، و اعتبار كلامه محتملا للصدق و الكذب و غير ذلك، و لا أظن أنّ

ص: 204

عاقلا يلتزم بذلك فإنّ علمه تبارك و تعالى عين ذاته الأقدس، و هو منزّه عن جميع هذه اللوازم الباطلة فإنّ كلامه صدق و عدل و منزّه عن الذهن و التركب.

و أما المقام الثاني - أي إثبات الكلام النفسي - فقد استدلوا بأدلة كثيرة واضحة الفساد لمن أمعن النظر فيها.

منها: أنّ اللفظ كاشف عما يترتب في نفس المتكلّم قبل التلفظ به.

و الجواب عنه: ما ذكرناه آنفا من أنّه تصور مداليل الألفاظ الذي هو العلم. و دلالة الألفاظ عليه تكون دلالة عقلية، كدلالة الأفعال على ما يتصوره الفاعل.

و منها: أنّ إطلاق الكلام على الموجود الذهني صحيح حقيقي لا يحتاج إلى عناية و يدل عليه قوله تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ [الملك - 13].

و يرد عليه: ما تقدم سابقا مع أنّه معارض بما إذا تصور الفعل في النفس فلا بد أن يقال لذلك فعل نفسي و لا يقولون به.

و منها: أنّ إطلاق الكلام على اللّه تعالى إنّما هو باعتبار من قام به الكلام لا من أوجده، و القائم به لا يكون إلا قديما.

و فيه: أنّ إطلاق الكلام عليه عزّ و جل باعتبار القيام به على نحو آخر من أنحاء القيام كما هو مفصّل في علمي الفلسفة و الأصول كقيام الرزق و الخلق بالنسبة إليه عزّ و جل و الا كان الرزق و الخلق قديمين و لا يقولون به.

و استدلوا بأدلة أخرى هي موهونة جدّا لا يخفى على من راجعها في مظانّها.

ص: 205

سورة البقرة الآية 254

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (254) أمر سبحانه و تعالى في ما تقدم بالإنفاق بأسلوب لطيف فيه التحبب و الترغيب و العناية بالمنفقين و عقب هنا الأمر بالإنفاق للمؤمنين خاصة بأسلوب آخر فيه الترهيب و ذلك لأنّ الآية الأولى كانت بعد الأمر بالقتال في سبيل اللّه تعالى و إخبار الأمم الماضين فالمقام يقتضي الترغيب إلاّ أنّ هذه الآية وردت بعد اختلاف الأمم و اقتتالهم بعد ما جاءتهم البينات فاقتضى الترهيب، أو لاختلاف النفوس فإنّ أكثر الناس لا يفيدهم الترغيب إن لم يكن مقرونا بالترهيب، فأمر سبحانه بالإنفاق قبل أن تنقطع الأسباب و يأتي يوم لا يرجى الا رحمته و لا ينفع الإنسان إلا ما قدمه في هذه الحياة وعدّ سبحانه و تعالى من لم يعمل بأحكامه و أوامره عزّ و جل من الكافرين الظالمين لأنفسهم المستوجبين للعقوبة و الخذلان بسوء اختيارهم و خبث ضمائرهم.

ص: 206

التفسير

254 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ .

الخطاب للمؤمنين باعتبار أنّهم أشرف الأفراد أو لأنّهم المؤهلون لقبول الأحكام الإلهية أو لغير ذلك مما ذكرنا في مثله، و قد تقدم أنّه خطاب مدني نزل بعد هجرة المسلمين إلى المدينة المنورة و نزول جملة من الأحكام الشرعية.

و الإنفاق معروف و هو يشمل الواجب منه و المندوب، و يستفاد من نسبة الرزق إليهم الحث على الإنفاق فإنّ ما عندهم إنّما هو رزق من اللّه تعالى - فهو إنفاق من مال اللّه الذي رزقهم - و هو الرازق و المنعم عليكم أي: أنفقوا من بعض ما جعلكم مستخلفين فيه.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ .

البيع معروف و هو إعطاء المثمن و أخذ الثمن، و الشراء عكسه، و قد يطلق أحدهما على الآخر.

أي: أنفقوا من قبل أن يأتي يوم القيامة الذي لا يمكن ابتياع شيء للتفدية به و حفظه نفسه.

ص: 207

قوله تعالى: وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ .

الخلّة و الخلال خالص المودة بحيث تخلل في جميع الجسد كتخلل الروح فيه، يقال: قد تخلّلت مسلك الروح منّي. و سمي الخليل خليلا لأجل ذلك.

أي: أنّ يوم القيامة تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت دائرة في الدنيا فلا تنفع الصداقة فإنّ اَلْأَخِلاّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ اَلْمُتَّقِينَ [الزخرف - 67]، و لا تفيد الشفاعة فإنّها لا تكون إلا لمن اتخذ عند اللّه عهدا أو لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28]، و الأمر يومئذ كلّه للّه.

و نظير الآية قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ [البقرة - 123]، فليس للإنسان إلا ما سعى في هذه الدنيا.

و المراد من الشفاعة المنفية في هذه الآية و نظائرها: شفاعة بعض أهل الدنيا لبعضهم الآخر لأغراضهم الدنيوية، و أما الشفاعة بإذنه جلّت عظمته للعصاة على ما أذن فيه تعالى، فلا ريب في ثبوتها في الآخرة عقلا و شرعا، كما يأتي في البحث الكلامي.

و يمكن أن تحمل الشفاعة المنفية على الصّداقة المتحققة في الدنيا، كما عن بعض المفسرين. و لكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

أي: التاركون للإنفاق مما رزقهم اللّه تعالى المعرضون عنه هم الظالمون لأنفسهم إذ حرموها السعادة الأبدية، و أوجبوا على أنفسهم الشقاوة الدائمة الخالدة، فقد تركوا ما يؤهلهم لنيل رحمة اللّه و نجاتهم فأي ظلم يتصوّر أشد من هذا.

و الآية تثبت أمرا حقيقيا و هو عالم الآخرة التي تنقطع فيه الأسباب الظاهرية التي كانت تدور في عالم الدنيا فلا يفيد في ذلك العالم الا ما سعى

ص: 208

الإنسان في هذا العالم و تدل على ذلك جملة كثيرة من آيات الذكر الحكيم قال تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اَللّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اَللّهُ وَ نَسُوهُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [المجادلة - 6]، و قال تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ [البقرة - 281]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و كذلك السنة الشريفة.

و يمكن أن يقام الدليل العقلي عليه أيضا فإنّ الإنسان إذا بلغ في السّير التكاملي إلى مقام خلاقية النفس بكلّ ما يشاء و ما يريد لا يرى إلا ذاته - كما أثبته أكابر الفلاسفة - فيكون كمال ذاته و ابتهاجها بذاته من دون احتياج إلى شيء آخر حتّى يمكن تداركه بالبيع أو الخلّة، و كذا إذا وصل في النزول إلى مرتبة لا ينفعه شيء أبدا، فكلّ واحد من الخلودين ينقطع فيهما الأسباب و الحاجات ففي قوس الصعود تنقطع حاجات الدنيا بانفتاح أبواب البركات المعنوية، و في غاية قوس النزول تنقطع الحاجات بالمرة، لعدم إمكان رفع الحاجة و التدارك، بالخلّة، أو الشفاعة التي لم تكن إلا بإذن اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة كمال التحريض على اغتنام الفرصة بأيّ وجه أمكن قبل فواتها مثل قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ [المائدة - 48]، و قوله تعالى: سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ [الحديد - 21].

و قول عليّ (عليه السلام):

«اغتنموا الفرص فإنّها تمر مرّ السحاب».

ص: 209

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: يدل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا على رجحان الإنفاق عقلا و شرعا و إطلاقه يشمل الواجب و المندوب كما يشمل جميع ما رزقه اللّه تعالى لعبده المؤمن من مال أو جاه أو نفع أو منفعة أو انتفاع، أو الاعتقاد الصحيح و العلم النافع و العمل الصالح بشرط أن يكون لمرضاة اللّه فإنّ ذلك هو المقصود الأصلي من إنفاق ما رزقه اللّه تعالى.

الثاني: تدل الآية الشريفة على أنّ ترك العمل بما أنزله اللّه تعالى و التقصير في الانتفاع بصالح الأعمال مع العلم بالارتحال من هذه الدنيا و عدم الاستقرار في دار الزوال كل ذلك يوجب الحسرة العظمى في دار القرار و هي كافية في العذاب و لا يحتاج إلى عذاب النار، و لذا لم يعيّن سبحانه و تعالى نوعا من العذاب في هذه الآية الشريفة، و إنّما بيّن انقطاع أسباب التوقّي التي كان يتخيل أنّها تنفع في تلك الدار.

الثالث: يمكن أن يراد بالبيع مطلق المبادلة المالية و الانتقال بيعا كان أو هدية أو غيرهما مما يدور هذا العالم عليه، كما أنّه يمكن أن يراد بالخلّة مطلق

ص: 210

المصاحبة الدائرة بين أفراد الإنسان في هذه الدنيا كما في قوله تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ [عبس - 25]، و إنّما أتى بالخلّة لبيان أنّها إذا لم يفد هذا النوع من المصاحبة فغيرها بطريق أولى.

الرابع: تدل الآية الشريفة على أنّ الدنيا دار عمل و اكتساب و الآخرة دار جزاء و ثواب و يمكن أن يكون

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة» مكتسبا من أمثال هذه الآية المباركة.

الخامس: الآية الشريفة ظاهرة في تبدل الصور الدنيوية إلى صور أخرى تناسبها في عالم الآخرة، فإنّ البيع و الخلّة و الشفاعة التي كانت دائرة في هذه الدنيا، فإنّ جميعها تتبدل إلى صور أخرى إما بما ينافيها إن كانت لغير اللّه تعالى، أو بما هو أشرف منها إن كانت للّه تعالى.

و تبدل الصور و انقلابها لا يختص بعالم الآخرة بل هي دائرة في هذه الدنيا - كما أثبته أكابر الفلاسفة (رحمهم اللّه تعالى) - و أنّ القصور و الترتيب في العوالم، إنّما هو بالنسبة إلى المدرك - بالكسر - لا في الواقع و الحقيقة، فإنّ عدم رؤية الأعمش إنّما هو لقصور في بصره لا لقصور في المبصر، و هذا بحث علمي دقيق نتعرّض له في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

السادس: إنّما قال تبارك و تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ المستفاد من سياقه الحصر، لأنّ الكفر باللّه العظيم أو باليوم الآخر من أقوى و أغلظ الحجب بين النفس الإنسانية و المعارف المعنوية و الكمالات الحقيقية و لا يرتفع هذا الحجاب القوي الشديد بأيّ رافع و في أيّ عالم من العوالم التي ترد على الإنسان ما لم يرفعه عن نفسه باختياره الإيمان في هذا العالم، فتركه باختياره ظلم لنفسه كذلك.

و يمكن أن يستأنس من هذه الآية المباركة و أمثالها بشارة إلهية و هي أنّ كل ما ورد في القرآن الكريم من الإيعاد على الظلم يراد به ترك الإيمان باللّه تعالى - أي الكفر - باختياره بقرينة ما تواتر

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عن اللّه تعالى: «كلمة لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن عذابي» اللهم ثبتنا في هذا الحصن العظيم و اهدنا الصراط المستقيم.

ص: 211

بحث أدبي

قرأ بعض الآية الشريفة لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ بالنصب من غير تنوين و كذا في نظائر المقام كقوله تعالى: لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [إبراهيم - 31]، و قوله تعالى: لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ [الطور - 23]، و ذلك حملا للنفي على الاستغراق لجميع الوجوه المتصورة في كلّ صنف و استشهد بقول حسان بن ثابت:

ألا طعان، ألا فرسان عادية *** إلا تجشؤكم حول التنانير

و حينئذ تكون لا و المنفي في موضع رفع بالابتداء، و الخبر (فيه). أو صفة (اليوم).

و المشهور قراءة الآية الشريفة بالرفع و التنوين، لأنّ (لا) بمنزلة (ليس) فيكون المرفوع مبتدأ أو اسم ليس و الخبر (فيه) فيكون الجواب غير عام. و هناك وجوه ثلاثة أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في الكتب المفصّلة في إعراب جملة (لا حول و لا قوة إلا باللّه).

ص: 212

بحث عرفاني

للحق جلّت عظمته تجليات:

منها: تجلّي ذاته بذاته لذاته، و فيه تجلّي علمه و حكمته و قدرته و جميع الصفات الراجعة إلى الذات الأقدس و يلزم ذلك ابتهاج الذات بالذات و لا يعقل حد لهذا الابتهاج المنبعث عن الجامعية المطلقة للكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال و يقصر عن شرحه المقال.

و منها: تجلّيه تعالى في صفاته الفعلية لما سواه و يلزم ذلك التكثر في المتعلّق لا في الذات لكن من ينظر إلى أنّ التكثرات من حيث إنّها من آثار تجلّيه تعالى يرى وحدة التجلّي من حيث الإضافة إلى الواحد الأحد لا من جهة التكثرات

و قد نسب إلى عليّ (عليه السلام): «ما رأيت شيئا الا و رأيت اللّه قبله و معه» و كذا يمكن ذلك لمن كان منقطعا إليه تعالى بحقيقة معنى الانقطاع فالبيع و الخلّة و الشفاعة لأهل الانقطاع إليه عزّ و جل كمال الانقطاع تكون من مظاهر إذنه و تجلّياته.

و منها: تجلّياته التي تحصل باختيار عباده الصالحين فكلّ فعل من الأفعال الحسنة أضيف إليه عزّ و جل يكون من مظاهر تجلّيه خصوصا الصّلاة الجامعة للشرائط كما مرّ.

ص: 213

و منها: تجلّيه في الآخرة و هو يقصر البيان و يعجز القلم عن تحديده وحده.

و منها: تجلّيه بإفناء ما سواه ثم إيجاد ما أفناه و هو يدل على قهاريته قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [غافر - 16]، إلى غير ذلك ممّا مرّ في بعض المباحث السابقة بل تجلّياته تبارك و تعالى غير محدودة كما قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن - 29].

ص: 214

بحث كلامي
اشارة

من الألفاظ الشايعة في القرآن الكريم لفظ (الشفاعة) و مشتقاتها التي ربما تبلغ أكثر من ثلاثين موردا، و المستفاد من مجموع الآيات التي ورد فيها لفظ الشفاعة أنّها من الأمور الثابتة المتحققة بلا ريب و لا إشكال إلا أنّ في بعضها تنسب الشفاعة إلى اللّه تعالى بالأصالة و في بعضها الآخر تنسبها إلى غيره عزّ و جل برضاه و إذنه، فهي لا تنفي الشفاعة من أصلها.

و الشفاعة من الموضوعات التي كثر الاهتمام بها في الإسلام بل في سائر الأديان الإلهية، فقد بحث عنها في غير واحد من العلوم الإسلامية كعلم الكلام، و علوم التفسير و الحديث و الفقه.

و الإلمام بها يقتضي البحث في مفهوم الشفاعة و متعلّقها، و ثبوتها، و مورد جريانها، و شروطها، و زمان تحقّقها، و من تصح منه، و نسبتها إلى سائر المفاهيم الشرعية التي تثبت العفو و المغفرة و غير ذلك.

مفهوم الشفاعة:

مادة (شفع) تأتي بمعنى ضم الشيء مع غيره لغرض يترتب عليه، فالشفاعة هي انضمام المشفوع له مع المستشفع لنيل غرض لا يناله إلا بها.

و هي من الأمور الدائرة بين أفراد الإنسان لتحقيق أغراض خاصة و إنجاح بعض المقاصد كما أنّها من الرّوابط الاجتماعية الوثيقة بين الحاكم و المحكوم عليه.

ص: 215

و إذا تأملنا في الشفاعة الدائرة في الاجتماع الإنساني نلاحظ أنّها تكون من متمّمات الأسباب، فهي جزء المقتضي بالتعبير العلمي لا العلة التامة المنحصرة لأنّها لا تكون إلا فيما إذا كان المشفوع له قابلا في الجملة لنيل الغرض المترتب على الشفاعة فلا مجرى لها في ما لا قابلية له أصلا كما أنّها متوقفة على إذن المشفوع عنده للشفيع، فإذا أراد فرد أن ينال كمالا أو خيرا يليق به - ماديا كان أو معنويا - أو أراد الخلاص من عقاب المخالفة بعد استحقاقه يلجأ إلى الشفاعة، فيضم إلى سببه الناقص الذي عنده من لياقة أو نحوها سببية الشفيع الذي هو بدوره لا بد أن يكون مؤهّلا لقيامه بهذه الوساطة، فالشفاعة من الأسباب المتمّمة في التأثير لا المستقلّة هذه هي الشفاعة الدائرة في المجتمع و إنّها تتقوم بأمور:

الأول: أن يكون المشفوع له مؤهلا و قابلا لنيل الغرض و المراد في الجملة و إن كان ناقصا من جهة فيتمم تلك الجهة بالشفاعة فلا أثر للشفاعة في ما لا قابلية له أصلا كالشفاعة لفرد أمي لا يعرف شيئا أن يحوز منصبا علميّا كبيرا أو الشفاعة للمشرك أن يدخل الجنة.

الثاني: الشفاعة إنّما تكون في الأمور الخارجية عن الذات كالكمالات الاكتسابية التي تكون بالاختيار أو الأمور الموجبة لمخالفة القانون بالاختيار.

الثالث: أنّه لا مجرى للشفاعة في الأمور التكوينية و الأسباب الطبيعية سواء كانت من الخير و الشر أو النفع و الضر إلا بالعناية فيها فلا بد من الرجوع إلى أسبابها الطبيعية و الوسائل المناسبة فإنّ العطش مثلا إنّما يرتفع بالارتواء و الشرب، و الجوع بالأكل، و المرض بالدواء، و الحر بالوسائل المناسبة، و البرد باللبس و غير ذلك من الأمور الطبيعية و لا أثر للشفاعة فيها. نعم في جملة من التكوينيات يكون انضمام شيء إلى شيء آخر موجبا لحصول الغرض المقصود و تسمية ذلك بالشفاعة تكون بالعناية.

الرابع: أنّ الشفيع إنّما يكون جزء متمما آخر منضما لسببية المشفوع له إذا كان بحد نفسه قابلا للقيام بالسببية و مؤهلا لها فيتوسط بين المشفوع له

ص: 216

و المشفوع عنده بما يوجب نيل الكمال أو دفع الشر و العقاب و هو إنّما يتوسل لدى المشفوع عنده بما يؤثر عليه من صفات حميدة فيه عنده كالرّحمة و الكرم و نحوهما أو في المشفوع له كالعبودية و المذلّة و غيرهما.

الخامس: أنّ الشفيع إنّما يرجع إلى المشفوع عنده بما يرتضيه لا بما هو غير ممكن أو لا يرتضيه فإنّ ذلك قبيح لا يمكن أن يكون مورد الشفاعة فلا يرجع عليه في خلع المولوية عن نفسه أو إبطال الحكم و التشريع أو إلغاء المجازاة و نحو ذلك فإنّ هذه الأمور مما تقبح الشفاعة فيها و هو من المضادة و المعارضة لا من الشفاعة و إلى ذلك يشير

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه عزّ و جل فقد ضاد اللّه في أمره».

فالشفاعة عند العرف توسط بين السبب و مسببه فهي لا تخرج عن مطلق قانون السببية لكن لا على نحو المضادة و المعارضة و الغلبة كما في الأسباب الطبيعية و التكوينية.

الشفاعة في الإسلام:

تقدم أنّ الشفاعة قد وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة و السنة الشريفة بما لا يحصى و لم يرد تحديد من الشرع فيها فيستفاد أنّها في الإسلام هي نفس ما عليه في العرف و الاجتماع الإنساني إلا أنّ أثرها الكبير يظهر في يوم القيامة و ليس لها في هذه الدنيا ذلك الأثر الكبير، و لكن نسبة الشفاعة إلى اللّه عزّ و جل تكون على نحوين:

الأول: توسط الأسباب بينه تعالى و بين غيره فإنّه عزّ و جل المبدأ و المنتهى و إليه يرجع الأمر كلّه و هو المالك للخلق على الإطلاق و الرب لهم و له من الصفات العليا الحسنى و القيومية العظمى التي يدبر بها خلقه. و بينه تعالى و بين خلقه المحتاج إليه أسباب عادية و علل وجودية و وسائط كثيرة فإنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها فتكون مجاري إعمال قدرته مثل مجاري الطبيعة و التكوين.

و إطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح و لا مانع منه عقلا، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات و الأرض و التدبير لهما، فلا تكون إلا في أمور التكوين و يستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق و تنظيم النظام الأحسن الربوبي، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل و الأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب و خالق الأرض و السّماء و بين خلقه المفتقر إليه.

ص: 217

و إطلاق الشفاعة على هذا النوع من السببية صحيح و لا مانع منه عقلا، بل يستفاد ذلك من قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، حيث أورد الشفاعة بعد خلق السّموات و الأرض و التدبير لهما، فلا تكون إلا في أمور التكوين و يستفاد من الآية أنّ الشفاعة بهذا المعنى هي من جملة تدبير الخلق و تنظيم النظام الأحسن الربوبي، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فهذه هي الشفاعة التكوينية أي توسيط العلل و الأسباب الوجودية بين مسبب الأسباب و خالق الأرض و السّماء و بين خلقه المفتقر إليه.

الثاني: الشفاعة لديه تعالى بمعنى رفع العقاب عن عباده العاصين أو زيادة الثواب لعباده المطيعين، فإنّ اللّه تعالى أرسل الرسل مبشرين و منذرين مبلّغين صادعين بالحق و أنزل معهم الكتاب المشتمل على الأحكام التشريعية الراجعة إلى مصالح العباد و وضع الثواب للمطيعين و العقاب على العاصين و أقام الحجة في العباد و أتمها عليهم لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ [الأنفال - 42]، و لكنّه تعالى رأفة بخلقه و رحمة بعباده جعل الشفاعة لنفسه، و هو من شؤون رحمته المطلقة التي وسعت كلّ شيء و هذه هي الشفاعة في الجعل و التشريع.

و بعد كون أصل الشفاعة بيده و تحت استيلائه و قدرته، له تبارك و تعالى أن يجعلها لمن يشاء من خلقه و يريد وفق الحكمة البالغة و العلم الأتم، و تدل على ذلك جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و قال تعالى: لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [النجم - 26]، و إطلاق قوله تعالى: لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28]، يدل على أنّه لا بد في الشفاعة من إذنه في المشفوع له و الشفيع. و قال تعالى:

وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف - 86].

و المستفاد من جميع ذلك: أنّ الشفاعة بجميع جهاتها و خصوصياتها لا بد أن تكون تحت اختياره و إرادته كما تدل على ذلك القاعدة العقلية أيضا

ص: 218

فالشفاعة على نحو ما تقدم مطابقة للعقل و الشرع و العرف، فمن أنكرها بهذا المعنى إنّما ينكر أمرا وجدانيا يعترف به بجنانه و ينكره بلسانه.

ثبوت الشفاعة:

لا ريب و لا إشكال في إمكان الشفاعة فهي ليست من المحالات الأولية، لما هو المتسالم بين الفلاسفة من أصالة الإمكان في كلّ شيء الا إذا دل دليل معتبر على الامتناع، و لم يتخيل أحد في أنّ الشفاعة من الممتنعات الذاتية هذا بالنسبة إلى الإمكان الذاتي.

و أما الإمكان الوقوعي فقد دلت الأدلة العقلية و النقلية على وقوعها في الخارج على ما يأتي من التفصيل، و قد استدل على تحقق الشفاعة بالأدلة الأربعة: الكتاب، و السنة، و الإجماع، و العقل.

الشفاعة في القرآن:

تدل عليها آيات كثيرة منطوقا و مفهوما، نفيا و إثباتا في الدنيا و الآخرة و هي على طوائف:

الاولى: الآيات التي تدل على انحصار الشفاعة في اللّه و اختصاصها به عزّ و جل قال تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الزمر - 44] و قال تعالى: ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ [السجدة - 4]. و قال تعالى: لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ [الأنعام - 70].

الثانية: ما تدل على التعميم و ثبوتها لغيره عزّ و جل بإذنه و رضاه و هي كثيرة منها: قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255].

و منها: قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28] و منها: قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و منها: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و منها: قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى النجم - 26].

ص: 219

و منها: قوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 28] و منها: قوله تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و منها: قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً [طه - 109]، و منها: قوله تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى النجم - 26].

الثالثة: ما تدل على ثبوت الشفاعة في الدنيا قال تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً [النساء - 85] فإنّ سياقها يدل على أنّها في الدنيا.

الرابعة: ما تدل على نفي الشفاعة إما مطلقا أو في يوم القيامة أو عن طائفة خاصة قال تعالى: يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ [طه - 109]، و قال تعالى: أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ [البقرة - 254] و قال تعالى: وَ لا يَمْلِكُ اَلَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [الزخرف - 86]، و قال تعالى: لا يَمْلِكُونَ اَلشَّفاعَةَ إِلاّ مَنِ اِتَّخَذَ عِنْدَ اَلرَّحْمنِ عَهْداً [مريم - 87] و قال تعالى: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر - 18] و المراد من الظّالمين الكافرين بقرينة قوله تعالى: وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

و المستفاد من مجموعها: أنّ الشفاعة ثابتة للّه تعالى أصالة و هو المالك لها و تكون لغيره تعالى بإذنه و رضاه، و هي لا تكون في يوم القيامة إلا لمن ارتضاه اللّه تعالى و أذن له بالشفاعة و هذا هو الذي تقتضيه القواعد العقلية لانحصار مالكية كلّ شيء فيه تعالى و جميع تلك الآيات المباركة تدل على عدم ثبوتها لغيره عزّ و جل اقتراحا من الناس و من دون مشية اللّه تعالى و ارتضائه، فتحمل الآيات النافية للشفاعة إما على الشفاعة الاقتراحية للناس، أو على وقت دون وقت.

و نسبة الشفاعة إليه عزّ و جل كنسبة سائر الأمور المختصة به عزّ و جل التي يفيضها على غيره: كعلم الغيب، و الرزق، و الحكم، و الملك و غير ذلك مما هو كمال له فإنّه تعالى يثبته لنفسه عزّ و جل و ينفيه عن غيره ثم يثبته له بإذنه و ارتضائه و هذا شايع في القرآن الكريم فإنّ الأمر للّه و هو فعّال لما يريد.

ص: 220

الشفاعة في السنة:

وردت أخبار متواترة بين المسلمين في الشفاعة و أنّها المقام المحمود الذي وعد اللّه به نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) يوم القيامة

ففي صحيح مسلم عن أنس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا أول شفيع في الجنة لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت و إنّ من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد» ذكره جمع غفير من العلماء.

و أخرج البيهقي في الاعتقاد عن جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «أنا قائد المرسلين و لا فخر، و أنا خاتم النبيين و لا فخر، و أنا أول شافع و مشفّع و لا فخر» رواه الدارمي في سننه أيضا عن صالح ابن عطاء.

و أخرج البخاري عن أنس عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال:

«إنّ لكلّ نبي دعوة قد دعا بها في أمته و إنّي اختبأت دعوتي شفاعة لامتي».

و روى أبو داود عن أبي بن كعب أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال:

«إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء و خطيبهم و صاحب شفاعتهم من غير فخر».

و روى أبو داود أيضا و الحاكم عن عمر عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله):

«إنّ الشمس تدنو يوم القيامة حتّى يبلغ العرق نصف الاذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم (عليه السلام) فيقول: لست بصاحب ذلك، ثم بموسى، فيقول كذلك ثم بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله) فيشفع ليقضي بين الخلق، فيمشي حتّى يأخذ بحلقة باب الجنة، فيومئذ يبعثه اللّه مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلّهم».

و روى البيهقي عن أبي سعيد الخدري قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «يخرج قوم من النار قد احترقوا فيدخلون الجنة فينطلقون إلى نهر يقال له الحياة فيغتسلون فيه فينضرون كما ينضر العود فيمكثون في الجنة حينا، فيقال لهم تشتهون شيئا فيقولون: أن يرفع عنا هذا الاسم قال (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 221

فيرفع عنهم».

و عن سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «سألته عن شفاعة النبي (صلّى اللّه عليه و آله) يوم القيامة قال (عليه السلام): يلجم الناس يوم القيامة العرق و يرهقهم القلق. فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم يشفع لنا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون اشفع لنا عند ربك فيقول: إنّ لي ذنبا و خطيئة فعليكم بنوح فيأتون نوحا فيردهم إلى من يليه، و يردهم كلّ نبيّ إلى من يلي حتّى ينتهوا إلى عيسى فيقول: عليكم بمحمد (صلّى اللّه عليه و آله و على جميع الأنبياء) فيعرضون أنفسهم عليه، و يسألونه فيقول: انطلقوا فينطلق بهم إلى باب الجنة و يستقبل باب الرحمة، و يخر ساجدا فيمكث ما شاء اللّه، فيقول اللّه عزّ و جل:

ارفع رأسك و اشفع تشفّع و سل تعط و ذلك قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً .

و روى البرقي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): أعطيت خمسا لم يعطها أحد قبلي: جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و نصرت بالرعب، و أحل لي المغنم، و أعطيت جوامع الكلم، و أعطيت الشفاعة».

و عن داود بن سليمان عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه و بين اللّه عزّ و جل حكمنا فيها فأجابنا، و من كانت مظلمته فيما بينه و بين الناس استوهبناها فوهبت لنا، و من كان مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفا و صفح».

و عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال: «من كذب بشفاعة رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لم تنله» إلى غير ذلك من الروايات المتواترة بين المسلمين كما يأتي التعرض لقسم آخر منها.

ص: 222

الشفاعة و الإجماع:

و هو من المسلمين بأجمعهم بل تعد من ضروريات الدّين إلا ممن لا يعتنى بمخالفته و تعرّضوا للإجماع في كتبهم الكلامية و الحديثية و التفسيرية بل يمكن ادعاء إجماع الملّيين على ذلك فإنّ الشفاعة مسلّمة في الكتب المقدسة و صرّح علماؤهم بتحققها.

الشفاعة و العقل:

و يمكن تقريره بوجوه:

منها: أنّ اللّه تعالى غني بالذات عن طاعة عباده لا ينتفع منها بشيء أبدا و لا يضرّه عصيان جميعهم و لا ينقص بسبب ذلك منه شيء أبدا و لا ريب في تسلّط الشيطان و النفس الأمارة على الإنسان و إحاطتهما به كما هو محسوس بالوجدان، و حينئذ فالشفاعة كالعفو و الإغماض عن الخطإ و الزلل مع تحقق الشرائط حسن عقلا لا سيّما في عالم تنحصر الأسباب في ذات واحدة و فيه من الأهوال و الشدائد ما لا يحصى، فانحصر رفعها في واحد فقط، فترك العفو و الإغماض عمن يقدر عليهما بمجرد قول: «كُنْ فَيَكُونُ » مع عدم مانع في البين قبيح و هو مستحيل بالنسبة إليه عزّ و جل، فتجب الشفاعة عليه عقلا في النظام الأحسن الربوبي كالرزق الواجب عليه تعالى في عالم الدنيا كلّ بالأسباب المعدة له، و الشفاعة رزق معنوي يكون الناس أحوج إليها بمراتب كثيرة.

و منها: أنّ تنظيم العوالم بالأحسن يجب عقلا على مديرها و مدبرها المنحصر في الحيّ القيوم، و من أهم جهات التنظيم و الترتيب العفو و الإغماض عن العاصي الأثيم بعد وجود الشرائط و ترك ذلك و إهماله موجب لإخلال النظم و هو محال على الحكيم العليم.

و منها: أنّ الشفاعة معلولة لأصل تشريع الأحكام تدور معه أينما دار و حيث إنّ أصل التشريع منحصر باللّه تعالى، فالشفاعة و الثواب و العقاب لا بد أن تنحصر فيه مباشرة أو تسبيبا.

ص: 223

فالكل من نظامه الكياني *** ينشأ من نظامه الرباني

و منها: أنّ ترك الشفاعة مع وجود المقتضي لها و فقد المانع عنها نقص في رحمته التي هي عين ذاته تعالى فيرجع إلى نقص الذات و هو من المحالات الأولية بالنسبة إليه جلّت عظمته.

ثم إنّه يمكن إدخال الشفاعة في مفهوم قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [الفتح - 14]، و قوله تعالى:

يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ [العنكبوت - 21]، و قوله تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [الرعد - 39]، و ثبوت الاختيار له تعالى في البقاء كثبوته له عزّ و جل في أصل الحدوث و هو مقتضى تمام ملكه و مالكيته و قهاريته.

و يمكن الاستدلال على تحقق الشفاعة بالقاعدة المسلّمة بين الفلاسفة من أنّ الخير المحض بل الخير بالإضافة مقدّم على الشر و قد قرّرها اللّه جل جلاله بقوله: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114]، فأنبياء اللّه تعالى - سيّما أشرفهم و سيدهم - و أولياؤه المنقطعون إلى اللّه من كلّ جهة و بتمام معنى الانقطاع من الخير المحض فينعدم بوجوداتهم المقدسة الشر بإذن اللّه تعالى و لا معنى للشفاعة إلا هذا.

الشفاعة و شروطها:

يستفاد من مجموع الأدلة: أنّ للشفاعة أهمية كبرى و منزلة عظمى فهي الأولى من مراتب الكمالات الإنسانية و أوسع باب من أبواب الجنة الإلهية يرغب كلّ فرد إليها، و يرجوها في الدنيا و الآخرة، و لكن لا يمكن أن ينالها كلّ أحد الا إذا توفرت فيه شروط خاصة، لأنّ الشفاعة لا تخلو عن كونها توسط الأسباب و لا يمكن أن تكون مطلقة و الا لزم بطلان قانون السببية و اختلال النظام، و يدل عليه

ما عن حفص المؤذن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام):

«و اعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه أحد من خلقه لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب

ص: 224

إلى اللّه أن يرضى عنه» و شروطها هي:

الأول: يعتبر في مورد الشفاعة أن يكون الذنب باقيا إلى يوم القيامة فلو سقط بالتوبة و الاستغفار أو التكفير بإتيان الحسنات لقوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114]، أو الحدود الشرعية فإنّه لا موضوع للشفاعة حينئذ و اعتبار ذلك من الشروط مسامحة لأنّه محقق لأصل موضوعها.

و يدل عليه

ما روي عن الكاظم عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي».

الثاني: يعتبر فيها إذن اللّه تعالى في مورد الشفاعة و موضوعها و المشفوع له، و الشفيع فليس لكل أحد أن يشفع في كلّ أمر و لكلّ أحد و قد تقدمت الأدلة على ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال (عليه السلام): «لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله يوم القيامة حتّى يأذن اللّه له - الحديث -» و تقتضيه قاعدة انحصار الأمر فيه تعالى يوم القيامة.

الثالث: أن يكون المشفوع له من المؤمنين المذنبين و يدل عليه قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاّ أَصْحابَ اَلْيَمِينِ فِي جَنّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ اَلْمُجْرِمِينَ ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ اَلْمُصَلِّينَ وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ اَلْمِسْكِينَ وَ كُنّا نَخُوضُ مَعَ اَلْخائِضِينَ وَ كُنّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ اَلدِّينِ حَتّى أَتانَا اَلْيَقِينُ فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ اَلشّافِعِينَ [المدثر - 38-48].

و يستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ سبب عدم كونهم أهلا للشفاعة لهم.

هو عدم الإيمان و الخوض في الملاهي و زخارف الدنيا و الركون إليها التي تكون صارفة عن الإقبال على اللّه تعالى و الإيمان بيوم الدّين و الجزاء فإذا لم يكن هذا السبب فلا مانع من شمول الشفاعة له إذا كان مذنبا و هو من أصحاب اليمين و هم الذين ارتضى لهم دينهم و أما أعمالهم فقد تكون مرضية و هم المذنبون الذين خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا فأولئك هم المرجون للشفاعة.

فيكون موردها هم المؤمنون بدين الحق الذين عملوا المعاصي و الكبائر

ص: 225

فهم يدخلون النار بسبب أعمالهم ثم يخرجون منها بالشفاعة أو أنّها تمنعهم من دخول النار لأنّهم متفاوتون في نيل الشفاعة و درجاتها، و يشهد لما ذكرنا ما

روي عن الكاظم عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي فأما المحسنون فما عليهم من سبيل. قيل: يا ابن رسول اللّه كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه تعالى يقول: و لا يشفعون إلا لمن ارتضى و من ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى ؟!! فقال (عليه السلام): ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلاّ ساءه ذلك و ندم عليه، و قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): كفى بالندم توبة

و قال (صلّى اللّه عليه و آله): من سرته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن و لم تجب له الشفاعة و كان ظالما و اللّه تعالى ذكره يقول: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ فقيل له: يا ابن رسول اللّه و كيف لا يكون مؤمنا من لا يندم على ذنب يرتكبه ؟ فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة، و من لم يندم عليها كان مصرّا، و المصرّ لا يغفر له، لأنّه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب و لو كان مؤمنا بالعقوبة لندم

و قد قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته في القيامة».

أقول: المراد من

قوله (عليه السلام): «ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه» الندم الإجمالي الثابت في مرتبة الإيمان على كلّ ذنب في الجملة لا الندم التفصيلي الفعلي الالتفاتي على كلّ ذنب حتّى يكون موجبا لمحو الذنب كما

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «كفى بالندم توبة» و حينئذ ينتفي موضوع الشفاعة كما ذكرنا، و مثل هذا الندم الإجمالي من لوازم الإيمان في الجملة و هو مقتض لثبوت الشفاعة في يوم القيامة فهي تكون بمنزلة الجزء الأخير في العلّة التامة.

و

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من سرّته حسنته و ساءته سيئته فهو مؤمن»

ص: 226

يبيّن مرتبة الاقتضاء فقط كما مرّ لا الفعلية الالتفاتية التفصيلية.

و

قوله (عليه السلام): «فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن» يدل على نفي الندم مطلقا و لو على نحو الاقتضاء فيكون نفي الإيمان بنفي هذا الندم من باب انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم، فيصير مثل هذا الشخص متهاونا في التكاليف و منهمكا في المعاصي كما يدل عليه

قوله (عليه السلام) بعد ذلك: «و هو يعلم أن سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب» حيث لا معنى للاعتقاد بالمبدإ و المعاد و التكاليف في الجملة إلا ذلك و كلّ ذلك من اللوازم و الملزومات.

و

قوله (عليه السلام): «و متى ندم كان تائبا مستحقا للشفاعة» أي: تائبا على نحو الاقتضاء لا التوبة الفعلية من كلّ حيثية وجهة حتّى لا يبقى موضوع للشفاعة كما ذكرنا.

و بعبارة أخرى: الاعتقاد بالتوبة و الندامة على المعصية غير حصول التوبة الفعلية و لذا كان مستحقا للشفاعة في الأول دون الثاني فإنّها تزيل موضوع الشفاعة.

و

قوله (عليه السلام): «و الدّين الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات» يبيّن ما ذكرناه من التفصيل بين الموردين أي الاعتقاد بالتوبة و حصول الندامة الإجمالية و التوبة الفعلية الجامعة للشرائط و الأولى موضوع الشفاعة و تكشف عن الإيمان أيضا بخلاف الثانية فإنّها رافعة لموضوعها.

و الإقرار بالجزاء على الحسنات و السيئات من لوازم الاعتقاد بالمبدإ و المعاد كما أثبتناه سابقا.

و الحاصل أنّ مثل هذا الحديث ظاهر في اعتبار هذا الشرط. و في سياق هذا الحديث عدة أحاديث فلا بد في تحقيق الشفاعة للمشفوع له من السببية لها في الجملة، فمن لم يؤمن بشريعة سيد المرسلين لا تناله شفاعته و لا شفاعة أحد ممن له الشفاعة، إذ لا بد أن يكون هو بنفسه موجدا للمقتضي لها و بعد تحقق الموانع - و هي المعاصي و الذنوب - التي تمنع من دخول الجنة

ص: 227

تصل النوبة إلى الشفاعة و يرشد إلى ذلك قوله تعالى: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ [التوبة - 84]، و هذه الآية المباركة تدل على حرمان مثل هذا الشخص الكافر باللّه و رسوله عن الشفاعة لعدم حصول التسبب منه لها.

و بعبارة أخرى: موضوع الشفاعة مركب من أمرين حصول المقتضي على نحو الإجمال من المشفوع له في الدنيا. و تتميم اقتضاء هذا المقتضي من الشفيع في الآخرة كما عرفت أنّه مفهوم الشفاعة.

ما أورد على الشفاعة:

تقدم أنّ الشفاعة ثابتة بل هي حقيقة من الحقائق القرآنية لا يمكن إنكارها. و قد ذكرنا أنّها لا تثبت إلا بشروط خاصة فليست هي مطلقة مرسلة يمكن أن ينالها كلّ أحد فإنّ ذلك خلاف الحكمة المتعالية و قانون الجزاء و الحساب و بطلان للسببية كما تقدم.

و الشفاعة بالمعنى الذي قلناه مما تدل عليه الأدلة الأربعة و لا يسع أحد إنكارها و مع ذلك فقد أورد بعض على الشفاعة مناقشات و إشكالات واهية و إنّما هي نشأت من قلّة التدبر في الآيات الشريفة و ما ورد في الشفاعة من السنة الشريفة و نحن نذكر جملة منها و هي:

الأولى: أنّ الشفاعة ليست إلا الدعاء فقط فما هو معتبر في الدعاء يعتبر فيها و ما أورد عليه يرد عليها أيضا، فليست لها حقيقة أخرى غير الدعاء فيجوز لكلّ أحد طلب الشفاعة.

و الجواب عنها: أنّ كون الشفاعة هي الدعاء مما لا ينكر بل هو اعتراف بحقيقتها لكن الشفاعة هي دعاء الشفيع لدى المشفوع عنده للصفح عن المشفوع له. و كما أنّه لا استقلالية للدعاء بوجه أبدا و إنّما هو طريق محض لقضاء الحاجة و الشفاعة أيضا كذلك، فالجميع يرجع إلى التأثير من اللّه تعالى و لا مشاحة في مجرد الاصطلاح. هذا مضافا إلى أنّ اختلاف مفهوم الشفاعة مع مفهوم الدعاء أوضح من أن يخفى.

ص: 228

مع أنّه لو قلنا بأنّ الشفاعة هي الدعاء فقد دلّ الكتاب و السنة على أنّها مختصة باللّه تعالى و لغيره بالإذن و الارتضاء فليست هي كمطلق الدعاء من هذه الجهة و قد تقدم ما يرتبط بالدعاء في آية (186).

الثانية: أنّ القول بالشفاعة موجب لتجرّي الناس على المعاصي و إغراء لهم على المخالفة و ارتكاب محارم اللّه تعالى و هو ينافي الغرض من بعث الأنبياء و المرسلين و هو سوق الناس إلى العبودية و الطاعة فلا بد من تأويل ما ورد في الشفاعة لئلا توجب إغراء الناس بالفساد.

و هي مردودة أما أولا - فبالنقض بما ورد في شمول المغفرة و التوبة و الرحمة قال تعالى: وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ [الأعراف - 156]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الزمر - 53]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النساء - 51]، و ما ورد في الاستغفار و غير ذلك من الآيات المباركة و الروايات الدالة على سعة رحمته و غفرانه فهل يتصوّر أحد في أنّها موجبة للتجري و التمرد؟!! فكلّ ما يقال فيها يقال في الشفاعة أيضا.

و أما ثانيا - فبأنّ الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما تدل عليها بالإهمال و الإجمال فلم يعيّن فيها نوع الجرم الذي تجري فيه الشفاعة و لا المجرم الذي تناله الشفاعة بل كانت مبهمة من هذه الجهة بحيث تجعل الناس بين الخوف و الرجاء، فلا تكون موجبة للتجرّي و التمرد و هذا هو دأب القرآن في جعل الإنسان بين الخوف من ارتكاب المعاصي و التمرد على الأحكام و الرجاء حذرا من القنوط و اليأس من روح اللّه تعالى، بل يمكن أن تكون الشفاعة بهذا النحو من موجبات الانقلاع عن المعصية، و يدل على ما ذكرنا

ما رواه حفص المؤذن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في رسالته لأحبائه: «و اعلموا أنّه ليس يغني عنكم من اللّه أحد من خلقه لا ملك مقرّب و لا نبيّ مرسل و لا من دون ذلك من سرّه أن ينفعه شفاعة الشافعين عند اللّه فليطلب إلى اللّه أن يرضى عنه» و المستفاد من هذه الرواية أنّ الإنسان لا بد أن يكون مراقبا لنفسه لئلا يقع في

ص: 229

سخط اللّه تعالى فإنّه لا تنفعه شفاعة الشافعين هذا مع أنّا اشترطنا في تحقق الشفاعة وجود أصل الإيمان في الجملة.

الثالثة: أنّ أقصى ما يستفاد من الأدلة الدالة على ثبوت الشفاعة هو إمكانها دون وقوعها بل إنّ في أصل دلالة العقل عليها منعا، و أما النقل فإنّ ما ورد في الكتاب الكريم إما أن يدل على نفي الشفاعة مطلقا مثل قوله تعالى:

لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ [البقرة - 255]، أو يدل على نفي الأثر عنها مثل قوله تعالى: فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ اَلشّافِعِينَ [المدثر - 48]، أو ما ورد فيه الاستثناء كقوله تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [الأنبياء - 29]، و قوله تعالى: إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ [يونس - 3]، و قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 256]، و جميع ذلك يرجع إلى النفي كما في أمثال ذلك مما ورد فيه الاستثناء بالمشية فإنّه يستعمل في القرآن في مقام النفي القطعي و هو كثير قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود - 107]، هذا حال القرآن الكريم. و أما السنة الشريفة فإنّه لا يمكن التعويل عليها أيضا مع أنّها لا تزيد على الكتاب الكريم دلالة.

و الجواب عنها يظهر بعد الإحاطة بما ذكرناه في مفهوم الشفاعة و دلالة الأدلة التي أقيمت على ثبوتها، و ذكرنا أنّ الآيات المباركة النافية لمطلق الشفاعة أنّها تنفيها عند عدم المقتضي أو وجود المانع و لا يقول أحد بالشفاعة حينئذ و أما الشفاعة المطلوبة إنّما هي عند وجود شروطها أو أنّها تنفيها عن غيره تعالى.

و أما الآيات النافية لأثر الشفاعة فإنّما هي تنفيه في مورد خاص و هو خصوص المجرمين المنكرين للجزاء و الدّين فهي في الواقع تثبت الشفاعة في غير المورد المنفي فيه أثر شفاعة الشافعين، فالآية الشريفة على ثبوتها أدل.

و أما الآيات المشتملة على الاستثناء فهي واضحة في أنّها تدل على ثبوت الشفاعة لمن أذن له الرحمن و القول بأنّها تدل على مجرد الاستثناء الدال على النفي القطعي اجتهاد في مقابل النص الصريح و شبهة واهية لا يمكن

ص: 230

الإصغاء إليها، و أما السنة فهي متواترة صريحة في المطلوب و قد تقدم شطر منها.

الرابعة: أنّ الآيات المباركة الدالة على ثبوت الشفاعة إنّما هي آيات متشابهات و ليس للعقل فيها سبيل فلا بد من إرجاع علمها إلى اللّه تعالى كما أمرنا بذلك.

و الجواب عنها: أنّ الآيات الدالة على تحقق الشفاعة ليست من المتشابهات بل هي من المحكمات بعد رد بعضها إلى بعض و العقل يدل عليها بوضوح كما عرفت سابقا.

الخامسة: أنّ الشفاعة في رفع العقاب بعد الاستحقاق إما أن تكون عدلا أو ظلما و على الأول يستلزم كون تشريع أصل الحكم ظلما و هو قبيح بالنسبة إليه تعالى و على الثاني كانت الشفاعة ظلما و هو لا يليق بالنسبة إلى المشفوع عنده و الأنبياء الشافعين.

و هو باطل: لأنّ تشريع الأحكام حق و عدل و ليس غاية تشريع الأحكام أو الغرض منه خصوص الامتثال فقط بل لها حكم و مصالح كثيرة أخرى مثل تكميل العباد و امتحانهم و منها إظهار سعة رحمته بعد المخالفة إلى غير ذلك من الحكم مضافا إلى ما تقدم في مفهوم الشفاعة من أنّها لا تغيّر الحكم بل توجب العفو عن المجرم بعد شمول العقاب له فيكون الحكم و الشفاعة و رفع العقاب كلّها عدلا.

و من ذلك يظهر الجواب عما يقال: من أنّ الشفاعة في رفع العقاب عن المجرمين موجبة للاختلاف في الفعل و استلزام نقض الغرض المنافي للحكمة فإنّ بطلانه واضح لأنّه تحديد للأغراض الواقعية بنظر الإنسان و قدر إدراكه مع أنّ الواقع أعم من ذلك كما ثبت بالبراهين العقلية في الفلسفة. و الشفاعة من الأسباب التي جعلها اللّه تعالى لينال عباده الرحمة و الغفران كما عرفت.

الشفعاء:

الشفاعة ثابتة بالأصالة للّه تعالى و لغيره عزّ و جل بإذنه و رضاه و يستفاد من

ص: 231

الكتاب و السنة أنّ الشافعين في العباد متعددون و كثيرون و نتعرض لجملة منهم.

و الشافع الحقيقي بالذات: هو اللّه تبارك و تعالى، فهو في التكوين بمعنى جعل الأسباب على مقتضى الحكمة و في التشريع العفو و إسقاط العقاب، أو رفع الدرجات كما في جميع أسمائه المباركة الحسنى فإنّه تعالى هو الرزّاق و الرّحيم و الغفور و الودود إلى غير ذلك، و هي لا تنافي وجود الوساطة بل الوسائط في ظهورها للخلق و مظهرية الكلّ لها و هكذا بالنسبة إلى الشفاعة بمعنى الشافعية و الشفيع في حقه عزّ و جل و على ذلك جرت مشيته المقدسة على انتظام النظام الأحسن بأسبابها قلّت أو كثرت، فإنّ مبدأ الكلّ عنه، و مرجع الكلّ إليه، و حقيقة كلّ موجود تنطق بلسان الحال إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة - 156]، و لكن لا نفقه هذا النطق و إن برز ذلك لمن علم الأسرار و ارتفعت عنده الحجب و الأستار، و يدل على ذلك جملة من الأخبار،

ففي جملة من الدعوات المعتبرة «و أستشفع بك إلى نفسك» و «اللهم إنّي أستشفع بك إليك».

و من أسمائه الحسنى: الشافع و الشفيع و قال تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر - 44]، فهو الشفيع المحض في الحقيقة

و في الحديث عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا كان يوم القيامة تجلّى اللّه عزّ و جل لعبده المؤمن فيوقفه على ذنوبه ذنبا ذنبا ثم يغفر اللّه له لا يطلع اللّه له ملكا مقربا و لا نبيا مرسلا و يستر عليه و لا يطلع عليه أحد ثم يقول لسيئاته كوني حسنات».

و إذا تأملنا في حقيقة الشفاعة فيه جلّ جلاله فإنّها ترجع إلى رازقيته تعالى، لأنّ الرازقية لا تختص بعالم دون عالم و لا بنوع خاص من الممكنات دون نوع بل هي تعم جميع ما سواه من مخلوقاته سواء المجردات و النفوس و الماديات كلّ بحسبه و حياته كما يصف به نفسه قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [الفاطر - 41]، فإنّ هذا الإمساك ليس إمساكا خاصا و من جهة

ص: 232

مخصوصة، بل هو من جميع الجهات بكلّ ما يتصور من معنى الإمكان و الحاجة.

فمعيته القيومية لجميع ما سواه حدوثا و بقاء، و إفناء و تبديلا للصور إلى الأخرى هذا بالنسبة إلى المعية العامة لجميع ما سواه.

و له جلّت عظمته معية أخرى لأكرم خليقته و هو الإنسان الذي قال فيه:

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً [الإسراء - 70]، و هذه المعية هي التي تراد من قوله تعالى: هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [الحديد - 4]، فإنّها معية خاصة تشمل عالم انحصار الأسباب إلا فيه و الانقطاع إلا إليه، و هل يعقل للرزق حينئذ معنى أجل و أدق و أفضل من نجاة نفوس محتاجة غاية الاحتياج إليه في شدائد الأهوال و تبدلات الأحوال!! و يمكن إرجاع ذلك إلى الرحمة الواسعة التي شملت ما سواه.

أو إلى الرأفة فإنّ جميع ذلك من أسمائه الحسنى و صفاته العليا و في ذلك يشير

ما ورد عن الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة نشر اللّه تبارك و تعالى رحمته حتى يطمع إبليس في رحمته».

و الشفيع الثاني هو سيد الأنبياء و المرسلين محمد بن عبد اللّه الذي هو مبدأ للنبوات السماوية في علم اللّه تعالى و العلّة الغائية و لا بد من تقدمها في العلم، فإنّه الشفيع المطلق بعد الباري عزّ و جل و لذا صار شهيدا على الجميع قال تعالى: يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ [النحل - 89]، فالشفاعة تنزل على نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و منه إلى غيره لأنّ له المقام المحمود - قال تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [الإسراء - 76] المفسّر بمقام الشفاعة في عدة من الأخبار و كذلك قوله تعالى: وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى [الضحى - 5]، و قد وردت روايات متواترة من الجمهور و غيرهم في ثبوتها له (صلّى اللّه عليه و آله) بل يمكن أن يعد من ضروريات الدّين

ففي الحديث المعروف:

ص: 233

«ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي»

و في تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال (عليه السلام): «الشفاعة».

و من الشافعين في العباد: الوسائط التكوينية و الأسباب الطبيعية فإنّها شفعاء عند اللّه تعالى و وسائط بينه عزّ و جل و بين خلقه قال تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ [البقرة - 255]، فإنّ جعل الشفاعة بإذنه بعد مالكيته لما في السّموات و الأرض يدل على أنّها إنّما تكون في التكوينيات، بل يمكن أن يكون شيء بوجوده التكويني شافعا في هذا العالم قبل قيام الساعة و انسداد باب التوبة و رفع الحجة عن الأرض و ذلك قبل القيامة بأربعين يوما، و يدل على ذلك قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اَللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال - 33]،

و ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لو لا شيوخ ركع، و بهائم رتع، و أطفال رضع، لصب العذاب عليكم - الحديث -» و ما ورد في الكعبة و القرآن من أنّهما أمانان لأهل الأرض و غير ذلك و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و منهم: الوسائط التي توجب المغفرة من اللّه عز و جل أو القرب إليه كالتوبة قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ اَلْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر - 54]، و قد تقدم البحث في التوبة في أحد مباحثنا بالتفصيل،

و عن عليّ (عليه السلام):

«لا شفيع أنجح من التوبة».

و منهم الإيمان قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ [الحديد - 28]، و الآيات في ذلك كثيرة

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في أخبار متواترة «كلمة لا إله إلا اللّه حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي».

ص: 234

و منهم الأعمال الصالحة سواء كانت من نفس المشفوع له أو من غيره:

أما الأول - فيدل عليه آيات من الذكر الحكيم قال تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة - 9].

و أما الثاني -

فقد ورد في الحديث المتواتر عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يلحق بالميت كلّ عمل خير يؤتى له بعد موته من الصّلاة و الصّيام و الحج و الصدقة حتّى إنّه ربما كان في ضيق فيوسع له بذلك»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو ولد صالح يدعو له بعد موته، أو مصحف يقرأ فيه» و نظير ذلك أخبار كثيرة.

و يمكن القول بأنّ هذه الأخبار بإطلاقها تشمل الشفاعة في عالم البرزخ أيضا سواء في تخفيف العذاب أو رفع الدّرجات في ذلك العالم و لا محذور فيه من عقل أو نقل، و عليه شواهد كثيرة من الأخبار يأتي ذكرها في الموضع المناسب.

و منهم القرآن الكريم قال تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة - 16]، و في الحديث أنّه يقال لقارئ القرآن: «اقرأ و ارق» أي ارق في الدّرجات.

و منهم الملائكة قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا [المؤمن - 7]، و قال تعالى:

وَ اَلْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي اَلْأَرْضِ أَلا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [الشورى - 5]، و قال تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [النجم - 26]، و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ثبوت الشفاعة للملائكة منطوقا و مفهوما.

و منهم سائر الأنبياء و المرسلين فإنّ لهم الشفاعة أيضا و ما ورد في بعض الروايات من أنّ الأنبياء إنّما يرجعون إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 235

في ذلك فيصح أن يقال: إنّ لهم الشفاعة بعد الإذن من سيد الأنبياء و ليس لهم تلك قبل الاستيذان منه كما تقدم في بعض الروايات فإنّ لهم القابلية و الاستعداد لهذه المنزلة الكريمة و المقام العظيم فقد ذكرنا أنّه ليس كلّ أحد ينال هذه الموهبة الإلهية بل لا بد من الاستعداد الذاتي الذي لا يعلمه إلا اللّه تعالى.

نعم، يمكن الحصول على هذا الاستعداد بالإيمان و الأعمال الصالحة و المجاهدات الحقة، و لذلك تختلف مراتب الشفاعة حسب اختلاف الاستعدادات و تشتد مراتبها كما و كيفا باشتداد مراتب المعارف المعنوية التي يحيط بها نفس الشافع، و أصل ذلك كلّه شروق نور أزلي على النفس فيضيء و تستضيء منه النفوس المستعدة فهو الشافع الشفيع، و هو النور المضيء، و بأنواره تجلّت قلوب العارفين و بها حصلت بشارة المخبتين و منها تتلألأ سيماء المؤمنين و الجميع يسرعون حسب مقاماتهم و درجاتهم إلى جنات النعيم فلا أول لهم إلا من اللّه و لا آخر لهم إلا إليه فهم أظهروا حقيقة العبودية فأحاطت بهم العنايات الربوبية، و كشفت عن بصائرهم الحجب فادهشوا بما أدركوا من أنوار رب الأرباب.

ترى المحبّين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

و من ذلك يظهر أنّ كلّ من سعى بحسب جهده إلى الوصول إلى هذا المقام ينال هذه الموهبة الإلهية و الفيض الرباني سواء في ذلك الأنبياء و الأوصياء و العلماء و المؤمنون كلّ حسب استعداده.

و على ذلك يحمل ما ورد من الاختلاف في شفاعة الأنبياء و رجوعهم إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّه إمامهم و هو أكملهم و له المقام المحمود

ففي الحديث في قوله تعالى: وَ لا تَنْفَعُ اَلشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ قال (عليه السلام): «لا يشفع أحد من أنبياء اللّه و رسله حتّى يأذن اللّه له إلا رسول اللّه فإنّ اللّه أذن له في الشفاعة قبل يوم القيامة و الشفاعة له ثم من بعد ذلك للأنبياء» و تقدم ما يدل على ذلك.

و منهم بنت خاتم الأنبياء و سيدة النساء الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء

ص: 236

(سلام اللّه عليها)

ذكر السيوطي في الدر المنثور و العسكري في المواعظ و المتقي الهندي في كنز العمال عن جابر: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) رأى على فاطمة (سلام اللّه عليها) كساء من أوبار الإبل و هي تطحن، فبكى و قال: يا فاطمة اصبري على مرارة الدنيا لنعيم الآخرة غدا، و نزلت وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى .

و روى محب الدّين الطبري في ذخائر العقبى عن عليّ (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لفاطمة: يا فاطمة تدرين لم سمّيت فاطمة ؟ قال عليّ : يا رسول اللّه لم سميت فاطمة ؟ قال: قد فطمها و ذريتها عن النار يوم القيامة» أخرجه الحافظ الدمشقي أيضا و الروايات بهذا المعنى متواترة بين المسلمين.

و أخرج النسائي عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «و إنّما سماها فاطمة لأنّ اللّه عزّ و جل فطمها و محبيها عن النار».

بل إنّ شفاعة سيدة النساء من شفاعة سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)

لما رواه الجمهور و غيرهم بأسانيد متواترة عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «فاطمة بضعة منّي» و ليس المراد من لفظ «البضعة» الجزء الخاص كاليد و العين و القلب بل المراد الجزء السرياني في بدنه الأقدس من حيث تعلق الروح المقدّسة المؤيدة بروح القدس، و يشهد لما قلناه أنّ علمها من علمه (صلّى اللّه عليه و آله) و قد أجمع أولادها المعصومون (عليهم السلام) على أنّ عندهم مصحف فاطمة بل كانوا يفتخرون به و هو من إملاء رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و خطّ عليّ (عليه السلام) بيده و فيه علم ما كان و ما يكون كما في الروايات و لا يعقل الانفكاك بين البضعة السريانية و الكل.

و منهم الأئمة الهداة (صلوات اللّه عليهم أجمعين) فإنّ لهم مقام الشفاعة في الآخرة و النصوص في ذلك متواترة بين المسلمين عموما و خصوصا.

و منهم العلماء و الشهداء

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ثلاثة يشفعون إلى اللّه عزّ و جل فيشفّعون: الأنبياء ثم العلماء، ثم الشهداء» و لعلّ الترتيب محمول على ترتب مقامهم عند اللّه عزّ و جل،

و عن

ص: 237

الصادق (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة بعث اللّه العالم و العابد فإذا وقفا بين يدي اللّه عزّ و جل قيل للعابد: انطلق إلى الجنة. و قيل للعالم: قف تشفع للناس بحسن تأديبك لهم».

و منهم المؤمن حتّى السّقط منه

ففي الحديث عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله): «تناكحوا و تناسلوا فإنّي أباهي بكم الأمم و لو بالسقط يجيء محبنطئا على باب الجنة فيقال له: أدخل فيقول: لا حتّى يدخل أبواي - الحديث -».

أقول: المحبنطئ: العظيم البطن يعني امتلأ جوفه غيظا و في الرواية بحث يأتي التعرض له في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العياشي عن عبيد بن زرارة قال: «سئل أبو عبد اللّه عن المؤمن هل له شفاعة ؟ قال (عليه السلام): نعم، فقال له رجل من القوم: هل يحتاج المؤمن إلى شفاعة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) يومئذ قال (عليه السلام): نعم، إنّ للمؤمنين خطايا و ذنوبا و ما من أحد إلا و يحتاج إلى شفاعة محمد يومئذ - الحديث -».

و في تفسير العياشي أيضا عن أبان بن تغلب قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته فيشفّع فيهم حتّى يبقى خادمه فيرفع سبابتيه فيقول: يا رب خويدمي كان يقيني الحرّ و البرد فيشفع عنه».

الشفاعة و متعلّقها:

قد عرفت أنّ الشفاعة إما أن تكون تكوينية فهي تتعلّق بكلّ شيء في عالم التكوين و إما أن تكون تشريعية تتعلّق بالثواب و العقاب و هذه على درجات:

فمنها - ما تتعلق بكلّ ما يوجب العقاب حتّى الشرك باللّه تعالى و هي التوبة و الإيمان باللّه و رسوله.

و منها - ما تتعلق ببعض الذنوب و التبعات كالأعمال الصالحة قال تعالى:

إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [هود - 114].

ص: 238

و منها: الشفاعة المعروفة في يوم القيامة و هي شفاعة الأنبياء و المرسلين و من تقدم ذكره و هي الشفاعة الكبرى و هي تتعلق بالكبائر مطلقا سواء كان موردها حق اللّه سبحانه و تعالى أو حق الناس أو هما معا و يدل على ذلك

ما رواه سليمان بن داود عن الرضا عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): إذا كان يوم القيامة ولينا حساب شيعتنا فمن كانت مظلمته فيما بينه و بين اللّه عزّ و جل حكمنا فيها فأجابنا و من كانت مظلمته فيما بينه و بين الناس استوهبناها فوهبت لنا، و من كانت مظلمته فيما بينه و بيننا كنا أحق من عفا و صفح» هذا و لكن ورد في السنة الشريفة أنّ بعض الذنوب لا تتعلّق به الشفاعة فتكون هذه الأخبار تخصيصا لعمومات الشفاعة و نشير إلى بعضها.

منها: الاستخفاف بالصّلاة

ففي الحديث عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لا ينال شفاعتي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه»

و عن أبي بصير أيضا قال:

«دخلت على أم حميدة أعزيها بأبي عبد اللّه (عليه السلام) فبكت و بكيت لبكائها ثم قالت: يا أبا محمد لو رأيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عند الموت لرأيت عجبا فتح عينيه ثم قال: اجمعوا كلّ من بيني و بينه قرابة: قالت: فما تركنا أحدا إلا جمعناه فنظر إليهم ثم قال: إنّ شفاعتنا لا تنال مستخفّا بالصلاة» و الروايات في ذلك متواترة.

و منها: شرب الخمر

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ليس منّي من استخف بصلاته لا يرد عليّ الحوض لا و اللّه، ليس منّي من شرب الخمر لا يرد عليّ الحوض» و الروايات في ذلك كثيرة.

و منها: سوء الخلق

فعن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«قال النبي (صلّى اللّه عليه و آله): أبي اللّه لصاحب الخلق السيّئ بالتوبة قيل:

و كيف ذاك يا رسول اللّه ؟ قال: لأنّه إذا تاب من ذنب وقع في ذنب أعظم منه»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) أيضا: «إياكم و سوء الخلق فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة» و غير ذلك من الروايات.

ص: 239

و منها: قتل النفس المحترمة

فعن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما قال (عليه السلام): و لا يوفّق قاتل المؤمن متعمدا للتوبة»

و عن ابن أبي عمير عن سعيد الأزرق عن الصادق (عليه السلام): «في رجل قتل رجلا مؤمنا يقال له: مت أيّ ميتة شئت إن شئت يهوديا و إن شئت نصرانيا و إن شئت مجوسيا» و قد ورد شبه هذا التعبير في التسويف بالحج أيضا.

و منها: المبادرة إلى ارتكاب المعاصي و إتيان المحرّمات اعتمادا على شفاعة سيد الأنبياء لامته فإنّ شمول أدلة الشفاعة لهذه الصورة ممنوع و يستفاد ذلك من خبر حفص المؤذن السالف ذكره.

و لكن مع ذلك كلّه فإنّ الشفاعة أمر غيبيّ لا تنالها الحدود، و اللّه يغفر لمن يشاء و يعذّب من يشاء.

زمان الشفاعة:

تقدم ما يتعلّق بالشفاعة بقسميها و الحق عدم اختصاصها بزمان خاص فهي تعم جميع ما يرد على الإنسان من العوالم سواء في الدنيا و الحشر و النشر و مواقف القيامة حتّى يتحقق الاستقرار في دار القرار و قضاء اللّه الحتم بالخلود في الجنة أو النار.

و لكن يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الشفاعة أنّ الشفاعة الكبرى إنّما هي بعد الحشر فهي تختص بالآخرة كما تدل عليه الأدلة النقلية و هي إما أن تتعلّق بالعصاة الذين دخلوا النار فينتفعون بها و يخرجون من النار كما يدل عليه الحديث الوارد في الجهنميين و مرّ ذكره، و إما أن تتعلّق بالعصاة و أصحاب الكبائر قبل دخول النار، فيكون تأثيرها إسقاط العذاب و تقدم ما يدل على ذلك أيضا.

و أما الشفاعة في الدنيا - فإنّ بعض إطلاقات الأدلة الواردة في الشفاعة يدل على ثبوتها فيها و لا محذور فيه من عقل، فإنّه بعد إذنه تعالى عن علم أنّه أهل للشفاعة لا تختص بعالم دون آخر و يدل على وقوعها بعض الآيات

ص: 240

الشريفة قال تعالى: وَ لَمّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ اَلرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى اُدْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا اَلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَلَمّا كَشَفْنا عَنْهُمُ اَلرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ [الأعراف - 135]، و الظاهر من الآية الشريفة أنّهم طلبوا شفاعة موسى (عليه السلام) في رفع العذاب عنهم. هذا بالنسبة إلى الشفاعة التشريعية المتعلّقة بالثواب و العقاب.

و أما الشفاعة التكوينية - فإنّها واقعة في هذه الدنيا و لا يمكن إنكارها، فإنّ الدنيا عالم الأسباب و قد ذكرنا أنّ الإيمان باللّه تعالى و الأعمال الصالحة و غيرهما من الأسباب إنّما هي شفعاء بين العبد و بين اللّه تعالى و يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً [النساء - 85]، و تقدم ما يرتبط بذلك فراجع.

و من ذلك رجوع أهل الإيمان إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و أولياء اللّه تعالى الذين لهم قدم راسخ في مراتب الإيمان فإنّ ذلك من الشفاعة عند اللّه تعالى لنيل المقاصد و نجح المطالب و ليس من الشرك كما يدعيه بعض، بل هما موضوعان مختلفان فإنّ إذن اللّه للواسطة ينفي الشرك و يسقطه بالمرة و هو يرجع إلى جعل من ارتضاه اللّه تعالى واسطة لأن يدعو في رفع العذاب كما تقدم في الآية السابقة من طلبهم من موسى أن يدعو في رفع العذاب عنهم و لا يتوهم المؤمن الذي يتوسل بالوليّ أنّ له جهة موضوعية في رفع المخاطر و الأضرار أو في إتيان النفع و إلا فهو من الشرك في مرتبة توحيد الفعل الذي ينافي لا حول و لا قوة إلا باللّه لا في مرتبة المعبودية حتى ينافي لا إله إلا اللّه، و بينهما فرق كبير، كما لا يخفى على الخبير، فطلب الشفاعة ممن أذن له اللّه تعالى في الشفاعة ليس من العبادة له حتّى يشمله قوله تعالى:

ما نَعْبُدُهُمْ إِلاّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللّهِ زُلْفى [الزمر - 3]، و ليس ذلك بعادم النظير، فإنّ قراءة القرآن في شفاء مرض و التقرب به إلى اللّه تعالى و التّداوي بالأدوية التي خلقها اللّه تعالى لشفاء الآلام و الأسقام و غير ذلك ليس من الشرك و لا يتوهمه أحد في ذلك و كذا في المقام و يأتي تتمة الكلام في الآيات

ص: 241

المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و أما عالم البرزخ الذي يتوسط بين عالم الدنيا و القيامة فإنّ الوجوه المتصوّرة فيه هي: إما أن تكون الشفاعة في عالم البرزخ من نفس الموجودين فيه، أو من الدنيا فيه، أو من الآخرة فيه و لا رابع في البين. و الجميع لا موضوع له، لأنّ مورد الشفاعة الكبرى إنّما هو بعد نصب الموازين يوم القيامة و الحساب و ثبوت استحقاق العقاب فإنّ بدعاء الشفيع يرفع العقاب بإذن اللّه تعالى. نعم، بعض الأعمال الصالحة و الخيرات من الأحياء في الدنيا للأموات توجب التوسعة عليهم إن كانوا في ضيق و الأخبار في ذلك متواترة.

و قد ورد في بعض الروايات: أنّ الدفن في بعض الأمكنة المقدّسة كالدفن في الحرم الإلهي أو ظهر الكوفة يرفع جملة من المضايقات عن الميت و لكن ذلك ليس من الشفاعة المعهودة بل هو تصرّف و حكومة يمنحها اللّه تعالى لهم، و لكن يستفاد من بعض الأدعية المأثورة أنّ التصرفات المعنوية في عالم البرزخ منحصرة باللّه تعالى مثل

ما ورد في الدعاء: «و تولّ أنت نجاتي من مسائلة البرزخ و ادرأ عنّي منكرا و نكيرا و أرعيني مبشّرا و بشيرا» و يأتي في الموضع المناسب الكلام في عالم البرزخ.

الشفاعة في الأديان الإلهية:

لا تختص الشفاعة المعهودة بالإسلام بل هي ثابتة في سائر الأديان الإلهية و إن كان بينها تفاوت يسير في مفهومها و ذلك يرجع إلى السّير التكاملي في المفاهيم الدينية و سائر الأمور كما قرّرناه في أحد مباحثنا السابقة مع أنّنا ذكرنا أنّ الشفاعة ليست وليدة دين خاص بل هي أمر اجتماعي قرّرها الإسلام و الأديان الإلهية و يستفاد ذلك من أسفار التوراة و الإنجيل، ففي سفر أيوب من التوراة الإصحاح 33 فقرة 23 ما يدل على ذلك، و كذلك في الإصحاح 5 فقرة 1 و غير ذلك مما ورد فيه. و أما في الإنجيل فقد وردت هذه العبارة فيه كثيرا: «يسوع المسيح الذي بذل نفسه لأجل خطايانا لينقذنا». أو «يطهرك المسيح من الخطايا» و أنّ الشفاعة سرّ من أسرار الكنيسة.

ص: 242

غاية الشفاعة:

للشفاعة غايات و فوائد متعدّدة نذكر المهمّ منها:

فمنها: توجيه النفوس المستعدة إلى مقام النبوة خصوصا سيد الأنبياء الذي هو الأصل و الأساس للشفاعة.

و منها: أنّها توجه الناس إلى الصّالحين من عباد اللّه الذين أذن اللّه تعالى لهم بالشفاعة.

و منها: ترغيب الناس إلى السّعي في صالح الأعمال و الإخلاص فيها لعلّ اللّه تعالى يرضى عنهم و يجعلهم بأنفسهم من أهل الشفاعة.

و منها: عدم يأس الناس من رحمة اللّه تعالى بعد رجائهم في الشفاعة.

و منها: بقاء الناس في مقام الرجاء و الخوف الذي حث عليه القرآن الكريم و الأنبياء و المرسلون.

هذه هي أهم غايات الشفاعة و هناك فوائد أخرى تظهر للمتتبع في أدلة الشفاعة.

ص: 243

بحث فلسفي

لا ريب في ثبوت السعادة و الشقاوة للإنسان و الأولى عبارة عن الخير للإنسان. و الثانية تقابل ذلك. و للعلماء و الفلاسفة فيهما أقوال و مذاهب.

و محصّل تلك هي: أنّه إذا لوحظ الإنسان بالنسبة إليهما يتصوّر على وجوه:

الأول: أن تكون السعادة ذاتية للسعيد، و الشقاوة ذاتية للشقي بالذاتي الحقيقي المعبّر في محلّه بالذاتي الايساغوجي.

الثاني: أن يكون كلّ واحد منهما ذاتيا له بمعنى كونهما من لوازم الذات، كذاتية الزوجية للأربعة و الفردية للثلاثة المعبّر عنه في محلّه بذاتي باب البرهان.

و هذان الوجهان باطلان في نظام التشريع لأنّ القول بهما ينافي الاختيار الذي يتقوّم به التشريع مطلقا كما دلّت عليه الأدلة العقلية و النقلية.

و لكن استند بعض إلى

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الناس معادن كمعادن الذهب و الفضة خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام، و شرارهم في الجاهلية شرارهم في الإسلام».

و يرد عليه ما عرفت آنفا من أنّ القول به ينافي القواعد العقلية المتقنة الدالة على ثبوت الاختيار و أنّ التشبيه في الحديث الشريف إنّما هو من بعض

ص: 244

الجهات دون جميعها.

الثالث: أن يكون من مجرد الاقتضاء لا الذاتي، و هذا هو الصحيح الذي يستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الطينة و الميثاق، و الشقاوة و السعادة و هو الموافق للقواعد العقلية الدالة على ثبوت الاختيار في استحقاق الثواب و العقاب.

و حينئذ فالشفاعة الكبرى التي ذكرنا أنّها ثابتة لنبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) الذي هو واسطة الفيض، و سائر الأنبياء و الأوصياء إنّما هي في هذا القسم من السعادة و الشقاوة و لا موضوع لها في الوجهين الأولين لعدم قابلية المحلّ لها، و قد ذكرنا أنّها شرط في ثبوت الشفاعة، و يدل على ذلك ما ورد في الشفاعة مثل

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي» فإنّ المستفاد منه أنّ موردها الأفعال فلا تكون في مرتبة الذات و الذاتيات فيكون مورد الشفاعة السعادة و الشقاوة على الوجه الثالث فإنّه القابل للتغيير و التبديل بعروض الموانع.

و قد ذكرنا أنّ السعادة و الشقاوة على درجات:

منها: ما يكون الإنسان فيهما بالغا إلى أقصى درجات الكمال.

و منها: ما يكون الإنسان سعيدا ذاتا و شقيا فعلا، و بالعكس.

و منها: ما لا تتم له فعلية السعادة و الشقاوة و لكن لا بد من زوال الهيئات الرديئة و بروز الحقيقة فإما أن ترزق التطهير فتزول الشقاوة العرضية، أو تسلب السعادة العرضية و تظهر شقاوة النفس، أو تكون مرجوة لأمر اللّه تعالى إن لم تكتمل في السعادة و الشقاوة و فارقت الحياة ناقصة مستضعفة فالشفاعة في هذه المراتب و الأقسام إنّما تزيل الهيئات الرديئة الشقية التي لزمت النفوس.

أما النفوس الكاملة في الشقاوة التي أثرت المعاصي و الذنوب في ذاتها و انقلب المقتضي إلى الذاتي فلا موضوع للشفاعة فيها، و هذا من إحدى الأصول التي بنى بعض أكابر الفلاسفة (رحمة اللّه عليه) المعاد الجسماني عليها و قال بعضهم:

ص: 245

قد خمرت طينتنا بالملكة *** و تلك فينا حصلت بالحركة

هذا موجز القول و سيأتي في الموضع المناسب تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

ص: 246

سورة البقرة الآية 255

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَع.......

اشارة

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ (255) الآية الشريفة تقرر أعظم المعارف الإلهية و أهم أصل من أصول الدين الذي إليه يدعو جميع الأنبياء و المرسلين. و أنّ الاعتقاد به يجعل العبد في الصراط المستقيم و يحثه على العمل القويم، يطلبه الإنسان بالفطرة و يترنم باسمه في كلّ حالة ألا و هو اللّه المعبود بالحق الواحد الأحد الذي اجتمع فيه جميع صفات الكمال.

و ما في الآية الشريفة هو الحدّ الفاصل بين الاعتقاد الصحيح و غيره فقد قررت توحيد اللّه تعالى في الذات و المعبودية و الصفات.

و قد وصفته بأصول صفات الكمال و هي الحياة، و القيوميّة، و المالكية، و الربوبية العظمى، و العلم فلا تخفى عليه خافية في السموات و الأرض و لا يحيط بعلمه أحد. و هذه هي أمهات الأسماء الحسنى و إليها يرجع سائرها و قد نزهت عنه جميع ما لا يليق بساحة كبريائه.

فهي تثبت المبدأ و المعاد للتلازم بينهما، فتضمنت الآية الشريفة توحيد

ص: 247

اللّه تعالى و الصفات العليا و الأسماء الحسنى و تنزيهه عما لا يليق به و اتصافه بصفات الجمال و الجلال على نحو يستشعر العبد بعظمته و كبريائه و حكمته و علو قدره و عظم شأنه، فيقف بين يديه خاضعا ذليلا مذعنا بوجوب طاعته و الوقوف عند حدوده و أحكامه، و نبذ ما لا يليق بساحة كبريائه و الإعراض عمّا يسخطه و لا يرضى به، فالمعتقد بها يؤمن بما ورد في القرآن الكريم و ما جاء به سيد المرسلين.

فالآية المباركة بحق أعظم آية في كتاب اللّه المجيد، و إنّها من كنوز العرش، و إنّها تعدل ثلث القرآن.

و من ذلك يعلم وجه الارتباط بما سبق و ما يأتي من الآيات الشريفة.

ص: 248

التفسير

255 - قوله تعالى: اَللّهُ .

اللّه: علم لواجب الوجود المعبود بالحق إله العالمين جلّ جلاله، و هو أجل لفظ لأعظم معنى فوق ما نتعقله من معنى العظمة و الجلال.

و تقدم في سورة الحمد ما يتعلق به، و قلنا إنّه سواء كان اللفظ من و له بمعنى التحيّر، لتحيّر جميع ما سواه فيه جلّ و علا، و أنّ غاية ما في وسع الجميع إنّما هي الإشارة إليه تعالى بهذا اللفظ العظيم و أمثاله من أسمائه المباركة، و أما الحقيقة فدونها حجب كثيرة.

أو كان من أله بمعنى العبودية، لكونه المعبود بالحق.

أو علم مختص به جلّ جلاله، فإنّ جميع ذلك يستلزم أنّه متصف بجميع صفات الكمال و منزّه عن النقائص و الأوهام

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أنّ هذا هو الاسم الأعظم الذي يتأثر منه العالم».

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

نفي للمعبود مطلقا و حصر فيه جلّ و علا، بل نفي للحقيقة الحقة و إثبات لها فيه تعالى، لأنّ غيره في معرض الزوال و الفناء.

و الإله هو الذات المتصفة بصفات الألوهية، من وجوب الوجود و الحياة

ص: 249

و القدرة و غيرها.

أي: لا ذات تستحق الصفات الإلهيّة إلاّ اللّه تعالى، و الضمير يرجع إلى اسم الجلالة الدال على الذات المقدّسة المتصفة بجميع صفات الجمال و الجلال و قد تقدّم بعض الكلام في قوله تعالى: وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [البقرة - 164].

و نزيد هنا: أنّ الوجه في إتيان الضّمير مفردا دون الجمع لما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه تعالى إذا كان في مقام بيان الصفات المقدسة العليا أو في مقام الرحمة و الامتنان على العباد يأتي بالمفرد و إذا كان في مقام بيان القدرة و القهارية و الكبرياء يأتي بضمير الجمع.

و قد كرّرت هذه الجملة المباركة المبتدأة باسم الجلالة و المنتهية بلفظ «هو» في ستة مواضع من القرآن الكريم أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى:

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [آل عمران - 3]، و الثالث قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [النساء - 87]، و الرابع قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [طه - 8]، و الخامس قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [النمل - 26]، و السادس قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [التغابن - 13]. و عن بعض المتتبعين أنّ لهذه الجملة المباركة آثارا عجيبة حصلت بالتجربة، و يشهد لما ذكره (قدّس سرّه) أنّ هذه الجملة في جميع الموارد التي ذكرت اقترنت بمهام الصّفات الجمالية و الجلالية. و وحدته الحقة الحقيقية سرت إلى الألفاظ التي تطلق عليه عزّ و جل.

قوله تعالى: اَلْحَيُّ .

حصر للحياة فيه تعالى فهي فيه عز و جل حقيقية ذاتية لا أن تكون إضافية، كما ستعرف.

أي: هو الحي فقط و غيره في معرض الزوال و مستمد منه عز و جل، قال تعالى: وَ عَنَتِ اَلْوُجُوهُ لِلْحَيِّ اَلْقَيُّومِ [طه - 111].

و الحي من الصفات المشبّهة التي تدل على الثبوت و الدوام كالرحيم

ص: 250

و العليم أي: أنّه الحياة الثابتة، و مفهوم الحياة معلوم و ظاهر، و هي التي تبتني عليها جميع الإحساسات و الإدراكات و يلازمها العلم و القدرة و بانتفائها تتعطل جميع قوى الحي و مشاعره و أفعاله و هي على مراتب و أصولها الحياة الإنسانية و الحيوانية و النباتية، و حياة المجردات و قد ذكرها اللّه تعالى في كتابه الكريم في مواضع متعددة قال تعالى: اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يُحْيِ اَلْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها [الحديد - 17]، و قال تعالى: وَ هُوَ يُحْيِ اَلْمَوْتى [الشورى - 9].

و أقسامها ثلاثة: الحياة الدنيا، و الحياة البرزخية، و الحياة الآخرة، و قد وردت في القرآن الكريم قال تعالى: رَبَّنا أَمَتَّنَا اِثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اِثْنَتَيْنِ [غافر - 9]، و سيأتي أنّ المراد من الحياتين الحياة البرزخية و الحياة الآخرة.

و أما الحياة الدنيا - فقد وصفها اللّه تعالى بأوصاف مختلفة كلّها تدل على ذم هذه الحياة و رداءتها و زوالها بخلاف حياة الآخرة التي وصفها اللّه تعالى بأنّها الحياة الكاملة قال تعالى: هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ [العنكبوت - 64]، كما وصفها بالأمن و الخلود و الهناء و عدم النقص في كلّ ما يرتبط بها قال تعالى: آمِنِينَ لا يَذُوقُونَ فِيهَا اَلْمَوْتَ إِلاَّ اَلْمَوْتَةَ اَلْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [الدخان - 56]، و هي أبدية لا غاية لها بحسب الآخر و المنتهى قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ [هود - 108]، و لكنّها محدثة مسبوقة بالعدم فهي الحياة الكاملة على الإطلاق، و لكن مع ذلك هي مسخرة تحت إرادة اللّه تعالى مملوكة له عزّ و جل قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [النحل - 97].

فتكون حياته جلّت عظمته حياة حقيقية كاملة واجبة فيه عزّ و جل بريئة من النقص يستحيل عليها الموت و الفناء قال تعالى: وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَلْحَيِّ اَلَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان - 58]، و هي متقوّمة بالعلم و القدرة و لها مراتب غير متناهية لانتهائها إلى ما يكون عين ذات اللّه جلّت عظمته و لا مبدأ لأولها و لا منتهى لآخرها، لأنّه أزليّ أبديّ بذاته، و كذلك يكون ما هو عين ذاته أي الحياة

ص: 251

و العلم و القدرة.

و هذه الحياة منحصرة في اللّه تعالى و ليست حياته حياة فردية شخصية بل هي حياة كلية حقيقية هي مبدأ حياة كلّ حيّ من حياة النبات و الحيوان و الإنسان و الروحانيين، و الأرواح الشامخة و العقول المجردة بل و جميع ما سواه حتّى الجمادات فإنّ لها حياة خاصة لا ندركها كما يظهر من قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [الإسراء - 44]، و قوله تعالى: أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ [فصلت - 21]، فإنّ جميعها مستمدة من تلك الحقيقة الواحدة البسيطة، فتكون حياته عزّ و جل منشأ الأرواح و أصلها و بدوامها تدوم بلا فرق بين الأرواح العلوية و الأرواح السفلية و الجواهر المقدّسة الروحانية، فهي منشأ الخيرات و منبع البركات، و هي الغيث المستغيث و الغياث المستغاث في عالمي الأمر و الخلق اللذين يجمعان جميع الممكنات.

و الحيّ أم الأسماء الحقيقية المحضة كالقدرة و نحوها كما يأتي.

قوله تعالى: اَلْقَيُّومُ .

حصر للقيّومية فيه عزّ و جل فقط قلبت الواو ياء بعد أن كان الأصل قيووما و ادغمتا فصار قيوما للقياس المطرد على ما هو المعروف عند الأدباء، كما أنّ أصل القيام القوام فعل به ما فعل بنظيره.

و القيوم من أسمائه الحسنى و معناه: القائم بالأمر المتعهد بالحفظ و التدبير و المراقبة، و قد أطلق عليه تعالى قبل الإسلام أيضا قال أمية ابن أبي الصلت:

لم تخلق السّماء و النجوم *** و الشمس معها قمر يقوم

قدّره مهيمن قيّوم و الحشر و الجنة و النعيم

إلا لأمر شأنه عظيم

و هو تعالى قائم بأمر خلقه و تدبير شؤونهم عن علم تام و حكمة كاملة، و هو دائم بدوام ذاته لا يعتريه ضعف و لا فتور.

و تستلزم القيمومة على خلقه جملة من الصفات العليا الحقيقية ذات

ص: 252

الإضافة كالخلق و الرزق، و الإحياء، و الإماتة، و الرحمة، و الغفران و نحو ذلك مما يتطلبه شؤون خلقه.

فهو من أمهات الأسماء ذات الإضافة، و الفرق بين الأسماء الحقيقية ذات الإضافة و الإضافية المحضة يأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ .

السّنة - بكسر السين - النعاس، و هو الفتور الذي يعتري الإنسان قبل النوم و أصل السنة و سنة حذفت الواو.

و النوم معروف و هما - أي السّنة و النوم - متلازمان غالبا و لكن قد يطرأ النوم من دون أن تغلب السنة.

و قد نفى سبحانه و تعالى عن ذاته الأقدس كلا الأمرين لأنّ القيومية على خلقه تتطلب أن يكون قائما على تدبير خلقه في جميع الحالات و الا كان من الخلف الباطل، فلا مقتضي للنوم فيه جلّ جلاله بوجه من الوجوه، فيكون ترتب هذه الجملة على الحيّ القيوم من ترتب المعلول على العلّة فيستفاد منها أنّ ما لا يكون كذلك تأخذه السنة و النوم.

و من ذلك يعلم: أنّ تقديم السنة على النوم إنّما هو من باب إثبات عدم النوم بالأولوية، و لو قدم النوم لما أفاد هذا المعنى أي: من لا تأخذه مقدمات النوم كيف يعقل أن يأخذه النوم.

و ما قيل: من أنّ هذه الجملة على خلاف الترتيب الذي تقتضيه البلاغة في أمثال المقام فإنّه لا بد أن يكون من الأقوى إلى الأضعف بخلاف مقام الإثبات فإنّ الترتيب فيه يكون من الأضعف إلى الأقوى فإنه يرد عليه مضافا إلى ما تقدم: أنّ الترتيب في كلا المقامين - مقام الإثبات و مقام النفي - إنّما يدور مدار صحة الكلام.

و التعبير ب (الأخذ) لنفي جميع ما يتصور في عروض السنة، و النوم على ذاته الأقدس عزّ و جل.

ص: 253

قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

معلول آخر للواحد للحيّ القيوم فإنّه إذا انحصر الحيّ القيوم في الفرد الواحد يكون كلّ ما سواه له لا بمعنى المالكيّة و الملكية فقط بل إنّ كلّ ما يتصوّر في السّموات و الأرض من جهات الاحتياج و الاستكمال له تعالى و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، لأنّ اللفظ مستعمل في المالكية الحقيقية للذات بجميع لوازمها و ملزوماتها، فالسّموات و الأرض و ما فيهما خاضعة لإرادته و حاضرة لديه و هي قائمة به عزّ و جل، فالقيومية العظمى تستدعي سعة إحاطته و قدرته و ملكه لجميع السّموات و الأرض و هي تدل على تفرّده بالألوهية، و أنّ السلطان المطلق للّه تعالى.

و مما ذكرنا يعرف: أنّ هذه الجملة في موضع التعليل لنفي السّنة و النوم عنه تعالى أيضا يعني: من كان مالكا للسّموات و الأرض و ما فيهما و قيّوما عليها لا يمكن أن تأخذه السّنة و النّوم، و الا استلزم المحال و هو تعطيل شؤون الملك، كما أنّه لو نام ربان السفينة مثلا و غفل عن شؤونها لغرقت السفينة.

قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .

استفهام إنكاري أي ليس لأحد الشفاعة و التأثير في ملكه و سلطانه إلا بإذنه. لأنّه إذا كان المعبود بالحق منحصرا فيه عزّ و جل و هو الحيّ القيوم لجميع خلقه و له جميع ما سواه ملكا و تدبيرا و إيجادا و إفناء لا يعقل أن يشفع عنده بدون إذنه لأنّه محال بالضرورة.

و الآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى و الملكية الحقيقية فيه عزّ و جل تثبت قانون الأسباب و المسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن اللّه تعالى، و قد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ و مستقلّة عن مشية اللّه تعالى، و أما إذا كانت بإذنه عزّ و جل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا و يكون تأثيره من اللّه تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته العليا و نظير الآية المباركة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [يونس - 3].

ص: 254

و الآية الشريفة بعد إثبات السلطان المطلق له تعالى و الملكية الحقيقية فيه عزّ و جل تثبت قانون الأسباب و المسببات أي الشفاعة التكوينية بإذن اللّه تعالى، و قد ذكرنا سابقا أنّ الشفاعة المنفية ما إذا كانت منافية للسلطان الإلهيّ و مستقلّة عن مشية اللّه تعالى، و أما إذا كانت بإذنه عزّ و جل فلا مانع منها فإنّه ما من سبب إلا و يكون تأثيره من اللّه تعالى فهو القيوم المطلق فتصرّفه إنّما يكون منه جلّت عظمته بل إنّ الأسباب في عالم التكوين حاكية عن جماله و صفاته العليا و نظير الآية المباركة قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اَللّهُ اَلَّذِي خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ ثُمَّ اِسْتَوى عَلَى اَلْعَرْشِ يُدَبِّرُ اَلْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ [يونس - 3].

و أما الشفاعة التشريعية فتكون بإذنه عزّ و جل بالأولى، لأنّها من شؤون تشريعاته المقدسة التي يكون التكوين من مقدّمات حصولها و قد تقدم الكلام في الشفاعة فراجع.

قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ .

كناية عن كمال إحاطته بالموجودات وسعة علمه بالمخلوقات. و المراد بما بين أيديهم الحاضر المشهود و بما خلفهم الغائب المستور فيشمل جميع سلسلة الزمان الحاضر و الماضي و المستقبل و هي بمنزلة التعليل لنفي الشفاعة إلا بإذنه.

يعني: أنّ مناط الشفاعة هو العلم الإحاطي بالعباد بما فعلوه و يفعلونه و سائر جهاتهم و خصوصياتهم في سلسلة الزمان من الحاضر و الماضي و المستقبل و مثل هذا العلم منحصر في اللّه جلّت عظمته فلا بد أن تكون أصل الشفاعة و جميع ما يتعلق بها و سائر إضافاتها من حيث الشافع و الشفيع و متعلق الشفاعة بإذنه و اختياره عزّ و جل حدوثا و بقاء في الدنيا و الآخرة فلا كمال و لا استكمال إلا منه تعالى، و لا يقدر أحد على التصرف في ملكه و لا رادّ لقضائه جلت عظمته إلا منه و به تعالى و لهذه الآية الشريفة نظائر في القرآن الكريم قال تعالى: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء - 28].

قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ .

تأكيد لسعة علمه و كمال إحاطته و نفي علم ما سواه به تعالى. أي: أنّ أحدا من خلقه لا يقدر أن يحيط بما يعلمه إلا إذا شاء.

و من هذه الآية الشريفة يستفاد عجز ما سواه عن الإحاطة به تعالى، لأنّ صفاته العليا و أسماءه الحسنى غير متناهية كذاته المقدّسة و ما سواه متناه و عدم

ص: 255

إمكان إحاطة المتناهي بغير المتناهي من البديهيات الأولية.

فالعلم للّه تعالى وحده و هو يختص به عزّ و جل و ما يوجد عند غيره إنّما هو من علمه و مشيئته و إرادته و هو تعالى محيط بما سواه و قائم على خلقه و لا تتم قيّوميته على خلقه إلا بإفاضة ما يحتاجون إليه من العلوم و المعارف لتكتمل بذلك سعادتهم الدنيوية و الاخروية، و لا يختص ذلك بذوي العقول بل لطفه و عنايته شاملتان لجميع مخلوقاته فهي مستفيضة من فيضه العليّ ، و يدل على ذلك جملة من الآيات المباركة قال تعالى: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ أَنِ اِتَّخِذِي مِنَ اَلْجِبالِ بُيُوتاً [النحل - 68]، و هي تحت إرادته و تربيبه العظمى و من مظاهر فيضه و إحسانه و آثار رحمته و امتنانه ذاتا و صفة حدوثا و بقاء فجميع نظامه التكويني و التشريعي ينبعث عن نظامه الرّبوبي، و ما سواه محتاج إليه في البقاء كاحتياجه إليه عزّ و جل في أصل الحدوث لا يقدر أن يقدم على خلاف إرادته عزّ و جل و هو قائم بإرادته و تدبيره الأتم و حكمته البالغة، و في كلّ آن له تعالى ربوبية خاصة و شأن غير ما في الآن السابق قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرّحمن - 29]، و من كان كذلك يكون جميع ما سواه كرسيّا له، لأنّ أظهر صفات الكرسي كونه مظهرا من مظاهر القدرة و الاقتدار و التدبير و الارادة.

فالآية الشريفة تدل على تمام تدبيره و كمال إحاطته بمخلوقاته و هي عاجزة عن الإحاطة بخالقها و صفاته العليا إلا بقدر ما يفيضه عليها و يرشدها إلى الكمال المطلوب.

قوله تعالى: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ .

مادة (ك ر س) تأتي بمعنى الجمع و المجتمع و منه الكرّاسة، و الكرسي - في العرف -: اسم لما يقعد عليه، و لوحظ فيه المعنى اللغوي أيضا لاجتماع الحال و المحل أو اجتماع الأجزاء فيه، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً [ص - 34]، و يكنّى به عن الملك.

و المراد به في المقام: اقتداره التام وسعة سلطانه، و هو تشبيه بليغ بين

ص: 256

ما هو المعقول - بل فوق المعقول - بما هو المحسوس، و له نظائر كثيرة في الكتاب الكريم.

و تعقيب تلك الصفات العليا و الأسماء الحسنى بهذه الآية يدل على أنّ المراد هو ثبوت الملك الحقيقي له تعالى و كمال إحاطته و اقتداره و تمام تدبيره به و قيام جميع الممكنات به عزّ و جل فإنّ كرسيه بمعنى انتساب جميع المخلوقات إليه انتسابا اشراقيا. و هو من مظاهر فيضه المطلق غير المحدود فيعم جميع الممكنات.

فكما أنّ في أسماء اللّه المقدسة اسم جامع لجميعها، و يصح انتزاع سائر الأسماء الحسنى منه و هو اسم الجلالة (اللّه) حيث ينتزع منه الرّب، و الرحمن، و الرحيم، و الجميل، و الجليل، و الجواد و غيرها من الأسماء الحسنى، فكذا لكرسيه جلّت عظمته لحاظ إجمالي، و هو جميع ما سواه من الممكنات التي وجدت و ستوجد إلى الأبد، و لعل أجلّ تلك الكراسي كرسيّ العلم الذي به تقوم السّموات و الأرض كما أنّ به تنتظم شؤون خلقه و تدبير ملكه على الحكمة البالغة.

و إنّما شبّه سبحانه و تعالى - ما في ساحته المقدسة التي تجل عن المادة و شؤونها، فإنّه لا كرسيّ و لا جلوس هناك تقريبا إلى الأفهام - بما اعتاد في صفات الملوك و العظماء فشبه عظمته و كبرياءه و سلطانه التام بكرسي الملك المقتدر المدير لرعيته و المدبر لشؤونها و الا فليس ما سواه إلا من مظاهر أسمائه و صفاته. و في المقام كلام طويل على بعض مباني الفلسفة الإلهية أعرضنا عن ذكره و سيأتي في الموضع المناسب بيانه إن شاء اللّه تعالى.

و من ذلك تظهر المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في تفسير هذه الآية المباركة، و العجب أنّ بعضهم أقرّ بأنّ كرسيه تعالى كناية عن كمال إحاطته و تدبيره و سلطانه التام يقول بأنّ الكرسي شيء يضبط السموات و الأرض لا يمكن معرفة كنهه و حقيقته. و ليس ذلك إلا من التهافت في الكلام.

قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما .

الأود: المشقة و الثقل و الجهد، و الضمير يرجع إليه عزّ و جلّ ، أي: لا

ص: 257

يشق عليه حفظ السّموات و الأرض و لا يجهده و يتعبه ذلك. و لا ريب فيه لأنّ الإخراج من العدم إلى الوجود أقوى و أشد من الحفظ بعد الوجود و الثبوت، و بعد أنّ الممكن بعد الحدوث يحتاج إلى العلة، فالعلة المحدثة في كلّ آن تكون معه فلا يتصوّر موضوع للأود و المشقة بالنسبة إليه تعالى، مضافا إلى قيوميته المطلقة التي لا حدّ لها أبدا، فيكون عروض الأود من فرض القيومية المطلقة من الجمع بين المتنافيين فالآية الشريفة تؤكد السعة العلمية و الربوبية العظمى.

قوله تعالى: وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ .

هذه الجملة تدل على حصر جميع الكمالات فيه عزّ و جلّ فلا علوّ و لا عظمة إلا فيه و منه تعالى و قد وردت في عدة مواضع من القرآن الكريم و قرن اسم العلي بالكبير قال تعالى: وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْكَبِيرُ [سبأ - 23]، و بالحكيم قال تعالى: إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ [الشورى - 51]، و قال تعالى: لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [الزخرف - 4]، كما اطلق اسم الأعلى عليه جلّ جلاله قال تعالى: سَبِّحِ اِسْمَ رَبِّكَ اَلْأَعْلَى [الأعلى - 1]، و قال تعالى: إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ اَلْأَعْلى [الليل - 20]، كما أورد اسم العالي في أسمائه المباركة الحسنى في جملة من الدّعوات المأثورة.

و المعنى: هو العليّ في ذاته و جميع شؤونه و صفاته فهو المتعالي عن الشرك و الأنداد و عن الضعف في وجوده و صفاته، و الفتور في ملكه و أمره العظيم في شأنه و جلاله، و أمره و سلطانه فلا يعجزه كثرة مخلوقاته و هو المنزّه عن الاحتياج إلى غيره في ملكه و سلطانه.

و يمكن أن تكون هذه الجملة حالية أي: كيف يؤوده حفظهما و هو العليّ العظيم بالنسبة إلى ما سواه مطلقا، فلا يعقل عروض التعب و المشقة عليه.

و هذه الآية الشريفة خلاصة ما ورد في المعارف الربوبية تشتمل على الذات المقدّسة و أمهات الأسماء الحسنى و أصول الصفات العليا، و كلّ ما قيل في ذلك مقتبس من هذا النور الإلهي، فهو اللّه لا إله إلا هو المتنزه عن الأشباه

ص: 258

و الأنداد له جميع الصّفات العليا الجمالية و الجلالية.

فهو الحيّ القيوم الذي لا يأخذه ضعف و لا فتور و لا يصيبه كلال و لا ملال في حفظ مخلوقاته و هي محتاجة إليه تعالى متعلّقة بأمره و مشيته و هو متعال عنها عظيم في جميع شؤونه لا يشبهه أحد من خلقه.

و قد اشتملت هذه الآية على كلّ ما يسوق العباد إليه. و هي تملأ القلب مهابة من اللّه جلّ جلاله و تجعل النفس خاشعة ذليلة أمام عظمته و كبريائه و جلاله، و تزيد في معرفة العبد للّه تعالى و تقوده إلى ساحة قدسه و هو يستشعر بالحياء منه و قلبه مليء من عظمته و جلاله قد أعرض عن غيره و قطع أمله عن سائر خلقه و توكل عليه و اعترف بالعجز و القصور لينال ما هو المأمول.

و لأجل اشتمال هذه الآية على تلك المعارف العليا كانت لها آثار خاصة لم تكن في غيرها من الآيات، ذكر في السنة الشريفة بعض منها و سيأتي في البحث الروائي نقلها.

ص: 259

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول: إنّما عبر باسم الجلالة (اللّه) في صدر الآية المباركة لدلالته على الكمال المطلق فوق ما نتعقله من معنى الكمال، و لازم ذلك انحصاره في فرد و نفي الشريك عنه ذاتا و صفة و فعلا، لأنّ الشرك مطلقا ينافي فرض الكمال المطلق و هو خلف، و بهذا الدليل القويم يستدل على التوحيد في الذات و الصفات و الأفعال و هو يغنينا عن إطالة الكلام في ذلك، و لأجل ذلك تكرّرت هذه الآية في القرآن الكريم قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَهُ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى [طه - 8]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ [النمل - 26]، و قال تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [التغابن - 13]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة لا سيّما إذا انضم إليها جملة (الحي و القيوم) لأنّها تتضمن أم الأسماء الجمالية و الجلالية و الأصل في نظامي التكوين و التشريع، و الرابط بين عالم الغيب بالشهادة و عالم الشهادة بعالم الغيب و فيها أهمّ أسرار عالم الملكوت و هي النور الذي يتدفق عن عالم الجبروت يستحيل على الممكنات تحمل معناها فترى العقول

ص: 260

صرعى دون بلوغ مغزاها، قد أدهش الأملاك جلالها فتراهم خاضعين لا يرفعون الرؤوس، و حيّر الأفلاك فلا تزال تتحرّك شوقا إلى الاقتراب و كلّما تقترب ميلا تفر أميالا لشدة أشعة الجلال و عظمة الاحتجاب يحترق كلّ من دنا منها، و ماذا أقول في اسم هو حياة كلّ ذي حياة و قيوم كل ذي ذات - جوهرا كان أو عرضا -.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما أنّ حفظ السّموات و الأرض أعظم من إيجادهما فإنّ حفظ الشيء أعظم بكثير من إيجاده لأنّه يتطلّب جهدا أكبر فكم قد رأينا أنّ ملكا وصل إلى الملك و لم يقدر على حفظه و إبقائه فحرم من الاستمتاع به و لكن هذا غير متصوّر بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّه القادر القهار على جميع ما سواه حدوثا و بقاء إيجادا و إفناء، فلا مضادّ له في حكمه و لا ندّ له في ملكه و قد جمع ذلك في قوله عزّ و جلّ : لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ ... وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما .

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ تمام الإحاطة العلمية بالمخلوقات، و أنّ جميع المتدرجات الزمانية بل الدهرية حاضرة لدى علمه عزّ و جل حضورا علميّا إحاطيا و أنّها كذرة فلاة غير محدودة.

و التدرج إنّما هو في مرتبة المعلوم بالعرض لا في مرتبة العلم الإحاطي الغيبي، و أنّ غيب الغيوب حاكم على الشهادة بكلّ معنى الحكومة إيجادا، و تقديرا، و تدبيرا، و إفناء، و تبديلا لصورة إلى أخرى فهو المبدئ و المعيد و المصوّر لكلّ ما شاء و أراد.

كما يشمل قوله تعالى جميع الممكنات التي منها الإنسان من بدء حدوثها إلى آخر فنائها إذ لا معنى لمالكيته تعالى للسّموات و الأرض و علمه بها إلا ذلك فيعلم تعالى جميع ما يتعلق بالإنسان أنواعه و أفراده و جميع صفاته و حالاته و سعادته و شقاوته و أفعاله و أقواله حتّى خطرات القلوب و لمحات العيون.

ص: 261

الرابع: يدل قوله تعالى: وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِما شاءَ على أنّه تمتنع الإحاطة بعلم الباري تعالى إلا بمسمّى المشيئة و يستفاد منه أنّ كلّ علم يفاض منه تعالى على الممكن لا بد أن يكون محدودا بالمشية، و لا يمكن للعقول درك خصوصيات المشية و لا الجهات المقتضية للإفاضة، و إن كان يستفاد من قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [البقرة - 282]، أنّ لحقيقة التقوى دخلا كبيرا فيها، فإنّها توجب صفاء القلب و استعداده للاقتباس من الأنوار الغيبية فإذا انعكس شعاع الشمس على المرآة الظاهرية الجسمانيّة كيف يحتمل أن لا تنعكس الأنوار الغيبية الواقعية في المرآة الحقيقية الواقعية.

الخامس: يحتمل أن يكون متعلّق المشيئة الإحاطة، كما يحتمل أن يكون نفس العلم، و يحتمل أن يكونا معا و على أيّ تقدير لا يكون إلا بقدر القابليات و الاستعدادات قال تعالى: أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [الرعد - 17]، نعم لو فرض الفناء المطلق فيه جلّت عظمته بحيث تزول الاثنينية فهناك بحث خاص يقصر اللسان عن بيانه و القلم عن تحريره فإنّ جميع جهاته حاليّة لا أن تكون مقالية.

السادس: يستفاد من هذه الآية الشريفة - و ما في سياقها من الآيات - أنّ المعبود بالحق لا بد أن يكون فيه هذه الأمور، الحيّ ، القيوم، لا تأخذه سنة و لا نوم و غيرها، لأنّ هذه كلّها ذاتية له فيمتنع التخلف و تنحصر لا محالة في اللّه جلّت عظمته.

و ما يتوهّم من أنّه يستلزم التركب في الذات الأقدس لا وجه له لأنّ جميع ذلك يرجع إلى سلب الإمكان و النواقص الواقعية و الإدراكية عنه، فتكون الذات بسيطة فوق ما نتعقله من معنى البساطة.

السابع: ظاهر نفي السنة و النوم عنه تعالى نفي حقيقتهما عنه مطلقا فيكون عدم الاختياري منهما عنه جلّت عظمته أيضا بل بالأولى، كما أنّ مقتضى ذلك نفيهما عنه تعالى في الأزل و الأبد لا أن يكون مختصا بوقت دون آخر.

ص: 262

و ظاهر الآية الشريفة أنّ عدمهما مختص به عزّ و جل، أي نفي ذاتهما مطلقا بجميع مراتبهما الممكنة فيهما.

و أما غيره تعالى فإنّه لا دليل من عقل أو نقل على انحصار حقيقة النوم و السّنة فيما يعرضان للحيوان فقط، بل لهما مراتب كثيرة لا يعلمها الا علاّم الغيوب، و من تلك المراتب

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«تنام عيني و لا ينام قلبي» و قد رأينا بعض المشايخ أنّه (رحمه اللّه تعالى) في أثناء بحث التفسير ينام مع أنّه كان مشغولا بالبحث حين النوم بلا خلل منه في البين.

فالقيوم الذي له القيومية الفعلية على ما سواه من كلّ جهة، و الممكن الذي هو زوج تركيبي له ماهية و وجود شيئان لا وجه لقياس أحدهما بالآخر.

مع أنّ للسّنة و النوم مراتب كثيرة و نفي جميعها منحصر به تعالى كما أثبتناه سابقا.

و أما العقول و بعض الروحانيين و سادات الملائكة، فإنّ نفي بعض المراتب عنهم لا يستلزم نفي الجميع كما هو معلوم.

مع أنّ المقهورية المطلقة لما سواه عزّ و جل من أعظم أنواع النوم لجميع الممكنات. نعم، من كان حياته بحياته و أفنى جميع شؤونه في مرضاته بحيث لا يرى لنفسه ذاتا و لا صفة و لا فعلا و قد وصل إليه كتاب كريم من الحيّ القيوم إلى الحيّ القيوم كما في بعض الروايات فهو خارج عن موضوع ما يكتب و ما يختلج في الأوهام و لكنه مع ذلك كلّه بالنسبة إلى الأبد لا بالنسبة إلى الأزل فارتفع الوفاق و حصل الافتراق.

الثامن: قد أهمل تعالى إفاضة ما يفيضه من العلم و علّقه على مشيته و إذنه تعالى، إذ لا يحتمل البيان غير الإجمال لأنّ إفاضة العلم منه عز و جل على أقسام:

الأول: أن تكون الإفاضة من سلسلة العلل الطولية حتّى تنتهي إلى ذاته

ص: 263

المقدّسة، فيحيط المفاض عليه بتمام خصوصيات عالم الشهادة و الغيب حتّى يصل إلى غيب الغيوب الذي لا يعقل له حدود و لا نهاية فتكون حقائق جميع ما سواه تعالى منطوية في هذا العلم

و في بعض الدّعوات المأثورة عن نبينا الأعظم «اللهم أرنا الأشياء كما هي».

الثاني: أن تكون الإفاضة علم الحقائق العامة البلوى بما لها من الآثار.

الثالث: أن يفيض علم الآثار من حيث لوازمها و ملزوماتها دون أصل الحقائق.

الرابع: إفاضة بعض الآثار إجمالا.

الخامس: أن يتخصص كلّ فرد بخصوصية خاصة. و يمكن أن تصوّر الأقسام أكثر من ذلك و التفصيل لا يسعه المجال في مقام الثبوت، و مقام الإثبات.

ص: 264

بحث أدبي

المعروف بين أهل اللغة و الأدب أنّ (اللام) تأتي للملك المجرد في مقابل سائر المعاني اللازمة للملكية من التدبير، و التنظيم، و الإيجاد و الإفناء و غير ذلك من لوازم الملكية عقلا و عرفا و قد وضع لذلك كله ألفاظ أخرى يستعملونها مع تحقق المعنى، و لا تستعمل مع عدمه مع صحة الانفكاك. و قد حصل ذلك من تصوّر الملكية في الممكنات و انتفاء الملكية الواقعية الحقيقية من جميع الجهات.

و أما فيما هو الحقيقي الواقعي فالملكية و المالكية تشمل جميع ما لها من اللوازم و الآثار التي لا يستلزم منها النقص من إطلاقه عليه تعالى إيجادا و إفناء و تدبيرا و غير ذلك. فإنّ الملك فيه حقيقي لا اعتباري كالدائر بين الإنسان فالمستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ أنّ له الملكية الذاتية الحقيقية الشاملة لجميع اللوازم و الملزومات التي لا توجب النقص إما بالدلالة التضمنية أو الالتزامية، كما يقال: فلان رجل عاقل أي:

يحسن تدبيراته و عمله و شؤونه و نحوها و الكلّ منطو في معنى اللفظ الواحد.

و كلّ ما اتسع المعنى ازدادت آثاره و لوازمه و ملزوماته، و لا نحتاج إلى تكثير اللفظ خصوصا فيه جلّت عظمته، و لأجل ذلك قلنا: إنّ لفظ (اللّه) اسم للذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية الواقعية المسلوب عنه جميع

ص: 265

النقائص الواقعية و الإدراكية، و تشهد لذلك الأدلة العقلية و السنة الشريفة فيكون إطلاق اللفظ الواحد بمنزلة إطلاق ألفاظ كثيرة و سلب معان متعددة و هذا الإطلاق يكون على نحو الحقيقة دون المجاز.

ص: 266

بحث روائي
اشارة

تقدم أنّ آية الكرسي هي أعظم آية في القرآن الكريم التي تشتمل على جملة من المعارف الإلهية منها التوحيد الخالص و بيان الصفات العليا و يكفي في شرفها أنّ اسم اللّه تعالى تكرر فيها ثمان عشرة مرة بين ظاهر و مضمر بل يمكن القول بأنّها تحتوي على كليات و أصول المعارف الحقة:

أما التوحيد - فيكفي فيه قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

و أما العدل - فإنّه يكفي فيه قوله تعالى: اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ إذ القيومية المطلقة لا تتم إلا بالعدل و إنّ به قامت السّموات و الأرض.

و أما النبوة - فيرشد إليها قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ .

و النبوة و المعاد متلازمان تلازم المبدإ و المعاد، لفرض أنّ النبي يخبر عن المعاد فهو بوجوده في هذا العالم وجود المعاد كما تدل عليه الآيات المباركة.

و منه يستفاد الولاية أيضا إذ لا نبوة كاملة الا بتعيين الوصاية و الولاية.

و لشرافة ما تضمنته هذه الآية الكريمة صارت من أعظم الآيات و أفضلها و أجمعها فقد ورد في السنة الشريفة ما يدل على فضلها و عظمة أمرها و الاعتناء

ص: 267

بها اعتناء بليغا، و التوصية بقراءتها و حفظها لما فيها من الآثار العجيبة و قد اشتهرت بذلك من حين نزولها و نحن نذكر في هذا البحث جملة مما ورد في فضلها، و ما يتعلق في عددها و ما يتعلّق بالكرسي، و ما ورد في تفسير مفرداتها.

فضل آية الكرسي و شأنها:

روى السيوطي في الدر المنثور عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) أنّه قال: «آية الكرسي سيدة آي القرآن».

و روى البيهقي في شعب الإيمان عن أبي ذر: «قال: يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي».

و أخرج البخاري في تاريخه و ابن الضريس عن أنس أنّ النبي (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «أعطيت آية الكرسي من تحت العرش».

و أخرج أحمد و الطبراني عن أبي أمامة قال: «قلت: يا رسول اللّه أيّما أنزل عليك أعظم ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم، آية الكرسي» رواه الخطيب البغدادي أيضا.

و في سنن الدارمي عن أيفع بن عبد اللّه قال: «قال رجل: يا رسول اللّه أيّ آية في كتاب اللّه أعظم ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي: اللّه لا إله إلا اللّه هو الحي القيوم - الحديث -».

و في الكافي عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام). «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلقن بالعرش و قلن أي ربّ إلى أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب ؟! فأوحى اللّه عزّ و جل إليهنّ اهبطن و عزّتي و جلالي لا يتلوكنّ أحد من آل محمد و شيعتهم في دبر ما افترضت عليه من المكتوبة في كلّ يوم إلا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة أقضي له في كلّ نظرة سبعين حاجة و قبلته على ما كان فيه من المعاصي.

و هي أم الكتاب، و شهد اللّه أنّه لا إله إلا هو و الملائكة و أولو العلم، و آية الكرسي، و آية الملك».

ص: 268

أقول: يستفاد من أمثال هذه الرواية أنّ للآيات الشريفة حياة حقيقية واقعية و إن كنا لا ندرك ذلك و يدل عليه قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى - 52].

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام):

«إنّ لكلّ شيء ذروة و ذروة القرآن آية الكرسي».

و في أمالي الشيخ باسناده عن أبي أمامة الباهلي: «أنّه سمع عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: ما أرى رجلا أدرك عقله الإسلام أو ولد في الإسلام يبيت ليلة سوادها، قلت: و ما سوادها؟ قال (عليه السلام): جميعها حتّى يقرأ هذه الآية: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ - إلى قوله - وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ قال: فلو تعلمون ما هي - أو قال ما فيها - ما تركتموها على حال: إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرش و لم يؤتها نبيّ كان قبلي قال علي (عليه السلام) فما بتّ ليلة قط منذ سمعتها من رسول اللّه إلاّ قرأتها».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال أبو ذر: «يا رسول اللّه ما أفضل ما أنزل عليك ؟ قال (صلّى اللّه عليه و آله): آية الكرسي، ما السموات السبع و الأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض بلاقع ثم قال (صلّى اللّه عليه و آله): و إنّ فضله على العرش كفضل الفلاة على الحلقة».

و سئل النبي (صلّى اللّه عليه و آله) القرآن أفضل أم التوراة ؟ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ في القرآن آية هي أفضل من جميع كتب اللّه و هي آية الكرسي».

و عن نبينا الأعظم: «من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة لم يمنعه دخول الجنة إلا الموت و من قرأها حين ينام آمنه اللّه و جاره و أهل الدويرات حوله».

و عن علي (عليه السلام) قال: «سمعت نبيّكم (صلّى اللّه عليه و آله)

ص: 269

يقول - و هو على أعواد المنبر -: من قرأ آية الكرسي دبر كلّ صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت و لا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، و من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه و جاره و جار جاره و الأبيات حوله».

أقول: الأخبار في فضلها كثيرة مروية عن الخاصة و الجمهور و قد ورد استحباب قرائتها في مواضع كثيرة منها عند السفر و بعد الصلاة، و بعد الوضوء، و عند المريض، و حال النزاع و سكرات الموت و غير ذلك مما هو كثير راجع الكتب المعدة لذلك.

عدد آية الكرسي:

لا ريب في أنّ كلّ ما ورد فيه ذكر آية الكرسي يراد بها إلى قوله تعالى:

وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ و تقدم في حديث أبي أمامة الباهلي عن عليّ (عليه السلام) التصريح بذلك، و يظهر ذلك أيضا مما ورد في قراءة آية الكرسي و آيتين بعدها، فإنّه ظاهر في خروجها عنها، و هو المنصرف من إطلاق آية الكرسي أي الآية التي يذكر فيها الكرسي هذا إذا لم تقم قرينة على الخلاف، كما في بعض الروايات من زيادة إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ أو زيادة «آيتين بعدها»،

ففي الخبر عن عليّ بن الحسين (عليهما السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) من قرأ أربع آيات من أول البقرة و آية الكرسي و آيتين بعدها و ثلاثا من آخرها لم ير في نفسه و ماله شيئا يكرهه، و لا يقربه الشيطان و لا ينسى القرآن» فحينئذ يؤخذ بها في موردها.

و في تفسير القمي ذكر آية الكرسي إلى هُمْ فِيها خالِدُونَ - و الحمد لله رب العالمين.

أقول: يمكن أن يكون التحميد إرشادا إلى استحباب ذكر الحمد بعد تمام الآيات، كما ورد في سورة التوحيد من استحباب قول:

«كذلك اللّه ربّي» و في سورة الجحد من استحباب قول:

«ربّي اللّه و ديني الإسلام» بعد تمامها و مثل ذلك كثير في القرآن.

ص: 270

معنى الكرسي:

في الكافي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال: يا فضيل كلّ شيء في الكرسي، السّموات و الأرض، و كلّ شيء في الكرسي».

أقول: أما

قوله (عليه السلام) أولا: «كلّ شيء في الكرسي» فيه إجمال و قد بيّنه بقوله

(عليه السلام): «السّموات و الأرض» و أما

قوله (عليه السلام) ثانيا: «كلّ شيء في الكرسي» فهو عبارة عما في السّموات و الأرض من الجواهر و الأعراض و النفوس و المجردات و الأملاك و الأفلاك.

و المراد به: الإحاطة العلمية بما سواه كلية و جزئية كما فسر بها في رواية أخرى، أو الإحاطة القيومية فإنّه تعالى محيط بجميع ما سواه و قائم عليه بتمام معنى الإحاطة و القيومية.

و في الكافي أيضا عن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ السموات و الأرض و سعن الكرسيّ أو الكرسيّ وسع السّموات و الأرض ؟ فقال (عليه السلام): «إنّ كلّ شيء في الكرسي».

أقول: ظهر معنى الرواية ممّا مرّ في سابقتها. و أما سؤال زرارة فهو سؤال بدا في ذهنه ابتداء قبل التأمل فيه، فأبدى الإمام (عليه السلام) الجواب على حقيقته بما يزيل الوهم.

و في المعاني عن حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قال (عليه السلام) علمه».

أقول: يصح التعبير عن العلم المحيط بالعرش و الكرسي و يصح هذا التعبير باعتبار الإحاطة و الاستيلاء فيشمل جميع جهات إحاطته تبارك و تعالى مثل كرسيّ الجمال و الجلال و العزّة و القدرة و العظمة فما ذكره الإمام (عليه

ص: 271

السلام) بعض منها تقريبا للأفهام، و لأنّ الإحاطة العلمية جامعة لجميع ذلك.

و في المعاني أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسيّ ما هما؟ فقال (عليه السلام): العرش في وجه:

هو جملة الخلق، و الكرسيّ وعاؤه. و في وجه آخر: العرش هو العلم الذي أطلع اللّه عليه أنبياءه و رسله و حججه. و الكرسي هو العلم الذي لم يطلع عليه أحدا من أنبيائه و رسله و حججه عليهم السلام».

أقول: المراد من الوعاء ليس الوعاء الجسماني بل الإحاطة الحقيقية.

و أما الوجه فهو بيان مراتب علمه التي هي غير متناهية و سيأتي البحث في علمه عزّ و جل مستقلا إن شاء اللّه تعالى.

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): «السموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي. و العرش هو العلم الذي لا يقدر أحد قدره».

أقول: تقدم ما يتعلّق

بقوله: «السّموات و الأرض و ما بينهما في الكرسي» أي: الكرسي بمنزلة الوعاء لها. و أما

قوله (عليه السلام): «العرش هو العلم» فهو صحيح بالنسبة إلى العرش الذي بمعنى العلم و

قوله: «الذي لا يقدر أحد قدره» أي: لا يقدر على فهم حقيقته أحد و لا يمكن الاطلاع على جميع خصوصياته.

في تفسير العياشي عن زرارة في قوله عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ قال (عليه السلام): لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض و العرش، و كلّ شيء خلق اللّه في الكرسي.

قال الأصبغ بن نباتة: «سئل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال (عليه السلام): إنّ السّماء و الأرض و ما فيهما من خلق مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه».

أقول:

قوله (عليه السلام): «لا بل الكرسي وسع السّموات و الأرض

ص: 272

و العرش» دفع لما يمكن أن يتوهم من أنّ السّموات و الأرض وسعت الكرسيّ كما سأله زرارة نفسه في رواية أخرى.

و المراد بالعرش: سائر مخلوقاته عزّ و جل، أي: العرش الجسماني، و

قوله (عليه السلام): «في جوف الكرسي» عبارة عن سعته للسّماوات و الأرض و ما فيهما كما تقدم في الرواية السابقة.

و أما حمل الأملاك الأربعة الكرسيّ فهو عبارة عن مظاهر قدرة اللّه تعالى لحمل كرسيّ العالم الجسماني فلا تنافي بين هذه الرواية و بين الآيات الدالة على ثبوت الحمل للعرش قال تعالى: اَلَّذِينَ يَحْمِلُونَ اَلْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ [غافر - 7]، و قال تعالى: وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ [الحاقة - 17]، و يأتي شرحها في موضعها و قريب من هذه الرواية ما ورد في الاحتجاج عن الصادق (عليه السلام).

و محصّل الكلام في العرش و الكرسي أنّهما إما معنويان روحانيان أو جسمانيان أي عالم الأجسام و لا بد و أن يميّز بحسب القرائن بين الأقسام الأربعة لئلا يختلط بعضها ببعض، و القرائن موجودة في نفس الأخبار لمن تأمل فيها.

في تفسير القمي عن الأصبغ بن نباته: «أنّ عليّا (عليه السلام) سئل عن قول اللّه عزّ و جل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فقال: السّموات و الأرض و ما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه - الحديث -» و رواه العياشي أيضا.

أقول: تقدم ما يتعلّق به في الرواية السابقة.

في الكافي عن الحسين بن زيد الهاشمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «جاءت زينب العطارة الحولاء إلى نساء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و بناته و كانت تبيع منهنّ العطر فجاء النبي (صلّى اللّه عليه و آله) و هي عندهنّ فقال (صلّى اللّه عليه و آله): إذا أتيتنا طابت بيوتنا؟ فقالت: بيوتك بريحك أطيب يا رسول اللّه قال (صلّى اللّه عليه و آله): فإذا بعت فأحسني و لا

ص: 273

تغشي فإنّه أتقى و أبقى للمال فقالت: يا رسول اللّه ما أتيت بشيء في بيعي و أتيت أن أسألك عن عظمة اللّه عزّ و جل قال (صلّى اللّه عليه و آله): سأحدثك عن بعض ذلك - إلى أن قال (صلّى اللّه عليه و آله): و هذه السبع، و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، عند حجب النور كحلقة في فلاة قي و هذه السبع، و البحر المكفوف و جبال البرد و الهواء، و حجب النور عند الكرسي كحلقة في فلاة في ثم تلا هذه الآية: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ . و هذه السبع و البحر المكفوف، و جبال البرد، و الهواء، و حجب النور، و الكرسي عند العرش كحلقة في فلاة قي و تلا هذه الآية: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى .

أقول: القيّ - بالكسر - هي الأرض القفر الخالية. و حقيقة مثل هذه الأحاديث لا يعرفها إلا من عبر تلك المحالّ المقدسة و هو مختص بسيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله)، و يمكن أن يراد بالكرسي و العرش الجسماني منهما كما تقدّم و اللّه تبارك و تعالى محيط على الجسم و الجسمانيات و الرّوح و الرّوحانيات.

في التوحيد عن حنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن العرش و الكرسي فقال (عليه السلام): إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة له في كلّ سبب وضع في القرآن صفة على حدة فقوله تعالى: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ يقول: رب الملك العظيم، و قوله: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى يقول على الملك احتوى، و هذا علم الكيفوفية في الأشياء، ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي لأنّهما بابان من أكبر أبواب الغيوب، و هما جميعا غيبان، و هما في الغيب مقرونان لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع، و منه الأشياء كلّها و العرش هو الباب الباطن الذي يوجد فيه علم الكيف و الكون، و القدر، و الحد، و الأين، و المشية، و صفة الإرادة، و علم الألفاظ، و الحركات و الترك، و علم العدد، و البداء. فهما في العلم بابان مقرونان لأنّ ملك العرش سوى ملك الكرسي، و علمه أغيب من علم الكرسي فمن ذلك قال: رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ أي صفته جار الكرسي قال (عليه

ص: 274

السلام): إنّه صار جارها لأنّ علم الكيفوفية فيه، و فيه الظاهر من أبواب البداء، و إنيتها وحد رتقها و فتقها، فهذان جاران أحدهما حمل صاحبه في الظرف، و بمثل صرف العلماء، و ليستدلوا على صدق دعواهما، لأنّه يختص برحمته من يشاء و هو القوي العزيز».

أقول: أما

قوله (عليه السلام): «إنّ للعرش صفات كثيرة مختلفة» مطابق للواقع و الحقيقة لأنّ كلما عظم الشيء كثرت صفاته و العرش و الكرسي أعظم المخلوقات فتكون لهما صفات كثيرة و قد يجتمعان في بعضها و قد يختلفان. و هذه الفقرة تدل على ما ذكرناه آنفا من انقسامهما إلى قسمين روحاني و جسماني.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «في كل سبب وضع في القرآن» أي:

لكلّ سبب اصطلاح خاص في القرآن.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «و هذا علم الكيفوفة» أي: العلم بالمخلوق من حيث الكيفية لأنّ العرش و الكرسي مخلوقان له تعالى فيجري فيهما الكيفية و سائر الجهات المخلوقة و إن لم تجر الكيفية بالنسبة إلى الباري عزّ و جل

لقولهم (عليهم السلام): «و هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له».

و المراد من

قوله (عليه السلام): «ثم العرش في الوصل مفرد عن الكرسي» أي: من حيث ملاحظة العرش مع الكرسي فهما شيئان مختلفان لأنّهما بابان من أبواب الغيب، و إن كان يجتمعان في كونهما من الغيب، و هذه صفة كلّ جنس له نوعان مختلفان، و أما كونهما بابين من أبواب الغيب فلفرض احتوائهما على جميع ما سوى اللّه عزّ و جلّ و لا يمكن أن يحيط بذلك غيره تعالى، و الحاوي و المحتوي غيبان محجوبان عن البصائر فضلا عن الأبصار.

و المراد من الظهور في

قوله (عليه السلام): «لأنّ الكرسيّ هو الباب الظاهر من الغيب الذي منه مطلع البدع» النسبي منه أي بالنسبة إلى العرش فيكون العرش بمنزلة الباب الداخل و الكرسي بمنزلة الباب الخارج، و الكرسي مطلع الموجودات الإبداعية التي خلقها اللّه تعالى.

ص: 275

و يمكن أن يراد بباب الغيب أي ما فوقهما لا ما فيهما، و ما فوقهما هو غيب الغيوب الذي هو سرّ محجوب.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الباطن» العرش الرّوحاني العلمي لفرض أنّه (عليه السلام) حدّد المعلومات بالنسبة إليه و منه يكون البداء كما ذكره (عليه السلام) من جملة العلوم، و كذا علم العدد فإنّه من أهمّ العلوم الغيبية و كلّ ذلك منطو في

قوله (عليه السلام): «العرش هو الباب الداخل و الكرسي هو الباب الخارج» فيكون تفصيلا لذلك الإجمال.

و المراد من

قوله (عليه السلام): «و بمثل صرف العلماء» يعني أنّ علومهم تنتهي إلى هذا الباب الخارج مؤيدا من اللّه تبارك و تعالى.

ما ورد في تفسير مفردات آية الكرسي:

في تفسير القمي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى:

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ قال: «ما بين أيديهم فأمور الأنبياء، و ما كان و ما خلفهم ما لم يكن بعد إلا بما شاء أي بما يوحى إليهم».

أقول: هذا تفسير الكلّي ببعض مصاديق العلم و الا فإنّ علمه تعالى عين ذاته فهو إحاطي بجميع ما سواه، و يمكن أن يجعل ذلك أيضا من التعميم فإنّ جميع العلوم لا تخرج عمّا يوحى إلى أنبيائه و عما يكون في الممكنات.

و في تفسير العياشي عن معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) «قلت: من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه قال (عليه السلام): نحن أولئك الشافعون» و رواه البرقي في المحاسن أيضا.

أقول: هذا من باب التطبيق.

في معاني الأخبار عن محمد بن سنان عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «سألته هل كان اللّه عزّ و جل عارفا بنفسه قبل أن يخلق الخلق قال (عليه السلام): نعم قلت: يراها و يسمعها؟ قال (عليه السلام): ما كان محتاجا إلى ذلك لأنّه لم يكن يسألها و لا يطلب منها هو نفسه، و نفسه هو،

ص: 276

قدرته نافذة، فليس يحتاج إلى أن يسمّي نفسه و لكنّه اختار لنفسه أسماء لغيره يدعوه بها لأنّه إذا لم يدع باسمه لم يعرف فأول ما اختار لنفسه العليّ العظيم، لأنّها أعلى الأشياء كلّها. فمعناه اللّه و اسمه العليّ العظيم. و هذا أول أسمائه لأنّه على كلّ شيء قدير».

أقول: المراد من هذا العرفان هو الوجدان بالذات أي يجد نفسه بنفسه و يكون حاضرا لدى نفسه و هذا يجري في غيره تعالى أيضا لأنّ الإنسان يعرف وجود نفسه.

و أما

قوله (عليه السلام): «اختار لنفسه أسماء» لعلمه الأزلي باحتياج خلقه إليه و دعاء عباده له فجعل تلك الأسماء وسيلة لهم.

ص: 277

بحث عرفاني

الحضور عند اللّه جلّت عظمته من طرف الممكنات له مراتب كثيرة يمكن أن يقال بأنّها لا تتناهى ما دام يكون للحاضر لديه جلّ جلاله استعداد لذلك و تدور مراتبه على مراتب التخلق بأخلاق اللّه عزّ و جل و التفاني في مرضاته و أساس ذلك يرجع إلى حبّ اللّه تعالى بحيث يجري في الجوارح جريان الدم في جميع العروق فإنّ القلب منبع الحياة الأبدية و إذا خضع خضعت جميع الجوارح.

و أول من سلك هذا المسلك العظيم و مشى في هذا الطريق الجليل الكريم إنّما هو سيد الأنبياء و إمام المرسلين الذي هو أعظم أبواب رحمة اللّه لجميع العالمين حيث نال بحبّه له تعالى حياة أبدية حقيقية لا يتصوّر حياة أفضل و أشرف منها فتأمل في

قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «أبيت عند ربّي يطعمني ربّي و يسقيني ربّي» فإنّ المحبوب يسقى مباشرة من حبيبه فهل يتصوّر حياة ألذ و أوفى من هذه الحياة ؟!! ثم تأمل في

قوله (صلّى اللّه عليه و آله):

«ليغان على قلبي فأستغفر اللّه في كلّ يوم سبعين مرة» فإنّ قلبه الشريف أبدا كان مشغولا و مربوطا به جلّت عظمته فإن عرض له عارض من أمور الأمة و الملة و مصالحهما فزع إلى الاستغفار، فجعل المعاشرة مع غيره تعالى - و لو في المباحات الضرورية - حجابا عنه تعالى، فما أشدّ الحب، و ما أفضل الحبيب و ما أجل المحبوب و في مثل هذا الحب و الحضور لا نوم و لا سنة و هو

ص: 278

الذي

قال: «تنام عيني و لا ينام قلبي». و كيف يصلح النوم لواسطة الفيض و غاية الكمال المستفاض خاتم كمالات من سبق و فاتح أبواب المعارف!! و كيف ينام و هو بمحضر محبوبه و شهيده! كلاّ و ربّ الناس إنّ مقام الحبّ أعزّ و أمنع من أن يعرضه النوم و النعاس.

ص: 279

بحث فلسفي
اشارة

الآية الشريفة تضمنت جملة من الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و هي كثيرة. و لا فرق بين الأسماء و الصفات إلا بالاعتبار فإنّ الثانية تحمل على الذات دون الأولى كما أثبتناه في الأصول و قد اصطلحوا على مصادر النعوت (صفات اللّه تعالى) مثل العلم و القدرة و الرّحمة و نحو ذلك و على مشتقاتها (أسماء اللّه تعالى) مثل العالم و القادر و الرّحيم و غيرها.

و عن بعض أنّ هذا الفرق ذاتي لا أن يكون اعتباريا، و كيف كان فإنّ البحث في المقام يقع تارة في أقسام الصفات. و أخرى: في بيان معنى بعض الصفات الواردة في الآية الشريفة.

أقسام صفاته عز و جل:

ذكر الفلاسفة و المتكلمون تقسيمات عديدة لأسماء اللّه الحسنى و صفاته العليا باعتبارات مختلفة نذكر المهمّ منها:

التقسيم الأول: الصّفات الحقيقية المحضة، و الصفات الحقيقية ذات الإضافة، و الصّفات الإضافية المحضة.

و الاولى: عبارة عن الصّفات التي يصح أن تلحظ بذاتها من دون لحاظ أمر آخر مثل الحياة، و الوجوب، و الحقية، فهو تعالى حيّ واجب، حق.

ص: 280

و الثانية: هي الصّفات التي لا بد في تصورها من شيء آخر مثل العلم و القدرة و الرّحمة فإنّها لا يمكن تصويرها إلا مع المعلوم و المقدور و المرحوم.

و الثالثة: هي الصّفات الإضافية المحضة في حدّ نفسها مثل الرازقية و الحكيمية فإنّها إضافة محضة و زائدة على الذات عند الكلّ ، و هذه الأقسام الثلاثة تجري في صفات الإنسان أيضا.

التقسيم الثاني: صفة الذات و صفة الفعل و تقدم سابقا الفرق بين الصّفات الذاتية و الصّفات الفعلية. و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صح الاتصاف بها و بنقيضها فهي صفة فعل مثل الرزق و الخلق و الإرادة و كلّ صفة لا يمكن سلبها عنه فهي صفة الذات، لأنّها عين الذات فيه عزّ و جل فلا يمكن انفكاكها عنه تعالى و هي كثيرة مثل العلم و القدرة و غيرهما.

و التقسيم الثالث: الصّفات الجمالية (الكمالية) و الصفات الجلالية.

و الأولى عبارة عن الصّفات الثبوتية، و الثانية عبارة عن الصّفات السلبية.

و يمكن إرجاعهما إلى شيء واحد، فإنّ الأولى - أي الصّفات الثبوتية - ترجع إلى وجوب الوجود و التحقق، و الثانية - أي الصفات السلبية - إلى سلب الإمكان عنه تعالى فيسلبه عنه عزّ و جل فتنتفي جميع النواقص الواقعية و الإدراكية.

و المستفاد من السنة الشريفة: أنّ الصّفات الثبوتية له تعالى ترجع إلى معنى عدمي لأنّ ثبوت شيء له تعالى نحو تحديد فنفوا (عليهم السلام) عنه عزّ و جل حتّى هذه المرتبة من التحديد فيكون معنى «السميع و البصير» لا تخفى عليه المسموعات، و لا تخفى عليه المبصرات و معنى «الواحد و القادر» لا شريك له بوجه من الوجوه و لا يعجزه شيء و قد ورد نظيره في القرآن الكريم قال تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً [الفاطر - 44]، فكما لا يمكن درك الذات كذلك لا يمكن درك حقيقة صفاته فإنّها «شيء لا كالأشياء».

التقسيم الرابع: بحسب العظمة و الأعظم و الأعظم الأعظم. و من الأول

ص: 281

جميع أسمائه المقدّسة فإنّها عظيمة.

و أما الثاني: فقد تقدم بعض ما يتعلّق به في المباحث السابقة، و قد ذكر بعضهم: أنّ بني إسرائيل سألوا موسى (عليه السلام) عن اسم اللّه الأعظم فقال لهم: «أياهيا شراهيا يعني: يا حيّ يا قيوم».

و أما الأخير فهو الذي وضعه على النهار فأضاء و على الليل فأظلم و به قال تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصّلت - 11]، و به تلقف عصا موسى ما يأفكون، فقال تعالى: أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ [الأعراف - 117]، إلى غير ذلك مما شرحته السنة المقدسة و هو من الغيب المكنون.

و منها: تقسيمها بحسب العوالم فتارة: تكون في عالم وجوب الوجود، و أخرى: في المجردات، و ثالثة: في الجواهر المادية، و رابعة: في الأعراض القائمة بالغير.

و بالجملة: فإنّ جميع ما سواه مظاهر أسمائه و صفاته و ربوبيته العظمى و قيوميته المطلقة. و هناك تقسيمات أخرى يقصر منها المقال و لا يعرفها إلا أهل الحال.

و قد اجتمعت جملة من تلك الأقسام في الآية الشريفة فمن الصفات الذاتية: الحياة، و العلم، و العلوّ، و العظمة، و من الصفات الفعلية: الإذن، و من الصفات الحقيقية المحضة: الحياة، و القيومية، و من الصفات الحقيقية ذات الإضافة: الملك، و العلم، و من الصفات الإضافية: عنوان المالكية المستفاد من قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ و من الصفات الكمالية الجمالية جملة منها و من الصفات الجلالية نفي الشريك. و قد اشتملت الآية على الاسم الأعظم فهنيئا لمن التفت إليه.

الحياة و معناها:

الحياة: تستعمل في معان متعددة ذكرها اللّه تعالى في القرآن الكريم.

ص: 282

و يمكن أن يجعل لها جامع قريب فيما سواه أي: منشأ الفعل و الإرادة فيشمل الجميع بل يشمل الحياة النباتية لصدور فعل النمو منها و لها نحو إرادة و إن كنا لا نفهم ذلك.

و أثبت أكابر الفلاسفة أنّ حقيقة الحياة تدور مدار حقيقة الوجود بحسب الأصل و الاشتداد و التضعف و سائر الجهات فيكون أولى الحقائق بالوجود أولاها بالحياة، و أشدّها و أعظمها بالنسبة إليه يكون كذلك بالنسبة إلى الحياة، و كما أنّ الوجود يدرك مفهومه إجمالا و لا يمكن درك حقيقته، كذلك الحياة، فهما ككفتي الميزان في جملة من الجهات.

مفهومها من أبده الأشياء *** و كنهها في غاية الخفاء

و كما لا مطمع للممكن في درك الذات الأقدس الرّبوبي كذلك لا مطمع له في درك حياته جلّت عظمته و هي عين ذاته فلا بد و أن تعرف الحياة فيه تعالى بمعنى عدمي أي: عدم الموت، إذ لا يمكن الإحاطة بحقيقتها فيه تبارك و تعالى، لفرض أنّها عين ذاته الأقدس، فيلزمه جميع الكمالات الحاصلة من الحيّ فتكون بمنزلة الوجود.

فما كان وجوده و حياته منشأ كلّ شيء و حياته، فيكون قيوم كلّ شيء لا محالة، فتنحصر القيومية المطلقة فيه جلّت عظمته قيومية حقيقية واقعية إحاطية، و ما كان كذلك لا يعقل أن تأخذه سنة أو نوم. فهذه الآية الكريمة مترتبة، فكلّ سابق بمنزلة العلّة للاحقه كما تقدم فالحياة المطلقة الذاتية - على ما ذكرناه - علّة للقيومية كذلك، و القيومية المطلقة الذاتية علّة تامة لعدم تحقق السّنة و النوم و الغفلة و الفتور، و الجميع علّة تامة لسعة إحاطته و قدرته لجميع السّموات و الأرض و ما فيهما.

و الكلّ معلول إرادته التامة حدوثا و بقاء ذاتا و صفة، و مثل ذلك منحصر في الفرد و هو اللّه تعالى فهو العلي العظيم المنزه عن الند و الشرك لا يجانسه أحد من مخلوقاته.

ص: 283

النوم و معناه:

النوم: وجدانيّ لكلّ حيوان كالأكل و الشرب، و توليد المثل و نحو ذلك من الوجدانيات و هو ضروري بالنسبة إلى الحيوان تتوقف عليه حياته كسائر الأمور الضرورية التي يتوقف عليها بقاؤه و حياته.

و محصّل ما ذكره الفلاسفة في حقيقة النوم أنّه يرجع إلى عزل الروح نفسها عن الشؤون و التدبيرات الخارجية للبدن و حصرها في البدن لمصلحة في ذلك العزل و الحصر و إنّما هي تفعل ذلك بإرادة من الحيّ القيوم فهو تعالى يقبض الأرواح و يبسطها، فالنوم حاصل منه عزّ و جل لكن جعل ذلك بالأسباب الطبيعية الظاهرية التي جرت عادته على تطبيقها في جميع خلقه من ذروة العرش الأعلى إلى تراب الأرض الأدنى.

و لا فرق بين النوم و الموت من هذه الجهة قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام - 60]، و قال تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الزمر - 42]،

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كما تنامون تموتون و كما تستيقظون تحيون» فكلّ منهما مفارقة تدبير الرّوح من البدن، فإن طالت مدة ذلك يكون موتا و الا كان نوما.

و لما كان الرّوح خلقا آخر و هو من أمر الرّبّ قال تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلرُّوحِ قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء - 85]، فلا بد أن تكون تحت استيلائه و سلطنته من كلّ جهة و لا معنى للقهارية المطلقة عليها الا ذلك. نعم للأسباب الظاهرية دخل بنحو الاقتضاء كما في جميع المخلوقات هذا إجمال ما لا بد من تفصيله و يأتي في محلّه.

و أما النوم الذي أطلقوا عليه (النوم المغناطيسي) فإن كان ناتجا من التسلط على الروح من حيث هي مع قطع النظر عن سائر الجهات فهذا غير

ص: 284

ممكن لأنّ الرّوح من عالم الأمر و لا يتسلّط عليها الا من ارتبط بعالم الأمر، و الناس بمعزل عن ذلك إلا من اصطفاه اللّه تعالى و ارتضاه.

و إن كان في الجسم من حيث ارتباطه بالروح فله وجه، و لكن كلية ذلك مشكلة أيضا لغير أولياء اللّه تعالى و أحبّائه الذين بذلوا جميع شؤونهم للّه تعالى فسلّطهم على ما شاءوا و أرادوا فمشوا بحق اليقين في عالم عين اليقين و أدركوا بأبصارهم ما لا يدركه الناس ببصائرهم. نعم ما يدعونه من الوقوع إنّما يكون في الأرواح الجزئية الدنيئة هذا ما يتعلّق بالنوم بالنسبة إلى الحيوان.

و أما النوم في غيره فهو يختلف باختلاف متعلّقه فيكون تارة سباتا و أخرى: فتورا و ثالثة: غفلة و نحو ذلك مما لا يخلو عنها مخلوق من مخلوقات اللّه تعالى.

و لكن جميع ذلك منفيّ عنه تعالى و هو منزّه عن السّنة و النوم و غيرهما مما يوجب الفتور و الغفلة و قد ذكرنا أنّ عروض النوم و السّنة عليه مستحيل بنفسه لأنّه من عوارض الجسم و الجسمانيات، و يلزم المحال أيضا لأنّه يستلزم الغفلة و هي تنافي القيومية المطلقة و الإحاطة الواقعية الحقيقية.

ص: 285

سورة البقرة الآية 256-257

لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْو.......

اشارة

لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى لاَ اِنْفِصامَ لَها وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) قرر سبحانه و تعالى في الآية السابقة كليات اصول الدّين و هي توحيد اللّه تعالى و تنزيهه عن الشرك و الأنداد و النقائص و الأوهام و أثبت تعالى لنفسه الأقدس أمهات الصفات العليا و الأسماء الحسنى. كما دلّت الآية على المعاد أيضا للتلازم بين المبدإ و المعاد.

يبيّن عزّ و جلّ في هاتين الآيتين أصلا آخر من أصول الدّين و هو النبوة بعد الإشارة إليها في الآية السابقة و قرّر تعالى أنّ الدّين الذي نزل به على خاتم الأنبياء قد حوى من المعارف الإلهية و التشريعات الربوبية التي هي من الوضوح بمكان مما لا يدع مجالا إلى الشك و الريبة و يهدي إلى الفطرة السليمة و العقل المستقيم فمن آمن بما أنزل اللّه تعالى فقد خرج من ظلمات المادة و المعاصي إلى النور الإلهي و دخل في ولاية اللّه تعالى و فاز بسعادة الدّارين و من أعرض و كفر به أطفأ نور الفطرة بالكفر و الطغيان و صار من أولياء الشيطان فنال الشقاوة و الخسران.

ص: 286

و ميّز سبحانه في هاتين الآيتين بين تشريع الدّين فاعتبر أنّ معالمه واضحة و أعلامه جلية عالية فلا إكراه عليه و لا إجبار على الدخول فيه و بين بقائه فاعتبر فيه الاستمساك بالعروة الوثقى التي تجعل الدّين غضا طريا يؤمن عليه من تلبيس المنافقين و زيغ المعاندين و دسائس الكافرين و لا يمكن الانفكاك بين الأمرين و الا استلزم الخلف فإنّ تشريع الدّين من دون الضمان على بقائه و استمراريته لا سيّما إذا كان خاتم الأديان الإلهية كان لغوا و لأجل ذلك كانت النبوة و الولاية متلازمتين. و من ذلك يعلم الوجه في بعض الأخبار التي تدل على جعل هاتين الآيتين من متممات الآية السابقة لأنّ بهما تتم أصول الدّين جميعها.

ص: 287

التفسير

256 - قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ .

مادة (كره) تدل على زوال الرضا و طيب النفس أو الرغبة فيسقط الفعل لذلك عن الأثر المطلوب منه، و عن نبينا الأعظم فيما تواتر عنه: «رفع ما اكرهوا عليه» أي رفع الأثر عن الفعل المكره عليه و لها استعمالات كثيرة في القرآن، و مراتب متفاوتة في الوجدان و تختلف باختلاف الجهات قال تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [البقرة - 216].

و الدّين هو الاعتقاد الصحيح المستتبع للعمل و الرابط بين العباد و خالقهم و بين بعضهم مع بعض. أي: لا إجبار في الدّين.

و الآية تنفي الدّين الذي فيه الإكراه - سواء كان حكما وضعيا تكوينيا أي لا دين فيه الإكراه و الإجبار على الدخول فيه أو حكما تشريعيا أي النّهي عن الدخول في الدّين كرها و هما متلازمان في المقام.

و الدليل على أنّه لا إكراه في الدّين أمور:

أحدها: أنّ الدّين مطابق للفطرة، و حكمة العقول، و هما من أهم أسباب الاستكمال في الإنسان و هو بفطرته يسبق إلى الكمال فلا يحتاج إلى الإكراه و الإلجاء، بل إنّ ما ينتفي عنه طيب النفس و الرضاء العام يصح سلب

ص: 288

الكمال عنه خصوصا في بعض مراتب الإكراه.

الثاني: أنّ الإكراه على الدّين ينافي الجزاء مطلقا فإنّ الأثر إنّما يترتب على الفعل الاختياري بلا فرق بين الوضعيات و التكليفيات.

الثالث: الإكراه إنّما يكون مورده الأفعال و الحركات الخارجية أما الأمور القلبية فلا مجرى للإكراه فيها و الدّين من الأمور القلبية فلا يجري فيه الإكراه و الإلجاء لأنّ الإكراه فيها لا يستتبع العلم و التصديق و هما من نتائج الحجة و البرهان دون الإكراه و الإلزام.

و الآية المباركة تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي تدل على نفي الإكراه في الدّين كلّه و بها تكون حجة على من زعم بأنّ الدّين لم يقم إلا بالسيف و القتال مع أعداء الدّين حتّى يدخلوا في الدّين فيرفع الفتنة من الأرض قال تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة - 193].

و مما ذكرنا يظهر بوضوح فساد زعمهم فإنّ القتال الذي أمر به الإسلام، و الجهاد الذي حث عليه القرآن ليس لأجل إكراه الناس على الدخول في الدّين و بسط النفوذ، و إنّما هو لأجل الدفاع عن النفس و إحياء الحق و إرجاع الناس إلى الفطرة بعد الجحود و إنكار الوجدان.

و بعبارة أخرى يكون القتال لدفع المزاحم و إزالة العقاب في سبيل نشر الدّين و ليس ذلك في أصل الجعل و التشريع، إذ ليس للإيمان الحاصل من الإكراه أيّ أثر كما عرفت.

مع أنّ الدّين مطابق للفطرة السليمة و لا مجرى للإكراه فيها فإنّ من قبله و دخل فيه كان مستقيما على الفطرة و من أنكره خرج عن فطرته قال تعالى:

وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة - 57]، و الدّين كسائر الأمور الفطرية التي من ينكرها كان جاحدا لهويته و إرادته، و السبب في الإنكار هو البعد عن منبع النور و انغماره في دار الغرور.

و إنّما الشواغل الحسية *** قد حجبت نفوسنا النورية

ص: 289

و يدل على ذلك قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ فالمرجع هو حكم العقل و الفطرة قبل إرسال الرسل و بعدهم و معهم. هذا أولا.

و ثانيا: إنّ الإكراه لو كان بحق فهو حسن بل واجب في النظام الأحسن و له نظائر كثيرة في تنظيم النظام مثل البيع في موارد الاحتكار و إجبار المحتكر على البيع بثمن المثل، و الإكراه في الدّين إكراه بحق مطلقا فإنّ تركه قبيح و أي قبح أشد من ترك الإنسان من أن يسعى في الشقاوة الأبدية، فيكون الإكراه لأجل إزالة الشقاوة في الطرف المكره كالإكراه للتصالح بين الأطراف المتنازعين.

و الآية تنفي الإكراه بغير الحق، كما كان معمولا بين الطواغيت و الجبابرة و ما كان معهودا في بعض الأديان.

و ثالثا: إنّ التاريخ يكذب هذا الافتراء، لأنّ الإسلام في ابتداء دعوته كان مستخفيا و المشركون قد أعلنوا العداء له و كانوا يفتنون المسلمين بأنواع الأذى و نهاية التعذيب حتّى اضطر الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) و أصحابه إلى الهجرة عن مهبط الوحي.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة إرشادا بتعليم المؤمنين إلى ما يقع عليهم من الإكراه على الكفر من الكافرين. يعني: إن اكرهتم على الكفر فأضمروا الحق في قلوبكم و اجهروا لهم بجوار حكم ما يريدون فتكون هذه الآية نظير قوله تعالى: إِلاّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [النحل - 106].

قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ .

الآية الشريفة في مقام التعليل لنفي الإكراه في الدّين. و الرشد - بضم الراء و الشين أو بضم الرّاء فقط - يأتي بمعنى الصّلاح و إصابة الصواب خلاف الغي، و يستعمل بمعنى الهداية أيضا. و هو من المفاهيم المشككة التي لها مراتب متفاوتة جدّا و قد استعمل في القرآن كثيرا قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء - 51]، أي: آتينا ما يوجب صلاحه و يهديه إلى الحق و الصواب و قال تعالى - حكاية عن أصحاب الكهف -: وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف - 10]، و قال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء - 6]، أي: صلاحهم في استعمال الأموال و قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف - 66]، فإنّ الرشد الذي آتاه خليله إبراهيم مرتبة منها و الرشد الذي يحصل لليتيم أيضا مرتبة أخرى. و بينهما بون عظيم.

ص: 290

الآية الشريفة في مقام التعليل لنفي الإكراه في الدّين. و الرشد - بضم الراء و الشين أو بضم الرّاء فقط - يأتي بمعنى الصّلاح و إصابة الصواب خلاف الغي، و يستعمل بمعنى الهداية أيضا. و هو من المفاهيم المشككة التي لها مراتب متفاوتة جدّا و قد استعمل في القرآن كثيرا قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ [الأنبياء - 51]، أي: آتينا ما يوجب صلاحه و يهديه إلى الحق و الصواب و قال تعالى - حكاية عن أصحاب الكهف -: وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً [الكهف - 10]، و قال تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً [النساء - 6]، أي: صلاحهم في استعمال الأموال و قال تعالى: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمّا عُلِّمْتَ رُشْداً [الكهف - 66]، فإنّ الرشد الذي آتاه خليله إبراهيم مرتبة منها و الرشد الذي يحصل لليتيم أيضا مرتبة أخرى. و بينهما بون عظيم.

و الغي: خلاف الرشد، و يستعمل في الضّلال أيضا، و له مراتب شدة و ضعفا.

و المعنى: لا إكراه في الدّين لأنّه قد تبيّن طرق الصّلاح، و وضح سبيل الحق، و تميّز بينه و بين سبيل الباطل.

و سياق الآية المباركة المشتملة على التعليل يدل على أنّها من المحكمات التي لم ينسخ شيء منها، فلا وجه لما عن بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: وَ قاتِلُوهُمْ حَتّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ [البقرة - 193]، لما ذكرناه آنفا من أنّ القتال لأجل إزالة الباطل لا إثبات الحق و الطريق الواضح.

قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ .

الطاغوت: من الطغيان، و اللفظ من صيغ المبالغة يوصف به الواحد و الجمع و يستوي فيه التذكير و التأنيث، و مادة (طغى) تأتي بمعنى التجاوز عن الحد في الطغيان، و قد ذكر هذا اللفظ ثمان مرات في القرآن الكريم تارة واحدا قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ [النساء - 60]، و أخرى: في مقام الجمع قال تعالى: أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ و ثالثة: مؤنثا يعود إليه الضمير المؤنث الظاهر في الجماعة قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها [الزمر - 17]، و رابعة أشير إليه بهؤلاء قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء - 51]، و هو في جميع استعمالاته مبغوض لدى الرحمن و ذوي الفطرة السليمة من أفراد الإنسان.

ص: 291

و يطلق على كلّ من كان سببا للطغيان و الضّلال مثل الأصنام، و الشيطان و رؤساء الشرك و العناد، و تعرف المصاديق من القرائن الحافة بموارد الاستعمال، ففي المقام يراد به كلّ ضلال و ما يكون سببا للخروج عن الحق و الصراط المستقيم سواء كان صنما أو إنسانا أو شيطانا أو العصبية و الأهواء الباطلة، فله وجود نوعي شامل لجميع الأفراد و المصاديق.

أي: فمن يكفر و يعرض عمّا كان سببا للطغيان، و يتبرّا من دعاة الشرك و الضّلال، و يؤمن باللّه وحده لا شريك له. و يأتي جواب الشرط.

قوله تعالى: فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى .

الاستمساك: شدة التمسك و إحكامه. و العروة: هي مقبض الإناء و نحوه. و يطلق على التعلّق بشيء و لو بالحبل المتين.

و الوثقى: تأنيث الأوثق، أي: الثابت و المحكم المأمون قطعه، و جمع الوثقى الوثق كالفضلى و الفضل.

و في الآية الشريفة تشبيه بليغ و استعارة لطيفة و هو من تشبيه المعقول بالمحسوس تقريبا إلى الأذهان المستأنسة بالأجسام كما هو دأب القرآن، و لبيان أنّ الإيمان باللّه تعالى و الكفر بالطاغوت يوجبان السعادة الحقيقية و استقرار نفس المؤمن و عدم تأثير الأوهام و الشبهات فيها.

و المعنى عام يشمل جميع العرى الجسمانية و المعنوية و الروحانية الداعية إلى الحق و الرشاد، و لا عروة أوثق من هدي الرحمن و معارف القرآن، و لا كمال أكمل و أجل مما يفيضه اللّه تعالى على عباده.

و المراد بها في المقام: الإيمان باللّه الذي لا يعتريه ريب و تردد و لا يعقل أن تعتريه الشبهات و الوهن في الحجج، لاتصال هذه العروة بالملك القدّوس و مدبر الأرواح و النفوس العليم الحكيم المهيمن على الجميع، و خلوصها عن شوائب الماديات و ظلمات المادة.

فلنفس هذه العروة الوثقى حياة معنوية أجل و أشرف من الحياة

ص: 292

الظاهرية، و لها مظاهر مختلفة في جميع العوالم و هي الصّراط المستقيم و سواء السبيل، و الحياة الأبدية في عالم الآخرة.

و إن شئت قلت: إنّها حياة عالم الغيب ظهرت في عالم الشهادة ليتمسك بها عباد الرحمن و يفوزوا بمراتب الجنان، و هي الحبل الإلهي النوراني المتين ممدود من عالم النور إلى الظلمات ليستنقذ الناس من الهلكات و يلجم به الشيطان قبل أن يلجم الشيطان عباد الرحمن، و جميع ذلك يشير إلى الحقيقة التي لا يمكن أن تدرك إلا بالعمل بها و حينئذ يشعر المتمسك بها بالتجلّي الإلهي على قلبه، و يعترف بأن لا كمال فوق ذلك.

و القضية فطرية وجدانية فإنّ الإنسان لو خلّي و طبعه و زالت عن نفسه الحجب الظلمانية لاختار الكمال الحقيقي الدائمي الذي لا انفصام فيه على الكمال الزائل الفاني.

قوله تعالى: لاَ اِنْفِصامَ لَها .

مادة (فصم) تدل على الانقطاع و الانقلاع

و في الحديث: «فينفصم عنه الوحي و إنّ جبينه ليتفصّد عرقا» أي: ينقطع عنه الوحي. و الجملة في موضع الحال التي تؤكد مضمون الآية المتقدمة.

أي: إنّ الاستمساك بالعروة الوثقى التي هي الإيمان باللّه و الكفر بالطاغوت من أقوى العرى التي يؤمن عليها من الانقطاع و تتبعد عن حيرة الشك و وهن الحجة و لا يمكن أن يتصوّر فيها ذلك لإضافتها إلى اللّه عزّ و جل الحيّ القيوم و هي النور الذي يتجلّى للأنام و يرتفع به الظلام، و ما فيه الظلام يقبل الانفصام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

جملة تفيد الترغيب و الترهيب أي: و اللّه سميع للأقوال عليم بالنيات و الأعمال، و إنّما أتى عزّ و جل بهذين الاسمين، لكون الإيمان و الكفر مما يتعلق باللسان و الجنان.

ص: 293

257 - قوله تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ .

خطاب فيه منتهى العطف و الحنان و فيه البشارة بأنّه تعالى وليّ أهل الإيمان و هذا من أجلّ المقامات و أشرفها لهم، و وعد منه عزّ و جل لهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور.

و هذه الولاية ولاية الرعاية و الصّلاح و العطف و الحنان أي: إنّ اللّه تعالى المدبر للمؤمنين يقوم بتدبيرهم بما هو الأصلح لهم، و هي غير الولاية التكوينية التي له تعالى على جميع ما سواه، و هي مضافا إلى كونها إراءة الطريق إيصال إلى المطلوب أيضا، و أيّ مطلوب أجلى و أعلى من الوصول إلى عالم النور الذي مبدؤه و منتهاه هو اللّه عزّ و جل.

و قد أضاف جلّت عظمته تلك الولاية إلى ذاته الأقدس و هذه الإضافة تشريفية من أكمل أنحاء الحقائق.

و إنّما أتى بالظلمات بلفظ الجمع لكثرة مناشئ الظلمة و الجهل و الغواية و تباينها بحيث لا يمكن جمعها تحت جامع واحد إلا جامع اعتباري لا حقيقة له.

و أما النور فإنّه حقيقة واحدة، و المراد به في المقام: نور الهداية و الطاعة و الإيمان و لا وجه للتعدد فيه، لأنّه من واحد و في واحد و لغرض واحد و التعدد لو كان فهو فرضي اعتباري لا أن يكون حقيقيا و موضوعه يدور على استكمال الأبدي المطلق. و هذا النور المعنوي يعم الدنيا و الآخرة.

و الكلام محمول على حقيقته دون المجاز و لكن لنفس الحقيقة مراتب كثيرة شدة و ضعفا و جوهرا و عرضا و كمالا و نقصا، فلا وجه لحمله على المجاز كما عن بعض المفسرين، كما لا وجه لحمله على الحقيقة التي هي محجوبة عن البصائر و الأبصار و هي عالم الغيب، لأنّ اللفظ ظاهر في الحقيقة غير المحدودة بعالم دون عالم آخر. نعم، لها مظاهر و مراتب كما مرّ، ففي الآية الشريفة يراد من النور: الإيمان و الهداية و من الظلمات: الضّلال و الغواية.

ص: 294

و إنّما خص المؤمنين بالذكر لأنّهم استحقوا بالإيمان هذه المنزلة العظيمة و المقام السامي، فهم لم يعاندوا الحق و لم يطفؤا نور الفطرة بالكفر ففازوا بعطف اللّه عزّ و جلّ عليهم و رأفته بهم و تولي أمرهم.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ .

المراد من النور: نور العقل و الفطرة، و من الظلمات: ظلمات الغواية و الضّلال.

و هذا النور هو منشأ السعادة على نحو الاقتضاء فهو نور إجماليّ يقبل الزيادة و النقصان تبعا للعقائد الحسنة و المعارف الحقة و الأعمال الصالحة، و العقل، و الفطرة و الشرع أمور متحدة في الواقع و الحقيقة و مختلفة بالاعتبار، و كلّ واحد منها يدعو إلى الآخر.

و الآية المباركة من قبيل القضايا الطبيعية التي لا تحتاج إلى إقامة الحجة و البرهان و يكفي فيها المشاهدة و الوجدان.

أي: إنّ الذين كفروا باللّه العظيم و اتبعوا الطاغوت فإنّهم خرجوا من ولايته تبارك و تعالى عليهم و لا مدبر لأمرهم و لا مسيطر على نفوسهم إلا الطاغوت الذي يكون شأنه إخراج الإنسان من النور الفطري إلى ظلمات الجهل و الغواية و سوقهم إلى الشقاوة و الحرمان و حيرة الضلالة، فهم قد حرموا أنفسهم باتباعهم الطاغوت.

قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

الجملة من قبيل القضايا الطبيعية التي يؤتى بها لبيان ترتيب الأثر على المؤثر كقول

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «حفت النار بالشهوات»

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «من حفر لأخيه بئرا وقع فيه» أو كقول: «من شرب سمّا هلك».

أي: إنّ الآخرة ليس فيها إلا جزاء الأعمال الصادرة في الدنيا و أولئك

ص: 295

الكافرون الذين اختاروا الكفر حرموا أنفسهم السعادة و أطفؤوا النور الإلهيّ في نفوسهم فهم أصحاب النار هم فيها خالدون لخلود نياتهم على ذلك كما يأتي مفصلا.

ص: 296

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: يمكن الاستدلال بقوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ على رد من يقول بالجبر لأنّه إذا لم يكن إكراه في الدّين فلا يكون فيه الجبر بالأولى، لأنّ الإكراه هو حمل الغير على اختيار فعل مع عدم الرضا و طيب النفس، و الجبر هو عدم أصل الاختيار كحركة يد المرتعش، و نحو ذلك من الأمثلة التي يذكرونها و منها ما ذكره أهل الجبر: «قال الحائط للوتد لم تشقني ؟ قال: سل عمّن يدقني» و قد تعرّضنا له في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

الثاني: يمكن أن يكون قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ من نفي الحكم بعنوان نفي الموضوع تأكيدا و تثبيتا، و له نظائر كثيرة في السنة الشريفة مثل

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يتم بعد احتلام و لا رضاع بعد فطام»

و قوله (صلّى اللّه عليه و آله): «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام» فتكون جميع الموضوعات التي يتحقق فيها الإكراه عقدا كان أو إيقاعا أو غيرهما لا يترتب عليها الأثر المطلوب شرعا لأجل الإكراه.

و ربما يحتمل أن يكون

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «رفع

ص: 297

عن امتي الخطأ، و النسيان، و ما أكرهوا عليه، و اضطروا إليه» مقتبسا من هذه الآية الشريفة و أمثالها من الآيات الواردة في الخطإ و النسيان و كيف كان فهي تبيّن حقيقة من الحقائق القرآنية التي ابتنى عليها الإسلام كما تقدم.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ أنّ كلّ ما ورد في الشرع المبين إنّما هو إرشاد إلى حكم الفطرة و العقل كحسن الإحسان و قبح الظلم اللذين هما من المستقلات العقلية التي يحكم به كلّ ذي فطرة سليمة فما ورد في الشرع في سياق ذلك يكون إرشادا إليه و تصحيحا للثواب و العقاب، و تنطوي في ذاك جملة كثيرة من الأحكام، فهذه القاعدة كقاعدة شكر المنعم من أمهات القواعد العقلية المقرّرة في جميع الشرائع الإلهية تبتني عليها جملة من أبواب العلوم الإسلامية و تدل القاعدة المزبورة على أنّ جعل القانون بالجبر و الإكراه ظلم و هو قبيح بالنسبة إليه جلّت عظمته و لكن لا بد من بيان طرق الخير و طرق الشر أولا ثم جعل القانون للمكلّف المختار، و الأمر الأول يتكفّله العقل و الفطرة، و هما مع الإنسان حدوثا و بقاء و الأمر الثاني تتكفّله الشرايع الإلهية.

و لعلّ أحد أسرار ابتلاء آدم (عليه السلام) بالمعصية إثبات التمييز بين الطريقين إتماما للحجة على الناس و تحذيرا لهم عن المخالفة و متابعة الوسواس الخناس، و الا فأيّ مناسبة بين سجود الملائكة أجمعين و عصيان ربّ العالمين، فهو إعلان للعصيان لمصالح كثيرة لا أن يكون قد صدر من آدم (عليه السلام) معصية حتّى صغيرة فيكون من قبيل إنامة نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) عن صلاة الغداة لتوسيع الأمر على أمته رأفة منه عزّ و جلّ على عباده.

الرابع: ذكرنا أنّ المراد بالعروة الوثقى هي جميع كمالات الإنسان مطلقا و هي تارة تكون عرضا قائما بالغير كالاعتقادات الحقة الحاصلة لأهل الإيمان و القرآن الكريم بهذا الوجود الخارجي الواقع بين الدفتين.

و أخرى: يكون جوهرا قائما بالذات كسيد المرسلين (صلّى اللّه عليه و آله) و من يتبعه في العلم و العمل الدين وردوا بحر المادة و خرجوا منه و لم

ص: 298

تمسهم نداوة منه فضلا عن أن يذوقوه فرجعوا إلى اللّه تعالى كما بدؤا منه و لم يخطر في جوانحهم إلا اللّه عز و جل و لم يصدر من حركات جوارحهم شيء إلا للّه جلت عظمته أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ [الأنعام - 90]، و هم العروة الوثقى الإلهية، و الحبل الممدود بين السّماء و الأرض و بهم يصرف العذاب عن أهل الأرض.

و ثالثة: لا تكون عرضا و لا جوهرا بل هي الصراط المستقيم الذي ينتهي إلى اللّه عزّ و جل فتكون من صفات فعله الأقدس إلا إذا رجعت إلى العلم و الحكمة فتكون حينئذ من صفات الذات، و يمكن أن تجعل من الصفات البرزخية بين الذات و الفعل.

و ليس للقسم الأخير وجود واحد فرديّ بل له في كلّ من عوالمه تجلّ خاص لأهله بمظاهر ذلك العالم و يشهد لذلك قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُمْسِكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ [فاطر - 41] إلا أنّ بعض الموجودات يتمسك بها بالطبع، و البعض الآخر بالتسخير، و ثالث بالاختيار، و إن جعلناها من صغريات النظام الأحسن كان الأمر أظهر و أبين.

الخامس: قوله تعالى: لاَ اِنْفِصامَ لَها قيد توضيحي لا أن يكون احترازيا، ذكر لكثرة الاهتمام بالعروة الوثقى و للتأكيد على التمسك بها.

السادس: إنّما قدم الكفر على الإيمان في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ لبيان أنّ التحلية بالفضائل لا بد أن تسبقها التخلية عن الرذائل فالاولى مترتبة على الثانية فلا يكون استمساك بالعروة الوثقى الا بترك ما سوى العروة و الأخذ بها فقط، فيكون الكفر هو الترك و الإيمان هو الأخذ.

السابع: إنّما ذكر سبحانه «السميع العليم» في آخر الآيات المباركة للإعلام بأنّ كلّ ما يقال في شأن العروة الوثقى الإلهية هو مسموع له تعالى، و كل ما يخطر بالبال بالنسبة إليها يكون معلوما لديه عزّ و جل فلا بد من التحفظ عن القول فيها الا بالحق، و تمسك القلوب في الخطرات و الجوارح عن

ص: 299

الحركات الا في الحق و بالحق، و هذه هي حقيقة العروة الوثقى العملية التي أمرنا باتباعها، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى التمسك بالعروة الوثقى في أقوالهم و أفعالهم.

و الآية التالية تشرح بعض جهات العروة الوثقى كما هو واضح و هو الإخراج من الظلمات إلى النور.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ أنّ النار هي الدار التي تليق بأهل الظلمات التي خلت نفوسهم عن النور الذي يسوقهم إلى الحق و الرضوان، فما ورد في هذه الآية يبين تناسب الجزاء مع العمل الذي هو من الحقائق القرآنية.

التاسع: إنّما أتى سبحانه و تعالى بلفظ المضارع في قوله تعالى:

يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ للدلالة على الثبوت و الاستمرار حالا بعد حال فهدايته سبحانه مستمرة بالنسبة إلى المؤمنين.

ص: 300

بحث روائي

في الكافي عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: فَقَدِ اِسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ اَلْوُثْقى قال (عليه السلام): «هي الإيمان باللّه وحده لا شريك له».

أقول: مثله ما رواه العياشي عن الباقر و الصادق (عليهما السلام).

في المعاني عن عبد اللّه بن عباس قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

«من أحبّ أن يتمسك بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها فليتمسك بولاية أخي و وصيّي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) فإنّه لا يهلك من أحبّه و تولاه و لا ينجو من أبغضه و عاداه».

أقول: الروايات من الجمهور في ذلك كثيرة مذكورة في كتب الكلام و الحديث و التفسير و غيرها، و في بعضها عليّ و ذريته (عليهم السلام) و لا ريب في أنّ عليّا (عليه السلام) يدعو إلى كتاب اللّه عزّ و جل و العمل به و هو قرينه

كما في الحديث المتواتر بين المسلمين عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

و في الخصال عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) قال: «المؤمن يتقلّب في خمسة من النور، مدخله نور، و مخرجه نور، و علمه

ص: 301

نور، و كلامه نور، و منظره يوم القيامة إلى النور».

أقول: إذا كان المؤمن معتقدا بدين اللّه تعالى ملتزما في أعماله بأن يعمل على طبق ما شاء اللّه و أراد عزّ و جل يصير جميع ذلك من الأنوار المعنوية لفرض أنّ في قلبه إيمانا و هو نور معنويّ و حركات جوارحه مطابقة للإيمان و هي أيضا من الأنوار المعنوية فيكون مآله إلى النور و سيأتي شرح ذلك أيضا.

و في أسباب النزول للواحدي عن مجاهد قال: «كان ناس مسترضعين في اليهود - قريظة و النضير - فلما أمر النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) بإجلاء بني النضير قال أبناؤهم من الأوس الذين كانوا مسترضعين فيهم لنذهبنّ معهم و لنديننّ بدينهم فمنعهم أهلهم و أرادوا أن يكرهوهم على الإسلام فنزلت: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ ».

و في الدر المنثور أخرج أبو داود و النسائي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و ابن مندة في غرائب شعبه و البيهقي في سننه و غيرهم عن ابن عباس قال: «كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة لا يكاد يعيش لها ولد، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا فأنزل اللّه تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ .

أقول: وردت روايات اخرى في شأن نزول الآية الشريفة مذكورة في كتب القوم، و كلّ ذلك من باب التطبيق و لا بأس به.

ص: 302

بحث عرفاني

قد أثبت العلماء أنّ نسبة المعارف المعنوية إلى الأرواح كنسبة الأغذية الجسمانية إلى البدن و الجسم، فإنّ الجسم يصلح بصلاح الغذاء و ينمو به و يفسد بفساده و تختلف درجات الغذاء فيهما، كما أنّ له مراتب كثيرة جدّا بحسب اختلاف الأجسام بل اختلاف الحالات في بدن واحد فضلا عن أبدان مختلفة، فكما أنّ من طبيعة الجسم التغذّي بما يصلحه و الا اضمحل و زال و كذلك الروح فإنّه لا بد له من الانتفاع بما يناسبه و الا لبطل استعداده و تعرض للهلاك.

و الإكراه في التغذّي الجسماني يستلزم خلاف المطلوب بل يوجب تنفر الطبع عن الغذاء و انزجار النفس عنه و يؤثر ذلك على الروح أيضا لأنّ بينهما جذبا و كذا لا وجه للإكراه بالنسبة إلى الروح و ما يرتبط به بل هو أشدّ تأثرا من الجسم لأنّه جوهر لطيف أكثر تحسّسا منه، و لكن كلّ ميسر لما خلق له.

و لكلام الحق تعالى جذبات و للقرآن كذلك، و للموعظة الصادرة عن أهلها جذبات بمراتبها المختلفة التي لا حدّ لها، و مع تحقق تلك الجذبة كيف يتصور الإكراه، و يعلم سرّ ذلك في قوله تعالى: فَيُضِلُّ اَللّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [ابراهيم - 4] و قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [البقرة - 213] فلو لم تكن في المعشوق جذبة فإنّه لا يكون لجهد العاشق أثر و إن بلغ ما بلغ في العناء و المشقة.

ص: 303

و الحاصل: إنّه لا إكراه في الاستكمالات المعنوية مطلقا و الآية الشريفة لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ تشير إلى أمر فطريّ عقلي و يرشد إليه قول عليّ (عليه السلام): «و أرسل الرسل ليذكّرهم منسيّ الفطرة و تثير لهم دفائن العقول» فيكون إرسال الرسل من النظام الأحسن كإخراج المعادن من الأرض.

و أما الإكراه على بعض العلوم و الحرف و الصنايع الدائرة في هذا العالم فإنّ ذلك لا يؤثر الأثر المطلوب فإنّ شوب تلك العلوم و المعارف بالماديات أخرجتها عن المعارف المعنوية، فأين المعارف الربوبية التي تبقى في النفس إلى الأبد و تنفعه في عالم البرزخ و الحشر و النشر و الجنة و أين الصنايع الظاهرية المادية في أدقّ معانيها التي لا تبقى بعد انفصال الروح عن الجسم، و لو عبّر عنها بأنّها جسمانية الحدوث و جسمانية البقاء لكان حسنا.

يضاف إلى ذلك أنّ الأسباب الظاهرية المجبر عليها شيء و كمال النفس على فرض كونه كمالا شيء آخر بينهما بون بعيد كما هو معلوم.

ص: 304

سورة البقرة الآية 258-259

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَ.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ اُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259) الآيتان و التي تليهما تبيّن توحيد اللّه تبارك و تعالى و قدرته و عنايته لعباده المؤمنين، فإنّه عزّ و جل بعد أن أثبت لنفسه التوحيد و مهام الصّفات العليا مثل القيومية المطلقة و الربوبية العظمى و الولاية على أهل الإيمان و وعدهم بإخراجهم من الظّلمات إلى النور ضرب في هذه الآيات أمثلة لبيان ولايته على المؤمنين و هدايته لهم و بيّن أنّ هناك هداية تحصل بالحجة و البرهان كالتي مع إبراهيم (عليه السلام) في قصته مع من آتاه اللّه الملك. و هداية بالمشاهدة و العيان كالتي حصلت مع ذلك المؤمن الكريم الذي مرّ على قرية مملوءة من العظام البالية المبعثرة فأخذه العجب من إمكان إحيائها فأماته اللّه مائة عام ثم بعثه ليرى بنفسه كيفية خلقها و نشوزها.

و لهذا كانت هذه الآيات مرتبطة بالآيات السابقة و اللاحقة في كونها من مظاهر توحيده عز و جل و ولايته و قدرته و إثبات المعاد.

ص: 305

التفسير

258 - قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ .

تقدم الكلام في جملة أَ لَمْ تَرَ في آية (243) و ذكرنا أنّها تستعمل في مقام التعجب و يستفاد ذلك من بنائه اللفظي أو المعنوي.

و المحاجة: هي الجدال أي تبادل الحجة مع الخصم و مادة (حجج) تأتي بمعنى القصد، و المحاجة لقصد الغلبة على الخصم. و تطلق الحجة على ما يقصد به إثبات شيء.

و المحاجة بين الحق و الباطل قديمة حدثت بحدوث أصل الخليقة، فإنّ أول ما خلق اللّه تعالى العقل - و هو خلق نوراني - و خلق في مقابله الجهل - و هو خلق ظلماني - و جعل لكلّ واحد منهما جنودا مجندة في الكمية لكنّها مختلفة في الكيفية، فكلّ ما طلع نور حق في البين يهدي إلى الرشاد يخرج سحاب ظلماني يرعد و يبرق و يغوي العباد، و هذه سنة اللّه في عباده و لن تجد لسنة اللّه تبديلا، و لا تزال كذلك حتّى يفترق الفريقان فريق في الجنة و فريق في السعير فيلحق كلّ واحد منهما بما هو مثله و نظيره و يحظى بما يلائمه فيرتفع النزاع و ينتهي الصراع.

و في الآية الشريفة الذي مع الحق هو إبراهيم (عليه السلام) و من يمثل جانب الباطل نمرود بن كنعان الملك المعروف المعاصر لإبراهيم (عليه

ص: 306

السلام) و شبه الجملة في قوله تعالى: فِي رَبِّهِ متعلّق بحاجّ و الضمير فيه يرجع إلى إبراهيم (عليه السلام).

و المعنى: ألم ينته إلى علمك أو هل رأيت غرور الذي حاج إبراهيم (عليه السلام) في أمر ربّه.

و وجه الصراع بينهما: أنّ نمرود ادعى الربوبية لنفسه. لفضل راه فيه كما تفضل على سائر الآلهة و الأرباب بل جعل نفسه ربّ الأرباب و موّه الأمر على ذلك المجتمع الوثني الذي كان يعبد الأصنام.

و أما إبراهيم (عليه السلام) فقد كان يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و الربوبية العظمى له عزّ و جل لم يشارك في سلطانه أحدا من مخلوقاته و احتج على الخصم: بأنّ ربّه الذي يحيي و يميت، و أراد بهما الحياة و الموت المشهودين المعروفين الحياة التي هي أصل كلّ إحساس و شعور و الموت الذي هو الفناء لذلك، فلما عارض نمرود إبراهيم بالمغالطة و التلبيس بأنّه يحيي و يميت حين قتل أحد المسجونين و أطلق الآخر و نجح هذا التلبيس على الحاضرين فصدّقوه جهلا منهم أو عنادا، و رفع هذا التلبيس إبراهيم (عليه السلام) بمحاجة أخرى واضحة جلية يذعن بها الجميع أنّها من صنع اللّه تعالى و لذلك بهت الذي كفر و لم يسع لإبراهيم (عليه السلام) يبين وجه المخالفة لعلمه بأنّ ذلك المجتمع لا يقبله منه و لا يصدّقه أحد.

هذه هي المحاجة بين إبراهيم (عليه السلام) الذي يذعن بالالوهية المطلقة للّه تعالى و نمرود الذي يعتقد بتعدد الأرباب و الالوهية لنفسه.

قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ .

المراد بالملك: تلك الإضافة الظاهرية بالنسبة إلى ما في الدنيا تتسع و تتضيق حسب ما يشاء اللّه تعالى و يريد و تكون هذه الإضافة معرضا لحدوث الإضافات الكثيرة تفنى و تزول، و يكون المتلبّس بها في جهد أكيد شديد في جلب مقتضياتها و رفع موانعها، و في الحقيقية إنّه ليس إلا متاع الغرور. هذه حال الملك الظاهري.

ص: 307

أما الملك الذي آتاه اللّه تعالى إبراهيم (عليه السلام) فهو مالكية حقايق الأمور و تسلطه على الممكنات بحيث يقلب الجوهر إلى آخر و يبدل الصورة إلى اخرى بإذن اللّه تعالى و هو باق ببقاء اللّه عزّ و جل و لا مناسبة بين الملكين الا نسبة العدم إلى الوجود.

و من العجيب أن يكون الثاني مبتلى بالأول دائما كابتلاء إبراهيم (عليه السلام) بنمرود، و موسى (عليه السلام) بفرعون، و محمد (صلّى اللّه عليه و آله) بالطواغيت من أهل عصره و ليس ذلك الا لأجل كمال الأول و خسّة الثاني.

و جملة أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ في موضع التعليل يصح أن تكون تعليلا للمحاجّة يعني إنّما حاج نمرود إبراهيم لأنّه رأى نفسه ملكا فأورثه الكبر و الإعجاب فحمله على الغرور، و دفعه على المحاجة. و لم يعرف أنّ الذي أعطاه الملك يقدر على أن ينزعه عنه.

و يحتمل أن تكون الجملة في مقام بيان كفران نمرود للنعمة التي أنعم اللّه تعالى عليه في الدنيا، فهو بدل أن يؤمن باللّه تعالى و يشكره عليها ادعى الربوبية لنفسه و خاصم نبيّ اللّه عزّ و جل فيها، و مثل ذلك كثير في المحاورات قال الشاعر:

جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر *** و حسن فعل كما يجزي سنمّار

و يصح إرجاع الضمير في قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون المراد بالملك الملك المعنوي لا الملك الظاهري الإضافي، و يدل عليه قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [النساء - 53]، و بهذا الملك أي النبوة التامة خاصم إبراهيم (عليه السلام) نمرود الملك الظاهري و حاجّه و أبهته لا أن يكون قد نازعه في ملكه الظاهري فإنّ مقام النبوة أعظم و أكبر من هذا الملك قطعا.

ص: 308

قوله تعالى: إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ .

إنّما قال إبراهيم (عليه السلام) رَبِّيَ لاعتراف الجميع بأنّ ربّ إبراهيم هو اللّه تعالى.

و المراد بالحياة و الموت: ما هو المدرك بالحس و الوجدان النوعيان الشاملان لجميع ما هو متصف بالحياة من النبات و الحيوان و الإنسان.

أي: قال إبراهيم (عليه السلام) في مقام المحاجّة مع نمرود إنّ ربّي من يقدر على الإحياء و الإماتة بل على إيجاد العالم و إفنائه فإنّ إعطاء الروح و أخذه إنّما يكون تحت استيلائه و في قبضته، و لكن نمرود فهم من ذلك الإحياء و الإماتة الشخصيتين للإنسان فادعى لنفسه ذلك أيضا، فأمر بإحضار شخصين من السجن فقتل أحدهما و أطلق الآخر - كما ورد في بعض الروايات - فقال أنا احيي و أميت. و لم يعلم أنّ ذلك ليس من الإحياء و الإماتة فإنّ الإطلاق من السجن و القتل بمعزل عن الاستيلاء على الروح - مطلقا - الذي هو منحصر في اللّه تعالى أو من يأذن اللّه عزّ و جل له بالتسلط عليه.

و إنّما خص إبراهيم (عليه السلام) في حجته الإحياء و الإماتة دون غيرهما من صنع اللّه تعالى، لأنّهما يختصان به تعالى و ليس لغيره عزّ و جل منهما صنع و هما مشهودان للجميع واضحان جليان و مع ذلك لم ينفع الاحتجاج بهما عليهم و ذلك لقصور تفكرهم و تعقلهم و لا يرجى أكثر من ذلك ممن أسر نفسه في المادة و أوقع نفسه في سجن الماديات لا يرقى فكره عن محيط نفسه و لا يعرف أنّه في أين و من أين و إلى أين، و مثل ذلك يجري في كلّ قوم بلغ الانحطاط الفكري فيهم إلى هذا المستوى و إن تقدّم في الماديات الرقيّ الحضاري و لا نرى هذا الانحطاط المعنوي في مجتمعنا المعاصر و المدنية الحاضرة أيضا الا لبعدهم عن المعارف المعنوية و انهماكهم في الماديات.

قوله تعالى: أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ .

أي: أنا الربّ الذي يحيي و يميت، و قد قصر ذلك على نفسه - و لم

ص: 309

يقل: و أنا احيي و أميت أيضا - اعتقادا لنفسه الربوبية فادعى لنفسه ما وصف به إبراهيم (عليه السلام) ربه، و صرف الكلام عن وجهه إما عنادا و لجاجا و مكابرة أو أنّه بلغ في الانحطاط الفكري إلى المستوى الذي لا يميّز بين الحياة الحقيقية و الموت كذلك و بين الإحياء و الإماتة بالمعنى الذي أراده كما ذكرنا آنفا.

قوله تعالى: قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ .

مقتضى السياق أنّ إبراهيم (عليه السلام) لما أيس من هدايته و سد باب المصادرة، كما فعل نمرود في الحجة الأولى و إثبات الربوبية لنفسه ذكر (عليه السلام): أنّك إذا تعتقد الربوبية و تصنع كما يصنع ربّي اللّه الذي له الالوهية و الربوبية العظمى على ما سواه فإنّه تعالى يأتي بالشمس من المشرق فتصرّف أنت فيه فائت بالشمس من المغرب.

و إنّما عدل (عليه السلام) عن الرّب إلى اسم الجلالة هنا لأنّ الربوبية قد صارت واضحة بإقامة الحجة عليها في المرة الاولى فالتفت الخليل (عليه السلام) إلى أنّه تعالى معبود الكلّ كما أنّه ربّ الكل.

و لعلّ ذكر إبراهيم (عليه السلام) الشمس لأنّها كانت من أعظم المعبودات عندهم فأراد (عليه السلام) أنّ هذا النيّر العظيم الذي تقدّسونه و تحترمونه احترام الآلهة مسخر تحت إرادة اللّه تعالى. و مما ذكرنا يظهر الوجه في تفريع هذه الحجة على الحجة الاولى.

قوله تعالى: فَبُهِتَ اَلَّذِي كَفَرَ .

البهت: هو انقطاع الحجة و عدم القدرة على إقامتها فينقطع اللجاج و المحاجة لا محالة أي: فسكت نمرود الكافر باللّه تعالى متحيّرا مدهوشا لا يقدر على الرد.

و لم يصرّح سبحانه باسمه تحقيرا، و يمكن أن يراد به كلّ من كفر سواء كان نمرود أو من حضر في مجلسه.

ص: 310

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

أي: إنّ اللّه تعالى لا يهدي و لا يوفق من أعرض عن الحق بعد وضوح الحجة فيتركهم إلى أنفسهم فهم ظلموا أنفسهم بسوء اختيارهم و اتخذوا سواء الجحيم بدلا عن الصّراط المستقيم.

و من ذكر الوصف اَلظّالِمِينَ يستفاد أنّ العلة في عدم الهداية هو الظلم، و هذا مما يؤكده القرآن الكريم في موارد كثيرة لأنّه أقوى و أغلظ حجاب بين النفس الإنسانية و المعارف الربوبية كما تقدم بيانه.

259 - قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها .

مادة (خوى) تأتي بمعنى الخلاء و السقوط، و ترك ما بين الشيئين خاليا، يقال: خوى بطنه عن الطعام أي خلا بطنه، و خوى النجم أي سقط،

و في الحديث «كان عليّ (عليه السلام) إذا سجد يتخوّى كما يتخوّى البعير الضامر» أي يتجافى جميع أجزاء بدنه في السجود يعني لا يلصق أجزاء بدنه بعضها ببعض و لا بالأرض الا المساجد السبعة.

و العرش: كلّ مرتفع أظلّ الإنسان من سقف أو بيت، أو كرم، و التعريش جعل الخشب تحت الكرم، بل كلّ بناء عرش، و عريش مكة أبنيتها و العرش - بالضم - عرق في أصل العنق.

و هذه الجملة أي خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قد ذكرت في مواضع من القرآن الكريم، و الكلّ تكون كناية عن الخلو من الأهل.

و أما لفظ. خاوِيَةٌ في قوله تعالى: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ [الحاقة - 7] فهي بمعنى ساقطة.

و الجملة تحتمل معنيين: الأول - سقوط السقوف و انهدام الحيطان عليها.

و الثاني - سقوط السقوف و بقاء الحيطان، و من يستظلّ بالحيطان دون السقوف و كلّ منهما صحيح و واقع في الخارج و مشاهد في الدور الخربة و القرى المندرسة.

ص: 311

و مادة (قري) تأتي بمعنى التجمع، و سميت القرية قرية لتجمع الناس فيها و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم مفردا و تثنية و جمعا قال تعالى:

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و قال تعالى:

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا اَلْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ اَلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف - 31].

و «أو» حرف عطف و قد ذكر المفسرون وجوها في عطف هذه الآية و لكن الصحيح أنّها معطوفة على المعنى فإنّه لما بيّن سبحانه أنّ الاستمساك بالعروة الوثقى موجب لهداية الإنسان و الخروج من الظلمات إلى النور عقب عزّ و جلّ ذلك بجملة من الأمثلة التي تبيّن طرق الهداية و استشهد ببعض قصص الأنبياء مع أممهم للإرشاد إلى أنّهم هم العروة الوثقى التي لا بد من التمسك بهم.

و قد تفنّن عزّ و جل في بيان القصص فذكر الاولى لبيان الاحتجاج على المعاد، لمكان التلازم بين المبدإ و المعاد ثبوتا و إثباتا كما تقدم، و أكد المعاد بذكر كيفية الحشر و النشر، كما ورد في قصة إبراهيم (عليه السلام) مع الطيور الأربعة، لكثرة أهميّة المعاد و استبعاد الناس بأنّ عين البدن المحسوس في دار الغرور كيف يعاد في دار النشور، مع تراكم الاستحالات الواردة عليه فكم من بدن صار ترابا ثم صار بدنا لإنسان آخر:

ربّ لحد قد صار لحدا مرارا *** ضاحك من تزاحم الأضداد

و دفين على بقايا دفين من عهود الآباء و الأجداد

صاح هذي قبورنا تملأ الأرض فأين القبور من عهد عاد

و ذلك كلّه من كمال قهاريته تعالى و علمه التام المتعلق بذرات الموجودات و جزئياتها حدوثا و بقاء، فالتمييز لدى العلم الأزلي ثابت و إن تبادلت عليها الاستحالات الكثيرة في الدنيا و الآخرة و ما يحدث في كلّ منهما الصادر عن نظام العلم الأزلي المتعلّق بالموجودات تعلّقا خارجا عن تعقل الإنسان لقصور العقول عن دركه.

ص: 312

و إنّما ذكر سبحانه إبراهيم في الآية السابقة و أبهم اسم الذي مر على القرية و اسمها و القوم الذين كانوا يسكنون فيها تعظيما لإبراهيم (عليه السلام) و تشريفا له فإنّ للّه عزّ و جل مع إبراهيم عنايات خاصة و له مع اللّه حالات.

و لأنّ الغرض هو بيان كيفية الهداية و الموعظة و لا يحتاج إلى ذكر الأسماء بعد استيفاء الغرض من ضرب المثل، أو لأنّ الإحياء بعد الإماتة من الأمور المستبعدة عند الناس و المستعظمة عندهم فاقتضى الحال أن يكون الكلام بلحن الاستهانة و الاستصغار، و هذا من ضروب الفصاحة و البلاغة في أنّه يؤتى بلحن الاستهانة في الموارد التي لا تخلو عن الاستعظام و الاستبعاد.

و قد اختلف المفسرون في اسم القرية فقيل: إنّها بيت المقدس لما خربها بختنصّر البابلي، و قيل: إنّها المؤتفكة، و قيل: غير ذلك، كما أنّهم اختلفوا في اسم الذي مرّ على القرية

فقيل: إنّه عزير و هو المروي عن ابن عباس بعدّة طرق و المنسوب إلى عليّ (عليه السلام). و قيل: إنّه أرميا

و قيل:

إنّه عزير، و هو المروي عن الصادق (عليه السلام) و قال به جمع من المفسرين. و قيل غير ذلك. و قال الزمخشري في الكشاف «إنّه رجل كافر» و هو مردود من جهات كما ستعرف، و قال شيخنا البلاغي: «و قد كفانا ابن المنير في حاشيته مؤنة الرد لما استند إليه الكشاف في دعواه».

قوله تعالى: قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها .

أنّى: أداة استفهام تأتي للبحث عن الحال و المكان و تتضمن معنى (كيف).

و المعنى: كيف يحيي اللّه تعالى هذه القرية و أهلها بعد موتها، و سياق الكلام يدل على أنّ المشار إليه في (هذه) إنّما هي الأجساد البالية و العظام الرميمة و خراب القرية.

و إنّما قال ذلك استعظاما للإحياء لا استبعادا منه لقدرة اللّه تعالى و يدل عليه قوله تعالى في آخر الآية المباركة: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و مثل هذا الكلام يصدر عن كلّ من ينظر في الأمور نظر تفحص و تمعن و يقف

ص: 313

فيها وقوف معتبر، و قد ضرب اللّه تعالى المثل في نفسه فأماته ثم أحياه كما حكى عزّ و جل.

قوله تعالى: فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ .

مادة (عوم) تأتي بمعنى السباحة يقال: عامت السفينة في البحر و سمي العام عاما، لأنّ القطعات الزمانية - كالأيام و الليالي - كأنّها تسبح في الزمان، و الفرق بينه و بين السنة أنّ الأول يطلق غالبا على ما فيه الخصب و الرخاء و الثانية تطلق على ما فيه الشدة و الجدب و في حديث حليمة السعدية: «خرجنا نلتمس الرضعاء بمكة في سنة سنهاء» أي لا نبات بها و لا مطر.

و مادة (بعث) تأتي بمعنى إثارة الشيء، و هي تختلف باختلاف المتعلّق، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم.

و البعث تارة يكون بمعنى إيجاد الشيء بعد العدم المحض و هو مختص باللّه تعالى. و اخرى: بمعنى إحياء الموتى، و هو أيضا مختص به عزّ و جل، لأنّ الأرواح إيجادا و إفناء، تحت سلطة اللّه تعالى و قد يهب عزّ و جل ذلك لمن يشاء من خلقه، كما سلّط عزرائيل على قبض الأرواح، و عيسى على إحياء بعض الأموات و بعثه.

و المراد من الموت: هو المعنى الحقيقي منه أي: توفاه بإزهاق الرّوح من الجسد.

و المعنى: أماته و توفاه مائة عام ثم بعثه برد الرّوح إليه.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالإماتة هو فقد الحس و الحركة دون مفارقة الروح البدن أي السبات ثم أعاده إلى ما كان عليه أولا مثل رقود أصحاب الكهف ثلاثمائة و تسع سنين، و قال: إنّ السبات في هذه المدة أمر غير مألوف و خارق للعادة و برجوع الحس و الحركة بعد السبات يتحقق الاحتجاج على إمكان الحياة بعد الموت و لو في سنين عديدة.

و ما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة صدرا و ذيلا، مع أنّه لا استحالة

ص: 314

في الإحياء بعد الموت في هذه الدنيا حتّى يتكلّف بالتصرف في معنى الآية المباركة. و قياس هذه القصة على قصة أصحاب الكهف أمر غير معقول حتّى عند القائلين بالقياس فإنّ دلالة الألفاظ لا يمكن أن تكون مورد القياس.

قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ .

اللبث و المكث بمعنى واحد أي: قال اللّه تعالى بعد بعثه و إحيائه بعد الموت: كم لبثت في موتك هذا؟ قال: لبثت يوما أو بعض يوم. و الترديد باعتبار اختلاف وقت الموت و وقت الإحياء فظنّ تخلل الليلة بينهما. أو هو كناية عن عدم الإحساس بالمدة الطويلة.

قوله تعالى: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ .

أي: قال اللّه تعالى له: ما لبثت ذلك المقدار بل لبثت مائة عام.

و الغرض من السؤال إظهار عجزه و بيان المشية الإلهية التي تعلّقت بجعله مورد القدرة على إحياء الموتى.

و السؤال و الجواب يدل على أدب القرآن المشتمل على مخاطبة اللّه تعالى مع خلقه و هي تدل على كمال العناية و الرأفة، و فيها تظهر العبودية مع المعبود الحقيقي على نحو ما يشاء المعبود، و هي اللذة التي لا منتهى لها شدة و عدة و مدة.

قوله تعالى: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ .

أي: لم يتغيّر بتغير السنين و مرّ الأزمان. يعني لم يتغيّر الطعام و الشراب في مائة سنة مع كونهما في معرض التغيير و الاستحالة في عدة أيام.

و إنّما أمر بالنظر لاستبانة طول المدة و دفع ما يخطر بالبال من قصرها.

قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلى حِمارِكَ .

بأن صار رميما تفرّقت عظامه و تقطعت أوصاله و بادت أجزاؤه كيف يحييه اللّه تعالى صحيحا سويا يصلح للركوب عليه. و في تكرار الأمر بالنظر إيماء بانتقال الكلام إلى برهان آخر لتثبيت طول المدة.

ص: 315

قوله تعالى: وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنّاسِ .

أي: إنّ ما جعلناه فيك من الموت و الإحياء كلّ ذلك ليستدلّوا بها على ثبوت المعاد.

و يستفاد من سياق الكلام - أي عطف الغاية - أنّ الغاية من هذا الفعل لم تكن منحصرة في إظهار الآية لهذا الشخص فقط و إزالة التعجب عنه الذي أظهره في إحياء الموتى بل الغاية أيضا هي جعله علامة للناس يستدلّون بها على ثبوت المعاد و إظهار القدرة الأزلية الحاكمة على كلّ شيء فإنّ الذي يقدر على إحياء الموتى في هذه المدة لقادر على إحيائها بعد مدة أطول منها فلا تختص قدرته بزمان دون آخر.

قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً .

النشز: البروز و الظهور، و الإذاعة، و الارتفاع و الجميع يرجع إلى معنى واحد و هو الظهور و إنّما الاختلاف في المتعلّق.

أي: انظر إلى العظام كيف ترتفع و يجتمع بعضها مع بعض بالتركيب ثم نكسوها لحما لتصبح خلقا جديدا سويا.

و الأمر بالنظر هنا لاستبانة ما قد يتوهم من استحالة عود الأجزاء إلى الصورة الأصلية بعد التغيّرات و التحوّلات الكثيرة و لذلك كان مورد النظر خاصا له من هذه الجهة و عاما من جهة أنّ إحياء الموتى و البعث يكون كذلك.

و الظاهر أنّ المراد من العظام هي: عظام الموتى المجاورين له و عظام الحمار، و لا ينافي ذلك جعله آية للناس و لم يجعل إحياء موتى أهل القرية آية، فإنّ الظاهر أنّ اللّه تعالى جعله محور إثبات ذكر هذه الحكاية بلا فرق بين عظام موتى أهل القرية أو عظام خصوص الراكب و المركوب.

قوله تعالى: فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

اعتراف منه بالعلم الثابت في نفسه قبل قوله: أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها و إنّما قال ذلك استعظاما في نفسه و قد جعله اللّه آية للناس لإثبات

ص: 316

المعاد و إظهار القدرة التامة.

و يمكن أن يكون المراد بالعلم هنا الوصول من مرتبة حق اليقين إلى عين اليقين.

ص: 317

بحوث المقام
بحث أدبي

ذكر الأدباء أنّ من المبهمات الموصولات لعدم تبيّن معناها إلا بالصلة و هذه هي جهة بنائها لكن الإبهام فيها مختلف شدّة و ضعفا فإنّ بعضها متوغلة في الإبهام مثل (من) و (ما) و (ذي) و بعضها دون ذلك مثل (الذي) و (التي) و نحوهما.

و إنّما ذكر تعالى (الذي) في قوله تعالى: رَبِّيَ اَلَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ للدلالة على المعهود و معروفية صلته بخلاف (من) الموصولة فإنّها تدل على الإبهام.

كما أنّ في إتيان المضارع «يحيي و يميت» دلالة على استمرار الإحياء له تعالى و تجدده و بيان أنّ هذا شأنه دائما.

و (أنا) أي الاسم الضمير في قوله تعالى: قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ هو ضمير المتكلّم وحده و الألف الأخيرة تحذف في الأصل، و هو مبنيّ على الفتح فرقا بينه و بين (أن) التي هي حرف ناصب للفعل و الألف الأخيرة إنّما هي لبيان الحركة في الوقف فإن توسطت الكلام سقطت.

ص: 318

و الكاف في قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي قيل: إنّها بمعنى مثل جيء بها للتنبيه على تعدد الشواهد، فهي في موضع نصب معطوفة. و قيل: إنّها زائدة.

و لكنّه مردود لما أثبتناه من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

قوله تعالى: وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها جملة حالية، و على عروشها إما خبر بعد خبر أو متعلق بخاوية و ذلك للاختلاف في معناه.

و مائة في قوله تعالى: مِائَةَ عامٍ منصوبة على الظرفية.

و (كم) في قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتَ يسأل بها عن مقدار الزمان و هي في موضع نصب على أنّها ظرف زمان.

و قوله تعالى: لَمْ يَتَسَنَّهْ أصله يتسننن بثلاث نونات أبدلت الثالثة ألفا لتكرار الأمثال ثم حذفت الألف للجزم فصار يتسنّن وجيء بالهاء لبيان حركة النون في الوقف.

و قرئ «ننشرها» أي نحييها، كقوله تعالى: ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ [عبس - 22]. و قرئ «ننشرها» بفتح النون و ضم الشين مأخوذ من النشر بعد الطّي.

و لكن القراءة المشهورة ما سبق نُنْشِزُها و تقدم وجهه.

ص: 319

بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: إنّما ذكر اللّه تعالى قصّة خليله بعد آية الكرسي للإشارة إلى أنّ مثل الخليل هو العروة الوثقى التي لا انفصام لها و بواسطة مثله يخرج الذين آمنوا من الظلّمات إلى النور، و أنّ نمرود و أمثاله من الطواغيت هم الذين يخرجون الناس من النور إلى الظلمات.

الثاني: يستفاد من الآيات الشريفة أدب المحاجة مع الخصم و هي و إن كانت مذمومة و لعلّه لذلك نسب المحاجة إلى نمرود تجليلا لمقام الخليل عن نسبة المرجوح إليه، و لكن إذا اشتملت على إحقاق الحق و إبطال الباطل فلا ريب في رجحانها بل قد تجب، و محاجة الأنبياء (عليهم السلام) و من يتلو تلوهم من هذا القبيل.

و قد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا و ذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون و الفساد و عالم التغيّر و التبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك، و يستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية - 17]، فمن كان مأنوسا بركوب البعير و سوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه، و لكن يقول عزّ و جل لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [فصلت - 53].

ص: 320

و قد بيّن اللّه سبحانه في هذه الآيات كيفية المحاجة مع الظالمين أيضا و ذلك بالاحتجاج عليهم بظواهر دار الكون و الفساد و عالم التغيّر و التبدل لقصور عقولهم عن الوصول إلى ما وراء ذلك، و يستفاد ذلك من آيات كثيرة أيضا مثل قوله تعالى: أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى اَلْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ [الغاشية - 17]، فمن كان مأنوسا بركوب البعير و سوق الحمير لا بد له أن يستدل على الخالق بما هو المأنوس لديه، و لكن يقول عزّ و جل لنبيه الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [فصلت - 53].

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أنّ هذه المحاجة وقعت بعد أن رباه اللّه تعالى و أوصله إلى مقام حق اليقين و عين اليقين فكانت بعد اصطفائه (عليه السلام) لمقام الخلة و بعد كسر الأصنام و إراءته ملكوت السّموات و الأرض و كان في بهت هذا الجبار بمثل هذا القول المختصر المختار سرّ ملكوتيّ إلهيّ و شروق نور غيبيّ إلى قلب أصفى من اللّجين و أحب الأنبياء من قرة عين.

و لعلّ الوجه أيضا في اختصاص الرب بالذكر دون غيره من الأسماء الحسنى و الصّفات العليا أنّ المحاجة إنّما كانت في تدبير العالم و تربيته فكان نمرود يدعي ذلك لنفسه و إبراهيم (عليه السلام) يثبته للّه تعالى و ينفيه عن غيره، و لذلك استشهد ببعض الحوادث مثل إحياء الموتى و شروق الشمس.

الرابع: إنّما خص الشمس بالذكر لأجل أنّها كانت من جملة المعبودات عندهم كما يظهر من قصته (عليه السلام) مع قومه في الرجوع إلى القمر و الشمس، و لبعد هذه الحجة عن التمويه و المغالطة كما فعل نمرود في الحجة الأولى، و لأنّ إبراهيم (عليه السلام) كان يعلم أنّ نمرود لا يسعه إنكار هذه الحجة و الادعاء بأنّ ذلك من شأن الطبيعة العمياء و أن يقول بأنّ من يدعي الربوبية لنفسه لقادر على أن يتصرّف في الطبيعة فبهت في أول وهلة.

الخامس: يظهر من قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ اَلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ اَلْمَغْرِبِ أنّه ليس من المحالات الذاتية و الا لما طلبه إبراهيم (عليه السلام) لإمكان أن يدعي الخصم أنّه من المحال الذاتي و يدل عليه أيضا ما ورد في السنة المقدّسة في علائم ظهور رجل من ذرية خليل الرّحمن الذي يلف لواء ختم الوصاية و ينشر لواء القسط و الهداية أنّ الشمس تطلع من مغربها.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: أَنْ آتاهُ اَللّهُ اَلْمُلْكَ أنّ سبب طغيانه و دعواه أن رأى لنفسه الملك و السلطة و النفوذ الذي أنعمه اللّه عليه و الا فليس له من دونه شأن يذكر، و لذا لم يذكر اللّه تعالى اسمه تحقيرا له. هذا إذا رجع

ص: 321

الضمير في آتاهُ إلى نمرود.

و أما إذا رجع الضمير في آتاهُ إلى إبراهيم (عليه السلام) فيكون السبب في المحاجة و الطغيان أن رأى ما وهبه اللّه تعالى لإبراهيم من الملك و الحكمة.

السابع: يدل قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ على أنّ العلة في عدم الهداية هي الظلم، فإنّ تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلية.

و يصح أن يكون قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من قبيل نفي الحكم بلسان نفي الموضوع يعني: أنّ من جحد الحق بعد ظهوره لديه و وضوحه عنده و صيرورته مبهوتا لا يكون قابلا للهداية و له نظائر كثيرة في القرآن الكريم فيكون مثل قول القائل: «ليس للظلمة ضياء و نور».

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أنّ المار على هذه القرية قد أبدى إعجابه عن كمال قدرته جلّت عظمته و نهاية اقتداره فيكون اعترافا بالحيرة و عدم الإحاطة بالخصوصيات و الجهات إلا للّه تعالى فقط كما في قوله تعالى: وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنّا تُراباً أَ إِنّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [الرّعد - 5]، و تعجب الأنبياء و أولياء اللّه تعالى من هذا القسم و ليس هو من التعجب الإنكاري الشايع بين الناس، و يدل على ما ذكرناه في ذيل الآية الشريفة: قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

التاسع: إنّما أبهم سبحانه و تعالى اسم القرية و اسم النبيّ الذي مرّ عليها بل و زمان القصّة لأنّ المراد إظهار القدرة التامة و أنّها غير مختصة بوقت دون آخر أو بمكان دون آخر و الأسلوب البلاغي يقتضي عدم ذكر جهات القصة غير الدخيلة بالمقام استعظاما له و استضعافا لغيره.

و ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد بالقرية أهل القرية كقوله تعالى:

وَ سْئَلِ اَلْقَرْيَةَ اَلَّتِي كُنّا فِيها [يوسف - 82]، و لكنه مردود بما ذكرناه.

العاشر: يحتمل أن يكون قوله تعالى: لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بيانا لقصر المدة التي لبث فيها بعد أن رأى الآيات أو إشارة إلى عظم الآيات التي

ص: 322

رآها من اللّه تعالى فتكون المدة الطويلة بالنسبة إليها قصيرة كما في قوله تعالى في أحوال المحشر: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ اَلْعادِّينَ [المؤمنون - 113].

الحادي عشر: أنّ الوجه في تكرار كلمة فَانْظُرْ في الآية الشريفة: أنّ في كلّ واحد من الموارد الثلاثة غرضا خاصا و برهانا معينا لا يكون في غيره، فالأول لبيان دفع ما يتوهم من قصر المدة لما شاهده من عدم تغيّر الحال فأمره بالنظر إلى الطعام و الشراب. و الثاني لبيان طول المدة و استبانتها فأمره بالنظر إلى الحمار، و الثالث لبيان كيفية البعث و النشور فأمره بالنظر إلى نشر العظام و بعثها.

الثاني عشر: يدل قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها على كمال قدرته على الموجودات و أنّ قدرته على إيجاد الروح تستلزم قدرته على جميع ما دون ذلك كما يظهر من قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا اَلنُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا اَلْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا اَلْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا اَلْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [المؤمنون - 14]، فيكون السّير التكاملي منطويا تحت الغاية و هي مقهورة تحت إرادته الكاملة فيكون الكلّ له و منه و إليه لانطواء المشروط على الشرائط و الكلّ على الأجزاء.

و الآية تدل على وقوع الاستحالات و التبدلات على العظام فإنّه يظهر منها أنّ الجمع كان بعد الاندراس، و التجدد بعد الانعدام و الانطماس.

الثالث عشر: يصح أن يكون المراد من العظام في قوله تعالى: وَ اُنْظُرْ إِلَى اَلْعِظامِ جنس العظام الشامل لعظام الموتى و عظام الحمار و عظام نفسه فيكون تعلّق الرّوح ببدنه متدرجا و ليس ذلك من قدرة اللّه جلّت عظمته ببعيد.

كما كان عدم تغيّر الطعام و الشراب من قدرته تعالى فليس ذلك من المحال الذاتي حتّى تقتضي حكمته تعالى أن لا تتعلّق به قدرته عزّ و جل.

الرابع عشر: أنّ هذه الآية المباركة و التي بعدها تصوير خارجي لحقيقة المعاد التي صعب على الأفهام قبولها و أتعبت الأمم أنبياءها في الإذعان بها

ص: 323

و ستأتي آيات أخرى دالة على المعاد الجسماني إن شاء اللّه تعالى.

الخامس عشر: تدل هذه الآية الشريفة و أمثالها على صحة الرجوع إلى هذه الدنيا بعد الموت و يدل عليه ما يدل على صحة المعاد و قد ورد في السنة المقدّسة ما يدل على صحة الرجعة أيضا.

و يصح الاستدلال بدليل عقلي واضح و هو أنّ أصل وجود هذا النحو من الحياة - أي الرجعة في العالم - خير محض و تعطيل الخير المحض قبيح و هو محال على اللّه تعالى لكن الأمور مرهونة بأوقاتها و أنّ العالم لم يبلغ بعد إلى مرتبة الكمال المطلوب حتّى يليق بهذه العناية الخاصة من ذي الجلال.

السادس عشر: يصح أن يستدل بهذه الآية المباركة الدالة على تجدد القرية و بعث أهلها على صحة القاعدة العقلية التي أذعن بها الكلّ من أنّ «حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد» فجرى ذلك بالنسبة إلى كلّ قرية في هذه الدنيا و كذا بالنسبة إلى الآخرة.

السابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ استمرار علمه من أول الأمر بقدرة اللّه تعالى، و لكن تأكد علمه بما شاهده من الحوادث.

ص: 324

بحث روائي

في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: «خالف إبراهيم قومه و عاب آلهتهم حتّى ادخل على نمرود فخاصمهم - الحديث».

و في الدر المنثور في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ أخرج الطيالسي و ابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) قال:

«الذي حاج إبراهيم في ربه و هو نمرود بن كنعان».

أقول: اتفقت الروايات على أنّ الذي حاج إبراهيم في ربّه هو نمرود بن كنعان و هو و إن كان علما شخصيا لأول جبار ادعى الربوبية و لكن يصح لحاظه وصفا نوعيا لكلّ من تجبّر على اللّه سبحانه و تعالى بادعاء الربوبية.

و في المجمع: «اختلف في وقت هذه المحاجة فقيل: عند كسر الأصنام قبل إلقائه في النار كما عن مقاتل. و قيل: بعد إلقائه في النار و جعلها بردا و سلاما عن الصادق (عليه السلام).

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و ذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة يدل على أنّ المحاجة كانت بعد تشرف الخليل بمقام الخلة و كسر الأصنام و إراءته ملكوت السموات و الأرض فتكون بعد إلقائه في النار و الشواهد العقلية تؤيد ذلك.

في تفسير القمي عن هارون بن خارجة عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل: «فخرج أرميا على حماره و معه تين قد تزوده و شيء من عصير

ص: 325

فنظر إلى سباع الطير و سباع البحر و سباع الجو تأكل تلك الجيف ففكر في نفسه ساعة ثم قال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها و قد أكلتهم السباع ؟ فأماته اللّه مكانه، و هو قول اللّه تعالى: أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنّى يُحْيِي هذِهِ اَللّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اَللّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ أي أحياه - الحديث -».

أقول: و روى قريبا منه العياشي و غيره.

و في تفسير العياشي «أنّ ابن الكوا قال لعليّ (عليه السلام): يا أمير المؤمنين ما ولد أكبر من أبيه من أهل الدنيا؟ قال (عليه السلام): نعم أولئك ولد عزير حيث مرّ على قرية خربة و قد جاء من ضيعة له، تحته حمار و معه شنة فيها تين و كوز فيه عصير فمرّ على قرية خربة فقال: أنّى يحيي هذه اللّه بعد موتها؟! فأماته اللّه مائة عام فتوالد ولده و تناسلوا ثم بعث اللّه إليه فأحياه في المولد الذي أماته فأولئك ولده أكبر من أبيهم».

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل و له خمسون سنة فأماته اللّه مائة سنة ثم بعثه فرجع إلى أهله ابن خمسين و له ابن له مائة سنة فكان ابنه أكبر منه فذلك من آيات اللّه».

قال الطبرسي في المجمع: «الذي مرّ على قرية هو عزير و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) - إلى أن قال - و قيل: هو أرميا و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

و قال: و روى سعد بن عبد اللّه القمي في بصائر الدّرجات عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «أنّ الآية في عزير و عزره».

أقول: و عن ابن عباس أنّه عزير و لكن لا جدوى في تعيين النبي الذي مر على القرية أنّه عزير أو أرميا و لعلّ إهماله تبارك و تعالى ذكره لأنّ المقصود تحقق أصل الموضوع ليستدل به على كلية المعاد، كما لا جدوى في تعيين القرية هل أنّها إيليا (بيت المقدس) أو القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت على ما تقدم.

ص: 326

سورة البقرة الآية 260

ص: 327

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى .

عطف على الجملة المتقدمة باعتبار تضمنها معنى التذكير و الإنذار فيكون مفاد الجملتين واحدا من حيث إنّهما مشتملتان على آية لا بد من بيانها و تذكيرها للناس.

و كيف تستعمل في السؤال عن حالات الشيء لغة و عرفا.

و تختلف هذه الجملة عن السابقة في أنّ السابقة كان السؤال فيها عن أصل المعاد، و قد بيّن سبحانه و تعالى ذلك بإراءة نموذج للنشر و البعث، و قد أهمل سبحانه اسم القرية و اسم النبي الذي مرّ عليها لاستيفاء الغرض بدونهما، و أما المقام فهو لإثبات كيفية المعاد بعد مسلمية أصله و قد بينها بشهود الحقيقة و إراءة خصوصياتها و قد ذكر اسم إبراهيم (عليه السلام) تشريفا فإنّ للّه تعالى معه عنايات و له مع اللّه تعالى حالات.

و قد تحمل الأواه الحليم و المؤمن الخليل من المصاعب و المتاعب في سبيل اللّه تعالى و إثبات وحدانيته و إبطال دعوى ربوبية أول من ادعى الربوبية ما لم يتحمله غيره من الأنبياء (عليهم السلام) حتّى كليم اللّه في إزالة ربوبية فرعون إلا نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) فإنّه ما اوذي نبي بمثل ما أوذي به.

ص: 328

و بالمقارنة بين السؤالين في الجملتين يظهر الفرق بينهما فإنّ في سؤال إبراهيم (عليه السلام) من الأدب و الثناء و الإقرار بأصل المعاد و طلب الزيادة في العلم و المعرفة ما لا يخفى و لذا كان في هذا السؤال شؤون و مخاطبة بين الخليلين بخلاف السؤال السابق.

كما يستفاد الفرق بين النبيّ الذي مرّ على القرية و إبراهيم من ذيل الآية الشريفة، فإنّ في الأول قال: أَعْلَمُ أَنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ . و لكن في الثاني قال اللّه تعالى لإبراهيم: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي يفعل الأتم الأصلح، فالأول اعتراف بأصل قدرة اللّه تعالى و في الثاني يعلمه اللّه عزّ و جل بأنّ الذات الأقدس قويّ و فاعل للأصلح فوق ما نتعقله من معنى القوة و الأصلحية، فالخليل يربي خليله بأمتن أسرار الخلّة و أدق لطائف الارتباط و الصّلة و هو تفاني جميع شؤونه في مرضاة العزيز الحكيم.

و الظاهر أنّ هذا السؤال كان قبل إراءة اللّه تعالى لخليله ملكوت السموات و الأرض فإنّها غاية الكمال الممكن، فتكون هذه القضية من مبادئ تلك الإراءة التفصيلية الإحاطية، فتكون إراءة إجمالية لتحقق الإراءة الكلية، فلا بد و أن يحمل قوله: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي على بعض المعاني كما سيأتي. مع أنّ إراءة الملكوت سفر من الحق إلى الحق بالحق، و أما القضية فهي تشرح السفر من الخلق إلى الحق و بينهما بون بعيد فيكون المراد بقوله:

أَرِنِي الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم و علم اليقين.

و كيف كان فهو سؤال استعطاف و فيه لطف و عناية و مثله بين الخليلين كثير لا يفهمه إلا من كان من أهله.

و بدأ السؤال بكلمة: رَبِّ لأنّ فيه اعترافا بالعبودية، و لبيان تمام العناية بعبده و تربيته العظمى له و فيه كمال الثناء عليه جلّ و علا، و لأنّ الدعاء المبدو بهذا الاسم الشريف أقرب إلى الاستجابة، و يستفاد منه أدب الدعاء أيضا، و لأجل ذلك و غيره غلب هذا الاسم الشريف في دعوات إبراهيم (عليه السلام) و قد ذكرنا في سورة الحمد ما يتعلّق بكلمة الرب فراجع.

ص: 329

قوله تعالى: قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ .

أي قال اللّه عزّ و جل أو لم تؤمن بي و بقدرتي على الإحياء؟ و الاستفهام تقريري لإظهار مقارنة السؤال مع عدم الإيمان و لم يكن استفهاما عن حكمة السؤال و وجهه حتّى يكون فيه الردع و العتاب، و الوجه في ذلك دخول همزة الاستفهام على الواو الدال على الجمع و لو قيل: ألم تؤمن لدل الكلام على أنّ السؤال نشأ عن عدم الإيمان و دل على الردع و العتاب.

و إنّما حذف متعلّق الإيمان للدلالة على أنّ الإيمان بالمبدإ يلازم الإيمان بالمعاد فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر. و خصوص المورد - و هو الإحياء - لا يوجب تخصيص العموم أو تقييد الإطلاق كما هو معروف بين الأدباء.

قوله تعالى: قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .

بلى كلمة تستعمل في مقام النفي، فينقلب بها النفي إلى الإثبات و الاطمينان و الطمأنينة سكون النفس بعد الانزعاج. و اطمأنّ و تطامن متقاربان لفظا و معنى.

أي: قال إبراهيم: بلى إنّي مؤمن بذلك و لكنّ المشاهدة و العيان يؤثران في استقرار النفس و رسوخ العلم في القلب و يزداد بهما اليقين و الوقوف على سرّ الإحياء و هذا ما لا يمكن دركه إلا بالمشاهدة و الرؤية.

و إنّما حذف المتعلّق أيضا لأنّ قلب الخليل مضطرب دائما خصوصا إذا كان أحد الخليلين متناهيا و الآخر غير متناه،

و قد نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «أللهم زدني فيك تحيّرا» و عن أكابر الفلاسفة: إنّ الاعتراف بالقصور عن درك الذات إدراك.

و أما

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام): «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا» أي: ما ازددت يقينا أنّي على الحق و على الصراط المستقيم لا أن يكون مراده بالنسبة إلى درك الذات الأقدس الربوبي كما تشهد به جملة من كلماته الشريفة، مع أنّ مراتب الاطمينان باللّه تعالى و اليقين به عزّ و جل كثيرة غير محدودة.

ص: 330

قوله تعالى: قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ .

صرهنّ - بضم الصاد و سكون الراء - و قرئ بكسر الصاد. و مادة (صرر) تأتي بمعنى الشد و الضم و القطع، و هذه الثلاثة متقاربة و متلازمة و يصح أن يجعل الجامع الضم، و قد يستلزم القطع الضم كما إذا قطعت أجزاء الحيوان فيضم بعضها إلى بعض و تجعل في موضع واحد، و سميت الصرّة صرّة لجمع الدراهم فيها.

و المعنى: خذ أربعة من الطير فضمّهنّ إليك بأن تجمعها في مكان للمؤانسة و المؤالفة، و أن يستشرقن بشوارق النفس القدسية و تستعد للموهبة الإلهية و هي الإيجاد بعد الإفناء و السعي في الإتيان بدعاء أبي الأنبياء.

و على هذا يكون الجار متعلقا بصرهنّ من دون محذور و لا نحتاج إلى تضمين الكلام. و قيل: إنّ الجار متعلّق ب (خذ) و لكنّه بعيد و مخالف لفصيح الكلام.

و من هذه الجملة يستفاد أنّ الغرض المقصود من السؤال هو مشاهدة كيفية إحياء الأموات المدلول عليها بقوله: تُحْيِ اَلْمَوْتى فإنّ الكلمة الأولى تدل على كيفية إحياء اللّه الأموات و الثانية تدل على أنّ إحياء الجمع الكثير من الأموات بعد تلاشي أجزائها و استحالتها و تبدلها إلى صورة أخرى، فإنّ إحياء هذا الجمع أمر يستبعده الذهن بادئ الأمر، و لأجل ذلك كان الجواب مشتملا على قيود خاصة دخيلة في استيفاء الغرض المقصود، فلو كان السؤال عن مجرد إظهار القدرة الأزلية لكان الجواب يتم بإحياء ميت أو أموات كما في القصة الأولى و لا يحتاج إلى هذا التطويل في الجواب و تكثير القيود. و من وجوب المطابقة بين السؤال و الجواب يستفاد أنّ السؤال إنّما كان عن كيفية الإحياء و مشاهدته من حيث إنّه فعل اللّه تعالى لا مجرد ترتيب الأجزاء المادية و إحيائها لا سيّما في إحياء الأموات.

و القيود التي أخذها عزّ و جل في الجواب هي: أن تكون مورد الإحياء طيورا، و أن تكون أربعة، و أن تكون إحياء الأموات، و أن يجعلها مأنوسة به،

ص: 331

و أن يقتلها و يقطّعها و يمزج أجزاءها، و أن يفرّق الأجزاء على الجبال المتباعدة، و أن يدعوهنّ باجتماعهنّ عنده. و أن يكون كلّ ذلك بيد إبراهيم (عليه السلام) و بمباشرة من نفس السائل، فهذه القيود كلّها دخيلة في الغرض و منها يستفاد عظم السؤال و السائل.

و من ذلك يعلم المناقشة في كثير مما ذكره المفسرون في المقام كما سيأتي في البحث الدّلالي ما يرتبط به.

و لعل ذكر الطيور بالخصوص و اختيارها لأنّ فيها دقائق من صنع اللّه جلّ جلاله لا تكون في سائر الحيوانات، فتكون الإعادة نظير قوله تعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة - 4].

أو لكون الطير أقرب إلى الإنسان فيصح أن يكون مثالا للحشر الأكبر و نفخة الإحياء، و في الطير خصال حسنة حثنا الشرع الأقدس بتعلّمها منهنّ

فعن عليّ (عليه السلام): «لو توكلتم على اللّه تعالى حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و ترجع بطانا».

أو لأنّ الطير أخف و أسهل انتقالا و يكون قتله و تقطيعه و جعله أجزاء متفرقة في زمان أقل من غيره.

و لا ريب في أنّ الطيور الأربعة من أنواع مختلفة لأنّ ذلك أتم و أكمل في إظهار قدرة اللّه تعالى و أدل على صنعه عزّ و جل.

قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً .

أي: اذبحهنّ و صيرهنّ أجزاء و امزج تلك الأجزاء لئلا تتميز ثم فرق تلك الأجزاء و اجعل على كلّ جبل جزءا.

و هذه الآية تدل دلالة واضحة في المحاورات العرفية على سبق الذبح و التقطيع و الخلط، فلا وجه لما عن بعض المفسرين من إنكار الدلالة.

و الوجه في العطف ب (ثم) الدال على التعقيب مع التراخي لأنّ هذه العملية إنّما تكون بعد إمالة الطيور و تأنيسها و معرفة خصوصياتها و طباعها ثم

ص: 332

ذبحها و تقطيعها و خلطها كلّ ذلك يحتاج إلى مدة.

و إنّما أمر سبحانه بالجعل على الجبل دون سائر المواضع إما لكونه أبين في إظهار القدرة، أو لكونه أظهر في الفصل بين الأجزاء، أو لكونه مثالا لبعث الموتى من مشارق الأرض و مغاربها بإذن اللّه تعالى، أو لأنّ الطيور إنّما توكر في الأماكن المرتفعة دون غيرها.

و الآية الشريفة مطلقة لا يستفاد منها أنّ الجبال كانت في منطقة واحدة، بل يمكن أن تكون بينها مسافات بعيدة بأن كان بعضها في بابل و بعضها في الشام و بعضها في بيت المقدس و آخر في الحجاز لأنّ ذلك أبين في إظهار قدرة اللّه تعالى.

كما لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذه القضية كانت في زمان واحد بل يمكن أن تكون في أزمنة متعدّدة.

قوله تعالى: ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً .

السعي في المقام: سرعة السير في الطيران. و نسب إلى الخليل أنّ المراد به سعي إبراهيم (عليه السلام) لا الطير و لا وجه له.

و المعنى: ثم نادهنّ بأسمائهنّ تأتيك الطيور بكامل هيئتها و خصوصياتها مسرعات، و يمكن أن يكون الدعاء بلسان الطير فإنّه (عليه السلام) ممن علم منطق الطير لأنّه تعالى أراه ملكوت السّماوات و الأرض.

و قد اكتفى سبحانه و تعالى بذكر الوعد عن الوقوع لأنّ اللّه لا يخلف الميعاد، و لما هو المعلوم من قدرة اللّه تبارك و تعالى.

و إنّما ذكر سبحانه اُدْعُهُنَّ دون الصياح و النداء، لأنّ الدعاء هو التكلم مع الغير مع ذكر اسمه، و يستعمل في القريب أيضا و هو مع تقارب الجبال واضح، و أما التباعد فيمكن أن يكون قد نقل الهواء صوت الخليل (عليه السلام) كما ينقل الأصوات من مشارق الأرض إلى مغاربها عبر الأثير بواسطة المذياع و التلغراف و نحوهما.

ص: 333

و يمكن أن يكون الدعاء هو التسخيري التكويني منه كما في قوله تعالى: وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ [الحج - 27]، و قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت - 11].

و يحتمل أن يكون هذا الدعاء بمنزلة نفخة الإحياء بإذن اللّه تعالى كما في نفخة إسرافيل التي بها تحيا الأموات و يبعثون كأنّهم جَرادٌ مُنْتَشِرٌ مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّاعِ يَقُولُ اَلْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ [القمر - 8]، فتكون هذه القضية الحشر الأصغر يستدل به على الحشر الأكبر.

و كيف كان فإنّ بدعوة إبراهيم (عليه السلام) تعلّق الروح بالجسد فأتت الطيور مسرعات و بذلك شاهد (عليه السلام) كيفية تعلق الروح بالجسد و البعث و النشور.

قوله تعالى: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و ليتأكد علمك أنّ اللّه عزيز لا يغلبه شيء و لا يعجزه أمر، حكيم في أفعاله لا يفعل إلا بمقتضى الحكمة.

و إنّما خص عزّ و جل هذين الاسمين بالذكر لبيان كمال قدرته و عدم عجزه حتّى إعادة الموتى و لو كانوا كثيرين لا يحصيهم الا اللّه تعالى، و أنّه يفعل ذلك وفق الحكمة المتعالية فمن الحكمة أنّه جعل لكلّ أمر طريقا لائقا به، و أنّه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها.

ص: 334

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآية الشريفة على أمور:

الأول. أنّها تدل على إعادة حياة الإنسان و الحيوان و غيرهما، و المعاد في الشرايع السّماوية و المعارف الربوبية عدل المبدإ و نظيره فلا أثر لمبدإ بلا معاد، و لا وجود لمعاد بلا مبدإ فهما متلازمان في قانون النظام الأحسن المبني عليه نظم العالم و خلق بني آدم، و هو من مظاهر قدرته عزّ و جلّ و قهاريته، و ليس هو من المحالات الذاتية في فطرة العقول حتّى لا تتعلّق قدرة اللّه تعالى به.

و إنّما استبعد ذلك، لحصول شبهات في الخواطر و هو أعم من الامتناع الواقعي، و قد اختلط في الأذهان بين الاستبعاد الاعتقادي و الامتناع الواقعي، و جعل الأول كالثاني مغالطة.

و بالجملة: إنّ مصير التكوين طبعا إلى المعاد كما يكون مصير الشجرة إلى الثمرة إلا أنّ بعضها حلوة و بعضها مرّة، فهو من طريق الوصول إلى الغاية لا بد أن يتحقق في النظام الأحسن، إذ لا يمكن تصوّر نظام بدون غاية كما لا

ص: 335

يمكن تعقّل تكوين بلا مبدأ و هو مما لا بد منه في جملة الأصناف و الأنواع فضلا عن النوع الأتم الذي هو الإنسان.

و الموت إنّما هو قطع ارتباط بين الروح و الجسد فيقع كلّ واحد منهما في المسير الذي لا يعلم حدوده و خصوصياته و سائر جهاته إلا اللّه تعالى المهيمن على الجميع، و يستحيل أن يحيط المحدود بما هو غير محدود فردا و صنفا و نوعا و إن شرقت شارقة من عالم الغيب على قلب من يختاره اللّه تعالى لذلك، فهو محدود تكوينا بقدر استعداده و ليس الكتاب التكويني إلا مثل الكتاب التدويني الذي أنزله اللّه تعالى على قلب حبيبه (صلّى اللّه عليه و آله) و قال عزّ و جل فيه: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء - 88]، فكذلك الكتاب التكويني الذي أهم أوراقه بل جميعها المعاد و إنّما جعلت الدنيا مقدمة لشرح نظمه و صحائفه، فكلّ من العالمين متلازمان تلازم الحاكي و المحكي فهو أصل الحقيقة التي يتفرّع عنها المجاز الذي هو الدنيا - بكلّ معنى المجازية - فهي مجاز باعتبار كونها معبرا، و مجاز أي لا حقيقة لها.

و مجاز أي لا بد من إيجاد وجه تناسب بينها و بين الآخرة كما هو واضح لذوي الفطرة المستقيمة و الأذهان السليمة، و لو نزّل الناس الدنيا من الآخرة منزلة اللفظ من المعنى لنالوا الحظ الأوفى و الدرجة الأرقى، و من نزّلها منزلة القشر من اللب فقد حاز الدّرجات العليا.

و من ذلك كلّه يعلم أنّ إنكار المعاد ليس إلا كإنكار الشمس التي هي وراء السحاب. و سيأتي في مستقبل الكلام تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: يستفاد من ظاهر الآية الكريمة أنّ طلب إبراهيم (عليه السلام) كان لمشاهدة كيفية إحياء اللّه تعالى الموتى الذي هو من فعله عزّ و جل بجميع خصوصياته التي منها قبول الأجزاء المادية لإفاضة الحياة و يدل على ذلك أمور:

منها: السؤال عن الرؤية و المشاهدة و هي لا تتحقق بمجرد الاستدلال

ص: 336

و بيان الحجة فقط كما هو واضح فإنّ الظاهر من قوله أَرِنِي إرادة الوصول إلى حق اليقين بعد طيّ مراحل أصل العلم و علم اليقين.

و منها: إتيان الفعل المضارع تُحْيِ بضم التاء من الإحياء دون غيره الدال على كيفية تأثيره عزّ و جل و إظهار فعله تعالى.

و منها: ذيل الآية الكريمة وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ الدال على وجدان الذات المقدسة بكلّ ما تتطلبه مخلوقاته و ما تستحقه الأشياء فلو كان السؤال لمجرد معرفة تأثر الأجزاء و حياتها لكان في إظهار القدرة و بيانها كفاية في المطلوب كما في الآية السابقة.

و منها: أنّه تعالى أراد بيان أنّ إبراهيم (عليه السلام) مظهر حقيقة المعاد كما أنّه مظهر مبادئ التشريع في القوانين السّماوية للعباد أيضا للتلازم بين مبدئية التشريع و بيان المعاد.

و منها: بيان قيود خاصة و شروط معينة في الجواب الدالة على كونها مرتبطة بالسؤال و دخيلة في المعنى المقصود كما ذكرنا في التفسير و الظاهر أيضا أنّ إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمره اللّه تعالى و كان ذلك مقدمة لإراءته ملكوت السّماوات و الأرض و وصل إبراهيم بذلك إلى مرتبة حق اليقين.

و لكن ذكر بعض المفسرين: أنّ المراد من الآية الشريفة مجرد التمثيل الظاهري و الغرض منه ذكر مثال محسوس في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة و لا دلالة في الكلام على أنّ إبراهيم (عليه السلام) فعل ما أمر به، و ليس كلّ أمر يقصد به الامتثال فإنّ من الخبر ما يأتي بصورة الأمر لا سيّما إذا أريد به مزيد بيان و ذكر وجوها لتأييد ما ذكره.

منها: أنّ معنى «صرهنّ » أملهنّ و هو المناسب لتعدي الفعل ب (إلى)، و لو كان المراد ب «صرهنّ » قطعهنّ لما كان وجه لقوله إِلَيْكَ كما أنّه المناسب للتراخي في قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ بخلاف ما ذكره المفسرون، و أما الذبح و التقطيع فليس في الآية المباركة ما يدل عليهما.

و منها: أنّ الضمائر في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ و مِنْهُنَّ و ثُمَّ اُدْعُهُنَّ راجعة إلى الطيور و ليست إلى الأجزاء فلو كان المراد تقطيعها و تفريق الأجزاء على الجبال يلزم منه التفرقة بين الضمائر فيعود بعضها و هو «صرهن» و «منهن» إلى الطيور و بعضها الآخر إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

ص: 337

و منها: أنّ الضمائر في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ و مِنْهُنَّ و ثُمَّ اُدْعُهُنَّ راجعة إلى الطيور و ليست إلى الأجزاء فلو كان المراد تقطيعها و تفريق الأجزاء على الجبال يلزم منه التفرقة بين الضمائر فيعود بعضها و هو «صرهن» و «منهن» إلى الطيور و بعضها الآخر إلى الأجزاء و هو خلاف الظاهر.

و منها: أنّ إراءة كيفية الخلقة إما أن تكون بمعنى مشاهدة كيفية قبول الأجزاء للحياة و تغيّر صورها إلى الصورة الأولى الحيّة فهي لا تحصل بما ذكره مشهور المفسرين من الذبح و تقطيع الأجزاء و تفريقها على الجبال إذ كيف يتصور مشاهدة ما يعرض على الذات من الحركات و التغيّرات و الحال هذه.

و إما أن تكون بمعنى الإحاطة بكنه كلمة «كن» التي هي الإرادة الإلهية فظاهر القرآن و إجماع المسلمين على عدم الإحاطة بها و صفات اللّه تعالى منزّهة عن الكيفية.

و منها: أنّ المناسب كما ذكره المشهور أن يختم الكلام باسم القدير دون الاسمين الشريفين العزيز الحكيم.

و لكن فساد ما ذكره واضح بعد التأمل في الآية الشريفة و ما ذكرناه في تفسيرها فإنّ ذلك لا يناسب سياقها و لا المحاورات الصحيحة و قد ذكرنا في قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ ما بوضح المعنى و التعدي ب (إلى) لمكان التضمين و بيان شدة الإيناس و الاستيناس بالطيور.

و أما الضمائر فهي راجعة إلى الطيور و هذا العنوان موجود في جميع التقلبات و الاستحالات الواردة عليهنّ كما يأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى.

و أما معرفة فعل اللّه تعالى فلا مانع من ذلك عقلا و نقلا إذا أضيفت إلى الممكن و الكيفية المنفية إنّما هي المضافة إلى الذات الأقدس فإنّه تعالى لا كيف له و الأولى هي المراد بملكوت السموات و الأرض التي رآها ابراهيم (عليه السلام) بإرادة من اللّه تعالى.

و أما أنّ المناسب أن يختم الكلام باسم القدير فقد عرفت أنّ الأمر ليس كذلك بل الختم بالاسمين الشريفين فيه الدلالة على ما ذكرناه بخلاف الختم باسم القدير، مع انطواء الاسمين الشريفين على القدير و شيء زائد عليه كما

ص: 338

هو معلوم.

الثالث: يدل قوله تعالى: كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى على أنّ لكثرة الأموات دخلا في السؤال فإنّ إحياء الأجساد الميتة التي تغيّرت صورها و استحالت أجزاؤها و فني الارتباط بينها له الأهمية الكبرى و فيه تمام القدرة و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى حكاية عن فرعون: قالَ فَما بالُ اَلْقُرُونِ اَلْأُولى قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى [طه - 52]، حيث خص العلم بذلك في اللّه عزّ و جل فكان الجواب بما يفي المطلوب كما عرفت.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ كمال اللطف و العناية، و الخلة بين الخليلين، و هو يدل على عتاب الخليل لخليله أيضا في مقام الخلة، و لا يعقل لذة فوق ذلك، و لا يصل أحد إلى هذه المرتبة إلا بعد فناء الاثنينية و انتفاء المغايرة من البين غاية الانتفاء.

الخامس: إنّما حذف المتعلّق في قوله تعالى: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ليشمل جميع ما يمكن تصوره في طمأنينة القلب التي منها الثبات عند الخطرات، و منها التحمل لنزول الإفاضات و البركات، و منها الاستقامة لدى التجليات، و منها الرجوع إلى الخلق لافاضة المعارف و الخيرات و غير ذلك مما لا يحيط به الا مثل الخليل، و لعل آخرها ما أشار إليه عزّ و جل بقوله: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [الفجر - 28].

و بالجملة: فكما أنّ القلب منشأ الحياة الحيوانية، كذلك يكون محور جميع الواردات الغيبية و المعارف الربوبية و له شأن عظيم.

السادس: يمكن أن تكون الأربعة في قوله تعالى: فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ اَلطَّيْرِ فردية، و يحتمل أن تكون الأربعة نوعية أي: خذ من أربعة أنواع أصنافا و أفرادا و يحتمل أن تكون إشارة إلى الطبائع الأربعة و هي الشهوة، و الغضب، و الكبر، و الحرص و كلّ واحدة منها تشير إلى طبيعة خاصة.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً أنّ للأنس مع أولياء اللّه تعالى ثم دعاؤهم دخلا في حياة الموتى و هو

ص: 339

يدل على أنّ القلوب الميتة إذا آنست مع الأنبياء العظام و من يتلو تلوهم من أولياء اللّه تعالى تحيا حياة حقيقية طيبة، و لعل ذلك أهم الأسرار في هذه الآية الشريفة فالمأنوسون مع خليل الرحمن مأنوسون مع الرحيم الحنان إذ لا واسطة في مقام الخلة.

الثامن: أنّ في قوله تعالى: يَأْتِينَكَ سَعْياً إشارة إلى أنّ التسخير التكويني الذي يكون بين المخلوق و الخالق موجود بالنسبة إلى الخليل أيضا و هو إنّما يكون فوق الزمان، و الوارد في الآية الشريفة إنّما هو بلحاظ حال المخاطبين و حدود فهمهم و الا فمقام الخلّة أجلّ من أن يحيط به الزمان.

و يستفاد منه أيضا، أنّ الموجودات تسعى إلى امتثال أوامر وسائط الفيض الأقدس الإلهي، فإنّ الجميع تسبّح بحمد ربّها و مسخرة تحت أمره.

و من ذلك يظهر الفرق بين إحياء خليل الرّحمن (عليه السلام) و إحياء عيسى (عليه السلام) فإنّه لم يرد لفظ بِإِذْنِي في مخاطبة اللّه تعالى مع خليله تجليلا لمقام الخلّة و هو مقام صرف الفناء و الوحدة فلا وجه لحظور جهة الاثنينية و إن كان في الواقع هو بإذنه بخلاف مقام عيسى (عليه السلام) فإنّه ورد فيه لفظ بِإِذْنِي كثيرا و للكلام تتمة تأتي إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: دعاء إبراهيم (عليه السلام) للطيور إلى البروز إلى عالم الحياة بعد الممات في الواقع إنّما هو دعاء الرّب الجليل صدر على لسان عبده الخليل كما في قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، فيكون خليل اللّه تعالى و حبيبه محمد (صلّى اللّه عليه و آله) من مظاهر تجلّي اللّه جلّت عظمته قولا و عملا في النشأة الإنسانية، و أقوى الروابط بين العباد و ربّ البرية، و أهم الأسباب في عالم الكون و الفساد، و لكن هناك فرق بين التجليين يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى ذكره.

العاشر: يدل قوله تعالى: ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً على تجرد النفس و بقائها بعد فناء الجسم و تلاشي أجزائه و تبدّد أوصاله و قد تقدم في أحد المباحث السابقة الاستدلال على تجرد النفس فراجع.

ص: 340

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ على أنّ إبراهيم (عليه السلام) إنّما كان سؤاله و طلبه لأجل معرفة حقيقة هذين الاسمين الشريفين و بالجواب ظهر تجلّيه تعالى له و جعله مظهرا من مظاهر العزة و الحكمة.

ص: 341

بحث روائي

في المعاني عن المفضل بن عمر عن الصادق (عليه السلام) قال:

«استجاب اللّه عزّ و جل دعوة إبراهيم (عليه السلام) حين قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى و هذه آية متشابهة و معناها أنّه سأل عن الكيفية، و الكيفية من فعل اللّه عزّ و جل متى لم يعلمها العالم لم يلحقه عيب و لا عرض في توحيده نقص فقال اللّه عزّ و جلّ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى هذا شرط عام من آمن به، متى سئل واحد منهم: «أو لم تؤمن» وجب أن يقول: «بلى» كما قال إبراهيم (عليه السلام) و لما قال اللّه عزّ و جل لجميع أرواح بني آدم: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى كان أول من قال بلى محمد (صلّى اللّه عليه و آله) فصار بسبقه إلى (بلى) سيد الأولين و الآخرين و أفضل النبيين و المرسلين، فمن لم يجب عن هذه المسألة بجواب إبراهيم فقد رغب عن ملّته قال اللّه عزّ و جل:

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ثم اصطفاه اللّه عزّ و جل في الدنيا».

أقول: الكيفية لها قسمان قسم يضاف إلى اللّه تعالى من باب الوصف بحال ذاته المقدّسة، و هذا باطل بلا ريب و لا إشكال للأدلّة العقلية و للنصوص الكثيرة الدالة على نفي الكيفية عنه عزّ و جل

قال (عليه السلام) «هو الذي كيّف الكيف و لا كيف له».

و قسم يضاف إلى المخلوق و لا إشكال فيه لكونه معرضا لذلك، و ما

ص: 342

أثبته (عليه السلام) إنّما هو من القسم الثاني دون الأول.

و لعلّ المراد من التشابه تشابه الآية المباركة من حيث احتمال ورود الشك على قلب إبراهيم (عليه السلام) و هو باطل. و بقية الحديث ظاهر بأدنى تأمل.

و في المحاسن عن صفوان بن يحيى عن الرضا (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أ كان في قلبه شك ؟ قال (عليه السلام): «لا، كان على يقين و لكنّه أراد من اللّه الزيادة في يقينه».

أقول: روي قريب منه في الكافي و تفسير العياشي و بناء على هذا الحديث يكون الاستفهام بالنسبة إلى عين اليقين لا بالنسبة إلى أصل العلم و حق اليقين.

في تفسير القمي عن ابن أبي عمير عن أبي أيوب عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام): «أنّ إبراهيم نظر إلى جيفة على ساحل البحر تأكلها سباع البرّ و سباع البحر ثم يثب السباع بعضها على بعض فيأكل بعضها بعضا، فتعجب إبراهيم فقال: يا ربّ أرني كيف تحيي الموتى ؟ فقال اللّه تعالى أو لم تؤمن ؟ قال بلى و لكن ليطمئنّ قلبي قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهنّ جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا و اعلم أنّ اللّه عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه السلام) الطاووس و الديك و الحمام و الغراب فقال اللّه عزّ و جلّ : فصرهنّ إليك أي قطعهنّ ثم اخلط لحمهنّ ، و فرقهنّ على عشرة جبال، ثم خذ مناقيرهنّ و ادعهنّ يأتينك سعيا ففعل إبراهيم ذلك و فرقهنّ على عشرة جبال ثم دعاهنّ فقال: أجبنني بإذن اللّه فكانت تجتمع و تتألف لحم كلّ واحد و عظمه إلى رأسه، فطارت إلى إبراهيم (عليه السلام) فعند ذلك قال إبراهيم: إنّ اللّه عزيز حكيم».

أقول: صدر الحديث يبيّن الشبهة التي تعرض في جميع الأذهان و هي مشهورة ب (شبهة الآكل و المأكول) و لعلّ ألهم خليل الرحمن (عليه السلام) أن يستفهم جواب هذه الشبهة عن اللّه تعالى، و يرى الجواب عيانا ليبينه للناس و هذه عادة جميع الأنبياء في مقام الاحتجاج على الخلق.

ص: 343

و أما أفراد الطيور فقد اختلف في ذلك و سيأتي عن قريب.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «أنّ اللّه تعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) إنّي متخذ من عبادي خليلا إن سألني إحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم (عليه السلام) أنّه ذلك الخليل فقال: ربّ أرني كيف تحيي الموتى ؟ قال: أو لم تؤمن ؟ قال: بلى و لكن ليطمئنّ قلبي على الخلّة قال:

فخذ أربعة من الطّير فصرهنّ إليك ثم اجعل على كلّ جبل منهنّ جزءا ثم ادعهنّ يأتينك سعيا و اعلم أنّ اللّه عزيز حكيم. فأخذ إبراهيم (عليه السلام) نسرا و بطا و طاووسا و ديكا فقطعهنّ و خلطهنّ ثم جعل على كلّ جبل من الجبال التي حوله و كانت عشرة منهنّ جزءا - الحديث -».

أقول: هذا جواب حسن ذكره (عليه السلام) عما يخطر بالبال من الإشكال على قوله: لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي و لكن ذلك لا ينافي ما ذكرناه في معنى الاطمينان و هو الوصول إلى عين اليقين إذ لا فرق في الوصول إليه بين أن يكون بمقام الخلّة أو بمقامات أخرى.

و في العلل و العياشي و المجمع عن الصادق (عليه السلام): «أنّ الطيور كانت: الديك، و الحمامة، و الطاووس، و الغراب» و في رواية أخرى بدل الغراب «الهدهد»، و في ثالثة بدل الغراب «الوزة» و بدل الحمامة «الوزة».

أقول: الروايات في أسماء الطيور مختلفة، و لا إشكال فيها بناء على ما قلناه من أنّ المراد بالأربعة أربعة أنواع من الطيور، و في كلّ نوع أصناف مختلفة و أهمية المعاد و عظمته إنّما تظهر في ذلك و هو أبين لقدرة اللّه تعالى على الفصل و المعاد بعد تحقق الضم و الاتحاد.

و كذلك لا إشكال في هذا الاختلاف في أسماء الطيور لو أريد من الأربعة الطبايع الأربعة المختلفة كما مر.

ص: 344

بحث عرفاني

الآية الشريفة تدل على كمال الخلّة بين الرب الجليل و إبراهيم الخليل فإنّه قد ارتفع بينهما الستر و الحجاب و أزيل الغطاء و النقاب و انتفت المغايرة من البين. و ذلك لأنّ العبودية ظهرت بجميع آثارها على إبراهيم (عليه السلام) و قد وقعت جميع أفعال جوارحه في مرضاة اللّه تعالى و استولت العبودية المحضة على خطرات قلبه، و فدّى جميع شؤونه في حبّ اللّه عزّ و جلّ و محى تمام ما يتوهم فيه البعد و الافتراق، فشرقت على قلبه الأنوار القدسية فاتخذه اللّه خليلا و جعل الحبيب من نسله فصار الخليل يفتخر بالحبيب و الحبيب يفتخر بالخليل لما بينهما من الجامع القريب من شروق النور الأزلي على قلبهما و الوصول إلى مقام الوصال و الينبوع الذي لا يعقل فيه النفاد و بمدبر حكيم لا يتصور فيه التغيّر و الفساد فكان أن نال رتبة البقاء: «فإنّ آخر الفناء في اللّه تعالى أول البقاء به» و صدر منه العجائب و الغرائب لأنّه مستمد من مدد الغيب الذي لا حدّ له، فيكون إحياء الموتى على يديه أيسر شيء عليه بل تكون مقاليد الجنة و النار مطروحة لديه و مثله يطفي النيران و تناديه جهنم

«جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» هذا بعض مقامه فإنّ اللفظ قاصر عن بيان التمام.

و يمكن أن يستأنس من الآية الشريفة: أنّه لا بد للإنسان أن يزيل عنه الخصال المذمومة و يميتهنّ في نفسه حتّى يتمكن من إحياء الموتى لأنّ في كلّ

ص: 345

طير من تلك الطيور الأربعة خصلة مذمومة من العجب و الحرص و الكبر و الشهوة و نحوها.

و هي تدل على أنّ المؤانسة مع أولياء اللّه تعالى توجب الاعتدال في النفوس فيكون قوله تعالى: ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ كناية عن العلوّ المعنوي الحاصل بمجرد هذه الإضافة و تصير الأشياء مسخرة تحت أمره.

و بالجملة: إنّ كلّ ما يقال في المكالمة بين الخليلين لا يمكن أن يجعل لها تحديد بأيّ وجه من الوجوه.

و قال بعض المفسرين: إنّ مورد الإحياء خصوص قلب إبراهيم (عليه السلام) لأنّه وجد في قلبه محبة ولده فنزل قلبه منزلة الموتى فقال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ اَلْمَوْتى . و لكنّه مردود، لأنّه لا يساعده دليل من العقل و النقل بل هو مخالف لمقام إبراهيم الخليل إن لم يكن سوء أدب بالنسبة إليه.

نعم، حبّ ولده يرجع إلى حبّ اللّه تعالى كما هو شأن الأنبياء و المخلصين و ذلك لا يوجب إماتة القلب.

ص: 346

سورة البقرة الآية 261-274

مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ ي.......

اشارة

مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ

ص: 347

فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) الآيات الشريفة تبيّن ما يتعلّق بالإنفاق من فضله، و موضوعه، و مورده، و الغرض منه، و كيفيته، و بعض شروطه و آدابه، و هي أجمع آيات وردت في هذا الموضوع.

و قد حث اللّه تعالى الناس على الإنفاق في سبيل اللّه بضرب الأمثال و التحريض على الإخلاص فيه فضرب أولا المثل لزيادته و نموه و بيّن أنّه جلّت عظمته يضاعفه إلى سبعمائة أو أزيد كما في مثال السنبلة.

ثم نهى سبحانه و تعالى عن الإنفاق للرياء أو الإنفاق لغرض الأذية و المنّ فذكر أنّه لا ثمرة فيه و لا يوجب الزيادة و ضرب لذلك مثل الصفوان الذي عليه تراب فإذا أصابه المطر أزاله، كذلك الإنفاق إذا عقبه المنّ و الأذى فإنّهما يوجبان زوال الأثر منه و يحبطان عظيم أجره.

كما ضرب مثلا ثالثا لمن ينفق أمواله في سبيل مرضاة اللّه تعالى و اعتبره كالجنة التي تكون فوق مرتفع يصيبها المطر فإنّها تنمو و تزداد بهجة و سرورا.

ثم حث على الإنفاق في سبيل اللّه مرّة أخرى و ضرب لذلك مثلا يصوّر فيه الإنسان في غاية الحاجة و الإعواز.

ص: 348

و بيّن عزّ و جلّ أنّ الإنفاق يجب أن يكون من طيّب المال لا من خبيثه.

كما أمرنا بالابتعاد عن البخل فإنّه من وساوس الشيطان.

و ذكر أنّ مورد الإنفاق هو الفقراء المحصرون في سبيل اللّه تعالى و أنّ لهذا الإنفاق أجرا عظيما عنده تبارك و تعالى.

كما ذكر أنّ كلّ إنفاق و نذر إنّما يكون في علم اللّه تعالى فلا يضره الستر و الإخفاء و إنكار المنفق عليه و في ذلك تسلية للمنفقين مما يصيبهم في هذا الأمر من مثبطات توهن عزائمهم.

و بيّن أنّ زمان الإنفاق لا فرق فيه بين أن يكون في الليل و النهار سرّا أو علانية، و أرشدنا إلى أنّ الإنفاق في السرّ هو الخير للإنسان.

فالآيات الشريفة بمجموعها ترشد إلى أهم موضوع اجتماعي فيه الخير للفرد و المجتمع و يكون فيه التزكية للنفوس و اعتبر عزّ و جلّ أنّ ذلك من الحكمة التي هي الكمال الذي يهبه اللّه تعالى لمن يشاء من خلقه.

و ما ورد في الآية الشريفة هو الحد الفاصل بين ما يقال في هذا الأمر الاجتماعي المهم و بين غيره، و ظاهر الآيات المباركة أنّها نزلت دفعة واحدة فإنّ الغرض منها بيان ما يرتبط بالإنفاق كما عرفت.

و عقب الآيات السابقة التي كانت في إحياء الموتى بهذه الآيات للدلالة على أنّ للإحياء نحوا آخر يتضمن الحياة الاجتماعية و الفردية و حياة النوع.

ص: 349

التفسير

261 - قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

المثل: تبين أحد الشيئين بالآخر لما بينهما من المشابهة و المناسبة،

و في الحديث: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل» أي الأشبه بهم من حيث الشرف و علو المرتبة أو المنزلة.

و أصل الكلمة من المثول: و هو القيام،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من سرّه أن يمثل له الناس قياما فليتبوّأ مقعده من النار» أي يقومون له.

و الأمثال قديمة و معروفة عند العرب، و كلمات الفصحاء و الفلسفة العلمية و العملية مشحونة بالأمثال، و لها من الفوائد و الآثار الكبيرة في تنشيط الذهن و توضيح المراد و تأكيد المطلوب، و الترغيب، و التحريض، و الإنذار، و التخويف و التذكير ما هو معلوم في المحاورات، و قد كثر ضرب الأمثال في القرآن الكريم قال تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [الحشر - 21]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنّاسِ فِي هذَا اَلْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ مُبْطِلُونَ [الروم - 58].

و سبيل اللّه: كلّ ما فيه رضاء الرّحمن و أوجب كمال الإنسان و التباعد عن

ص: 350

الشيطان، و سبل اللّه كثيرة و متعددة و لا تنحصر في جهة خاصة و أمر خاص، و هو يجتمع مع كلّ أمر ما لم يكن نهي شرعي في البين فهو الكمال الفعلي الدائمي القابل للنمو و التعالي و فيه يقول عزّ و جلّ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ و هو روح العمل و السرّ في بقائه و دوامه بل هو شعاع من عالم الغيب على القلوب المنزّهة عن الشك و الريب، و هو الجذبة الروحانية التي تحيط بالعبد إذا تحققت الشرائط التي منها الوقوف عند الشريعة المقدّسة و العكوف على حدودها و العمل بأحكامها و هو الذي إذا حصل جعل العمل مباركا و إذا فقد كان العمل فاسدا و السّعي ضلالا و التجارة خاسرة خسرانا مبينا.

و المعنى: إنّ المثل الذي يضرب لمن ينفق في سبيل اللّه في جزائهم المضاعف يكون كما ذكره تعالى.

قوله تعالى: كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ .

الحبة - بالفتح - واحدة الحب اسم جنس لكلّ ما يقتاته الإنسان و الطّير و غيرهما من الحنطة و الشعير و نحوهما من المطعومات و بزور الرياحين قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى [الأنعام - 95].

و الحبة - بكسر الحاء - بذور البقول مما لا يكون قوتا و في الحديث:

«فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» و هو ما يحمله من الغثاء و الطين.

و السنابل جمع سنبلة على وزن فنعلة: و هي ما علا الزرع من الحب أي: مثل الذي ينفق في سبيل اللّه في الجزاء المضاعف الكبير كمثل تلك الحبة التي زرعت في أرض خصبة فأنبتت سبع سنابل في كلّ سنبلة مائة حبة و قد أسند الفعل (أنبتت) إلى بعض الأسباب.

و الممثل به من الأمور المتحققة في الخارج و إن كان قليلا و ليس هو فرضا موهوما كما يدعيه بعض المفسرين.

و إنّما أتى سبحانه و تعالى بجمع الكثرة في «سبع سنابل» مع أنّ القاعدة تقتضي الإتيان بجمع القلّة في التمييز. كما في قوله تعالى: وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ [يوسف - 43]، لبيان إثبات الكثرة في كلّ ما يمكن أن يتوهم في

ص: 351

المقام فأتى بالعدد ثم بالجمع ثم بالكثرة ثم بالضعف.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أي: و اللّه يزيد زيادة كثيرة لا حدّ لها لمن يشاء من خلقه كما في قوله تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [البقرة - 245].

و المضاعفة أعم من أن تكون في الكمية أو الكيفية أو هما معا مثل ما أنفقه المنفق أو من غير مثله، و تختلف اختلافا كثيرا بحسب الأفراد و الخصوصيات.

و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه المضاعفة محدودة بسبعمائة. و هو مردود لأنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة و تحديد في جوده و كرمه، و إنّما يضاعف بحسب درجات الإخلاص في العمل و الإقبال على الخير فإنّه الجواد الذي لا نهاية لجوده، و الغني المطلق الذي لا ينقصه البذل و العطاء كما قال تعالى:

لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ اَلْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ اَلَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الحديد - 10]، و قد يضاعف الجزاء بغير حساب قال تبارك و تعالى: وَ اَللّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ [البقرة - 212].

و يصح أن يراد بالعدد - أي السبعمائة - أنّه مقتضى لطف اللّه تعالى و عنايته على نحو الاقتضاء لو لم تكن موانع تمنع عن البركات و توجب النقص و الحرمان.

و لم يبيّن سبحانه و تعالى صفة من يضاعف له في هذه الآية الشريفة و إنّما ذكرها على الإجمال في آية أخرى، قال عزّ و جلّ : وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [الأعراف - 96]، مع أنّ ذلك من أسرار القضاء و القدر التي لا يحيط بها غيره، كما أنّه لم يقيّد عزّ و جلّ الجزاء بالدنيا أو الآخرة فهو يشملهما، و هذا هو مقتضى سعة رحمته وجوده أيضا، فإنّه يقبل اليسير و يعفو عن الكثير.

ص: 352

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

الواسع بالنسبة إليه تعالى يراد به عدم الحد لقدرته، و علمه، و رحمته، وجوده، و غيرها من الصّفات العليا.

أي: إنّ اللّه تعالى واسع في رحمته وجوده و جزائه لا يحده شيء و لا يغلبه أمر، عليم بالأعمال و النيات و من يستحق الجزاء الأوفى.

262 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

تقدم الكلام في ذلك، و مقتضى الإطلاق شمول الإنفاق لكل أعمال الخير، فلا يختص بخصوص مورد معيّن، و سبيل اللّه عام يشمل كل سبل الخير الموصلة إلى مرضاته كما عرفت، فتتصف جميع الأفعال المباحة إذا أضيفت إليه تعالى بكونها من سبيل اللّه تعالى لأنّ سبيله كرحمته لا حدّ لكلّ واحد منهما بلا فرق بين أن تكون مع العوض أو بدونه فالاتجار بالمال إذا كان بقصد أن يعود به على نفسه أو أهله و أراد به وجه اللّه تعالى فهو من سبيل اللّه، و كذا التزويج إذا كان بقصد رضاء اللّه فهو من سبيله عزّ و جل، فهو يجتمع مع كلّ شيء إذا لم يكن منهيّا عنه شرعا،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «و لتكن لك في كلّ شيء نية» أي نية القربة للّه تعالى.

و الإنفاق في سبيل اللّه و ابتغاء مرضاته هو السبب التام في نموّ العمل و زيادة الأجر و الثواب فلو لم يكن الإنفاق في سبيل اللّه و لم يقصد به وجه اللّه و كان لغرض خاص و لو كان نبيلا فإنّما يكون شخصيّا عائدا إلى شخص المنفق و لم يتعدّاه و ربما يستلزم آثارا جانبية تؤثر على المنفق و المنفق عليه أو المجتمع فيكون وبالا عليه.

و المال كلّ ما تميل إليه النفس، فيشمل إنفاق الأعيان و المنافع بل الانتفاعات.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً .

الإتباع: اللحوق و الإلحاق. و المنّ ، و المنّة: بمعنى النعمة الثقيلة

ص: 353

العظيمة و عظم النعمة و ثقلها تارة: تكونان بحسب الذات و أخرى بالقول كأن يقول لمن أعطاه ألم أعطك أو تثقيل النعمة و تعظيمها و إكبارها و ثالثة: بالفعل كأن يتطاول المعطي على من أعطاه.

و الأولى: إذا كانت النعمة ممن اتصف بالجود و العظمة و الكبرياء حسن و هي من صفات اللّه تعالى و من أسمائه الحسنى المقدّسة «المنان» و قد وردت مشتقات هذه المادة في القرآن الكريم في موارد كثيرة، و لعلّ من أعذبها و أعظمها قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ [القصص - 5]، و قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ [آل عمران - 164].

و الثانية و الثالثة: مذمومتان و هما من مساوئ الأخلاق، و في الدعوات المأثورة عن الأئمة الهداة (عليهم السلام) الاستعاذة باللّه العظيم من المنّ على الغير،

ففي الصحيفة الملكوتية السجادية «و أجر للناس عليّ الخير و لا تمحقه بالمن».

و الأصل في معناه: القطع كأنّ المعطي بالمنّ يقطع الصلة بينه و بين عمله و يمحقه.

و الأذى: كلّ ما يصيب الإنسان من ضرر و مكروه سواء كان جسمانيا أو معنويا، و لهذا اللفظ استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و المعنى: الذين ينفقون أموالهم و يبذلونها يقصدون بذلك وجه اللّه و يطلبون مرضاته و لا يلحقون إنفاقهم المنّ على من أحسنوا و لا يتبعونه الأذى بهم لهم عند ربّهم الأجر الجزيل.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ شرط ترتب الثواب أمور ثلاثة: قصد وجه اللّه تعالى، و كونه في سبيله عزّ و جلّ ، و ترك المنّ و الأذى.

و إنّما كرر «لا» في الآية المباركة لبيان أنّ كلّ واحد من الأمرين منهيّ

ص: 354

عنه و يوجب الإحباط و عدم استحقاق الأجر الجزيل، و يدل عليه قوله تعالى:

لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى [البقرة - 264].

و إنّما عبّر عزّ و جلّ ب «ثم» للدلالة على أنّ الإنفاق الذي غلب فيه مرضاة اللّه تعالى إذا تعقبه المنّ أو الأذى أوجب حبطه فكيف إذا كان الإنفاق متصفا بأحدهما أو كليهما حين صدوره فإنّه لا يكون في سبيل اللّه، و لا يدخل المنفق فيمن أنفق أمواله في سبيل اللّه و لم يسلك في زمرة السالكين في مرضاة اللّه تعالى و لا يعتد به و بإنفاقه.

و الآية الشريفة ترشدنا إلى خلق كريم من مكارم الأخلاق التي أمرنا بالاتصاف بها، و في هذه الخصلة الحميدة تجتمع مصلحة النوع و مصلحة الفرد، و بمراعاته يتحقق التآلف بين أفراد الناس الغني و الفقير على حدّ سواء و هو يكشف عن حسن نية المنفق و عطفه و رأفته على الغبر و لم يطلب من إنفاقه سوى رضاء اللّه تعالى فلا يتفاضل الغنيّ على الفقير، بل يكون قبول الفقير لما أنفق عليه موجبا لدخول السرور على المنفق لأنّه أوجب دخوله في رضوان اللّه تعالى، و يشكر الفقير الغنيّ لأنّه الواسطة في فيض اللّه تعالى، و كذا كلّ إعانة تصدر من كلّ معين إلى المحتاج المستعين، فهو خلق كريم من ذوي النفوس القدسية و الهمم الرفيعة الأبية.

قوله تعالى: لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

الخوف: توقع الضرر و هو قابل للشدة و الضعف و غالبه يرجع إلى الاعتقاد، و هو قد يحصل عن مباد حقيقية كالخوف من عقاب اللّه تعالى و عظمته و قهاريته، و قد يكون عن مباد ظنية خيالية.

و الحزن - بسكون الوسط، أو بفتحتين - غمّ يحصل للنفس، و هو أيضا قابل للشدة و الضعف و له مباد واقعية و ظنية.

و الآية تبيّن أنّ الجزاء المضاعف للمتقين محفوظ عند اللّه تعالى، فيفيد الترغيب على الإنفاق، و يكون أهنأ للنفوس، و إنّما أضافهم إلى ربّهم تشريفا

ص: 355

لهم و إعلاء لشأنهم و تعظيما لعملهم.

و المعنى: الذين يبذلون أموالهم في سبيل اللّه و يبتغون مرضاته و لا يتبعون إنفاقهم بالمنّ و لا بالأذى فإنّ لهم أجرهم الكبير محفوظا عند ربّهم و لا يصيبه الفناء و الزّوال و لا يصيبهم خوف عن أهوال القيامة و لا حزن عما يكون في المحشر.

و الآية الشريفة تبيّن حكما فطريا و هو أنّ الارتباط مع من لا نهاية لعظمته في الجمال و الجلال يوجب استكمال من يرتبط به فإنّ المضاف ربما يكتسب الشرف، و هذه الإضافة هي إضافة الإنفاق في سبيل اللّه تعالى الحاضر لدى المنفق و لا ريب في أنّ العبد يصل بها إلى أعلى درجات يمكن أن يصل إليه الممكن إن خلصت الإضافة عن المادة و اشتدت بالنسبة إلى اللّه تعالى.

263 - قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً .

المعروف اسم لكلّ ما يعترف العقل أو الشرع بحسنه فعلا كان أو قولا بخلاف المنكر، و المراد به في المقام الرد الجميل المستحسن.

و مادة (غفر) تأتي بمعنى الصّون عن الدنس، و بمعنى العفو عن العذاب، و المغفرة و الغفران مصدران أي: إنّ الرد الجميل بالقول و المجاملة مع السائل و الفقير بما لا يوجب كسر قلبه إذا لم يقترن سؤاله بما يسيء الأدب مع المسؤول عنه، و العفو و الإغماض عما يقترن بالسؤال أو الحال بما هو خلاف الواقع أو الإلحاح في السؤال بما لا ينبغي الإلحاح فيه لغير اللّه جلّ جلاله، أو الحلف بالمقدّسات الدينية في شيء يسير من الدنيا الدنية أو الإساءة في السؤال أو زمانه أو مكانه، أو الإزعاج و نحو ذلك مما يكبر على النفوس، فإنّ الرد كذلك من غير عطاء خير عند اللّه تعالى من صدقة يتبعها أذى.

و من مقابلة الأذية للقول المعروف و المغفرة يعرف أنّها سوء المقال أو سوء المقابلة.

ص: 356

و الآية الشريفة باختصارها تبيّن جملة من مكارم الأخلاق الاجتماعية و ترشد الإنسان إلى ما هو الخير له في أفعاله و أقواله دون ما يعتقده خيرا مهما عظم في عينه و هو في الواقع ليس بخير، و تبيّن قبح المنة على الخلق و التأكيد على الابتعاد عن هذه الرذيلة فإنّ آثار السيئات و مفاسد الأخلاق تبقى و لا تفنى حتّى تظهر في هذه الدنيا، و تنقلب من العرض إلى الجوهر في العقبى، و في بعض الأحاديث إنّها تظهر في النسل و لو بعد سبعين بطنا، و كذا آثار الحسنات، و ذلك من مكنون علم اللّه جلّ جلاله الذي لا يحيط به غيره، فكم من ذرية سادت بفعل الآباء و كم منها ذلت بطغيان الآباء و لا معنى للربوبية العظمى إلا هذا، و يرشد إلى ذلك القاعدة المعروفة «كما تدين تدان» التي قرّرتها الشريعة.

و بالجملة إنّ هذه الآية ترشدنا إلى أهم الأحكام الاجتماعية التي لوحظ فيها المصلحة الفردية و المصلحة العامة فإنّ قول المعروف و المغفرة من الآداب العامة التي تبتهج بها النفوس و تميل إليها القلوب و تحث على العمل و تبعث العزيمة على البذل و توجب نمو الإنفاق و الزيادة، و هذا معنى الخيرية فيهما دون الأذى فإنّه من موانع القبول و من مثبطات العمل و موهنات العزائم تجلب البغضاء بين الأفراد.

و قد وردت في القول المعروف الذي يرد به السائل و المغفرة عن إسائته روايات كثيرة منها ما

عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا سأل السائل فلا تقطعوا عليه مسألته حتى يفرغ منها ثم ردوا عليه بوقار و لين إما ببذل يسير، أو رد جميل فقد يأتيكم من ليس بإنس و لا جان ينظرون كيف صنيعكم فيما خوّلكم اللّه تعالى» و يدل على صحة ما ورد في هذه الآية الشريفة قصص و حكايات تكفي واحدة منها للعبرة و الاعتبار لمن كان من ذوي البصيرة و الرشاد و نعم ما قيل:

لا تهيننّ الفقير علّك أن *** تركع يوما و الدهر قد رفعه

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ .

الغني و الحليم من الأسماء الحسنى للّه جلّ جلاله، و كلّ منهما من

ص: 357

أسماء الذات الحقيقية.

و الأول: عام بالنسبة إلى جميع جهات الكمال فلا يختص بشيء و يمكن إرجاعه إلى نفي الإمكان

و في بعض الدعوات المأثورة «يا من يستغني من كلّ شيء و لا يغني عنه شيء» فهو تعالى غنيّ ملكا و علما و قدرة و حكمة و تدبيرا إلى غير ذلك من صفات الجلال و الجمال.

و أصل الحلم: ضبط النفس عن هيجان الغصب و يطلق على غير اللّه تعالى قال جلّت عظمته: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوّاهٌ حَلِيمٌ [التوبة - 114].

و إذا اطلق عليه تعالى يراد عدم التعجيل في عقوبة العصاة، لأنّه لا يستخفّه شيء من عصيان العباد و لا يستفزّه الغضب عليهم.

و في تعقيب الآية الشريفة بهذين الاسمين الشريفين للدلالة على أنّه غنيّ بالذات - و ما سواه يرجع إليه و لا يعظم عليه ما أنعم على عباده - فلا يطلب صدقة يتبعها أذىّ لعباد اللّه أو أنّ جزاء الصدقة يرجع إليهم فإنّه مع غناه يستقرض من عباده الصدقة لأجل مصالحهم و تطهير نفوسهم يغني من يشاء من عباده فهو الجواد و لا يبخل عن شيء حليم لا يعجل في عقوبة المسيء إليه، ففيها دلالة على لزوم التخلق بأخلاقه سبحانه و تعالى في إعطاء الصدقة.

و في الآية الشريفة تسلية للفقراء عما يكابدون من الفقر، و إرشاد للأغنياء إلى نبذ الانتقام و التحلّي بالعفو و المغفرة.

264 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى .

أي: لا تحبطوا صدقاتكم بالمنّ و الأذى فإنّ رذيلة المنّ و الأذى و مفسدتهما تذهبان فضيلة الإنفاق و تهدمان الغاية الشريفة منه.

و في الآية التأكيد على الابتعاد عن هاتين الرذيلتين، و المبالغة في التنفير عنهما و الحث على تركهما.

ص: 358

قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ .

أي: إنّ المتصدق الذي يتبع صدقته بالمنّ و الأذى كالمرائي الذي تكون أعماله باطلة.

و الرثاء و الرياء و المراءاة بمعنى واحد و هو العمل لأجل إراءة الغير مباهيا به فيكون عمل المرائي و عمل ذي المنّ و الأذى مشتركين في عدم القبول و عدم الصحة، و إنّما الفرق بينهما أنّ عمل المانّ و المؤذي يقع صحيحا ثم يعرض عليه البطلان بخلاف عمل المرائي فإنّه باطل من حينه.

قوله تعالى: وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

أي: إنّ المرائي إنّما يعمل لأجل أن يراه الناس و لا يعمل ابتغاء مرضاة اللّه و رجاء ثوابه و الخشية من عقابه.

و يستفاد من هذه الآية المباركة: أنّ الرياء في العمل يستلزم عدم الإيمان بالذي يدعو إلى العمل لليوم الآخر الذي يتجلّى فيه جزاء الأعمال، و من حيث عدم كون المرائي مؤمنا لم يعلّق النهي في الآية على الرياء كما علّق النهي على المنّ و الأذى باعتبار كون الخطاب للمؤمنين و المرائي غير مؤمن

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا اللّه في الرياء فإنّه الشرك باللّه، إنّ المرائي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر حبط عملك و بطل أجرك فلا خلاص لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له».

قوله تعالى: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً .

المثل مضروب للمرائي الذي ينفق ماله رئاء الناس. و الصفوان (و الصّفا): الحجر الأملس و جمعه صفيّ و قيل: إنّه جمع واحده صفوانة كسعدان و سعدانة، و مرجان و مرجانة.

و الوابل: المطر الشديد، و الصّلد: الحجر الذي لا ينبت فيه شيء لصلابته.

ص: 359

و المعنى: إنّ مثل المرائي في إنفاقه المنافق في عمله مثل ذلك الحجر الصلب الذي عليه التراب فإذا أصابه المطر الغزير أزال عنه ذلك التراب و جعله أملس ليس عليه شيء، فتكون حقيقة المرائي كالحجر الصّلد الذي لا ينفعه كلّ ما هو سبب للحياة من المطر و التراب كذلك المرائي لا تنفعه الأعمال الصالحة و الطاعات التي يتقرّب بها إلى اللّه تعالى و تجلب السعادة له فيكون بفعله قد سلب الاستعداد عن نفسه، و الا فإنّ الإنفاق في سبيل اللّه من الأسباب التي تجلب السعادة في الدارين و لكنّه رائى في فعله فسلب القابلية عن فعله.

و حقيقة هذا المثل إنّما هي شرح ما تكون عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى هي دار كون و فساد، و تبدّل و انقضاء و انصرام، و برق خاطف يبرق ثم يذهب، لذتها حليف الألم، و فرحها أليف الحزن و السقم، بخلاف الثانية فإنّها دائمة بدوام الحيّ القيوم نعيمها لا يفنى و بركاتها لا تتناهى، و الإنسان مخيّر بينهما فإن اختار الدنيا فبئس الحليف و إن اختار الآخرة فنعم القرار و نعم المعين، و لو دل مخلوق مخلوقا آخر على مثل ما أرشدنا اللّه جلّ جلاله من كشف الحقائق و بيان الدقائق لاستحق التعظيم و التجليل، فكيف بما إذا أرشدنا اللّه تعالى إليه العالم بحقائق الأشياء و الخالق للسّموات و الأرض و ما فيهما.

قوله تعالى: لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا .

الضمير في لا يقدرون راجع إلى من ينفق ماله رئاء الناس، لأنّه في معنى الجمع و الجملة بيان لوجه الشّبه بين المشبّه و المشبّه به أي لا ينتفعون بشيء من صدقاتهم لا في الدنيا و لا في الآخرة فلا يقدرون على شيء من أعيان أموالهم التي أنفقوها و لا على شيء من الأجر و الثواب فقد أبطلوا أعمالهم بالرياء فذهبت الأعيان و بقيت الحسرات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ .

الآية الشريفة في موضع التعليل: أي: إنّ المرائي كافر، و اللّه لا يهدي

ص: 360

القوم الكافرين.

و من الآية المباركة يستفاد أنّ شرط قبول العمل هو الإخلاص فيه للّه تعالى. و أنّ الرياء من الموبقات التي تهدم الأعمال و تجلب الشقاء و تزيل الآثار.

265 - قوله تعالى: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ .

الإنفاق: العطاء. و ابتغاء منصوب على المصدر، و تثبيتا عطف عليه، و الجار و المجرور مفعول لتثبيت.

و قيل: إنّ «من» نشوية، و أنفسهم في معنى الفاعل و (ما) في معنى المفعول مقدّر و تثبيتا منصوب على التمييز و هناك وجوه أخرى في إعراب هذه الجملة مذكورة في محالّها.

و مرضاة مصدر من رضى يرضى، و ابتغاء مرضاة اللّه أي: طلب ما فيه رضاء اللّه تعالى، و إنّ رضاه ثوابه و سخطه عقابه،

و في الدعاء المأثور: «أللهم إنّي أعوذ برضاك من سخطك، و بمعافاتك من عقوبتك، و أعوذ بك منك، لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» و الرضاء و السخط من صفات الفعل لا من صفات الذات إلا إذا رجعا إلى علمه.

و تثبيتا من أنفسهم أي: بقوة اليقين و اطمينان القلب بأنّهم يجدون ضعف ما أنفقوا و يمكنون أنفسهم من طاعة اللّه تعالى.

و المعنى: إنّ الذين يبذلون أموالهم يطلبون بذلك مرضاة اللّه تعالى بجدّ و اهتمام من دون تقصير منهم فيه و يحصل ذلك بعزيمة ثابتة في أنفسهم من دون أن يعترضهم و هن و لا يتخلّل غير مرضاته تعالى في البين بوجه من الوجوه لا منّا و لا أذى و لا رياء و نحو ذلك من الخطرات القلبية و الحركات الخارجية التي تنافي الخلوص. و إنّ غاية مراتب الخلوص و الإخلاص هي أن لا يكون شيء سوى مرضاة اللّه، لأنّ مرضاته غير محدودة بحدّ خاص إلا بالأمر العدمي أي عدم إذنه فيه.

ص: 361

قوله تعالى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ .

الجنة: البستان الكثير الشجر، لأنّها تجنّه أي: تستره، و الربوة - مثلّث الفاء -: المحلّ المرتفع، و الطلّ : صغار المطر، و الأكل - بالضم - جمع أكلة: ما يؤكل من الشيء.

و إنّما شبّه سبحانه و تعالى بالجنة التي فوق الأرض المرتفعة لأنّها أزكى ثمارا و أعظم نماء و أنقى هواء و أبهج منظرا و أبعد عمّا يضر بالأشجار من المياه العفنة و فساد المستنقعات، فإذا أصاب هذه الجنة المطر الغزير كانت أسرع نموّا، و أحسن تنمية و أكثر ثمرا مثلا ما تكون في سائر الجنان و أجودها، و كذا لو أصابها مطر ضعيف فإنّ الأثر فيها كذلك لكرم منبتها وجودة مغرسها، و حسن موقعها.

و الغرض من المثل بيان أنّ الأثر يترتب على الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى من دون أن يتخلّف كمثل الجنة التي فوق الأرض المرتفعة إذا أصابها المطر فإنّه يجنى ثمارها بأحسن وجه كذلك الإنفاق في مرضاة اللّه تعالى فإنّ آثاره حسنة لاتصاله باللّه تعالى فتشمل عنايته له و قبوله عزّ و جل له بأحسن قبول و خيره دائم و بره أبدي لا يزول و إن كان مختلفا باختلاف مراتب الخلوص و الإخلاص، و لكن أصل الإنفاق محبوب لديه لكونه في مرضاة اللّه تعالى و خلوصه عما يشينه و يفسده.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

أي: و اللّه يعلم نيات عباده و مراتب إنفاقهم بصير بأفعالهم فهو يجازي كلّ فرد حسب مراتب الخلوص و الإخلاص لا يشتبه عليه أمرهم، و فيه تأكيد على اختلاف مراتب الثواب تبعا لاختلاف مراتب النيات، و تحذير للمنفقين من الرياء و النوايا الباطلة فإنّ اللّه بها عليم.

و في هذه الآية الشريفة كمال الاهتمام بأمر الإنفاق و شدة العطف بالمنفقين، تبتهج إليها النفوس، و تشعر بالطمأنينة و الراحة حين الإنفاق

ص: 362

الصحيح الذي ينبغي اتباعه في هذا الأمر العظيم الذي قلّما يخلو من شوائب المادة و الأوهام الفاسدة.

266 - قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ .

هذا مثل آخر ضربه اللّه تعالى لمن ينفق ثم يتبعه بما يفسده و يحبطه.

و الآية الشريفة تمثل حقيقة الأعمال و النيات بكلمات يتلألأ منها النور كأشعة الشمس في ظلماء الديجور تبتهج لها القلوب الواعية و تلتذ منها الآذان السامعة ترشد الإنسان إلى الحقيقة و الواقع و تهديه إلى ما هو الأرشد و الأصلح، و تبيّن تأثير الأفاعيل المفسدة و النيات الباطلة في النفوس و الأعمال، و تحثه على التفكر و التمييز بين النافع و الضار.

و الود: المحبة، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و الودود من أسماء اللّه الحسنى، فإنّه الغفور الودود، و يصح إضافته إلى اللّه تعالى و إلى خلقه.

و الاستفهام لإنكار وقوع ود الإنسان لما ذكر في الآية الشريفة و كيف يود ذلك ؟!!.

و النخيل جمع نخل أو اسم جمع يذكر و يؤنث و هو شجر التمر و الأعناب جمع عنب و هو ثمر الكرم، و إنّما خصّهما بالذكر لجمال منظرهما و كثرة نفعهما و «من» تكون بيانية، تبيّن أنّ الغالب في الجنة هو النّخل و الكرم و فيها أيضا من كلّ الثمرات.

و قوله تعالى: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ كناية عن وفور المياه و كثرة الأشجار و التفاف أغصانها بحيث تكون الجنة ذات بهجة و سرور دائمة السقي و النضارة و الأثمار.

و الكبر هو الشيخوخة، و الذرية الأولاد، و الضعفاء جمع الضعيف و الإعصار ريح شديدة تنبعث من الأرض نحو السّماء عموديا تسمّيه العامة (الزوبعة).

ص: 363

و المثل يبيّن شدة الاحتياج و غاية الانقطاع، و منتهى الأمل و الرجاء فإنّ الإنسان إذا كبر و شاخ احتاج إلى غيره في رفع نوائبه و قضاء حوائجه و ليس له غير تلك الجنة التي قد عقد عليها آماله و يرتجى منها كلّ شيء و له من الذرية الضعفاء الذين لا يقدرون على العمل و لا يستطيعون الكسب و القيام بأيّ شأن من الشؤون فهم عالة عليه ففي مثل هذه الحالة يأتي على جنته الإعصار فيحرقها و يبدد آماله و ينقطع رجاؤه فلا يقدر هو و ذريته على شيء.

و قد جمع سبحانه في هذه الآية الشريفة جميع ما يوجب الانقطاع و الحاجة، و انعدام المعين و الناصر، و الأمل الكبير، فلو كان صاحب الجنّة شابا أو شيخا وحيدا ليس له ذرية أو كان معه ذرية أقوياء يمكنهم القيام بشؤونهم لما أفاد ذلك تلك الصورة التي تحصل من الآية الشريفة.

و وجه التمثيل أنّ الذي ينفق أمواله يعقد عليه آماله في الحصول على ما يترتب عليه من الآثار في الدنيا و الآخرة فإذا عقّب إنفاقه المنّ أو الأذى أو سائر ما يوجب حبطه فإنّها تحرقه و يذهب هدرا لا يجني منه شيئا مع شدة احتياجه إلى ثمراته.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمُ اَلْآياتِ .

أي: كذلك يرشدنا اللّه تعالى إلى كشف الحقائق و بيان الدقائق.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ .

رجى منهم التفكر في حالهم لأنّ الإنسان قرين الشهوات و الأوهام لا تدع فيه مجالا للتفكر و الرجوع إلى الرشد فلا بد من تثبيت النفس و العزيمة عند العمل و الإخلاص للّه تعالى.

و هذه الآية المباركة تبيّن حقيقة ما عليه الدنيا و الآخرة فإنّ الأولى تكون زائلة فانية يعتريها الفساد و التبدل و الانقضاء و الانصراف فهي كبرق خاطف أليف الهم و الغم بخلاف الثانية فإنّها دار أنس و مقام لا يفنى نعيمها و لا تنعدم

ص: 364

بركاتها و لا بد من التأمل و التفكر فيما يؤول إليه الإنسان و التبصر في الأمور، و الاعتبار من الدنيا و ما فيها ليفوز بالسعادة في الدارين.

267 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ .

الآية المباركة تبيّن نوع المال المنفق به و أوصافه فاعتبر سبحانه أن يكون من الطيبات التي يرغب إليها الناس و تستلذها النفس لا أن يكون من الخبيث الذي يتنفر منه الطبع و يستكرهه الإنسان، و هذا و إن كان وصفا للمال في المقام و لكنّ الآية تربط ذلك بالجانب الأخلاقي فتجعله من مكارم الأخلاق، و هذا هو دأب القرآن الكريم إذا أراد التأكيد على أمر و الاهتمام به و تهذيب النفس و ترويضها على التحلّي بمكارم الأخلاق، فإنّ الإنفاق من الطيّب أمر مرغوب فيه عند العقل و العقلاء و الآية الشريفة ترشد إلى هذا الأمر العقلي، و يجهد كلّ فرد في تحصيل الطيبات و الاحتفاظ بها و اللّه تعالى أمرنا بالإنفاق من هذه الطيبات دفعا لرذيلة الشح الكامن في النفس الإنسانية و الاجتناب عن اللؤم و الخساسة و هو الكمال الذي يطلبه الإنسان في جهده و عمله.

و من هنا يظهر الجانب الأخلاقي في هذا الحكم الإلهي.

و الطيّب معروف و هو يعرف تارة: بالمعنى الثبوتي أي ما تستلذه النفس و الحواس، و أخرى: بالمعنى العدمي أي ما ليست فيه منقصة أو غير الرديء، و له مراتب كثيرة تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، كما أنّ له استعمالات متعدّدة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و يستعمل في الجواهر و الأعراض و الذوات، و لكن لم أجد - في ما تفحصت عاجلا - إطلاق لفظ الطيّب على اللّه جلّ جلاله، و لعلّ الوجه في ذلك استعماله في الجسمانيات، و هو تعالى منزه عنها.

و ما كسبتم أي: ما حصل لكم من الأموال بسبب التجارة و غيرها و ما أخرجه اللّه تعالى من الأرض من النبات و المعادن و نحوهما.

قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ .

التيمم: هو القصد إلى الشيء و عمده و لم يستعمل لفظ التيمم في

ص: 365

القرآن الكريم إلا في ثلاثة موارد أحدها المقام، و الآخران في الطهور بالصّعيد قال تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً [المائدة - 6].

و مادة خبث تأتي بمعنى الرديء المنفور، و الخبيث مقابل الطيّب و هو يعم الجواهر و الأعراض و الذوات قال تعالى: وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ [إبراهيم - 26]، فيستعمل في الاعتقاد أيضا قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران - 179]، و في الدعوات المأثورة «أعوذ باللّه من الخبيث المخبث الشيطان الرجيم» فالمادتان في الخبيث و الطيّب متقابلتان في جميع المراحل و الصور و العوالم، و في أية نشأة وجدتا، و يرجع ذلك إما إلى اختلاف الذوات أو إلى تقدير العزيز العليم، لكن على نحو الاقتضاء لا العلية التامة كما ذكرنا مرارا.

و المعنى: لا تقصدوا الرديء المنفور مما كسبتم و مما أخرجنا لكم من الأرض فتخصّوه بالإنفاق و تعرضوا عن الطيّب.

قوله تعالى: وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ .

الواو للحال، و الجملة حال عن فاعل تنفقون، و العامل فيه الفعل، و أن في موضع النصب.

و الآية المباركة ترجع الموضوع إلى وجدان المنفقين لتوضيح الأمر و رفع المغالطة في مصاديق الخبيث و لتثبيت الحكم و التحريض على ترك ذلك و التوبيخ لمن يفعله.

و مادة (غمض) تأتي بمعنى وضع أحد الجفنين على الآخر، و تستعمل في التغافل و التساهل أيضا

و في الحديث: «أصبت مالا و أغمضت في مطالبه» أي: تساهلت في حلاله و حرامه - كما هو عادة أهل هذا الزمان - و لم تستعمل هذه المادة في القرآن العظيم الا في هذه الموارد.

ص: 366

و المعنى: إنّكم لا تأخذون الخبيث و لا ترضون به لأنفسكم الا أن تتغافلوا عن خبثه و تتساهلوا في رداءته و هذا ليس من الأخلاق الكريمة و الإنسان بإعطائه لا يتصف بالجود و السخاء كما أنّه ليس كمالا أن يأخذ الشيء الرديء فإنّه ليس من المعروف المحبب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ .

أي: و اللّه غنيّ منزه عن النقائص محمود على أفعاله و آلائه فلا ينبغي أن تتقربوا إليه بالخبيث.

و في الآية المباركة تحذير عن أن يدنس ما يراد به وجه اللّه جلّ جلاله بالمعايب الظاهرية و النقائص الواقعية. و يقصد به ما يتنزل عن مقام الأحدية المطلقة، فكما أنّ الذات المقدّسة و أفعاله المباركة منزهتان عن شائبة النقص و الشرك لا بد أن يكون ما يقصد به وجهه الأقدس كذلك أيضا، فينبغي مراقبة النفس و الأفعال حينئذ.

268 - قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ .

الفقر: الحاجة و لكنّه يستعمل على أقسام.

الأول - الحاجة الضرورية الفعلية، و هي عامة لجميع الموجودات الممكنة لأنّ كلّ ممكن محتاج و كلّ محتاج ممكن قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [فاطر - 15]، و قال تعالى في وصف الأنبياء: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ [الأنبياء - 8].

الثاني: عدم المقتنيات و هو المراد بقوله تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ [التوبة - 60]، و غيره من الآيات.

الثالث: فقر النفس الذي أشار إليه

نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) في قوله: «كاد الفقر أن يكون كفرا» و هو في مقابل غناء النفس الذي هو من أجلّ الصّفات و أكملها.

الرابع: الفقر إلى اللّه تعالى و هو أرفع المقامات و أعلى الدّرجات فعن

ص: 367

سيد الأنبياء في كلمته المباركة التي جمعت فيها أبواب من المعارف

«اللهم اغنني بالافتقار إليك و لا تفقرني بالاستغناء عنك و يعجبني فقري إليك و لم يكن ليعجبني لو لا محبتك الفقر».

و الفقر الذي يعد به الشيطان: هو فقر النفس فيكون الفقر في الدنيا و للدنيا و هو من أقبح الذمائم و مصدر كلّ فحشاء و سوء.

و الفحشاء صفة كالسوداء و الحمراء، و الفحش و الفواحش و الفاحشة ما عظم قبحه من الأفعال و الأقوال، و لم يرد لفظ الفحش في القرآن الكريم، و لعلّه لأجل عظمة قبح هذه المادة لم يبق لها مفردا بذاته بل الفرد الواحد يشتمل على أنحاء من القبح من إيذائه الغير و بذاءة اللسان و قباحة الألفاظ و البيان فيشتمل كلّ فحش على فواحش لا محالة.

و الآية الشريفة تبيّن أهمّ المثبطات للإنفاق في سبيل اللّه تعالى و أكبر الموانع في وجه الخلوص و الإخلاص فيه، و تقيم الحجة على ما ذكر في الآية السابقة فإنّ اختيار الخبيث للإنفاق من تسويلات الشيطان و وساوسه و هو بإغوائه يحرم الإنسان من الفضل العظيم الذي يكون في إنفاق الطيبات.

كما أنّها ترشد الناس إلى حقيقة من الحقائق القرآنية و هي أنّ كلّ ما يوهن عزيمة الإنسان من الأوهام و التخيلات و الوساوس النفسانية يرجع إلى إغواء الشيطان سواء كان بواسطة أو بغيرها، و هي التي تؤكد رذيلة الشح الكامن في كلّ نفس و تورث البخل و الإمساك فتؤدي إلى انتهاك أوامر اللّه تعالى و مخالفتها، و ترجع أخيرا إلى نبذ ما أراده اللّه تعالى من المصالح في هذا الأمر الخطير المهم بالنسبة إلى الفرد و المجتمع فتختل سعادتهما المرجوة التي كتبها اللّه سبحانه لهما و تفشو الرذائل و الفحشاء، و لذا أكد سبحانه أنّ الشيطان الذي يغوي الإنسان بإلقاء خوف الفقر في نفسه و إظهار البخل و الإمساك و الحرص في الإنسان و هي من سفاسف الأخلاق التي تؤدي إلى ارتكاب الفحشاء التي يأمر بها الشيطان و الإغواء الذي يطلبه للإنسان، و هذا هو الضّلال المقابل للحق الذي أمر به اللّه سبحانه و تعالى فإنّه لا ثالث بينهما، و لذا عقب سبحانه ذلك بقوله: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً لبيان أنّ هذا هو الحق الصالح و ترشدنا إلى ما هو الخير

ص: 368

للإنسان دون ما يريده الشيطان.

و الشيطان - سواء كانت نونه أصلية أو زائدة من شاط - معروف في جميع الملل و الأديان و هو اسم لذلك المخلوق الناري الذي هو مثال لكلّ شرّ و رذيلة مهلكة و المعاصي الموبقة، و يطلق على كلّ غاو من الجن و الإنس و الحيوان، و له وجود جمعي و انبساطي مضل للإنسان كما نطق به الكتاب العزيز في مواضع كثيرة منه قال تعالى: إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [الإسراء - 53]، و لكن بالعقل و جنوده يمكن إرغامه و التغلب عليه فهو و جنوده يضادان الشيطان و ينافيانه في جميع الشؤون و الحالات و هو في المنطقة السّفلى، و العقل و جنوده في المنطقة العليا و بينهما الخصام الشديد و النزاع الأكيد في جميع الأطوار و الحالات حتّى يفرّق اللّه تعالى بينهما بالموت، فإنّ الشيطان مرجوم في غير هذا العالم و ليس له سلطان فيه، و لذا كانت الدنيا سجن المؤمن و دار البلية و لا سجن أعظم و لا بلية أشد من الابتلاء بهذا الخبيث و سيأتي في الموضوع المناسب الكلام في الشيطان مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً .

الوعد من الإنشاء لا من الإخبار فلا يتصف بالصدق و الكذب بل يتصف بالوفاء به و عدمه و هو المراد بصدق الوعد و كذبه. و يستعمل في الخير و الشر و لكن الإيعاد يستعمل في الشرّ فقط.

و مادة (غفر) بمعنى صون اللباس عن الدنس و الوسخ قالوا: غفّر ثوبك في الوعاء و اصبغ ثوبك فإنّه أغفر للوسخ. و غفران اللّه و مغفرته للعبد هو صونه عن العذاب.

و الفضل الزيادة عن الاقتصاد، و يختلف في المدح و الذم باختلاف متعلّقه ففضل العلم و الحلم ممدوح، و فضل الغضب مذموم، و ما كان من اللّه تعالى فلا حدّ له.

و في ذكر وعد اللّه بالمغفرة و الفضل مقابل وعد الشيطان بالفقر و الفحشاء إرشاد إلى اختيار الإنسان ما هو الأصلح له.

ص: 369

و المعنى: إنّ اللّه تعالى يعد الإنسان الذي اختار الطيّب من أمواله لينفقها في سبيل اللّه المغفرة و غفران الذنوب و زيادة في الثواب و الدّرجات و منه يستفاد أنّ الإنفاق لا يخلو عن العوض.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه واسع غير محدود بحد الإمكان مطلقا، عليم بجميع الأمور محيط بحقائق الأشياء و دقائقها فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فهو واسع يعطي عباده ما وعدهم به عليم لا يجهل أمورهم.

و الواسع من أسمائه المباركة الحسنى و هو كثير الاستعمال في القرآن الكريم موصوفا في مواضع بالعلم و في اخرى بالحكمة، و لم أجده فيه و في الدعوات المعتبرة مطلقا من غير وصف. نعم، ورد في الأسماء الحسنى «يا واسع» و لا بد من تقييده بما في القرآن و يمكن أن يجعل ذلك ردا لمن يقول بوحدة الوجود و الموجود.

إن قيل: إنّ السعة العلمية تستلزم السعة الذاتية أيضا لأنّ علمه تعالى عين ذاته.

يقال: أصل ذلك مبنيّ على وحدة الوجود و الموجود مطلقا، و الاشتراك الحقيقي مع التشكيك. و أما مع البينونة أي بينونة صفة لا بينونة عزلة فلا موضوع لهذه الإشكالات أصلا.

و سياق الآية الشريفة في المقام يدل على أنّ المراد سعة الفضل و المغفرة لكن على ما يقتضيه العلم و الحكمة لا مطلقا، فإنّه لا يليق به عزّ و جل، و قد شرح ذلك كلّه الأئمة الهداة (عليهم السلام) دفعا لهذه الشبهات.

269 - قوله تعالى: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ .

الإيتاء: الإعطاء. و الحكمة وزان فعلة و مادة (حكم) تدل على المنع الخاص و هو الحاصل عن الإحكام و الإتقان. و الحكمة هي التي تمنع صاحبها عن القبائح و الرذائل اعتقادا و قولا و عملا على نحو تكون محكمة في النفس لا

ص: 370

يصيبها ضعف و لا فتور غالبة على قوى النفس و الإرادة توجهها نحو الخير و السعادة

و في الحديث: «ما من آدمي إلا و في رأسه حكمة إذا همّ بسيئة فإن شاء اللّه أن يقدعه بها قدعه» أي تمنع من هي في رأسه من السيئة بنحو الاقتضاء كما تمنع الحكمة الدابة.

و يوصف بها اللّه تعالى، فإنّ من أسمائه الحسنى (الحكم) و (الحكيم) و قد ورد في أكثر من تسعين موردا في القرآن الكريم مقرونا إما بالعزيز و العليم أو الخبير أو العليّ و لعلّ ذلك لملازمة حقيقتها فيه تعالى لتلك الصّفات فجيء بها تبيينا و إيضاحا، كما يوصف بها الإنسان قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ اَلْحِكْمَةَ [لقمان - 12].

و إذا تتبعنا الموارد التي ذكر فيها الحكمة في القرآن الكريم نرى أنّها تذكر تارة مقرونة مع الكتاب قال تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ [البقرة - 129]. و اخرى بعد ورود جملة من الأحكام الشرعية التي نزلت لتهذيب الإنسان و سوقه إلى الكمال و السعادة كما في سورة الإسراء قال تعالى بعد سرد جملة كثيرة من التكاليف الإلهية و الأحكام الفطرية: ذلِكَ مِمّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ اَلْحِكْمَةِ [الإسراء - 39].

و يستفاد من ذلك: أنّ الحكمة هي تلك المطالب الحقة التي ترتسم في النفس و توجب التوفيق بين الاعتقاد و العمل و السوق إلى الكمال المنشود للإنسان، فتشمل جميع الحقائق الفطرية و الأحكام الشرعية و المعارف الحقة التي تتعلّق بالمبدإ و المعاد، و تشرح الحقائق المتعلقة بالنظام الأحسن من حيث ارتباطه بسعادة الإنسان و التي لا تقبل الكذب و البطلان، فتكون للحكمة مظاهر كثيرة متفاوتة فتارة تتجلّى في القرآن الكريم الذي هو مصدر كلّ ما يكون في العالم من أنواع الحكمة المتعالية و هي من أشعة هذا النور العظيم و شوارق ذلك النيّر المعظم، تأخر زمان وجودها أو تقدم لأنّ القرآن من اللوح المحفوظ، و هو محيط بهذا العالم، كما أنّ الكتب الإلهية من مظاهر هذا التجلّي الأعظم.

ص: 371

و من مظاهرها أيضا الدّين و معرفته و التفقه فيه فإنّ الدّين هو القانون المتكفل لجميع مطالب الإنسان من حين نشأته إلى ما بعد مماته

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه آتاني من الحكمة مثل القرآن و ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة الا كان خرابا ألا فتعلّموا و تفقهوا و لا تموتوا جهالا».

و من أجلّ أفراد الحكمة و أعظمها شأنا معرفة اللّه الواحد الأحد المتفرد الصمد. فهي بحسب المبدإ هو الجهد الأكيد في التصدّي لمرضاة اللّه الحكيم، و بحسب الغاية لذة روحانية مفاضة من الغيب العليم، و يلزم الإحاطة بحقائق الأشياء على قدر طاقة الإنسان و لأجل هذا تطلق الحكمة على تلك المعلومات الحقة الصادقة و يسمّى العارف بها حكيما إلهيّا أو متألها.

و بالجملة: هي الخير الكثير كما وصفها به عزّ و جل،

و في الحديث:

«إنّ في الجنة دارا - و وصفها ثم قال - لا ينزلها الا نبي أو صدّيق أو شهيد أو محكّم في نفسه».

و من الحكمة ما تكون فطرية إفاضية من عالم الغيب، و منها: ما تكون اكتسابية تكتسب بالمجاهدات و الرياضات الشرعية، و منها ما هو مركب منهما.

و من الحكماء من اجتمع جميع أنواع الحكمة فيه و هم رجال صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه بكلّ معنى الصدق و الوفاء، فشرح اللّه صدورهم بكلّ معنى الانشراح، تشتاق إليهم الجنان العاليات و هذه هي إحدى مراتب الحكمة و قس عليها سواها.

و لكن للحكمة مرتبة خاصة محجوبة عن البصائر و الأفكار لا تليق الا لمن يقدر على تحمل الأسرار، و يشهد لما قلناه شواهد من العقل و الآثار و الأخبار، كما أنّها ليست منحصرة بالبحث و النظر و الفكر فقد تحصل للنفوس المستعدة من إفاضات الباري

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إذا رأيتم المؤمن سكوتا فادنوا منه فإنّه يلقي الحكمة»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله):

«اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».

ص: 372

و لكنّ الأصل في إفاضة جميع أفراد الحكمة و العرفان و مراتبها هو الإخلاص للّه جلّ جلاله

فعن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أخلص للّه أربعين صباحا جرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه و أنطق بها لسانه» و عن جمع من أكابر علماء النفس دعوى التجربة في ذلك، فتكون حقيقة الحكمة ارتباطا خاصا مع عالم الغيب و أما غيرها فهو فنّ و صناعة و هما شيء و الحكمة الواقعية شيء آخر.

نعم، الحكمة تارة تكون علمية و اخرى عملية و لا نهاية لمراتبهما اما الثانية فغايتها الرضوان و لقاء اللّه تعالى و لا نهاية لكلّ واحد منهما و أما الأولى فإنّ غايتها الاستلهام من الغيب و هو غير محدود، و التحديد إنّما يكون من الممكن المستفيض لا في المبدإ المفيض.

و قال بعض الأعاظم من الحكماء المتألهين: «إنّ غاية ما للإنسان من الكمال هو الاتصال بالعقل الفعال المسيطر على الملك و الملكوت تسيطر الروح على الجسد». و هذا صحيح إذا كان المراد بذلك روح القرآن و الشريعة الأحمدية المنبعثة عن الحقيقة المطلقة الأحدية لأنّ الإحاطة بالواقعيات صعبة جدّا إن لم تكن ممتنعة مهما بلغت فطنة العقول في الحدة و الذكاء و الدقة لا سيّما بالنسبة إلى المعارف و أسرار القضاء و القدر التي لا يمكن أن يحيط بها غير علاّم الغيوب، و قد ورد النّهي عن الخوض في جملة منها و أنّه لا يزيد الخوض فيها إلا تحيّرا، فلا مناص للحكيم الا الوقوف على ظواهر الكتاب و السنة المقدّسة و هي تحتوي على معادن العلم و الحكمة و المعارف و ما يكفي لتكميل النفوس الناقصة و إيصالها إلى أوج الكمال و المعرفة و هي الحكمة الحقة التي تفيد لجميع النشآت قال تعالى: ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ [الأنعام - 28]، أي الكتاب المشروح بالسنة أو السنة الشارحة للكتاب، و قال تعالى:

وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [الأنعام - 59]، و هو مصدر كلّ علم و معرفة هذا بالنسبة إلى الحكمة العلمية.

و أما الحكمة العملية فلا بد و أن تكون مطابقة للشريعة المقدسة الختمية و إلا كانت لغوا محضا.

ص: 373

ثم إنّه غلب استعمال الحكمة على الفلسفة المتوارثة عن اليونان و قد اصطلح على قدماء الفلاسفة بالحكماء و قسموهم إلى الإشراقيين و المشّائيين و الرّواقيين كما أنّهم قسموا الحكمة الاصطلاحية (الفلسفة) إلى علمية و عملية و الثانية عبارة عن علم الفقه و الأخلاق و قسموا الفقه إلى العبادات و المعاملات (أي العقود و الإيقاعات) و الأحكام و السياسات و أنّ بمعرفتها و العمل بها يصل الإنسان إلى مقام الإنسانية و الخروج عن حدود الحيوانية البهيمية و بذلك تتم المدينة الفاضلة التي خلق الإنسان لأجل ورودها و الاستكمال فيها.

و قسّمت الحكمة العلمية إلى قسمين: الإلهيات و الطبيعيات، و لكلّ واحد منهما فصول و أبواب، و قد جعل كلّ فصل من فصول الطبيعيات في العصر الحديث علما مستقلا برأسه.

كما أنّ من فصول الفلسفة الإلهية البحث عن كلام اللّه تعالى من حيث قدمه و حدوثه و كثر النقض و الإبرام فيه حتّى جعل ذلك علما مستقلا له أبواب كثيرة و فصول طويلة.

و لكن كلّ من نظر في الحكمة الاصطلاحية يرى أنّها كغبار على اللجين و لو فرض فيها شيء صحيح فهو مستلهم من الوحي المبين أو السنة المقدسة و غيره ليس الا من الأوهام و التخيلات و المغالطات و كلّ واحد منها حجاب عن الوصول إلى الواقع و لذلك كثر الخلاف و قلّ الوصول إلى المراد، و قد ذكرنا أنّ الحكمة بمعزل عن البطلان و التكذيب و منزّهة عن جميع ذلك، و إذا كانت الحكمة ما ذكروه فليست هي الا العلم بالمصطلحات فقط فهي كعلم اللغة مثلا و هي صنعة و فنّ لا تزيد على سائر الصنايع و الفنون بل ربما يكون بعضها أفضل منها كما هو المحسوس.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً .

يؤت مبني للمفعول مجزوم بأداة الشرط، و الحكمة مفعول ثان و إنّما أبهم تعالى الفاعل مع أنّه معلوم مما تقدم و هو اللّه تعالى لبيان أنّ الحكمة بنفسها منشأ الخير الكثير فالحكمة و الخير الكثير مقرونان فمن تلبس بها فقد

ص: 374

حظي بالخير الكثير فلا يحتاج الانتساب إلى الفاعل في توصيفها به.

و توصيف الخير بالكثير لبيان أنّ الحكمة من جميع جهاتها خير كثير كما عرفت آنفا فيكون القيد توضيحيا و من مقومات ذاتها و يشهد لذلك

ما نسب إلى عليّ (عليه السلام): «علّمني رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب»

و عن ابنه الصادق (عليه السلام): «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا».

و يستفاد من الآية الشريفة: أهمية الحكمة و عظيم منزلتها و شرافتها من وجوه:

الأول: ذكرها في سياق فضل اللّه تعالى و هو واسع عليم.

الثاني: تعليق إتيانها على من يشاء و هم خلّص عباده فيفهم من ذلك أن ليس لكلّ أحد الوصول إليها الا بعناية منه عزّ و جل.

الثالث: توصيفها بالخير الكثير.

الرابع: الحصر المستفاد من قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ فإنّه يدل على أنّهم المتيقنون من مورد المشيئة لإفاضة الحكمة.

الخامس: ذكرها في القرآن الكريم مقرونا بالتجليل و التعظيم فتكون هذه الموهبة الربانية نصيب من أفنى جميع شؤونه الإمكانية في مرضاة ربه و صار قلبه متيّما بحبه و ولها في عظمته و لم يكن له بقاء الا منه تعالى و به عزّ و جل. و حينئذ تصير ذاته و نفسه حكمة جوهرية و أعماله حكمة عملية، و أفكاره حكمة علمية، و هم الذين ثبت الحق في ضمائرهم، و ازهق الباطل عن سرائرهم، و انقشعت عن بصائرهم سحائب الارتياب و عن قلوبهم أغشية المرية و الحجاب، ففازوا بالمحل الأعلى، و حازوا القدح المعلّى، و نظروا إلى جميع ما سوى اللّه تعالى بالنظرة الاولى، و حيث إنّ لهذا المقام مراتب كثيرة من الظهور، و كلّما كثرت مظاهر الشيء كثرت أسماؤه فقد تكون الحكمة القرآن الذي يعمل به و قد تكون السنة المقدسة و العمل بها، و العلم بحقايق الموجودات مع الالتفات إليها من حيث المبدأ و المنتهى.

ص: 375

و من ذلك يعلم أنّ مجرد العلم بلا عمل ليس من الحكمة في شيء كما عرفت.

قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

اللب: هو العقل الخالص أي: إنّ الحكمة لا ينالها الا من كان متذكرا و المتذكر لا يكون الا من كان ذا لب خالص عن شوائب الأوهام و الماديات.

و يستفاد من الآية الشريفة: أنّ أجلّ مقامات العقل مقام تذكره عزّ و جل فينبعث منه العمل بما يرتضيه. و للتذكر مراتب و درجات و بحسبها تختلف درجات اللب فإنّ بعضها هو العقل و الإدراك و الشعور و الفكر.

270 - قوله تعالى: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ .

(ما) موصولة تتضمن معنى الشرط و العائد ضمير محذوف يفسره مِنْ نَفَقَةٍ . و الآية عامة تشمل جميع أنحاء الإنفاق سواء كان قليلا أم كثيرا في الطاعة أم في المعصية، كان مع الإخلاص أم مع الرياء واجبا كان أو مندوبا.

قوله تعالى: أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ .

النذر: التزام بعمل للّه تعالى على نحو مخصوص و لا ينعقد النذر المشروع الا أن يقول: «للّه عليّ » و هو إما مطلق أو مشروط، من فعل أو ترك، و الفعل يشمل جميع الأفعال الراجحة، كما أنّ الترك يشمل جميع التروك الراجحة.

و بعبارة اخرى: يشترط أن يكون المنذور طاعة للّه تعالى سواء كان فعلا أو تركا.

و لا يختص النذر بالإسلام بل واقع في بقية الأديان و المذاهب قال تعالى حكاية عن مريم ابنة عمران: إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم - 26]، و قال تعالى حكاية عن امرأة عمران: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [آل عمران - 35]، و هذا أيضا عام يشمل جميع أنحاء النذر.

ص: 376

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ .

جواب للشرط و الجملة خبر للموصول و الرابط الضمير في «يعلمه» و دخل عليها الفاء لأنّها وقعت جزاء للشرط، أي: إنّ اللّه يعلم أعمالكم و نياتكم فيثيب على الطاعة و يعاقب على المعصية، و يجازي على ما يستحق من الجزاء و لا يخفى عليه خافية في الأرض و لا في السماء.

و الآية مشتملة على الحث على الطاعة و الزجر عن المعصية و المخالفة ففيها وعد و وعيد و أكد الوعيد بقوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .

و إنّما عبّر عزّ و جل بقوله: فَإِنَّ اَللّهَ يَعْلَمُهُ دون سائر التعبيرات لأنّه إخبار عما هو حاصل بالضرورة و كائن لا محالة لأنّ علمه تعالى الأزليّ بجميع ما سواه كلية و جزئية يمتنع أن يزول، و أما غيره من القبول و الثواب فهما مترتبان على امور اخرى ربما لا تتحقق، فليس كلّ معلوم له تعالى مقبولا لديه.

قوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .

أي: إنّ الظّالمين في إنفاقهم و نذرهم بأن لا يكون في مرضاة اللّه تعالى ليس لهم أنصار ينصرونهم و لا معين لهم يستعان به سواء في الدنيا أو في الآخرة، فإنّ المال إنّما يقي الإنسان و يفتدى به عنه إذا كان صرفه و إنفاقه في سبيل اللّه تعالى و في مرضاته و الا كان هدرا و على المنفق حسرة، و أما الشفعاء فإنّما تنصر الإنسان إذا كان مرضيا عند اللّه تعالى و المنفق في غير مرضاة اللّه تعالى لم يكن كذلك و الآية المباركة نظير قوله تعالى: ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ [غافر - 18].

كما أنّ الآية الشريفة تدل على أنّ الإخلال في الإنفاق أو تركه من الظلم الذي لا يقبل التكفير لأنّه في حقوق الناس و هو لا يقبل التوبة و التكفير الا برد الحق إلى أهله.

و من ذلك يستفاد الوجه في إتيان الأنصار بصيغة الجمع، فإنّ جميع أفراد الأنصار منفية عن الظالم في حقوق الناس ما لم يرد الحق إلى صاحبه.

ص: 377

271 - قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ .

مادة (ب د ا) تأتي بمعنى ظهور الشيء ظهورا بينا، و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا [الزمر - 48]، و قال تعالى: وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اَللّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر - 47]، و منها البدو في مقابل الحضر قال تعالى: وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ اَلْبَدْوِ [يوسف - 100]، و هو في مقابل الإخفاء، قال تعالى: بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ [الأنعام - 28] و منه:

باسم الإله و به بدينا *** و لو عبدنا غيره شقينا

و حبذا ربّا وحب دينا

و الإبداء و الإخفاء من الأمور النسبية الإضافية و يصح اجتماعهما في شيء واحد من جهتين.

و الصدقات جمع الصّدقة و هي في الأصل: كلّ ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة، و هي أعمّ من الواجبة و المندوبة، و ربما تطلق على كلّ معروف يترتب عليه الخير و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «كلّ معروف صدقة» فتعم المال و الأقوال و الأفعال الحسنة.

و حيث إنّ الصّدقة - أي: المال الذي ينفق في سبيل اللّه تعالى - خير محض لا بد أن تصرف فيما أذن فيه اللّه جل جلاله، و قد أذن عزّ و جل في موارد ثمانية قال تعالى: إِنَّمَا اَلصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْعامِلِينَ عَلَيْها وَ اَلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ اَلْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة - 60] و هذه الموارد الثمانية تختلف إبداء و إظهارا فإنّ الصرف على الفقراء لا يكون فيه إبداء غالبا لا سيّما إذا كان الفقير من الذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، و أما الصّرف في سبيل اللّه فيلازمه غالبا الإظهار و الإعلان.

ص: 378

و المستفاد من الكتاب الكريم و السنة المقدّسة أنّ الصّدقات مطلقا إنّما شرّعت لأجل الصرف على الفقراء، فهم الأصل في تشريعها، و تقتضيه القاعدة العقلية و هي (تقديم الأهم على المهم).

و الصّدقات مطلقا - واجبة كانت أو مندوبة - متقوّمة بقصد القربة فإذا لم يرد بها وجه اللّه تعالى فهي باطلة لا ثمرة لها و لا تبرئ الذمة لو كانت من الواجبة و قد عرفت سابقا أنّ الإضافة إليه عزّ و جل في كلّ عمل هي بمنزلة روح ذلك العمل و لا أثر لجسد إذا فقد منه الروح.

و نعمّا هي أي نعم شيء هي، و هو ثناء على إبداء الصدقة، و قد اختلف في قراءتها فالمشهور قراءتها بكسر النون و العين، و قرأ بعضهم بكسر النون و سكون العين «فنعما». و قرأ ثالث بفتح النون و كسر العين (فنعمّا).

و ما في (نعمّا) في موضع نصب، و قيل «هي» تفسير للفاعل المضمر قبل الذكر فالفاعل هو الإبداء ثم حذف و أقيم ضمير الصدقات مكانه و لكنّه لا يخلو عن تكلّف بل الفاعل نفس الصدقة أي: الصّدقة نعم الشيء في ذاتها فيكون الإبداء و الإخفاء من عوارضها التي لا تغيّر وجه الحسن في نفس الذات ما لم يطرأ عليها ما يبطلها.

و كيف كان ففي الآية الشريفة ثناء على إبداء الصّدقات و أنّ الإبداء لها لا يذهب آثارها إذا كانت لوجه اللّه تعالى ما لم يعرض عليها ما يبطلها كالرياء و المنّ و الأذى لأنّ صدقة العلن أكثر نتاجا و أبعد أثرا.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ .

لأنّ الإخفاء أقرب إلى الإخلاص و أبعد من الرياء و فيه حفظ عزة الفقير و إكرام له و تقدم سابقا أنّ الإسلام إنّما يراعي في جميع التكاليف جانب الخلوص و الإخلاص فكلّما كان الشيء أقرب إلى الإخلاص كان أهمّ و أعظم و أظهر و لذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن مطلقا و خيرا منها

و في الحديث: «إنّ صدقة السرّ تطفي غضب الرب» و سيأتي في البحث الروائي ما يدل على ذلك.

ص: 379

و إنّما قدم تعالى الإبداء على الإخفاء لأنّه الغالب في صدقات الناس و الموافق لطبائعهم و الإخفاء إنّما هو حظ الخواص بل أخصهم و لذا كان الترغيب عليه أكثر.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ ما ذكرنا آنفا من أنّ الأصل في تشريع الصّدقات الفقراء، و إنّما ذكرهم في خصوص الإخفاء لأنّ فيه حفظ كرامتهم خصوصا حرمة المتعفف و من ذلك يعرف أنّ كلمة «خير» أفعل التفضيل و قيل: إنّها اسم و ليست بمعنى التفضيل فيتساوى حينئذ الإبداء و الإخفاء، و يصح الاختلاف باختلاف الخصوصيات.

قوله تعالى: وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ .

أي: إنّ الإخفاء في الصدقات سبب لأن يمحو اللّه تعالى بعض ذنوبهم. و يمكن أن يجعل ترتب تكفير السيئات بالنسبة إلى كلّ واحد من الإبداء و الإخفاء فإنّ الصدقة بنفسها من موجبات التكفير.

و إنّما ذكر «من» التبعيضية لأنّ الصدقة لا تكفّر جميع الذنوب بل بعضها لا تكفر الا برد الحق إلى صاحبه كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .

أي: و اللّه خبير بأعمال العباد و نياتهم لا يخفى عليه شيء لفرض أنّ جميع ما سواه تحت إحاطته و قيوميته و ربوبيته العظمى لا يعزب عن علمه شيء في الأرض و لا في السّماء و كيف يغيب عنه شيء و هو الشاهد الحاضر.

272 - قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ .

التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول تسلية لقلبه الشريف عما كان يشاهده من بعضهم في أمر الإنفاق و الصّدقات فأبلغه عزّ و جل بأنّه ليس عليك إيصالهم إلى الحق المطلوب و لم تكن أنت مسئولا عن ذلك فهو الذي يهدي من يشاء في أصل التوفيق و إنّما عليك البلاغ فلا تحزن على ما يصدر عنهم و لا يضيق صدرك بأفعالهم و هو الحريص على هداهم.

ص: 380

و المراد بالهداية: هي الخاصة المنبعثة عن الفطرة التي فطر الناس عليها الموصلة للحق قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النّور - 40]، أو المراد درجات الهداية و مراتبها كما قال عزّ و جل:

وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [محمد - 17]، و قال تعالى: وَ يَزِيدُ اَللّهُ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا هُدىً [مريم - 76].

و يمكن أن يكون سياق هذه الآيات بعد رد بعضها إلى بعض سياق قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [الأنفال - 17]، و إذا لاحظنا هذه الآية الشريفة مع قوله تعالى: لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ تصير النتيجة ليس عليك هداهم على نحو الإكراه، و يكفي الإبلاغ و الإنذار، و قد حصل كلّ منهما، فتشمل الآية جميع موارد الهداية و متعلّقاتها من الإنفاق و غيره و لا دليل على التخصيص، فيكون المعنى ليس عليك هداهم أي: إيصالهم إلى المطلوب لأنّ النبوة و الرسالة إنّما هي الإبلاغ و البشارة و الإنذار و لكنّ اللّه يهدي إلى المطلوب من يشاء بالتوفيقات الخاصة و العنايات المخصوصة بنحو الاقتضاء لمن يرى فيه الصلاحية فيوصله إلى المطلوب و هذه قضية عقلية تشهد على صحتها التجربة أيضا و يؤيدها النقل.

ثم رجع سبحانه إلى خطاب المؤمنين و أرشدهم إلى الإنفاق الصحيح و بيّن لهم الوجه في الإنفاق ب:

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ .

التفات إلى خطاب الناس أو المؤمنين ليبيّن الباعث في الإنفاق و هو أمر فطري يبينه القرآن الكريم حثّا عليه و لذا كان الكلام خاليا عن أيّ من فنونه كالتبشير و الإنذار و نحوهما.

و الخير في المقام: ما كان من الطيب أو ما قصد به وجه اللّه تعالى.

أي: ما تنفقوا من خير فنفعه يعود إليكم و اللّه تعالى منزه عن الانتفاع بما تنفقون، و يمكن إقامة الدّليل العقلي على ذلك فإنّ نفع الإنفاق إما أن يرجع إلى اللّه تعالى أو إلى غير المنفق أو إلى نفس المنفق، و الأول مستحيل، لأنّ

ص: 381

اللّه هو الغنيّ المطلق، و الثاني ظلم و هو قبيح بالنسبة إليه تعالى، فيتعيّن الثالث مع تحقق الشرائط و فقد الموانع فالقضية من قبيل القضايا التي قياساتها معها.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ اِبْتِغاءَ وَجْهِ اَللّهِ .

بيان لعلة رجوع نفع الخير إلى نفس المنفق إذا كان لوجه اللّه تعالى فإذا كانت الغاية هي وجه اللّه تعالى دون غيره ففيه النفع العظيم و يعود إلى المنفق و إلا كان وبالا و حسرة.

و الجملة خبر بمعنى النهي، أي: لا تنفقوا الا لوجهه عزّ و جل أو حال عن ضمير الخطاب و عامل متعلّق الظرف أي: إنّ النفع يعود إلى أنفسكم في حال ابتغاء وجه اللّه به.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ .

تثبيت للمدعى ببيان أوفى. و لفظ يُوَفَّ ظاهر في تأكد الوفاء، و أنّ الأمر من الحقايق التي لا تقبل الشك و الوهم، فهو تعالى يفي بما وعد به من الثواب في الدنيا و الآخرة، كما و كيفا و من سائر الجهات.

و إنّما أبهم الفاعل في قوله تعالى: يُوَفَّ لبيان أنّ الغرض من الانتفاع يعود إلى الفاعلين للإنفاق و ليس هناك فاعل غيرهم.

و ذكر بعض المفسرين أنّ هذه الجملة يُوَفَّ إِلَيْكُمْ مختصة بالآخرة فإنّ مثوبة الإنفاق توفى إليكم في الآخرة.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ .

أي: لا تظلمون في شيء من أمر الإنفاق لا في أصله و لا في نقصان الجزاء و لا في تأخيره عن محلّ الحاجة، و لا سائر خصوصياته فما تريدون و تطمئنون إليه من الربح و الزيادة و اصل إليكم و لا ينقص منه شيء.

273 - قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

مادة (حصر) تأتي بمعنى الضيق و المنع بلا فرق بين مناشئهما بحسب

ص: 382

أصل اللغة و قد تقدم في قوله تعالى: فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اِسْتَيْسَرَ مِنَ اَلْهَدْيِ [البقرة - 196]، بعض الكلام فيه فراجع.

و الآية المباركة تبيّن مصرف الإنفاق و الصدقات فإنّه تعالى بعد ما حث على الإنفاق بأبلغ أسلوب، و أتم وجه ثم بيّن ما يوجب و هن العزائم و أمرنا بالابتعاد عنه ثم ذكر ما يوجب الخلوص و الإخلاص فيه، ذكر في المقام مصرف الإنفاق و هم: الفقراء الذين منعوا عن شؤونهم الدنيوية في سبيل اللّه تعالى. و أطلق عزّ و جل الكلام لأنّ أسباب المنع في سبيل اللّه تعالى كثيرة منها ما هو عادي و منها ما هو عقلي و منها ما هو شرعي مثل المرض أو الاشتغال بأمر أهمّ ديني لا يسعه الاشتغال بالكسب أو كثرة العيلة و نحو ذلك مما هو في سبيل اللّه تعالى، كما يشمل منع كلّ مانع مباشريا كان أو تسبيبا و لو على نحو الاقتضاء.

و من ذلك يعرف أنّ الجار و المجرور متعلّق بالنفقة و الإنفاق المقدّر المذكور في الآيات السابقة مكرّرا.

و يستفاد من الآية الشريفة: ما ذكرناه آنفا من أنّ الأصل في تشريع الإنفاق هو الفقر و إن كان سبيل اللّه أعم من ذلك، فيكون ذكر الفقراء من باب بيان أحد المصارف، و قد وصفهم سبحانه و تعالى بأوصاف جليلة و عظيمة تدل على نبلهم و شدة ما قاسوه في سبيل اللّه تعالى، و هي ست:

الأولى - الفقر كما قال تعالى: لِلْفُقَراءِ .

الثانية - الحصر في سبيل اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ .

هذه هي الصفة الثالثة فيهم أي: عاجزون عن الكسب و التجارة و نحوهما.

قوله تعالى: يَحْسَبُهُمُ اَلْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ .

هذه هي الصفة الرابعة. و مادة (حسب) تدل على الحكم على أحد

ص: 383

النقيضين بدوا و ترتيب الأثر عليه بلا تفكر في الطرف الآخر لا في الحال و لا في المآل. و هذه صفة رذيلة بخلاف الظنّ الذي هو ملاحظة الطرفين و الحكم بالراجح منهما، و قد يطلق الحسبان على الظن و بالعكس.

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة قال تعالى:

الم أَ حَسِبَ اَلنّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت - 2]، و قال تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ [آل عمران - 142].

و التعفف: التلبس بالعفّة و هي حالة تحصل للنفس تمنعها عن غلبة الشهوة و هي من الصفات الممدوحة و من مكارم الأخلاق، بل من علامات العقل

و في الحديث: «أفضل العباد العفاف» و لها مراتب كثيرة أعلاها:

استيلاء العقل على جميع القوى الشهوانية بحيث تأتمر النفس بأوامره و تنزجر عن نهيه و هي أعلى مراتب الإيمان لأنّ

«العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان». و «من» في قوله تعالى: مِنَ اَلتَّعَفُّفِ لابتداء الغاية أو لبيان الجنس.

و المعنى: يتخيل الجاهل بأحوالهم أنّهم أغنياء لكثرة ملازمتهم للعفّة و ترك سؤال الناس و إظهار حوائجهم إليهم.

و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ اَلتَّعَفُّفِ الدال على كثرة ملازمتهم لهذه الصفة المبالغ فيها أنّهم غير متظاهرين بالفقر و لا يظهر عليهم أثر الحاجة و المسكنة الا ما خرج عن القدرة و ما لا سبيل لهم إلى ستره.

قوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ .

هذه هي الصفة الخامسة و السيماء و السماء: العلامة أي: يعرفون بالعلامات الظاهرة الدالة على أحوالهم نظير

قول عليّ (عليه السلام) في وصف المتقين: «يخال مرضى و ما بالقوم من مرض» فكأنّ السيماء تكفي في تعريف حالهم و أنّهم في شدة الحاجة و الخصاصة.

ص: 384

و من توجيه الخطاب إلى الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) دون الجميع فيه حفظ لشؤونهم و صون لجاههم لأنّهم أرادوا حفظ أنفسهم بالتعفف، و لا يستفاد من الآية الشريفة أنّ معرفة حالهم منحصرة بالسيماء فقط. بل لها طرق اخرى كما هو معلوم.

قوله تعالى: لا يَسْئَلُونَ اَلنّاسَ إِلْحافاً .

هذه هي الصفة السادسة. و الإلحاف كالإلحاح لفظا و معنى، و أصله من اللحاف و هو ما يغطّي الإنسان و يحيط به، و كثرة السؤال مذمومة الا من اللّه تعالى فإنّه عزّ و جل يحب الإلحاح إليه في الدعاء.

أي: مع شدّة حاجتهم و تمادي الفقر بهم لا يسألون الناس سؤال الإلحاح.

و الجملة تحتمل معنيين:

الأول: أنّهم لا يسألون الناس إلا ما دعت الحاجة و الضرورة إليه أي:

نفي الإلحاف دون أصل السؤال.

و الثاني: أنّها كناية عن نفي السؤال أبدا لأنّ كثرة تعففهم أوجب الانقطاع عن الناس و عدم السؤال منهم أبدا، فيكون صرف السؤال و لو مرة واحدة منهم إلحافا كما في قوله تعالى: وَ ما رَبُّكَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت - 46]، فإنّ صرف انتساب الظلم إليه منشئ لصدق الظلاّمية بالنسبة إليه جلّ جلاله و ذلك كثير في الاستعمالات الفصيحة و الأساليب البلاغية فيستعظم الفعل لأجل أهمية الفاعل و عظمته و في الآيات المباركة و السنة الشريفة شواهد لما قلناه.

و الصحيح أنّ النفوس تختلف في ذلك فإنّ من انقطع إلى اللّه تعالى و لازم العفة بحيث ظهرت على جميع جوارحه و أفعاله و أقواله لا يسأل الناس أبدا لأنّه ينافي الانقطاع إليه عزّ و جلّ فضلا عن الإلحاف في السؤال الا إذا أذن الشارع فيه حفظا للنظام و لا ينافي ذلك فضل التعفف فيهم فإنّ السؤال قد يكون واجبا و قد يكون مندوبا.

ص: 385

و بهذه الصفة تنهي الآية الشريفة أوصاف الفقراء الذين تصرف الصدقات فيهم و هي أوصاف ممدوحة كلّ واحدة منها كافية لتهذيب النفس و توجب تخفيف ما يقاسونه من الفقر و الخصاصة و إذا اجتمعت هذه الأوصاف في فرد فهو القدر المتيقن من مصارف النفقات و الصدقات و لا يكفي ثبوت أصل الفقر في الإنفاق عليهم و أخذ الصّدقات و قد فصّلنا ذلك في الفقه من كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه تعالى عليم بما تنفقون من الخير يوفّيكم جزاءه.

و في الآية الشريفة وعد بالجزاء و المضاعفة، و ترغيب إلى الخير و تحذير عن سوء النية فإنّ اللّه عليم بنواياكم و حكمته البالغة و قضاؤه المبرم و قدره المحتوم على طبق علمه، فهذه الآية الشريفة على اختصارها متضمنة لجملة من القضايا المحكمة المشروحة في الكتاب الكريم و السنة المقدّسة.

274 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً .

أعظم آية تحث على الإنفاق و تبشّر المنفقين بعظيم الأجر و الثواب و خطاب إلهي للمنفقين بالأمن و الأمان.

و في الآية الشريفة بيان عموم الأوقات و الأحوال، و يمكن أن يكون ذكر الليل و النهار و السر و العلانية كناية عن الاستمرار على الإنفاق بحيث يصير طبيعة ثانية لهم.

و إنّما قدم سبحانه و تعالى الليل و السرّ على النهار و العلانية لبيان فضل صدقة السرّ لأنّ العمل فيهما أخلص للّه تعالى فيكون أقرب للقبول و إن كان الجمع بين الأربعة فيه للدلالة على أنّ لكلّ واحد منهما موضعا معينا.

و السرّ خلاف العلانية و هما من الأمور الإضافية و يلحظان بالنسبة إلى المخلوق و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فإنّ الجميع عنده علن لا تخفى عليه

ص: 386

خافية، بل السّرائر ظاهرة عند ذوي البصائر من عباده

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «اتقوا فراسة المؤمن فإنّه ينظر بنور اللّه».

و الآية الشريفة تدل على اهتمام المنفقين بالبذل و العطاء ليشمل جميع الأوقات و الأحوال ليستوفوا عظيم الأجر و الثواب و توغلهم في كسب مرضاة اللّه تعالى و نصب أنفسهم في إرادة وجهه عزّ و جل و تزكية نفوسهم، و هم القليلون بين أفراد الناس، و لذا وردت روايات كثيرة بل متواترة بين المسلمين أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) و سيأتي في البحث الروائي نقل جملة منها.

قوله تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .

وعد حسن من الباري عزّ و جل بأجر عظيم لهم و كرّمهم بإضافتهم إلى نفسه، و الآية الشريفة تشعر بالرأفة و التلطف معهم.

و الأجر و الاجرة: ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال تعالى: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي اَلدُّنْيا [العنكبوت - 27]، و قال تعالى: لَأَجْرُ اَلْآخِرَةِ خَيْرٌ [يوسف - 57]، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تقال الا في النفع دون الضّرر بخلاف الجزاء فإنّه يستعمل فيهما معا قال تعالى:

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً [الدّهر - 12]، و قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ [الكهف - 106].

و جملة عِنْدَ رَبِّهِمْ جملة تشريفية و هي تدل على عدم تناهي الأجر من جميع الجهات الفاضلة كما يأتي.

قوله تعالى: وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

أي: لا خوف عليهم ممّا هو الواقع و لا هم يحزنون من المتوقع و نفي جنس الخوف و الحزن يشمل جميع الأحوال و الأزمان من الدنيا و البرزخ و النشر و الحشر إلى عالم الخلود في الجنة الذي هو عالم الكمال و نشأته و ظهور الحق بالحق.

ص: 387

بحوث المقام
بحث دلالي

تدل الآيات الكريمة على أمور:

الأول: يستفاد من الآيات الشريفة أهمية الإنفاق في الإسلام، فقد ورد ذكره في مواضع كثيرة من القرآن تبيّن جميع ما يتعلّق بشؤونه و جهاته من المنفق، و المنفق عليه، و المال المنفق، و زمان الإنفاق، و حالاته، و الإخلاص فيه، و ما يشوبه من الأوهام و التخيلات و كلّ ما يستلزم بطلانه و إذهاب أثره، و هذه الآيات هي أجمع ما ورد في هذا الأمر، و قد شرحت السنة الشريفة ما يتعلّق به شرحا وافيا قلّما يوجد في غيرها، و قد وعد سبحانه و تعالى في هذه الآيات عظيم الأجر و الثواب للمنفقين، و كرّمهم أن نسبهم إلى نفسه، فقال تعالى: فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ، و بشرهم بإذهاب الخوف و الحزن عنهم و هو غاية ما يطلبه الإنسان الضعيف الذي تحيط به المكاره و الآفات و ما يرد عليه من الأهوال في العوالم المختلفة و لذا نرى أنّ مثل هذه البشارة لا تكون إلا في أمور مخصوصة.

و عقب سبحانه و تعالى الآيات المتقدمة التي بيّن عزّ و جل فيها إحياء الموتى و كيفية الحشر و النشر بهذه الآيات، لأنّها تتضمن نحوا آخر من الحياة،

ص: 388

و هي الحياة الحاصلة من الإضافة إلى الحيّ القيوم و الملك القديم الديموم تلك الإضافة الإشراقية أو الإضافة التشريفية، فإنّ الإضافة إلى القيّوم المطلق تجذب المضاف من المادة إلى الحق، و تهيؤه للسفر من الحق إلى الحق، و يشتد ذلك و يضعف باشتداد تلك الإضافة و ضعفها. و ربما يكون أسرع من طرفة عين و ربما يبطئ كثيرا لموانع في البين، و هي كلّ الأشياء فما ذا وجد من فقدها و ماذا فقد من وجدها.

الثاني: إنّما أطلق عزّ و جلّ «سبيل اللّه» ليشمل كلّ سبيل موصل إليه تعالى بلا اختصاص له بمورد خاص أو مخصوص، و ينطبق على كل ما لم يكن منهيا عنه شرعا و يوجب كمال الإنسان بالكمالات المستفادة من الكتاب و السنة، و يشترط في كونه سبيل اللّه إحراز رضاء الرب و الإنفاق في سبيل اللّه إنّما يكون له صفة الديمومة و البقاء لإضافته إلى اللّه تعالى الأزلي الأبدي، و في غير هذه الصورة يكون الإنفاق هباء منثورا.

الثالث: إنّما أضاف سبحانه الأموال إلى الناس في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ مع أنّ المال في الواقع و الحقيقة له عزّ و جل لأنّه المنعم عليهم، لتقرير الملكية الدائرة بين الناس، و لإثبات التجارة الرابحة فينفقون أموالهم للّه تعالى و هو عزّ و جل يعوّضهم بأجزل ثواب و أعظم أجر فيكون إعلانا للاسترباح عن سلطان لا حدّ لسلطانه و ملكه، و بشارة للبذل و العطاء عن جواد لا نهاية لجوده و كرمه.

الرابع: إطلاق قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ يشمل الدنيا و الآخرة في الكم و الكيف أو هما معا، كما أنّه تعالى لم يقيّد ما ضربه من مثل السنبلة في الدنيا و الآخرة فهو شامل لهما.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أنّ الإنفاق في سبيل اللّه الجامع للشرائط و الفاقد للموانع يستلزم النماء و الأجر و الثواب، بل تدل الآيات الشريفة على أنّ كلّ ما يصدر من العبد في مرضاته عزّ و جل - قولا كان أو عملا أو مالا - في الدنيا لا بد أن يظهر في

ص: 389

عالم الآخرة لكن في صور ذلك العالم لما بين العالمين من الاتحاد، و يدل على هذه القاعدة القرآنية قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، و تتفرع على هذه القاعدة قاعدة أخرى لها أهمية عظيمة في أبواب المعاد و هي إمكان تبدل الجواهر إلى الأعراض و بالعكس، و هذا مما يمكن صدوره من الطبيعة المسخرة تحت قدرة اللّه جلّت عظمته فضلا عن إبداعه جلّ شأنه و ربما تشاهد النفوس القدسية ذلك كمال الآخرة في الدنيا.

السادس: إنّما أطلق سبحانه و تعالى المنّ و الأذى في قوله تعالى: ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً و لم يحدّهما بحدّ معيّن لاختلافهما باختلاف الأشخاص و العادات و الأعصار و الأمصار و الحالات، و الإطلاق يشمل القول و الفعل و الكتابة و الإشارة، و كلّ واحد من عنواني المنة و الأذى يوجب حبط ثواب الإنفاق و بطلانه، و سيأتي الكلام في الحبط في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

السابع: يستفاد من عظيم الأجر الذي وعد به عزّ و جل على الإنفاق الذي لم يلحقه المنّ و الأذى أنّهما من أقبح الرذائل يحبطان الإنفاق و يذهبان أثره، فكلّ ما يترتب على الإنفاق من المحاسن و الآثار الحسنة الفردية و الاجتماعية و النفسية يذهبه المنّ و الأذى، بل كلّ واحد منهما يؤثر في النفس و الفرد و المجتمع آثارا سيئة يكفي الواحد منها في هدم السعادة المرجوّة، و لذا ورد في الشرع الحنيف الحث على الابتعاد عنهما، بل ذكر علماء الأخلاق أنّ أثر المنة و الأذى يسري إلى النسل و الأعقاب، فيوجب ذلك حرمانهم عن جملة من الخيرات، كما أنّ أثر المعاشرة معهم بالمعروف توجب توفيقهم للخيرات و الاستباق إليها.

و ترك المنّ و الأذى هو من فروع الإحساس بالمسؤولية بالوظيفة التي كلّف الإنسان بها، فإنّ الإنفاق الذي هو فعل الإنسان لا بد له فيه أن يحسّ بمسؤوليته من الجهات المعتبرة شرعا و عقلا، من عدم المنة و عدم الأذية، و الإخفاء، و أن يستقلّه و إن كان كثيرا، و أن لا ينظر إلى عوضه الدنيوي فإنّ له

ص: 390

عند اللّه الأجر العظيم فأساس تحسين كلّ حسنة هو الإحساس بالمسؤولية، كما أنّ أساس ارتكاب كلّ سيئة هو الغفلة عنها. أو الاستقامة التي أمر اللّه تعالى نبيه و أصحابه بها في قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ [هود - 112]، و هي العدالة التي هي عبارة عن مخالفة الهوى و صون النفس و إطاعة أمر المولى و هو ما يسميه جمع بالعرفان.

فالمنّ و الأذى من أرذل الصفات و أخسها و أقبح الأخلاق و أدونها يضرّان بالشخص و المجتمع بل الأذى من أظهر صفات السباع و الحيوانات الكاسرة و هما من المفاهيم الإضافية المختلفة باختلاف الحالات و الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة.

كما أنّهما من الأمور القصدية و قد يكونا من الأمور الانطباقية القهرية أيضا.

الثامن: يدل قوله تعالى: قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ على خلق كريم من مكارم الأخلاق، و هو الرد الجميل أو العفو و الإغماض عن السائل إذا لم يجد ما يبذله له، بل يستفاد من الآية الشريفة أنّ الرد كذلك أولى من الصدقة التي يتبعها أذى فإنّ مفسدة الأذى تذهب بمصلحة الصدقة فيكون فعلا شنيعا بخلاف الرد الجميل قولا كان أو غيره.

التاسع: تدل الآية الشريفة: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى على حبط المنّ و الأذى للصدقة و هذا هو مورد خاص خرج بالدليل و أما في غير ذلك فلم يقم دليل على إحباط كلّ معصية أو الكبيرة لما يسبقها من الطاعات ما عدا الشرك و سيأتي القول في الحبط في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

العاشر: يدل قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ على أنّ المرائي لا يؤمن بما يدعو اللّه تعالى إليه في أمر الإنفاق و ما يعد عليه من الأجر الجزيل، و بعبارة أخرى إنّ كفره كان جهتيا أي الكفر في أمر الإنفاق و ثوابه فلو كان مؤمنا لقصد اللّه تعالى و اختار جزيل

ص: 391

الثواب و لم يقصد رئاء الناس فلم يكن كفره باللّه و اليوم الآخر رأسا و بالكلية و الا لكان المناسب أن يقول: «و لم يؤمن باللّه و اليوم الآخر».

و كيف كان فالمستفاد من الآية الشريفة: أنّ الرياء في عمل من لوازم عدم الإيمان باللّه و اليوم الآخر بالنسبة إليه.

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ بعد ذكر الإنفاق رياء و الإنفاق الذي يتبعه المنّ و الأذى على أنّ المراد من مرضاة اللّه هو عدم كون الإنفاق من أحدهما و هو الإنفاق لوجه اللّه الخالص من كلّ ما يوجب الفساد و البطلان ثم البقاء على ذلك في النفس بحيث لا يعترضه ما يبطله و يفسده، فأحد القيدين يتكفّل حدوث النية الخالصة، و الثاني يتكفل البقاء و الاستمرار على تلك النية و هو قوله تعالى:

وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ . و هذا يدل على أنّ في النفس حالات كثيرة تمنعها عن التفكر و التبصر فأمر سبحانه بالتثبت و التفكير.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ حالتان إحداهما حالة الاستغناء و الطمأنينة و الراحة، و الثانية حالة الإعواز و الاضطراب و شدة الحاجة.

فالأولى تتمثل في الإنفاق في وجه اللّه تعالى الخالص من كل ما يوجب فساده و زوال أثره.

و الثانية تتمثل في الإنفاق مع المن و الأذى، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلق بهذه الحالة فراجع.

الثالث عشر: يدل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ على أنّ ما يتقرب به إلى اللّه تعالى و ما يرجى منه ارتفاع الدرجات لديه لا بد أن يكون منزّها عن الشرك و النقص، و أن يكون نقيّا من كلّ دنس، فالتصدق من المال الحرام أو المشتبه لا يكون إلا وبالا على صاحبه، و كذا سائر الأعمال التي يؤتى بها لوجهه الكريم، مع أنّ جميع ما يصدر من العبد يدخر عوضه له أضعافا كثيرة، فبذل الخبيث و الرّدي خلاف العدل و الإنصاف

ص: 392

هذا إذا كان مشتملا على الطيّب و الخبيث. و أما لو كان جميعه من الخبيث فلا بأس بالإخراج منه لأنّ المنساق ما إذا كان المال مشتملا على الخبيث و غيره و قصد خصوص الأول لدناءة النفس.

الرابع عشر: يدل قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ على أنّ سبب البخل و الإمساك عن بذل الطيّب خوف الفقر الذي يوجب التثاقل، و الاستمرار عليه يستلزم ظهور ملكة البخل فيؤدي إلى تعطيل أوامر اللّه تعالى و الاستهانة بها، و هو الكفر باللّه العظيم، و قد أرشدنا اللّه تعالى إلى بطلان ذلك و أنّ الشيطان هو الذي يعد الإنسان الفقر و هو من وساوسه و حبائله التي توهن عزيمة الإنسان و الشيطان لا يعد إلا الباطل و الضلال، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً .

و قد ذكر سبحانه الوعدين أحدهما وعد الشيطان و الآخر وعد اللّه ليفكر الإنسان فيهما و يعتبر منهما و يختار ما هو الأصلح له بعد بيان طرق الصلاح و الهداية و طرق الفساد و الغواية. و هذه الآية الشريفة من الآيات التي تدل على اختيار الإنسان في أفعاله.

الخامس عشر: يدل قوله تعالى: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً على أهمية الحكمة و عظم منزلتها فإنّها من مواهبه التي يمنحها لمن يشاء من خلقه و هي من الخير الكثير.

و إنّما ذكر سبحانه هذه بعد بيان حال الإنفاق و ما يستلزمه في حياة الإنسان الشخصية و الاجتماعية، للإرشاد إلى أنّ ما ذكر هو من الحكمة التي لا بد من مراعاتها و التعهد بحفظها و العمل بما أنزل اللّه تعالى ليمكن الوصول إلى السعادة الأبدية و الكمال المنشود.

السادس عشر: يستفاد من ذيل الآية الشريفة: فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً أنّ كلّ ما يقال في الحكمة هو دون وصفها و أنّه لا يمكن الوصول إلى كنهها و لا بد من وصفها بما وصفه اللّه تعالى من الخير الكثير، و هو لا يختص بالأعراض و لا بالجواهر المجرّدة من الممكنات بل تجل في حد الواجب

ص: 393

بالذات فإنّه جلّت عظمته حكيم، و الحكمة عين ذاته الأقدس. فللحكمة مظاهر مختلفة و متفاوتة و أتم مظاهرها القرآن الكريم و حملته العاملون به، فهي الخير الكثير سواء في ذاتها أو في غايتها أو في ظهورها و تجليّاتها فهي بجميع شؤونها خير كثير و لا يمكن لأحد الاستغناء عن الخير فضلا عن الكثير منه.

السابع عشر: يدل قوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أنّ ترك الإنفاق على الفقراء و المحتاجين مع احتياجهم إليه أو اشتمال الإنفاق على ما لا يرتضيه اللّه تعالى ظلم كبير غير مرضيّ له تعالى، و لا يقبل التكفير و الشفاعة الا برد الحق إلى أهله، و نفي النصرة عن الظالمين لا يختص بالدنيا أو الآخرة بل يشمل جميع أنحاء النصرة و الإعانة.

الثامن عشر: يدل قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ على أنّ كلّ واحد من الإظهار و الإخفاء صحيح و لا بأس به، لأنّ في كلّ واحد منهما آثارا حسنة و قد مدح اللّه عزّ و جلّ المنفقين بكلّ واحد منهما إلا أنّ الإخفاء إلى الإخلاص أقرب، و كلّما كان كذلك كان أقرب إلى القبول و لذا كانت صدقة السرّ أفضل من صدقة العلن.

التاسع عشر: يستفاد من قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ شدة ما قاساه الرّسول (صلّى اللّه عليه و آله) في أمر الإنفاق من أمته حتى وصل الأمر إلى التهديد و الإيعاد و الخشونة في هذا الأمر المهم، و لذا كان في الكلام ما يطيب به خاطره (صلّى اللّه عليه و آله) و يخفّف عن شدة الصدمة عليه، و الجملة متعرضة لبيان شدة اهتمام الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) بهداية أمته و هو الرسول الأمين الرؤوف.

العشرون: يدل قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ على حقيقة من الحقائق القرآنية و هي أنّ نفع الإنفاق ليس أمرا وهميا بل هو أمر حقيقي واقعي يوفيه اللّه تعالى في الدنيا أو في الآخرة أو فيهما يختلف حسب اختلاف درجات الإنفاق في الاختلاف و سائر الشؤون، و لذا طوى ذكر الفاعل لبيان هذه الجهة.

ص: 394

الحادي و العشرون: إطلاق قوله تعالى: أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ يشمل جميع مراتب الإحصار و لعلّ من أهمها حصر النفس للتفقه في الدّين و العمل بما جاء به سيد المرسلين فإنّه السيما الذي في قوله تعالى: تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ و يدل أيضا على كفاية السيما في إحراز الفقر و عدم الاحتياج إلى شيء آخر ما لم يعلم الخلاف خصوصا في أهل العفاف و الكفاف.

الثاني و العشرون: يستفاد من الآية الشريفة لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا أنّ الأصل في مصرف الصّدقات الفقراء كما عليه الفقهاء خصوصا هذا القسم منهم و هذا يدل على كثرة عناية اللّه تعالى بمن أحصر في سبيله.

الثالث و العشرون: يستفاد من قوله تعالى: أَغْنِياءَ مِنَ اَلتَّعَفُّفِ شدة المجاهدة النفسانية فإنّ العفة شيء و التعفّف شيء آخر و الثاني أشد لكثرة الملازمة حتى صار خلقا للعفيف.

الرابع و العشرون: يستفاد من قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كثرة الملازمة للإنفاق حتّى صار ذلك خلقا لهم و قد وعدهم عظيم الأجر، و قد ختم سبحانه و تعالى الكلام بما وعد به أولا و فيه من براعة الأسلوب و الحث على الإنفاق ما لا يخفى.

ص: 395

بحث روائي

في المحاسن عن عمر بن يزيد قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: إذا أحسن المؤمن عمله ضاعف اللّه تعالى عمله لكلّ حسنة سبعمائة و ذلك قول اللّه: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ فأحسنوا أعمالكم التي تعملونها لثواب اللّه فقلت له: و ما الإحسان ؟ قال (عليه السلام): إذا صلّيت فأحسن ركوعك و سجودك، و إذا صمت فتوقّ كلّ ما فيه فساد صومك، و إذا حججت فتوقّ ما يحرم عليك في حجك و عمرتك. قال (عليه السلام): و كلّ عمل تعمله للّه فليكن نقيّا من الدّنس».

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) «إذا أحسن العبد المؤمن ضاعف اللّه له عمله بكلّ حسنة سبعمائة ضعف و ذلك قول اللّه تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أقول: دوران مراتب القبول مدار كمال العمل معلوم عقلا و شرعا و يكفي في ذلك قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ و النصوص في ذلك متواترة و الأدلة العقلية شاهدة على ذلك.

في الدر المنثور في قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ أخرج ابن ماجة عن الحسن بن عليّ بن أبي طالب، و أبي الدرداء، و أبي هريرة، و أبي أمامة الباهلي، و عبد اللّه بن عمر، و جابر بن عبد اللّه و عمران بن حصين كلّهم يحدّث عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «من أرسل بنفقة في سبيل

ص: 396

اللّه و أقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم. و من غزا بنفسه في سبيل اللّه و أنفق في وجهه ذلك فله بكلّ درهم سبعمائة الف درهم ثم تلا هذه الآية:

وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ .

أقول: يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّ منشأ التضاعف لا بد و أن يرجع إلى نفس العامل من الكمالات الموجودة فيه و الإخلاص الحاصل له و غير ذلك.

و في الدر المنثور أيضا أخرج عبد الرزاق عن أيوب قال: «أشرف على النبي (صلّى اللّه عليه و آله) رجل من رأس تل، فقالوا: ما أجلد هذا الرجل لو كان جلده في سبيل اللّه فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) أو ليس في سبيل اللّه إلا من قتل ؟ ثم قال: من خرج في الأرض يطلب حلالا يكفّ به والديه فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب حلالا يكفّ به أهله فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب حلالا يكفّ به نفسه فهو في سبيل اللّه، و من خرج يطلب التكاثر فهو في سبيل الشيطان».

أقول: ثبت إجماع المسلمين على أنّ المراد من سبيل اللّه مطلق سبل الخير و وجوه البرّ و لعلّهم أخذوا ذلك عن مثل هذه الرواية الشريفة.

و في المجمع في قوله تعالى: مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ الآية عامة في النفقة في جميع ذلك أي في الجهاد و غيره من أبواب البر، و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)».

أقول: يجري فيه ما ذكرنا في سابقه و الروايات في ما ذكره كثيرة.

في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ عن الصادق (عليه السلام) قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته، ثم ضرب اللّه فيه مثلا فقال:

ص: 397

كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمّا كَسَبُوا وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلْكافِرِينَ .

و قال (عليه السلام): من أكثر امتنانه و أذاه لمن يتصدّق عليه بطلت صدقته، كما يبطل التراب الذي يكون على الصّفوان، و الصّفوان هي الصخرة الكبيرة التي تكون في مفازة فيجيء المطر فيغسل التراب منها و يذهب به فضرب اللّه تعالى هذا المثل لمن اصطنع معروفا ثم أتبعه بالمنّ و الأذى.

و قال الصادق (عليه السلام): «ما من شيء أحبّ إليّ من رجل سلفت منّي إليه يد أتبعتها أختها. و أحسنت بها له، لأنّي رأيت منع الأواخر يقطع لسان شكر الأوائل، ثم ضرب مثل المؤمنين الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة اللّه و تثبيتا من أنفسهم عن المنّ و الأذى قال: وَ مَثَلُ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

قال: مثلهم كمثل جنّة أي: بستان في موضع مرتفع، أصابها وابل أي:

مطر فآتت أكلها ضعفين، أي: يتضاعف ثمرها كما يتضاعف أجر من أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه و الطّلّ ما يقع باللّيل على الشجر و النبات

و قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): و اللّه يضاعف لمن يشاء لمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه قال:

فمن أنفق ماله ابتغاء مرضاة اللّه ثم امتنّ على من تصدّق عليه كان كما قال اللّه تعالى: أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ اَلثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ اَلْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ قال (عليه السلام): الإعصار الرياح فمن امتنّ على من تصدّق عليه كان كمن له جنة كثيرة الثمار و هو شيخ ضعيف و له أولاد ضعفاء فيجيء ريح أو نار فتحرق ماله كلّه.

أقول: لفظ «أسدى» بمعنى أعطى و منه

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إليكم معروفا فكافئوه».

و لفظ معروف يشمل المال و العمل و القول، و ذيل الرواية يرشد إلى أهمّ الأمور الاجتماعية إذ كلّ معروف لا بد و أن يتدارك عند المجتمع الإنساني

ص: 398

و حينئذ يبقى المعروف دائميّا و مستمرّا و لا يضمحل أبدا، كما هو ذيل الحديث.

ثم إنّ الروايات في تدارك النّعم و الهدايا بمثلها أو بأحسن منها كثيرة، و الظاهر موافقة ذلك للفطرة، لأنّ المنع من المنعم عليه يوجب سلب النعمة بين الناس و إدبارها و إنّ التدارك يوجب الترغيب في استمرار النعمة و الهدية فإنّ الناس أبناء ما يحسنون.

و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر و الحاكم في صحيحه: «أنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) سأل البراء بن عازب فقال: يا براء كيف نفقتك على أمك ؟ - و كان موسعا على أهله - فقال يا رسول اللّه ما أحسنها؟! قال: فإنّ نفقتك على أهلك و ولدك و خادمك صدقة فلا تتبع ذلك منّا و لا أذى».

أقول: يشهد لذلك جملة أخرى من الروايات و منها يستفاد أنّ المنّ و الأذى في الإنفاقات الواجبة يوجب زوال ثوابها بل قد يوجب بطلانها رأسا.

و في تفسير المجمع عن الصادق (عليه السلام) عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثم آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل اللّه صدقته».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ أخرج ابن جرير عن عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) أنّه قال:

«من الذهب و الفضة، و مما أخرجنا لكم من الأرض قال: يعني من الحب و التمر و كلّ شيء عليه زكاة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية وجه التعميم للنفقات الواجبة و المندوبة أما الأولى فمثل الزكاة المتعلّقة بما هو واجب، و أما الثانية فما تعلّق بما هو مندوب كما فصّل في الفقه.

ص: 399

في الكافي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إذا أمر بالنخل أن يزكى يجيء قوم بألوان من التمر، و هو أردأ التمر يؤدونه عن زكاتهم، تمر يقال له: الجعرور و المعافارة قليلة اللحاء عظيمة النوى، و كان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيّد فقال رسول اللّه: لا تخرصوا هاتين النخلتين و لا يجيئوا منها بشيء، و في ذلك نزل: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و الإغماض أن تأخذ هاتين التمرتين».

أقول: ما ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) موافق للوجدان الإنساني من أنّ الإنفاق إلى المحبوب و إيصال شيء له لا بدّ أن يكون من شيء محبوب و مرغوب.

و في رواية أخرى عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ فقال: «كان القوم قد كسبوا مكاسب سوء في الجاهلية فلما أسلموا أرادوا أن يخرجوها من أموالهم ليتصدقوا بها، فأبى اللّه تبارك و تعالى إلا أن يخرجوا من أطيب ما كسبوا».

أقول: هذا صحيح فإنّ الطيب يشمل عدم خبث المادة و عدم الحرمة فلو أنفق أحد من أطيب ما عنده و لكن كان ذلك حراما أو مشتبها يصير الإنفاق من الخبيث.

و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي في صحيحه، و ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه و الحاكم في صحيحه، و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «نزلت فينا معشر الأنصار كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته و قلّته و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلّقه في المسجد، و كان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ . قال: لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه الا عن إغماض و حياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده».

ص: 400

و في الدر المنثور أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و الترمذي في صحيحه، و ابن ماجة، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن مردويه و الحاكم في صحيحه، و البيهقي في سننه عن البراء بن عازب في قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ قال: «نزلت فينا معشر الأنصار كنّا أصحاب نخل كان الرجل يأتي من نخله على قدر كثرته و قلّته و كان الرجل يأتي بالقنو و القنوين فيعلّقه في المسجد، و كان أهل الصفة ليس لهم طعام فكان أحدهم إذا جاع أتى القنو فضربه بعصاه فيسقط البسر و التمر فيأكل، و كان ناس ممن لا يرغب في الخير يأتي الرجل بالقنو فيه الشيص و الحشف، و بالقنو قد انكسر فيعلّقه فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ . قال: لو أنّ أحدكم أهدي إليه مثل ما أعطى لم يأخذه الا عن إغماض و حياء قال: فكنا بعد ذلك يأتي أحدنا بصالح ما عنده».

أقول: القنوة: العذق بما فيه الرطب، و الشيص التمر الضعيف الذي لم يشتد نواه أو لم يكن له نواة أصلا، و الحشف الفاسد من التمر قال الشاعر:

كأنّ قلوب الطّير رطبا و يابسا *** لدى و كره العنّاب و الحشف البالي

و في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قوله تعالى: وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ قال: كان رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إذا أمر بالنخل أن يزكّى يجيء قوم بألوان من التمر هو من أردإ التمر يؤدونه عن زكواتهم تمر يقال له: الجعرور و المعافارة قليلة اللحاء عظيمة النّوا. فكان بعضهم يجيء بها عن التمر الجيد، فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) لا تخرصوا هاتين و لا تجيئوا بشيء، و في ذلك أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ و الإغماض: أن يأخذ هاتين التمرتين من التمر. و قال: لا يصل إلى اللّه صدقة من كسب حرام».

أقول: لأنّ الحرمة أخبث من كلّ شيء عند اللّه تعالى كما تدل الآيات المباركة و الروايات بل قد يوجب الضمان لصاحبه فهو وزر في وزر.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ قال (عليه السلام): «إنّ الشيطان يقول لا تنفقوا فإنّكم تفتقرون و اللّه يعدكم مغفرة منه و فضلا، أي: يغفر لكم إن أنفقتم للّه و فضلا. قال:

يخلف عليكم».

أقول: ما ورد في الرواية إنّما هو من باب الغالب و الا فقد يكون عدم الإنفاق لأجل جهات خارجية أخرى يرغبها الشيطان.

و في معاني الأخبار عن أبي عبد الرحمن عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)

ص: 401

«إنّي ربما حزنت فلا أعرف في أهل، و لا مال و لا ولد، و ربما فرحت في أهل و لا مال و لا ولد. فقال (عليه السلام): إنّه ليس من أحد إلا و معه ملك و شيطان، فإذا كان فرحة كان من دنو الملك منه، و إذا كان حزنة كان من دنو الشيطان منه، و ذلك قول اللّه تبارك و تعالى: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اَللّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

أقول: حيث إنّ روح الإنسان ذو جنبتين جنبة مؤيدة بالعقل و الروحانيين، و أخرى قريبة من المادة و يكون بهما تنظيم نظام النشأتين فقربه إلى الملك يكون من الجنبة الأولى، و قربه إلى الشيطان يكون من الثانية.

و في الدر المنثور عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) إنّ للشيطان لمة يا ابن آدم، و للملك لمة. فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشّرّ و تكذيب بالحق، و أما لمة الملك فإيعاد بالخير و تصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنّه من اللّه فليحمد اللّه، و من وجد الاخرى فليتعوذ باللّه من الشيطان، ثم قرأ: اَلشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ اَلْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ .

أقول: اللمة: الخطوة و القرب و الهمة، و باقي الحديث ظاهر معلوم.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً فقال (عليه السلام): «طاعة اللّه و معرفة الإمام».

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «الحكمة المعرفة».

و فيه أيضا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) «الحكمة المعرفة و التفقه في الدّين».

أقول: كل ذلك من التفسير بالمصداق، و تقدم ما يتعلّق بذلك.

و عن الصادق (عليه السلام): «الحكمة ضياء المعرفة، و ميراث التقوى، و ثمرة الصدق، و لو قلت ما أنعم اللّه على عباده بنعمة أعظم و أنعم و أرفع و أجزل و أبهى من الحكمة لقلت: قال اللّه عزّ و جل: يُؤْتِي اَلْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ اَلْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

ص: 402

و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): «رأس الحكمة مخافة اللّه».

و في الكافي قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «ما قسم اللّه للعباد شيئا أفضل من العقل فنوم العاقل أفضل من سهر الجاهل، و إقامة العاقل أفضل من شخوص الجاهل، و لا بعث اللّه نبيّا و لا رسولا حتّى يستكمل العقل و يكون عقله أفضل من جميع عقول أمته و ما يضمر النبيّ في نفسه أفضل من اجتهاد المجتهدين و ما أدى العبد فرائض اللّه حتّى عقل عنه و لا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل، و العقلاء هم أولوا الألباب، قال اللّه تبارك و تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

و في الدر المنثور عن ابن عباس، و ابن جبير، و أسماء بنت أبي بكر و غيرهم بعدّة طرق: «إنّ رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يمنع عن الصدقة على غير أهل الإسلام، و إنّ المسلمين كانوا يكرهون الإنفاق على قرابتهم من الكفار فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فأجاز ذلك».

أقول: لو صح الحديث لكان المراد بنفي الهداية الإيصال إلى المطلوب من كلّ جهة كما تقدم.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ قال (عليه السلام):

«ليس تلك الزكاة، و لكنّ الرجل يتصدق لنفسه، و الزكاة علانية ليس بسر».

أقول: فصّلنا ذلك في الفقه و قلنا: إنّ الواجبات إتيانها علانية أفضل من إتيانها سرّا بخلاف المندوبات، كما يأتي ما يدل على ذلك من الأخبار.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كلّ ما فرض اللّه عليك فإعلانه أفضل من إسراره، و ما كان تطوّعا فإسراره أفضل من إعلانه و لو أنّ رجلا حمل زكاة ماله على عاتقه فقسّمها علانية كان ذلك حسنا جميلا».

و عن الباقر (عليه السلام) في قوله عزّ و جل: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ قال (عليه السلام): «هي الزكاة المفروضة قلت: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ قال: يعني النافلة إنّهم كانوا يستحبّون إظهار الفرائض و كتمان النوافل».

ص: 403

أقول: لعلّ وجه ذلك أنّ إتيان الواجب علانية بعيد عن شبهة العجب و الرياء لفرض أنّه واجب على جميع المسلمين.

و في المجمع في قوله تعالى: لِلْفُقَراءِ اَلَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ - الآية - قال أبو جعفر (عليه السلام): «نزلت الآية في أصحاب الصفة، قال:

و كذلك رواه الكلبي عن ابن عباس، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن بالمدينة، و لا عشائر يأوون إليهم فجعلوا أنفسهم في المسجد، و قالوا:

نخرج في كلّ سرية يبعثها رسول اللّه فحث اللّه الناس عليهم فكان الرجل إذا أكل و عنده فضل أتاهم به إذا أمسى».

أقول: هذه الرواية من باب ذكر أحد المصاديق في أصحاب الصفة في مسجد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله).

و في تفسير العياشي عن جابر الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ اللّه يبغض الملحف».

أقول: الإلحاف في السؤال: الإلحاح فيه، و هو مبغوض إذا كان على غير اللّه تعالى، و أما الإلحاح على اللّه جلّ شأنه فهو محبوب له

ففي الحديث:

«إنّ اللّه يحب الإلحاح في الدعاء».

و في العيون عن الرضا (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ - الآية - إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام).

و في الإختصاص مسندا عن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّها نزلت في عليّ (عليه السلام) و ذلك كان عنده أربعة دراهم فتصدّق بدرهم ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم سرّا و بدرهم علانية».

و روى الشيخ في التبيان. و العياشي في تفسيره مثله. و في المجمع:

و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهم السلام).

و روى الزمخشري في الكشاف مسندا، و الواحدي في أسباب النزول عن ابن عباس: «أنّها نزلت في عليّ (عليه السلام)».

ص: 404

و رواه جمع غفير منهم الخوارزمي في المناقب، و الحافظ أبو نعيم، و الثعلبي في تفسيره، و الحمويني في فرائده، و ابن المغازلي

وفي الدر المنثور أخرج عبد الرزاق، و عبد بن حميد، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم، و الطبراني، و ابن عساكر من طريق عبد اللّه بن مجاهد عن أبيه عن ابن عباس: «أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كانت له أربعة دراهم فأنفق بالليل درهما، و بالنّهار درهما، و سرّا درهما و علانية درهما».

و في مناقب ابن شهر آشوب، و تفسير البرهان روى ذلك عن ابن عباس، و السدي، و مجاهد، و الكلبي، و ابن صالح، و الثعلبي، و الطوسي، و الواقدي، و الطبرسي، و الماوردي، و القشيري، و الثمالي، و النقاش، و الفتال، و علي بن حرب الطائي، و عبد اللّه ابن الحسيني في تفاسيرهم.

أقول: الروايات الدالة في أنّ الآية الشريفة نزلت في عليّ (عليه السلام) متواترة بين المسلمين كما تقدم بعضها.

و روى الواحدي و السيوطي في الدر المنثور عن الطبراني و ابن أبي حاتم «أنّ الآية نزلت في أصحاب الخيل الذين يعلفونها في سبيل اللّه».

أقول: على فرض صحة الرواية لا بأس بكونه من أحد المصاديق و يكون علي (عليه السلام) رأس النزول و منشأه و البقية من باب التطبيق.

و في الدر المنثور أخرج ابن المنذر عن سعيد بن المسيب «أنّها نزلت فى عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف إذ أنفقا في جيش العسرة».

أقول: يمكن أن يقال: بأن يكون للنزول منشأ انبساطي يكون بعض أفراده هو المنشأ الأول و ينبسط على جميع ما يصلح لذلك فما هو مورد النزول، و وجهه في المرتبة الأولى إنّما هو عليّ (عليه السلام) فينطبق على غيره بحسب المراتب و الشأن إذا لا منافاة بين هذه الأخبار إذا لوحظ النزول بوجه انبساطي كلّي و كان منشأه عليّا (عليه السلام).

و في بعض التفاسير: «أنّ الآية نزلت في أبي بكر تصدق بأربعين الف دينار عشرة بالليل، و عشرة بالنهار، و عشرة بالسرّ، و عشرة بالعلانية».

أقول: تقدم ما يرتبط بذلك.

ص: 405

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهية التالية:

الأول: أنّ الإنفاق و الصدقات مطلقا واجبة كانت أو مندوبة متقوّمة بقصد القربة فما لم تضف إلى اللّه تعالى تكون باطلة، و لا تبرأ الذمة لو كانت من الصدقات الواجبة و تجب الإعادة، و قد ذكرنا أنّ الإضافة إليه عزّ و جل في كلّ عمل بمنزلة روح ذلك العمل.

الثاني: إطلاق الآيات الشريفة الواردة في الإنفاق المالي في سبيل اللّه يشمل الإنفاق الواجب - كالزكاة، و الخمس، و الكفارات المالية و النفقات الواجبة، و الإنفاق المندوب كأصل الوقف و السكنى و العمرى و الوصايا و الهدية و الهبة و غيرها.

و يشترط في قبول جميع ذلك قصد سبيل اللّه تعالى و الإخلاص فيها و على قدر الإخلاص يتحقق مقدار الثواب و ما أعدّه اللّه تعالى من عظيم الأجر و عدم إبطالها بالمنّ و الأذى.

و الإنفاق ينقسم بانقسام الأحكام الخمسة التكليفية فهو إما مباح أو واجب أو مندوب أو مكروه أو حرام و الأخير لا وجه له إلا العصيان و استحقاق العقاب، و البقية إن قصد بها وجه اللّه و سبيله ففيها الثواب و عظيم الأجر و إن خلت عن ذلك و خلت عن الرياء و ما يفسدها يصح أن يترتب الثواب أيضا،

ص: 406

و يترتب الثواب على الإنفاق المكروه بعد ما كان أصل الذات محبوبا و هو ليس بعادم النظير مثل الصلاة في الأمكنة المكروهة و الأزمنة المكروهة.

الثالث: إطلاق قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اَللّهِ يشمل القصد التفصيلي و هو معلوم لكلّ أحد و القصد الإجمالي الارتكازي كما إذا قصد الشخص أنّ كلّ ما يفعله من الأفعال المباحة في زمان معيّن يكون للّه تعالى ثم فعل فعلا غافلا عن هذا القصد لكن كان بحيث لو التفت إليه لكان بانيا على قصده فهذا أيضا من قصد سبيل اللّه.

و يكفي قصد سبيل اللّه عن النائب و الوكيل في تحقق الثواب ما لم يتحقق المنّ و الأذى فإنّهما يهدمان العمل و يبطلانه بل قد يحرم الإنفاق حينئذ لاشتماله على إيذاء الغير و هتكه.

و لا فرق في المنّ و الأذى بين ما إذا كان بعد الإنفاق بلا فصل أو معه، كان بعنوان المنّ و الأذى أو لم يكن و لكن انطبق العنوان عليه.

الرابع: إيذاء المؤمن و المنة عليه يجتمع فيه حق اللّه تعالى و حق الناس، لكثرة ما ورد في السنة الشريفة من عناية اللّه تعالى بشأن المؤمن فلا يكفي فيه مجرّد الاستغفار و التوبة ما لم يجلب رضاه.

الخامس: إطلاق قوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى يشمل ما إذا حصلا من صاحب المال أو من وسيطه كالوكيل و النائب عنه، لأنّ المستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ ذاتهما مبغوضتان و من رذائل الصفات و خبائث الأخلاق مطلقا فالنّهي يشمل الجميع. و لكن لو قصد الموكل القربة و مرضاة اللّه تعالى و تنزه عن المنة و الأذية، و قصد الوكيل المنة و الأذية أثم الوكيل من دون أن يمحق ثواب أصل العمل.

السادس: تجب الإعادة في الصّدقات الواجبة لو كانت بعنوان المنّ و الأذى و لا تجزي لقوله تعالى: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ اَلْأَذى و النّهي في العبادة يوجب الفساد كما ثبت في محلّه راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

السابع: يستفاد من قوله تعالى: كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ اَلنّاسِ

ص: 407

مبغوضية الرياء و استلزامه بطلان العمل و يكون المرائي آثما سواء تعلق الرياء بجميع العمل أم بجزء من أجزائه أم بشرط من شروطه هذا إذا كان العمل عباديا، و أما إذا لم يكن المورد عبادة و لم يعتبر في تحققه قصد القربة فإنّه لا يوجب البطلان و لكنّه يوجب الحرمان عن الثواب.

و هو من رذائل الأخلاق و من الصفات الخبيثة جدّا ينافي الاستكمالات مطلقا و إنّه يرجع إلى إراءة غير الواقع بصورة الواقع، و يجتمع فيه أنواع من الأخلاق الذميمة، و الصفات الرذيلة، كالغش و المكر و الخديعة و غير ذلك و لعل تعدد أسمائه في السنة المقدسة كما تقدم لأجل تعدد مصاديقه، فهو من المقبحات الذاتية سواء كان بين الخلق بعضهم مع بعض أو بين الخلق و الخالق فإنّ قبحه أعظم و أشنع، و قد كنّي في علم الأخلاق ب (ام الخبائث) كما كنّي الخمر بذلك.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أنّ الحق نوعيّ لا أن يكون شخصيّا فليس للفقير أن يأخذ الخبيث و لا تبرأ ذمة المالك بذلك، و إطلاق الآية الشريفة يشمل الصّدقات الواجبة و الصّدقات المندوبة.

التاسع: إطلاق قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ - الآية يشمل المباشرة و التسبيب كما يشمل جميع أنحاء الإبداء و الإخفاء سواء كان في جميع الصّدقات أو في البعض، و تقدم أنّ الإبداء في الصّدقات الواجبة و الإخفاء في غيرها.

ص: 408

بحث عرفاني

العبودية الحقيقية للّه تعالى جوهرة كنهها الربوبية، و التفاني في مرضاة الخير المطلق خير مطلق، و يصير العبد بذلك محبوبا لدى الجميع من دون أن يكون في البين واسطة و شفيع، بل يصير العبد بها محبوب الممكنات و تشرق عليه الشوارق من ربّ البريات.

ألم تر أنّ البدر يشرق ضوؤه *** بصفو غدير و هو في أفق السما

فإنّ استغراق العبد في العبودية المحضة تلذذ من الجمال المطلق الأتم و استشعار بالكمال الأرفع الأهم فلا تعلم نفس ما اخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون، و في مثل هذه المرتبة تتحد الحقيقة و الفعل و الفاعل و حينئذ يقصر القلم عن البيان و يكل اللسان عن الكلام.

و حيث لا يجد المدّعون لعبودية اللّه تعالى هذا المقام في أنفسهم و يعترفون بعدم وجدانهم له فلا بد أن يعترفوا بعدم وجدانهم لمقام العبودية المحضة، فإنّ عدم المعلول يكشف عن عدم العلّة و كيف يصل أحد إلى هذا المقام و هو منغمر في الشهوات و أليف الغفلات.

و إنّما يعبد العابدون أهواءهم النفسانية التي أفنوا جميع حيثياتهم و شؤونهم فيها أَ رَأَيْتَ مَنِ اِتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [الفرقان - 43].

و العبودية الحقيقية هي التي تظهر آثارها على العبد فلا يصدر منه معصية

ص: 409

و لا يخطر في باله غير رضاء الرب و فيها

قال عليّ (عليه السلام) «اعبد اللّه كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك و احذره أن يراك حيث نهاك».

و إنّها إذا استولت على القلب فلا يشغله شاغل من الشواغل المادية الدنيوية و لا يمنعه مانع من الإنفاق في سبيل اللّه تعالى فإنّ الخلق كلّهم عيال اللّه عزّ و جل.

و العبودية الحقيقية إضافة بين المعبود و العابد و هي دواء لجملة من الأمراض النفسانية الروحانية و فيها سرّ الخلوص و الإخلاص.

و العبد يبذل المال اليسير و الإنفاق في سبيل اللّه يرتبط بذلك مع عالم لا نهاية لعظمته و لا حدّ لجهة من جهاته فيتضاعف بنفس الإضافة التشريعية أضعافا مضاعفة لا في الدنيا فحسب بل في كلّ عالم يظهر فقر الإنسان الذاتي من كلّ جهة، و لو أردنا بيان الأدلة السمعية و الشواهد العقلية لطال المقام.

فالإنفاق إما لأجل حبّه من حيث هو كمال للإنسان كان الإنسان جوادا بنفسه أو لأجل رضاء اللّه تعالى أو لأجل حب المنفق عليه حبا يرجع إليه عزّ و جل فجميع ذلك يرجع إلى نفس العبد المنفق و يكون كمالا له و يستكمل به استكمالا حقيقيا تتبعه السعادة الأبدية و هي غاية خلق الخليقة و تلزم ذلك السعادة الدنيوية و الكمال الدنيوي الزائل فلا استكمال الا بالإضافة إلى الحيّ القيوم و كلّ من أهمل ذلك أهمل غاية خلقه و سعى في تعطيلها و تضييعها.

و الإضافة إلى اللّه تعالى لا بد أن تكون عن طريق الوحي المبين المنزل على سيد المرسلين، كما أنّ أصل العمل المضاف إليه يجب أن يكون كذلك و إليه تدعو جميع الآيات و السنة المقدسة و الأدلة العقلية.

و بذل المحبوب في مرضاة المحبوب من طرق إثبات خلوص المحبة و صفاء المودة، و يتضاعف ذلك حسب تضاعف عظمة المبذول له و أهميّة الوصول إلى قربه و رضوانه، و نفس هذه الإضافة توجب للباذل درجة رفيعة مع قطع النظر عن سائر الجهات و لذلك أجمل سبحانه و تعالى قوله: وَ اَللّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ و قوله تعالى: تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [البقرة - 110]، فالعين

ص: 410

موجودة عنده سبحانه و تعالى و لا يعقل فناؤها لكن مع إضافات لا تتناهى و كلّ ما ورد فيه من التحديد فإنّما هو بحسب موجودات هذا العالم لا بحسب الواقع الذي يطلق عليه (عند اللّه) أو (عند الربّ ) و لا معنى للربوبية العظمى إلا تربية ما يصل إليه بما يليق به.

و أما الملكية، و المالكية، و الاختصاص فإنّها إذا لوحظت بحسب هذا العالم فهي قابلة للتغيّر و التبدل و لكن الإضافة الواقعية و هي سبيل اللّه و الحق المطلوب له باقية لا تزول بل تنمو و تزداد بالعناوين الخارجية و لا يحدها الزمان و المكان و لا غير ذلك من ملابسات الفعل.

و لذلك فكلّ إنفاق يصدر عن غير ذلك و لا يقصد به الحق المتعال يكون من ترجيح المرجوح على الراجح الذي هو قبيح عقلا و لا نصيب للفاعل منه في الآخرة فقد ذهب المال و بقي الحسرات.

ص: 411

بحث علمي
اشارة

الإنفاق من أعظم ما يهتم به الإسلام و هو من إحدى ركائزه و أصوله و قرين أهم العبادات و عدله في معظم آيات القرآن و قد ذكر في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مؤكدا عليه بأساليب مختلفة مرشدا الناس إلى ما يتضمنه من المصالح و الحكم و تتجلّى أهمية هذا الأمر أنّه يمسّ الاجتماع الإنساني و يرفع كثيرا من مشاكله و آلامه و حاجاته، و يؤلف بين أفراده و يوقع التضامن بينهم ليكونوا كالبنيان المرصوص أمام عاديات الدّهر و نوازله و هذا ما اهتم به الإسلام فإنّ سعادة الفرد بسعادة النوع و الاجتماع، و هما في نظره على حدّ سواء، فلا سعادة لأحدهما بدون سعادة الآخر.

و الإنفاق بنفسه أمر فطري فإنّ مدّ يد المساعدة إلى بني النوع من غرائز الإنسان و لا يسع لأحد إنكاره و لكن هذا الأمر الفطري إن أهمل و ترك و لم يقترن بداع عقليّ أو شرعيّ خارجيّ لزال و أصابه الفناء أو قلّ داعويته كسائر الغرائز فلا يمكن الاستفادة منه، و لذا نرى أنّ بعض المذاهب الاقتصادية تذهب إلى إنكار الصّدقات و تشدد النكير عليها و تعتبرها من موجبات التخلف و الانهيار الاقتصادي و الخلقي للمجتمعات بينما نرى أنّ بعض المجتمعات لا تنكر الإنفاق و الصّدقات و لكن تعتبر الفقير عالة على المجتمع يجب التخلص منه.

و أما سائر المذاهب الاقتصادية فإنّ الأهم عندهم هو إزالة الفقر

ص: 412

و التفاوت بين الأفراد من المجتمع و وضعت نظريات متفاوتة في محو هذه الظاهرة أو الحدّ منها، و قد أيدت بعض السلطات الزمنية بعض هذه النظريات و حاولت تطبيقها على الحياة، و لكن جميعها لم تصل إلى الحل المنشود بل تراجع كثير منها أمام المشاكل و ما جلبتها من الشقاء و الفساد و هو ما نراه اليوم في كثير من المجتمعات.

و لكن نظر الإسلام في الإنفاق يختلف عن جميع ما وضعه الإنسان في هذا المجال حتّى اليوم، فهو ينظر إلى الإنفاق من جوانب ثلاثة متكاملة لا يصح النظر إلى جانب و الإغماض عن بقيّة الجوانب فهي وحدة متكاملة باجتماعها يصل الإنسان إلى المطلوب و الا استلزم خلافه و حرم من الغرض الذي يترتب على الإنفاق و هي:

الجانب الاقتصادي:

الإسلام إنّما يريد من الإنفاق و الصدقات رفع الحوائج و إيجاد التكافل الاجتماعي. و تحقيق حياة نوعية متقاربة الأفراد متشابهة الأبعاض و ذلك برفع معيشة الفقراء الذين أعوزهم المال في رفع الحوائج و تقريبهم إلى الطبقة العالية أهل الغنى و الثروة و كبح جماح الأغنياء و عدم تمركز الثروة فيهم و في أيّ طبقة من طبقات المجتمع قال تعالى: ما أَفاءَ اَللّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ اَلْقُرى فَلِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ اَلْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ [الحشر - 7]، و حرّم الإسراف و التبذير بالزينة بغير المعروف.

و به ترتفع الحوائج، و يقل التفاوت الا ما كتبه اللّه تعالى بحسب الاستعداد و بذلك تنتظم شؤون الحياة و تترتب ترتيبا صحيحا يتضمن سعادة الإنسان و في ذلك يتحد أفراد المجتمع أمام الحوادث و عوادي الدهر فتحيى فيهم ناموس الوحدة و التعاون و يرتفع التباغض و التنافر بين الأفراد، و قد أثبتت لنا هذه الحقيقة السيرة النبوية الشريفة على صاحبها آلاف التحية و الثناء ففي مدة زعامته (صلّى اللّه عليه و آله) للأمة سعى في إيجاد الوحدة الاجتماعية

ص: 413

المتكافلة و تحقيق الأهداف التي رسمها الإسلام في حياة الإنسان مما جعل هذه البرهة من الزمان نورا يسطو على جبين الدّهر و منارا يقتدى به لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ [الأحزاب - 21].

الجانب التربوي:

و الإسلام ينظر في الإنفاق و الصّدقات إلى تربية الإنسان تربية واقعية حقيقية تقوم على التعاطف و التراحم بين الأفراد و التكافل بينهم و نبذ التفرقة و التنافر فأوجب الصّلة بين الأفراد و فتح أبواب الصّدقات و الإنفاق و حرّم الأذية و المنّ و البخل قال تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [التغابن - 16]، و أكد على تحريم الرياء و النفاق فإنّهما يهدمان كلّ مروة في الإنسان و يزيلان أثر كلّ تربية و يجلبان كلّ فساد و قد عرفت كيف ضرب اللّه تعالى الأمثال لذلك في الآيات المتقدمة مما لا يدع مجالا للشك.

الجانب الأخلاقي:

فقد لاحظ الإسلام في الإنفاق كونه أمرا أخلاقيا يرشد إلى التخلق بأخلاق الكرام و التحلي بصفة الجود و السخاء و التزين بالملكات الفاضلة و الأخلاق الكريمة، و أنّه من الحكمة التي يؤتيها من يشاء من خلقه، و هذا ما أكدت عليه الآيات السابقة، ففي الإنفاق يجتمع كثير من مكارم الأخلاق. و به يمكن الإنسان ترويض نفسه و إرغامها على نبذ كثير من مساوي الأخلاق و التحلّي بمكارمها.

هذا موجز ما أردنا ذكره في الإنفاق في نظر الإسلام، و هذه هي حقيقة من الحقائق القرآنية التي عليها في معظم الآيات المباركة و السنة الشريفة و إنّ العمل بها يجلب السعادة في العاجل و الآجل و الإعراض عنها يوجب الحرمان و الشقاء و شيوع الفساد و الفحشاء، و هذا ما نراه اليوم في حياة الإنسان و قد صوّر لنا أمير المؤمنين (عليه السلام) بعض تلك الجوانب الخطيرة في هذه الحياة التعسة إذ

يقول (عليه السلام): «و قد أصبحتم في زمن لا يزداد الخير

ص: 414

فيه إلا إدبارا و الشرّ فيه إلا إقبالا، و الشيطان في هلاك الناس إلا طمعا فهذا أوان قويت عدته و عمّت مكيدته، و أمكنت فريسته، اضرب بطرفك حيث شئت من الناس هل تبصر إلا فقيرا يكابد فقرا؟! أو غنيا بدّل نعمة اللّه كفرا؟! أو بخيلا اتخذ البخل بحق اللّه وفرا؟! أو متمرّدا كأنّ باذنه عن سمع المواعظ و قرأ». و ليس للمسلمين مناص الا الأخذ بمجامع الإسلام و العمل بما جاء به القرآن فإنّ بذلك ترتفع جميع المشكلات و يقهرون به أعداءهم و يتسلطون على من سواهم تسلّطا واقعيا غير قابل للنقض و الإبرام، و هذا هو أدب الإسلام الذي أدّب المسلمين حيث

قال (صلّى اللّه عليه و آله): «ما آمن بي من بات شبعانا و جاره جائع»،

و قال أيضا: «المسلم من سلم المسلمون من يده و لسانه» إلى غير ذلك مما هو كثير.

ص: 415

سورة البقرة الآية 275-281

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَ.......

اشارة

اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) تتضمن الآيات الشريفة بعض أحكام الربا الذي كان شايعا في الجاهلية يتعاطاه اليهود و المشركون و قد شدّد اللّه سبحانه و تعالى في الربا بما لم يكن مثله في سائر الكبائر من الذنوب فهدّد بما يفزع الضمائر و يزلزل القلوب، فأكد الحرمة فيه و شدّد النكير على المرابين و الوعيد لمن استحل الربا و أصرّ على فعله.

و اعتبر القرآن الربا من أعظم أنواع الطغيان و أشد أنحاء العصيان و من

ص: 416

يرتكبه يكون محاربا للّه و رسوله. و هو يوجب شيوع الفساد و هدم النظام و فيه من الآثار السيئة المشومة التي تؤثر في الفرد و الاجتماع و فيه ضياع حق النوع.

و سياق الآيات الشريفة يدل على أنّها نزلت لتأكيد الحرمة السابقة التي لم يكن المسلمون يراعونها فهي لم تشرع حكما جديدا في الربا بل كان التشريع في الآية التي نزلت قبل هذه الآيات و هي قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [آل عمران - 130]، و قبل هذه الآية نزلت آية أخرى تبيّن اتجاه الإسلام في هذا الأمر الخطير، فكانت كالتوطئة للتشريع الجديد قال تعالى: وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ اَلنّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اَللّهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُضْعِفُونَ [الروم - 39]، و من ذلك يعلم أنّ الربا كان مبغوضا عند هذا الدّين الحنيف من حين حدوثه.

و يستفاد من المقابلة بين الربا في هذه الآيات السبع و الصّدقات التي تقدمت و الإنفاق الذي ذكر في الآيات السابقة عظم ما يترتب على الربا من الآثار السيئة كما يترتب على الإنفاق من الآثار الحسنة فإنّه نزول عن المال كلّه بلا عوض و لا رد تقرّبا إلى اللّه تعالى بخلاف الربا الذي هو استرداد للمال مع الزيادة، فكلّ ما فيه المصلحة يقابله كلّ ما في الربا من المفسدة، فهو يقابله في جميع الآثار و الفضائل و الرذائل و في كلّ العوالم.

و من ذلك يستفاد وجه الارتباط بين هذه الآيات و الآيات السابقة فإنّ فيها تحريضا على الإنفاق و توزيع الثروة بالعدل و الإنصاف و في هذه الآيات إزالة تمركز الثروة و إعدام الابتزاز و هدم التمايز إلا بالتقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها في هذه الآيات مكرّرا.

ص: 417

التفسير

275 - قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ .

الأكل معروف و المراد به هنا: أخذ الربا و انتزاعه من مالكه و هو المدين.

و مادة (ربو) تأتي بمعنى الزيادة و الارتفاع و لها استعمالات كثيرة في القرآن الكريم

و في الحديث: «من أجبى فقد أربى»

و في حديث الصدقة:

«إنّها تربو في كفّ الرّحمن حتّى تكون أعظم من الجبل».

و فيه «الفردوس ربوة الجنة» أي: أرفعها،

و منه أيضا: «فلا و اللّه ما أخذنا من لقمة إلا ربا من تحتها» يعني الطعام الذي دعا فيه النبي (صلّى اللّه عليه و آله) بالبركة.

و شرعا: زيادة خاصة في القرض أو في بيع أحد المثلين بالآخر مع الزيادة كما فصّلناه في (باب الرّبا) من (مهذب الأحكام).

و مادة خبط تأتي بمعنى المشي على غير استواء، يقال لمن يتصرف و لا يهتدي: يتخبط خبط عشواء،

و في الدعاء «اللهم إنّي أعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان». و قال زهير:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب *** تمته و من تخطي يعمّر و يهرم

ص: 418

و يتخبطه مثل يتملكه و يتعبده أي: تتابع الخبط عليه بسبب مس الشيطان له، فتتابع سقوطه بحيث فقد رشده لا يميّز بين الخير و الشر و النافع و الضار.

و القيام خلاف القعود و المراد به في المقام: هو النهوض بأمور المعاش قال تعالى: لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ [الحديد - 25].

و معنى قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ أي:

لا يقوم في امور المعاش و الحياة بالوجه الصحيح و النّهج القويم و ذلك لأنّ الإنسان بل سائر الحيوان قد أودع اللّه تعالى فيه قوة يميّز بها الخير من الشر و النافع من الضار و بها ينظم شؤون حياته باتساق و انتظام و بها يهتدي الإنسان في أفعاله و اعتقاداته و ينتفع من حياته بالوجه الحسن و ما كتبه اللّه تعالى فيها، فإذا اختلّت هذه القوة الدرّاكة المميّزة اختلت أفعاله و حركاته و أحكامه فلا يرشد إلى الصحيح منها و النافع كالمصروع الذي فقد فيه التمييز. فلا يقوم في معيشته بالوجه الصحيح النافع.

و فعل المرابي في أخذه الربا من الأفعال التي ليس فيها الخير و النفع و هو خلاف ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و العقل في الأفعال فإنّه اختلاس و ابتزاز لأموال الناس من غير عوض فيكون في طرف زيادة و نقصان في الطرف الآخر.

و يمكن أن يكون مس الشيطان موجبا لاختلال نظمه و خبط في أموره في جميع النشآت، ففي هذا العالم يغلب عليه الوهم و الخيال و يبتعد عن الفطرة المستقيمة و القوة العاقلة فيرى كالمصروع، و في موقف الحشر يراه جميع الناس كذلك لأنّه عالم ظهور الحقائق و السرائر للجميع فيحشر المرابي كالمصروع و هذا من خواصهم و علاماتهم، فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في هذا العالم عند أهل الحقائق و البصائر و في عالم الآخرة عند كشف السّرائر. فلا يكون ما في هذا العالم الذي نحن فيه الا مادة واحدة تتبادل عليها الصّور و الأعراض، بل لا معنى لدار الكون و الفساد الا ذلك و كلّ ما في الإنسان من الصّفات الحسنة أو القبيحة الذميمة ستبدو و تظهر في الدنيا أو في الآخرة.

ص: 419

و عليه فلا يختص خبط الشيطان بخصوص الربا بل هو عام يشمل جميع المعاصي و الآثام و لعلّ في ذكر كلمة التشبيه في الآية المباركة إشارة إلى ذلك. نعم، للخبط مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا حسب مراتب المعاصي و المداومة عليها.

و خواص المعاصي و آثارها لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من علّمه عزّ و جل من أوليائه

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ على كلّ عاص من معصيته علامة تليق به فيعرف بها صاحبها و على كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به فيعرف بها صاحبها و ذلك معنى قوله تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ [الرحمن - 39]. و قد ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة بعض تلك الآثار قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى [طه - 126]، و قال تعالى: وَ نَحْشُرُ اَلْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً [طه - 102]،

و عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يبعث الشهيد يوم القيامة و أوداجه تشخب دما»

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله) في شهداء بدر: «زملوهم بدمائهم و ثيابهم فإنّهم يبعثون فيها يوم القيامة» و يمكن إقامة الأدلة العقلية على ذلك و يأتي في الموضع المناسب بيانها إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان فليس المراد من خبط الإنسان من مسّ الشيطان هو المعنى الظاهري الجسماني فقط أي: من مسه الشيطان فأصابه الخبل و الجنون فتكون حركاته على غير انتظام و اتساق بل المراد الأعم من ذلك و ما ذكرناه آنفا من عدم استقامة أفعال الإنسان و أحكامه و عدم تطابقها مع العقل و الفطرة المستقيمة فيشمل جميع وساوس الشيطان و مكائده و حيله و مصائده، فيكون استيلاء غير القوة العاقلة على أعمال الإنسان من أقوى جهات تخبطه بالمس.

و بالجملة: انعزال الإنسان عن العقل و الشرع يكون من مسّ الشيطان و إن كان في ظاهر الأمر صحيحا و في كمال الرخاء و السعة و لكنّه في الواقع قرين الفساد و أليف الشرور و الآلام و هذا ما نراه في عالمنا المعاصر، فإنّ

ص: 420

باستيلاء الربا و أكل المرابي له من دون أن يكون رادع يردعه قد جلب الشقاء و الدمار و استولى الفساد على أهل الأرض و يأتي في البحث العلمي تتمة الكلام.

و من ذلك يظهر أنّ الآية الشريفة لا تختص بحال المرابي في يوم القيامة و أنّ آكلي الربا يقومون كالصريع الذي تخبّطه الشيطان من المس و قد نقل في ذلك أحاديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) بل يكون ذلك من مصاديق حال المرابي في يوم القيامة و أنّه أثر من آثار هذه المعصية الكبيرة كما عرفت آنفا فيكون للقيام معنى عاما يشمل القيام في الدنيا و هو النهوض بالأمر و القيام من القبر كما في الحديث.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا .

أي: إنّ أكلهم للربا و استحلالهم له أو إنّ الدليل على كونهم خابطين خرجوا عن جادة الصواب أنّهم قالوا في قياس باطل: إنّما البيع مثل الربا و لم يقولوا إنّما الربا مثل البيع الذي هو أقرب إلى الذهن فقد أمكن الخبط في نفوسهم و ظهر الاختلال على أفكارهم و أقوالهم فكان المعروف و المنكر لديهم سيان و قد شبهوا الربا الذي هو خلاف الفطرة المستقيمة بالبيع الذي هو المعروف بين العقلاء و هما نوعان متباينان، و لكن الخبط الذي استقر في نفوسهم جعلوا المأمور به كالمنهيّ عنه و هو قياس مع الفارق و هذا مثال لما ذكرناه سابقا من أنّ المراد من التخبط هو الخروج عن الفطرة و العقل سواء كان قوله تعالى مقول قولهم أو حكاية عن حالهم بالقول، فإنّه يدل على الخبط في كلامهم و عدم استقامة أفكارهم.

و قال بعض المفسرين إنّ المراد بقولهم إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا المبالغة في التشبيه كما في قول الشاعر:

و مهمه مغبرة أرجاؤه *** كأنّ لون أرضه سماؤه

و لكن فساد ما ذكره يظهر مما تقدم فإنّ التشبيه إنّما حصل من التخبط الحاصل لهم من مس الشيطان و الاختلال الناشئ في أفكارهم و قد ظهر

ص: 421

بطلان هذا القياس الذي هو خلاف المعروف في باب الأقيسة أيضا.

و مما ذكرنا يظهر الوجه فيما ذكره بعض آخر: من أنّ التشبيه بين البيع و الربا إنّما هو لأجل أنّهما مشتركان في الكسب و الفائدة و لكن في الربا واضح معلوم و في غيره موهوم.

قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا .

جملة مستأنفة أو حالية تدل على رد مزاعمهم الفاسدة. و البيع معلوم عند العرف و قد أحلّه اللّه لأنّ فيه الحكم و المصالح التي يستفيد منها النوع، و به ينتظم الاجتماع لشدة الحاجة إليه، و فيه تحفظ مالية الأموال و يستفيد المالك ما يقابل ملكه و تتحقق به رغباته فهو قائم بالعدل، فتكون حلية البيع موافقة للفطرة المستقيمة و سنة الاجتماع.

و إنّما حرم الربا لأنّه مبنيّ على الإجحاف و الظلم و الابتزاز و سد باب المعروف و كلّ واحد من ذلك يكفي في اعتبار الربا مخالفا للفطرة و الاستقامة في الحياة، فتكون الأحكام الإلهية مبتنية على الحكم و المصالح التي تجلب السعادة للإنسان في الدارين و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة الشريفة بل العقل أيضا و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

و الآية الشريفة غير مسوقة لتشريع حكم ابتدائي في البيع أو الربا بل سياقها يدل على الإخبار عن حكم سابق فيها كما عرفت سابقا، و لبيان خبط أفكارهم فإنّ الأمر لو كان كما يقولون لما اختلف حكم البيع و الربا، فيلزم إمّا بطلان حكمة الحكيم و هو محال أو بطلان زعمهم و هو معلوم و توطئة لما يأتي من الأحكام.

قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ .

الآية الشريفة تفتح أعظم أبواب رحمة اللّه جلّ جلاله و أوسعها و هو باب التوبة، و مفادها بيان حكم كلّي في كلّ معصية و هو أنّ الحكم إذا كان مشروعا و خالفه المكلّف بعمده و اختياره يوجب العصيان و استحقاق العقاب، فتجب

ص: 422

عليه التوبة. و أما إذا لم يكن الحكم مشروعا فلا موضوع للمخالفة و العصيان و لا مورد للتوبة لفرض عدم الحكم و انطباق مفادها على الربا يكون من انطباق الكلّي على المصاديق.

و الموعظة و الوعظ: الخبر المقرون بالتخويف، و عن الخليل: التذكير بما يرقّ له القلب. و المراد به هنا: بلوغ الحكم الذي شرّعه اللّه تعالى.

و الانتهاء: الانزجار و ترك الفعل المنهيّ عنه، قال تعالى: فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ [البقرة - 193].

و السلف: المتقدم، و له ما سلف، أوله ما قد سلف. أي: يعفى عمّا صدر عنه سابقا فلا شيء عليه.

و المعنى: فمن بلغه نهي و زجر عن اللّه تعالى في الربا و انزجر و ترك الربا فله ما ارتكب منه في زمن الجاهلية فلا عقاب عليه في الدنيا و الآخرة و لا ضمان، كما ذكرنا في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

و إطلاق قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل زمان تشريع الحكم و بعده فيعم كلّ جاهل بالحرمة ثم حصل له العلم بها و لو بعد نشر الإسلام و ظهوره.

و لكن الظاهر المنساق منه هو التوبة و سقوط العذاب عنه و أما حلية ما أخذه فيما سلف و جواز التصرف فيه بعد التوبة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة الا باستعانة السنة كما تعرضنا لبعضها في باب الربا، فالمعنى المستفاد من الآية المباركة سقوط أصل المعصية و منها الربا و أما التخلص من التبعات كالقضاء و الضمان و غيرهما فيحتاج إلى دليل خاص و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ .

أي: أنّ شأنه بالنسبة إلى التوبة و العذاب الاخروي و الضمان في الدنيا موكول إلى مشية اللّه تعالى فإن شاء قبل منه التوبة و إن شاء لم يقبلها و إن شاء وضع عليه بعض الأحكام و إن شاء عفا عنه فهو العالم بالحقائق و صدق النيات

ص: 423

يحكم بعدله فيه.

إن قيل: لا وجه لمشية العذاب قبل قيام الحجة.

يقال: الناس قبل قيام الحجة الظاهرية عليهم بإبلاغ الأحكام على قسمين:

الأول: القاصر غير الملتفت مطلقا حتّى بالنسبة إلى احتمال الضرر الاخروي.

الثاني: من احتمل الضرر الاخروي و هذا الاحتمال منجز في حكم العقل و له منشئية استحقاق العقاب بعد تمامية الحجة الظاهرية مع أنّ الربا مما يوجب اختلال النظام فيصير من القبائح العقلية.

قوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

أي: و من عاد إلى تعاطي الربا بعد تمام الحجة عليه مستحلاّ له يكون من الكافرين بما أنزله اللّه تعالى و هم من أصحاب النار هم فيها خالدون مع عدم التوبة الماحقة للذنب.

و يستفاد ما ذكرناه من المقابلة بين العود و بين الانتهاء الوارد في الجملة السابقة الذي هو بمعنى التسليم و البناء على عدم المخالفة فإنّها تدل على أنّ العود هو الرجوع إلى الذنب الذي لا ينتهي عنه بعد تمامية الحجة عليه، فيكون مصرّا عليه و هو في الواقع مستحل له و إن لم يظهره في كلامه الا إذا محقه بالتوبة هذا إذا كان المراد من العود ما ذكرناه.

و أما إذا كان المراد به مطلق الإتيان ثانيا مع عدم الاستحلال فيكون المراد بالخلود غير التأبيد بل بمعنى الركون كما

في حديث عليّ (عليه السلام) يذم الدنيا: «لمن دان لها و آثرها و أخلد إليها» أي: ركن إليها.

276 - قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ .

مادة (محق) تأتي بمعنى نقصان الشيء حالا بعد حال حتّى يفنى و محاق الشهر نقصانه، و هو مدة ثلاث ليال من آخر الشهر لخفاء نور القمر و نقصانه

ص: 424

فيها، و قد يطلق المحق على ذهاب أصل الشيء و فنائه كما

في الحديث «الحلف منفقة للسلعة ممحقة للبركة» و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في موردين أحدهما المقام و الثاني في قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ [آل عمران - 141].

و الارباء التنمية و الزيادة،

و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ صدقة أحدكم تقع في يد اللّه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه - أي المهر - أو فصيله حتّى يجيء يوم القيامة، و إنّ اللقمة لعلى قدر أحد».

و المعنى: يذهب اللّه تعالى الربا و يفنيه و يمحو البركة فيه و ينمي الصّدقات و يزيدها على خلاف ما يتوهمه الناس فإنّهم يأخذون الربا طلبا لزيادة المال و اللّه يمحقه، و لا يتصدقون خوفا من نقصان المال و اللّه يزيده و ينميه، و لا يختص نقصان الربا و زيادة الصدقات في الدنيا و الآخرة بل هما عامان فيهما.

و الآية الشريفة ترشد إلى بعض المصالح و الحكم التي من أجلها حرّم اللّه تعالى الربا و أحلّ البيع و أباح الصّدقات و رغّب إليها فيكون المحق من الآثار اللازمة للربا كما أنّ الإرباء من الآثار اللازمة للصّدقات، و ذلك لأنّ الصّدقات و الربا أمران اجتماعيان يخصان الطبقة الفقيرة و المحتاجة من المجتمع، و هم الكثرة الكاثرة يؤثر فيها كل ما يزيد في عنائها، و يستفزها كلّ ما يمسّ مشاعرها، فتهب لنيل حقوقها و الدفاع عن حياتها و إن استلزم الفناء و الفساد، و أما إذا أحسن إليها هدأت و قابلتها بالإحسان و أثرت الأثر الجميل فيها و شاع الصلح و الوئام و تبتعد عمّا يثير الفساد و الإفساد و تكون كنفس واحدة تنتشر فيها الرحمة و المحبة و التعاون، و تعيش حياة سعيدة آمنة مطمئنة و يكون كلّ ذلك سببا لزيادة المال و إنمائه أضعافا مضاعفة، كما وعد اللّه تعالى في الدنيا و الأجر الجزيل في العقبى، و لذا حث سبحانه على الإنفاق و الصّدقات و أكد على إشاعتهما و إفشائهما.

و أما إذا أسيء إلى هذه الطبقة بما يزيد في عنائها و مشقتها و عجزها قابلوها بالنكاية و الانتقام غافلين عما يترتب من الآثار المهلكة التي توجب

ص: 425

الفساد و الدمار فتشيع العداوة و البغضاء، و يذهب الأمن و الأمان و يستولي على النفوس الانتقام فتزداد الأمراض و الآفات، فيتغيّر خلق اللّه فلا يسلم فرد أو مال من أن تصيبه آفة أو هلاك، و هذا هو معنى قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ و قد شهد التاريخ كثيرا من ذلك و تكفي واحدة من تلك العبر للاعتبار، و هو من ملاحم القرآن الكريم الذي صدع به و نبه المسلمين إليه.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل المحق و الإرباء بالنسبة إلى الآثار الدنيوية و الآثار الاخروية فلا تختص بعالم دون عالم فإنّ اللّه تعالى محيط بجميع العوالم.

كما أنّه لا يختص بمحق ثواب الأعمال التي يعرض عنها المرابي باشتغاله بالربا أو التي يبطلها التصرف في مال الربا كأنواع العبادات كما يقول به بعض المفسرين بل يعم ذلك و الآثار الدنيوية كما عرفت.

و قال بعض المفسرين: إنّ المراد بقوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا أنّ ما يطلبه المرابي من الربا بزيادة المال إنّما هو لأجل اللذة و البسطة في الجاه و المكانة و العيش الهنيء و لكن يصل إلى عكس هذه النتيجة من الهموم و الأحزان و الحب الشديد للمال و الوله بجمعه، و مقت الناس له، و المبارزة مع من يريد صرفه عن ذلك فهو حينئذ قد فقد الانتفاع بما يريد من ماله فيكون كمن محق ماله و هلك.

و ما ذكره صحيح، و لكن ذلك أثر خاص فردي، و القرآن إنّما يبحث عن هذه المسألة بما أنّها من موجبات هلاك النوع و ما يفسد صلاح الاجتماع، فهو يبيّن حكما عاما يؤثر في سعادة الإنسان نوعه و فروعه، و هذا هو شأن القرآن الكريم في أحكامه و تكاليفه فيرشد إلى موجبات سعادة الفرد بما أنّه من ضمن الاجتماع كما يسعى إلى سعادة الاجتماع بما أنّه متكوّن من الأفراد فلا هو يتكلّم عن الفرد و لا هو يسكت عنه، و هذا هو دأب هذا الكتاب العزيز.

ثم إنّه يصح نسبة المحق إلى البركة و إلى أصل المال، و كذا إرباء

ص: 426

الصّدقات و تنميتها، فإنّ اللّه تعالى قادر على جميع ذلك، و يستفاد ما ذكرناه من مفهوم قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف - 96]، و في السنة المقدّسة من ذلك الشيء الكثير.

و التنمية و البركة و المحق مما يدركه الناس و محسوسة لكلّ فرد فإنّ المسألة اجتماعية أكثر من كونها فردية و عمر الاجتماع يفترق عن عمر الفرد مع أنّ آثار المعاصي و إن كانت خفية على الناس و لكنّها ظاهرة لذوي البصائر و من انكشفت لديهم السرائر، يضاف إلى ذلك أنّ من أمعن النظر في الاجتماع الإنساني المعاصر يرى أنّ الآثار اللازمة للربا التي نبه إليها القرآن الكريم قد ظهرت فقد تجمعت الثروة التي جعلها اللّه تعالى للنوع و تراكمت في جانب و حل الفقر و الحرمان في جانب آخر و شاع الفحشاء و المنكر و ظهر الانفصال و الافتراق بين الطائفتين الموسرين و المعسرين، و هذا ما ينذر بالخطر إن لم يتداركه عقلاء البشر و لكن أنّى يكون مع استيلاء الفساد و هيمنته على النفوس.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفّارٍ أَثِيمٍ .

الكفّار فعال من الكفر، أي: المقيم عليه المتمادي فيه. و الأثيم المبالغة في الإثم، أي: المنهمك في ارتكاب الآثام.

يعني: أنّ المتعاطي للربا و التارك للصّدقات قد كفر بما أنعم اللّه عليه من نعمة المال الحلال، و نعمة الأحكام الإلهية التي نزلت لسعادته فإنّ ترك الواجب و فعل الحرام كفران للنعمة و المداومة عليه قد يوجب الكفر، و كفره بالإعراض عن الفطرة المستقيمة في المعاملات، و كفره بإبطال عباداته و معاملاته بأخذه الربا، و كفره بالابتعاد عن مكارم الأخلاق و مزاولة سفاسفها، كالحرص و الطمع، فلأجل كفران هذه النّعم الكثيرة التي أنعمها عليه، فقد استقر في نفسه ارتكاب الآثام فهو كفّار أثيم و اللّه تعالى لا يحبه. و يستفاد من الآية الشريفة التعليل لمحق الربا و تحريمه.

277 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

ص: 427

277 - قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

يعني: إنّ الذين صدّقوا باللّه جلّ شأنه و رسوله و ما انزل عليه و عملوا الأعمال الصالحة التي تهذب نفوسهم و تهديهم إلى سبيل الرشاد و أقاموا الصلاة التي تذكرهم باللّه تعالى و تزيد في مراقبتهم لربهم و آتوا الزكاة التي تطهّر نفوسهم من رذائل الأخلاق و تحلّيها بفضائلها أولئك لهم أجرهم الذي لا يعلم مقداره و خصوصياته الا اللّه تعالى محفوظ عنده يرعاه و يزيده و يضاعفه أضعافا مضاعفة و لا خوف عليهم من المتوقع و لا هم يحزنون على ما وقع فهم آمنون في جميع ما يرد عليهم من العوالم.

و إنّما خص سبحانه و تعالى الصلاة و الزكاة بالذكر مع أنّهما بعض الأعمال الصالحة تعظيما لشأنهما فإنّهما من أعظم العبادات البدنية و المالية و النفسية.

و في الآية المباركة بشارة للمحسنين المتصدّقين، و تعريض بآكلي الربا، و مضمونها حكم عام ينطبق على المورد انطباق الكلّي على الفرد كما أنّه قضية عقلية مقدم الآية علّة لمؤخرها، و بينهما الملازمة العقلية و الشرعية.

و تخلل هذه الآية المباركة بين الآيات الواردة في شأن الربا للإشارة إلى أنّ التكاليف الإلهية كلّها واحدة في استكمال النفس، فالمناط كلّه إقامتها و إتيانها بالشروط المقرّرة، و أنّ ترك المحرمات و منها الربا من أهمّ شرائط القبول.

278 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

خطاب آخر فيه التأكيد الأكيد على ترك الربا، و وصف المخاطبين بالإيمان، لأنّه الداعي إلى التصديق باللّه و رسوله و الالتزام بتنفيذ التكاليف الإلهية، و أنّ المؤمنين بشرف إيمانهم تشرّفوا بالمخاطبة فكانت لهم قابلية الخطاب و بذلك تتم الحجة على الناس، مع أنّ العقل بعد التأمل و التفكر

ص: 428

كاف في الداعوية إلى إتيان الطّاعات و ترك المعاصي، فتكون الخطابات الشرعية الإلهية إرشادا إلى الأحكام العقلية، و منشئا لصحة العقوبة على المخالفة و المثوبة على الطاعة.

ثم أمرهم بالتقوى لأنّ بها تتم حقيقة الإيمان فلا يكفي مجرد الالتزام و التصديق القلبي إن لم يقترن بالعمل، و لعظم المعصية حدوثا و بقاء.

و عقب سبحانه و تعالى ذلك بالأمر بترك ما بقي من الربا. و منه يستفاد أنّه كان في عهد نزول الآية المباركة من يتعاطى الربا و له بقايا عند الناس، و لذا قيد الكلام بأنّ ثبوت الإيمان و تماميته و حقيقته تقتضي ترك الربا حتّى ما بقي منه. ففيه التأكيد على ما تقدم، و إيماء إلى أنّ ترك الربا من لوازم الإيمان.

279 - قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ .

الإذن كالعلم و زنا و معنى و لتضمنه معنى اليقين عدّي بالباء، و قرئ آذنوا (بالمد) من الإيذان بمعنى الإعلام أي: ليعلم بعضكم البعض بالمحاربة.

و الحرب مع اللّه و رسوله: هي الخروج عن طاعتهما و مخالفتهما، و يشتد عظم المحاربة حسب عظم المعصية، و لعل التنكير في الحرب لأجل ذلك.

و المعنى: و إن لم تتركوا الربا و تصرّوا على فعله فاعلموا أنّكم محاربون للّه و رسوله. و الحرب من اللّه تعالى غضبه و انتقامه و إذلال المحارب له، و تهييج ناموس الفطرة العامة عليه. كما أنّ الحرب من الرسول هي الإيذان بقتال الكافرين و إعلان العداوة مع المحاربين للّه و إرغامهم إلى الطاعة.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى الرسول تعظيما لشأنه، و لإثبات رسالته و سفارته الكبرى، و لبيان وحدة أصل الدعوة و أنّه لا فرق فيها بين كونها من اللّه أو من الرسول و التفرقة اعتبارية لأنّه الأصل في تبليغ الأحكام الإلهية، و لأنّ كون الحرب مع الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) أقرب إلى حصول الخوف في أنفسهم لترك الربا لأنّهم رأوا منه (صلّى اللّه عليه و آله) القتل و الإهلاك و الإفناء

ص: 429

فربما يكون سفير الملك أهيب عند بعض القاصرين من الملك نفسه.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ .

أي: و إن تبتم عن أخذ الربا و رجعتم عن الإصرار على فعله، فلكم رؤوس الأموال التي دفعتموها إلى الغرماء كاملة بلا زيادة عليها و لا نقيصة فلا تظلمون بأخذ الزيادة و لا تظلمون بالنقص من رؤوس الأموال، و هذا هو قانون العدل و الإنصاف، فلا يبقى موضوع للحرب و الاعتساف، و في الآية المباركة التأكيد على ترك الربا الذي لم يقبض.

و يستفاد من الآية الشريفة: ثبوت المطالبة لصاحب الدّين على الغريم و أنّ الأخير لا يجوز له تأخير الدّين و إن امتنع كان ظالما.

280 - قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ .

العسر خلاف اليسر، و هما من الأمور الإضافية المختلفة باختلاف الأفراد و الجهات و الخصوصيات.

و النّظرة: التأخير و الإمهال و الآية تدل على الوجوب.

و الميسرة: مصدر بمعنى اليسر. أي: و إن كان الغريم ذا عسرة و لم يجد ما يفي به دينه فيؤخر من له الحق مطالبة حقه و يمهل الغريم إلى زمان اليسار ليتمكن من أداء الدّين و لا إثم على الغريم في التأخير مع تحقق العسر.

و الآية الشريفة لا تحدّد العسر و اليسار، و لكن السنة الشريفة فسّرت العسرة بما إذا لم يجد ما يوفي به دينه غير ما استثني له في الشريعة كالخادم و البيت و الدابة و نحوهما مما هو مفصّل في كتب الفقه.

كما فسرت الميسرة فيها بما: إذا وجد ما يوفي دينه، و منه وصول خبره إلى الإمام فيفي عنه من سهم الغارمين. كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و من سياق الآية الشريفة يستفاد: أنّه كانت عادة جاهلية في إعسار

ص: 430

المديون فنزلت الآية الكريمة تحدّد ذلك و تبيّن الحكم الشرعي فيه، و مضمونها من القواعد الشرعية الامتنانية في كثير من أبواب المعاملات و الديون.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ .

أي: و إن تصدق من له الحق و أبرأ المديون عن الدّين كلاّ أو بعضا فهو خير له لتضاعف الثواب و الأجر، و فيه الحث على الصدقة.

و الآية مطلقة لا يختص حكمها بمن ذكر في الجملة السابقة.

و عن بعض: أنّ المراد بالتصدق الإمهال و الإنظار لما عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «لا يحل دين رجل مسلم فيؤخره الا كان له بكل يوم صدقة».

و لكنّه بعيد، لأنّ الإنظار واجب، كما تقدم في الآية السابقة، و سياق هذه الآية يدل على التصدق بالإبراء، و الحديث أجنبي عن المقام.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي: إن كنتم تعلمون ما هو الخير لكم و ما في الصّدقة من الخير العظيم و الفوائد الجليلة فإنّ فيها التعاطف و التراحم و الصلة بين الأفراد، و فيه من الترغيب و التأكيد على الصدقة ما لا يخفى. و فيه إيماء إلى أنّ ما ذكر في الآية هو العلم الذي يهدي الإنسان إلى الخير و الرشد و السعادة.

281 - قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ .

أعظم آية لمن التفت إليها من أفراد الإنسان تأخذ بمجامع القلوب و تحرّض الناس نحو الغرض المطلوب، تهيج القلوب بزواجر المعنى، و تقرع الأسماع بجواهر اللفظ، تتضمّن من العظة البالغة ما تكفي في الزجر إلى العمل بما جاء به سيد المرسلين، و تهوّن على المكلّف جميع الصعاب رجاء أن يلقى اللّه تعالى بأفضل حال.

و هي آخر آية نزلت من القرآن الكريم و لم ؟؟؟؟؟؟؟؟ بعدها ثم

ص: 431

مسرورا حتّى وصل إلى رحمة ربه و صار فيها مغمورا، و مضمونها عام.

و لعل تذييل آيات الرّبا بها لأجل إعداد النفوس لتقوى اللّه، و تحريضها على الورع عن محارمه، و الانتهاء عن انتهاك حرماته و التحرّج عن التعرض إلى حقوق الناس.

و لا بد أن تفعل هذه الآية بالامة نظير ما فعلت بالرسول الكريم، بل بالأولى لأنّه (صلّى اللّه عليه و آله) عصم عن الخطإ و العصيان و هم مبتلون بهما.

و مادة (رجع) تأتي بمعنى العود إلى ما كان منه، و هي متضمنة لقوله.

إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ [البقرة - 156]، كما في قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ [هود - 4]. و الرجوع هنا هو المعاد.

أي: اتقوا ذلك اليوم و أهواله الذي ترجعون فيه إلى اللّه، و فيه تمثيل الغائب المفقود بمثل الحاضر المشهود. يعني: لا بد أن يكون ذلك اليوم حاضرا في البال و ظاهرا في الحال فلا يشغل الإنسان شيء من الشواغل الدنيوية حتّى يصير ذلك من الملكات الراسخة في النفس فيسعد كلّ شخص بأعماله و ينتظم النظام.

قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ .

الوفاء و التوفية و الإيفاء: بمعنى الإتمام، و توفية الأعمال باعتبار توفية الجزاء.

و الكسب: العمل، و هو عام يشمل ما ورد فيه ثواب و جزاء خاص في الشرع أولا، لأنّ ما يصدر عن العبد إما أن يكون له ثواب أو فيه عقاب أو لا شيء فيه، و في الأول سروره، و في الثاني مساءته، و في الأخير حسرته.

و المعنى: ثم تجازى كلّ نفس ما عملت من خير أو شر جزاء وافيا و يصح أن يكون (ثم) لمطلق الترتب، كما في ترتب النتيجة على المقدمات، لأنّ يوم الرجوع إلى اللّه يوم أخذ نتائج مقدمات حصلت في الدنيا، و هي

ص: 432

حاضرة لديه تعالى و ذلك اليوم هو يوم ظهور عمل العاملين و شهودهم له.

قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ .

الضمير يرجع إلى الناس المدلول عليه جملة «كلّ نفس» أي: و هم لا ينقصون من جزائهم شيئا و فيه تأكيد على وفاء الجزاء كما تدل عليه آيات كثيرة، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [الزلزلة - 8]، و قال تعالى: وَ نَضَعُ اَلْمَوازِينَ اَلْقِسْطَ لِيَوْمِ اَلْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء - 47].

و يستفاد من هذه الآية المباركة أمور:

الأول: الإشارة إلى قاعدة دفع الضرر المحتمل إذا كان الضرر أخرويا فيستقل العقل بوجوب دفعه بالأدلة الأربعة و هو يتحقق بطاعة اللّه تعالى و الانزجار عن معاصيه.

الثاني: أنّها تدل على قاعدة احترام العمل التي هي من القواعد النظامية فلا بد من الجزاء و العوض على كلّ عمل و أنّ تركه قبيح و هو محال بالنسبة إليه جلّ جلاله.

الثالث: أنّ هذه الآية الشريفة أصل الآيات الواردة في إيجاد الداعي إلى الطاعة و الانتهاء عن المعصية و تذكر الإنسان بفعل المعروف و ترك المنكر و هما مما يقوم به النظام الأحسن في هذا العالم.

ص: 433

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا مبتدأ و قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ خبره.

و المشهور بين الأدباء: أنّ الربا من ذوات الواو لأنّ تثنيته ربوان و قال الكوفيون: يكتب بالياء و تثنيته بالياء لأجل الكسرة التي في أوله و هو القاعدة في ذوات الثلاثة إذا انكسر الأول أو انضم نحو ضحى و إن انفتح الأول كتبوه بالألف و ثنّوه بالواو نحو صفا.

و قال الزجاج: ما رأيت خطأ أقبح من هذا و لا أشنع لا يكفيهم الخطأ في الخط حتّى يخطئوا في التثنية.

و قال محمد بن يزيد: كتبت الربا في المصحف بالواو فرقا بينه و بين الزنا و كان الربا أولى منه بالواو لأنّه من ربا يربو.

التخبط من التفعل أي: من كثر خبطه بسبب مس الشيطان و استولى عليه ذلك.

ص: 434

قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا يحتمل فيه وجهان:

الأول: أن تكون جملة حالية يعني: و الحال أنّ اللّه أحلّ البيع و حرّم الربا فيكون ردا لقولهم في القياس الفاسد.

الثاني: أن تكون جملة مستأنفة لأنّ الجملة الفعلية المصدّرة بالماضي يجب تصديرها ب (قد) إذا كانت حالا.

و الألف و اللام في البيع و الربا للعهد أي: المعهودان عند الناس و المتعارف بينهم.

قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ سقطت علامة التأنيث من جاءه لأنّ تأنيث الموعظة غير حقيقي و هو بمعنى الوعظ.

و كان في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ تامة بمعنى وجد. و ارتفع (ذو) بها.

و التعبير عن المصدر بالفعل في قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا لكونه أظهر في الإقدام على فعل الصّدقة و اختيارها و يوجب الرغبة إلى التصدق بالدّين على المعسر.

و يوما في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً منصوب على المفعول لا على الظرفية، و جملة تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ نعت له.

ص: 435

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على امور:

الأول: يستفاد من هذه الآيات التشديد في أمر الرّبا و التأكيد على تركه و لم يشدد سبحانه في المعاصي الكبيرة بما شدد في الربا لما فيه من سوء التأثير في الفرد و الأمة، و ما فيه من طمس الفطرة و محو نورها و ما يجلب من الشقاء على أفراد الإنسان و انعدام الفضائل بينهم.

الثاني: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ الإنسان يخرج عن الحالة الطبيعية بفعل المعاصي و الموبقات و الجرائم و ذلك لأنّ الإنسان في حالته الطبيعية يكون على استقامة و توازن في أفكاره و أعماله ذو نظام صحيح في أقواله و أفعاله، فإذا أصيب بحالة مرضية كالجنون خرج عن ذلك التوازن و النظام، و كذا إذا فعل المعصية و أصرّ عليها و استولت على قلبه خرج عن تلك الاستقامة في الأفعال و انطمس نور الفطرة في نفسه، و هذه الحالة يعبّر عنها في علم النفس الحديث بتعبيرات مختلفة كالشذوذ، أو الانفصام و الصرع و نحو ذلك تبعا لاختلاف درجات اختلال التوازن الفكري عنده و هي من أشدّ حالات الإنسان و ما نزلت الكتب الإلهية و لم ترسل الرسل و الأنبياء الا لمعالجة هذه الحالات التي يعبّر عنها القرآن الكريم بتعبيرات مختلفة منها قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ و أمثالها من الآيات الشريفة التي ترشد

ص: 436

الإنسان إلى حقائق واقعية يجب دراستها و معالجتها و ليست هي أمورا وهمية كما يدعيها بعض المفسرين. و قد تقدم في التفسير ما يرتبط بذلك و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

الثالث: يدل قوله تعالى: كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ بعض الحوادث في الإنسان تستند إلى امور خارجة عن إدراكه كالملك مثلا، ففي مورد الآية الشريفة يستند الجنون و الصرع إلى مس الشيطان و فعله و بما أنّه من الجن و فرد من أفراده فيكون للجن ضرب في بعض الأمراض التي تصيب الإنسان و يدل على ذلك بعض الآيات الشريفة قال تعالى حكاية عن أيوب (عليه السلام): نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [ص - 41]، و المراد من النصب و العذاب هو المرض بقرينة قوله تعالى: رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ اَلرّاحِمِينَ [الأنبياء - 83].

و المرض تارة: يكون له أسباب طبيعية و تكوينية معروفة و اخرى أسباب غير مدركة للحس كالشيطان و الجن و نحو ذلك من الأسباب فلا يمكن إنكار ذلك بمجرد عدم إمكان إدراك السبب كما يدعيه الماديون، و قد ذكرنا مرارا أنّ الأسباب جميعها ترجع إلى اللّه تعالى فهو مسبب الأسباب و إن جرت عادته عزّ و جل على أن لا يجري الأمور الا بأسبابها و إنكار هذا الأمر ممن ينكر وراء الطبيعة ليس ببعيد. و لكن لا ينقضي العجب من بعض المفسرين الذي ينكر هذا التشبيه في الآية الشريفة و يعتبره من قبيل المجاراة مع عامة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة و لا ضير في ذلك فإنّه تشبيه خال عن الحكم و قال:

بأنّ استناد الجنون إلى الشيطان و تسليطه على الإنسان يخالف عدله عز و جل.

و لكن بعد الإحاطة بما ذكرناه يظهر فساد ما ذكره فإنّ اللّه تعالى أجل من أن يذكر الباطل في كلامه من دون أن يظهر بطلانه و يبيّن فساده.

و اعتبار كونه مخالفا لعدله عزّ و جل مردود فإنّ حكمته اقتضت أن يمتحن عباده بأمثال ذلك و يجري في الامتحان بالأسباب الطبيعية كالأمراض و الجنون بسبب طبيعي فما يقوله فيه يجري في المقام أيضا.

الرابع: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من يعلّمه و ما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار و هي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح و الجسد و سائر أموره و هذا ما تبينه آيات اخرى أيضا و العلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.

ص: 437

الرابع: يدل قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ على أنّ للمعاصي آثارا لا يعلمها الا اللّه تعالى أو من يعلّمه و ما ورد في الآية الشريفة أثر من تلك الآثار و هي لا تختص بجهة خاصة من الإنسان فتشمل الروح و الجسد و سائر أموره و هذا ما تبينه آيات اخرى أيضا و العلم بها لا يحصل الا بالوحي فلا يمكن تحصيلها بالتجربة.

الخامس: يدل قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا اَلْبَيْعُ مِثْلُ اَلرِّبا على ظهور التخبط على الأقوال بعد ثبوته في الأفكار لشدة انغمارهم في المعصية و إصرارهم على ارتكاب الكبيرة فإنّ للتخبط درجات متفاوتة حسب مراتب المعصية و المداومة عليها.

السادس: يدل قوله تعالى: أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا على ارتباط الأحكام بالمصالح و المفاسد و هي معلولة لها و لا فرق بين كونها مصالح و مفاسد عامة أو خاصة فلا يتحقق تشريع حكم جزافا من دون مصلحة أو مفسدة و قد ذكر علماء الفقه و الأخلاق و غيرهما علل الأحكام و مصالحها و مفاسدها في مواضع متعددة بل قد ألّفوا فيها كتبا خاصة و لكن علمها منحصر باللّه تعالى و ما ألهمه إلى أوليائه و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) و الأئمة الهداة (عليهم السلام) بعض منها.

السابع: استدل المعتزلة على خلود مرتكب الكبيرة في النار بقوله تعالى: وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و لكن عرفت أنّ الآية الشريفة و إن كانت مطلقة في خلود مرتكب الكبيرة إلا أنّ سياقها يدل على أنّ الخلود في النار كان بسبب ارتكاب الكبيرة و الإصرار عليها، و الاستهزاء بالأحكام الإلهية و هو يدل على كفره بما أنزله اللّه تعالى و مثله يخلد في النار إن لم يتب.

الثامن: يدل قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ على أنّ المحق من لوازم الرّبا كما أنّ الإرباء من لوازم الصدقة لا ينفكان عنهما، و المحق لا يختص بخصوص زوال المال بل يشمل حدوث النقمة و زوال البركة و إيجاد آفات و بلايا تعجز دونها النفوس و تذهب المال هدرا فتكون

ص: 438

الأموال الحاصلة من الربا كأن لم تكن فإنّ للّه تعالى جنودا من أنواع البلايا و المحن.

كما أنّ محاربة اللّه مع المرابين لا تختص بخصوص المقاتلة و إزهاق النفوس بل تشمل الجميع، و كذا إرباء الصّدقات لا يختص بزيادة الأموال بل تشمل البركة و كلّ ما فيه الخير و النفع، فالصدقة ربا في الواقع و إن لم يصطلح عليها الربا و إنّ الربا ممحوق لا محالة و إن سمي ربا في الظاهر.

التاسع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على ثبوت أصل الملكية و تقريرها بين الناس و إمضاء جميع المعاملات و التكسب بالأموال ما لم يكن منهيّا عنه شرعا فإنّ المال إنّما يكون رأسا إذا صرف في وجوه المعاملات.

كما أنّ قوله تعالى: لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ يدل على أنّ الرّبا ظلم يجب الابتعاد عنه بفطرة العقول.

العاشر: يدل قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ على إيجاد المراقبة في النفس و على الأعمال التي هي أساس الإيمان و أصل التقوى فإنّ الإنسان لا يبلغ العبودية الحقيقية الا بالمعية الانقيادية للّه تعالى و الانقطاع عما سواه و بها تتم الإنسانية الكاملة التي هي السعادة الأبدية و هي التي يدعو إليها اللّه تعالى و جميع الأنبياء و العقل المجرد عن شوائب الأوهام، فالآية الشريفة بمضمونها الرفيع و اسلوبها الجذاب تدعو إلى الكمال المطلق و حقيقة العبودية و هي المراقبة و الانقياد و بهما تتحقق التقوى التي ينادي بها القرآن الكريم.

الحادي عشر: يدل قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ على العدل الإلهي الذي أثبتوه بالأدلة الأربعة.

الثاني عشر: لم يبدأ اللّه تعالى الخطاب في قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ بمثل يا أيّها الذين آمنوا، أو يا أيّها الناس لأنّ الخطاب فيه إنّما هو لبيان انقلاب العوالم و الترتب الواقعي بين العلل و المعلولات و كلّ

ص: 439

ذلك من قبيل القضايا الطبيعية التي لا بد من وقوعها في السير التكاملي الذي هو أساس النظام الأحسن كقوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ اَلْأَرْضُ غَيْرَ اَلْأَرْضِ [إبراهيم - 48]، و قوله تعالى: يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً [لقمان - 33]، و نحو ذلك من الآيات الشريفة.

و إنّما قدم سبحانه و تعالى التقوى لأنّها الركيزة الاولى و الركن الركين في هذا المسير الاستكمالي بل هي المركب الهنيء و الباقي ليس الا موانع و عوائق عن الوصول إلى هذا الغرض، فالغاية لخلق هذا العالم ليس الا استكمال العقل و هو لا يحصل الا بالتقوى فهي العلة الغائية و الفاعلية و الصورية و المادية و قلّما يتفق مثل ذلك في شيء آخر.

ص: 440

بحث فقهي

تدل الآيات الشريفة على الأحكام الفقهية التالية:

الأول: تدل الآيات الكريمة على حرمة الربا و أنّه من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار و من الموبقات التي تقضي على الفرد و النوع و يدل على ذلك السنة الشريفة و إجماع المسلمين و دليل العقل أيضا بل لا اختصاص لحرمة الربا بالشريعة المقدّسة الإسلامية فهو محرّم في جميع الشرايع الإلهية فهو من الأمور العامة النظامية المحرّمة و يدل على كونه محرّما عند اليهود قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ [النساء - 161].

الثاني: الربا مما اجتمع فيه حق اللّه و حق الناس فهو محرّم من جهتين و تشتد حرمته عند شدة حاجة المأخوذ منه فلا تنفع فيه التوبة فقط بل لا بد من رد ما أخذه المرابي إلى المأخوذ منه و يجري عليه جميع أحكام الغصب من بطلان الصلاة فيه و حرمة التصرف فيه و بطلان أداء الحقوق الواجبة أو المندوبة منه و وجوب رده إلى صاحبه و تدل على ذلك الأدلة الأربعة كما فصّلناها في كتاب الغصب من (مهذب الأحكام) و منها

قول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «على اليد ما أخذت حتّى تؤديه».

الثالث: الربا إما قرضي أو معاملي:

و الأول: دفع المال قرضا بشرط الزيادة على المقترض حين الأداء.

ص: 441

و الثاني: بيع أحد المثلين بمثله مع الزيادة في أحدهما إذا كان من المكيل أو الموزون كبيع كيلو حنطة بكيلو و ربع منها. و لكلّ واحد من القسمين أحكام خاصة مفصّلة في كتب الفقه، و لا أثر لرضاء الطرفين في حلية الربا بعد نهي الشارع عنه و إلغاء هذا الرضا كما في المعاوضات المحرّمة فيكون وجوده كالعدم.

الرابع: ظاهر قوله تعالى: فَلَهُ ما سَلَفَ سقوط الضمان بالنسبة إلى ما مضى إذا أتلفه كما يظهر ذلك من السنة الشريفة أيضا و أما شموله لعدم وجوب الرد فيما أخذه و لم يتصرّف فيه فمشكل فلا بد حينئذ من الرجوع إلى السنة.

الخامس: إطلاق قوله تعالى: وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا يشمل كل زيادة ربوية سواء كانت عينا أم منفعه أو انتفاعا أو حقا. و منها رباء النسيئة الذي كان متعارفا في الجاهلية و هو أن يدفع المال لمقترضه إلى مدة على أن يأخذ كلّ شهر قدرا معينا ثم عند حلول الدّين و تعذر الأداء يزيد المديون في الحق و يزيد الدائن على الأجل.

السادس: يدل قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ على رفع حكم الربا فيما إذا لم تبلغه الحجة الظاهرية كما قد رفع حرمته في جملة من الموارد منها ربا الأب مع ابنه، و ربا السيد مع عبده، و ربا الزوج مع زوجته و قد فصل ذلك في الفقه.

السابع: يدل قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ على وجوب رد الدّين إلى صاحبه عند المطالبة و حرمة الطلب عند ثبوت عسر المديون و يجب إنظاره، و تدل على ذلك جملة من الروايات منها

ما ورد عن أبي عبد اللّه الصادق (عليه السلام) في رسالته التي كتبها إلى أصحابه: «إيّاكم و إعسار أحد من إخوانكم المسلمين و أن تعسروه بشيء يكون لكم قبله فإنّ أبانا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) كان يقول: ليس للمسلم أن يعسر مسلما، و من أنظر مسلما أظلّه اللّه يوم القيامة بظلّه يوم لا ظلّ الا ظلّه».

ص: 442

و لو استدان أحد و لم ينو أداء الدّين لا يجوز له التصرف في المال المقترض

لقول نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «من استدان و لم ينو الأداء فهو كاللص السارق» هذا في عدم قصد الأداء فضلا عن قصد عدم الأداء.

و الظاهر من قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ امتداد وقت الإنظار إلى حصول اليسار و تدل عليه جملة من الأخبار، كما أنّ إطلاقه يشمل كلّ دين بلا اختصاص له بدين الربا فهو من القواعد الامتنانية في أبواب الديون و المعاملات.

الثامن: إطلاق قوله تعالى: وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ شموله لكلّ أنواع الصّدقة حتّى احتساب الدّين من الزكاة أو الحقوق الاخرى الواجبة بل يشمل إبراءه كلاّ أو بعضا، و يستفاد منه أنّ الصّدقة أفضل من الإنظار و إن كان الأخير واجبا و لا ضير في ذلك بعد استفادته من الأدلة.

التاسع: يدل قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا على بطلان التمثيل الظاهري (القياس) لأنّ الأحكام تابعة للمصالح و المفاسد التي لا يعلمهما الا اللّه تعالى.

العاشر: إنّ إطلاق قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ يشمل التوبة بعد العلم بالحرمة كما يشمل الجهل بالتحريم و بعبارة اخرى يشمل الربا في الجاهلية قبل تشريع الحكم و الربا في الإسلام بعد التوبة.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ على توسعة الأمر في المعاملات الربوية في الجملة فهو ظاهر في بطلان الزيادة في الربا أما بطلان أصل المعاملة فلا يمكن استفادته من الآية الشريفة بل ظاهرها الصحة، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا الدال على صحة المعاملة و وجوب رد الفضل الذي أخذه زائدا على رأس ماله. هذا إذا لم يقم دليل معتبر على الخلاف و قد فصّلنا القول في باب الربا من كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 443

الثاني عشر: إطلاق قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا يشمل الربا القرضي و الربا المعاملي لفرض صدق الربا على كلّ منهما و يدل عليه أيضا تفريق الآية بين الربا و البيع. و سياق قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ ظاهر في الربا القرضي.

ص: 444

بحث روائي
اشارة

تقدم أنّ الربا من الكبائر التي أوعد اللّه تعالى عليها النار في الكتاب العزيز و هو من الموبقات التي تجلب الفساد و الشقاء و قد ذكر سبحانه في الكتاب العزيز بعض الآثار المترتبة على الربا، و شرحت السنة الشريفة هذا الموضوع شرحا وافيا و نحن نتعرض في هذا البحث إلى بعض الروايات التي وردت في حرمة الربا، و بعض ما ورد في موضوع الربا، و الآثار التي وردت في الأخبار، كما ننقل الروايات التي وردت في تفسير مفردات الآية المباركة:

حرمة الربا في السنة:

في الكافي عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«درهم ربا عند اللّه أشد من سبعين زنية كلّها بذات محرم».

أقول: و في بعض الروايات ثلاثين. و الحصر ليس حقيقيا بل إضافي يختلف باختلاف مراتب اضطرار المديون و تشديدات أكل الربا.

و التشبيه إنّما هو باعتبار تشديد نفس الحرمة فإنّ حرمة الزنا تختلف باختلاف المزني بها و مكان الزنا و زمانه و سائر جهاته لا أن يكون تنزيلا للربا منزلة الزنا من كلّ حيثية وجهة حتى يلزم إجراء الحد و نحو ذلك.

و لعل جهة أشدية الربا من الزنا أنّ فيه المفسدة الشخصية و النوعية

ص: 445

بخلاف الزنا الذي فيه مفسدة شخصية. نعم لو انتشر الزنا في المجتمع كان فيه مفسدة نوعية أيضا.

و في الفقيه عن جعفر بن محمد عن آبائه (عليهم السلام) عن النبي (صلّى اللّه عليه و آله) في وصية لعليّ (عليه السلام) قال: «يا عليّ الربا سبعون جزء فأيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه في بيت اللّه الحرام، يا عليّ درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام».

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك و المراد من سبعين جزء أنّ الربا مركب من سبعين معصية و مفسدة.

و في الكافي عن أبي جعفر (عليه السلام): «أخبث المكاسب كسب الربا».

أقول: لأنّ فيه خباثة شخصية و يوجب خباثة النوع باعتبار جريان أيدي المتبادلين على المال الذي وقع فيه الربا و يرشد إلى ذلك

ما ورد عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «يأتي على الناس زمان لا يبقى أحد الا أكل الربا و من لم يأكل الربا أصابه غباره».

و في التهذيب عن زيد بن عليّ عن آبائه عن عليّ (عليهم السلام) قال:

«لعن رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) الرباء، و آكله و بايعه، و مشتريه، و كاتبه، و شاهديه».

أقول:

ورد في رواية أخرى «لعن رسول اللّه خمسة» و يمكن أن يكون الحصر إضافيا نظير الخمر التي لعن رسول اللّه جملة فيها.

و في الكافي عن ابن بكير قال: «بلغ أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن رجل أنّه كان يأكل الربا - و يسميه اللبأ - فقال: لئن أمكنني اللّه لأضربنّ عنقه».

أقول: يمكن أن يكون قتله لأجل استحلاله للربا و جرأته على اللّه تعالى و هتكه لحرماته و تدل عليه الرواية الآتية.

و في الفقيه و العيون عن الرضا (عليه السلام): «هي كبيرة بعد البيان،

ص: 446

و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام) بعد البيان أي تمامية الحجة عليه فلا ينحصر الأمر في خصوص الربا بل تكون جميع المحرمات كذلك أيضا.

و في كنز العمال عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «ما ظهر في قوم الربا و الزنا إلا أحلوا بأنفسهم عقاب اللّه».

أقول: يشهد لذلك الدليل و البرهان و الوجدان.

و عنه (صلّى اللّه عليه و آله): «الربا ثلاثة و سبعون بابا و الشرك مثل ذلك».

و عن الصادق (عليه السلام): «الربا سبعون بابا أهونها عند اللّه كالذي ينكح أمه».

أقول: تقدم ما يتعلّق بهما.

موضوع الربا:

في تفسير القمي عن جعفر بن غياث عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «الرباء رباءان: أحدهما ربا حلال، و الآخر ربا حرام فأما الحلال فهو أن يقرض الرجل قرضا طمعا أن يزيده و يعوّضه بأكثر مما أخذه بلا شرط بينهما، فإن أعطاه أكثر مما أخذه بلا شرط بينهما فهو مباح له، و ليس له عند اللّه ثواب فيما أقرضه و هو قوله عزّ و جل: فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اَللّهِ و أما الربا الحرام فهو الرجل يقرض قرضا، و يشترط أن يرد أكثر مما أخذه فهذا هو الحرام».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و المستفاد من مجموعها أنّ شرط الزيادة محرّم و لكن نفس دفع الزيادة بلا شرط لا يكون محرّما بل يكون راجحا.

و في التهذيب عن الحلبي عن الصادق (عليه السلام): «إذا أقرضت الدراهم ثم جاءك بخير منها فلا بأس إن لم يكن بينكما شرط».

أقول: تقدم ما يتعلّق بذلك.

ص: 447

و في الكافي: «عن الرجل كانت لي عليه مائة درهم عددا قضانيها مائة درهم و زنا قال (عليه السلام): لا بأس ما لم يشترط. و قال جاء الربا من قبل الشروط، إنّما تفسده الشروط».

أقول: المراد من الشرط هو شرط الزيادة في العقد.

و في الكافي أيضا عن عبيد بن زرارة قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: لا يكون الربا إلا فيما يكال أو يوزن».

أقول: هذه الرواية تبيّن الرباء المعاملي لا الرباء القرضي.

و في التهذيب عن عمر بن يزيد قال: «يا عمر قد أحل اللّه البيع و حرّم الربا، بع و اربح و لا تربه قلت و ما الربا؟ قال (عليه السلام): درهم بدراهم مثلين بمثل و حنطة بحنطة مثلين بمثل».

أقول: هذا أيضا في الربا المعاملي دون القرضي.

و في التهذيب أيضا عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «ما كان من طعام مختلف، أو متاع، أو شيء من الأشياء يتفاضل فلا بأس ببيعه مثلين بمثل يدا بيد، فأما نظرة فلا يصلح».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): «يدا بيد» النقد و هذا في الرباء المعاملي و لا يتحقق الربا فيه لفرض اختلاف العوضين و المراد من النظرة النسيئة.

و في الكافي عن سماعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «المختلف مثلان بمثل يدا بيد لا بأس».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في التهذيب عن منصور بن حازم عن الصادق (عليه السلام) قال:

«سألته عن البيضة بالبيضتين قال (عليه السلام): لا بأس به. و الثوب بالثوبين

ص: 448

قال (عليه السلام): لا بأس به. و الفرس بالفرسين فقال (عليه السلام): لا بأس به. ثم قال: كلّ شيء يكال أو يوزن فلا يصلح مثلين بمثل إذا كان من جنس واحد، فإذا كان لا يكال و لا يوزن فلا بأس به اثنين بواحد».

أقول: لفرض اعتبار اتحاد العوضين في الرباء المعاملي فإذا اختلفا فلا ربا مع اعتبار كون العوضين من المكيل و الموزون و البيض و الثوب ليس منهما.

آثار الربا:

في الكافي عن سماعة قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): «إنّي قد رأيت اللّه تعالى قد ذكر الربا في غير آية و كرّره. قال (عليه السلام) أو تدري لم ذاك ؟ قلت: لا. قال (عليه السلام): لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف».

أقول: إذا فرض اقتصار الناس على الزيادة الربوية فقط تمحق جميع المعاملات و تذهب الخيرات و البركات و يختل النظام.

و في الفقيه عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «إنّما حرم اللّه عز و جل الربا لئلا يذهب المعروف».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لما أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه، فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس، و إذا هم بسبيل آل فرعون يعرضون على النار غدوا و عشيا، يقولون ربنا متى تقوم الساعة».

ص: 449

أقول: ما في الرواية حقيقة حال المرابي كشفها اللّه تعالى لرسوله ليلة المعراج.

و في التهذيب عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «إنّي سمعت اللّه يقول: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ ، و قد أرى من يأكل الربا يربو ماله ؟! فقال (عليه السلام): أي محق أمحق من درهم ربا يمحق الدّين، و إن تاب منه ذهب ماله و افتقر».

أقول: هذا من الآثار الوضعية للربا تظهر و لو بعد التوبة و مثل ذلك في المعاصي قليل جدا.

و في العيون عن الرضا (عليه السلام): «و علة تحريم الربا لما نهى اللّه عزّ و جل عنه و لما فيه من فساد الأموال لأنّ الإنسان إذا اشترى الدرهم بالدرهمين كان ثمن الدرهم درهما و ثمن الآخر باطلا فبيع الربا و شراؤه و كس على كلّ حال على المشتري و على البائع فحرم اللّه عزّ و جل على العباد الربا لعلة فساد الأموال، كما حظر على السفيه أن يدفع إليه ماله لما يتخوف عليه من إفساده حتّى يؤنس منه رشد، فلهذه العلة حرّم اللّه عزّ و جل الربا و بيع الدرهم بالدرهمين يدا بيد و علة تحريم الربا بعد البينة لما فيه من الاستخفاف بالحرام المحرّم و هي كبيرة بعد البيان و تحريم اللّه عز و جل لها لم يكن إلا استخفافا منه بالمحرّم الحرام و الاستخفاف بذلك دخول في الكفر، و علة تحريم الربا بالبينة لعلة ذهاب المعروف، و تلف الأموال، و رغبة الناس في الربح، و تركهم القرض، و القرض صنائع المعروف و لما في ذلك من الفساد و الظلم و فناء الأموال».

أقول: المراد من الوكس: النقص.

و في عقاب الأعمال عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من أكل الربا ملأ اللّه بطنه من نار جهنّم بقدر ما أكل و إن اكتسب منه مالا لا يقبل اللّه منه شيئا من عمله و لم يزل في لعنة اللّه و الملائكة ما كان عنده منه قيراط واحد».

ص: 450

أقول: القيراط أصله قرّاط و هو نصف عشر الدينار و قوله (صلّى اللّه عليه و آله) بكلا جزئيه مطابق للقاعدة العقلية و هي ترتب المسبب على السبب.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبطه الشيطان».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «إنّما شدد في تحريم الربا لئلا يمتنع الناس من اصطناع المعروف قرضا أو رفدا».

أقول: الرفد بمعنى الصلة و العطية و قد مرّ سابقا ما يتعلق بهذه الرواية.

و فيه أيضا عن عليّ (عليه السلام): «إذا أراد اللّه تعالى بقرية هلاكا ظهر فيهم الربا».

أقول: الهلاك أعم من الهلاك المعنوي و الظاهري.

ما ورد في تفسير مفردات الآية:

في الدر المنثور عن أنس قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله):

يأتي آكل الربا يوم القيامة مختبلا يجر شقيه، ثم قرأ: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ .

أقول: ما ذكره (صلّى اللّه عليه و آله) هو عادة نوع المصروعين في الدنيا.

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) في قوله تعالى: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ قال (عليه السلام): «الموعظة التوبة».

أقول: هذا تفسير بالمعنى الأخص.

و في التهذيب عن محمد بن مسلم قال: «دخل رجل على أبي عبد اللّه (عليه السلام) من أهل خراسان قد عمل بالربا حتّى كثر ماله، ثم أنّه سأل الفقهاء فقالوا: ليس يقبل منك شيء حتّى ترده إلى أصحابه فجاء إلى أبي

ص: 451

جعفر (عليه السلام) فقص عليه قصته فقال أبو جعفر (عليه السلام): مخرجك من كتاب اللّه عزّ و جلّ : فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اَللّهِ قال (عليه السلام) و الموعظة التوبة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية العموم كما ذكرنا ذلك في كتاب البيع - فصل الربا من (مهذب الأحكام).

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «كلّ ربا أكله الناس بجهالة ثم تابوا فإنّه يقبل منهم إذا عرف منهم التوبة و قال (عليه السلام): لو أنّ رجلا ورث من أبيه مالا و قد عرف أنّ في ذلك المال ربا و لكن قد اختلط في التجارة بغيره حلال، كان حلالا طيّبا فليأكله و إن عرف منه شيئا أنّه ربا فليأخذ رأس ماله و ليردّ الزيادة».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في اختصاص الحرمة بخصوص الزيادة فلا شمول لها لجميع المال.

و في التهذيب عن الصادق (عليه السلام): «سئل عن الرجل يأكل الربا و هو يرى أنّه حلال فقال (عليه السلام): لا يضره حتى يصيبه متعمدا، فإذا أصابه متعمدا فهو بمنزلة الذي قال اللّه عزّ و جلّ : لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ ».

أقول: ظاهرها اختصاص الحكم بصورة العلم لا صورة الجهل به.

و في تفسير العياشي عن الباقر (عليه السلام) قال اللّه تعالى: «أنا خالق كلّ شيء وكلت بالأشياء غيري إلا الصدقة فإنّي أقبضها بيدي حتّى أنّ الرجل و المرأة يتصدّق بشق التمرة فأربيها كما يربي الرجل منكم فصيله و فلوه حتّى أتركه يوم القيامة أعظم من أحد».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في تفسير العياشي عن الحلبي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام): «عن الرجل يكون عليه الدّين إلى أجل مسمى فيأتيه غريمه فيقول أنقذني فقال: لا

ص: 452

أرى به بأسا لأنّه لم يزد على رأس ماله و قال اللّه تعالى: فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ».

أقول: لم يتحقق في الفرض موضوع الربا لأنّه مشروط بالزيادة و هو منتف.

و في تفسير القمي: «لما أنزل اللّه تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا - الآية - فقام خالد بن الوليد إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) قال: يا رسول اللّه ربا أبي في ثقيف و قد أوصاني بأخذه عند موته فأنزل اللّه تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا ».

أقول: حيث إنّ المال انتقل إلى الورثة فهم مأمورون بعدم أخذ الزيادة وردها إلى صاحبها الذي كان معلوما و إنّ الوصية بالمحرّم غير نافذة.

و في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا نزلت في بني عمرو بن عوف من ثقيف، و بني المغيرة من بني مخزوم، و كان بنو المغيرة يربون لثقيف فلما أظهر اللّه تعالى رسوله على مكة وضع يومئذ الربا كلّه، فأتى بنو عمرو بن عمير، و بنو المغيرة إلى عتاب بن أسيد و هو على مكة، فقال بنو المغيرة: ما جعلنا أشقى الناس بالربا؟ وضع عن الناس غيرنا. فقال بنو عمرو بن عمير: صولحنا على أنّ لنا ربانا. فكتب عتاب في ذلك إلى رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية».

أقول: يمكن تعدد الواقعة بين خالد و بين من ذكر في هذه الرواية.

و في المجمع قريب منه و زاد: «فقال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): ألا إنّ كلّ ربا من ربا الجاهلية موضوع، و أول ربا أضعه ربا العباس بن عبد المطلب، و كلّ دم في الجاهلية موضوع، و أول دم أضعه دم ربيعة بن الحارث ابن عبد المطلب كان مرضعا في بني ليث فقتله هذيل».

و في الدر المنثور: أخرج أبو داود، و الترمذي في صحيحه، و النسائي، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص: «أنّه شهد حجة

ص: 453

الوداع مع رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فقال: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهلية موضوع، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون و لا تظلمون».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «صعد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) المنبر ذات يوم فحمد اللّه و أثنى عليه، و صلّى على أنبيائه ثم قال: أيّها الناس ليبلّغ الشاهد منكم الغائب، ألا و من أنظر معسرا كان له على اللّه في كلّ يوم صدقة بمثل ماله حتّى يستوفيه، ثم قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «و إن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة و أن تصدّقوا خير لكم إن كنتم تعلمون» إنّه معسر فتصدّقوا عليه بما لكم فهو خير لكم».

أقول: لا بأس بأن يكون الإنظار صدقة و إن كان واجبا، كما أنّ دفع المال يكون صدقة و إن كان واجبا كالزكاة.

و في تفسير العياشي عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ أخبرني عن هذه النظرة التي ذكرها اللّه عزّ و جل لها حد يعرف إذا صار هذا المعسر لا بد من أن ينظر، و قد أخذ مال هذا الرجل و أنفق على عياله، و ليس له غلة ينتظر إدراكها و لا دين ينتظر محلّه و لا مال غائب ينتظر قدومه ؟ قال (عليه السلام): ينتظر بقدر ما ينتهي خبره إلى الإمام فيقضي عنه ما عليه من سهم الغارمين إذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فإن كان أنفقه في معصية اللّه فلا شيء له على الإمام. قلت: فما لهذا الرجل الذي ائتمنه و هو لا يعلم فيم أنفقه في طاعة اللّه أو في معصيته ؟ قال (عليه السلام): يسعى له في ماله فيرده و هو صاغر».

أقول: يحمل

قوله (عليه السلام) «و هو لا يعلم فيم أنفقه» على ما قبل ظهور بذل المال في الحرام فحينئذ يجب عليه السعي بعد الظهور و هو صاغر، فالأقسام أربعة:

الأول: العلم بصرف المال في الطاعة، فعلى الإمام أن يؤدي دينه.

الثاني: الشك - في الصرف في الحرام - مستمرا و يحمل فعل المديون على الصحة فعلى الإمام أيضا أن يؤدي دينه.

ص: 454

الثالث: العلم بالصرف في المعصية لا بد له أن يسعى و يؤدي دينه بنفسه.

الرابع: عدم العلم بذلك حين دفع المال إلى المديون و بعد مدة علم أنّه صرف المال في الحرام، فحينئذ يسعى و هو صاغر و يستفاد جميع هذه الأقسام من الروايات المتقدمة.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ :

«اختلف في حدّ الإعسار فروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنّه قال: هو إذا لم يقدر على ما يفضل من قوته و قوت عياله على الاقتصاد».

أقول: حد الإعسار أمر إضافي يختلف باختلاف المديونين و عيالاتهم و الأزمنة و الأمكنة و مقدار قدرتهم على تحصيل المال فلا بد من الرجوع إلى الحاكم الشرعي، و هو يرجع إلى أهل الخبرة.

و في الدر المنثور عن ابن عباس، و السّدي، و عطية العوفي، و أبي صالح، و سعيد بن جبير: «أنّ آخر آية نزلت من القرآن قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللّهِ .

أقول: إنّ ذلك يناسب مع كثرة اهتمام القرآن بالتقوى حدوثا و بقاء بدوا و ختما.

ص: 455

بحث قرآني

خلق اللّه تعالى الإنسان و أودع فيه قوة يميّز بها الخير عن الشر، و النافع عن الضار، و ألهمه بعض الأمور التي بها ينظّم شؤون حياته الفردية و الاجتماعية و يسعى إلى الكمال المعدّ له، و بهما ترفّع على سائر الموجودات في هذا العالم و كان له هذا المقام السامي، كما أنّ بهما استقامت خطواته و انتظمت أفكاره، و بهما يكافح في عيشه في هذه الحياة المليئة بالمتاعب و المشاكل، و لو لا هذه الموهبة الربانية لكان للإنسان شأن آخر، و هو خلاف الحكمة في خلق الإنسان الذي قد أبدع اللّه تعالى في صنعه، و خلق له الأرض و ما عليها ليعمّرها و يتزوّد منها إلى العوالم التي ترد عليه.

و بحكم هذين الأمرين - أي العقل و الفطرة - تحكمت قواعد و أصول على جميع خطوات الإنسان و خصوصياته، و نظمتها تنظيما حسنا، و هي كثيرة يبحث عنها في علوم متعددة.

و لكن تلك القواعد العقلية و الأمور الفطرية قد تعرّضت لانحرافات و شكوك و شبهات بمرور الزمن مما أوجب طمس كثير منها و تعرض الإنسان لاختلافات و مشاكل عجز عن حلّها و متاعب و هموم أثقلت كاهله فأرسل اللّه تعالى رحمة بعباده الرسل و الأنبياء ليثيروا لهم دفائن العقول و يذكروهم منسيّ الفطرة، و يهدوهم إلى سواء السبيل و يرشدوهم إلى الحقّ القويم ليفوزوا بالسعادة الأبدية و يسعدوا في حياتهم.

ص: 456

و قد أنزل معهم الكتاب و الحكمة التي تحتوي على المعارف الإلهية و الأحكام الشرعية التي تبتني على حكم و مصالح نوعية تجلب السعادة و الخير للإنسان و يصل بها إلى الكمال المطلق، و قد تكفلت لجميع جوانب الإنسان الفردية و النوعية و لم يهمل أمرا من الأمور الجزئية، و جعل العمل بها من أجزاء الإيمان الصحيح و الوصول إلى السعادة في الدارين. و أما إذا أهملها و خالف حل في البلاء و الشقاء و سلب السعادة عن نفسه.

و من الموضوعات التي اعتنى بها الشرع القويم الربا و قد حرّمه اللّه تعالى و شدّد النكير عليه و جعل آكله محاربا للّه تعالى و لرسوله العظيم، و بيّن سبحانه و تعالى في ضمن الآيات المتقدمة أمرين هامين لا بد من البحث حولهما و إمعان النظر فيهما لأنّهما يتكفلان جميع الآثار المترتبة على هذه الكبيرة الموبقة.

الأمر الأول: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ . و الآية الشريفة تضع الحد الفاصل في كلّ ما يقال في هذا الأمر الخطير، و ترشدنا إلى حقيقة من الحقائق القرآنية التي تبيّن الوضع الإنسانيّ عند انتشار ظاهرة الربا في المجتمع، و هي من ملاحم القرآن العظيم، و تحدد سلوك الإنسان و أفعاله و أفكاره، و تبيّن أنّ الربا يمنع الإنسان من القيام بالوظيفة التي قرّرها العقل و الفطرة، و يخرجه عن حالته الطبيعية المستقيمة الرشيدة، فلا يكون فكره صحيحا منتجا و لا فعله متضمنا للخير و النفع و شبّه سبحانه و تعالى حال الإنسان المتعاطي للربا بحال المصروع الذي خرج عن الاستقامة و الاستواء في أفكاره و أقواله و أفعاله، و هو تشبيه واقعي حقيقي. فهو قد سلب عن نفسه تلك الحالة الهنيئة المطمئنة الآمنة القويمة، و صار قرين المشاكل و الآلام و الانهيار الفكري، و ترشد الآية الكريمة إلى معنى أبعد من ذلك و هو أنّ الإنسان مع الربا لا يكون فكره قويما و مستقيما فلا تفيده النظريات و القوانين التي يجعلها لحلّ مشاكله و لجلب السعادة إليه، فهي لا تكون منتجة، بل هي مجرد أوهام تسكن إليها النفس برهة من الزمن لتخفّف عنها ما تكابده و لكنّها تعود بأشد مما كانت أولا بعد ما

ص: 457

يرى عدم جدواها، و هذا هو الجانب المهم الذي يرشد إليه القرآن الكريم، و يؤكد ذلك إتيان ضمير الجمع في قوله تعالى: لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ يعني أنّ المجتمع الذي حلّ فيه الربا لا يمكنه النهوض بالأمر و التأثير في رفع المشكلات فضلا عن الأفراد، و قد اتضح صدق ما أفاده القرآن، فنرى في عالمنا المعاصر بعد انتشار الربا عقم النظريات و القوانين التي وضعت في رفع المشكلات، و لا يشك أحد من الباحثين أنّ عالمنا المعاصر مع ما فيه من وسائل الراحة و التمتع من الحياة لكنّه من أشد الأوقات بعدا عن الحقيقة و الواقع و العيش الهنيء.

الأمر الثاني: قوله تعالى: يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ . و الآية ترشدنا إلى أنّ الربا يلازمه أثر آخر مهم في حياة الإنسان و هو سلب الكمال عن الأشياء و ذلك لأنّ لكلّ شيء طرفي كمال و نقص، و الإنسان بفطرته يسعى إلى الكمال، فهذا المال بجميع أصنافه من النقود و الأمتعة و نحوهما قد استخدمه الإنسان لرفع حوائجه المادية و يستعين به في أموره الأخروية فهو محور المعاملات و عليه تدور المعاوضات، و وضع قواعد و قوانين تحدّد التعامل به، و جعل الكمال فيه هو رفع الحوائج بالعدل و الإنصاف و إشباع الرغبات على الوجه الأحسن، و اعتبر التعدّي عن القواعد المضروبة و القوانين المقرّرة ظلما و عدوانا.

و القرآن الكريم يبيّن أنّ اللّه تعالى يمحق بسبب الربا جميع الآثار المحبوبة لديه عزّ و جل المترتبة على المال من البركات، و إقامة المعروف و سدّ جوعة الفقراء إلى غير ذلك مما هو كثير، و هذا هو المراد بالمحق الإلهي فيما يشاء.

و أما تكدس الأموال في هذا العالم من الربا فلا يكون محقا بالنظر الأوّلي بالنسبة إلى المرابي و غيره، و إن كان بالنظر الحقيقي الواقعي هو محق أيضا، كما قال تعالى: فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا [التوبة - 55].

و بالجملة: إنّ اللّه تبارك و تعالى يمحق بالربا الإنسانية الكاملة فردا و نوعا

ص: 458

فيؤثر في النفس الإنسانية فيحل الفقر و الحرمان في المجتمع و يجعل الفقير يحس بالذل و الهوان مما يجعله مترقبا الفرص للانتقام ممن سلب ماله و نيل حقوقه فتكون النفوس في رعب دائم و خوف مستمر و بالتالي فهو محق للأخلاق الفاضلة، و إيقاع الإنسان في سفاسف الأمور و ذمائم الأخلاق، فيغلب الحرص و الطمع. و محق لأبواب المعروف و الخيرات. هذا كلّه بالنسبة إلى الآثار الدنيوية.

و أما الآثار الأخروية: فإنّ لها شأنا آخر فإنّ لكلّ معصية أثرها الخاص يظهر في عالم الآخرة بما يناسب تلك المعصية، و يمكن أن تكون الآيات الشريفة الواردة في الربا ناظرة إلى جميع العوالم فهي تبيّن حقيقة الربا من حيث هي مع قطع النظر عن العوالم و النشئات.

ص: 459

سورة البقرة الآية 282-283

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282) وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) ذكر تعالى في هاتين الآيتين ما يقرب من عشرين حكما تتعلّق بأصول المعاملات و المعاوضات كالبيع و الدّين و الرهن و نحوها، و هي قواعد نظامية ثابتة في فطرة العقلاء قرّرها سيد الأنبياء (صلّى اللّه عليه و آله) بوحي من السماء.

ص: 460

و بمراعاتها يحفظ المال عن الضياع، و يرفع التنازع و الاختلاف بين أفراد الإنسان، و يصل كلّ ذي حق إلى حقه، و العمل بها يوصل الناس إلى أغراضهم و يحافظون على مالية أموالهم.

و قد أكد سبحانه و تعالى على كثرة الاعتناء و الاهتمام بحقوق الناس و بيّن عزّ و جل أنّ العمل طريق التقوى بل هي و العمل الصحيح متلازمان و أنّ التقوى من موجبات رحمة اللّه تعالى بالعبد، و أنّها بمنزلة روح العمل. و قد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة الإنفاق و الصّدقات، و قد وعد الوعد الجميل للمنفقين ثم بيّن حرمة الربا في آيات تنذر بالخطر و توعد الآكل للربا بالعذاب الشديد، و في هاتين الآيتين يبيّن اللّه عزّ و جل أصول المعاملات. ففي الأولى بذل و عطاء، و في الثانية تحذير عن الابتزار و سلب الأموال من دون عوض و الظلم. و في الثالثة بيان لكيفية حفظ الأموال و نقلها من حال إلى حال.

و من ذلك يعرف نظام الإسلام بالنسبة إلى الأموال فهو من جانب يرغب إلى الإنفاق و البذل و الإعطاء و يذم حفظ المال و جمعه و ينهى عن الركون إلى الدنيا و زبرجها. و من جانب آخر يحفظ الأموال عن الضياع و يحرم الابتزاز، فكان الحد الوسط بين الإفراط في حب المال و جمعه و التفريط في بذله و عطائه.

و نحن نذكر في التفسير مجموعة الأحكام الشرعية التي تضمنتها الآيتان المباركتان على نحو الإيجاز و التفصيل مذكور في الكتب الفقهية.

ص: 461

التفسير

282 - قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ .

الدّين - بفتح الأول -: اشتغال الذمة بما يتعلّق بالغير مالا كان أو حقا، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، و الدّين - بالكسر -: الطاعة و الجزاء، و يستعمل في الشريعة و الملة، و يمكن فرض الجامع القريب بين اللفظين، كما لا يخفى، فيكون اللفظان من المشترك المعنوي دون اللفظي.

و التداين: التعامل بمعاملة فيها دين، سواء كانت المعاملة بيعا أو قرضا أو نحو ذلك.

و إنّما أتى بصيغة التفاعل لتقوم الدّين باثنين: الدافع و الآخذ، مع أنّه ترغيب إلى المجاراة يعني: أنّه كما احتجت إلى الدّين و دفع إليك غيرك فلتكن أنت أيضا كذلك.

و يمكن أن يكون المراد بالتداين مداينة بعضهم بعضا فيكون قوله تعالى: بِدَيْنٍ تأكيدا.

و الكتابة: الفرض و الثبوت، قال تعالى: وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اَللّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ

ص: 462

[التوبة - 121]، و الكتاب في الأصل مصدر يطلق على المكتوب.

و الأجل: المدة المضروبة للشيء تقديرا من اللّه تعالى كأجل حياة الإنسان، قال تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ [الحجر - 4]، و يطلق على الجعل المقرّر في المعاملات و الديون. و هو من المفاهيم القابلة للتشكيك قلّة و كثرة.

و الأجل المسمّى: هو الأجل المضروب المعلوم للطرفين قال تعالى:

وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ [البقرة - 235].

و يستفاد من الآية الشريفة: حكمان:

الأول: أنّه لا بد أن يكون أمد الدّين معيّنا لا جهالة فيه بذكر الأجل المعيّن.

و الثاني: الأمر بكتابة الدّين و الأجل دفعا للضرر و حفظا للحقوق، لأنّ ذا الأجل يكون معرضا للنزاع و الأوهام. و الأمر للإرشاد إلى ما ذكر من الحكمة فلا يستفاد منه الوجوب، و يدل عليه قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و إجماع الأصحاب و عمل المتشرعة. و إطلاق الآية الشريفة يشمل المباشرة للكتابة و التوكيل فيها.

قوله تعالى: وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ .

بيان لكيفية الكتابة، و شروطها، و من يتولاها. فبيّن سبحانه أنّه يشترط في الكاتب أمران: الأول: العدالة. الثاني: العلم بالأحكام كما يأتي.

و العدل بمعنى الاستقامة و الاستواء في الدّين للدّين، و احترزنا بالقيد الأخير بما إذا كانت الاستقامة في الدّين لا للدّين، فإنّها حينئذ نفاق و ليست بعدل، بل قد يكون شركا و كفرا، كما في المرائي الذي يدعى يوم القيامة بأربعة أسماء منها: يا مشرك، يا كافر.

و المعنى: و ليكن الكاتب بين المتعاملين بالدّين عادلا سويا بالنسبة إلى المتعاملين، و حقيقة المعاملة، و الأجل، و الشروط و نحو ذلك، و لا غرض له

ص: 463

إلا بيان الحق.

و الأمر للإرشاد كما ذكرنا و هو أعم من أن يكون الكاتب أحد المتعاملين أو غيرهما.

و إنّما ذكر سبحانه بَيْنَكُمْ لأنّ الغالب أنّ الكاتب من غير المتعاملين لندرة الكتابة في عصر النزول.

و إنّما قدم صفة العدالة على غيرها لأنّ بالعدل تقوم السّماوات و الأرض و لأنّ غيرها مع فقدها لا ثمرة فيه.

قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ .

هذا هو الأمر الثاني أي: العلم بالأحكام و شؤون المعاملة، و ما يعتبر فيها لتخلو الكتابة عن الوهم و التقصير، لأنّها حجة معتبرة، و هي سند بينهما لحفظ حقوقهما.

و ما علّمه اللّه أعم من أن يكون بواسطة أنبيائه، و رسله، أو ما أرشد العقل إليه، و النّهي فيها للتنزيه و الكراهة.

و يستفاد من الآية الشريفة: التشديد في تثبيت الدّين و أنّ صنعة الكتابة من الواجبات الكفائية التي يتقوّم نظام العالم بها.

و قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ يدل على النّهي عن رد الدّعوة إلى أمر من الأمور التي تكون فيها مصلحة النوع، و استحباب تلبيتها.

قوله تعالى: فَلْيَكْتُبْ .

أي: فليكتب للناس شكرا لما أنعم اللّه تعالى عليه، و مراعاة لحقوق الناس، أو هو تأكيد في تثبيت الدّين، و سياق الجملة يفيد أنّ الأمر للندب لا الوجوب.

قوله تعالى: وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ .

و الإملاء يأتي بمعنى الإظهار و البيان على المستفيد، و الإملال: الكتابة،

ص: 464

و يمكن أن يرجع اللفظان إلى جامع قريب، و هو الإثبات فإن كان على شخص فهو إملاء و إن كان في مكتوب فهو إملال.

أي: و ليظهر المدين و يلق ما عليه من الدّين و خصوصياته على الكاتب ليكتب ما يذكره فيكون حجة بينهما.

قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً .

البخس: هو النقص على سبيل الظلم، و له استعمالات كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود - 85]، و قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ [الأعراف - 85].

أي: و ليتّق - الذي عليه الحق و هو الذي يملي - اللّه ربه في إملائه و يلقيه كاملا، و لا ينقص من الحق شيئا.

و إنّما أمر سبحانه بالتقوى للترهيب، فإنّ اللّه عليم بالأمور و قادر عليه و بيده عقابه، و نهى عن البخس و الظلم لأنّ الإنسان مجبول على دفع الضرر و الطمع في جلب النفع إليه.

و الأمر للاستحباب، و هو و إن كان متوجها لمن عليه الحق لأنّه عارف به و بسائر خصوصياته فيكون إملاؤه حجة للدائن يرجع إلى المكتوب عند المجادلة و المماراة. و لكن يجوز لغيره الإملاء، أو يكتب الكاتب نفسه ما يعرفه من الحق و شؤونه بعد إلقائه على المديون و اعترافه به.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ .

السفيه: هو الذي ليست له حالة باعثة على حفظ ماله و الاعتناء بحاله و لا يتحفظ عن المغابنة، و لا يبالي بالانخداع، و هي قد تكون لكثرة الانقلاع عن دار الغرور و الاقتراب إلى عالم النور و السرور، فهي حالة ممدوحة، و فيها ورد قول بعض الأكابر: «نرجو شفاعة من لا تقبل شهادته». و قد تكون لغير

ص: 465

ذلك و هي حالة مذمومة، و قد ورد لها أحكام خاصة في الكتاب و السنة.

و المراد بالضعيف أي: الضعيف في عقله و هو المجنون و الصغير و الأبله و الخرف.

و المراد بمن لا يستطيع أن يملّ هو من لم يقدر على الإملاء، أو بيان الخصوصيات التي جرت عليها المعاملة كالأخرس و نحوه.

و الولي من يتولى الأمر و يديره و هو إما تكوينيّ - كولاية اللّه تعالى على ما سواه، و ولاية الأب على أولاده القاصرين، أو شرعي، أو عرفي، و عموم الآية الشريفة يشمل الأقسام الأخيرة مترتبة فيملي بالعدل بلا زيادة و نقيصة، و يبيّن جميع الخصوصيات المطلوبة.

و إنّما وضع الظاهر موضع المضمر في قوله تعالى: فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ لرفع الإبهام في رجوع الضمير إلى الكاتب المذكور سابقا.

كما أنّ ذكر الضمير في قوله تعالى: أَنْ يُمِلَّ هُوَ لبيان أنّ الأخير يخالف المتقدمين فإنّه يشترك مع وليه بخلاف الفردين المتقدمين فإنّ الوليّ فيهما مستقل في الولاية.

قوله تعالى: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ .

الاستشهاد: طلب الشهادة و الشهيد صفة دالة على الثبوت، و الشاهد من الشهود و الحضور، لأنّ المشهود به لا بد أن يكون حاضرا لدى الشاهد،

قال نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله) مشيرا إلى الشمس: «على مثلها فاشهد أودع»،

و بسط الصادق (عليه السلام) كفه و نظر إليها فقال: «على مثل هذا فاشهد»، و سمي الشهيد به لحضور رحمة اللّه و حضور ملائكة الرحمة لديه.

و إنّما أمر سبحانه بالشهادة على الأموال و الحقوق و الديون للاستيثاق و لدفع الخصومة و النزاع.

و يستفاد من الآية الشريفة: اشتراط الذكورة فلا تقبل شهادة النساء الا على ما يأتي من التفصيل، و الرجولة فلا تقبل شهادة الصبيان، و الإسلام فلا

ص: 466

تقبل شهادة الكفار، و يدل على كلّ ذلك قوله تعالى: مِنْ رِجالِكُمْ .

و أما اشتراط الوثاقة فيدل عليه قوله تعالى: مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ .

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ .

أي: و إن لم يتمكن أحد من إتيان الشاهدين الرجلين فليستشهد، رجلين و امرأتين، و يشترط في هذه الثلاثة ما يشترط في الشاهدين الرجلين، لمكان البدلية. ممن يرضاهم النوع في شهادتهم و يعتمد الناس على شهادتهم بأن يكون الشهداء من أهل الصّلاح و العدالة.

قوله تعالى: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى .

الضلال هنا: بمعنى التيه و الخطأ، و الآية الشريفة تبيّن حكمة جعل شهادة امرأتين مكان رجل واحد. أي: لئلا تضل إحداهما فتذكر الأخرى بعد التشاور و التحاور بينهما لبعد النساء عن أمور المعاملة و قلة ضبطهنّ لها من نوع الرجال.

و إنّما وضع سبحانه الظاهر في موضع المضمر في قوله تعالى:

إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى لاختلاف معنى اللفظ في الموضعين فإنّ المراد من الثانية إحداهما بعد ضلال الاخرى، و المراد من الأولى ضلال إحداهما لا على التعيين.

قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا .

الإباء: الامتناع. أي: لا يمتنع الشهداء إذا ما دعوا إلى تحمل الشهادة، و يحتمل أن يكون النهي عن الامتناع عن أداء الشهادة بعد تحملها، و يمكن حمل الآية المباركة على المعنيين التحمل و الأداء بعد وجود الجامع القريب بينهما.

و النهي للتنزيه كما في سائر أوامر و نواهي هذه الآية الكريمة، و لدلالة

ص: 467

السنة الشريفة عليه، الا أن يدل دليل على الحرمة.

قوله تعالى: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ .

السأم: الملالة، قال تعالى: لا يَسْأَمُ اَلْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ اَلْخَيْرِ [فصلت - 49]، و الآية تؤكد على التثبت في الديون و حقوق الناس، و عدم التهاون فيها فإنّها مظنة النزاع و الضياع.

و المعنى: و لا تملّوا عن كتابة الدّين صغيرا كان أو كبيرا ذاكرين أجله و شؤونه. و إنّما قدم الصغير للاهتمام به أي: لا تكون القلة مانعة عن الكتابة.

قوله تعالى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا .

بيان للحكمة في الأحكام المتقدمة و قد ذكر سبحانه ثلاثة منها، و مادة قسط تأتي بمعنى العدل، و قد وردت هذه المادة في القرآن كثيرا، قال تعالى:

قائِماً بِالْقِسْطِ [آل عمران - 18]، و قال تعالى: وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [الحجرات - 9]، و يأتي القسط بمعنى الجور أيضا، قال تعالى:

وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [الجن - 15]، فهو من الأضداد. و لو جعلنا القسط بمعنى مطلق الميل لم يكن من الأضداد، و لا من المشترك اللفظي، و حينئذ فإن كان إلى الحق فهو العدل و الإنصاف، و إن كان إلى الباطل فهو الجور و الاعتساف.

و المعنى: أنّ ما تقدم من الأحكام في الكتابة و الإشهاد و غيرهما أعدل طريق للتقوى و هو المحبوب عند اللّه تعالى، و أحفظ للشهادة و أعون على إقامتها على وجهها الصحيح، و أقرب إلى نفي الشك و الريب فإنّها تدفع ارتياب بعضكم من بعض. و هذه الأمور مطلوبة للناس مرغوب فيها.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة: أنّ جميع تلك الأحكام إنّما تكون لأجل هذه الغايات الحميدة، فتكون الأوامر و النواهي فيها للإرشاد لا للوجوب و الإلزام.

ص: 468

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها .

أي: إلا أن تكون المعاملة و التجارة نقدا ليس فيها دين و تتناقلون العوضين فيها بينكم فيأخذ كلّ واحد عوض ماله من الآخر، ففي هذه الحالة لا بأس في ترك الكتابة فيها.

قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ .

أي: و استشهدوا في التبايع في التجارة الحاضرة، و الأمر إرشادي للتأكيد على شدة الحيطة في الأموال.

قوله تعالى: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ .

يضار هو المضارة بين اثنين، و أصله يضارر بفتح الراء الأولى إن كان الفعل مبنيا للمفعول، و بكسر الراء إن كان غيره.

و كيف كان فالآية الشريفة تنهى عن الضرر و المضارة بين الطرفين سواء كان أحد الطرفين الكاتب أو الشاهد، و الآخر المتعاملين.

أي: لا يوقع الكاتب المتعاملين في الضرر بالتحريف في الكتابة و لا يوقع الشاهد الضرر على المتعاملين بشهادة الزور.

أو يكون المعنى: النهي عن الكتابة الضررية و الشهادة كذلك فليس على الكاتب و الشاهد إلا أداء الوظيفة بلا ضرر، فلا يدخل الضرر على الكاتب و الشاهد بسبب الكتابة و الشهادة.

و إن تفعلوا المضارة و توقعوا الأطراف في الضرر فإنّ ذلك خروج عن الطاعة، و هو كائن بكم و متحقّق فيكم ما لم تتوبوا و ترفعوا الضرر و الحيف عمن وقع الضرر عليه.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ .

امتنان منه عزّ و جل بتعليم الأحكام الشرعية و المعارف الإلهية إذا تحققت

ص: 469

التقوى. و وعد منه تعالى بتعليم من اتقاه، و الآية الشريفة قضية عقلية فإنّ النفس الناطقة الإنسانية ليست من الماديات المحضة، كما هو ثابت بالوجدان و البرهان. و لها نحو تجرد فكلّ ما يفاض عليها لا بد أن يكون من عالم الغيب و أعظم أبواب عالم الغيب إنّما هو باب التقوى و هي الارتباط الخاص مع ذلك العالم، و لم يبلغ الأنبياء و الأوصياء و الصالحون إلى ما بلغوا من العلوم و المعارف الإلهيّة إلا بالتقوى، و تحمّل المصاعب و المتاعب في جنب اللّه تعالى، و الحرمان عن جملة من الشهوات و المستلذات، و ليست التقوى سببا تاما في إفاضة العلم بل لا بد من تسبيب سائر الأسباب، و لكن التقوى بمنزلة الروح لها.

و لعلّ إلى ذلك يشير تخلّل واو العطف و تكرار اسم الجلالة وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ .

و التقوى تصفي القلب من الكدورات المادية، فيستعد لإفاضة النور عليه.

و عن جمع من الإشراقيين أنّ العلم إنّما يكون بتصفية النفس و تطهير القلب عن كلّ دنس و ريب،

و قد ورد في الحديث: «ليس العلم بكثرة التعليم و التعلم و إنّما هو نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء»

و فيه أيضا: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لا يعلم» و في ذلك أحاديث كثيرة، و التجربة أكبر شاهد عليه.

و في الآية المباركة الموعظة الحسنة و التحريض إلى التقوى و العمل بما أنزله اللّه من الأحكام فإنّه طريق إلى العلم الصحيح النافع.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

أي: إنّ اللّه عليم بحالكم و ما هو الأصلح لكم في الدنيا و الآخرة فاتقوه ليرشدكم إليه.

و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما تقدم، و قد وضع الظاهر موضع المضمر لبيان أنّه المطلوب و هو اللّه العالم بكلّ شيء.

ص: 470

283 - قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ .

بيان للأعذار المانعة من الكتابة فيكون استثناء من الأحكام السابقة و يستفاد منه أهمية الاستيثاق على الأموال عن الضياع.

و مادة (رهن) تأتي بمعنى الدوام و الاحتباس و منه احتباس العين وثيقة على الدّين، و لم تستعمل في القرآن الكريم إلا في موارد ثلاثة أحدها المقام، و الثاني قوله تعالى: كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور - 21]، و قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ [المدثر - 38]، و هي كثيرة الاستعمال في غيره

ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ أنفسكم مرهونة بأعمالكم» يعني إنّه لا خلاص للنفس و أنّها محبوسة لا يمكن فكها إلا بالعمل الصالح، كما أنّه لا خلاص للمال المرهون الا بأداء الدّين و قال الشاعر:

إن يقتلوني فرهن ذمتي لهم *** بذات و دقين لا يعفو لها أثر

و الرهن: مصدر رهنت الشيء و أرهنته و ربما يطلق على المال المرهون و هو كثير كما في الآية الشريفة.

و القبض: هو الاستيلاء على الشيء و هو من الأمور الإضافية تختلف باختلاف الجهات و الخصوصيات و القابض من أسمائه المباركة أي: إنّ جميع ما سواه تحت إرادته الكاملة جلت عظمته قال تعالى: وَ اَلْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ اَلسَّماواتُ مَطْوِيّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر - 67].

و المعنى: و إن كنتم مسافرين و لم تجدوا كاتبا يكتب الدّين بالكيفية المطلوبة و أردتم الاستيثاق على دينكم فاستوثقوا برهن تقبضونه و قوله تعالى:

فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: أنّ التوثيق رهان مقبوضة كما كان في الكتابة و الشهادة.

ص: 471

و المستفاد من الآية الشريفة: أنّ السفر عذر من الأعذار المانعة من الكتابة و الإشهاد فلا يكون شرطا لصحة الرهن، و إنّما ذكره تعالى بالخصوص، لأنّه الغالب في الأعذار لقلة الكتابة و الكاتب في الأعصار القديمة لا سيما في السفر. كما أنّ عدم الكاتب و الإشهاد ليس شرطا لصحة الرّهن فهو مشروع و صحيح مع تحققهما و ثبوتهما فإنّ الاستيثاق مرغوب إليه و حسن و لا يختص بحال دون أخرى.

ثم إنّه وقع الكلام في أنّ القبض شرط في صحة الرهن أو في لزومه أو لا يشترط فيه القبض و الظاهر من الآية المباركة هو الأول و يدل عليه بعض الروايات و قد ذكرنا تفصيل الكلام في كتاب الرهن من (مهذب الأحكام).

و الرهن لا يخرج بالرهانة عن ملك الراهن بل هو باق على ملكه و للمرتهن استيفاء حقه منه عند حلول الأجل و عدم وفاء الراهن للدّين فتكون منافع العين المرهونة للراهن دون المرتهن و لا يجوز لكلّ من الراهن و المرتهن التصرف في العين المرهونة الا بإذن الآخر

كما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله): «الراهن و المرتهن ممنوعان من التصرف» و التفصيل موكول إلى الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ اَلَّذِي اُؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ .

أي: و إن اعتمد بعضكم على بعض و كان من عليه الحق أمينا عند الدائن و لم يطلب منه وثيقة فإنّه يجب أن يؤدي المدين دينه كاملا و لا يجحده و لا يغيّر منه شيئا، و يستفاد من قوله تعالى: أَمانَتَهُ عموم الحكم لكلّ أمانة و منها الدّين فتشمل الوديعة و القرض و نحوهما، فيكون المورد من تطبيق الكبرى على أحد المصاديق نظرا لعموم العلّة.

قوله تعالى: وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ .

أي: و ليتق المدين اللّه ربّه في أمر حقوق الناس و يتنزه عن مخالفة أحكامه فلا يخوننّ في الأمانة و لا يجحدها بعد فقدان الوثيقة بينهما فإنّ اللّه تعالى به عليم و هو مالك أمره في الدنيا و الآخرة.

ص: 472

قوله تعالى: وَ لا تَكْتُمُوا اَلشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ .

«آثم» خبر إنّ «و قلبه» فاعل، أو «آثم» مبتدأ و «قلبه» فاعل سد مسد الخبر و الجملة خبر (إنّ ).

و كيف كان ففي قوله عزّ و جل من الفصاحة و البلاغة ما لا يخفى و هو من بديع البيان يكشف عن الضمير الإنساني بعد ارتكابه الآثام و الموبقات، فإنّ القلب بمنزلة القوة المدبرة للإنسان و هو مبدأ الشعور و التعقل ترجع إليه أحاسيسه و منه تصدر إرادته و حركاته، إذ ليس المراد من القلب اللحم الصنوبري الموجود في كلّ متنفس. و يصلح الجسد بصلاح القلب كما يفسد بفساده فإذا كان خاليا عن ظلمات الآثام و مصفّى من كدورات المادة كان الإنسان صالحا مراقبا لنفسه متبعا لأوامر اللّه تعالى و منتهيا بنواهيه متزنا في أفعاله و أقواله، و أما إذا كان فاسدا فلا يرجى منه الخير و قد طبع عليه و حينئذ لا يشعر بالحسن و القبح فيكون أصل الشر و مبعثا على الفساد فلا تصدر أفعاله عن فكر و روية صالحة تنفعه في الدنيا و الآخرة.

و من ذلك يعلم الوجه في نسبة الإثم إلى القلب فإنّ فساد المبدإ و الأصل موجب لفساد غيره، و يستفاد منه تغليظ الإثم أيضا و إنّما قال تعالى:

«آثم» دون الفعل للدلالة على أنّ الإثم متمكن في القلب و دائم بدوام الإثم و كتمان الشهادة من الكباير، و قبحه العقلي ثابت عند كلّ أحد فإنّ في كتمان الشهادة وقوع الظلم و الضرر على الناس و تضييع لحقوقهم و هدر لكرامتهم، و الجملة فيه خيانة على مصلحة النوع.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه عليم بنواياكم و أعمالكم يجازيكم عليها فلا بد من مراقبة النفس و الأعمال.

ص: 473

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة أمور:

الأول: تدل الآية المباركة على أهميّة حقوق الناس و وجوب مراعاتها و التحفظ عليها، و قد ذكر سبحانه و تعالى أمورا ثلاثة على تثبيتها: الكتابة، و الشهادة، و الرهن، و لعلّ تأخير الرهن و تقييده بالسفر للإشارة إلى أنّه لا ينبغي للمؤمن أن يرتهن من أخيه المؤمن فإنّ شرف الإيمان و عزّه يحملانه على الوفاء بالعهد و أداء حق الناس.

الثاني: قد ذكر سبحانه في الآية المباركة قواعد نظامية لا تختص بعصر دون آخر و لا ملّة دون أخرى فهي صالحة في جميع الأعصار و الشعوب تحفظ بها الأموال عن الضياع، و يسلم الإنسان عن التشاجر و التنازع و يرتضيها العقل السليم و يوافق عليها الطبع المستقيم و قد نبّه إليها القرآن الكريم قبل أن يصل الإنسان إلى المدنية الحاضرة و يقنن قوانين لتنظيم المعاملات و حفظ الأموال و تحسين النظام الاجتماعي الاقتصادي.

الثالث: أمر سبحانه و تعالى فيما تقدم من الآيات المباركة - مضافا إلى ما ورد فيها من لزوم التحفظ على أموال الناس - تنزيه النفس فيما بينها و بين اللّه تعالى عن الخيانة في الأمانة و هي التقوى التي حرّض القرآن عليها بأساليب مختلفة. و هي الأصل في جميع التشريعات السماوية كما أنّها روح

ص: 474

العمل و قوام الدّين و الأصل في كلّ تشريع.

الرابع: يحتمل في قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وجهان:

أحدهما: أن يكون المراد الشهادة المتعارفة كما مر في قوله تعالى بالنسبة إلى الدّين: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ .

الثاني: شهود العوضين و ملاحظة الجهات التي تختلف باختلافها الأغراض العقلائية فتكون الآية في مقام نفي الغرر و الجهالة، و يكون مفادها مطابق للحكم الفطري، و يستفاد الوجوب الشرطي و الحكم الوضعي أي بطلان البيع مع الغرر و الجهالة و يكون

ما نسب إلى نبينا الأعظم (صلّى اللّه عليه و آله):

«نهي النبي عن الغرر» مقتبسا من هذه الآية الكريمة.

و يبعد الاحتمال الأول أولا: أنّه لا بد من حملها على مطلق الرجحان لظهور الإجماع و السيرة العملية بين المسلمين من حيث نزول الآية الشريفة على عدم الوجوب.

و ثانيا: استنكار المتشرعة الإشهاد عند ابتياع شيء لو كان يسيرا الا أن تحمل الآية المباركة على الأشياء الخطيرة و هو يحتاج إلى دليل.

و ثالثا: أنّه لو كان المراد بها ذلك لكان ينبغي أن يأتي بلفظ الاستشهاد كما في صدر الآية المباركة.

الخامس: يمكن أن يستفاد من إطلاق قوله تعالى: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ صحة إنشاء عقد البيع من المشتري بلفظ البيع أيضا كما هو المشهور بين أهل اللغة من أنّ هيئة التفاعل متقومة بالطرفين خصوصا في الاعتباريات التي أخف مؤنة من غيرها ما لم يرد ردع من الشارع.

كما أنّه يمكن أن يستفاد منه صحة إنشاء عقد البيع بلفظ (تبايعنا) من أحد الطرفين بعد رضائهما و تحقق سائر الشرائط و بذلك يسقط جملة كثيرة مما أطنب فيه الفقهاء في المقام، فيكون هذا اللفظ قائما مقام الإيجاب و القبول الذي أطيل فيه الكلام.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ أنّه لا بد

ص: 475

من علم اليقين بالعمل و سائر خصوصياته و الاستيلاء على الجزاء ثوابا و عقابا و هذا هو الذي تطابقت عليه الكتب السّماوية، و العقل يحكم به حكما بتيا لا ارتياب فيه.

و يستفاد من الآية الشريفة: أحكام فقهية مذكورة في كتب الفقه و قد ذكرنا ما يمكن استفادته منها في ضمن التفسير و في (مهذب الأحكام) جملة أخرى منها.

ص: 476

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ قال: «روي في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكما، و في هذه الآية خمسة عشر حكما و هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اَللّهُ ثلاثة أحكام فَلْيَكْتُبْ أربعة أحكام وَ لْيُمْلِلِ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ خمسة أحكام، و هو إقراره إذا أملاه وَ لْيَتَّقِ اَللّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً و لا يخونه ستة أحكام فَإِنْ كانَ اَلَّذِي عَلَيْهِ اَلْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ يعني ولي المال سبعة أحكام. وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ ثمانية أحكام. فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ اَلشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا اَلْأُخْرى - إلى قوله تعالى - وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا عشرة أحكام: وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ أحد عشر حكما. ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ - إلى قوله تعالى - فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاّ تَكْتُبُوها اثنا عشر حكما. وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ ثلاثة عشر حكما. وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ أربعة عشر حكما. وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ خمسة عشر حكما.

و في التهذيب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: فَرَجُلٌ وَ اِمْرَأَتانِ قال: «ذلك في الدّين إذا لم يكن رجلان، فرجل و امرأتان، و رجل

ص: 477

واحد و يمين المدعي إذا لم تكن امرأتان قضى بذلك رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) و أمير المؤمنين (عليه السلام) بعده عندكم».

أقول: الحديث يدل على ثبوت أمر آخر في إثبات الأموال و هو رجل و يمين المدعي فيكون بمنزلة الشرح للآية الشريفة.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا قال (عليه السلام): «لا ينبغي لأحد إذا دعي إلى الشهادة أن يقول: لا أشهد لكم».

أقول: ورد في مضمون ذلك روايات أخرى كثيرة.

و في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ قال: «قبل الشهادة».

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «لا رهن إلا مقبوضا» و في تفسير العياشي مثله عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: ذكرنا أنّ ظاهر الآية يدل على أنّ القبض شرط لصحة الرهن و لكن يمكن أن يقال: إنّه طريق لتحقق الاستيثاق و لو حصل بلا قبض يكفي ذلك كما في المصارف المتداولة في هذه الأعصار و بذلك يمكن أن يجمع بين كلمات الأعلام في الفقه فمن اعتبر القبض فإنّما هو لأجل حصول الاستيثاق و من لم يعتبره أي بعد حصوله.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله عز و جل: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «بعد الشهادة».

أقول: أي بعد التخمل.

و في الفقيه عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ قال: «كافر قلبه».

أقول: هذا محمول على بعض مراتب الكفر.

ص: 478

سورة البقرة الآية 284

لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُ.......

اشارة

لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284) الآية الشريفة تثبت ملكية اللّه تعالى لجميع ما سواه و هيمنته على خلقه و تدبيره لهم و علمه بالجزئيات فلا يخفى عليه شيء من أمور الناس حتّى خطرات القلوب و ما تخفيه النفوس و قد أثبت لنفسه محاسبة العباد و الجزاء على الأعمال فيغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء لقدرته على كلّ شيء و هو دليل على وحدانيته و انحصار الأمر فيه عزّ و جل. و في تعقيب آية الدّين بهذه الآية الشريفة إرشاد إلى أنّ مخالفة اللّه تعالى أمر عظيم تترتب عليها آثار خاصة في الدنيا و الآخر.

ص: 479

التفسير

284 - قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

إثبات لملكيته تعالى لمخلوقاته ملكية حقيقية إيجادا و إبقاء و إفناء و تربيبا و مثل هذه الملكية مختصة به لا يمكن أن توجد لغيره كما ثبت بالبراهين العقلية المفصلة في علم الفلسفة الإلهية و هو تمهيد لقوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ و بمنزلة العلة الفاعلية و الغائية له فيصير مجموع الآية المباركة من القضايا العقلية التي ذكرت فيها العلتان المزبورتان و هي من أمتن القضايا و أشرفها كما هو ثابت في علم الميزان.

و لعل في تخلل كلمة العطف وَ إِنْ تُبْدُوا إشارة إلى أنّ المعطوف من متممات المعطوف عليه فتكون المحاسبة على مضمرات القلوب و ما يبدو، و جزاؤه بالغفران أو العقاب من صغريات إحاطته القيومية على ما سواه فوق ما نتعقله من معنى الإحاطة فيكون تمام الآية بجميع أجزائها من أدلة سعة إحاطته.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ .

البداء و الإبداء: بمعنى الظهور و الإظهار، و هو خلاف الخفاء و الإخفاء، و كلّ منهما مورد علمه تعالى، و كلّ ما كان مورد علمه في عباده من جوانحهم

ص: 480

و جوارحهم يكون ؟؟؟ حسابه، و هذا شأن جعل القانون لمن أحاط بجميع جهات قانونه و استولى عليها استيلاء تاما، و لكن لا بد من الموازنة بين الاستيلاء على الخفايا و التعذيب عليها بحسب القوانين العقلية.

و المراد من قوله تعالى: ما فِي أَنْفُسِكُمْ تلك الأمور الكائنة في النفس التي تصدر الأعمال عنها و تكون أساسا لها فتشمل الملكات و الأحوال و الصّفات التي لها قرار في النفس - كالحب و البغض و الحسد و الحقد و نحو ذلك - فإنّها هي التي تكون قابلة للإظهار في الحركات الخارجية، فيكون ما في النفوس على أقسام:

الأول: مجرد الخطور و الفكرة من غير عزم ثابت عليه و إيجاد مقدمة من مقدماته و المستفاد من مجموع الأدلة السمعية أنّ مثل هذه الأمور إن كانت من الخيرات و الحسنات يثاب عليها و يشتد ثوابها بحسب أهمية الفعل.

و الغرض من ذلك هو تحريض الناس على إضمار الخيرات و الحسنات و الابتعاد عن السيئات و الآثام و لا عقاب على المضمر إن كان من السيئات ما لم يبرز في عمل خارجي.

الثاني: الخطور مع العزم عليه.

الثالث: ما إذا حصل بعض المقدمات على المضمر. و يظهر حكم هذين القسمين من القسم الأول بالفحوى.

الرابع: ما إذا حصل العمل الخارجي فيترتب عليه الثواب و ينبسط على جميع المقدمات حتّى الخطرات القلبية، و لا بأس بأن يجتمع في شيء واحد ثوابات كثيرة من جهات متعددة فإنّ اللّه ذو الفضل العظيم هذا إذا كان المضمر من الخيرات و الحسنات و الفضائل.

و أما إذا كان من غيرها فقد ذكرنا أنّه لا عقاب ما لم يظهر في عمل خارجي إلا إذا كان الشخص من المقرّبين و أولياء اللّه تعالى المتفانين في حبه فإنّ خطرات قلوبهم مما يحاسب عليه و في المأثور: «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين».

ص: 481

و إن كان من العزم على الإثم و العصيان من دون فعل المعصية خارجا فلا ريب في أنّه نحو من التجري و الطغيان و لكن لا يترتب عليه العقاب فإنّ مقتضى الآيات الكثيرة و السنة المقدسة أنّ العقاب يترتب على الأعمال الخارجية دون المنويات القلبية.

و منه يظهر حكم ما إذا فعل بعض المقدمات غير المحرمة و لم يفعل أصل الحرام المقصود و أما إذا فعله فيستحق العقاب حينئذ على فعل الحرام لا أن يكون العقاب انبساطيا بالنسبة إلى المقدمات كما في الثواب لبناء عادته عزّ و جل على التخفيف قد سبقت رحمته غضبه هذا السبق ليس زمانيا فقط.

و محاسبة ما في النفوس بالمعنى المتقدم مما تدل عليه النصوص الكثيرة كتابا و سنة قال تعالى: لا يُؤاخِذُكُمُ اَللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة - 225]، و قال تعالى: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [الإسراء - 36]، و غير ذلك من الآيات الشريفة.

و لكن المحاسبة من اللّه جلت عظمته أعم من أن يكون في البين ؟؟؟ منه عزّ و جلّ على ما في النفوس سواء في الدنيا أو في الآخرة أو لا يكون فيهما معا، لأنّ في نفس الاستيلاء على المحاسبة و الإخبار عنها آثار خاصة هذا محصل ما يستفاد من مجموع الآيات الكريمة في مضمرات النفوس و الجزاء عليها و ما ورد في السنة الشريفة.

و لكن للمفسرين في تعيين المراد من ذلك أقوالا:

فقد ذهب جمع: إلى ثبوت المحاسبة و الجزاء على كلّ ما يرد القلب و ما يضمره الإنسان في النفس فيكون من التكليف بما لا يطاق و حينئذ تكون الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها المذكور في الآية التالية.

و فساده واضح فإنّ اللّه تعالى لم يشرع دينا فيه ما لا يطاق و هو قبيح عقلا و يستحيل عليه عزّ و جل، و الآية غير ناظرة إلى التكليف بما لا يطاق و لا

ص: 482

عموم لها حتّى يشمله.

و ذهب آخر: إلى أنّ الآية مختصة بكتمان الشهادة فهي مرتبطة بما سبقها من الآيات. و هذا أيضا مردود بالإطلاق و عدم اختصاصها به كما هو الظاهر المعلوم.

و ذهب ثالث: إلى أنّها مخصوصة بالكفار. و يرد عليه: ما ورد على سابقيه.

و قال رابع: بأنّ المراد بالإخفاء العمل. و لكنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

قوله تعالى: فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

تفريع على ما تقدم فإنّ المغفرة و العذاب يتوقفان على المحاسبة و العلم و مشية اللّه تعالى لغفران من يشاء و تعذيب من يريد عدل محض لأنّها منبعثة عن العلم الأتم الأكمل و الحكمة البالغة الكاملة

و عن عليّ (عليه السلام) في بعض حالاته الانقطاعية مع ربه: «اللهم لا تفعل بي ما أنا أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنا أهله تعذّبني و لم تظلمني أصبحت أتقي عدلك و لا أخاف جورك فيا من هو عدل لا يجور ارحمني، اللهم افعل بي ما أنت أهله فإنّك إن تفعل بي ما أنت أهله ترحمني و إن تعذّبني فأنت غنيّ عن عذابي و أنا محتاج إلى رحمتك فيا من أنا محتاج إلى رحمته ارحمني».

و إثبات المغفرة لما في النفوس يدل على أنّ لها شأنية العذاب باعتبار ثبوتها و قرارها في النفس بحيث تصدر الأعمال عنها، فتكون الجملة قرينة لما ذكرناه آنفا من التفصيل في المضمرات.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

بيان العلة للمحاسبة و المشية في الغفران و التعذيب، و القدرة من صفات ذاته المقدسة كعلمه و حكمته، كما أنّ مالكيته تعالى لما سواه كذلك، فيكون ما ذكر في الآية الشريفة معلّل بصدرها و ذيلها، و في الآية من الإنذار و التخويف ما لا يخفى.

ص: 483

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآية الشريفة ما يلي:

الأول: تثبت الآية الشريفة من الصفات للّه تعالى صفة المالكية، و القدرة، و العلم، و الربوبية العظمى، و الحكمة البالغة، و محاسبة اللّه تعالى لعباده، و هي من مهام صفاته العليا الذاتية، و هي تستلزم القيومية.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ علم اللّه تعالى بالجزئيات، و يمكن استفادة ذلك من سياق جملة من الآيات القرآنية و السنة الشريفة، و عليه إجماع الأنبياء و المرسلين، بل يمكن إقامة الدليل العقلي عليه أيضا.

و من نفى علمه تعالى عن الجزئيات تمسكا بأنّه يستدعي الآلات و هو نقص بالنسبة إليه عزّ و جل فقد أخطأ و ما ذكره مغالطة فاسدة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في علمه عزّ و جل إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: تدل الآية الشريفة على أنّ المحاسبة من اللّه تعالى أعم من الجزاء و المحاسبة منه عزّ و جل تستدعي علمه بالجزئيات و الكليات و بجميع

ص: 484

شؤون العباد، و تستلزم قدرته على جميع ما سواه فتكون في الإخبار بها آثار خاصة، منها إراءة أعمال العباد الظاهرية و الباطنية و سؤاله عزّ و جل منهم عن السبب في فعلها.

الرابع: يستفاد من هذه الآية و ما في سياقها لزوم مراقبة الإنسان لنفسه، و هي من أجل مقامات النفس و لها مراتب كثيرة و بعض تلك المراتب مبدأ السير و السلوك، و بعضها الآخر غاية لها. كما لا يخفى على أهله، و المراقبة عن الحركات مبدأ، و المراقبة عن الخطرات غاية.

ص: 485

بحث روائي

في تفسير العياشي، و المجمع و التبيان عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ ... أنّ المراد ما يتناوله الأمر و النهي من الاعتقادات و الإرادات و غير ذلك مما هو مستور عنا.

أقول: هذه قرينة على أنّه ليس المراد من مورد المحاسبة مطلق ما يخطر بالبال و ما تضمره النفوس ما لم تكن مستقرة في النفس و إرادة فعلية لحصول المراد خارجا، و حينئذ فلا تختص المحاسبة بخصوص الجزاء على الأعمال الخارجية.

و في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: لما نزلت على رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ . قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) فأتوا رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) جثوا على الركب فقالوا: يا رسول اللّه كلّفنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة، و الصيام، و الجهاد، و الصدقة، و قد أنزل اللّه هذه الآية و لا نطيقها. فقال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): أ تريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم:

سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ ... الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى، فأنزل: لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها... إلى آخرها.

ص: 486

سمعنا و عصينا؟ بل قولوا: سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فلما اقترأها القوم و ذلت بها ألسنتهم أنزل اللّه في أثرها: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ ... الآية. فلما فعلوا ذلك نسخها اللّه تعالى، فأنزل: لا يكلف اللّه نفسا إلا وسعها... إلى آخرها.

أقول: رواه جمع غفير عن أبي هريرة، و روي أيضا قريب منه عن ابن عباس. كما روي النسخ أيضا عن ابن مسعود و عائشة.

و روي أيضا عن ابن عباس أنّها نزلت في الشهادة و إقامتها و كتمانها.

فتكون الآية غير منسوخة.

و روي عن ابن عباس و عائشة: أنّ المراد بالآية تلك الأعمال التي لم يطلع عليها الحفظة.

و روي عن الربيع بن أنس: أنّ المراد بالمحاسبة ما يخبر اللّه العبد به يوم القيامة بأعماله التي عملها في الدنيا.

و روي عن عائشة: أنّ المراد بالمحاسبة ما يصيب الرجل من الغم و الحزن إذا هم بالمعصية و لم يفعلها.

و روي عن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ . فذلك سرائرك و علانيتك يحاسبكم به اللّه فإنّها لم تنسخ، و لكن اللّه إذا جمع الخلائق يوم القيامة يقول: إنّي أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم و يغفر لهم ما حدثوا به أنفسهم، و هو قوله تعالى: يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ يقول: يخبركم. و أما أهل الشك و الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، و هو قوله: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ .

و روي عن ابن عباس تفسيرها بوسوسة النفس، أو حديث النفس و بناء على جميع هذه الروايات تكون الآية محكمة و غير منسوخة.

أقول: الروايات في النسخ و عدمه متعارضة، مع أنّ رواية النسخ قاصرة السند و على فرض اعتبارها معارضة بالمثل، و مخالفة لظاهر الكتاب، و في مثل ذلك لا بد أن يرجع إلى أصالة عدم النسخ عقلا و شرعا كما هو ثابت في

ص: 487

محلّه. مع أنّ العقل يحكم بأنّه لا موضوع للنسخ فيما لا يعقل التكليف به، و هو الخطرات القلبية الخارجة عن الاختيار.

و أما الروايات التي وردت في تفسير الآية الكريمة مما لا يدل على نسخها إن رجعت إلى ما ذكرناه فلا بأس بها و الا فلا بد من طرحها.

ص: 488

بحث عرفاني

خلق اللّه تعالى الإنسان كالمرآة للحقائق الواقعية و المعارف المعنوية بل هو كالمرآة لصفات جلاله و جماله.

الحق في كثرة الأعيان إذ ظهرا *** و وجهه الأحديّ الذات ما كثرا

لكن كما شاهد الأعيان شاء يرى وجه الحقيقة في مرآة إنسان

هذا إذا كان الإنسان منقطعا إلى اللّه تعالى و منقادا له من كلّ جهة و أما غيره فلا يليق به هذا المقام بل قد يكون كالأنعام.

فإذا كان للإنسان الاستعداد لأن يحكي حقائق الممكنات مما مضى و ما هو موجود و ما هو آت فيجب أن يعتني بنفسه و يرعاها نهاية الرعاية و لا يسقطها عن الاعتبار و الا تلحقها المهانة و الصغار لأنّها السبب الموصل إلى كلّ مطلوب، و الرابط بين أهل الأرض و الغيب المحجوب فأيّ مكرمة للّه على خلقه أعظم من هذه المكرمة و أي موهبة له تعالى في عوالمه أفضل من هذه الموهبة و من فعل ما يوجب درن هذه المرآة فقد جنى على نفسه و أضاع ما أعدّ له من النعم الباقيات قال تعالى: فَما كانَ اَللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [التوبة - 70].

ص: 489

سورة البقرة الآية 285-286

آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَ.......

اشارة

آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اُعْفُ عَنّا وَ اِغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (286) الآيتان الشريفتان من جلائل آيات القرآن الكريم تشتملان على مضامين عالية جمعت فيهما مجامع الكمال و السعادة، و فيهما أدب العبودية و نهاية الخضوع و التذلل للّه تعالى في أسلوب بليغ جذاب، و فيهما خلاصة ما تضمنته هذه السورة الشريفة التي كان الغرض المتحصل منها: الإيمان باللّه تعالى، و العبودية له عزّ و جل، و الإيمان برسله و ما أنزل عليهم، و الطاعة له عزّ و جل بالايتمار بأوامره، و الانتهاء عن نواهيه، و الاتقاء عما يوجب سخطه و عذابه و الإقرار بالبعث و النشور، و فيها قصص أهل الكتاب للعبرة منها و اللجوء إليه سبحانه و تعالى عما أصابهم بسبب تمردهم و طغيانهم.

و من بديع أسلوب هذه السورة أنّها بدأت بالهداية للمتقين و ختمت باللجوء إلى اللّه تعالى لطلب الهداية و الغفران و الإذعان بالطاعة الذي هو أمل

ص: 490

المتقين، فيكون أول السورة كالعلة الفاعلية و آخرها كالعلة الصورية أو المادية للأول و هما كالعلة الغائية لنظام التشريعات السماوية نزلتا على من هو علة غائية لنظام الخليقة و التكوين، و قد ختمتا بطلب النصرة على القوم الكافرين و هي غاية دعوة الأنبياء و المرسلين و المؤمنين باللّه تعالى و مضمونهما من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة.

و في الآيتين فضائل و آثار مهمة نبهت إليها السنة الشريفة و لعظم منزلتهما عند اللّه تعالى كانتا في كنز تحت العرش.

ص: 491

التفسير

285 - قوله تعالى: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ .

إخبار عن تصديق الرسول و المؤمنين بما أنزل إليهم من ربّهم. و إنّما أفرد رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله) للإرشاد إلى أهمية الإيمان باللّه تعالى و أنّ الرسالة طريق إليه و لبيان أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) أول المؤمنين كما في الآية الشريفة التي حكى اللّه عنه: إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُسْلِمِينَ [الأنعام - 163]، و كذا قوله تعالى: وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ اَلْمُسْلِمِينَ [الزمر - 12]، و الاعتناء بإيمانه و تشريفا له (صلّى اللّه عليه و آله) كما هو دأب القرآن الكريم في تشريفه فيذكره و يذكر معه المؤمنين و هو كثير في القرآن قال تعالى:

فَأَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [الفتح - 26].

و المؤمنون إما عطف على الرسول و ما بعده جملة مستأنفة، أو أنّ آمَنَ اَلرَّسُولُ جملة و المؤمنون جملة أخرى مستأنفة.

و الخطاب إنّما هو بين أعظم الموجودات كلّها و بين أشرف مخاطب في الممكنات في محل هو أعلى مقامات القرب إليه تعالى الذي لا يصل إليه ملك مقرّب و لا نبي مرسل، و الحالة هي حالة الجذبة الأحدية المطلقة لمقام الأحمدية المنقطعة إليها فاستشرقت من الشوارق المعنوية من المبدإ الحنان

ص: 492

بما لا يمكن تحديده بقلم و لا بيان.

و المراد بما أنزل إليه: جميع ما أوحي إليه من المعارف و الأحكام و السنن، و جوامع كلماته المباركة.

قوله تعالى: كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ .

حكاية عن حال كلّ من الرسول و المؤمنين على وجه الانفراد لأنّ الإيمان مطلوب من كلّ فرد فرد فهو قائم بالفرد حقيقة بخلاف غيره فإنّه يشمل الجميع أيضا و لذا حكى عنهم على سبيل الجمع كما في قوله تعالى:

فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

و تفصيل بعد إجمال اهتماما بالإيمان و تعظيما لشأنه فإنّ الإيمان بالقرآن الذي أنزل على الرسول يدعوان إلى التصديق باللّه تعالى و بالكتب و الرسل و الملائكة و القرآن حاو على جميع ذلك إجمالا و تفصيلا. و لا بد من الإيمان به على ما يليق و بالكيفية التي قرّرها.

و التصديق بالملائكة باعتبارهم سفراء اللّه تعالى إلى الأنبياء و الرسل و حملة الوحي و أنّهم عباد مكرمون لا يعصون اللّه في ما أمرهم به و يفعلون ما يؤمرون.

و الإيمان بالكتب الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى لهداية البشر و سعادتهم و ما تضمنته من المعارف و الأحكام.

و الترتيب طبيعي في سلسلة النزول و لكن في سلسلة الصعود يكون الإيمان بالأنبياء و الرسل أولا ثم بالكتب ثم بالملائكة. و أما الإيمان باللّه تعالى فهو محيط بجميع ذلك صعودا و نزولا.

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ .

حكاية عن مقولهم من دون ذكر القول كما في قوله تعالى: قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا لأنّ الإيمان استولى على قلوبهم و ملئت بحبّ اللّه تعالى

ص: 493

و رسله بلا تمييز بينهم، فهذا حال المؤمنين في إيمانهم سواء أظهروا ذلك في القول أم لا.

و في الآية الشريفة رد على أهل الكتاب و غيرهم الذين يفرقون في الإيمان برسل اللّه تعالى تعصبا أو لأجل أغراض فاسدة، كما حكى عنهم اللّه تعالى في آيات متعددة من القرآن الكريم.

و الآية المباركة ترشدنا إلى قضية عقلية و هي أنّ التفرقة بين الرسل غير معقولة لأنّ الرسالة إنّما تكون عن واحد و في واحد، و التبدل الزماني و تفاوت الاستعدادات خارجان عمّا تتقوم به الرسالة و قد ذكرنا في قوله تعالى:

تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ [البقرة - 253]، ما يرتبط بالمقام.

قوله تعالى: وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا .

حكاية عن قولهم مع ذكر القول من دون ذكره في الحكاية السابقة مع أنّهما في كلام واحد. و هو من بديع الأسلوب و فيه إظهار لخضوع القائلين و خشوعهم.

و هو إخبار عن الطاعة و الانقياد فإنّ السمع يكنّى به عن القبول و الإذعان، و الإطاعة عن الانقياد، و هذا هو حقيقة الإيمان سواء كان هذا القول شرحا للإيمان باللّه تعالى، يعني: سمعنا قول اللّه و أطعنا تكاليفه، أو يكون شرحا للإيمان بالرسل، يعني: سمعنا قول الرسول و أطعنا أوامره و نواهيه، و يكون متعلقا بغفرانك. يعني: سمعنا و أطعنا موجبات غفرانك و هي الايتمار بالأوامر و الانتهاء عن النواهي فإنّ جميع ذلك صحيح و يرجع إلى شيء واحد و هو بيان حقيقة الإيمان و هما يستعملان فيما هو المقدور و ما يقبل الفهم، و غيرهما ليس بداخل تحت التكليف فيكون الكلام تمهيدا لما سيأتي من نفي التكليف بما لا يطاق.

و السمع و الطاعة من مقوّمات العبودية للّه تعالى بحيث تبعث السمع على العمل و الطاعة على المحاسبة و هما من حقوق اللّه تعالى على العبد و الالتزام بهما من العبد يكون قضاء لحقه عزّ و جل عليه و وفاء لعهده مع الرب تعالى.

ص: 494

قوله تعالى: غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ .

الغفران مصدر كالكفران، و هو بمعنى الستر منصوب بفعل مقدر من لفظه أو غيره أي: اغفر غفرانك أو نسأل غفرانك.

و من المقابلة بين السمع و الطاعة و بين الغفران يستفاد أنّ الأولين حقا للّه تعالى على العبد، و الثاني حق العبد على اللّه تعالى.

و إنّما حذف المتعلّق ليشمل جميع مراتب إحسانه تعالى، و تفاؤلا من المؤمنين بأنّ الخير المحض لا يصدر منه الا الخير المحض، و أنّ أصل الإيمان الذي هو أرفع المقامات و أفضل الحسنات يذهب السيئات فالمؤمن في الدنيا رهين نعمته و في الآخرة غريق رحمته.

و قد ذكروا الرب لما فيه التلطف و بيان الاحتجاج على رحمته تعالى أي: إنّنا مربوبون لا نملك من أمرنا شيئا و أنت الربّ الذي يرجع إليه العبد فاغفر لنا.

و ختموا الدعاء بالمصير إليه اعترافا منهم بالفقر و النقصان و هو المرجع في الدنيا و الآخرة و قد طلبوا منه الغفران و الستر عما يقع منهم في طريق الاستكمال و المصير إليه عزّ و جل.

286 - قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ .

الوسع: الطاقة، و وسع الإنسان أي ما تسعه قدرته و ما تتحمله طاقته و هو يشمل جميع مراتب التكاليف و أبدالها فهو ذو مراتب بحسب متعلقه.

و الكلام يحتمل أن يكون من اللّه تعالى إرشادا إلى تقديسه في كماله و لطفه بعباده، و تعاليا عن القبح في التكليف بغير المقدور و امتنانا على العباد.

كما يحتمل أن يكون من الرسول و المؤمنين إظهارا لعدله و رأفته بهم.

و الجملة كالنتيجة لما تقدم في الآية السابقة كما عرفت آنفا، و توطئة لما ذكر في الجملة الآتية.

ص: 495

و المعنى: إنّ اللّه لا يكلف عباده بما لا يطيقون و لا يحملهم على ما لا يقدرون فللإنسان جزاء ما يكسبه من الخير حسب وسعه و طاقته و عليها وزر ما اكتسبت نفسه من الشر يوفي جزاء كلّ منهما و لا يظلمهم فيه.

و إنّما نسب الاكتساب إلى النفس توبيخا و احتجاجا عليه فإنّه قد تحمّل في الشر من المشقة و التكلف و هو يدل على أنّ في النفس عند الشر صراع بين العقل و الشرع من ناحية و النفس الأمارة من جهة أخرى فقد تحمل المشقة و إن كانت النفس إليه أحب و أعمل لأنّه من مشتهياتها بخلاف الخير فإنّها مجبولة عليه و لا يحتاج إلى المشقة و الاعتدال.

و الآية الشريفة تدل على اختيار الإنسان في أفعاله و الرد على من يقول بالجبر، و ما ورد فيها من القضايا العقلية التي تحكم بها الفطرة السليمة قرّرها الرب الرؤوف على لسان نبيه العظيم بدلا عن لسان الأمة فسأل ربه فأرشدهم اللّه تعالى إلى ما يحفظهم و يقيهم و ما هو الأصلح لهم.

قوله تعالى: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا .

مادة (نسي) تأتي بمعنى الترك و التأخير و الإهمال، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم و السنة الشريفة، و لعل أعظمها على القلوب قوله تعالى:

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [الحشر - 19]، و قوله تعالى: وَ قِيلَ اَلْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا [الجاثية - 34].

و النسيان في أمثال هذه الموارد بمعنى الترك.

و في الحديث: «صلة الرحم مثراة للمال و منسأة للأجل» و هي بمعنى التأخير.

و السهو و النسيان و الخطأ و الغفلة لها جامع قريب و هو سقوط الالتفات و التوجه التفصيلي في النفس عن المعنى فعلا. و الاختلاف إنّما هو بلحاظ أصل المعنى في الذاكرة أو الحافظة أو أصل المخ على تفصيل مذكور في محله.

و طلب نفي المؤاخذة على النسيان و الخطأ باعتبار ما جبل الإنسان عليه من الضعف و الفتور و هما قد يقعان بسبب التساهل و التقصير في التحفظ على

ص: 496

مقدمات التكليف فطلبوا من الرب الرحيم أن لا يؤاخذهم على ذلك كما كان على العكس بالنسبة إلى الذين من قبلهم و طلبوا منه الهداية و التوفيق و الرشاد لئلا يقعوا فيما يوجب النسيان و الخطأ لما عرفوا من أنفسهم الضعف.

و إنّما قدم النسيان لكثرة ابتلاء الإنسان به حتّى قيل: إنّ اشتقاق اسمه منه.

و إنّما أدخل الرسول نفسه في زمرة المؤمنين و طلب نفي المؤاخذة على النسيان و الخطأ باعتبار أنّه (صلّى اللّه عليه و آله) من حيث ذاته معرّض لذلك و إن كان باعتبار حضوره لدى اللّه تعالى و اعتصامه به في جميع حالاته معصوما منزها عن ذلك كلّه.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا .

الإصر: الضيق و الحبس، و المشقة، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم الا في ثلاثة مواضع، أحدها المقام. و الثاني قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف - 157]، و الثالث قوله تعالى: وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران - 81]، أي العهد الضيق الشديد. و المراد به التكاليف الشاقة، كما أنّ المراد من اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا أهل الكتاب.

و الإصر الذي حمل على غيرنا لم يكن بجعل أولي، بل كان بسبب تمردهم و لجاجهم و أعمالهم الفاسدة، قال تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ اَلْبَقَرِ وَ اَلْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ اَلْحَوايا أَوْ مَا اِخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنّا لَصادِقُونَ [الأنعام - 146]. و قد حكى اللّه عزّ و جل في كتابه الكريم كثيرا منها، و تقدمت قصة ذبح البقرة في هذه السورة، و يستفاد ذلك أيضا من قوله تعالى: وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الأعراف - 157]، حيث نسب الإصر إلى أنفسهم لأنّهم السبب في تحمّله، و في هذه الآية نسب التحمل إلى اللّه

ص: 497

تعالى باعتبار مجرد المنشئية، و ليس هو من التكليف المنفي عنه عزّ و جل عقلا، لأنّه مما اختاره الإنسان بسوء اختياره، و يدل على ذلك قوله تعالى:

ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ [الحج - 78]، فإنّه يدل على نفي الحرج في كلّ دين سماوي سواء كان ملة إبراهيم (عليه السلام) أو شريعة موسى، و عيسى، و محمد (عليهم السلام) التي هي تابعة لملة إبراهيم (عليه السلام).

إن قيل: إنّ التكليف يلازم المشقة و الثقل، لأنّه من الكلفة و هي المشقة.

يقال: إنّ كون التكليف ملازم للمشقة أعم من كونه فوق الطاقة و ما لا تسعه قدرة الإنسان أو ضيّقا حرجيا بحيث يحتمل المشقة الشديدة مع أنّ التكليف بالأحكام أمر يجوّزه العقل و لا مانع فيه فإنّ إهمال الإنسان من كلّ جهة قبيح و هو ممتنع على اللّه تعالى، بل إنّ إهماله إهمال للنظام الكياني كلّه.

و بملاحظة قبح التكليف بما لا يطاق يكون التكليف الممدوح هو الذي لا يكون فيه العسر و الحرج، و هو من الواجبات المستقلة العقلية النظامية.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع التكاليف الشاقة حتّى التكاليف الامتحانية التي ابتليت بها الأمم السابقة، و التكاليف التي يضعها الإنسان على نفسه على سبيل التخيل و الوسواس التي هي خلاف الأدلة الشرعية الواصلة إلينا

ففي الحديث «الدّين يسر و لا تعسّروا» و قد اعتبرها الإمام الصادق (عليه السلام) من إطاعة الشيطان حيث

قال: «و أي عقل له و هو يطيع الشيطان» أعاذ اللّه تعالى عباده منه فيكون معنى الآية الشريفة: ربنا ألهمنا الرشاد و التوفيق لترك ما يوجب جميع ذلك.

و في الآية كمال الامتنان على أمة محمد (صلّى اللّه عليه و آله) و البشارة لهم.

ص: 498

قوله تعالى: رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ .

الكلام في هذه الآية الشريفة كالكلام في سابقتها، فإنّ التكليف بما لا يطاق قبيح عقلا و هو محال على اللّه تعالى، بل المراد نفي و إبعاد ما يوجب الوقوع في المشقة و التعب الشديد، كالابتلاء و الامتحان و جزاء الأعمال السيئة في الدنيا و الآخرة. أي: لا توقعنا فيما يوجب هذه الأمور بسوء اختيارنا.

و في تكرار لفظ الرب في هذه الموارد رجاء بعث صفة الرحمة من الرب، و إظهار العبودية في المربوب، و قد ذكرنا في سورة الفاتحة أنّ في هذا الاسم الشريف خصوصية لم تكن في غيره عند الدعاء، و لذا كان الأنبياء و الصالحون يذكرونه في حالاتهم الانقطاعية مع اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اُعْفُ عَنّا وَ اِغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا .

العفو: إذهاب أثر الشيء، و المراد به محو آثار المعاصي و الذنوب.

و المغفرة: الستر، أي الصفح عن الذنوب و إسقاط حق العقوبة و العذاب. و الرحمة تشمل الجميع.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة أدب الدعاء، فإنّ الذنوب و الآثام تجلب آثارا خاصة، و توجب العقوبة و العذاب، فطلبوا محو الآثار أولا و إسقاط حق العقوبة ثانيا، و الرحمة في جميع الأحوال من التوفيق و السداد.

و يختلف طلب المغفرة في هذه الآية عنه في صدرها، فإنّ في هذه إنّما يكون عن الذنوب و النقص الحاصل من جهة الخطاء و النسيان و ارتكاب ما يوجب الوقوع في المشقة و الإصر. و أما الغفران في قوله تعالى: غُفْرانَكَ رَبَّنا إنّما هو مطلق يشمل جميع الحالات و الأمور.

و يحتمل أن تكون هذه الجملات الثلاث مقابلة لتلك الدعوات، فالعفو يكون عما يصدر من الإنسان نسيانا أو خطأ، لكثرة وقوع المكلّف في المخالفة بسبب التقصير في التكليف و مقدماته. و الغفران للذنوب و الصفح عن العقوبة بالنسبة إلى ما يوجب الإصر، و الرحمة بالنسبة إلى ما لا طاقة لنا به.

ص: 499

قوله تعالى: أَنْتَ مَوْلانا .

جملة مستأنفة، أي: أنت وليّ أمرنا و ملجؤنا في جميع أمورنا، و في ذكره بالخصوص لإظهار العجز و العبودية له تعالى، و جلب رأفته و عطفه على من لا ملجأ له الا إليه.

قوله تعالى: فَانْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

دعاء لطلب النصرة على القوم الكافرين الذين يقفون في سبيل نشر الدعوة الإلهية و دين الحق.

و النصرة على الكافرين مطلقة تشمل النصرة المعنوية بحسب المعارف و الأحكام، و الآداب، و مكارم الأخلاق. و النصرة الظاهرية التي تتوقف على إقامة الدّين، و العمل بالشريعة، و نبذ الفرقة و الاختلاف. و هي غاية دعوة الأنبياء و المرسلين، فإنّ بها يتحقق ثبات الدّين و استمراره و إقامته.

و الآية المباركة بصدرها و ذيلها تتضمن الدعاء بالتوفيق و السداد لتحمل الدّين بعد حدوثه، و بقائه و إقامته، و لا أثر لأحدهما بدون الآخر، و لذا كان هذا الدعاء بعد السمع و الطاعة لأصل الدّين و تحمله بالوجه الصحيح، ثم نشره لإعلان الحق.

و إنّما كان هذا الدعاء على سبيل الجمع باعتبار أنّ الاتحاد هو الموجب للنصرة، و فيه من التحريض على الاتفاق و الاجتماع، و نبذ الفرقة و الاختلاف ما لا يخفى.

ص: 500

بحوث المقام
بحث روائي

وردت روايات متعددة تدل على فضل الآيتين المتقدمتين و عظيم منزلتهما عند اللّه تعالى، و يشهد له مضمونهما الرفيع الذي اجتمع فيه مجامع الكمال و السعادة و يحكم بها العقل و الفطرة السليمة، و قد منّ اللّه تعالى فيهما على عباده برفع ما لا يطيقون و ما لا تسعه قدرتهم، و التكاليف الشاقة، و نحن نذكر جملة من الروايات الدالة على فضلهما و ما ورد في تفسيرهما.

في تفسير القمي عن هشام عن الصادق (عليه السلام): «إنّ هذه الآية مشافهة اللّه تعالى لنبيه ليلة أسري به إلى السّماء، قال النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): لما انتهيت إلى محل سدرة المنتهى، فإذا الورقة منها تظل أمة من الأمم، فكنت من ربّي كقاب قوسين أو أدنى، كما حكى اللّه عزّ و جلّ ، فناداني ربّي تعالى: آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه. فقلت أنا مجيبا عنّي و عن أمتي: و المؤمنون كلّ آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرّق بين أحد من رسله. و قالوا سمعنا و أطعنا غفرانك ربنا و إليك المصير. فقال اللّه: لا يكلّف اللّه نفسا إلا وسعها لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت. فقلت: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. و قال اللّه: لا أؤاخذك. فقلت: ربنا و لا تحمّل

ص: 501

علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا. فقال اللّه لا أحملك. فقلت: ربنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به و اعف عنّا و اغفر لنا و ارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين. فقال اللّه: قد أعطيتك ذلك لك و لأمتك. فقال الصادق (عليه السلام): ما وفد إلى اللّه تعالى أحد أكرم من رسول اللّه حيث سأل لامته هذه الخصال».

أقول: هذه الرواية تؤيد أنّ «المؤمنون» جملة مستأنفة، و هو أحد الوجهين اللذين تقدم ذكرهما.

و في الدر المنثور عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «إنّ اللّه سبحانه قال عند كلّ فصل من هذا الدعاء فعلت و استجبت»

و فيه أيضا عن النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله): «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه».

و عن ابن المنكدر رفعه إلى النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) قال: «في آخر سورة البقرة آيات إنّهنّ قرآن، و إنّهنّ دعاء، و إنّهنّ يرضين الرحمن».

و في الدر المنثور و غيره أنّهما من كنز تحت العرش.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام قال: «قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): وضع عن امتي تسع خصال الخطأ، و النسيان و ما لا يعلمون، و ما لا يطيقون، و ما اضطروا إليه، و ما استكرهوا عليه، و الطيرة، و الوسوسة في التفكر في الخلق، و الحسد ما لم يظهر بلسان أو يد».

و في الكافي أيضا عن عمرو بن مروان قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) يقول: قال رسول اللّه (صلّى اللّه عليه و آله): رفع عن امتي أربع خصال: خطأها، و نسيانها، و ما أكرهوا عليه، و ما لم يطيقوا، و ذلك قول اللّه عزّ و جل: ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، و لا تحمّل علينا إصرا كما حمّلته على الذين من قبلنا ربنا و لا تحمّلنا ما لا طاقة لنا به. و قوله إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان».

أقول: المراد من الرفع هو رفع الآثار الشرعية كالعقاب.

ص: 502

و في تفسير العياشي عن أحدهما (عليهما السلام) في آخر البقرة لما دعوا أجيبوا، لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها . قال (عليه السلام): ما افترض اللّه عليها. لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت - الحديث».

أقول: هذا الحديث يشهد لما قلناه من المراد من الرفع الدفع لا الرفع الحقيقي إذ لم يثبت شيء حتّى يرفع، كما أنّ المراد به رفع حقيقة النسيان و نحوه فإنّه موجود حقيقة، و قد فصلنا القول في هذا الحديث في كتابنا (تهذيب الأصول).

و في التوحيد عن الصادق (عليه السلام): «ما أمر العباد إلا بدون سعتهم، فكلّ شيء أمر الناس بأخذه فهم متسعون له، و ما لا يتسعون له فهو موضوع عنهم، و لكن الناس لا خير فيهم».

ص: 503

بحث فلسفي

القوانين السماوية يشترط فيها أمور لا بد أن تجتمع فيها و الا كانت لغوا و اللّه تعالى منزه عن اللغوية بدليل العقل و النقل كما فصل في محله.

الأول: كمال المقنن بالعلم الأكمل و الحكمة البالغة و الإحاطة بالكليات و الجزئيات و قد أقام الفلاسفة الأدلة لإثبات كلّ واحد منها، و العلم الأكمل عين ذاته و الحكمة البالغة، و القيمومية المطلقة من أبرز مظاهر حياته التي هي عين ذاته، فيصير كلّ ذلك عين الذات المقدسة.

الثاني: علمه و إحاطته بجميع الموجودات جزئياتها و كلياتها.

الثالث: ملاحظة خصوصيات المجعول له من جميع الجهات و الإضافات. و مع الخلل يكون من التكليف بالمحال كالتكليف بما لا يطاق و ما فيه العسر و الحرج فإنّهما منافيان لحكمته و هو محال بالنسبة إلى الرؤوف الرحيم الحكيم العليم فما ورد في الآية المباركة و غيرها من الأدلة الشرعية إنّما هو التنبيه إلى الفطرة و إرشاد إليها.

ص: 504

بحث عرفاني

الآيتان المباركتان تدلان على مخاطبة الرسول (صلّى اللّه عليه و آله) مع الرب جلّت عظمته و حقيقة هذه المخاطبة من الأمور التي لا يمكن تعريفها و تحديدها فإنّه مهما أمكن تعريف شيء من الأشياء أو الإشارة إليه بحدّ أو رسم لا يمكن ذلك فيما هو خارج عن المشاعر الإمكانية و إن شئت فعبّر عنه بعلم الحال أو علم الحضور أو نحو ذلك مما يصح أن يشار به إلى هذا النحو من الوجدان فلا بأس به.

و كيف يعرّف ما هو خارج عن الأين و الكيف و نحو ذلك من الألفاظ المعرّفة للأشياء؟!.

و كيف يعقل أن يعرّف حالة ملاقاة الحبيب غير المتناهي في أي جهة من الجهات لحبيبه المتفاني فيه من جميع جهاته حتّى وصل من الخلق إلى الحق بكلّ معنى الحقانية و أراد أن يرجع منه إلى الخلق لتكميل الحق و الحقيقة ؟!.

و التعبير بالسفر و الملاقاة و الرجوع من باب قصور التعبير و الا فلا معنى للحبيب و حبيبه المتفاني فيه هذه التعبيرات مطلقا.

و كيف تحدّ حالة هي حالة مكالمة الحبيب لحبيبه مشافهة و كلمات هي عين ما وقع بها التخاطب في قمة ذروة الممكنات بأسرها؟! أم كيف يوصف فضاء تشرف بهذه الكلمات و الملاقاة ؟!

ص: 505

و كيف توصف كلمات هي أساس النظم و الانتظام ؟! فلو لم يكن لسيد الأنبياء إلا حدوث هذه الحالة لكفاه فخرا على جميع الأنبياء فإنّه إن أرى اللّه لخليله ملكوت السموات و الأرض فقد أرى لحبيبه هيمنة خلاّقية السموات و الأرض فحق أن تكون الآيتان المباركتان من كنوز تحت العرش كما في الحديث بل العرش ينطوي في هذه المكالمة و الحالة:

هذه من علاه إحدى المعالي *** و على هذه فقس ما سواها

كما أنّه يحق لنفس هذه الكلمات كلّ مرتبة عالية يقال لها فإنّه ليس شيء في الممكنات أعلى و أغلى من الإيمان باللّه تبارك و تعالى و كذا بالنسبة الى التكليف فإنّه كمال إنسانية الإنسان الذي هو أفضل الموجودات و قد يصل إلى أعلى الدرجات.

و الحمد للّه ربّ العالمين

ص: 506

المجلد 5

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

سورة آل عمران

اشارة

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتا.......

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ الم (1) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ (4) إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (5) هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (6) بسم الله الرحمن الرحيم الحمد للّه ربّ العالمين و الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيبين الطاهرين هذه السورة تدعو الخلق إلى عبادة اللّه الواحد الأحد المتفرّد، المتّصف بصفات الجمال و الجلال، كما تدعو المؤمنين إلى توحيد الصفوف و الاتحاد في الكلمة، و تحرّضهم على الصبر و المصابرة لمواجهة الأخطار و كيد الأعداء بعد انتشار الإسلام و ذيوع صيته في الجزيرة و الأمم المجاورة لهم، و تحذّرهم عن الاختلاف و التفرقة، و تنبئهم عن كيد الأعداء و اتحادهم في إطفاء نور اللّه تعالى بكلّ ما أمكنهم.

و في هذه السورة بيان لأصول المعارف الإلهيّة، و ما به الاشتراك بين الأديان السماويّة، و تبيّن كيفيّة المحاجّة مع أهل الكتاب، و ترشدهم إلى قصة المباهلة مع وفد نصارى نجران.

ص: 5

و فيها ذكر خلق عيسى عليه السّلام الذي يشبه خلق آدم عليه السّلام، و إنكار كثير من أفعال اليهود و النصارى، و الردّ على مزاعمهم في أنبياء اللّه تعالى.

و يبيّن اللّه تعالى فيها حقائق دينيّة و أمورا عامّة، تجلب السعادة لهم في الدنيا و الآخرة، و يدفع بها شبهات المعاندين و تلبيس الكافرين، و قد أثبت لنفسه مهام الصفات العليا و ما يستلزم في تدبير ملكه و توليته لأمور المؤمنين و إحاطته بالكافرين، و أنهى سبحانه و تعالى هذه السورة بالدعاء.

و من وحدة الأسلوب و الغرض يستفاد أنها نزلت دفعة واحدة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد أعدّ العدّة لمواجهة الأخطار المحدقة بالدين من المشركين و أهل الكتاب.

و يكفي في عظمة هذه السورة المباركة أنها ابتدأت بالتوحيد و أمهات الصفات (الحي و القيوم)، و اختتمت بالأمر بالصبر و المصابرة و التقوى و الوعد بالفلاح، فجمعت بين المبدأ و المعاد بأحسن أسلوب يأخذ بقلوب العباد، فقد جمع اللّه تعالى بها بين التوحيد و النبوّة و المعاد و مراتب تكامل النفس و بدء الطبيعيّات من اللّه و سيرها إليه جلّ جلاله و بين القصة و الاحتجاج و البرهان. كلّ ذلك ينبئ عن عظمة الحكيم الحنّان. و سمّيت هذه السورة بسورة الاصطفاء أيضا، لأن فيها قوله: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية: 33].

و في الآيات المتقدّمة براعة الاستهلال تتضمّن خلاصة ما يذكر في هذه السورة المباركة، فقد أثبت سبحانه و تعالى مهام صفاته العليا و أورد عزّ و جلّ ذكر الكتب الإلهيّة، و حذّر الكافرين عن أفعالهم و أوعدهم بالعذاب الشديد، ثم ذكر ما هو بمنزلة العلّة لما ورد في المقدّمة. و أرشد المؤمنين إلى تذكّر آلاء اللّه تعالى و صفاته العليا، التي بها يدوم العالم و ينتظم نظام الخلق.

فهذه الآيات اشتملت على اصول المعارف الإلهيّة، أما التوحيد فقوله تعالى:

اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، و أما النبوّة فقوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و أما المعاد ببقية الآيات المباركة.

ص: 6

قوله تعالى: الم .

تقدّم الكلام في الحروف المقطّعة القرآنية في أوّل سورة البقرة، و المتحصّل منه أن الاحتمالات المتصوّرة فيها خمسة...

الأول: أنها أسرار و رموز بين الموحي و الموحى إليه، لا يعلمها أحد حتى جبرائيل الذي هو أمين الوحي، فإن بين كلّ ملك و الخواص من وزرائه أسرارا في المخاطبة و الخطاب كما هو معلوم، بل هذا هو دأب المتيّمين من الأحباب، و قديما قالوا إن للحبّ لغة خاصة في مقابل كلّ لغة.

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه *** قول و لا قلم للناس يحكيه

هذا في الحبّ المجازي، و أما الحقيقي منه فلا يعقل تمديده بحدّ أبدا.

الثاني: أن المركّب منها إشارة إلى أمر مهم في الشريعة المقدّسة.

و لكن يرد عليه أن ذلك لا يكفي في الاحتجاج على أهل العناد و اللجاج بل مطلق العناد، لما ثبت في محلّه من أنه لا أثر للمجمل و الرمز و اللغز التي تنبو عنها الأفهام و لا يعتمد عليها الأعلام في مخاطباتهم، فتدخل في متشابهات القرآن الكريم التي عجزت عن فهمها العقول.

الثالث: أنها اسم لنفس السورة التي بدأت بها.

و يرد عليه أن فيه من الغرابة ما لا يخفي.

الرابع: أنها ذكرت تمهيدا لإصغاء المخاطبين و السامعين.

و فيه: أنه بعيد من الحكمة.

الخامس: أنها ذكرت تجليلا للسورة، يعني أن السورة و إن كانت فيها هذه الحروف الهجائية بحسب الظاهر، و لكنّها مشتملة على معارف لا تحيط بها العقول و يعجز الإنسان عن الإتيان بمثلها.

و هناك وجوه اخرى، يمكن الجمع بينها. و القول بأن تمام تلك الوجوه منطوية فيها، و ليس ذلك من شأن الآيات الكريمة ببعيد. و تمام الكلام تقدّم في أوّل سورة البقرة.

ص: 7

قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ .

تقدّم بعض الكلام فيه في تفسير آية الكرسي [255 من سورة البقرة]، و نزيد هنا: اللّه اسم للذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعيّة و الادراكيّة، و المسلوب عنها جميع النقائص كذلك، و نفس تصوّر هذا المعنى بما ذكرناه في فرض العقل يغني عن إثبات صفات جماله و جلاله و معبوديته المطلقة، و خضوع ما سواه له، و لا نحتاج إلى إقامة دليل آخر على ذلك، فالهويّة المطلقة في الكمال المطلق مجرّدة عن كلّ قيد و إضافة، منحصرة فيه عزّ و جلّ،

و قد روي أن عليا عليه السّلام قال: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»، و عرض ذلك على سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله

فقال لعلي:

«علمت الاسم الأعظم»، نعم هو اسم أعظم لمن انقطع إليه تعالى كمال الانقطاع فتجلّى له حينئذ حقيقة أنه ليس هو إلا هو.

و الحيّ القيوم بالمعنى الحقيقي لا يمكن للعقول المحدودة الاحاطة بهما، لأنهما عين الذات المقدّسة، و العقول قاصرة من وصول تلك الساحة العظمى، بل الحياة في ما سواه عزّ و جلّ من المجرّدات، و غيرها تكون شارقة جزئية من شوارق تلك الحياة.

كما أن المراد بالقيوميّة فيه عزّ و جلّ مديريّته و مدبريته و تربيته العظمى لجميع عوالم الممكنات، قيوميّة حياة تستلزم العلم و القدرة و الهيمنة و الإحاطة، لا أن تكون قيوميّة فاقدة للشعور و الحياة، كما في الأسباب الطبيعيّة التكوينيّة.

فيكون لفظ القيوم بهذا المعنى من الأسماء الخاصة به تعالى كلفظ (اللّه)، و لكن لو لوحظ فيه مبدأ الاشتقاق، و هو مطلق القيام بالشيء و على الشيء، و مطلق القيوميّة يكون من الوضع العام و الموضوع له العام بحسب أصل المعنى، و لكن بحسب الإطلاق منحصر فيه عزّ و جلّ.

هذا إذا لم يحصل مثل هذه الألفاظ علما له عزّ و جلّ و إلا فيسقط أصل البحث، و لعلّ أحد أسرار توقيفية أسمائه المقدّسة عدم تدخّل الجهات اللغوية و الأدبية المتعارفة فيها، لتكون بنفسها مرجعا و أصلا يرجع إليها، لا أن يرجع فيها إلى غيرها.

ص: 8

و يصحّ أن يراد من القيوم مقوّم وجود كلّ موجود حدوثا و بقاء.

كما يصحّ أن يراد به مقوّم حياة كلّ ذي حياة، حيوانية كانت أو نباتية.

و يصحّ أن يراد به قيوم كمال كلّ ذي كمال.

و الحقّ هو الأخير و سائر المعاني منطوية فيه، و لذا عقّبه سبحانه و تعالى بقوله: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ (7) هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، لأن ذلك من شؤون حياته و قيوميّته المطلقة.

و الحيّ و القيوم من أعظم الأسماء الحسنى.

و الأول من أسماء الذات، بل الثاني أيضا إن رجع إلى الحكمة التامّة التدبيرية و القدرة الجامعة التامّة، كما يصحّ أن يكون برزخا بين اسم الذات و اسم الفعل باختلاف الجهة.

و إنما ذكرهما سبحانه هنا و في آية الكرسي [255 من سورة البقرة]، لأنهما دون لفظ (اللّه) و فوق باقي أسمائه المباركة إلا الاسم الأعظم، بناء على كونه من مقولة اللفظ كما يظهر من بعض الروايات، و يصحّ أن يكونا من بعض أجزائه التي من علم خصوصيات التركيب يؤثّر الأثر المطلوب.

و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية الشريفة على وحدة المعبود، بأن يقال إنه لا بد أن يكون حيّا قيوما، و الحيّ القيوم منحصر في واحد عقلا و نقلا، فالمعبود منحصر بواحد كذلك.

و افتتاح هذه السورة بهذه الجملة المباركة الجامعة لجميع صفات الجلال و الجمال يدلّ على كمال الاعتناء بها، و حقّ لها أن تكون سورة الاصطفاء.

و فيها التعليل لما ورد في الآية التالية، أي اللّه الذي هو واحد في ألوهيته و ذو الحياة الكاملة، و القائم على تدبير خلقه بأحسن نظام و أتم حكمة، لقادر على أن ينزل الكتاب الفارق بين الحقّ و الباطل، و لا يخفى عليه أمر مخلوقاته، فمن آمن بما أنزل على رسله فقد فاز، و من كفر فقد خاب و سيجزيه اللّه، أنه عزيز ذو انتقام.

قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ .

المراد بالكتاب القرآن الكريم، و الباء في (بالحق) إما في موضع الحال، أو

ص: 9

للمصاحبة، أي: حال كونه بالحقّ أو مصاحبا له لا يفارقه، و لا تعتريه شبهة، و لا يطرأ عليه الباطل في جميع شؤونه.

و مصدقا حال آخر، أي: حال كونه معترفا بصدق ما بين يديه و مبيّنا له.

و المراد بما بين يديه: ما تقدّم من الكتب الإلهية، و هي التوراة و الإنجيل و غيرهما.

و التنزيل: هو النزول، و قد تقدّم في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: 185]، كيفية نزول القرآن، و الفرق بين النزول و الإنزال الذي يدلّ على الدفعة.

و الآية تدلّ على صحّة نسبة الكتب الإلهية المتقدّمة إلى الوحي الإلهي، و صدق بعض الحقائق التي ورد فيها، و تدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى:

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة، الآية: 48]، و قال جلّ شأنه: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ اَلْفاسِقِينَ [سورة الأعراف، الآية: 145]، و يستفاد من هذه الآية الشريفة كثرة عناية اللّه تعالى بالتوراة، لأن جميع الكتب السماويّة - بما فيها القرآن الكريم - تشترك في اصول المعارف الإلهية التي منها الدعوة إلى المبدأ جلّ جلاله و توحيده و نفي الأضداد و الأنداد، و منها المعاد و العدل الإلهي، و الترغيب إلى رحمة الرحمن و التحذير من الشيطان و عداوته للإنسان، و من عذاب اللّه تعالى، كما تذكر قصص الأنبياء و ما لا قوه من الظالمين في جنب اللّه و نصرة اللّه لهم، و تبيّن قصة ابتلاء آدم عليه السّلام و إخراجه من الجنّة.

ص: 10

كما أنها تشترك في بيان مكارم الأخلاق و ما يرتفع به الإنسان إلى أعلى الجنان و ما ينزله إلى حضيض الحيوان، و تشترك في بيان المستقلاّت العقلية، كجنس الإحسان و قبح الظلم، و بيان جملة من التكوينيّات و الطبيعيات.

إلا انها تختلف في بعض الفروع العملية الذي يقتضيه السير التكاملي الإنساني الذي تنوط به المصالح التشريعية، و هذه كلّها اصول نظام التشريع التي لا بد و أن تجمعها جميع كتب السماء.

و بعبارة اخرى: أن الوحي السماوي بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى واحد بوجود نوعي، و التوراة و الإنجيل و القرآن من أفراد ذلك النوع، كما أن الإنسان واحد نوعي له أفراد كثيرون، فيصحّ لنا تأسيس قاعدة كلّية و هي الاتحاد في الكتب السماويّة، و لكن القرآن مظهر لجميعها، فما كان منها موافقا للقرآن يكون صحيحا و معتبرا، و ما كان مخالفا له يردّ علمه إلى أهله، إلا إذا ثبت بدليل معتبر جهة المخالفة، و الأدلة القطعية التي أقاموها على نسخ القرآن هو إنما يكون بالنسبة إلى الجهات المخالفة، لا المساواة و الموافقة التي هي مقتضى الأصل و القاعدة فيها.

و الآية الشريفة و ان دلّت على صحّة نسبة التوراة و الإنجيل إلى اللّه تعالى، و لكن لا بد أن تكون في الجملة، لا على نحو الكلّية و المجموع، لدلالة آيات اخرى على وقوع التحريف فيهما، قال تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ [سورة المائدة، الآية:

13]، و قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ [سورة المائدة، الآية: 15].

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنّاسِ .

التوراة لفظ عبراني و معناها الشريعة، و تطلق على العهد القديم المتكوّن من أسفار موسى الخمسة، التي يسمّيها اليهود بالناموس، و هي: سفر التكوين، و سفر التثنية، و سفر الخروج، و سفر اللاويين أو الأحبار، و سفر العدد. و قد وقع الخلاف بين المؤرّخين في صحة نسبة التوراة الموجودة بين أيدينا إلى موسى عليه السّلام، و لا يزال

ص: 11

كثير من اللاهوتيين يشكّون في صحّة النسبة و يرون أنها كتبت بعد عصر موسى عليه السّلام، و إن كان القول بأن جميع تلك الأسفار ليست من الوحي لا يخلو من غلو و إفراط في القول، فإن فيها ما يكون منسوبا إلى موسى عليه السّلام، كما تشهد له الأدلة الكثيرة إلا أن المراد من التوراة في القرآن هي الحقيقيّة المنزلة على موسى عليه السّلام بوحي من اللّه تعالى، كما تدلّ عليه الآيات الكثيرة، قال تعالى:

إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موردا مقرونة بالتجليل و التعظيم.

و اختلف الأدباء في اشتقاقها، و نحن في غنى عن ذلك بعد كونها غير عربية الأصل.

و الإنجيل كلمة يونانية و معناها (الجلوان)، أي ما يعطى لمن يبشّر بالشيء، أو البشرى بالخلاص، و تطلق عند المسيحيين على الأناجيل الأربعة، و هي إنجيل لوقا، و إنجيل مرقس، و إنجيل متى، و إنجيل يوحنا، و العهد الجديد يطلق على هذه الأناجيل الأربعة المتكوّنة من سبعة و عشرين سفرا، تتضمّن سيرة المسيح و تعاليمه و أعمال الرسل (الحواريين) و رؤيا يوحنا اللاهوتي، و قد اختلفوا في تأريخ كتابتها.

و لكن الإنجيل في القرآن الكريم هو الكتاب المنزل من اللّه تعالى على عيسى عليه السّلام الموصوف بأنه كتاب واحد حقيقي مشتمل على النور و الهداية، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقرب من اثنى عشر موردا.

و قد اختلف العلماء في اشتقاق هذه الكلمة على وجوه، و لكن كونها غير عربية الأصل يكفينا عن الخوض في ذكرها.

و يستفاد من مجموع الآيات التي وردت هذه الكلمة فيها أن الإنجيل كتاب واحد حقيقي و ليس هو متعددا كما يدّعيه المسيحيون، و أنه لم يؤمن من السقط و التحريف كالتوراة، و يرشد إلى ذلك إفراد الاسم و التوصيف بأنه هدى للناس، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 12

و إنما ذكرهما سبحانه في أوّل السورة توطئة لما سيذكره من قصصهم و ما يتعلّق بولادة عيسى عليه السّلام.

و من سياق الآية المباركة يستفاد أن التوراة و الإنجيل نزلتا جملة واحدة، بخلاف القرآن فإنه نزل تدريجيا، حيث عبّر تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و قال تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ ، كما مرّ سابقا.

إن قيل: ورد نفس التعبير في قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ ، فيدلّ على نزول القرآن جمعا و دفعة، فيتحقّق التنافي بين الآيتين.

قلنا: لو كان النزول و التنزيل مرّة واحدة حقيقة فالإشكال وارد، و لكن للقرآن نزولات متعدّدة كما تقدّم سابقا في قوله تعالى: شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ [سورة البقرة، الآية: 185]، فمرّة نزل نجوما و مرارا نزل دفعة، و إنما ذكره هنا تجليلا و تعظيما لمقام القرآن بالنسبة إلى سائر الكتب السماويّة.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ .

الفرقان: ما يفرق بين الحقّ و الباطل، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم كثيرا، و جميعها تدلّ على تلك المعارف الإلهية و الأصول الحقّة النظامية، التي تبيّن وظيفة العبد و ما هو مطلوب في مقام العبودية و إقامة العدل و الحقّ، فيشمل الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى و الأحكام الإلهية التي تعيّن وظائف العبد، كما يشمل العقل و كلّ أمر محكم، و يدلّ على ذلك آيات متعدّدة، منها قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ اَلْفُرْقانِ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ [سورة الأنفال، الآية: 41]، و قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ اَلْفُرْقانَ [سورة الأنبياء، الآية: 48]، و قال تعالى: تَبارَكَ اَلَّذِي نَزَّلَ اَلْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [سورة الفرقان، الآية: 1].

و المراد به هنا القرآن الكريم، فهو باعتبار وجوده الجمعي يسمّى قرآنا، و باعتبار تفرقته بين الحقّ و الباطل يسمّى فرقانا، و باعتبار إرشاداته يكون نورا، و باعتبار كونه أساسا للعمل و الحكم بالعدل يسمّى ميزانا، و تختلف أسماؤه الشريفة باختلاف صفاته المباركة.

ص: 13

و قيل: المراد بالفرقان: العقل، و قيل: الدلالة الفاصلة بين الحقّ و الباطل، و قيل: النصر، و قيل: الحجّة القاطعة للرسول صلّى اللّه عليه و آله على من حاجّه في أمر عيسى عليه السّلام.

و في بعض الروايات: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب هو جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء»، و يظهر وجه جميع ذلك ممّا ذكرناه آنفا.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ .

أي: ان الذين كفروا بآيات اللّه و جحدوا بها لهم عذاب شديد، و ذلك لأن الكفر بآيات اللّه حرمان عن منبع النور و الهداية و السعادة، مع أن النفس مستعدّة لجميع ذلك و لها قابلية إبراز كلّ كمال من الكمالات الممكنة إلى الظهور، فيكون نفس هذا الحرمان عذابا لما يتبعه من الندامة و الشقاوة، فلا يختصّ العذاب بالآخرة، و هو ظاهر إطلاق الآية الشريفة التي توعد الكافرين بآيات اللّه بالعذاب في الدنيا و الآخرة، و هذا من الحقائق القرآنية التي تؤكّدها جملة من الآيات الشريفة، فتعدّ حرمان النفس عن الكمالات التي أعدّها اللّه تعالى لها من العذاب، و يعدّ المعرض عنها شقيا قد سلب السعادة عن نفسه، فكلّ ما يكون سببا لسعادة الإنسان إذا كفر به يكون عذابا و شقاء له، فتكون السعادة و الشقاوة في نظر القرآن بسعادة الروح و شقاوتها، و أما سعادة الجسم و البدن فهي ان أوجبت سعادة الروح فهي السعادة العظمى و الكمال الأتم، و إلا كانت شقاء و عذابا، قال تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، فالعذاب الإلهي إنما يكون بالنسبة إلى الروح و الجسم، و لكن المهم هو الأول. و هذا بخلاف ما يراه الإنسان الذي لم يعبأ بما وراء المادة و لم يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى في السعادة و الشقاء، فإنه يعتبر ما يكون سببا للاستمتاع المادي - كالمال و البنين و القناطير المقنطرة من الذهب و الفضة - سعادة، و ما يكون بخلاف ذلك شقاء و عذابا، و هذا مخالف لما عليه الواقع الإنساني المؤلّف من البدن و الروح، و الكتب الإلهية إنما نزلت لتهذيب الروح و إسعادها و رفع شقائها، لا خصوص سعادة الجسم فقط، و للبحث تتمة تأتي في الموضع المناسب.

ص: 14

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ ذُو اِنْتِقامٍ .

مادة (نقم) تدلّ على إراءة الكراهة، سواء كانت باللسان أم بالعقوبة، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و لا تدلّ المادة بشيء من الدلالات على أن يكون الانتقام للتشفّي، كما هو الدائر في انتقام الإنسان، فإن اللّه تعالى أعزّ جانبا و أبعد ساحة من أن ينتفع أو يتضرّر بشيء من أعمال عباده. و لكن منشأ الانتقام يكون فيهم (أي المنتقم منهم)، و يقوم بهم قيام الصورة بالمادة، و بينهما تلازم، و لا يعقل انفكاكهما إلا في فرض الوهم.

و المعنى: أن اللّه قوي شديد نافذ في إرادته، منيع الجانب لا يرضى بأن تهتك محارمه، ينتقم ممّن خالفها و أعرض عنها.

و ما ورد في هذه الآية الشريفة معلول آخر للحياة الحقيقيّة - من كلّ جهة - و القيومية المطلقة، و لا معنى لهما إلا إيصال كلّ ممكن إلى ما يليق به، بعد بسط العدل و الإحسان و الرحمة و العفو و الغفران.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ .

معلول آخر للحياة الحقيقيّة و القيوميّة المطلقة، فإن وحدة الحيّ القيوم تستلزم الإحاطة المطلقة، و أن لا يخفى عليه شيء ممّا سواه، و إلا كان خلفا و لا يعقل غفلة العلّة - العليم الحكيم - عن معلوله.

و يصحّ أن يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة كالعلّة، أي: لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، فهو الحي القيوم.

و إنما قدّم تعالى الأرض على السماء لقربها إلى أذهان المخاطبين و انسهم بها، و إرشادهم إلى أن أرضهم - التي يفعلون فيها ما يفعلون - تحت إحاطته الفعلية.

و يستفاد من هذه الآية الكريمة أن معنى العلم فيه تبارك و تعالى يرجع إلى أمر سلبي، أي: لا يخفى عليه شيء لقصور العقول عن درك علمه بالمعنى الاثباتي، لقصورها عن درك ذاته، و يدلّ على ذلك أخبار كثيرة.

ص: 15

كما تدلّ الآية المباركة أيضا على العلم التفصيلي الفعلي الإحاطي للّه تعالى، و تدلّ عليه آيات اخرى، منها قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ [سورة الحجر، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59].

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ .

الصورة تطلق... تارة على الهيئة الخاصة، و بهذا المعنى يصحّ أن تكون من الأعراض، كالصور المتصوّرة في الأذهان، أو ما ينتقش على الجدران أو ما ترتسم في المرآة أو في كلّ جسم شفاف له قابلية المحاكاة. و في العصر الحديث اتسعت دائرتها، و هي بهذا المعنى تعمّ ما يكون له ظل كالتمثال أو ما لا ظل له.

و تطلق اخرى في مقابل المادة، فتكون جوهرا من مقوّمات الجواهر المركبة من المادة و الصورة، و يعبّر في الفلسفة عن المادة بالجنس باعتبار الوجود الذهني، و عن الصورة بالفصل كذلك أيضا، و إلا فالحقيقة واحدة و التصوير إلقاء الصورة.

و الرحم في الحيوان هو العضو الذي يتكوّن فيه الجنين إلى حين الولادة و محل تربية الطفل. و استعير للقرابة باعتبار انتهاء أفرادها إلى رحم واحد.

و يتضمّن معنى الرأفة و الإحسان أيضا، و بهذا المعنى يطلق على اللّه تعالى، فهو الرحمن الرحيم.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه الرحم قال تعالى: أنا الرحمن و أنت الرحم، شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك و صلته، و من قطعك قطعته»، و منه يظهر معنى الحديث الآخر:

«الرحم معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني، و اقطع من قطعني»، و مخاطبة الرحم للّه تعالى ليست ببعيدة، فإن الأشياء كلّها - بحقائقها الواقعيّة - مرتبطة مع اللّه عزّ و جلّ، يخاطبها اللّه تعالى و تخاطبه، و لكنها مستورة إلا على أهل البصيرة و البصائر.

ص: 16

و إنما خصّ سبحانه و تعالى تقدير الإنسان و تصويره بالذكر مع انه له التقدير العام في جميع المخلوقات، لكمال العناية بالإنسان، الذي هو أعزّ خلقه و أشرفه، فقد ذكر تعالى تصوير الإنسان في آيات اخرى، قال تعالى: وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ [سورة التغابن، الآية: 3]، و قال تعالى: فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ [سورة الانفطار، الآية: 8]، و لبيان كيفية خلق عيسى عليه السّلام الوارد في هذه السورة و التعريض بالنصارى في ما يقولونه فيه عليه السّلام.

و قد أبدع سبحانه و تعالى في تصوير الإنسان، ممّا يدلّ على بديع صنعه و حكمته البالغة و علمه الأتم، و اعتنى بجميع تفاصيله اعتناء بليغا، و أودع فيه من الحكم و الأسرار وفق قوانين منظمة تعجز عقول البشر عن الوصول إلى كنهها و معرفة دقائقها مهما بلغوا في العلم و المعرفة، فقد كشف العلم الحديث عن بعض جوانب تلك الأسرار و الحكم ممّا يبهر العقول و يجلّ عن الوصف، فحقيق للّه تعالى أن يقول في خلق الإنسان: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14]، و يكفي جانب من تلك الجوانب وجهة من جهاته أن تكون حجّة على العباد،

و عن علي عليه السّلام: «الصورة الإنسانية أكبر حجّة للّه على خلقه، و هي الجسر الممدود بين الجنّة و النّار».

و أما

ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه خلق آدم على صورته»، فإن المراد صورة مخلوقة اختارها اللّه تعالى لنفسه، و جعلها حجّة على عباده و سخّر لها ما في السماوات و الأرض، و ليس المراد صورة اللّه تعالى، لأنه يستحيل أن تكون للّه صورة كما ثبت ذلك في الفلسفة العلمية، و يدلّ على ما ذكرناه

ما ورد في الحديث يشرح هذه الرواية، و هو أنه: «سب رجل شخصا بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: قبحك اللّه و قبح من على صورتك، فقال له النبي صلّى اللّه عليه و آله: لا تقل هكذا، فإن اللّه خلق آدم على صورته»، أي على صورة الرجل المسبوب، فيكون سبّه سبّا لآدم عليه السّلام و سائر الأنبياء أيضا.

ص: 17

قوله تعالى: كَيْفَ يَشاءُ .

لفظ (كيف) يستعمل في ما فيه شبيه و ما لم يكن له شبيه، كالأبيض و الأسود و الصحيح و السقيم و نحوها.

و (كيف) من إحدى المقولات التسع العرضية المعروفة في الفلسفة القديمة و الحديثة، و يدخل فيه الاشتداد و التضعف لاتصافه بالحركة، كما أن فيه الشدّة و الضعف بذاتها.

و هو من ألفاظ العموم، و لا يطلق عليه تعالى لتقوّمه بالغير كما في غيره،

و في الحديث: «هو الذي كيّف الكيف و لا كيف له»، و إلى ذلك تشير القاعدة التي أسّسها أئمة الدين عليهم السّلام في المعارف الربوبية: «كلّ ما يوجد في المخلوق لا يوجد في الخالق»، و قصارى ما يمكن القول فيه عزّ و جلّ هو: إنه تعالى شيء لا كالأشياء و ذات لا كالذوات، حتّى لا يلزم التعطيل.

و إطلاق الكيف في المقام باعتبار المخاطبة مع الناس و الإنسان المخلوق و أطواره في الأرحام، لا بالنسبة إلى الملك العلاّم.

و مادة (شيء) تأتي بمعنى المشيء وجوده، فكلّ موجود شيء و بالعكس، و لا يطلق على العدم، و قد أثبت الفلاسفة مساوقة الوجود للشيئية، و قال بعض أكابرهم:

ما ليس موجودا يكون ليسا *** قد ساوق الشيء لدينا ايسا

و لا يطلق بهذا المعنى على اللّه عزّ و جلّ، و تقدّم في الحديث: «انه شيء لا كالأشياء».

و المشيئة بالمعنى الوصفي تكون من صفات الفعل: و الفرق بينها و بين الإرادة بالكلّية و الجزئية، أو الحدوث و البقاء، فالحدوث يسمّى مشيئة، و البقاء و الإبقاء إرادة.

بيان ذلك أن كلّ فعل اختياري صادر من الفاعل المختار لا بد و أن يسبقه امور لا يمكن تخلّف واحد منها، كما هو الثابت بالوجدان و البرهان، و هذه الأمور

ص: 18

تسمّى ب «أسباب الفعل»، و هي:

الأول: هو العلم بالفعل و لو على نحو الإجمال، و في الجملة لئلا يكون من طلب المجهول المطلق الذي هو قبيح من العاقل، بل هو محال في نفسه، لأن توجّه النفس إلى شيء لا يتحقّق إلا بتعين ذلك الشيء في الجملة.

الثاني: المشيئة بمعنى توجّه النفس إلى طلبه إجمالا.

الثالث: التقدير، و هو التفات النفس إلى خصوصياته كما و كيفا و من سائر الجهات.

الرابع: القضاء، أي: حكم النفس بإيجاده خارجا.

الخامس: إبرام هذا القضاء، أي الاستقامة فيه و جعله بحيث لا يتخلّف.

السادس: الإرادة الموجودة للفعل.

و هذه كلّها موجودة في كلّ فعل اختياري يحصل من الفاعل المختار، و لو كان هو اللّه تعالى الخالق القهّار.

نعم، في الإنسان واقعها موجودة في النفس و مرتكزة فيها إجمالا و إن لم يعلم بها تفصيلا، و لا يضرّ ذلك، لأنها بوجودها الواقعي مقتضية لحصول الفعل لا بوجودها العلمي التفصيلي الفعلي.

و أما بالنسبة إلى اللّه تعالى فمن حيث إحاطته الوجودية فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فإن جميع تلك الأمور موجودة و معلومة له تعالى تفصيلا، فهو عالم بجميع أطوار وجود الفعل و شؤونه، بل عالم بما سواه كلّية و جزئية قبل الإيجاد و بعده و جميع مراتب التغيّرات و التبدّلات، و كذلك هو عالم بقدره و قضائه و إمضائه و إبرامه و إرادته - التي هي عين فعله الأقدس - علما تفصيليا إحاطيا.

و يمكن تقليل ما ذكرناه من الأسباب بإدخال بعضها في البعض، و يمكن تكثيرها بتفصيل بعضها إلى امور، و لذا اختلفت الأحاديث الشريفة الواردة في أسباب الفعل قلّة و كثرة.

و كيف كان، فقد وقع الكلام في أن هذه الأسباب من صفات الفاعل أو من

ص: 19

صفات الفعل. أما في الإنسان فيصحّ أن تعدّ من صفات الفاعل، كما يصحّ أن تعدّ من صفات الفعل، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، فيقال: فاعل مريد، و فعل مراد، و فاعل مقدّر (بالكسر). و فعل مقدّر (بالفتح)، خصوصا في العلم الذي لا إشكال فيه من أحد أنه من صفات الفاعل في الخالق و المخلوق، و كذا القدر و القضاء و الإبرام، إما باعتبار منشئهما و هو العلم الاحاطي الأكمل و الحكمة البالغة، أو باعتبار إضافتهما إلى الممكن المخلوق، فلا ريب في كونهما من صفات الفعل.

و أما بالنسبة إليه تعالى، فما كانت مستلزمة للتغيير و التبدّل فمن صفات الفعل، و ما لم تكن كذلك فمن صفات الذات.

و أصل الإشكال الذي ذكروه في عدم إمكان جعل المشيئة و الإرادة من صفات الذات، أن الإرادة علّة تامّة منحصرة لحصول المراد، فإن كانت في مرتبة الذات فيلزم إما تعدّد القدماء، أو كون الذات المقدّسة محلا للحوادث، و كلّ منهما مستحيل. و قد اثبتوا امتناع كلّ ذلك بالبراهين المتقنة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك.

أولا: بأن علّية الإرادة لحصول المراد إنما تكون في الفاعل الموجب (بالفتح) - أي الفاعل غير المختار - دون الفاعل العالم المختار، الذي تكون الإرادة فيه من المقتضيات، كسائر أسباب الفعل فلا يلزم محذور فيه أبدا، خصوصا في الإرادة الأزلية، فالاختيار في الفعل و الترك، و القدرة القهّارية باقية قبل الإرادة و حينها و بعدها، و حين حصول الفعل أيضا، و لعلّ إحدى مصالح جعل البداء للّه جلّ جلاله ترجع إلى ذلك، حيث قال تعالى: يَمْحُوا اَللّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ اَلْكِتابِ [سورة الرعد، الآية: 39].

و ثانيا: أنه على فرض كون الإرادة علّة تامّة لحصول المراد، و لكن العلّية لا تكون على نحو الجزاف، بل هي على نحو منظم بالنظام الأحسن الأكمل الأتم، فإذا أراد جلّت عظمته خلق آدم - و هبوطه، أو طوفان نوح، و بعثة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و قيام الساعة، و جزاء أهل الجنّة و النّار، بل جميع العوالم الطولية و العرضية، يكون

ص: 20

مورد إرادته الكاملة وفق النظام الأحسن الأكمل، و إلا يكون من تخلّف المراد عن الإرادة، و هو محال.

و ثالثا: أن الإرادة إن كانت علّة تامّة لحصول المراد، فإنما هو بالنسبة إلى حصول المراد بالأصل لا المراد بالعرض. و المراد بالأصل فيه عزّ و جلّ يرجع إلى ابتهاج ذاته بذاته في ذاته، بلا محذور في البين، كما قالوا ذلك في علمه الأزلي بما سواه، و سمعه، و بصره.

و في الحديث: «عالم إذ لا معلوم، و سامع إذ لا مسموع، و بصير إذ لا مبصر».

و بعبارة اخرى: تكون الإرادة التكوينيّة من هذه الجهة، كالإرادة التشريعيّة، فإذا أراد اللّه تعالى الصلاة - مثلا - من عباده، أرادها وفق نظام خاص، بحيث يكون أوّلها تكبيرة و آخرها تسليمة، مع تخلل القيام و الركوع و السجود و الأذكار في البين، فإرادته انبساطية على جميع ذلك، كما أن إرادته الأزلية التكوينيّة تكون كذلك.

قد يقال: إن ما ذكر ينافي قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران، الآية: 47].

و يمكن الجواب عنه: بأن مرتبة الأمر التكويني غير مرتبة الإرادة، كما هو ظاهر الآية الكريمة. هذا كلّه بحسب القواعد العقلية.

و أما بحسب ظواهر النصوص التي تدلّ على جعل الإرادة و المشيئة من صفات الفعل لا الذات، فلا بد من اتباعها، و لا محيص عمّا ورد فيها. هذا إجمال ما يتعلّق بموضوع القضاء و القدر، اللذين هما من أسباب الفعل في كلّ فاعل مختار.

و أما أسرار القضاء و القدر في فعل اللّه جلّ جلاله، فقد حيّرت الملائكة المقرّبين و الأنبياء المرسلين.

و في الحديث عن علي عليه السّلام: «بحر عميق فلا تلجه، و طريق مظلم فلا تسلكه، و انه سرّ اللّه فلا تتكلّفه»، و سيأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و تعليق التصوير على المشيئة الإلهية إنما هو لأجل تعميم التصوير ليشمل

ص: 21

جميع أقسامه في أصل الخلق و الصفات و الكيفيات الأخلاقيّة و الطبيعيّة، و الإرشاد إلى عدم إحاطة الأفهام و العقول، كما لا يمكن الإحاطة بالمشيئة الإلهية.

و المشيئة في قوله تعالى: يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، مشيئة تقدير و إرادة مشيئة حتم، و هو يرشد إلى اختلاف الحالات و العوارض و اللوازم الواردة على النطف في الأرحام، فإن جميع تلك الأمور - سواء كانت من لوازم الوجود أم من لوازم الماهيّة، التي هي مجعولة بالعرض - تكون تحت القدرة الإلهية، بل تشمل جميع التقديرات الحاصلة للإنسان كالعزّة و الذلّة و السعادة و الشقاوة و الإيمان و الكفر و العذاب و نحو ذلك، فإن جميعها يكون في الرحم على نحو الاقتضاء و المشيئة، كما يظهر من الأخبار،

منها قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «السعيد من سعد في بطن امه، و الشقي من شقي في بطن امه»، و لا بأس بتسمية جميع ذلك بالصورة بمعناها الأعم.

و من ذلك يعلم الوجه في تعقيب الآيات المتقدّمة بهذه الآية الشريفة، و يصحّ أيضا أن تكون تحذيرا و تخويفا بقدرة اللّه تعالى، فإنه قادر على أن يبدل صورة الإنسان إلى صورة اخرى، إتماما للحجّة و بيانا للقدرة الكاملة، ليرتدع الناس عن المعاصي و الآثام.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

تعليل لما تقدّم، و عود إلى ما بدأ به الكلام من التوحيد، أي: هو المتوحّد في الالوهية و المتفرّد في جميع شؤون خلقه، العزيز بقدرته و سلطانه، لا يغلب في إرادته و قضائه، هو الحكيم، أي: يفعل بمقتضى الحكمة التامّة.

ص: 22

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيات المتقدّمة على امور:

الأول: أنه قد أثبت أكابر الفلاسفة المتألّهين توحيد الذات، و توحيد المعبود، و توحيد الصفة و الفعل للّه جلّ جلاله - بمعنى أنه لا شريك له تعالى في شيء من ذلك، فهو واحد متوحّد متفرّد في جميع ذلك - ببراهين عقليّة متينة (جزاهم اللّه تعالى خيرا)، و يمكن استفادة وجه يجمع تلك البراهين من قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ ، فإنه يدلّ على وحدانية الذات المستجمعة لجميع صفات الجلال و الجمال و المعبودية الحقيقيّة في الإله الواحد القهّار.

و ذلك بأن يقال: إن الذات الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة، و المسلوب عنه جميع النقائص كذلك، إما أن يفرض وجوده أو لا؟ و الثاني باطل بالضرورة، و الأول يستلزم تحقّقه كذلك، أي مسلوبا عنه جميع النقائص الواقعيّة و جامعا لجميع الكمالات كذلك، و إلا لزم الخلف، و هو باطل بالضرورة أيضا، و لا بد أن يسلب عنه الإمكان، و يكون العلم و الحياة و القيوميّة و الحكمة عين ذاته، لأن خلاف كلّ ذلك نقص، و المفروض أنه مسلوب عنه جميع النقائص الواقعيّة مطلقا.

الثاني: انما ذكر سبحانه: «الحي القيوم» أولا و رتّب عليه تنزيل الكتاب بالحقّ، ليعلم من عظمة المنزل عظمة التنزيل، فكما لا حدّ للحيّ القيوم جلّت عظمته، كذلك لا يمكن تحديد هذا الكتاب العظيم الذي نزل بالحقّ، المهيمن على جميع الكتب الإلهية، و يكون ترتّب تنزيل الكتاب بالحقّ على الحيّ القيوم من قبيل ترتب المعلول على العلّة التامّة المنحصرة، يعني حيث انه تعالى حي و قيوم نزل الكتاب بالحقّ.

ص: 23

الثالث: إنما عبّر سبحانه بالتنزيل، للإشارة إلى كثرة العناية و الاهتمام بوجود القرآن العظيم، فإنه كنسخة واحدة لشرح نظامي التكوين و التشريع، فقد تجلّى اللّه تعالى فيه و أنزله بالحقّ و من الحقّ، و في الحقّ، و إلى الحقّ.

أما أنه بالحقّ، فهو من لوازم كونه من الحقّ المطلق، إذ لا يعقل نزول شيء منه إلا بالحقّ.

و أما أنه في الحقّ، لأنه نزّل الكتاب لتكميل الإنسان كمالا معنويا و ظاهريا، حتى يصير بذلك خلاّقا لما يشاء و فعالا لما يريد من المعنويات.

و أما أنه نزل إلى الحقّ، لأنه نزل من الحي القيوم إلى قلب سيد المرسلين، و الغاية منه هو النعيم الأزلي الذي يبقى و لا يفنى.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ على أن اعتبار الكتب الإلهية السابقة إنما يكون بإمضاء القرآن العظيم، فهو الأصل في مدرك الاعتبار، و يكون هو المعتمد في الموافقة و المخالفة، و في الكلام من براعة الأسلوب و روعة البيان ما لا يخفى.

الخامس: إنما قدّم سبحانه تنزيل الكتاب على نبيّه في الذكر على إنزال التوراة و الإنجيل، لأن القرآن العظيم هو الأصل في الكتب السماويّة، و أن تأخّر انزاله في سير الزمان لمصالح كثيرة، منها حصول استعداد النفوس لذلك، و إلا فهو الأول و الأصل، فمعارفه شموس طالعة، و أحكامه أقمار منيرة، و آدابه نجوم مضيئة، تستشرق الأرواح من شوارقه و تستنير النفوس من بوارقه، تحيا الأرواح حياة أبدية و تتنعم الأشباح بنعمة سرمدية، توصلها إلى قاب قوسين أو أدنى و الاقتراب من العلي الأعلى.

ألم بنا وصف أجلّ من الوصف *** أدق من المعنى و أخفى من اللطف

تمازجه الأرواح و هي لطيفة إذا هو روح الروح و الروح كالظرف

نعمنا به رغدا من العيش برهة و راس رتبته المعقول في عالم الكشف

السادس: الفرقان يصحّ أن يكون وصفا بحال ذات القرآن، فإنه الفارق بين

ص: 24

الحقّ و الباطل، و الهداية و الغواية، كما يصحّ أن يكون ذلك و صفا بحال المتعلّق، أي الفارق بين المؤمن و غيره، فيستفيد كلّ منهم بقدر لياقته و استعداده، قال تعالى:

أَنْزَلَ مِنَ اَلسَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها [سورة الرعد، الآية: 17].

السابع: إنما كرّر سبحانه و تعالى مادة (ن ز ل) في الآية المباركة ثلاث مرات، للاهتمام التامّ بالمنزل و كثرة العناية به، و المراد بالكتاب في أوّل الآية المباركة هو القرآن الذي هو بين أيدينا، بقرينة قوله تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ ، و المراد من التنزيل التدريجي نجوما متفرّقة حسب تعدّد الخصوصيات، فلاحظ سبحانه و تعالى باعتبار وجوده الجمعي بعد تمامية مراتب التنزيل و ذكره مستقلا.

و أما التوراة و الإنجيل فيستظهر من الآية الشريفة: وَ أَنْزَلَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ أنهما نزلا دفعة و هو كذلك، لأن الإنجيل مقتبس من التوراة، و هي نزلت دفعة.

و أما قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ ، فهو عبارة عن المحكمات الفارقة بين الحقّ و الباطل، التي تكون في ضمن القرآن، و التكرار ثانيا لكثرة أهميتها و جعل إنزالها إنزالا دفعيا ثانيا مضافا إلى التنزيل التدريجي، و لا بأس بجعل الاختلاف في التعبير من باب التفنّن في الكلام الذي هو من جهات الفصاحة و البلاغة.

و يمكن أن يوجّه بوجه آخر أدقّ و ألطف، و هو أنه إذا لوحظ الوحي بالنسبة إلى الموحي و قلب الموحى إليه، فهو نزول مطلقا، لتنزههما عن الزمان و الزمانيات، و لكن إذا لوحظ بحسب هذا العالم المادي الزماني المتدرّج الوجود، فهو تنزيل، فيكون كلّ منهما بحسب وعائه و عالمه، و بذلك يجمع بين جميع الآيات السابقة من غير محذور في البين.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ تقدير جميع الأمور المتعلّقة بالإنسان، فيكون كفر الكافر و إيمان المؤمن غير خارجين عن تقدير اللّه تعالى على نحو الاقتضاء، و يكون الكلام تعميما بعد التخصيص، و قد ذكر التقدير في الإنسان إتماما للحجّة، و تثبيتا لإيمان المؤمن،

ص: 25

و تطييبا لنفوسهم و تخويفا بانتقام الكافرين و تعريضا بالنصارى في أمر المسيح عليه السّلام.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ بعد ذكر ما تقدّم من إنزال الكتب الإلهية و الفرقان و الانتقام من الكافرين و تصوير الإنسان في الأرحام، على أن جميع ذلك دليل على وحدانيته، و أنه لا بد من استنادها إلى إله واحد مدبّر حكيم، يفعل ذلك بعزّته فلا يغلبه أمر.

العاشر: أن المتأمّل من أهل العرفان في جملة من الآيات الشريفة من سورة آل عمران، و الآيات المباركة في آخر سورة الحشر، و الآيات الاول من سورة الحديد، يعلم أنها تتضمّن أبوابا من المعارف، و حقائق من الواقعيات، و إشارات من المعنويات، و لا يصل إلى جميع ذلك إلا بتصفية النفس و المجاهدة في سبيل اللّه تعالى.

و عن بعض المشايخ: أن في هذه الآيات أسرارا أفاضها اللّه تعالى علينا، انه ولى الإفاضة، خصوصا في تكرار لفظ «هو» أربع مرات.

تارة: مشيرا إلى تجلّي الذات.

و اخرى: مشيرا إلى التجلّي الفعلي بتصوير صورة الإنسان، التي هي أعظم آية و عليها يدور خلق سائر العوالم.

و ثالثة: مشيرا إلى تجلّي العزّة و الحكمة.

و رابعة: بالتجلّي التشريعي في المعارف الحقّة و القوانين التامّة، و يلزمه التجلّي الجزائي أيضا، فإن التشريع بلا جزاء لغو.

بحث روائي:

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَلْفُرْقانَ قال عليه السّلام:

«القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل به».

و في تفسير القمّي: «الفرقان هو كلّ أمر محكم، و الكتاب جملة القرآن الذي يصدقه من كان قبله من الأنبياء».

ص: 26

أقول: قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير.

في المجمع: عن الكلبي، و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس، و في الدر المنثور:

عن أبي إسحاق و ابن جرير و ابن المنذر، عن محمد بن جعفر بن الزبير و عن ابن أبي إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي أمامة و غيرهم: «أن صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها نزلت في وفد نجران لما قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كانوا ستين راكبا و فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و في الأربعة عشر ثلاثة نفر إليهم يؤول أمرهم، العاقب: أمير القوم و صاحب مشورتهم الذي لا يصدرون إلا عن رأيه و اسمه عبد المسيح، و السيد ثمالهم و صاحب رحلهم و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم و درس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، و كانت ملوك الروم قد شرّفوه و موّلوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده، فقدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و في المدينة و دخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم ثياب الحبرات جباب و أردية، في جمال رجال بني الحارث بن كعب، يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

ما رأينا و فدا مثلهم، و قد حانت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس و قاموا فصلّوا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم فصلّوا إلى المشرق، فكلّم السيد و العاقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أسلما. قالا: قد أسلمنا قبلك، قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدا، و عبادتكما الصليب و أكلكما الخنزير، قالا: إن لم يكن عيسى ولدا للّه فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى، فقال لهما النبي صلّى اللّه عليه و آله: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا و هو يشبه أباه؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربّنا حيّ لا يموت، و أن عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن ربّنا قيم على كلّ شيء يحفظه و يرزقه؟ قالوا:

بلى، قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئا؟ قالوا: لا. قال: فإن ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، و ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث، قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته امه كما تحمل المرأة، ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم

ص: 27

غذى كما يغذى الصبي ثم كان يطعم و يشرب و يحدث؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ فسكتوا، فأنزل اللّه عزّ و جلّ فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية منها».

أقول: ما ورد في الرواية مطابق للأدلّة العقلية أيضا، و ليس فيها جهة من جهات التعبّد و يمكن أن يكون نزول مجموع الآيات التي ذكرت في الرواية بعضها من باب المقدّمة لدفع احتجاجاتهم، لا أن تكون بنفسها احتجاجا عليهم.

في العلل: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «سمّي القرآن فرقانا لأنه متفرّق الآيات، و السور نزلت في غير الألواح و غير الصحف، و التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت كلّها جملة في الألواح و الورق».

أقول: أما التوراة و الإنجيل و الزبور أنزلت جملة واحدة، فيمكن ان يستشهد بقوله تعالى: وَ لَمّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى اَلْغَضَبُ أَخَذَ اَلْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 154].

فيستفاد منه أن التوراة كانت مكتوبة بالخط الأزلي في الألواح، و أما أن الألواح من أي شيء كانت، فلا يستفاد ذلك من الآية المباركة. و يشهد لما قلنا قوله تعالى: صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى [سورة الأعلى، الآية: 19].

و أما أن الإنجيل نزل جملة واحدة، فلقوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ [سورة المائدة، الآية: 46]، و غيره من الآيات المباركة التي يستفاد من سياقها أنه كان مكتوبا و أتاه اللّه إلى عيسى عليه السّلام.

و أما الزبور، فيشهد قوله تعالى: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً [سورة النساء، الآية: 163]، فإن المنساق منه أيضا النزول الجمعي.

ثم إن القرآن و الفرقان من الأمور الإضافية النسبية، فيصحّ نسبة الجمع إلى القرآن في كلّ ما يصحّ انتساب الجمع إليه، كالجمع بين الدفتين، أو الجمع في قلب سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، أو الجمع في اللوح المحفوظ، أو الجمع في علم اللّه تعالى، أو الجمع في غير ما ذكر من العوالم.

ص: 28

كما أن الفرقان يصحّ بانتساب التفريق إلى كلّ ما صحّ ذلك عقلا و شرعا من التفريق بين المحكم و المتشابه، و التفريق بين اصول المعارف و الأحكام، و التفريق بين الآيات الدالّة على التكوين و الآيات الدالّة على القصص و الحكايات، إلى غير ذلك من جهات الفرق. فما ذكر في الروايات في معنى الفرقان يكون من باب ذكر المصداق، كما مرّ.

و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام قال: «إن اللّه إذا أراد أن يخلق النطفة التي هي ممّا أخذ عليها الميثاق في صلب آدم عليه السّلام أو ما يبدو له فيه، و يجعلها في الرحم حرك الرجل للجماع و أوحى إلى الرحم أن افتحي بابك حتى يلج فيك خلقي و قضائي النافذ و قدري، فتفتح بابها، فتصل النطفة إلى الرحم، فتردد فيه أربعين يوما ثم تصير علقة أربعين يوما، ثم تصير مضغة أربعين يوما، ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة، ثم يبعث اللّه ملكين خلاقين يخلقان في الأرحام ما يشاء اللّه، فيقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة، فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء، فينفخان فيها روح الحياة و البقاء، و يشقّان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى، ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء في ما تكتبان، فيقولان: يا ربّ ما نكتب؟ فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما، فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه شقيا أو سعيدا و جميع شأنه، قال: فيملي أحدهما على صاحبه، فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان، ثم يختمان الكتاب و يجعلانه بين عينيه ثم يقيمانه قائما في بطن امه، قال: فربما عتا فانقلب، و لا يكون ذلك إلا في كلّ عات أو مارد، و إذا بلغ أوان خروج الولد تاما أو غير تام أوحى اللّه إلى الرحم: أن افتحي بابك حتّى يخرج خلقي إلى أرضي و ينفذ فيه أمري فقد بلغ أوان خروجه، قال: فيفتح الرحم باب الولد فيبعث اللّه إليه ملكا يقال له زاجر فيزجره زجرة فيفزع منها الولد فينقلب فتصير رجلاه

ص: 29

فوق رأسه و رأسه في أسفل البطن ليسهّل اللّه على المرأة و على الولد الخروج، قال:

فإذا احتبس زجره الملك زجرة اخرى فيفزع منها فيسقط الولد إلى الأرض باكيا فزعا من الزجرة».

أقول: هذا الحديث يبيّن جملة من أسرار التكوين ببيان واضح، و الأمور التي ذكرت فيه أسرار معنوية و أسرار تكوينيّة حقيقيّة لا تنافي الأسباب الطبيعيّة المعروفة، إذ يمكن أن يكون في شيء واحد أسباب جليّة واضحة و أسباب خفية معنوية، لا يحيط بها إلا اللّه تعالى، و هما في حاق الواقع يرجعان إلى شيء واحد، و كلّ واحد منهما يكون من المقتضى لتحصيل المعلول، أو يكون كلّ واحد منهما علّة تامّة مترتّبة كلّ سابقة علّة للاحقتها، فيصير كلّ واحد علّة تامّة من جهة و مقتضيا من جهة اخرى، كما هو شأن العلل و المعلولات المترتّبة في حصول النتيجة القصوى.

و أما

قوله عليه السّلام: «النطفة التي ممّا أخذ عليها الميثاق»، فهو مطابق للقانون العقلي، و هو انبعاث المعلول عن علّته، و لا ريب في أن جميع الموجودات خصوصا النطفة التي يريد أن يجعلها سويا أتم خلق اللّه و أهمّه، و ارتباطه تكوينا مع اللّه ثابت، و يصحّ أن يعبّر عن هذا الارتباط بالميثاق، فهو ميثاق تكويني من جهة، و اختياري من جهة اخرى، يسمّى في الأخبار بعالم الذر و الميثاق، كما يأتي شرحه عند قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ [سورة الأعراف، الآية: 172]، و يصحّ أن يعبّر عن ذلك بالطينة أيضا، لما ورد فيها من أخبار كثيرة.

و أما

قوله عليه السّلام: «أو ما يبدو له» من البدء الذي دلّت عليه نصوص كثيرة، و يظهر من الرواية أن البداء يكون في مرتبة الميثاق أيضا، فالميثاق قضاء حتمي و ما يبدو له غير حتمي متوقّف على البدء.

و أما

قوله عليه السّلام: «فتصل النطفة إلى الرحم» هذا من الأسباب الطبيعيّة، و قد

ص: 30

تقدّم آنفا أنه يمكن أن يجتمع مع الأسباب المعنوية أيضا.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم تصير لحما تجري فيه عروق مشتبكة»، قد ورد في ذلك كمية و كيفية نصوص كثيرة، و قد كشف العلم الحديث كثيرا منها، و فرّع الفقهاء على ذلك تعيين دية ما في الأرحام.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم يبعث اللّه ملكين خلاّقين»، يصحّ أن يعبّر عن القوة الخلاّقة بالملك، لأن الطبيعة بأجزائها و جزئياتها كلّها من جنود اللّه تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «يقتحمان في بطن المرأة من فم المرأة»، المراد من الاقتحام هو تشبيه المعقول بالمحسوس، توضيحا للأفهام و تشريفا للملك، فإنه مختصّ بأعالي البدن،

و في الحديث: «نظفوا المأزقتين فإنهما محل الرقيب و العتيد»، و الملك إن كان جسما لطيفا فهو ألطف من البخار الحاصل من حركة الدم، فاقتحامه في البطن و العروق معلوم، و يعبّر عن ذلك في الفلسفة ب (الروح البخاري)، و إن كان مجرّدا فهو أوضح من أن يخفى، فيكون من سنخ الإدراكات المحسوسة التي توجب حصول صورة في النفس، و كما أن أعالي البدن موكولة بالملك فأسافلها موكولة بافعال الشيطان، كما يظهر من روايات كثيرة.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيصلان إلى الرحم و فيها الروح القديمة المنقولة في أصلاب الرجال و أرحام النساء»، يمكن أن يراد من الروح القديمة موضع مادة الروح، و هي ماء الرجل و ماء المرأة معا، فيكون بمنزلة الموضوع لتعلّق الحياة به، و التعبير ب «القديمة» لفرض التقدّم الزماني على نفخ الروح الحياتي، فالمراد به القدم الإضافي، لا القدم الحقيقي.

و أما

قوله عليه السّلام: «فينفخان فيها روح الحياة و البقاء و يشقّان له السمع و البصر و الجوارح و جميع ما في البطن بإذن اللّه تعالى»، يصحّ انطباق ذلك كلّه على القوى الطبيعيّة المسخّرة تحت أمر اللّه تبارك و تعالى، فإن شئت فسمّها ملكا، و إن شئت فسمّها قوى طبيعية مسخّرة تحت إرادة اللّه عزّ و جلّ، و يصحّ التعبير في جميع ذلك ب (الحركة الجوهرية)، التي هي تحت إرادته عزّ و جلّ، لأن إرادته الأزلية

ص: 31

تعلّقت بالاستكمال و الترقّي و التعالي.

و أما

قوله عليه السّلام: «ثم يوحي اللّه إلى الملكين: اكتبا عليه قضائي و قدري و نافذ أمري و اشترطا لي البداء فيما تكتبان»، يظهر من جملة من الروايات أن المكتوب عليه هو الجبين. و أما اشتراط البداء فيدلّ عليه نصوص كثيرة، الدالّة على ثبوته في جملة من موارد القضاء و القدر، و سنتعرّض لتفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيقولان: ما نكتب؟ فيوحي اللّه عزّ و جلّ إليهما: أن ارفعا رءوسكما إلى رأس امه فيرفعان رؤوسهما فإذا اللوح يقرع جبهة امه فينظران فيه»، لأن محل مجمع الحواس هو الجبهة، فيكون أشرف من سائر أعضاء البدن، و التخصيص بالأم لأن الأب قد انفصل عنه بانفصال النطفة، و لكثرة علاقة الام بالحمل، و لذا يكون جبينها حاملا للمواثيق.

و أما

قوله عليه السّلام: «فيجدان في اللوح صورته و زينته و أجله و ميثاقه سعيدا أو شقيا و جميع شأنه فيملي أحدهما على صاحبه فيكتبان جميع ما في اللوح و يشترطان البداء فيما يكتبان»، و لعلّ اشتراط البداء من أجل أن الحوادث اللاحقة على الإنسان و ما يجري عليه في المستقبل، تكون لأجل مقتضيات خاصة لا بد من تبدّلها و تغيّرها، فلا بد من اشتراط البداء حينئذ، حفظا لنظام الأسباب و المسبّبات، و ممّا ذكرنا ظهر شرح بقية الحديث.

القمّي في قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، قال عليه السّلام: «يعني ذكرا أو أنثى و أسود و أبيض و أحمر و صحيحا و سقيما».

أقول: ما ذكره عليه السّلام من باب الغالب و المثال و إلا فتصورات الأرحام بالنسبة إلى جميع الجهات و المقتضيات غير معلومة إلا له تبارك و تعالى، و لذا قال تعالى:

كَيْفَ يَشاءُ معلّق على مشيئته غير المحدودة، و يشهد لذلك أنه عليه السّلام لم يذكر الجمال - مثلا - مع أنه من أهم و أتمّ جهات صور الإنسان.

ص: 32

بحث فلسفي:

عن جمع من الفلاسفة أنهم حدّدوا الفيض النازل من الحي القيوم إلى الممكنات بحدّ خاص مترتب طولا، فلا يستفيض كلّ لا حق إلا بواسطة السابق عليه، و جعلوا أوّل هذه السلسلة ما أصطلحوا عليه ب «القاهر الأعلى»، و آخرها ما أسمّوه ب «الهيولى الاولى»، و فصّلوا القول في ذلك بالنسبة إلى خلق الممكنات من علوياتها و سفلياتها، و هو تصور حسن في نفسه، و لكنه تحديد لقدرة اللّه تبارك و تعالى و إرادته الكاملة، بحسب غاية ما يدركونه بعقولهم، و هو أعمّ من الواقع بلا إشكال، لأن الواقع ذاتا و صفة و فعلا و من كلّ حيثية وجهة غير محدود، فكما أن ذاته الأقدس أجل من أن يحيط به العقول، فكذا صفاته العليا و فعله و سائر ما هو من ناحيته جلّت عظمته، فلا يمكن تحديد قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ بشيء أبدا.

نعم إن أرادوا به السنّة الإلهية من أنه أبى أن يجري الأمور إلا بأسبابها، فهو صحيح، و لكن لا دليل على تحديد ما ذكروه من عقل أو نقل، و للبحث بقية نتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى.

بحث عرفاني:

لا ريب في أن الإنسان أشرف الممكنات، لأنه الفصل الأخير لجميعها في المسير الاستكمالي، فيكون الكلّ متوجّها إليه بالتكوين، توجّه المقدّمات بالنتيجة.

و فيه اجتمعت العلل الأربع، أما العلّة الفاعلية، فقد قال اللّه تعالى بعد ذكر الأدوار و عوالم خلق الإنسان: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14].

و أما العلّة المادية، فقد أخبر سبحانه و تعالى أنه المباشر للخلق و التربية:

ص: 33

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سورة ص، الآية: 71]، و قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 2].

و أما العلّة الصورية قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ ، و قال تبارك و تعالى: هُوَ اَللّهُ اَلْخالِقُ اَلْبارِئُ اَلْمُصَوِّرُ [سورة الحشر، الآية: 24].

و أما الغائية فقد قال اللّه تعالى: هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة، الآية: 29].

فجميع الموجودات يحبّ الإنسان محبّة تكوينية، فالكلّ مسخّر له، قال تعالى: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اَللّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً [سورة لقمان، الآية: 20]، كما ان الإنسان بطبعه يحبّ جميع الموجودات لفرض تفانيها فيه، فتكون المحبّة و العشق من الطرفين (أي تعاشقا)، فالموجودات كالشجرة بالنسبة للإنسان و هو كالثمرة، فخلقت الدنيا له و لأجله.

فلا بد للإنسان من بذل الجهد لكشف أسرار الموجودات و رموزها و استخراج الحقائق منها، و ذلك لا يكون إلا بالارتباط التامّ مع الربّ المطلق و القيوم بالحقّ، قال اللّه تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 96]، فهو أشدّ أنحاء العلم و أمتنه و أقواه، كما أثبته الفلاسفة - من قديمهم و حديثهم - و جميع أهل العرفان.

و لكن الإنسان قصّر في ذلك، فأوقع نفسه في ظلمات بعضها فوق بعض، لا يمكنه التخلّص عن بعضها فكيف عن جميعها، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 28]، و ليس المراد بهذا المشي في طريق خاص أو علم مخصوص، بل المشي في جميع أبواب العلوم و المعارف، مشيا مطابقا للواقع يصل إلى النتيجة الحقّة، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية: 19].

ص: 34

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّ.......

اشارة

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ (7) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات المتقدّمة نزول الكتاب على النبيّ الهادي الأمين، بيّن في هذه الآية الشريفة بعض أوصاف الكتاب، بأنه يشتمل على اصول المعارف واضحة و مفهومة، هي ام الكتاب، و اخرى يصعب درك المراد منها، فتختصّ معرفتها به جلّت عظمته و بالأنبياء و الأولياء الأمناء على الوحي المرتبطين به عزّ و جلّ فيعول في درك حقائقها عليهم، فإن معرفة تلك الأصول و الآيات تفوق العقل البشري، فلا يعلم حقائقها إلا اللّه العالم المحيط بما سواه، أو الذين أفاض عليهم أنوار علومه، و كرّمهم بمعرفة أسرار كتابه و رموزه و الإحاطة بتأويله، فهم يشرحون لمن دونهم الواقع المطلوب و ما استفادوه من الغيب المحجوب. و هذا من إحدى جهات جامعيّة هذا الكتاب المبين، و كمال نظمه في تقنين القوانين.

و لكن الذين في قلوبهم انحراف و ضلال عن سواء الفطرة، و يميلون عن الحقّ، يتركون الأصول الواضحة و المعارف الحقّة التي تطابقت مع فطرة العقول، و يتحرّون وراء المتشابه، طلبا لإيقاع الفتنة بين الناس و إضلالهم و تلبيس الواقع عليهم.

على خلاف الذين بلغوا من علمهم ما يعرفون به الحقائق، و اعترفوا بالحقّ الواقع بأن جميع الكتاب و كلّه للّه تعالى، فأرشدوا الناس إلى الهداية و السعادة.

و ختم سبحانه و تعالى الآية المباركة بمدحهم مدحا بليغا لا حد له، فوصفهم بأنهم من أولى الألباب.

ص: 35

التفسير

قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ .

تقدّم الفرق بين الإنزال و التنزيل بالنسبة إلى جميع الآيات المباركة بوجه كلّي، و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنزال لأن المقصود الأهمّ في المقام هو بيان تبعيض الآيات الشريفة، بأن بعضها محكمات و الاخرى متشابهات.

و مادة (حكم) تأتي بمعنى الإتقان و الإصلاح و الحتم و المنع عن الخبط و الفساد، و هي كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى - حكاية عن نوح -: إِنَّ اِبْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ اَلْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ اَلْحاكِمِينَ [سورة هود، الآية: 45]،

و في الحديث: «ان الجنّة للمحكمين»، أي الذين حتم عليهم القتل بعد ما خيّروا بين الشرك و القتل فاختاروه على الشرك.

و الإحكام في الكتاب تستعمل في موردين:

الأول: بالنسبة إلى جميع هذا الكتاب العظيم، المشتمل على الأسلوب المحكم المتقن و الصادر من المصدر الأزلي الحكيم، و هذا وصف لجميع آيات القرآن حتّى المتشابهات منه، لأنها منه عزّ و جلّ، و هي محكمة من تمام الجهات، من حيث الصدور، و من حيث الأسلوب، و من حيث الإعجاز، و من حيث الهداية، فهي محكمة بجميع ما مرّ من معاني الإحكام، قال تعالى: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود، الآية: 1].

الثاني: في مقابل المتشابه، فتصير الآيات الشريفة حينئذ على قسمين، محكمة و متشابهة، و المراد من المحكمات في هذه الآية الشريفة معلومة الدلالة و مفهومة المراد، أي: مصونة عن طرو التردد و الاحتمال عند الأذهان المستقيمة.

قوله تعالى: هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .

مادة (ا م م) تأتي بمعنى الأصل، قال تعالى:

ص: 36

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ اَلْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ [سورة الشورى، الآية: 7]، و سمّي اللوح المحفوظ ب (ام الكتاب)، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 4]، و أم النجوم المجرّة، و سمّيت المحكمات ام الكتاب لأنها اصول المعارف الإلهية، و القوانين الخلقية، و تنظيم الأنظمة الدنيوية و الاخروية، فإذا كانت المحكمات اصول القرآن فهي اصول جميع الكتب السماويّة، لأن جميع الكتب السماويّة شوارق من أشعة القرآن، استشرقت بها قلوب الأنبياء السابقين، حتى تجلّت بتمامها في قلب سيد المرسلين، فشرقت شوارق قلبه المقدّس بعد الاتصال بالذات الأقدس بجوامع الكلم التي هي في نفسها مدار الفقه و الفلسفة و البرهان لأهل اليقين و العرفان، لاتصال النور بالنور، فيشع في مراتب البروز و الظهور.

و التشابه من الشبه، و هو من المفاهيم العامة الاستعمال في المحاورات الدائرة بين الناس، فيستعمل في مطلق مشابهة شيء بشيء آخر كيفا أو كما أو في جهة اخرى، و ربما يكون ظهور اللفظ في معنى عرفي يوجب التشابه و الالتباس في مورد الاستعمال، كقوله تعالى: يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قوله تعالى: اَلرَّحْمنُ عَلَى اَلْعَرْشِ اِسْتَوى [سورة طه، الآية: 5]، كما أن المجمل كذلك أيضا.

و قد يتّصف جميع الكتاب بالتشابه أيضا، كما في قوله تعالى: كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ [سورة الزمر، الآية: 23]، لتشابه جميع آياته في الفصاحة و البلاغة و بديع الأسلوب و كمال الجمال، و أنها صادرة عن مبدئ حكيم قدير، لا يمكن أن يحيط بحكمته و صنعه ادراك الممكنات.

و هو غير التشابه الذي ورد في هذه الآية الشريفة كما في المحكمات، و المعنى أن الآيات المحكمات التي هي ام الكتاب هي الأصل الذي لا بد أن يرجع إليه عند قصور العقول عن درك معاني غيرها.

ص: 37

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ .

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة إلى خلافها، و هي مستعملة بهيئات كثيرة في القرآن، لعلّ أشدّها على النفس قوله تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: 5].

و زيغ القلوب ميلها عن الحقّ، و له مراتب كثيرة فعلا و قولا و اعتقادا، بل و خطرة في القلب، و الكلّ مضبوط لدى العليم الخبير بالدقائق و الشاهد للحقائق.

و الآية الشريفة تعبّر عن أحوال الناس في تلقيهم الآيات الشريفة بمحكماتها و متشابهاتها، فإن منهم مائلا عن الحقّ، يتبع المتشابه ابتغاء للفتنة و الضلال، كما عبّر جل شأنه ب: اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ .

قوله تعالى: اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ .

مادة (ب غ ي) وردت بمعنى طلب تجاوز الاقتصاد كما أو كيفا، تجاوزه أو لم يتجاوزه.

و البغي على قسمين: محمود و مذموم، و الأوّل مثل قوله تعالى: وَ إِمّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ اِبْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً [سورة الإسراء، الآية: 28]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان اللّه يحبّ بغاة العلم»، و كذا تجاوز العدل إلى الإحسان. و الثاني كتجاوز الحقّ إلى الباطل أو الشبه، و التمييز بينهما بالقرائن، فإن كان الطلب لشيء محمود، فالابتغاء فيه يكون كذلك، و إذا كان الطلب مذموما، فالابتغاء مذموما أيضا، و لكن أكثر موارد استعماله يكون في الذم.

و هيئة الافتعال تدلّ على كثرة الاهتمام بذلك، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا اِبْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ [سورة الرعد، الآية: 22].

و الفتنة: الاختبار، من قولهم فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته للتمييز بين جيده و رديئه، و لها مراتب كثيرة، قال تعالى: وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً [سورة طه، الآية: 40]، و تستعمل في النار و في العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى، و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، قال تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات، الآية: 14]، أي عذابكم، و قوله تعالى: أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا [سورة التوبة، الآية: 49]، و التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، أو البيان، و له مراتب كثيرة، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف، الآية: 53]، و لكن البيان..

ص: 38

و الفتنة: الاختبار، من قولهم فتنت الذهب بالنار، أي: اختبرته للتمييز بين جيده و رديئه، و لها مراتب كثيرة، قال تعالى: وَ فَتَنّاكَ فُتُوناً [سورة طه، الآية: 40]، و تستعمل في النار و في العذاب أيضا من باب استعمال اللفظ في بعض لوازم المعنى، و ليس ذلك من المشترك اللفظي في شيء، قال تعالى: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا اَلَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ [سورة الذاريات، الآية: 14]، أي عذابكم، و قوله تعالى: أَلا فِي اَلْفِتْنَةِ سَقَطُوا [سورة التوبة، الآية: 49]، و التأويل من الأول، أي: الرجوع إلى الأصل، أو البيان، و له مراتب كثيرة، قال تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [سورة الأعراف، الآية: 53]، و لكن البيان..

تارة: يكون واقعيا و عن حجّة معتبرة، و هو ممدوح.

و اخرى: يكون اعتقاديا و بلا حجّة معتبرة، و هو مذموم.

و المعنى: أن الذين في قلوبهم زيغ يميلون عن المحكمات إلى المتشابهات، لأجل ابتغاء الفتنة، أو ابتغاء تفسير الآية و بيانها حسب آرائهم و معتقداتهم.

و سياق الآية الشريفة أنها في مقام ذمّ الصنفين، فلا بد و أن يكون ابتغاء الأمرين بالاختيار و التعمّد حتّى يتعلّق به الذم، و كذا إذا كانا منتسبين إلى قصور الإدراك و ترتّب على ذلك الفتنة و التأويل بلا اختيار و عمد لهما، كبعض من فسّر الآيات المتشابهة من القرآن و بيّنها برأيه الخاص، مغرورا بنفسه، فيصحّ توجيه الذم إليه لتقصيره في السبب.

قوله تعالى: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا .

الرسوخ: الثبوت و الاستقرار و التحقّق، و له مراتب كثيرة كمراتب أصل الإيمان به جلّت عظمته، و لم يستعمل هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في موردين، أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية:

162].

و المعروف بين المفسّرين و جمع من الأدباء أن جملة: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ مستأنفة، و أن الجملة الاولى مبتدأ و الثانية خبر، فيكون المعنى:

أن الراسخين في العلم يقولون: آمنا باللّه عزّ و جلّ و أن الآيات كلّها من عند اللّه

ص: 39

تعالى، في مقابل من كان في قلبه زيغ فيتّبع ما تشابه منها.

و يرد عليه: أن قول: كلّ من عند ربنا، قول عامّة المسلمين، فإنهم يعتقدون بأن القرآن كلّه من عند اللّه تعالى، بلا فرق بين عالمهم و جاهلهم و أهل البادية و السوق منهم، و سياق الآية الشريفة سياق المدح و الثناء، فيختصّ بقوم خاص، و لا يعمّ كلّ من قرأ القرآن و لا يلتفت إلى مداليل الآيات المباركة و معانيها، فهذا الوجه مخدوش.

إلا أن يراد من الراسخين في العلم المعنى السلبي، أي: من ليس في قلبه زيغ و لم يمل من الحقّ إلى الباطل، فيشمل عامّة المسلمين أيضا، و لا يختصّ بصنف خاص. فيصير معنى الآية المباركة: من كان بصدد الإضلال و الإلحاد يتبع المتشابه، و من لا يكون كذلك يقول: كلّ من عند اللّه.

و هو بعيد عن سياق الآية الشريفة أيضا.

و المنساق من الآية الشريفة أن الجملة معطوفة على اللّه، أي: لا يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم. و الراسخ في العلم منحصر بسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و من استفاد منه هذا العلم، حيث

قال فيه: «اللهم علّمه التأويل»،

و عن علي عليه السّلام:

«علّمني رسول اللّه ألف باب من العلم يفتح من كلّ باب ألف باب»، فالجملة ليست مستأنفة بل معطوفة على المستثنى، و يكون من قبيل عطف البعض على الكلّ مثلا، لأن هذا العلم بالنسبة إلى اللّه تعالى أولا و بالذات، و بالنسبة إلى سيد الأنبياء ثانيا و بالعرض، فيكون كنسبة علم المتعلّم إلى المعلم، و هذا الوجه هو الظاهر من الآية المباركة، و تدلّ عليه روايات كثيرة، كما يأتي. و إنما أتى بلفظ الجمع تعظيما و إجلالا، و ليشمل المصطفى سيد المرسلين و المتّقين، الذي هو في قمة مقام اليقين بالنسبة إلى المعارف الربوبية، و لا فرق بين علمه صلّى اللّه عليه و آله بالتأويل و علمه تعالى به إلا بالاعتبار، لفرض أن علمه بالتأويل من علم اللّه تعالى، فالفرق بينهما بالمظهر (بالضم) و المظهرية (بالفتح) في مقام التنزيل و التأويل، و لذا صار صلّى اللّه عليه و آله خاتما لمن سبق و فاتحا للعلوم و المعارف لمن لحق، و هذا في الممكنات يختصّ به، فهو الراسخ

ص: 40

في علمي التنزيل و التأويل بحقيقة معنى الرسوخ علما و عملا.

على أن الآية الكريمة ليست بعديمة النظير، فإذا ألقى ملك عظيم خطابا على رعيّته، و كان الخطاب مشتملا على محكم و متشابه و تأويل، يكون أخصّ وزراء ذلك الملك أعرف بمتشابهاته و تأويلاته من غيره، فكيف بمقام الرسالة الأحمدية التي هي أتم مرآة للمعارف الربوبية؟! مع أنه لا ثمرة لهذا النزاع بعد ما عرفت من أن للتأويل و الغيب مراتب متفاوتة، فبعضها يختصّ به سبحانه و تعالى، و بعضها مستلهم منه تبارك و تعالى، و محمد صلّى اللّه عليه و آله هو قائد هذا العلم و من تعلّم منه، فلا نزاع في البين على هذا، سواء كانت الجملة مستأنفة أو معطوفة.

نعم، يتصوّر النزاع الصغروي في بعض مصاديق الراسخين، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

و ما عن بعض من أن الجملة مستأنفة، و أن التأويل منحصر به عزّ و جلّ، لأن أدب القرآن الكريم في نظام المقام جرى على أن يذكر النبيّ الأعظم أولا مستقلا بعنوان الرسالة و نحوه، ثم يعطف عليه البقية، قال تعالى: لكِنِ اَلرَّسُولُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْخَيْراتُ [سورة التوبة، الآية: 88]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة التوبة، الآية: 26]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

غير صحيح، أولا: بأنه تعالى ذكر رسوله في بدء الكلام، بقوله جلّ شأنه:

هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ .

و ثانيها: أنما هو على فرض كلّيته يكون فيما إذا كان مع الرسول غيره يجمعهما شيء واحد، كما في الآيات المباركة المتقدّمة، قال تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 68]، و قال تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ اَللّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها [سورة التوبة، الآية: 26]، و أما إذا كان الموضوع منحصرا به صلّى اللّه عليه و آله،

ص: 41

و كانت البقية منبعثة منه انبعاث الأشعة من الشمس، فلا تعدّد و لا اشتراك حينئذ، فلا حاجة لذكره صلّى اللّه عليه و آله بالخصوص بعد فرض الحصر فيه.

و دعوى: أن العلم بالتأويل منحصر به جلّ شأنه، و لا يتعدّى عنه، لأنه من علم الغيب الذي اختصّ به، فينحصر التأويل به تعالى و لا يعمّ غيره.

مخدوشة: بأن العلم بالغيب مختصّ به تعالى بالذات بلا إشكال، عقلا و نقلا، و لكن أنبياءه و أولياءه يستلهمون بعض ذلك منه و يظهرونه للناس، إثباتا لمقامهم و احتجاجا على الخلق، فليكن المقام كذلك.

و قولهم: آمنا به كلّ من عند ربنا، من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، لأن علمهم بأن جميع الآيات الشريفة من المحكم و المتشابه من عنده تعالى يوجب الإيمان بالكلّ، فلا متشابه عندهم في الواقع، لأنهم بما علّمهم اللّه تعالى من علم التأويل يردّون المتشابه إلى المحكم، فهما بمنزلة قرينة اللفظ، و ذي القرينة عندهم بخلاف غيرهم، فيتحقّق عندهم المتشابه و يأخذون به ابتغاء الفتنة و ابتغاء التأويل.

و المعنى: و ما يعلم تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، الذين كرّمهم اللّه تعالى بهذه الرتبة بتعليمه لهم، و مع العلم بتأويله يقولون: آمنا بالكتاب كلّ من المحكم و المتشابه و التنزيل و التأويل من عند ربنا.

قوله تعالى: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ .

اللب: العقل الخالص عن كلّ الشوائب، و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالتذكّر، لأن التذكّر و التفكّر في المعارف الربوبية من شؤون العقل الخالص، فإن أولي الألباب يتفكّرون في المعارف الإلهية، فينتقلون من المعلول إلى العلّة أو بالعكس.

و الآية المباركة تبيّن شرف الخطاب و المخاطب، إذ نفس هذا الخطاب خطاب تشريفي، فلا بد و أن يكون المخاطب من له الإضافة التشريفية، و ليس ذلك إلا من كان من أولي الألباب، و قد مدحهم سبحانه و تعالى في جملة كثيرة من الآيات المباركة، و لعلّ أهمها قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ * اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ [سورة آل عمران، الآية: 190].

ص: 42

بحوث المقام
بحث أدبي:

تقدّم أن سياق الآية الشريفة يدلّ على أن جملة: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ عطف على لفظ الجلالة، فتكون جملة: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ في موضع الحال و محلّه النصب لذلك، أي: مع كونهم راسخين في العلم قائلين: آمنا به كلّ من عند ربنا، و استشهدوا لذلك بقول الشاعر:

الريح تبكي شجوة *** و البرق يلمع في غمامة

أي: أن البرق يبكي أيضا لا معا في غمامة، فان هذا المقال صفة عامة لكل مسلم، سواء كان راسخا في العلم أم من كان في قلبه مرض، فهذه الآية تبيّن صفتين للراسخين في العلم..

أحدهما: جهة رسوخهم في العلم.

ثانيهما: جهة إيمانهم و تسليمهم للكتاب من كلّ جهة، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنهم يقولون: إن المتشابه و المحكم من عند ربنا، لكنهم يتّبعون المتشابه و لا يردّونه إلى المحكم، لأغراضهم الفاسدة.

و قوله تعالى: و ما يذكر إلا اولوا الألباب. أصل يذكر يتذكّر، و فيه الأبدال، فإن أهل اللغة ذكروا قاعدة و هي: ان تاء الافتعال لو وقعت بعد دال أو ذال أو زاي انقلبت دالا، نحو: أدان، و اذدكر و ازدان. و يجوز في نحو اذدكر قلب الذال دالا أو الدال ذالا، فتقول: ادكر و اذكر.

بحث دلالي:

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الأوّل: استعمال لفظ (الام) مضافا في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء كثير

ص: 43

جدا، مثل قوله تعالى: لِتُنْذِرَ أُمَّ اَلْقُرى [سورة الشورى، الآية: 7]، بل لا يستعمل هذا اللفظ إلا مضافا إلى الظاهر أو المضمر، و هذه الإضافة لا ريب في أنها تفيد الاختصاص، و أنها..

تارة: تكون من قبيل اختصاص المادة للصور المتعددة.

و اخرى: من الاختصاص الخارجي.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى: هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ للدلالة على أن مجموع المحكمات من الآيات المباركة بمنزلة المادة لجميع الآيات الشريفة، فلا بد من رجوعها إليها، فتكون الإضافة من قبيل الأول بمعنى: أن المحكمات بمنزلة المادة للآيات الشريفة، فلا بد من رجوع جميعها إليها، و إلا يكون من قبيل الصورة بلا مادة، و هو غير ممكن.

الثاني: إنما قدّم سبحانه و تعالى (الفتنة) على (التأويل)، لأنها أهمّ و أعمّ بالنسبة إليه، لكون الفتنة أكثر وقوعا، و أقوى في الإغواء و الإضلال من التأويل، لأنه إخبار عن معتقد الشخص قد يمكن أن لا يعتني المخاطب بمعتقده، بخلاف الفتنة، فتكون أشدّ و أغوى في الإضلال عن التأويل.

الثالث: سياق الآية المباركة يدلّ على الذم إن جزم بالمتشابه من دون ارجاعه إلى المحكم و ترتب الأثر عليه، فيدخل في ذلك جميع الآراء الفاسدة و المذاهب الباطلة التي يتمسّك بها ببعض الآيات المتشابهة لإثبات ما يدّعونه.

و أما مجرّد الاحتمال فقط من غير قصد ترتّب الأثر عليه، لا يكون من اتباع المتشابه و ابتغاء الفتنة، نعم لو حرّر ذلك و دوّن و علم أنه يتبع احتماله غيره و يترتب عليه الأثر، يدخل تحت الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ المعنى السلبي، أي عدم الحجاب لديهم عن درك الحقائق القرآنية، و المعنى الايجابي، أي معاينة الواقع و الحقيقة، فهما متلازمان.

و للرسوخ في العلم مراتب متفاوتة يمكن جمعها في ثلاثة: علم اللّه جلّ

ص: 44

جلاله، و علم رسوله الأمين صلّى اللّه عليه و آله، و علم من علّمه رسول اللّه، و ستأتي بقية الكلام في الآيات الآتية إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: إنما كرّر سبحانه و تعالى: (الابتغاء) في الآية الشريفة مع قرب متعلّقهما، دفعا لتوهّم رجوع التأويل إلى الفتنة.

السادس: إنما أطلق سبحانه و تعالى الفتنة ليشمل كلّ فتنة تقع في الخارج مستندة إلى التمسّك بالآيات المتشابهة، سواء كانت دنيوية أم اخروية، نوعية كانت - كالفتن التي تهدف الاجتماع و تفسده - أم شخصية، و سواء كانت في العقيدة، كالبدع، أم في غيرها، دائمية كانت أو محدودة.

السابع: اتباع المتشابه لغرض ابتغاء الفتنة - كما تقدّم - من باب الحكمة، لا من باب العلّة، و قد تترتّب على ابتغاء المتشابه أغراض فاسدة اخرى.

الثامن: ابتغاء الفتنة قد يكون عن اختيار و التفات، و قد يكون مترتبا على إشاعة المتشابه، ترتب الأثر على المؤثّر، أي الابتغاء يكون بلا اختيار و لا التفات، و إن كان الاتباع اختياريا، و إطلاق الآية المباركة يشمل كلا القسمين.

التاسع: إنما ختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بالثناء على الراسخين بقوله جلّت عظمته: وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاّ أُولُوا اَلْأَلْبابِ ، للدلالة على أن ذوي العقول الكاملة يتلقّون ممّا وهبهم اللّه تعالى من علم التأويل في ردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات، و لكن القشريين يتّبعون المتشابه.

بحث روائي:
اشارة

في الكافي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: «إن أناسا تكلّموا في القرآن بغير علم، و ذلك أن اللّه تبارك و تعالى يقول: هُوَ اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ ، فالمنسوخات من المتشابهات، و المحكمات من الناسخات».

ص: 45

أقول: هذه الرواية محمولة على ذكر بعض المصاديق، لا الحصر الحقيقي.

في تفسير العياشي: «سئل الصادق عليه السّلام عن المحكم و المتشابه؟ قال: المحكم ما يعمل به، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: المراد بالجاهل من لم يكن راسخا في العلم، و إلا فمن كان كذلك مثل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فلا وجه للتشابه و التأويل بالنسبة إليه، و سيأتي في البحث العلمي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي - أيضا -: عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «ان القرآن محكم و متشابه، فأما المحكم فتؤمن به، و تعمل به، و تدين به، و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به، و هو قول اللّه عزّ و جلّ: فَأَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ اِبْتِغاءَ اَلْفِتْنَةِ وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، و الراسخون في العلم هم آل محمد».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما تقدّم في التفسير من أن الجملة عطف على اسم الجلالة، و أن الذين في قلوبهم زيغ يعتقدون بأن جميع الآيات بأصنافها من عند اللّه تعالى، و لكنهم يتّبعون المتشابه لابتغاء الفتنة و يعملون به.

و

قوله عليه السّلام: «و أما المتشابه فتؤمن به و لا تعمل به»، فهو مطابق لفطرة العقول، إذ المجمل لا اعتبار به لديهم، فلا بد من ردّه إلى المحكم و المفصّل.

و أما

قوله عليه السّلام: «و الراسخون في العلم هم آل محمد»، فقد تقدّم أنهم علموا ذلك بالوراثة عن خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله، و يأتي ما يدلّ على ذلك.

في تفسير العياشي: عن مسعدة بن صدقة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الناسخ و المنسوخ، و المحكم و المتشابه؟ قال: الناسخ الثابت المعمول به، و المنسوخ ما قد كان يعمل به ثم جاء ما نسخه، و المتشابه ما اشتبه على جاهله».

أقول: تقدّم في الرواية الاولى عن الصادق عليه السّلام ما يتعلّق بهذه الرواية.

و في رواية اخرى: «الناسخ الثابت، و المنسوخ ما مضى، و المحكم ما يعمل به و المتشابه الذي يشبه بعضه بعضا».

ص: 46

أقول: المراد من الثابت، أي: الحجّية في العمل به، كما أن المراد من ما مضى، أي مضى أمده و انتفت حجّيته، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بالمقام.

و في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «المنسوخات من المتشابهات».

أقول: تقدّم أنه من باب ذكر أحد المصاديق، فلا بد و أن يحمل على قبل العلم بالناسخ، و إلا فيزول التشابه لا محالة.

في الكافي: عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال: «نحن الراسخون في العلم، و نحن نعلم تأويله».

أقول: لأن علمهم من علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ورثوا ذلك منه بالوراثة العلمية و النسبية.

في الكافي: عن بريد بن معاوية، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ:

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، فرسول اللّه أفضل الراسخين في العلم، قد علّمه اللّه عزّ و جلّ جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه لينزل عليه شيئا لم يعلمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، و الذين لا يعلمون تأويله إذا قال العالم فيهم بعلم فأجابهم اللّه بقوله: يَقُولُونَ آمَنّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا ، و القرآن خاص، و عام، و محكم، و متشابه، و ناسخ، و منسوخ، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: هذا بيان لأصل الراسخ في العلم، و هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و ما يتفرّع منه، و هم أوصياؤه العظام، كما مرّ في التفسير، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق بذيل الرواية.

في الكافي: عن أبي الصباح الكناني عن الصادق عليه السّلام: «نحن قوم فرض اللّه عزّ و جلّ طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم».

أقول: المراد من الطاعة هنا اتّباع أقوالهم و أفعالهم، لأن قولهم و فعلهم عليهم السّلام حاكيان عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و فعله، و كلّ من قال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله شيئا يجب إطاعته، لأن قوله يكون قول النبي صلّى اللّه عليه و آله، و هو قول اللّه عزّ و جلّ.

ص: 47

عن علي عليه السّلام في حديث له مع معاوية: «القرآن حق و نور و هدى و رحمة و شفاء للمؤمنين الذين آمنوا، و الذين لا يؤمنون في آذانهم و قر و هو عليهم عمى، يا معاوية إن اللّه عزّ و جلّ لم يدع صنفا من أصناف الضلالة و الدعاة إلى النار إلا و قد ردّ عليهم و احتجّ في القرآن، و نهى عن اتباعهم و أنزل فيهم قرآنا ناطقا عليهم، علمه من علمه و جهله من جهله، و إني سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: ليس من القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن و لا منه حرف إلا و له حدّ مطلع على ظهر القرآن و تأويله و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا: آمنا به كلّ من عند ربنا، و أن يسلموا لنا و أن يردّوا علمه إلينا، و قال اللّه عزّ و جلّ: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ و يطلبونه».

أقول: الروايات في أن للقرآن ظهرا و بطنا كثيرة، و في بعضها سبعة أبطن، و ذلك كلّه محمول على مراتب التأويل، التي يعلمها من علم تأويل القرآن، كما سيأتي.

و أما

قوله عليه السّلام: «و له حدّ مطلع على ظهر القرآن»، المراد من هذا المطلع ما يفهمه العالم بالتأويل، و علمه مختصّ بالراسخ في العلم، و الرسوخ في العلم لا يحصل بكثرة الممارسة، بل نور يستوهب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما مرّ.

و أما

قوله عليه السّلام: «و أمر اللّه عزّ و جلّ الأئمة أن يقولوا آمنا به كلّ من عند ربنا»، قد أثبتنا في التفسير أن ذلك لا ينافي كونهم راسخين في العلم، و مع ذلك يؤمنون بأن الكلّ منزل من عند اللّه تبارك و تعالى.

و أما

قوله عليه السّلام: «ان يردوا علمه إلينا و قال اللّه عزّ و جلّ: و لو ردوه إلى الرسول و إلى اولى الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، يظهر من سياق هذه الرواية و ذكر هذه الآية الشريفة في ذيلها أن الاستنباط من القرآن لا بد و أن يكون للراسخ في العلم فيه، و هو كذلك لما تقدّم غير مرة من أن القرآن الكريم لا يشرحه إلا السنّة، فهو كالمتن لها، لا يفهم المراد من المتن إلا بالرجوع إلى السنّة المقدّسة.

ص: 48

في تفسير العياشي: عن بريد بن معاوية، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أفضل الراسخين في العلم، فقد علم جميع ما أنزل اللّه عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان لينزل عليه شيئا لم يعلمه التأويل، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كلّه، قال: جعلت فداك، إن أبا الخطاب كان يقول فيكم قولا عظيما، قال: و ما كان يقول؟ قلت: قال: إنكم تعلمون علم الحرام و الحلال و القرآن، قال: إن علم الحلال و الحرام و القرآن يسير في جنب العلم الذي يحدث في الليل و النهار».

أقول: أما ان اللّه تبارك و تعالى علّم رسوله جميع ما أنزل، فهو حق واقع، إذ لا معنى للوحي و التشريع بالنسبة إلى خاتم الأنبياء إلا ذلك، و أما كون علم الحلال و الحرام يسير في جنب علم ما يحدث في الليل و النهار، لأنه من الأمور الغيبيّة و أسرار القضاء و القدر التي تحيّرت العقول في أصل دركها، فضلا عن الإحاطة بها، و يمكن أن يستظهر من هذه الرواية أن ذلك أيضا من متفرّعات الرسوخ في العلم، فكما أن أصل الرسوخ في العلم، بجميع مراتبه مختصّ به تعالى، فكذلك أسرار ما يحدث بالليل و النهار.

نعم استلهم أولياؤه بعض مراتبه.

عن مسعدة بن صدقة: عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام: «ان رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السّلام: هل تصف ربّنا نزداد له حبا و به معرفة؟ فغضب عليه السّلام و خطب الناس فقال - فيما قال -: عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته، و تقدّمك فيه الرسول من معرفته، فائتم به و استضئ بنور هدايته، فإنما هي نعمة و حكمة أوتيتها، فخذ ما أوتيت و كن من الشاكرين، و ما كلّفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه و لا في سنّة الرسول و أئمة الهدى اثره، فكل علمه إلى اللّه سبحانه، و لا تقدر عظمة اللّه، و اعلم يا عبد اللّه أن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب، فلزموا الإقرار بجملة ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب، فقالوا آمنا به كلّ من عند ربنا، و قد مدح اللّه اعترافهم بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علما، و سمّى تركهم التعمّق فيما لم

ص: 49

يكلّفهم البحث عن كنهه منهم رسوخا، فاقتصر على ذلك، و لا تقدّر عظمة اللّه سبحانه على قدر عقلك فتكون من الهالكين».

أقول: أما غضبه عليه السّلام بالنسبة إلى هذا الشخص فلأنه أراد توصيف اللّه تعالى بما هو خارج عن ظاهر الكتاب المبين و السنّة المقدّسة الشريفة، و يشهد لذلك

قوله عليه السّلام: «عليك يا عبد اللّه بما دلّك عليه القرآن من صفته و تقدّمك فيه الرسول»، ثم ذمّه عليه السّلام للتعمق في ما وراء ذلك، و قد ورد في جملة من الأخبار ذم ذلك أيضا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و ما كلفك الشيطان علمه ممّا ليس عليك في الكتاب فرضه»، فالمراد التوهّمات أو الخيالات الحاصلة في النفس في المعارف، فليس لأحد أن يتبعها، بل لا بد من الاعتقاد بالواقع على ما هو عليه و إيكال علم ذلك إلى اللّه تبارك و تعالى، و الا فيدخل ذلك في اتباع الشيطان و إغوائه و التعمّق المنهي عنه.

و أما

قوله عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم هم الذين أغناهم اللّه عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب»، فقد ذكر صفات الراسخين في العلم و مدحهم، يعني: أنهم اكتفوا بما استفادوا من النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من الرسوخ في العلم، و لم يتعدّوا ما وراء ذلك، لكونه حينئذ من التعمّق المنهي عنه، فمثل هذه الروايات تدلّ على أمرين:

الأول: كونهم راسخين في العلم، و استفادوا ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني: أنهم لا يقتحمون - في ما وراء ما استفادوا من الرسوخ في العلم - السدد المضروبة دون الغيوب.

في الاحتجاج: عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حديث ثم قال: «إن اللّه جلّ ذكره لسعة رحمته و رأفته بخلقه و علمه بما يحدثه المبدلون من تغيير كلامه، قسّم كلامه ثلاثة أقسام، فجعل قسما منه يعرفه العالم و الجاهل، و قسما لا يعرفه إلا من صفا ذهنه و لطف حسّه و صحّ تميّزه ممّن شرح اللّه صدره للإسلام، و قسما لا يعرفه إلا اللّه و أنبياؤه و الراسخون في العلم - الحديث».

ص: 50

أقول: هذا الحديث مطابق لما تقدّم من أن المتشابه و المحكم و غيرهما من مراتب الإدراكات، فلا بد في كلام الحكيم أن يلحظ فيه هذه المراتب.

و عن بريد بن معاوية قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام قول اللّه: وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، قال: يعني تأويل القرآن كلّه إلا اللّه و الراسخون في العلم، فرسول اللّه أفضل الراسخين قد علّمه اللّه جميع ما أنزل عليه من التنزيل و التأويل، و ما كان اللّه منزلا عليه شيئا لم يعلّمه تأويله، و أوصياؤه من بعده يعلمونه كله، فقال الذين لا يعلمون: ما نقول إذا لم نعلم تأويله؟ فأجابهم اللّه:

يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا و القرآن له خاص، و عام، و ناسخ، و منسوخ، و محكم، و متشابه، فالراسخون في العلم يعلمونه».

أقول: المراد من «تأويل القرآن كله» ما اشتمل على المتشابه و التأويل، و إلا فالمحكمات ليس لها تأويل.

عن فضيل بن يسار عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «و ما يعلم تأويله إلا اللّه و الراسخون في العلم، نحن نعلمه».

أقول: تقدّم وجه ذلك.

في العيون عن الرضا عليه السّلام: «من ردّ متشابه القرآن إلى محكمه هدي إلى صراط مستقيم - ثم قال - إن في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن و محكما كمحكم القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها دون محكمها فتضلّوا».

أقول: قد ذكرنا في التفسير أن اشتمال كلمات الأعاظم و الأكابر على المحكم و المتشابه غالبي، بل فطري بالنسبة إلى مراتب العقول، كما يأتي في البحث العلمي.

في الكافي: عن الباقر عليه السّلام: «ان الراسخين في العلم من لا يختلف في علمه».

أقول: هذا من باب بيان بعض آثار الراسخين في العلم، لا جميعها.

في الدر المنثور: أخرج ابن جرير و غيره عن أنس و أبي امامة و وائلة بن اسقف و أبي الدرداء أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل عن الراسخين في العلم فقال: «من برّت يمينه و صدق لسانه و استقام قلبه، و من عفّ بطنه و فرجه، فذلك من

ص: 51

الراسخين في العلم».

أقول: هذا تفسير باللازم، لأن من لوازم التقوى و المواظبة على أحكامه الاتصاف بما ورد في الرواية، و يصير العالم بذلك راسخا في العلم، و ليس ذلك من باب الحصر الحقيقي، بل لا بد و أن يحمل على الحصر الإضافي.

و عن علي عليه السّلام أنه قيل له: «هل عندكم شيء من الوحي؟ قال: لا و الذي فلق الحبّة و برأ النسمة، إلا أن يعطي اللّه عبدا فهما في كتابه».

أقول: يستفاد منه أن فهم القرآن الذي أفاضه اللّه تعالى على عبده من مراتب الوحي و شؤونه، و هو كذلك، لأن جميع ما شرحه علي عليه السّلام في الأصول و المعارف و كذا أولاده المعصومون، خصوصا الباقران و الرضا عليهم السّلام، لا يكون إلا من مراتب الوحي الإلهي، المستفاد من الوحي الكلّي، و هو القرآن الكريم، بل جميع ما أعطاه اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله من جوامع الكلم الذي افتخر به صلّى اللّه عليه و آله على سائر الأنبياء يكون كذلك.

في الكافي: عن الصادق عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

أيها الناس، إنكم في دار هدنة، و أنتم على ظهر سفر، و السير بكم سريع، و قد رأيتم الليل و النهار و الشمس و القمر يبليان كلّ جديد و يقرّبان كلّ بعيد، و يأتيان بكلّ موعود، فأعدّوا الجهاز لبعد المجاز، قال: فقام المقداد بن الأسود فقال: يا رسول اللّه، و ما دار الهدنة؟ فقال: دار بلاغ و انقطاع، فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفع، و ما حل مصدق، و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة، و من جعله خلفه ساقه إلى النار، و هو الدليل يدلّ على خير سبيل، و هو كتاب فيه تفصيل و بيان و تحصيل، و هو الفصل ليس بالهزل، و له ظهر و بطن، فظاهره حكم و باطنه علم، ظاهره أنيق و باطنه عميق؛ له تخوم و على تخومه تخوم، لا تحصى عجائبه، و لا تبلى غرائبه، فيه مصابيح الهدى و منار الحكمة و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة فليجلّ جال بصره و ليبلغ الصفة نظره، ينج من عطب، و يخلص من نشب، فإن التفكّر حياة قلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات،

ص: 52

فعليكم بحسن التخلّص و قلّة التربّص».

أقول: أمثال هذه الرواية تدلّ على عظمة القرآن و رفعة شأنه، الملجأ في الفتن و الشدائد،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ما حل مصدق»، أي خصم مجادل مصدق.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و من جعله أمامه قاده إلى الجنّة»، أي جعله منهجا في عمله، كما أن المراد من الجعل في الخلف ترك العمل به، و معلوم أن العمل بالقرآن يوجب الفوز بالجنّة، كما أن ترك العمل به يوجب الدخول في النار.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و هو الفصل ليس بالهزل»، أي الفاصل بين الحقّ و الباطل.

و المراد من نفي الهزل نفي أي وجه من البطلان عنه.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و له ظهر و بطن»، المراد من الظاهر ما يفهم من ظاهر الآيات الشريفة، و المراد من الباطن الإشارات و الرموز التي يجمعها القرآن التي تحدث إلى يوم القيامة قرنا بعد قرن، و الظاهر و الباطن موجودان في كلمات الأكابر و العظماء، فكيف بكلمات اللّه تبارك و تعالى التي يتشعع معارف بطونها إلى يوم القيامة.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فظاهره حكم و باطنه علم»، المراد من الحكم التصديق الجازم، و ليس المراد بذلك الحكم المصطلح عليه عند الفقهاء، بل هو الأعمّ منه، و المراد من العلم هو القضايا الحقيقيّة الكاشفة عن الحقائق التي هي العلوم الواقعيّة، لأنّ كلّ تصديق يكشف عن علم، و العلم تابع لظاهر التصديق.

و المراد من علمية الباطن - مع أن ظاهره علم أيضا - هو العلم الذي اختصّ به أولياؤه المكرمون.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ظاهره أنيق و باطنه عميق»، المراد من الأنيق حسن الأسلوب و الإبداع، و أن الأفئدة تهوى إليه، و أما أن باطنه عميق فلأن العقول قاصرة عن الإحاطة بتأويلاته، و كلّ ما تأمّل فيه يتجدّد لها معنى غير الأول.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «له تخوم و على تخومه تخوم»، التخم (بفتح التاء) حدّ الشيء و علامته، و الجمع التخوم، و المراد به حدّ معاني القرآن و علاماته، و لا ريب في أنها

ص: 53

تتفاوت بحسب مراتب التأويل و معانيها.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و دليل على المعرفة لمن عرف الصفة»، يعني: أن القرآن دليل على معرفته تبارك و تعالى لمن عرف أنه كلام نازل عن اللّه سبحانه، و حيث عرف صفة علمه تعالى من أنه غير متناه من جميع الجهات، فتتحقّق لديه المعرفة التامّة و يذعن بتلك الصفات المتقدّمة للقرآن.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فليجل جال بصره»، المراد من جولان البصر التفكّر في القرآن بما رغّب إليه الشرع، بحيث يكون تفكّره موافقا للحدود الشرعية.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و ليبلغ الصفة نظره»، يعني: يتأمّل بالمعنى الذي مرّ آنفا من أنه من اللّه تعالى، فحينئذ فإن بلغ إلى نظره معاني مستحدثة غريبة، طبّقها على الشرع، فإن وافقها يعتمد عليها و إلا يذرها في بقعة الاحتمال.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ينج من عطب»، أي يخلّصه عن تعبه الذي أتعبه في المعقولات، فإن القرآن منتهى جميعها، فلا بد و أن يرجع كلّها إلى كلام اللّه سبحانه و تعالى.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يخلص من نشب»، أي ينجى و يخلّص كلّ من تعلّق بالقرآن عن جميع المهالك و المتاعب.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فان التفكّر حياة قلب البصير»، فهو قاعدة عقليّة متّفق عليها في المعقول، و دلّت عليها نصوص كثيرة، فقد أثبتوا: «من أن غذاء الروح و حياتها المعنوية إنما هو بالتفكّر»، و الآيات القرآنية التي ترغّب إلى التفكّر في الطبيعة و ما وراءها تدلّ على ذلك، و سيأتي بيان تلك القاعدة إن شاء اللّه تعالى.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «كما يمشي المستنير في الظلمات»، فهو واضح، إذ ليس الخلاص من ظلمات الجهل إلا بالاستنارة من نور الفكر إن كان في المعارف الدينية.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «فعليكم بحسن التخلّص»، يعني تخلّصوا من التفكّر في القرآن بوجه حسن، فلا تدخلوا فيه كلّ و هم و خيال.

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و قلّة التربّص»، يعني لا تتعمّقوا في خصوصيات القرآن

ص: 54

التي لا تصل إليها عقولكم، بل أوكلوها إلى اللّه تعالى بالرجوع إلى الراسخين في العلم، و من أوحى إليه.

و يمكن أن يراد بقلّة التربّص الممانعة عن دخول الأوهام الباطلة و الخيالات الفاسدة في القرآن.

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: القرآن هدى من الضلالة، و تبيان من العمى و استقالة من العثرة، و نور من الظلمة و ضياء من الاحداث، و عصمة من الهلكة، و رشد من الغواية، و بيان من الفتن، و بلاغ من الدنيا إلى الآخرة، و فيه كمال دينكم، و ما عدل أحد من القرآن إلا إلى النار».

أقول: تقدّم ممّا ذكرنا في الحديث السابق بيان هذا الحديث و عدم الريب فيه.

ثم إن هناك طوائف اخرى من الروايات التي ترتبط بالموضوع، فلا بد من التعرّض لها و بيان ما يتعلّق بها.

ما ورد في تفسير القرآن بالرأي:

وردت روايات كثيرة دالّة على النهي عن تفسير القرآن بالرأي، مثل

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار».

و عن أبي داود في سننه: عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن بغير علم جاء يوم القيامة ملجما بلجام من نار».

و في تفسير العياشي: عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام: «من فسّر القرآن برأيه إن أصاب لم يوجر، و إن أخطأ فهو أبعد من السماء».

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «الرأي في كتاب اللّه كفر».

و في سنن الترمذي: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ».

أقول: صريح هذه الروايات الذم في إعمال الرأي في القرآن العظيم، بل جعله

ص: 55

بديل الكفر في بعضها، و أن مصيره إلى النار.

و النظر في القرآن أو اعمال الرأي فيه يتصوّر على وجوه:

الأول: الأخذ بظاهره العرفي، الذي هو ظاهر عند النوع و تدور الاستفادة من القرآن مداره، مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، و قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ [سورة الأنعام، الآية: 118]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.

الثاني: إعمال النظر الشخصي في الآيات الشريفة و تفسيرها، به و لكنه لا يتعدّى عن مرحلة الاحتمال الذهني و الحضور الفكري إلى الخارج، بلا إذعان و لا اعتقاد.

الثالث: ما يكون من إعمال النظر الشخصي، و يكون الناظر في مقام ترتّب الأثر عليه، و الإذعان بأن ذلك مراد اللّه سبحانه و تعالى.

و شمول هذه الأخبار للقسم الأول ممنوع بلا إشكال، و إلا لبطلت الإفادة و الاستفادة من الكتاب العظيم الذي وضع لأجل ذلك، و كذا شمولها للقسم الثاني لفرض عدم ترتّب أي أثر عليه، بل يكون مجرّد العبور الذهني و الخطور الفكري الذي قد يكون بلا اختيار.

و أما القسم الأخير فهو المعلوم المتيقّن من مفاد جميع تلك الأخبار، و يشهد لذلك الشواهد العقلية أيضا، فإن كلمات الأكابر و الأعاظم لا بد أن تحفظ عظمتها بأي وجه أمكن من دون تدخّل الآراء الخاصة في تفسيرها، فكيف بالقرآن العظيم؟ و ما قيل في معنى التفسير بالرأي من الوجوه فإن رجعت مآلها إلى ما ذكرناه فهو، و إلا فالخدشة واضحة فيها، لأن أكثرها دعوى بلا دليل.

و من ذلك يعلم أنه لا وجه لفتح باب الاجتهاد الشخصي في الآيات الشريفة، إذ لا موضوع فيها بعد فرض أن متشابهاتها ترجع إلى محكماتها، و هي مشروحة بالسنّة المقدّسة.

ص: 56

نعم، باب الاجتهاد النوعي مفتوح في تفسير الآيات، بمعنى إرجاع المتشابه منها إلى المحكمات، و أخذ شرح المحكم من السنّة الشريفة.

و يستفاد ما قلناه من الآيات الشريفة أيضا، قال تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [سورة النساء، الآية: 83]، و قوله تعالى: اَلَّذِينَ جَعَلُوا اَلْقُرْآنَ عِضِينَ * فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الحجر، الآية: 92]، و قوله تعالى: وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء، الآية: 36]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، التي يستفاد من جميعها أنه لا بد في الاستفادة من القرآن الكريم عدم الاجتهاد الشخصي، بل ردّ الآيات بعضها إلى بعض و الاستعانة بالسنّة المقدّسة، و أن التفسير بالرأي هو القول بغير علم،

كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده في النار».

و أما ما ورد في بعض الروايات من النهي عن ضرب بعض القرآن ببعض، كما في جملة من الأخبار.

ففي تفسير العياشي: عن الصادق عن أبيه عليهما السّلام قال: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

و في المحاسن: عن الصادق عليه السّلام: «ما ضرب رجل من القرآن بعضه ببعض إلا كفر».

و في الدر المنثور: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خرج على قوم يتراجعون في القرآن و هو مغضب، فقال: بهذا ضلّت الأمم قبلكم باختلافهم على أنبيائهم و ضرب الكتاب بعضه ببعض، قال: و إن القرآن لم ينزل ليكذّب بعضه بعضا، و لكن نزل يصدق بعضه بعضا، فما عرفتم فاعملوا به و ما تشابه عليكم فآمنوا به».

و فيه - أيضا -: عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوما يتدارءون، فقال: إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا كتاب اللّه

ص: 57

بعضه ببعض، و إنما نزل كتاب اللّه يصدق بعضه بعضها، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوا و ما جهلتم فكلوه إلى عالمه».

أقول: ضرب القرآن بعضه ببعض يحتمل فيه وجوه:

الأول: ردّ المتشابه إلى المحكم، و هذا صحيح، بل واجب كما أمرنا به عقلا و شرعا، و لا وجه للطعن عليه بل جعله كفرا.

الثاني: الاستشهاد لآية بآية اخرى، و هذا أيضا صحيح إذا كان مطابقا للسنّة الشريفة، و قد وقع ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام أيضا.

الثالث: ما إذا اختار رأيا مستقلا و نظرية خاصة من عند نفسه في تفسير آية و رأي كذلك في آية اخرى، و جمع بينهما برأيه، أو جعل آية اخرى دليلا لما اختاره من عند نفسه، فهذا هو المذموم بلا إشكال، بل قد يوجب الكفر أيضا لأنه يستلزم تكذيب القرآن، كما مرّ في الحديث.

و لعلّ ما سأله الصدوق عن شيخه ابن الوليد في معنى الرواية المتقدّمة عن المحاسن هو ذلك، و أيضا يدلّ على ما ذكرنا روايات كثيرة:

منها:

ما في تفسير العماني عن إسماعيل بن جابر، قال: سمعت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق عليهما السّلام يقول: «إن اللّه تبارك و تعالى بعث محمدا فختم به الأنبياء، فلا نبيّ بعده، و أنزل عليه كتابا فختم به الكتاب فلا كتاب بعده، أحلّ فيه حلالا و حرّم حراما، فحلاله حلال إلى يوم القيامة، و حرامه حرام إلى يوم القيامة، فيه شرعكم و خبر من قبلكم و بعدكم، و جعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله علما باقيا في أوصيائه فتركهم الناس، و هم الشهداء على أهل كلّ زمان، و عدلوا عنهم ثم قتلوهم، و اتبعوا غيرهم ثم أخلصوا لهم الطاعة حتى عاندوا من أظهر ولاية ولاة الأمر و طلب علومهم، قال اللّه سبحانه و تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ ، و ذلك أنهم ضربوا بعض القرآن ببعض، و احتجّوا بالمنسوخ و هم يظنون أنه الناسخ، و احتجّوا بالمتشابه و هم يرون أنه المحكم، و احتجّوا بالخاص و هم يقدرون أنه العام، و احتجّوا بأوّل الآية و تركوا السبب في تأويلها، و لم ينظروا

ص: 58

إلى ما يفتح الكلام و إلى ما يختمه، و لم يعرفوا موارده و مصادره، إذ لم يأخذوه عن أهله، فضلّوا و أضلّوا. و اعلموا رحمكم اللّه: أنه من لم يعرف من كتاب اللّه عزّ و جلّ الناسخ من المنسوخ و الخاص من العام و المحكم من المتشابه، و الرخص من العزائم، و المكّي من المدني، و أسباب التنزيل، و المبهم من القرآن في ألفاظه المنقطعة و المؤلفة، و ما فيه من علم القضاء و القدر، و التقديم و التأخير و المبين و العميق، و الظاهر و الباطن، و الابتداء و الانتهاء، و السؤال و الجواب، و القطع و الوصل، و المستثنى منه و الجار فيه، و الصفة لما قبل ممّا يدلّ على ما بعد، و المؤكّد منه و المفصّل، و عزائمه و رخصه، و مواضع فرائضه و أحكامه، و معنى حلاله و حرامه الذي هلك فيه الملحدون، و الموصول من الألفاظ، و المحمول على ما قبله و على ما بعده، فليس بعالم بالقرآن و لا هو من أهله. و متى ما ادّعى معرفة هذه الأقسام مدع بغير دليل فهو كاذب مرتاب مفتر على اللّه الكذب و رسوله، و مأواه جهنم و بئس المصير».

و منها:

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ذيل ما ورد في الدر المنثور: «فما علمتم منه فقولوا، و ما جهلتم به فكلوه إلى عالمه».

و منها:

ما في نهج البلاغة قال عليه السّلام: «ترد على أحدهم القضية في حكم من الأحكام فيحكم فيها برأيه، ثم ترد تلك القضية بعينها على غيره، فيحكم فيها بخلافه، ثم يجتمع القضاة بذلك عند الإمام الذي استقضاهم، فيصوّب آراءهم جميعا و إلههم واحد و نبيّهم واحد، و كتابهم واحد أ فأمرهم اللّه تعالى بالاختلاف فأطاعوه؟! أم نهاهم عنه فعصوه؟ أم أنزل اللّه دينا ناقصا فاستعان بهم على إتمامه؟ أم كانوا شركاء فلهم أن يقولوا و عليه أن يرضى؟ أم أنزل اللّه سبحانه دينا تامّا فقصّر الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن تبليغه و أدائه؟ و اللّه سبحانه يقول: ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ، و قال و فيه تبيان لكل شيء، و ذكر أن الكتاب يصدق بعضه بعضا، و أنه لا اختلاف فيه، فقال سبحانه: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً ، و أن القرآن ظاهره أنيق و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تكشف الظلمات إلا به».

ص: 59

و خلاصة ما يستفاد منها - على طولها - أن فهم القرآن لا بد و أن يكون أوّلا بإرجاع المتشابه إلى الحكم و إرجاع الحكم إلى السنّة، ثم ترتّب الأثر بما يستفاد من المحكم و الاعتراف بالعجز عن الفهم و الدرك، و أن التفسير بالرأي و العمل به بدون ذلك يستلزم الاختلال المذموم عقلا و شرعا.

ما ورد من ان للقرآن بطونا:

وردت روايات كثيرة دالة على أن للقرآن ظهرا و بطنا، كما

في تفسير العياشي عن الفضيل بن يسار قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الرواية: (ما في القرآن آية إلا و لها ظهر و بطن، و ما فيه حرف إلا وله حدّ، و لكلّ حدّ مطلع)، ما يعني بقوله: لها ظهر و بطن؟ قال: ظهره تنزيله و بطنه تأويله، منه ما مضى و منه ما لم يكن بعد، يجري كما يجري الشمس و القمر كلّما جاء منه شيء وقع، قال اللّه:

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، نحن نعلمه».

أقول: يظهر من هذه الرواية أن أسرار التأويل تجري في التكوينيات من حيث بدأها إلى ختامها، و أن وقوعها في الخارج مطابق للتأويل الذي يكون في القرآن، و لا يعلمه إلا اللّه و الراسخون في العلم، ففي الحقيقة يمكن استفادة جميع أسرار التكوين من الآيات الشريفة بالتأويل، كما يظهر من الآيات الشريفة، قال تعالى: وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [سورة يس، الآية: 12]، و قال تعالى:

وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ اَلْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ [سورة الأنعام، الآية: 59]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا، و لبطنه بطنا إلى سبعة أبطن».

و عن علي عليه السّلام: «ما من آية إلا و لها أربعة معان، ظاهر و باطن و حدّ و مطلع، فالظاهر التلاوة، و الباطن الفهم، و الحدّ هو أحكام الحلال و الحرام، و المطلع هو مراد

ص: 60

اللّه من العبد بها».

و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان للقرآن ظهرا و بطنا وحدا و مطلعا».

في تفسير العياشي: عن جابر قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن شيء من تفسير القرآن فأجابني، ثم سألته ثانية فأجاب بجواب آخر، فقلت: جعلت فداك، كنت أجبت في المسألة بجواب غير هذا قبل اليوم! فقال: يا جابر، إن للقرآن بطنا و للبطن بطن، و ظهرا و للظهر ظهر، يا جابر و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، أن الآية يكون أوّلها في شيء و آخرها في شيء، و هو كلام متصل يتصرّف في وجوه».

أقول: المراد من

قوله عليه السّلام: «و ليس شيء أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن» قبل التفحّص وردّ المتشابه إلى المحكم، و أما بعد ذلك و تقرير العقول بالشريعة المقدّسة، فلا بعد حينئذ، بل أمرنا بالتعقّل و التدبّر و التفكّر في القرآن الكريم في كثير من الآيات الشريفة، و لا معنى لكون ذلك فيما هو بعيد عن العقول، فهو بعيد في عين كونه قريبا إلى العقول بالاعتبارين، كما مرّ آنفا، و هو كلام متّصل يتصرّف في وجوه.

و في المعاني: عن حمران بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ظهر القرآن و بطنه، فقال: ظهره الذين نزل فيهم القرآن، و بطنه الذين عملوا بأعمالهم يجري فيهم ما نزل في أولئك»، و الروايات في هذا المساق كثيرة جدا، مضمونها واحد و إن اختلفت التعبيرات الواردة فيها.

و المراد من الظهر و البطن و الحدّ و المطلع التي وردت في الروايات المتقدّمة حقيقة واحدة ذات مراتب تشكيكيّة، فالظهر أي ما يفهم من الظاهر، فهو مرتبة منها، و البطن أي ما يستفيده الراسخ في العلم مرتبة اخرى منها، و كذا المطّلع أو المطلع، فالمراتب مختلفة و الحقيقة القرآنية واحدة، و نحن في حجب عن درك تلك المراتب، مثال ذلك: أن اللبن حقيقة واحدة، و هو في عالم الماديات عبارة عن ما هو المعهود الذي يدر من ثدي الأنثى من الحيوان، و في عالم الرؤيا مثلا عبارة عن

ص: 61

العلم، لأن المعروف عند أهل التعبير أن من رأى اللبن في منامه يرزق علما، و يمكن أن يكون في عالم الآخرة شيئا آخر غيرهما، فالحقيقة واحدة و لكن المراتب مختلفة، فبعضها ظاهرة و بعضها غير ظاهرة.

و كذا الصلاة الواردة في القرآن الكريم كثيرا، فإن لها حقيقة تشكيكية، و لها مراتب، منها القيام بين يدي الربّ بالعمل الخارجي، و منها القيام بين يدي الربّ بالجوهر الجسماني الخارجي، كما يكون في أولياء اللّه تعالى، و منها بالصورة الذهنية، و رابعة بما حصل للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج بتعليم اللّه تعالى له مشافهة، فيمكن حينئذ حمل البطون على مثل هذه المراتب، و المراتب التي لم يمكن أن تظهر لنا للحجب المانعة عن الوصول إلى تلك الحقائق، و يشهد لما ذكرنا ما في تفسير العياشي ما تقدّم عن جابر عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و لا ينافي ما ذكرناه

قول علي عليه السّلام فيما مرّ: «ما من آية إلا و لها أربعة معان ظاهر و باطن و حدّ و مطلع - الحديث»، و كذا قول أبي جعفر عليه السّلام فيما مرّ من رواية حمران بن أعين، فحمل البطون فيها على المراتب الطولية - كالصحابة مثلا و التابعين لهم و تابع التابعين، و هكذا إلى يوم القيامة - هو أيضا صحيح، لصحّة حمل لفظ البطن على جميع ذلك، إذ لا فرق في ذلك بين أن يكون البطن - أي ما يفهم من اللفظ عرضيا - كما مرّ أو طوليا.

ما ورد من أن القرآن أنزل على سبعة أحرف:

وردت روايات كثيرة بطرق متعدّدة و تعبيرات مختلفة، و لكن مضمون جميعها واحد، منها ما

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنزل القرآن على سبعة أحرف».

و عن علي عليه السّلام: «ان اللّه أنزل القرآن على سبعة أقسام، كلّ منها كاف شاف، و هي: أمر و زجر، و ترغيب و ترهيب، و جدل و مثل و قصص».

و في بعض الروايات: «زجر و أمر، و حلال و حرام، و محكم و متشابه، و أمثال و قصص».

ص: 62

أقول: ليس الحصر الوارد فيها حقيقيا حتى يتحقّق التنافي، بل هو من الحصر الإضافي الاعتباري، و المراد منها ما

فسّره علي عليه السّلام: «ان القرآن حمال ذو وجوه»، أي يحمل كلّ وجه إن طابق الموازين الشرعية و العقلية.

و من ذلك يعرف أن تفسيرها بالقراءة أو بالبطن، أو تفسيرها بالأمر أو الزجر و الترغيب و الترهيب و الجدل و القصص - كما مرّ - لا يوجب التنافي، لفرض عدم كونها في مقام بيان التحديد الحقيقي.

بحث عرفاني:

المراد من العلم في قوله تعالى: وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، هو العلم بالمعارف الحقّة و حقائق الأشياء التي توجب السعادة الأبدية و خروج النفس الإنسانية عن حدود الحيوانيّة و البهيميّة و وصولها إلى منتهى أوج الروحانيّة المجرّدة، بواسطة معرفة الموحي و الوحي و الموحى إليه و الإذعان علما و عملا و معرفة، حسب الإمكان، و قد جمع ذلك كلّه في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 69]، و في قوله جلّ شأنه:

إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]،

و عن علي عليه السّلام في قوله: «رحم اللّه امرءا عرف من أين و في أين و إلى أين»، و قد جمعها علماء النفس و الأخلاق في قولهم:

«أوّل العلم معرفة الجبّار، و آخر العلم تفويض الأمر إليه»،

و عن الصادق عليه السّلام: «من حرم الخشية من اللّه فليس بعالم و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

فيكون المراد بالرسوخ: الرسوخ العملي المنبعث عن العلم بالمعارف الحقّة، حتى يدخل في قوله تعالى: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ اَلْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، فيصير القول و العمل و الاعتقاد شيئا واحدا، فتسري الروح الإيماني من القلب إلى العمل، بل من العمل إلى القلب، لأن

ص: 63

للأعمال تأثيرات حقيقة في الملكات النفسانيّة، فيكون من النور و في النور و إلى النور، قال تعالى: يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و بعبارة اخرى يصير قلبه قرآنا علميا و جوارحه قرآنا عمليا، فلا محالة يتحقّق الرسوخ.

و أوّل المصداق الحقيقي لذلك هو خاتم الأنبياء، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44]، ثم من رباه تربية علميّة و عمليّة علي بن أبي طالب عليه السّلام، و كلماته المقدّسة في نهج البلاغة أظهر دليل لما قلنا، ثم من ربى بهما أيضا تربية علمية و عملية فأخذوا علومهم و معارفهم من النبيّ الأعظم و تأسّوا به في أفعاله و أذعنوا بأقواله، فربوا في حجر الإسلام و رضعوا من ثدي الإيمان، فرسخ العلم في أصولهم و عروقهم و قلوبهم و جوارحهم، فجعل اللّه لهم نورا يمشون به في الظلمات و يرشدون به إلى سبل السّلام.

بحث فلسفي:

لا ريب في اختلاف أفراد الإنسان في مراتب إدراكاته سواء كانت القوى المدركة جسمانية (كالقوى الخمس الظاهرة أي السامعة و الباصرة و اللامسة و الشامة و الذائقة) أم معنوية كالفكر و العقل بل ان اختلاف القوى الجسمانية المدركة يعم الحيوانات و بعض النباتات بل بعض المعادن أيضا على ما ثبت في العلم الحديث و هل يكون اختلاف القوى الادراكية المعنوية في الإنسان من خصوصيات العقل المودع فيه؟ أو من النفس الناطقة؟ أو منهما معا؟ أو من شيء آخر كالبيئة و الاجتماع أو المأكل و المشرب أو غيرها؟ لا يعلم ذلك غير اللّه تعالى، فكلّ محتمل.

و من ذلك ينشأ اختلاف الاستعدادات في مراتب الاستفادة و تحصيل العلوم، و لذا

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أنه قال: «إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر

ص: 64

عقولهم». و تقدّم في البحث الروائي ما يدلّ على ذلك. هذا إذا كانت العلوم و الاستفادة منها مستندة إلى أسباب و علل ظاهرية، كأغلب العلوم.

و أما إذا كان العلم مستندا إلى وحي السماء مباشرة، كما في الأنبياء، أو تسبيبا كمن يتلو تلوهم، أي الآخذين منهم، فلا اختلاف فيهم حينئذ، لفرض الانتهاء إلى علم لا يعقل فيه الاختلاف أبدا، و هو علم اللّه جلّ جلاله.

نعم، الاختلاف في أصل الرسالة و النبوّة موجود، و هو شيء آخر لا ربط له بالمقام، قال تعالى: تِلْكَ اَلرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [سورة البقرة، الآية: 253]. و تقدّم الكلام في معنى التفضيل.

و منه يظهر أن الإجمال و التشابه و نحوهما يستند إلى معنى سلبي، و هو عدم إحاطة العقول بالواقعيات و قصورها عن دركها، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44].

بحث علمي:
اشارة

المحكم و المتشابه و علم التأويل يحصل من الاستعدادات المكنونة في الإنسان المختلفة غاية الاختلاف - كما مرّ في البحث السابق - فإذا القي خطاب في مجمع أو القي درس في جامعة، أو ألقينا مثلا سائرا بين الناس، فمنهم من لا يتجاوز فهمه الصريح المحض، و منهم من يتجاوز ذهنه إلى اللوازم القريبة منه، و منهم من يتعدّى إلى الأكثر عمقا و يتجاوز إلى اللوازم و الملزومات البعيدة أيضا، خصوصا إذا كان الدرس من العلم الذي هو فوق المادة و المحسوس، و يتحصّل من ذلك امور:

الأول: تحقّق تلك العناوين، أي المحكم و المتشابه و العلم بالتأويل من الأمور الفطرية المستندة إلى الاستعداد - أو الدرك - الذي هو أمر غير اختياري، و يختلف ذلك حسب الاستعداد و درك الأفراد و كثرتهم و قلّتهم.

الثاني: أن المحكم و المتشابه ما كان بحسب النوع لا الشخص، لأن ذلك هو المدار في الخطابات الملقاة على الناس، كما أن المراد من المتشابه المستقر منه دون

ص: 65

الزائل بالتعمّق.

الثالث: أنهما - أولا و بالذات - من صفات المعنى، ثم يسريان إلى اللفظ، فيصحّ أن يكونا من صفات اللفظ أولا و بالذات فيسريان إلى المعنى أيضا لمكان الاتحاد بين اللفظ و المعنى، و لذا يسري حسن أو قبح أحدهما إلى الآخر، فيصحّ البحث عنهما في مباحث الألفاظ كما يصحّ البحث عنهما في مباحث الحقائق العلميّة، كما هو شأن كثير من المفاهيم.

و ممّا ذكرنا يظهر أن الأقوال الواردة في معنى المتشابه - التي تتجاوز العشرة - كلها من باب المغالطة و الاشتباه بين المفهوم و المصداق، فقد ذكروا مصاديق المتشابه في حقيقته و معناه، و هو باطل لأن مصاديقه كثيرة، كما أن مناشئه أيضا كذلك.

و البحث في المحكم و المتشابه من جهات، نذكر الأهم منها.

مفهوم المحكم و المتشابه:

المحكم و المتشابه أو المجمل و المبيّن من المفاهيم العرفية في كلّ محاورة و لغة من اللغات، فإن كلا منهما تشتمل على محكم و متشابه و مجمل و مبيّن عند أهل تلك اللغة، فيصحّ عدّ مفهوم تلك الصفات من المفاهيم المبيّنة في المحاورات.

و ما هو المعروف في تعريف المتشابه: «ما لا يعرف المراد منه إلا بالقرينة»، مثل قوله تعالى: يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية: 10]، لا يعرف بدوا المراد منه إلا بالرجوع إلى قوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ [سورة الشورى، الآية: 11]، فيعرف أن المراد منها القوة و الإحاطة، أو القدرة بالملازمة، و كذا قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، يعرف المراد بالرجوع إلى ما تقدّم من الآية المباركة من أنه الرحمة و الغفران بالملازمة.

و كذا في المحكم من أنه: «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة»، مثل قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحمد، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ [سورة النور، الآية: 56]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

ص: 66

و كذا في المحكم من أنه: «ما يعرف المراد منه بلا استعانة قرينة»، مثل قوله تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ [سورة الحمد، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ [سورة النور، الآية: 56]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة. راجع إلى ما ذكرنا أيضا.

المحكم و المتشابه من الأمور النسبية:

تقدّم أنهما يرجعان إلى اختلاف الاستعدادات المتفاوتة في الإنسان، فيكونان من الأمور النسبيّة الإضافية، لاختلاف منشئهما و سببهما، و إن رجعا إلى حالات اللفظ و صفاته فهي أيضا امور نسبية اختلافية، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و لأجل ذلك نرى الاختلاف في عدّ مصاديق المتشابه، فربّ شخص يعدّ لفظا أو آية من المتشابه و ينكره الآخر، أو قد يكون الاختلاف من شخص واحد في موردين أو في زمانين.

و قد اطلق لفظ المحكم و المتشابه على الأفراد، كما في بعض الروايات.

المدار في المحكم و المتشابه:

المناط في اتّصاف الكلام بالمحكم و المتشابه إنما هو الأنظار العرفية العادية المؤهّلة لورود عامة الخطابات عليها، لأنها المدار في تلقّي الأحكام، و ليس المدار الأنظار الدقيّة العقليّة، لاختصاصها بطائفة خاصة و عدم كونها مدار الإفادة و الاستفادة النوعية، فلو كانت الآية أو الرواية بحسب الأنظار العرفية تعدّ متشابهة و بحسب الدقة العقلية - أي بإعمال الأساليب العلميّة - تكون محكمة، لا يؤخذ بها، بل تردّ إلى المحكم، و أما لو كانت بحسب الأنظار العرفية محكمة دون الأنظار الخاصة - أي الدقيّة العقليّة - يؤخذ بها.

و لو كانت آية أو رواية محكمة عند طائفة و متشابهة عند اخرى، فإن كانت الاولى من ذوي الخبرة و الفن لا بد للثانية من اتباعها، و كذا العكس، و مع التساوي يعمل كلّ بحسب تكليفه و رأيه بعد استقرار المحكم و المتشابه، و مع التعارض في مورد يمكن الرجوع إلى أصالة عدم الحجّية المقرّرة في علم الأصول.

ص: 67

أسباب التشابه:

لا وجه لتحديد مناشئ التشابه و الإجمال بحدّ خاص و موارد معينة، بعد ما عرفت، فيصحّ أن يكون منشأ التشابه نفس وضع اللفظ لغة من حيث هو، مثل قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [سورة البقرة، الآية:

228]، أو يكون في اختلاف القراءة، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ [سورة البقرة، الآية: 222]، أو يكون المنشأ اختلاف السنّة الواردة في تفسير الآية الشريفة لو كانت متنافية فيصير التشابه من باب الوصف بحال المتعلّق، لا الوصف بحال الذات، و قد يتعلّق اختيار المتكلّم بالإجمال و التشابه لأغراض مترتبة على ذلك.

نسبة التشابه:

التشابه من الصفات ذات الإضافة، و لا يعقل التشابه بالنسبة إلى علم اللّه جلّ جلاله، لأنه عين ذاته المهيمن لجميع الجهات و المحيط بها، و كذا بالنسبة إلى الموحى إليه كما مرّ. و إنما يتحقّق التشابه بالنسبة إلى غيرهما من المخاطبين في خطابه تعالى أو غيره، سواء أ كانوا حاضرين في مجلس الخطاب، أم غائبين عنه، لما مرّ من أن السبب الأوّلي في التشابه إنما هو اختلاف الإدراكات و قصورها.

نعم، يمكن أن يوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله آية ثم يوحى إليه مرة اخرى شرح تلك الآية و بيانها، و تسمية ذلك بالتشابه إلى الموحى إليه في الآية الاولى مشكل بل ممنوع، و هما بمنزلة الشارح و المشروح، و ليس ذلك من المجمل أيضا، و كذا لو وصل الحكم إلى الموحى إليه إجمالا، و انتظر صلّى اللّه عليه و آله بيانه و تفصيله، كما تقدّم في تغيير القبلة، قال تعالى: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي اَلسَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ [سورة البقرة، الآية: 144].

ص: 68

مع أن الأدلّة الدالّة على أن خاتم النبيين من أهمّ الراسخين في العلم يأبى عن ذلك كلّه، فخروج التشابه بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله تخصصي، لا أن يكون تخصيصيا، و الفرق بينه و بين اللّه تبارك و تعالى أن التخصص بالنسبة إليه جلّ شأنه بالذات، و بالنسبة إليه صلّى اللّه عليه و آله بالغير، أي من اللّه تعالى، كما تقدّم ذلك.

واقعية المحكم و المتشابه:

لا شك في أن الألفاظ موضوعة للمعاني الواقعيّة، فلا دخل للاعتقاد فيها، كما أثبتنا ذلك في علم الأصول. فالمراد من المحكم و المتشابه هو الواقعي منهما دون الاعتقادي، لأن الواقعيات مورد وضع الألفاظ دون الاعتقاديات، إلا أن يدلّ دليل على الخلاف، و حينئذ كلّ من اعتقد أن آية من الآيات القرآنية أو حديثا من السنّة محكم أو متشابه، ثم بعد مدة تبين الخلاف لا أثر لاعتقاده و لا يترتب عليه آثارهما، و لا يكون من باب تبدّل الموضوع، بل من باب كشف الخلاف، و لا بد و أن يبحث عنه في مباحث الإجزاء المقرّرة في علم الأصول.

موضوع المحكم و المتشابه:

المحكم و المتشابه يعرضان بعد استقرار حجيّة الكلام، إذ لا ريب في أن دلالة اللفظ تغاير حجّيته، فقد يكون اللفظ دالا على شيء و لم يكن حجّة، مثلا العام و المطلق قبل الفحص عن الخاص و المقيد ظاهران و دالان على العموم و الإطلاق، و لكنهما ليسا بحجّة و لا يجوز التمسّك بكلّ منهما إلا بعد الفحص و عدم الظفر بالمخصص و المقيد، فالدلالة انما تعتبر طريقا إلى الحجيّة، فلو لا الحجيّة و صحّة الأخذ و الاستدلال لا أثر لنفس الدلالة من حيث هي، فالمحكم و المتشابه يعرضان على الكلام الصحيح الثابت حجيّته.

و بعبارة اخرى: المراد بالمحكم و المتشابه إنما هو المستقر منهما، لا الزائلان بعد التروي و التأمّل.

ص: 69

التشابه في القرآن:

لا ريب في تحقّق التشابه و أصل حدوثه في الجملة بالنسبة إلى الأمة في القرآن، و لا مجال لإنكار ذلك. كما لا شك أنه في معرض الزوال بالرجوع إلى الراسخ في العلم و إلى المحيط بالسنّة المقدّسة، التي هي مبيّنة لمتشابهات القرآن، أو بردّ الآيات المتشابهة إلى المحكمات منها، كما في الآية المباركة فحينئذ لا يبقى موضوع للتشابه الدائمي في القرآن.

نعم، أصل حدوثه في القرآن ممّا لا ينكر، قال تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ .

فما عن بعض من إنكار أصل التشابه في القرآن تمسّكا بقوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 138]، و قوله تعالى: وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ اَلْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ [سورة النحل، الآية: 89]، و غيرهما من الآيات.

غير صحيح، لما مرّ في الآية المباركة مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ اَلْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ ، بل يدلّ على ذلك وجدان أهل المحاورة، لأنهم يفرّقون بالفطرة بين الدلالة في قوله تعالى: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [سورة الأنعام، الآية: 94]، و بين الدلالة في قوله تعالى: وَ جاءَ رَبُّكَ وَ اَلْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا [سورة الفجر، الآية: 22]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و أما ما استدل به من الآيات الشريفة، ففيه أن كون الكتاب بمجموعه مشتملا على تبيان كلّ شيء، أو أنه بيان للناس، لا ينافي وجود بعض المتشابهات بعد صيرورتها تبيانا إن ردّت إلى المحكمات.

نعم، لو أراد إنكار دوام التشابه في القرآن لا أصل حدوثه، فهو صحيح لأن القرآن قانون دائمي نوعي إلى يوم القيامة، و لا وجه لوقوع التشابه الدائمي فيه، خصوصا بعد أن أمرنا بردّ المتشابه إلى المحكم ثم الاستفادة منه.

ص: 70

إن قيل: إن جملة من مفتتحات السور و أوائلها باقية على التشابه إلى الأبد.

يقال: أنها معلومة أيضا عند الراسخين في العلم، و فسّرت أيضا بما مرّ.

و بالجملة: لا تشابه في القرآن بعد عرض الآيات المتشابهة على المحكمات أو على العقل المقرّر شرعا. فالتشابه حدوثي لا دائمي في القرآن.

الحكمة في اشتمال القرآن على المتشابه:

بعد أن ظهر أن الآيات المتشابهة في القرآن الكريم ترجع إلى القصور في العقل و عدم الإحاطة بردّ تلك الآيات إلى المحكمات، تصير الحكمة في إنزال الآيات المتشابهة حينئذ أمرا سلبيا، و هو عدم درك العقول و عدم احاطتها بالحقائق القرآنية، و إلا فلا قصور في نفس الآيات المباركة بعد ردّ بعضها إلى البعض، ففي الواقع لا تشابه في الآيات القرآنية، لا ثبوتا و لا إثباتا إذا عرضت الآيات المتشابهة على العقل المدرك المقرّر بالشرع، فيكون التشابه في النظر البدوي من الإدراك، لا في النظر الحقيقي، و لذا نرى الاختلاف في تعيين المصاديق للآيات المتشابهة عند العلماء و المحقّقين.

و أما ما أشكل على وقوع التشابه في القرآن بأنه لا وجه له، مع أن القرآن قانون أبدي، و هو كتاب فسّرت آياته من لدن علي حكيم، فلا بد أن يكون شرعة لكلّ وارد و يستفيد منه كلّ أحد.

غير صحيح، لأن اختلاف العقول في جهات الإدراك فطري خارج عن تحت، أي اختيار و القرآن لا يعدو الفطرة.

المتشابه في السنة:

كما أن في القرآن محكما و متشابها، كذلك يكون في السنّة المقدّسة، ففيها متشابهات و محكمات لا بد و أن يردّ المتشابه إلى المحكم. و قد ظهر ممّا ذكرنا أن ذلك حدوثي لا دائمي، و ينشأ ذلك من اختلاف الاستعدادات كما مرّ، و ردّ متشابهاتها

ص: 71

إلى محكماتها إنما هو من شأن الفقهاء و المحدّثين العالمين العاملين بها، ففي السنّة الشريفة راسخ في العلم أيضا، و تقدّم ما

عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «ان في أخبارنا متشابها كمتشابه القرآن، فردّوا متشابهها إلى محكمها، و لا تتّبعوا متشابهها فتضلّوا».

التأويل و معناه:

تقدّم أن التأويل من الأول. و للأول عرض عريض جدا، فيشمل كلّ ما له قابلية الشمول، مثلا أن قوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ يشمل كلّ ما تؤول إليه الصورة الإنسانية من الخصوصيات الذاتية و العرضية و الزمانية و المكانية، و يدخل في التأويل كلّ ذلك، فإذا نظر الراسخ في العلم إلى صورة إنسان يعلم بعلمه الراسخ جميع الحالات الواردة على الإنسان في عوالمه الطولية و العرضية، فيعلم أنه كيف يعيش و متى يموت، و في أي محل يقبر، فجميع هذه الصور معلومة عنده حسب شأنه و رسوخه في العلم، و هذا أعظم أنواع التأويل.

فالتأويل أخصّ من التفسير بلا إشكال، لأنّ التفسير من فسّر، و هو و السفر بمعنى واحد، أي كشف القناع، و يحصل ذلك ببيان أوّل مرتبة من مراتب معاني اللفظ، بخلاف التأويل، و لذا يختصّ التأويل بأئمة الدين، كما

ورد عنهم: «أن عندنا علم التأويل»، على ما تقدّم معناه، فيكون علم التأويل أجل و أعظم بمراتب من علم التشريع، و عبّر عن بعض مراتبه بعلم البلايا و المنايا، فإن له مراتب كثيرة، لأنّ للقرآن بطونا، و لعلّ المراد منها بعض مراتب التأويل.

الفرق بين التأويل و التنزيل:

ظهر ممّا تقدّم الفرق بينهما، فإن التنزيل يختصّ بالآيات المباركة من حيث اللفظ و غيره، و التأويل كلّ ما له قابلية الشمول للآية، فيكون الفرق بينهما أن

ص: 72

التنزيل إنما يلحظ باعتبار وجوده الجمعي، أي الوحدة في الكثرة، و التأويل إنما يلحظ باعتبار وجوده الانطباقي الانبساطي الخارجي في الحوادث التكوينيّة و التشريعيّة، من أوّل الحدوث إلى آخر الخلود، لجميع الجزئيات و الخصوصيات و العلل و المعلولات و الشرائط و الموانع، باعتبار الوجود الانبساطي الخارجي، و لا يمكن الإحاطة بذلك إلا للّه جلّ شأنه، لقصور ما سواه عن ذلك، و قد يفيض بعض ذلك لخلّص عباده، كما مرّ.

و قد بيّن اللّه تبارك و تعالى في سورة الكهف من آية 66 إلى 78 في ما سأله موسى عن الخضر عليهما السّلام الفرق بين التنزيل و التأويل، فقال تعالى حاكيا عن الخضر:

سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً ، فالتأويل ما فعله الخضر و أجاب عن ما سأله موسى، و التنزيل ما سأله موسى عن الخضر. و نعم ما نسب إلى بعض أكابر العرفاء: «التأويل علم الحقيقة، و التنزيل علم الشريعة و الطريقة»، و مثّل لذلك بالفقيه و الطبيب، فإن الفقيه محتاج إلى الطبيب في العلم بالعلاج و العلم بخواص الأدوية، و الطبيب محتاج إلى الفقيه في العلم بظواهر الشرع.

و الجامع القريب بين التنزيل و التأويل إحقاق الحقّ و إبطال الباطل.

أما التأويل في السنّة و الروايات، فقد ورد فيها أيضا - كما في بعض الروايات - لأن لها الوجود الانبساطي الخارجي القابل للانطباق على القضايا الخارجيّة أيضا، كما تقدّم في تأويل الآيات الشريفة.

كما أن علم تعبير الرؤيا اطلق عليه التأويل أيضا، قال تعالى حاكيا عن نبيّه يعقوب لابنه يوسف عليهما السّلام: وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ اَلْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [سورة يوسف، الآية: 6]، و المراد منها الأحاديث الحاصلة من النوم، بقرينة قوله تعالى حاكيا عن الملأ: قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ اَلْأَحْلامِ بِعالِمِينَ [سورة يوسف، الآية: 44]، و قد ورد في السنّة المقدّسة أن الرؤيا جزء من تسعة و تسعين جزءا من أجزاء النبوّة.

ص: 73

مورد التأويل في الآيات القرآنية:

لا ريب في ثبوت التأويل في القرآن في الجملة، بلا شك كما دلّت عليه الآيات المباركة، و هل يصلح جميع الآيات أن تكون موردا للتأويل حتى المحكمات و المتشابهات منها أو يختص ببعض دون بعض؟ لا طريق لنا إلى إثبات ذلك إلا بما وصل إلينا من بيان التأويل و إلا فليس لنا ضابطة تميّز الآيات المتّصفة بالتأويل عن غيرها لفرض اختصاص ذلك بالراسخ في العلم.

الفرق بين التأويل و مطلق استعمال اللفظ:

تبادر المعنى من اللفظ و استعماله فيه - و لو بنحو المجاز - ليس من التأويل، لا لغة و لا عرفا، و إن الاستعمال أخصّ من التأويل موردا، و يمتاز كلّ منهما عن الآخر بأمور:

الأول: أن التأويل له مراتب كثيرة، لأن للقرآن بطونا - كما في البحث الروائي - و لها لوازم و ملزومات، و بالنسبة إلى المؤول تارة يكون الذهن مأنوسا بشيء دون آخر، فيؤولها حسب الانس الذهني، إن لم يكن مخالفا للحجج الشرعية الدائرة، و ذلك لا يكون إلا من الإفاضة الغيبيّة الإلهيّة المختصّة بأهلها، كما تقدّم، و ذلك لا يكون في التبادر و الاستعمال.

الثاني: أن الأول بمعنى الرجوع و المرجع - كما تقدّم - و يصحّ أن يكون لكلّ موجود من موجودات هذا العالم - جوهرا كان أو عرضا - بجميع أنواعها مناشئ و مراجع كثيرة، سابقة على ما يفهم من ظاهر لفظه و لا حقة كذلك، و حوادث محفوفة بكلّ واحد منها، فيشمل التأويل جميع تلك الوجودات، أو العلوم الحادثة في العالم من أوّل هبوط آدم إلى قيام الساعة من جميع أنحاء العلوم و الخواص كلّية أو جزئية، بسيطة أو مركبة، في الجواهر أو الأعراض في الأفلاك أو الأملاك.

ص: 74

و بعبارة اخرى: الإحاطة العلميّة الحضورية بجميع ما سوى اللّه من كلّ جهة، و مثل هذا العلم غير محدود و غير متناه، و يختصّ بعض مراتبه باللّه جلّ ذكره، و بعضه الآخر يفيضه جلّ شأنه على من يشاء من عباده، و هم الراسخون في العلم الذين أفنوا جميع شؤونهم الإمكانية في مرضاته تعالى، كما يطلع على الغيب المحجوب بعض عباده المقرّبين المحبوبين. فللتأويل وجود انبساطي يشمل جميع ما تقدّم، بخلاف الاستعمال كالتبادر و أمثاله، فإنه محدود من جميع الجهات.

الثالث: صفات الحقيقة و علاماتها و كذا شرائط المجاز قد لا تكونان في المعنى المؤول، لأنه قد لا تستأنس الأذهان العامّة بذلك، كما في قصة موسى و الخضر في سورة الكهف من آية 64 إلى آية 82، و لكن في الاستعمال لا بد منها، أو لا بد من قرينة تدلّ على صحّة الاستعمال.

الرابع: المؤول لا يصحّ التمسّك به في الحجج الظاهريّة، بخلاف الاستعمالات الظاهرية، فإنها حجّة عند العقلاء، سواء كانت بلا قرينة أم معها.

نعم، لو كان دليل من الخارج على إرادة المعنى المؤوّل يكون حجّة حينئذ، لكنه من باب الوصف بحال المتعلّق لا الوصف بحال الذات، هذا بالنسبة إلى نوع الأذهان العامّة، أما بالنسبة إلى العالم بالتأويل و الراسخ في العلم، يكون المعنى المؤول حجّة عنده، كما في قصة الخضر و موسى.

دوران الأمر بين التأويل و التفسير:

لو ورد حديث في معنى آية من الآيات القرآنية و شكّ في أنه من التفسير لها أو التأويل، فمع الظهور اللفظي يؤخذ به و يكون من التفسير و أنه حجّة، و أما لو لم يكن كذلك فمقتضى الأصل عدم الحجّية ما لم تكن قرينة من الخارج تدلّ عليها، فيدخل في البحث السابق من أنه ليس كلّ تأويل حجّة إلا لأهله.

و كذا الآيات القرآنية، فلأنها إما محكمة، أو متشابهة، أو مرددة بينهما، و يجري على الأخيرة حكم الثانية، فلا يصحّ التمسّك بها إلا بعد الرجوع إلى ما ورد في شرحها في السنّة المقدّسة.

ص: 75

الاستعارات و الكنايات القرآنية:

لا ريب في أن الآيات المباركة مشتملة على الكنايات، التي هي من أهمّ شؤون الفصاحة و البلاغة، و يعدّ ذلك من أدب القرآن، مثل قوله تعالى: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: 75]، فإنه كناية عن البراز، و قال تعالى:

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [سورة البقرة، الآية: 237]، فإنه كناية عن الجماع، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فهي لا تكون من المتشابهات بل إنها من المحكمات، فإن لها ظهورا عرفيا و لو بالقرينة في المعنى المراد. و قد أثبتنا في علم الأصول أن المدار في المحاورات على الظهورات العرفيّة و لو كانت مجازيّة.

و كذا ما

ورد في بعض الأحاديث من أن القرآن: «نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة».

و أما اللطائف و الإشارات و الدقائق، فإنها إن كانت منساقة من ظاهر اللفظ بحسب المحاورة، تكون من المحكمات، و إلا فهي من المتشابهات.

و من هنا يظهر فساد ما عن بعض من إنكار كون الكنايات من المحكمات و أنها من المتشابهات.

ص: 76

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (8) رَبَّنا إ.......

اشارة

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ اَلنّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (9) نداء ملكوتي من قلوب الراسخين في العلم، يشمل ذروة العرش الأعلى حتى ذرة ما تحت الثرى، تطرب الممكنات من سماع لفظه، و تزجر العوالم من خطاب وعظه، تتدفق منه الرحمة و النور على جميع الأحياء، بل على من في القبور.

و في لفظ (ربنا) من الاستغاثة و الانقطاع في أن يثبتهم على الحقّ ما ليس في غيره، و غالب دعوات الأنبياء و المنقطعين إليه جلّت عظمته مبدوءة به، لأنه من أنين المربوب الضعيف إلى الربّ الخبير اللطيف، و دعاء المسكين الفقير إلى الغني المطلق الخبير.

و لا بد و أن يكون هذا الدعاء مقول قول الراسخين في العلم، الذين ملئت قلوبهم بالإيمان باللّه جلّ شأنه، و الذين يرون كمال استغنائهم في كمال الفقر إليه تبارك و تعالى، كما

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله: «اللهم اغنني بالافتقار إليك، و لا تفقرني بالاستغناء عنك».

و في ابتهالهم إلى اللّه تعالى بأن يثبتهم على الحقّ، و أن يفيض عليهم رحمته، لا سيما في يوم الجمع الذي لا ريب فيه دلالة بأن الغاية القصوى ذلك اليوم، و أن العوالم كلّها في طريق السير إلى ذلك الموعد الذي لا يخلفه اللّه تعالى لجمعهم و فصلهم، و لا يمكن أن يتخلّف ذلك الغرض أنه الهدف من السير الاستكمالي للإنسان. و كيف يمكن أن يهمل ذلك مع أن الربوبيّة العظمى تقتضي الوفاء بالوعد، و إلا يلزم الخلف.

ص: 77

التفسير

قوله تعالى: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا .

مادة (ز ي غ) تأتي بمعنى الميل عن الاستقامة، قال تعالى: فَلَمّا زاغُوا أَزاغَ اَللّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف، الآية: 5]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ اَلسَّعِيرِ [سورة سبأ، الآية: 12].

و المعنى: ربّنا لا تمل قلوبنا عن الحقّ بعد إذ هديتنا إليه. و هذا الدعاء عام لجميع ما هو حقّ من المعارف و القرآن و الأحكام و المعاد، فيشمل الشريعة الختمية بكلّياتها و جزئياتها و أصولها و فروعها.

و الميل عن الحقّ إما قصدي و عمدي بالاختيار، أو نسياني لا عن اختيار، أو اضطراري و اجباري. و الأوّل فيه الإثم و العقاب، بل قد يوجب الكفر، و الأخيران لا أثر لهما، لحكم العقل بذلك، و لما

ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «رفع عن امتي الخطأ و النسيان و ما اضطروا إليه».

قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .

مادة (و ه ب) بمعنى التمليك مجانا و بلا عوض، و كلّ ما أخرج من العدم إلى الوجود من جميع الممكنات هبة منه تبارك و تعالى، إذ لا يعقل الاستيعاض لمن هو مستغن بذاته عن غيره لذاته بالنسبة إلى غيره، ممّا هو محتاج بذاته اليه عزّ و جلّ، و أما قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قوله تعالى: إِنْ تُقْرِضُوا اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ [سورة التغابن، الآية: 17]، ففيه عناية و تلطّف في الكلام، لا أن يكون من الاشتراء و القرض الحقيقي، و إلا يلزم على اللّه الاستكمال، و هو قبيح و محال، و الرحمة: بمعنى اللطف و الإحسان.

و المعنى: هب لنا من عندك رحمة. و تشمل جميع النعم الدنيويّة و الاخرويّة

ص: 78

التي أهمّها الاستقامة في الدين بالدين، فإنها جامعة للرحمة الدنيويّة و الاخرويّة.

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ .

الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما قبلها. و الوهاب من أسماء اللّه الحسنى، تكون المبالغة في نظائره باعتبار المتعلّق لا باعتبار الذات، إذ لا معنى للمبالغة فيما لا منتهى و لا حدّ في أي جهة من جهات كماله و جلاله.

مع أن المبالغة من الجهات الكيفيّة، و هي منفية عنه تعالى بالأدلّة العقليّة و النقلية،

قال علي عليه السّلام: «هو الذي كيّف الكيف فلا كيف له، و أيّن الأين فلا أين له»، و كلّ ما هو في المخلوق لا يوجد في الخالق.

قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ اَلنّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ .

أي انك باعث الناس و محييهم بعد فنائهم و تفرّقهم ليوم لا شكّ فيه، و في هذا إقرار بالبعث ليوم القيامة، لأن ذلك قضية عقليّة جامعة حاكية لمصير استكمال الطبيعة و ظهور الأعمال بصورها المناسبة في طريق الاستكمال، و أن البعث واجب عقلي و لازم في الطبيعة، قد قرّرته جميع الكتب السماويّة أيضا. فقولهم: لا ريب فيه، أي لا شكّ فيه حسب الأدلّة العقليّة، و يمتنع عدم تحقّقه و سلب وقوعه، كما أن قولهم: «انك جامع الناس» كاشف عن فطرتهم العقليّة، لا أن يكون أمرا شرعيا لإثبات جمعهم، و إن كانت الآيات المباركة تثبت ذلك أيضا، قال تعالى: إِنَّ يَوْمَ اَلْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة الدخان، الآية: 40].

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ .

عدول من الضمير إلى الظاهر للتنبيه على استحالة خلف الوعد بالنسبة إليه جلّ شأنه، لكماله تعالى و قدسيته، و أن الميعاد عامّ لا يختصّ بقوم و طائفة، و الآية المباركة بمنزلة التعليل في تحقّق المعاد و عدم الريب فيه.

و المعنى: أنك جامع الناس و باعثهم من قبورهم للجزاء ليوم لا شكّ فيه، كما أخبرت به في كتابك و وعدتنا به و أنك لا تخلف الميعاد.

ص: 79

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الأوّل: إنما أضاف الراسخون في العلم الربّ إلى أنفسهم، و سألوا منه عدم الزيغ كما سألوا الرحمة، لأنهم يرون انحصار جميع جهاتهم و نسبهم و إضافاتهم فيه تبارك و تعالى، فهو يربّيهم كيف ما شاء و أراد، فيكون نسبة سلب الازاغة إليه تعالى من جهة التربية المعنويّة التي يربّيهم اللّه تعالى.

و لذا كرّر لفظ (ربّنا)، فيستفاد منه نهاية الانقطاع منهم إليه جلّ شأنه.

الثاني: المراد من الرحمة في قوله تعالى: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، رحمة خاصّة تختصّ بمقامات الراسخين في العلم، و هي تعم إبقاءهم على هذه الحالة، فيكون بمنزلة البيان لقوله تعالى: لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا .

و يمكن أن يراد بها الإفاضات و الإلهامات المعنويّة التي تناسب مقام الرسوخ في العلم، و هي غير محدودة بحدّ خاص، فتشمل جميع اللوازم و الملزومات الطولية و العرضية الغيبيّة لكلّ آية، ممّا لا يمكن أن يطلع عليها إلا اللّه جلّ جلاله.

و بالجملة: أهمّ مراتب الرحمة التي لا يعقل مرتبة فوقها هي معرفة المعارف الإلهية بمراتبها المؤهّلة عندهم و العمل بها، و هي منحصرة بالإفاضة منه سبحانه و تعالى على قلوب الراسخين و منهم على غيرهم، فهذا الدعاء و الابتهال من أسمى الدعوات و أكملها إلى أكرم مدعو و أجلّه، و أنه قرين الإجابة و الاستجابة، لأن له دخلا في تكميل نظامي التشريع و التكوين. فهذه الجملة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، ترجع إلى بيان المبدأ، كما أن ذيل الآية المباركة يرجع إلى بيان المعاد، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها تبيّن المبدأ و المعاد و التلازم بينهما، بأسلوب جذاب دقيق و بيان يأخذ بمجامع القلوب و توجهها نحو الربّ الجليل المحبوب، و نظائر هذه

ص: 80

الآية كثيرة، يأتي بيانها إن شاء اللّه تعالى.

و يمكن أن يكون هذا الدعاء منهم مع كونه من الرحمة الخاصة بهم دعوة منهم إلى أن يجعل اللّه تبارك و تعالى غيرهم - المستأهلين لهذا المقام - مشمولين لهذا الدعاء.

و هذا هو دأب أولياء اللّه تعالى في دعواتهم، حيث لا يخصّون أنفسهم بدعاء خاص، بل يعمّونه لغيرهم. فيسقط نزاع بعض المفسّرين في أن الدعاء خاص أو عامّ، إذ لا تنافي بين الخصوص و العموم بالنسبة إليهم، بأن يكون الخاص منشأ لحصول العام بالنسبة إلى غيرهم.

الثالث: يستفاد من الآية الشريفة أن عدم زيغ القلب أعمّ من الهبات المعنوية و الإفاضات السماويّة، فيمكن أن يستجاب منهم دعاء عدم زيغ القلب، و تبقى الإفاضات المعنوية (أي الرحمة الخاصة) بعد، و لذا قالوا: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً .

و بعبارة اخرى: عدم زيغ القلب أعمّ من هبة الرحمة، التي هي كالأرض التي هي معدّة لكلّ نبات و زرع، فيستمطرون منه تبارك و تعالى و يستوهبون منه أنحاء النباتات المعنوية و الأثمار الحقيقيّة في هذه الأرض، اعني القلب الذي خلا عن جميع الشوائب و الأوهام.

الرابع: يستفاد من تكرار الخطاب في قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ ، الحصر الحقيقي، لأنهم يرون انحصار جميع الهبات فيه تبارك و تعالى، و هذه إشارة إلى قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الخامس: يستفاد من هذه الآية الشريفة أن علم الراسخين في العلم يدور مدار علم المبدأ و المعاد، فعندهم المرتبة القصوى من علم المبدأ و المعاد، و فيهما تنطوي سائر العلوم التي تقع في طريق استكمال النفس الإنسانية الكاملة، التي هي أكبر حجّة للّه تعالى في أرضه، و خلقت الدنيا و الآخرة لأجلها، و فيهما تنطوي الفلسفة العلميّة و العمليّة، التي هي أعظم المباني العقليّة و أجلّها، و أكثرها أبوابا و فصولا، بحيث جعل كلّ منها علما مستقلا برأسه.

ص: 81

السادس: يستفاد من مجموع الآية الشريفة الواردة في شأن الراسخين في العلم، أدب الدعاء و الابتهال إليه تبارك و تعالى، فلا بد أن يكون الداعي منقلعا من جميع الجهات الإمكانية، و منقطعا إلى الحقيقة الربوبيّة من كلّ جهة، بحيث يرى نفسه فانيا تحت إرادة القدير المتعال، كما هو شأن الراسخين في العلم، و يمكن أن ينطبق عليهم قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17-18]، فإن حقيقة مثل هذه الآية المباركة منطبقة على الراسخين في العلم، و لو حدّ و عرّف الراسخون في العلم بما ورد في مثل هذه الآية الشريفة لكان حدّا حقيقيّا واقعيّا.

السابع: ربما يتوهّم التنافي بين قوله تعالى حاكيا عن الراسخين: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، و بين قوله تعالى حاكيا عن آدم و زوجته: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا [سورة الأعراف، الآية: 23]، و قوله تعالى حاكيا عن إبراهيم:

وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 87-89].

و الجواب: أن مثل الآيتين الأخيرتين إنما ورد لبيان إظهار ذل العبودية و التذلّل بالحقّ لدى المعبود المطلق، فيكون مثل هذه الآيات و ما فى سياقها من السنّة الشريفة وارد في مقام الإخبار عن الشيء بداعي ذل العبودية المحضة، لا بداعي وقوع المخبر به في الخارج، و هذا كثير شائع في اللغة و العرف، خصوصا عند أهل الذوق و العرفان، فلا محذور في البين عند من كان متوجّها إلى خصوصيات البيان.

بحث روائي:

في الكافي: عن هشام بن الحكم قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها ورداها، أنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سرّه لعلانيته موافقا، لأن اللّه تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

ص: 82

في الكافي: عن هشام بن الحكم قال: «قال لي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه السّلام: يا هشام، إن اللّه حكى عن قوم صالحين أنهم قالوا: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ حين علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها ورداها، أنه لم يخف اللّه من لم يعقل عن اللّه، و من لم يعقل عن اللّه لم يعقد قلبه على معرفة ثابتة ببصرها و يجد حقيقتها في قلبه، و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا، و سرّه لعلانيته موافقا، لأن اللّه تبارك اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه».

أقول: هذه الرواية من أجلّ الروايات الواردة في المعارف الإلهية،

فقوله عليه السّلام: «علموا أن القلوب تزيغ و تعود إلى عماها»، لأنهم علموا أن الإنسان مركب من مادة و صورة، و من لوازم المادة و الجسمانية زيغ القلوب، فسألوا ربهم بهذا الدعاء الذي هو أكمل الدعوات بالنسبة إلى الاستكمالات الإنسانية في جميع العوالم التي ترد على الإنسان، فعلمهم هذا من قبيل العلم باللازم بعد علمهم بالملزوم.

و أما

قوله عليه السّلام: «إنه لم يخف اللّه من لم يعقل قلبه على معرفة ثابتة ببصرها»، فهو من القضايا الوجدانية التي يكون دليلها معها و يكفي تصوّرها في تصديقها، لأن المخافة من الشيء تتوقّف على تعقّل ذلك الشيء و لو بالجملة، فإن المخافة بلا تعقل تكون عبثا و لهوا، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28].

و أما

قوله عليه السّلام: «و يجد حقيقتها في قلبه»، فهو من القضايا الفطرية، لأن الاعتقاد بشيء يستلزم تصوره و تصديقه في الجملة، و إلا فلا موضوع للاعتقاد أصلا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و لا يكون أحد كذلك إلا من كان قوله لفعله مصدقا و سرّه لعلانيته موافقا»، فهو من أتمّ البيان و الحجّة لبيان العقيدة في شيء، لأنه إذا كان الفعل مخالفا للقول و كان بينهما اختلاف و تناف، لا تحصل العقيدة بذلك.

نعم، دعوى الاعتقاد الصوري مع مخالفة الفعل للقول حاصلة، و لكن لا أثر لها، و يدلّ على ذلك ما تقدّم في بعض الروايات

عن الصادق عليه السّلام: «من حرم

ص: 83

الخشية من اللّه فليس بعالم، و إن شقّ الشعر في المتشابهات، و من لم يكن عمله مطابقا لقوله فليس بعالم».

و أما

قوله عليه السّلام: «لأنّ اللّه عزّ اسمه لم يدلّ على الباطن الخفي من العقل إلا بظاهر منه و ناطق عنه»، فهو حقّ لا ريب فيه، لأن الظاهر عنوان الباطن و بمنزلة اللفظ للمعنى، و يستكشف المعنى من اللفظ، فإذا كان أصل المعنى باطنا للظاهر فكيف يتحقّق هذا العنوان؟!

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «أكثروا من أن تقولوا: ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و لا تأمنوا الزيغ».

أقول: ما ذكره عليه السّلام مطابق للأدلّة العقليّة التي أثبتوها في محلّه، من أن كلّ حادث يحتاج في البقاء إلى العلّة كما يحتاج إليها في أصل الحدوث، فنفس الهداية الحادثة من اللّه تعالى بصرف الوجود لا أثر لها ما لم تكن باقية و منشأ للأعمال الصالحة، و يدلّ على ما قلنا ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في الحديث الآتي.

في الدر المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه، عن أم سلمة: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك. قلت: يا رسول اللّه، و أن القلوب لتتقلّب؟ قال:

نعم، ما خلق اللّه من بشر من بني آدم إلا و قلبه بين إصبعين من أصابع اللّه، فإن شاء أقامه، و إن شاء أزاغه».

أقول: ليس المراد من الإصبعين ما هو المفهوم منهما ظاهرا، بل المراد منهما قضاؤه و قدره، و ربوبيّته و تربيته، و يكون التعبير بالإصبعين كناية عن سهولة ذلك كلّه عنده تبارك و تعالى.

بحث عرفاني:

الممكنات بأسرها - و منها الإنسان الذي هو أجلّها و أشرفها - لا بد لها من ارتباط مع خالقها، كما أن للخالق ارتباطا مع خلقه، و هذا الارتباط على قسمين:

ص: 84

الأول: الارتباط التكويني، و قد أثبت أكابر الفلاسفة في محلّه، أنه أوثق الارتباطات و أجلاها و أتمّها، بل و أشدّها، و من أجل ذلك يقسم الخالق بمخلوقه، كما يقسم الحبيب بمحبوبه، قال تعالى: وَ اَلتِّينِ وَ اَلزَّيْتُونِ * وَ طُورِ سِينِينَ * وَ هذَا اَلْبَلَدِ اَلْأَمِينِ * لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين، الآية:

1-4]، و قال تعالى: وَ اَلْفَجْرِ * وَ لَيالٍ عَشْرٍ * وَ اَلشَّفْعِ وَ اَلْوَتْرِ * وَ اَللَّيْلِ إِذا يَسْرِ [سورة الفجر، الآية: 1-4]، و قال تعالى: وَ اَلشَّمْسِ وَ ضُحاها * وَ اَلْقَمَرِ إِذا تَلاها * وَ اَلنَّهارِ إِذا جَلاّها * وَ اَللَّيْلِ إِذا يَغْشاها * وَ اَلسَّماءِ وَ ما بَناها * وَ اَلْأَرْضِ وَ ما طَحاها * وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها [سورة الشمس، الآية: 1-8]. لأن الفاعل يرى قدرته و ظهوره في فعله، فالفعل من مظاهر بروز الفاعل و تجلّياته و ظهوره، فيسعى كلّ منهما لصاحبه بما يريده تكوينا و يرضاه و ما يشتهيه، و إن شئت سمّيت هذا بتسبيح الممكنات، كما في قوله تعالى:

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]، فلا بأس، و إن شئت سمّيته بالفطرة، كما عن بعض، فلا بأس و إن شئت سمّيته بشروق نور أزلي من الغيب المحجوب على ظلمات الممكنات، فلا بأس. هذا كلّه بناء على ما هو المعروف بين الفلاسفة من القول بتكثّر الوجود و الموجود. و هذا القسم سير تكويني متدرج في قول: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ ، و قول: (لا حول و لا قوة إلا بالله العلى العظيم).

الثاني: الارتباط الاختياري الالتفاتي الفعلي، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان، و لأجله أنزلت الكتب السماويّة و القرآن المبين، و هو غاية دعوة الأنبياء و جميع المرسلين، و به تقوم درجات الجنان و دركات النيران، و عليه يدور أساس تكميل الإنسان إلى ما لا حدّ لأقصاه و لا يمكن أن يدرك مداه، و به يسير الإنسان في عالمي الأظلة و الأنوار، و يفرح من نسيم يفوح عن ربوع المحبوب و تلاله، و يدرك سرّ الحياة و الجمال و الجلال:

أراك تزيد في عيني جمالا *** فأعشق كلّ يوم منك حالا

تزيد ملاحة و أزيد تيما فحالي فيك تنتقل انتقالا

ص: 85

و مثل هذه الآية الكريمة: وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ اَلْوَهّابُ ، و الآية المباركة: وَ اَلَّذِينَ اِجْتَنَبُوا اَلطّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اَللّهِ لَهُمُ اَلْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ [سورة الزمر، الآية: 17-18]. و قال تعالى: يَوْمَ تَرَى اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الحديد، الآية: 12]، و الآيات المباركة الاخرى ترشد إلى هذا القسم من الارتباط، حتّى يتّحد الارتباط التكويني مع الارتباط الاختياري، فتزداد جوهرة النفوس الإنسانية تلألؤا و جمالا، و تعرج إلى معارج لا حدّ لها عظمة و جلالا،

قال اللّه جلّت عظمته: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر»، و إن اختلفا يصير الإنسان الذي هو من أسعد المخلوقات و أفضل الممكنات من أخسّها و أسفلها، لأنه قطع ارتباطه مع خالقه و خالف منعمه، و أنزل مقام نفسه حتّى في مرتبة التكوين، قال تعالى: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ اَلْغافِلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 179]، و قال تعالى:

ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ [سورة البقرة، الآية: 17]، و قال تعالى: خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 7]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة.

و هذا القسم من الارتباط حالي، لا أن يكون مقاليا كما يعرفه أهل العرفان.

بحث فلسفي:
اشارة

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة بحث المعاد، و قد اهتمّ به الأنبياء و المرسلون و جميع الكتب السماويّة و الفلاسفة و المتكلّمون اهتماما بليغا، و أطالوا البحث فيه من كلّ جهة، و في المقام مباحث نستوفي الجوانب الأهم منها.

ص: 86

ثبوت أصل المعاد:

يجب وجود المعاد عقلا و شرعا، كوجوب وجود المبدأ كذلك، و الفرق بينهما أن وجوب المبدأ ذاتي، و وجوب المعاد بالغير.

و المعاد من العود، و وجوبه في النظام الأحسن الذي يشمل جميع العوالم عقلي، و يمكن تقرير دليله بوجوه:

الأوّل: ما هو الأسد و الأخصر بأن يقال: إن الأرواح و النفوس أبدية، أي خالدة و باقية، فلا حدّ لآخرها باتّفاق الشرائع السماويّة و جميع الفلاسفة - على ما يأتي - و تعطيل هذه الأبدية المطلقة و إهمالها عن كلّ شيء قبيح عقلا، فيستحيل ذلك عليه عزّ و جلّ، بل لا بد من إبراز مقتضيات ذواتها و خصوصياتها المحفوفة بها، و لا يتحقّق ذلك إلا بالمعاد، فيجب المعاد في النظام الأحسن الربوبي، هذا بالنسبة إلى المعاد الروحاني المتّفق عليه بين الجميع.

و أما المعاد الجسماني، فإنه يمكن تقرير وجوبه بأن يقال: إن الأرواح و النفوس في فعلها محتاجة إلى الآلات الجسمانية، أي الجسد (القلب و البصر و السمع و الرجل و غيرها)، و إن كانت في ذاتها مستغنية عنها، فإن الأرواح توجد متّحدة مع الجسم طول الحياة و تنفصل عنه عند الموت، و لا بد من عود جميع آلاتها (أي الجسد) التي كانت تعمل بها بعد الموت، لفرض تقوّم فعلها بها، و أنها كانت مأنوسة بتلك الآلات من كلّ جهة.

و قيام غيرها مقامها باطل، لأنه يستلزم تنعيم ما لم يصدر منه منشأ النعمة، و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، و هو قبيح عقلا، فكيف بالنسبة إليه تعالى؟ فيثبت المعاد الجسماني.

إن قيل: لا ريب في تحلّل الأجزاء الجسمانيّة في الدنيا، و في عالمنا هذا، و تبدلّ تلك الأجزاء و وصول بدل ما يتحلّل إليها في كلّ مدة، فالبدن الموجود في سن العشرين مثلا غير ما كان في سن العشرة، فيلزم المحذور، أي تنعيم ما لم يصدر منه

ص: 87

منشأ النعمة و تعذيب ما لم يحصل منه منشأ العذاب، أو ترجيح المرجوح على الراجح، فليكن البدن الموجود في عالم الآخرة كذلك أيضا، أو يكون من غير سبق بدن أصلا.

يقال: التبدّلات الحاصلة على البدن في هذا العالم ليست تبدّلا ماديّا و صوريّا من كلّ جهة، بل المادة الأوليّة محفوظة، و إنما تتبدّل بعض الخصوصيات و بعض الصور، فالمادة التي تقوم بها النعمة و العذاب محفوظة في أصلها، فيرد العذاب و النعمة على ما صدر منه.

الثاني: الملازمة الواقعيّة الحقيقيّة بين المبدأ و المعاد، لأن المعاد مظهر مالكية المبدأ و قهّاريته و سائر صفاته الجمالية و الجلالية، و المبدأ بدون تلك الصفات لغو محض، بل غير ممكن، و كذا العكس فهما متلازمان ثبوتا، و لا يمكن التفكيك بينهما واقعا، خصوصا بالنسبة إليه تبارك و تعالى.

الثالث: الملازمة الثبوتيّة بين التشريع و الجزاء، فإن أحدهما بدون الآخر لغو، و هو محال عليه تعالى.

الرابع: أن إهمال تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين قبيح في النظام الأحسن، و هو محال على اللّه جلّت عظمته، و الآخرة ليست إلا دار تعذيب المسيئين و جزاء المحسنين، فلا بد من تحقّقها، و هذا العالم غير قابل لتعذيب المسيئين فيه، لأنّه محدود من كلّ جهة، و أنه ظرف الاستكمال كما يأتي.

و هناك أدلّة اخرى تدلّ على الثبوت نتعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه.

إثبات المعاد:

يمكن الاستدلال عليه بالأدلّة الأربعة: فمن العقل ما تقدّم من أدلّة وجوب وجوده، إذ لا يعقل أن يكون شيء واجب الوجود و غير متحقّق في الخارج.

مع أن الممكنات بأسرها خلقت في طريق الاستكمال الدائم - لا الزائل -

ص: 88

لفرض أبدية النفس و الروح، كما أثبتها جميع الفلاسفة - الطبيعيّين منهم و الإلهييّن - و لا بد في ذلك الاستكمال من نهاية و حدّ، سواء كان الاستكمال في الخير أم الشر، و أن المعاد مظهر الاستكمال و نهايته، و أن هذا العالم ظرف الاستكمال كما نراه، فالإنسان - الذي هو أشرف الموجودات و خلقت الأشياء لأجله - يكون في مسير الكمال الذي لا بد له من مظهر، و هو المعاد، أي عالم الآخرة، و إلا يلزم الخلف، أي يكون الكمال بلا أثر و نتيجة.

و أما من الكتاب، فآيات كثيرة، منها قوله تعالى: كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ [سورة الأعراف، الآية: 29]، و قوله تعالى: ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة الزمر، الآية: 7]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة التوبة، الآية: 105]، إلى غير ذلك من الآيات، و كذا جميع الكتب السماويّة، فإن أهمّ دعوتها هي الدعوة إلى المبدأ و المعاد.

و أما السنّة، فهي فوق حدّ الإحصاء بألسنة مختلفة شتى.

و أما الإجماع، فإجماع جميع الأنبياء و المرسلين، و جميع أهل الكتاب و المسلمين.

المعاد الروحاني و الجسماني:

أما الأول، أي عود الأرواح بعد انفصالها عن الأبدان إليها، للجزاء و التعبير بالعود بالنسبة إلى الأرواح من باب الوصف بحال المتعلّق، لفرض أن الأرواح أبدية لا تفنى.

نعم، عند انعدام جميع ما سواه تعالى ينعدم ثم يوجد و لم يسم ذلك بالمعاد.

و لا خلاف فيه من أحد - ثبوتا و اثباتا - في معاد الأرواح، فإنهم أثبتوا أن الأرواح إما شقيّة، أو سعيدة، و مصير الاولى إلى النار، بخلاف مصير الثانية، فإنها إلى الجنّة، و لا يعقل الفناء المحض و الإهمال بالنسبة إلى الأرواح أصلا، كما أثبته

ص: 89

الفلاسفة، بل المنساق من الأدلّة السمعية - كتابا و سنة - ذلك.

و يمكن إقامة الدليل العقلي عليه بأن يقال: إن الفناء و الاضمحلال من لوازم الجسم و الماديات، لمكان تحلّل الأجزاء تدريجا، و أما إن كان بسيطا من كلّ جهة - كالأرواح و جميع المجرّدات و الروحانيين من الملائكة - فلا موضوع للفناء و التحلّل فيه، فيبقى بعد الحدوث أبدا.

نعم، الانعدام بمشيئة اللّه تعالى و إرادته شيء آخر لا ربط له بالموت و الفناء، فكلّ موجود إما أزلي و أبدي، و هو منحصر به جلّ شأنه، أو حادث أبدي، و هو المجرّدات و الروحانيون، أو حادث و فان، و هو الأجسام و الماديات.

و أما كون شيء أزليا و فانيا، فهو ممتنع للقاعدة التي تسالم الكلّ عليها من أن: «كلّ ما ثبت قدمه امتنع عدمه»، فمعاد الأرواح ممّا لا يعتريه الشك أصلا، و من أنكره فقد وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14].

و أما المعاد الجسماني الذي هو مورد دعوة الأنبياء و جميع كتب السماء، فقد أثبته جميع كثير من أكابر الفلاسفة و أعاظمهم، حتّى من غير المسلمين.

و إنما أشكل بعض في استحالته من أنه إعادة المعدوم، فإن الجسم لو انعدم فإعادته محال. و هذا الإشكال قديم الجذور، فقد حكاه اللّه تعالى في جملة من الآيات المباركة عنهم، قوله تعالى: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قوله تعالى: وَ قالُوا ما هِيَ إِلاّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاّ يَظُنُّونَ [سورة الجاثية، الآية: 24]، و غيرهما من الآيات الشريفة.

و لكن أصل الإشكال فاسد، لأنّه مغالطة حصلت من قياس قدرة الخالق على قدرة المخلوق، أي الممكن، فظنوا أن ما لا يمكن بالنسبة إلى قدرة المخلوق هو غير ممكن بالنسبة إلى قدرة الخالق أيضا، و لا ريب في بطلانه، لأن قدرة المخلوق محدودة و قدرة الخالق غير محدودة بوجه من الوجوه، حتّى إنه تعالى خلق الأشياء من العدم، فليكن المعاد بالنسبة إلى الأجساد كذلك أيضا، على فرض تحقّق العدم

ص: 90

بالنسبة إليها، مع أنه لا يمكن لفرض بقاء المواد الأوّلية، و إنما تغيّرت الصور و الجهات الخارجيّة، و لذا قال تبارك و تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَبْدَؤُا اَلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأَعْلى فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الروم، الآية:

27]، فالذي يصوّر مادة المواد و الهيولى الاولى إلى صور شتى بأكمل الصور و أحسنها، يقدر على كلّ ما شاء و أراد، و هو قادر على أن يعيد جميعها.

و ثانيا: أن استحالة إعادة المعدوم لا تختصّ بالمعاد الجسماني، بل تجري في جميع الممكنات حتّى الأرواح، بل مطلق المجرّدات، لانعدامها قبل يوم القيامة، قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة غافر، الآية: 16]، مع أن المعاد الروحاني متّفق عليه بين جميع الفلاسفة، بل العقلاء أيضا.

و ثالثا: على فرض التسليم أن المحال إنما هو إعادة المعدوم بجميع خصوصياته الزمانيّة و المكانيّة و سائر الجهات، لا خصوص المادة و الصورة، مع عدم ملزم لإعادة سائر الجهات، و أنهما محفوظان في عالم القضاء و القدر، اللذين هما أوسع العوالم الربوبيّة، بل يمكن أن يكونا محفوظين في الأذهان السافلة أيضا، فلا موضوع للمغالطة أصلا.

الشبهات الواردة على المعاد:

أوردت شبهات كثيرة على المعاد، و لكن أهمّها ثلاث:

الاولى: ما اصطلح عليها في كتب الفلاسفة و المتكلّمين بشبهة الآكل و المأكول، و تعرّض لها بعض كتب الفلسفة الحديثة أيضا، و هي قديمة و ترجع جذورها إلى ما قبل الإسلام، كما يستفاد من الآيات المباركة، و حاصل الشبهة أنه إذا تورد على بدن الإنسان صور أشياء مختلفة، كأن صار الإنسان مثلا فريسة لسبع، و صار السبع فريسة لسبع أقوى منه، ثم استحال الجميع إلى التراب، و استحال التراب إلى النبات، و صارت هي مأكول الحيوان أو الإنسان، فكيف يمكن أن يعود بدن الإنسان الذي تواردت عليه صور شتى في المعاد، و هل يعاد

ص: 91

بالبدن الأولي و الهيكل الأصلي للإنسان، و المفروض انعدامه بالكلية؟ أو بالصورة العارضة عليه، فيلزم أولا أن لا يعود البدن أو الجسم الموجود في دار الغرور في عالم الحشر و النشر، و هو خلاف ما تقدّم من الأدلّة الدالّة على إثبات المعاد الجسماني.

و ثانيا: يلزم تنعيم من لم يصدر منه فعل الطاعة، و تعذيب من لم يصدر منه منشأ العقاب، و هو باطل بالضرورة، و هذا هو أصل الشبهة.

و لكنها باطلة، لما تقدّم من أن الصور التي تعرض على الشيء و تتغيّر لا تنافي بقاء المواد الأولية لذلك الشيء، فهي باقية و محفوظة و إن تبدّلت الصور العارضة عليها و حصلت التطورات، لكن المادة الأوّلية باقية، نظير المضغة التي تكون في مصير الاستكمال الإنساني، فهي موجودة في الإنسان و إن بلغ من العمر ما بلغ، و لكن تتبدّل عليها الحالات و الصور الكثيرة، و المعاد الجسماني أيضا كذلك، فيكون التعذيب واردا على من صدر منه فعل المعصية، و التنعيم على من صدر منه فعل الطاعة، و هو باق و إن عرضت عليه صور كثيرة.

مع أن العلم الحديث في التجزئة و التحليل تمكّن من تجزئة المواد في الجسم، و امتياز المواد الحيوانية عن النباتية، و هما عن غيرهما، فكيف بقدرته تعالى؟! و لا فرق في ذلك بين أن يكون الآكل هو الحيوان أو يكون إنسان آخر، كما لو أكل إنسان إنسانا آخر، فالجواب في الجميع واحد.

و أصل الشبهة ناشئة من تحديد قدرة الخالق و قياسها على قدرة المخلوق، مع أن قدرة المخلوق أمكنها السيطرة على حفظ المواد الأولية في الجسم و امتيازها عن غيرها، بل و نموها كما عرفت، و هذه الشبهة مقرّرة في القرآن الكريم بنحو الإجمال، قال تعالى: مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ [سورة يس، الآية: 78]، و قال تعالى:

أَ يَحْسَبُ اَلْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ * بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [سورة القيامة، الآية: 3، 4].

ص: 92

الثانية: أن المعاد إنما هو لتعذيب الأشقياء و تنعيم السعداء، و هذه النتيجة يمكن أن تحصل في هذه الدنيا و في هذا العالم، فلا يحتاج إلى التعذيب في عالم الآخرة، فيعذب اللّه تعالى الأشقياء في هذه الدنيا حتّى يرد الجميع إلى عالم الآخرة بلا منشأ للعقاب، فيردون الجنّة بغير حساب، فيكون التعذيب في هذا العالم بمنزلة التوبة الممحاة للذنوب، و هذه الشبهة كثيرة الدوران في الفلسفة الحديثة.

و لكنها باطلة... أولا: لأن اللّه تبارك و تعالى جعل للذنوب في هذه الدنيا ما يوجب محوها و إزالتها، كالحدود و التعزيرات و الدّيات و الكفّارات و التوبة و الاستغفار و التكفير، قال تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً [سورة النساء، الآية: 31]، فأي إنسان عمل بذلك، فلا ذنب له فيتحقّق التعذيب في هذا العالم بالحدود و التعزير و الديات و غيرها، فلا موضوع لهذه الشبهة، فإن اللّه تعالى أجلّ من أن يعذب العاصي مرتين.

و ثانيا: أن كثيرا من المعاصي في هذه الدنيا ناشئ من سوء السريرة و فساد الطينة اقتضاء، و هذا العالم بزمانه و زمانياته قاصر عن تعذيب مثل هذه السريرة، لأن هذا العالم متناه، و السريرة فيها اقتضاء عدم التناهي، فلا بد و أن يؤجل إلى عالم الآخرة.

و ثالثا: أن هذا العالم ظرف الاستكمال في جميع الجهات، و التعذيب مناف له، نعم بعض آثار الذنوب تظهر في هذه الدنيا، و أنها من الآثار الوضعية، و لا ربط لها بالتعذيب و المعاد.

الثالثة: المعاد الجسماني مستلزم للتناسخ الباطل - كما سيأتي - فيكون المعاد الجسماني باطلا كذلك، خصوصا بعد اشتمال الأدلّة السمعية على حشر بعض أفراد الإنسان بصورة بعض الحيوانات.

و الجواب عنها: أن المعاد الجسماني ليس من التناسخ في شيء، و بينهما تباين كلّي، لأن التناسخ الباطل عبارة عن انتقال الروح من بدن في هذا العالم إلى بدن

ص: 93

غيره، كلّ منهما في عرض الآخر، و أما بقاء الروح إلى عالم آخر طولي و تغيير بدنه حسب المقتضيات و الملكات، فلا ربط له بالتناسخ أصلا، بل يكون المقام نظير ما إذا ابتلى بدن الإنسان بمرض، بحيث زالت محاسنه و ذهبت هيئته و صفاته بالمرّة لأجل الجهات الخارجيّة مع بقاء روحه، فكم من شخص كان في غاية الجمال في شبابه فصار قبيحا في هرمه و شيخوخته، و كم مرغوب إليه في سن فصار مرغوب عنه في سن آخر، و هكذا فالمعاد الجسماني من هذا القبيل. هذا فيما إذا تغيّر البدن في عالم الحشر، و أما إذا لم يتغيّر فلا موضوع للشبهة أصلا.

ص: 94

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ .......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ وَ اَللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ (13) الآيات المباركة مرتبطة بما قبلها، حيث إنها ختمت بذكر اليوم الذي لا ريب فيه، فقد ذكر فيها بعض خصوصيات ذلك اليوم، و هي أن أعمال الكافرين لا تغني عنهم شيئا، و أن مصيرهم إلى النار، بل هم وقودها، بلا اختصاص في ذلك بالذين كفروا بدعوة محمد صلّى اللّه عليه و آله، بل يعمّ جميع الكفّار الذين كفروا بأنبيائهم.

و قد أعلن سبحانه و تعالى أنهم مغلوبون في هذه الدنيا، و يحشرون في الآخرة إلى النار.

كما أنهم رأوا بأنفسهم ما وقع بين الفئتين المؤمنة و الكافرة، من نصرته تعالى الفئة المؤمنة منهما على الكافرة.

و الآيات الشريفة تتضمّن نداء حقيقيّا واقعيّا صادرا عن الحقّ الواقع الذي لا مرية فيه و لا شكّ يعتريه، و هو أن المخاصمة مع اللّه جلّ جلاله ليس فيها إلا الهلاك و الخسران، و لا يعقل أن تتدارك بشيء ممّا هو في ذاته و حدوثه و بقائه محتاج إليه جلّت عظمته. و أن الكفر به تعالى سواد شديد و ظلمة مهلكة، لا يمكن محوهما أزلا و لا أبدا، إلا بالخروج من تلك الظلمة إلى الإيمان و النور في دار الدنيا و عالم الغرور.

و يقرع هذا النداء مسامع الملكوت الأعلى و عقول ذوي الألباب من أهل الدنيا.

ص: 95

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

تقدّم معنى الكفر و أقسامه، و المراد منه في المقام إنكار المبدأ أو الشرك به، أو إنكار المعاد، أو إنكار دعوة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و بين جميع ذلك تلازم في الجملة، فإن إنكار المبدأ ملازم لإنكار النبوّة و المعاد، و إنكار النبوّة مستلزم لإنكارهما أيضا، لأن الاعتقاد بالمبدأ و المعاد لا بد أن يكون من طريق شريعة سيد المرسلين.

و الغناء عدم الحاجة، و هو من الأمور التشكيكية ذات الإضافة، فالغني المطلق - ذاتا و صفة و فعلا - منحصر به تعالى، قال تعالى: وَ اَللّهُ اَلْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ [سورة محمد، الآية: 38]، و قال تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ [سورة الحديد، الآية: 24].

و يطلق على الغني بالذات و المحتاج بالفعل، و يمكن أن يتصوّر ذلك في المجرّدات، فإنها في مرتبة ذاتها خالية عن الاحتياج إلى المادة، لكن في مرتبة الفعل محتاجة إليها، و إن كان فيها أيضا أشدّ الاحتياجات و هو الإمكان، فكلّ ممكن محتاج، كما أن كلّ محتاج ممكن.

و يطلق على غناء النفس، الذي هو عبارة عن قلّة الحاجات، و منه قوله تعالى: وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى [سورة الضحى، الآية: 8]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الغنى غنى النفس».

كما يطلق على الأموال التي يكتسبها الإنسان، كقوله تعالى: وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ [سورة النساء، الآية: 6]، و قوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النور، الآية: 32].

و المراد منه في المقام القسم الأخير فقط، كما يأتي.

ص: 96

و المعنى: أن الذين كفروا باللّه تعالى و بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله لا تنفعهم و لا تنجيهم أموالهم التي يبذلونها لجلب منافعهم و دفع مضارهم الدنيوية، و لا أولادهم الذين يتناصرون بهم في دفع ملمّاتهم و يعولون عليهم في الخطوب و الشدائد الدنيوية من عذاب اللّه شيئا، لفرض نفاذ المال و اضمحلاله، و حدوث النفرة بين الآباء و الأولاد، كما قال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ * وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ * لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [سورة عبس، الآية: 34-37]، فلا ينفعهم اعتقادهم بأن قالوا: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سورة سبأ، الآية: 35]، و قد أنكر سبحانه و تعالى ذلك عليهم و ردّهم بقوله جلّ شأنه: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ اَلضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي اَلْغُرُفاتِ آمِنُونَ [سورة سبأ، الآية: 37].

فالمراد من الإغناء هو الإغناء عن أهوال الآخرة و شدائدها، و الإضافة المالية تنقطع بمجرّد الموت، و تنتقل إلى الغير، فتكون هذه القضية من المنتفية بانتفاء الموضوع.

نعم، لو أنفق ما له في سبيله تعالى يكون باقيا إلى الأبد و ينتفع به المنفق، قال تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية:

110]، و هو مفروض العدم لفرض الكفر و عدم الإيمان.

و أما الأولاد، فلا يذكرون آباءهم في شدائد الدنيا فضلا عن أهوال العقبى:

يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى اَلنّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اَللّهِ شَدِيدٌ [سورة الحج، الآية:

2]، فلا منجى من تلك الأهوال و الشدائد إلا بالإيمان و العمل الصالح فقط، لانقطاع الإضافات في شدائد الدنيا، فضلا عن شدائد الآخرة التي لا تناهي لشدّتها و لا حدّ لمدّتها.

ص: 97

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ .

الوقود الحطب أو ما توقد به النار و تلتهب، و في التعبير بالوقود بالنسبة إلى الكفّار إشارة إلى أنهم بمنزلة المادة و الأصل لتعذيب سائر أهل النار، كما أن الوقود في هذا العالم يكون أصلا و مادة للإحراق و سائر الأشياء المستفادة من النار، كذلك الكفّار في تعذيب أهل النار، قال تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 98]، و قال تعالى:

وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [سورة الجن، الآية: 15].

قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

الدأب العادة المستمرة أو السير الدائم، قال تعالى: وَ سَخَّرَ لَكُمُ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ دائِبَيْنِ [سورة إبراهيم، الآية: 33]، و يطلق على الجدّ و الاجتهاد أيضا من باب الملازمة، قال تعالى محكيا عن تأويل يوسف لرؤيا الملك: تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً [سورة يوسف، 47].

و الآية المباركة مثال لكل جبّار عنيد، كذب بآيات اللّه تعالى بعد تمامية الحجّة عليه، فتشمل جميع الأقوام الذين كانوا في الدنيا و الذين سيأتون إليها إلى آخر فنائها.

و الذنب مؤخّر الشيء و استعمل في النصيب أيضا، قال تعالى: فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ [سورة الذاريات، الآية: 59]، و يطلق على كلّ فعل يستوخم عقباه، و لذلك يسمّى الذنب بتبعة، كما ورد في كثير من الدعوات لما يتبع الإنسان من عواقب الفعل، قال تعالى: فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأنفال، الآية: 54]، و قال تعالى: أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ [سورة الأعراف، الآية: 100].

و الذنب على أقسام كما يأتي ذكرها في الآيات المناسبة، و المراد به في المقام الذنب الذي يرفع الحجّة و يغلق باب التوبة، فلا تقوم الساعة إلا على شرار خلق

ص: 98

اللّه تعالى كما في الأحاديث.

و المعنى: أن الذين كفروا بدعوة النبيّ و أنكروا الشريعة دأبهم كدأب قوم فرعون مع موسى عليه السّلام، و دأب من قبلهم من الأمم، كذبوا بآيات اللّه و حججه فاستولت عليهم ذنوبهم فأهلكهم اللّه و نصر الرسل، و اللّه شديد العقاب بالنسبة إلى الكفّار أو الذين علموا بالحقّ الواقع و أنكروه.

قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ .

الخطاب متوجّه إلى سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، بل في الواقع متوجّه إلى كلّ نبي أو ولي من أولياء اللّه تعالى و أنبيائه الذين يستضعفون في الأرض بكلّ نحو من الأنحاء، و مع ذلك لهم قدم راسخ في إظهار الحقّ و إعلاء كلمته.

مادة (ح - ش - ر) تأتي بمعنى الجمع و السوق و حيث إن الجلاء عن المحلّ و الخروج عن المقر يستلزم الحركة، سمّي ذلك حشرا، و يقال ذلك في الجماعة غالبا، سواء كان الحشر في الدنيا كما في قوله تعالى: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي اَلْمَدائِنِ حاشِرِينَ [سورة الشعراء، الآية: 53]، و قال تعالى: وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ اَلْجِنِّ وَ اَلْإِنْسِ وَ اَلطَّيْرِ [سورة النمل، الآية: 17]، أم في الآخرة مثل قوله تعالى: وَ تَرَى اَلْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً [سورة الكهف، الآية: 47]، و اطلق (الحاشر) على سيد الأنبياء، و لعلّه لتنزيل هذا الفرد العظيم منزلة الجماعة، أو لأن الناس يحشرون خلفه، و على ملّته يسوق الناس إلى المحشر، فإنه آخر الأنبياء و أوّل فيض السماء، فيقوم على قدميه بين يدي اللّه جلّ جلاله و الناس مصطفون خلفه، فيسوقهم إلى موازين العدل و الحساب و تعيين الجزاء بالثواب و العقاب، و مادة (بأس) من المواد المستعملة في الذمّ بجميع هيئاتها، اسما و فعلا.

و المعنى: قل للكافرين من اليهود و غيرهم من الكفّار: إنكم ستغلبون و تقهرون في هذه الدنيا و تساقون في الآخرة إلى النار و بئس المهاد، لما مهدتموه لأنفسكم.

ص: 99

و في الآية بشارة إلهية للمسلمين بالغلبة الواقعيّة الحقيقيّة لهم و لأنبياء اللّه و أوليائه و المتّقين، و إن كان لأعدائهم الغلبة الاعتقاديّة الوهمية الزائلة، لاقتضاء الدنيا على الوهم و الخيال.

و وعد منه عزّ و جلّ بحفظ دينه من كيد الكفّار و شبه المعاندين و أضاليلهم، فيكون مضمونها مثل قوله تعالى: وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و غيرها من الآيات الكريمة التي تبشّر المؤمنين بالنصر و الغلبة، فتكون هذه الآية من المغيّبات القرآنيّة، و هي كثيرة.

و يصحّ أن يراد بالغلبة المعنى العام منها، الشامل للغلبة الخارجيّة في الدنيا و الآخرة، و الغلبة في الاحتجاج كما هو كذلك في الواقع، و الآية تشير إلى أمر طبيعي، و هو الصراع بين الحقّ و الباطل، و التي هي من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة، كما أشرنا إليه مرارا، و سيأتي في الموضع المناسب إقامة البرهان عليه.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين، فيكون معنى قوله تعالى: وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ الحشر إلى جهنم و الدخول فيه، سواء غلبوا أم لا، لأن حيثيّة الكفر تعليلية، لا يمكن تخلّف المعلول عنها، كما برهن في محلّه.

قوله تعالى: قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ اِلْتَقَتا .

تحذير للذين كفروا و إنذار لهم بعدم الإصرار على اللجاج و المعاندة، و عدم الاغترار بالعدد و العدّة. و دعوة للمؤمنين للاعتبار و التفكّر فيما منّ اللّه تعالى عليهم بالنصر و الغلبة و تأييدهم مع ما هم عليه من القلّة في العدد و العدّة، و تصرّفه في الأبصار و جعل الفئة القليلة كثيرة في أعين الأعداء، فكان ذلك شارقة من شوارق الأنوار الربوبيّة على أصحاب بدر و نصرتهم على الكفر و الجهالة، و بها تنفس صبح السعادة و انطوى بساط الشرك و الجهالة، فخرجوا منتصرين في هذه الواقعة قد رفعوا راية الإسلام و زعزعوا أركان الشرك و الطغيان، و قد شدّوا على العزائم و أذعنوا بالنهوض لطاعة الرسول القائد، فظفروا بالنجاح و النصرة.

و قد استشهد في هذه الواقعة بدور حزنت عليهم شمس الضحى، و ارتفع أنين

ص: 100

سيد الأنبياء على القليب بما يصدع القلوب:

«زمّلوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة و أوداجهم تشخب دما».

فما بدر إلا منبع النور و الصفا *** يضيء لأهل الأرض من أفق السما

مصارع عشاق تجلّت قلوبهم بحبّهم الرحمن حبّا متيما

و الخطاب متوجّه إلى الرسول الكريم لما هو رأس الامة و رئيسهم، فيشمل المؤمنين.

و الآية: الدلالة الواضحة. و الفئة: الجماعة الملفّقة مع غيرها لغرض من الأغراض. و الالتقاء: الاجتماع و التلاقي.

و الآية لم تذكر واقعة بدر بالاسم، و لكنها تشير إلى أمر معهود بين المؤمنين المخاطبين، فتنطبق على واقعة بدر، إذ لم يعهد أن يكون التصرّف في الأبصار في غيرها.

و غزوة بدر من أهم غزوات الرسول الكريم، و هي أوّل غزوة خرج المسلمون منها منتصرين.

و بدر: اسم ماء بين مكّة و المدينة، و قد وقعت في السابع عشر من شهر رمضان من العام الثاني للهجرة، و جيش المسلمين مؤلّف من ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، سبعة و سبعون منهم من المهاجرين، و صاحب رايتهم علي بن أبي طالب عليه السّلام، و مائتان و ستة و ثلاثون من الأنصار و صاحب رايتهم سعد بن عبادة، و كان في العسكر تسعون بعيرا و فرسان أحدهما للمقداد بن عمرو، و الآخر لمرثد بن أبي مرثد، و كان معهم ستّة دروع و ثمانية سيوف، و استشهد من المسلمين أربعة عشر رجلا ستة من المهاجرين و ثمانية من الأنصار، و الرعب يقدم جميع المسلمين، و كان نصر اللّه يرفرف فوق رؤوسهم، و النبيّ الأعظم هو السبب المتّصل بين الأرض و السماء، فكان النصر حليفهم و الغلبة أ ليفهم، و نزلت كلمة التوحيد من السماء و جعلها أهل بدر شعارهم و على أعلامهم.

و يرجى من المسلمين أن يجعلوا هذه الواقعة نصب أعينهم و يهتدوا على هديها و يكونوا من البدريّين.

ص: 101

قوله تعالى: فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ .

أي: انظر إلى تلك الفئة القليلة التي تقاتل في سبيل اللّه، و إلى الفئة الكافرة الكثيرة، و قد كتب للأولى - مع قلّتها - الغلبة، و على الثانية - على كثرتها - الذلّ و الهوان، و في ذلك عبرة لاولي البصائر و الأبصار بعدم الاغترار بالكثرة في الأموال و الأولاد، فإن ذلك ليس سبيل النصر و النجاح، بل اللّه ينصر من يشاء و لا يعجزه شيء.

قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ اَلْعَيْنِ .

أي: ترى الفئة الكافرة الفئة المؤمنة المرئية مثلي عددهم في العين و المشاهدة، لأجل إرعاب الكفّار و إعلان الغلبة. و هذا الأمر لا ريب فيه بالنسبة إلى قدرة اللّه تعالى، لإحاطته على البصائر، فكيف بالأبصار؟ مع أن تكثير العدد بالنسبة إلى رؤية العين أمر ممكن بحسب الأسباب الطبيعيّة، كما ثبت في علم المبصرات.

و يمكن أن يكون ذلك تصرّفا في الهواء المجاور للعين، بحيث ينعكس الواحد متعدّدا فيها.

و الآية الشريفة تبيّن تكثير المؤمنين في العين، و لكن الآية الاخرى في سورة الأنفال تبيّن تقليل المسلمين في أعين الأعداء، و هي قوله تعالى: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اَللّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ [الآية: 44].

و وجه الجمع بين الآيتين أن التكثير كان لغرض و التقليل كان لغرض آخر، و لعلّه كان التقليل لأجل اجتراء العدو على مقاتلة المسلمين، ثم تكثيرهم في أعين الكفّار و إحاطة المسلمين بهم، ليفوزوا بالنصر و الغلبة، و هذا من أحد أسرار الحروب، كما هو المعهود في العصر الحاضر، كما يمكن أن يكون التقليل و التكثير في زمانين متعدّدين، أو يكون في زمان واحد و لكن يقلّل بعضا و يكثّر بعضا آخر.

و ظاهر الآية الشريفة أن الضميرين في قوله تعالى: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ

ص: 102

يرجعان إلى الجملة السابقة، أي ترى الفئة الكافرة المسلمين ستمائة و ستة و عشرين، مثلي عددهم، و هو ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، كما مرّ.

و في مضاعفة العدد في رأي العين زيادة في الرعب و الهيبة في قلوب الكافرين، ليجنبوا عن قتال المسلمين - كما تقدّم - لاختلاف الموردين، و هذا الوجه أقرب بلحاظ الآيتين الشريفتين و أظهر.

و قد قيل في شأن الضميرين وجوه كثيرة اخرى، أهمّها:

اختلاف المرجع في الضميرين، فيرجع أحدهما إلى المؤمنين و الآخر إلى الفئة الكافرة، أي يرى المؤمنين مثلي عدد الكافرين. و لكنه بعيد عن ظاهر اللفظ.

و قيل: إن الضميرين يرجعان إلى الفئة الكافرة، أي يرى الكافرون أنفسهم مثلي عددهم، و هو تسعمائة و خمسون، فكان عددهم في رأي العين ألفين و ذلك ليوافق تقليل عدد المسلمين الوارد في الآية الاخرى، فيكون عددهم السدس في النسبة.

و يردّ عليه: أنه مخالف لظاهر الآية الشريفة و يوجب اللبس، و أن حقّ الكلام حينئذ أن يكون يرون أنفسهم مثليهم، و التطابق بين الآيتين الشريفتين حاصل، و لو لم نقل بهذا الوجه كما عرفت.

و قيل: إن معنى الآية الشريفة أن المسلمين كانوا يرون الكافرين مثليهم في الجمع لا في العدد.

و قال شيخنا البلاغي: «كانوا يرون جمع قريش مثليهم بحسب رؤية العين للجمع و صورة التجنّد، لا بحسب الإحراز للعدد و معرفة الكمية، و الحكمة في ذلك هي أن الاستقلال في العدد يوجب الوهن و الجبن، فيتساهلون عن حرب الكافرين استضعافا لهم. و لكن لم يروهم في أعدادهم و مقدارهم لئلاّ تهولهم كثرتهم فيحجموا عن مناجزتهم و يتخاذلوا عن حربهم، كما قال تعالى في صورة الأنفال: وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ اِلْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ .

و فيه: أنه بعيد عن سياق الآيتين الشريفتين بعد التأمّل فيهما.

ص: 103

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ .

الأيد و الأد: القوة. و هي إذا أضيفت إلى اللّه تعالى تكون غير متناهية و غير محدودة بحدّ من جميع الجهات، إلا إذا خصّصها اللّه تعالى بمورد خاص، لأنها تابعة للمصالح الحقيقيّة الواقعيّة، و في المقام ذكر عزّ و جلّ بعده النصر و الغلبة.

و قد أيّد اللّه تعالى المسلمين بالنصر و الغلبة، و هي قد تكون حسيّة ظاهريّة كما في غزوة بدر و غيرها، أو تكون في الحجّة و البرهان، فأيّد اللّه تعالى الإسلام بحجج متينة و مباني قوية، أصولا و فروعا، و إلى كلا الأمرين يشير

ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه».

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي اَلْأَبْصارِ .

العبرة: الموعظة، و الإبصار جمع البصر أو البصيرة، و الظاهر هو الأخير، أي البصيرة دون بصر العين فقط - كما يراه بعض - باعتبار أن الآية تتمة للآية السابقة التي كان التصرّف في رؤية العين. و ذلك بقرينة العبرة، فإنها من الاعتبار الذي يحصل في البصائر.

و إنما ذكر سبحانه البصر لأجل المبالغة، باعتبار أن العين هي التي تعتبر، و لأجل أن المورد يتضمّن التصرّف في رؤية البصر.

ص: 104

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: أن الأموال و الأولاد و كثرة العدد و العدّة التي يعدّها الإنسان في حياته، مسخّرة تحت إرادة اللّه عزّ و جلّ، و قد يصرفها على ضد ما يريده الإنسان، فيؤيّد اللّه تعالى الفئة القليلة فتغلب الفئة الكثيرة بإذنه عز و جلّ، ففي الآية الشريفة الموعظة البليغة للإنسان بعدم الاغترار بما عنده من الأسباب الظاهريّة، فلا بد من التوجّه إليه تعالى و استمداد العون منه عزّ و جلّ.

و هذه الآيات الشريفة ترشد الإنسان إلى التحفّظ على نفسه و شدّة الحيطة، لئلا يغفل عن اللّه تعالى و ينسى ذكر ربّه فيقع في المهالك، قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية:

19].

كما أنها تبيّن أنه لا بد من الارتباط مع عالم الغيب الذي نسبته إلى الإنسان كنسبة الروح إلى الجسد، فلا أثر لأحدهما بدون الآخر، و هذا الارتباط منه ما هو غير اختياري، و أن له التأثير التام و لا يحيط به إلا العليم العلاّم، و منه ما هو اختياري، و هو إما أن يكون التفاتيّا تفصيليّا، و هو مختصّ بأخصّ الخواص، و إما أن يكون إجماليّا و لجميع أفراد الإنسان، بل الحيوان له حظ من ذلك،

ففي الحديث:

«مهما أبهموا عن شيء لا يبهمون عن خالقهم و رازقهم و موضع سفادهم»، و لعلّ اللّه عزّ و جلّ بفضل العلوم الحديثة يكشف عن بعض أسرار هذا الارتباط.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ ، على أن الكفر و الباطل ممحوق لا محالة، و أن الحقّ لا يمكن الغلبة عليه و إزالته، و بمضمون ذلك آيات اخرى، قال تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قال

ص: 105

تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة النور، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و يمكن أن يجعل غلبة الحقّ على الباطل من السير الاستكمالي للطبيعة الإنسانيّة، كما أشرنا إليه في عدّة مواضع من هذا التفسير.

الثالث: الآية الشريفة تتضمّن الوعد بالغلبة و الفوز بالنجاح للمؤمنين، و هو من المغيّبات القرآنية التي هي كثيرة في القرآن الكريم.

الرابع: صريح الآية الشريفة عدم شمول الشفاعة للكافرين، و أنهم في جهنم خالدون، و قد تقدّم في سورة البقرة البحث في الشفاعة و موارد ثبوتها فراجع.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: فِي سَبِيلِ اَللّهِ على العلّة في غلبة الفئة القليلة على الفئة الكثيرة، فإنه كلّما خلصت النية و كانت الغاية سبيل اللّه تعالى، كان التأييد من اللّه تعالى أكثر، و أن المؤمن أشدّ ثباتا في سبيله تعالى و أكثر عزيمة، و هو من أهمّ أسباب الظفر و الغلبة و النجاح.

السادس: يدلّ قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ على العلّة في استحقاق الإنسان للعقاب في الآخرة، و هي أن المعاصي إذا صارت عادة للإنسان بحيث لا يضمر إلا الذنب و المعصية مهما طال به العمر، استحق العقاب الدائم.

و فيه ردّ على من زعم أن عمر الإنسان محدود في الدنيا، فلا وجه لاستحقاق العاصي العذاب الدائم و خلوده في النار، فهو إنما يستحق لأجل إضماره المعصية و الذنب مهما طال به العمر، بحيث صار عادة له.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ اَللّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اَللّهُ شَدِيدُ اَلْعِقابِ ، أن أخذ اللّه تعالى للعاصين و عقابهم لا يكون من طرف خاص، كالفوق أو التحت أو نحوهما، كما في الشرور المتوجّهة إلى الإنسان، بل أخذه تعالى من جميع الجهات و الخصوصيات، فلا تنفعه الأموال و الأولاد و العزّة و الملك.

الثامن: إنما قدّم سبحانه و تعالى الأموال على الأولاد، لكون حبّ المال عند الإنسان آكد و أقدم من حبّ الولد، و إن كان حبّ الولد قد يغلب على حبّ المال، قال تعالى: وَ اِعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة الأنفال، الآية: 28]،

ص: 106

و قال علي عليه السّلام: «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب»، فالمال في نظر الإنسان هو السبب المهمّ في حياته، و به يستوفي حاجاته و يشبع رغباته، و قد تصل به الحالة إلى الركون إلى الأموال و الأولاد، و تشغله عن ذكر ربّه، فينساه و به هلاكه، لأنه يغفل عن نفسه أنه تحت إرادته عزّ و جلّ.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ، على أن العادات السيئة التي يغفل عنها الإنسان لها الأثر الكبير في زيغه و ضلاله و عذابه، و ما أرسل اللّه الرسل و الأنبياء إلا لإرشاد الناس إلى الصراط المستقيم، و نبذ ما يكون سببا في ضلالهم و غوايتهم، و هذه الآية واحدة من الآيات الكثيرة التي ترشد الإنسان إلى هذا الأمر الخطير، و تبيّن شدّة تأثير هذا الأمر الاجتماعي، بحيث يسلب عقل لإنسان و يسيطر على حواسه و مشاعره و يوصله إلى طريق مسدود، و لا يختصّ مضمون الآية الشريفة بآل فرعون و الذين خلوا من قبلهم، بل يجري في جميع أفراد الإنسان.

العاشر: إنما أضاف سبحانه الأخذ و شدّة العقاب إلى ذاته الأقدس، لأنه تعالى مصدر الجزاء ثوابا و عقابا، كما أنه مصدر التشريع إيجابا و تحريما، فهو المهيمن على الجميع، و يكون ثوابه و عقابه موافقين للحكمة التامّة البالغة.

الحادي عشر: ظاهر قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ ، أنهم من أوّل حدوثهم في الدنيا وقود النار إلا أن خصوصية العوالم حجبت أعيننا عن رؤية ذلك في الدنيا، فأي وقود ناري أشدّ و أغلظ من التربية في الكفر و الفسوق و العصيان.

الثاني عشر: إنما ذكر سبحانه و تعالى فرعون و الذين من قبلهم دون من بعده، ليتفأل أهل التوراة و الإنجيل و القرآن بانقطاع الفرعونيّة و الفراعنة و هلاك فرعون موسى و هارون.

الثالث عشر: إنما ذكر سبحانه و تعالى سبيل اللّه في جهاد المؤمنين، و لم يذكر في المقابل سبيل الشيطان أو سبيل الطاغوت - كما في آيات اخرى - لبيان العلّة في غلبة الفئة المؤمنة، و إنها الإيمان باللّه، و كون الجهاد في سبيله، و لبيان العلّة في انهزام الفئة الاخرى، و هي الكفر به عزّ و جلّ، فكانت المقابلة بين العلّتين دون السبيلين ليذكر السبيل الآخر.

ص: 107

بحث أدبي:

مقتضى الاستعمالات المتعارفة الأخذ بعموم اللفظ و إطلاقه، ما لم تكن قرينة معتبرة على الخلاف، و أن زمان صدور الكلام و مكانه و الأمور العامّة المحفوفة بالكلام لا تصير مقيّدة و مخصّصة للإطلاق أو العموم، و على ذلك جرت سيرة الإفادة و الاستفادة بين الناس في كلّ كلام يصدر من كلّ متكلّم لكلّ مخاطب.

و طريقة (القرآن) لم تخرج عن طريقة العرف، فقد وافقتها في جميع ذلك، لأن آيات القرآن الكريم كلّيات واقعيّة حقيقيّة، و مطابقتها لزمان خاص أو مكان مخصوص من باب الانطباق لا التقييد الحقيقي، فما ذكره المفسّرون في شأن نزول هذه الآية الكريمة انطباقي قهري، لا أن يكون تحديدا لمعناها بوجه من الوجوه، فالآية الشريفة تشمل جميع ما يصحّ انطباقها عليه، من أول نزولها إلى آخر الدنيا، انطباقا حقيقيّا واقعيّا، كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة.

بحث روائي:

في تفسير القمّي في قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ ، أنها نزلت بعد بدر لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من بدر أتى بني قينقاع و هو يناديهم، و كان بها سوق يسمّى سوق النبط، فأتاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا معشر اليهود، قد علمتم ما نزل بقريش و هم أكثر عددا و سلاحا و كراعا منكم، فادخلوا في الإسلام، فقالوا: يا محمد، إنك تحسب حربنا مثل حرب قومك؟ و اللّه لو لقيتنا للقيت رجالا، فنزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ .

أقول: روي قريبا منه في المجمع، و في الدر المنثور عن ابن إسحاق و ابن ير، و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس.

ص: 108

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِض.......

اشارة

زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ (14) قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ (16) اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) الآيات الشريفة تبيّن حقيقة الدنيا و الآخرة، و أن الاولى محفوفة بحبّ الشهوات و ما يوجب الضلال و الخروج عن الصراط المستقيم، و أن رغائب النفوس و دوافع الغريزة هي التي تشغل الناس عن التبصّر و الاعتبار و التوجّه إليه سبحانه و تعالى، و تحجبهم عن منابع النور و الحكمة، كما تحرمهم عن نعيم الآخرة.

و قد عدّ سبحانه و تعالى في الآية الاولى اصول الشهوات المنسوبة إلى نفس الإنسان و أنها التي توجب الزيغ و الضلال، و أن قلوب الناس ملئت حبّها و جعلت مشغوفة بها، و هي الستة - النساء، و البنون، و الأموال، و الخيل، و الأرض المخصبة، و الأنعام - التي تتدخل في سلوك الإنسان في الدنيا و تعيّن مستقبله في العقبي، فهي قضايا حقيقيّة تصدقها العقول، فتكون الآية الشريفة بمنزلة الشرح لحقيقة حال من يعتقد أن الاستغناء إنما يكون بالتلذّذ بالنساء و الأولاد و الأموال و ما وهبه اللّه تعالى، فأعرضوا عنه عزّ و جلّ، لأنهما كهم في المشتهيات و حبّ الدنيا، و بيّن عزّ و جلّ أن ما في الدنيا من جميع المشتهيات هي متاع زائل لا قرار له.

و في الآية التالية ذكر سبحانه و تعالى نعم الآخرة و لذائذها، و هي جنّات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها و أزواج مطهّرة، و أهمّها رضوان من اللّه، و قد بيّن عزّ و جلّ ما يوجب الاستمتاع به و الدخول في رضوانه جلّ شأنه و الوسيلة

ص: 109

لكسب السعادة في العقبى، كما بيّن الطريق الذي لا بد من سلوكه ليوصلنا إليه عزّ و جلّ، و هو الإيمان به تعالى و اللجوء إليه و الصبر و الإنفاق و التوبة و الإنابة، ثم الصدق في جميع ذلك و الخضوع لديه عزّ و جلّ.

التفسير

قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ .

مادة (زين) من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات شتّى، قال تعالى: وَ زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِمَصابِيحَ [سورة فصلت، الآية: 12]، و قال تعالى:

حَتّى إِذا أَخَذَتِ اَلْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ اِزَّيَّنَتْ [سورة يونس، الآية: 24]، و قال تعالى: فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ [سورة القصص، الآية: 79]، و في حديث الاستسقاء: «اللهم أنزل علينا في أرضنا زينتها»، أي نباتها الذي يزيّنها.

و الزينة من الأمور الإضافية المختلفة بحسب اختلاف العادات و الأعصار و الأمصار، و أنها من الجماليّات التي يكون حسنها ممدوح و جذاب للنفوس، بل إن بعض مراتبها ممّا يدرك بالحسّ، و لا يمكن وصفها باللفظ، و الزينة الحقيقيّة هي ما لا يشين الإنسان في شيء من أحواله، لا في الدنيا و لا في الآخرة، و غيرها ممّا يوجب الشين في حالة دون اخرى، فهي زينة بالوجه و الاعتبار، و ليست هي حقيقيّة على الإطلاق.

و الزينة على أقسام ثلاثة: زينة نفسانيّة، كالعلم و الاعتقادات الحسنة و الكمالات النفسانية المقرّرة في الشريعة، و زينة بدنيّة جسمانيّة، كالشمائل الظاهريّة الحسنة،

قال علي عليه السّلام: «زينة المرء حسن أدبه، و جمال الرجال في عقولهم، و عقول النساء في جمالهن»، و زينة خارجيّة كالمال و البنين و الاعتبار. و قد ذكر تعالى جميع ذلك في مواضع من القرآن الكريم.

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].

ص: 110

فتارة: نسبها إلى نفسه عزّ و جلّ، قال تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ اَلْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 7]، و قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ [سورة الأعراف، الآية: 32].

و اخرى: إلى الشيطان، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 43].

و ثالثة: لم يسم فاعلها - كما في المقام - و الوجه في ذلك أن اللّه تعالى خلق الدنيا و ما عليها وسيلة إلى نيل الكمال و الوصول إلى غاية حميدة، و هي الدار الآخرة، فكانت الدنيا متاعا و دار مقام ينزل إليها الإنسان في برهة من الزمن، ليتزوّد منها إلى سفر آخر طويل، فكلّما كان الزاد أحسن و أبقى، كان العيش في الآخرة أهنأ و أحسن، و قد خلق اللّه تعالى الدنيا زينة ليرغّب إليها الإنسان، و تكون وسيلة للتزوّد منها و يتوسّل بها إلى الدخول في رضوان اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً * وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 7، 8] و إلى ذلك يشير كلّ ما ورد من الآيات التي تنسب الزينة إليه تعالى.

و أما إذا جعل الإنسان الدنيا و ما عليها من الزينة محط نظره، و اعتبرها أمرا مستقلا و جعلها هي الغاية من دون أن تكون وسيلة و ذريعة إلى الدخول في رضوانه تعالى، و أحبّها حتّى وصل بهم الأمر إلى أنهم جعلوا ما في الدنيا من الأموال و الأولاد تغني عنهم، فزيّنت لهم أعمالهم، فكانت الدنيا وبالا عليهم، فتكون الزينة مستندة إلى الشيطان أو إلى نفس الإنسان، و إن كانت الدنيا مخلوقة للّه تعالى، و قد أذن للإنسان أن يتمتّع بها، ليتمّ النظام، و لكن لم يزين الدنيا لتلهّي الإنسان بها و يعرض عن ذكره عزّ و جلّ، فإن اللّه تعالى أعزّ و أمنع من أن يدبر خلقه بما لا غاية له، أو يوصل الإنسان إلى غاية فاسدة، فالتعبير بالمجهول في (زين) للتنبيه على ما تقدّم كما سيأتي.

و تقدّم معنى الحبّ في آية 165 من سورة البقرة.

و مادة (شهوة) تأتي بمعنى نزوع النفس إلى ما تريده. و هي إما صادقة، أي

ص: 111

ما يقوم بها البدن و لا تتم الحياة البشرية إلا بها، و تكون من أتمّ ما بني عليه النظام الأحسن، بحيث لو اختلّت لبطل النظام و تعطلت امور الأنام، فإنها من سنن الحياة المستلذة بها. و إما كاذبة، و هي الشهوة المذمومة، أي الإغواء أو الدافع الشيطاني، و إنها مستقذرة حذّرت الأديان الإلهيّة منها، و جعلتها محور الانحرافات و الأخلاق الذميمة، سواء كانت خفيّة، أي الصفات الذميمة و الأخلاق السيئة التي يضمرها صاحبها و يصرّ عليها،

كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ان أخوف ما أخاف عليكم الرياء و الشهوة الخفيّة»، أم كانت ظاهريّة، و هي ما كانت ظاهرة من العمل.

و الشهوات: جمع شهوة، و هي توقان النفس للملائم أو الملذ لها، و هي من أهمّ القوى التي خلقها اللّه تعالى في الحيوان، و لو لولاها لما قام له أصل و لا بنيان.

و سياق الآية المباركة يدلّ على أن فاعل التزيين هو الشيطان أو النفس، لأنّ حبّ الشهوات مذموم، و يشتدّ الذم كلّما اشتدّ الحبّ، و يخف كلّما خف حتّى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة في الإنسان و الحيوان، فتزول المذمّة رأسا، بل يكون ممدوحا و يكون خلافه نقصا و مذموما، و على ذلك يحمل

ما ورد عن سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب و النساء، و قرّة عيني الصلاة»، و سيأتي وجه آخر لحمل كلامه.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة في مقام بيان طبيعة الإنسان و ما يتدخّل في سلوكه، فإذا وفّق بين الحبّ و الطبيعة، بحيث يتحكّم العقل بالتوفيق بينهما، كانت النتيجة فاضلة و الأثر عظيما، و يكون حبّا ممدوحا، و هو الذي يشاؤه اللّه و يريده و يرتضيه، و لا ريب في أنه ممدوح عقلا أيضا، فيكون تزيين اللّه تعالى هو إذنه و بيان حدوده، فقد زين حبّ المذكورات في الآية الشريفة المتقدّمة وفق الحكمة المتعالية ليكون وسيلة لتنظيم النظام و بقاء النوع و حسن الاجتماع، و أما إذا ألهى القلب عن التوجّه إلى اللّه تعالى و أوجب الغفلة عنه عزّ و جلّ، فهو من تزيين الشيطان و وساوسه، و هو مذموم عقلا أيضا.

ص: 112

قوله تعالى: مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ .

ذكر سبحانه و تعالى أمورا ستة من المشتهيات، و هي الأمور التي تتدخّل في شؤون الإنسان و سلوكه و تحدّد مصيره.

و (من) بيانيّة، و البنين جمع ابن، و هو الذكر من الأولاد، و لكن في المقام يشمل الذكور و الإناث، بقرينة قوله تعالى: إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ [سورة التغابن، الآية: 15]، و قوله تعالى: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سورة سبأ، الآية: 37]، و قوله تعالى: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [سورة الممتحنة، الآية: 3]، و إنما أتى عزّ و جلّ بصيغة الذكور إما تغليبا، أو يكون كناية عن حبّهم المذموم الذي كان دائرا بينهم.

و إنما زين حبّ البنين مع كونه من حبّ النساء أيضا، لأن البنين هم الغاية القصوى من حبّ النساء، و هم النتيجة لذلك الحبّ.

و القناطير: جمع القنطار، و هو المال الكثير، و في بعض الأخبار ملأ مسك ذهبا، و قيل: ملأ جلد ثور ذهبا، و قيل غير ذلك، و هو اسم لمعيار خاص أيضا، و سمّي المال بالقنطار، لأن صاحبه يعبر بواسطته الحياة الدنيا، و يختلف ذلك اختلافا كثيرا بحسب الأشخاص و الأزمنة و الأمكنة و غيرها، كالغنى الذي لا يمكن تحديده بحدّ خاص، و من حدّدهما إنما يحدّدهما بحسب الجهات الخارجيّة، لا بحسب ذاتهما.

و المقنطرة اسم مفعول جيء به للتثبيت و التوكيد، كما هو عادة العرب في توصيف الشيء بما يشتق منه للمبالغة و تثبيت معناه له. و هذا التعبير مشعر بالكثرة و الاقتناء.

و تعداد المشتهيات باعتبار كون الإنسان ذا أصناف، فإن بعضا منه يتعلّق حبّه بالنساء، و بعضا آخر يتعلّق بجمع المال و تخزينه، و ثالثا بالأولاد البنين منهم بالخصوص، و رابعا بالأنعام و الحرث. و ربما يجتمع في فرد أكثر من واحد من تلك

ص: 113

المشتهيات، فإن الشهوة ذات مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا بالنسبة إلى شخص واحد في حالات مختلفة، فضلا عن الأشخاص.

فالآية المباركة تبيّن طبع الإنسان على نحو القضية الحقيقيّة، كما أنها ليست في مقام حصر الشهوات، فقد يتعلّق حبّ الإنسان بالجاه و المقام و نحو ذلك، و إن كانت المشتهيات الاخرى - التي لم تذكر في الآية الشريفة - أقلّ تأثيرا ممّا ذكر فيها، فهي امور وهمية تتعلّق بها الرغبة و مقصودة ثانوية، فيكون الحصر إضافيا، فلا منافاة بين هذه الآية الشريفة و بين قوله تعالى: اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا [سورة الكهف، الآية: 46]، و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلّق به.

و تعلّق حبّ الإنسان بهذه الثلاثة واضح، لأن بها ينتظم النظام الاجتماعي في هذه الدنيا، بل النظام الفردي و الاقتصادي فيها، و بها تتحقّق أغلب رغباته، و بقدر اشتداد هذه المشتهيات و ضعفها يتحدّد سلوك الإنسان و يتعيّن خلقه في الدنيا و مصيره في الآخرة، فإن بالنساء تتحقّق المعاشرة الزوجية إليهن و تسكن النفوس، و هن الطرف الآخر من الحياة التي عليهن مسئوليات كثيرة في الكفاح و العيش، فالمرأة و الرجل متشابكان في عموم المنافع و انتظام النظام، و لأجل ذلك أسّس العلماء قاعدة اصطلحوا عليها بقاعدة الاشتراك، أي اشتراك النساء مع الرجال في الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، و قد حدّد الشرع المقدّس هذه الشهوة بحدود خاصّة تحدّد مسئولية كلّ واحد منهما في هذه الحياة و تنظم شؤونهما، و التعدّي عنها يوجب الفساد و الدمار.

و إنما لم يذكر عزّ و جلّ حبّ النساء للرجال - مع أن الناس في صدر الآية الشريفة يشمل كلا منهما، كما أن بقية الشهوات عامة لهما - إما لأن من أدب القرآن الكريم و السنّة الشريفة الستر على النساء مهما أمكن، أو لأجل أن كثيرا من الأمور التي تتعلّق بهذه الشهوة إنما يتعلّق بالرجال و تقلّ في جانب النساء، فإن الأشد و لعا بحبّ النساء و اتخاذهن صواحب في اللذائذ و نحو ذلك هم الرجال، كما أنهن أشد تأثيرا على الرجال، إذا اشتد الغرام و التعشّق بهن.

ص: 114

قوله تعالى: وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ .

المسومة: إما بمعنى الراعية من سامت الإبل سوما إذا ذهبت لترعى، أو بمعنى المعلّمة لتعرف من غيرها من السمة بمعنى العلامة، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله يوم بدر: «سوموا فإن الملائكة قد سومت»، أي اعملوا لكم علامة يعرف بها بعضكم بعضا، و هي تلك الخيل التي يقتنيها الأغنياء و غيرهم للافتخار و التباهي، مضافا إلى كونها ممّا يبذل بإزائها المال الكثير.

و الأنعام و هي الإبل و البقر و الغنم، و إنها أموال أهل القرى و البادية، و منها يكون معاشهم و ثروتهم.

و الحرث اسم لكلّ ما يحرث، أي المغروس و المزروع، فيشمل نفس الزرع و تربيته، فيكون فيه معنى الكسب. و الحاجة إليه أشدّ من غيره، و حبّه لا يكون ضارا بأمور الآخرة، و لذلك أخّره عن الأنواع السابقة، و بذلك تتمّ جميع ما يزين أصناف الناس، فقد ذكر سبحانه الأنواع التي توجب الافتنان بكلّ صنف، فالذهب و الفضة لأهل التجارة و الخيل للملوك و أهل الجاه و المقام، و الأنعام لأهل البادية، و الحرث لأهل القرى و الأرياف، فتصلح الآية الشريفة لكلّ عصر و مصر من دون اختصاصها بصنف خاص و مورد كذلك.

قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

المتاع اسم لكلّ ما يتمتّع به، و يعبّر عنه لكلّ ما هو في معرض الزوال و الاندثار، و التعبير به للتزهيد في الدنيا و الترغيب للآخرة، التي هي دار البقاء و الحيوان، أي: ما ذكر من المشتهيات هي امور يتمتّع بها في هذه الدنيا الفانية التي يتزوّد منها برهة من الزمن، يقضي بها حوائجه من دون أن تكون باقية دائمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ .

المآب: المرجع، و حسن المآب هو المرجع الذي لا فناء فيه و لا عناء و المنزّه عن كلّ نقص و عيب، فلا يشغل المتاع الزائل في الدنيا عن الخير الآجل و المطلق في العقبى.

ص: 115

و في الآية المباركة كمال الترغيب إلى الاخرة، و تحقير الدنيا و التقليل من شأنها.

قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ .

تفصيل لما أجمل سابقا، و بيان لقوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، فقد أمر سبحانه و تعالى نبيّه ببشارة المتّقين، بأن لهم عند اللّه تعالى ما هو أعظم من هذه المشتهيات الزائلة المحدودة، التي لا تبقى و لا تدوم، و هو الخير للإنسان، فلا خير في ما سواه، و هو و إن كان مشابها لما في هذه الدنيا و مجانسا للشهوات الإنسانية، و لكنها أجل النعم و أعظمها، و هو خال عن النقص و بريء عن القبح و الشرور، و قد ذكر سبحانه ذلك في كلام بليغ تتوجّه إليه النفوس و تهتزّ من فرح اللقاء الأرواح و القلوب. و فيه جذبة ربوبيّة من الملكوت الأعلى للمتّقين المسجونين في سجن الدنيا، و قد وعدهم الجنّة و مطهرات الأزواج و الرضوان.

و من إطلاق الخير يستفاد أنه خير في ذاته و من جميع شؤونه و جهاته.

و إنما أتى سبحانه بالكلام على صورة الاستفهام، لتوجيه النفوس إلى الجواب و تشويقهم إلى العمل، و هو أسلوب فصيح يؤثّر في النفس و يستفزّها على إصغاء الجواب.

قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ .

جملة (للذين اتقوا) خبر مقدّم، و جملة: (جنات تجري) مبتدأ مؤخّر. و التقوى هي إتيان الواجبات الشرعية و اجتناب المحرمات الإلهيّة، و هي المراد بالعمل الصالح الذي كثر الاهتمام به في القرآن الكريم، كما أنها الورع الذي حثّت عليه السنّة المقدّسة بألسنة شتّى،

فقد ورد: «أن من اجتنب محارم اللّه فهو من أورع الناس»، و هي أساس الكمالات و قرّة عين الأنبياء و المرسلين، و هي السبب المتّصل بين أهل الأرض و السماء، و بها ينتظم نظام الدنيا و العقبى.

و لفظ الجنّات يدلّ على كثرة الأشجار و استتار الأرض بها و تعدّدها

ص: 116

و جريان الأنهار من تحت الأشجار إنما هو لأجل تماميّة بهجة الجنّات و ازدياد رونقها، و كون الجنّات كذلك من أجلى مظاهر الفرح و الانبساط، لا سيما إذا استيقن الإنسان بدوام تلك النعمة، و لذا عقّبها بقوله تعالى: خالِدِينَ فِيها ، لتماميّة النعمة، بخلاف نعيم الدنيا.

و لجريان الأنهار أنواع كثيرة: منها ما إذا كان منبع الأنهار من غير تحت الأشجار، و منها ما إذا كان المنبع من تحتها، و منها ما إذا كان نزول الماء من الفوق في الأنهار ثم الجريان منها صاعدا (على نحو الفوارة) بالقدرة الأزلية الخلاّقة إلى غير ذلك، و بالجملة أن هذه الجنّات تشتمل على جميع اللذائذ بأعلى مراتبها.

و الأزواج المطهّرة هي تلك الأزواج التي يرغب إليها الإنسان، التي تكون طاهرة من جميع الرذائل و مبرّأة من كلّ عيب و ذم و نقصان، خلقا و خلقا بما يلائم طبع الإنسان، فهي في غاية الملاحة و البشاشة و السرور، و في ذلك تمام النعمة.

و قد خصّ اللّه تعالى الأزواج بالذكر من بين سائر اللذائذ الجسمانيّة، لأن النساء أعظم المشتهيات النفسانيّة، و الوقاع من أشدّ اللذائذ عند الإنسان.

قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ .

الرضوان بكسر الراء أو ضمها من الرضا مصدران، و هو ملائمة الشيء لنفس صاحبه و سرورها به.

و قد تكرّرت مادة (رضى) في القرآن الكريم بهيئات شتّى تبلغ سبعين موردا، و قد ينسب الرضا إلى اللّه عزّ و جلّ و يراد به عناية خاصة غير محدودة بأي حدّ من النعم المعنويّة، بلا فرق بين أن يكون رضاؤه تعالى بالنسبة إلى أفعال العباد و طاعتهم له عزّ و جلّ، أو صفاتهم و أحوالهم، أو بالنسبة إلى أمر آخر يتعلّق بهم، قال تعالى: رَضِيَ اَللّهُ عَنِ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الفتح، الآية: 18]، و قال تعالى:

وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3]، و قال تعالى:

وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ [سورة الزمر، الآية: 7].

و قد ينسب إلى العبد، و هو آخر مقامات العبوديّة الخالصة الذي هو التخلّق

ص: 117

بأخلاق اللّه تعالى، و التفاني في حبّه، و لذلك درجات كثيرة، منها رضاء العبد عن اللّه تعالى لجزائه الحسنى و حكمه، قال تعالى: وَ اَلسّابِقُونَ اَلْأَوَّلُونَ مِنَ اَلْمُهاجِرِينَ وَ اَلْأَنْصارِ وَ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة التوبة، الآية: 100].

و رضوان اللّه تعالى هي الغاية القصوى لكلّ ذي لب، و هي أعلى مراتب اللذائذ الروحانيّة، و ذكره بالخصوص إنما هو لأجل بيان أن الرضا هو أقصى ما يشتهيه الإنسان من مشتهيات الدنيا، بل هو الغاية منها، فلا بد من السعي إلى رضوان اللّه تعالى الذي هو من أعظم اللذائذ عند المتّقين و ذوي الألباب، فهو الخير الذي لا يتصوّر أعظم منه، لا ما يتصوّره الإنسان من الخير في المال و القناطير، فإن ذلك إنما يكون برضائه تعالى، و لذلك اعتنى عزّ و جلّ به و أفرده بالذكر في مقابل الجنّات و الأزواج المطهّرة في هذه الآية و في سائر الآيات التي اقترن بغيره من اللذائذ، قال تعالى: فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2]، و قال تعالى: يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 21]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].

و قد جمع سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة اللذائذ الجسمانية في الآخرة، و هي الجنّات و الأزواج المطهّرة، و اللذّة المعنويّة الروحانيّة، و هي: الرضوان الذي لا يحدّه حدّ و لا يشوبه نقص.

و يستفاد من الآية الشريفة اختلاف درجات المتّقين في الآخرة، و أن لأهلها مراتب و طبقات، فمنهم من لا يليق به إلا اللذائذ الجسمانيّة، كالجنّات و الأزواج المطهّرة، و منهم من عظمت منزلته و ارتقى إدراكه و علا قربه، فلا يليق به إلا رضوان اللّه تعالى.

ص: 118

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ .

أي: و اللّه خبير بعباده عليم بأفعالهم و ما تطويه ضمائرهم، فلا تخفى عليه خفاياهم و أمورهم، فيجازي كلّ فرد بما يكسبه و ما يليق بأفعاله.

و يستفاد من الآية الشريفة أن امتياز كلّ فرد من أفراد الإنسان بما يشتهيه الداخل في عواطفه و سلوكه في حياته الدنيويّة و الاخرويّة تحت إرادة اللّه تعالى و حكمته البالغة، و هو عالم بمصالحهم و جزائهم لا تخفى عليه أمورهم، فهذه الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع ما سبق ذكره.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ .

بيان لصفات المتّقين المدلول عليهم بقوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، و هي من الصفات الحميدة، و فيه إشارة إلى بعض صفات المحبّين المخلصين، و بعض مقامات العارفين، كلّ ذلك في خطاب بليغ إلى أعزّ حبيبه و أطهر قلب من الشرك و أنواع العيب، و فيه تظهر المعبوديّة المحضة للمعبود الحقيقي، كما أن فيه وعد الاستجابة للطائعين و العابدين.

و القول: مطلق ما يشعر بالحكاية عمّا في الضمير، بخلاف الكلام فإنه أعمّ من القول، فكلّ كلام قول و لا عكس، و المراد به في المقام مطابقة ضمائرهم مع ما يقولون بألسنتهم، و سياق الآية الشريفة شاهد لما قلناه.

و مادة (غفر) تأتي بمعنى إزالة الوسخ و الدنس، يقال: «اغفر ثوبك في الوعاء ليذهب عنه وسخه». و هي من الموارد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة جدا، و قد أضافها اللّه تعالى إلى نفسه الأقدس في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فهو الغفّار و الغفور، و أن منه المغفرة، قال عزّ و جلّ: وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ [سورة الرعد، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ [سورة هود، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران،

ص: 119

الآية: 35]، و قال تعالى: إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [سورة يوسف، الآية: 98].

و مادة (ذنب) تأتي بمعنى التبعة، أي القبح الذي يتبع صاحبه، و الفرق بينه و بين الجرم بالاعتبار، لأنه بمعنى القطع، أي يقطع ارتباط صاحبه باللّه تعالى، فكلّ مجرم مذنب و كذا العكس.

و الآية المباركة في مقام بيان استنجاز الوعد بعد الإيمان باللّه تعالى و لذا فرع غفران الذنوب على الإيمان، يعني: أننا و فينا بما عهد إلينا و هو الإيمان، فانجز اللهم بوعدك بستر ذنوبنا بعفوك و خلاصنا من عذابك. و عهد اللّه تعالى هذا مذكور في جملة من الآيات صريحا و ضمنا، منها قوله تعالى: وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ [سورة الأحقاف، الآية: 31]، و قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: 53]، و قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ [سورة الصف، الآية: 9-12].

و معنى الآية الشريفة: الذين يؤمنون و يعترفون بحقيقة العبوديّة للّه تعالى و الإيمان به عزّ و جلّ، و يجعلون ذلك وسيلة لطلب غفران الذنوب و نجاتهم من عذاب النار، لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

و الآية المباركة ليست في مقام المنّة عليه عزّ و جلّ، بل له تعالى المنّة على عباده أن هداهم إلى الإيمان.

و إنما خصّوا اسم الربّ في دعائهم لما فيه من إظهار العبوديّة و الاسترحام.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الكبيرة و الصغيرة، و قد قرّر عزّ و جلّ إيمانهم مع ذلك، فتكون الآية الشريفة حجّة على من قال بأن ارتكاب الكبيرة لا يجتمع مع الإيمان.

نعم، لو أراد أنه حين الارتكاب يزول إيمانه العملي بخصوص ما ارتكبه، كما

ص: 120

هو المستفاد من

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يزني الزاني و هو مؤمن»، فله وجه، لكنّه لا ينافي بقاء أصل الإيمان بنحو الجملة و الإجمال.

و الوقاية من عذاب النار و النجاة منها أعمّ من المغفرة و الدخول في الجنّة، و إنما طلبوا النجاة من عذاب النار لأنها الوسيلة للوصول إلى الجنّة و مقدّمة له.

قوله تعالى: اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ .

الصابر هو الحابس نفسه عن ارتكاب المعاصي و الملازم لامتثال الأوامر، و الصادق المخبر بالشيء على ما هو عليه، و القانت المطيع، و القنوت لزوم الطاعة مع الخضوع، و قد فسّر بكلّ واحد منهما أيضا، و لكن إذا استعمل في الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين يراد به هما معا، قال تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 120]، و الإنفاق هو بذل ما هو راجح بذله، فيشمل المال و الجاه و العلم و قضاء حوائج الناس، و الأسحار جمع سحر، و هذه المادة في أية هيئة استعملت تفيد معنى الخفاء و الإخفاء. و في المقام عبارة عن اختلاط ظلام آخر الليل بضياء الفجر، و هو اسم لذلك الوقت، و هو أفضل الأوقات و أشرفها و أحسنها للعبادة، و أطيبها لحضور القلب و الإقبال على الدعاء و المناجاة مع الربّ، و أبعدها عن مداخلة الرياء، و كلّما قيل في مدحه و فضله فهو قليل، فكم للّه تعالى فيه من نفحة عطرة منّ بها على من يشاء و جائزة موفرة يخصّ بها من أخلص في الدعاء، و كم من عبادة فيها هبّت عليها نسمات القبول، و دعوة من ذي طلبة مشفوعة بالمأمول، فهو وقت العلماء العاملين و العرفاء المتعبّدين، و هو وقت نجوى الحبيب مع الحبيب، بلا تخلل مغاير أو رقيب، فالسعيد من أدرك هذا الوقت الشريف و استفاد من رحمة الربّ اللطيف.

و هذا الوقت من آخره معلوم، و هو اختلاط ظلام الليل بضياء النهار، و أما من أوّله، فعن جمع هو السدس الأخير من الليل، و عن آخرين أنه الثلث الأخير منه، و عن آخر أنه الثمن، و الكلّ صحيح بحسب مراتب الفضل، و قد تعرّضنا لبعض

ص: 121

الكلام فيه في كتابنا [مهذب الأحكام] فراجع.

و الآية المباركة تشتمل على خمس خصال وصف بها المتّقون، و هي أمهات الصفات الحسنة و الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، فبالصبر ينال الإنسان أعلى المقامات و يتحلّى بمحاسن الأخلاق، و بدونه لا يمكن أن يصل إلى درجة التقوى، و لذا قدّمه سبحانه في الكلام. و إطلاقه يشمل الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية و الصبر عند المصيبة، و هو و الصدق من أعلى مقامات السالكين إلى اللّه تعالى و أفضل درجات أهل الحقّ و اليقين، خصوصا إن عمّمنا الصدق ليشمل صدق اللسان و الحركات و خطرات الجنان و تطابق الظاهر مع الباطن، فحينئذ لا يتصوّر للعبوديّة مقام فوق ذلك إن طابق كلّ ذلك مع الشرع المبين و اقترن مع الخضوع و التذلّل للّه تعالى.

و هذه الخصال الخمس تستجمع جميع الخصال الحميدة و الأخلاق الكريمة، و لا يشذ منها كلّ متّق، و هي خصال متكاملة تشيد صرح الإنسانية الكاملة و تبلغها إلى أوج السعادة و أقصى الدرجات.

و بالأولى منها ينال الإنسان تلك الصفات و الخصال الكريمة التي تعلق بالنفس و تبعدها عن رذائل الأخلاق.

و بالصدق يتحلّى بالصفات التي تتعلّق بالظاهر.

و هاتان الخصلتان ترجعان إلى نفس الإنسان و تصلحان سريرته و علانيّته.

و القنوت للّه تعالى يجعل الإنسان خاضعا ذليلا بين يدي عظمته، مطيعا لإرادته عزّ و جلّ، و هذه الخصلة تصلح ما بينه و بين اللّه تعالى.

و الإنفاق يبعده عن رذيلة الشح و يجعله يشعر بما يجري على أخيه الإنسان، فيتحسّس بالمسؤولية، فهذه الخصلة تصلح بينه و بين الناس.

و أما القيام بالسحر، فهو ارتباط مع عالم الغيب طلبا منه العون في جميع أموره و الاستعاذة من الشيطان و النفس الأمّارة.

و الاستغفار بالأسحار هو القيام آخر الليل و الصلاة فيه و طلب الرحمة

ص: 122

و المغفرة، كما فسّرته السنّة المقدّسة بذلك، و ما ورد في الآيات الكريمة بالنسبة إلى السحر على أقسام ثلاثة:

الأول: هذه الآية الشريفة و قوله تعالى: كانُوا قَلِيلاً مِنَ اَللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ * وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ * وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسّائِلِ وَ اَلْمَحْرُومِ [سورة الذاريات، الآية: 17-19].

الثاني: قوله تعالى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ اَلْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة، الآية: 17، 18].

الثالث: قوله تعالى: وَ مِنَ اَللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء، الآية: 79]، و التهجّد بالليل هو الاستيقاظ بالعبادة من قراءة القرآن و الدعاء و الصلاة و نحوها من العبادات، و يستفاد من الجميع مطلوبيّة أصل الاستغفار في خصوص هذا الوقت الشريف، و لها مراتب كثيرة، منها أن يكون في الوتر من صلاة الليل، و هي أفضلها و أشرفها، و منها أن يكون في ضمن الدعاء و المناجاة و لو كانا في غير الصلاة، و منها نفس كلمة:

«استغفر اللّه ربي و أتوب إليه»، و مقتضى الإطلاق مطلوبيّة الجميع مع اختلاف المراتب.

و الاستغفار بالسحر يوجب التوفيق لترك الذنوب في أثناء النهار، فيكون سببا لمحو الذنب السابق، و مقتضيا لترك الذنب اللاحق، فتستعدّ نفوس المستغفرين في الأسحار بذلك للاستعانة بأنوار الجلال و الاستفادة من فيوضات الرحمن التي لم تزل و لا تزال.

ص: 123

بحوث المقام
بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ اَلذَّهَبِ وَ اَلْفِضَّةِ وَ اَلْخَيْلِ اَلْمُسَوَّمَةِ وَ اَلْأَنْعامِ وَ اَلْحَرْثِ ، على أن جميع ما يلهي الإنسان عن ذكر اللّه تعالى و ما يؤثّر في سلوكه في دار الدنيا إنما هي هذه المذكورات في الآية الشريفة، و هي ردّ على من ذهب إلى أن عواطف الإنسان و أحاسيسه إنما توجّهها الشهوة الجنسيّة فقط، فهي التي تحدّد سلوكه في حاضره و مستقبله و توجب الكابة و الأمراض النفسيّة أو الجسميّة إن كبتها الفرد، و لذلك دعى إلى الإباحة الجنسيّة، و سيأتي في البحث العلمي تتميم الكلام.

الثاني: يستفاد من سياق الآية المباركة أن الفاعل لتزيين المذكورات فيها إنما هو الشيطان الذي يزين أعمال الإنسان، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة القرآنية، قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [سورة العنكبوت، الآية:

38]، و قال تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية:

43]، فيكون حبّ هذه الأشياء صارفا عن محبّة اللّه تعالى ما لم يجعلها الإنسان في طريق السعادة و الفوز بالفلاح، و لا ينافي ذلك أن يكون أصل هذه الأشياء و طبايعها من صنع اللّه تعالى الخالق الحكيم القيوم على خلقه المدبر لهم تدبير علم و حكمة، فإن من سنّته عزّ و جلّ أنه خلق الإنسان حرّا مختارا في أعماله، و أودع في خلقه بديع صنعه و أرسل الرسل لهداية الناس و أنزل معهم الكتاب و الحكمة لسعادتهم، و قد خلق إبليس الذي يوسوس للإنسان و يصرفه عن طريق الخير و السعادة على نحو الاقتضاء، كما لم يمنع الإنسان من اتباعه، كلّ ذلك لئلا يثبت الجبر فيبطل الثواب و العقاب، و لإتمام الحجّة و الامتحان و تمييز المؤمن عن غيره،

ص: 124

و إثبات التكليف و التشريع و تثبيت قانون الجزاء.

الثالث: أن التزيين على حبّ الشهوات دون نفسها، للدلالة على أن تلك الأمور بنفسها لم تكن مذمومة، فإن الشهوات الإنسانية لها دخل في الحياة و بها يتمّ النظام، و لكن إن تعلّق الحبّ بها بحيث يكون صدّا عن اللّه تعالى، فيرجع تزيين حبّها للناس إلى جعل هذه الأمور في أعينهم بحيث يكون شغلهم الشاغل، و التولية فيها سببا للإعراض عن اللّه تعالى، بأن يجعلوها أهدافا لهم فقط لا وسيلة فيكون هذا الحبّ مذموما و تزداد المذمّة كلّما اشتدّ الحبّ، و تخف كلّ ما خف و ضعف حتى يصل إلى مرتبة الحبّ النظامي الذي هو من لوازم الطبيعة الإنسانيّة و وسيلة تنظيم الحياة لكسب مرضاة اللّه تعالى، فتزول المذمّة رأسا، و يكون خلافه نقصا و مذموما، و يستفاد ما ذكرناه من جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة الأعراف، الآية: 32]، و قوله تعالى:

وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اَللّهُ إِلَيْكَ [سورة القصص، الآية: 77]، إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و على ذلك يحمل ما ورد عن المعصومين عليهم السّلام في مدح بعض المشتهيات، منها

ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أحببت من دنياكم ثلاث: الطيب، و النساء، و قرّة عيني الصلاة».

الرابع: قد ورد في الآية الشريفة أقسام الشهوات التي تختلف رغبات الناس فيها - كما مرّ - فهم على أصناف بالنسبة إلى حبّها، فمنهم من يتعلّق حبّه بالنساء ولاهم إلا التعشّق بهن و صرف همه في المؤانسة بهن و مصاحبتهن، و إن استلزم المحرّمات و وجوه الفساد، و منهم من يحبّ التكاثر و التقوي بالأولاد، و هذا لا يكون إلا بالبنين دون البنات، و لهذا خصّ ذكرهم دونهن، و منهم من هو مغرم بالمال و جمعه، و هذا يتحقّق بالذهب و الفضة اللذين بهما يتقوّم سائر الأشياء، و يكون حبّه لغيرهما بالتبع، و منهم من يحبّ الحرث و الزرع أو اتخاذ الأنعام، و منهم من يحبّ الفروسيّة فيتخذ الخيل المسوّمة.

ص: 125

و ربما يتحقّق في شخص واحد قسم واحد من هذه الشهوات، و ربما يجتمع أكثر من واحد، و قلّما يجتمع جميعها في شخص واحد، فالآية الشريفة مع أنها في مقام بيان تعداد المشتهيات و تكثّرها، تكون في مقام بيان أصناف الناس و اختلافهم في حبّ هذه المشتهيات بالملازمة.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا ، على أن ما في الآخرة مشابه لما في الدنيا، و أن الإنسان يلتذّ بنعيم الآخرة كما يلتذّ بنعيم الدنيا من المأكل و المشرب و المناكح و غير ذلك، و أن الفرق هو أن نعيم الآخرة لا يشوبه نقص و أنه يختصّ بالمؤمن، بخلاف نعيم الدنيا، و ذلك لأن وجود الإنسان في الآخرة عين وجوده في الدنيا، فهو بنفسه متقوّم بالاستفادة من اللذائذ دنيويّة كانت أو اخرويّة، و لكلّ منهما أسباب خاصة تختلف باختلاف العوالم، و هو لا يوجب الاختلاف بحيث يعرض عن نعيم الآخرة و تكون باطلة و عبثا بالنسبة إليه، و يدلّ على ما قلناه جميع الكتب السماويّة، خصوصا القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، و يؤكّد ذلك في قوله تعالى في آخر هذه الآية: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ ، على نوعين من الجزاء..

أحدهما: جسماني، و هو الجنّات التي تجري فيها الأنهار و الأزواج الطاهرة.

و الثاني: العقلي الروحاني الذي هو من أعظم اللذّات، و هو رضوان من اللّه تعالى الذي لا يتصوّر فوقه لذّة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتٌ تَجْرِي على مراتب الجنّة، و اختلاف درجات أهل الجنّة، و أنهم على مراتب و درجات.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ مَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا أن هذه الشهوات هي امور دنيئة بالنسبة إلى ما عند اللّه عزّ و جلّ من الرضوان و الجنان،

ص: 126

و أن هذه الشهوات هي امور زائلة وقتيّة ليست مبنيّة على الحقيقة و الواقع، و إنما خلقها اللّه تعالى لإقامة هذه الحياة الفانية الزائلة و تكوين الاجتماع الإنساني، و بدونها يعرض الاختلال بل الفناء عليه.

التاسع: إنما قدّم سبحانه و تعالى النساء على جميع الشهوات، لأنهنّ حرث بني آدم، و أن شهوة النساء هي أكثر الشهوات إعمالا عند الناس، و هي من أعظم اللذائذ الجسميّة عند الإنسان، بل هي الركن الأساس في الحياة، و لذا

ورد في الحديث: «أن من تزوّج فقد أحرز نصف دينه أو ثلث دينه». و لكن ليست هي الركيزة الوحيدة في الإنسان، كما يدّعيه بعض علماء النفس.

العاشر: إتيان لفظ «الجنات» في قوله تعالى: جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ ، يدلّ على تعدّدها لكلّ واحد من المتّقين، مجهّزة بكلّ ما يتصوّر فيه من الفرح و الانبساط و السرور و الراحة، كما و كيفا، و ذلك لأجل تعدّد موجبات استحقاق الجنان في هذه الدنيا، كما هو واضح.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ ، على أن رضوان اللّه تعالى هو من مشتهيات الإنسان في الدارين، لأنه إنما يطلب مشتهيات الحياة الدنيا لأجل رضاء النفس بها و راحتها، فهو من مشتهياته إما بحدّ ذاته، أو بالملازمة، و لذا جعله تعالى في مقابل الجنات و الأزواج في هذه الآية الشريفة، و في مقابل الفضل و المغفرة و الرحمة في آيات اخرى، قال تعالى: فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً [سورة المائدة، الآية: 2].

و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20]، و قال تعالى: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ [سورة براءة، الآية: 21].

و إنما أطلق سبحانه الرضوان في المقام للدلالة على شموله للنفس، و الصفة، و الفعل و جميع الخصوصيات.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا . أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، و هي الإيمان باللّه، و إظهار العبوديّة له عزّ و جلّ، و الاسترحام منه تعالى في طلب العفو و الغفران، و الصبر على الطاعة و عن المعصية و في الخطوب، و الصدق في القول و الفعل، و الخضوع له عزّ و جلّ، و الإنفاق في سبيله تعالى، و قيام الليل و التهجّد فيه بالاستغفار.

ص: 127

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ اَلنّارِ ، على تفصيل ما أجمله سبحانه في قوله تعالى: لِلَّذِينَ اِتَّقَوْا . أي أن التقوى إنما تتحقّق بما ذكر في الآية الشريفة، و هي الإيمان باللّه، و إظهار العبوديّة له عزّ و جلّ، و الاسترحام منه تعالى في طلب العفو و الغفران، و الصبر على الطاعة و عن المعصية و في الخطوب، و الصدق في القول و الفعل، و الخضوع له عزّ و جلّ، و الإنفاق في سبيله تعالى، و قيام الليل و التهجّد فيه بالاستغفار.

الثالث عشر: إنما قرن سبحانه الاستغفار بالإنفاق في الآية الكريمة، للدلالة على أن شحّ النفس من أقوى موجبات الحرمان عن قربه عزّ و جلّ.

الرابع عشر: إنما أجمل تبارك و تعالى الاستغفار و الدعاء في السحر للإشارة إلى كثرة أهمية هذا الوقت، و لا بد أن لا يفوت فضله على الإنسان بالدعاء و طلب الغفران.

بحث روائي:

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام: «ما تلذّذ الناس في الدنيا و الآخرة بلذّة أكثر لهم من لذّة النساء، و هو قوله تعالى: زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ . ثم قال: و إن أهل الجنّة ما يتلذّذون بشيء من الجنّة أشهى عندهم من النكاح، لا طعام و لا شراب».

أقول: رواه العياشي في تفسيره أيضا. و الوجه أنه تعالى لم يخلق ألذ من النساء في الجنّة، لأنهنّ من منشآت اللّه تعالى مباشرة، كما قال عزّ و جلّ: إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً * عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: 35 - 37]، فإنهنّ الجزء الأعظم من النظام الأتمّ كما تقدّم، و لأنها المؤانسة بما خلق من رحمته جلّت عظمته، هذا بحسب اللذائذ الجسمانيّة. و أما غيرها، فله شأن آخر سيأتي في البحث الفلسفي إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«القناطير جلود الثيران مملوءة ذهبا».

ص: 128

أقول: رواه في المجمع عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أيضا، و هو من إحدى معاني القناطير المقنطرة، و تقدّم تفسيرها بالمال الكثير الجامع لجميع ذلك.

و في تفسير القمّي - أيضا -: قال عليه السّلام: «الخيل المسوّمة الراعية و الأنعام، و الحرث يعني الزرع».

أقول: تقدّم ما يرتبط بذلك في التفسير.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ، عن الصادق عليه السّلام: «لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: هذا من مصاديق الطهارة، و إلا فهنّ طاهرات من كلّ خبث و دنس و رذيلة.

و في الفقيه و الخصال عن الصادق عليه السّلام: «من قال في وتره إذا أوتر: استغفر اللّه و أتوب إليه سبعين مرّة و هو قائم، فواظب على ذلك حتى تمضي سنة، كتبه اللّه تعالى عنده من المستغفرين بالأسحار و وجبت له المغفرة من اللّه تعالى».

و في المجمع: عن الصادق عليه السّلام قال: «من استغفر سبعين مرّة في وقت السحر فهو من أهل هذه الآية».

أقول: الروايات في فضل الاستغفار - خصوصا في الليل - كثيرة جدا تعرّضنا لبعضها سابقا، و يمكن أن يستفاد وجوب المغفرة من استجابة اللّه تعالى دعاء المؤمنين في هذه الآية الشريفة: فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا .

بحث فلسفي:

لا ريب في أن كمال العلّة الفاعليّة من كلّ جهة يقتضي كمال العلّة الغائيّة كذلك، لأن الغاية علّة فاعليّة بوجودها العلمي، و علّة غائيّة بوجودها الخارجي، هذا في غير المبدأ تبارك و تعالى.

و أما في المبدأ عزّ و جلّ، فهو بذاته جاعل و خالق لما سواه، و هو تعالى بذاته و صفته و فعله حسن، و بهذا الحسن الذاتي و الصفتي و الفعلي غاية و مرجع لما سواه،

ص: 129

فيكون عنده حسن المآب لا محالة، و إذا كان في البين نقص و فساد و خسّة فإنما هو من مقتضيات اختيار الإنسان، لا أن تكون بالنسبة إلى المبدأ و المآب، فما ورد في قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، إنما هو قضية عقليّة برهانيّة قرّرها اللّه تعالى في كتابه الكريم، و ليس المراد من لفظ «عنده» الحدّ الخاص من الزمان أو المكان، بل المراد إحاطته عزّ و جلّ بما سواه إحاطة قيوميّة و ربوبيّته العظمى حدوثا و بقاء، و تبديلا إلى كلّ ما يشاء، و إفناء متى أراد، فهو الحي القيوم مبدءا و مآبا، و هو الحيّ القيوم في ما بينهما، و كلّ ذلك بالنسبة إلى كلّ ما سواه بمعنى واحد.

ثم إن اللذّة إما روحانيّة معنويّة، أو جسمانيّة ظاهريّة، و الأخيرة متقوّمة بالقوى الجسمانيّة، بل عن جمع من محقّقي الفلاسفة إنكار أصل اللذائذ الجسمانيّة، و أنها ليست إلا من دفع الآلام فقط، و أثبتوا ذلك مفصّلا.

و أما الاولى فهي من أعلى مدارج كمال الإنسان و صعوده و ارتقائه إلى عوالم لا نهاية لعظمتها، و هي شجرة أصلها ثابت و فرعها في السماء، تؤتي أكلها كلّ حين بإذن ربّها، و لا ينالها أحد إلا بالتفاني في مرضاته حتّى يصل إلى درجة البقاء فيه عزّ و جلّ، و لعلّ أحد معاني رضوان اللّه تعالى يرجع إلى ذلك، و ما ورد في بعض الروايات المتقدّمة من أن النساء أشهى اللذائذ إنما هي باعتبار اللذائذ الجسمانيّة، بل يمكن أن ترجع تلك اللذّة في الجنّة إلى اللذّة الروحانيّة، باعتبار كون النساء فيها من صنع اللّه تعالى مباشرة، قال تعالى: إِنّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً * فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً * عُرُباً أَتْراباً [سورة الواقعة، الآية: 35-37]، و أما اللذائذ المعنويّة فهي أكبر و أعظم و ألذّ بالنسبة إلى بعض الناس.

و هل تكون الشهوات من مختصات هذا العامل بأصولها و فروعها و نتائجها المترتبة عليها، أو تعمّ الدار الآخرة أيضا لكن بوجه أحسن و أليق يتناسب مع ما في ذلك العالم، بحيث يكون نسبة ما في هذا العالم إلى ذلك العالم نسبة المعنى إلى اللفظ أو نسبة الحقيقة إلى المجاز؟ و الذي تدلّ عليه الآيات الكثيرة في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة هو

ص: 130

التعميم، قال تعالى: وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ اَلْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ اَلْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 71]، و قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [سورة البقرة، الآية: 25]، و الآية التي تقدّم تفسيرها تدلّ على ذلك أيضا، فأصل الحقيقة واحدة و إنما الاختلاف في الجهات الخارجيّة، فجميع الشهوات النفسانيّة موجودة في الدار الآخرة على النحو الأتم الأكمل، قال تعالى: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا فِي اَلْآخِرَةِ إِلاّ مَتاعٌ [سورة الرعد، الآية: 26]، فإن الإنسان فيها هو الإنسان في الدنيا، و إنما يتمتّع في الآخرة بما أعدّه في الدار الدنيا من الحسنات و السيئات، و بالملذات التي كان يريدها في الدنيا و تحصل سعادته في الآخرة، و الحرمان منها شقاء و ضيق.

و إنما ذكر تعالى جملة منها في الدنيا إنما هو لمتاعها و قيام نظام هذا العالم بها، لا أن تكون مختصّة بها دون غيرها إلا على مفهوم اللقب الذي لا يكون حجّة، كما ثبت في العلوم الأدبيّة.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ ، وجود ذلك كلّه فيها على النحو الأتم و الأكمل، فإن مآب كلّ شيء فيه حسن، إذ السير هو سير استكمالي و توجّه إلى الكمال، و هذا هو مقتضى إطلاق الآيات التي وردت فيها ملذّات الآخرة و مشتهياتها من دون تعليق لها بوجه من الوجوه، بخلاف الآيات التي اشتملت على ملذّات الدنيا، فإن فيها تعليقا بوجه من الوجوه، و إن كانت ملذّات الدنيا يشترك فيها المؤمن و الكافر، بخلاف ملذّات الآخرة فإنها مختصّة بالمؤمن.

بحث عرفاني:

شهود حقائق الموجودات على ما هي عليها في الواقع بجواهرها و أعراضها و لوازمها و ملزوماتها الأزليّة و الأبديّة حدوثا و بقاء، بل و قبل الحدوث يصحّ أن يعبّر عنه بالغيب الذاتي، و لا حدّ لهذا الشهود من كلّ جهة، و لو عبّر عن ذلك بابتهاج الذات بالذات يصحّ أيضا، و هو مختصّ بالواحد الأحد الصمد، و لا يدانيه

ص: 131

ملك مقرّب و لا نبيّ. و قد يفاض منه شعاع على الغير، و هو تابع لقدر الإفاضة كمّا و كيفا. كما أنه لا يختصّ بعالم دون عالم، فإن الإشعاع أزلي و أبدي و النفوس المستعدّة تستفيض من ذلك الإشعاع بقدر القابلية، و يصحّ أن يكون رضوان اللّه تعالى إشارة إلى ذلك الإشعاع، و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتفصيل المقام في مستقبل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و من ذلك يعلم أنه لو جعل العبد غاية عباداته الوصول إلى رضوان اللّه تعالى، كانت من أكمل الغايات و أحسنها.

و حبّ الشهوات هو من أغلظ الحجب الظلمانيّة بين العقل و ادراك الحقائق النوريّة و المعارف الربوبيّة، بل هو نار اللّه الموقدة التي تطلع على الأفئدة، لأن منشأ الحبّ هو القلب، فإذا كان متعلّقا بالأهواء الباطلة و الشهوات، يصير القلب كخرقة بالية منغمرة في دار الغرور، محجوب عن منبع الجلال و النور، فإنها لا تعمي الأبصار، و لكن تعمي القلوب التي في الصدور، فيضلّ عن الصراط المستقيم، و لا غاية بعد ذلك إلا سواء الجحيم. فلا غاية لإعمال الشهوات المذمومة إلا العار و النار، فإن حقيقة الإنسان الكاملة - التي هي كالصورة لجميع العوالم الإمكانيّة - لم تعرف بعد و لن تعرف، و إن بذل العلماء المحقّقون من الفلاسفة الإلهيين و غيرهم جهودهم، و صرف العرفاء الشامخون طاقتهم فيه، لأنها أعظم سرّ اللّه تعالى في الخليقة، و هي من أجلّ مخلوقاته في جميع العوالم الربوبيّة، و لا بد في عرفانها من العكوف على بابه و التماس ذلك من وجهه و كتابه، و مثل هذه الآيات المادحة لمقام التقوى و الشارحة لها، تشير إلى لمعة من لمعات ذلك النور الحقيقي، فكما أن للتقوى و العبوديّة للّه عزّ و جلّ مراتب، كذلك للإنسانيّة الكاملة، بل مراتبها تدور مدار العبوديّة الخاصّة، و كلّ ما قالوه العرفاء من وحدة الوجود و الموجود و أمثال ذلك في تعبيراتهم، إن رجع إلى ذلك فلا باس به، و في غير ذلك يرد علمه إليهم.

و كلّ الذي شاهدته فعل واحد *** بمفرده لكن بحجب الأكنة

إذا ما أزال الستر لم تر غيره و لم يبق بالأشكال إشكال ريبة

ص: 132

و حقّقت عند الكشف أن بنوره *** اهتديت إلى أفعاله بالدجنة

و تظهر للعشاق في كلّ مظهر من اللبس في أشكال حسن بديعة

ففي مرة لبنى و اخرى بثينة و آونة تدعى بعزّة عزت

تجليت فيهم ظاهرا و احتجبت باطنا بهم فأعجب لكشف بسترة

و المتحصّل من الآيات القرآنيّة و السنّة المقدّسة أن الإنسان الكامل، كما أنه مخلوق للّه تعالى، كذلك مورد تربيته حدوثا و بقاء إلى أن يرد دار الخلود، و أن إرادة الإنسان الكامل متفانية في مرضاته، فيصحّ أن يقال إن الإنسان الكامل مورد مشيئته و إرادته، و يشهد لذلك قوله تعالى: وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَ أَرى [سورة طه، الآية: 46]،

و في الأحاديث القدسية: «من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة»،

و في بعض الأحاديث: «يشكو للّه تعالى عن عبده المؤمن يوم القيامة فيقول اللّه عزّ و جلّ: عبدي إني مرضت فلم لم تعدني، يقول العبد: يا رب كيف أعودك و أنت ربّ العالمين؟ يقول اللّه تعالى: مرض عبدي المؤمن فلو عدته لو جدتني عنده»، و الأحاديث في سياق ذلك كثيرة، فما عبّر به بعض الأعاظم من الفلاسفة من الوحدة تعبير حسن إن أراد به ما يستفاد من سياق القرآن و السنّة، و عبارة اخرى عمّا شرحه أمير المؤمنين عليه السّلام عن بينونة الصفة، لا بينونة العزلة،

فقال عليه السّلام في بعض خطبه الشريفة: «بائن مع خلقه بينونة صفة، لا بينونة عزلة»، و هو على إجماله يناسب جميع الأقوال التي قيلت في بيان وحدة الوجود. و لعلّ اللّه تعالى يوفّقنا لتحقيق القول بأكثر من ذلك في مستقبل المقال.

بحث علمي:

قد جمع سبحانه و تعالى اصول الشهوات التي يقوم بها نظام الدنيا في الآية المباركة المتقدّمة، و هي شهوات الجنس و المال و الزينة و التفاخر و الرياسة، و جمعها بوجه آخر في آية اخرى، فقال عزّ و جلّ:

ص: 133

اِعْلَمُوا أَنَّمَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي اَلْأَمْوالِ وَ اَلْأَوْلادِ [سورة الحديد، الآية: 20]، و الإنسان قرين هذه الشهوات و الغرائز، و قد يجتمع بعضها في سائر الحيوانات، إلا أن الفرق بين الإنسان و غيره، أن اللّه تعالى خلق الإنسان حيوانا عاقلا درّاكا مريدا، و هذه من مختصّاته و لا توجد في غيره إلا على درجات ضعيفة، فهو الذي يقدر على جمع القوى المتخالفة المتواجدة فيه، و يجعلها تحت زمام العقل و الإرادة المنبعثة من التعقّل و التفهّم و الدرك الصحيح، و لأجل ذلك صار الإنسان محور التكاليف الشرعيّة و منشأ لإرسال الرسل و إنزال الكتب الإلهيّة، و كلّ ما كانت القوة العاقلة هي الحاكمة في أفعال الإنسان و إحساساته و شؤونه، كلّ ما كان أقرب إلى الكمال و أبعد عن الرذائل و الفساد، و أما إذا تغلّبت عليه إحدى القوى العاملة فيه، كان أقرب إلى الفساد و أبعد عن الصلاح، و للتكاليف الإلهيّة شأن كبير في تهذيب النفس و تأمير القوّة العاقلة على جميع الشهوات و استيلائها على غيرها، و لذا كان لهذه القوّة شأن كبير في سلوك الإنسان و تهذيبه و إصلاحه، سواء السلوك الفردي أم السلوك الجماعي، و لكن ليست لسائر القوى المتواجدة في الإنسان السيطرة على سلوكه لوحدها، و إن كان لها الأثر الكبير إن لم يقم الفرد في تهذيبها و إصلاحها بما يراه اللّه تعالى.

و هذه الآية الشريفة ردّ على من زعم من أصحاب المدارس في علم النفس أن للجنس الأثر الكبير في سلوك الإنسان فردا أو جماعة، و أن كبت تلك الشهوة توجب الأمراض النفسيّة و الحرمان عن الملذّات، و دعا إلى الإباحيّة في الجنس للتخلّص من هذه الأمراض، و أعلن الحرب على التقاليد و الأعراف المتوارثة و الأحكام الشرعيّة التي تقيّد الجنس و تهذّبه، و ذهب إلى أن جميعها تورث العقد النفسيّة التي يصعب معالجتها و برؤها، إلى غير ذلك ممّا ينكره العقل و التجربة.

و قد أثبت علماء النفس بطلان كثير ممّا ذهب إليه، فالجنس كسائر الغرائز الموجودة في الإنسان إن لم تستعمل على الوجه الصحيح توجب الحرمان و الكبت و سائر الأمراض الخلقيّة و النفسيّة، و هذا هو الذي دعا إليه الإسلام.

ص: 134

و الآية الشريفة من تلك الآيات الدالّة على ما ذكرناه، فهي تقرّر أمرا عقليّا، و هو أن حبّ الشهوات و الاهتمام بتزيينها، يوجب بعد الإنسان عن الكمال المعدّ له في الدنيا و الآخرة، و هذا ما نراه في المدنية الحاضرة التي بلغت شأوا بعيدا في الملذّات، و لكنها عادت إلى الجاهلية الاولى، و هي و إن كادت تصل إلى أوج الكمال المادي و تهيئة وسائل الراحة و العيش الهنيء، إلا أنها أبعد دورا من أدوار حياة الإنسان على وجه هذه البسيطة من الكمال المعنوي و الاطمئنان النفسي و راحة الضمير.

فالآية الشريفة لا تعدّ نفس هذه الشهوات من موجبات انحطاط الإنسان، بل أن حبّها و تزيينها و إهمال الجانب العقلي و تعاطي هذه الشهوات و كثرة إعمالها يوجب الحرمان و الانحطاط، فهي صريحة في المطلوب، و بعد ذلك لا ينبغي للفرد المسلم التغافل و التغاضي عن الإسلام و تلك القوانين التي نزلت لسعادة الإنسان و الحياة في الدنيا حياة هنيئة آمنة سعيدة، و الاستعداد لما بعد هذه الحياة لنيل رضوان اللّه تعالى و البقاء فيه.

ص: 135

شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْ.......

اشارة

شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (18) إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ وَ اَلْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى في الآيات السابقة جملة من أحوال الكفّار الذين اغترّوا بمظاهر الدنيا، و اعتزّوا بما عندهم من الأموال و البنين و العدّة، و اعتبروها مغنية عن أمر اللّه تعالى، فقد أخبرهم عزّ و جلّ أنها لا تغني من اللّه شيئا، و أن ما ركنوا إليه من الدنيا إنما هو زائل لا يبقى، و عند اللّه نعيم باق لا يناله إلا الذين اتّقوا و كان في قلوبهم خوفه تعالى، فإذا كان متاعهم في الدنيا حرثا مخصبا، ففي الآخرة جنّات كاملة تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ما دامت السموات و الأرض.

و إذا كان متاعهم في الدنيا نساء و بنين، ففي الآخرة أزواج مطهّرة، و أما غيرها من الخيل المسوّمة و الأنعام و القناطير المقنطرة من أسباب اللذائذ في الدنيا، فهناك ما هو أكبر من كلّ لذّة و شهوة، و هو رضوان اللّه الذي لا يعدله. فلا يبقى للكفّار إلا ما كسبته أيديهم من الشقاء و الحرمان.

ثم ذكر جملة من أحوال المتّقين الذين آمنوا باللّه و أنابوا إليه و عملوا الصالحات و عدّ صفاتهم، و في كلّ صفة منها تتحقّق سمة من سمات الحياة الرفيعة الواقعيّة، اَلصّابِرِينَ وَ اَلصّادِقِينَ وَ اَلْقانِتِينَ وَ اَلْمُنْفِقِينَ وَ اَلْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ ، و أن لهم الرضوان و حسن المآب.

ذكر في هذه الآيات وجه الإيمان و أقام الشهادة على أحقيّة ما ذكره في الآيات السابقة، فشهد أولا على نفسه بالوحدانيّة، و من أعظم منه شهيدا؟ و كذلك

ص: 136

شهدت الملائكة و أولوا العلم الذين ملأ قلوبهم نور الإيمان به، و بيّن ثانيا قيامه بالعدل، ثم بيّن ثالثا الدستور في حياة الإنسان، و أنه الإسلام الذي هو دين الحقّ و الحقيقة، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يدعو الذين أوتوا الكتاب جميعا إلى هذا الدين الواحد، و يترك الجدل معهم بعد إقامة الحجج القويمة و البراهين الساطعة على الإسلام، و أنذرهم على المخالفة و أوعدهم الحساب و العذاب.

فكانت الآيات المباركة ذا نسق واحد مشتملة على ما تقدّم من البراهين و الشهادة و البيّنة عليها، لتكون ثابتة و قويمة لا يقدر على إنكارها منكر، و إلا استحق العذاب بعد إقامة الحجّة و البرهان.

التفسير

قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

مادة (شهد): تدلّ على الحضور و المشاهدة بالبصر و البصيرة، و لا حضور أقوى من حضور ما سواه تعالى لديه عزّ و جلّ، فهو حاضر بذاته لذاته، و ما هو عين ذاته من صفاته، التي منها وحدانيّته و معبوديّته المطلقة.

و من أسمائه تعالى (الشهيد)، أي هو الذي لا يغيب عنه شيء، قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة الحج، الآية: 17].

و شهادة الحقّ جلّ جلاله، هو ظهور ذاته بذاته لذاته، و جميع أسماء الجمال و الجلال تنطوي في تلك المرتبة، و هي محيطة بها فوق ما يدرك من معنى الإحاطة، فالهوية المطلقة و المعبوديّة الحقّة منحصرة به جلّت عظمته، و هذا معنى

ما في جملة من الدعوات المعتبرة: «يا من هو، يا من ليس هو إلا هو»،

و قوله عليه السّلام: «يا من دلّ على ذاته بذاته». و هذا معنى ما أثبتوه في الفلسفة من أن الممكن من ذاته ليس، و من حيث الإضافة إلى علّته أيس (أي موجود).

و هذا المعنى - أي الجامعيّة لجميع صفات الجلال و الجمال، المسلوب عنه

ص: 137

جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة، من حيث قيوميّته الكبرى و ربوبيّته العظمى - محيط على جميع ما سواه بأنواعه و أفراده و أجزائه، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ [سورة الحديد، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و بهذا المعنى الإحاطي هو اللّه الواحد الأحد و المعبود الفرد، فالتوحيد ثابت في مرتبة الذات و الصفات و الفعل، و جملة: (لا اله الاّ اللّه)، تدلّ على ذلك.

و بالجملة: أن شهادة اللّه تعالى بوحدانية ذاته المقدّسة..

تارة: تكون تكوينيّة، و هي التي أسّسوها بالبراهين القطعيّة في الفلسفة من انتهاء جميع الممكنات إليه عزّ و جلّ.

و اخرى: قوليّة، و هي التي أثبتتها هذه الآية الشريفة و نظائرها، مثل قوله تعالى: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ [سورة محمد، الآية: 19]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و أما شهادة الخلق بالوحدانيّة، فالتكوينيّة ثابتة لهم، أقرّوا بها في اللسان أم لا، لحكاية المجعول عن الجاعل تكوينا، و أما الاختياريّة، فمنهم من آمن، و منهم من لم يؤمن.

و الشهادة يمكن أن تكون ذاتيّة لظهور الذات بالذات في الوحدانيّة، و أنه لا إله غيره، فلا شريك له في الذات، و يمكن أن تكون فعليّة، فلا شريك له في الفعل، فتكون جميع أفعاله آيات دالّة على وحدانيّته، و أن تكون قوليّة كما تشهد بها جميع الكتب السماويّة. و إن كان ظاهر السياق بلحاظ إفهام المخاطبين هو الأخيرة، و إن كان بعضهم له أهلية درك الشهادات الثلاثة.

ثم إن الشاهد - أي الحاضر كما تقدّم - إن اعتبر فيه العلم مطلقا فهو العليم، و إذا أضيف إلى الأمور الباطنة فهو الخبير، و إذا أضيف إلى الأمور الظاهرة فهو الشهيد. و حيث إن علمه تعالى عين ذاته، فتكون خبرويّته بالأشياء عين ذاته،

ص: 138

و شهوده لها كذلك، فيرجع الكلّ إلى علمه الذاتي.

نعم، الشهادة القوليّة فيه تعالى لها خصوصية خاصّة، لا توجد تلك في مطلق العلم و الخبرويّة.

و أما في الممكنات، فيمكن أن ترجع الشهادة إلى القوى الجسمانيّة، أي إلى البصر و السمع و العلم و الخبرة، و إلى بعض القوى النفسانيّة.

قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ .

أي: أن الملائكة و أولي العلم يشهدون بأن لا إله إلاّ هو. و يصحّ أن تكون شهادة الملائكة من الشهادة الذاتيّة، لأن ذواتهم كاشفة عن الوحدانيّة المطلقة، فإنهم عِبادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 26، 27]، و إنهم يسبّحون ربّهم و يهلّلونه.

و المراد بأولي العلم الأنبياء و الرسل و من يتبعهم في العلم و العمل بالمعارف الإلهيّة و الأحكام الشرعيّة، و العرفاء الشامخون، و الفلاسفة المتألّهون، الذين أخبروا بوحدانيّته، و هم يشاهدونها من آياته و شهدوا بها شهادة علميّة و عمليّة.

و إنما خصّ سبحانه و تعالى الملائكة و أولي العلم بالذكر، لقصور أنظار جملة من الأنام عن درك ما وراء ذلك، فألقى الخطاب بحسب دركهم و فهمهم.

قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ .

القسط هو النصيب و العدل، و من أسمائه تعالى: «المقسط»،

و في الحديث: «إن اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض بالقسط و يرفعه»، و هو بمعنى الميزان سمّي به لأنه من العدل أيضا، و معنى الحديث أن اللّه يخفض و يرفع ميزان أعمال العباد المرتفعة إليه و أرزاقهم النازلة إليهم، و هو تمثيل لما يقدره اللّه تعالى و ينزله، و يطلق على غيره بالقرينة.

و القيام بمعنى المحافظة على الشيء و الملازمة له،

و في حديث الدعاء: «لك الحمد أنت قيام السموات و الأرض»، أي القائم بأمور الخلق و مدبّر العالم و حافظه في جميع أحواله.

ص: 139

و الجملة - لها معنى الوصفيّة و الحاليّة - حال من فاعل شهد، الراجع إلى الثلاثة المذكورة في الآية الشريفة. أي: أن شهادتهم بالحقّ، و هم يحافظون عليها قولا و فعلا.

و العدل فيه عزّ و جلّ ثابت و دال على وحدانيّته، كما أن انحصار الالوهية و الوحدانيّة فيه تبارك و تعالى يثبت عدله و قيامه بالقسط، فهما فيه عزّ و جلّ متلازمان، كما يشهد بذلك جملة من الآيات، منها قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و قوام السموات و الأرض بالعدل أعظم آية لوحدانيّته، و هذا دليل على ما قلناه من تعميم الشهادة إلى الذاتيّة و الفعليّة و القوليّة.

و من ذلك يظهر الوجه في تقديم التوحيد على القيام بالقسط، لأن الأخير ملازم للوحدانيّة المطلقة و محفوف بها حدوثا و بقاء، فالتوحيد و الشرك مختلفان مفهوما و اعتقادا و أثرا في الدنيا و الآخرة، كما هو صريح الأدلّة النقليّة و العقليّة.

و ممّا ذكرنا يعلم أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ ، راجع إلى جميع الثلاثة، كما هو ثابت في العلوم الأدبية من أن الموصوف يتكرّر مع جميع قيود الصفة، فيصير المعنى في المقام: شهد اللّه بأنه لا إله إلاّ هو قائما بالقسط، و الملائكة تشهد كذلك قائما بالقسط، و أولوا العلم أيضا يشهدون بأنه لا إله إلاّ هو قائما بالقسط، و قد أشرنا إلى أن التوحيد المطلق للكمال المطلق يستلزم ذلك، و أن القيام بالشيء لا يصدق إلاّ بعد الاستيلاء المطلق عليه، بلا تخلل خلاف في البين.

قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

الآية في موضع التعليل لما سبق ذكره، أي: من كان في كمال القدرة و العلم و الحكمة البالغة، يقتضى أن يكون واحدا في ذاته و في معبوديّته و في تشريع القوانين، و أن العدالة تقتضي أن يكون قهّارا عزيزا عليما حكيما، فهو تعالى حقيق بالوحدانيّة، لأنه المتفرّد بالعزّة، و أن ما سواه تحت سلطته و قهّاريته، و هو المتفرّد في حكمته، عالم بأسرار خلقه المطّلع على المصالح، و لا ينتقض حكمه و لا

ص: 140

يردّ أمره، و يستفاد من الآية المباركة تمام الثناء و كمال التعظيم له عزّ و جلّ.

قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ .

الدين هو الطاعة و الانقياد للشريعة، و يطلق على نفس الشريعة أيضا، كما يطلق على الملّة و الجزاء، و هو من إطلاق اللازم على الملزوم، الذي هو من المحسّنات البلاغيّة، و يستفاد الفرق من الاعتبار و القرائن،

و في الحديث: «ان اللّه ليدين للجماء من ذات القرن»، أي يقتصّ و يجزي.

و من أسمائه تعالى: (الديّان)، و هو فعال، يعني: قهر خلقه على الطاعة، يقال:

«دنتهم فدانوا»، أي قهرتهم فأطاعوا، و منه قولهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «يا سيد الناس و ديّان العرب»،

و في الحديث: «كان عليّ ديّان هذه الامة».

و مادة «سلم» من المواد المحبوبة الممدوحة في أية هيئة استعملت، و تأتي بمعنى التعرّي عن العيوب و الآفات الظاهريّة و الباطنيّة، و يقال للجنة: «دار السلام»، لأنها دار الإسلام عن العيوب و الآفات، و من أسمائه سبحانه و تعالى:

«السلام»، لأنه لا يتّصف بما يتّصف به الخلق من العيب و الفناء أو الحوادث.

و تأتي بمعنى الانقياد و الطاعة و العبوديّة التي تكون حقيقتها الخضوع و الانقياد للمعبود، فتكون كلّ عبوديّة و طاعة للّه عزّ و جلّ إسلاما، و كلّ إسلام له عزّ و جلّ عبوديّة له، سواء كانت في القول و اللسان، أم في القلب، أم في العمل، أم في الجميع،

و في الحديث: «ما من آدمي إلاّ و معه شيطان، قيل: و معك؟ قال: نعم، و لكن اللّه أعانني عليه فأسلم»، أي: انقاد لي و خضع و قد كفّ عني، و يمكن أن يكون المراد بإسلام الشيطان في الحديث الشريف تسليمه من كلّ جهة للنبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، لفرض انقطاعه صلّى اللّه عليه و آله من كلّ جهة إلى اللّه تبارك و تعالى، و استيلاء عقله المقدّس على جميع ما سوى اللّه تبارك و تعالى، لأنه العقل الكلّي، و هو أوّل ما خلقه اللّه تبارك و تعالى.

و قد اختصّ لفظ (الإسلام) بالغلبة في رسالة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و شريعته التي تناسب جميع ما ذكر في معنى الإسلام، لا سيما بعد

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم

ص: 141

من سلم المسلمون من يده و لسانه»،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «من غش مسلما فليس بمسلم»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا ضرر و لا ضرار في الإسلام»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من بات شبعانا و جاره جائع فليس بمسلم»، فيكون من استعمال العام في الخاص، و هو كثير في اللغة و العرف.

و المعنى: أن كلّ دين سماوي تكون فيه العبوديّة للّه تعالى يكون إسلاما له عزّ و جلّ، و هو واحد لا اختلاف فيه، و أن حقيقة الطاعة للّه عزّ و جلّ و الانقياد له تعالى، و هي روح جميع الأديان الإلهيّة و الشرائع السماويّة التي نزلت على الأنبياء، فيكون الإسلام الحقيقي هو الإذعان و الانقياد المساوق للإيمان بالقلب و العمل بالجوارح و الأركان، فيكون العمل بالدين إبقاء للدين و إعلاء لكلمة التوحيد، و جهادا مع الملحدين.

و الآية الشريفة ترشد إلى قضية عقليّة حقيقيّة، و هي بيان حقيقة الدين التي هي الفطرة السليمة المقرّرة في شرع السماء، و أن الدين هو الدستور الإلهي و الشريعة المتكفّلة لتصحيح نظام الدنيا و الآخرة، و أن العمل به يجلب السعادة للإنسان في الدارين، لأنه نزل من مشرّع و جاعل حكيم في أفعاله، عليم بجميع خصوصيات عباده، مهيمن على دينه و تشريعه، و هو منحصر في اللّه تعالى، فلا بد أن يكون الدين واحدا من حين وجود الإنسان على هذه البسيطة إلى انقراضه عنها، و هذا هو مقتضى العدل و العلم و الحكمة، فلا موضوع للتعدّد في سلسلة العلل و المقتضيات، كما لا تعدّد في مرحلة الجزاء و الحساب.

و الاختلاف في الأديان الإلهيّة إنما هو في بعض التشريعات التي يرجع سببها إلى الاختلاف في مقتضيات الظروف و استعداد الأمم، و يدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اِتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة النحل، الآية: 123]، و قوله تعالى: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، هذا إذا عمّمنا الدين ليشمل مجموع الاعتقاد و العمل - كما هو الصحيح - و إن جعلناه

ص: 142

عبارة عن خصوص الاعتقاد و التوحيد في مقابل الشرك، فالأمر أوضح.

و يستفاد من سياق الآية المباركة الحصر، فتدلّ على أن كلّ دين من اللّه واحد لا اختلاف فيه، و أنه حق و أن غيره باطل، و أن فيه الاختلاف - كما تقدم - و هو يشمل جميع الشرائع و الأديان أصلا و عكسا، و قد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة، قال تعالى: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمّاكُمُ اَلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ اَلرَّسُولُ شَهِيداً [سورة الحج، الآية: 78].

و الآية الشريفة دستور إلهي، تدلّ على تصحيح الاعتقاد و العمل حسب ما يرتضيه اللّه تعالى، كما تدلّ بالملازمة على نفي الشرك بجميع أنواعه، و أن غير الإسلام و الطاعة له عزّ و جلّ باطل غير مرضي له تعالى و لا أثر له، و هو لا ينفع الناس في دنياهم و آخرتهم.

ثم إن هذه الآية الشريفة كالتوطئة لما سيأتي من الآيات اللاحقة، التي يذكر فيها المعاندون و المشركون و الكافرون، فإن كلّ أمر يكون مخالفا لما شهد به الحقّ بالحقّ و الملائكة و أولوا العلم، يكون باطلا، سواء كان في نظام التكوين أم التشريع، و يكون مغالطة و لجاجا و زخرفا.

قوله تعالى: وَ مَا اِخْتَلَفَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

بغيا: منصوب إما على أنه مفعول لأجله، أو على الحال من الذين، و المراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود و النصارى، أي: و ما كان اختلاف أهل الكتاب في دينهم الحقّ - الذي بيّنه اللّه تعالى لهم على لسان أنبيائه و رسله - إلى مذاهب و أهواء - مع أن دين اللّه واحد لا اختلاف فيه - إلاّ بعد علمهم بحقيقة الدين و الحقّ المبين من بعد ما رأوا الآيات الواضحة و الدلائل الجليّة.

و هذا الاختلاف لم يكن عن عذر، بل كان عن بغي و ظلم بينهم، فتمرّدوا على الحقّ و حرّفوا الكتاب و أوّلوه، فكان أن بغى المنحرفون على المؤمنين الموحدين و تجاوز الرؤساء الحدود و نصروا مذهبا على مذهب، و ضلّلوا من

ص: 143

خالفهم، فأوقعوا الفتنة، فكفروا بآيات اللّه و أنكروا رسالة الرسل.

و يحدّثنا التأريخ ما وقع من الاختلاف الكبير في اليهود و النصارى بعد ما علموا الحقّ و آمنوا به، ممّا حمل الكثير من اليهود على إنكار التوحيد و تقبّلهم الشرك و الوثنيّة، و حرّفوا التوراة، كما ذهب النصارى إلى التثليث و تأليه المسيح و إنكار الشريعة.

و في الآية الشريفة توبيخ شديد لأهل الكتاب و تهديد لهم بما وقع بينهم من البغي الموجب للانتقام، كما أن الآية المباركة تخبر عن بعض الحقائق التأريخيّة التي وقعت بين أهل الكتاب، و قد وردت جملة منها في آيات اخرى من القرآن الكريم، كعبادة العجل، و قتل الأنبياء، و تأليه المسيح أو جعله ابنا له تعالى، و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

المراد من آيات اللّه الدلائل الواضحة الجليّة، سواء كانت في الكتاب التشريعي النازل على الأنبياء و الرسل أم المعجزات الباهرات الدالّة على توحيد اللّه تعالى و صدق نبوّات الأنبياء و الأحكام الإلهيّة التي نزلت لتهذيب الإنسان و استكماله، فإن كفرها و جحودها يستلزم إنكار أصل الدين، و من جحد تلك الآيات البيّنات الدالّة على توحيد اللّه و وحدة الدين و أحكامه التكليفيّة الشرعيّة، فإن اللّه محاسبهم و معاقبهم، و اللّه سريع الحساب في الدنيا باستيلاء الأعداء عليهم و تفريق كلمتهم، أو في الآخرة بأشدّ العذاب.

قوله تعالى: فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ .

الضمير في حاجّوك راجع إلى ما تقدّم ذكره، و هم الذين أوتوا الكتاب.

و محاجّتهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنهم كانوا يدّعون أن الاختلاف معه لم يكن جدلا و بغيا، بل كان عن استدلال و اجتهاد و طلبا للواقع، و ما يدّعيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله أيضا من الاجتهاد، فلا ملزم لقبوله، و قد كان الجواب عنهم بما يقطع المخاصمة و المجادلة بالتسليم للّه تعالى من دون الإعراض عنهم.

و تدلّ الآية الشريفة على أن الاستدلالات مطلقا عقيمة، لا أثر لها ما لم تنته

ص: 144

إلى الضروريات، التي هي مبدأ كلّ النظريات، و هي ستة: الأوّليّات، و المشاهدات - سواء كانت حسيّات أم وجدانيّات - و الفطريات و التجربيات، و المتواترات، و الحدسيات، و قال بعض الأكابر:

ان ضرورياتنا ست و ذي *** مرجع كلّ النظريات خذي

و مع عدم تحقّق تلك تكون من المغالطة المذمومة، التي لا يكون للعقل إليها سبيل، و محاجّة أهل الكتاب مع الرسول، بل محاجّة الأمم مع أنبيائهم تكون من هذا القبيل، فهي تنبئ عن الانحراف و عدم الاستقامة، و في مثل ذلك لا بد لأنبياء اللّه يستقيم البرهان و لا الواجدان مع اعترافهم بالواقع، بل يكون من اللجاجة التي هي مذمومة،

و في الحديث: «اللجاجة تمل الرأي»، أي تذهب به و تزيله.

و تدلّ الآية الشريفة على أدب المحاجّة، حيث لم يقل سبحانه و تعالى: «فان حاجوك فأعرض عنهم»، لأن الدعوة عظيمة و لا يليق بها الإعراض أصلا، فلا بد من التثبّت حتى تحصل النتيجة، و هي إعلان التوحيد الذي هو أساس التربية الإنسانيّة الكاملة، فهي محور نظام الدنيا و الآخرة.

كما أنها تدلّ على أن التوحيد و التسليم للّه تعالى لا يمكن إبطاله، و لا يمكن نقضه بالمجادلة و المحاجّة، و لذا أمر سبحانه و تعالى نبيّه و المؤمنين بالتسليم، فإن الحافظ هو اللّه تعالى القدير القهّار.

و من ذلك يظهر وجه الارتباط مع الآية السابقة، فإنه بعد أن بيّن سبحانه أن الدين واحد، و هو التسليم للّه عزّ و جلّ الذي لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، و أن جميع الكتب الإلهيّة ترشد إليه، فلا وجه للمحاجّة فيه و لا حجّة في ما وراء ذلك.

و إنما خصّ سبحانه و تعالى الوجه من بين سائر الأعضاء بالذكر، لأنّ التسليم بالوجه يقتضي الإقبال على اللّه تعالى و الخضوع لديه و الإخلاص له، و أن إسلام الوجه يستلزم إسلام سائر الأعضاء. و يمكن أن يراد بالوجه الذات و الحقيقة من حيث صدور الأفعال الاختياريّة، فيشمل القلب و جميع الجوارح.

كما أنه تعالى شرك من اتبعه بالإيمان تشريفا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و إعظاما لإيمانهم

ص: 145

و تنويها لمقام التبعيّة، أي: و من اتبعني في الإسلام و الإخلاص للّه تعالى و الإقبال عليه.

قوله تعالى: وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ وَ اَلْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ .

الأمي من لا يقرأ و لا يكتب، فهو على ما ولدته أمه من الجهل، و المراد من الأميين هم مشركو العرب، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قد سمّوا بذلك في مقابل أهل الكتاب، كما أن أهل الكتاب كانوا يسمّونهم بذلك، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران، الآية: 75]، و وجه الجمع بين أهل الكتاب و المشركين إما لأجل كون الدين مشتركا بينهم و الجميع مطالبون بالإيمان به، أو لأجل أن الأميين كانوا معترفين باللّه و إلهيته، أو لأجل أن دين أهل الكتاب في عصر النزول كان لا يخلو عن الشرك، ممّا أوجب اشتراكهم مع المشركين.

و الاستفهام في الآية المباركة للتقرير، و فيه الأمر بالإسلام.

و المعنى: قل يا رسول اللّه لليهود و النصارى و مشركي العرب: أسلموا و ادخلوا في سلم اللّه تعالى، و لا تحاربوه بعد ما جاءكم من البيّنات. و في الآية الشريفة توبيخ لهم على العناد و اللجاج، و الكف عن الإلحاح في المحاجّة مع منكر الضرورة، كما عرفت.

قوله تعالى: فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اِهْتَدَوْا .

أي: فإن دخلوا في السلم و آمنوا بالإسلام فقد خرجوا من الضلال و دخلوا في هداية اللّه تعالى، و هذا هو الفوز العظيم.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ .

أي: و إن أعرضوا عن الإسلام و حادّوا اللّه و رسوله، فإنما عليك التبليغ للدين الحقّ و الدعوة إلى اللّه تعالى، و قد حصل منه البلاغ و أدّاه بأحسن وجه.

و الآية الشريفة تدلّ على أن الرسول مبلغ للدعوة الإلهيّة، و ليس له من الأمر في الإيمان و الكفر شيء، بل الحكم في ذلك منحصر في اللّه تعالى، قال

ص: 146

عزّ و جلّ: لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ [سورة آل عمران، الآية: 128].

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ .

أي: أن اللّه يعلم ما في الضمائر و مكنونات الصدور، فهو عالم بمن هو قابل الهداية و التوفيق، و من هو غير قابل لذلك، فيحكم بما تقتضيه حالهم، و في ذلك دلالة على إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ، فيكون تأكيدا لما سبق.

و لعلّ ختم الكلام بهذه الجملة للإرشاد إلى أن المقام ليس مقام التخويف و التوعيد، بل مقام الجلب و التأليف و لو بالتأكيد، و يدلّ على ذلك إتيان لفظ (العباد) الذي يشعر بالرأفة بهم، فإن عنوان العبوديّة يقتضي كونهم مربوبين له جلّت عظمته.

ص: 147

بحوث المقام
بحث أدبي:

المشهور بين الأدباء أنه إذا ورد قيد في الكلام و كانت قبله امور تصلح لرجوع القيد إلى كلّ واحد منها، فالقيد للجميع إلاّ إذا دلّت قرينة على الخلاف، سواء كانت داخليّة أم خارجيّة أو مقاليّة، لفرض صحّة انحلال القيد في الواقع بعدد تلك الأمور، و هذا من احدى محسّنات الكلام و من الأمور البلاغيّة، ففي الآية الشريفة أن قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ له معنى الوصفيّة و الحاليّة من اسم الجلالة في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أو من الضمير «هو» في: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، فيرجع إلى المشهود به في شهادة الملائكة و أولي العلم. و يصحّ أن يتعلّق بوجوده الانبساطي إلى الجميع، و لا محذور فيه، و له نظائر كثيرة في اللغة الفصحى.

و تقدّم وجه نصب (بغيا) في قوله تعالى: إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ .

و الموصول في قوله تعالى: وَ مَنِ اِتَّبَعَنِ معطوف على الضمير المرفوع المتّصل في: أَسْلَمْتُ ، من غير احتياج إلى التأكيد، لوجود الفصل بينهما. و يجوز أن يكون مبتدأ و الخبر محذوف تقديره: «و من اتبعن أسلم وجهه اللّه».

و إنما جاء قوله تعالى: «فَقَدِ اِهْتَدَوْا» على الماضي مبالغة في الإخبار لوقوع الهدى لهم و حصوله.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: أن في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ ، اتحاد الشاهد

ص: 148

و المشهود به و الشهادة، و في ذلك ظهرت الوحدة في الكثرة، و الكثرة في الوحدة، و لا حدّ لمثل هذه الشهادة في العظمة و البهاء و الجلالة، تخرّ لها الكائنات خضّعا سجّدا، و لا يمكن للعقل أن يدركها و يحدّها بحدّ، و ليس له إلاّ الاعتراف بالخضوع و التسليم، و فيها من الجذبة الروحانيّة و ابتهاج الذات ما لا يخفى، و هي أعظم آية تدلّ على التوحيد، و بها صارت هذه السورة الحدّ الفاصل بين التوحيد و الشرك، و قد اختصّت هذه الآية بمزية لا توجد في غيرها. و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

الثاني: يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أن الشهادة إنما تكون بالقول و بالفعل و بالذات في التوحيد ثابت في مرحلة الذات و الصفات و الأفعال، فإن أفعاله المقدّسة تدلّ على أنه لا إله إلاّ هو، كما تقدّم.

و من ذلك يظهر بطلان القول أن الشهادة في المقام إنما تحمل على المعنى الاستعاري، و هو أن وحدة الحاجة في جميع خلقه و جمال النظام يدلاّن على وحدة الصانع، فتكون هذه الوحدة بمنزلة نطقه و إخباره تعالى. و استند في ذلك على أن حمل الشهادة على الشهادة القوليّة يستلزم الدور، لأن إثبات التوحيد بهذه الشهادة يقتضي أن يكون أمره مستندا إلى النقل دون العقل، و هو يتوقّف على صحّة و حي القرآن وحيا إلهيا، و هو متوقّف على التوحيد، و هو دور.

وجه البطلان أن وحدته تبارك و تعالى ثبتت بالأدلّة العقليّة و البراهين القطعيّة، لا بمجرّد القرآن. فنقول: وحدته تعالى ثبتت بجميع الكتب الإلهيّة، مع أن النقل إرشاد محض إلى حكم العقل في جميع المعارف الإلهيّة، و النقل لا يفيد حكما مستقلا في نفسه و إنما يقرّر حكم العقل.

و إذا ثبتت صحّة الشهادة من اللّه تعالى، لأنّه لا يتصوّر في حقّه الكذب و الزور، بل هو منزّه عن كلّ باطل و نقص، فتكون شهادته حقّا بحقّ و أن إخباره عن الملائكة و أولي العلم حقّ و تثبت شهادتهم.

و يظهر من سياق الآية الشريفة أن التوحيد و هو المقصد الأسنى، و له من

ص: 149

الأهمية العظمى، و هو حصن اللّه الأكبر، فمن دخله كان آمنا، على ما تواتر

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، حيث قال: قال تعالى: «كلمة لا إله إلاّ اللّه حصني، فمن دخل حصني أمن من عذابي». و مقتضى الجمع بينه و بين القيام بالقسط، أن الإيمان بالتوحيد لا بد أن يكون مع الإيمان بالعدل، و الإيمان بأحدهما دون الآخر يكون إيمانا ناقصا، فالآية تدلّ على أن العدل من اصول الدين، فهي تؤيّد مذهب العدليّة، القائلين بأن العدل أصل من اصول الدين.

الثالث: يستفاد من إخباره تعالى عن الملائكة و أولي العلم أن هؤلاء يشهدون بالتوحيد لعلمهم بعدم شريك له تعالى، فلو كان له شريك لعلمه هؤلاء، إذ الملائكة هم وسائط الفيض، و لهم الأمر في الخلق و التدبير، و أن أولي العلم بما أنهم يشاهدون الآيات و يستفيدون منها، يعلمون بأنه تعالى واحد ليس له شريك.

الرابع: إطلاق قوله تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ يشمل الجميع كجبرائيل و إسرافيل و عزرائيل الذين هم سادات الملائكة و مدبر و التكوين بأمر من ربّ العالمين، كما يشمل الكروبيين و حملة العرش الذين يكون علمهم بالوحدانيّة من الإفاضة الغيبيّة إليهم، و من تجلى الوحدة المطلقة لديهم.

الخامس: تدلّ الآية الشريفة على فضل العلم و أهله، و أنهم أمناء اللّه تعالى في خلقه، إذ جعل شهادتهم قرين شهادته و يا لها من عظمة و بهاء و كبرياء.

السادس: تكرار قوله تعالى: لا إِلهَ إِلاّ هُوَ يدلّ على أن الأوّل لأجل توحيد الذات، و الثاني لأجل بيان توحيده في الأفعال و قيامه بالعدل في مخلوقاته، و هو توطئة لقوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ ، من أن الدين واحد لا اختلاف فيه.

السابع: يدلّ قوله تعالى: قائِماً بِالْقِسْطِ على بطلان الجبر و التفويض، لكونهما خلاف القيام بالقسط الذي هو الأمر بين الأمرين، كما أنه يدلّ على عدم جواز الظلم بالنسبة إليه تبارك و تعالى، كما هو مذهب العدليّة.

و إنما عبّر بالقسط لأنه العدل الظاهر الذي لا يمكن جهله، بخلاف العدل فإنه

ص: 150

قد يخفى، و لذا سمّي الميزان قسطا، لأنه يظهر العدل في الوزن.

فالقسط النصيب، فإذا أعطى كان إنصافا و عدلا، و إذا منع كان جورا كما في قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً [سورة الجن، الآية: 15].

الثامن: يظهر من سياق الآية الشريفة أن منشأ القيام بالقسط هو الشهادة بالوحدانيّة، و لا بد أن تكون كذلك، لأن في الوحدانيّة الحقّة تنطوي جميع المعارف الحقّة.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ على أنه لا بد للإنسان من منهج في حياته، و هو الذي يتكفّل جميع جهاته التكوينيّة و التشريعيّة و لا يمكن التخطّي و الإعراض عنه، و أنه لا بد من الخضوع و الانقياد للّه تعالى الذي هو رأس كلّ كمال.

كما أنه يدلّ على أن أساس النظام هو الدين، و أن الانقياد بدونه فاسد و مخل بالنظام، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات الدالّة على أن لا بد للإنسان من منهج يقوّمه و دستور ينظم به شؤون حياته، و هذا هو مقتضى الفطرة أيضا، و لذا كانت القضايا الواردة في هذه الآية من القضايا الفطريّة الحقيقيّة.

العاشر: يستفاد من الآية الشريفة أن المشركين في الذات كالثنويّين، أو في المعبود كالوثنيّين أو في العبادة كالمرائين، لا حظّ لهم من هذه الآية الكريمة.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: بَغْياً بَيْنَهُمْ على أن الإنسان لا بد له من الإذعان بما تبيّن له من المعارف الإلهيّة، و العمل بها و الوقوف عند ما لا يعلمه، وقوف تسليم، و أن خلاف ذلك يكون من البغي، كما يستفاد أن كلّ خلاف و اختلاف إنما يكون لطلب الاستيلاء و الظلم على كتاب اللّه و المعارف الحقّة.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ على النهي عن اللجاج و المراء مع منكر الضرورة، و أنه لا ثمرة فيه إلاّ الجدال و الخصام، كما أنه يدلّ على أن الرسول ليس له في أمر الهداية و الضلالة شيء، بل هو مبلّغ كما ذكرنا.

ص: 151

بحث روائي:
فضل الآية:

قد عرفت أن قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، يشتمل على أعظم شهادة تدلّ على وحدانيّته و كماله في خلقه و أفعاله، و لعظم ما تضمّنته الآية الشريفة صارت من أعاظم الآيات، و قد ورد في فضلها بعض الروايات.

روى يعقوب بن شعيب عن الصادق عليه السّلام: «لما أمر اللّه هذه الآيات أن يهبطن إلى الأرض تعلّقن بالعرش، و قلن: يا رب أين تهبطنا إلى أهل الخطايا و الذنوب؟! فأوحى اللّه تعالى اهبطن... و هي ام الكتاب، و شهد اللّه أنه لا إله إلا هو و الملائكة، و أولوا العلم، و آية الكرسي، و آية الملك.

أقول: تقدّم ذكرها في آية الكرسي، و رواها الديلمي عن أبي أيوب الأنصاري، مرفوعا باختلاف يسير.

و روى ابن عدي و الطبراني و الخطيب و ابن النجار، عن غالب بن قطان، عن الأعمش، عن أبي وائل بن عبد اللّه: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «يجاء بصاحب هذه الآية يوم القيامة فيقول اللّه تعالى: عبدي عهد إلي عهدا و أنا أحقّ من وفّى بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة».

و في المجمع: عن الزبير بن العوام: «قلت: لأدنونّ هذه العشية من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - و هي عشية عرفة - حتّى اسمع ما يقوله، فحبست ناقتي بين ناقة رسول اللّه و ناقة رجل كان إلى جنبه، فسمعته يقول: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ - الآية - فما زال يردّدها حتى رفع».

تفسير الآيات:

في تفسير العياشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، قال أبو جعفر عليه السّلام: «شهد اللّه أنه لا إله إلاّ هو، فإن اللّه تبارك و تعالى يشهد بها لنفسه، و هو كما قال. فأما قوله: و الملائكة، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم و صدقوا و شهدوا كما شهد لنفسه، و أما قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، فإن أولي العلم الأنبياء و الأوصياء، و هم قيام بالقسط، و القسط هو العدل».

ص: 152

في تفسير العياشي: عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، قال أبو جعفر عليه السّلام: «شهد اللّه أنه لا إله إلاّ هو، فإن اللّه تبارك و تعالى يشهد بها لنفسه، و هو كما قال. فأما قوله: و الملائكة، فإنه أكرم الملائكة بالتسليم لربّهم و صدقوا و شهدوا كما شهد لنفسه، و أما قوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ ، فإن أولي العلم الأنبياء و الأوصياء، و هم قيام بالقسط، و القسط هو العدل».

أقول: أما جهة إكرام الملائكة، لأنه تعالى ذكرهم بعد نفسه الأقدس، و أما التسليم لربّهم، فلا ريب في أن المجرّدات مطلقا خاضعة خضوعا تكوينيّا للّه جلّ جلاله، لذاته و لجميع صفاته، خصوصا لوحدانيّته تعالى، و قد تقدّم أنّه جلّت عظمته يتجلّى لهم بوحدانيّته، فتكون شهادة الملائكة بالتوحيد بتجلّيه تبارك و تعالى لهم بتلك الصفة، و لو لوحظ مراعاة الاصطلاح تكون شهادتهم من عين اليقين، فضلا عن حقّ اليقين.

و أما

قوله عليه السّلام: «و هم قيام بالقسط»، فهو من ذكر المصدر من باب المبالغة في التعبير، و الاختصاص للقيام بالقسط بخصوص أولي العلم، بل يشمل الملائكة أيضا، و قد أثبتوا في العلوم الأدبيّة أن الوصف لا مفهوم له. و أنّ ذكر الأنبياء و الأوصياء من باب ذكر أهم المصاديق البشريّة.

في تفسير العياشي - أيضا -: عن محمد بن مسلم، قال: «سألته عن قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ ، فقال: الدين فيه الإيمان».

أقول: لا ريب أن للإسلام مراتب كثيرة، قال سبحانه و تعالى:

قالَتِ اَلْأَعْرابُ آمَنّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمّا يَدْخُلِ اَلْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 14]، و معلوم أن مجرّد الذكر اللفظي لكلمة التوحيد مع عدم الاعتقاد القلبي به، و عدم العمل بمقتضياته، يصحّ سلب الإيمان و الإسلام و التوحيد عنه، كما هو ظاهر كثير من السنّة المباركة.

نعم، لذلك أثر خاص و هو حفظ الدماء و العرض و المال صونا للجامعة الإسلامية.

ص: 153

عن ابن شهر آشوب، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ قال عليه السّلام: «التسليم لعلي ابن أبي طالب بالولاية».

أقول: هذا من باب بيان أحد المصاديق، و المراد العمل بما أتى به عليه السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

في تفسير القمّي عن علي عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي و لا ينسبها أحد بعدي، الإسلام هو التسليم، و التسليم هو اليقين، و اليقين هو التصديق، و التصديق هو الإقرار، و الإقرار هو الأداء، و الأداء هو العمل، و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه، إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، يا أيها الناس دينكم دينكم، فإن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره، إن السيئة فيه تغفر و ان الحسنة في غيره لا تقبل».

أقول: أما

قوله عليه السّلام: «لأنسبن الإسلام»، يعني أبيّن نسبة الإسلام، و أنه منسوب إلى اللّه تبارك و تعالى بمبدئه و منتهاه، و لا يمكن أن ينسب الإسلام بغير هذا أحد من الناس.

و أما

قوله عليه السّلام: «الإسلام هو التسليم»، هذا من باب بيان معناه الاشتقاقي، و في ذلك تنطوي امور كثيرة، أي: التسليم باللسان و الجنان و العمل بالأركان.

و أما

قوله عليه السّلام: «و التسليم هو اليقين»، هذا من باب تفسير الملزوم و إرادة اللازم، لأنه لو لم يتيقّن الشخص بشيء لا يسلم نفسه إليه.

و أما

قوله عليه السّلام: «و اليقين هو التصديق»، هذا من باب ذكر أحد المتساويين بالآخر، توضيحا للمقصود، لأن كلّ تصديق بقضية يوجب اليقين بمفادها، و كلّ يقين في قضية يستلزم التصديق بها، كما هو معلوم.

و أما

قوله عليه السّلام: «و التصديق هو الإقرار»، هذا مثل سابقه يكون من باب تفسير أحد المتساويين بالآخر، توضيحا و تأكيدا.

و أما

قوله عليه السّلام: «و الإقرار هو الأداء»، المراد بالأداء الالتزام القلبي بالعمل بما أقرّ به، بحيث يترتّب عليه العمل، فيكون تمام قوله عليه السّلام شرحا لحقيقة الإسلام بمراتبها القوليّة و الاعتقاديّة و العمليّة.

ص: 154

و أما

قوله عليه السّلام: «و المؤمن من أخذ دينه عن ربّه»، فهو كالنتيجة للبيان السابق، لأن ما كان من اللّه سبحانه و تعالى مبدءا و مسيرا و ينتهي إليه، لا بد لأن يؤخذ منه فقط، لأن غيره لا يمكنه ذلك عقلا.

و أما

قوله عليه السّلام: «إن المؤمن يعرف إيمانه في عمله، و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره»، فهو قضية عقليّة دليلها يستفاد من نفس تصوّرها، لأنه لو لم يكن العمل و القول مطابقين للمعتقد، فلا أثر لهما أبدا، فكلّ من نظر إلى عمله و سرّته حسنته و ساءته سيئته، فهو مؤمن كما تطابق عليه الكتاب و السنّة.

و إن الكافر يعرف كفره بإنكاره، لأن منشأ الكفر - مطلقا - لا بد أن يرجع إلى إنكار التوحيد و جحده.

و أما

قوله عليه السّلام: «يا أيها الناس دينكم دينكم»، يعني: الزموا دينكم ثم التزموا به. و هذه الجملة يؤتى بها في مقام التأكيد و التثبيت و التقريب.

و أما

قوله عليه السّلام: «إن السيئة فيه خير من الحسنة في غيره... إلى آخر الرواية»، لأن شرط قبول الحسنة الدين و التقوى، و المفروض عدم تحقّقهما في الكافر.

في أسباب النزول للواحدي: «لما ظهر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام، فأبصروا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الذي يخرج في آخر الزمان، فلما دخلا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عرفاه بالصفة و النعت، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: و أنت أحمد، قال: نعم، قالا: إنا نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك و صدقناك، فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سلاني، فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب اللّه، فأنزل اللّه تعالى على نبيّه: «شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ وَ اَلْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا اَلْعِلْمِ» ، فأسلم الرجلان و صدقا برسول اللّه».

أقول: هذا من أحد أسباب نزول الآية الشريفة، و يمكن أن يكون لها أسباب اخرى.

ص: 155

بحث علمي:

من صفات اللّه تعالى القائم بالقسط، و هي عين ذاته المقدّسة التي لا حدّ لجلالها و كمالها، و أنها تدلّ على كماله تعالى في أفعاله، و تستلزم كثيرا من الصفات العليا، كالرأفة و الرحمة و العدل. و القسط - كما مر -: هو العدل مع زيادة فيه، و هي أن القسط يستعمل في موارد العدل الظاهر و الحقّ المعروف، فهو أبلغ من العدل، كما أن الجور أبلغ في العدوان من الظلم، فيكون للقسط خصوصية لم تكن في العدل - كما تقدّم - و إن كانا يتقاربان في المعنى، كما فسّروه به في كثير من الموارد، و لكن القسط يستعمل في مورد لا يستعمل العدل فيه، كما أن الأوّل يعدّى ب «إلى» و لا يعدّى العدل به، قال تعالى: أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ [سورة الممتحنة، الآية:

8]، و ممّا يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا [سورة الحجرات، الآية: 9]، و لا يصحّ أن يكون أحدهما عين الآخر، إذ التأسيس خير من التأكيد.

و في حديث المهدي عليه السّلام المروي من الفريقين: «يملأ الأرض قسطا و عدلا، كما ملئت ظلما و جورا». فيكون القسط أنسب بالشهادة في المقام من العدل.

و القائم بالشيء هو المتصدّر و المراعي له و محقّقه و مجريه. أي المجري، و أقومها و أنفعها للنظام التكويني و التشريعي و الجزائي، و بها يتحقّق الترابط بين الربّ و عبيده، و بين أفراد العباد بعضهم مع بعض، و به يقع التآلف، و التحابب بينهم، كما أن به يضمن المظلوم حقّه و يجازى الظالم لظلمه، و به ينتظم النظام، و لأجل ذلك كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يكرّر هذه الآية في أفضل الأوقات و في أفضل الأماكن، فقد ورد أن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله كان يردّدها في عشية عرفة كما مرّ.

ص: 156

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أعظم شهادة منه جلّت عظمته، و هي الشهادة بالوحدانيّة، و ذكر جلّ شأنه حقيقة الدين، و أنه واحد لا اختلاف فيه، و هو الجامع بين أفراد الإنسان في هدف واحد بالتسليم لوجهه تعالى، و أن هذا الدين من الفطرة و لا يجهلها أحد، و الاختلاف فيه من البغي و الظلم الذي يذكرها كلّ ذي وجدان، ثم ذكر سبحانه و تعالى محاجّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع الكفّار و مشركي العرب، و أمره بالتسليم له تعالى، و إنما عليه البلاغ، فلا يضرّه من يكفر، و في ذلك تسلية له صلّى اللّه عليه و آله.

و في هاتين الآيتين يذكر اليهود و كفرهم بآيات اللّه و محاجّتهم مع آياته سبحانه و تعالى، و قتلهم أنبياء اللّه و المؤمنين الموحّدين، و قد أوعدهم اللّه بالعذاب الأليم بعد ما أسدلوا على أنفسهم حجبا ظلمانيّة، تستر الضمائر و البصائر و تظلم القلوب و السرائر فحقّت عليهم الخيبة، و ما لهم من ناصرين ينقذونهم من هذا المصير و يرفعون عنهم العذاب الأليم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

مادة كفر تأتي بمعنى الستر، قال لبيد:

في ليلة كفر النجوم غمامها و هي من المواد الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، و ذلك لأنّ من أهمّ مقاصد القرآن العظيم هي الدعوة إلى التوحيد و نبذ الشرك و الاختلاف، و توجيه الإنسان إلى الكمال المنشود له، و إزالة العقبات التي تصدّه عن

ص: 157

ذلك، و من أعظمها الكفر و جحود الحقّ، و لأجل ذلك تكرّر ذكرها لإرشاد الناس و تثبيت الحجّة عليهم.

و يطلق الكافر على الزارع، لأنه يستر البذر تحت الأرض، قال تعالى:

كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ [سورة الحديد، الآية: 20]، كما ان ستر النعم كفران لها.

و في عرف الكتاب و السنّة تستعمل الكلمة في ستر العقائد الحقّة و عدم الاعتقاد بها و جحودها مطلقا، فإن أظهر الإيمان و الاعتقاد و أخفى الجحود فهو (المنافق)، و إن أظهر كفره بعد إظهار الاعتقاد أو الإيمان فهو (المرتد)، فإن قال بالشرك في الالوهية فهو (المشرك)، و إن تديّن أو أعتقد ببعض الأديان الإلهيّة المنسوخة فهو (الكتابي)، و إن ذهب إلى قدم الدهر و إسناد الحوادث إليه فهو (الدهري)، و إن كان لا يعتقد بالمبدأ و الباري فهو (المعطل) أو الملحد.

و المراد بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ هم اليهود، بقرينة ما يأتي.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

القتل إزالة الروح عن الجسد كالموت، لكن الثاني يضاف إلى اللّه تعالى، و الأوّل يضاف إلى الفاعل فكلّ قتل موت و لا عكس، فالاختلاف بينهما بالاعتبار لا بالذات، و لفظ (بغير حق) قيد توضيحي، لا أن يكون احترازيّا، لأن قتل النبيّين لا يكون إلاّ بغير الحقّ، نظير قوله تعالى: وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ [سورة المؤمنون، الآية: 117]، فإن الشرك مع اللّه سبحانه و تعالى لا يعقل أن يكون مع البرهان.

و ذكر هذا الوصف لبيان قبح أعمالهم و بشاعتها و انقطاع العذر عنهم، بعد عرفان الحقّ و ظهوره.

و الفعل في المواضع الثلاثة: يكفرون، و يقتلون في الموضعين، يدلّ على الاستمرار و الثبوت، أي: أن عادتهم و دأبهم جرت على الكفر بآيات اللّه تعالى بعد

ص: 158

البيان، و قتلهم الأنبياء و الأولياء و الصلحاء و الداعين إلى الحقّ و العدل، و لو بحسب القصد و النية، و ليس لهم شأن إلاّ ذلك، و على هذا لا نحتاج إلى تخصيص الجملات الثلاث بالآباء فقط، بل كلّ من فيه منشئيّة الصراع مع الحقّ يكون داخلا في معنى الآية المباركة، و هذا ما نعلمه من تاريخ أعداء الإسلام و دين الحقّ، فإنهم قتلوا الأنبياء و دعاة الحقّ الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر، و قد جرت العادة على أخذ الخلف بما فعل السلف، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يرتبط بالمقام، فراجع.

قوله تعالى: وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ .

تعميم بعد التخصيص، لأن الأنبياء أيضا يأمرون بالقسط، لبيان أن هؤلاء لا شأن لهم إلاّ الدعوة إلى الحقّ و إقامة العدل اللذين تدعو إليهما الفطرة، و فيه تشنيع فعلهم و تهييج الفطرة الإنسانيّة و استفزاز الضمير عليهم، لأنهم فعلوا ما لا يرتضيه الضمير و لا العاقل البصير.

قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ .

مادة (بشّر) في حاق الواقع بمعنى الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، كما يشاهد فيمن أخبر بموجب السرور، فإنه يظهر أثر الفرح في ظاهر الوجه. و في الإخبار بالشرّ يظهر الهم و الغم في ظاهره أيضا. فيصحّ استعمال هذه المادة بحسب واقعها في كلّ من الأخبار بموجب السرور و الغم، من دون مجاز و استعارة.

نعم، إذا أطلقت اختصّت بما يوجب السرور.

و لو قيل: باختصاص البشارة بالإخبار بموجب السرور، فيصحّ استعمال البشارة في الغم و الحزن أيضا من باب الوصف بحال المتعلّق، لأن الإخبار يوجب سرور المؤمنين بلا إشكال، و لم يقم دليل على أنه لا بد أن تكون جميع جهات الإخبار منحصرة في الوصف بحال ذات المخبر عنه فقط، بل الكلام الفصيح ما كان متكفّلا لجهات شتى و نواح مختلفة من الدلالة و الإفادة، فيكون كالبحر الذي فيضه عميم و أمواجه لا تستقيم، و يتضمّن الكلام الاستعارة التي تشتمل على الحسن و البلاغة، كما لا يخفى.

ص: 159

و الفاء في قوله عزّ و جلّ: فَبَشِّرْهُمْ للجواب، لتضمّن الجملة معنى الجزاء المتفرّع على الجملة السابقة المتضمّنة لمعنى الشرط، و هو الكفر و قتل النبيّين.

و العذاب: كلّ ما شقّ على الإنسان و منعه عن مراده، و كلّ عذاب في القرآن فهو التعذيب، أي الايجاع، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا، روحيّا أم جسميّا.

و العذاب في الآية المباركة مطلق، يشمل الدنيوي منه و الاخروي، و فيه من الدلالة على شمول الغضب لهم و احتوائهم السخط و العذاب، و هذا قرينة على ما ذكرناه آنفا من تهييج الفطرة عليهم، و قد أخزاهم اللّه تعالى في الدنيا فكتب عليهم القتل و الجلاء و التفريق و عداء النفوس لهم، و لهم في الآخرة أشدّ العذاب و أليمه، كما نطقت به الآيات الكريمة في مواضع متعدّدة.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الحبط: بطلان العمل و عدم الأجر له، أي: الّذين كفروا بآيات اللّه و قتلوا الأنبياء و دعاة الحقّ و العدل، بطلت أعمالهم في الدنيا و الآخرة، أما بطلان عملهم في الدنيا فلأنهم فعلوا ذلك لإزالة الحقّ و إثبات الباطل، و اللّه تعالى فعل بهم خلاف ما أرادوه، فأثبت الحقّ و أزال الباطل و أذاقهم العذاب الأليم، و أما في الآخرة فلأنهم لا يؤجرون على أعمالهم بشيء، بل يعذّبون عليها و هم وقود النار.

و الآية المباركة تدلّ على أن قتل الأنبياء و الأولياء و الأوصياء و دعاة الحقّ ممّا يحبط الأعمال.

قوله تعالى: وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

أي: من شافعين، و هذا يدلّ على عدم شمول الشفاعة لهم، كما تقدّم في بحث الشفاعة في سورة البقرة، فراجع.

ص: 160

بحوث المقام
بحث علمي:

النصرة إما واقعيّة معنويّة حقيقيّة، أو وهميّة خياليّة، و الاولى مبنيّة على الدوام و البقاء و الثبات، و لا تزول بخلاف الثانية، و الآثار الحقيقيّة تترتب على الاولى.

و النصرة المنفية في أمثال هذه الآية إنما هي الاولى، و أما النصرة الوهميّة الخياليّة فليست من اللّه تعالى في شيء، كما لا أثر لها عند ذوي العقول، بل إطلاق النصرة عليها إنما يكون بالمجاز و العناية.

بحث روائي:

في الكافي: عن يونس بن ظبيان، قال: سمعت الصادق عليه السّلام يقول: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: ويل للذين يختلسون الدنيا بالدين، و ويل للذين يقتلون الّذين يأمرون بالقسط من الناس، و ويل للذين يسير المؤمن فيهم بالتقيّة، أبي يغترون أم عليّ يجترءون؟ فبي حلفت لأتيحن لهم فتنة تترك الحكيم منهم حيران».

أقول: قد ظهر حقيقة ما حلفه تبارك و تعالى في هذه الأعصار لكلّ ذي شعور.

و في المجمع: عن أبي عبيدة الجراح قال: «قلت: يا رسول اللّه، أي الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: رجل قتل نبيا، أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثم قرأ صلّى اللّه عليه و آله: وَ يَقْتُلُونَ اَلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ اَلَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ اَلنّاسِ ، ثم قال صلّى اللّه عليه و آله: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا أوّل

ص: 161

النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فقتلوا من أمروهم بالمعروف و نهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا في آخر النهار من ذلك اليوم، و هو الذي ذكره اللّه».

أقول: ما ورد في هذه الرواية من باب بيان بعض المصاديق، و إلاّ فحكم الآية الشريفة عام إلى يوم القيامة، و قتل الأنبياء و الآمرين بالمعروف و الناهين عن المنكر يشمل كلا من المباشر و المسبّب بالأسباب المختلفة في كلّ عصر و زمان.

ص: 162

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَو.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى أن أهل الكتاب إنما يختلفون في الدين، و لا يؤمنون به عن بغي و ظلم بعد ما علموا الحقّ، و ذكر جملة من قبائح أعمالهم من الكفر و قتل الأنبياء و الآمرين بالقسط، بين ما يوجب تشهيرهم من أن هؤلاء الّذين أوتوا نصيبا من الكتاب هم أولى الناس بأن يستجيبوا إذا دعوا إلى كتاب اللّه ليحكم بينهم من الأميين الّذين لا يعلمون من الدين شيئا، فأعرضوا عن ذلك و اتخذوا الخلاف، و ليس ذلك إلاّ لأجل أنهم ادّعوا اتصال النسب مع أنبيائه تعالى، فهو الذي يمنعهم من البقاء في العذاب. فكان ذلك سببا للافتراء على اللّه تعالى و اقتراف الآثام و تجرؤهم على اللّه سبحانه، و قد أثبت سبحانه و تعالى أن الجزاء إنما يكون على الأعمال دون الأنساب، و أوعدهم الخزي و العذاب في يوم يتجلّى العدل الإلهي و يجزي كلّ نفس ما كسبت و هم لا يظلمون.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ .

الاستفهام للتشهير و التعجيب، أو لبيان الحقيقة المستورة عن عامّة الناس.

مادة (نصب) تأتي بمعنى الوضع و التعب و الحصة التي تضاف إلى الشخص أو العلامة، قال تعالى: وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ [سورة المائدة، الآية: 3]، و النصب هو حجر كانوا ينصبونه في الجاهلية فيعبدونه و يذبحون له، بل كلّ ما عبد من دون

ص: 163

اللّه فهو نصب،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «فاطمة بضعة مني، ينصبني ما أنصبها»، أي يتعبني ما أتعبها.

و يمكن إرجاع الجميع إلى شيء واحد، و هو الوضع، لكنه يختلف باختلاف الخصوصيات. و قد استعملت هذه الكلمة في موارد من القرآن الكريم، و غالب استعمالها فيه إنما هو في الذم.

و النصيب من المفاهيم القابلة للشدّة و الضعف و القلّة و الكثرة، فهو من المفاهيم التشكيكيّة جدا، فإن من فهم آية من آيات القرآن الكريم بحسب اعتقاده، يكون له نصيب منه، و فهم حقيقة نفس الآية بحسب الواقع نصيب منه أيضا، و فهم أسرارها و دقائقها نصيب منه، و هكذا في جملة من الآيات الشريفة. و إطلاق النصيب على بعض هذه الأنصباء، من باب مجرّد الإطلاق اللفظي فقط إذا لو حظ بملاحظة بعض مراتبها الأخرى.

و المراد من الكتاب جنسه الذي يشمل التوراة و الإنجيل، و إيتاء النصيب من الكتاب عبارة عن تطبيق الكتاب حسب آرائهم و معتقداتهم، أي: أخذوا من كتاب اللّه خصوص ما ينفعهم، و تركوا ما سواه، و هذا هو عادة أهل الدنيا الّذين لا همّ لهم إلاّ قضاء الحاجة الفعلية و هذا هو حظهم ممّا أوتوه من الكتاب، و ليس من حظهم في الواقع، لأنه لا بد من أن يؤخذ بكلّ جزء منه مع مراعاة جميع ما فيه، لأن الإيمان بالبعض لا ينفك عن الإيمان بالكلّ و بالعكس.

و يستفاد من الآية الشريفة وقوع التحريف في الكتاب، و أن الذي بين أيديهم ليس إلاّ نصيبا منه، فإن التحريف الذي أوقعوه فيه و تغييرهم له ما أوجب إذهاب كثير منه، و إنما بقي جزء منه، كما يدلّ على أنهم لا يحسنون فهمه و لا يلتزمون العمل به، فهم فقدوا الأهلية لتحمّله بسبب تحريفهم له.

و الآية الشريفة تدلّ على العجب من حالهم و أفعالهم، و الاستفهام تقريري، أي: انظر إلى أحوالهم تراهم كذلك، فيتطابق المخبر به مع المحسوس. و هذا أحسن وجه لبيان فساد طريقتهم و سوء عقيدتهم و نفاق سريرتهم.

ص: 164

و هذه الآية الشريفة و نظائرها تبيّن فساد عادة من عادات الناس التي جرت على أن من اطلع على شيء من كتاب ما، يدّعي الاطلاع على جميع ما ورد فيه و الإحاطة به، مع أنه ربما لم يصل إلاّ إلى جزء منه، و لم يدرك مفاهيمه العرفيّة فضلا عن دقائقه العلميّة، هذا في الكتب المؤلّفة فضلا عن الكتب الإلهيّة النازلة من السماء على الرسل و الأنبياء، التي قال فيها: ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ وَ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، و قد وعد اللّه تعالى أن يعلمها المتّقين من عباده، قال تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 282].

قوله تعالى: يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ .

مادة (دعو) تأتي بمعنى استدعاء الشيء سواء كان بالخير أم الأمر أم بنحو آخر و هو كالنداء، و قد يستعمل كلّ منهما في موضع الآخر، و هي من المواد التي كثر استعمالها في القرآن الكريم، و لعلّ من ألطفها قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ [سورة الأنفال، الآية: 24]، و من أشدّها هيبة و تسخيرا قوله تعالى: خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ اَلْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ * مُهْطِعِينَ إِلَى اَلدّاعِ يَقُولُ اَلْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ [سورة القمر، الآية: 7، 8]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الاكلة على قصعتها»،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «مثل المؤمنين في توادّهم و تراحمهم و تعاطفهم، مثل الجسد إن اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر و الحمى».

و الكلمة مستعملة في جميع العوالم الإمكانيّة و النشآت الربوبيّة، فاللّه تعالى هو مبدأ الدعوة إلى الحقّ في تمام النشآت، و إليه ختمها في جميعها، فهو الحقّ المحض و مظهره و مظهره.

و كتاب اللّه هو القرآن العظيم المشتمل على حقائق واقعيّة و تشريعيّة، التي جعلها عزّ و جلّ لتنظيم النظام الأحسن في الدنيا و الآخرة، و قد قامت الحجج الكثيرة على أنه منزل من اللّه تعالى.

ص: 165

و دعوتهم إلى كتاب اللّه باعتبار أنه جامع لكثير ما ورد في الكتب الإلهيّة المهيمن عليها، و قد بشّرت به، فلم يكن مجهولا عندهم، يعرفه أهل الكتاب بأنه يحكم بالحقّ و يزيل كلّ لبس و جهالة و يمنعهم عن البغي و التعدّي، فيكون حكمه نافذا و يجب اتباعه، و الداعي إلى الكتاب هو اللّه تعالى بلسان نبيّه. و لو نظرنا إلى حاق الواقع يكون الداعي إلى كتاب اللّه و المدعو إليه و المدعو به واحد، و الفرق إنما هو بالاعتبار، و لعلّه تعالى إنما أجمل الدعوة لأجل هذه الجهة.

قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ .

أي: أنهم إذا دعوا إلى حكم الكتاب يتولّى كثير منهم، اغترارا بما عندهم و ما حرّفوه و وضعوه من عند أنفسهم، و استغناء به، و هم قد أعرضوا عن الحقّ و دلائله الواضحة.

و فيها دلالة على أن التولّي لا يكون إلاّ عن البغي و الجحود بعد معرفتهم الحقّ و علمهم بالحجّة، فلا يرجى زواله إلاّ من ثبت إيمانه في قلبه فدعى إلى إجابة الدعوة التي دعا إليها دينهم و أمرت به عقيدتهم، من الخضوع لأحكام اللّه تعالى و الإيمان بالدين الجديد، فالآية الشريفة تثبت جهتين من المذمّة عليهم:

الأولى: إدبارهم عن استماع الحقّ و عدم اجتماعهم على الحقّ، مع أنه واجب عقلا، و قد دعا إليه دينهم.

الثانية: إعراضهم عن الحقّ بقلوبهم و ضمائرهم، بعد ظهور الحجّة عليهم، و هذا هو الشقاق و النفاق و من أخبث الرذائل.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ .

أي: أن تولّيهم عن الحقّ بأبدانهم و إعراضهم عنه بقلوبهم، و عنادهم لما عرفوه من الحقّ، إنما هو لأجل زعمهم الفاسد و وهمهم الكاسد و افترائهم على اللّه بأنهم عباد اللّه الأخيار، و هذه الفريّة إنما كانت معتقد عامّة بني إسرائيل في التأريخ و قد استحكمت هذه الفريّة في أنفسهم على مرّ الدهور، بحيث سلبتهم الفكر عن البحث حولها فمنعتهم عن التسليم للحقيقة و الواقع و الخضوع للحق.

ص: 166

قوله تعالى: وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ .

مادة (غ ر ر) تدلّ على الأثر الحاصل للإنسان، سواء كان سببه الغفلة أم شيء آخر،

و في الحديث: «غر محجلون من آثار الوضوء».

و الافتراء هو الكذب على الغير،

و في حديث بيعة النساء: «و لا يأتين ببهتان يفترينه»، و الافتراء على اللّه تعالى هو نسبة ما ليس بمأذون منه تعالى إليه، و بهذا المعنى يستعمل في غيره تعالى أيضا، كالافتراء على الأنبياء و سائر الناس، كما مرّ في الحديث، و هو قبيح عقلا و شرعا، لأنه ظلم، كما أنه من المعاصي الكبيرة. و هو أخصّ من الكذب، لأنه إخبار غير مطابق للواقع مطلقا، فيصدق في ما إذا كذب لنفسه أو على نفسه، بخلاف الافتراء فإنه الكذب على الغير فقط.

و الافتراء على اللّه تعالى من أقبح القبائح و أعظم الكبائر، تدلّ على ذلك آيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ اَلْأَقاوِيلِ * لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ اَلْوَتِينَ * فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة، الآية: 44-47].

و يمكن أن يقام الدليل الاعتباري على حرمته أيضا، و هو أن القوانين مطلقا - سواء كانت سماويّة أم وضعيّة - لا بد أن تكون محدودة و تحت سلطة المقنّن، و لا تتغيّر و لا تتبدّل إلاّ بالسير التكاملي، و ما هو الأصلح للإنسان، و حيث إنه لا يعقل التكامل بعد قوانين القرآن، فلا وجه لجعل شيء فيه ابدا إلاّ بالوحي المبين، و كلّما يكون من غيره، فإن كان بعنوان التعبّد و الدين فهو بدعة و ضلال، بلا فرق بين الأصول و الفروع بجميع أنواعهما، و السنّة المقدّسة بحكم القرآن، لأنها شارحة و مبيّنة له.

و المعنى: كان سبب غرورهم و بغيهم في دينهم الذي كان يأمرهم باطاعة الحقّ و نبذ المعصية و الكبر و البغي، إنما هو افتراؤهم في دينهم بأنهم شعب اللّه المختار، و أن عذابهم محدود بسبب اتصال نسبهم إلى أنبياء اللّه تعالى، فكان ذلك

ص: 167

سبب كفرهم بدين اللّه و إعراضهم عن كتابه، فضلّوا عن الصراط المستقيم.

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ .

برهان عقلي على بطلان جميع المزاعم الفاسدة و الأوهام الباطلة، و دليل قاطع على بطلان كلّ افتراء و قول لا يستند إلى حقيقة، و هو ظهور الأعمال و الأقوال و المعتقدات في السير الاستكمالي الإنساني في عالم محيط بهذا العالم، تبدو الضمائر فيه و تنكشف السرائر، فيرى الإنسان بنفسه جميع أعماله و أقواله و معتقداته بنفسه حاضرة لديه بلا مرية و ارتياب، و حينئذ يغني العيان عن البرهان، و هذا من أقوم الأدلّة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة.

و في الآية الشريفة روعة الأسلوب و بديع الفصاحة، و فيها التوعيد و الإيعاد، و إنما ذكر الجمع دون الأحياء و البعث، لأن الجمع يدلّ عليهما بالملازمة، و لأن اجتماعهم على الافتراء، و الخلاف في الدنيا لا يغني عنهم جمعهم في الآخرة و لا يعجزه تعالى جمعهم، و فيها من التهويل ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ .

أي: و توفّى كلّ نفس ما كسبت و عملت، و هم لا يظلمون في ذلك من دون أن ينقص من عملهم شيء.

و تدلّ الآية الشريفة على أن الجزاء معلول نفس العمل، بلا مدخلية شيء آخر فيه، و يصحّ أن يعبّر عن ذلك بظهور الأعمال بصورها المناسبة لذلك اليوم، فإن الحقيقة واحدة و المظاهر مختلفة باختلاف العوالم، و لذلك أتى بالفعل المجهول المنسوب إلى ذاتهم.

ص: 168

بحوث المقام
بحث أدبي:

التولّي عن الشيء يفيد معنى الإعراض عنه - و يصحّ العكس أيضا - بالقرائن، و إنما جمع سبحانه و تعالى بينهما في قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة آل عمران، الآية: 23]، لبيان كثرة جحودهم للحقّ و جمودهم على الباطل بأبدانهم و قلوبهم، أو لأجل بيان أن ذلك صار ملكة في أنفسهم لكثرة المداومة عليه، فبناء على الأوّل يكون قوله تعالى: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ جملة حالية للضمير في «منهم»، أو من «فريق» المنعوت، فهي إما مؤكّدة أو مبيّنة لاختلاف متعلّق التولّي و الإعراض، و الواو حالية، و على الثاني تكون الجملة في موضع النعت ل «فريق»، و الواو للعطف، فيكون إخبارا عن حالهم و سجيتهم.

و مدخول كيف في قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ مقدّر يدلّ عليه الكلام، أي فكيف حالهم أو كيف يصنعون و نحو ذلك.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأول: يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ أن ما عندهم ليس من اللّه تعالى، بل هو من أهوائهم الفاسدة.

كما أنه يستفاد أن المعتبر في نسبة أهل الكتاب إليه إنما هي النسبة العمليّة مضافا إلى النسبة الاعتقاديّة، فلا تكفي النسبة القوليّة، و لعلّ التعبير ب (أوتوا الكتاب) إشارة إلى هذه الجهة، حيث إنهم فقدوا النسبة العمليّة و الاعتقاديّة لوقوع التحريف عنهم في الكتاب، فعبّر عنهم ب (أوتوا) دون أهل الكتاب.

ص: 169

الثاني: أن الآية الشريفة: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ ، تشمل كلّ من يدعى إلى كتاب اللّه ليحكم بذلك في ما بينهم ثم يتولّى عن ذلك، سواء كان من اليهود أم النصارى أم من غيرهم، فلا تختصّ بملّة دون اخرى، و يكون إظهار الحقّ واجبا عقليّا، و الإعراض عنه قبيحا كذلك، فضلا عن جحوده و تلبيس الأمر على الناس، كما أن عموم الآية المباركة يشمل الدعوة إلى اصول الدين و فروعه.

الثالث: تشير الآيات الشريفة إلى حقيقة اجتماعيّة، و هي أن العصبية و الأهواء الباطلة توجبان البعد عن الحقيقة و الإعراض عن الحقّ، فلا تنفع المواعظ و الزواجر، بل تزداد بعدا و استكبارا و إعراضا حتى تتمكّن في قلوبهم، فيكون من الجهل المركب، الذي هو داء ليس له دواء.

الرابع: إنما أجمل سبحانه الداعي إلى كتاب اللّه لبيان أن الداعي إلى كتاب اللّه و المدعو إليه و المدعو به واحد، و الفرق إنما هو بالاعتبار، كلحاظ مرتبة إنشائه و الاعتقاد به و العمل به أو غير ذلك، و ليشمل جميع من يدعو إلى كتاب اللّه علما و عملا على مرّ العصور.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ هُمْ مُعْرِضُونَ ، أن سبب التولّي عن الحقّ و عدم الإيمان به إنما هو الإعراض المتمكّن في نفوسهم، الذي صار عادة لهم في نبذ كلّ دعوة إلى الحقّ، و أن سبب هذا الإعراض إنما هو الجهل المركب الناشئ من اختلال الطريقة و فساد العقيدة و العصبية و الافتراء على اللّه تبارك و تعالى، كما تقدّم في الآيات المباركة السابقة.

السادس: إنما أضاف سبحانه و تعالى الجمع إلى نفسه في قوله تعالى:

فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لانحصاره به عزّ و جلّ فقط، و أن ذلك تحت قدرته تعالى.

كما أنه أتى بالمجهول في قوله تعالى: وَ وُفِّيَتْ ، لبيان أن الجزاء إنما هو نتيجة أعمالهم الحاصلة من كسبهم، و أنه معلول نفس العمل بلا مدخليّة شيء آخر.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ ،

ص: 170

أهمية ذلك اليوم و التهويل فيه من جهات:

منها: نفس الجمع الذي تدهش منه العقول و استيلاء الحيرة على الناس و الذهول.

و منها: أن ذلك اليوم لا ريب فيه، فهو من الأمور التكوينيّة الذي لا بد من المصير إليه و يعمّ الجميع.

و منها: إضافة الجمع إليه سبحانه و تعالى، التي يستفاد منها كمال هيمنته عليه الدالّة على عظم الفعل و الصنع.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ، كمال العدل في ذلك اليوم، فهم مع ظلمهم لا يظلمون في النقص من الأعمال و الجزاء، فلا ينقص من إحسان المسيء و لا يزاد على إساءته، و هو يدلّ على نفي الظلم عنه عزّ و جلّ، و يدلّ عليه البرهان العقلي أيضا، و سيأتي في الموضع المناسب التفصيل إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: تدلّ هذه الآية و أمثالها - مع اختصارها - على ثبوت المعاد، و على كيفيّة الجزاء، و قد دلّت على كلّ واحد منهما الأدلّة العقليّة.

بحث روائي:

في أسباب النزول: عن السدي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ : «دعا النبي صلّى اللّه عليه و آله اليهود إلى الإسلام، فقال له النعمان بن أدفى: هلم يا محمد نخاصمك إلى الأحبار، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل إلى كتاب اللّه تعالى، فقال:

بل إلى الأحبار، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و في الدر المنثور: عن ابن عباس قال: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بيت المدارس على جماعة من اليهود فدعاهم إلى اللّه، فقال له نعيم بن عمرو و الحارث بن زيد:

على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملّة إبراهيم، قالا: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: فهلمّوا إلى التوراة فهي بيننا و بينكم، فأبيا عليه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

ص: 171

و عن الكلبي: أن الآية نزلت في قضية اللذين زنيا من خيبر، و سؤال اليهود النبي صلّى اللّه عليه و آله عن حدّ الزانيين.

أقول: هذه الروايات قاصرة الدلالة، مضافا إلى ضعف إسنادها، و سيأتي الكلام في الرواية الأخيرة في قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ [سورة المائدة، الآية: 15].

بحث أخلاقي:

الغرور: هو استعظام النفس أو عمل من أعمالها أو صفة من صفاتها، بحيث يوجب قصر النظر و انحصاره في ذلك و قطعه عن خالقه و مدبره و مديره، و هو من مبادئ الشرك، بل نفسه لدى النفوس القدسية، قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106].

و الغرور رذيلة من الرذائل الخلقيّة، بل يمكن أن يسمّى بأم الرذائل و الخبائث.

و قد استعملت مادة (غرر) في القرآن الكريم في موارد شتّى مقرونة بالذم، قال تعالى: وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً [سورة الإسراء، الآية: 64]، و قال تعالى: إِنِ اَلْكافِرُونَ إِلاّ فِي غُرُورٍ [سورة الملك، الآية: 20]، و يكفي في ذم الغرور أن الدنيا تسمّى بمتاع الغرور، قال تعالى: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ [سورة الحديد، الآية: 20]، لأنها من مراتع الشيطان، و هو يوجب الحرمان عن جملة من مكارم الأخلاق و البعد عن ساحة الرحمن.

و إذا لا حظ المغرور نفسه رأى أنه ممكن من الممكنات، و حقيقة الممكن هي العدم المحض بالنسبة إلى ذاته، و إنما يكون له حظ من الوجود من حيث الإضافة إلى جاعله و خالقه بحسب ما قدر له، فهو الربّ المدبّر لأحواله و جميع شؤونه و إضافاته و خصوصياته، و أن ما يحصل له يكون في معرض الزوال، فهو لا حول له و لا قوة له إلاّ باللّه العليّ المدبّر العظيم، فلا يبقى موضوع للغرور، و ما يعتقده

ص: 172

المغرور إنما هو و هم و خيال، و من نشأ في عالم الأضداد و دار الكون و الفساد و تزاحم الآراء و اختلاف الأهواء مع غلبة مشيئة العزيز الجبّار، كيف يصلح له أن يغتر بشيء؟ و كيف يرى شأنا لنفسه من نفسه، فإنه من أعظم أنواع كفران المنعم و نسيان النعمة و الانهيار في الهاوية، و هذه من المقامات التي تحط دونها الرحال و تزل فيها أقدام الرجال.

و ينحصر علاج هذا الداء العظيم المهلك بالتفكّر في عظمة اللّه تعالى و فناء الدنيا و ما فيها، و التفكّر في الحوادث الواقعة بين أيدينا، و بعد التأمّل في جميع ذلك يزول الغرور لا محالة، كما نرى في حالات الأنبياء و الأولياء و عباد اللّه المخلصين، فإنهم لا يرون لأنفسهم شأنا إلاّ بإضافة أنفسهم إلى اللّه تعالى،

قال علي عليه السّلام: «كفى بي فخرا أن أكون لك عبدا، و كفى بي عزّا أن تكون لي ربّا»،

و قد سأل شخص مولانا الباقر عليه السّلام: «أنت من علماء أمة محمد صلّى اللّه عليه و آله؟ فقال عليه السّلام: لست من جهالها»،

و في الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة: «اللهم لا ترفع لي درجة عند الناس إلا حططتني عند نفسي مثلها»، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الغرور و نواحيه إن شاء اللّه تعالى.

ص: 173

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ و.......

اشارة

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) الآيتان من جلائل الآيات القرآنيّة تبيّن عظمة الباري جلّ شأنه و هيمنته و جبروته، و سيطرته على جميع الموجودات سيطرة ملكوتيّة، عمّت تمام المخلوقات بجواهرها و أعراضها و جميع اضافاتها و تبدّلاتها و حالاتها. و هما تبعثان في نفس المخاطب عظمة اللّه سبحانه و تعالى و كبرياؤه و تمام قدرته. فهو القائم على شؤون خلقه و المالك الذي يتصرف في ملكه كيف يشاء، لا يعجزه شيء و هو العليم بأسرار خلقه و المدبّر لهم تدبير حكمة.

و الآية المباركة تبيّن سرّ الوحدة الحقيقيّة التي ظهرت في أعيان التكثّرات، و أنها بدت من الواحد بالذات و الصفات.

و فيها تلقين للعباد كيفية التمجيد و الثناء و الابتهال، يتّحد فيه الداعي و المدعو و الدعاء فهو اللّه بالتحقيق و الركن الوثيق و الجار اللصيق، كلّ ذلك بأسلوب رفيع و نظم بديع و نسق لطيف.

التفسير

قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ .

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي و واسطة الفيض و غاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول و الروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا، لأن خطابات اللّه المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

ص: 174

خطاب (قل) موجّه إلى سيد الأنبياء باعتبار وجوده الجمعي و واسطة الفيض و غاية الإفاضة، ليشمل جميع ذوي العقول و الروحانيين، بل يصحّ الشمول للجمادات أيضا، لأن خطابات اللّه المقدّسة بالنسبة إلى الحقائق التكوينيّة شاملة للجميع، كما في قوله تعالى: فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، مع أن الخطاب عدم لجميع الممكنات، يصحّ أن يكون لفظه أيضا كذلك.

اللهم: أصله «يا اللّه»، و الميم المشدّدة عوض عن حرف النداء (يا)، و لا يجتمعان إلاّ شاذا كما في قول الراجز:

إني إذا ما حدث ألما *** أقول يا اللهم يا اللهما

و قال آخر:

و ما عليك أن تقولي كلّما *** صلّيت أو سبّحت يا اللهم ما

و مادة (ملك) تأتي بمعنى الاستيلاء و السلطنة، و هما قد يكونان حقيقيتان، و هي عبارة: عن الاستيلاء على الشيء من كلّ جهة إيجادا و إبقاء و افناء و ربوبيّة، و تصويره بكلّ صورة شاء و أراد. و هذا القسم مختصّ باللّه سبحانه و تعالى، فإنه مالك لجميع خلقه ملكيّة حقيقيّة من كلّ جهة يفرض فيها.

و اخرى: اعتباريّة تدور مدار اعتبار العقلاء، نحو ملكية الإنسان للأشياء التي تقع تحت استيلائه،

و في الحديث: «أملك عليك لسانك»، أي لا تجرّه إلاّ بما يكون ذلك لا عليك، و هذه الملكيّة الاعتباريّة تدور مدار اعتبار المعتبر، و قابلة للتغيير و التبديل و الزوال.

و هذا القسم يلازم القسم الأوّل دون العكس. فيصحّ اعتبار هذه الملكيّة بالنسبة إلى اللّه عزّ و جلّ بالأولى، لأن كلّ وصف ممكن لا يستلزم من إطلاقه النقص بالنسبة إليه عزّ و جلّ، فيصحّ وصفه به، قال تعالى: وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اَللّهِ اَلَّذِي آتاكُمْ [سورة النور، الآية: 33]، و قال تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ وَ لَهُ اَلْحَمْدُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و يصحّ انتزاع هذه الملكيّة الاعتباريّة عن الملكية الحقيقيّة. و بها تنظيم الأغراض العقلائيّة الفرديّة و الاجتماعيّة.

ثم إنّ الملكيّة الاعتباريّة..

تارة: تكون بوضع من اللّه تعالى، كملكيّة الإنسان لنفسه و أجزائه و تصرفاته السائغة في بدنه، بحسب التكوين و التشريع.

ص: 175

و اخرى: تكون بوضع و اعتبار من العقلاء كما ذكرنا، و أما بالنسبة إلى ملكيّة المولى للعبد، فإنه لا ريب في كونها من الملك (بالكسر) الاعتباري، لصحّة هذا الاعتبار عند الجميع، و أما كونها من الملك (بالضم) ففيه منع، إذ لا يعتبر العقلاء بين المولى و العبد الملوكيّة و الرعيّة.

و الملك (بالضم) اسم لما يملك و يتصرّف، و إنه على قسمين أيضا، ملك حقيقي و هو التصرّف في شؤون الرعية تصرفّا حقيقيّا بكلّ ما يريد من غير مزاحمة و لا معارضة، و هو مختصّ باللّه تعالى أو ما يمنحه اللّه عزّ و جلّ لبعض أنبيائه و أوليائه، فهو جلّت عظمته خالق كلّ شيء و مالكه، و له الربوبيّة العظمى العامّة و القيوميّة المطلقة، قال تعالى: ذلِكُمُ اَللّهُ رَبُّكُمْ لَهُ اَلْمُلْكُ وَ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ [سورة فاطر، الآية: 13]، فيرجع إلى الملك (بالكسر) الحقيقي و ملازم له، و يصحّ أن يعبّر عنه بأنه ملك في ملك.

و اخرى: ملك (بالضم) اعتباري اعتبره الاجتماع، مثل ملوك أهل الأرض الّذين يتسلّطون على جماعة من الناس و يتصرّفون فيهم تصرّفا يصلح بها شؤونهم. و بعد فرض أنه تعالى خالق لجميع الممكنات و موجدها من العدم و مبقيها و مفنيها، و بيده تدبيرها و تربيتها، و هو الربّ على الإطلاق و القيوم كذلك، فهو مالك و ملك و مليك، و جميع هذه الإطلاقات من لوازم الفرض الذي فرضناه.

و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم أيضا قال تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 255]، فقد أثبت الملكية لنفسه، و قال تعالى:

مَلِكِ اَلنّاسِ [سورة الناس، الآية: 2]، الذي أثبت الملوكية لنفسه، و قال تعالى:

عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ [سورة القمر، الآية: 55]، حيث أثبت المالكيّة و الملوكيّة لنفسه الأقدس، فثبت قول جمع من الفلاسفة المتألّهين من أن بسيط الحقيقة من كلّ جهة يتّصف بكلّ شيء لا يستلزم النقص فيه، و تقدّم بعض الكلام في سورة الحمد [سورة الحمد، الآية: 4]، فراجع.

و من ذلك يظهر أن الملك في الآية الشريفة هو الأعم من الحقيقي

ص: 176

و الاعتباري في الملك (بالكسر) و الملك (بالضم)، و يبيّن ذلك بقية الآية الشريفة، أي قوله تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، لأنّ مالكيّته تعالى للملك تستلزم مالكيّته لما يتسلّط عليه كلّ مالك و ملك.

كما أنه يمكن أن يكون المراد بالملك طبيعته و ذاته، أي ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء، فيشمل جميع ما سواه عزّ و جلّ وجودا أو عدما، فإن قسما من الأعدام أيضا داخلة تحت ملكه و سلطنته، فهو مسلّط على إيجاد المعدوم و إعدام الموجود، و يبيّنه ما بعده أيضا، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى: لَهُ اَلْمُلْكُ [سورة التغابن، الآية: 1]، و قوله تعالى: بِيَدِهِ اَلْمُلْكُ [سورة الملك، الآية:

1]، و نحو ذلك.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بلفظ الملك دون غيره لإظهار معنى التسخير، فكما أن المملوك مسخّر تحت إرادة المولى، كذلك تكون جميع الممكنات بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و هذا المعنى ظاهر من سائر الآيات الشريفة.

قوله تعالى: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ .

مادة (نزع) تأتي بمعنى إخراج الشيء و قلعه عن محلّه و مقره، كنزع الثوب عن البدن، قال تعالى: يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما [سورة الأعراف، الآية: 27]، و قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الحجر، الآية: 47]، و قال تعالى:

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ [سورة الأعراف، الآية: 108]، و قال تعالى:

وَ اَلنّازِعاتِ غَرْقاً [سورة النازعات، الآية: 1]، و الملك في المقام هو مطلق السلطنة و الاستيلاء، و قد ذكرنا أن المراد به طبيعته و ذاته، و هو ما يصحّ أن يقع تحت الاستيلاء و السلطنة، ليشمل جميع الممكنات القابلة للوجود و الإيجاد، فيشمل الملك (بالضم) و الملك (بالكسر)، و النبوّة، إذ هي ملك ايضا، قال تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 54]، فإن جميع ذلك واقع تحت سلطان اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و هي من مواهبه و عطاياه التي يمّن بها على من يشاء من

ص: 177

خلقه و يمنعها عمّن يشاء منهم، و قد بنى اللّه تعالى النظام التكويني و التشريعي و الاجتماعي على الملك، و هو محبوب لدى المجتمع الإنساني تستقيم به حياتهم في النشأتين.

و أما ما يترتب عليه من الآثار السيئة، فهي ترجع إلى كيفية إعماله و الاستفادة منه، دون أصله الذي هو محبوب كما ذكرنا، و به يقع الامتحان و الابتلاء، قال تعالى حكاية عن سليمان: فَلَمّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ [سورة النمل، الآية: 40].

و إنما علّق سبحانه و تعالى الإيتاء و النزع على المشيئة، لبيان أن العباد غير مجبورين على ذلك على نحو الحتم و القضاء المبرم، بل لإرادة العباد و أعمالهم المدخلية فيهما، فجميع أعمال العباد الصادرة منهم منسوبة إليهم، كما أنها منسوبة إلى اللّه تعالى، كلّ منهما على نحو الاقتضاء لا العلّيّة التامّة.

نعم، له عزّ و جلّ ألطاف و توفيقات خاصة بالنسبة إلى المستفيض إن كان من أهل الصلاح و التقوى و إقامة العدل، فيعطيه اللّه الملك لإقامة العدل و الإصلاح بين العباد، قال تعالى: اَلَّذِينَ إِنْ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ لِلّهِ عاقِبَةُ اَلْأُمُورِ [سورة الحج، الآية: 41]، و ليس لغير أهل التقوى هذا التوفيق و اللطف الخاص، و لكنّه تعالى يقدّر الملك لمثل هؤلاء تنظيما للنظام و الامتحان و الاختبار و إتماما للحجّة، قال تعالى: أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنّاهُمْ فِي اَلْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا اَلسَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا اَلْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [سورة الأنعام، الآية: 6]، و قال تعالى: وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتّى يَرَوُا اَلْعَذابَ اَلْأَلِيمَ * قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ

ص: 178

[سورة يونس، الآية: 88 و 89]، كما أن في التعليق على المشيئة إشارة إلى أنه تعالى غير مجبور في أفعاله، و إن كانت تجري وفق المصلحة و الحكمة التامّة.

قوله تعالى: وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ .

مادة (عزز) تأتي بمعنى المنيع الذي لا ينال و لا يغالب و لا يعجزه شيء، فيكون صعب المنال. و بهذه العناية يطلق على الشيء النادر الوجود أنه عزيز، و

في المأثور: «إذ أعزّ أخوك فهن»، أي إذا غلبك و لم تقاومه، فلن له.

و من أسمائه تعالى (العزيز)، أي الغالب القوي الذي لا يغلب و لا يعجزه شيء، كما أن من أسمائه تعالى (المعزّ)، أي واهب العزّة لمن يشاء من عباده، و قال تعالى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ [سورة التوبة، الآية: 128]، أي صعب و شديد عليه، و قال تعالى: وَ عَزَّنِي [سورة ص، الآية: 23]، أي غلبني.

و العزّة و الذلّة متقابلان، فالذليل هو الذي يغلب عليه و يعجزه كلّ شيء، سواء كان بالقهر و بلا اختيار، كقوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ وَ اَلْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة، الآية: 61]، و قال تعالى: وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً [سورة الإنسان، الآية: 14]،

و في الحديث: «اللهم اسقنا ذلل السحاب»، أي ما لا رعد فيه و لا برق. أم بالاختيار، قال تعالى: وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ [سورة الإسراء، الآية: 24]، و قال تعالى: أَذِلَّةٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة المائدة، الآية: 54]، و قال تعالى: وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [سورة النمل، الآية: 34].

و من أسمائه تعالى: «المذل»، أي هو الذي يلحق الذلّ بمن يشاء من عباده و ينفي عنه أنواع العزّة.

و هما من الأمور التشكيكيّة التي لها مراتب كثيرة، و هما اما دنيوية أو اخروية أو هما معا، و العزّة أعمّ من الملك، و هي قد تكون حقيقيّة، و هي التي يمنحها اللّه تعالى لعباده المخلصين و أوليائه المقرّبين، قال تعالى: وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قد تكون وهميّة خياليّة تابعة للملك

ص: 179

و السلطنة، و هي إن كانت عزّة ظاهرا و لكنّها ذلّة في الحقيقة و الواقع، قال تعالى:

أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139].

و يستفاد من الآية المباركة تلازم العزّة و الذلّة خارجا، لأن عزّة كلّ فرد تلازم ذلّة آخر، كالعكس أيضا كما نراه بالعيان.

ثم إن العزّة و الذلّة لا تختصّان بمورد واحد، فقد تكون العزّة في أشياء كثيرة و الذلّة كذلك، فربّ عزيز من جهة ذليل من جهة اخرى، و ربّ ذليل من ناحية هو عزيز من ناحية اخرى، و إعطاء العزّة و الذلّة لعباده من شؤون ربوبيّته العظمى، و كذا بالنسبة إلى جهاتها غير المحدودة بحدّ.

و يصحّ أن يقال: إنّ الممكن في حدّ ذاته الإمكانية ذليل، أي ليس فيه أي حظ من الخير إلاّ ما يمنحه اللّه تعالى. و الكلام في تعليق العزّة و الذلّة على المشيئة ما تقدّم في صدر الآية.

قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ .

اليد تأتي بمعنى الاستيلاء. و المراد بها في المقام القدرة الكاملة و التدبير الكامل الموافق للحكمة البالغة المتعالية، و بها تقوم جميع الممكنات في النظام الأحسن و ينتظم شؤونها، و هي القوّة القاهرة التي لا بد من انبعاث جميع قوى الموجودات عنها.

و الخير ضد الشرّ، و معناه كلفظه مرغوب و مطلوب، و المراد به في المقام حقائق الممكنات بجميع شؤونها و أطوارها، حدوثا و بقاء، و هو من الحقائق الواقعيّة التي لها مراتب كثيرة، متفاوتة جوهرا و عرضا، اشتدادا و تضعّفا، هذا بالنسبة إليه تعالى.

و أما بالنسبة إلى الإنسان، فهو خير اعتقادي بحسب ما يختاره و يقيسه بالنسبة إلى شيء آخر، أو ما يتحقّق فيه رغبته و مطلوبه، فقد يكون مطابقا للواقع، كما

في الحديث: «رأيت الجنّة و النار فلم أر مثل الخير و الشرّ»، أي لم أر مثلهما لا يميّز بينهما، فيبالغ في طلب الجنّة (الخير) و الهرب من الشرّ (النار)، و قد يكون مخالفا

ص: 180

قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و تدلّ الآية الشريفة على انحصار الخير فيه تعالى، فيستفاد منها و من أمثالها أمران:

الأوّل: أن ذاته تبارك و تعالى خير محض، لقاعدة: «ان معطي الشيء لا يمكن أن يكون فاقدا له»، فهو تعالى خير على الإطلاق، و لكن لم يرد في الكتاب و السنّة إطلاق الخير بنحو الاسمية، و إنما ورد في القرآن الكريم على نحو التوصيف، قال تعالى: وَ اَللّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى [سورة طه، الآية: 73]، و قوله تعالى: أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة يوسف، الآية: 39]، و لعلّ عدم إطلاق لفظ الخير عليه تعالى لتنزيهه عمّا يتبادر في أذهان الناس من نسبته إلى غيره.

نعم اطلق عليه بنحو الإضافة في موارد متعدّدة، مثل قوله تعالى: وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ خَيْرُ اَلرّازِقِينَ [سورة الحج، الآية: 58]، و قوله تعالى: وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْمُنْزِلِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 29]، و قوله تعالى: وَ هُوَ خَيْرُ اَلْحاكِمِينَ [سورة يونس، الآية: 109]، و نحو ذلك و إطلاقه في جميع الآيات الشريفة من باب إضافة الصفة إلى الاسم الذي ورد التوقيف فيه، و هو لا محذور فيه.

الأمر الثاني: أنها تدلّ على أصالة الماهيّة في الجعل، كما عليها أغلب المتكلّمين و جمع كثير من الفلاسفة، لأن الخير المطلق و ملكوت الأشياء ليس إلا حقائقها، فإذا لا حظنا الحقائق باعتبار إضافتها الإيجادية الإشراقية إليه تعالى تشمل الحقائق بوجوداتها و ماهياتها، و ليس ذلك تعدّدا في الجعل حتّى يلزم عليه مناقشات و محذورات، لأنّه بعد فرض كون أحدهما تبعا محضا للآخر، كالماهيّة إن قلنا بأصالة الوجود، فالوجود إن قلنا بأصالة الماهيّة، فأين التعدّد الخارجي حتى يلزم المحذور، و لا ينافي ذلك ما اشتهر بين الفلاسفة من أن الوجود خير محض، لاتفاق الكلّ على أن الخيريّة المحضة إنما تكون بعد جعل الحقائق.

ص: 181

بل يمكن أن يستفاد من مثل هذه الآية الشريفة الجعل المركب بالنسبة إلى الحقائق، فهو الذي جعل النار نارا و الماء ماء، كما عليه بعض محقّقي مشايخنا قدس سرّهم،

و في الحديث: «ان اللّه مجسّم الجسم و خالقه»،

و في الحديث الآخر: «و هو الذي أيّن الأين و كيّف الكيف».

و هذه الآية في موضع التعليل لما تقدّمها و ذكر العام بعد الخاص، أي: أن اللّه تعالى يؤتي الملك و العزّة لمن يشاء و يمنعهما عمّن يشاء، لأن بيده الخير الذي هو أعمّ منهما.

إن قيل: انتزاع الملك و الذلّة ليسا من الخير، فكيف يشملهما قوله تعالى:

بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ؟ يقال: بعد أن كانت الذلّة و انتزاع الملك مطابقين للحكمة الواقعيّة التامّة يكونان خيرا محضا، و إن كانتا بحسب اعتقاد الناس من عدم الخير.

و إنما قال تعالى: بِيَدِكَ ، لبيان أن جميع ما يفعله تعالى من إيتاء الملك و نزعه و نحو ذلك، كلّه خير محض بحسب الواقع، فهو عبارة اخرى عن الرحمة الرحمانيّة و الرحمة الرحيميّة التي تعمّ الجميع.

و أما ما فرق به بعض أعلام المفسّرين بين الخير التكويني و الخير التشريعي، فهو في نفسه حقّ، لأنّ الخير التشريعي منوط بإرادة الناس للطاعة، بخلاف الخير التكويني، فإنه منوط بإرادة اللّه تعالى فقط.

لكن، لا وجه له في المقام، لأنّ الخير التشريعي يرجع إلى الخير التكويني، كما قرّره بعض مشايخنا في الأصول، و خلاصة كلامه أن إثارة دقائق العقول و ما في الفطرة من أهم و جهات نظام التكوين، و لا يمكن ذلك إلاّ بالتشريع، فكما أن التكوين بلا تشريع باطل في النظام الأحسن، كذلك التشريع بلا تكوين باطل أيضا و لا وجه له.

هذا موجز الكلام و سيأتي التفصيل في الموضع المناسب إن شاء اللّه، هذا كله في الخير.

ص: 182

و أما الشرّ، سواء كان تكوينيّا، كنزع الملك و الذلّة، أم تشريعيّا و هو أقسام المعاصي و الذنوب، فإن رجع إلى عدم الخير و عدم التوفيق، فيمكن انتسابه إلى اللّه تعالى، و إن رجع إلى فعل المعاصي و الذنوب و القبائح و أمثال ذلك فلا يمكن انتسابه إلاّ إلى اختيار الإنسان، و أما نسبته إلى اللّه تعالى المنزّه عن النواقص و القبائح فلا تصحّ.

قوله تعالى: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

الجملة في مقام التعليل لجميع ما تقدّم، أي: أن جميع ما سواه تحت قدرته و إرادته، فكلّ ما يطلق عليه الشيئيّة جوهرا أو عرضا خارجا أو ذهنا أو في أي عالم من العوالم، يكون تحت قدرته.

أي: أن اللّه تعالى قادر على إيتاء الملك و نزعه و إيتاء العزّة و الذلّة، بل كلّ ما هو خير مفروض يكون تحت إرادته و سلطانه، و قدرة العبد على شيء من ذلك إنما هي مستندة إلى إيجاد القدرة فيه و مستندة إلى قدرته عزّ و جلّ، قال تعالى:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

قوله تعالى: تُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ تُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ .

الولوج هو دخول شيء في شيء بحيث يستره، و سمّي السباع و الحيات الوالجة لأنها تلج في كهف أو شعب أو حجر أو غيرها،

و في المأثور: «إياك و المناخ على ظهر الطريق، فإنه منزل للولجة»، يعني السباع و الحيات، و سمّيت بالولجة لاستتارها في النهار بالاولاج.

و إيلاج الليل في النهار و بالعكس معلوم لكلّ من يقع في طي الزمان و توارد الحدثان، و هو المشاهد من اختلاف الليل و النهار في طول السنة و دخول أحدهما في الآخر، بحيث يطول طرف و يقصر الطرف الآخر حسب سير دقيق و منظم، و هذا يختلف باختلاف الفصول و البعد عن خط الاستواء، فيتساوى الليل و النهار

ص: 183

على خط الاستواء في جميع بقاع الأرض بحسب الحسّ، و إن كان التغيير فيهما واقعا أيضا حقيقة و يختلفان باختلاف ميل الشمس عنه و سيرها في منطقة البروج، فيتفاوتان بالزيادة و النقصان بحسب مواقع الأرض و الزمان، فنشاهد من أوّل الشتاء إلى أوّل الصيف يأخذ الليل بالزيادة و النهار بالنقيصة على حساب منظم، و هذا هو ولوج النهار في الليل، ثم تأخذ الليالي بالنقيصة و النهار بالزيادة من أوّل الصيف إلى أوّل الشتاء، و هذا هو ولوج الليل في النهار، و يختلف ذلك على سبيل التعاكس في المدارات الشماليّة و المدارات الجنوبيّة، كلّ ذلك على تفصيل مذكور في علم الفلك ليس ها هنا محل ذكره.

و عموم الآية الشريفة يشمل كلّ ليل و نهار يفرض، سواء كانا على وجه هذه البسيطة أم في كرات سماويّة اخرى، كما قرّر في علوم الفلك.

و في اختلاف الليل و النهار من الحكمة الباهرة و عموم الرحمة و النظام الدقيق و الحكمة العظيمة ما تبهر منه العقول، و تظهر فيه آثار القدرة الكاملة و الحكمة العالية، و هذا من أعظم مجالي قدرته تعالى و سلطته على الزمان، التي تحيّر فيها عقول الحكماء، حتى ذهب جمع إلى وجوب وجوده و قدمه، و جمع آخر إلى خلاف ذلك، حتّى حدى بعضهم على إنكار الزمان و القول بأنه مجرّد امتداد وهمي.

و في هذه الآية و أمثالها يبين سبحانه و تعالى أن الزمان ممكن و واقع تحت قدرته و مجعول له تعالى، و يقع التغيير و التبديل فيه فلا يمكن قدمه الذاتي، كما ذهب إليه بعض، و لا يصحّ القول بوهميّته، لأنه خلاف ما هو المنساق من هذه الآيات و الوجدان، و بيّن سبحانه و تعالى في آيات اخرى المنافع و الحكم العظيمة في ذلك، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الكلام في ذلك.

قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ .

الموت و الحياة متقابلان و معلومان لكلّ ذي حياة، و لا يختصّان بخصوص الحيوان فقط، بل لكلّ شيء حياة و موت حسب استعداده و قابليته، كما أثبته العلم الحديث، و لكن لكل شيء حياة خاصة به، و كذلك الموت، لا يمكن إدراكهما لغيره

ص: 184

تعالى، قال جلّ شأنه: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة الإسراء، الآية: 44].

و خروج الحي من الميت و بالعكس لهما مظاهر مختلفة، لا يمكن إدراكها إلاّ للّه تعالى..

منها: خروج النباتات التي لها حياة نباتيّة من الأرض الميتة.

و منها: خروج الإنسان من النطفة ثم موته بعد مدة.

و منها: خروج المؤمن من صلب الكافر، و خروج الكافر من صلب المؤمن، فإن الإيمان أعظم أقسام الحياة المعنويّة، قال تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي اَلظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأنعام، الآية: 122].

و عموم هذه الآية الشريفة يشمل جميع ما سواه تعالى ممّن له استعداد الحياة و الموت بأي وجه يتصوّر، و ما ذكره المفسّرون في تفسير الآية المباركة من باب ذكر المصاديق.

قوله تعالى: وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

الجملة في مقام التعليل أيضا، أي: أن إعطاءه الملك و العزّة و الخير من صغريات رزقه الذي يرزق به من يشاء بغير حساب في الكميّة أو الكيفيّة و عدم المداقة، بل من كلّ جهة.

و الرزق هو العطاء المستمر، و من أسمائه تعالى: «الرازق»، و هو الذي خلق الأرزاق و أعطاها الخلائق و أوصلها إليهم.

و الرزق نوعان ظاهري للأبدان كالأقوات، و باطني للقلوب و النفوس كالمعارف و العلوم، فكما أنه يشمل المال و الجمال و الكمال، و كلّ ما هو دائر في الاجتماع من الخير، فهو رزق منه جلّ شأنه.

و لا يختصّ الرزق بالإنسان، بل يشمل الحيوان و النبات و الجماد، فإن الرزق

ص: 185

يعمّ جميع ذلك بما لها من الأفراد و الأنواع غير المتناهيّة، فلا يكون الرزق متناهيا لا من حيث الإضافة إلى اللّه تعالى، و لا من حيث الإضافة إلى المرزوق، بل يستحيل ذلك لعدم التناهي بقاء و إن كان متناهيّا حدوثا، و إذا لوحظ بالإضافة إلى كونه في غير حساب يصير من غير المتناهي في غير المتناهي.

و يستفاد من الآية الشريفة أن الرزق إنما هو فضل منه عزّ و جلّ يعطيه بلا مقابل و عوض، و أن عمومه يشمل المؤمن و غيره، و إن كان في نسبة الرزق إليه تعالى بالنسبة إلى الأخير كلام نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى.

ص: 186

بحوث المقام
بحث أدبي:

اختلف الأدباء في صيغة «اللّهم»، فقيل إنّ أصله: «يا اللّه»، فلما حذف حرف النداء جعلوا بدله الميم المشدّدة، و الضمة في الهاء ضمة الاسم المنادى المفرد. و لا يجتمع العوض و المعوض في الكلمة إلاّ شاذا كما مرّ.

و قيل: إنّ أصله: «اللهم آمنا بخير»، فحذف و خلط الكلمتان، و أن الضمة التي في الهاء هي الضمة التي كانت في (أمنا) لما حذفت انتقلت الحركة إلى ما قبلها.

و الحقّ: أن الكلمة هي واردة بهذه الهيئة كسائر الكلمات من دون احتياج إلى التماس الأصل فيها، و استعمالها مع حرف النداء - كما مرّ - شاذ لا يقاس عليه.

و قوله تعالى: مالِكَ اَلْمُلْكِ ، منصوب على أنه منادى آخر مضاف أو على أنه صفة لاسم اللّه تعالى.

و قوله: تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ، إما في موضع الحال من المضمر في مالك، أو أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: «أنت تؤتي الملك من تشاء»، و كذلك الحال في «تنزع» و «تعز» و «تذل».

و قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، قيل: إنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: «أنت بيدك الخير».

و الصحيح: أنه جملة مؤلّفة من خبر مقدّم و مبتدأ مؤخّر تفيد الحصر.

و قيل: إنّ في قوله تعالى إيجاز بالحذف، أي: «بيدك الخير و الشر»، نظير قوله تعالى: وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ اَلْحَرَّ [سورة النحل، الآية: 81]، أي و البرد.

و لكن الحذف خلاف القاعدة، و لا نحتاج إلى التقدير مع أن الجملة وافية بالمقصود من دون تقدير، و كأن السبب في الحذف و التقدير هو ما يرتبط بآراء المعتزلة بعدم استناد الشرور إليه تعالى، و لكن المبنى و البناء كليهما باطل، كما عرفت، و يأتي له مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

ص: 187

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يصحّ أن يكون المخاطب في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ ، هو سيد الأنبياء، لأنه واسطة الفيض و غاية الإفاضة و أكمل الممكنات من الاستفاضة، كما يصحّ أن يكون الخطاب الأعمّ من التشريع و التكوين، نظير قوله تعالى:

ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11].

و عظمة مضمون الخطاب في المقام تشمل كلا منهما، لشهادة جميع الموجودات بلسان الحال بمضمون المقال.

و ربما يقال: إنّ الآية الثانية قول اللّه تعالى مباشرة، و في المقام أمر بالقول، فلا وجه لتعليقه بالتكوينيّات.

يقال: إنه إذا كان الأمر من اللّه عزّ و جلّ، فلا فرق بين أن يتعلّق بالقول أو بشيء آخر، أن المناط كلّه إرادة المنشئ (بالكسر)، إلاّ أن في التشريعيات يصدر الفعل عن اختيار العبد تصحيحا للثواب و العقاب، و في التكوينيّات لا اختيار في البين بحسب إدراكاتنا القاصرة.

الثاني: تقديم اسم الجلالة في الآية الشريفة لبيان السبب، أي: أن مالكيته تعالى للملك و كون العزّة و الخير و القدرة و الرزق بيده، لأنه اللّه المستجمع لجميع صفات الجمال و الكمال.

الثالث: في الآية الشريفة من أسرار البلاغة و لطائفها ما تبهر العقول منها، فإنه تعالى جمع بين أنحاء من أفعاله المتقابلة، فجمع بين إيتاء الملك و نزعه، و هما ممّا يقوم به نظام الاجتماع، كما جمع بين النهار و الليل و إيلاج أحدهما في الآخر، و هما من أتم ما يقوّم نظام العالم، و المناسبة بين هذين الأمرين، فإن إيتاء الملك نحو كمال و حياة و تسليط لبعض الأفراد على بعض، فيكون من قبيل إيلاج النهار في الليل،

ص: 188

حيث يتسلّط الضوء و تذهب الظلمة، و نزع الملك نحو حزازة و منقصة بالنسبة إلى من ينزع عنه، فيكون من قبيل تسليط الليل على النهار و إذهاب الضوء.

و في الآية الثانية ذكر إيتاء العزّة لمن يشاء، و قال جلّ شأنه تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، و هو نوع من الحياة، فإن العزيز له نحو حياة عند المجتمع، و الإذلال نحو من الموت عندهم، و هذا ممّا يناسب قوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ .

الرابع: جمع سبحانه و تعالى في هذه الآيات بين أربعة من الأمور التكوينيّة، و هي: إيلاج الليل في النهار و بالعكس، و الموت و الحياة، و أربعة من الأمور الاجتماعيّة، و هي: إيتاء الملك و نزعه و العزّة، و الذلّة، و هذه الأمور الثمانية يناسب أحدها الآخر، فإن إيتاء الملك و نزعه يناسبان الليل و النهار، و العزّة و الذلّة تناسبان الحياة و الموت.

و ذكر: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، لبيان تسلّطه على هذه الأمور الاجتماعية، و تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، لبيان تسلّطه على الأمور التكوينيّة، فكانت المقابلة بين هذين الأمرين أيضا من هذه الجهة. و يجتمع الجميع في الحياة بالمعنى الأعمّ، أي الحياة الفردي و الاجتماعي، و يستلزم ذلك الاقتدار على مقابلها و هو الموت، لأن القدرة على شيء يستلزم القدرة على نقيضه أيضا، و إلاّ لا معنى للقدرة.

الخامس: إنما عبّر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة بالمشيئة دون الإرادة، لأن إرادته المقدّسة من صفات فعله، و المشيئة مقدّمة على الإرادة، فبيّن تعالى أن إيتاء الملك و نزعه و العزّة و الذلّة داخلة تحت مشيئته، و الأسباب الظاهريّة التي تبذل في طلبها ليست علّة تامّة لحصولها.

السادس: إنما ذكر تعالى العزّة و الذلّة دون غيرهما من الأمور الدائرة في الاجتماع، كالغنى و الفقر و نحوهما، لأن لهما مصاديق كثيرة، تشملان جميع شؤون الدنيا، و فيه ردّ على مزاعم أهل الكتاب من طلب العزّة بغير اللّه تعالى.

السابع: إنما اقتصر سبحانه و تعالى على ذكر الخير فقط، لأن المقام مقام تعليم الدعاء و الثناء عليه و التعريض بالبشرى به، و لا معنى لذكر الشرّ، مع أننا

ص: 189

ذكرنا سابقا أن الشرّ داخل تحت قضائه و قدره، و إن لم يكن مرضيّا له، مضافا إلى أنه يمكن استفادته من ذكر الذلّة و نزع الملك.

و لا يستفاد من عدم ذكر الشرّ قول المعتزلة من نفي استناد الشرور إليه تعالى، فإنهم إن أرادوا نفي رضاه تعالى به فهو مسلّم و لا يقول به أحد، و إن أرادوا نفي قضائه له و عدم قدرته تعالى عليه، فهو خلاف صريح الآية الشريفة و الأدلّة العقليّة و النقليّة.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ ، أن أهمّ مقاصد الإنسان الذي هو العزّة، لا بد و أن ترجع إليه تعالى، كما أن أهم ما يبتعد عنه و هو الذلّة ترجع إليه أيضا، فجميع ما ينفع في هذا العالم و ما يضرّ ترجع إليه عزّ و جلّ، و قد دلّت الأدلّة العقليّة و النقليّة عليه، لأن جميع الممكنات لا بد أن يرجع إلى الواجب بالذات. قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78]، فالآية المباركة ترشد إلى أمر عقلي و هو استيلاء اللّه جلّت عظمته على هذا العالم.

التاسع: الآية الشريفة جامعة للتوحيد الذاتي في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ ، و التوحيد الفعلي في بقية الآية المباركة في نظم بديع و نسق لطيف.

العاشر: الآية الشريفة من القضايا التي تشتمل على العلّة و المعلول، فيصحّ أن يقال إنه مالك الملك، لأنه على كلّ شيء قدير، كما يصحّ أن يقال إنه على كلّ شيء قدير، لأنه مالك الملك، و كذلك بالنسبة إلى سائر جملاتها، و يصحّ اجتماع العلّيّة و المعلوليّة في شيء واحد باختلاف الاعتبار و تعدّد الجهات.

بحث روائي:
فضل الآية:

وردت روايات تدلّ على فضل آيات شريفة كآية الكرسي و آية شَهِدَ اَللّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ [سورة آل عمران، الآية: 18 و 19]، و هذه الآية المباركة:

ص: 190

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ و غيرها من الآيات، فقد وردت في فضل هذه الآية المباركة روايات:

منها: ما تقدّم في آية الكرسي، و آية 18 من سورة آل عمران.

و منها:

ما عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي أجاب في هذه الآية».

أقول: المراد من كون الاسم الأعظم في هذه الآية الشريفة إما الاسم الأعظم الحالي لمن حصل له حالة خاصة، أو المقالي، لكن مع شروط خاصة لا بد منها.

و منها: ما عن بعض الأعاظم أن من قرأ هذه الآية و بعد تمامها قال:

«يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيمهما تعطي منهما ما تشاء و تمنع منهما ما تشاء، اقض عني ديني»، يقضى عنه دينه.

أقول: و قد جرّب ذلك بعض، و اللّه العالم.

تفسير الآية:

في الكافي: عن عبد الأعلى مولى آل سام عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قلت له:

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، أليس قد آتى اللّه بني امية الملك؟ قال عليه السّلام: ليس حيث تذهب!! إن اللّه عزّ و جلّ آتانا الملك و أخذته بنو امية، بمنزلة الرجل يكون له الثوب فيأخذه الآخر فليس هو الذي أخذه».

أقول: المراد بذلك بعض بطون الآية، و إلاّ فالآية المباركة عامّة شاملة لكلّ ملك، حقيقيّا كان - و هو الإحاطة على حقائق الموجودات بحسب الاستعداد - أو ظاهريّا واقعيّا كان أم تشريعيّا، و قد يقع الخلط بينها كما وقع لراوي الحديث، لأن الملك الحقيقي و الواقعي كان لهم عليهم السّلام.

و في المجمع: روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ، قيل: معناه و تخرج

ص: 191

المؤمن من الكافر، و تخرج الكافر من المؤمن».

و في الدر المنثور: عن ابن مسعود و عن سلمان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: في قوله تعالى:

يُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ قال صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن».

أقول: هذا من باب ذكر بعض المصاديق، لأن الحياة و الموت كما مرّ في التفسير تشملان الحياة الحقيقيّة و الجسمانيّة.

و في الدر المنثور - أيضا -: عن سلمان الفارسي: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لما خلق اللّه آدم عليه السّلام أخرج ذرّيته فقبض قبضة بيمينه، فقال: هؤلاء أهل الجنّة و لا أبالي، و قبض بالأخرى قبضة فجاء فيها كلّ رديء، فقال: هؤلاء أهل النار و لا أبالي، فخلط بعضهم ببعض فيخرج الكافر من المؤمن و يخرج المؤمن من الكافر، فذلك قوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ ».

أقول: تقدّم وجهه و أن ذلك من باب بيان بعض المصاديق، و أمثال هذه الرواية كثير وردت في أبواب الطينة و سنتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى في الآيات المناسبة.

و فيه - أيضا -: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما خطّ الخندق عام الأحزاب، و قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا و أخذوا يحفرون، خرج من بطن الخندق صخرة كالتل العظيم لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يخبره، فأخذ المعول من سلمان فضربها ضربة صدعتها و برق منها برق أضاء ما بين لابتيها لكأن مصباحا في جوف بيت مظلم، و كبّر و كبّر المسلمون، و قال: أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلاب، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها القصور الحمر من أرض الروم، ثم ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء و أخبرني جبرائيل عليه السّلام أن امتي ظاهرة على كلّها فابشروا، فقال المنافقون: ألا تعجبون يمنّيكم و يعدكم الباطل و يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى، و أنها تفتح لكم و أنتم تحفرون الخندق من الفرق لا تستطيعون أن تبرزوا، فنزلت:

ص: 192

قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

أقول: أبطل اللّه مزاعمهم المحصورة على خصوص المحسوسات التي يرونها بأعينهم في وقت خاص، و لا يطّلعون على المستقبل و ما يظهره اللّه بقدراته على يد نبيّه أو على يد أمته صلّى اللّه عليه و آله.

و في أسباب النزول للواحدي: عن ابن عباس و أنس بن مالك: «لما فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مكّة و وعد أمته ملك فارس و الروم، قال المنافقون و اليهود: هيهات هيهات؟!! من أين لمحمد ملك فارس و الروم؟ هم أعزّ و أمنع من ذلك، ألم يكف محمدا مكّة و المدينة حتى طمع في ملك فارس و الروم؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ - الآية -».

أقول: تقدّم ممّا ذكر وجهه.

و فيه - أيضا -: عن قتادة: «ذكر لنا أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سأل ربّه أن يجعل ملك فارس و الروم في أمته، فأنزل اللّه تعالى قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ ».

أقول: يمكن أن تكون الرواية من باب تعدّد المورد، مع أنها لا تنافي ما تقدّمتها من الروايات.

بحث فلسفي:

تدلّ الآيات الشريفة على قواعد فلسفيّة لها الشأن الكبير في كلّ من الفلسفة الإلهيّة و الطبيعيّة.

منها: أن قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ ، يدلّ على أن للّه تعالى صفات جماليّة هي عين ذاته، لا يمكن التفكيك بينهما، فمنها الملك، و هي صفة جماليّة ليست داخلة تحت أية مقولة من المقولات العشر التي أثبتها الفلاسفة و الحكماء، و يمكن إرجاع ملكه و مالكيّته إلى الإحاطة القيوميّة على جميع مخلوقاته، إيجادا

ص: 193

و إبقاء، و تدبيرا و افناء، و إيجادا بعد الافناء، و يشهد لذلك ما ورد في بعض الدعوات المعتبرة: «اللهم إني أسألك باسمك الذي تبلي به كلّ جديد، و تجدّد به كلّ بال».

و منها: أنه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ مِنَ اَلْحَيِّ و نظائرها من الآيات المباركة، القاعدة التي نقلت عن بعض قدماء فلاسفة اليونان، و هي: «ان كلّ شيء في كلّ شيء»، و أثبتوها بالبراهين و أطالوا القول في النقض و الإبرام حولها، و المراد منها أن جميع ما في هذا الكون من العناصر و المواد و الآثار و الصور تكمن في كلّ شيء كمونا هيولائيّا، فيمكن أن يستخرج أحد الضدين من الآخر، كما يستخرج في هذه الأعصار من مادة النفط - مثلا - كثير من الأمور التي ربما يكون أحدها مضادا للآخر.

و لعلّ نظرية الفلسفة الديالكتيكيّة القائلة بأن كلّ شيء يحمل ضدّه، مأخوذة من هذه القاعدة، و كذا نظرية داروين القائلة بالتنازع في البقاء و بقاء الأصلح، و إن كان لنا كلام في هاتين النظريتين يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان، فإن كانت الأشياء حاملة لكلّ شيء، فهي لا تخرج عن قدرته، بل هي داخلة تحت قدرته و ربوبيّته العظمى و قهّاريته التامّة، كما يدلّ عليه ذيل هذه الآية الشريفة: إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و منها: أنه يمكن أن يستدلّ بقوله تعالى: تُخْرِجُ اَلْحَيَّ مِنَ اَلْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ اَلْمَيِّتَ ، و أمثال هذه الآيات الشريفة على الحركة الجوهريّة الثابتة في ذوات الأشياء و حقائقها، بدعوى أن تلك الحركة إما بذاتها لذاتها من ذاتها، أو بذاتها من غيرها، و الأوّل باطل مع فرض الإمكان و إجماع الشرائع الإلهيّة على حدوث الأشياء، فيتعيّن الثاني، و المحرك الأوّل هو القديم الأزلي، و قد أثبت جمع من الفلاسفة وجود اللّه تبارك و تعالى بالحركة، فتكون الحركة الجوهرية ثابتة في الحقائق من محرك غيبي، و هو اللّه تعالى، و لا محذور فيه من عقل أو نقل.

و هذه الآية الشريفة تدلّ على وجود الحركة في جميع الأشياء من النقص إلى الكمال، و منه إلى الأكمل حدوثا و بقاء، لكن هذه الحركة مستمرة مع جميع جهاتها

ص: 194

تحت إرادة مدبّر فيها، و الحركة بما شاء و أراد، فهو من جميع ذرات الكون معيّة قيوميّة مدبّر لها بالربوبيّة العظمى، التي لا يعزب عنه شيء في السموات و الأرض.

و هذه الحركة بهذا المعنى عامّة لجميع مخلوقاته، و هي صحيحة، و ممّا اتّفقت عليه الكتب السماويّة و كلمة الأنبياء و كلمات جمع من الفلاسفة المتألّهين.

و أما الحركة التي ذكرها بعض الفلاسفة الطبيعيّين، و هي الحركة في الطبيعة و المادة فحسب، و قالوا إنها ذاتيّة لها و الذاتي لا يعلل، فإن أرادوا أنها واجبة بالذات فهو باطل بالضرورة، و إن أرادوا أنها تحت قدرة اللّه تعالى فهي قسم من تلك الحركة التي ذكرناها آنفا.

بحث قرآني:

لا ريب في أن نظام هذا العالم يتقوّم بترتب العلل و المعلولات المتتالية و غيرها، و هذه السلسلة لا بد أن تنتهي إلى اللّه تعالى، الذي تكون أزمّة الأمور تحت إرادته، و الإنسان مسخّر و مقهور تحت قوى فعّالة، منها قدرة اللّه تعالى و إرادته التامّة، فهو يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. و منها قوى الطبيعة التي قلّ ما يسلم أحد من آفاتها و عاهاتها. و منها النفس الأمّارة بالسوء و الشيطان الرجيم الذي لا يسلم منه أحد. فالإنسان قرين هذه القوى و إن كانت جميعها مقهورة تحت قدرة العزيز الجبّار، و هذه الآية الشريفة و نظائرها شاهدة على ذلك، فإن قوله تعالى: بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ ، يدلّ على انتهاء الوسائط إليه عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا ينافي أن تكون المسبّبات و النتائج مترتبة على الأسباب، و قد جرت عادته عزّ و جلّ على إجراء الأمور بأسبابها التي لها دخل في تحقّقها، و على الإنسان أن يعد الأسباب الظاهريّة التي تكون دخيلة في حصول المسبب، ثم تفويض الأمر إليه في الجهات التي تقصر عقولنا عن الإحاطة بها، و قد دلّت على ذلك آيات كثيرة، قال تعالى:

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39]، و قال تعالى: وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ اَلدُّنْيا [سورة القصص، الآية: 77]، و هذا هو التوكّل الذي

ص: 195

أمرنا به و حث عليه القرآن الكريم، و لكن التماس الأسباب على قسمين:

الأوّل: أن تلحظ مستقلة مع قطع النظر عنه عزّ و جلّ بالمرّة، و هذا مذموم بل هو الشرك بعينه، و تكون قرينة الخيبة غالبا.

الثاني: أن ينظر إليها من حيث إنها من قبيل المعدات قد أفاضها اللّه عزّ و جلّ، و هذا القسم ممدوح بل هو التوحيد الخالص، و لكن ترتب النتيجة منوط بإرادة اللّه تعالى، فإن اعتقاد الخير في نظر الفاعل لا يغيّر الواقع عمّا عليه، قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216].

و بالجملة: أن كون الخير بيده عزّ و جلّ، و أن بيده ملكوت كلّ شيء، لا ينافي تسبّب الأسباب الظاهريّة و إيكال الأمور الخارجة عن علم الإنسان إليه عزّ و جلّ، بل لا بد من ذلك.

بحث عرفاني:

الإنسان قرين الحاجة و الفقر، و هو يحتاج في حدوثه و بقائه إلى اللّه جلّ جلاله، و بعد كون الخير بيده تعالى فلا بد من الرجوع إليه عزّ و جلّ و التماس الخير منه و الإعراض عمّا سواه ليتمّ له التوحيد الفعلي، كما يتمّ بذلك تفويض الأمر إليه عزّ و جلّ و تتجلّى في قلبه هذه الآية الشريفة، و يكون من مظاهر: «لا حول و لا قوة إلاّ باللّه»، فتسهل عليه جملة من الصعاب التي عاقت أهل الدنيا عن الوصول إلى مقاصدهم، فإن من شاهد القيوميّة المطلقة منه تعالى في وجوده و بقائه و جميع شؤونه، لا يرى لنفسه شيئا إلاّ مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ [سورة الانشقاق، الآية: 6]، و تتم بذلك نشأة الآخرة، حيث تكون من مظاهر قوله تعالى: يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ * اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي [سورة الفجر، الآية: 27 - 30]، و لا معنى للعبوديّة الحقيقيّة إلاّ ذلك، و يتّحد المبدأ و المآب حينئذ من كلّ

ص: 196

جهة، بل إن وصل إلى مرتبة التفاني في مرضاة اللّه يتّحد السائر و السير و المسير إليه.

فهذه الآية الشريفة من أجلّ موارد تجلّيات اللّه تعالى لعباده، و لأن خرّ موسى بن عمران عليه السّلام صعقا في تجلّ واحد منه تعالى للجبل، لكن صار الكروبيون و الروحانيون و عقول ذوي الألباب صرعى في مثل هذه التجلّيات الإلهيّة القرآنية.

و لأن كان للاسم الأعظم الذي هو أم الأسماء الحسنى مظاهر كثيرة، يكون العالم واحدا منها، فيصحّ أن تكون هذه الآية من بعض مظاهره، و صحّ ما نسب إلى سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله حين سئل عن الاسم الأعظم فقرأ هذه الآية الشريفة، كما مرّ، فإن فيها اجتمع كمال الذات و الصفات.

ص: 197

لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ ف.......

اشارة

لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ (32) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى كيفيّة الثناء عليه و تمجيده و الابتهال إليه جلّ شأنه، و بيّن الوجه في ارتباط الخلق مع الخالق، و أنه لا بد من الالتجاء إلى اللّه عزّ و جلّ و الاعتراف بربوبيّته و سلطانه.

في هذه الآيات يبيّن سبحانه و تعالى تنظيم العبوديّة بين العبد و المعبود، فأرشد عباده إلى اللجوء إليه عزّ و جلّ و نبذ الاغترار بغيره تعالى، بحيث ترفع التفرقة و التخالف بين أهل الإسلام، و الاختلاف بين الأديان و المعتقدات، و نهى المؤمنين عن الامتزاج الروحي و المخالطة القلبيّة مع أعدائه تعالى، و حذّرهم عن ذلك، و أمرهم بحبّ اللّه تعالى و طاعته و طاعة الرسول و التحابب بينهم، و وعدهم بالرأفة و الغفران، و لا تخلو الآيات عن ارتباط بالآيات السابقة من التعريض بالكافرين و أهل الكتاب.

ص: 198

التفسير

قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

الاتخاذ هو الأخذ مع الاعتماد و الثقة و المشي على الطريقة و العمل بالسيرة، يقال: «لو كنت منا لاتخذت بأخذنا»، أي على طريقتنا و شكلنا. و المراد بالمؤمنين كلّ من أسلم و دخل في دين الإسلام، كما أن المراد من الكافرين كلّ من أنكر الإسلام، فيشمل أهل الكتاب و المشركين و غيرهم.

و الأولياء جمع الولي كالأذكياء جمع ذكي، و المراد بالولي في المقام و نظائره هو الخليل و المحبوب، بحيث يتقرّب أحد إلى آخر و يمتزج معه امتزاجا روحيّا يوجب التأثير عليه، فيكون أحدهما تابعا و الآخر متبوعا في العمل و المودّة و المحبّة و سائر شؤون الحياة، فإن دلّت قرينة معتبرة خارجيّة على التخصيص بشيء معين تتبع، و إلاّ فيؤخذ بالإطلاق.

و الآية تنهى عن اتخاذ الكافرين أولياء و الركون إليهم و الاتصال معهم مع الانفصال عن المؤمنين و الابتعاد عنهم، و هي عامّة تشمل جميع أسباب الاتصال و الركون إليهم في الأخلاق و التصرّفات و الموادّة، فضلا عن إيثار محبّتهم على محبّة المؤمنين، قال تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً * اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 138، 139]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 144]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ [سورة المائدة، الآية: 51]، و يشهد لتعميم الولاية

قول

ص: 199

نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من تشبّه بقوم فهو منهم»،

و في الحديث القدسي: «لا تسكنوا مساكن أعدائي، و لا تلبسوا ملابس أعدائي فتكونوا أعدائي»،

و في الحديث:

«ليخرجن ناس من قبورهم على صورة القردة بما داهنوا أهل المعاصي ثم و كفوا عن علمهم و هم يستطيعون»، أي قصّروا و نقصوا عن علمهم.

و (من) في قوله تعالى: مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ للابتداء، و مادة (دون) من الدنو، و هو إما في المحل، أو في الحال، أو في العمل، و قد اشتهر استعمالها في ظرف المكان، و تتضمّن معنى الغيريّة مع الإشعار بأن المورد الذي أضيف إليه (دون) فيه نحو دناءة و سفالة بالنسبة إلى غيره. قال تعالى: قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اَللّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [سورة المائدة، الآية: 76]، و قال تعالى: يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و لا ريب في دناءة كلّ ذلك بالنسبة إلى اللّه تعالى.

و قال جلّ شأنه: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [سورة النساء، الآية: 116]، أي ما سوى ذلك الذي ممّا هو أدون حزازة من الشرك و الكفر.

و المعنى: لا يعدل المؤمنون بولايتهم عن المؤمنين إلى الكافرين و يتّخذوهم أولياء في المحبّة و النصرة و العمل، فإن الكافرين أدون مكانا و أسفل درجة من المؤمنين، الّذين هم أعلى مكانا و أشرف رتبة و درجة.

و يستفاد من الآية الشريفة أن سبب النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين هو الإيمان و الكفر، اللذين بينهما غاية التباعد و التنافر و البينونة، بحيث أن كلّ من يقترب إلى أحدهما يبتعد عن الآخر بمقدار ما اقترب من الأوّل، بل قد يوجب الاتحاد و فساد الآخر، لما عرفت أن الولاية قد توجب الاتحاد و الاعتماد، فإذا تولّى المؤمن الكافر أوجب ذلك فساد إيمانه و الابتعاد عن اللّه تعالى، كما نبّه على ذلك في ذيل الآية المباركة: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

ص: 200

فالآية الشريفة كما تشتمل على الحكم و هو النهي عن تولّي الكافرين، تبيّن سببه أيضا، و ذلك من أعلى درجات البلاغة و الفصاحة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

أي: و من يتّخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين فليس من ولاية اللّه في شيء، و لا نسبة له مع اللّه تعالى لزوال تلك النسبة و المحبّة بينه و بين اللّه تعالى بالموالاة مع الكافرين، و قد قال سبحانه و تعالى: اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ اَلطّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ اَلنُّورِ إِلَى اَلظُّلُماتِ [سورة البقرة، الآية: 257].

و قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ يفيد العموم، أي ليس عمله مرضيّا للّه تعالى، و لا يكون جزاؤه جزاء من أحسن عملا، و لا تشمله العنايات الخاصة و التوفيقات الإلهيّة، و لا يدخل تحت قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْغالِبُونَ [سورة المائدة، الآية: 56]، بل يكون حينئذ مصداقا لقوله تعالى: نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ [سورة الحشر، الآية: 19].

و إنما أتى عزّ و جلّ بلفظ عام - أي (من) - و لم يشخّص، و ذكر لفظ (يفعل) و لم يذكر المؤمنين، للإشارة إلى أنه أمر قبيح لا بد للمؤمن الإعراض عنه و أن يستنكره و يتنزّه عنه، كما يتنزّه عن القبائح الظاهريّة، و لذا كنّى عنها في الخطاب كما يكنّى عن القبائح، و تنزيها للمؤمنين من أن ينسب إليهم هذا الأمر القبيح و الفعل الشنيع.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً .

استثناء عن الولاية الحقيقيّة و استدراك عمّا يتوهّم أن النهي إنما يكون عن الولاية الصورية، أو النهي انما يكون في جميع الأحوال حتّى لو استلزم الضرر على المؤمن، أو كان في الموالاة المصلحة.

و تتقوا: و التقاة من الوقاية، و هي المنع عمّا يوجب الأذية و الحفظ عنها، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و قال عزّ شأنه: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [سورة رعد، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [سورة الطور، الآية: 18]،

ص: 201

و تتقوا: و التقاة من الوقاية، و هي المنع عمّا يوجب الأذية و الحفظ عنها، و هذه المادة كثيرة الاستعمال في القرآن بهيئات مختلفة، قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اَللّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ [سورة التحريم، الآية: 6]. و قال عزّ شأنه: ما لَكَ مِنَ اَللّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ [سورة رعد، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ اَلْجَحِيمِ [سورة الطور، الآية: 18]،

و عن علي عليه السّلام: «كنا إذا أحمرّ البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله»، أي جعلناه وقاية لنا من العدو و قمنا خلفه و استقبلنا العدو به،

و في الحديث: «من عصى اللّه لم تقه من اللّه واقية».

و من هذه المادة التقوى التي هي أساس دعوة القرآن و أصل المدارج المعنويّة للإنسان، لأنها تحفظه عن الوقوع في المحارم، و توقفه على الحدود الإلهيّة حتّى يصل إلى أعلى المقامات المعنويّة.

كما أن منها التقية، التي هي من الأصول النظاميّة التي شرعها الإسلام حفظا للنظام و تأليفا بين الأنام. و سيأتي أنها ترجع إلى القاعدة العقليّة التي قرّرتها الشرائع السماويّة، و هي: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، فتكون التقية من القواعد العقليّة الشرعيّة.

و لا ريب في جواز التقية، بل أنها من القواعد المسلّمة لدى الجميع، و المرتكزة في الأذهان و لا تحتاج إلى إقامة البرهان، لأنها كما عرفت من صغريات قاعدة: «تقديم الأهمّ على المهمّ»، التي هي من القواعد الفطريّة، و قد قرّرتها السنّة بأساليب مختلفة، و يكفي في مشروعيتها بل أهميتها، ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنها من الدين و التحريض على العمل بها و أن تاركها مخالف لأوامر اللّه سبحانه و تعالى،

ففي الحديث: «التقية تسعة أعشار الدين»، و قد ورد في تفسير قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، أي أعملكم بالتقية. و غير ذلك و لعلّ الجميع مأخوذ من عموم قوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ [سورة البقرة، الآية: 195].

و معنى التقية هو إتيان الشيء على غير الوجه المأمور به الأولي، لغرض مهم شرعي يترتب عليه، و هذا المعنى يرجع إلى القاعدة العقليّة الفطريّة كما ذكرنا، فلا

ص: 202

يسع لأحد إنكارها أو تخصيصها بوقت دون آخر، فإن التقية بشرائطها المقرّرة في الفقه جارية إلى يوم ظهور الحقّ، كما عليه القرآن و السنّة الشريفة.

و تقاة في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً مصدر، و هي مفعول مطلق لتتقوا، و أصلها وقية على فعلة على وزن تهمة، قلبت الواو تاء و الياء ألفا. و التاء تفيد الوحدة، و هي تحدد الاتقاء، أي تتقوا منهم تقاة محدودة بأن تظهروا المودّة الصورية ما تدفعوا بها شرورهم حتّى تتحقّق المندوحة في ذلك، لما فيها من المصلحة لكم و لدينكم.

و من جميع ذلك يظهر أن الاستثناء منقطع إن كان المستثنى منه المودّة الحقيقيّة، و أما إذا كان المراد منه مطلق الموادّة و لو كان صوريا ظاهريا مع المخالفة في الحقيقة و الاعتقاد، فحينئذ يصير الاستثناء متصلا و به يمكن الجمع بين القولين.

و ما عن بعض المفسّرين في توجيه كون الاستثناء منقطعا، من أن إظهار آثار التولّي ظاهرا من غير عقد القلب على الحبّ و الولاية ليس من التولّي بمعنى الحبّ، لأن الخوف من الغير و الحبّ له أمران قلبيان متباينان لا يمكن اجتماعهما، فيكون الاستثناء منقطعا.

مخدوش: لصحة اجتماعهما في مورد واحد باعتبارين و جهتين، فيتولّى الغير ظاهرا للتحرز عن ظلمه و كيده، و يحبّ اللّه واقعا مع عقد القلب عليه.

قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ .

التحذير من الحذر و هو الاحتراز عن أمر مخوف و الابتعاد عنه، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة، قال تعالى تحذيرا عن المنافقين و فتنتهم: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ اَلْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اَللّهُ [سورة المنافقون، الآية: 4]، و قال تعالى تحذيرا عن مخالفة أوامره و أحكامه التي تعتبر من ملاحم القرآن الكريم: فَلْيَحْذَرِ اَلَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور، الآية: 63].

و المراد بالنفس هي الذات، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في

ص: 203

أكثر من عشرين موردا، و في الجميع يراد منها الذات دون ما يرادف الروح التي ترتبط بالبدن قال تعالى: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا اَلنّاسُ وَ اَلْحِجارَةُ [سورة التحريم، الآية: 6]، و قال تعالى: كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 57]، و قال تعالى: وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ [سورة التوبة، الآية:

41]، و لا ريب في صدق الذات بالمعنى الكلّي بالنسبة إليه جلّ جلاله، للقاعدة التي أثبتها الفلاسفة و قرّرتها الشريعة أن كلّ شيء لا يستلزم ثبوته النقص بالنسبة إليه تبارك و تعالى يصحّ اتصافه به، و لا ريب أن الذات كذلك.

نعم، لا بد أن نقول في المقام

ما ورد عن أهل البيت عليهم السّلام من أنه: «ذات لا كالذوات، و شيء لا كالأشياء».

و لكن لم يرد إطلاق الذات عليه تعالى في القرآن الكريم بخلاف النفس، و لعلّ ذلك لأنّ النفس أقرب إلى فهم المخاطبين من لفظ الذات، و لأنّ النفس لوحظ فيها الإدراك و الشعور، بخلاف الذات، فإنها أعمّ من ذلك، و لا ريب في تحقّق الحذر و التحذير من لفظ النفس في المقام، إذ ليس المراد من النفس مفهومها من حيث هو، بل الذات القهّارة و الجبّارة فوق ما يتعقلّ من معنى ذلك.

و قد حذّر سبحانه و تعالى من يتولّى الكافرين ذاته الأقدس في هذا المورد، لأنّه هو اللّه تعالى العزيز الجبّار شديد العقاب، الذي لا يعجزه شيء، و لا عاصم عنه، فلا ناصر و لا شفيع غيره.

و من تعليق التحذير على نفسه يستفاد أن التحذير إنما يكون عن نفسه القادر على إنفاذ ما أوعده، و الذي لا يعجزه شيء، و أنه يكفي نفس الذات في ذلك من دون استعانة بشيء.

و فيه نهاية التهديد و عظيم التوعيد، فإن شدّة العقاب تتبع قوة المعاقب و قدرته على تنفيذه، و لبيان أنه ليس هناك من يدفع عنه العقاب و العذاب، فهو قضاء حتمي، لا بد أن يقع عند تحقّق المخالفة، و هذا من ملاحم القرآن الكريم الذي أخبر عزّ و جلّ به قبل وقوعه، كما نراه بالوجدان.

ص: 204

و ما ورد في هذه الآية الشريفة قضية عقليّة من أوضح القضايا بعد التأمّل فيها، لأن من بيده الإيجاد و الإفناء، و الحياة و الموت، و الحدوث و البقاء، لا بد و أن يتحذّر عن مخالفته و يحذّر عن التعرّض لسخطه و عقابه، فالآية المباركة تتضمّن الحكم و الدليل بوجه لطيف.

و من ذلك يعلم أنه لا يحتاج إلى التقدير في الكلام، كما عليه جمهور المفسّرين، أي: يحذّركم اللّه عقاب نفسه، فإن عذابه و إن كان لا بد ممّا يحترز عنه، كما أكّد عليه سبحانه و تعالى في آيات اخرى، قال عزّ شأنه: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً [سورة الإسراء، الآية: 57]، و لكن ظاهر الآية أشدّ تحذيرا من التقدير.

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ .

تأكيد للتحذير، لأن من كان مصيره إلى اللّه تعالى و لا مفرّ منه و لا صارف له، لا بد من التحذير عن الوقوع في مخالفته و التحذير عن سخطه و عقابه.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ .

خطاب إلى الرسول الكريم بإبلاغ أعظم حقيقة، و هي علم اللّه تعالى بالمضمرات في النفوس و ما هو الظاهر، و أنه تعالى الذات المحيطة بجميع ما سواه إحاطة حقيقيّة واقعيّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، لأن العلم و كشف الواقع عين الذات، فلا بد أن تكون لهذه الذات الإحاطة العلميّة بجميع ما سواها و انكشاف الحقائق لديها.

و بحث العلم الربوبي من أهم البحوث في الفلسفة الإلهيّة، و يمكن إقامة البرهان على ذلك بوجه مختصر سديد، و هو أن الذات المسلوب عنها جميع النواقص الواقعيّة و الادراكيّة موجودة، و لا بد أن يكون عالما بما في الضمائر و ما يبدو منها، و إلاّ يلزم الخلف، و هو محال، فيكون فرض إحاطة الذات و إحاطة الربوبيّة، و إحاطة الحكمة و التدبير، ليس إلاّ فرض إحاطة علمه تعالى بجميع مخلوقاته، كلّياتها و جزئياتها، قال تعالى: وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اِجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ * أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اَللَّطِيفُ اَلْخَبِيرُ [سورة الملك، الآية:

13، 14].

ص: 205

مع أن العلم بالكلّي يستلزم العلم بالفرد و الجزئي، خصوصا في العلم الواقعي الإحاطي الحقيقي الفعلي، فلو كانت الشمس ذات قوة درّاكة فعليّة، لكانت مدركة لجميع أشعتها الجزئية المنبسطة على ذرات الأشياء، فمن ذهب من الفلاسفة إلى نفي العلم بالجزئيّات عنه تبارك و تعالى، لأنها لا تدرك إلاّ بالمدارك الجزئيّة، و هو تعالى منزّه عنها. فهو و إن أراد التنزيه، لكنه وقع في التعطيل، و لعلّ هذا من أحد معاني

قول علي عليه السّلام: «من أراد ما ثم هلك»، و في سياقه أحاديث كثيرة، و الأدلّة العقليّة شاهدة على أن المحدود لا يعقل أن يحيط بغير المحدود.

و هذه الآية الكريمة مكرّرة بأساليب مختلفة في القرآن الكريم، قال تعالى:

وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اَللّهُ [سورة البقرة، الآية: 284]، و الاختلاف في تقديم المخفي و البادي في الآيتين باعتبار مناسبة الحساب للبادي، و مناسبة العلم بالمخفي، فقدّم سبحانه المخفي في المقام، بخلاف الآية الواردة في سورة البقرة. أو الحمل على مراتب الإخفاء و الإبداء، فبعض مراتبهما تستحق المحاسبة، و البعض الآخر يعفى عنه، و إن تعلّق العلم بالجميع. و نظير المقام قوله تعالى:

وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ [سورة النمل، الآية: 25].

و ربما يكون الوجه في التكرار هو الاعلام بأن علمه تعالى ليس حصوليّا مستلهما من ظواهر الممكنات و صور الموجودات، كما هو المعلوم في علم الإنسان، و لذا قيل: «من فقد حسّا قد فقد علما»، بل علمه عزّ و جلّ حضوري إحاطي فوق ما نتعقّله من معنى الحضور و الإحاطة، و فقر الممكن إلى اللّه عزّ و جلّ - حدوثا و بقاء - يستلزم هذا النحو من الحضور، و كيف يخفى عليه ما هو أوجده؟!! أم كيف يغيب عنه ما هو يدبّره؟!!

و في جملة من الدعوات المأثورة: «سبحانك تعلم خطرات القلوب و لمحات العيون و ضجيج الوحوش في الفلوات و أنين الحيتان في البحار الغامرات»، و لا عجب في ذلك بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، و من يكون ما سواه كذرة ملقاة بين يديه.

كما أنه يمكن أن يكون الوجه في التكرار هو استحضار الإنسان جلال ربّ

ص: 206

العزّة، فتستولّي عليه خشية هذا الربّ العظيم، و يسعى كمال السعي لأن يتقرّب إلى وجهه الكريم، فقد جمعت هذه الآيات الكريمة التحريض و الترغيب إلى الكمال المطلق، و التخويف عن سطوة العليم الخبير الحقّ المبين.

و في الآية الشريفة التحذير عن النفاق و الموادّة مع من حاد اللّه تعالى، و عن ولاية الكفّار فإنه لا تخفى عليه ضمائركم و إليه المصير، و هو محاسبكم على كلّ ذلك.

قوله تعالى: وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

تأكيد لإحاطة علمه بما سواه من جميع الممكنات، لأنه خالق لها و هو يعلم ما خلق، و تقدّم الكلام في تفسير هذه الآية في سورة البقرة، الآية: 284.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تأكيد لهيمنته على ما أحاط به علمه الأتم، فإن إثبات القدرة بعد ثبوت العلم فيه عزّ و جلّ تأكيد بليغ على الإحاطة القيوميّة و الهيمنة و القهّارية. فإن كلّ مخالفة له - سواء كانت مخفية في الضمائر، أم بادية على الظواهر - أن اللّه تعالى يعلمها و محاسبكم عليها و قادر على مجازاة فاعلها، فان مصيركم إليه تعالى.

و في الآية الشريفة تأكيد على عموم قدرته، و أنها تتعلّق بكلّ شيء، فهي تشمل جميع ما سواه بكلّ ما هو ممكن إلاّ ما كان مستحيلا ذاتا، فإن القدرة لا تتعلّق به لقصور المقدور حينئذ، لا ثبوت النقص في قدرته عزّ و جلّ، و لا فرق في الممكن بين الحقائق الواقعيّة - الجوهريّة أو العرضيّة - و الأمور الاعتباريّة، كالملك و العزّة و الذلّة و الجزاء و نحو ذلك، فإن كلّ ممكن يقع تحت قدرته، سواء كان الوجود هو المعلول و المترشّح من وجود العلّة، أم كانت الماهيّة، فإن جميع ذلك مفتقر إليه تعالى.

نعم، بعض الأمور له تأصل في الواقع، و البعض الآخر ليس له كذلك، بل هو تابع لجعل الحقائق الواقعيّة، و لكن ذلك لا يستلزم الخروج عن تحت قدرته.

و إن شئت قلت: إن مقدورية الأشياء له تعالى أعمّ من أن تكون بدون الواسطة أو معها، لانتهاء الجميع إليه عزّ و جلّ، و أنها مفتقرة إليه، كما هو كذلك في

ص: 207

سلسلة العلل و المعلولات.

و من ذلك يعلم النظر في ما عن بعض المفسّرين من الإشكال في تعلّق القدرة بالأمور الاعتبارية، لأنها غير مستندة إليه عزّ و جلّ، إذ لا وجود حقيقي لها أصلا، و إنما وجودها اعتباري لا يتعدّى ظرف الاعتبار و الوضع، فاستشكل في انتساب ما في الشريعة من الأحكام التكليفيّة و الوضعيّة إليه تعالى، لأن كلّها امور اعتبارية. و لكنه أجاب عن ذلك بأنها و إن كانت كذلك، إلاّ أن آثارها امور حقيقيّة مقصودة تنسب إليه عزّ و جلّ و تتعلّق بها القدرة.

و ما ذكره قدس سرّه تطويل بلا طائل تحته، فإن تعلّق القدرة بالأثر عين تعلّقها بمنشإ الأثر، فإنه إذا تعلّقت بأحدهما تتعلّق بالآخر، و كونها أمرا اعتباريا لا يوجب عدم الانتساب، و ما سواه يفتقر إليه تعالى و منسوب إليه عزّ و جلّ إما بواسطة أو بغيرها، كما عرفت.

قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً .

بيان لما تقدّم في الآيات الشريفة و شرح إجمالي لبعض خصوصيات المصير إليه، و إعلام بكشف الحقائق، و ظهور الأعمال و بروز الأسرار و ما تطويه الضمائر و الأحوال، و إرشاد للتحذّر عمّن خضعت له الأملاك و الأفلاك، و التعريض للعباد بالرأفة بهم في أشدّ حالات احتياجهم إليها يوم التناد، فيكون ما في الآية الشريفة برهانا و دليلا على ما تقدّم في الآيات بأتمّ برهان و هو الوجدان.

و تجد من الوجدان و هو حضور الشيء لدى النفس، و هو إما في الدنيا، و ذلك إما أن يكون عين الواقع كالإحساس بحرارة النار أو برودة الماء و نحو ذلك، أو تكون من الأمور الوجدانيّة المستعملة في العلوم التي تكون مشوبة بالتخيّلات و الأوهام حتى تعدّ بعض المعتقدات من الوجدانيّات.

و أما في الآخرة و هو كشف الواقع بما هو عليه في نفس الأمر بلا مدخلية شيء من الوهم و الخيال فيه، و هو الوجدان الحقيقي.

و الظرف «يوم» متعلّق بالمصير في قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ ، الذي

ص: 208

هو كالمرآة لجميع التكاليف الإلهيّة و جزاء لها و لا يضرّ الفصل الطويل، و قيل وجوه اخرى سيأتي في البحث الأدبي نقلها.

و (ما) في قوله تعالى: ما عَمِلَتْ موصولة تشمل جميع الأعمال، و العائد محذوف مقدّر.

و (من) في قوله تعالى: مِنْ خَيْرٍ بيانيّة، و التنكير في «خير» للتعميم و الشمول للجميع، أي كلّ خير و هو يشمل جميع أنواع الخير من الاعتقاد، أو الأقوال، أو الأفعال، حركة أو سكونا، حتى الأعدام، مثل كفّ الأذى و إماطتها عن الطريق، و تحمّل الأذى و نحو ذلك، نظير قوله تعالى: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 110]، و أمثالها من الآيات الشريفة.

و كلّ نفس تشمل جميع الخلائق و العباد، سواء كانوا من المؤمنين أم غيرهم، إذا صدر منهم الخير و لم يصدر منهم ما يمحقه و يحبطه، فهو محفوظ عند اللّه، كما يدلّ قوله تعالى: وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ [سورة سبأ، الآية: 21].

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بقوله: مُحْضَراً دون حاضرا و نحوه، لبيان أن جميع الأعمال موجودة عنده محفوظة لديه، و لكنه يعدّها اللّه تعالى و يحضّرها لخلقه المحسنين تكريما و تبجيلا لهم، فهو تعالى يعلمها و يحفظها و يحضرها لئلا يكونوا في تسويف و بعد منال.

قوله تعالى: وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً .

الجملة معطوفة على قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ، أي و تجد كل نفس من العباد ما عملت من سوء و ما يترتب عليه من الجزاء، فتتمنّى النفس من شدّة الأهوال و ما يتبعها من الآلام و الأحزان لو أن بينها و بين هذا السوء بعدا كبيرا.

و الأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها، و جمعه آماد، و لم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في مواضع - أربعة، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال عزّ شأنه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [سورة الجن، الآية: 25]، و قال تعالى:

ص: 209

و الأمد هو الغاية ينتهي ما ينتهي إليها، و جمعه آماد، و لم يذكر هذا اللفظ في القرآن الكريم إلاّ في مواضع - أربعة، قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال عزّ شأنه: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً [سورة الجن، الآية: 25]، و قال تعالى:

أَيُّ اَلْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً [سورة الكهف، الآية: 12].

و المراد منه في المقام البعد، و الفرق بينه و بين الأبد بعد تقاربهما، أن الأبد ليس له حدّ محدود و لا يمكن تقييده، بخلاف الثاني، فإنه يمكن تقييده، فيقال: أمد كذا، أو يقال: للإنسان أمدان، مولده و موته، كما أن الفرق بينه و بين الزمان أن الثاني عام يستعمل في المبدأ و الغاية، بخلاف الأمد، فإنه باعتبار الغاية، كما عرفت.

و الآية المباركة تخبر عن حال كلّ نفس مع عملها، و تدلّ على تجسّم الأعمال، و أنها تحضر بالحال التي تسرّ النفس بها إن كانت خيرا، و تسوؤها إن كانت سيئة، بحيث تودّ البعد بينه و بينها من شدّة الهول و المكاره.

و إنما تمنّى النفس البعد عنها دون أن تتمنّى عدمها، لما كانت تعلم أنها محفوظة بحفظ اللّه تعالى و باقية بمشيئته عزّ و جلّ، فلم يكن بوسعها إلاّ عدم حضورها في أشدّ الأحوال و أشقّ الأهوال، كما تتمنّى في القرين السوء في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ اَلرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ اَلسَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ اَلْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ اَلْقَرِينُ [سورة الزخرف، الآية: 36-38]، و يستفاد من الآية المباركة الأخيرة أن تمنّي النفس بعدها عن المكاره إنما يكون في الدارين.

و إنما أكّد الأمد بكونه بعيدا لشدّة الهول و الموقف المروع، و هيهات ذلك مع حصول اليقين و شهود الحقائق.

قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ .

تأكيد جديد لأهمية الموضوع، و بيان نهاية التحذير، و من لطيف الأسلوب أنه جميع بين الإنذار و التبشير، و يمكن أن يكون تكرار التحذير من رأفته أيضا، فإنه من إحدى سبل النجاة و الهداية، و من سياق العبارة يستفاد أنه تعالى في مقام الترأف بعباده، لا يريد لهم إلاّ الخير و الصلاح مع إعلامهم بعدم التعرّض لسخطه، فلا ينافي التحذّر عن نفسه تعالى مع سبق رحمته غضبه، فإن من رحمته إنزال

ص: 210

الأحكام الإلهيّة، و النهي عن المعاصي التي لها الآثار المهلكة و الواقعة قريبا، و التي لا تنفع في رفعها شفاعة الشافعين، فإذا تعرّض لها أحد من عباده فإنها تصيبه و يقع في سخطه و خذلانه.

و المراد من النفس: الذات الداركة بمراتبها المختلفة غير المتناهيّة، فيطلق عليه تعالى و على غيره حقيقة حسب المرتبة، و لا حاجة فيها إلى تعدّد المعاني و الاستعارة كما تقدّم.

و إنما أضاف التحذير إلى نفسه الأقدس، لأن العلم و الحكمة عين ذاته المقدّسة، و الذات هي المنشأ لجميع الحوادث في الدنيا، التي هي جنود اللّه تعالى فيها، و هي مسخّرات تحت أمره، و كذلك في العقبى التي لا حدّ لها، قال تعالى:

وَ لِلّهِ جُنُودُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الفتح، الآية: 7]، فالتحذير من مثل هذه الذات موافق للعقل و الفطرة إذا توجّه الناس إليه في الجملة،

و قال علي عليه السّلام:

«احذر اللّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك حيث نهاك».

و يستفاد من الآية الشريفة أهمية التحذّر من اللّه تعالى، كما أنها ترشد إلى حكم عقلي، لأنه واجب في النظام الأحسن، فإن إرشاد الناس إلى المهلكات و تحذيرهم عنها واجب على الحكيم العلام تعالى.

و التحذير منه تعالى تترتب عليه آثار كثيرة متعدّدة الجوانب، فإن من الآثار التي تترتب عليه إنما هو استقامة الإنسان، التي هي أشرف غاية و أعظم كمال، بل هي منتهى الكمالات، و هي قرّة عين الأنبياء و مطلوب كلّ عبد صالح، قال تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت، الآية: 30].

و من الآثار المترتّبة عليهم تنظيم الروابط بأحسن وجه بين العبد و بين اللّه تعالى و بين أفراد الإنسان بعضهم مع بعض.

و منها: أنه يوجب استشعار العبد عظمة اللّه تعالى، فيكون خائفا منه عزّ و جلّ مراقبا لنفسه.

ص: 211

و منها: أنه يوجب التحلّي ببعض مكارم الأخلاق، كالرضا به تعالى لانحصار الأسباب فيه عزّ و جلّ، و التوكّل عليه، فإن القدرة إذا انحصرت في واحد انقطع الرجاء عن غيره.

و منها: أنه يوجب التخلّي عن جملة من الأخلاق الذميمة، كالحرص في طلب الدنيا - بل يطلبها من حيث ما أمره اللّه تعالى - و الحسد على الأمثال و الأقران، لفرض استناد الكلّ إلى المدبّر الحكيم، و غير ذلك من محاسن الأخلاق، و لعلّ ذلك من أحد أسباب تكرار هذه الجملة المباركة.

قوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي .

الآية الشريفة من روائع الآيات التي تخاطب الضمير الإنساني بأسلوب لطيف، فقد بدأت بالخطاب مع أشرف خلقه، واسطة الفيض و مظهر الحبّ الإلهي و من تجلّت فيه المعارف الربوبيّة، و من هو قطب رحى الوجود و مكارم الأخلاق، تستمد منه الأرواح.

ثم في تقديم حبّ اللّه تعالى و الوعد بالغفران و إثبات الرحمة و المبالغة في المغفرة و الوعد بأكمل الكمالات الإنسانيّة، و هو محبّته تعالى التي بلغت في الجمال و الجلال ما لا يمكن دركها بأي مشعر من المشاعر، بل لا يدانيها من الجذبة الأحدية للذات المحمّديّة حتّى يظهر الحال.

فالآية الشريفة جذبة روحانيّة تدفع الغفلة عن الإنسان، و ترفع عنه الضلالة و الخسران، و من عجيب الأمر دعوة الحنّان القدير القهّار المقتدر الفعّال لعبده الضعيف إلى محبّته، و إخراجه من الظلمات إلى النور، و هو مع ذلك يمتنع عنه، فسبحان من كان خيره إلينا نازلا، و شرّنا إليه صاعدا، و هو مالك قادر على يشاء، فعال لما يريد.

و تقدّم معنى الحبّ في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ [سورة البقرة، الآية: 165]، و ذكرنا أنّه لا يختصّ بالإنسان، بل يتحقّق في جميع الموجودات، الواجب منها و الممكن، و هو من المعاني الوجدانيّة التي يدركها كلّ

ص: 212

أحد، و إن قصرت الأفهام عن درك حقيقته، فهو الترابط الوثيق الذي يربط بين الموجودات بعضها مع بعض و الجميع مع الخالق.

و القول بأن الحبّ يختصّ بغيره لأنه نوع من الإرادة، و هي لا تتعلّق إلا بالمعاني و المنافع، فيستحيل تعلّقها بذاته و صفاته.

غير صحيح: لأنه إخراج للحبّ عن معناه الحقيقي مع أنه أطلق عليه سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة، قال عزّ شأنه: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلتَّوّابِينَ وَ يُحِبُّ اَلْمُتَطَهِّرِينَ [سورة البقرة، الآية: 222]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة البقرة، الآية: 195].

و الحبّ من المعاني القلبيّة التي لا بد أن يظهر أثرها على الجوارح، و هو الداعي إلى نيل المطلوب عمّا يحبّه، فالإنسان يحبّ الغذاء ليرفع به الجوع، و النكاح ليدفع ما عليه من الغريزة الجنسيّة، فهو لا بد أن يقترن بالأثر و إلا فهو مجرّد و هم و خيال.

و الحبّ يتعلّق بكلّ شيء، فقد يتعلّق باللّه تعالى و يسمّى بالحبّ الإلهي، و هو وليد كمال معرفة اللّه جلّت عظمته، و الناشئ عن الجمال المطلق و لا يحصل إلا بالتخلية عن الرذائل و التطهير عن كلّ ما يشغل القلب عن اللّه تعالى و التحلية بالفضائل، و قد أمر اللّه تعالى عباده بالإخلاص له، قال تعالى: هُوَ اَلْحَيُّ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ اَلْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة المؤمن، الآية:

65]، و قال تعالى: فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة المؤمن، الآية: 14]، و لا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزّ و جلّ، و لا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه و لو كان أمرا أخرويا، إلا إذا رجع إلى اللّه تعالى، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا اللّه و لا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه و هو اللّه تعالى، و هو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فهو علامة محبّة العبد للّه تعالى، و يدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله الذي بيّن سلوكه في محبّته للّه تعالى، حيث حكى عنه عزّ و جلّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف، الآية: 108]، فإن سبيله الدعوة إلى اللّه عن بصيرة و علم، و الإخلاص له و نبذ كلّ ما يشغله عنه عزّ و جلّ، و من كان متّبعا له صلّى اللّه عليه و آله، لا بد أن يكون كذلك. و هذا هو أفضل مراتب الحبّ و كلّ ما أزداد الشخص عرفانا باللّه العظيم، ازداد محبّة له عزّ و جلّ.

ص: 213

65]، و قال تعالى: فَادْعُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة المؤمن، الآية: 14]، و لا ريب في أن الإخلاص لا يتحقّق إلا بحبّه عزّ و جلّ، و لا يحصل مع تعلّق القلب بما سواه و لو كان أمرا أخرويا، إلا إذا رجع إلى اللّه تعالى، فالعبد المخلص لا يحبّ إلا اللّه و لا يشغل قلبه أمر من الأمور إلا ما يرجع إلى محبوبه و هو اللّه تعالى، و هو يقضي التدين بدينه بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه، فهو علامة محبّة العبد للّه تعالى، و يدلّ على ذلك سيرة الحبيب المصطفى صلّى اللّه عليه و آله الذي بيّن سلوكه في محبّته للّه تعالى، حيث حكى عنه عزّ و جلّ: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اَللّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اِتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ اَللّهِ وَ ما أَنَا مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ [سورة يوسف، الآية: 108]، فإن سبيله الدعوة إلى اللّه عن بصيرة و علم، و الإخلاص له و نبذ كلّ ما يشغله عنه عزّ و جلّ، و من كان متّبعا له صلّى اللّه عليه و آله، لا بد أن يكون كذلك. و هذا هو أفضل مراتب الحبّ و كلّ ما أزداد الشخص عرفانا باللّه العظيم، ازداد محبّة له عزّ و جلّ.

و هو ذو مراتب متفاوتة، آخرها الفناء فيه ثم البقاء به، و لا يحصل إلا بمتابعة سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و الجامع بين جميع تلك المراتب هو الحبّ للّه، و في اللّه، و كلّ ما كان الحبّ أشدّ كانت السعادة أتمّ و أعظم. و هذا هو الدين الخالص الذي أمرنا به، و هو الدين الذي يندب إليه الأنبياء العظام، و قد وصفه تعالى بالخضوع و التسليم و الإخلاص في كتابه المجيد، فقال جلّت عظمته: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و قال تعالى: أَلا لِلّهِ اَلدِّينُ اَلْخالِصُ [سورة الزمر، الآية: 3]، و هو الذي تدعو إليه الفطرة، قال تعالى: فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها [سورة الروم، الآية: 30]، و لأجل ذلك عقّب سبحانه و تعالى بأنّ محبّة العبد للّه لا تتحقّق إلا باتباع هذه الشريعة التي تضمّنت جميع أسباب المحبّة له عزّ و جلّ.

و من ذلك يظهر أن ذكر الآية الشريفة بعد نهي اللّه سبحانه و تعالى موادّة الكفّار و المشركين أن الاتباع لهذه الشريعة لا يحصل إلا بنبذ تولّي الكفّار، و أنه مع محبّة اللّه أمران متضادان لا يجتمعان في قلب امرئ، و ممّا يؤكّد ذلك قوله تعالى:

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ اَلَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ اَلظّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة الجاثية، الآية: 18-19]، فإن المستفاد منه أن ولاية اللّه إنما تثبت للمتّقين المطيعين للّه و الرسول و المتّبعين شريعته، و غيرهم خارجون عن ولايته تعالى، التي لا تحصل إلا بحبّ اللّه عزّ و جلّ و نبذ كلّ ما يوجب الخروج عنه.

ص: 214

قوله تعالى: يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ .

أي: أن اتباع اللّه سبحانه و تعالى و الدخول في ولايته عزّ و جلّ باتباع الرسول الكريم الذي هو الكتاب الناطق، فإنه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى [سورة النجم، الآية: 3-4]، يستدعي محبّة اللّه تعالى له، و كفى بذلك فخرا و سعادة. و هو المقام السامي الذي يقصده كلّ مخلوق.

و يستفاد من الآية الشريفة أن محبّة اللّه تعالى للعبد تترتب على محبّة العبد للّه تعالى، و عند التخلّف لا يكون إلا ادعاء، بل هي محبّة الهوى لا محبّة اللّه تعالى، و لكن لكلّ منهما مراتب متفاوتة.

و علامة محبّة اللّه تعالى للعبد هي التوفيق للطاعة و الهداية و البعد عن المعصية، و الانقلاع عن دار الغرور، و الانقطاع إلى دار الخلود، و هذا هو الفوز المبين.

و إنما ذكر سبحانه محبّته للعبد دون ولايته، فإن الحبّ هو الأصل الذي تبتنى عليه الولاية، و به يصل العبد إلى مقام الولاية.

قوله تعالى: وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .

عطف اللازم على الملزوم، أي: إذا تحقّقت محبّة اللّه تعالى لعبده، يتحقّق غفرانه لا محالة. و الذنوب هي التي تمنع من أن يحظى العبد مقام القرب من اللّه تعالى، كما أنها هي التي توجب ستر الحقائق عنه و حجبه عن ربّه، قال تعالى:

كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ * كَلاّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14، 15].

و المحبّة هي الجذبة الروحانيّة بين الحبيب و المحبوب، و هي لا تتحقّق مع الذنوب، فكما أن محبّة العبد للّه تعالى توجب الإخلاص له، كذلك محبّة اللّه العبد تستدعي قربه تعالى له و إزالة الحجب التي حصلت من الذنوب عنه، فالحبّ يقتضي غفران الذنوب و ما يتبعه من الإفاضات المعنويّة و الظاهريّة و المقامات التي تقصر العقول عن دركها، فإن إفاضاته غير محدودة إلا ما كان من جهة المستفيض، قال تعالى: وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً [سورة الإسراء، الآية: 20].

ص: 215

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

إعلان عامّ لسعة غفرانه و رحمته مع قابلية الموضوع، و هو في مقام التعليل لصدر الآية الشريفة.

قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ .

تأكيد لما تقدّم، و بيان لحقيقة متابعة الرسول، و شرح لمعنى محبّة اللّه تعالى، فإن الآية السابقة تدعو إلى محبّة اللّه و متابعة الرسول، و هما لا تحصلان إلا بإطاعة اللّه و الرسول، و هي لا تحصل إلا باتباع الشريعة التي أنزلها اللّه تعالى على نبيّه بإخلاص، و به تتحقّق طاعة اللّه و رسوله، فتكون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول واحدة. و يدلّ على ذلك عدم تكرار الأمر، فلو كانت الإطاعتان مختلفتين لقال عزّ و جلّ: أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59].

نعم، يكفي صدق إطاعة اللّه و رسوله بإتيان العبادات تقرّبا إلى اللّه تعالى، و إتيان غيرها على حسب الوظيفة الشرعيّة التي أرادها اللّه تعالى، و به تتحقّق متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، سواء قصدها حين العمل أم لا، لأن هذا القيد يحتاج إلى دليل و هو مفقود.

و ظاهر الأمر إرشاد إلى إتيان نفس التكاليف كلّها، كما في أوامر (أطيعوا الرسول) في كلّ ما ورد في القرآن الكريم.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ .

أي: أن التولّي من إطاعة اللّه و الرسول كفر، و اللّه لا يحبّ الكافرين، و التولّي إما أن يكون اعتقادا و عملا فهو الكفر، و إن كان عملا فقط مع بقاء الاعتقاد - لو فرض - فهو الفسق، و قد يوجب الكفر، و لعلّ إجمال قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْكافِرِينَ ، لأجل هذه الجهة.

و في الآية المباركة اشعار بأن الحبّ المنفي إنما يكون في التولّي عن طاعة اللّه و الرسول، كما أن صدر الآية الشريفة يثبت أن الحبّ إنما يكون في متابعة اللّه و الرسول، و لا يخلو ذلك من اللطف كما لا يخفى.

ص: 216

بحوث المقام
بحث أدبي:

قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ، لا ناهية، و الفعل مجزوم بها، و هو متعدّ لمفعولين.

و قوله تعالى: مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ ، (من) لابتداء الغاية، و الجملة حال من الفاعل، أي: متجاوزين عن ولاية المؤمنين إلى الكافرين.

و قيل: الجملة في حيز الصفة لأولياء، و قيل: متعلّق بالاتخاذ.

و (تقاة) في قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، مفعول مطلق وزنها فعلة و أصلها وقية، ثم أبدل الواو تاء كنجاة و تكاة، فصارت تقية، ثم قلبت الياء ألفا لتحركها و انفتاح ما قبلها، فصارت تقاة. و (منهم) متعلّق ب (تتقوا)، و الفعل تعدّى بمن، لأنه بمعنى خاف و هو يتعدّى بها.

و الظرف في قوله تعالى: يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ، قيل إنه منصوب ب (يحذركم)، أي يحذّركم اللّه نفسه في يوم تجد.

و أورد عليه: بأنه لا يكون (يوم) مفعولا ليحذّركم، لأن يحذركم لا تتعدّى إلا إلى مفعولين، و قد استوفاهما، و لا بدلا من أحدهما كما لا يخفى.

و قيل: إنه ظرف للتحذير.

و فيه: أن التحذير و فائدته إنما هما في الدنيا، كما أنه لا يمكن أن يكون ظرفا للحذر - لو صحّ في نظائره - لأن الحذر في ذلك اليوم لا فائدة فيه و لا غاية.

و قيل: إنه معمول فعل مضمر، أي: اذكر - يا محمد - يوم تجد، فتكون الجملة منقطعة.

و أورد عليه شيخنا البلاغي أنه لا دليل يدلّ على ذلك، و لا يقاس على تقدير ذلك عند قوله تعالى: (و إذ) في موارد متعدّدة من القرآن الكريم، أي و اذكر

ص: 217

إذ، لأن السياق هناك يشير إلى ذلك، و قد تكرّر ذكره صريحا في عدّة آيات، منها قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ فِي اَلْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ اِنْتَبَذَتْ [سورة مريم، الآية: 16]، و قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى [سورة ص، الآية: 41]، و قوله تعالى:

وَ اُذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ [سورة الأحقاف، الآية: 21].

و قيل: إنّ العامل فيه قدير في قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

و قيل: إنه متعلّق بقوله تعالى: يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ ، و يصحّ تعلّق علمه ب (اليوم)، لأنه ظرف لعلمه بالنسبة إلى ظهور الأمر لنا، لا بالنسبة إلى تحقّقه منه تعالى، كظهور ملكه و قدرته و قوته في ذلك اليوم، مع أنها دائمة له تعالى، و إنما اختصّ بذلك اليوم لظهور الحقيقة بالنسبة إلى خلقه.

و قيل: إنه متعلّق ب (المصير)، أي و إليه المصير في يوم تجد، و الفاصل ليس بأجنبي، و اختاره شيخنا البلاغي و اعتبره من أكمل الصلاحية و المناسبة، و قال الزمخشري: إنّ يوم معمول ل (تود)، و الضمير في (بينه) يعود إلى ذلك اليوم.

و فيه: أن الآية المباركة إخبار عن حال كلّ نفس و هي تود أنها لو عملت من خير محضرا أن يتعجّل يوم القيامة لكي تفوز بسعادته.

و (ما) في قوله تعالى: ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً موصولة و العائد محذوف، و (من) بيانيّة، و (محضرا) حال من العائد المحذوف تقديره ما عملته من خير محضرا.

و قيل: إنه مفعول ثان ل (تجد)، إن جعلت بمعنى تعلم.

و (تود) في قوله تعالى: تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ في موضع الحال من الضمير المرفوع في عملت، أي (ما عملت من سوء). و إذا قطعتها ممّا قبلها و جعلتها للشرط جزمت تود جوابا للشرط و خبرا لما.

و قيل: إن (ما) في (ما عملت من سوء) في موضع رفع بالابتداء، و تود الخبر.

و (تحبّون) في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي من حب، كما أن (يحببكم) من أحب، و يرد الأول على (فعل) و منه الحبيب، و يرد الثاني على (فعل)

ص: 218

و منه المحبوب، و لم يرد اسم الفاعل من حبّ المتعدّي، فلا يقال: أنا حاب، كما أنه لم يرد اسم المفعول من (أحب) إلا قليلا كقول الشاعر:

و لقد نزلت فلا تظني غيره *** مني بمنزلة المحبّ المكرم

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: إنما عبّر سبحانه بالاتخاذ في قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ ، لأن الاتخاذ أبلغ في المطلوب، و ليشمل جميع العلائق الروحيّة منها و الماديّة، و كلّ ما يوجب التقرّب إلى الكافر و الامتزاج معه، و قد ورد هذا اللفظ بالنسبة إلى المشركين و عبّاد الأوثان، قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اِثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [سورة النحل، الآية: 51]، و قال تعالى: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 31]، إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و من ذلك يظهر السرّ في تكرار النهي في آيات اخرى، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 51].

و الآية الشريفة ترشد إلى أعظم دستور إلهي ينظم علاقات المؤمنين بعضهم مع بعض، و العلاقات بينهم و بين أعدائهم، الّذين لم يضمروا في أنفسهم سوى الكراهة من أعدائهم ممّا كان السبب في مشاكلهم و متاعبهم، و قد شدّد اللّه سبحانه على ترك هذا الأمر الإلهي و الحكم الاجتماعي بما لم يذكره في غيره، إذ فيه حياتهم و سعادتهم، و كلّ ما كان المؤمنون أبعد من الامتزاج مع أعدائهم، كلّ ما كانت سعادتهم أعظم و سيادتهم أكثر و مشاكلهم أقل، فهلموا أيها المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم و جعل إرشاداته و أحكامه نصب أعينكم، و لا يسبقنكم إلى العمل بالقرآن غيركم، فإن فيه هلاككم و تشتت جمعكم، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.

الثاني: إنما ذكر سبحانه (المؤمنون) و (الكافرين) في الآية الشريفة للدلالة على أن سبب هذا الحكم هو الإيمان و الكفر، فإن بينهما أقصى التباعد و التنافر، و هو

ص: 219

يسري إلى جميع الفروع و الجهات، بل يسري حتى إلى الصور الذهنيّة، و كذلك تكون بين من يتلبّس بهما، فإن بينهم غاية الاختلاف و التباعد في جميع الأمور، من المعارف و سائر شؤون الحياة، فيكون الامتزاج مع الكافرين يوجب فساد العقيدة و إذهاب خواص الإيمان و آثاره، و إبطال أصل الدين، و لأجل ذلك عقّبه سبحانه و تعالى بقوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ .

الثالث: يدلّ قوله تعالى: فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ على انقطاع العلاقة بين اللّه جلّ جلاله و بين من يتّخذ الكافرين أولياء، و البعد عنه عزّ و جلّ و إيكال الأمر إلى أنفسهم و سلب التوفيق عنهم، و هو ما نشاهده بالحسّ و الوجدان، و هو يدلّ على كفر من تولّى الكافرين.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً ، على مشروعيّة التقية و الرخصة فيها في موارد محدودة، و هي تتقدّر بقدر الضرورة، و لذا ذكر سبحانه و تعالى: (تقاة)، الدال على مقدار التقية - و خصوصياتها و يختلف حكم التقية حسب اختلاف المورد - إلى الأحكام الخمسة التكليفيّة، فقد تكون التقية واجبة كما لو استلزمت جلب قلب الكافر و إدخاله في الإسلام و نشر أحكام الدين الحنيف، و نحو ذلك ممّا ترجع فائدته إلى أصل الدين و المتديّنين به، و كذا إذا استلزم ترك التقية الضرر و الفساد على المسلمين، و لكن في جميع ذلك لا بد من الاهتمام على حفظ العقيدة و التحذّر عن فسادها و تزلزلها.

و بالجملة: أن مورد التقية من الكفّار هو دفع الضرر عن النفس أو المال أو العرض، أو جلب النفع النوعي، بحيث لا يكون محذور شرعي في البين، و لا فرق في النقع بين النوعي منه و الشخصي، إذا انطبق عليه عنوان الضرر، و قد فصّل ذلك في الفقه.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ أن النهي من التولّي من أعظم المناهي، و أن معصية التولّي قد بلغت غاية القبح و تناهت فيه، بحيث حذّر اللّه سبحانه و تعالى في هذا المورد عن نفسه، و هو ينذر عن عظيم

ص: 220

العقاب و شدّة العذاب و أنواع الحرمان، و هو كذلك لكثرة المفاسد المترتبة عليه كما هو معلوم، فيكون التولّي و ترك التحذّر من اللّه نفسه من أعظم مصاديق الطغيان على اللّه تعالى، لأنه يتبع إبطال الدين و فساد العقيدة، و أنهم قد أمروا بالاستقامة في عدّة آيات، قال اللّه تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [سورة هود، الآية: 112-113] فكأن هذه الآية الشريفة شارحة للآية التي تقدّم تفسيرها و مبيّنة للتحذير، فإن التولّي و الركون إلى الظالمين يوجب الطغيان، و هو يستتبع أشدّ العذاب و حرمان الأنصار، و لأجل ذلك كانت هذه الآية شديدة الوقع على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فقد ورد انها شيّبته.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ ، منضما إلى تكرار التحذير من اللّه، شدّة التهديد، حيث إنه لا مفرّ منه عزّ و جلّ و لا صارف عن بلائه، و يدلّ أيضا أنه من القضاء الحتم الذي لا مبدّل له.

السابع: يدلّ قوله تعالى: قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ على إحاطة علمه عزّ و جلّ و شموليته لجميع الموجودات، وسعته الشاملة للأمور الموجودة و التي ستوجد بعد ذلك. و هذه الآية من الأدلّة الدالّة على علمه بالجزئيات، وردّ على من قال بعدم علمه بها.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ ، تأكيد التهديد و التخويف، فإن مثل هذا التعبير إذا أتي به في مقام التخوّف و التحذير يكون لتثبيته و اشعار المخاطب بأن المتكلم انما هو ناصح شفيق، و لا يريد إلا الخير و الصلاح، فلا ينبغي التعرّض لسخطه، فيكون إخباره بذلك رأفة به.

و يمكن أن يكون ذلك لأجل أن من فعل ذلك و ارتكب هذه المعصية العظيمة، إن رجع عنها و أراد الإصلاح فإن اللّه تعالى يقبل منه توبته رأفة به، و إن كان وبالها عظيما.

التاسع: إنما بدأ سبحانه و تعالى بحبّ اللّه، لأنه أصل الدين و أساس

ص: 221

الكمالات الحقيقيّة الإنسانيّة، و ما عداه باطل زائل، و هذا مفاد جملة من الآيات الشريفة و عدّة من الروايات، ففي بعضها:

«و ليس الدين إلا الحبّ في اللّه و البغض في اللّه»، و في البعض الآخر:

«و هل الدين إلا الحبّ و البغض»، و لذلك ذكر الحبّ دون الولاية.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: قُلْ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ على أن الاتباع في الآية السابقة الموجب لمحبّة اللّه للتابع، إنما يتحقّق في إطاعة اللّه و إطاعة الرسول، و هما متقومتان بالإخلاص، فيكون حبّ اللّه متمثّلا في الإخلاص له عزّ و جلّ و يرجع بالآخرة إلى أن دين اللّه إنما يكون في الإخلاص له عزّ و جلّ، و هو جعل العبد نفسه و جميع شؤونه في مرضاة اللّه تعالى، و هو المراد من قوله تعالى:

إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، فإن الإسلام من التسليم، و هو يتجلّى في الإخلاص، و هو ينتهي إلى الحبّ.

الحادي عشر: إنما كرّر تبارك و تعالى لفظ (قل) في الآيات الشريفة، إما لأجل أن خطاب الملك مع رعيته إنما يكون بواسطة أخصّ وزرائه المطّلع على الخصوصيات، أو لأجل انطواء العقول في الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله انطواء الجزء في الكلّ، فإنه سيد الأنبياء و العقل الكلّ، و كلّ العقول، فيكون الخطاب إليه خطابا إلى الكلّ، فهو مظهر جميع التشريعات السماويّة، بل جميع الخطابات التكوينيّة. و مقام خاتم النبوّة صلّى اللّه عليه و آله إنما هو مرتبة سرّ الوجود و الإيجاد و منتهى الكمالات، فهو سابق السائرين إلى اللّه تعالى و قائدهم إليه عزّ و جلّ، و قد ورد في بعض الأخبار أن الشمس جزء من سبعين جزء من نور العرش، فإذا كانت الشمس الجسمانيّة تستضيء من العرش و تضيء لما سواها، فالشمس المحمديّة الأحمديّة تستضيء من الأحديّة المطلقة، و تضيء لما سواها.

و يمكن أن يكون التكرار في هذه السورة الشريفة لأجل أن المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب و المشركين، و في التكرار تثبيت لرسالته صلّى اللّه عليه و آله و كمال الخلّة بينهما.

ص: 222

بحث عرفاني:

يستفاد من الآيات المباركة المتقدّمة مباحث عرفانيّة مهمّة:

الأوّل: أنه يدعو اللّه تعالى في الآيات المتقدّمة إلى العقل السليم و الفطرة المستقيمة، و هما محجوبان بحجب كثيرة، و من أغلظها الحجب الشهوانيّة التي تكفي في استفزازها النفس الأمّارة بعد ما يدعو إليها الشيطان و يهيء لها جميع السبل التي تثيرها، لا سيما بعد قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 82-83]، فاجتمع على إثارة الشهوات داعيان، هما النفس الأمّارة و الشيطان، و لذا كان داعي الشيطان أكثر إجابة من داعي الرحمن.

و إنما يأمن الإنسان من كيد الشيطان و قهر النفس الأمّارة بالإيمان باللّه عزّ و جلّ و متابعته و طاعته في جميع ما أنزله اللّه تعالى، و يرتقي إلى درجة الخلّة و الحجب، و بذلك تنجلي تلك الحجب و تنخرق على قدر مراتب الإيمان.

و ممّا لا يمكن اجتماعهما في قلب الحبيب هو تولّي اللّه تعالى و تولّي أعدائه، فإنهما أمران متنافيان في أي مرتبة كانا، و من المعلوم أنه بتولّي الكفّار لا تزال الحجب تغلظ حتّى تستولي على إيمانه فيزول رأسا، و لأجل ذلك ورد النهي عن تولّي الكافرين و المنافقين و الجائرين الظالمين في القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، و قالوا: «لا عدو أعدى من قرين السوء»، و الشواهد العقليّة تدلّ على ذلك، لأن سرّ العبوديّة بين المعبود الحقيقي و العابد من أفضل الموجودات في عالم الممكنات، و بهذه الإضافة يصل العبد إلى أقصى درجات القرب و أعلى المقامات، و هذه الرابطة فعّالة لكلّ ما تشاء، و خلاّقة لما تريد، و لا يجوّز العقل أن تدنس هذه الإضافة المباركة بتولّي الكفّار و الايتلاف مع الفجّار الأشرار، و ليس ذلك إلا كمن أغفل عن الجوهرة الكريمة التي لا تقدر بثمن و أوقعها في الكنيف.

الثاني: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ، الواردات القلبيّة، التي ترد على قلوب أوليائه تعالى، فيكون المراد بالإخفاء عدم إذنه تعالى في إنشائه و إظهاره كجملة من أسرار القضاء و القدر، و المراد من الإبداء إذنه في ذلك، فإن اللّه سبحانه و تعالى يحول بين المرء و قلبه، قال عزّ شأنه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 24]، فتكون جميع تلك الخاطرات و الواردات مورد علمه و مشيئته و إرادته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّيّة التامّة حتّى يلزم المحذور من الجبر و أمثاله، فإن قلوب الأولياء من أجلّ مشارق أنوار الغيب،

ص: 223

الثاني: يمكن أن يكون المراد من قوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ ، الواردات القلبيّة، التي ترد على قلوب أوليائه تعالى، فيكون المراد بالإخفاء عدم إذنه تعالى في إنشائه و إظهاره كجملة من أسرار القضاء و القدر، و المراد من الإبداء إذنه في ذلك، فإن اللّه سبحانه و تعالى يحول بين المرء و قلبه، قال عزّ شأنه: وَ اِعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ يَحُولُ بَيْنَ اَلْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الأنفال، الآية: 24]، فتكون جميع تلك الخاطرات و الواردات مورد علمه و مشيئته و إرادته بنحو الاقتضاء لا بنحو العلّيّة التامّة حتّى يلزم المحذور من الجبر و أمثاله، فإن قلوب الأولياء من أجلّ مشارق أنوار الغيب،

و في القدسيات: «لا تسعني أرضي و لا سمائي، بل يسعني قلب عبدي المؤمن»، لأنّ إيمان المؤمن باللّه تعالى يجعل قلبه متّصلا بما لا يتناهى له من كلّ جهة، فيخرق حجب الإمكان إلى أن يصل إلى مرتبة لا يمكن تحديدها.

و في الحديث سأل موسى عليه السّلام ربّه فقال: «أين أجدك يا رب؟ فقال تعالى: إني عند القلوب المنكسرة»، أي كسرها حبّ اللّه جلّ جلاله، و جبرها تجلّي المحبوب فيها، فكسرت الهيبة الإيمانيّة جميع الحجب الظلمانيّة، بل الجهات الإمكانيّة، فاتصلت إلى معدن النور و منبع الخير و السرور، فاستعدّت للإشراق فأشرقت عليها المعارف الحقّة و العلوم الغيبيّة، ممّا لا يعقل تحديدها بالكلام و لا يمكن تحصيلها بالجهد و الإلمام، و هو على كلّ شيء قدير. و للكلام تتمة تأتي في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى، فحينئذ الآية المباركة تختصّ بالمؤمنين الّذين لهم الدرجات العليا في الإيمان.

الثالث: أن محبّته تعالى لخلقه إن كانت من المحبّة التكوينيّة فهي من صفات الذات الأقدس، لرجوعها إلى العلم و الحكمة، و هما عين الذات، و لا يعقل فيها الاشتداد و التضعّف، و إن كانت من المحبّة الفعليّة فهي من صفات الفعل، لرجوعها إلى الرضا و التوفيق و التسديد، و كلّ ذلك من صفات الفعل، و لا يعقل أن تكون في مرتبة الذات لقابليتها للتغيّر و التبديل.

و هذه المحبّة الاختياريّة من العبد للّه عزّ و جلّ هي موضوع السير و السلوك و الوصول إلى مقامات العارفين، و بعضهم سمّى أهل هذا السير و السلوك ب: القافلة

ص: 224

الإلهيّة. و خلاصة ما قالوه فيها: إنها قافلة تسير من اللّه تعالى إلى اللّه مع اللّه، و قال جلّت عظمته في شأنهم: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اَللّهِ وَ إِقامِ اَلصَّلاةِ [سورة النور، الآية: 37]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا [سورة فصلت، الآية:

30]، و رائد هذه القافلة و رئيسها محمد حبيب اللّه، و إبراهيم خليل الرحمن، و يد اللّه فوق رؤوسهم ترفرف بأنحاء اللطف و الرحمة، و تجذبهم روحانيّة خليل الرحمن إلى خليله، و معنويّة حبيب اللّه إلى حبيبه، و ان سعيهم الوصول إلى أقصى الكمال، و هذا أكمل سير في الممكنات.

الرابع: أن التحذّر عن اللّه جلّ جلاله له مصاديق كثيرة، من أعظمها الإيذاء و الاستخفاف بعباد اللّه تعالى الّذين مدحهم في آيات كثيرة و ذكر صفاتهم، فقال عزّ شأنه: وَ عِبادُ اَلرَّحْمنِ اَلَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى اَلْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً * وَ اَلَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً * وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اِصْرِفْ عَنّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً [سورة الفرقان، الآية: 63-65]، و ذكر علي عليه السّلام صفاتهم في جملة من كلامه

فقال: «نطقوا فكان نطقهم صوابا، و سكتوا فكان سكوتهم حكمة و نظرهم عبرة، صحبوا الدنيا بأبدان، أرواحهم معلّقة بالملإ الأعلى، أنفسهم منهم في تعب و الناس منهم في راحة، شعارهم الخضوع و مأكلهم و ملبسهم القنوع»، و قد ورد في السنّة المقدّسة في مدحهم ما لا يحصى، حتّى أنه ورد فيها أن اللّه جلّت عظمته

قال: «من آذى وليي فقد بارزني بالمحاربة»،

و قوله عليه السّلام: «و لو لاهم لساخت الأرض بأهلها»، إلى غير ذلك ممّا ورد في مدحهم و ثنائهم، و لا بد أن يكون كذلك، لأنهم أعظم مظهر لمكارم أخلاق اللّه تعالى، و أن قلوبهم المقدّسة لا تزال مستشرقة بشوارق من عالم الغيب، فتزيل عنها كلّ شكّ و دنس، فهم الأنوار التي تخرج بهم الناس من الظلمات إلى النور، و هم الصراط المستقيم.

ص: 225

بحث فلسفي:

أثبتت الفلاسفة الإلهيّون و الطبيعيّون أن كلّ ممكن زوج تركيبي، له ماهية و وجود، و قد فصّلوا البحث في كلّ منهما من جميع الجهات بما لا مزيد عليه.

كما أثبتوا أن كلّ مركب ممكن، و استدلّوا عليه ببراهين كثيرة، و أهمّها الافتقار كما تقرّر ذلك في محله.

و أثبتوا أن الماهيّة (الذات) قبل الوجود لا أثر لها، بل تكون ليسا محضا، أي عدما. و هذه الأمور الثلاثة من المتسالم عليها بينهم.

و إنما اختلفوا في أن المجعول و متعلّق الجعل هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات)، أو الاتصاف بينهما؟ و هذه من المسائل العويصة بينهم، و أي منها كان مجعولا يلزمه جعل الآخرين بالعرض، ليتمّ الجعل التركيبي و يترتب الأثر لا محالة.

كما أن أيا منها كان مجعولا للجاعل تكون لوازمه مجعولة له بنحو الاقتضاء، فإذا كان اللّه جلّ جلاله خالق الإنسان و جاعله، يكون جاعلا لعلمه و إرادته و مشيئته، فقوله تعالى: إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ من علم العلّة بالمعلول، و هو أتقن أنحاء العلوم كما ثبت في محلّه.

و للفلاسفة الإلهيّين أصلان مهمان يتفرّع عليهما مسائل كثيرة ذكرت في محلّها:

أحدهما: أصالة التحقّق، فيبحثون في أن الأصل في التحقّق هل هو الوجود أو الماهيّة (الذات)؟ على اختلاف بينهم، فيثبت كلّ منهما دعواه بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها.

ثانيهما: أن الأصل في الجعل هو الوجود أو الماهيّة.

و المراد من الأول أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس المجعول، كما أن المراد من الثاني أنها تلحظ بالنسبة إلى نفس الجاعل، و لكن بعد اتفاق جميع الفلاسفة على أنه لا أثر للجعل و المجعول إلا بعد تحقّق الوجود، يرتفع هذا النزاع في البين، و أنه لا

ص: 226

يمكن التفكيك بين الوجود و الماهيّة مطلقا، فالآثار مترتبة على الوجود، سواء قلنا بالأولى أم الثانية.

و هناك نظرية اخرى قرّرها بعض أعاظم مشائخ مشايخنا، و هي جعل نفس الذات جعلا مركبا، أي قد وجدت الذات و تجوهرت الجواهر. فالأشياء بما لها من الصفات و الذات تعلق بها الجعل، و استدلّ بآيات كثيرة و بجملة من الروايات.

و يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و غيره من الآيات الشريفة، أن تمام الأشياء بذواتها و وجوداتها و صفاتها، مجعولة و مخلوقة له تبارك و تعالى.

و ما يقال: من عدم إمكان الجعل التركيبي بين الشيء و نفسه، إنما هو في قدرة الممكن و القوى الممكنة، لا القدرة القهّارة التي هي فوق الكلّ. و على هذا فيكون الأمر أوضح كما هو معلوم.

ثم إن العلل و المعلولات كما أنها مترتبة في سلسلة نظام التكوين، فلو تخلل في البين نقصان في بعضها لا تحصل الغاية المطلوبة و الغرض المقصود، فكذلك في نظام التشريع، من غير فرق بينهما من هذه الجهة.

بل التشريع هو الأصل في بناء التكوين إذ لو لا نظام التشريع لم يكن للتكوين أثر، لا في الدنيا و لا في العقبى.

و منه يظهر الوجه

في خطاب اللّه تعالى مع حبيبه محمد صلّى اللّه عليه و آله: «لولاك لما خلقت الأفلاك»، فالعلّة الغائيّة لأصل التكوين و بنائه مطلقا هي التشريع، و قد أثبتت الفلاسفة أن العلّة الغائيّة إنما هي علّة فاعليّة الفاعل، فهي و إن كانت مؤخّرة وجودا لكنها مقدّمة علما، فلا بد و أن يكون نظام التشريع في جميع جهاته أرفع و أجلّ من نظام التكوين، فلا سبيل للوصول إليه إلا بواسطة الرسول، فهو يسدد العقل الكلّي، و أن العقل يستمد منه فلا مناص لأحدهما بدون الآخر في مقام الإطاعة و العصيان في امتثال تكاليف الرحمن، ممّا ضبطته السنّة و القرآن، قال

ص: 227

تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية:

96]، و قال تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ ، فقوله تعالى: فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، يدلّ أن متابعته صلّى اللّه عليه و آله هو الأصل في تنظيم نظام التشريع الذي يترتب عليه نظام التكوين بما شاء اللّه تعالى.

كما أنهم أثبتوا أنه لا بد من تحقّق العلاقة و الربط بين الجاعل و المجعول، و إن لم نقل باعتبار السنخيّة بينهما، كما في الجاعل المطلق و خالق الخلق، حيث دلّت الأدلّة على عدم السنخيّة بينه و بين خلقه، و أنها بينونة صفة لا بينونة عزلة، و لكن أصل الربط و العلقة ممّا لا بد منه بينه تعالى و بين خلقه، و في القرآن و السنّة المقدّسة شواهد كثيرة تدلّ على هذه العلقة و الربط، و لها مراتب كثيرة جدا، فيصحّ أن يقال:

إن محبّته تعالى سارية في جميع الموجودات من علوياتها و سفلياتها، و لكن هذه المحبّة التكوينيّة يمكن أن تكون غير ملتفت إليها أصلا، فالمحبّة التي وردت في هذه الآية الشريفة هي الاختياريّة منها - كما تقدّم - لأنها ملازمة لمتابعة النبيّ المختار و عليها يدور الثواب، و على تركها العقاب، و يمكن أن يجمع في بعض عباد اللّه تعالى قسمان من المحبّة، فإن لهم المحبّة التكوينيّة و المحبّة الاختياريّة، و يأتي في قوله تعالى:

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي [سورة طه، الآية: 39]، تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

في أسباب النزول و الدر المنثور: «عن ابن عباس في قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ ، كان الحجاج بن عمرو و كهمس ابن أبي الحقيق و قيس بن زيد - و هؤلاء كانوا من اليهود - يباطنون نفرا من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال: رفاعة بن المنذر و عبد اللّه بن جبير و سعيد بن خيثم لأولئك النفر:

اجتنبوا هؤلاء اليهود، و احذروا لزومهم و مباطنتهم، لا يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلا مباطنتهم و ملازمتهم، فأنزل اللّه هذه الآية».

ص: 228

أقول: هذا كلّه من باب بيان بعض المصاديق.

و في أسباب النزول و غيره: عن الضحاك عن ابن عباس: «نزلت الآية في عبادة بن الصامت الأنصاري و كان بدريّا نقيبا، و كان له حلفاء من اليهود، فلما خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يوم الأحزاب قال عبادة: يا نبي اللّه، إن معي خمسمائة رجل من اليهود، و قد رأيت أن يخرجوا معي فاستظهر بهم على العدو، فأنزل اللّه لا يتّخذ المؤمنون الكافرين أولياء».

أقول: تقدّم أن هذا و أمثاله من باب بيان تعدّد المصاديق.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لا إيمان لمن لا تقية له، و يقول: قال اللّه: إلا أن تتقوا منهم تقاة».

أقول: بعد أن كانت التقية مقتضاة الحكمة الشرعيّة و تطابقت عليها قوانينها، فتارك التقية يكون حينئذ ممّن لا دين له، فالرواية الشريفة إرشاد إلى حكم عقلي.

و في الكافي: عن الصادق عليه السّلام: «التقية ترس اللّه بينه و بين خلقه».

أقول: كما أن الترس «بالضم» يحفظ عن مفسدة هجوم الأعادي، كذلك التقية تحفظ صاحبها عن الآفات و الشرور.

و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «التقية في كلّ شيء يضطر إليه ابن آدم، و قد أحلّ اللّه له».

أقول: هذه الرواية أيضا مطابقة للقواعد العقليّة، و الروايات في ذلك متواترة و كثيرة، و لها شروط و أحكام مفصّلة ذكرناها في كتابنا [مهذب الأحكام].

و في تفسير العياشي و معاني الأخبار و غيرهما: عن الصادق عليه السّلام: «هل الدين إلاّ الحبّ، إن اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: الروايات في أن الدين هو الحبّ كثيرة، و أنها موافقة للقانون العقلي أيضا، إذ من أحبّ شيئا تبعثه نفسه إلى متابعته و تزجره نفسه عن مخالفته.

و في المعاني - أيضا - عن الصادق عليه السّلام قال: «ما أحبّ اللّه من عصاه ثم:

ص: 229

تعصي الإله و أنت تظهر حبّه * هذا لعمري في الفعال بديع لو كان حبّك صادقا لأطعته * إن المحب لمن يحبّ يطيع أقول: ظهر ممّا تقدم وجه هذه الرواية.

و في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من رغب عن سنّتي فليس مني، ثم تلا هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: متابعة سنّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لا تتحقّق إلا بامتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و ذلك لا يتم إلا بمتابعة العلماء العاملين بسنّته، القائمين مقامه.

و في الدر المنثور - أيضا -: أخرج ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الحلية و الحاكم عن عائشة قالت: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا في الليلة الظلماء، و أدنى ذلك أن يحبّ على شيء من الجور، و يبغض على شيء من العدل، و هل الدين إلا الحبّ في اللّه و البغض في اللّه؟ قال اللّه تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ».

أقول: أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الشرك أخفى من دبيب الذر على الصفا.. إلخ» فيأتي شرحه في قوله تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106]،

و في جملة من الأخبار الواردة: «أن قول الرجل لأخيه: لو لا فلان لهلكت، هذا نحو شرك، فقيل له: يا رسول اللّه كيف نقول؟ قال: قولوا لو لا أن من اللّه عليّ بفلان لهلكت».

و أما

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «هل الدين إلا الحبّ و البغض في اللّه» فمعناه أن محبّة ما يحبّه اللّه تعالى و بغض ما يبغضه اللّه تعالى هما الدين، و لا معنى للدين إلا ذلك، سواء لوحظ من الوجه الكلّي أم الوجه الفردي الشخصي.

في الدر المنثور - أيضا -: أخرج أبو أحمد، و أبو داود، و الترمذي و ابن ماجة، و ابن حيان و الحاكم، عن أبي رافع عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري ممّا أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا ندري ما

ص: 230

وجدناه في كتاب اللّه اتبعناه».

أقول: قد صار مفاد هذه الرواية شائعا بين الناس، كلّ ما قيل لهم حكم من أحكام الشريعة يقولون: أين محلّه من كتاب اللّه، مع أن كتاب اللّه تعالى من دون سنّته المتبعة لا ينفع العالم و غيره.

و في أسباب النزول: عن ابن عباس: «أن اليهود لما قالوا: نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، أنزل اللّه تعالى هذه الآية: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، فلما نزلت عرضها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على اليهود فأبوا أن يقبلوها».

أقول: لأن منشأ إظهار مودّتهم للمسلمين و تعزيز أنفسهم لهم حيث كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و هذه من مزاعمهم الفاسدة، و أن الآية الشريفة تفنّد جميعها.

و فيه - أيضا -: عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن محمد بن جعفر بن الزبير، قال: «نزلت في نصارى نجران، و ذلك أنهم قالوا: إنما نعظّم المسيح و نعبده حبّا للّه و تعظيما له، فأنزل اللّه هذه الآية ردّا عليهم».

أقول: مرّ أن هذا من باب بيان بعض المصاديق، فلا منافاة بين الجميع.

ص: 231

إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَع.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ (35) فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ (41) الآيات الشريفة فاتحة قصص عيسى بن مريم و الاحتجاج على أهل الكتاب، و بدأ فيها بالإخبار عمّن أحبّهم و اصطفاهم و جعل منهم الرسل و الأوصياء، و هم آدم و نوح و آل إبراهيم و آل عمران، و أثبت فيها أن الاصطفاء هو اختيار اللّه تعالى من تلك الذرّية الطيبة التي أحبّهم تعالى.

و ذكر فيها بعض ما دار بينه عزّ و جلّ و بين هذه الذرّية الطيبة، و يظهر فيه كمال الخلّة و المحبّة.

ص: 232

و الآيات الشريفة لا تخلو عن الارتباط بما قبلها من الآيات الدالّة على وحدة الدين و الآمرة بحبّ اللّه و اتباعه، فإن بهما يستعدّ المرء أن يكون من أصفيائه و أحبّائه.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً .

الاصطفاء، و الاختيار، و الاجتباء نظائر، و أصل الكلمة من الصفاء، و هو النقاوة من الدنس و الفساد، و الطاء في اصطفى بدل من تاء الافتعال، مثل الاختيار، فيكون الاصطفاء هو أخذ الشيء صافيا من كلّ ما يكدّره و يختلط معه. و يختلف باختلاف الجهات التي تكون سببا للصفاء، فقد يكون الاصطفاء من حيث الاختلاف مع الغير و الاندماج معه، فيكون بمعنى الاختيار للرسالة، كما في قوله تعالى في شأن موسى عليه السّلام: إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: 144]، أو يكون الاصطفاء للملك و السلطة، كقوله تعالى في شأن طالوت: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ [سورة البقرة، الآية: 247]، أو يكون باعتبار الانتساب إلى التوحيد و نبذ الأوثان، قال تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ [سورة فاطر، الآية: 32]، أو يكون الاصطفاء باعتبار صنف على آخر، كما في قوله تعالى: أَصْطَفَى اَلْبَناتِ عَلَى اَلْبَنِينَ [سورة الصافات، الآية: 153]. أو من حيث التخلّص من الشرك و كونه جامعا للكمالات، كما في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ [سورة البقرة، الآية: 132]، أو باعتبار التخلّص من الشركاء في الملك، كما

في المأثور: «إن أعطيتم الخمس و سهم النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصفي، فأنتم آمنون»، و الصفي: ما كان يأخذه النبي صلّى اللّه عليه و آله و يختاره لنفسه قبل القسمة، و يقال له الصفية.

و قد تكون جهة واحدة في الاصطفاء، و ربما تجتمع أكثر من جهة، كما في

ص: 233

شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130]، فإن اختياره كان بسبب النبوّة و الملك و التقدّم في الإيمان و الدعوة إليه و الإخلاص للّه تعالى.

و في المقام الأنسب هو الاصطفاء للرسالة و الولاية و العبوديّة المحضة، التي هي أساس الكمالات الإنسانيّة، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: عَلَى اَلْعالَمِينَ ، فلو كان الاصطفاء بمعنى الانتخاب منهم، لكان الأنسب أن يقول: (من العالمين)، فهو نوع اختيار لهم و تقديم على العالمين باعتبار أمر خاص فوق مقام النبوة و الصلاح لا يشاركهم غيرهم فيه، و هو العبوديّة و الزعامة و الإمامة على الناس.

و قد ذكر سبحانه و تعالى أربعة ممّن اصطفاهم على العالمين، و هم آدم، و نوح، و آل إبراهيم، و آل عمران، و لم يذكر غيرهم، لا سيما الذي بين آدم و نوح من الأنبياء و الرسل و الأوصياء، كهبة اللّه شيث و إدريس و غيرهم عليهم السّلام، و هذه قرينة اخرى أيضا على أن الاصطفاء فيهم خاص، كما ذكرنا.

و أوّل من ذكره سبحانه هو آدم عليه السّلام، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في ما يقارب من خمسة و عشرين موردا، و قد اعتنى به الجليل عزّ و جلّ اعتناء بليغا باعتبار كونه أبا للبشر، و أوّل الخليقة، و أوّل خليفته في الأرض، قال تعالى:

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي اَلْأَرْضِ خَلِيفَةً [سورة البقرة، الآية:

30]، و هو أول نبي من أنبياء اللّه تعالى، و أوّل من شرّع له الدين، و أوّل من اجتباه و تاب عليه، قال تعالى في شأنه: ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى [سورة طه، الآية: 122]، و هو الذي خلقه اللّه تعالى بيده و أمر الملائكة أن يسجدوا له، و كان من ذرّيته النبيون و المرسلون و غير ذلك من المناقب التي لم يشاركه فيها غيره، و كفى بذلك منقبة، فهو مرآة الكمالات المعنويّة الإنسانيّة المتمثّلة في شخص خليل الرحمن و حبيب اللّه و آدم أبيهما.

و كم أب قد علا بابن له شرف *** كما علا برسول اللّه عدنان

و أما نوح: الأب الثاني للبشر، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم أكثر من

ص: 234

أربعين موردا، و هو أحد الأنبياء الخمسة و أولي العزم، بل أوّلهم، و صاحب الكتاب و الشريعة، و هو شيخ المرسلين، و ممّن سلّم عليه ربّ العالمين، قال تعالى: وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ اَلْباقِينَ * وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي اَلْآخِرِينَ * سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [سورة الصافات، الآية: 77-79].

و نوح: اسم أعجمي إلا أنه ينصرف، لأنه على ثلاثة أحرف ساكن الوسط.

و قيل: إنه مشتق من ناح ينوح، أي صاح، لأنه كان يصيح في قومه و يدعوهم إلى الإيمان، قال تعالى على لسانه: قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاّ فِراراً [سورة نوح، الآية: 5-6].

قوله تعالى: وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

الآل و الأهل سواء، إلا أن الأول يستعمل في خاصة الإنسان و الملحقين به، و من يؤول إليه أمره، و يختصّ بالأشراف من أعلام الناطقين دون النكرات و الأزمنة و الأمكنة، بخلاف الأهل، فيقال أهل الخياط، و أهل زمن كذا، و أهل بلد كذا، و قد تقدم الكلام فيه.

و كيف كان، فالمراد بآل إبراهيم و آل عمران هم خاصتهما و الملحقون بهما، فيختصّ ببعض الذرّية الطيبة الطاهرة لا جميعها.

أما آل إبراهيم فهم الطاهرون من آله، الطيبون من ذرّيته، لأن إبراهيم عليه السّلام أبو الأنبياء جميعا بعد نوح، حيث لا نبي منذ إبراهيم إلا من نسله الخاص، كإسماعيل و إسحاق و يعقوب، و سائر الأنبياء من بني إسحاق، و سيدهم و أعلاهم قدرا و أنبّههم ذكرا محمد خاتم النبيّين، الذي هو المصطفى بالقول المطلق و مظهر لكمال الحقّ و آله الطاهرون الذين يؤول أمرهم إليه صلّى اللّه عليه و آله في الجهات التشريعيّة و الكمالات الإنسانيّة، و مكارم الأخلاق، و الملحقون به في الولاية، و يشهد لذلك قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة آل عمران، الآية: 68]، فإنه ظاهر في أن المناط في مفهوم الآل هو المتابعة في الاعتقاد و العمل، و بهذا الاعتبار يشمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ذرّيته

ص: 235

الطاهرين و الذين آمنوا به.

و يمكن الاستيناس له أيضا بقوله تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، فإن محبّة اللّه تعالى لمتابع النبيّ الأعظم صلّى اللّه عليه و آله تكون من مقتضيات الاصطفاء له أيضا،

و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ [سورة إبراهيم، الآية: 40]، «أنا دعوة أبي إبراهيم».

و الآية المباركة ليست في مقام تعداد المصطفين واحدا بعد واحد و الحصر فيهم، فلا يضرّ عدم تعرّضها لاصطفاء نفس إبراهيم و موسى و غيرهما عليهم السّلام، الذين ورد ذكرهم في غير موضع من القرآن الكريم، الدال على سمو قدرهم و علو شأنهم، و قد ذكر سبحانه و تعالى في آية اخرى اصطفاء إبراهيم عليه السّلام قال تعالى:

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اِصْطَفَيْناهُ فِي اَلدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة البقرة، الآية: 130].

و أما موسى بن عمران و غيره عليهم السّلام، فقد ورد ذكرهم في آيات اخرى قال تعالى: يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي [سورة الأعراف، الآية: 144]، و قال تعالى: اَللّهُ يَصْطَفِي مِنَ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ اَلنّاسِ إِنَّ اَللّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [سورة الحج، الآية: 75].

و قد شرح سبحانه و تعالى هذه الآية في موضع آخر بما يرفع إجمالها، فقال سبحانه عزّ شأنه في سياق كلامه في شأن إبراهيم عليه السّلام: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ * وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ * وَ إِسْماعِيلَ وَ اَلْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى اَلْعالَمِينَ * وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اِجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الأنعام، الآية: 84-87].

مع أنه لو كانت الفروع و الأغصان من المصطفين، فأصل الشجرة تكون كذلك بالأولى.

ص: 236

و من مجموع الآيات الشريفة يستفاد أنه ليس جميع ذرّية إبراهيم عليه السّلام هم من المصطفين، و لا جميع ذرية بني إسرائيل كذلك، و إن كان اللّه عزّ و جلّ فضّلهم على العالمين، قال تعالى: وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ اَلطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ [سورة الجاثية، الآية: 16]، فإن تفضيلهم على العالمين من جهة لا ينافي تفضيل غيرهم من جهات اخرى.

و أما آل عمران فهم من آل إبراهيم أيضا، و الظاهر أن المراد بهم هم ذرّية عمران أبي مريم أم عيسى، الذي ينتهي نسبه إلى إبراهيم عليه السّلام أيضا من ناحية امه.

و يدلّ على ذلك..

أولا: اقتضاء المقام التصريح به، لأن هذه الآيات و ما بعدها نزلت في مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب، اليهود و النصارى.

و ثانيا: خفاء الإشارة إلى عيسى بعموم آل إبراهيم.

و ثالثا: عدم ورود ذكر عمران أبي موسى في القرآن الكريم مع تكرار ذكر عمران أبي مريم.

و رابعا: تعقيب هذه الآية الشريفة بالآيات الذي يذكر فيها قصة امرأة عمران و مريم ابنته، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ ، فإنه قرينة على المراد من هاتين الآيتين، فهما كالمقدّمة لبيان حال مريم ابنة عمران و ابنها عيسى، فيكون آل عمران هم عمران و زوجته و مريم و عيسى.

و أما موسى بن عمران، فهو داخل في عموم آل إبراهيم و لا خفاء فيه، كما هو موجود بالنسبة إلى دخول عيسى عليه السّلام، كما عرفت.

ثم إن الحصر في الآية الشريفة ليس حقيقيا و لا مفهوم لها حتّى تدلّ على نفي الاصطفاء في غيرهم، و قد ورد في القرآن الكريم موارد اصطفاء اللّه تعالى، كما يأتي، مضافا إلى ما ورد في السنّة الشريفة من أن أهل التقوى أهل الاصطفاء.

نعم، للاصطفاء مراتب كثيرة تبعا لاختلاف سبب التفاضل، قال تعالى:

ص: 237

وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ اَلنَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ [سورة الإسراء، الآية: 55].

قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ .

الذرّية من الألفاظ الكثيرة الاستعمال في القرآن الكريم، و أصلها من الذر بمعنى النشر و الانتشار، و استعملت في مطلق الأولاد و النسل لانتشارهم من مصدر واحد، و يطلق على الواحد و الكثير، و قد يأتي الذراري في الجمع، و تقدّم في قوله تعالى: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 124]، بعض الكلام.

و الجملة عطف بيان، و نصب «ذرّية» على الحال.

و معنى (بعضها من بعض)، أن هذه الذرّية مضافا إلى أنها متداخلة متشعّبة بعضها من بعض، فكلّ بعض يفرض فهو مبتدئ لبعض آخر و منتهى بعض آخر، هي متشابهة الأطراف في الصفات و الخيرات و الحالات.

و الآية الشريفة تدلّ على أن هذه الذرّية متّفقة في الصفات التي اقتضت اصطفاءها على العالمين، فلم يكن جزافا و لا عبثا، فالجملة في موضع التعليل لتعميم الاصطفاء، أي: لأنهم متّفقون في الصفات و متشابهو الأفراد اصطفاهم اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

أي: و اللّه سميع لأقول الذين اصطفاهم، و سميع لدعاء الداعين و رجاء الراجين، مستجيب لهم، عليم بمواقع اللطف و ضمائر الناس و ما في قلوبهم.

و الجملة في موضع التعليل لجهة الاصطفاء، أي: أنه تعالى سميع يسمع الأقوال و يستجيب الدعاء، و يعلم ما في القلوب و الضمائر، فهو أعلم حيث يجعل رسالته و يصطفي من عباده.

و يمكن أن يكون ذكر (عليم) للإشارة إلى أن الاصطفاء من القضايا العقليّة التي يكون دليلها معها، أي: حيث إنهم كانوا واجدين لشرائط الاصطفاء و فاقدين لموانعه، اصطفاهم اللّه تعالى، و لا يعلم وجدان الشرائط و فقدان الموانع إلا العليم

ص: 238

بالضمائر و ما في القلوب.

و الآية الشريفة على إجمالها لا تبيّن سبب الاصطفاء، و لكن يمكن استفادة ذلك من آيات اخرى، فإن أسبابه كثيرة، بعضها اختياريّة و بعضها الآخر غير اختياريّة، و أهمّ تلك الأسباب كمال الإيمان باللّه تعالى، الذي هو جذبة معنوية غيبيّة، يجذب به اللّه تعالى عباده إلى الكمال المطلق، و آخر مقامات الجذبة الإلهيّة هو الاصطفاء، و من العجيب أن كلّ اصطفاء تحقّق في فرد وقع ضده في فرد آخر الذي هو مظهر الفساد و الشر، كآدم و إبليس، و إبراهيم و نمرود، و موسى و فرعون إلى غير ذلك، و بهذا التزاحم و التنافر يتحقّق الاختيار.

و من أسباب الاصطفاء أيضا المجاهدات في سبيل تكميل النفوس الإنسانيّة و التخلّق بأخلاق اللّه تعالى و التحلّي بالإنسانيّة الكاملة، حتّى يصل إلى مقام الاصطفاء، فهو آخر مقامات الإنسانيّة الكاملة.

و من أسبابه الصدق و الخلوص في العبوديّة و الإخلاص للّه تعالى و نهاية الانقطاع إليه، بحيث يصير الإنسان كالمرآة الأتم لجلال اللّه و جماله، و غاية الصبر في الدعوة إليه عزّ و جلّ بما يتحمّله من المصائب و المتاعب في سبيل تلك الدعوة، فيكون الاصطفاء مقارنا للابتلاء و الصبر.

و من الأسباب الدخول في مرتبة حبّ اللّه تعالى له بالعمل بما أنزله عزّ و جلّ و الصبر في جنبه و الإحسان إليه و التّقوى و الجهاد في سبيله و غير ذلك، فإن اصطفاء اللّه تعالى فرع محبّته عزّ و جلّ.

و من آثار الاصطفاء هو تشريع الشريعة على يديه و تأسيس الدين الإلهي و اقتداء سائر الأنبياء به، كما في إبراهيم عليه السّلام، فإنه مبدأ التشريع و آخره.

و بالجملة: فإن الاصطفاء لبعض العباد يرجع إلى أمر غيبي، لا يعلمه غيره عزّ و جلّ، و لكن ذلك لا يكون على نحو العليّة التامّة المنحصرة، بل الاتّصاف بالصفات الكاملة الحقيقيّة له دخل في الاصطفاء، فهو مركّب من أمرين اختياري و غيره، و مع فقد كلّ واحد منهما لا منشأ له.

ص: 239

ثم إن الاصطفاء لا يختصّ بالإنسان، بل قد يقع بالنسبة إلى غيره أيضا، و إن كنا لا نعلم ذلك. و يشهد لذلك بعض الأحاديث بأن العقل هو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى، حيث

قال: «بك أثيب و بك أعاقب»، فهو أوّل من اصطفاه اللّه تعالى و آخره في قوسي الصعود و النزول، فيكون المصطفى (بالفتح) حقيقة واحدة لها مراتب متفاوتة.

نعم، بناء على ما نسب إلى بعض أعاظم الفلاسفة المتألّهين و بعض أكابر العرفاء الشامخين من وحدة الوجود و الموجود، فالمصطفي (بالكسر) و المصطفى (بالفتح) واحد لكنهما مختلفان بالاعتبار، و لهم في ذلك كلمات نظما و نثرا، و التفصيل يطلب من محلّه.

و كيف كان، فالاصطفاء منشأ الخيرات و البركات في هذا العالم، و يكون شأن من اصطفاه اللّه تعالى في هذه الدنيا شأن ربان السفينة في البحر المتلاطم المحفوف بالمخاطر، و الناس في هذه السفينة حيارى قد أدهشهم الخوف، فلا بد لهذا الربان من علم إلهي بكيفية السير و السلوك، كما هو معلوم في السفر من الخلق إلى الحقّ.

قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً .

بيان لأحد أسباب الاصطفاء و تقرير لكيفيّته. و النذر هو إيجاب شيء على النفس و الالتزام به، و الإنذار الإخبار بالتخويف، و يمكن فرض الجامع بينهما و هو إعلان التخويف على المخالفة، سواء كان المنشأ حاصلا من نفس الإنسان على نفسه أم من اللّه تعالى ابتداء.

و محرّرا من التحرير، و هو الخلوص و التخلّص عن الوثائق، كتحرير العبد، أي خلوصه عن الرقيّة، و تحرير الكتاب هو تخليصه عن الفساد و الاضطراب، أو إطلاق المعاني عن قيد الذهن و الفكر، و يقال لكلّ ما خلص أنه حر:

تمسّك إن ظفرت بودّ حر *** فإن الحرّ في الدنيا قليل

ص: 240

و تحرير الولد للّه تعالى أو للأمكنة المقدّسة، أو النفوس المحترمة، هو التفرّغ للعبادة و العمل للآخرة، قد كان متعارفا في الأمم القديمة، و كانوا يعتبرون ذلك وسيلة لحفظ الولد عن الضياع و التربية الحسنة و عبادة اللّه الواحد القهّار، فلا يتزوج و لا يعمل للدنيا.

و معنى التحرير في تلك الأزمنة كان هو تحرير الولد من قبل الأبوين، أي:

تحريره عن التبعيّة لهما و الولاية عليه، فليس لهما بعد التحرير السلطنة على الولد في استخدامه لاغراضهما، بل هو داخل بالنذر تحت ولاية اللّه تعالى، فلا بد من صرف خدمته في سبيله عزّ و جلّ، إما في التفريغ لعبادته تعالى أو خدمة الأماكن المقدّسة و النفوس المحترمة، و هذا العمل كان جائزا في الشرائع الإلهيّة السابقة، و يعتبرون ذلك من نذر الأبرار.

و اللام في «لك» للتعليل، أي لعبادتك و خدمتك، و يدلّ قوله تعالى: ما فِي بَطْنِي ، على أنها كانت حاملا حين ما قالت هذا القول، و كان الحمل من عمران، كما تدلّ الآية على أنها كانت تعتقد أن ما في بطنها ذكرا لا أنثى، فإن كلامها على نحو البت و الجزم، لا نحو التعليق.

و تذكير (محرّرا) لا يدلّ على كونها نذرت ما في بطنها كائنا من كان - ذكرا أو أنثى - و إلا لما كان وجه لتحسّرها و حزنها كما حكى عنها عزّ و جلّ: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، و لما كان معنى لقوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى .

و حكاية اللّه تعالى هذه المناجاة عنها تدلّ على أنها لم تكن من غير فكر و جزافا، أو كان لأجل الظن الحاصل عن العادة المتّبعة في تلك الأعصار، بل أنها تدلّ على أنها تنتهي إما إلى إلهام من اللّه تعالى إليها، أو غاية العبوديّة و الإخلاص منها للّه تعالى و نهاية الانقطاع له عزّ و جلّ، و على كلّ منهما، فهي تدلّ على كون هذه المرأة كاملة و أنها من الأبرار الصالحات، و في ذلك سرّ إلهي يدلّ على تحقّق العبوديّة للّه تعالى في جدّة عيسى و امه و نفسه، فتفخر الجدّة بأنها نذرت ما في

ص: 241

بطنها محرّرا لخدمة البيت الشريف، و تفتخر مريم بذلك، و عيسى عليه السّلام لم يصل إلى ما وصل إليه إلا بالانقطاع إلى اللّه عزّ و جلّ و العبوديّة له، قال تعالى حكاية عنه:

قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-31]، و من كان كذلك نفسا و اما و جدّة، لا يصحّ توهّم الغلو فيه، و لعلّ ذكر كلمة (البطن) في الآية الشريفة و الفرج في قوله تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا [سورة التحريم، الآية: 12]، و أكل الطعام في قوله تعالى:

كانا يَأْكُلانِ اَلطَّعامَ [سورة المائدة، الآية: 75]، للدلالة على أن التلبّس بهذه الأمور لا يليق بمرتبة روح القدس، فضلا عن مقام الملك القدوس، إلا بناء على الحلول و وحدة الوجود و الموجود، و هما باطلان بالأدلّة العقليّة و النقليّة، و سيأتي التفصيل في مستقبل الكلام.

و كيف كان، فاستناد هذا النذر إلى الهام إلهي لا يدلّ على أنها ألهمت بكون ما في بطنها ذكر أيضا.

نعم، لو أريد بالذكوريّة الأعمّ من المنذور و ابنها فله وجه، و يشهد لذلك قولها: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ حيث أثبتت لها ذرية.

و لم يذكر سبحانه اسم هذه المرأة الصالحة تعظيما لها و عناية بشأنها، كما أنها لم يذكر اسمها في الكتب المقدّسة و تكلّف النصارى في كتبهم في إثبات نسب مريم و أبيها، إلا أنه ورد في بعض الروايات أن اسمها كانت حنة بنت قاقوذ بن قنبل الإسرائيلي، و كانت له بنتان أحدهما هي و قد تزوّجها عمران، و هو إسرائيلي أيضا و أولدها مريم، و اسم الثانية ايشاع و تزوّجها زكريا و ولدت منه يحيى، فيحيى بن زكريا و مريم ام عيسى هما ابنا خالة.

و مات عمران و حنة حامل منه فنذرت حملها لخدمة البيت المقدّس، كما عرفت.

ص: 242

قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي .

التقبّل هو أخذ الشيء على وجه الرضا، و يمكن فرض الجامع القريب بينه و بين القبول و هو أصل الرضا، و لكن هيئة التقبّل تدلّ على عناية خاصة فيها، و هي لا توجد في القبول، و تشهد الآيات اللاحقة لهذه العناية، و للمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم، و قد اشتهر في علم اللغة: «أن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و هي قاعدة متّبعة خصوصا في لغة العرب التي بنيت على الدقة و الفصاحة و البلاغة. و لكن يمكن أن يرجع ذلك إلى تعدّد الدال و المدلول.

و القبول الحسن هو السرّ المطوي في التقبّل، و قد ورد التقبّل في القرآن الكريم في عدّة موارد تبلغ العشرة. و في جميعها يدلّ على أن في المورد سرّا خاصا إما في الحال، أو العمل، أو الانقطاع إلى اللّه تعالى اقتضى ذكر التقبّل و وقوع الاستجابة مطابقة له.

و المفعول من قوله تعالى: فَتَقَبَّلْ مِنِّي و إن كان محذوفا، إلا أنه معلوم إما هو النذر، أي تقبّل نذري هذا، لأنه عمل صالح أرادت منه التقرّب إلى اللّه تعالى، أو هو الولد المحرّر، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ .

ثناء منها عليه تعالى، لجعل الدعاء و المناجاة أقرب إلى القبول و رجاء الإجابة و التفضّل، أي: أنك أنت السميع للدعاء، العليم بنيّتي و صحتها و إخلاصها.

و التأكيد في هذه الجملة للدلالة على انقطاع رجائها عن غيره تعالى، و أنها على يقين في استجابة دعائها، و فيه نهاية التضرّع و الابتهال إليها عزّ و جلّ. و تقديم السميع على العليم لأجل أن المقام مقام استدعاء الإجابة و القبول.

قوله تعالى: فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى .

الضمير في قوله: فَلَمّا وَضَعَتْها راجع إلى ما في بطنها، و فيه إيجاز لطيف، و إنما أنّث الضمير باعتبار علم المتكلّم بأن المرجع مؤنّث و أن المولود أنثى.

و جملة: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى خبريّة، يراد بها التحسّر و التحزّن

ص: 243

ممّا داهمها من خيبة الرجاء، فليس الغرض هو الإخبار فقط.

و إنما أنّث الضمير في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها ، باعتبار الواقع الخارجي، و فيه من الخيبة و انقطاع الأمل و المسارعة إلى إظهار التحسّر ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ .

الجملة معترضة مقولة له عزّ و جلّ: و (ما) ترجع إلى المولود الذي جهلت الام السرّ الإلهي فيه، و المراد من الجملة تعظيم شأن المولود، أي: أن اللّه تعالى هو الذي خلقها و صوّرها، و هو أعلم بها بما تحمل من الأسرار و عظائم الأمور، التي ربما لا تكون تلك ممكنة في المولود الذكر التي كانت ترجوه، و الام غافلة عن جميع ذلك، فلو كانت عالمة بذلك لما أظهرت التحزّن و التحسّر في وضعها أنثى.

و قيل: إن الجملة مقولة قولها، و إنما قالتها اعتذارا إلى اللّه تعالى ممّا كانت ترجوه في المولود الذي لا يصلح لذلك الغرض.

و لكن الاحتمال الأوّل أولى، و قد وردت فيه رواية أيضا.

قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى .

جملة معترضة اخرى، لبيان ما اشتملت الجملة السابقة على علمه بالمولود.

و اللام في الذكر و الأنثى للعهد، أي ذلك الذكر الذي كانت امرأة عمران ترجوه و تتمنّاه، لأن يكون خادم البيت الشريف و رسولا، ليس مثل الأنثى التي وضعتها التي لا تقدر أن تقوم بما وقع النذر المحرّر لأجله، فالجملة من قول اللّه تعالى أيضا، أي: ليس الذكر الذي كانت تتمنّاه مثل الأنثى التي فيها سرّ إلهي يظهر بعد ذلك، فإنها خير من الذكر.

و قيل: إن الجملة مقوله قولها.

و لكن يردّ عليه: أنه لو كان الأمر كذلك لكان الأنسب أن تقول: «و ليس الأنثى كالذكر»، كما هو واضح.

قوله تعالى: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ .

عطف على إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، و ما بين الجملتين اعتراضية كما عرفت

ص: 244

آنفا، من ذلك يستفاد شدّة الانس و المحبّة بين اللّه تعالى و بين هذه المرأة الصالحة.

و كمال الخلّة بينهما.

و مريم علم امرأة سريانيّة معناها خادمة الرب أو المرتفعة بالعبادة، و من مبادرتها بالتسمية يستفاد يأسها من كون الولد ذكرا تتحقّق فيه رغبتها، و إنما رضيت بكون الأنثى هي المنذورة المحرّرة و حولت النذر إليها، و أعدّتها للعبادة بالتسمية، و يدلّ عليه قوله تعالى بعد ذلك: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

قوله تعالى: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ .

دعاء منها لحفظها و ذريتها دائما من جميع المساوئ و المكاره، و الحاصلة من دسائس الشيطان الرجيم. و قد استجاب اللّه دعاءها، فكانت صدّيقة عابدة صالحة و ذرّيتها أيضا من الصدّيقين الصالحين، فتطابق الاسم و المسمّى فيها، لأن مريم في لغتهم العابدة الخادمة، كما عرفت.

و يستفاد من قولها: (و ذريتها) من دون شرط و قيد أنها كانت تعلم بأنها سترزق ولدا ذكرا من عمران، فلما لم يتحقّق في حملها، توقّعت أن يكون من ذرّيّتها، و هي منحصرة في فرد واحد، و هو عيسى ابن مريم.

قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ .

التقبّل هو الرضا بشيء مع عناية خاصة به كما تقدّم آنفا. و مادة (حسن) من الألفاظ التي يكون لفظها و معناها مطلوبين مطلقا، أعمّ من أن يكون الحسن اعتقاديا، كما في قوله تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اَللّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ [سورة فاطر، الآية: 8]، و واقعيّا حقيقيّا، كما في قوله تعالى: وَ لِيُبْلِيَ اَلْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاّ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ [سورة التوبة، الآية: 52]، نظير الخير و الصلح و الجمال و نحو ذلك.

و القبول الحسن هو القبول كما سألته أمها و زيادة عليه، و إنما أكّد سبحانه

ص: 245

التقبّل الدال على القبول على الرضا بالقبول الحسن، للدلالة على اصطفاء مريم، لأنها هي التي وقعت مورد الرضا محرّرة للعبادة و التسليم للّه تعالى و خدمة البيت، مع صغرها و أنوثتها، و هذا هو الاصطفاء الذي تقدّم معناه، و لأجل ذلك دخلت في جملة المصطفين الذين ورد ذكرهم في الآية السابقة.

و ممّا ذكرنا يظهر أن هذه الجملة وقعت استجابة لقولها: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، أي مع كونها أنثى و جعلتها محرّرة فتقبّلها ربّها بقبول حسن، و لم تكن هذه الجملة واردة لقبول تقرّب امرأة عمران بالنذر و إعطاء الثواب الاخروي، لما عرفت من أن القبول نسب إلى مريم المنذورة المحرّرة، و إن كانت تدلّ على قبول تقرّب امرأة عمران بالتبع و الملازمة.

و إنما خصّ سبحانه الربّ بالذكر، للدلالة على رعايتها آنا بعد آن، و العطف عليها في كلّ حال و تربيته تعالى لها.

قوله تعالى: وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً .

الإنبات هو التربية بما يصلح الحال و حسن النشأة، و تعهّدها حالا بعد حال، كما يتعهّد الزارع الزرع بالسقي و نموه.

و المراد من الآية الشريفة هو حسن نشأتها و تربيتها في صلاحها و كمالها، و تطهيرها من الرذائل الخلقيّة و الخلقيّة، و الإطلاق يشمل التربية الجسديّة و الروحيّة كلتيهما، لها و لذريّتها.

و الجملتان متكاملتان، إحديها تبيّن اصطفاءها، و الثانية تبيّن طهارتها و زكاتها و حسن تربيتها بما تصلح أن تكون اما لكلمة اللّه المسيح المرفوع إلى السماء، و تقدر على أن تؤدّي الأمانة التي وقعت على كاهلها، و تهيئتها لتحمّل المسؤولية الملقاة على عاتقها، و قبول السرّ الإلهي، فأصبحت مريم العذراء الصدّيقة الطاهرة المطهّرة المصطفاة على نساء العالمين، و بذلك استعدّت أن تتلقّى الخطاب الملكوتي: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ .

ص: 246

قوله تعالى: وَ كَفَّلَها زَكَرِيّا .

مادة كفل تأتي بمعنى الضمان و التعهّد، و غلب استعمالها في ضمان الإنسان لمثله، و الكفيل من أسماء اللّه تعالى، لأنه عزّ و جلّ مدير ما سواه و رازقه و مدبّره.

و زكريا هذا من بني إسرائيل من ولد سليمان بن داود، و هو الذي طلب من اللّه تعالى أن يرزقه ولدا و هو شيخ كبير و كانت امرأته عاقرا كما يحكي عزّ و جلّ عنه في الآيات اللاحقة. و إن كان يظهر من التواريخ أن المسمّى بزكريا متعدّد.

و اللفظ ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و المعنى: و صار زكريا كفيلها و قائما بشؤونها، و الكفالة هذه إما أن كانت بحسب التقدير، أو بحسب القرعة التي أصابتها باسمه بعد أن كانت كفالتها مورد الاختصام ممّن هو قائم بشؤون البيت الشريف. كما حكى عنهم عزّ و جلّ في قوله:

وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 44].

و يمكن الجمع بين الاحتمالين بأن المقدّر هو أن يكون الكفيل زكريا، و لكن اللّه تعالى هيّأ له ذلك عن طريق القرعة.

و كيف كان، فهو كفيل صالح أمين رؤوف، فأكرم به من كفيل، و الظاهر أن كفالتها إنما كانت من أوّل أمرها فوقع الإنبات الحسن بمباشرة زكريا و تسبيب من اللّه عزّ و جلّ.

قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ .

المحراب هو المكان العالي، و سمّي محراب المسجد محرابا لأجل علوه و شرفه بالنسبة إلى غيره من جهة قيام الإمام فيه.

و قيل: إن المراد بالمحراب هو المسمّى عند أهل الكتاب بالمذبح، و هو مقصورة في مقدّم المعبد، لها باب يصعد إليه بسلم ذي درج قليلة، يكون من فيه محجوبا عمّن في المعبد، و منها المقصورات التي أحدثها بعض الخلفاء لنفسه في الإسلام.

ص: 247

و قيل: إن المسجد حيث كانت مساجدهم تسمّى بالمحاريب.

و كيف كان، فالجملة بيان لقبول زكريا لها بالكفالة و عنايته لها، و لهذا لم تعطف.

و إنما قدّم الظرف عَلَيْها على الفاعل زَكَرِيّا لإظهار كمال العناية و الاهتمام بأمرها.

قوله تعالى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً .

أي: أصاب في حضرتها رزقا و ألوانا من الطعام، و التنكير للإعظام من كلّ جهة، و فيه الإيماء إلى كونه رزقا غير معهود، و لعلّ ما ورد في الرواية - أنه كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف - مستفاد من نفس هذه الآية الشريفة، و يمكن أن يستشهد على ذلك من سؤال زكريا ب (أنى) الدالّة على التعجّب، و جواب مريم له بأنه من عند اللّه تعالى، فإنه يكشف عن أنه ليس برزق عادي هيئ في وقت خاص. كما أنه يدلّ على ذلك دعاء زكريا ربّه أن يهب له ذرّية طيبة بعد أن عرف أن هذا الرزق كرامة من اللّه سبحانه و تعالى لمريم الصدّيقة الطاهرة.

و يمكن أن يكون هذا الرزق من اللّه تعالى هو الذي أعدّه إعدادا حسنا لحمل عيسى عليه السّلام، فقد تحقّق في مريم حالتا المنعقديّة و الانعقاديّة، فصارت أهلا لأن يتمثّل روح الأمين لها، فتأثّرت بما هو ألطف من نسيم السحر و من ضياء الشمس و نور القمر، لتلد مريم العذراء رجلا هو كلمة اللّه، يرفع إلى السماء و يبشّر الناس بمقدم خاتم الأنبياء.

قوله تعالى: قالَ يا مَرْيَمُ أَنّى لَكِ هذا .

جملة استئنافيّة بيانيّة، و (أنى) كلمة استفهام بمعنى أين تدلّ على السؤال عن الوضع و الجهات، و فيها معنى التعجّب.

أي: من أين لك هذا الرزق. و السؤال إنما كان لعظمة هذا الرزق - كما عرفت - مع أنها امرأة عاجزة عن تحصيله في هذا الموضع المعيّن و هذه الحال.

ص: 248

قوله تعالى: قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

جملة مستأنفة كالسابقة، أي: أن الرزق الذي أوجب دهشة هذا النبيّ الكريم هو نازل من عند اللّه تعالى. و الإطلاق يشمل جمع الأنواع و الأصناف، فكان هذا الرزق خارقا للعادة من حيث الكم و الكيف و سائر الجهات، فسيطر ما عند اللّه على الطبع و الطبيعة و المادة، فكان ذلك كرامة لها. و قد قنع زكريا بهذا الجواب و لم يسألها عن شيء آخر.

و من ذلك يعرف الخدشة في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أن الإضافة إلى اللّه تعالى إنما هي عادة جرت من العرف بإضافة الرزق إليه تعالى، و ليس في هذه دلالة على أنه من خوارق العادات، و بالاخرة فليس ذلك كرامة لها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ .

تتمّة مقالة مريم، أي: أن اللّه تعالى يقدر على رزق من يشاء من عباده بغير تقدير بحدّ.

و من هذه الكلمة يستفاد أمران:

الأول: عظمة هذا الرزق، حيث عبّر عنه بغير حساب.

الثاني: عظمة انقطاع القائل إلى اللّه تعالى، حيث ظهر لها هذا التجلّي العظيم الإلهي.

قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ .

جملة مستأنفة ترتبط بما قبلها لتثبيت ما ذكر فيها، و تقرير ما سيقت لأجله.

و (هنا لك) نظير هناك من أسماء الإشارة، إلا أن اللام في الأوّل للبعد و الكاف للخطاب، أي في ذلك المكان، و المعروف بين الأدباء أن الموضوع له في أسماء الإشارة خاص، و أنها من المبنيّات لتقوّمها بالغير، فأشبهت الحروف من هذه الجهة و انسلخت عن الإعراب فصارت مبنيّة.

و لكن الدعوى الأولى باطلة لما أثبتناه في علم الأصول - من أن الوضع منحصر في قسمين، الوضع الخاص و الموضوع له الخاص، كما في الأعلام. و الوضع

ص: 249

العام و الموضوع له العام، كما في البقية مطلقا، و لا معنى للوضع الخاص و الموضوع له الخاص، أو الوضع الخاص و الموضوع له العام، كما لا وقوع للوضع العام و الموضوع له الخاص، راجع [تهذيب الأصول] و يظهر من ابن مالك أيضا، قال في الالفية:

بذ المفرد مذكر اشر ***

حيث جعل الموضوع له عامّا و جعل الخصوصيّة في ناحية الإشارة لا الموضوع له.

و أما الدعوى الثانية فتصويرها حسن، و لكن الحقّ أن تمييز الألفاظ بالإعراب و البناء إما أن يكون من لوازم الألفاظ، أو من لوازم الماهيّة، فإن جميع الجواهر و الأعراض متميّزات بعضها عن البعض، فلا بد أن تكون الألفاظ - التي هي من أعظم ما أنعم اللّه تعالى به على خلقه، هكذا أيضا.

و إذا دار الأمر بين التعليل بالذاتي أو التعليل بالعرضي، فالأول أولى بلا ريب، و ربما يكون مرادهم ممّا ذكروه ذلك أيضا، و إن قصرت عباراتهم عن ذلك، و على هذا فيسقط قول بعض النحاة.

الاسم منه معرب و مبني *** لشبه من الحروف مدني

كالشبه الوضعي في اسمي جئتنا و المعنوي في متى و في هنا

هذا خلاصة ما يحقّ أن يقال في بناء الأسماء و إعرابها، كما أفاده بعض محقّقي مشايخنا (أعلى اللّه درجاتهم) في أثناء بحثه في مباحث الألفاظ من علم الأصول و قد بسط القول في ذلك.

و كيف كان، فإن زكريا بعد ما رأى الكرامة التي جرت لمريم عليها السّلام أقبل على الدعاء من غير تأخير، و يستفاد ذلك من تقديم الظرف، أي حين ما رأى زكريا أن رزق مريم خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة طمع في الدعاء و حمل نفسه على أن يسأل ربه ما هو خارق العادة و خلاف مجرى الطبيعة أيضا، و هو حمل العاقر من الشيخ الكبير مع علم زكريا بأن اللّه تعالى لا يجري الأمور إلا بأسبابها

ص: 250

الطبيعيّة، و لكن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه يعترفون بأنه لا بد أن يكون في الممكنات امور خارقة للعادة و لنظام الطبيعة التي تكشف عن القدرة القهّارة، فسأل ربه من تلك القدرة، فوقع السؤال موقع الإجابة بحسب تلك القدرة الجبّارة لتسخير نواميس الطبيعة.

مع أننا ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن المعجزة لا تخرج عن نواميس الطبيعة و إن خفيت الأسباب عن الحواس الظاهرة.

و ممّا زاد في همّته قول مريم عليها السّلام له: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ . و الطمع في الدعاء و طلب النعمة إذا شوهدت من اللّه تعالى على شخص يكون على أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن يطلب النعمة لنفسه مع حبّ سلبها عن غيره.

الثاني: أن يطلب مثلها لنفسه أيضا، فإن مواهب اللّه تفيض و خزائنه لا تغيض، و يسمّى بالغبطة.

الثالث: أن يستسر بحصول النعمة له.

و الأوّل حسد مذموم، و الأخيران لا بأس بهما، بل هما ممدوحان. و سؤال زكريا من أحد الأخيرين.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً .

بيان لكيفية الدعاء. و الهبة بمعنى العطية، و هي التمليك بلا عوض، و الذرّية هي النسل، تأتي واحدة و جمعا، ذكرا و أنثى، و إنما أنّثت (طيبة) لتأنيث لفظ الذرّية.

و الطيب ما يستطاب فعله و خلقه بالذات، أو بما يلائم صاحبه بما قرّره العقل و الشرع، و يقابله الخبيث، و يقال: عيش طيب، أي ما تسكن النفس إليه و يكون ملائما لها، كما يقال: ماء طيب، أي: عذب، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، أي ما يكون البلد موافقا لنفس أهل البلد من جميع الجهات.

و الذرّية الطيبة هي التي تسكن إليها النفس و يستطاب أفعالها و صفاتها،

ص: 251

فتكون صالحة مباركة، كما في مريم لما لها من الكرامة و الصفات الحسنة و الشخصية الكاملة.

و قد استعمل الداعي أدب الدعاء و ما يوجب ترغيب المدعو إلى الإجابة، كما في قوله: إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ ، و قوله في موضع آخر: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي [سورة مريم، الآية: 4]، و قوله في موضع ثالث: رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْوارِثِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 89].

و قدّم اسم الربّ لأنه أقرب إلى الإجابة، و أدّى الطلب بالهبة، لأنها إحسان محض لا يكون في مقابله شيء، فيناسب المقام، حيث اعتبر نفسه عاجزا عن تحقيق رغبته إلا بعناية منه عزّ و جلّ.

و قد استجاب اللّه تعالى دعاءه و وهب له يحيى الذي لم يجعل له من قبل سميّا، و قد جمع اللّه فيه ما في مريم و عيسى عليهما السّلام من الصفات و الكمال و الكرامة، فكان أشبه الناس بعيسى عليه السّلام.

قوله تعالى: إِنَّكَ سَمِيعُ اَلدُّعاءِ .

لفظ سميع يأتي بمعنى القبول و الاجابة، كما في قول: «سمع اللّه لمن حمده»، أي يقبل حمد من حمده و يثيب عليه، و ذكر السمع و إرادة القبول و الإجابة شائع في المخاطبات العرفيّة، يقال: فلان سمع حاجتي فقضاها،

و في الحديث: «أي الساعات أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر»، أي أوفق لاستماع الدعاء فيه و أولى بالاستجابة.

و السميع من أسمائه تعالى، و هو الذي لا يعزب عن إدراكه مسموع و إن خفي، فهو يسمع بغير جارحة.

و المعنى: أنك كثير الإجابة لدعاء الداعين، و الجملة في موضع التعليل.

قوله تعالى: فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ .

العطف بالفاء يدلّ على سرعة الإجابة، و أن جميع ذلك دعاء واحد متعقّب بالتبشير، و المنادي هو جنس الملائكة تمييزا عن نداء البشر، و إن كان المنادي واحدا، و هو أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو ظهور شخص الملائكة

ص: 252

و التكلّم مباشرة مع المخاطب، و إن كان الظاهر هو الثاني، و الضمائر كلّها ترجع إلى زكريا، و المراد بالصلاة هي الأقوال و الأفعال المعهودة بين كلّ ملّة.

قوله تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى .

البشارة و التبشير هو الإخبار بما يفرح الإنسان. و يحيى اسم أعجمي ممنوع من الصرف للعلميّة و العجمة.

و قيل: إنه عربي منقول من الفعل، فيكون المنع من الصرف هو العلميّة و وزن الفعل، و قيل وجوه في تسميته بهذه الاسم:

فعن بعض أنه لما علم اللّه تعالى أنه يستشهد، و الشهداء أحياء عند ربّهم يرزقون فسمّي به، و عن بعض آخر أنه يحيا بالعلم و الحكمة، أو يحيى به الناس بالهداية، و قال القرطبي: إنه كان اسمه حيّا في الكتاب الأوّل، و جميع ذلك يحتاج إلى دليل. و الموجود في الأناجيل المعروفة أنه يوحنا المعمدان.

و يستفاد من الآية المباركة أن التسمية كانت من اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7]، كما يستفاد من مجموع قصتي امرأة عمران، و زكريا أنه لو لم تبادر امرأة عمران بالتسميّة لمولودها لأمكن أن تأتي التسمية من قبل اللّه تعالى، و لعلّ الحكمة في ذلك أن اللّه تعالى أراد أن ينفي جهات الغلو من مريم الصدّيقة الطاهرة، بأن تكون التسمية من ممكن محتاج لممكن آخر مثله.

و قد وصف اللّه تعالى هذا المولود المبشّر به بأوصاف تدلّ على عظمته و كرامته و جلالة قدره، و من مجموع ذلك يستفاد التشابه الكبير بين هذا المولود و مريم العذراء و ابنها عيسى عليهم السّلام.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ .

هذا هو الوصف الأوّل ليحيى، و الجملة في موضع الحال من يحيى، و المراد بالكلمة هو عيسى بن مريم كما وصفه اللّه تعالى بها، قال عزّ و جلّ: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ [سورة آل عمران، الآية: 45]،

ص: 253

و هو إما لأجل أن أنبياء اللّه تعالى - لا سيما أولي العزم منهم - أجلّ كلمات اللّه التامّات، أو لأجل وجوده بكلمة «كن» من دون توسط أب في البين، فهو مشابه للإبداعيات في عالم الأمر، قال تعالى: بَدِيعُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117].

و التصديق به هو الإيمان به و الدعوة إليه، و هو مدح كبير منه عزّ و جلّ له و تمجيد له بالخضوع و التسليم له عزّ و جلّ، مع أن الإيمان بعيسى من أصعب الأمور في ذلك العصر.

و يستفاد من ذلك أن النبوّات السماويّة تتقوّم بأمرين:

أحدهما: الإخبار عن اللّه تعالى، أي الدعوة إلى التوحيد في العبوديّة و المعبوديّة.

الثاني: إخبار كلّ نبي سابق عن النبي اللاحق، فإنهم كلسان واحد في الدعوة إلى الواحد الأحد، و بدون ذلك لا يجب اتباع النبيّ، ففي المقام أن يحيى يدعو إلى عيسى، و هو يدعو إلى خاتم الأنبياء.

قوله تعالى: وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً .

السيد من السواد، أي ساد يسود، فهو سيد فقلبت الواو ياء لأجل الياء الساكنة قبلها ثم أدغمت، و هو الشخص المطاع، و السيادة هي تولي الأمور و زعامة الناس، فالسيد هو الذي يسود غيره إما في الزعامة و تولّي أموره، أو في الفضائل المحمودة و الأخلاق الكريمة، فيكون فائقا على غيره،

و في الحديث: «أنا سيد ولد آدم، و لا فخر»، فأخبر صلّى اللّه عليه و آله عمّا أكرمه اللّه تعالى به من الفضل و السؤدد، تحدّثا بنعمة اللّه تعالى عليه، و يطلق على الباري جلّ شأنه، لأنه المتفرّد في جميع الكمالات و تحقّقت له السيادة الحقيقيّة المطلقة،

ففي الحديث: «انه جاءه رجل فقال: أنت سيد قريش؟ فقال: السيد اللّه»؛ و هي من الأمور الاضافية فيما سواه تعالى،

ففي الحديث:

«كلّ بني آدم سيد، فالرجل سيد أهل بيته، و المرأة سيدة أهل بيتها»، و كذا سيد القوم و سيد العشيرة، و لعلّ المراد في المقام سيد قومه و عشيرته، و لا يطلق على

ص: 254

المنافق سيد، كما

في الحديث: «لا تقولوا للمنافق سيد، فإنه إن كان سيدكم و هو منافق فحالكم دون حاله، و اللّه لا يرضى لكم ذلك».

و قد وصفه تعالى بهذه الصفة لأنه ساد غيره في الكمال، وفاق الناس في الفضائل، فهو النبيّ الكريم المحمود الصفات.

و (حصورا) عطف آخر و صفة اخرى، و الحصور هو الذي لا يأتي النساء مع القدرة عليه، و قد يطلق على الممتنع عن غيرها أيضا، و هو صفة كمال تدلّ على عزوفه عن مشتهيات الدنيا و زهده عنها، لأن الممتنع عن الجماع..

تارة: يكون لأجل آفة و نقصان فيه، و هو غير ممدوح.

و اخرى: يكون لأجل تقديم الأهمّ من المعنويات عليه، و هو ممدوح في الجملة إذا وافقته الشريعة، كما في زمان يحيى عليه السّلام، و أما إذا وصلت النفس إلى مرتبة من الكمال بحيث لا يشغلها المهم عن الأهم، فلا موضوع لهذا البحث فيه، كما في سيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ .

صفة رابعة و خامسة تدلاّن على علو مقامه و كمالاته المعنويّة، و أن الصفات السابقة ممهدات لهاتين الصفتين، فإنهما نهاية المقامات المعنويّة و الكمالات الإنسانيّة و هي النبوّة، و كونه من الصالحين، و قد طلب خليل الرحمن من اللّه تعالى أن يجعله من الصالحين، فقال تعالى حكاية عنه: وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ [سورة الشعراء، الآية: 83].

و المراد به في الأنبياء صلاح الذات و الصفات و الأعمال، ليكونوا صالحين لاقتداء الأنام بهم، و بعبارة اخرى: الصلاح هو المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى.

و بهذه الصفات الجليلة اختار اللّه تعالى يحيى و جعله من الذرّية الطيبة التي طلبها زكريا منه عزّ و جلّ.

و يستفاد من مجموع ما ورد في شأن يحيى و ما ورد في شأن كلمة اللّه عيسى بن مريم عليهما السّلام، الشبه الكثير بينهما، و هو ما كان يريده زكريا عند طلبه من اللّه

ص: 255

تعالى أن يرزقه ولدا يكون له من الكرامة عند اللّه تعالى ما لمريم العذراء عنده، بعد ما شاهد الآيات الباهرات منها، فأوّل الشبه بينهما أن مريم و ابنها آية من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

91]، و أن تسمية عيسى من اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45]، و أن يحيى آية منه عزّ و جلّ أيضا، حيث كانت تسميته من عند اللّه تعالى في بدء ما بشّر به زكريا، قال تعالى: يا زَكَرِيّا إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا [سورة مريم، الآية: 7].

الثاني: أن يحيى قد أوتي الكتاب و الحكم و هو صبي، قال تعالى: يا يَحْيى خُذِ اَلْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ اَلْحُكْمَ صَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 12]، و كذلك أوتي عيسى الحكم و النبوّة و الكتاب في صباه، قال تعالى حكاية عنه: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-31].

الثالث: أنهما اشتركا في الخصال الحميدة، كالبر بالوالدين و السيادة و الوجاهة، و أنهما لم يكونا من الجبّارين، قال سبحانه و تعالى في شأن يحيى:

وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبّاراً عَصِيًّا [سورة مريم، الآية: 13-14]، و قال عزّ من قائل في شأن عيسى: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 32].

الرابع: أنهما اشتراكا في السّلام عليهما في المواطن الثلاثة المهمّة، الولادة و الموت و البعث، قال تعالى في شأن يحيى: وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 15]، و قال عزّ و جلّ في شأن عيسى: وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33].

و لكن يبقى الفرق بينهما أن عيسى عليه السّلام نبي من أولي العزم و صاحب شريعة، و أن يحيى عليه السّلام كان أوّل المصدّقين به، و ذلك لأن عيسى عليه السّلام كان أسبق من يحيى في

ص: 256

التقدير، فإن زكريا بعد ما شاهد من مريم الصدّيقة عليها السّلام من عجائب الرزق و الكرامات طلب من اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة، يكون وليا مرضيا. هذا ما يقتضي التدبّر في مجموع الآيات النازلة في هذين النبيين الصالحين عليهما السّلام في المقام، و في سورة مريم.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ .

جملة مستأنفة تدلّ على التعجّب، ففيها استفهام عن حقيقة الحال، و طلب لتفهّم خصوصيات الإفاضة و الإنعام، مع الاشتياق إلى المناجاة مع الحبيب و التلذّذ بالحديث معه، و هو من أعظم الابتهاج للنفس، و ليس فيها دلالة على أن الاستفهام كان لأجل الاستعظام و الاستبعاد، كيف و هو المبشّر بما طلبه، و إن اللّه سيرزقه الغلام الذي تجتمع فيه جميع الصفات الحميدة التي شاهدها في مريم الصدّيقة، و هو على يقين بقدرة اللّه تعالى على ذلك.

و قد ذكر زكريا عليه السّلام و صفين في المقام، هما المنشأ في التعجّب و الاستعلام، و كان لهما أبلغ الأثر في حزنه و تأثّره مع علمه بأن الأمور لا تجري إلا بأسبابها كما اقتضته الحكمة الإلهيّة، و هذا اعتراف من زكريا بحسن نظام هذا العالم و ما عليه من التناسل بين بني آدم، و لكن مع ذلك يعترف بأن الإرادة القهّارة الربوبيّة فوق جميع ذلك، و الكلّ مسخّر تحت تلك الإرادة، فيرجع المعنى إلى أن طلب الولد خلاف النظم الطبيعي من مثله و عن زوجة عاقر، لو لا قدرتك و رحمتك و مشيئتك القاهرة، و هذان الوصفان قد ذكرهما في ضمن الدعاء في موضع آخر، فقال تعالى حكاية عنه: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ اَلْعَظْمُ مِنِّي وَ اِشْتَعَلَ اَلرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَ إِنِّي خِفْتُ اَلْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 4-5].

و الغلام الطار الشارب أو الابن في أوّل نبت شاربه. و مادة (غلم) تدلّ على شدّة شهوة النكاح و هيجانها، كما يظهر من جملة استعمالاتها،

ففي الحديث: «خير النساء الغلمة على زوجها العفيفة بفرجها»، و قد ورد هذا اللفظ في القرآن مفردا

ص: 257

و تثنية و جمعا، و لعلّ ألطف ما ورد فيه هذا اللفظ جمعا، قوله تعالى:

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ [سورة الطور، الآية: 24]، خدمة لأهل الجنّة و هي لذّة للمخدوم و الخادم، و قال تعالى: يا بُشْرى هذا غُلامٌ [سورة يوسف، الآية: 19]. و إنما ذكر الغلام باعتبار أنه قد بشّر به سابقا، قال تعالى: أَنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً ، و قال تعالى: إِنّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اِسْمُهُ يَحْيى [سورة مريم، الآية: 7].

و إنما خاطب زكريا ربّه من دون واسطة في البين مبالغة في التضرّع، و إعلاما لنهاية التأثّر و التحزّن.

قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ .

جملة حالية من ياء المتكلّم، و إسناد البلوغ إلى الكبر توسعا، فكأن الكبر قد طلبه و هو مطلوب له. و الجملة كناية عن عدم القدرة على الجماع و ممارسة الشهوة لبلوغه الكبر و طعنه في السن، و كانت له تسع و تسعون أو مائة و عشرون سنة، و لامرأته ثمان و تسعون، حين قال ذلك على ما قالوا، و إن كان ذلك كلّه رجما بالغيب. و فيه نهاية الأدب كما أن فيه تحريك المدعو إلى استجابة دعاء الشيخ العاجز.

قوله تعالى: وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ .

العقر بمعنى عدم الحمل، و يطلق على الرجل الأبتر الذي لا ولد له أيضا، و لفظ (عاقر) هنا بمعنى ذات عقر، و حينئذ لا فرق بين المذكّر و المؤنّث.

قوله تعالى: قالَ كَذلِكَ اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ .

الجملة مقول قول اللّه تعالى، سواء كان بواسطة الملك الذي ناداه سابقا بالبشارة، أم كان بغير وساطة، أي وحيا. و إن كان الظاهر هو الأوّل، و يدلّ عليه - مضافا إلى ظاهر السياق - قوله تعالى في موضع آخر من هذه القصة:

قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً [سورة مريم، الآية: 9].

ص: 258

و (كذلك) في موضع رفع خبر لمبتدأ محذوف أي الأمر و التقدير كذلك، و هو ظاهر في كونه من القضاء الحتم الذي لا يعتريه التغيير و التبديل، و يدلّ عليه قوله تعالى في هذه القضية: وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21]، كما يشهد له قوله تعالى: قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً ، حيث جعل خلق يحيى مقدّرا من حين خلقه لزكريا.

و جملة (اَللّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) في موضع التعليل، أي: لأنّ اللّه تعالى يفعل ما يشاء من الأفعال الخارقة للعادة، يخلق الولد في تلك الحالة التي يستبعدها الناس عادة، فإن إرادته و مشيئته فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت تلك الإرادة.

و إنما أتى بلفظ الجلالة للتعظيم، و لبيان أنه الجامع لجميع الصفات الجمالية و الكمالية، القادر على كلّ شيء، إليه تنتهي جميع العلل و الأسباب.

ثم إن الولادة - بخلاف الأسباب الظاهريّة - قد ذكرت في القرآن الكريم بالنسبة إلى أنبياء اللّه تعالى في موارد ثلاثة:

الأوّل: إبراهيم خليل الرحمن، قال تعالى حكاية عنه: وَ اِمْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ * قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ * قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اَللّهِ رَحْمَتُ اَللّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ اَلْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [سورة هود، 71-73].

الثاني: عيسى روح اللّه، قال عزّ و جلّ حكاية عن مريم العذراء: قالَتْ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا * قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنّاسِ وَ رَحْمَةً مِنّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم، الآية: 21].

الثالث: زكريا الذي دعا اللّه أن يرزقه ذرّية طيبة: قالَ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم، الآية: 8]، و جميع من ولد في هذه الموارد الثلاثة هم من الأنبياء الذي وهبوا أنفسهم للّه تعالى.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً .

الآية العلامة الدالّة على شيء، و لهذه الكلمة أهمية عظمى في القرآن الكريم،

ص: 259

فقد وردت فيه بأطوار مختلفة - مفردة و تثنية و جمعا - في ما يقرب من خمسمائة مورد، و لعلّ الوجه في ذلك هو إثبات أن جميع ما سوى اللّه تعالى آيات جماله و جلاله و شواهد أقواله و أفعاله، و هي إما آيات يستدلّ بها الخالق على الخلق، أو يستدلّ بها المخلوق على وجود الخالق و معبوديّته المطلقة، و قهّاريته التامّة، و رحمته الواسعة و جميع العوالم - الطولية و العرضية - آياته تبارك و تعالى، و لكنها مختلفة في جهة كونها آية، كاختلافها في مراتب الوجود.

و الجامع القريب العلامة التي تدلّ على ارتباط الممكن بالذات مع الحيّ القيوم، كما هي علامة عناية العزيز الجبّار الغني بالذات مع الفقير المحتاج، أو هما معا.

و الآية في قوله تعالى: اِجْعَلْ لِي آيَةً ، أي علامة يعرف الناس و البيئة البشريّة، بأني مرتبط معك، و دلالة ملموسة بها تطمئن نفسي، و تكون أنت المعين في اموري، لأدفع بها دعاوي المبطلين و تشكيك المنافقين، و اعترف بها عجزي و خضوعي و تسليمي لأمرك، و ابدي شكري على جميع نعمائك، و هذا ما تقتضيه هذه المحاورة بين زكريا النبيّ العظيم و بين اللّه تعالى الربّ الجليل، فإنها تدلّ على كمال الخلّة و نهاية التبتّل و الخضوع له عزّ و جلّ، و يشهد لذلك سنخيّة الآية مع المورد، فإن الآية التي جعلها اللّه تعالى له هي أمره بعدم التكلّم و قطع المحاجّة مع الكفّار و المنافقين، و إيكالهم إلى الأمور البديهيّة كالحسّ و الوجدان، كما ستعرف.

و من ذلك يعلم أن ما ذكره المفسّرون في المقام في حكمة جعل الآية غير صحيح، فقد ذكر بعض المفسّرين أن جعل الآية له إنما كان لأجل أن يستدلّ بها على حمل امرأته و يعلم وقت الحمل.

و فيه: أنه بعد معرفته بأنه سيرزق ولدا، و إن اللّه تعالى بشّره بذلك، و كان على يقين فيه، لا معنى لطلب آية تكون علامة على حمل امرأته، بل هو لغو من عاقل فضلا عن الأنبياء.

و قيل: إن الحكمة في جعل الآية هو الاستدلال بها على أن البشارة كانت من

ص: 260

اللّه تعالى لا من الشيطان.

و هو مردود أيضا، فإنه إن كان باعتبار نفس مقام نبوّة زكريا عليه السّلام فهو باطل، لأنه بعد أن علم يقينا بخطاب الملائكة، و أن المحاورة المتقدّمة لا تدع مجالا للشك في أنها لم تكن من الشيطان، خصوصا مع ملاحظة مقام زكريا و نبوّته المرتبطة مع الملائكة ارتباطا تاما. و إن كان باعتبار تعريف غيره، فهو باطل أيضا، فإنه لم يعرف شيئا من هذه المحاورة حتى يشكّ فيها، بل هي من جملة الأسرار بين زكريا عليه السّلام و بين اللّه تعالى، كما في استجابة الدعوات بالنسبة إلى كلّ مؤمن مستجاب الدعوة، و سيأتي في البحث الكلامي الفرق بين خطاب الرحمن و كلام الملك و همسات الشياطين.

قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ .

أي: قال اللّه تعالى لزكريا: آيتك التي طلبتها هي أن لا تتكلّم مع الناس، و إنما خصّ الناس بالذكر لبيان أنه لم يكن ممنوعا من التكلّم بذكر اللّه و الدعاء، فيستفاد أن الممنوع منه إنما هو التكلّم مع الناس في شؤون الدنيا، لا عدم التكلّم المطلق، حتى التكلّم بالحقّ مع الحقّ، كالمناجاة و الدعاء و نحو ذلك، بقرينة ذكر الناس و التكلّم بالرمز.

و المشهور بين المفسّرين أن عدم التكلّم كان اضطراريا بالنسبة إليه، لأن اللّه عزّ و جلّ قد سلب قدرته على ذلك، إما باعتقال لسانه من غير آفة أو معها، و هي أنه ربّا لسانه و زاد في فيه حتى ملأه فمنعه الكلام، و إن كان قادرا على التسبيح و الصلاة و المناجاة معه عزّ و جلّ، و هذه آية كانت من قبل اللّه تعالى في نفس النبيّ لا يقدر عليها غيره، لمكان العصمة فيه.

و عن بعض المفسّرين أن حبس لسانه كان من باب العقوبة له، لأنه طلب الآية بعد المشافهة مع الملائكة و البشارة له، و السبب في ذلك تشكيك الشيطان له في كون البشارة من اللّه تعالى. و يقرب هذا ممّا ورد في إنجيل لوقا: أن جبرئيل قال لزكريا: و ها أنت تكون صامتا و لا تقدر أن تتكلّم إلى اليوم الذي يكون فيه هذا،

ص: 261

لأنك لم تصدق كلامي الذي سيتم في وقته. [إنجيل لوقا: 1-20].

و الحقّ أن يقال: إن الآية الشريفة لا تدلّ على شيء ممّا ذكروه، أما ما ذكره بعض المفسّرين فهو مردود من جهات كثيرة لا تخفى على من تأمّل فيه، و يكفي في وهنه أنه من الإسرائيليات، و لا وجه لكون ذلك عقوبة له بعد ما ذكرنا من أنه كان على يقين من أمره، و أنه إنما طلب الآية لدفع شبه المنافقين و إنكار المنكرين، و لإظهار الخضوع و الخشوع و التبتل إليه عزّ و جلّ، و بيان النعمة، فلا معنى لأن يكون عدم التكلّم عقوبة له.

الا أن يقال: إن عدم تكلّمه مع الناس لأجل ما حصل منه من ترك الأولى بقوله: أَنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ ، الظاهر في التعجّب من البشارة الإلهيّة، فإن مثل ذلك من أنبياء اللّه تعالى مع علمهم بكمال قدرته جلّت عظمته حتى على الممتنعات العادية، ممّا لا ينبغي، فأخذ بقوله هذا بعدم تكلّمه مع الناس ثلاثة أيام، فيكون هذا نحو توبة لما صدر منه، بقرينة قوله تعالى:

وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ و بهذا و إن أمكن الجمع بين جميع أقوال المفسّرين في المقام، و لكن مع ذلك أنه مجرّد احتمال.

و أما قول المشهور، فظاهر الآية الشريفة ينفي ذلك أيضا، لأن نسبة الفعل إلى الفاعل في قوله تعالى: أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ، و نفيه عنه ظاهر في كونه اختياريّا، فهي تدلّ على أن عدم التكلّم كان اختياريّا له، فإنه بعد أن طلب من اللّه تعالى الآية التي تكون علامة لصدقه أمام الناس، ليتمكن أن يدفع بها شبه الملحدين، و إظهار كرامته عند اللّه تعالى، و منزلة المولود الجديد لديه عزّ و جلّ، لا معنى لكونها آية اضطراريّة له، و نظير هذه الآية في ولادة يحيى عليه السّلام ما وقع عند ولادة عيسى، قال تعالى في مريم العذراء: فَإِمّا تَرَيِنَّ مِنَ اَلْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اَلْيَوْمَ إِنْسِيًّا [سورة مريم، الآية: 26]، و لم يقل أحد إن صوم مريم عليها السّلام كان اضطراريّا لها.

و قد ذكرنا أن هذه الآية الشريفة إنما جاءت موافقة و مناسبة لموردها ممّا قد

ص: 262

يواجهه من الناس، و ليست كلّ آية تناسب موردها، و في المقام يتطلّب المورد أن تكون الآية لدفع إنكار المعاندين و شبه المنافقين و إظهار المنزلة و الكرامة للنبيّ و المولود الجديد، و أحسن شيء يتحقّق فيه هو الإرجاع إلى البديهيّة و الحسّ و الوجدان، و السكوت على تلك الشبهات التي لا يكون ردّها و التعرّض لها إلا من المغالطة و المحاجّة، التي يجلّ عنها مقام العقلاء فضلا عن الأنبياء، و هذا ظاهر لمن تأمّل في هذه الآية التي تحقّقت بالنسبة إلى عيسى و امه مريم العذراء عليهما السّلام من شبهات لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم الصدّيقة، و يمكن أن يستفاد ذلك من اضافة الآية إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: آيَتُكَ ، أي الآية التي تناسب حالك و مقامك.

قوله تعالى: ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً .

مادة (رمز) تأتي بمعنى التحرّك، و الرمز هو الافهام بتحرك شيء، سواء كان بالرأس أم اليد أو العين أو غيرها، و قيل هو مختصّ بالشفة، و لم يدلّ دليل على التخصيص. و الاستثناء منقطع.

و المراد بثلاثة أيام مع لياليها، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر: ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 10]، و كلتا الآيتين قرينة على استمرار مدّة الرمز و تواليها.

و المعنى: أنه لا تتكلّم مع الناس في ردّ مقالاتهم في هذا الموضوع إلا إشارة باليد أو الرأس أو نحو ذلك، و هذا أعظم شيء لتسكيت خطاب الجاهلين عند تعرّضهم للمخاطبة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ اَلْإِبْكارِ .

العشي و الإبكار طرفا النهار، أي: و اذكر ربك باللسان و القول كثيرا، و أدم على صلواتك في أطراف النهار.

ص: 263

بحوث المقام
بحث أدبي:

قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، نصب على الحال من الأسماء التي وردت من قبل بمعنى ذرّية في حال كونهم متناسبين، و قيل: إنها نصبت على البدلية من الآلين. و لو استؤنفت فرفعت كان له وجه أيضا لبيان الأهمية.

و (من) في قوله تعالى: بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ اتصالية.

و الظرف (إذ) في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ ، قيل فيه وجوه، فعن بعض أنه زائد، و هو غلط.

و عن آخر أنه منصوب على الظرفيّة لما قبله، و لكنه لا يناسب مجيئه بعنوان الصفة الدالّة على الثبوت الدائم المطلق.

و قيل: إنه منصوب بفعل مقدّر، أي اذكر و هو بعيد عن السياق.

و قيل: انه ظرف لاصطفى المذكور في أول الآية المتقدّمة.

و يرد عليه أنه لا يصحّ أن يكون ظرفا لاصطفاء آدم و نوح.

و الوجه أنه معمول لفعل مقدّر يدلّ عليه الكلام، و هو استجابة لها إذ قالت.

و (محررا) في قوله تعالى: إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً منصوب على الحالية من (ما).

و أنثى في قوله تعالى: إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ، إما حال مؤكّد من الضمير، أو بدل منه، أو مفعول ثان لوضعت.

و إنما أتى عزّ و جلّ ب (ما) الموصولة في قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ دون (من) لأن الاولى يؤتى بها لما يحصل به، فهي تلازم الجهالة غالبا.

و (نباتا) في قوله تعالى: وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ، إما اسم مصدر، أو مفعول مطلق لأنبتها بدل عن مصدره.

ص: 264

و (كلما) في قوله تعالى: كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا اَلْمِحْرابَ منصوب ب (وجد)، أي وجد كلّ دخلة، و نصب المحراب على التوسع، إذ حقّ الفعل أن يتعدّى ب (في)، أو (إلى) و إظهار الفاعل.

و (هنا لك) في قوله تعالى: هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا منصوب على الظرفيّة، لأنه ظرف يستعمل للزمان و المكان، و إن كان أصله للمكان، و قد تجر بمن و إلى.

و قوله تعالى: وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ ، و هو قائم مبتدأ و خبر، و الجملة حاليّة من مفعول النداء. و (يصلي) حال من الضمير في (قائم)، و الظرف (في المحراب) متعلّق إما ب يصلي أو ب قائم، لأن أحدهما يلازم الآخر في المقام.

و إنما اختلفت الجملتان في قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ ، فكانت الاولى فعليّة، و الثانية اسميّة، لأن الكبر مترقّب الحدوث، يحدث شيئا فشيئا، فلم يكن وصفا لازما، بخلاف الثانية، فإن العقر وصف لازم ثابت، و لذلك صارت الجملة اسميّة.

و قوله تعالى: قالَ رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً يمكن إعرابه على وجهين:

الأول: أن يكون المراد بالجعل التغيير، فيتعدّى إلى مفعولين، أحدهما (آية) و الثاني (لي).

الثاني: أن يكون الجعل بمعنى الخلق و الإيجاد، فيتعدّى إلى مفعول واحد، و هو (آية)، و يكون (لي) في موضع النصب على الحال من (آية)، و صفة النكرة إذا تقدّمت عليها أعربت حالا منها.

بحث دلالي:

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً ، على أن الاصطفاء إنما يكون بإرادة من اللّه تعالى و اختياره، و ليس للإنسان إرادة فيه، فإنه جلّت عظمته أعلم حيث يجعل رسالته، نعم إن للاصطفاء أسبابا كثيرة، بعضها اختياري

ص: 265

للعبد المصطفى - كما تقدّم - و لكن نفس الاصطفاء و النبوّة و الولاية و نحوها لا بد أن تكون بإذن من اللّه تعالى و تعيين منه عزّ و جلّ، و لا يمكن أن تكون تحت اختيار البشر لعدم إحاطة العقول بذلك، فيلزم الخلاف أو الفساد.

الثاني: لم يذكر سبحانه و تعالى خاتم الأنبياء في آية الاصطفاء صريحا، و لكن قد ذكره في قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اَللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اَللّهُ ، و يستفاد من ذلك أن مقامه صلّى اللّه عليه و آله فوق مقام الاصطفاء، حيث جعل متابعته صلّى اللّه عليه و آله سببا لمحبّته تعالى، التي هي من مقتضيات الاصطفاء كما عرفت.

الثالث: يستفاد من آية الاصطفاء أن اصطفاء اللّه تعالى لبعض عباده يدلّ على الامتياز، و أن المصطفين ممتازون عن سائر الخلق، لتحقّق الإنسانيّة الكاملة فيهم، و أن لهم نفوسا قدسية هي المرآة الأتم لأخلاق اللّه تعالى و العبوديّة المحضة، و هي مظهر أسمائه و صفاته و محل تجلّيه عزّ و جلّ، فهم آيات اللّه التكوينيّة و التشريعيّة.

الرابع: لعلّ الغرض الأهم من آية الاصطفاء و آية المحبّة هو سوق الناس إلى المكارم و إيقاظ من هو غافل عن الحقيقة و الكمال، فإن محبّة اللّه تعالى و اصطفاء لمحبّيه لا يمكن أن تحصلا إلا بالإيمان باللّه تعالى إيمانا حقيقيّا، و التوجّه إليه تعالى و العمل بما أنزله عزّ و جلّ بجد و إخلاص، فيشمله حينئذ ما شمل أولياء اللّه تعالى المصطفين من التوفيقات و نزول البركات، و يستعد لتلقّي فيوضات اللّه تعالى، و يصلح أن يكون وليّا يصلح به نظام الدنيا و الآخرة، فالآية الشريفة ترشد الناس إلى طريق هؤلاء الذين اصطفاهم اللّه تعالى على العالمين، و أن يكون سيرهم و سلوكهم كسيرهم و سلوكهم، فتكون الآية من الكناية التي هي أبلغ من التصريح.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، أن هذه الذرّية المصطفاة من الخلق هي محفوظة من لدن آدم عليه السّلام إلى نوح إلى آل إبراهيم إلى آل عمران، و أن ذكر الأفراد قبل ذلك إنما هو لبيان اتصال السلسلة و الاتحاد بين تلك الأفراد، و أنها محفوظة إلى آخر الدهر و فناء الدنيا، لا يمكن أن تنقطع هذه السلسلة

ص: 266

و إن تقادم عليها الدهر و مرّت عليها السنون و الأعوام، و أن لهذه الذرّية أفرادا في كلّ زمان، بهم تحفظ الشريعة و يستقر النظام.

و من ذلك يعلم أن محمدا و آله و إن لم يذكروا صريحا في هذه الآية الشريفة، و لكنهم داخلون فيها، بمقتضى التعليل في آخرها، و يدلّ على ذلك

قول الإمام الباقر عليه السّلام: «نحن منهم، و نحن بقية تلك العترة»، و أن صاحب الأمر (عجّل اللّه تعالى فرجه الشريف) يحتجّ عند ظهوره بالآية المباركة، و أنه أولى الناس بنوح و إبراهيم، و قد ورد عن أهل البيت أنهم كانوا يقرءون الآية الشريفة (و آل إبراهيم و آل عمران و آل محمد على العالمين)، كما في تفسير القمّي و أمالي الشيخ الطوسي و تفسير العياشي، و في تفسير الثعلبي مسندا عن الأعمش عن أبي وائل، قال:

قرأت في مصحف ابن مسعود: (ان اللّه اصطفى آدم و نوحا و آل إبراهيم و آل محمد على العالمين)، فأبدل اسما مكان اسم»،

و روى مثله هشام بن سالم قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى: (إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً) فقال عليه السّلام: هو آل إبراهيم و آل محمد على العالمين»، و يمكن أن يكون الوجه في ذلك أنه من باب التنزيل، و أن أهل البيت أهم المقصودين من إبراهيم و آله بمقتضى الوحي على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فيكون ما ورد في مصحف ابن مسعود و غيره بعنوان التأويل، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم كما ذكرنا مرارا، فلا يستفاد من الروايات المتقدّمة التحريف بعد صحّة حملها على بيان المصاديق و التنزيل، و ما ورد من أنه «أبدل اسما مكان اسم»، يكون بحسب التنزيل لا أصل الوحي.

ژ السادس: يدلّ قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً ، على كمال انقطاع امرأة عمران إليه تعالى، فإنها حرّرت وليدها عن طاعتها إلى طاعته عزّ و جلّ، و أعتقته لوجهه الكريم، و الآية تدلّ على أنها طلبت الولد في ضمن نذرها، لعدم لياقة الأنثى لما تريده.

السابع: إنما ذكرت امرأة عمران (ما في بطني)، حفظا لأدب الدعاء مع الكبير العظيم، و تحفظا لعدم ذكر ما يقرب من العورة مع إمكان إظهار المعنى بغيره

ص: 267

بلفظ هو أشمل منه، قال تعالى: وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ [سورة النجم، الآية: 32].

الثامن: يدلّ قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى على كمال تحسّرها و تحزّنها عند وضعها الحمل أنثى، و أن هذا الكلام صدر عن قلب كسير و فؤاد حزين، و مع ذلك فقد دعت للمولودة بقولها (و اللّه أعلم بما وضعت)، و عظّمت و فخّمت شأنها، حيث أدخلتها في علم اللّه تعالى، و طلبت رعايتها منه عزّ و جلّ بقولها: «إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ» ، و اعترفت بالعجز أمام قدرته سبحانه و تعالى، و أن إرادته فوق إرادة البشر، يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ ، أن التسمية كانت من حقوقها، و ليس لأحد غيرها هذا الحقّ، فقد مات أبوها و هي حامل بها، مع أنه يمكن أن يستفاد من تبادرها بالتسمية أنها كانت تعلم بها سابقا، و أن لهذه المولودة شأنا كبيرا، و فيها الصلاحية لخدمة البيت، مضافا إلى أن التسمية من المخلوق الممكن ينفي شبهة الغلو في مريم العذراء.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ اَلشَّيْطانِ اَلرَّجِيمِ ، على أنها طلبت بقاءها صحيحة لا تعترضها صوارف الدهر و عاديات الزمان، حتى تكبر و تتحقّق امنيتها، و هي الولد الذكر.

و إنما قدّمت الاستعاذة و أدّت بالفعل المضارع، للدلالة على استمرار الاستعاذة و دوامها و الاهتمام بشأنها، و بذلك لم يبق للشيطان فيها و في ذرّيتها نصيب.

و الآية المباركة لا تدلّ بشيء من الدلالات على أن كلّ مولود يمسّه الشيطان إلا من عصمه اللّه تعالى، و قد تكلّف جمهور المفسّرين في تأويل هذه الآية الشريفة بما لا محصل له، مع أن ما ذكروه في المقام لا يصلح للاعتماد عليه، فالآية ليست إلا في مقام الإرشاد إلى أن الإنسان لا بد له من الاستعاذة من عدو قد آلى على نفسه

ص: 268

أن يغويه و يضلّه عن الطريق، فلا بد من الالتجاء إلى اللّه تعالى في جميع الحالات، لا سيما من مثل امرأة عمران التي نذرت ابنتها للّه عزّ و جلّ، و طمعت أن تكون عابدة مطيعة، و أن تكون لها ذرّية طيبة، و قدر أن يكون لها شأن كبير في المستقبل.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً ، على الجزاء العظيم الذي وعده اللّه تعالى لهذه المرأة المؤمنة المطيعة، جزاء إخلاصها في نذرها، فهو عزّ و جلّ قد رضي بالأنثى و تلقّاها بوجه حسن، فهو الربّ الكريم الذي تعهّد تربيتها تربية حسنة في جميع شؤونها و حالاتها، فصارت امرأة عابدة لخالقها مطيعة لربّها، طهّرها عن الرذائل و اصطفاها على نساء العالمين، و جميع ذلك كان استجابة لدعاء أمها و تحقّقت جميع امنياتها، و ممّا جعله اللّه تعالى وسيلة لتربيتها الحسنة أن دخلت مريم في كفالة زكريا النبيّ الكريم.

و يستفاد من ذلك أنه لا بد للإنسان من الدخول في كفالة من يقوم بتربيته تربية صالحة، و لا يتأتى ذلك لكلّ فرد و لا يقدر أن يقوم كلّ أحد لوحده في تربية نفسه، و كأن هذه الآية الشريفة تبيّن سبب اصطفاء اللّه تعالى مريم، و هو الإنبات الحسن و رضاه تعالى بها.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، على أن العلّة في ارتزاق مريم عليها السّلام هي أن جميع الأرزاق - سواء كانت ماديّة أم معنويّة - بيد اللّه تعالى، و أنه يعلم بخصوصيات الرزق و المرزوق و كيفيّته و جهاته. و لذلك يمكن تطبيق هذه الآية في كلّ مورد علم من الأدلّة الصحيحة القويمة أنه داخل تحت الآية الشريفة، كما ورد بالنسبة إلى فاطمة الزهراء عليها السّلام، فإنها أيضا ممّن تقبّلها ربّها بقبول حسن، و قد أبان فضلها على سائر النساء و طهّرها من جميع الرذائل الخلقيّة و الخلقيّة، و تدلّ الأدلّة النقليّة و العقليّة على ذلك، فلئن كانت مريم العذراء مصطفاة على نساء العالمين في وقتها، و لكن الصدّيقة الطاهرة مصطفاة على جميع نساء العالمين، و لئن رزقت مريم عليها السّلام من الرزق المخزون عند اللّه تعالى لوحدها إلا أن فاطمة الزهراء عليها السّلام قد رزقت هي و أولادها و آثرت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نفسها،

ص: 269

فقد روى أبو يعلى عن جابر: «أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أقام أياما لم يطعم طعاما حتى شق ذلك عليه، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئا، فأتى فاطمة فقال: يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ فقالت: لا و اللّه، فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين و قطعة لحم، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها، و قالت: لأوثرن بهذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على نفسي و من عندي، و كانوا جميعا محتاجين إلى شبعة طعام فبعثت حسنا أو حسينا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فرجع إليها فقالت له: قد أتى اللّه تعالى بشيء قد خبأته لك، قال: هلمي يا بنية بالجفنة، فكشفت عن الجفنة فإذا هي مملوءة خبزا و لحما، فلما نظرت إليها بهتت و عرفت أنها بركة من اللّه، فحمدت اللّه تعالى و قدّمته إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله، فلما رآه حمد اللّه تعالى، و قال: من أين لك هذا يا بنية؟ قالت: يا أبت هو من عند اللّه، إن اللّه يرزق من يشاء بغير حساب، فحمد اللّه سبحانه ثم قال: الحمد للّه الذي جعلك شبيهة سيدة نساء بني إسرائيل، فإنها كانت إذا رزقها اللّه تعالى رزقا فسئلت عنه قالت: «هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ، إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ، ثم جمع عليا و الحسن و الحسين عليهم السّلام و جميع أهل بيته حتى شبعوا و بقي الطعام كما هو، فأوسعت فاطمة عليها السّلام على جيرانها».

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: فَنادَتْهُ اَلْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي اَلْمِحْرابِ ، أن أقرب ما يكون الإنسان إلى ربّه هي حالة الصلاة، فإنها أفضل عبادة و أفضل القربات، كما تقدّم.

الرابع عشر: يدلّ قوله تعالى: رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ، على رجحان طلب الأولاد و حسنه، و هو سنّة الأنبياء و الصالحين و الصدّيقين، و قد دلّت عليه آيات اخرى، منها قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الصافات، الآية: 100]، و كذا قوله: وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ [سورة الشعراء، الآية: 84]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ [سورة الفرقان، الآية: 74]، و في السنّة المقدّسة الشيء الكثير من ذلك.

ص: 270

الخامس عشر: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اَللّهِ ، على القاعدة المعروفة أن كلّ نبيّ لا بد أن يخبر عن نبيّ آخر سابق أو لا حق و يصدقه، و هي من إحدى ركائز النبوّات الإلهيّة كما عرفت.

السادس عشر: يستفاد ممّا ورد في طلب زكريا الذرّية أن للكلام الصادر من الوالدين أثرا في تربية النطفة، سواء كانت في الصلب أم في الرحم، و هذا ليس ببعيد، فإن للغذاء و التغذية أثرا كبيرا في التربية، فلا بد و أن يكون للتكلّم و الكلام أثر كذلك.

السابع عشر: لا يستفاد من قوله تعالى: وَ قَدْ بَلَغَنِيَ اَلْكِبَرُ المقدار الذي بلغ إليه زكريا من العمر، و لكن ورد في موضع آخر في هذه القصة: وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ اَلْكِبَرِ عِتِيًّا [سورة مريم، الآية: 8]، أنه عليه السّلام قد بلغ ما بلغ من العمر بحيث يبست عظامه من شدّة الكبر.

الثامن عشر: لا يدلّ قوله تعالى: وَ اِمْرَأَتِي عاقِرٌ على أن العقر عارض لأجل الكبر أو كان سابقا، و لكن في سورة مريم حكاية عنه: وَ كانَتِ اِمْرَأَتِي عاقِراً [سورة مريم، الآية: 8]، و هو يدلّ على أنها كانت كذلك في مقتبل عمرها، و هي مضافا إلى شيخوختها عاقرة أيضا.

التاسع عشر: يستفاد من ظاهر قوله تعالى: قالَ آيَتُكَ أَلاّ تُكَلِّمَ اَلنّاسَ ثَلاثَةَ أَيّامٍ إِلاّ رَمْزاً ، أن عدم التكلّم كان تحت اختياره، و هو صحيح سليم الجوارح سوي الخلقة لا علّة فيه، و لكنه منع من التكلّم إلا رمزا، و لا تدلّ الآية الشريفة على أن المانع هو البكم الطارئ عليه أو آفة تمنعه عن ذلك، كما ذكره جمهور المفسّرين.

بحث فقهي:

تحرير ما في البطن للّه تعالى في المقدّسات الدينية - أمكنة كانت أم غيرها - يتصوّر على وجوه:

ص: 271

الأوّل: التحرير على نحو يوجب التضييع و الضياع و إهماله عن الكمالات، و هذا لا يجوز و لا يصحّ في أية شريعة من الشرائع الإلهيّة.

الثاني: التحرير على نحو يوجب سمو النفس و جمعها للكمالات المعنوية، و لكن بحيث يخرج عن مراقبة الوالدين بالكلّية و الخروج عن ولايتهما الشرعيّة و التكوينيّة، و هذا لا يجوز أيضا.

الثالث: نفس القسم السابق مع ثبوت الولاية عليه بما ثبتت في الشريعة الإلهيّة، و هذا صحيح و لا محذور فيه و لم يرد ردع في الشريعة الاسلاميّة عنه، لفرض وجود المقتضي للصحّة و فقد المانع عنها، نظير دفع المولود للرضاعة إلى المرضعة مع بقاء سلطة الوالدين عليه، أو دفعه إلى معلّم خاص ليعلّمه بعض الكمالات.

الرابع: التحرير مع انقطاع سلطنة الأبوين عن الولد بحيث لم يكن لهما أمر و نهي بالنسبة إليه و لا يعمل الولد لهما، و إن ثبتت البنوّة التكوينيّة لهما. و هذا أيضا صحيح إذا أقدم الوالدان باختيارهما على ذلك و ألقيا وجوب إطاعتهما عنه، و أخلصوه لطاعة اللّه تعالى فقط. و يظهر من التواريخ أن التحرير في تلك الأعصار كان من هذا القسم.

ثم إن التبتل و الانقطاع عن النكاح على أقسام:

الأوّل: أن يكون لأجل الرياضات غير المشروعة، و هذا غير جائز، و قد دلّت عليه الأدلّة الكثيرة،

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من رغب عن سنتي فليس مني»، و هذه هي الرهبانيّة التي ابتدعت في بعض الأديان، قال تعالى: وَ رَهْبانِيَّةً اِبْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ [سورة الحديد، الآية: 27].

الثاني: أن يكون لأجل مانع في البين، كالعنة و أمثالها، و لا يتّصف ذلك بالحرمة لفرض عدم القدرة.

الثالث: ما إذا كان مع وجود المقتضي و القدرة على النكاح، لكن كان في البين أهمّ ديني يقتضي تقديمه على النكاح، و الحصر في يحيى من هذا القسم، و هو جائز بل راجح، و تشخيص ذلك لا بد أن يكون من ناحيته تبارك و تعالى.

ص: 272

بحث عرفاني:

تقدّم أن حقيقة الإيمان باللّه جلّت عظمته إنما هي ارتباط خاص بين العبد و بين اللّه تعالى الذي له من الصفات الجماليّة و الكماليّة مالا يمكن أن يحدّها حدّ، فله القدرة و الملك و التدبير و الربوبيّة و الرأفة و الكمال و الجلال، و العالم كلّه مظاهر جلاله و جماله و أسمائه و صفاته، و له التأثير التامّ في نظام العالم.

و الإيمان ارتباط بين عالم الشهادة و عالم الغيب ارتباطا اختياريّا، و هذا الارتباط الخاص الاختياري و إن كان في نظرنا أمرا عرضيّا قائما بالغير، لكنه في الواقع جوهر نوراني يضيء لأهل السماء، كما تضيء النجوم لأهل الأرض، و هو الركن الشديد الذي يعتمد عليه عند الشدائد و الأهوال و في مختلف الأحوال، و هذا الارتباط قد يقوى و قد يضعف، تبعا لدرجات الإيمان، و يمكن أن يصل إلى حدّ الجذبة، فيصل العبد إلى مقام الاصطفاء و هو التجاذب التامّ من الطرفين، فالجذبة من ناحية العبد هي العبوديّة المحضة و الانقطاع إلى ربّ العزّة بكلّ همة، و جذبة اللّه ما هو متناه من كلّ جهة، فإنه يحظى من عطاء اللّه تعالى و لطفه غير المتناهي.

و في الاصطفاء يظهر سرّ العبوديّة و الامتحان الإلهي، و فيه تبدو الأخلاق الكاملة الربانيّة، و هو مظهر الكمالات و التحليات، و المصطفى (بالفتح) هو الإنسان الكامل الذي يكون قطب رحى الوجود، يتشرّف أهل الأرض بوجوده، و يترقب أهل السماء لقاءه، فهو الأمان من كلّ شرّ، و به يدفع كلّ بلية و عظيمة، و هو الذي باهى اللّه تعالى الملائكة بخلقه و إيجاده، و هو عرش الرحمن، و هو واسطة الفيض الإلهي على سائر الخلق.

و تختلف درجات الاصطفاء حسب اختلاف درجات الفضل، و رأس كلّ مصطفى و رئيسهم أشرف الكائنات على الإطلاق و سيد الخلائق، مجمع كلّ فضيلة و مكرمة، و مظهر كلّ فيض و رحمه، خاتم الأنبياء الذي وصل إلى ما لم يصل إليه أحد من العالمين في الأخلاق الساميّة و الكمالات الإنسانيّة، حتّى وصل إلى مقام

ص: 273

قاب قوسين أو أدنى بما لم يحظ به الأملاك و الأفلاك، و يلحق به أهل بيته الذين هم من البضعة الطاهرة الصدّيقة، التي تربّت في حجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وصلت إلى مقام الرضا لأبيها، و هو القائل فيها:

«فاطمة مني يرضيني ما يرضيها و يغضبني ما يغضبها»، و هي مستودع علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مظهر أخلاقه القدسية، و الذرّية الطيبة من نسلها، و هم المعصومون المطهّرون الممتازون عن سائر الخلق خلقا و خلقا، و هم أسرار اللّه تعالى و مظهر أسمائه و صفاته و محال تجلّياته الخاصة و مبلغ أمره و نهيه، و هي من تلك الذرّية المصطفاة، التي تبقى هذه الذرّية إلى آخر الدهر لتقيم العدل و تمحق الجور.

و من تلك الذّرّية المصطفاة مريم العذراء ام المسيح كلمة اللّه التي اصطفاها اللّه تعالى على نساء العالمين و مظهر تجليّات اللّه تعالى و أسمائه عزّ و جلّ، فهي البرّة التقية العابدة الزكية الطاهرة النقية محل إبداع اللّه عزّ و جلّ و مورد امتحانه تعالى و مستودعة سرّه، و هي المنذورة للّه تعالى في الطاعة و الإخلاص من قبل أمها الطاهرة المصطفاة أيضا المنقطعة إليه عزّ و جلّ كمال الانقطاع، حتّى أنها ألقت عن نفسها أشدّ أنحاء العطف و الحنان بالنسبة إلى وليدتها، إخلاصا للّه و قدّمتها إليه عزّ و جلّ، من دون أن يكون في قلبها شيء سوى محبّة اللّه تعالى، فحظيت مقام المحبّة فيه عزّ و جلّ، و فتحت لها أبواب الاصطفاء فصارت بمنزلة جدّها الخليل، حيث قال: يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي اَلْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ اِفْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اَللّهُ مِنَ اَلصّابِرِينَ [سورة الصافات، الآية: 102]، و لا بدع في ذلك فإن الذرّية بعضها من بعض، و أن الذرّية بمنزلة الروح لهذا العالم و هو بمنزلة الجسد لها.

بحث روائي:

عن ابن بابويه عن أبان بن الصلت قال: «حضر الرضا عليه السّلام مجلس المأمون و قد اجتمع إليه في مجلسه جماعة من أهل العراق و خراسان - إلى أن قال - قال

ص: 274

المأمون: هل فضّل اللّه العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن عليه السّلام: إن اللّه عزّ و جلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه، فقال المأمون: و أين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال له الرضا عليه السّلام: في قوله عزّ و جلّ: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ ، قال عليه السّلام: يعني أن العترة داخلون في آل إبراهيم، لأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من ولد إبراهيم عليه السّلام و هو دعوة إبراهيم و عترته منه صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية و أنه (صلوات اللّه عليه) تمسّك بظاهر الآية الشريفة لشمول إطلاق الذرّية لجميع من ينسب إلى إبراهيم عليه السّلام، و ليس ذلك من التأويل و لا من التفسير في شيء.

و في تفسير العياشي: عن أحمد بن محمد عن الرضا عن أبي جعفر عليهما السّلام: «من زعم أنه قد فرغ من الأمر، فقد كذب لأن المشيئة للّه في خلقه يريد ما يشاء و يفعل ما يريد، قال اللّه: ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ، آخرها من أوّلها، و أوّلها من آخرها، فإذا أخبرتم بشيء منها بعينه أنه كائن و كان في غيره منه، فقد وقع الخبر على ما أخبرتم عنه».

أقول: أما

قوله عليه السّلام: «من زعم أنه قد فرغ من الأمر فقد كذب»، موافق للأدلّة العقليّة و النقليّة. أما النقليّة مثل قوله تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [سورة الرحمن، الآية: 29]، و قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ [سورة المائدة، الآية: 64]، و غيرهما من الآيات الشريفة و السنّة المقدّسة.

و أما العقليّة، فلما أثبته الفلاسفة الإلهيون على أن مناط الاحتياج إلى العلّة هو الإمكان، و هو مساوق للفقر و الحاجة، و هما دائمان فإفاضاته تعالى دائمة إلى الأبد.

نعم، من توهّم أن مناط الحاجة هو الحدوث، فإذا حدث شيء لا يحتاج إلى العلّة بعد ذلك يتم الوجه بناء على هذا القول، و لكنه مجرّد و هم، و قد أبطلوه

ص: 275

ببراهين كثيرة ذكرت في محلّها.

و أما

قوله عليه السّلام: «آخرها من أوّلها، و أوّلها من آخرها» صحيح، و ذلك لأن الزمان و الزمانيّات بالنسبة إليه كائن واحد ليس فيه تسلسل زماني، مع أنا أثبتنا في علم الأصول أن الزمان مطلقا ليس مأخوذا في الأفعال، و يدلّ عليه ذيل الرواية.

و في تفسير القمّي: عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى عمران: إني واهب لك ذكرا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص و يحي الموتى بإذني، و جاعله رسولا إلى بني إسرائيل، فحدّث امرأته بذلك و هي ام مريم، فلما حملت بها كان حملها عند نفسها غلاما ذكرا، فلما وضعتها أنثى، قالت: رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى ... وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى ، لأن البنت لا تكون رسولا، يقول اللّه: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ ، فلما وهب اللّه لمريم عيسى كان هو الذي بشّر اللّه به عمران، و وعده إياه، فإذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده أو ولد ولده، فلا تنكروا ذلك، فلما بلغت مريم صارت في المحراب و أرخت على نفسها سترا و كان لا يراها أحد، و كان يدخل عليها زكريا المحراب فيجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء و فاكهة الشتاء في الصيف، فكان يقول: أَنّى لَكِ هذا ، فتقول: هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ».

أقول: يستفاد من الرواية امور:

الأوّل: ان عمران نبيّ، و يدلّ عليه أيضا

ما عن أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: سألته عن عمران أ كان نبيّا؟ فقال عليه السّلام: نعم كان نبيّا مرسلا إلى قومه..»، و لا بأس بذلك لأن أنبياء بني إسرائيل كثيرون، فكان مثل نبيّ في بني إسرائيل مثل العلماء العاملين في امة محمد صلّى اللّه عليه و آله الموجودين في كلّ قرية، و يشهد لذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «علماء امتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل».

الثاني: أن مقتضى سياق مثل هذه الآيات عدم اختصاص امتنان اللّه تعالى بمن أخبر به فقط، بل يمكن شموله لآخر من نسله قريبا كان أو بعيدا، و هذا هو

ص: 276

صريح

قوله عليه السّلام: «إذا قلنا لكم في الرجل منا شيئا فكان في ولده، أو ولد ولده فلا تنكروا ذلك»، بل في بعض الروايات يمكن أن يوجد ذلك بعد سبعين بطنا.

الثالث: الرواية ظاهرة في أن قوله تعالى: وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى من كلام ام مريم لكونها ملتفتة إلى ما أوحي إلى زوجها.

و لكن يبقى هنا شيء و هو ان مقتضى القواعد الأدبيّة المتعارفة أن في مقام نفي التشبيه تدخل كلمة التشبيه على الأفضل لا المفضول، بخلاف المقام حيث ادخلت على الأنثى، و هي مفضولة بالنسبة إلى الذكر.

و لعلّ السرّ في ذلك كمال هذه المرأة و علو شأنها و منزلتها عند اللّه تعالى، بحيث إنها تكون أفضل من كثير من الرجال.

الرابع: دلالة هذه الرواية و أمثالها على مقام مريم و نزول الفواكه المختلفة عليها، و هذا ليس ببعيد من قدرة اللّه تعالى بالنسبة إلى مريم و الصدّيقة الطاهرة، و إنكار مثل ذلك ليس إلا مكابرة، بل هو قبيح ممّن يعترف بعالم الغيب.

و في تفسير العياشي: في الآية المباركة عن الصادق عليه السّلام: «ان المحرر يكون في الكنيسة و لا يخرج منها، فلما وضعتها أنثى قالت: رب إني وضعتها أنثى و ليس الذكر كالأنثى، إنّ الأنثى تحيض فتخرج من المسجد، و المحرّر لا يخرج من المسجد».

أقول:

قوله عليه السّلام: «إنّ الأنثى تحيض»، لبيان الفرق بين الأنثى و الذكر في الجملة، لا من حيث تطبيقه على مريم عليهما السّلام، فإنها طاهرة مطهّرة بالاتفاق، و أن

«بنات الأنبياء لا يطمئن»، كما في جملة من الروايات.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن أحدهما عليهما السّلام: «نذرت ما في بطنها للكنيسة أن يخدم العباد، و ليس الذكر كالأنثى في الخدمة، قال: فشبت و كانت تخدمهم و تناولهم حتى بلغت، فأمر زكريا أن تتخذ لها حجابا دون العباد».

أقول: ظهر وجهه ممّا تقدّم.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام قال: «ان زكريا لما دعا ربّه أن يهب له ولدا، فنادته الملائكة بما نادته به، أحبّ أن يعلم أن ذلك الصوت من اللّه، فأوحى

ص: 277

إليه أن آية ذلك أن يمسك لسانه عن الكلام ثلاثة أيام، فلما أمسك لسانه و لم يتكلّم علم أنه لا يقدر على ذلك إلا اللّه، و ذلك قول اللّه: رَبِّ اِجْعَلْ لِي آيَةً ».

أقول: الرواية تدلّ على أن عدم التكلّم كان بإرادة منه عزّ و جلّ لا باختيار زكريا، و تقدّم أن هذا من أحد معاني الآية الشريفة، و لا بأس به في حدّ نفسه، لأنه اعتبار حسن، و أما عدم تيقّن زكريا من قول الملائكة بأنه من قول اللّه تعالى، فلأن قول الملائكة الموكلة بالإنسان المدبّرة لشؤونه على نحوين:

الأوّل: أن يكون نفس القول اوحي إليه من ربّ العالمين، فهم من مجرّد الواسطة.

الثاني: أن يكون ذلك القول ممّا فوّضه اللّه إليهم في تدبير شأن من وكّلوا به، و لعلّ زكريا أراد تعيين أحد الاحتمالين.

ص: 278

وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ (42) يا.......

اشارة

وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى بِإِذْنِ اَللّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة المصطفين الأبرار، و ذكر منهم مريم عليها السّلام و بيّن نشأتها و تربيتها اللائقة التي أعدّتها لاصطفائها، و أتى بقصة زكريا تأكيدا للأولى و تثبيتا لما ورد فيها، و تقريرا لصدق ما نزل، أردفها سبحانه و تعالى بقصة عيسى عليه السّلام، فذكر سبحانه أوّلا اصطفاء مريم عليها السّلام لما كانت عليه من التربية الصالحة و الإعداد الحسن، و لأجل ذلك استعدّت لحمل عيسى كلمة اللّه من دون أب، ثم ذكر جملة من حالات المسيح و الآيات الباهرات التي جرت على يديه.

ص: 279

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ .

الجملة معطوفة على الجملة السابقة: «إذ قالت امرأة عمران»، و الجملتان في مقام الشرح لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ .

و (إذ) منصوب - كما عرفت - بفعل مقدر و هو اذكر، و المراد من الملائكة جنسها كما تقدّم سابقا، فلا ينافي أن يكون المتكلّم واحدا.

و قول الملائكة أعمّ من أن يكون بالإلهام في القلب، أو بظهور الشخص خارجا و التكلّم الشفهي معها، و إن كان الظاهر هو الثاني، و يدلّ عليه قوله تعالى في سورة مريم: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا ، و لا محذور فيه من عقل أو نقل، كما أن ظاهر الآية المباركة في أن مريم كانت محدّثة تكلّمها الملائكة و هي تسمع كلامهم و قد ترى شخصهم.

و الاصطفاء الاختيار كما عرفت سابقا، و ذكرنا أن جهة الاصطفاء تعرف من القرائن الحافّة بالكلام، فقد تكون متّحدة، و قد تكون متعدّدة..

فتارة: تكون لأجل قداسة الذات.

و اخرى: تكون لأجل جهات خارجيّة اختياريّة أو تكوينيّة.

و ثالثة: تكون لأجل الخلوص في العبادة و التقوى.

و رابعة: لجميع ذلك.

و المراد به في المقام أن اللّه اختارك بقبوله تعالى لك و رضائه بك، و تقبّلها لعبادته عزّ و جلّ حينما نذرت أمها تحريرها للّه عزّ و جلّ، و قد تقدّم جميع ذلك في الآيات السابقة.

ص: 280

و ظاهر الآية الشريفة أن الطهارة في المقام أعمّ من الطهارة من الأدناس الظاهريّة و الأقذار المعنويّة، فهي معصومة بعصمة اللّه تعالى، و قد تحقّق فيها دعاء أمها من إعاذتها و ذرّيتها من الشيطان الرجيم.

و قيل: الطهارة مختصّة بالطهارة عن الأدناس التي تلحق بالنساء، مثل الحيض و النفاس، حتّى تكون صالحة لخدمة المسجد، و لكن الإطلاق يدفع ذلك.

قوله تعالى: وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ .

أي: و اختارك لتكوني اما للمسيح، فيكون الاصطفاء في المقام غير الاصطفاء في صدر الآية الشريفة، فإنه يختصّ ببعض الجهات، و هو تقديم مريم عليها السّلام على سائر النساء في الولادة من غير أب، و يشهد لذلك جملة من الآيات المباركة التي تدلّ على تكريمها بهذه المزيّة، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، و قال تعالى: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91]، و قال تعالى: وَ مَرْيَمَ اِبْنَتَ عِمْرانَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ اَلْقانِتِينَ [سورة التحريم، الآية: 12]. و المستفاد من جميع ذلك أنها تقدّمت على نساء العالمين في خصوص هذه المزيّة، و إن كانت لها صفات اخرى منها التطهير و التصديق بكلمات اللّه تعالى و كتبه، و القنوت، و تقبّلها ربّها، و أنبتها نباتا حسنا و نحو ذلك، و لكن هذه الأمور قد توجد في غيرها فلا تختصّ بها، و ربما تكون هذه الأمور هي من تلك الجهات التي اقتضت اصطفاءها في المرة الاولى.

و من ذلك يظهر سرّ تكرار الاصطفاء في الآية الشريفة، فلا دلالة فيها مع هذه القرائن الكثيرة على اصطفائها على جميع نساء العالمين من الأوّلين و الآخرين، مع أن لفظ العالمين قابل للتوسعة و التضييق، و القرائن المذكورة في المقام و السنّة دلّت على سيادتها و تقدّمها على نساء العالمين في جهة خاصة أو على نساء عالمها، فهي لا تدلّ على أفضليتها على فاطمة عليها السّلام، التي اجتمعت فيها امور كثيرة لا تكون في غيرها، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ص: 281

قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ .

تكرار النداء لبيان عظمة المنادي، و للإشارة إلى تتابع النداء على مريم و حثّها على الاستماع و الإصغاء، و التحبّب إليها، و الاهتمام بشأنها.

و القنوت: هو لزوم الطاعة و الخضوع، و تقدّم تفصيل معناه في قوله تعالى:

وَ قُومُوا لِلّهِ قانِتِينَ [سورة البقرة، الآية: 238]. و السجود و الركوع معروفان، و الجميع كناية عن لزوم الطاعة و الخضوع و الخشوع في العبادة و عدم تركها في حال، و مراعاة وظيفة العبوديّة.

و يمكن أن يكون المراد من الركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة و المحافظة عليها، و لعلّ النكتة في التعبير بالركوع مع الراكعين هي الأمر باتباع شريعة موسى و متابعة زكريا قبل ظهور شريعة ابنها عيسى عليه السّلام، حيث إنها كانت في كفالته، مع أن الظاهر أن الصلاة كانت واحدة في الشريعتين، فإنها أوّل ما نطق به عيسى عليه السّلام حينما وضعته امه، قال تعالى حكاية عنه: وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 31].

و كيف كان، فهي تابعة في جهات عبادتها لشخص آخر، و هو إبراهيم أو موسى أو زكريا، و لا استقلال لها بوجه حتّى يتوهّم أنها أصل من الأصول، و لا ينافي ذلك نداءها من قبل الملائكة بلزوم الطاعة و العبادة و الخضوع، فإن كلّ نفس آمنت باللّه تعالى ايمانا حقيقيّا و اتّصفت بالتقوى و اليقين يمكن أن تحدثها الملائكة،

و قد ورد في جملة من الاخبار: «ان المؤمن محدث»، و لا ريب أن حديث الملائكة كاشف عن كمال الإيمان، كما أن وحي الشيطان كاشف عن كمال الشقاء و الحرمان، قال تعالى: وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ [سورة الأنعام، الآية: 121].

و ربما يكون الوجه في الأمر بالركوع مع الراكعين هو لزوم الصلاة، التي هي معروفة عند الخواص، التي تكون خالصة عن الشوائب و كلّ ما هو خارج عنها عندهم.

ص: 282

و لا دلالة لهذه الجملة على كون المعنى منها لزوم صلاة الجماعة، كما ذكره بعض المفسّرين، بل المراد منها هو لزوم الموافقة مع المصلّين و الدخول في زمرتهم.

و إنما ذكر سبحانه (الرب)، لأن ربوبيّته المطلقة تقتضي إيصال كلّ ممكن لغايته، و غاية العبوديّة الحقيقيّة هي الوصول إلى مقام الاصطفاء، فتكون الجملة في مقام التعليل للجملة الاولى، أي: أن علّة الاصطفاء هي الخضوع للحي القيوم و السجود و الركوع له، و الانخلاع عن الرذائل و الانقطاع إلى اللّه تعالى.

و إنما قدّم سبحانه السجود قبل الركوع، لكمال أهمية السجود من الركوع و غيره من العبادات،

ففي الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه و هو ساجد»، مع أنه يمكن أن يراد من الركوع مطلق الصلاة، و لم يعلم بوجه صحيح أن صلاتهم كانت مثل صلاة المسلمين بتقديم الركوع على السجود.

قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ .

(ذلك) إشارة إلى ما قصّه اللّه تعالى من شأن امرأة عمران و مريم و زكريا و يحيى، و ما تضمّنته من البلاغة و الغرابة.

و الأنباء: جمع نبأ، كالأخبار جمع خبر، و لكن النبأ أخصّ من مطلق الخبر، لأن النبأ يطلق على الخبر ذي الفائدة العظيمة، و الخبر أعمّ منه، و قد يطلق على مطلق الخبر مع القرينة، و يمكن أن يستفاد من موارد الاستعمالات القرآنيّة أن النبأ يستعمل غالبا في الموارد التي تستفاد فائدة الخبر من ناحية العلّة، و الخبر بالعكس.

و الغيب: كلّما غاب عن الحواس الظاهريّة و المعنويّة، سواء كان من موجودات هذا العالم في ما مضى و يأتي، أم عالم آخر. و مادة (غيب) كثيرة الاستعمال في القرآن مفردا و جمعا، و لعلّ من أعظم موارد استعمالها قوله تعالى:

عالِمُ اَلْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن، الآية: 26-27].

و الوحي هنا إلقاء المعنى إلى الغير على وجه خفي، سواء كان بإرسال الملك أم الإلهام، أو غير ذلك، و لا يختصّ بالنفوس الإنسانيّة، بل يعمّ غيرها، لأن جميع

ص: 283

الممكنات مسخّرات تحت إرادته عزّ و جلّ و مستمدة من مدده، قال تعالى:

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى اَلنَّحْلِ [سورة النحل، الآية: 67].

و يستفاد من الآية الشريفة أن ما أوحى اللّه تبارك و تعالى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الصحيح المكنون في علم الغيب، و لا يوجد عند أهل الكتاب، بل لا عبرة بما هو الموجود عندهم، لعدم سلامته من التحريف، و لا عند قوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لكونهم أميين لا يعرفون هذه القصص بوجه من الوجوه.

و نظير هذا التعبير ورد في قصة يوسف: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102]، و القصتان متشابهتان من حيث أن يد التحريف نالتهما، و أنهما لم تذكرا بهذه الخصوصيات التي وردت في القرآن الكريم في كتب القوم.

قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ .

أقلام جمع قلم، و مادة (قلم) تأتي بمعنى القطع في أي هيئة استعملت، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مفردة و جمعا، قال تعالى: ن وَ اَلْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ [سورة القلم، الآية: 1]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [سورة لقمان، الآية: 27]، و يسمّى القدح قلما لأنه مقطوع في الجملة أيضا، و قيل: لا يقال للقلم قلما إلا بعد البري؛ و يسمّى قبله قصبة و يراعة.

و ما روي أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان يأخذ الوحي عن جبرائيل، و جبرائيل عن ميكائيل و ميكائيل عن إسرائيل و إسرافيل عن اللوح المحفوظ و اللوح عن القلم»، فهي إشارة إلى معنى إلهي سيأتي تفسيره في موضعه إن شاء اللّه تعالى.

و إلقاء الأقلام نوع من القرعة التي قرّرتها الشريعة المقدّسة الإسلامية،

فقد ورد فيها: «القرعة لكل أمر مشكل»، أو «كلّ أمر مشكل ففيه القرعة»، و هي تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، فتشمل كلّما يسمّى قرعة كيف كانت، و يأتي في قوله تعالى: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ اَلْمُدْحَضِينَ [سورة الصافات، الآية: 141] بعض الكلام.

ص: 284

و معنى يلقون أقلامهم، أي: أن سدنة الهيكل كانوا يتسابقون في كفالتها، فيلقون أقلامهم و يرمونها و يضربون بها لأخذ النتيجة. و الآية المباركة تدلّ على أن القرعة لها دخل في تمييز الحقوق و تعيينها في الواقع.

قوله تعالى: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ .

أي: أن النتيجة التي أرادوها من ضرب الأقلام هي تعيين من يكفل مريم، و الجملة تدلّ على أن التكفّل و الحنان للوليد كانا في مورد السباق من أوّل ولادة مريم.

قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ .

أي: و ما كنت شاهدا نزاعهم و تنافسهم على كفالة مريم حين تراضوا بالقرعة، و ضرب السهام فخرجت باسم زكريا و كانت من نصيبه. و الظاهر أن هذا الاختصام و النزاع كان لكفالة مريم من ابتداء الأمر و حين ولادتها.

و قيل: ان هذا الاختصام و النزاع كان بعد كبر مريم عليها السّلام و عجز زكريا عن كفالتها، لأن هذه الجملة ذكرت بعد تعيين الكفيل بالقرعة و تمام قصتها، فتكونان واقعتين مستقلتين.

و لكن ظاهر الآية الشريفة يدفع ذلك، و لا يضرّ إعادة بعض خصوصيات القصة بعد تمامها، لفائدة خاصة و هي التثبيت، و نظير ذلك ما ورد في قصة يوسف عليه السّلام، فإنه بعد سرد القصة قال تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ [سورة يوسف، الآية: 102].

و يستفاد من الآية الشريفة جواز الاختصام في المسارعة إلى الخير، و المتيقّن منه ما إذا كان ذلك بمجرّد القول و الاحتجاج من دون أن تطرأ عناوين جانبيّة اخرى، كالهتك و التوهين و الإيذاء مثلا.

و في تكرار: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ للدلالة على أن كلّ واحد من الموردين له الاستقلال في الدلالة على صدق قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و صحة نبوّته، مع أنه رجل امي لا يعلم هو و قومه من أخبارهم شيئا، و عدم ذكرهما في الكتب المتداولة في أهل

ص: 285

الكتاب، و فيها الدلالة على أن ذلك وحي من اللّه تعالى.

و إطلاق النفي يشمل نفي الحضور الجسماني و الروحاني، و منه يظهر ضعف ما ذكره بعض من أن الأرواح خلقت قبل الأجساد، و أنها كانت عالمة بكلّ شيء قبل التعلّق بالأجساد، فلما تعلّقت بها سلبت عنها علومها و انحصرت معرفتها بما يستفيده الإنسان بالجهد، و يستندون في ذلك إلى بعض الأحاديث، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه، و نظير المقام قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ اَلطُّورِ [سورة القصص، الآية: 46]، و قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ مِنَ اَلشّاهِدِينَ [سورة القصص، الآية: 44]، و الجميع يدلّ على انحصار علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالأمور الغيبيّة بالوحي السماوي فقط.

و الآية الشريفة تدلّ أيضا على كمال العناية بشأن مريم و الاهتمام بها و كرامتها على اللّه تعالى و عظم منزلتها عند سدنة بيت المقدس، و لعلّ السرّ في ذلك أنهم عرفوا بوجه من الوجوه أن لها شأنا من الشأن و تكون منشأ لحادثة عظيمة، و هي الولادة من غير أب.

و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قداسة ام المسيح و تبطل الشبهات التي لم تتورّع اليهود أن يلصقوها بمريم، كما أنها تدلّ على إبطال مزاعم النصارى في مريم، ببيان كاف و شرح واف تقبله العقول السليمة و الأذهان المستقيمة، و إخراجها عن حدّ الإفراط و الغلو و منحها أرفع المقامات، و هو مقام التقوى و الخضوع لربّ العالمين و العبوديّة للّه تعالى.

و من عجيب الأمر أن امراة عمران نذرت ما في بطنها محرّرا بخلوص، و حزنت عند ما وضعت المولود أنثى، لاحتياجها إلى رعاية الام أكثر من غيرها، و لكن اللّه تعالى تقبّلها و جعل قلوب سدنة بيت المقدس تهوى إليها، فتشاجر القوم و تنازعوا في كفالتها و حضانتها و حفظها و حراستها، و لا بد من الاعتبار و التوكّل عليه تعالى، و جعل هذه القصة نصب الأعين، فكلّ من أخلص في عمله للّه تعالى يراعي اللّه عزّ و جلّ شأنه و يوكل قوما من عباده لحفظه و رعايته، أنه على كلّ شيء قدير.

ص: 286

قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ .

شروع في قصة عيسى عليه السّلام، و بشارة عظيمة من الرحمن لابنة عمران و تبجيل لها، و إعلان لجلالة مقام المسيح و رفعة مكانه، و (إذ) بدل من نظيرتها السابقة، أو عطف بيان، و ترك العطف لاتحاد المخاطب فيهما، و للإشارة إلى تقارب الزمانين، بحيث يمكن اعتبارهما حينا واحدا و في قصة واحدة، و الظاهر أن البشارة كانت في كبر مريم عليها السّلام.

و المراد بالملائكة جنسها، فلا ينافي أن يكون واحدا، و هو في المقام جبرائيل عليه السّلام الذي تمثّل لها بشرا، سويّا، كما قال تعالى في موضع آخر: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا * قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا [سورة مريم، الآية: 17-19]، و يمكن أن تكون البشارة من جبرائيل و جنوده من الأملاك إجلالا و اهتماما بالموضوع، و الكلّ رسل من اللّه تعالى، و لذا ينسب تارة إلى نفسه و اخرى إلى الملائكة.

قوله تعالى: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ .

مادة (كلم) تأتي بمعنى الظهور و البروز، و هذا هو الجامع بين جميع استعمالاتها، و على هذا تكون جميع الموجودات كلمات اللّه تعالى، لأنها مظاهر قدرته و مبرزات مشيئته، كما أن أنبياء اللّه تعالى و أولياءه كلمات اللّه تعالى، لأنهم مظاهر أخلاقه، و تشريعاته، و كما أن بين الكلمات الهجائيّة فرقا واضحا بين أفرادها، كذلك يكون بين كلمات اللّه تعالى التشريعيّة و التكوينيّة.

و الكلمة و الكلم كالتمرة و التمر جنس و مفرد، و تطلق الكلمة في العلوم الأدبية على اللفظ الدال على المعنى و على الجملة، سواء كانت تامّة يصحّ السكوت عليها، أم ناقصة لا يصحّ.

و إنما أتى الضمير في (اسمه) مذكّرا باعتبار المعنى.

و المسيح معرب، و أصله (مشيح) بالعبرانيّة، كما في كتب العهدين، و هو لقب

ص: 287

عيسى بن مريم، و قد وقع في ضمن البشارة كما هو ظاهر الآية الشريفة، فيكون مباركا، قال تعالى حكاية عنه: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ ، و يصحّ أن يقع اسما له توسعا، فيقال اسمه المسيح عيسى ابن مريم.

و كيف كان، فقد ذكر القوم في وجه تسمية عيسى بن مريم بهذا الاسم أو اللقب.

و منها: أنه مسح بالتطهير من الذنوب.

و منها: أنه مسح بدهن زيت بورك فيه، و كان الأنبياء يمسحون به.

و منها: أنه كان يمسح رؤوس اليتامى.

و منها: أنه كان يمسح عين الأعمى بيده فيبصر، و ذا عاهة فيبرأ.

و منها: أن جبرائيل مسحه بجناحه حين ولادته ليكون عوذة من الشيطان.

و منها: أن كتب العهدين كانت تبشّر بني إسرائيل بظهور ملك عليهم ينجيهم، فسمّي مشيحا بذلك، و قد تعلل اليهود عن قبول نبوّته بأنه لم ينل الملك أيام دعوته و لم تتحقق البشارة في حياته، و وجه بعض النصارى و المسلمين بأن المراد الملك المعنوي، دون الظاهري الصوري.

و لكن شيئا ممّا ذكروه لم يقم عليه دليل، بل هو تطويل بلا طائل تحته، و الذي يظهر من الآية الشريفة أن هذا اللقب أو التسمية إنما هي من اللّه تعالى من حين ولادته، و أنه يلازم البركة و الخير اللذين عرف بهما عيسى بن مريم، و لعلّ السرّ في ذلك كلّه هو نبذ العادة التي كانت متّبعة عند الإسرائيليين في الزعيم الروحاني عند ما يمنحه للزعامة الروحانيّة من هو قبله، حتى صار لقبا للزعيم الروحاني و أصبح و ساما للزعامة الروحانيّة، كالتويج للملك، فالآية المباركة ترشد إلى الإعراض عن هذه العادة، و أن المسيح الذي يكون مباركا هو عيسى ابن مريم الذي سماّه اللّه تعالى به لا غيره.

و قد وقع الخلاف بين المفسّرين في المراد من الكلمة، فقيل: إنّ المراد منها هو المسيح باعتبار أنه تكون في رحم امه من غير فحل، بل بكلمة (كن)، أي بتوجّه

ص: 288

الإرادة الخلاّقة إلى إيجاده بدون أسباب و معدّات ظاهريّة، و إلا فإن جميع أفراد الإنسان يوجدون بكلمة اللّه تعالى و إرادته التكوينيّة، و لكنهم يوجدون بالأسباب العاديّة، بخلاف عيسى فإنه وجد من دون تلك الأسباب العادية، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء، الآية: 171]، و قوله تعالى في آخر هذه الآيات: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ . و هذا الوجه هو الصحيح و تؤيّده ظواهر الآيات الشريفة و بعض الأحاديث.

و قيل: إنّ المراد منها المسيح عليه السّلام باعتبار أن الأنبياء السابقين بشّروا به بعنوان أنه هو الذي ينجي بني إسرائيل، فيكون نظير قوله تعالى في ظهور موسى عليه السّلام: وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، و أيّد ذلك بما ورد في كتب العهدين في شأن المسيح عيسى بن مريم.

و يردّ عليه: أن ظاهر القرآن الكريم أن المسيح اسم للكلمة التي أوجدها تعالى، لا أن يكون اسما للكلمة التي تقدّمت البشارة بها، مضافا إلى أن ظاهر قوله تعالى في المقام بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ أن عيسى ابن مريم هو بنفسه وقع مورد البشارة، لا أن يكون مبشّرا به.

و قيل: إنّ المراد بالكلمة نفس البشارة، و الأخبار بحمل مريم بعيسى عليه السّلام و ولادته منها، أي: و يبشّرك ببشارة هي ولادة عيسى من غير أب.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

و قيل: أن المراد بها عيسى باعتبار كونه موضحا لمراد اللّه تعالى في التوراة، و مبيّنا لتحريفات اليهود و ما اختلفوا فيه، كما حكى عنه عزّ و جلّ: وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ [سورة الزخرف، الآية: 63].

و فيه: أنه لا يلائم ظاهر الآية الشريفة.

ص: 289

قوله تعالى: عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ .

عيسى معرّب يسوع بالعبرانيّة، و في كتب العهدين: «ايشوع»، و معناه السيد.

و ذكر بعض المفسّرين أن تفسيره بيعيش هو الأنسب من جهة تسمية ابن زكريا بيحيى، لما بين هذين النبيين من المشابهة التامّة، و هو وجه حسن، لكن إثبات المشابهة التامّة حتى من هذه الجهة مشكل، لأنه إذا ورد في القرآن الكريم وصف لنبيّ من الأنبياء، فإن استفيد من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة اختصاص ذلك النبيّ بذلك الوصف فهو، و إلا فيجري في جميع الأنبياء، فما اختصّ به عيسى بن مريم هو لقب المسيح و بعض الخصوصيات، لا تجري في غيره، و إن كان يحيى الذي بينه و بين عيسى المشابهة الكبيرة، و الأنبياء يتشابهون في أغلب الصفات و العلامات، و لكن لا يلزم من ذلك التشابه التام.

و إنما نسب سبحانه و تعالى عيسى إلى امه مريم، للتنبيه على أنه مخلوق من غير أب، و ردّا على من يسميه ابن اللّه، و للإعلام بأنه و امه شريكان في كونهما آية اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ: وَ جَعَلْناها وَ اِبْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 91].

قوله تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

الوجيه ذو الجاه و الكرامة و الشرف، و الوجاهة: هي المقبوليّة، أما وجاهته في الدنيا فلما له من المكانة الرفيعة و الشرف العظيم و الرفعة المعنويّة الروحانيّة، التي طالما جعلت الملوك نير المذلة في أعناقهم أمام عظمته و سؤدده، و أما وجاهته في الآخرة، فلها شأن لا يعلمه إلا اللّه تعالى، و قد أطلق سبحانه و تعالى له هذا الوصف في الدنيا و الآخرة و لم يقيّده بجهة خاصة، ليشمل الجميع و يذهب ذهن السامع كلّ مذهب أمكن.

و الظاهر أن الوجاهة في الدنيا و الآخرة لا تختصّ بعيسى عليه السّلام، فإن جميع الأنبياء لهم هذه الوجاهة.

نعم، تختلف باختلاف الجهات الخارجيّة، و الآية الكريمة ليست في مقام بيان ذلك.

ص: 290

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ .

المقرّبون هم الّذين استقاموا على الطريقة و أصابوا الحقّ و الحقيقة، و مشوا على بساط القرب بإقدام حافية عن جميع الأوهام، و تخلّوا عن تمام الجهات الإمكانية، و طرحوا جميع إضافاتهم النفسانيّة، و لا يشاءون إلا ما شاء اللّه تعالى، فأدركوا لذّة البقاء باللّه تعالى في الفناء في مرضاة اللّه، طينتهم حبّ الواحد الأحد، و صورتهم الشوارق النازلة من اللّه الصمد، فقد وردوا الساحة الربوبيّة بهممهم العالية، و تصرّفوا في نظام التكوين بإذن من الحي القيوم الحكيم، و قد وصف اللّه تعالى الأنبياء بهذا الوصف لأنهم سبقوا سائر أفراد الإنسان إلى هذه الحقيقة، كما يظهر من قوله تعالى في شأن المتقرّب إليه: وَ اَلسّابِقُونَ اَلسّابِقُونَ * أُولئِكَ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة الواقعة، الآية: 11].

و المراد القرب إلى اللّه تعالى الذي هو غاية سعي الإنسان و التقرّب إلى المعبود، و لذا يكون قرين المعبوديّة للّه تعالى؛ و القرب إما أن يحصل من فعل الفاعل المختار، كتقرّب الأنبياء و الأولياء، و إما أن يكون من مجرّد العطية المحضة و المنحة الإلهيّة، لمن يشاء، كقرب بعض الملائكة، و قد جمعهما اللّه تعالى في قوله عزّ و جلّ:

لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ [سورة النساء، الآية: 172].

ثم إنّ كلّ وجيه في الدنيا و الآخرة هو مقرّب عند اللّه تعالى، و كذا بالعكس إن لوحظ ذلك من حيث الوصف بحال الذات، و أما إذا لوحظ من حيث الوصف بحال المتعلّق، أي اعتقاد الناس، فالأمر ليس كذلك، فكم من مقرّب عند اللّه تعالى لا يعرفه أحد. و لكن المستفاد من سياق الآية الشريفة هو المعنى الأوّل، فيكون العطف تفسيريّا.

قوله تعالى: وَ يُكَلِّمُ اَلنّاسَ فِي اَلْمَهْدِ وَ كَهْلاً .

مادة (مهد) تأتي بمعنى البساط و الفراش و الراحة، و يسمّى مضجع الطفل أو الموضع الذي يهيأ له مهدا لكونه محل ذلك كلّه للطفل، كما تسمّى الأرض مهادا

ص: 291

لذلك أيضا بالنسبة إلى الإنسان و الحيوان، و مهّدت الأمر هيأته و وطئته، قال تعالى: فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ [سورة الروم، الآية: 44].

و الكهولة: اسم لما بين الشباب و الشيخوخة، و الشاب من تجاوز البلوغ إلى ثلاثين سنة، و الشيخ من جاوز الأربعين، و فيه يكون الإنسان رجلا كاملا سويّا، و قد سمّى العلماء كلّ سني العمر باسم خاص، كما يأتي في البحث الأدبي.

و المعنى: يكلّم الناس و يدعوهم إلى التوحيد من حين ولادته إلى حين كهولته و رفعه إلى السماء، و قد حكى اللّه تعالى في موضع آخر تكلّمه حين ولادته، و قال عزّ و جلّ: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا * وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 30-33].

و في الآية المباركة بشارة إلى مريم بأنه يعيش إلى زمان الكهولة، فيكون رجلا كاملا قويّا سويّا، و فيها إشارة إلى أنه لا يبلغ سن الشيخوخة.

و قد ذكر سبحانه و تعالى طرفي عمره لما وقع فيهما الآيتان، التكلّم ساعة ولادته - في المهد و هو صبي لم يبلغ سن الكلام - كلاما يعتني به العقلاء كما يعتنون بكلام الرجال، و آية رفعه إلى السماء حين بلوغه سن الكهولة كما يأتي بعد ذلك.

و المعروف أنه عليه السّلام أرسل إلى الناس و هو ابن ثلاثين سنة، و رفع إلى السماء بعد ثلاث سنين، و هذا ما تدلّ عليه الأناجيل المعروفة، و لكن ذكر جمهور المفسّرين أن تكليمه الناس إنما هو بعد نزوله من السماء، فإنه لم يمكث في الأرض ما يبلغ به سن الكهولة.

و الصحيح ما ذكرناه من أن الآية الشريفة في مقام بيان أن الزمانين مورد حدوث الآية فيهما، و النصارى تزعم مزاعم في حياة هذا الرجل العظيم، و الآية الشريفة تنفي تلك بأسلوب جذاب.

ص: 292

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلصّالِحِينَ .

أي: معدود منهم الّذين تعرفهم مريم و تعلم سيرتهم. و مادة (صلح) تستعمل في المطابقة مع الواقع المطلوب من الشيء، فصلاح الإنسان مطابقة أعماله الجوانحيّة و الجوارحيّة مع مرضاة اللّه تعالى.

و قد وقع هذا التوصيف لجمع من أنبياء اللّه تعالى، منهم إبراهيم عليه السّلام، قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي اَلْآخِرَةِ لَمِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة النحل، الآية: 122]، و إسحاق و يعقوب، قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 72]، و يحيى عليه السّلام، قال تعالى: وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة آل عمران، الآية: 39]، و قال تعالى في شأن جمع من الأنبياء وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنعام، الآية: 85]، و لوط، قال تعالى: وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 75]، و إسماعيل و إدريس و ذو الكفل، قال تعالى في شأنهم: كُلٌّ مِنَ اَلصّابِرِينَ * وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة الأنبياء، الآية:

86]، و في طلب سليمان الذي استجابه اللّه تعالى قال جلّ شأنه حكاية عنه:

وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ اَلصّالِحِينَ [سورة النمل، الآية: 19]، و يونس صاحب الحوت، قال تعالى في شأنه: فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة القلم، الآية: 50].

و الآيات الشريفة ليست في مقام الحصر.

أوّلا: لما ثبت في محلّه من أنه لا مفهوم للوصف.

و ثانيا: أن كلمة (من) في بعضها تدلّ على عموميّة الصفة من الموصوف.

و ثالثا: الأدلّة العقليّة و النقليّة الدالّة على أن أهل التقوى مطلقا و لو لم يكونوا من الأنبياء هم من الصالحين.

و الصلاح و التقوى مع تحقّق الشرائط من أهم أسباب القرب إلى اللّه جلّ جلاله، و بهما يكون العبد من المقرّبين و يفوز بسعادة الدارين، و الصلاح آخر

ص: 293

مقامات الأولياء، و هو الارتباط الكامل بين العبد و المعبود و يتحقّق بامتثال الأوامر و اجتناب المناهي سرّا و علنا، بحيث ترتفع الاثنينيّة بين الباطن و الظاهر، و هو الإنسانيّة الكاملة التي دعا إليها القرآن الكريم و رغّب إليها غاية الترغيب، و فيه تجتمع سعادة الدارين و للصالحين درجات نورانيّة و مقامات روحانيّة لا حدّ لها، و لا يمكن درك هذه المنزلة العظيمة و لا تحديدها بكلام. و لمثل ذلك فليعمل العاملون و في ذلك فليتنافس المتنافسون.

قوله تعالى: قالَتْ رَبِّ أَنّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ .

سؤال عن كيفيّة وقوع البشارة على خلاف مجاري الطبيعة، و قد جرت عادة اللّه سبحانه و تعالى و سنّته على أن يجري الأمور عليها ما دامت في دار الأسباب و المسبّبات، و لكن إرادة اللّه تعالى فوق الطبيعة، و هي مسخّرة تحت القدرة التامّة الكاملة، إذا قال لشيء: كن، فيكون. و هذا هو السبب الأصيل و الأوّل للإيجاد مطلقا، و أما جريان الأمور على وفق الطبيعة من إحدى الطرق للإيجاد ربما يصل إلى المطلوب، و ربما يتخلّف عنه، لفرض أن التأثير تحت إرادة القادر الحكيم، و لا يمكن التخلّف فيها.

و السؤال منها إنما هو في أن الولادة هل تكون وفق مجاري الطبيعة، و هو التزويج و الولادة من أب، و حينئذ من هو الزوج؟ أم بغير ذلك الذي هو أمر غريب عجيب لا يصدر إلا من إرادة قاهرة له القدرة الكاملة، و هي لا تنكر ذلك و تعلم أن اللّه تعالى يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد، فيكون السؤال استفسارا عن الواقع و الحقيقة.

و المس و المسيس كناية ظاهرة عن الوطي. و البشر يطلق على الواحد و الجمع، و التنكير للعموم، و الجملة تفيد عموم النفي لا نفي العموم.

و الخطاب مع الربّ لإظهار غاية التذلّل و الخضوع من أن المتكلّم معها هي الملائكة، كما عرفت سابقا، و هي تعلم أنها تخاطبها عن اللّه تعالى و كلامهم كلامه عزّ و جلّ.

ص: 294

قوله تعالى: قالَ كَذلِكِ اَللّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ .

أي: أن اللّه تعالى قضى أن يفعل كذلك و يرزقك المولود خلاف العادة المقدّرة، و هو أمر محتوم لا يقبل التغيير و التبديل، لا يعجزه شيء. و بهذا الكلام تحقّق المقصود و رفع التردد و التعجّب الحاصلين لمريم عليها السّلام.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى في المقام بالخلق، و في قصة زكريا بالفعل، لأن المقام على خلاف العادة و لا ينطبق على الأسباب المعروفة، لذا عبّر عزّ و جلّ بالخلق، و هو الإبداع و الإيجاد، فهو يشبه الأمور المبتدأة، و مثل هذا التعبير شائع في خلق الأمور بغير الأسباب العادية، قال تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما [سورة السجدة، الآية: 4]، بخلاف قصة زكريا، فإن إيجاد يحيى كان من الزوجين، كما في سائر الناس، و لكن فيه الآية لهما بخلاف غيره كما عرفت، و لذا عبّر عنه بالفعل.

قوله تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

أي: إذا أراد شيئا لا مرد له، فإنما يقول له: (كن فيكون) من دون تخلّف بين الإرادة و المراد، و قد تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة البقرة، الآية: 117]، و قلنا إنّ الجملة تدلّ على كمال قدرته و نفوذ مشيئته، كما أنها تدلّ على سرعة نفوذ إرادته، و عدم وجود أي صعوبة و عسر في تنفيذها.

ثم إنّ هذه الجملة المباركة: وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ مذكورة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و في بعضها: إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس، الآية: 82]، و هي كناية عن كمال الإحاطة و القدرة التامّة من دون احتياج إلى سبب آخر غير قضائه تعالى و إرادته، و أنه لا يعجزه شيء، و لا ينافي ذلك توقّف نظام التكوين على قانون الأسباب و المسبّبات ثم انتهاؤها إلى القدرة الأزليّة، لأن مقتضياتها إما أن تكون جارية على الأسباب و المسبّبات و هو الغالب، و إما أن تكون جارية بمجرّد القضاء الحتمي و على خلاف

ص: 295

العادة و قانون الأسباب، نظير الأفعال الصادرة عن النفس الإنسانيّة، فإنها تارة تتوقّف على تهيئة أسباب خاصة، و اخرى لا تكون كذلك، كتصور الصور الذهنيّة.

و اختلاف التعبير في الآيات الشريفة يرجع إلى شيء واحد، و الجميع من أسباب الفعل و بيان القدرة الكاملة.

و في المقام إنما نفى سبحانه و تعالى السبب الظاهري دون السبب الواقعي كما أنه لم ينف السبب رأسا، فتكون مجاري قضائه و أسباب الطبيعة مسخّرة تحت إرادته و إن لم تكونا متّحدتين من كلّ جهة، و لم تفارق إحداهما الاخرى.

و الآية تدلّ على أن خلق عيسى عليه السّلام كان إبداعيا من غير توسّط سبب ظاهري، و لذا كان على خلاف العادة، و لكن كلّ حادث محتاج إلى علّة توجده، بلا فرق بين أن يكون من العلويّات أو السفليّات أو المعجزات و خوارق العادات، لأن الموجود إما واجب بالذات، أو واجب بالغير، و لا ثالث في البين، و الثاني ممكن محتاج إلى العلّة لا محالة و إلا لزم الخلف المحال. فجميع المعجزات و خوارق العادات لها أسباب لكنها خفيّة عن عقولنا و إدراكاتنا، و ليس لأحد أن يحكم بأن كلّما لا يدرك فهو غير واقع، و هذا ممّا يختل به النظام و يبطل به الانتظام، فيكون حمل مريم العذراء بكلمة اللّه عيسى بن مريم لا يعقل أن يكون بغير سبب واقعي، بل عن بعض أكابر الفلاسفة إثبات أن له سبّبا ظاهريّا أيضا، و هو أن المرأة قد تصل من كمالها إلى حدّ تتحقّق فيها صفة العاقديّة، مضافا إلى صفة الانعقاديّة، فإذا حصلت مواجهة بين هذه المرأة و شاب جميل تنعقد النطفة من دون وقوع أي اتصال جسمي و تماس خارجي بينهما، فإن الذي يقدر على أن يرسل الرياح لواقح لقادر على أن يجعل الهواء المجاور في بعض الموارد لقاحا أيضا، إظهارا لتسخير الأشياء تحت إرادته و قدرته، و ما ذكره صحيح في الجملة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه.

و كيف كان، فإن حمل مريم لعيسى لم يكن من دون سبب واقعي، و هذا هو ظاهر قوله تعالى: فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم،

ص: 296

الآية: 17]، و يشبه خلق عيسى خلق آدم عليه السّلام، فإنه وجد من نفخ اللّه تعالى فيه، و سيأتي تفصيل الكلام في سورة مريم إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ اَلتَّوْراةَ وَ اَلْإِنْجِيلَ .

عطف على (وجيها) كبقية الأحوال التي وردت لبيان المقامات المعنويّة و الكمالات الحقيقيّة لعيسى بن مريم عليه السّلام. و الكتاب يمكن أن يكون من قبيل ذكر العام قبل الخاص، و المجمل قبل المفصّل، إعلاما بشأن الكتاب و تثبيتا لدرجته، و بيان أهمية الخاص. و يمكن أن يكون المراد به كلّيات أسرار القضاء و القدر الثابتة في العلم الأزلي مع إحاطته عزّ و جلّ بتمام الجزئيات إحاطة واقعيّة حقيقيّة.

و تقدّم معنى الحكمة، و ذكرنا أن المراد بها الحقائق التي تكون نافعة للإنسان اعتقادا و عملا و لها دخل في سعادته في الدارين.

و التوراة هي الكتاب الذي نزل على موسى بن عمران عليه السّلام في الميقات، و هي تتضمّن التشريعات التي شرّعها اللّه تعالى لموسى عليه السّلام.

و الإنجيل هو الكتاب المنزل على عيسى بن مريم، و معناه في اليونانيّة القديمة التعليم، و قيل معناه البشارة. و إنما ذكر عزّ و جلّ الإنجيل لأنه كان موعودا به عند الأنبياء و معلوما لديهم.

و أما الأناجيل الأربعة المعروفة عند النصارى، فقد كتبت بعد المسيح بعدّة قرون، و أما التوراة فقد تناولتها يد التحريف، كما تدلّ عليه آيات كثيرة من القرآن الكريم، و إن كان يصدقها في بعض الأحكام.

و يختلف التوراة عن الإنجيل في أن الاولى تشتمل على الأحكام الإلهيّة و الإنجيل يتضمّن على النواسخ و بعض الأحكام الإثباتية، قال تعالى: وَ لَمّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ [سورة الزخرف، الآية: 63]، و قال تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ * وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ [سورة المائدة، الآية: 46-47]، و قد تقدّم في أوّل هذه السورة بعض الكلام فيهما.

ص: 297

قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

مفعول مطلق لفعل مقدّر، أي: أرسله اللّه، أو منصوب بفعل مضمر تقديره و نجعله رسولا، أو معطوف على الأحوال السابقة.

و الرسول صفة و هي هنا بمعنى مفعل، و الرسالة هي السفارة الإلهيّة إلى البشر لإيصالهم إلى الكمال المنشود و الحكم بينهم بالحقّ و القضاء بالقسط. و يمكن أن يكون اختصاص بني إسرائيل بالذكر باعتبار كون ابتداء الرسالة و الدعوة فيهم، أو باعتبار أنهم أقرب الناس إليه، فيكون نظير قوله تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ اَلْأَقْرَبِينَ [سورة الشعراء، الآية: 214]، و إلا فإن عيسى من أولي العزم، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة، و تقدّم الكلام في قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً [سورة البقرة، الآية: 213]، هذا بناء على اتحاد معنى النبوّة و الرسالة و الفرق بينهما بالاعتبار.

و أما إذا قلنا إن الرسول مطلقا أخصّ من النبيّ، فالأمر أوضح، فهو من أنبياء اولي العزم مع هذه الصفة الخاصة له، أي الرسالة الإلهيّة.

و اختلف في زمان رسالته، و المشهور أنه ثلاث و ثلاثين سنة.

قوله تعالى: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

تثبيت لرسالته بالحجّة و البرهان، و الجملة معمولة قوله تعالى: وَ رَسُولاً لما فيها معنى النطق، أي حال كونه ناطقا حجّتي عليكم أني قد جئتكم بآية من ربّكم.

و المعنى: يرسله رسولا حال كونه ناطقا، أني قد أتيتكم بعلامات واضحات تدلّ على صدق دعواي، و قد فسّرت هذه العلامات بما يأتي.

و التنوين في الآية المباركة للتفخيم، و المراد بها نوع الآية، فلا يضرّ تعداد ذكر الآيات بعد ذلك.

و ذكر الربّ و إضافته إلى المخاطبين لإيجاب الامتثال و تأكيده عليهم، أي لأنه ربّكم يراعي مصالحكم و يسوقكم إلى الكمال بإرسال الرسل و بعث الأنبياء.

ص: 298

قوله تعالى: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ .

الجملة بدل من الآية، أو خبر عن مبتدأ محذوف تقديره: هو أني أخلق لكم.

و الخلق، هو الإيجاد، سواء كان بلا سبق مادة أصلا، كخلق الأرواح، أم مع سبق المادة، كخلق عيسى عليه السّلام الطير، و يختصّ الأوّل باللّه تعالى، و ليس في غيره عزّ و جلّ خلق بلا مادة إلا في الصور الذهنيّة غير المسبوقة بشبه أو نظير، و نظام هذا العالم يدور على تبدّل الصور من المواد المختلفة التي لا يمكن استقصاء جهاتها و خصوصياتها و الإحاطة بها إلا للّه تعالى.

و في المقام المراد من الخلق هو التصوير و جمع الأجزاء، أي: أصور لكم من الطين ما يكون مثل الطير و هيئته.

و الهيئة: الشكل و الصورة، قيل: هي مصدر بمعنى المهيّأ، كالخلق بمعنى المخلوق.

و قيل: إنها اسم الحال، و الهيئة و الوصف عرضان.

إلا أن الأوّل يقال باعتبار حصولها، و العرض يقال باعتبار عروضه، و الوصف باعتبار لحاظ الذهن، بخلاف الهيئة فإنها تستعمل باعتبار الخارج.

و لم يبيّن سبحانه عزّ و جلّ اسم هذا المخلوق، و قد ذكر المفسّرون أسماء له، و نحن في غنى عن تلك، لصراحة الآية الشريفة في صدور هذه المعجزة عن عيسى عليه السّلام و وقوعها في الخارج و دلالتها على صدق دعواه، و أنه حاجّهم بذلك، فلا فرق بين تسميته بأي اسم.

قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اَللّهِ .

الضمير يرجع إلى الطين المهيّأ الذي يكون شبيه الطير.

و الآية تبيّن سرّ الإعجاز، لأن تصوير الطين طيرا مقدور لكلّ أحد، و ليس في ذلك آية، و لكن جعله طيرا حقيقيّا ليس مقدورا لأحد إلا للّه تعالى أو بإذن منه، و قد صدرت هذه الآية من عيسى عليه السّلام لتثبيت رسالته، لكنّها مستندة إلى اللّه تعالى فلا استقلال له في ذلك، كما هو شأن كلّ معجزة.

ص: 299

و في صدور هذه الآية من عيسى عليه السّلام مناسبة لأصل خلقه عليه السّلام، فإنه خلق من نفخ جبرائيل، و الطير خلق من نفخه، و هو بمنزلة الروح، و كلّ منهما كان بإذن اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ .

الأكمه من الكمه و هو العمى مطلقا، سواء ولد كذلك أم عرض عليه بعد ذلك، و قيل: إن الأكمه هو الذي يولد مطموس العين.

و الأبرص هو الذي به داء البرص، و هو مرض جلدي معروف تظهر فيه لمع بياض، و لذا يقال للقمر أبرص لبياضه، و منه: «بت لا يؤنسني إلا الأبرص»، أي القمر.

و إنما خصّهما تعالى بالذكر لأنهما داءان معضلان، أعيى الأطباء علاجهما و لم يتوصّلوا لحدّ الآن في إبرائهما و زوالهما مع تقدّم الطب و حذاقة الأطباء و كثرة جهودهم الكبيرة المتواصلة على علاجهما، أو لأن هذين المرضين معروفان يشاهدهما كلّ أحد، فإذا برئ المريض بدعاء المسيح و بركته، لا يسع لأحد إنكاره، فيكون أتمّ في الاحتجاج.

و قد نسب الإبراء إلى عيسى عليه السّلام، لأنه المباشر في ذلك بدعائه و بركته.

و السبب في ظهور المعجزة على يديه، و إن كان الجميع يستند إلى اللّه تعالى، كما يدلّ قوله جلّ شأنه بِإِذْنِ اَللّهِ ، المذكور في الآية الشريفة، و إنما لم يذكره سبحانه بعد هذه المعجزة لأن الاعتقاد بهما سهل المؤنة يحصل بمجرّد إخباره بأنه معجزة و أنه آية من اللّه تعالى، لا سيما إذا كان الخطاب مع قوم يدّعون الإيمان باللّه تعالى، مع أن ما ذكره في ما بعد: وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى ، صالح لأن يرجع إلى الثلاثة كلّها.

قوله تعالى: وَ أُحْيِ اَلْمَوْتى بِإِذْنِ اَللّهِ .

إحياء الموتى من المعجزات الباهرات و خارق عظيم، و قد أكّد سبحانه في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم أن اللّه تعالى هو الذي يقدر على إحياء الموتى، و أن غيره عاجز عنه، قال تعالى: إِنّا نَحْنُ نُحْيِ اَلْمَوْتى [سورة يس، الآية: 12]،

ص: 300

و قال تعالى: وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ [سورة آل عمران، الآية: 156]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و لذا خص سبحانه هذه الآية بكونها بإذن اللّه تعالى و فعله عزّ و جلّ، دفعا لتوهّم الالوهية في فاعلها.

و يستفاد من جمع (الموتى)، تعدّد صدور هذه المعجزة و كثرتها. و إنما كرّر سبحانه بِإِذْنِ اَللّهِ ، لبيان أن هذه المعجزات التي صدرت عن عيسى عليه السّلام مستندة إلى اللّه تعالى، و دفعا لتوهّم الغلو فيه، باعتبار أن فاعلها ليس من جنس البشر.

و يستفاد من هذا التعبير عدم استقلال عيسى عليه السّلام في شيء من ذلك، و أكّد سبحانه و تعالى ذلك بحكايته عزّ و جلّ عن قوله في آخر هذه الآيات: إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، فلا مجال لإضلال الناس فيه.

قوله تعالى: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ .

آية اخرى فيها الأخبار بالمغيبات التي يختصّ علمها باللّه تعالى، أو من علّمه عزّ و جلّ، و ظهور الآية فيه واضح، لأن الإنسان قد يهيء لنفسه أمورا لا يطلع عليها غيره، فإذا اخبر بها أحد غيره من دون وساطة و سبب ظاهري لا يشك في أنه إخبار بغيب مكنون، و إنّ المخبر بها على اتصال بعالم الغيب.

و إنما خصّ ما يأكله الإنسان و ما يدّخره باعتبار كونهما مألوفين عنده، و أنهما يأخذان نصيبا وافرا من حياته، و في الإخبار بهما و إظهار هما للعيان لا يسع لأحد إنكاره.

قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

أي: أن تلك الخوارق و المعجزات كافية في الهداية و الرشاد، كما أنها داعية بدلالتها الواضحة القاطعة إلى الإيمان برسالتي و صدقي فيها إن كنتم صادقين في دعواكم الإيمان باللّه تعالى، فإنه عليه السّلام بعث إلى قوم يدّعون أنهم مؤمنون.

و الإيمان باللّه تعالى يدعو إلى الإذعان بأنه عزّ و جلّ يرسل الرسل لتكميل النفوس و هداية العباد و إرشادهم إلى الصلاح، و لا يعقل أن تظهر المعجزة على يد

ص: 301

الكاذب، فهو يدعو إلى الاعتقاد بأن هذه المعجزات صدرت على يد نبيّ صادق في نبوّته، فلا تكونوا ممّن استحوذ عليهم الشيطان، و علم بالحقّ و أنكره، كما قال تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ [سورة النمل، الآية: 14].

قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

الجملة حالية، و هي معطوفة على قوله تعالى: بِآيَةٍ ، أي: جئتكم حال كوني مصدّقا.

و المراد بقوله: لِما بَيْنَ يَدَيَّ ، أي ما تقدّمني من التوراة، و اللام فيها للعهد، أي التوراة المعهودة بين الأنبياء، لا التوراة الموجودة في زمانه.

و تصديقه للتوراة هو الإيمان بأن التوراة كتاب إلهي، و إنّ ما فيها حكمة و صواب، و هي التي نزلت على موسى بن عمران، و نظير ذلك ما ورد بالنسبة إلى نبيّنا محمد صلّى اللّه عليه و آله، فلا دلالة لتصديقهما لما بين يديهما من التوراة على أنها غير محرّفة.

و الآية الشريفة تدلّ على أنه لم يأت ناسخا لها، بل مصدّقا و عاملا بالتوراة إلا في بعض الأحكام.

قوله تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ .

أي: و جئتكم لأحل بعض ما حرّمته شريعة موسى بن عمران على بني إسرائيل، فإنها حرّمت عليهم بعض الطيبات بظلمهم و كثرة سؤالهم، قال تعالى:

فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً * وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً [سورة النساء، الآية: 160-161]، كما أنه نسخ بعض الأحكام التي تغيّرت حسب تغيّر المقتضيات و تبدّلها.

و الآية الشريفة تدلّ على أن الإنجيل يشتمل على بعض الأحكام الإثباتيّة، و لكن لا دلالة فيها على أنه يشتمل على شريعة، و إن وقع الخلاف بين العلماء في أن الإنجيل يشتمل على شريعة و أحكام تغيّر ما في التوراة، و قد نسخ الإنجيل بعض ما في التوراة، و لكن لا يقدح ذلك في كونه مصدّقا للتوراة، و قال بعضهم: إن الإنجيل لم يشتمل على أحكام و لم يمح حلالا و لا حراما، بل هو رموز و أمثال،

ص: 302

و مواعظ، و زواجر. و أما الشريعة و الأحكام فهي مأخوذة من التوراة.

و الحقّ ما ذكرناه من أن المستفاد من الآيات الشريفة الواردة في شأن الإنجيل هو أنه يشتمل على إثبات بعض الأحكام، التي هي أوفق بالحكمة و المصلحة الفعليّة، و بعض المواعظ و الأمثال و الأحكام الأخلاقيّة الأدبيّة، و هي بمجموعها مصدّقة لشريعة موسى، و لذا كانت شريعة عيسى موافقة في الجملة و الإجمال لشريعة موسى عليه السّلام، و إن كانت الاولى أكمل من الثانية، و قد نسب إلى عيسى عليه السّلام في الإنجيل: «ما جئت لأبطل التوراة، بل جئت لاكملها».

قوله تعالى: وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

تأكيد لما سبق و تثبيت للحجّة، و تمهيد لما سيأتي في قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ . و في الآية الشريفة الدلالة على أن كلّ ما أتى به عيسى عليه السّلام إنما هو من عند اللّه دفعا لتوهّم التضليل و الغلو فيه.

و إنما خصّ الربّ بالذكر، لأنه القائم بشؤون خلقه و المراعي مصالحهم، و هو الذي يسوقهم إلى الكمال.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ .

أي: احذروا مخالفته و غضبه في الإعراض عن الإيمان بي و الإيمان بآيات اللّه و شهادتها برسالتي، و اتقوه في الطاعة لي.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ .

تصريح منه عليه السّلام بأنه عبد اللّه و أنه مبعوث من قبله جلّ جلاله، و ليس له شأن مستقل، و بذلك ينتفي موضوع الغلو و الحلول و الوحدة و التثليث و نحوها فيه، قوله تعالى: هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ .

شرح لقول عيسى بن مريم: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ ، و بمنزلة العلّة لذلك.

يعني: لا بد للإنسان أن يرد الصراط المستقيم، و إني أبيّن لكم ذلك الصراط المستقيم، فالتعليل تعليل عقلي، و قضية حقيقيّة لجميع ما ادّعاه عيسى بن مريم، بل و كذا بالنسبة إلى سائر الأنبياء عليهم السّلام.

ص: 303

بحوث المقام
بحث أدبي:

الضمير في (نوحيه) يرجع إلى (ذلك) في صدر الجملة كما عن المشهور، و يحتمل أن يعود إلى (الغيب) ليشمل ما قصّه عزّ و جلّ سابقا و غيرها من القصص.

و صيغة الاستقبال في (نوحيه) تدلّ على استمرار الوحي و عدم انقطاعه.

و جملة: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ قيل: مبتدأ و خبر، و الجملة في موضع نصب بالفعل المضمر دل عليه الكلام، تقديره: (ينظرون أيهم يكفل مريم).

و قيل: إنّ الجملة من تتمّة الكلام الأول، و لا حاجة إلى التقدير، أي: يلقون أقلامهم لأخذ النتيجة، و هي أيهم يكفل مريم.

و إذ في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ عطف بيان على (إذ) المتقدّمة في قوله تعالى: إِذْ قالَتِ اِمْرَأَتُ عِمْرانَ أو بدل، و لا يضرّ الفصل الطويل، إذ الجملة جيئت لتثبيت ما ورد فيها، و قيل بدل من (يختصمون)، و هو بعيد لاختلاف الزمانين، فإن الاختصام - كما عرفت - كان في صغر مريم و البشرى كانت في كبرها.

و عيسى بن مريم بدل من المسيح. و عيسى اسم أعجمي لم ينصرف، و ابن يكتب بدون همزة لوقوعه صفة بين علمين، لأن القاعدة أنه إذا وقع كذلك تحذف في الخط و الكتابة تبعا لحذفها في اللفظ، لكثرة استعماله كذلك، و لكن إذا لم يقع بين علمين، سواء كان أحد الطرفين علما و الآخر غير علم، أو لم يكن كلاهما علما، ثبتت الهمزة و لم تحذف في جميع الصور، هذا في غير عيسى بن مريم، و أما فيه فالهمزة ثابتة في القرآن مطلقا و لعلّه إما لأجل أن خط القرآن لا يقاس عليه، و أما لتثبيت ابنيّته مهما أمكن.

قوله تعالى: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ ، حال من عيسى كما قاله

ص: 304

الأخفش، أو من (كلمة)، و هي و إن كانت نكرة لكنها موصوفة بما بعدها، و التذكير باعتبار المعنى.

و كذا الحال في بقية الأوصاف المعطوفة: و من المقرّبين، و يكلّم، و من الصالحين، و يكلمه، رسولا. و لا يضرّ عطف الفعل على الاسم في بعض الأفراد منها.

و قوله تعالى: وَ كَهْلاً عطف على الظرف في المهد، الذي هو حال من الضمير في الفعل، و الكهل - كما عرفت - من جاوز الثلاثين، و قد ذكر العلماء أن ابن آدم ما دام في الرحم فهو جنين، فإذا ولد فهو وليد، و ما دام يرضع فهو رضيع، و إذا فطم فهو فطيم، و إذا دبّ فهو دارج، و إذا بلغ خمسة أشبار فهو خماس، و إذا سقطت رواضعه فهو مثغور، و إذا ثبتت أسنانه فهو مثغر، فإذا قارب عشر سنين أو جاوزها فهو مترعرع و ناشئ، و إذا بلغ الحلم أو كاد فهو يافع أو مراهق، و إذا احتلم فهو حرور، و اسمه في جميع هذه الأحوال غلام، و إذا اخضرّ شاربه و أخذ عذاره يسيل قيل قد بقل وجهه، و إذا صار ذا فتاء فهو فتى و شارخ، و إذا اجتمعت لحيته و بلغ شبابه فهو مجتمع، ثم ما دام بين الثلاثين و الأربعين فهو شاب ثم كهل إلى أن يستوفى الستين، هذا في الذكور. و أما في الإناث، فهي طفلة ثم وليدة، ثم كاعب إذا كعب ثدياها، ثم ناهد، ثم معصر إذا أدركت، ثم عانس إذا ارتفعت عن حدّ الإعصار، ثم خود إذا توسطت الشباب، ثم مسلف إذا جاوزت الأربعين، ثم نصف إذا كانت بين الشباب و التعجيز، ثم شهلة و كهلة إذا وجدت من الكبر و فيها بقية و جلد، ثم شهربة إذا عجزت و فيها تماسك، ثم حيزبون إذا صارت عالية السن ناقصة العقل، ثم قلعم و لطلط إذا انحنى قدّها و سقطت أسنانها.

و آية في قوله تعالى: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ في موضع الحال، أي متلبّسا بآية، و الباء للملابسة، و التنوين للتفخيم دون الوحدة.

و الضمير في قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ يرجع إلى الطير باعتبار المعنى، و في سورة المائدة أنّث الضمير، قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و الطير صالح للواحد و الجمع.

ص: 305

و الضمير في قوله تعالى: فَأَنْفُخُ فِيهِ يرجع إلى الطير باعتبار المعنى، و في سورة المائدة أنّث الضمير، قال تعالى: وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ اَلطِّينِ كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و الطير صالح للواحد و الجمع.

و قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ ، عطف على قوله بِآيَةٍ ، و الجملة حالية، أي: و جئتكم حال كوني مصدقا. و يمكن أن يكون عطفا على قوله:

وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ ، و اختلاف الجملتين في الغيبة و التكلّم غير ضائر بالعطف، لا سيما بعد تفسير قوله: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ بقوله: أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ ، فإنه مخرج للكلام من الغيبة إلى الحضور.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: وَ إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ على أن مريم عليها السّلام كانت محدّثة، تتكلّم مع الملائكة و تكلّمها و تسمع كلامها و قد تعاين شخصها، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 17]، و قد وردت روايات كثيرة على أن المحدّث هو الذي يسمع الصوت و لا يعاين الملك،

ففي الحديث عن محمد بن مسلم قال: «ذكرت المحدّث عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال عليه السّلام: إنه يسمع الصوت و لا يرى الصورة، فقلت: أصلحك اللّه، كيف يعلم أنه كلام الملك؟ قال عليه السّلام: إنه يعطي السكينة و الوقار حتّى يعلم أنه ملك»، و الأخبار بهذا المضمون كثيرة. و اختلاف الروايات في رؤية المحدّث للملك أو عدم رؤيته و سماع صوته فقط، محمول على مراتب كمال النفس، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الرسول و النبيّ و المحدّث.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ ، على تقدّم مريم على نساء العالمين من جهات عديدة قد ذكرها سبحانه في ما تقدّم من الآيات، كالإنبات الحسن، و كفالة زكريا لها، و تحريرها للعبادة، و الرزق من اللّه، و ما يأتي في الآيات اللاحقة، كلزوم الطاعة و القنوت و الخشوع للّه عزّ و جلّ و بشارتها بكلمة

ص: 306

من اللّه المسيح عيسى بن مريم و الحمل من غير فحل، و لعلّ تكرار الاصطفاء في الآية الشريفة لأجل اختلاف مورد الاصطفاء في الموضعين، فالأوّل بلحاظ ما سبق من الكمالات و الصفات الحسنة، و الثاني باعتبار ما يأتي، و الآية الشريفة في مقام بيان فضلها و تقدّمها على سائر النساء من الجهات التي ذكرها اللّه تعالى في القرآن، و أهمّها الحمل من غير أب، فيكون التقدّم على سائر النساء من هذه الجهة، و أما غيرها، فقد يشترك معها شخص آخر، و لا ينافي أن تكون امرأة اخرى أفضل منها من جهة اخرى، فقد وردت أحاديث متواترة بين المسلمين على أن فاطمة الزهراء عليها السّلام سيدة نساء العالمين و سيدة نساء أهل الجنّة، فهي بضعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هي الطاهرة المطهّرة المعصومة، و هي زوج علي بن أبي طالب و ام السبطين سيدي شباب أهل الجنّة،

و قد أخرج ابن عساكر عن ابن عباس أنه قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: سيدة نساء أهل الجنّة مريم بنت عمران، ثم فاطمة، ثم خديجة، ثم آسية امرأة فرعون».

و أخرج الشيخان عن أبي هريرة، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خير نساء ركبن الإبل نساء قريش، أحناهن على ولد في صغره، و أرعاهن على بعل في ذات يده، و لو علمت أن مريم ابنة عمران ركبت بعيرا ما فضلت عليها أحدا»، و المراد من نساء قريش بعضهن لا جميعهن.

و أخرج ابن حريز عن فاطمة عليها السّلام قالت: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أنت سيدة نساء أهل الجنّة إلا مريم البتول».

و في الدر المنثور: أخرج أحمد و الترمذي و ابن المنذر و ابن حبان و الحاكم عن أنس: «ان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران و خديجة بنت خويلد و فاطمة بنت محمد و آسية امرأة فرعون».

و فيه: أخرج ابن عساكر عن طريق مقاتل عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «أربع نسوة سادات عالمهن مريم بنت عمران، و آسية بنت مزاحم، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و أفضلهن عالما فاطمة».

و في الخصال: بإسناده عن أبي الحسن الأوّل موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «قال

ص: 307

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه عزّ و جلّ أختار من النساء أربعا: مريم، و آسية، و خديجة، و فاطمة»، و الروايات في هذا المضمون من الفريقين كثيرة، و بعضها و إن دلّت على تساويهن في الاصطفاء إلا أنه لا ينافي وجود التفاضل بينهن، كما عرفت من أن فاطمة الزهراء تفضل سائر النساء من جهات عديدة.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ أن هذه الأمور الثلاثة مرتبة على قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ فاصطفاها للزوم الطاعة و القنوت، و طهّرها للسجود و الخضوع، و اصطفاها للخشوع و الركوع مع الراكعين، فكانت هذه الثلاثة مقتضيات للأمور الثلاثة التي وردت في هذه الآية الشريفة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ أن أخبار مريم عيسى و زكريا و يحيى التي وردت في القرآن الكريم هي الأخبار الصحيحة، و ما سواها لم تسلم من يد التحريف، و قد حكى القرآن الكريم تلك الأخبار بأسلوب جذّاب رقيق و بيان فائق أنيق، يلتذّ السامع من سماعها و يستنير المخاطب من شعاعها، مع أدب بارع لا يعقل فوقه أدب. و هذا ممّا تميّز به القرآن الكريم في قصصه عن غيره من سائر الكتب الإلهيّة، و من أراد الاطلاع على أكثر من ذلك فليقارن ما ورد في التوراة و الإنجيل في أخبار هؤلاء الأنبياء العظام مع ما ورد في القرآن الكريم فيهم، يرى الفرق واضحا و يحكم بالإعجاز في القرآن الكريم.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: نُوحِيهِ إِلَيْكَ على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدقه فيها، فقد أخبر صلّى اللّه عليه و آله عن قصة مريم و عيسى و يحيى و زكريا و هو امي لم يقرأ و لم يكتب، و لم يعرفها أحد من قومه قبل الوحي.

السادس: يدلّ قوله تعالى: اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ على أن تسميته المسيح كانت من قبل اللّه تعالى الذي وضع هذا الاسم له، و يستفاد منه أن أسماء الأنبياء إنما تكون من قبل اللّه تعالى، و لعلّ

ما ورد في المأثور: «الأسماء تنزل من السماء»، تختصّ بأسماء الأنبياء، و قد ذكرنا أنه ربما يكون الوجه في هذه التسمية

ص: 308

(المسيح) هو الإشارة إلى نبذ العادة الإسرائيليّة في ما يفعله الزعماء و الروحانيون عندهم.

السابع: يدلّ قوله تعالى: يا مَرْيَمُ اُقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اُسْجُدِي وَ اِرْكَعِي مَعَ اَلرّاكِعِينَ على شدّة انقطاع هذه المرأة الصالحة إلى خالقها و إخلاصها له تعالى، ممّا أوجب تنازع القوم في حفظها و حراستها، و تشبه مريم عليها السّلام ام موسى عليها السّلام في الحالات الانقطاعيّة إلى اللّه تعالى و إخلاصها في العبوديّة.

و قد ذكر سبحانه و تعالى حالات مريم العذراء و أطوار خلقها في القرآن الكريم بهذا الوجه اللطيف و الأسلوب الجذاب، و وصفها بأوصاف كثيرة تدلّ على جلالة قدرها و عظيم منزلتها عنده عزّ و جلّ، و هذا من أهم موجبات الألفة و الحنان بين المسلمين و النصارى.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: كَهَيْئَةِ اَلطَّيْرِ أن ما خلقه عيسى لم يكن له نظير في الخارج، و إنما كانت صورته كصورة الطير.

التاسع: إنما ذكر تعالى تكلّم عيسى في المهد و عند الكهولة و هي آخر قوة نشاط الشباب و كمال القوى، للإعلام بأن تكلّمه في حال صباه كمثل تكلّمه في دور كمال قواه، و لم يكن كلامه في حال الصبا كتكلم سائر الصبيان، فيكون عيسى المسيح في مهده حينما يقول بلسان فصيح: قالَ إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا * وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ اَلزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا * وَ بَرًّا بِوالِدَتِي [سورة مريم، الآية: 32] هو حين كهولته، و حين رفعه إلى السماء يقولها كذلك، لأنه خلق لإظهار الحقّ، و لا حقّ إلا ذلك.

العاشر: إنما ذكر تعالى أمثلة متعدّدة لآيات نبوّته و صدق دعوته، لأن كلّ واحد منها مثال لعالم من العوالم الخلقيّة.

الأول: إيجاد الروح الحيوانيّة التي هي أوسع العوالم الخلقيّة، و إنما مثّل بخلق الطير، لأنّه فيها من جهات الخلق و الإعجاب ما ليس في غيره.

الثاني: للروح الإنسانيّة بإبراء الأكمه و الأبرص اللذين هما من أشدّ

ص: 309

الأمراض إزعاجا، بل قد يكونان من أعظم المهلكات، فتكون كناية عن سلطنة الروح الإنسانيّة من كلّ جهة.

الثالث: إحياء الموتى الذي هو السلطة التامّة على الروح، و كونها تحت أمره بحيث يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

الرابع: عالم الغيب، بحيث يكون حاضرا لديه.

الحادي عشر: إنما كرّر سبحانه و تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ ، لبيان أنه لا شأن لعيسى و غيره من الأنبياء في صدور المعجزات عنهم، و المدار كلّه على إذنه تعالى و إرادته، قال جلّ شأنه: وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة المؤمن، الآية: 78]، و بذلك تبطل دعوى الغلو و الالوهية فيهم.

و لم يذكره سبحانه و تعالى في آيتين من الآيات الأربعة - و هما إبراء الأكمه و الأبرص و الإنباء بالمغيّبات - إما لأجل استفادة الإذن فيهما من الآيتين الأخيرتين بالأولى، لأن ذلك بالنسبة إليهما يعدّ من العرضي، و الإذن في الذاتي يستلزم الإذن في العرضي. مع أنه قد ذكر في سورة المائدة وَ تُبْرِئُ اَلْأَكْمَهَ وَ اَلْأَبْرَصَ بِإِذْنِي [سورة المائدة، الآية: 110]، و إما لأجل أن هذين الأمرين من الإنباء و الإبراء ينبغي أن يكونا من مقامات الأولياء، لا أن ينسب أوّلا و بالذات إلى اللّه تعالى، لأن مقام ولايتهم يقتضي تفويض مثل هذه الأمور إليهم، فلهم أن يفعلوا فيها بما يشاءون، و لذا قال: وَ أُنَبِّئُكُمْ فنسب ذلك إلى نفسه، فإن مقام الولاية مقام برزخي بين الالوهية الحقّة و الخلقيّة الصرفة.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، على أن الإنسانيّة الكاملة هي غاية التكوينات و التشريعات لما ذكرناه مرارا، و من أنها هي الصراط المستقيم و الجسر الممدود بين المبدأ و المعاد، و هو و إن كان حادثا و لكنه بحسب البقاء أبدي كأزلية اللّه تعالى و أبديته، فهذه الأمور الثلاثة: المبدأ تبارك و تعالى، و الصراط المستقيم، و الدار الآخرة، متلازمة حقيقة، و إن كانت مختلفة مفهوما.

ص: 310

بحث فلسفي:

ذكرنا مرارا أنه قد جرت سنّة اللّه تعالى على إيجاد المسبّبات الماديّة بأسبابها الخاصة بها كلّ صنف بحسبه، كذلك جرت عادته سبحانه و تعالى في توجيه المسبّبات المعنويّة و الروحانيّة بأسبابها الخاصة كلّ صنف بحسبه، و من أهم تلك الأسباب أنبياء اللّه تعالى و أولياؤه، فيفاض بهم على النفوس المستعدّة ما ينتظم به نظام العالم بماديّاته و معنويّاته نظما دقيقا متقنا، و الكلّ مسخّرات تحت أمره تعالى و صادرة عن إرادته، و هي تحيط بهم و تخرج منهم، و لابدع في ذلك بالنسبة إلى من أفنى جميع شؤونه و حيثيّاته فيه عزّ و جلّ، و تشهد لذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة.

ثم إنّ هذا العالم الذي نعيش فيه مركب من أمرين، واقعي معنوي و ظاهري صوري، و لكلّ منهما مدبّر و ولي أمر قائم به.

و الأول: عبارة عن تجلّيات الآخرة في هذا العالم بواسطة الكتب السماويّة و الأنبياء و المرسلين و الأولياء الصالحين و العلماء العاملين، و العقل المجرّد المقرّر بالكتب السماويّة.

و الثاني: عبارة عن تجليّات الدنيا بنفسها لأهلها، و هي فانية زائلة و إن بلغت ما بلغت في الكمالات الوهميّة و المراتب الخياليّة، فلا بد في طلب كلّ متاع من الرجوع إلى أهله و إلا بطل الطلب و خسرت الصفقة، سواء كان الطلب هو العقل المجرّد أم سائر القوى الخادمة له، و الأمران متشابكان، فلا لبّ إلا و معه قشر، و لا قشر إلا و فيه اللب، و اللبيب هو الذي ميّز بين الأمرين فاختار اللب و عدل عن القشر.

بحث روائي:

في تفسير القمّي: في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ قال عليه السّلام: «اصطفاها مرتين: أما الاولى

ص: 311

فاصطفاها، أي اختارها. و أما الثانية فإنها حملت من غير فحل، فاصطفاها بذلك على نساء العالمين».

أقول: يستفاد من الحديث أن جهات الاصطفاء مختلفة، و يمكن أن تكون في نفس واحدة جهات عديدة من الاصطفاء، و يمكن أن يستفاد من إطلاق الاصطفاء في مثل الخليل و الكليم، تحقّق جملة من جهات الاصطفاء.

و في المجمع: قال أبو جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اِصْطَفاكِ عَلى نِساءِ اَلْعالَمِينَ اصطفاك لذرّية الأنبياء و طهّرك من السفاح، و اصطفاك لولادة عيسى من غير فحل».

أقول: ظهر وجه ذلك ممّا تقدّم آنفا.

و في الدر المنثور: أخرج الحاكم في صحيحه عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفضل نساء العالمين خديجة، و فاطمة، و مريم، و آسية امرأة فرعون».

أقول: الأفضليّة من الأمور النسبيّة الإضافيّة، و يمكن أن تتحقّق في بعض هذه الأربعة أشدّ و أكثر من تحقّقها في البعض الآخر، و يصحّ أن يقال بأفضليّة خديجة من جميع تلك النساء.

أولا: لأنها أوّل مسلمة، و أنها بذلت نفسها و نفيسها في الإسلام و تكفّلت مثل محمد خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الذي هو أفضل جميع الموجودات، فحازت بذلك درجة لا يمكن حصولها لأحد غيرها من النساء.

و ثانيا: أنها ام المؤمنين و ام الأئمة الأطهار عليهم السّلام. و ام فاطمة الزهراء، فإن جهات شرفها على البقية ممّا لا تخفى على كلّ مسلم، و قد تقدّم بعض الكلام فيها أيضا.

و في العلل: عن الصادق عليه السّلام في حديث: «أن مريم كانت سيدة نساء عالمها، و أن اللّه عزّ و جلّ جعل فاطمة سيدة نساء عالمها و عالم ابنة عمران و سيدة نساء الأوّلين و الآخرين».

أقول: هذا الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا.

ص: 312

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ قال عليه السّلام:

«لما ولدت اختصم آل عمران فيها فكلّهم قالوا نكفلها، فخرجوا و قارعوا بالسهام بينهم، فخرج سهم زكريا فتكفّلها زكريا».

أقول: المقارعة بالسهم عند حصول الحيرة و التحيّر فطريّة في الجملة، و قد قرّرها الشارع، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «يقرعون بها حين أوتمت من أبيها».

أقول: لا تنافي بين هذا الحديث و سابقه، لأن المشهور أنها أوتمت و هي في الحمل، مضافا إلى أن تحريرها للبيت عبارة عن انقطاعها عن أبيها، و لم يكن من يكفلها إلا سدنة البيت.

و في إكمال الدين: عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ قال: «إنه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة، و كانت نبوّته ببيت المقدس».

أقول: إنه أرسل إلى بني إسرائيل خاصة باعتبار فعليّة الدعوة، لا بالنسبة إلى أصل النبوّة، فإنها عامّة و من اولي العزم.

و في تفسير العياشي: في قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ عن الصادق عليه السّلام قال: «كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة، و كانت شريعة عيسى أنه بعث بالتوحيد و الإخلاص بما اوصي به نوح و إبراهيم و موسى، و انزل عليه الإنجيل، و أخذ عليه الميثاق الذي أخذ على النبيّين، و شرّع له في الكتاب إقام الصلاة مع الدين و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و تحريم الحرام و تحليل الحلال، و انزل عليه في الإنجيل مواعظ و أمثال و حدود ليس فيها قصاص، و لا أحكام حدود، و لا فرض مواريث، و انزل عليه تخفيف ما كان على موسى في التوراة، و هو قول اللّه في الذي قال عيسى لبني إسرائيل: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ ، و أمر عيسى من معه ممّن اتبعه من المؤمنين أن يؤمنوا بشريعة التوراة و الإنجيل».

ص: 313

أقول: في الروايات كان بين داود و عيسى أربعمائة سنة و ثمانون سنة، و يمكن حمل ذلك على اختلاف السنين بحسب الأقوام، على أنه لا ثمرة في تحقيق ذلك.

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ عن الباقر عليه السّلام:

«أن عيسى كان يقول لبني إسرائيل: إني رسول اللّه إليكم و إني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير فانفخ فيه فيكون طيرا بإذن اللّه و أبرئ الأكمه و الأبرص، و الأكمه هو الأعمى، قالوا: ما نرى الذي تصنع إلا سحرا، فأرنا آية نعلم أنك صادق، قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم - يقول ما أكلتم في بيوتكم قبل أن تخرجوا و ما ادخرتم بالليل - تعلمون اني صادق؟ قالوا:

نعم، فكان يقول: أنت أكلت كذا و كذا أو شربت كذا و كذا و رفعت كذا و كذا، فمنهم من يقبل منه فيؤمن، و منهم من يكفر و كان لهم في ذلك آية إن كانوا مؤمنين».

أقول: إنّ الإخبار بالمغيّبات الشخصيّة التي تتعلّق بحالات الأفراد له الأثر الكبير النفسي في نفوسهم، فتتعلّق نفسهم بالخبر، و لذا كان الإنباء من آخر الآيات التي جرت على يد عيسى عليه السّلام، و لم يكن يقدر أحد من المخاطبين على إنكاره.

و في تفسير القمّي - أيضا -: في قوله تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ و هو السبت، و الشحوم، و الطير الذي حرّم اللّه تعالى على بني إسرائيل».

ص: 314

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّ.......

اشارة

فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اِتَّبَعْنَا اَلرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ (58) إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ (60) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى جملة من قصص عيسى عليه السّلام، و بيّن ما عليه من الصفات الحميدة و ما جرت من المعجزات على يديه، و دلّت الآيات الباهرات على صدق نبوّته و صحّة دعواه، و أمر الناس بطاعته، و اعتبر أن متابعته هي الصراط المستقيم.

شرع في هذه الآيات الشريفة ببيان ما آل إليه أمره و ما جرى بينه و بين قومه بني إسرائيل من العناد و الكفر، و ما لاقاه منهم من الإعراض و التولّي.

و على الرغم من أن المسيح جاء لينجيهم و يخفّف عنهم بعض الأعباء و التكاليف الشاقّة التي حملوها على أنفسهم، عاندوه و همّوا بقتله، و عندئذ دعا دعوته: (من أنصاري إلى اللّه)، فلبّوا النداء الحواريون و أعلنوا انتصارهم له، فأنجاه اللّه تعالى من مكرهم و رفعه إليه، و أوعد الكافرين بالخزي و العذاب، و وعد

ص: 315

المؤمنين به علو الذكر و حسن المآب، ثم ختم عزّ و جلّ بأن خلق عيسى كخلق آدم و أنهما خلقا بالأمر التكويني الخارق للعادة، و اعتبر أن ذلك هو الحقّ، و غير ذلك من الدعاوي هي الباطلة.

و أوجز سبحانه في هذه الآيات القصص بما يؤدّي المطلوب منها في المحاجّة مع وفد نجران حين قدموا المدينة، و ذكر بعض الخصوصيات في مواضع اخرى من القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ .

مادة (حسس) تدلّ على الإدراك بالمشاعر الحسيّة، كالعين و الاذن و الأنف و اللسان و اليد - و يقابله الدرك العقلي، أي ما يدركه الفكر، قال تعالى: هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً [سورة مريم، الآية: 98]، و قال تعالى:

فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا [سورة الأنبياء، الآية: 12]، و قال تعالى: حكاية عن يعقوب يا بَنِيَّ اِذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ [سورة يوسف، الآية: 87]، أي اطلبوه عن طريق الحسّ،

و في الحديث: «ان الشيطان حساس لحاس»، أي شديد الحس و الإدراك،

و في الحديث أنه صلّى اللّه عليه و آله: «كان في مسجد الخيف فسمع حسّ حية»، أي حركتها و صوت مشيها.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى ب (أحس) مع أن الكفر من الأمور المعنويّة، لبيان أن كفرهم بلغ مبلغا حتّى تعلّقت به الحواس الظاهرة، فيكون استعارة بليغة، كما في قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 12].

و المعنى: فلما عرف عيسى من بني إسرائيل الكفر و علم منهم العناد و اللجاج، و أنهم قصدوا إيذاءه مع وضوح تلك الآيات الباهرات التي عرفوها منه، دعا

ص: 316

الأنصار لتثبيت شرع اللّه تعالى و التمسّك بدينه.

و في الآية الشريفة التسلية لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين ما رأى من قومه العناء و اللجاج.

كما يستفاد منها أن الآيات الكونيّة و المعجزات الباهرات لا تلجئ أحدا على الإيمان و لا تكون ملزمة له، كما هو صريح بعض الآيات الشريفة مثل قوله تعالى:

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية:

56]، و ذلك صدر منهم من العناد و اللجاج ما جعل الأنبياء في العناء و المشقّة من أقوامهم.

قوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ .

الأنصار جمع نصير، فعيل بمعنى فاعل، لأن كلّ واحد من المتناصرين ناصر و منصور، و هو بمعنى العون، و نصرة اللّه للعبد ظاهرة، و أما نصرة العبد للّه هي نصرته لعبادته و القيام بحفظ حدوده و رعاية عهوده و امتثال أوامره و اجتناب مناهيه.

و إنما أضاف إلى الأنصار نفسه لبيان أن نصرته نصرة اللّه تعالى. و قيّد الأنصار بكونهم إلى اللّه، للتحريض و التشويق إلى لقاء اللّه تعالى، و نظير ذلك كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة النساء، الآية: 136]، و قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً [سورة البقرة، الآية: 245]، و قد ذكر سبحانه و تعالى في موضع آخر بما يرفع الإجمال عن هذا الموضع، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اَللّهِ ، كما قال عيسى بن مريم للحواريين مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ [سورة الصف، الآية: 14].

و الاستفهام في هذه الآية الشريفة لاختبار القوم و معرفة المؤمن منهم عن غيره، و بيان أهمية النصرة للّه تعالى.

ص: 317

قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ .

الحواريون جمع حواري، و أصل المادة تدلّ على البياض و التخلّص من كلّ عيب، و لذلك سمّيت نساء أهل الجنّة بحور العين لشدّة بياضهن و سواد عيونهن،

و في الحديث: «أن في الجنّة لمجتمعا للحور العين».

و إنما سمّى ناصر الأنبياء حواري، باعتبار خلوصه في نفسه عن العيب و الذنب و إخلاصه لغيره، فيكون ناصرا و خاصّة له.

و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا بالنسبة إلى أصحاب المسيح عليه السّلام، و هم رسله الّذين أخلصوا في أنفسهم و نقّوها من كلّ عيب و كانوا مخلصين له، و هم الّذين كان عيسى عليه السّلام يرسلهم إلى بني إسرائيل للوعظ و الإرشاد.

و قد اختلفوا في عددهم، و المشهور أنهم كانوا اثنى عشر رسولا، و ذكرهم إنجيل متى في الاصحاح العاشر 2-4، و قيل إنّ عددهم سبعون، و هم الّذين اختارهم عيسى و أرسلهم إلى الأقوام ليعلموهم المسيحيّة، و لا فائدة في معرفة العدد بعد وضوح أصل المعنى و أن المناط هو تحقّق الإخلاص و الخلوص.

و المستفاد من الآية الشريفة - كما عرفت - أن الحواري أخصّ من مطلق الصاحب.

و الآية المباركة ترشد إلى أمر اجتماعي، و هو أن كلّ مرشد في الاجتماع لا بد و أن يهيء لنفسه مركزا يكون مصدرا لإرشاده و يعتمد عليه في ما يستجدّ من الحوادث و يستمد منه القوة حين ما يتطلب ذلك، و إلا كان عمله هدرا و أتعابه سدى. و هذا من أهم الأمور التي أشير إليها في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم و السنّة المقدّسة، قال تعالى حكاية عن لوط: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ [سورة هود، الآية: 80]، و في ابتداء الدعوة في الإسلام اختار الرسول صلّى اللّه عليه و آله رجالا جعلهم مصدر الدعوة، و ذلك في بيعة العقبة و بيعة الشجرة، كما نتابع الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 318

قوله تعالى: نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ .

أي: استجابوا إلى دعوة المسيح، و هم الّذين اختارهم عيسى و جعلهم من حواريه، و قالوا: نحن متبعوك و ناصروك في الدعوة إلى دين اللّه و الجهاد في سبيله، و يفسّر معنى النصرة في اللّه ما بعد هذه الآية.

و في قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ ، الطباق الشديد، أي:

نحن ناصروك لأنه نصرة اللّه تعالى.

قوله تعالى: آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

تبيّن هذه الجملة معنى نصرة اللّه، إذ الإيمان الحقيقي نصرة اللّه تعالى، و نصرته جلّ جلاله ترجع إلى كمال النفس الإنسانيّة، و تهذيبها بالأخلاق الفاضلة و الجهاد مع أعداء اللّه تعالى.

و قوله جلّ شأنه: وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ ، تسليم لهم لنبيّهم تسليما حقيقيّا.

و هيئة التسليم تدلّ على الخضوع للّه تعالى و إطاعته في جميع تشريعاته، و الإيمان من إحدى طرق التسليم، و لها مراتب متفاوتة.

و سياق الآية الشريفة يدلّ على كمال إيمانهم، و تمكّنه في قلوبهم، حتى ظهر التسليم و الخضوع على جوارحهم عن جوانحهم و طلبوا من عيسى الشهادة بذلك.

و في الآية المباركة الدلالة على أن الإيمان باللّه تعالى لو لم يكن مقرونا بشهادة المتبوع لا أثر له أبدا. و تقدّم الكلام في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143].

و يستفاد من الآية الشريفة أن إيمان الحواريين كان راسخا في قلوبهم، و إنما طلب عيسى عليه السّلام منهم النصرة للّه تعالى إتماما للحجّة على غيرهم ممّن أحسّ منهم الكفر، و إعلانا لشأنهم و إظهارا لدرجاتهم الكاملة في الإيمان، فيكون قولهم (آمنا باللّه) تأكيدا لما آمنوا به أولا، و تثبيتا لشهادة عيسى على ذلك، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، و الوحي - بأي معنى أخذ - كاشف عن كمال إيمانهم و جلالة قدرهم، و لكن استفادة كونهم أنبياء اللّه من الوحي إليهم مشكل، لأنه أعمّ من ذلك، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ [سورة القصص، الآية: 7].

ص: 319

و يستفاد من الآية الشريفة أن إيمان الحواريين كان راسخا في قلوبهم، و إنما طلب عيسى عليه السّلام منهم النصرة للّه تعالى إتماما للحجّة على غيرهم ممّن أحسّ منهم الكفر، و إعلانا لشأنهم و إظهارا لدرجاتهم الكاملة في الإيمان، فيكون قولهم (آمنا باللّه) تأكيدا لما آمنوا به أولا، و تثبيتا لشهادة عيسى على ذلك، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في موضع آخر: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى اَلْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنّا وَ اِشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ [سورة المائدة، الآية: 111]، و الوحي - بأي معنى أخذ - كاشف عن كمال إيمانهم و جلالة قدرهم، و لكن استفادة كونهم أنبياء اللّه من الوحي إليهم مشكل، لأنه أعمّ من ذلك، إذ قد يستعمل الوحي في مجرّد الإلقاء في القلب من اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اَلْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ اَلْمُرْسَلِينَ [سورة القصص، الآية: 7].

قوله تعالى: رَبَّنا آمَنّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اِتَّبَعْنَا اَلرَّسُولَ .

تضرّع منهم إلى اللّه تعالى و الدعاء على الإيمان، فيكون مثل قوله تعالى:

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا [سورة آل عمران، الآية: 8].

و الجملة مقول قول الحواريين، و إنما حذف القول مبالغة في التضرّع، و للدلالة على التشرّف بالدعاء، و لبيان نفس الحكاية، و هو من أحسن الأساليب البلاغيّة و هو في القرآن الكريم كثير جدا، و يستفاد أن الداعي قد أهمل نفسه أمام المدعو و لا يرى لها شأنا، و إنما همّه التضرّع و عرض الحال.

و إنما ذكر المتابعة للرسول بعد الإيمان باللّه تعالى، لبيان أن الإيمان به جلّت عظمته يستلزم العمل بما جاء به الرسول، و أن أحدهما بدون الآخر لا أثر له.

قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ .

أي: و ثبّتنا مع الشاهدين، و المراد منه المعنى العام للشهود في كلّ عالم من العوالم، ففي عالم الدنيا شهود الواقع و الحقّ على ما هو عليه، المشتمل على تبليغ الحقّ أيضا، الذي هو من أعلى درجات الإيمان، بل لا درجة فوقه، كما في قوله تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ [سورة المائدة، الآية: 83].

و بالنسبة إلى أعمال الجوارح شهود مطابقتها مع الواقع، و بالنسبة إلى عالم البرزخ و الآخرة شهود عين تلك الحقائق بصور مناسبة لتلك العوالم، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]، بعض الكلام فراجع.

ص: 320

قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ .

التفات إلى بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر، و مادة (مكر) تدلّ على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصده، فإذا كان بحيلة فهو خديعة و شرّ، و إن كان بغيرها كان محمودا، و لذا يتقسّم المكر إلى قسمين، حسن و سيء، قال تعالى:

وَ لا يَحِيقُ اَلْمَكْرُ اَلسَّيِّئُ إِلاّ بِأَهْلِهِ [سورة فاطر، الآية: 43]، و قال تعالى:

أَ فَأَمِنَ اَلَّذِينَ مَكَرُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اَللّهُ بِهِمُ اَلْأَرْضَ [سورة النحل الآية:

45].

و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم مكرّرة تبلغ أكثر من أربعين موردا نسبت..

تارة: إلى الإنسان بلا واسطة، قال تعالى: قَدْ مَكَرَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اَللّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ اَلْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ اَلسَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ اَلْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ [سورة النحل، الآية: 26]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يَمْكُرُونَ اَلسَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ [سورة الأنفال، الآية: 30]، و أشدّ ما وصف اللّه تعالى به مكر الإنسان قوله عزّ من قائل: وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ اَلْجِبالُ [سورة إبراهيم، الآية: 46].

و اخرى: بواسطة، قال تعالى: بَلْ مَكْرُ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللّهِ [سورة سبأ، الآية: 33]، و المراد به الظلم و الشرّ الواقعان في الليل و النهار من الإنسان.

و ثالثة: نسبت إلى اللّه جلّ شأنه مزاوجة و مشاكلة في اللفظ، كما في هذه الآية الشريفة، و في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ [سورة النمل، الآية: 50]، و بدون مزاوجة، قال تعالى: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اَللّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 99].

و قد اختلف المفسّرون و العلماء في نسبة المكر إلى اللّه تعالى، فقيل إنه لا يجوز

ص: 321

نسبته إليه عزّ و جلّ لأنه منزّه عن المكر و الخديعة، فلا يطلق عليه تعالى إلا عن طريق المشاكلة، و قالوا إنّ كلّ مورد ورد فيه المكر منسوبا إليه عزّ و جلّ يحمل على الاستعارة، و هي تسمية جزاء المكر مكرا مقابلة كما هو المعروف عند العرب، مثل قوله تعالى: فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [سورة البقرة، الآية: 194]، و قوله تعالى: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى، الآية: 40]، و غيرهما من الآيات الشريفة، و هذا القول منهم مبني على استعمال المكر في المعنى السيء فقط، و هو المساوق للخديعة و الشرّ، فيكون قبيحا و اللّه تعالى منزّه عنه، و لكن استعمال القرآن الكريم يأبى ذلك كما عرفت، مضافا إلى أنه استعمال اللفظ في المعنى الحقيقي و المجازي معا، و هو غير صحيح.

و قيل: إنه يجوز إطلاق المكر عليه تعالى كما اطلق على غيره من أفراد الإنسان من دون مشاكلة أو الخروج عن المعنى الحقيقي، و أصحاب هذا القول اختلفوا في توجيه المكر بالنسبة إليه عزّ و جلّ، و جميع ما قيل في ذلك لم يقم عليه دليل يصحّ الاعتماد عليه.

و الصحيح أن يقال: إنّ المكر في الأصل يطلق على كلّ ما يصرف الإنسان عن مقصوده خفية و سرّا، و بهذا المعنى يصحّ إطلاقه عليه عزّ و جلّ بلا محذور فيه من عقل أو نقل، لفرض أن جميع أسرار إرادته المقدّسة مخفيّة عن من سواه، و هو عبارة اخرى عن التدبير الأتم بما تقتضيه الحكمة المتعالية بأعمال خفية لا يعلمها الإنسان، فيجازي الظالمين على ظلمهم و الماكرين بمكرهم، و يحسن إلى المحسنين بما يوافق اللطف، و يؤيّد هذا المعنى

ما ورد في بعض الدعوات المأثورة: «إلهي لا تؤدبني بعقوبتك و لا تمكر بي في حيلتك»،

و في الحديث: «اللهم امكر لي و لا تمكر بي»، و معنى الحديث: ألحق مكرك بأعدائي لا بي، فإن مكره جلّ شأنه إيقاع بلائه بأعدائه دون أحبّائه و أوليائه.

و المراد بمكر بني إسرائيل في المقام اعمالهم جهات النفاق مع عيسى عليه السّلام، كما حكى اللّه تعالى عنهم مع أنبياء اللّه تعالى في آيات اخرى، مثل تحريف الكلم عن

ص: 322

مواضعه و إيذاء الأنبياء و قتلهم و تشريدهم.

كما أن المراد بمكر اللّه تعالى جزاؤهم بما خفي عن ادراكهم و لم تصل إليه عقولهم، بأن شبه المسيح عليهم و ردّ كيدهم على أنفسهم مع اعتقادهم بأنهم قتلوه، فإنه لو رفعه اللّه تعالى علنا و بمرأى منهم لاستحكمت شبهة الغلو و الالوهية فيه، و لو رفعه خفية لطال التشاجر و النزاع و المحنة على المؤمنين و كثر فيهم القتل و هتك الإعراض، طلبا منهم لإظهاره و تسليمه، فكان ذلك التشبيه لطفا خفيّا و مكرا منه عزّ و جلّ وفق الحكمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ .

أي: و اللّه يفعل أفعالا خفيّة بما تقتضيه الحكمة المتعالية مع غفلة أهل المكر عن ذلك، و كون مكره تبارك و تعالى خيرا محضا، إذ لوحظ بالنسبة إلى النظام الكلّي، و يكون المكر بعباده في نصرة الحقّ و أهله و إبطال الباطل و إزهاقه.

قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ .

بيان لمكره عزّ و جلّ و إعمال سرّه الخفي على الناس، و العامل في (إذ) قوله (و مكر اللّه).

و مادة (و ف ي) تدلّ على أخذ الشيء وافيا تماما في الجملة، و هذا المعنى هو الشائع في جميع استعمالاتها العرفيّة و القرآنيّة،

و في حديث المعراج: «فمررت بقوم تقرض شفاههم كلّما قرضت وفت»، أي نمت و طالت أو كملت كالأوّل،

و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها»، أي تمت العدّة بكم سبعين.

و أما الوفاة بمعنى الموت، فهو أحد موارد استعمالات هذه المادة، و ليس من المعنى الحقيقي لها.

نعم، شاع استعمالها في الموت، و لعلّه لأجل أن الإنسان يأخذ من الحياة نصيبه التام بحسب استعداده، فاللّه يميته بعد ذلك و ينقله إلى عالم آخر.

و يدلّ على ما ذكرنا جملة من الآيات الشريفة، منها قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَتَوَفّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [سورة الأنعام، الآية: 60]، و المراد

ص: 323

به التوفّي بأخذهم النوم و غلبته عليهم، و قوله تعالى: اَللّهُ يَتَوَفَّى اَلْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ اَلَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ اَلَّتِي قَضى عَلَيْهَا اَلْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ اَلْأُخْرى [سورة الزمر، الآية: 42]، و لا يستقيم معنى الآية الشريفة لو كان معنى التوفّي هو الموت، أي اللّه يميت الأنفس حين موتها و التي لم تمت يميتها في منامها.

و من هذه الآيات و ما تقدّم من نظائرها يستفاد أن التوفّي أعمّ من الموت، بل لم يستعمل التوفّي في الموت إلا بعناية خاصة، و لذا لو لم تكن هذه العناية استعمل الموت بدله، و هي أن الوفاة إنما تستعمل في مورد يكون فيه أخذ الشيء محفوظا من دون نقص، كما في وفاء الدين و نحوه، فيقال: «وافيته في الميعاد»، و بهذه العناية تستعمل في الموت و النوم، حيث تحفظ فيهما نفس الإنسان و لا تنعدم فيهما و لا يبطل شأنهما، فاللّه تعالى يأخذ الأنفس و يحفظها حتى زمان عودها إلى الأجساد، لكن يختلف عالم النوم و عالم الموت.

و قد عبّر سبحانه و تعالى بالموت في عيسى في مورد آخر، حيث لم تكن هذه العناية، قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 159].

و بالجملة: التعمّق في موارد استعمال هذه المادة في الألسنة و اعتبارها مرادفة له، بحيث يتبادر منه هذا المعنى كلّ ما اطلق، و لكنه مع ذلك لا يوجب صرف اللفظ عن المعنى الموضوع له، و يقتضى أن الجامع القريب هو ما ذكرناه.

فيكون معنى الآية الشريفة هو أخذ عيسى عليه السّلام من عالم الأرض و من بين الناس و حفظه عن مكر اليهود من دون أن ينالوا منه شيئا، حتى زمان عوده إلى الأرض، و يدلّ على ذلك قوله تعالى في موضع آخر ردّا على اليهود: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً * بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 157-156].

و هذه الآية الشريفة صريحة في ردّ مزاعم اليهود في قتله و ابطال دعوى النصارى

ص: 324

في موت المسيح بالصلب و رفعه إلى السماء بعد قتله على ما ذكروه في الأناجيل.

مضافا إلى أن قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 159]، ظاهر في أنه لم يمت و أن موته سيقع بعد ذلك، و بانضمام هذه القرائن لا يبقى مجال للقول بأن المراد بالتوفّي هو الموت، هذا و لجمهور المفسّرين وجوه في تفسير الآية الشريفة.

منها: ما نسب إلى ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ، أي مميتك.

و لكن النسبة إليه مشكوكة، كما نسب إليه جملة من مسائل نافع بن الأزرق، و على فرض صدق النسبة لا دليل على حجّيته إلا إذا نسبه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بوجه معتبر.

و منها: ما نسب إلى الربيع بن أنس أنه قال: «وفاة نوم لا وفاة موت»، و استشهد لذلك بجملة من الآيات الشريفة.

و لكنه مردود بما عرفت سابقا، كما أنه اجتهاد بلا دليل عليه.

و منها: ما عن قتادة: هذا من المقدّم و المؤخّر، أي: رافعك إلي و متوفيك. و هو خلاف الظاهر، بل مخالف لصريح الآيات الاخرى.

و منها: أن المراد هو الإماتة العادية المعروفة، و أن الرفع بعدها للروح، كما قال تعالى في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 57].

و لكنه بعيد عن سياق الآيات، مع مخالفته لصريح الآيات الاخرى و النصوص الدالّة على حياته الجسمانيّة، و سيأتي الكلام في رفعه إلى السماء.

و منها: ما عن بعض المفسّرين أنه عليه السّلام نجا من اليهود و مات حتف أنفه و دفن في الأرض ثم رفعت روحه، و استدلّوا بظاهر لفظ الوفاة في المقام، و في سورة المائدة، الآية: 117، و قوله تعالى حكاية عنه: فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ . و كذا قوله تعالى حاكيا عنه: وَ اَلسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم، الآية: 33]، الدال على أن

ص: 325

عيسى ككلّ البشر يولد و يموت و يبعث.

و فيه: أن أصل الكبرى مسلّمة، فإنه عليه السّلام كسائر الأنبياء له موت بلا إشكال، و أما أن المراد بالتوفّي في المقام هو الموت الشائع، فهو أوّل الدعوى يحتاج إلى دليل، و الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل هي ناظرة إلى أصل الكبرى، و يدلّ عليه أيضا ما يأتي من:

قوله تعالى: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ .

عطف على خبر إن، و الرفع: ضد الوضع، و هو يستعمل في ما يشتمل على العلو، سواء كان علوا معنويّا، كشرف المنزلة و الفضيلة و غيرهما مثل قوله تعالى:

وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ [سورة الزخرف، الآية: 32]، و قوله تعالى:

يَرْفَعِ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ [سورة المجادلة، الآية: 11]، قال الشاعر:

تلك الأماني يتركن الفتى ملكا *** على الأنام و لم ترفع له رأسا

يعني: أن الآمال توهم الفتى أنه قد صار ملكا، و لكن لا تعطيه كرامة و شرفا في الواقع.

أو محسوسا ظاهريا كما في الأجسام الخارجيّة، إذ أعليت عن مقرّها، مثل قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ اَلطُّورَ [سورة البقرة، الآية: 63]، و قوله تعالى:

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ [سورة البقرة، الآية: 127]،

و في حديث الاعتكاف: «كان إذا دخل العشر الآخر ايقظ أهله و رفع المئزر»، و لعلّه كناية عن الاجتهاد و الجد في العبادة بارتقاء النفس.

و هو من الأمور النسبيّة تختلف باختلاف المتعلّق، قال تعالى حكاية عن يوسف: وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ [سورة يوسف، الآية: 100]، و قال تعالى:

وَ اَلسَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ اَلْمِيزانَ [سورة الرحمن، الآية: 7].

و من أسمائه تعالى: «الرافع»، و هو الذي يرفع المؤمنين بالإسعاد و أولياءه بالتقرّب إليه. و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ بعض الكلام.

ص: 326

و الجملة قرينة اخرى لبيان معنى التوفّي في الجملة السابقة. أي: أخذك من بين اليهود و أحفظك من مكرهم بالرفع إليّ.

و إنما قيد الرفع بقوله: (الي) مع أنه تعالى لا يحويه مكان و لا يخلو عنه مكان، تفخيما لغاية الرفع من الأرض التي طالما أفسدها الكافرون و الفساق، فرفعه تعالى إلى موضع خاص محض لتسبيح اللّه تعالى و تقديسه، و لا توجب هذه الكلمة (إليّ) صرف الرفع إلى الرفع المعنوي، باعتبار أنه لا يتصوّر القرب و البعد المكاني إليه عزّ و جلّ، فيكون نظير قوله تعالى: في شأن إدريس: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية: 57]، لأن ظاهر الخطاب و تكريم الرفع إلى عيسى عليه السّلام بكاف الخطاب ظاهر في رفع الموجود في الخارج و هو الجسم مع الروح، لا أحدهما فقط.

إن قلت: إنّ الشأن في الإنسان هو الروح فقط و الجسم تابع لها، فيصحّ توجيه الخطاب إلى الروح فقط.

قلت: نعم هو صحيح في الجملة، و لكن سياق الكلام يأبى عن ذلك، لأن رفع الروح إلى السماء إنما هو شأن كلّ نبي، بل ولي و أهل التقوى، فلا تبقى خصوصية في تخصيص عيسى بذلك، و لا بد أن يكون في البين جهة معينة، و هي رفع روحه مع جسمانيّته الظاهرة، و بذلك امتاز عيسى عليه السّلام عن إدريس الذي كان الرفع فيه معنويّا روحانيّا، بقرينة قوله تعالى: مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم، الآية:

57]، أي مكانة و منزلة ممتازة عن غيره، فيكون الخطاب في المقام بالنسبة إلى عيسى كقوله تعالى بالنسبة إلى موسى عليه السّلام: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: 41]، حيث إنّ ظاهر حرف الخطاب إنما يكون مع الإنسان الخارجي روحا و جسما، مع أنه لو جعلنا الإنسان البرزخي كالإنسان في الدنيا مركبا من الجسم و الروح كما أثبتناه في محلّه من أن الموجودات البرزخيّة و الاخرويّة عين ما في العالم، فالأمر أوضح.

إن قلت: بناء على ذلك فلا فرق بين عيسى عليه السّلام و غيره في أن للجميع وجودا برزخيّا أيضا.

ص: 327

يقال: الفرق حينئذ أنهم ماتوا فصار وجودهم وجودا برزخيّا، و عيسى عليه السّلام لم يمت بل صار بوجوده العنصري الدنيوي وجودا برزخيّا، فيكون عيسى عليه السّلام من قبيل الكلّي المنحصر في الفرد، كما هو شأن الموجودات الفلكيّة.

قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

الطهارة معروفة، و هي تستعمل في الطهارة الظاهريّة من الأرجاس، و المعنويّة من الذنوب و الأحداث. و في معنى آخر ألطف من ذلك كلّه و هو:

التخلّص ممّا هو من غير سنخه و صنفه.

و الجملة معطوفة على خبر (إن)، و هي قرينة اخرى على أن المراد بالرفع هو الجسماني و الروحي معا، و المراد منها الطهارة المعنويّة من رجس الكافرين و كفرهم و ابتعاده عن مخالطتهم و مكائدهم، و عن مجتمع استولت عليه كلّ رذيلة و كفر و جحود، و تنزيهه عن شبههم، فيكون بمنزلة ابتعاد الطير عن السباع بل أشدّ.

و يستفاد من قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا سبب تطهيره، و هو الكفر و مجالسة الكفّار.

قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

وعد حسن و بشرى لعيسى عليه السّلام و متبعيه. و المراد من الّذين اتبعوك هم الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام و اهتدوا بهديه، و اتبعوه في جميع ما أنزل اللّه تعالى عليه، فنالوا رضى اللّه تعالى و حبّه عزّ و جلّ، و وعدهم الخير و التفوّق على الّذين كفروا و أعرضوا عن نبوّته.

و من سياق المقابلة بين الطائفتين يستفاد أن الطائفة الاولى هي المؤمنة الهادية المطيعة لربّها، التي اتصفت بمقام الرضا و المحبّة للّه تعالى، و هم مختصّون بمن تابع عيسى عليه السّلام و استقام على الهدى دون كلّ من نسب نفسه إلى النصرانيّة، كيف و قد اعتقدوا بالكفر و ما يخالف العبوديّة و أنكروا ما جاء به عيسى عليه السّلام، على ما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، فيشمل النصارى المؤمنة قبل ظهور الإسلام و المسلمين بعد ظهوره، المؤمنين بعيسى عليه السّلام المبشّر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 328

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على تفوّقهم و تلبّسهم بالنسبة إلى الكافرين بعيسى عليه السّلام، و هم اليهود في الظاهر و الباطن و في الحجّة و البرهان و العدد، و لم يقيّد سبحانه التفوّق بوقت خاص، بل يستفاد من الآية الشريفة أنه بشارة و وعد أبدي لهم، فقد تحقّق هذا الوعد برهة من الزمن حين ما رفع عيسى عليه السّلام من بين المؤمنين به مع شدّة مجاهدة الكفّار و اليهود على محو دينه و إزالة طريقته و قتل المؤمنين به، فقد أظهر اللّه تعالى الحقّ و انتشر دينه و كثر اتباعه إلى أن خرجوا عن الصراط المستقيم و استولى عليهم الظلم و الفساد، و سيتحقق وعد اللّه أيضا إذا رجعوا إلى الملّة المستقيمة و الدين القويم، و هو ما أخبرنا عزّ و جلّ بظهور عيسى عليه السّلام في آخر الزمان، و يدلّ عليه قوله تعالى: إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

و قيل: إنّ المراد بالفوقيّة الفوقيّة في الاحتجاج و البرهان، و في جهة المقبوليّة لحجج المتبعين له، و استماع الناس لها و كونهم أطوع لها.

و فيه: أن ذلك احتمال حسن ثبوتا، كما هو كذلك في شريعة لاحقة بالنسبة إلى الشريعة السابقة، و لكن ظاهر الآية الشريفة التأبيد و الدوام بالنسبة إلى الفوقيّة، لا بالنسبة إلى الاحتجاج الذي هو له حدّ معين إلى ظهور الإسلام.

و قال بعض المفسّرين: إنّ ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، إخبار عن المستقبل و وعد صرف عمّا يقع بعيسى و متبعيه من اللّه تعالى.

و فيه: أنه خلاف ظاهر الآيات الشريفة التي وردت في شأن عيسى عليه السّلام في المواضع المختلفة من القرآن الكريم، بل أن ظاهر قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ، تحقّق التوفّي بالنسبة إليه، و لا معنى لإخباره عزّ و جلّ بأنه سيتوفاه بعد إماتته، مع أن ذلك كلّه خلاف السنّة الشريفة التي وردت في شرح حالات عيسى عليه السّلام، و هي بمجموعها ممّا لا يسع لأحد إنكارها.

نعم، ما ورد عن النصارى في حالات عيسى عليه السّلام قابل لكلّ احتمال، و جملة منها باطلة لا يمكن قبولها بوجه.

ص: 329

قوله تعالى: إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ .

التفات عن الغيبة إلى الخطاب، ليشمل عيسى عليه السّلام و الّذين اتبعوه، و الّذين كفروا به، فإن الجميع مصيرهم إلى اللّه تعالى و يحشرون إليه في يوم القيامة، فيقضي بينهم بالحقّ في ما اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام و دينه و شريعته، و ما اختلف فيه متّبعوه و الّذين كفروا به.

و في الخطاب الدلالة على شدّة الاعتناء بإيصال الثواب و العقاب لمستحقيهما.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً .

تفريع على ما تقدّم و تفصيل بعد إجمال، لبيان جزاء المبطل و كيفيّته، و هو الحكم الإلهي الذي يقضي به على الّذين كفروا، و هم اليهود الّذين خالفوا عيسى عليه السّلام و حاربوه.

قوله تعالى: فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

ذكر سبحانه و تعالى في الدنيا، لبيان تفوق الّذين اتبعوا عيسى عليه السّلام على اليهود الّذين كفروا به، فقد شدّد اللّه العذاب عليهم في الدنيا أن جعلهم مغلوبين مخذولين، ابتلاهم اللّه تعالى بأنواع البلايا من القتل و التشريد و الذلّة. و في الآخرة بأشدّ العذاب، و ما لهم في ذلك من ناصرين و أعوان يدفعون بهم عذاب اللّه.

و إنما أتى سبحانه بالجمع (من ناصرين) لبيان أن كلّ واحد منهم ليس له ناصر.

و في نفي الناصرين عنهم دلالة على أن ذلك قضاء حتم لا يقبل الشفاعة.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ .

بيان لحال المؤمنين و وعد حسن بالجزاء الأوفى لهم، و فيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، تلطفا بهم و تحنّنا عليهم، و لزيادة ثقة المؤمنين بالجزاء.

و إنما عدل سبحانه عن التعبير ب «الّذين اتبعوك» بهذا الخطاب، لبيان حقيقة

ص: 330

الاتباع، و هي الإيمان و العمل الصالح، و أن مجرّد الاتباع من دون أن يستتبع ذلك بعمل صالح لا أثر له، و لا يستلزم استحقاق هذا الجزاء الحسن، و قد أكّد ذلك سبحانه و تعالى في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلنَّصارى وَ اَلصّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة البقرة، الآية:

62]، و توفية الجزاء، أي إعطاء الثواب وافيا من غير نقص كما تقدّم، و مقتضى المقابلة بين الجملتين أن يكون الجزاء في الدارين الدنيا و الآخرة، ففي الدنيا الفوقيّة و الذكر الحسن و الغلبة و النصرة، و في الآخرة الجنّة و حسن المآب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ .

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة، و هو أن مجرّد الاتباع لبعض الأفراد لا يوجب اللحوق بالمؤمنين ما لم يستتبع الإيمان بالعمل الصالح، فإنه ظالم و اللّه لا يحبّ الظالمين، فهذه الآية المباركة تشير إلى الطائفة الثالثة، و هي المتبعون في اللسان و من انتسب إلى عيسى عليه السّلام بالقول فقط، من دون أن يتلبّس بحقيقة الإيمان، و لعلّه لذلك لم يختم سبحانه و تعالى الآية الشريفة بما يدلّ على الرحمة و الرأفة و المغفرة، كما هو عادته تعالى في سائر الموارد.

قوله تعالى: ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ اَلْآياتِ وَ اَلذِّكْرِ اَلْحَكِيمِ .

إشارة إلى قصص عيسى عليه السّلام التي ذكرها اللّه تعالى من حين ولادته إلى رفعه إلى السماء. و المراد بالذكر الحكيم هو القرآن الكريم الذي أحكمت آياته بخلوصها من الباطل، و المتّقن نظمه و المشتمل على الحكمة، يهدي المؤمنين إلى الصراط المستقيم و الدين القويم، المبيّن للمغيبات.

و إنما أتى بما يدلّ على البعد للإشارة إلى عظيم منزله المشار إليه و كرامته و شرفه، و بهذه الآية الشريفة يختتم سبحانه و تعالى قصص عيسى عليه السّلام و أخباره من حين ولادته إلى وفاته و رفعه في المقام، و لكنه تعالى لم يفرغ منها، و هذا ممّا تدلّ عليه هيئة المضارع في «نتلوه»، الدالّة على استمرار الوحي.

ص: 331

و الآية المباركة تدلّ على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صدق دعواه و بطلان ما سواها.

قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ .

إجمال بعد تفصيل و إيجاز بعد إطناب لتأكيد الحجّة، و هذا من الأساليب المستحسنة المتّبعة في مقام الاحتجاج و الاستدلال.

و الآية الشريفة في مقام الردّ على شبهة طائفتين:

الاولى: اليهود الذين استبعدوا خلق الإنسان من غير أب، فاتهموا مريم العذراء.

و الثانية: النصارى الذين ضلّوا في عيسى عليه السّلام، فزعموا أنه ابن اللّه تعالى، فكان الجواب قاطعا، حيث إن كلتا الطائفتين تعترفان بآدم و أنه خلق من غير أب و لا ام، فما يقول فيه اليهود و النصارى يقال في عيسى عليه السّلام، فاكتفى سبحانه و تعالى بالتشبيه بخلق آدم عليه السّلام حيث اقتضى الحال أن يوجز البيان.

و الآية الشريفة على إيجازها اشتملت على حجّتين:

الاولى: أن عيسى و آدم عليهما السّلام مخلوقان مسبوقان بالعدم، و قد خلقهما اللّه تعالى حسب حكمته و علمه، و فقد الأب فيهما لا يصير خلقهما ممتنعا، و لا يوجب ادعاء التهمة في عيسى.

الثانية: أن عيسى عليه السّلام كآدم في خلقه بالأمر التكويني، فلو اقتضى خلق عيسى من غير أب دعوى الالوهيّة فيه، لاقتضى خلق آدم تلك أيضا، مع أنه لم يدع أحد الالوهيّة و لعلّه أنه أولى بذلك، إذ لم يخلق من أب و أم، و أنه مسجود الملائكة، بخلاف عيسى الذي خلق من ام و من نفخ جبرائيل، فاجتمعت في مريم العذراء الحالة الانعقاديّة و المنعقديّة، فهو أبعد من دعوى الالوهية بمراتب عن آدم عليه السّلام.

ثم إنّ الآية الشريفة تثبت حقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أن مجاري

ص: 332

الأمور تحت قدرة اللّه تعالى و إرادته المقدّسة، و أنه إذا أراد شيئا يتحقّق و لا يقف دونها شيء، و إن كان خلاف العادة في عالم الأسباب و المسبّبات.

و يستفاد من قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ ، ترتب الكون على الأمر من دون أن يتخلّف عن ذلك بلا احتياج إلى سبب معين.

و لكن الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء التدريج، إذ أن جميع الموجودات مخلوقة بإرادته التكوينيّة، سواء كانت من التدريجيّات أم لم تكن، و التدرّج إنما يلاحظ بالنسبة إلى الأسباب، و أما إذا لوحظ بالقياس إلى أمر اللّه فلا تدريج و لا مهلة.

و إنما عبّر سبحانه و تعالى بالفعل المضارع: (كن فيكون)، مع أن الأمر كان في الماضي لتصوير ذلك الأمر تصوير مشاهدة و تجسيم في أذهان المخاطبين، كأنه واقع الآن، و لأن المضارع أظهر في التحقّق و الثبوت.

و قوله تعالى: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ يدلّ على وجه الشبه بين عيسى و آدم عليهما السّلام في أنهما خلقا على خلاف العادة، و يحتمل أن يكون المراد به أن آدم عليه السّلام في الخلق أغرب و أعظم، و مع ذلك لم يدع أحد الالوهيّة فيه، يكون أقطع للخصم و أحسم للشبهة.

قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ .

تأكيد لما ذكر في الآيات السابقة من قصص عيسى عليه السّلام في أنها الحقّ و ليست قابلة للافتراء و التشكيك، كما تدلّ الآية المباركة على أن الحقّ منحصر به تبارك و تعالى، و ما سوى ذلك من الباطل.

و في الآية الشريفة إيماء إلى أن جميع ما اوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ، و هو على الحقّ أيضا كما تقدّم مكررا.

و إنما ذكر سبحانه و تعالى: مِنْ رَبِّكَ ، للدلالة على أن الحقّ منه دون غيره، و إليه ينتهي كلّ شيء، لفرض أنه المبدأ و المعاد.

و قوله تعالى: فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ يدلّ على أن ما ذكره اليهود

ص: 333

و النصارى في شأن عيسى عليه السّلام مفتعل و امتراء، و فيه تشجيع لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على المحاجّة معهم و إبطال دعاويهم.

و الآية المباركة تشتمل على أبدع الأسلوب و البيان في مقام الاحتجاج و المخاصمة، كما في قوله تعالى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ [سورة هود، الآية: 109].

و إنما نسب الامتراء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مع أنه لا يحتمل فيه ذلك أبدا:

أوّلا: لصحة مخاطبة أحد و إرادة غيره على نحو: (إياك عني و اسمعي يا جارة)، و هو شائع في المحاورات الفصيحة.

و ثانيا: لإثبات دعواه و نفي دعاوي اليهود و النصارى، و عدم صحّة انتسابها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 334

بحوث المقام
بحث أدبي:

الظرف في قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ متعلّق بأنصاري بتضمين النصرة معنى السلوك و السير و الذهاب، كما في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السّلام:

إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [سورة الصافات، الآية: 99]، و التضمين من المحسّنات البلاغيّة.

و قيل: متعلّق بفعل محذوف وقع حالا من الياء، و هي مفعول به، و معناه: من ينصرني حال كوني داعيا إلى اللّه تعالى، و إنما قالوا ذلك حفاظا على القواعد المعمولة في علم النحو، و لكن ذلك تطويل بلا طائل تحته، مع أن التضمين من المحسّنات البلاغيّة - كما عرفت - و هو أمر مرغوب فيه.

و قيل: أن «إلى» بمعنى مع، و لكن لا كلّية في ذلك، و إنما تأتي (إلى) بمعنى (مع) في موارد معدودة، فلا يقال: جاء زيد إليه مال. مع أنه مخالف لأدب عيسى عليه السّلام و القرآن مع اللّه تعالى.

و قال الزمخشري: إن (إلى) بمعنى الانتهاء، أي: من ينصرني منتهيا نصره إلى اللّه تعالى.

و في قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ الطباق التام، و هو من المحسّنات البديعيّة.

و قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ خبر أن، وَ رافِعُكَ عطف عليه، و كذا جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ . و متوفيك أصله متوفيك (بالضمة على الياء)، و لكن حذفت الضمة استثقالا.

و تقديم الجار و المجرور في قوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ، يفيد تأكيد الوعد و الوعيد.

ص: 335

و (ثم) في قوله تعالى: ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ للتراخي في الإخبار، لا في المخبر به.

و جملة: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ابتدائية لا محل لها من الإعراب، مبيّنة لوجه الشبه.

بحث دلالي:

الآيات الشريفة تدلّ على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ على ظهور الكفر اليهود ظهورا بيّنا، بحيث تعلّق به الإحساس، فلم يبق أي احتمال لرشدهم و اهتدائهم، و لذا عقّبه سبحانه و تعالى بما يدلّ على الامتحان الذي هو الوسيلة الوحيدة لتمييز المؤمن عن الكافر.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ على حقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أن كلّ مرشد اجتماعي لا بد له من مركز يعتمد عليه في ما يلاقيه في سبيل نشر دعوته، و الحافز الذي يحفزه على العمل عند ما يرى ما يثبطه فيه، و له الأثر الكبير في تنفيذ العمل و إنجازه، و هذا ممّا نشاهده في القوى الطبيعيّة أيضا، فإنها تتمركز في نقطة ثم تنتشر منها.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: قالَ اَلْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اَللّهِ آمَنّا بِاللّهِ وَ اِشْهَدْ بِأَنّا مُسْلِمُونَ على جلالة قدر الحواريين، فإنهم آمنوا بجميع ما انزل على عيسى عليه السّلام بعد ما كفر قومه، و أسلموا أمرهم إلى اللّه تعالى و اتبعوا ما جاء به رسولهم، و اتقوا اللّه و عبدوا اللّه ربّهم و سلكوا الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى السعادة و الكمال. و هذا هو الذي طلبه عيسى عليه السّلام منهم عند ما قال: فَاتَّقُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُونِ * إِنَّ اَللّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ ، إلا أن جميع ذلك لا يدلّ على كونهم أوصياء أو أنبياء ممّا ورد في هذه الآيات الشريفة الدالّة على مدحهم و المبيّنة لعظيم منزلتهم من بين سائر الناس الّذين كفروا بعيسى.

ص: 336

الرابع: أن قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، يدلّ على أن للشاهدين منزلة كبرى و درجة عظمى من بين الناس، سواء في الدنيا أم في الآخرة، حيث إن كلّ مؤمن إنما يطلب أن يكون مع الشاهدين، قال تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ [سورة المائدة، الآية: 83]، فالشاهد هو الحجّة على الخلق، سواء كانت شهادته على التبليغ أم كانت على أعمال الخلق أو سائر الامة.

و الشاهد هو الذي بلغ من التقوى درجة عليا، و من الإيمان منزلة كبرى حتّى اختاره اللّه تعالى لدرجة الشهادة، و هو الكامل الذي له الشهادة على الناقص، كما نشاهده في الطبيعيّات أيضا، و قد تقدّم في قوله تعالى: يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]، بعض الكلام.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ . أن كلّ مكر في دين اللّه يترتب عليه الجزاء لا محالة، سواء في الدنيا أم في الآخرة، و مكره تعالى أشدّ و أقوى من غيره، و مع ذلك فهو يفعل وفق الحكمة المتعالية، و به يصل المحسن إلى إحسانه و المسيء إلى نكال أعماله، و لذا كان في مكره كمال العناية بخلقه و اللطف بعباده، و يظهر ذلك بوضوح في مكره عزّ و جلّ باليهود الّذين أرادوا قتل المسيح و صلبه، فرفعه اللّه تعالى من بين أيديهم و حفظه و حفظ المؤمنين و دينه من الضياع، لئلا تذهب جميع أتعابه سدى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ ، على أن لعيسى بن مريم عليهما السّلام شأنا من بين الأنبياء، فقد أخذه من عالم الأرض الذي كثر فيه الفساد و استولى على أهله العصيان و الكفران و رفعه إلى السماء، التي هي محلّ القدس و القديسين، و لعلّ السرّ في ذلك أن عيسى عليه السّلام خلق من مادة أرضيّة متكوّنة من مريم العذراء و مادة ملكوتيّة هي نفخة جبرائيل، و تجاذبت المادتان فالاولى تجذب عيسى إلى عالمها، و الثانية كذلك، و غلبت الثانية و رفعت عيسى عليه السّلام إلى السماء إلا أن الاولى أوقفت هذا الرفع العلوي في السماء الرابعة، و لو لم تكن هذه لرفع

ص: 337

عيسى عليه السّلام إلى العرش الأعلى.

و يمكن أن يكون تحديد الرفع إلى السماء الرابعة أيضا ما كان معه من حطام الدنيا، و هو مدرعة صوف، و كان قلبه متوجها إلى امه الحنينة عليه الرؤوفة به، و لو لا هذان الأمران لما كان لرفعه حد معين، فإن توجّه القلب و لو في الجملة إلى غير اللّه تعالى يوجب التحديد، و كذلك المادة التي هي من الأرض توجب منع السباحة في ذلك اليم و لو كانت من غزل و نسيج مريم عليها السّلام.

و من ذلك يعرف انقطاع قلب خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله عن جميع ما سوى اللّه بالكلّية حين رفع إلى العرش الأعلى و خاطب اللّه تعالى مواجهة، كما حكى عنه الجليل في كتابه.

إن قلت: إنّ آدم عليه السّلام خلق أيضا من مادة أرضيّة و نفخة روحانيّة كما حكى عنه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة الحجر، الآية: 29] فلا بد أن يكون هذا التجاذب فيه أيضا.

قلت: إنّ آدم عليه السّلام خلق من الأرض و للأرض و لم تكن فيه حكمة رفعه إلى السماء، بخلاف عيسى عليه السّلام فإنه خلق من مادة أرضيّة و نفخة ملكوتيّة و تحقّقت فيه الحكمة لرفعه مدة معينة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، على أن الرفع لم يكن رفعا معنويّا فقط، بل كان جسمانيّا و روحانيّا معنويا، فقد طهّره اللّه تعالى من مجالسة الّذين كفروا به و رفع ذكره و نزّهه عن الفسقة و العصاة.

و لو كان التطهير معنويا لما اختص عيسى عليه السّلام، بل أن جميع الأنبياء مطهّرون من الأرجاس و الأنجاس و الكفر و العصيان.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا على تفوق من اتبع عيسى عليه السّلام على الّذين كفروا به في جميع شؤون السلطة و العدد، و الحجّة و البرهان و الشرف.

ص: 338

و إنما عبّر سبحانه ب: اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ ، لتضمّنه العلّة لهذا التفوق، و هي الاتباع و الإيمان و العمل الصالح و التقوى، فيختصّ بمن اتبعه مخلصا في أوّل دعوته و أهل الإسلام الذي اتبعوه باتباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

عذابا شديدا في الدنيا و الآخرة: «فإن تعذيب الّذين كفروا بعيسى عليه السّلام في الدنيا و الآخرة يستلزم تفوق الّذين اتبعوه».

التاسع: إنما علّق سبحانه و تعالى توفية أجور المؤمنين على الإيمان و العمل الصالح، للدلالة على كمال هذين الأمرين و الإرشاد إلى الدعوة إليهما، و علّق العذاب على الكفر إيذانا بعظم قبح الكفر و الابتعاد عنه.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ على صحّة الاستدلال و الاحتجاج مع الخصم بالوجه الحسن، فإنه تعالى أثبت خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم عليه السّلام من غير أب و لا ام، فإنهما في التقدير واحد.

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: اَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ اَلْمُمْتَرِينَ على أن الحقّ مبدؤه من اللّه تعالى و ختمه إليه عزّ و جلّ، و أن رسوله على الحقّ.

كما يدلّ على تحريك العزيمة فيه صلّى اللّه عليه و آله للاحتجاج و المخاصمة على الحقّ و تثبيته على اليقين، و هذا أسلوب لطيف في تحريك العزائم و تهييج الفطرة على الثبات في مقام الاحتجاج على الحقّ.

و يدلّ على أن ما عند غيره باطل لا أثر له، و أن السامع إذا ألقى إليه هذا الخطاب انزجر و ارتدع عن المخاصمة مع الحقّ، و قد ورد نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة، آية 147، أيضا و تقدّم الكلام فيها أيضا.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ على أن مجرّد الاتباع لا يكفي في القرب إليه تعالى و توفية الأجر الكبير إلا إذا كان مقرونا بالعمل الصالح و الانقلاع عن الظلم، و إلا فإنه يوجب البعد عنه عزّ و جلّ، فكأن هذه الآية الشريفة مسوقة لبيان حال طائفة ثالثة، و هي الفساق و مرتكبوا الظلم بعد ذكر

ص: 339

طائفتين هما الّذين اتبعوا عيسى عليه السّلام، و الثانية هم الّذين كفروا به.

بحث روائي:

في تفسير القمّي: في قوله تعالى: فَلَمّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ اَلْكُفْرَ عن الصادق عليه السّلام: «أي لما سمع و رأى أنهم يكفرون. و الحواس الخمس التي قدّرها اللّه في الناس: السمع للصوت، و البصر للألوان و تمييزها، و الشم لمعرفة الروائح الطيبة و المنتنة، و الذوق للطعوم و تمييزها، و اللمس لمعرفة الحار و البارد و اللين و الخشن».

أقول: ما ذكره عليه السّلام موافق لما اتفق عليه الفلاسفة الإلهيون و الطبيعيون، و هو عليه السّلام ليس في مقام الحصر، بل في مقام بيان ما هو الغالب و إلا فقد أثبت العلم الحديث حواس اخرى ليست من المذكورات.

و في العيون: عن ابن فضال عن أبيه قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: لم سمّي الحواريون الحواريين؟ قال عليه السّلام: أما عند الناس فإنهم سمّوا حواريون لأنهم كانوا قصارين يخلصون الثياب من الوسخ بالغسل، و هو اسم مشتق من الخبز الحوار، و أما عندنا فسمّي الحواريون الحواريين لأنهم كانوا مخلصين في أنفسهم، و مخلصين لغيرهم من أوساخ الذنوب بالوعظ و التذكير».

أقول: يمكن فرض الجامع القريب بينهما، لأن غسل الثوب مستلزم لإزالة وسخه، و الوعظ و التذكير عن إخلاص يستلزمان نظافة النفس و طهارة الروح عن الذنوب.

و في التوحيد: عن الصادق عليه السّلام: «أنهم كانوا اثني عشر رجلا، و كان أفضلهم و أعلمهم لوقا».

أقول: و في تفسير القمّي أيضا كذلك.

و في تفسير القمّي: عن حمران بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن عيسى عليه السّلام وعد أصحابه ليلة رفعه اللّه إليه، فاجتمعوا إليه عند المساء و هم اثنا عشر رجلا، فأدخلهم بيتا ثم خرج عليه من عين في زاوية البيت، و هو ينفض

ص: 340

رأسه من الماء، فقال: إنّ اللّه أوحى إليّ أنه رافعي إليه الساعة و مطهّري من اليهود، فأيّكم يلقى عليه شبحي فيقتل و يصلب و يكون معي في درجتي؟ فقال شاب منهم:

أنا يا روح اللّه، قال: فأنت هو ذا، فقال لهم عيسى عليه السّلام: أما أن منكم لمن يكفر بي قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، فقال له رجل منهم: أنا هو يا نبي اللّه، فقال عيسى عليه السّلام: أ تحسّ بذلك في نفسك فلتكن هو، ثم قال لهم عيسى عليه السّلام: أما إنكم ستفرّقون بعدي على ثلاث فرق فرقتين، مفتريتين على اللّه في النار، و فرقة تتبع شمعون صادقة على اللّه في الجنّة. ثم رفع اللّه عيسى إليه من زاوية البيت و هم ينظرون إليه، ثم قال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ اليهود جاءت في طلب عيسى عليه السّلام من ليلتهم فأخذوا الرجل الذي قال له عيسى عليه السّلام إن منكم ليكفر بي من قبل أن يصبح اثنتي عشرة كفرة، و أخذوا الشاب الذي القى عليه شبح عيسى فقتل و صلب، و كفر الذي قال له عيسى عليه السّلام تكفر قبل أن تصبح اثنتي عشرة كفرة».

أقول: روي قريب منه عن ابن عباس و قتادة و غيرهما و اختلاف أصحاب الأنبياء بعد فقدهم أمر عادي، و ذلك لاختلاف عقولهم و ادراكاتهم و لا يجمع ذلك إلا التثبت على دين نبيّهم و متابعتهم، و هي غير متحقّقة لديهم، و يدلّ قوله تعالى:

فَمَا اِخْتَلَفُوا إِلاّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ [سورة الجاثية، الآية: 17]، و الروايات في قتل شبيه المسيح أو غيره مختلفة، و القرآن الكريم أجمل ذلك.

و سيأتي في سورة النساء تفصيل الكلام.

و في الإكمال عن الصادق عليه السّلام في حديث: «بعث اللّه عيسى بن مريم عليه السّلام و استودعه النور، و العلم، و الحكم و علوم الأنبياء قبله و زاده الإنجيل، و بعثه إلى بيت المقدس إلى بني إسرائيل يدعوهم إلى كتابه و حكمته و إلى الإيمان باللّه و رسوله، فأبى أكثرهم إلا طغيانا و كفرا، فلما لم يؤمنوا دعا ربّه و عزم عليه فمسخ منهم شياطين ليريهم آية فيعتبروا فلم يزدهم ذلك إلا طغيانا و كفرا، فأتى بيت المقدس فمكث يدعوهم و يرغّبهم في ما عند اللّه ثلاث و ثلاثين سنة حتى طلبته اليهود، و ادعت انها عذبته و دفنته في الأرض حيّا، و ادّعى بعضهم أنهم قتلوه

ص: 341

و صلبوه و ما كان اللّه ليجعل لهم سلطانا عليه، و إنما شبّه لهم، و ما قدروا على عذابه و قتله و لا على قتله و صلبه، لأنهم لو قدروا على ذلك لكان تكذيبا لقوله تعالى:

بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ بعد أن توفاه.

أقول: هذه الرواية تدلّ على أن مدّة الدعوة كانت ثلاثا و ثلاثين سنة، لا أصل عمره الشريف، و يمكن حمل بقية الروايات عليه أيضا، فقد ورد أن عمره كان أربعا و ستين سنة و قالت النصارى غير ذلك.

و المراد من مسخهم شياطين مسخ قلوبهم، فإن من أدمن على إنكار الحقّ يتغيّر قلبه لا محالة إلى حقيقة كفرهم، قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14].

و يمكن الحمل على مسخهم بجهاتهم الجسمانيّة كما وردت روايات كثيرة في مسخ جملة من العصاة إلى بعض الحيوانات، و قد حكى اللّه تبارك و تعالى في القرآن الكريم عن مسخ اليهود إلى بعض الحيوانات، قال جلّ شأنه: وَ جَعَلَ مِنْهُمُ اَلْقِرَدَةَ وَ اَلْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ اَلطّاغُوتَ [سورة المائدة، الآية: 60]، و عبدة الطاغوت ليس إلا من الشياطين.

و في العيون: عن الرضا عليه السّلام: «أنه ما شبّه أمر أحد من أنبياء اللّه و حججه على الناس إلا أمر عيسى وحده، لأنه رفع من الأرض حيّا و قبض روحه بين السماء و الأرض، ثم رفع إلى السماء، و ردّ عليه روحه، و ذلك في قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ ، و قال اللّه حكاية عن عيسى يوم القيامة: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ .

أقول: الحديث يدلّ على توفّي عيسى عليه السّلام و موته قبل رفعه إلى السماء، و بهذا يمكن أن يجمع بين جميع الأقوال لفرض صراحة الحديث بأنه مات ما بين السماء و الأرض ثم أرجع اللّه روحه إليه و رفعه.

و في تفسير العياشي: عن الصادق عليه السّلام: «رفع عيسى بن مريم بمدرعة صوف

ص: 342

من غزل مريم و من نسج مريم و من خياطة مريم، فلما انتهى إلى الماء نودي: يا عيسى ألق عنك زينة الدنيا».

أقول: إذا كانت المدرعة المباركة من متاع الدنيا، فما ظنك بما في قلوب البشر الذي هو من أخسّ متاع الدنيا، و كيف يمكن الرفع بهما إلى السماء.

و في تفسير القمّي: في قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ عن الصادق عليه السّلام: «أن نصارى نجران لما وفدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و كان سيدهم الأتم، و العاقب، و السيد، و حضرت صلاتهم فأقبلوا يضربون بالناقوس و صلّوا، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا رسول اللّه، هذا في مسجدك؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: دعوهم، فلما فرغوا دنوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إلى ما تدعونا؟ فقال: إلى شهادة أن لا إله إلاّ اللّه و أني رسول اللّه و أن عيسى عبد مخلوق يأكل و يشرب و يحدث، قالوا: فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: قل لهم ما تقولون في آدم عليه السّلام، أ كان عبدا مخلوقا يأكل و يشرب و ينكح، فسألهم النبي صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: نعم، فقال: فمن أبوه؟ فبهتوا فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

أقول: روى مثله السيوطي في الدر المنثور و غيره عن السدي و عكرمة و غيرهما.

و في أسباب النزول للواحدي: «أن وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد، قال صلّى اللّه عليه و آله: أجل إنه عبد اللّه و رسوله و كلمته ألقاها إلى العذراء البتول، فغضبوا و قالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأمرنا مثله، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ».

أقول: مثل هذه الروايات كثيرة تدلّ على سقوط كونه ابن اللّه مطلقا، كما تدلّ على عدم كون اللّه تعالى أباه، ففسدت مزاعم النصارى و القول بالتثليث بأي نحو يتصوّر.

ص: 343

بحث عرفاني:

عالم الأمر أعظم العوالم الربوبيّة من كلّ جهة، و هو محيط بما سواه إحاطة الروح بالجسد، و هو شهود كلّه، بل بحسب بعض درجاته يتّحد فيه الشاهد و المشهود بالذات، لا سيما بناء على ما أثبته بعض أعاظم الفلاسفة من اتحاد العالم و المعلوم بالذات وجودا، و بناء على التفاني المحض في مرضاة المعبود الحقيقي.

و الانقطاع التام إليه يصير العبد مورد إرادته و مشيئته و فعله تبارك و تعالى من جميع الجهات، كالميت بين يدي الغسّال مثلا، و قد دلّت على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة، و الشاهد الحقيقي في تلك المراتب واحد، و هو اللّه الواحد القهّار و المشهود به ليس إلا جماله و جلاله بالذات، فيتحد الشاهد و المشهود.

و لعلّ التأمّل في سياق قوله تعالى: فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، يقرب كونها إشارة إلى تلك المرتبة الجليلة الرفيعة، كما أن

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم أرنا الأشياء كما هي»، إشارة إلى تلك المرتبة أيضا، فإنها ليست إلا شوارق الجمال و الجلال التي تظهر للنفوس المستعدّة، إما تدريجا أو دفعة بحسب المقتضيات، لكن بحيث يكون الفيض دائما، و التدرّج و القصور إنما هو من ناحية المستفيض، و للبحث تفصيل لعلّنا نتعرّض له في المباحث الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و لأجل شدّة صعوبة الوصول إلى تلك المرتبة عبّر سبحانه و تعالى بقوله:

فَاكْتُبْنا مَعَ اَلشّاهِدِينَ ، و لم يعبّر بقوله: «من الشاهدين»، لأن شهود الجمال و الجلال خاص لبعض أخصّ خواص الأولياء، كأعاظم الأنبياء و المقرّبين.

و الحمد للّه أولا و آخرا

ص: 344

المجلد 6

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة آل عمران

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ ن.......

اشارة

فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) بعد ما سرد عز و جل جملة من قصص عيسى (عليه السلام) و ذكر ان مولده و ان كان على غرابة لكنه كان امرا عاديا بالنسبة إلى قدرة الخالق و مشيئته كما في خلق آدم (عليه السلام) و منحه النبوة و الكتاب و اقام الحجة عليه بما لا يدع مجالا الى الشك و الارتياب بأن عيسى عبد اللّه فلا مبرر لتأليهه و عبادته.

ما ذكره سبحانه و تعالى حق لا يرتاب فيه احد لأنه بيان الهي اشتمل على برهان قويم يقبله العقل السليم و يسطع نوره على كل القلوب فيدفع عنها الزيغ و الضلال و يستشعر السامع برد العلم و اليقين في قلبه فكانت تلك البيانات الإلهية قد أوجدت عند السامعين قوة الاحتجاج مع كل خصم بما لا يدع مجالا للارتياب.

امر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه

ص: 5

و آله) و غيره ممن حصلت له قوة الاحتجاج و الكلمة الحاسمة الفاصلة بين الحق و الباطل و أحسّ ببرد اليقين في قلبه بالمباهلة - في دفع عناد المعاندين و إزهاق الدعاوى الباطلة غير المنصفة - قطعا للمعاذير و حسما لكل إصرار على الغي و الضلال، و ارشدهم إلى كيفية الاحتجاج و وعدهم النصر و الغلبة باذنه عز و جل.

و المباهلة من الأنبياء اظهار لاتصال نفوسهم القدسية بروح القدس و بيان لتأييداته تعالى لهم، و ارشاد الى انفعال عالم الشهادة و تأثره بعالم الغيب.

و المباهلة لا تصدر الا من النفوس الملكوتيّة و لذا كان لها التأثير الكبير على النفوس غير الكاملة و انفعالها بها كما انفعلت نفوس النصارى من نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فتنازلوا عنها بعد قبولها لما استشعرت أنفسهم الخوف، و احجمت عنها و طلبت الموادعة و المعاهدة خوفا من اللعنة و ما يلحقهم من الوزر و الوبال كما نصحهم رهبانهم في ذلك الحين.

التفسير

قوله تعالى: فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ .

تفريع على ما تقدم من بيان الحق في عيسى (عليه السلام) و الضمير في «فيه» يرجع إما الى عيسى (عليه السلام) الذي بين سبحانه و تعالى الأمر فيه بيانا شافيا بما لا يدع فيه الشك و الارتياب و قد اشتمل على البراهين الساطعة و الحجج القويمة. أو الى «الحق» المذكور في الآية السابقة الذي هو اقرب لفظا و يكون عبارة اخرى عن بيان اصل قصة عيسى (عليه السلام).

و المحاجة تبادل الاحتجاج و هي تستعمل في الحق و غيره كما حصلت

ص: 6

في المقام من النصارى في عيسى بن مريم (عليه السلام) زاعمين انه إله أو ابن اللّه باعتبار انه ولد من غير أب كما حكى اللّه تعالى عنهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال عز و جل: «وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ» التوبة - 20 و قال تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ» * المائدة - 72، و قال تعالى: «أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ» المائدة - 116.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ .

تطييب لنفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بانه على العلم المطابق للواقع و الحق اليقين، و وعد منه عز و جل بأنه ناصره و انه لا يخذله في المواطن، و ارشاد الى ان ما عنده من العلم هو الحق الذي لا ارتياب فيه و يقبله العقل السليم، فلا ينبغي التردد في المحاجة و المجادلة على الحق.

و المراد من العلم الأعم الحاصل من البرهان عن طريق الحس أو عن طريق العقل أو الوحي الالهي فان الجميع يتفق على ان المخلوق الممكن المربوب لا يمكن ان يكون إلها و ربا. و ان اللّه واحد لا شريك له و انه لم يلد و لم يولد.

قوله تعالى: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ .

تعال: فعل امر يدل على طلب الإقبال من مكان مرتفع ثم استعمل في مطلق طلب المجيء توسعا اي: اقبلوا بثبات و عزيمة.

و الخطاب للرسول (صلى اللّه عليه و آله) بالمحاجة لقطع كل عذر، و دفعا لكل ضلالة، و حسما لكل فساد. و التباهل الى اللّه عز و جل لمعرفة المحق من المبطل، و هو امر لا بد منه لحفظ الحق عن الضياع، و إتماما للحجة على العباد و صونا للمؤمن و مقامه في الحياة.

ص: 7

و الحاق الخزي و العار و الهلاك للمبطل و من هو على الغي و الضلال.

و المخاطب في «ندع» هو المتكلم مع الطرف الآخر ممن يراد المحاجة معه و هو في المقام النصارى اي: يدعو كل منا و منكم ابنائه و نساءه و نفسه.

و المباهلة و ان كانت بين الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و بين النصارى و لكن عممت ليشمل من ذكر في الآية الشريفة من الأبناء و النساء و الأنفس لأمور كثيرة أهمها:

أولا: ان للاجتماع خصوصية في الظفر على المطلوب و النيل بالمحبوب ليست هي في غيره و ان دعاء الجمع أقرب الى الاستجابة و لذا أمرنا اللّه تعالى في غالب الآيات المباركة الى الجمع في الدعاء قال تعالى: «وَ لِلّهِ اَلْأَسْماءُ اَلْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها» الأعراف - 180 و في السنة الشريفة الشيء الكثير قال (صلى اللّه عليه و آله): «يد اللّه مع الجماعة».

و ثانيا: الأعلام بأن الحق إظهاره أعظم من كل ما يرتبط بالإنسان و انه لا غاية اشرف منه و ان كل شيء هو دونه سواء كان النفس و الشرف و الأهل.

فالآية الشريفة ترشد الإنسان الى انه لا بد ان يكون سعيه و مقصده هو احقاق الحق و إظهاره و ان لا يثبطه في ذلك الأهل و العشيرة و الشرف بل يفدي كل ذلك دونه.

و ثالثا: بيان ان مورد المباهلة من الأمور النوعية و الاجتماعية فلا بد من الاجتماع فيه لإتمام الحجة و إيضاح المحجة.

و رابعا: اعتماد الداعي و الأعلام بانه على الحق و انه يقدم الأبناء و النساء و الأنفس للمباهلة و يخاطر بهم في العذاب و يشركهم في الدعاء على الكاذبين لينقطع دابرهم و يبطل مزاعم المبطلين و يظهر إبطالهم.

ص: 8

و خامسا: الأعلام بأن الداعي مطمئن باستجابة الدعاء و صدق دعواه و يقدم من هو اقرب الناس اليه و يذب عنهم في الشدائد و الأهوال و يظهر الشفقة عليهم و المحبة بهم و يتحمل الصعاب دونهم و مع ذلك فهو يخاطر بهم في شمول العذاب لهم و ليس ذلك الا لكون الداعي على يقين باستجابة دعائه.

و سادسا: الإشارة الى انهم على عظيم من الشرف و الكمال و انهم اقرب الناس الى الرسول العظيم (صلى اللّه عليه و آله) و ان دعاؤهم لا يرد و لهم منزلة عظيمة عند اللّه تبارك و تعالى و لذا أمر سبحانه و تعالى رسوله باشراكهم في الدعاء و المباهلة معهم.

و سابعا: الأعلام بأن المباهلة و ان كانت محاجة بين طرفين إلا انه لا بد ان تكون باشراف من اللّه تعالى على الجميع و لا يعقل ان تكون الرعاية الإلهية لكل فرد في هذا الأمر العظيم، و تشمل كل من لا يكون مرضيا لديه عز و جل.

و المراد من الأبناء هم أولاد الرسول (صلى اللّه عليه و آله) الذكور المنحصرون في الحسن و الحسين (عليهما السلام) حين نزول الآية الشريفة.

و الآية المباركة ليست في مقام تكثير الإفراد في الأبناء و النساء و الأنفس و انه لا بد من تحقق ذلك الجمع خارجا كما هو الشائع بين الناس، بل هي ظاهرة في مقابلة الجمع بالجمع سواء كان كل جمع مشتملا على الكثرة أولا، مع انه من مجرد الإنشاء و الأمر بالمباهلة و هما لا يستلزمان كون المصداق الخارجي ايضا متحققا في الجمع و الكثرة بل المقصود هو الحكم و الإنشاء و الأمر فقط سواء كان مصداقه واحدا أو متعددا و مثل هذا كثير في الاستعمالات القرآنية و غيرها قال تعالى:

ص: 9

«يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ اَلْعَفْوَ» البقرة - 219 و قال تعالى:

«اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ» آل عمران - 173.

و بعبارة اخرى: مصداق النزول و التنزيل لا يكون مقيدا لأصل الحكم و هذا ظاهر.

يضاف الى ذلك ان إتيان لفظ الجمع من الأدب المحاوري الذي يلاحظه القرآن الكريم و هو دائر في المحاورات الفصيحة.

قوله تعالى: وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ .

النساء جمع لا واحد له من لفظه و مفردة المرأة، و لفظ النساء يشمل المرأة التي تنسب الى الشخص بسبب أو نسب كالزوجة و الام و الاخت و البنت و قد ورد استعماله في جميع تلك الموارد في القرآن الكريم قال تعالى: «نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنّى شِئْتُمْ» البقرة - 223 و قال تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ» النساء - 11 و المراد بهن الأخوات و قال تعالى: «وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ» النساء - 7 و المراد بهن البنات و المتقين منهن في المباهلة فاطمة الزهراء (سلام اللّه عليها) بالإجماع و نصوص متواترة كما سيأتي نقلها.

قوله تعالى: وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ .

الأنفس جمع النفس و هي تطلق تارة و يراد بها الروح قال تعالى:

«وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلظّالِمُونَ فِي غَمَراتِ اَلْمَوْتِ وَ اَلْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ» الانعام - 93 و اخرى: يراد بها الذات و الشخص و هو المراد بها في المقام، و تقدم في قوله تعالى: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ» آل عمران - 28 بعض الكلام.

و المقصود بها نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) القائم بالدعوة

ص: 10

إلى اللّه تعالى و من هو بمنزلته في العلم و العمل و القضاء بالحق و هو منحصر في علي (عليه السلام) نصوصا و اجماعا.

و قيل: انه لا يمكن دخول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في الآية الشريفة لان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو و لا يصح دعوة الشخص نفسه.

و يرد عليه: انه لم يقم دليل على بطلان دعوة الشخص نفسه بل الأمر يدور مدار الغرض الصحيح، و قد ورد في الفصيح ذلك يقال:

آليت على نفسي ان لا افعل كذا و نحو ذلك مما هو كثير. مضافا الى ان دخول النبي (صلى اللّه عليه و آله) الذي له مقام الجمع في الجمع و بمنزلة الكل ينفي أصل هذا الأشكال.

على ان دخول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) انما هو لأجل اثبات منزلة علي (عليه السلام) و الأعلام بأن وجوده (عليه السلام) بمنزلة وجوده (صلى اللّه عليه و آله) في العلم و العمل و الخصال الحميدة.

و في إتيان النساء و الأنفس جمعا ما تقدم ذكره من ان المراد هو وقوع هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى: ثُمَّ نَبْتَهِلْ .

مادة (بهل) تدل على شدة الاجتهاد و الاسترسال في الأمر المطلوب قال لبيد:

في قروم سادة من قومه *** نظر الدهر إليهم فابتهل

اي فاجتهد في إهلاكهم. و قد استعمل في الاجتهاد في الدعاء سواء كان لعنا أو غيره، و نبتهل افتعال بمعنى المفاعلة اي يدعو بعضنا على بعض، و يختص هذا الدعاء في المقام باللعنة بقرينة ما يأتي.

ص: 11

قوله تعالى: فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ .

بيان للابتهال. و المراد من اللعنة النكال و العذاب مطلقا و منه البعد عن رحمته تعالى و توفيقاته، كما ان المراد بالكاذبين هم الذين كذبوا و افتعلوا الباطل في شأن عيسى (عليه السلام) فيكون اللام للعهد اي: الكاذبين من احد طرفي المباهلة الواقعة بين الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و بين النصارى و يستفاد من ذلك ان احد الطرفين كان كاذبا و الآخر كان صادقا، و قد ذكرنا ان الآية الشريفة تجعل هذا الجمع مقابل الجمع فتكون الإفراد في كل طرف شركاء في الدعوى فلو كان أحد الجمعين كاذبا كان الإفراد يشتركون فيه و يلزمه اشتراك الإفراد في الجمع الآخر في الصدق، و في ذلك فضل عظيم لمن اشترك في دعوة الرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و في إتيان الكاذبين جمعا الدلالة على ان في كل طرف افرادا متصفين بالدعوى سواء كانت صادقة أم كاذبة و هذا بخلاف ما ذكرنا في الأبناء و النساء و الأنفس حيث انه لا يعتبر تعددا في كل عنوان، إذ المنساق هو جعل هذا الجمع مقابل الجمع سواء تعددت الإفراد أم لا.

قوله تعالى: إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ .

إشارة إلى ما قصه اللّه تعالى في امر عيسى (عليه السلام) من ولادته إلى حين رفعه من عالم الأرض، و القصص جمع القصة و هي مجموعة من المعاني يتابع بعضها بعضا من يقص فلان اثره اي يتبع اثره و منه قوله تعالى: «وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ» القصص - 11 و قال تعالى: «فَارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً» الكهف - 64.

و في تأكيد الجملة ب إن و اللام و ضمير المنفصل دلالة على ان هذا

ص: 12

هو الحق فقط دون غيره مما تدعيه النصارى في عيسى بن مريم (عليه السلام) الذي هو خلاف الحق، و تطييب لنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و اعلامه بانه على الحق و اليقين و تشجيعه على المباهلة و المحاجة مع المبطلين.

قوله تعالى: وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ .

حصر الألوهية في اللّه تبارك و تعالى، و ابطال لما ادعاه النصارى من التثليث و الحلول في عيسى ابن مريم (عليهما السلام). و الجملة كالنتيجة للآيات الشريفة المتقدمة.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَللّهَ لَهُوَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ .

تطييب لنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بانه عز و جل ناصره و انه لا يخذله في نصرة الحق فهو الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في أفعاله و تقديره و تدبيره في خلقه فليس احد يضاهيه في عزته و حكمته و لا يساويه في ألوهيته و جميع ما سواه مخلوق و مربوب له فما قاله الخصماء اوهام باطلة.

و الجملة تفيد قصر الألوهية في اللّه عز و جل و تنفي ما سواه مما يدعيه المشركون، فالآيتان تفيدان القصر و الحصر و ان أحدهما تفيد توحيد الذات و تنفي الشرك في العبودية و في مقام الذات. و الثانية تفيد توحيد الأفعال، و تنفي التشريك في الفعل.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ .

اي: فان تولوا عن اظهار الحق و الاعتقاد به فان اللّه تعالى عليم بفسادهم و يقضي بالحق و هو الذي يجزيهم جزاء التولي عن الحق.

و لما كانت المباهلة طريقا لإظهار الحق و ابطال الباطل فيكون التولي

ص: 13

عنها توليا عن الحق و إظهاره و اعراضا عن السعادة و يكون البقاء على اهوائهم الباطلة و افكارهم المزيفة فسادا و اللّه عليم بأنهم مفسدون لا يريدون الا الفساد و الشقاء، و لا فساد أعظم من البقاء على الباطل و ترويجه و إفساد عقائد الناس و اضلالهم و الاعراض عن التوحيد و الحق و ليس ذلك إلا إفسادا للفطرة و جلب الشقاء للناس و ان اللّه تعالى عليم يجزيهم جزاؤهم الذي يستحقونه.

و يستفاد من قوله تعالى: «عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» ان اللّه تبارك و تعالى عليم بأنهم يعرضون عن المباهلة لان الفساد استولى عليهم فلا يذعنون للحق، و قد تحقق ذلك منهم و صدق ما أخبره اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ» ان ما اوحي إلى الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) هو العلم المطابق للواقع الذي يلزم قبوله و ان غيره من مجرد الظن و هو لا يغنى من الحق شيئا.

و يستفاد منه أيضا ان ما مع الرسول الكريم يشتمل على البرهان الساطع الذي لا يشك فيه احد، و لعل ارتداع النصارى عن المباهلة لأجل اقتناعهم بذلك.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ اَلْعِلْمِ» ان

ص: 14

الذي جاء مع الرسول (صلى اللّه عليه و آله) هو الحق المطابق للعقل السليم الذي يتقبله كل فرد فلا فرق حينئذ بين ان يكون مع الرسول أو مع غيره.

و بعبارة اخرى: ان المورد لا يكون مورد تعبد شرعي مختص به فان ما انزل اللّه تعالى عليه هو من الاحكام المستقلة العقلية التي يقبله الطبع المستقيم فيكون مع كل احد و ان الرسول الكريم هو واسطة الفيض.

الثالث:

ذكرنا ان إتيان هيئة الجمع في قوله تعالى: «أَبْناءَنا - و نِساءَنا - و أَنْفُسَنا» لا تدل على لزوم تعدد الإفراد في كل عنوان من العناوين الواردة في الآية الشريفة بل المقصود هو جعل هذا الجمع مقابل ذلك الجمع و ان القضية ليست من قبيل القضايا الخارجية التي يطلب فيها وجود الإفراد و تعددها بل هي من قبيل القضايا الحقيقية سواء تعددت الإفراد أولا و قد ذكرنا الوجه في إدراج الأبناء و النساء مع شخص الرسول الأمين (صلى اللّه عليه و آله) مع ان المباهلة انما كانت بينه و بين النصارى.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اَللّهِ عَلَى اَلْكاذِبِينَ» على ان اللعنة موجودة و مقررة و امر مفروغ عنه لان بها يمتاز الحق عن الباطل و لذا كانت دعوة طلبها غير مردودة فالتعبير ب (نجعل) كان ادل على المطلوب من غيره.

الخامس:

تدل آية المباهلة على الفضل العظيم و المنزلة الكبرى، و المنقبة العظمى لأهل بيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) من وجوه عديدة:

منها: اختصاصهم باسم النفس و النساء و الأبناء للرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) دون سائر الامة رجالا و نساء و أبناء.

ص: 15

و منها: دلالة الآية الشريفة على ان مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) شركاء معه في الدعوة و الدعاء و الصدق مقابل الطرف الآخر الذين وصفوا بالكذب كما عرفت في التفسير.

و منها: ان الدعوى لما كانت مختصة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و قائمة به و قد عرض نفسه الأقدس للبلاء و اللعن و الطرد و العذاب على تقدير الكذب و لا يتعدى إلى غيره لو لم يكن معه شخص و لكن إتيانه (صلى اللّه عليه و آله) بمن كان معه يدل على انهم في المنزلة كنفسه الشريفة و انحصار من هو قائم بدعواه من الأبناء و النساء و الأنفس بمن أتى بهم، و غير ذلك من الوجوه المستفادة من لحن الآية الشريفة و سياقها الدالين على فضل اهل البيت و منزلتهم.

و نوقش في الاستدلال على ذلك بوجوه:

الاول: ان إحضار الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بمن أحضرهم انما كان على سبيل الا نموذج لان جميع الامة من غير اختصاص بأحد تعتقد بأن اللّه واحد لا شريك له و ان عيسى بن مريم (عليه السلام) عبده و رسوله في مقابل النصارى الذين يعتقدون بخلاف ذلك فكانت المقابلة بين دعويين بلا فرق بين رجال كل طرف و أبنائهم و نسائهم فان الجميع في ذلك سواء، فلا يكون لمن أحضره الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فضل على غيره.

و فيه: أولا: ان الأمر لو كان كذلك لكان في إحضار رجل واحد أو امرأة واحدة أو غيرهما الكفاية، و لم يحتج الى إحضار رجل و امرأة و ابنين إلا لأن فيهم سرا الهيا لم يكن في غيرهم.

و ثانيا: ان الدعوة في عيسى بن مريم كانت قائمة بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) كما يستفاد من الآيات السابقة و أما سائر الامة

ص: 16

الذين اتبعوه فلم يكن للنصارى الذين وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بهم ارتباط و نسبة فيكون إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته ليس الا انهم كانوا مشتركين في الدعوة و الدعاء.

الثاني: ان الآية المباركة لا تدل على اكثر من ان إتيان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأهل بيته في المباهلة كان لأجل وثوقه بالسلامة و العافية و استجابة دعائه و اما انهم كانوا شركاء في الدعوة و غيرها فهي بمعزل عن ذلك.

و فيه: ان الآية الشريفة بمجموعها - كما عرفت - تدل على ان كل طرف من طرفي الدعوة في المباهلة شركاء في الدعوة و هي إما صادقة أو كاذبة و لذا احجمت صاحبة الدعوة الكاذبة عن المباهلة لما علمت صدق الطرف الآخر.

الثالث: ان الأمر لو كان كذلك - و كانت الآية المباركة تدل على فضلهم و كرامتهم - لاشتركوا مع الرسول في النبوة لان الدعوة التي كانت مختصة به انما كانت كذلك لان اللّه اوحى اليه.

و فيه ان الاشتراك في الدعوة لا يستلزم اشتراكهم في النبوة فإنها غير الدعوة بل هي من شئونها و لوازمها.

الرابع: ان الآية الشريفة تأمر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) ان يدعو المحاجين و المجادلين في عيسى من اهل الكتاب إلى الاجتماع رجالا و نساء و أطفالا، و يجمع هو المؤمنين رجالا و نساء و أطفالا و يبتهلوا إلى اللّه تعالى بأن يلعن الكاذب، و لا تدل الآية الشريفة على اجتماع الفريقين في مكان واحد بحيث يشتمل على النساء و الأولاد و الأنفس مع ان الآية المباركة نزلت في النصارى و لم يكن معهم نساؤهم و لا أولادهم.

ص: 17

و فيه: ان ما ذكر خلاف ظاهر الآية الشريفة فإنها تدل على دعوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى اجتماع المتخاصمين و المجادلين من الفريقين إلى المباهلة مع الأولاد و النساء و الأنفس فكأنه قد جمع اهل بيته مع وفد النصارى الموجودين حين الابتهال و اما ان النصارى لم يكن معهم الأولاد و النساء فهذا مطلب آخر و قد ذكرنا ان المفهوم من الآية المباركة شيء و المصداق شيء و الخلط بينهما أوجب الالتباس.

السادس:

ذكرنا ان الآيات الشريفة و الاستعمال الفصيح يدلان على صحة استعمال النساء في البنات، و لكن استبعد بعض المفسرين ذلك و ذكر في معرض كلامه: «ان كلمة نسائنا لا يقولها العربي و يريد بها بنته لا سيما إذا كان له ازواج و لا يفهم هذا من لغتهم».

و المناقشة في ما ذكره واضحة بعد الاحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة و الشواهد القرآنية و الشعر العربي الفصيح تدلان على صحة استعمال الكلمة في البنات و لم يستشكل احد من فرسان البلاغة و الفصاحة على القرآن الكريم في استعماله هذا لا سيما إذا كان قصد المتكلم الاحتشام من التصريح بابنته، مع ان الروايات الكثيرة المتواترة التي تدل على ان المراد من النساء ابنته (صلى اللّه عليه و آله) فاطمة الزهراء (عليه السلام) كافية في رده. و أحسب ان الأمر أوضح من ان يخفى إلا ان يراد عدم صحة استعمال الجمع في الواحد. و لكنه مردود بما ذكرناه من ان الآية المباركة تدل على استعمال الجمع مقابل الجمع من دون النظر إلى الإفراد. و الاشتباه انما حصل من خلط المفهوم بالمصداق.

السابع:

انما ذكر سبحانه و تعالى النساء مع ان بناء القرآن على الكناية عنهن و التحفظ عليهن مهما أمكن لأمور:

ص: 18

منها: الأعلام باشتراك النساء في امور الدين اصولا و فروعا إلا ما خرج بالدليل.

و منها: الاهتمام بالدين و الاعتناء بشريعة سيد المرسلين (صلى اللّه عليه و آله).

و منها: جعلهن في سياق المتدينين بتعلمهن الأعمال الصالحة و تلبسهن بالمعارف الحقة. و غير ذلك من المصالح.

الثامن:

انما أخر سبحانه و تعالى «أنفسنا» و ذكرها بعد تفدية الأبناء و النساء لبيان اهمية المباهلة و التفدية للّه جلت عظمته لإثبات الحق و إظهاره بتفدية جميع العلائق حتى علاقة الأهل.

التاسع:

ان كلمة «أنفسنا» تدل على شمولها لعلي بن أبي طالب (عليه السلام) تنزيلا له منزلة نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا لأجل ان الداعي لا بد ان يكون غير المدعو كما ذكره بعض المفسرين بل لان وجود علي (عليه السلام) في الأثر و المزايا و الفضيلة و الصفات بمنزلة وجود رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا سيما إذا كان التنزيل بأمر من اللّه تعالى و لم يوجد احد غير علي (عليه السلام) يكون واجدا لتلك المزايا التي تؤهله لهذه المنحة الإلهية و يكون كنفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لا يمكن ان يكون احد نفس شخص آخر إلا إذا كان مشتملا على مزايا كبيرة يكون ثانيا في مزاياه أو الوجود المكرر له في الخصال و نحوها.

و يستفاد من الآية المباركة المنزلة الجليلة و المنقبة العظمى لعلي بن أبي طالب (عليه السلام)، و هذا ما يستفاد من سيرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى علي (عليه السلام) في مواطن كثيرة تكون مبنية لمعنى «أنفسنا» في هذه الآية المباركة و مع ذلك

ص: 19

فقد أشكل على دلالة الآية الشريفة بوجوه:

الاول: ان المراد بالأنفس في الآية المباركة من يتصل بالقرابة و القومية و استشهد لذلك بقوله تعالى: «فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» البقرة - 54 و قوله تعالى: «وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ» البقرة - 84 و قوله تعالى: «هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» البقرة - 85.

و فيه: ان اطلاق الأنفس باعتبار رابطة القرابة و القومية صحيح و لا بأس به و لكن هذا الاستعمال في الآية الشريفة بعيد فان جعل الأنفس مقابل الأقرباء مثل النساء و الأبناء لا يراد منها إلا المعنى الحقيقي الواقعي و الادعائي التنزيلي و نظير ذلك في القرآن كثير قال تعالى: «اَلَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ» * الشورى - 45 و قال تعالى:

«قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً» التحريم - 6.

الثاني: إن المراد من النفس القريب و قد عبر عن علي (عليه السلام) بالنفس لما كان له (ع) اتصال بالنبي (صلى اللّه عليه و آله) في النسب و المصاهرة و اتحاد في الدين.

و فيه: ان التنظير لو كان في القرابة فقط لما كان في علي (عليه السلام) خصوصية فان العباس عم الرسول و أولاده و بني هاشم كانوا من قرابته (صلى اللّه عليه و آله) و من المسلمين و المهاجرين.

مع انا ذكرنا انه ليس المراد من هذه الكلمة على (عليه السلام) بل المراد انه بمنزلة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و لذا لم يأت في مقام الامتثال غير علي (عليه السلام) و انه المصداق الوحيد لأنفسنا فلعل الاشتباه نشأ من الخلط بين المفهوم و المصداق.

الثالث: انه لو كانت الآية الشريفة دالة على المساواة بين علي (عليه السلام) و بين النبي (صلى اللّه عليه و آله) لزم كون علي (عليه السلام)

ص: 20

نبيا. و انه أفضل من الأنبياء و المرسلين (عليه السلام).

و فيه: انه لا ملازمة بين كون علي (عليه السلام) نفس الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و بين مشاركته في النبوة، و قد تقدم ما يتعلق بذلك، و اما افضلية علي (عليه السلام) من الأنبياء و المرسلين فهي ثابتة مستفادة من قوله تعالى: «إِنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي اَلظّالِمِينَ» البقرة - 124 و ادلة اخرى تقدم بعضها و يأتي بعضها الاخرى.

العاشر:

الآية الشريفة تدل على صحة نبوة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بل هي من أجلاها و قد اعترف الخصم بها باباءهم عن المباهلة لما دعاهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إليها و أحجموا عنها و رضوا بالجزية.

الحادي عشر:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ هذا لَهُوَ اَلْقَصَصُ اَلْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اَللّهُ» على الحد الفاصل في كل من دعوى الألوهية و دعوى الشرك أو الحلول فانه قصر الألوهية في اللّه عز و جل المستجمع لجميع صفات الكمال و الجلال و قد وردت هذه الجملة الشريفة في نفي التثليث في قوله تعالى: «وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ» النساء - 171 و في قوله تعالى: «لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاّ إِلهٌ واحِدٌ» المائدة - 73 و يحمل على المعنى الأعم من نفي الشرك في الذات أو المعبودية أو الصفات حملا لظاهر اللفظ على إطلاقه، و حينئذ لا فرق بين ان يكون القصر قصر افراد أو غيره.

الثاني عشر:

يدل قوله تعالى: «اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ» على وجه انحصار الألوهية فيه عز و جل و لعله في خلق عيسى (عليه السلام)

ص: 21

من غير أب فهو الحكيم المتقن في صنعه العليم بما فعله، العزيز الذي لا يمنعه احد و لا يغلبه فهو الإله الذي لا نظير له و ليس كمثله شيء.

الثالث عشر:

يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ» على ان كل من امتنع عن قبول الحق فهو من المفسدين و اللّه تعالى عليم بحالهم و يجزيهم في الحال و المآل.

بحث روائي

اتفقت الروايات المتواترة على ان آية المباهلة نزلت في وفد نصارى نجران الذين هم من اشرافهم و فيهم السيد و العاقب على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في المدينة المنورة في السنة التاسعة أو العاشرة من الهجرة و مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) اهل بيته و هم علي و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم الصلاة و السلام) و قد روي خبر المباهلة عن اكثر من خمسين طريقا من الصحابة مذكورة في كتب أحاديث الجمهور و غيرهم.

ففي تفسير القمي عن الصادق (عليه السلام): ان نصارى نجران لما وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و كان سيدهم الأهتم، و العاقب، و السيد... إلى ان قال: فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فباهلوني فان كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم و ان كنت كاذبا أنزلت عليّ. فقالوا: أنصفت فتواعدوا للمباهلة فلما رجعوا إلى منازلهم قال: رؤساؤهم السيد و الأهتم: ان باهلنا بقومه باهلناه فانه ليس نبيا، و ان باهلنا باهل بيته خاصة لم نباهله فانه لا يقدم إلى اهل بيته إلا و هو صادق فلما أصبحوا جاءوا إلى رسول اللّه

ص: 22

(صلى اللّه عليه و آله) و معه أمير المؤمنين (عليه السلام) و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) فقال النصارى من هؤلاء؟ فقيل لهم: هذا ابن عمه و وصيه و ختنه علي بن أبي طالب و هذا ابنته فاطمة و هذا ابناه الحسن و الحسين فتفرقوا فقالوا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نعطيك الرضا فاعفنا من المباهلة فصالحهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على الجزية و انصرفوا».

أقول: دلالة هذا الحديث على فضل اهل البيت مما لا ينكر.

و في تفسير العياشي باسناده عن حريز عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ان أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن فضائله فذكر بعضها، ثم قالوا له زدنا فقال: ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أتاه حبران من احبار النصارى من اهل نجران فتكلما في امر عيسى (عليه السلام) فانزل اللّه هذه الآية: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ» فدخل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فأخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة (عليهم السلام) ثم خرج و رفع كفه إلى السماء و فرّج بين أصابعه و دعاهم إلى المباهلة قال: و قال أبو جعفر (عليه السلام) و كذلك المباهلة يشبك يده في يده يرفعهما إلى السماء فلما رآه الحبران قال أحدهما لصاحبه: و اللّه لئن كان نبيا لنهلكن و ان كان غير نبي كفانا قومه فكفا و انصرفا».

أقول: تقدم في بحث الدعاء انه على اقسام منها التبهل كما ورد في هذه الرواية.

و في العيون باسناده إلى موسى بن جعفر (عليهما السلام) في حديث له مع الرشيد قال له الرشيد. كيف قلتم إنا ذرية النبي (صلى اللّه عليه و آله) و النبي لم يعقب و انما العقب للذكر لا للأنثى و أنتم ولد

ص: 23

البنت و لا يكون له عقب فقلت له: اسأله بحق القرابة و القبر و من فيه إلا ما اعفاني عن هذه المسألة فقال: تخبرني بحجتكم فيه يا ولد علي و أنت يا موسى يعسوبهم و امام زمانهم، كذا أنهي الي، و لست أعفيك في كل ما اسألك عنه حتى تأتيني فيه بحجة من كتاب اللّه، و أنتم تدعون معشر ولد علي على انه لا يسقط عنكم منه شيء لا ألف و لا واو إلا تأويله عندكم و احتججتم بقوله عز و جل: «ما فرضنا في الكتاب من شيء» و قد استغنيتم عن رأي العلماء و قياسهم فقلت تأذن لي في الجواب؟ فقال: هات قلت أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم بسم اللّه الرحمن الرحيم وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي اَلْمُحْسِنِينَ وَ زَكَرِيّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ من أبو عيسى يا أمير المؤمنين؟ فقال: ليس له أب فقلت: إنما الحقه بذراري الأنبياء من طريق مريم، و كذلك الحقنا اللّه تعالى بذراري النبي من أمنا فاطمة، أزيدك يا أمير المؤمنين؟ قال هات قلت قول اللّه عز و جل: فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبنائنا و أبنائكم و نسائنا و نسائكم و أنفسنا و انفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين. و لم يدع احد انه ادخل النبي (صلى اللّه عليه و آله) تحت الكساء عند المباهلة مع النصارى إلا علي بن أبي طالب و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) فكان تأويل قوله أبنائنا الحسن و الحسين و نسائنا فاطمة و أنفسنا علي بن أبي طالب».

أقول: تقدم ما يتعلق بهذه الرواية في التفسير.

و في سؤالات المأمون عن الرضا (عليه السلام) قال المأمون:

«ما الدليل على خلافة جدك علي بن أبى طالب؟ قال (عليه السلام) آية أنفسنا قال: لو لا نسائنا قال: لو لا أبنائنا».

ص: 24

أقول: هذا اشكال و جواب بالمعارضة فان قوله (عليه السلام) «آية أنفسنا» يعني جعل نفس علي (عليه السلام) بمنزلة نفسه (صلى اللّه عليه و آله) و قول المأمون «لو لا نسائنا» فإنها صريحة في الاختلاف فتكون كذلك أنفسنا فأجاب (عليه السلام): «لو لا أبنائنا» فنزل أبناء على منزلة أبناء نفسه (صلى اللّه عليه و آله) و هكذا يكون في علي (عليه السلام).

و اخرج حديث المباهلة الشيخ المفيد في اختصاصه باسناده عن محمد بن الزبرقاني عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و رواه أيضا محمد بن المنكدر عن أبيه عن جده.

و أخرجه الشيخ في اماليه باسناده عن عامر بن سعد عن أبيه و باسناده عن عبد الرحمن بن كثير عن الصادق (عليه السلام)، و باسناده عن ربيعة بن ناجد عن علي (عليه السلام) و رواه عن أبى ذر ان عليا احتج بذلك يوم الشورى.

و رواه العياشي في تفسيره عن محمد بن سعيد الاردني عن موسى بن الرضا عن أخيه (عليه السلام)، و رواه أيضا عن أبى جعفر الأحول عن الصادق (عليه السلام) و رواه أيضا عن المنذر عن علي (عليه السلام) و رواه أيضا باسناده عن عامر بن سعد.

و رواه في روضة الواعظين و اعلام الورى و الخرائج، و الفرات في تفسيره معنعنا عن أبى جعفر (عليه السلام) و أبى رافع، و الشعبي و علي (عليه السلام) و شهر بن حوشب.

اما عن طريق الجمهور فقد روى مسلم في صحيحه عن عامر بن سعد بن أبى و قاص عن أبيه قال: «أمر معاوية بن أبى سفيان سعدا فقال: ما يمنعك ان تسب أبا تراب؟ قال اما ما ذكرت ثلاثا قالهن

ص: 25

رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فلن اسبه، لان يكون لي واحد منهن أحب الي من حمر النعم، سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول:

أما ترضى ان تكون منى بمنزلة هارون من موسى إلا انه لا نبي بعدي؟ و سمعته يقول يوم خيبر: لأعطين الراية غدا رجلا يحب اللّه و رسوله و يحبه اللّه و رسوله، قال: فتطاولنا لها فقال: ادعوا لي عليا فأتى به ارمد العين فبصق في عينيه و دفع الراية اليه ففتح اللّه على يده.

و لما نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء اهل بيتي».

و روى مثله الترمذي، و الحاكم، و ابن المنذر، و البيهقي عن سعد أيضا و الحمويني في فرائد السمطين و أبو المؤيد الموفق بن احمد في كتاب فضائل علي.

أقول: أمثال هذه الروايات عن طرقهم كثيرة.

و في حيلة الأولياء لأبي نعيم باسناده عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآية دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا و فاطمة و حسنا و حسينا فقال: اللهم هؤلاء اهل بيتي».

أقول: تبين هذه الرواية معنى آية المباهلة.

و في تفسير الثعلبي عن مجاهد و الكلبي: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما دعاهم إلى المباهلة قالوا نرجع و ننظر فلما تخالوا للعاقب - و كان ذا رأيهم - قالوا: يا عبد المسيح ما ترى؟ فقال و اللّه لقد عرفتم يا معشر النصارى ان محمدا نبي مرسل و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و اللّه ما باهل قوم نبيا قط فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم و لئن فعلتم لتهلكن فان أبيتم الا ألف دينكم و الاقامة على ما أنتم

ص: 26

عليه فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم فاتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و قد غدا محتضنا بالحسين آخذا بيد الحسن و فاطمة تمشي خلفه و علي خلفها و هو يقول: إذا انا دعوت فأمّنوا فقال اسقف نجران: يا معشر النصارى إني لأرى وجوها لو سألوا اللّه ان يزيل جبلا من مكانه لأزاله بها فلا تباهلوا فتهلكوا و لا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة، فقالوا: يا أبا القاسم رأينا ان لا نباهلك و ان نقرك على دينك و نثبت على ديننا قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا يكن لكم ما للمسلمين و عليكم ما عليهم فأبوا قال: فأني أناجزكم فقالوا: ما لنا بحرب العرب من طاقة و لكن نصالحك على ان لا تغزونا و لا تخيفنا و لا تردنا عن ديننا على ان نؤدي إليك كل عام ألفي حلة:

ألف في صفر و ألف في رجب و ثلاثين درعا من حديد فصالحهم على ذلك و قال (صلى اللّه عليه و آله): و الذي نفسي بيده ان الهلاك قد تدلى على اهل نجران و لو لاعنوا لمسخوا قردة و خنازير و لاضطرم عليهم الوادي نارا، و لاستأصل اللّه نجران و اهله حتى الطير على رؤوس الشجر و لما حال الحول على النصارى كلهم حتى يهلكوا».

و روى قريبا منه في المغازي عن أبى إسحاق، و المالكي في الفصول المهمة، و الحموي عن ابن جريح.

أقول: ان صفر في السنة العربية القديمة كان يشمل فترة من الزمن تتضمن شهرين أحدهما المحرم و كان يسمى بالصفر الاول أيضا.

و في حلية الأولياء لأبى نعيم باسناده عن الشعبي عن جابر قال:

«قدم على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) العاقب و الطيب فدعاهما إلى الإسلام فقالا: اسلمنا يا محمد، فقال كذبتما إن شئتما أخبرتكما ما يمنعكما من الإسلام فقالا: فهات إلينا قال: حب الصليب و شرب

ص: 27

الخمر، و أكل لحم الخنزير قال جابر فدعاهما إلى المباهلة فواعداه إلى ان يأتياه بالغداة، فغدا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أخذ بيد علي و الحسن و الحسين و فاطمة فأرسل إليهما فأبيا ان يجيباه و اقرا له فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و الذي بعثني بالحق لو فعلا لأمطر عليهم الوادي نارا فقال جابر: فيهم نزلت «ندع أبنائنا و أبنائكم» قال جابر: أنفسنا و انفسكم رسول اللّه و علي و أبنائنا الحسن و الحسين و نسائنا فاطمة.

و رواه ابن المغازلي في مناقبه عن الشعبي عن جابر و الحمويني في فرائد السمطين عن جابر أيضا، و رواه المالكي في الفصول المهمة مرسلا عنه و عن أبي داود الطيالسي عن شعبة الشعبي مرسلا أيضا.

و في الدر المنثور عن الحاكم و صححه، و عن ابن مردويه و أبى نعيم في الدلائل عن جابر.

و في الدر المنثور اخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتب إلى اهل نجران قبل ان ينزل عليه طسم سليمان: بسم اللّه اله ابراهيم و اسحق و يعقوب اما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و أدعوكم إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فان أبيتم فالجزية و ان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام. فلما قرأ الأسقف الكتاب فظع به و ذعر ذعرا شديدا، فبعث إلى رجل من اهل نجران يقال له:

شرحبيل بن وداعة فدفع اليه كتاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقرأه فقال له الأسقف ما رأيك؟ فقال شرحبيل قد علمت ما وعد اللّه ابراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما يؤمن ان يكون هذا الرجل ليس لي في النبوة رأي، و لو كان رأي من امر الدنيا أشرت عليك

ص: 28

فيه أو جهدت لك، فبعث الأسقف إلى واحد بعد واحد من اهل نجران فكلمهم قالوا مثل قول شرحبيل فاجتمع رأيهم على ان يبعثوا شرحبيل بن وداعة و عبد اللّه بن شرحبيل و جبار بن فيض فيأتونهم بخبر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانطلق الوفد حتى أتوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فسألهم و سألوه فلم تزل به و بهم المسألة حتى قالوا له: ما تقول في عيسى بن مريم؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقال في عيسى صبح الغد فانزل اللّه تعالى هذه الآية «ان مثل عيسى عند اللّه كمثل آدم خلقه من تراب إلى قوله تعالى - فنجعل لعنة اللّه على الكاذبين» فأبوا ان يقروا بذلك فلما أصبح رسول اللّه الغد بعد ما أخبرهم الخبر اقبل مشتملا على الحسن و الحسين في خميلة له و فاطمة تمشي خلف ظهره للملاعنة و له يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبه اني ارى امرا مقبلا ان كان هذا الرجل نبيا مرسلا فلاعناه لا يبقى على وجه الأرض منا شعر و لا ظفر إلا هلك فقالا له. أنت و ذلك، فتلقى شرحبيل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقال: اني رأيت خيرا من ملاعنتك قال و ما هو؟ قال: حكمك اليوم إلى الليل و ليلتك إلى الصباح فمهما حكمت فينا فهو جائز، فرجع رسول اللّه (ص) و لم يلاعنهم و صالحهم على الجزية».

أقول: الحديث لم يتعرض لذكر علي (عليه السلام) لأجل الاكتفاء بذكر الأبناء و الزوجة عن ذكر الزوج أو لأجل معلومية كونه فيهم.

و الذي يتحصل مما تقدم ان المستفاد من جميع الروايات التي رواها الجمهور و الخاصة ان القدر المشترك بينها هو ان رسول اللّه (صلى اللّه

ص: 29

عليه و آله) دعا عليا و فاطمة و الحسن و الحسين (عليهم السلام) ليباهل بهم نصارى نجران و هذا القدر هو المتواتر بينهم إلا ان بعض المفسرين ناقش في تلك الروايات فقال: «انها متفقة على ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) اختار للمباهلة عليا و فاطمة و ولديهما، و يحملون كلمة نسائنا على فاطمة، و كلمة أنفسنا على علي فقط. و مصادر هذه الروايات الشيعة، و مقصدهم منها معروف و قد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتى راجت على كثير من اهل السنة». ثم ذكر بعض الإيرادات و قد ذكرنا جملة منها و أجبنا عنها.

و أنت بعد ما ذكرنا شطرا من الروايات التي نقلت عن طرق الجمهور يتضح لك فساد ما ذكره فإنها بلغت مبلغا لا يمكن إنكارها و قد ذكرها بعض ارباب الصحاح كمسلم و الترمذي في صحيحيهما و بعض اهل التاريخ كالطبري و ابو الفداء و ابن كثير و جمع غفير من المفسرين و اهل الحديث و قد نقلوا جميعا تلك الأحاديث عن الصحابة أمثال سعد بن أبى و قاص و جابر بن عبد اللّه و عبد اللّه بن عباس و عليا اليشكري وجد سلمة و غيرهم من الصحابة و كثير من التابعين أمثال الشعبي، و الحسن، و السدي، و الكلبي، و مقاتل، و ابن صالح، فهل هؤلاء كانوا من الشيعة و أرادوا ترويج مذهبهم؟!! أو انهم دسوها في كتب السنة و هل هذه التهمة كانت مختصة بهذه الأحاديث أو تسري في كثير من السنة؟!! إذن لا يبقى اعتماد عليها فتبطل و لا تكون حجة، و لا يبقى للدين أساس و هذا ما لا يرتضيه احد.

ص: 30

بحث كلامي

ذكرنا أن المباهلة نوع من الدعاء و الابتهال و التضرع و التبتل إلى اللّه تعالى لإثبات حق علم به و هي عادة جارية بين الناس في جميع الملل و الأقوام ممن يعتقد بوجود عالم الغيب وراء هذا العالم المادي فتكون نظير صلاة الاستسقاء أو الاستخارة و نحوهما.

و المستفاد من الآيات الشريفة و ما ورد في شأنها من السنة المقدسة انها تتقوم بأمرين:

الاول: ثبوت حق علم بانه حق قد سبق الأعلام به بالحجة و البيان و بعد اليأس عن الفائدة فيهما يرجع بالدعاء و اللعان و اللجوء إلى الأمر الغيبي الذي يعترف به الخصمان و هذا يدل عليه قوله تعالى:

«فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ» اي في الحق المعلوم.

الثاني: وجود الرابط بين عالم الغيب و عالم المادة إما في شخص الرسول أو من يقوم مقامه علما و عملا أو حالة الانكسار و الخضوع و التضرع التي تكون رابطة حالية فإذا تحقق هذان الأمران تجوز المباهلة لإثبات الحق بالتماس من عالم الغيب، فلا تختص المباهلة بمورد خاص و قد ورد في السنة الشريفة ما يدل على التعميم ففي الكافي عن أبي مسترق عن الصادق (عليه السلام): «قلت له انا نكلم الناس فنحتج عليهم بقول اللّه عز و جل «أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ» فيقولون نزلت في أمراء السرايا فنحتج عليهم بقوله عز و جل: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ» فيقولون في المؤمنين و نحتج عليهم بقول اللّه عز و جل «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى» فيقولون نزلت في قربى

ص: 31

المسلمين قال: فلم ادع شيئا مما حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته فقال (ع) لي: إذا كان كذلك فادعهم إلى المباهلة قلت كيف اصنع؟ قال (ع): أصلح نفسك ثلاثا و أظنه انه قال: و صم و اغتسل و ابرز إلى الجبان فشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه و ابدأ بنفسك و قل: «اللهم رب السماوات السبع و رب الأرضين السبع عالم الغيب و الشهادة الرحمان الرحيم» ان كان أبو مسترق جحد حقا و ادعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما ثم رد الدعوة عليه فقل: و ان كان فلان جحد حقا أو ادعى باطلا فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما ثم قال (ع) لي فإنك لا تلبث ان ترى ذلك فيه - الحديث -» و قريب منه غيره.

و في الدر المنثور عن علياء بن أحمر اليشكري قال: «لما نزلت هذه الآية «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ» أرسل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى علي و فاطمة و ابنيهما الحسن و الحسين و دعا اليهود ليلاعنهم فقال شاب من اليهود: ويحكم أ ليس عهدتم بالأمس إخوانكم الذين مسخوا قردة و خنازير؟ لا تلاعنوا فانتهوا» و هذه الرواية تدل على تعدد المباهلة.

و للمباهلة آداب خاصة مذكورة في أبواب الدعاء و لا ريب في تقومها بمن يقوم به الاحتجاج و اظهار الحق و هو في المقام نفس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله). و حيث انها تدل على الملاعنة و الهلاك يكون إحضار من يريده صاحب الحق اولى في الاحتجاج و اثبت للمدعى و اقطع لدعوى الخصم، و لان الاجتماع في الدعاء و التأمين عليه مرغوب اليه كثيرا في السنة المقدسة.

ص: 32

بحث عرفاني

مظاهر تجليات الحق جل جلاله في عالم الشهادة لاحد لها و لا حصر عميت عين لا تراها و خسرت صفقة عبد ليس له فيها نصيب، و من أعظم تجلياته عز و جل استجابة دعوات المحرومين و اغاثة الملهوفين و التنفيس عن كربات المكروبين.

و منها: المباهلة التي يتحقق فيها الارتباط بين عالم الغيب و عالم الشهادة بل انها من أشد أنحاء الارتباط و أشرفها لا يمكن تحديده بحد و لا توصيفه بوصف بل لا يعقل الاحاطة به لأحد إلا لعلام الغيوب و المطلع على السر المحجوب، و هي الكرامات الصادرة من الأولياء و المعجزات المتحققة من الأنبياء لا سيما إذا لا حظنا ذلك بعد قوله تعالى: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى» الأنفال - 17.

و تتجلى عظمة المباهلة انها لإقامة الحق و دحض الباطل و إبقاء الشريعة الختمية و النور المحمدي و فيها يتحد الداعي و المدعو فان اللّه هو الذي باهل الكفار.

و المباهلة و ان كانت في الظاهر فيها العذاب للكفار و لكنها في الواقع تكون لحفظ النظام و إبقاء سلسلة الأسباب و المسببات بين الأنام.

و في المباهلة الأحمدية تجلت العنايات الخاصة من الحضرة الاحدية و قد جمعت في هذه المباهلة أنوار كلها واسطة الفيض ظهرت فيهم عظمة الباري و عنايته و فيها قابل الحق المحض مع الباطل كذلك.

و فدّى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نفسه الشريفة و اهل بيته فيها دون إقامة الحق و إظهاره و إماتة الباطل.

ص: 33

و لم يتعرض للمال لأنه لا شيء اغلى من النفس و لا قيمة له في مقابل تفديتها، مع أن المفدى أجل و أكرم من ان يفدي بشيء آخر لا قيمة له بل يعد من متاع الغرور. و تكون هذه المباهلة تعليما لكل مرشد قام بين الناس داعيا للحق و ناصرا له، فلا بد من خلوص النية و صفاء السريرة ليستعد بذلك لتجلى اللّه جل جلاله و في الحديث «اتقوا دعوة المظلوم فإنها تخرق الحجب السبع».

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِ.......

اشارة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ (68) بعد ما بين سبحانه و تعالى الحق في عيسى بن مريم و انه عبد اللّه و رسوله إلى بني إسرائيل و ان مولده - على غرابته و تفرده - امر عادي

ص: 34

بالنسبة إلى قدرة الخالق و مشيئته. و نفى عنه الألوهية و اقام الحجة تلو الحجة على جميع ذلك و أمرهم بالإيمان و الاعراض عن كل ما يخالف ذلك، فانتهى بامره تعالى لنبيه بطلب المباهلة مع المنكرين الجاحدين.

أمر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة نبيه إلى دعوة اخرى لأهل الكتاب عامة لا سيما النصارى منهم و هي الدعوة إلى التوحيد و تأمرهم بالاتحاد و نبذ النفاق و التعرض لرد المسلمين عن هذه العقيدة و الكلمة الفاصلة الحقة.

و دعاهم إلى الحق الذي يجب اتباعه بمقتضى الفطرة و هو الذي اجتمع عليه جميع الكتب السماوية و الرسالات الإلهية و هو عبادة الإله الواحد و نبذ الشرك و الاعراض عن الاحتجاج العقيم المفضي إلى الاختلاف و التفرقة، فالنداء يقرب النفوس المستعدة إلى أقصى الكمالات الانسانية و يهديها إلى الألطاف الربوبية.

ثم بين تعالى كلمة الفصل في ابراهيم الذي يعتقد به جميع الأديان السماوية و اعترفت الأمم بالولاية له على دينها و الامام المفترض طاعته و قد بين القرآن الكريم ان اقرب الناس اليه هو الرسول الكريم و من يتبعه في العلم و العمل و ان جميعهم تحت ولايته عز و جل و رعايته.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ .

الخطاب صدر عن حقيقة العقل المجرد و قرره وحي السماء من ذروة العرش الأمجد إلى الرسول الكريم خاتم الأنبياء لأنه واسطة الفيض و انه جامع الشمل، و مجمع كل فضل و فضيلة، و الأحرى لغيره اتباعه في ما يدعو اليه.

و تعال اسم فعل و معناه هلمّ، كما مر في الآيات السابقة.

ص: 35

و الكلمة في المقام كناية عن الاجتماع و الاتحاد في العمل بمقتضى مدلول الكلمة و معناها و الإذعان بها و نظير ذلك شايع في الألسنة يقال:

اتفقت كلمة القوم على كذا. اي: اتحدوا و اجتمعوا على امر.

و سواء: يأتي إما مصدرا بمعنى متساوية أو بمعنى الوصف اي العدل و التساوي. و النظام الأحسن في الدارين يتقوم بالسواء و الاستواء في الحق و بالحق، و بهما تفتح أبواب البركات بأنواع الخيرات، و يتجلى حينئذ حقيقة الوحدانية المطلقة في العابد و المعبود فلا معبود غير اللّه و لا اله سواه و تضمحل الكثرة و الكلمات و يبقى النور الواحد المطلق في جميع الأقوال و الأفعال و المعتقدات و المراد من الكلمة هنا الكلمة المساوية بيننا و بينكم في الاعتقاد و العمل.

و كيف كان فاما ان يكون المراد من الكلمة هي كلمة التوحيد التي اتفقت الكتب الإلهية القرآن و الإنجيل و التوراة على الدعوة إليها فيكون قوله تعالى: «أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً - الآية -» تفسيرا لهذه الكلمة المتفق عليها بما يزيل كل غموض و إبهام، و يكون لازمه هو الاعراض عما في أيديهم من الشرك و التثليث و الاتحاد و الحلول و جميع ما لعبت به أهواءهم من التفسير غير المرضى للكلمة.

و اما ان يكون المراد بها معنى الكلمة و الاعتقاد الحق و العمل بمعناها فيكون توصيفها بالسواء من باب الوصف بحال المتعلق لان الدعوة انما تكون إلى معنى الكلمة لأنفسها، و يدل عليه قوله تعالى:

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ» فان الإسلام هو التوحيد العملي و ترك عبادة غير اللّه تعالى عملا.

و لكن الذي يهون الخطب ان القرآن لا يدعو إلى التوحيد القولي و الاعتقاد وحده من دون ان يتم ذلك بالعمل، كما انه لم يأمر به

ص: 36

إلا باعتبار كونه طريقا إلى العمل و موجبا إلى الخضوع و التسليم لأمر اللّه تعالى، قال عز و جل: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19، و قد ذكرنا في تفسير هذه الآية الشريفة ان الدين الذي يكون منهاجا للإنسان في الحياة الدنيا هو التسليم للّه و الخضوع له و العمل الصالح، و حينئذ لا فرق بين إرجاع السواء إلى نفس الكلمة فتكون توصيفا لنفسها أو ارجاعه إلى معنى الكلمة فيكون التوصيف توصيفا بحال المتعلق.

و على أي تقدير ففي الآية المباركة روعة الأسلوب و تتضمن من النكات البلاغية و لطائف العنايات ما لا يخفى.

و الآية تدعو الضمير الانساني و تخاطبه بخطاب رقيق لطيف و تدعوه إلى الرجوع إلى الفطرة و العمل بمقتضاها و نبذ الفرقة و الاختلاف، و تطلب منه ان لا يصده عن هذا الهدف السامي اختلاف الأهواء و تشعب الفرق.

قوله تعالى: بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ .

اي: نكون نحن و أنتم متساويين في الكلمة و حيث ان التساوي من الأمور الاضافية المتقومة بين الطرفين عبر سبحانه و تعالى بقوله:

«بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ» لنبذ التفرقة و الاختلاف.

قوله تعالى: أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ .

بيان للكلمة السواء التي هي الحد الفاصل لكل ما يقال في معنى الكلمة التي تلاعبت به أهواء المضلين و زيغ المفسدين المبطلين. و هو الذي اتفقت عليه جميع الكتب الإلهية.

و الجملة تدعو إلى نبذ عبادة غير اللّه تعالى و أن لا يخضع العبد لغيره

ص: 37

عز و جل و يلازمه انحصار العبادة فيه عز و جل. كما أنها تشتمل على الحكم و علته فإنها تقرران الا له الذي تنحصر العبادة فيه لا بد ان يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال و منشأ لكل كمال في غيره، و هو ينحصر في اللّه تعالى فالواجب عبادته و الخضوع لديه و تسليم الأمر اليه لا الخضوع إلى غيره الذي هو قرين الحاجة و الفقر بذاته. و هذا هو الأمر الفطري الذي يدعو اليه الأنبياء و جميع المرسلين، و قد أكد ذلك القرآن في عدة آيات، و قد ذكرنا ما يتعلق به في تفسير قوله تعالى: «كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اِخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ اَلَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ اَلْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اَللّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» البقرة - 213.

فالآية الشريفة مضافا إلى انها تدل على حصر الألوهية فيه عز و جل تشير إلى ما تقدم من الأمر الفطري الذي كان هو غرض الأنبياء في بعثهم و لذلك كانت عقيدة التوحيد تحريرا للبشرية كلها، و قد اتفق عليها هدف الأنبياء كلهم.

قوله تعالى: وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً .

النكرة في سياق النفي تدل على العموم اي نبذ كل انواع الشرك في الألوهية، و العبودية، و الخلق، و الفعل، بل كل ما ينسب اليه في الألوهية فتدل على نفي التثليث، و الاتحاد، و الحلول فلا يقال لشيء مطلقا انه إله.

و الجملة تفيد التأكيد لما تضمنته الآية السابقة، و نفى الشرك

ص: 38

الحاصل من الاعتقاد بغير اللّه تعالى، لان الجملة الاولى تفيد نفي الشرك في العبادة و هذا غير كاف في قطع الشرك الحاصل من اعتقاد النبوة و الايمان بالرسل و النبيين و توهم الحلول و التثليث و نحو ذلك.

كما انها تدل على الخلوص في العبادة و الاعتقاد، فان الاعتقاد بعبادة اللّه تعالى لا يصير العبادة خالصة ما لم يطرح كل رأي و اعتقاد فيه شائبة الشرك و يؤكد ذلك النهي عن اتخاذ الأرباب من دون اللّه كما في الآية التالية.

قوله تعالى: وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ الأرباب جمع الرب، و من دون اللّه اي من غير اللّه.

و الآية المباركة في مقام بيان السبب في النهي عن اتخاذ الشريك للّه تعالى. و هي تفيد التوحيد الفعلي، لان اللّه تعالى هو الرب يفعل ما يشاء بحكمته و يحكم ما يريد بعدله لا مبدل لحكمه، و ان العالم و جميع ما فيه مخلوق له عز و جل و مربوب له لا يمكن ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و الجلال ما لا يوجد لغيره. فالربوبية من خصائص الألوهية و الشرك لا يجامعها بوجه من الوجوه.

فالآية الشريفة تنفي إطاعة الإنسان لمثله في التشريع و التصرفات من دون معارضة فان ذلك من اتخاذ الرب من دون اللّه لا يقدم عليه من يعترف بالربوبية للّه تعالى و يسلّم امره اليه عز و جل. و هي عامة تشمل أنحاء الاتخاذ. كما تشمل البعض جميع أنواعه و اقسامه بأي عنوان كان من الاعتبارات الموهومة في الربوبية أو الإطاعة في الاحكام و التشريع و التصرف في الأبدان من دون معارضة و انعكاس و يشير إلى بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» التوبة - 21 و هو يختص بالاطاعة في معصية اللّه تعالى و تشريع الاحكام و التسلط على الأبدان و الأموال و الاعراض.

ص: 39

فالآية الشريفة تنفي إطاعة الإنسان لمثله في التشريع و التصرفات من دون معارضة فان ذلك من اتخاذ الرب من دون اللّه لا يقدم عليه من يعترف بالربوبية للّه تعالى و يسلّم امره اليه عز و جل. و هي عامة تشمل أنحاء الاتخاذ. كما تشمل البعض جميع أنواعه و اقسامه بأي عنوان كان من الاعتبارات الموهومة في الربوبية أو الإطاعة في الاحكام و التشريع و التصرف في الأبدان من دون معارضة و انعكاس و يشير إلى بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر «اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ» التوبة - 21 و هو يختص بالاطاعة في معصية اللّه تعالى و تشريع الاحكام و التسلط على الأبدان و الأموال و الاعراض.

و في التعبير بالبعض إشارة إلى انهم من افراد البشر و من جنسنا و ان الفقر و الحاجة يلازمانه فلا ينبغي إطاعتهم من دون اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال، و من هو مربوب في ذاته كيف يكون ربا لمثله و الخطاب عقلي قرره اللّه تعالى.

كما ان في قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اَللّهِ» إعلاما بان كل ما يتوهمه الإنسان في ذلك هو في مرتبة نازلة و موهومة لا حقيقة لها و لا يمكن ان تجتمع مع الاعتراف بالربوبية للّه تعالى.

و من ذلك يعرف ان الخطاب يصلح ان يكون لليهود و النصارى و المشركين و ان كان للنصارى الحظ الأوفر من هذه الموهومات و الكل منهي عنه.

و الآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الاجتماعية و هي ان افراد الإنسان أبعاض متساوية في جميع شؤون الحياة و انهم في الغرائز الانسانية و الطبيعة النوعية على حد سواء و ان كل ما يوجب الخروج عن هذه الحقيقة باطل في نظر الإسلام الا ما فضل اللّه تعالى به بعضهم على بعض و في غير ذلك منهي عنه لأنه تغيير لناموس الفطرة و هدم لكيان الانسانية و ضياع للهدف السامي الذي خلق لأجله الإنسان و هو التعاون في سبيل نيل الكمال و التزود من الفضائل و الأخلاق الحسنة، و ان الشعور بالتساوي يستدعي الحياة الهنيئة و الترابط الوثيق بين افراد المجتمع و التعاون الأكيد بينهم و به تنحل كثير من المشكلات و تزول الصعاب و هذا ما تؤكده آيات كثيرة في القرآن الكريم.

ص: 40

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اِشْهَدُوا بِأَنّا مُسْلِمُونَ .

اي فان اعرضوا عن الحق و ما تدعو اليه الفطرة المستقيمة في التوحيد و ما اتفقت عليه الكتب و الرسل فقد لزمتهم الحجة و الحق أوضح من ان تقام عليه الحجة و انما كان اعراضهم عنادا و لجاجا «وَ جَحَدُوا بِها وَ اِسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا» النمل - 14 و لذا امر سبحانه و تعالى نبيه و المؤمنين بإظهار ايمانهم و انهم على الدين الحق المرضي عند اللّه تعالى و هو الإسلام الذي هو ملازم للتوحيد في العبادة و الفعل.

و الشهادة منهم بأنهم مسلمون انما تكون في قولهم و عملهم في التوحيد فتكون تثبيتا لمقامهم و اعترافا منهم بالحق.

و في الآية الشريفة تعريض لهم بأنهم على غير الحق و ان المسلمين لا يبالون بأباطيل غيرهم مهما كلفهم الأمر.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ .

خطاب لليهود و النصارى معا. و الجملة مقول القول في الآية السابقة، و هذه الآيات التي تليها مسوقة لبيان الدين الحق و الدعوة إلى الإسلام الذي له جذور من حين ابراهيم الخليل (عليه السلام).

و المحاجة في ابراهيم من اهل الكتاب هي ادعاء اهل كل دين انه كان منهم و على دينهم و تعصب كل طائفة على ذلك فزعمت اليهود انه كان يهوديا و النصارى انه كان نصرانيا و قد وقع بسبب ذلك النزاع بينهم و أكذبهم اللّه تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى:

«أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اَللّهُ» البقرة - 140.

ص: 41

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَتِ اَلتَّوْراةُ وَ اَلْإِنْجِيلُ إِلاّ مِنْ بَعْدِهِ .

احتجاج على اهل الكتاب بأن التوراة و الإنجيل نزلتا بعد ابراهيم فلا ريب ان اليهودية و النصرانية انما حدثتا بعد نزولهما. و في إتيان نزول التوراة و الإنجيل في الاحتجاج لبيان انه لو كان ابراهيم (عليه السلام) من احدى الطائفتين لكان كتاب كل طائفة يشير إلى ذلك و هذا لم يتحقق فلا يمكن ان يكون ابراهيم منهم.

قوله تعالى: أَ فَلا تَعْقِلُونَ .

اي: أ فلا تعقلون دحوض دعواكم و بطلانها و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر، و التعبير بذلك انما هو لبيان ان الأمر يكفي فيه ادنى تنبيه.

و في الآية الشريفة تجهيل لهم و اعلام لهم بان الحق في ابراهيم (عليه السلام) و انه كان على الدين الحنيف مسلما للّه عز و جل كما نبه عليه عز و جل في الآيات اللاحقة.

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .

تثبيت لتكذيبهم و اظهار لجهلهم، و انما أتى سبحانه باسم الإشارة إما للتحقير و التنقيص، أو لبيان ان الخطاب و التوبيخ انما يكون إليكم و في انفسكم دون اسلافكم، أو لأن المحاجة كانت بينهم و في أنفسهم لا بينهم و بين المسلمين و إلا كان المسلمون طرفا في المحاجة الباطلة.

و المعنى: انكم حاججتم و تنازعتم في امور معلومة البطلان لديكم بالوجدان: منها: ما حكاه عز و جل آنفا عنهم و هو محاجتهم في كون ابراهيم (عليه السلام) يهوديا أو نصرانيا مع علمهم بانه على الدين الحق و ان المتقدم لا يكون تابعا للمتأخر بل هو منبعث عن الاول و قد غالوا

ص: 42

في هذه الأمور و تشبثوا بحجج هي اوهن من بيت العنكبوت:

و منها: انهم كانوا يتنازعون في عيسى (عليه السلام) فكانت النصارى تحاج اليهود في بعثه أو نبوته أو انه اللّه أو ابنه أو ثالث ثلاثة، و كانت اليهود تحاج النصارى فيه فتبطل نبوته و ألوهيته و الجميع يعلمون بانه مخلوق من مريم و رسول أرسله اللّه تعالى إلى بني إسرائيل.

قوله تعالى: فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ .

الاستفهام توبيخي يعني: فلم تتنازعون و تحاجون في امور لا تعلمون بها و تغالطون فيها و الواجب عليكم اتباع الوحي المبين و متابعة سيد المرسلين.

و قد اختلف المفسرون في تعيين الذي لهم به علم و جمهورهم انه امر ابراهيم المتنازع في كونه يهوديا أو نصرانيا إلا ان ذلك أمر واضح لا يجهله احد منهم و يعلمون ان ابراهيم (عليه السلام) كان متقدما عليهم و لا يمكن ان يكون تابعا للمتأخر كما ذكرنا و لذا عقب سبحانه و تعالى بعد تكذيبهم في ذلك بقوله «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» الدال على تقبيحهم في هذا الإمر المعلوم.

و ذكر بعض المفسرين ان المراد من عدم علمهم بأمر ابراهيم هو عدم علمهم بأن دين اللّه واحد و هو الإسلام و ان اليهودية و النصرانية و الإسلام شعب من ذلك الدين الحق و انها تتدرج في سلم الكمال، و اليهود و النصارى جهلت ان ابراهيم هو المؤسس لهذا الدين الحق، و الأصل لا ينسب إلى فرعه بل الأمر بالعكس.

و فيه: ان ما ذكره يرجع إلى ما تقدم الذي عرفت المناقشة فيه، مع ان كون ابراهيم (عليه السلام) هو المؤسس للدين امر مسلّم

ص: 43

عند الجميع، بل هو معروف عند الأديان الثلاثة، إلا ان النزاع يرجع إلى ان اليهود تدعى ان الدين الحق هو اليهودية فقط و ان ابراهيم يهودي، و النصارى تدعي ان الدين الحق هو النصرانية و ان ابراهيم هو الذي أسسها. فالنزاع بينهم في تعيين الدين الذي أسسه ابراهيم لا في كونه المؤسس للدين الحق و انه لا يجهله احد منهم.

و الحق ان يقال: ان ما كان يجهله اليهود و النصارى هو ادعاء اليهود الألوهية في بعض أنبيائهم كما زعموا في عزير ابن اللّه و ادعاء النصارى في عيسى ابن اللّه أو هو الإله أو التثليث، و قد جهلوا جميعا ان المخلوق المربوب لا يمكن ان يكون إلها و ان اللّه تعالى هو الا له الواحد الأحد.

مع ان الآية الشريفة تدل على امر أبعد من ذلك و هو ان التشبث بأمور معلومة لا تجعل المستحيلات أمورا ممكنة بالمغالطة فجميع ما زعموه مغالطة بين الحق الواقعي و الوهم الاعتقادي و هم بمعزل عن الواقع مع تشبثهم بهذه الأوهام.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ .

تأكيد لنفي العلم عنهم اي: و اللّه يعلم الحق و اهله و ما أنتم عليه من تلبيس الحق بالباطل و مغالطتكم فيه و أنتم لا تعلمون شيئا و لستم بأهل لان يعلمكم اللّه تعالى شيئا لجحودكم و ضلالكم.

و الآية الشريفة دليل على ان كل علم ما لم ينته إلى العلوم التي اودعها اللّه تعالى في الفطرة أو ما أوحاه إلى أنبيائه لم يكن منتجا بل لا يكون إلا من المغالطات و الأوهام كما أثبته أكابر الفلاسفة.

ص: 44

قوله تعالى: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا .

بيان للبرهان المقرر سابقا في شأن ابراهيم (عليه السلام) و ان التوراة و الإنجيل نزلتا بعده و تنزيه من اللّه تعالى له من كل افتراء عليه فلم يكن يهوديا و لا نصرانيا كما كان يدعيه كل فرقة منهما لأنه لا يقول بأمر يمس بجلال اللّه تعالى و عظمته و لا يحد قدرته عز و جل و لا ينسب اليه ما لا يليق به كما تقوله اليهود و لا يقول بالتثليث و الوهية البشر كما عليه النصارى المبتعدين عن التوحيد الخالص الذي هو دين ابراهيم (عليه السلام) فالامر هنا امر عقائد لا امر نسب وصلة.

قوله تعالى: وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .

مادة حنف تدل على الميل إلى الحق و حيث ان الحق فيه تعالى فيكون الميل إلى التوحيد حينئذ و يلازمه نفي كل خلاف الحق و التوحيد من الشرك و الضلال فكانت عقيدة ابراهيم (عليه السلام) مائلة عن الشرك و متمحضة في التوحيد الخالص الذي ينفي كل شرك و ضلال كما عليه محمد (صلى اللّه عليه و آله).

و يقابلها مادة (جنف) الدالة على الميل إلى الباطل. و قد كان عرب الجاهلية يدعون أنفسهم بالحنفاء لأنهم تبعوا ابراهيم في بعض شرايعه كالختان و الحج. و كان اهل الكتاب يسمونهم بالحنفية الوثنية.

و المراد بالإسلام في المقام هو التسليم للّه تعالى و الانقياد لطاعته و الخضوع لربوبيته و ليس المراد من الإسلام الدين الذي جاء به محمد ابن عبد اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانه حادث بعد ابراهيم بعدة قرون و تابع له لقوله تعالى: «وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» النساء - 125 و قد تقدم في قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران

ص: 45

- 19 بعض الكلام.

و قد وصف اللّه سبحانه و تعالى ابراهيم (عليه السلام) بأوصاف ثلاثة كل واحد منها يدل على بطلان ما تدعيه اليهود و النصارى و الوثنية المشركة، ففي توصيفه بكونه حنيفا لأجل كونه تاركا لكل العقائد الزائفة و مائلا إلى التوحيد الحق كما تقدم، و في توصيفه بكونه مسلما لبيان انه منقاد للحق و داخل في طاعة اللّه تعالى مخلص له خاضع لوجهه الكريم، و في توصيفه بكونه لم يكن من المشركين للاعلام بانه لم يكن من عبدة الأصنام و لا من الحنفية الوثنية كما كانت عليه عرب الجاهلية، و فيه التعريض بأنهم مشركون فتكون الجملة تأكيدا لما تضمنه الكلام السابق، كما ان فيه التنبيه على أن الحنفية المصطلحة بين عبدة الأوثان لم تكن مرادة بل المراد هي الحنفية الحقة التي جاء بها ابراهيم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان ابراهيم (عليه السلام) الذي اتفق على إجلاله و إكرامه جميع الأديان انما هو المرضي للّه تعالى و المستسلم لأمره لم يكن على ملة احد منهم، و بهذا الاعتبار صار موضع احترام و إجلال جميع الأديان بل يعتبر أصلها و مؤسسها.

قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ .

اولى افعل التفضيل من وليه يليه وليا و هو بمعنى اقرب. اي:

اقرب الناس إلى ابراهيم في الدخول في ولايته من كان متبعا له، فإذا كانت نسبة بين احد و بين هذا النبي العظيم المبجل فإنما هي نسبة المتابعة له في حق و موافقته في الدين الذي جاء به، و من استحق هذه الأولوية من المتقدمين من أجاب دعوته و اهتدى بهديه و اتبعه على

ص: 46

الحنيفية و اسلافه من الأنبياء السابقين و الموحدين الصالحين.

و في الآية المباركة التعريض لأهل الكتاب بأنهم لم يتبعوه فليسوا اولى بإبراهيم (عليه السلام) فكيف يكون منهم.

قوله تعالى: وَ هذَا اَلنَّبِيُّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

اي: و من المتأخرين هذا النبي و المؤمنين به فان دينه على الحق، و انه من أكبر الداعين إلى الحنيفية التي دعى إليها ابراهيم (عليه السلام) بل ان دينهما واحد.

و في إفراد النبي و المؤمنين به عن الذين اتبعوه تجليل لهذا النبي العظيم و صون له من ان يطلق عليه الاتباع. هذا إذا جعلنا قوله تعالى:

«وَ هذَا اَلنَّبِيُّ» جملة معطوفة على الضمير المفعول.

و قيل: الجملة معطوفة على الموصول قبله فيكون من عطف الخاص على العام.

و قيل: انه معطوف على ابراهيم فتكون الجملة مجرورة. و المعنى ان اولى الناس بإبراهيم و هذا النبي للذين اتبعوه. و اعترض عليه أنه ينبغي أن يثنى ضمير (اتبعوه). و لكن أجيب بانه نظير قوله تعالى:

«وَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ» التوبة - 62.

و الحق أن الاعتراض ساقط، لأن الضمير المنصوب في قوله تعالى:

«اِتَّبَعُوهُ» يرجع إلى خصوص ابراهيم (عليه السلام). و كون نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) مقصودا أيضا في واقع المراد، لا يوجب تثنية الضمير في ظاهر اللفظ، مضافا إلى انه يلزم الفصل بين العامل و المعمول بأجنبي. فالصحيح ما ذكرناه، و هو الموافق لأدب القرآن في خاتم الأنبياء و المرسلين مثل قوله تعالى: «أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَدَى اَللّهُ فَبِهُداهُمُ اِقْتَدِهْ» الانعام - 90 و لم يقل عز و جل فبهم اقتده.

ص: 47

قوله تعالى: وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ .

اي: من دخل في ولاية ابراهيم (عليه السلام) دخل في ولاية اللّه تعالى و اللّه ولي المؤمنين ينصرهم بالحسنى و يصلح شؤونهم دون غيرهم من الكافرين المشركين.

و فيه إيماء إلى أن اهل الكتاب خارجون عن ولايته سبحانه و تعالى و ان ادعوا الايمان باللّه جلت عظمته.

بحوث المقام
بحث أدبي:

كلمة سواء في قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ» تأتي مصدرا، و تأتي بمعنى الوصف اي متساوي الطرفين و العدل، و تقرأ ممدودة إذا فتح السين و مقصورة إذا كسر السين أو ضم. و هي نعت للكلمة مستوية أو متساوية، فتكون مجرورة و يمكن أن تكون منصوبة على المصدر.

و لم في قوله تعالى: «لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ» أصله (لما) حذفت الالف فرقا بين الاستفهام و الخبر.

و ها في قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ» حرف تنبيه، أطرد دخوله على المبتدأ إذا كان خبره اسم الإشارة و «أَنْتُمْ هؤُلاءِ» قيل: مبتدأ و خبر على أن يكون هؤلاء بمعنى الذين و ما بعده صلة له و قيل: أنتم مبتدأ و هؤلاء منادى حذف منه حرف النداء و جملة «حاججتم» خبر.

ص: 48

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «كَلِمَةٍ سَواءٍ» على ان الكلمة من اساسيات كتب اهل الكتاب و اوليات العقل و انها من البديهيات، فتدل بالملازمة على انها من الأمور التي يجب العمل بها عقلا و شرعا.

الثاني:

ان قوله تعالى: «أَلاّ نَعْبُدَ إِلاَّ اَللّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً» بيان للكلمة السواء - كما عرفت - و يبين علة الحكم بالرجوع إلى الكلمة السواء و هي كون اللّه معبودا واحدا لا شريك له في ذلك فلا بد من الاجتماع على عبادته و أن لا يتخذ دونه معبود آخر و لا يجوز لاحد ان يخضع إلا لواحد له من الكمال و العظمة و الكبرياء ما لا يوجد في غيره، و ان وحدة النظام في العالم تقتضي ان يكون المعبود واحدا كما ان خالقه واحد.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً» على نفي الولاية لاحد على احد إلا ما يمنحها اللّه تعالى لعبد من عباده و ان افراد الإنسان أبعاض من حقيقة واحدة.

كما ان الآية الشريفة تدل على نفي ربوبية غير اللّه تعالى، و أن لا رب سواه، و أن الربوبية الحقيقية من خصائص الألوهية.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» أن الاحتجاج المنتج لا بد أن يكون عن علم صحيح مطابق للواقع.

ص: 49

الخامس:

يدل قوله تعالى: «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» على ان الأوهام الباطلة و المغالطات توجب عزل الفكر عن الواقع و بعد الإنسان عن الحق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ» ان المناط في كل دين و ملة هو الخضوع و الطاعة للّه تعالى و نبذ الشرك بكل انحائه و بهذا الاعتبار لم يكن ابراهيم يهوديا و لا نصرانيا لكونهما مشتملين على الشرك.

السابع:

إنما قال سبحانه و تعالى: «وَ اَللّهُ وَلِيُّ اَلْمُؤْمِنِينَ» . و لم يقل: (و اللّه وليهم) إيماء إلى ان الإيمان هو العلة في ولايته تعالى لعباده المؤمنين، للقاعدة المعروفة بين الأدباء: ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ» الفرق و الاختلاف بين الواقع و الاعتقاد و أنهما أمران قد يتطابقان و قد يختلفان، و من ذلك جاء الاختلاف و التنازع في العلوم و المعارف الانسانية، و أساس المغالطات على هذا الاختلاف، و هو يدور مدار قلة التأمل و التفكر و كثرتهما. و لذا ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة الترغيب الكبير إلى التفكر و التعقل، و لعل من اسرار ذلك رفع التنازع و الاختلاف بين الناس و لو وفق فرد لتمييز الاعتقاد الصحيح المطابق للواقع عن غيره لارتفع النزاع و قلّ التشاجر و التناحر بين الأنام، لكن الخلاف و الاختلاف غريزة لا يمكن رفعها، و لا دفعها.

ص: 50

بحث روائي

روى محمد بن الحسن الشيباني عن جعفر بن محمد (عليه السلام) في قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء - الآية - قال (عليه السلام): «إن الكلمة السواء هاهنا هي شهادة أن لا إله إلا اللّه، و أن محمدا رسول اللّه، و أن عيسى عبد اللّه و انه مخلوق كآدم».

أقول: يستفاد من الحديث أن الكلمة السواء هي الدعوة إلى التوحيد، و نبذ الشرك، فتكون الدعوة عامة بالنسبة إلى اهل الكتاب و غيرهم، و في كل وقت.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - الآية - أخرج ابن جرير عن السدّي: دعا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) وفد نجران، فقال: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - الآية -.

و في صحيح البخاري عن ابن عباس عن أبي سفيان في حديث - يذكر فيه كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى هرقل عظيم الروم، قال أبو سفيان: ثم دعا - يعني هرقل - بكتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقرأه فإذا فيه: بسم اللّه الرحمن الرحيم من محمد رسول اللّه إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فاني أدعوك بدعابة الإسلام أسلم تسلم، و أسلم يؤتك اللّه أجرك

ص: 51

مرتين، فان توليت فان عليك إثم الإريسيين، و يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا اللّه.... و اشهدوا بأنا مسلمون - الحديث -..

و رواه مسلم في صحيحه أيضا، و رواه السيوطي في الدر المنثور عن النسائي، و عبد الرزاق، و ابن أبي حاتم عن ابن عباس.

و في بعض الروايات أن كتاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى مقوقس عظيم القبط يشتمل أيضا على قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ» . و في الدر المنثور أخرج الطبراني عن ابن عباس: أن كتاب رسول اللّه إلى الكفار تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم - الآية -.

أقول: البحث في هذه الأحاديث من جهتين: - الأولى: أن كتب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) المشتملة على قوله تعالى: «تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ» إلى من ذكر في الروايات كعظماء الروم، و القبط، و فارس ليس من جهة الاختصاص بهم، بل هي دعوة التوحيد و نبذ الشرك، فيشمل كل من لم يكن على التوحيد حتى المشركين. كما أنها بحسب معنى الدعوة إلى التوحيد لا تختص بزمان دون زمان فان الدعوة عامة و ابدية.

الجهة الثانية: اتفق أرباب التواريخ أن إرسال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الرسل و الكتب إلى الملوك و الرؤساء كان في السنة السادسة من الهجرة، و يلزم ذلك أن هذه الآية الشريفة - قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ - نزلت في تلك السنة أو قريبا منها، لأن الكتب كانت مشتملة على هذه الآية الشريفة.

و لكن اختلف أهل التاريخ في وفد نصارى نجران، فمنهم من قال

ص: 52

أنهم وفدوا على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في السنه العاشرة من الهجرة، و منهم من قال: بأنهم وفدوا سنة تسع من الهجرة، و يلزم من ذلك الاختلاف في وقت نزول الآية الشريفة.

و يمكن القول بأن الإعتبار يشهد بأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد كتب إلى نصارى نجران أيضا في السنة التي كتب إلى الملوك و الرؤساء، لأنهم كانوا اقرب اليه من غيرهم. فيكون ما ذكره المفسرون في شأن نزول هذه الآية الشريفة من باب الجريان و التطبيق و يمكن أن تكون الوفود متعددة فتارة وفدوا في سنة ست، و أخرى في سنة تسع أو عشر من الهجرة.

بقي شيء و هو أن البيهقي نقل في الدلائل: أن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتب إلى أهل نجران قبل أن ينزل عليه طس سليمان: بسم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد رسول اللّه إلى أسقف نجران إن إسلمتم فاني احمد إليكم اللّه إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب أما بعد فاني أدعوكم إلى عبادة اللّه من عبادة العباد و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد فان أبيتم فقد آذنتكم بالحرب و السلام - الحديث -.

و أشكل عليه أولا: بأن الكتاب لم يتصدر ببسم اللّه الرحمن الرحيم بخلاف سائر كتبه (صلى اللّه عليه و آله).

و يمكن الجواب عنه: بأنه ربما يكون الكتاب إلى نجران متعددا أو انما فعل ذلك رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأجل التودد و المجاراة معهم.

و ثانيا: أن سورة النمل مكية نزلت قبل هجرة النبي، و كيف يجتمع مع قصة نجران.

و فيه: بأن النزول له مراتب و المراد به في المقام قبل ظهورها

ص: 53

بين الناس و انتشاره. أو كان الكتاب إليهم قبل هجرته (صلى اللّه عليه و آله) لقرب دار نجران منه.

و ثالثا: انه يشتمل على أمور لا يمكن توجيهها، كحديث الجزية و الإيذان بالحرب و غير ذلك. و فيه: أن ذلك كان في مرحلة الإنشاء بداعي الترهيب دون الفعلية.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا - الآية قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام): لا يهوديا يصلي إلى المغرب، و لا نصرانيا يصلي إلى المشرق، لكن كان حنيفا مسلما على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله).

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): لا يصلي إلى المغرب..

و لا يصلي إلى المشرق. هو لزومه حد الوسط و عدم الانحراف عنه و يلزم ذلك انحراف الطائفتين عن الحق.

و أما قوله (عليه السلام): كان ابراهيم على دين محمد. أي ما يتخذه محمدا (صلى اللّه عليه و آله) دينا لأمته، و هو عبارة أخرى عن الدين الذي أوحاه اللّه تعالى إلى ابراهيم، و أمر تعالى محمدا أن يتبعه، فيصح أن يقال أن ابراهيم على دين محمد (صلى اللّه عليه و آله) حيث انه شارح لملة ابراهيم، كما يصح أن يقال: أن محمدا على دين ابراهيم، أي أن اصول دين محمد متخذة من ملة ابراهيم.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «خالصا مخلصا ليس فيه شيء من عبادة الأوثان».

أقول: هذا هو معنى الوسط الذي قلناه و انه لم يكن منحرفا عنه و لو بشيء يسير، و أن دين غيره لا يخلو عن الشرك. و في المحاسن عن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ - الآية - قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أنتم و اللّه على دين ابراهيم و منهاجه، و أنتم أولى الناس به».

ص: 54

أقول: هذا هو معنى الوسط الذي قلناه و انه لم يكن منحرفا عنه و لو بشيء يسير، و أن دين غيره لا يخلو عن الشرك. و في المحاسن عن عبد اللّه بن سليمان الصيرفي في قوله تعالى: إِنَّ أَوْلَى اَلنّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اِتَّبَعُوهُ - الآية - قال: «سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: أنتم و اللّه على دين ابراهيم و منهاجه، و أنتم أولى الناس به».

أقول: وردت في مضمون ذلك عدة روايات. و المراد بكونهم على دين ابراهيم لأنهم يبينون حقيقة دين ابراهيم علما و عملا، فلا محالة يكون أولى الناس به من يكون تابعا لمن يشرح ملة ابراهيم قولا و عملا.

و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «هم الأئمة و من اتبعهم».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في المجمع في قوله تعالى أيضا: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) «أن أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاءوا به، ثم تلا هذه الآية.

و قال: إن وليّ محمد من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته، و إن عدو محمد من عصى اللّه و إن قربت لحمته». و روى الزمخشري في ربيع الأبرار عن علي (عليه السلام) قريبا منه.

أقول: الروايات بهذا المضمون كثيرة جدا، و هي موافقة للقواعد العقلية التي تحكم بأن المتابعة إنما تتحقق في العمل بما يبينه المتبوع لا بمجرد القول فقط، و هذا الحديث يكون شارحا لجملة من الأخبار الواردة في المقام.

ص: 55

بحث تاريخي

روى أهل السير و التواريخ حديث هجرة أصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى الحبشة و ما لقوه من المتاعب و المصائب و ما جرى بينهم و بين النجاشي، و هذه الهجرة كانت أول احتكاك بين المسلمين و بين غيرهم، و قد أظهرت ثبات المسلمين، و سمو أخلاقهم، و علو حجتهم، و ستبقى هذه الهجرة الميمونة رمزا للفداء و التضحية، و لا بد للمسلمين أن يجعلوا هذه الهجرة محط انظارهم و يستفيدوا منها في تنظيم مجتمعهم و الاحتكاك مع غيرهم، و نحن ننقل هذه القصة لما تتضمن من الفوائد الجليلة و لتكون نورا يهتدي به المسلمون في جهادهم و كفاحهم و بلائهم.

و ليست هي من سبب النزول في هذه الآيات المباركة المتقدمة و إن ذكرها المفسرون في المقام.

فقد روى الواقدي في أسباب النزول، و الخازن في تفسيره و غيرهما عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس، و رواه محمد بن إسحاق عن ابن شهاب، قال: لما هاجر جعفر بن أبى طالب و أناس من اصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى أرض الحبشة و استقرت بهم الدار و هاجر النبي (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة، و كان من أمر بدر ما كان اجتمعت قريش في دار الندوة، و قالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي من اصحاب محمد ثأرا ممن قتل منكم ببدر فأجمعوا مالا و أهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم، و لينتدب

ص: 56

اليه رجلان من ذوي رأيكم. فبعثوا عمرو بن العاص، و عمارة بن أبى معيط و معهم الهدايا: الإدم و غيره فركبا البحر حتى أتيا الحبشة فلما دخلا على النجاشي سجدا له و سلّما عليه، و قالا له: إن قومنا لك ناصحون شاكرون، و لأصحابك محبّون، و أنهم بعثونا إليك لنحذر هؤلاء الذين قدموا عليك لأنهم قوم رجل كذاب، خرج يزعم أنه رسول اللّه، و لم يتابعه أحد منّا إلا السفهاء، و إنا كنا قد ضيّقنا عليهم الأمر، و الجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل عليهم أحد فقتلهم الجوع و العطش، فلما اشتدّ عليه الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك و ملكك و رعيتك فاحذرهم و ادفعهم إلينا لنكفيكم، قال:

و آية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك، و لا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك و سنتك.

قال: فدعاهم النجاشي فلما حضروا صاح جعفر بالباب: يستأذن عليك حزب اللّه تعالى، فقال النجاشي: مروا هذا الصائح فليعد كلامه، ففعل جعفر، فقال النجاشي: نعم فليدخلوا بأمان اللّه و ذمته فنظر عمرو إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع كيف يرطنون بحزب اللّه و ما أجابهم به الملك؟ فاسائهما ذلك.

ثم دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقال عمرو بن العاص: ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشي: ما منعكم أن تسجدوا لي و تحيوني بالتحية التي يحييني بها من أتاني من الآفاق؟ قالوا: نسجد للّه الذي خلقك و ملّكك، و انما كانت تلك التحية لنا و نحن نعبد الأوثان، فبعث اللّه فينا نبيا صادقا، فأمرنا بالتحية التي رضيها اللّه و هي السلام، تحية أهل الجنة، فعرف النجاشي أن ذلك حق، و أنه في التوراة و الإنجيل، قال: أيكم الهاتف: يستأذن

ص: 57

عليك حزب اللّه؟ قال جعفر: أنا، قال: انك ملك من ملوك الأرض من أهل الكتاب، و لا يصلح عندك كثرة الكلام، و لا الظلم، و إنما أجيب عن أصحابي، فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما، و لينصت الآخر فتسمع محاورتنا، فقال عمر و لجعفر: تكلّم.

فقال جعفر للنجاشي: سل هذين الرجلين، أ عبيد نحن أم احرار فان كنا عبيدا قد أبقنا من اربابنا فردنا عليهم. فقال النجاشي:

أ عبيد هم أم أحرار؟ فقال: بل أحرار كرام، فقال النجاشي:

نجوا من العبودية، فقال جعفر: سلهما، هل أرقنا دما بغير حق فيقتص منا فقال عمرو: لا و لا قطرة، قال جعفر: سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها؟ قال النجاشي: إن كان قنطارا فعلي قضاؤها، فقال عمرو: لا و لا قيراط، فقال النجاشي:

فما تطلبون منهم؟ قال: كنا و إياهم على دين واحد، على دين آبائنا فتركوا ذلك، و اتبعوا غيره، فبعثنا قومنا لتدفعهم إلينا. فقال النجاشي: ما هذا الذي كنتم عليه، و الدين الذي اتبعوه؟ فقال جعفر: أما الدين الذي كنا عليه فهو دين الشيطان كنا نكفر باللّه و نعبد الحجارة، و أما الذي تحولنا اليه فهو دين اللّه الإسلام جاءنا به من عند اللّه رسول بكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقا له، فقال النجاشي: يا جعفر تكلمت بأمر عظيم.

ثم أمر النجاشي بضرب الناقوس فضرب، و اجتمع اليه كل قسيس و راهب، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشي: أنشدكم باللّه الذي انزل الإنجيل على عيسى هل تجدون بين عيسى و بين يوم القيامة نبيا مرسلا؟ قالوا: اللهم نعم قد بشرنا. فقال: من آمن به فقد آمن بي، و من كفر به فقد كفر بي، فقال النجاشي لجعفر: ماذا يقول

ص: 58

لكم هذا الرجل؟ و ما يأمركم به؟ و ما ينهاكم عنه: فقال يقرأ علينا كتاب اللّه و يأمرنا بالمعروف، و ينهانا عن المنكر، و يأمرنا بحسن الجوار، و صلة الرحم، و بر اليتيم، يأمرنا أن نعبد اللّه وحده لا شريك له فقال له: اقرأ علىّ مما يقرأ عليكم، فقرأ عليه سورة العنكبوت، و الروم، ففاضت عينا النجاشي و أصحابه من الدمع، و قالوا: زدنا من هذا الحديث الطيب فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال: إنهم يشتمون عيسى و أمه، فقال النجاشي فما تقولون في عيسى و أمه؟ فقرأ عليهم سورة مريم، فلما أتى على ذكر مريم و عيسى رفع النجاشي من سواكه قدر ما يقذي العين، و قال: و اللّه ما زاد المسيح على ما تقولون هذا.

ثم اقبل على جعفر و أصحابه فقال: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي، يقول: آمنون من سبكم و آذاكم غرم. ثم قال: ابشروا، و لا تخافوا فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيم. فقال: عمرو: يا نجاشي و من حزب ابراهيم؟ قال. هؤلاء الرهط، و صاحبهم الذي جاءوا من عنده، و من اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون و ادعوا دين ابراهيم.

ثم رد النجاشي على عمرو و صاحبه المال الذي حملوه، و قال:

إنما هديتكم إلى رشوة فاقبضوها، فان اللّه ملكني و لم يأخذ مني رشوة قال جعفر: فانصرفنا فكنا في خير جوار، و أنزل اللّه عز و جل في ذلك على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في خصومتهم في ابراهيم و هو في المدينة: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا و اللّه ولي المؤمنين.

هذا هو حديث الهجرة الذي رواه الفريقان بطرق مختلفة، و لا بد من التأمل فيه و الاستفادة منه في تكوين المجتمع الاسلامي،

ص: 59

و فيه الدروس القيمة في كفاح المسلمين و بلائهم.

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْل.......

اشارة

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ (74) بعد أن دعا عز و جل أهل الكتاب إلى الإسلام الذي كان عليه إبراهيم و سائر الأنبياء العظام، و سجل عليهم افتراؤهم على ابراهيم بانه يهودي أو نصراني، ورد عليهم حججهم في ذلك، يبين سبحانه في هذه الآيات حالهم بالنسبة إلى الحق و المؤمنين به من الكذب و الافتراء

ص: 60

و الإضلال، و ما يضمرونه في أنفسهم من العداوة بالنسبة إلى المسلمين و تثبت الآيات المتقدمة جملة من سجاياهم الفاسدة، و أخلاقهم الرذيلة و جهدهم في غواية المؤمنين و اضلالهم و الكيد بهم بكل وسيلة. و قد أمر اللّه تعالى المؤمنين بالثبات و متابعة هدى اللّه، و وعدهم الحسنى و الرحمة و الفضل العظيم.

التفسير

قوله تعالى: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ .

الود هو المحبة، و يأتي بمعنى التمني أيضا إذا كان المحب مشتغلا بمقدمات ما يحبه، فيكون الود حينئذ اخصّ من التمني، و جملة (لو يضلونكم) تفسير له. و أهل الكتاب هم اليهود و النصارى. و الطائفة الجماعة، و المراد بها أهل الرأي و الجاه من الرؤساء و الأحبار و القسيسين فيكون (من) للجنس حينئذ.

و إضلال الكفار للمؤمنين هو صدهم عن الوصول إلى الكمال اللائق بهم بالغواية، و التشكيك في الدين، و إلقاء الشبهات و كل ما يوجب التزلزل في عقيدة المؤمنين، و الخروج عن ثباتهم، و ردّهم إلى الكفر.

و الآية تثبت الضلالة لهم، و حرصهم على الإضلال و الغواية.

و انما ذكر سبحانه كلمة (لو) إشارة إلى أن ودهم و محبتهم في إضلال المؤمنين لا تجاوز نياتهم الفاسدة و لا يتحقق في الخارج.

قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ .

لأن حبهم لإضلال المؤمنين، و صدهم عن الوصول إلى الكمال اللائق بهم لا يتحقق إلا بعد ضلالتهم و اعراضهم عن الحق، و بعدهم

ص: 61

عن الكمال الذي أعدّه اللّه تعالى لهم، و صرف أنفسهم عن كسب الأخلاق الفاضلة، و الفضائل الانسانية التي من أهمها حب الخير و الميل إلى الحق، و التحبب إلى أهله؛ و أن حرمانهم عن جميع ذلك و الاشتغال بالإضلال و التوجه إلى الغواية صرف للنفس عن نيل الكمال و السعادة و الهداية، و هم لا يشعرون بذلك إذ أن قصدهم و همّهم هو صدّ المؤمنين عن الإيمان و الحق، و قد استولى هذا الشرّ على نفوسهم فأوجب حرمانهم عن أهم الفضائل و مكارم الأخلاق. و مما ذكرناه يعرف وجه الحصر في الآية الشريفة.

و نفى الشعور عنهم مبالغة في ذمهم، و حرمانهم عن الحقيقة الانسانية التي بها ميّز اللّه تعالى الإنسان عن غيره.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

الاستفهام إنكاري توبيخي، و المراد بآيات اللّه الكمالات الانسانية و المعارف الحقة الإلهية، و الحقائق التي أنزلت في الكتب السماوية مثل نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، و البشرى به، و أن عيسى عبد اللّه و رسوله، و ان إبراهيم لم يكن يهوديا و لا نصرانيا، و أن اللّه واحد أحد لا شريك له و هو قادر على كل شيء، و غني عن العالمين، و غير ذلك من الحقائق التي قامت الدلائل الواضحة، و البراهين القويمة عليها، و أن إنكارها و الكفر بها بعد العلم بها يكون كفر جحود و مكابرة للحق، و هما من أعظم أنحاء الكفر و شناعته أكبر.

و الكفر بآيات اللّه غير الكفر باللّه تعالى الذي يكون منشأه الالتزام بالشرك و نفي التوحيد، و الأول اصطلاح قرآني يستعمل مع أهل الكتاب لأنهم لا ينكرون اللّه تعالى.

ص: 62

و إن كان الكفر بآيات اللّه، و أحكامه المقدسة، و المعارف الإلهيّة يستلزم الكفر به و عدم الايمان به و اليوم الآخر، و يدل عليه قوله تعالى:

«قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ اَلْحَقِّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» التوبة - 29. فانه يدل على أن الكفر باحكام اللّه تعالى، و ما جاء به الرسول الكريم و عدم الايمان بها يستلزم الكفر باللّه و اليوم الآخر.

و لكن الكفر قد يكون صريحا معلوما للكافر، و قد يكون بالملازمة الخفية عليه بحيث لا يشعر به.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ .

مبالغة في قبح كفرهم، و تشنيع لفعلهم، لان الكفر مع شهادة الآيات البينات على الوحدانية و الرسالة، لا يكون إلا عن جحود و فساد السريرة. و الشهادة من الشهود بمعنى الحضور، سواء كان بالحس أو بالوجدان.

و التعبير به لبيان أن علمهم انما هو من المشاهدة و الحسّ.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ .

مادة (لبس) تدل على الستر و التغطية، و سمي اللباس لباسا، لأنه يستر البدن و يغطيه. و لبس الحق بالباطل ستره و تغطيته بالباطل بإلقاء الشبهات عليه و تمويهه و خلطه بالباطل.

و المراد بالحق الحقائق الواقعية، و الكمالات الانسانية و المعارف الإلهية، منها البشارة بنبوة النبي (صلى اللّه عليه و آله) و نزول

ص: 63

القرآن عليه و غير ذلك مما أنزله اللّه تعالى على الأنبياء السابقين و أخبروا به أممهم.

و الاستفهام انكاري، و فيه من التوبيخ لهم و التشنيع بهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ .

كتمان الحق إما أن يكون بستره و عدم إظهاره، أو بتحريف الكتاب و جعله قراطيس يبدون شيئا منها و يخفون الكثير. أو بتمويه الحق بالتأويلات الباطلة و الأوهام الفاسدة، و الآراء المزيفة.

و قد بيّن سبحانه في مواضع كثيرة من القرآن الكريم كتمان الحق الذي هو من أعظم الكبائر.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ .

أي و أنتم تعلمون الحق و تعرفونه إلا إنكم تكفرون به و تكتمونه و فيه من التشنيع عليهم، و التوبيخ لهم ما لا يخفى.

قوله تعالى: وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ .

الطائفة الجماعة من الناس. و المراد من أهل الكتاب هنا اليهود الذين عرفوا بالغدر و الخيانة لأهل الإيمان. كما أن المراد بوجه النهار أوله في مقابل آخره، و سمي وجها لأنه أول ما يواجه الإنسان و يبدو

ص: 64

له بعد انقضاء الليل.

و الآية تدل على أن طائفة من اليهود هي الآمرة لطائفة أخرى منها بالإيمان أول النهار و الكفر اخرى، مخادعة للمؤمنين أو كيدا بهم، و محاولة لا ضلالهم عن الحق، و بعث الشك و الارتياب في نفوسهم و التشكيك في دينهم، و هذا من أهم الأعمال العدوانية التي مارستها اليهود ضد المسلمين و له الأثر الكبير في النفوس، و يعتبر من أعظم الحروب النفسية مع المسلمين أبان الدعوة الاسلامية.

و في التعبير ب «عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا» اشارة إلى ذلك، فان قصدهم كان إضلال المؤمنين و حرمانهم من الثبات و الاستقامة في الدين، و إعلان هذه الحرب معهم دون نفس القرآن و الإسلام، فان لهم بالنسبة إليهما شأنا آخر إما الكتمان أو التمويه و الخلط و نحو ذلك مما حكى اللّه تعالى عنهم آنفا.

و اختلف المفسرون في متعلق الظرف في قوله تعالى: «وَجْهَ اَلنَّهارِ ... و آخِرَهُ» . فالمشهور إن وجه النهار متعلق بجملة «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ» . و آخره متعلق ب «وَ اُكْفُرُوا» . أي خادعوا المؤمنين بهذا النحو من الخديعة، و هي الايمان الصوري بالقرآن و الرسالة أول النهار، و الالتحاق بالمؤمنين في هذا الوقت، ثم إظهار الكفر و الارتداد آخره، إيماء الى أن القرآن و الإسلام عاريان عن الصدق و الحقيقة، و أن ما ورد من البشارات في كتبهم لا تنطبق على هذا الدين الجديد و رسوله الكريم، و إيهاما للمؤمنين بأن أهل الكتاب العالمين بهذا الدين لم يتحقق لهم صدق الرسول، و حقانية الدين، و لم يكن هو ذلك المبشر به، فيرتاب المؤمنون في دينهم.

و قيل: ان الظرف متعلق ب (أنزل). أي آمنوا بالوحي النازل

ص: 65

على رسوله الكريم أول النهار الذي يوافق أهل الكتاب، و اكفروا بالوحي النازل عليه (صلى اللّه عليه و آله) آخر النهار الذي يخالف ما هم عليه، فيكون الايمان و الكفر متعلقين بشيء خاص، و هو الوحي الموافق و المخالف. و حينئذ يكون من وضع الظرف موضع المظروف. و أيّد ذلك ببعض الروايات.

و قيل: إن ذلك كان في شأن القبلة لما حوّلت الى الكعبة حيث ثقل ذلك على اليهود، فأمر اشرافها جماعة منها بالصلاة الى القبلة، الجديدة، و الإيمان بهذا التكليف الجديد أول النهار، و الكفر آخره لعل المؤمنين يرجعون عنه.

و الحق أن يقال: أن الآية لا غموض فيها و لا إجمال، و هي تثبت هذه المكيدة لليهود التي صدرت عنهم مرات عديدة و بأساليب مختلفة و قد ذكرنا انها من الحرب النفسية التي شنتها ضد المسلمين، و هي عامة تشمل جميع ما ذكر فلا وجه للتخصيص بشيء من ذلك.

و يحتمل أن يكون المراد من الآية الشريفة هو المعنى الكنائي أي المكر و الخديعة بهذا النحو مع المسلمين فحينئذ لا يلاحظ المعنى المطابقي بل يكون من إحدى صغريات المعنى الكنائي، كما هو معروف في علم الأدب. و حينئذ لا وجه لما ذكره المفسرون في الاختلاف في المتعلق.

قوله تعالى: وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ .

غواية أخرى لأهل الكتاب و سبيل آخر من سبل اضلالهم، و الجملة من أقوالهم التي أرادوا بها الكيد بالمسلمين.

و الايمان يتعدى بالباء - و هو كثير - و قد يتعدى باللام فيفيد التصديق، و الثقة، و الركون، قال تعالى: «وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ»

ص: 66

البراءة - 61. فيكون تصديقا خاصا لا يكون في مطلق الايمان، و يكون المراد من النهي هو عدم التصديق و الركون إلى المؤمنين.

و المعنى و قالت طائفة من أهل الكتاب - و هم اليهود على ما عرفت - لطائفة أخرى منهم لا تثقوا بغيركم فتظهروا أحاديثكم لأحد منهم و تلقون اليه السر الذي أودعه اللّه فيكم، فيكون النهي نهيا عن افشاء ما عندكم من الحق، و قد أخبرهم اللّه تعالى بظهور النبي (صلى اللّه عليه و آله)، و جعل معجزته في فيه، و ظهور الشواهد الكثيرة على صدقه.

و إنما نهوهم عن ذلك لما ذكره عز و جل في ما يأتي، و هو لئلا يكون للمسلمين مثل ما عندهم من الحق، أو تكون لهم الحجة.

و هذا هو كتمان الحق الذي عرفت به اليهود، و انما قالوا ذلك تعصبا منهم في حصر الحق في أنفسهم، و حسدا منهم بأنهم أولى بالحق من غيرهم، و كيدا بالمؤمنين.

و حينئذ فلا يختص هذا المكر باليهود فقط فكل من تعصب لنفسه و غلبت عليه العصبية يخفي الحق و لا يظهره لأحد من غير ملته، فتشمله الآية الكريمة.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ .

جملة اعتراضية بين اقوال الكائدين جيء بها للتأكيد على عدم إضرار كيدهم بمن لطف به اللّه تعالى، و لتثبيت إيمان المؤمنين، و التعجيل في تقريعهم، و الاهتمام ببيان فساد ما ذهبوا اليه، و تسفيها لآرائهم. و الآية جواب عن جميع ما قالوه في الكيد بالمؤمنين و غوايتهم.

و نظير هذه الآية ما تقدم في سورة البقرة، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى» البقرة - 120 إلا إن الفرق بينهما أن المقام من القضايا الحقيقية الكلية المنطبقة على جميع الموارد، و هناك من قبيل القضايا الخارجية باعتبار تغيير القبلة، و انه كان من اللّه تعالى، كما أن القبلة السابقة كانت كذلك، و في المقام يكون باعتبار اصل الدين اصولا و فروعا، فيكون معنى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

ص: 67

و نظير هذه الآية ما تقدم في سورة البقرة، قال تعالى: «قُلْ إِنَّ هُدَى اَللّهِ هُوَ اَلْهُدى» البقرة - 120 إلا إن الفرق بينهما أن المقام من القضايا الحقيقية الكلية المنطبقة على جميع الموارد، و هناك من قبيل القضايا الخارجية باعتبار تغيير القبلة، و انه كان من اللّه تعالى، كما أن القبلة السابقة كانت كذلك، و في المقام يكون باعتبار اصل الدين اصولا و فروعا، فيكون معنى قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

و المعنى إن الهدى الذي هو الغرض الاصلي من التشريعات السماوية و غاية سعي كل مؤمن انما هو هدى اللّه تعالى فقط الذي يحتاج اليه المؤمنون في جميع أمورهم دون ما اعتقده غيرهم، و العقل حينئذ يحكم باتباع هدى اللّه، و الاعراض عن غيره فلا يضرّ بعد ذلك كتمان أهل الكتاب الحق أو إظهاره.

قوله تعالى: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ .

عود إلى مقالتهم، و بيان للسبب في نهيهم عن التصديق بغيرهم و افشاء السرّ، أي لا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم كراهة أن يؤتى أحد من غيركم مثل ما أوتيتم من الحق فيعرفه فلا تنفع غواياتهم و مكائدهم و هذا يكون بحسب زعمهم الفاسد، و هو السبب في كتمانهم للحق أيضا.

و قيل: إن هذه الجملة متعلقة بالجملة السابقة التي أمر اللّه تعالى فيها رسوله بأن يقول لأهل الكتاب «إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» . و يكون قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ» تأكيدا لما أمر اللّه به أولا فلا يكون في البين فصل بكلام أجنبي. و تفيد هذه الجملة الإنكار لغيضهم و حسدهم، و تكون جوابا عن خدعهم، و لكن الأول هو الاولى.

ص: 68

قوله تعالى: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ .

سبب آخر في كتمان الحق، و قد بين سبحانه هذا الأمر في موضع آخر، قال تعالى: «وَ إِذا لَقُوا اَلَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اَللّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ» البقرة - 77.

و ربما يكون الأمران متلازمين فان إيتاء غير اليهود الحق يلازمه المحاجة عند ربهم.

و إنما قطع سبحانه هذا الأمر عن سابقه (بأو) لبيان استقلال كل واحد من هذين الأمرين في مكائدهم و غيضهم. أو يكون الترديد باعتبار اختلاف العوالم، فان الأول في دار الدنيا، و الثاني يكون في عالم الآخرة.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْفَضْلَ بِيَدِ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ .

ردّ لما زعموه، و إبطال لحججهم في كتمانهم الحق. و الفضل عبارة عما يؤتى زيادة عن أصل الاستحقاق، و قد يطلق على أصل ما يؤتى و لو لم تكن زيادة. و المراد به المعنى الأعم من ذلك، بناء على ما أثبته جمع من الفلاسفة و المتكلمين من أنه لا استحقاق في البين أصلا و انما يكون مطلق عطائه تبارك و تعالى فضلا. و يراد به في المقام مطلق مواهبه و عطياته فتشمل اصل النبوة و الرسالة، و تفضيل بعض النبيين على بعض، و ما منحه اللّه تعالى لنبيه الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و أمته. فيكون مثل هذه الآية ردا على كل من زعم أن أفعاله و حركاته و سعيه مؤثرة في إزالة الحق عن مقره، أو تخصيصه لنفسه، فان الفضل بيد اللّه يؤتيه من يشاء من عباده وفق الحكمة المتعالية، لا سيما في الفضائل المعنوية التي لا يعلم خصوصياتها أحد إلا اللّه تعالى الذي بيده

ص: 69

الملك يمنحه من يشاء من عباده.

و ما فضّله اللّه تعالى اليهود ببعض النعم، و منحهم الملك و النبوة قال تعالى: «يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ» * البقرة - 48. لا يستلزم اختصاصهم بالفضل و حرمان غيرهم منه فان الملك و الفضل بيد اللّه يعطيه من يشاء من خلقه، و يمنعه عمن يشاء.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ .

برهان قويم على بطلان مقالاتهم و حججهم في كتمان الحق. أي و اللّه واسع في فضله و رحمته لا يحدّهما شيء إلا أن يكون التحديد في الموضوع و المفضل عليه، عليم بخصوصيات فضله، و استعداد الموضوع و قابليته و هذا من القواعد العقلية المسلمة المعروفة، من أن الإفاضات لا بد أن تكون بقدر القابليات، و اللّه تعالى عليم بتلك القابليات لا يجهلها.

و الآية تدل على أن الفضل غير محدود بشيء فلا يوصف بالقلة مطلقا فلا يلزم من إعطائه لأحد انزوائه و منعه عن آخر، أو يحتاج إلى التماس مرجح لقلته و عدم وفائه للمجموع، بل الحدّ انما يكون من ناحية الموضوع و المفضل عليه، فتستفيض الموضوعات بقدر الاستعدادات و هو عليم بها.

فتكون الآية ردّا على أقوالهم و أفعالهم الفاسدة من تخصيص النعمة و الفضل لأنفسهم حسدا و بغيا، كما أن الآية الشريفة ردّ واضح لمقالة اليهود التي حكاها عز و جل عنهم «قالوا يَدُ اَللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» المائدة - 64.

ص: 70

قوله تعالى: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ .

لمّا اثبت سبحانه أن الفضل بيده يؤتيه من يشاء، واسع في إيتاء الفضل، عليم بمواضعه. ذكر هنا أنه لم يمنعه أحد من ذلك، و لا شيء يصرفه عن الرحمة بعباده فله أن يتصرف في ملكه بأي نحو أراد فيختص برحمته من يشاء منهم لعلمه بأهليته لها، و لكن ليس كل أحد من عباده يستحق الفضل منه عز و جل، فتكون الرحمة تحت إرادته و مشيته.

و إنما عدل سبحانه عن الفضل، و ذكر الرحمة هنا لبيان أن الأول من شعب رحمته، و أوسعيتها من الفضل، لقوله تعالى: «وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ» الأعراف - 156. و يمكن أن تكون الرحمة استحقاقية بخلاف الفضل فانه ليس كذلك مطلقا.

و إنما اطلق سبحانه الرحمة لتشمل كل ما يكون دخيلا في سعادة الإنسان دنيا و آخرة أو هما معا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو اَلْفَضْلِ اَلْعَظِيمِ .

تعليل لجميع ما تقدم، فان عظمة الفضل تستلزم أن يكون واسعا يشمل كل جهات الفضل، و كل من يريده عز و جل و تتعلق به مشيته و يعلم بأهليته لهذه المنحة الربانية فيختص برحمته من يشاء من عباده، و يعطيه ما هو اللائق بحاله. و الفضل هنا يشمل الرحمة أيضا.

ص: 71

بحث دلالي

تدل الآيات الشريفة على شدة الصراع بين الحق و الباطل، و كيد أهل الكتاب في اطفاء نور اللّه تعالى و ستر الحق، و قد توسلوا بجميع ما احتملوا تأثيره في إضلال المؤمنين و غوايتهم، و قد ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات أصول مكرهم، و بينها في مواضع أخرى من القرآن الكريم، و يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أقسام:

الاول: كيدهم بالنسبة إلى أصل الإيمان و الحق، و يدل عليه قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ اَلْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ اَلْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» ، و قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» . و هما يدلان على أن كتمان الحق و تلبيسه بالباطل و الكفر بآيات اللّه هي من عادتهم، و قد بين سبحانه في مواضع متعددة من القرآن الكريم سبل هذه المكيدة و الخديعة.

الثاني: خديعتهم بالنسبة إلى أهل الايمان و المؤمنين، و يدل عليه قوله تعالى: «وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ» ، و قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ وَ اُكْفُرُوا آخِرَهُ» . و ذكرنا أن هذه الخديعة من أهم ما أرادوا بها التأثير على نفسية المؤمنين و تذليلها، و الشك في إيمانهم.

الثالث: مكرهم بالنسبة إلى الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و يدل عليه قوله تعالى: «وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ» ، و يدل

ص: 72

عليه ايضا قوله تعالى: «يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» أيضا، فقد كذبوا الآيات الباهرات التي دلت على صدق رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)، و ما عرفوه من الدلائل على نبوته و رسالته و صدق دعواه التي وردت في كتبهم.

و قد واجه المسلمون أبّان الدعوة الاسلامية هذه المكائد و الخدع من الكافرين و عانوا منها أشد المعاناة و لا يزالون كذلك، إلا أنه تعالى أظهر كيدهم و خدعهم، و أمر المسلمين بالصبر و الاستقامة و الالتفاف حول الرسول الكريم و اتباعه، و في قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْهُدى هُدَى اَللّهِ» كمال العناية بالمؤمنين، و فيه إيماء إلى انهم على هداية اللّه تعالى، و أمرهم بالتمسك بها و الاستقامة عليها.

بحث روائي

في تفسير القمي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ...» قال «إن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما قدم المدينة، و هو يصلي نحو بيت المقدس أعجب ذلك القوم فلما صرفه اللّه عن بيت المقدس الى بيت اللّه الحرام وجدت اليهود من ذلك، و كان صرف القبلة صلاة الظهر، فقالوا: صلى محمد الغداة و استقبل قبلتنا فآمنوا بالذي انزل على محمد وجه النهار و اكفروا آخره يعنون القبلة حين استقبل رسول اللّه المسجد الحرام».

أقول: يصح أن تحمل هذه الرواية على بيان بعض مصاديق عاداتهم لا الاختصاص، و أن مورد النزول لا يكون مخصصا للحكم

ص: 73

كما هو المعروف.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ آمِنُوا...» . قال الحسن و السدي: تواطأ إثنا عشر حبرا من يهود خيبر - و قرى عرينة - و قال بعضهم لبعض: ادخلوا في دين محمد أول النهار باللسان دون الاعتقاد، و اكفروا به آخر النهار و قولوا: إنا نظرنا في كتبنا، و شاورنا علماءنا فوجدنا محمدا ليس بذلك و ظهر لنا كذبه، و بطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شك أصحابه في دينهم و قالوا: إنهم أهل الكتاب و هم أعلم به منا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، و أخبر به نبيه محمدا (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين.

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك آنفا.

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَ.......

اشارة

وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ

ص: 74

بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78) بعد أن بين سبحانه و تعالى بعض احوال اهل الكتاب بما يثبت غرورهم و تكبرهم على الحق، و أظهر أخلاقهم الفاسدة و شرح معايبهم ذكر هنا مظهرا من مظاهر غرورهم و هو نقض العهد و خيانة الامانة فان بعض اهل الكتاب أباحوا لأنفسهم استحلال أموال المسلمين اغترارا منهم بالعصبية الحمقاء، و قالوا بأن اللّه تعالى خصهم بالكرامة و حباهم بالنعمة حيث جعل فيهم النبوة و الملك، و أن غيرهم لا حظ لهم منها و نسبوهم الى الأمية، و كان من آثار هذا الاعتقاد الفاسد أنهم استحلوا نقض العهد مع غيرهم، و أباحوا لأنفسهم سلب حقوق الناس، و نهب أموالهم، و الخيانة معهم، و أرادوا من ذلك حصر المؤمنين و الضغط عليهم بالحرب الاقتصادية عليهم و لكنهم احتفظوا لأنفسهم هذه الحقوق، و حظروا نقض العهود في ما بينهم، و قد أوعدهم سبحانه و تعالى سوء الخاتمة، و أشد العذاب و الحرمان عن رحمته عز و جل جزاء كذبهم و افترائهم على اللّه تعالى.

التفسير

قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ .

تأمنه من الايتمان. و القنطار هو المال الكثير المعبر عنه في الروايات

ص: 75

بملء مسك ثور، و الكثرة من الأمور النسبية تختلف باختلاف الأعصار و الأمصار، و لعل اختلاف العلماء في معناه ناشئ من ذلك، و تقدم بعض الكلام فيه في قوله تعالى: «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ وَ اَلْقَناطِيرِ اَلْمُقَنْطَرَةِ» آل عمران - 14.

و الدينار لفظ أعجمي، و يلؤه بدل عن نون، و أصله دنّار، فأبدل أول النونين ياء لوقوعه بعد كسرة، و جمعه دنانير، و هو مثقال شرعي من الذهب المسكوك و يساوي 25 و 4 غرام من الذهب وزنا في هذه الأعصار. و المراد من القنطار و الدينار في المقام المعنى الكنائي و هو المال الكثير، و القليل.

و المعنى إن من أهل الكتاب من لا يخون في الأمانة و لو كانت كثيرة و منهم من يخونها و إن كانت قليلة.

و الآية تبين العادة التي جرت عليها الطائفتان من أهل الكتاب فلا تختص بمورد خاص و أفراد معينين.

و الترديد باعتبار اختلاف أهل الكتاب في حفظ الامانة و رعاية العهد، و انهم على طرفي نقيض، فان بعض أهل الكتاب يحفظ الأمانات و يراعى العهود مطلقا بلا فرق بين أن تكون الامانة من أهل ملتهم، أو تكون من غيرهم، و سواء كانت حقيرة أو خطيرة، و منهم على نقيض ذلك لا يحفظ العهد، و لا يؤدي الامانة إن أؤتمن عليها مطلقا.

و انما قطع سبحانه هذه الآية عن الآيات السابقة، و وضع الظاهر موضع المضمر و قال تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ» دون «و منهم» لبيان أن هذه الطائفة التي تحفظ الأمانات غير الطائفة السابقة التي تخادع المؤمنين و تكيدهم بقولها «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ» و أن الطائفة الخائنة هي تلك الطائفة المغرورة، و هي اليهود - على ما عرفت سابقا - التي تزعم أن اللّه تعالى فضلهم على سائر خلقه، و أن لا سبيل عليها من غيرها من سائر الملل و النحل، فيجوز لليهودي أكل أموال المسلمين، و نقض كل عهد إلهي و إنساني معه، بل لا حقوق و لا حرمة له، و نسبوا ذلك الى كتبهم المقدسة، و هذا هو التحريف الذي عرفت به اليهود، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم بذلك، و انما أمرهم أحبارهم و رهبانهم بها بعد ترويج النزعة العصبية بين اليهود، و المغالاة في أنهم شعب اللّه المختار، فاستولى عليهم روح البغي و الفساد غرورا.

ص: 76

و انما قطع سبحانه هذه الآية عن الآيات السابقة، و وضع الظاهر موضع المضمر و قال تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ» دون «و منهم» لبيان أن هذه الطائفة التي تحفظ الأمانات غير الطائفة السابقة التي تخادع المؤمنين و تكيدهم بقولها «آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ اَلنَّهارِ» و أن الطائفة الخائنة هي تلك الطائفة المغرورة، و هي اليهود - على ما عرفت سابقا - التي تزعم أن اللّه تعالى فضلهم على سائر خلقه، و أن لا سبيل عليها من غيرها من سائر الملل و النحل، فيجوز لليهودي أكل أموال المسلمين، و نقض كل عهد إلهي و إنساني معه، بل لا حقوق و لا حرمة له، و نسبوا ذلك الى كتبهم المقدسة، و هذا هو التحريف الذي عرفت به اليهود، و هم يعلمون أن الكتاب لا يحكم بذلك، و انما أمرهم أحبارهم و رهبانهم بها بعد ترويج النزعة العصبية بين اليهود، و المغالاة في أنهم شعب اللّه المختار، فاستولى عليهم روح البغي و الفساد غرورا.

قوله تعالى: إِلاّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً .

استثناء من عموم الأوقات أو الأحوال. و دمت بضم الدال من دام يدوم، كقام يقوم. و قرئ بكسر الدال من دام يدام، كخاف يخاف. و يراد من هذه الجملة المعنى المجازي و هو الكناية عن شدة الإلحاح في التقاضي و الوفاء، فان قيام المطالب على رأس المديون، و ملازمته له فيه المبالغة في الاقتضاء و المطالبة.

و المعنى انه لا يؤدي الأمانة التي ائتمنته إياها إلا إذا ألجئته إلى ذلك بالمطالبة و الاقتضاء.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ .

الأميّ من لا يقرأ و لا يكتب. قيل: المراد من الأميين في المقام العرب باعتبار أن الغالب منهم لا يقرءون و لا يكتبون. و قيل: يحتمل أن يكون المراد منهم أتباع الرسول النبي الأمي (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 77

و قيل: المراد منهم من عدا بني إسرائيل، فإنهم ينسونهم إلى الأمة أو الأمم.

و كيف كان فان هذه التسمية التي وردت في القرآن أصلها ما ورد في كتب اليهود من تسمية غير بني إسرائيل بالأممي، و هي من الألقاب التي أرادوا بها تحقير غيرهم، و الحط من كرامتهم باعتبار انهم بمنزلة البهائم غير مؤهلين للمخاطبة و انهم لا حرمة لهم يباح سرقة أموالهم، و الخديعة معهم، و الكذب عليهم، و هتك اعراضهم، و هدر كرامتهم و حرمانهم من جميع الاحكام الاجتماعية و العقلية. و قد أعرض سبحانه و تعالى عن ما ورد في كتبهم إبطالا له، و أوجز سبحانه جميع تلك الجرائم و الموبقات في كلمة واحدة، و هي «ليس علينا في الأميين سبيل».

و اسم الإشارة (ذلك) يرجع الى ما هو المدلول عليه في الآية السابقة و هو عدم أداء الامانة و الخيانة فيها. و هذه هي حال الطائفة التي ذكرها عز و جل في قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ» . فيكون ذكر الطائفة الأخرى الحافظة للعهود، و المؤدية للأمانات لبيان اغترار الطائفة الأولى، و بعدهم عن الحقيقة و هم يعلمون أن اللّه تعالى لا يأمر بالفحشاء و المنكر، و لا يرضى بأفعالهم القبيحة.

و ضمير الجمع في (بأنهم قالوا) راجع إلى أفراد هذه الطائفة الخؤونة، و كذلك الضمائر في الآية الكريمة اللاحقة.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

دليل على انهم كانوا ينسبون أقوالهم و أفعالهم الى اللّه تعالى،

ص: 78

و قد ذكرنا آنفا أنهم كانوا يدعون أن ذلك في كتابهم، و يجعلونها من شريعة السماء. و قد أبطل سبحانه دعواهم، و أثبت أن الكذب من عادتهم. و هم يعلمون أن ذلك تشريع باطل، و افتراء على اللّه عز و جل، و هو لا يأمر بالفحشاء و المنكر، بل إن كتبهم المقدسة تأمرهم بالصدق في أقوالهم و أفعالهم، و تنهاهم عن الخيانة، و الغدر و الكذب، مضافا إلى أن جميع ذلك من الاحكام العقلية التي استقل العقل بحسنها، و يلزمهم الشرع بإتيانها.

قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى .

ردّ على مزاعمهم، و تكذيب لدعواهم، و اثبات لما أراده اللّه تعالى من خلقه، و هو الحق. و أوفى من الإيفاء و هو العطاء و البذل تاما من غير زيادة و لا نقيصة. و وفاء العهد هو حفظه، و مراعاته و العمل به. و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، فقد ورد فيه: و في، و أوف، و أوفوا، و الموفون.

و العهد عبارة عن الالتزام بشيء فيجب الوفاء به عقلا و شرعا، بلا فرق فيه بين عهود اللّه تعالى مع خلقه، أو عهود بعضهم مع بعض، كما لا فرق بين العهود الخاصة بين بني إسرائيل، و العهود العامة بين جميع الناس. و المراد بالعهود في المقام ما عاهده اللّه تعالى على عباده بواسطة أنبيائه من الإيمان به، و عبادته، و التصديق برسله و العمل بما أنزله عز و جل من مكارم الأخلاق و غيرها.

و على هذا لا فرق بين رجوع الضمير في (عهده) إلى (من) المتقدمة، أو اللّه في قوله تعالى: «وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ» .

إذ العهود الواقعة بين الناس من عهد اللّه تعالى، يجب الوفاء بها شرعا

ص: 79

و يحرم نقضها، و الغدر بها.

و المراد من (اتقى) ملازمة تلك العهود و مراعاتها عملا و إظهارها خارجا، و ترك الخيانة فيها و الغدر بها.

و المعنى: إنكم - يا أهل الكتاب - أخطأتم في دعواكم بل السبيل ثابت عليكم في جميع ما نفيتم عنه السبيل، و أن من أوفى بعهده، و أتقى اللّه تعالى في دينه، و لم يغدر و لم يخن في عهوده و لم يخالفه، فان اللّه يحب المتقين.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ .

قضية عقلية مشتملة على المعلول و علته، و هي تبين أن من اوفى بعهد اللّه تعالى، و اتقاه عز و جل بالطاعة و الانقياد له، و عدم مخالفته في أمر من الأمور يكون من المتقين، و اللّه يحب المتقين.

و محبة اللّه تعالى هي غاية الكمالات الانسانية، بل لا يتصور فوقها كمال، و هي السعادة القصوى التي تعمر بها الدنيا، و تصلح الآخرة و هي الكرامة الربانية التي لا يمكن أن ينالها إلا من جاهد فيه حق جهاده و قد قرر سبحانه إنها تحصل بالوفاء بعهده تعالى، و التقوى في الدين التي هي الحصن الذي يمنع التعرض لسخطه تعالى و غضبه، و الوقوع في محارمه و مخالفته. و لا يمكن أن يحظي بمحبته كل مدع و محتال.

و انما ذكر سبحانه المتقين لبيان أن العلة للمحبة هي التقوى. كما أن فيه التعرض لأهل الكتاب بأنهم ليسوا على التقوى.

ص: 80

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً .

بعد ما ذكر سبحانه أن محبة اللّه تعالى تختص بمن أوفى بعهده مع اللّه تعالى، و اتقاه في دينه. بيّن تعالى في هذه الآية أهل الغدر و الخيانة، و أنهم لا كرامة لهم حتى يستحقوا محبة اللّه، و ذكر جزاءهم و العلة في استحقاقهم له، و هم الذين حرّموا أنفسهم من المحبة الإلهية جزاء لأفعالهم القبيحة، و هي الغدر و نقض عهد اللّه عز و جل، و ترك التقوى.

و المراد بالثمن القليل متاع الدنيا، فان الدنيا و ما فيها بالنسبة إلى محبة اللّه و كرامته و الايمان به قليل، كقلة ما هو فان بالنسبة إلى ما هو أبدي دائم، و إن كان زمان الفاني طويلا جدا.

و الاشتراء هو البيع، و يراد به مطلق المبادلة، أي يبدل الايمان به عز و جل و الوفاء بعهده، و الجزاء الأوفى الذي أعدّه اللّه تعالى لمن وفى و اتقى بالثمن القليل و هو متاع الدنيا.

قوله تعالى: أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ .

الخلاق النصيب و الحظ. و أولئك إشارة الى الطائفة الخؤونة بالعهد الناقضة للميثاق. و إنما أشار إليهم بالبعيد إيماء لبعدها عن قربه عز و جل بسبب نكث عهد اللّه و استبداله بالأغراض الموهومة، بخلاف الطائفة الاخرى التي آثرت طاعة اللّه عز و جل فوفت بعهده تعالى فإنهم مقربون بحبه تعالى لهم، لأنهم تقربوا اليه عز و جل بالتقوى و الوفاء

ص: 81

بالعهد و المراد بالآخرة الدار الآخرة و يوم المعاد، اكتفاء بذكر الوصف عن الموصوف.

اي لا نصيب لهم من نعيمها، لأنهم آثروا نعيم الدنيا القليل الزائل على الآخرة و نعيمها الدائم الباقي.

قوله تعالى: وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اَللّهُ .

استهانة بهم، لتوغلهم في سخطه تعالى و غضبه عز و جل.

قوله تعالى: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

نظر عطف و رحمة في يوم القيامة.

و هذان الأمران كناية عن الإعراض عنهم و الغضب عليهم و البعد عنهم، لعدم حب اللّه تعالى لهم الذي كرّم به عباده الموفين بعهده المتقين في دينه.

و في تخصيص هذين الأمرين لبيان منتهى الغضب، و عدم الاعتناء في يوم يشتد احتياج الإنسان إلى تكليم اللّه و نظره اليه، لعظم محنته و بانتفائهما لا يبقى له أمل و رجاء في رفع الشدائد و الأهوال.

قوله تعالى: وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

التزكية التنمية و التطهير و التخليص عن كل ما يشينه. اي و لا يدخلهم في عداد الأولياء ليرفع عنهم أوزارهم بالمغفرة و العفو. و لهم عذاب مولم. و ظاهر السياق أن التزكية و العذاب لا يختصان بالآخرة بل يعمان الدنيا أيضا.

ص: 82

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ .

مادة (لوي) تدل على الفتل، و الطي، و الإخفاء. و الجامع في ذلك كله الميل، قال تعالى: «لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ» المنافقون - 5.

أي أمالوا رؤوسهم و المراد ب (لي ألسنتهم) صرف الكلام عن معناه إما بالتحريف، أو بالقرائة بلحن خاص. و قد بين سبحانه و تعالى ذلك في موضع آخر قال عز و جل: «مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ» النساء - 46. و يستفاد من هذه الآية أن المراد من الفريق في المقام هم اليهود خاصة.

قوله تعالى: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ اَلْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ اَلْكِتابِ .

الحسبان هو الظن أي أن اللّي كان لأجل الإيهام عليكم - أيّها المؤمنون - بأن الكلام يشابه كلام اللّه تعالى و ما هو من كلام اللّه.

و انما كرر سبحانه الكتاب لدفع اللبس، فان الأول يراد به الكتاب المحرف، و الثاني كتاب اللّه المنزل، و كذلك الثالث، و انما وضع الظاهر موضع المضمر فيه لبيان أن كتاب اللّه أرفع منزلة من أن يشتمل على المفتريات و الأباطيل، و أعظم شأنا من أن يندرس بالتحريف.

ص: 83

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

بيان لشدة غوايتهم، و انغمارهم في الغرور. أي لا يكتفون بالتعريض و الإيهام فقط، بل يصرحون بأن ما حرفوه هو من عند اللّه نازل منه عز و جل.

قوله تعالى: وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

تكذيب لدعواهم، و نفي لكون ما لووا ألسنتهم فيه نازلا من عنده عز و جل.

و انما كرر لفظ الجلالة لبيان عظيم الجرأة على اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

تأكيد لكذبهم و افترائهم على اللّه. و زيادة في التشنيع عليهم، و لبيان أن تحريفهم للكتاب كان عن عمد و إصرار منهم، و لنفي جميع انواع التحريف و اقسامه تعريضا و تلويحا و تصريحا، و فيه الإشارة إلى أن الكذب من دأبهم و عادتهم.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الأول:

يدل قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...» على وجود الاختلاف في طوائف اهل الكتاب في الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة و أدائها. و السبب في ذلك ما ذكره عز و جل في ذيل الآية الشريفة: «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى» ، فان الوفاء بعهد اللّه و التقوى في دينه يقتضي الامانة في اموال الناس و نبذ الخيانة فيها، و تختلف درجات الإيمان حسب تفاوت درجات الوفاء بالعهد و التقوى.

ص: 84

يدل قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ...» على وجود الاختلاف في طوائف اهل الكتاب في الوفاء بالعهد و حفظ الأمانة و أدائها. و السبب في ذلك ما ذكره عز و جل في ذيل الآية الشريفة: «بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى» ، فان الوفاء بعهد اللّه و التقوى في دينه يقتضي الامانة في اموال الناس و نبذ الخيانة فيها، و تختلف درجات الإيمان حسب تفاوت درجات الوفاء بالعهد و التقوى.

فيستفاد من هذه الآيات الشريفة أن أداء الامانة، و الوفاء بالعهد إنما يكونان من أجزاء الإيمان و لا يتحقق إلا بهما.

و من ذلك يظهر أن ما ورد في هذه الآيات لا يختص باهل الكتاب بل ينطبق على المسلمين إذا نقضوا العهد و خانوا الامانة و يترتب على ذلك جميع الآثار الدنيوية و الاخروية ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر)، و هذا حكم عقلي غير قابل للتخلف و الاختلاف و قد وردت أحاديث كثيرة عن المعصومين (عليهم السلام) تدل على ما ذكرناه.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» انحصار جرائم اليهود و الموبقات التي ارتكبوها في حق أنفسهم و بالنسبة إلى غيرهم في الغرور الذي هو أم المفاسد و الخبائث الخلقية و الدينية، و يتشعب منه التكبر على سائر الخلق و الظلم بالنسبة إلى العباد، و تحقير الضعيف، و عدم الاعتناء بالفقير، و الكذب على اللّه و على الناس إلى غير ذلك من المفاسد، و قد كذّبهم اللّه تعالى و شنع عليهم، و أوعدهم العذاب الشديد.

الثالث:

إنما ضرب سبحانه و تعالى المثل بالقنطار و الدينار لكثرة اهتمام الناس بالأموال، و لمعلومية الامانة و الخيانة فيها عندهم، و هما

ص: 85

مثالان للقلة و الكثرة، و انما بدأ بالطائفة الأولى الأمينة لشرف الأمانة و عظم أمرها.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ» على أن التقوى في كل دين هي الأساس في الالتزام باحكام اللّه تعالى و العمل بدينه، و هي السبب لتقرب العبد إلى اللّه عز و جل، و الدخول في محبته. كما انها الدرع الحصين الذي يمنع الإنسان عن الوقوع في مخالفة اللّه سبحانه و الدخول في غضبه، و البعد عنه.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً» على أن كل ما يكون بإزاء الايمان، و يعوض عنه و بعهد اللّه يكون قليلا، كائنا ما كان في الرفعة، و العظمة، و الكثرة بل و لو كانت الدنيا و ما فيها، لشرف الايمان و عهد اللّه و عظم الجزاء الذي أعدّه اللّه تعالى لهما.

السادس:

يستفاد من تكرار الوعيد و اختلاف أنواعه عظم الذنب و بشاعة الجريمة، فان شدة العذاب تدل على عظم موجبه. و هو يدل على التشديد في الوفاء بالعهد و أداء الامانة، و هو كذلك فان بهما ينتظم النظام الاعتقادي و الاجتماعي للإنسان و بذهابهما يفسد النظام و تكثر الجرائم و تسود الخديعة و الابتزاز، و يذهب المعروف بل يصير منكرا، فلا يبقى خلق كريم و لا معيار اخلاقي لتمييز مكارم الأخلاق عن سفاسفها.

و يمكن أن يكون تعدد الوعيد لأجل تعدد موجباته التي فصلها عز و جل في الآيات السابقة من حبهم لإضلال المؤمنين، و كفرهم بآيات اللّه، و تلبيس الحق بالباطل، و كتمان الحق و من خديعتهم بالمؤمنين، و خيانتهم في الأمانات، فتكون هذه الآية الشريفة كالنتيجة لتلك الآيات السابقة.

ص: 86

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «لَيْسَ عَلَيْنا فِي اَلْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ» قال: فان اليهود قالوا يحلّ لنا أن نأخذ مال الأميين. و الأمييون الذين ليس معهم كتاب.

أقول: لا بأس بتفسير الأميين بذلك، فانه تفسير لبعض مصاديق الأميين، و قد تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الكلمة، فراجع.

و في مجمع البيان في قوله تعالى أيضا عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «كذب أعداء اللّه ما من شيء كان في الجاهلية ألا و هو تحت قدمي إلا الأمانة، فإنها مؤداة الى البر و الفاجر».

أقول: هذا الحصر إضافي، و إلا فان جملة مما كان في الجاهلية قررتها الشريعة المقدسة، كما هو المعروف. و الحديث في مقام نفي مقالة اليهود و دعاويهم الباطلة لا في مقام الحصر الحقيقي.

و في الكافي في قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ - الآية -» عن الباقر (عليه السلام) قال: «أنزل في العهد: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا أولئك لا خلاق لهم في الآخرة و لا يكلمهم اللّه و لا ينظر إليهم يوم القيامة و لا يزكيهم و لهم عذاب أليم. و الخلاق النصيب، فمن لم يكن له نصيب في الآخرة فبأي شيء يدخل الجنة».

أقول: ما ورد في الحديث دليل عقلي على عدم دخولهم الجنة».

و يؤيده قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «الدنيا مزرعة الآخرة، فمن لم يزرع شيئا لم يحصد غدا».

و في توحيد الصدوق عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليه) في

ص: 87

قوله تعالى: «وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ» . يعني لا يصيبهم بخير.

و في أمالي الشيخ باسناده عن عدي بن عدي عن أبيه. قال:

اختصم امرؤ القيس و رجل من حضر موت إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في أرض. فقال: ألك بينة؟ قال. لا، قال:

فبيمينه، قال: إذن و اللّه يذهب بأرضي. قال (صلى اللّه عليه و آله) إن ذهب بأرضك بيمينه كان ممن لا ينظر اللّه اليه يوم القيامة و لا يزكيه و له عذاب أليم. قال: ففزع الرجل و ردّها اليه».

و في اسباب النزول للواحدي، و الدر المنثور في الآية الشريفة.

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «من حلف على يمين و هو فيها فاجر ليقطع بها مال امرئ مسلم لقى اللّه و هو غضبان، فقال للأشعث بن قيس: فىّ و اللّه نزلت كان بيني و بين رجل من اليهود ارض فجحدني، فقدمته الى النبي (صلى اللّه عليه و آله). فقال:

ألك بينة؟ قلت: لا، فقال لليهودي: أ تحلف؟ فقلت: يا رسول اللّه إذن يحلف فيذهب بمالي. فانزل اللّه عز و جل: إن الذين يشترون بعهد اللّه و أيمانهم ثمنا قليلا - الآية -».

أقول: يمكن أن يكون مورد النزول واحدا و هو اليمين الكاذبة و ما ذكر في شأن النزول المتعارضة يكون من باب التطبيق، و حينئذ يكون كل من اشترى بعهد من عهود اللّه تعالى أي عهد كان، فقد اشترى بعهد اللّه ثمنا قليلا، و قد ذكرنا أن جميع احكام اللّه تعالى عهوده بالنسبة إلى عباده.

ص: 88

بحث قرآني

الآيات الشريفة التي وردت في أحوال أهل الكتاب - ذات المقاطع الثلاثة - هي من أدق ما ورد في القرآن الكريم في وصف أهل الكتاب في الحال و المآل، فقد استوفت جميع الجوانب الظاهرة و الخفية التي لم يطلع عليها أحد إلا اللّه تعالى، و تبين ما تطويه ضمائرهم، و ما يختلج في نفوسهم بالنسبة إلى الرسول و المؤمنين و أصل الإيمان، و لا أظن أحدا يمكنه - مهما بلغ به الأمر - أن يصف عدوا بمثل ما وصف به القرآن الكريم أهل الكتاب، فقد ذكر اللّه تعالى في هذه الآيات جميع الوسائل و السبل التي تشبث بها أهل الكتاب في الهدم و التخريب و التشويه، و هي من ملاحم القرآن الكريم التي ظهرت آثارها من حين نزوله و بلغت أعلى مراتبها في هذه الأعصار. و هي تدل على أمور لا بد من ملاحظتها و البحث حولها، و هي:

الاول: أن أهل الكتاب من أعداء الإسلام و المسلمين، بل من ألد أعدائهم.

الثاني: انهم يضمرون في نفوسهم الكيد بالمسلمين و خديعتهم، و لا يدعون فرصة يمكن أن يستفيدوا منها في تحقيق نواياهم.

الثالث: أنهم يخادعون المؤمنين و يشنون الحرب النفسية عليهم، و هي من أهم السبل في زعزعة الإيمان، و قد عرفنا القرآن الكريم بهذه الخديعة قبل استعمالها في عصرنا الحاضر بأشد أنواعها و وسائلها و حذر المسلمين من آثارها.

الرابع: الحرب الاقتصادية بالاستيلاء على اموال المسلمين و وسائل

ص: 89

عيشهم، و جميع ما يمكن أن يتمتعوا بها في حياتهم.

الخامس: إثارة الفتن و تشويه سمعة الرسالة و المؤمنين، و هما الحرب الدعائية التي بلغت أوجها في العصر الحاضر، و بيّن سبحانه و تعالى مخاطر هذه الطريقة، و طرق التحذر منها.

السادس: و هو من أهم الأمور التي أكد عليه سبحانه و تعالى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم، و حذّر المؤمنين منه، و بين كذب أهل الكتاب و أوعد عليه أشد العذاب، لعلمه عز و جل بشدة تأثير هذا الأمر في الناس، و هو هدم الدين بالدين، أو التستر به في تحقيق جرائمهم و نواياهم الفاسدة، و هو من أشد الوسائل التي تمسك بها أهل الكتاب لإظهار الفتن، و قتل النفوس أو سلب الأموال، و هتك الاعراض و لا يمكن معرفة هذه الطريقة إلا بالرجوع إلى تعاليم القرآن الكريم، لشدة تأثيرها، و دقتها و عدم إمكان التمييز بينها و بين الطريق المستقيم.

و لا بد للمسلمين من الالتفات إلى جميع ما ذكرناه و التحذر من أهل الكتاب. و الرجوع إلى تعاليم الإسلام في التصدي لخدعهم و مقابلتهم فإنها السبيل الوحيد في رد مكائدهم، و يرشد إلى ذلك قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «إذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن الكريم - الحديث -». و يبين طريق التخلص من هذه الفتن.

ص: 90

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي م.......

اشارة

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) الآيات تتعرض لحال أهل الكتاب بالنسبة إلى الأنبياء و افترائهم عليهم كما افتروا على اللّه تعالى على ما حكى عز و جل عنهم في ما سلف من الآيات، و قد نسبوا الألوهية إلى الأنبياء و اتخذوهم أربابا من دون اللّه، و فيها نزّه عز و جل ساحة الأنبياء مما قد نسب إليهم و أثبت أنهم عباد مربوبون، و لم يدع أحد منهم الربوبية لنفسه، و أقام الحجة على ذلك، و ذكر أن كل عبد آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة لا يمكن أن يتعدى طور العبودية، و لم يخرج عن زي الرقية للّه تعالى فكيف يدعي الربوبية و يأمر الناس بالعبودية له، و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة المتعرضة لأحوال أهل الكتاب و افتراؤهم على اللّه تعالى و الأنبياء، و هي بمجموعها في مقام الاحتجاج و الردّ عليهم و إبطال دعاويهم، و لا تخلو هذه الآيات عن التعرض لحال النصارى في ما يدعونه في المسيح و تثبت براءته منه.

ص: 91

التفسير

قوله تعالى: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ .

البشر لفظ يرادف الإنسان، يطلق على الواحد و الجمع، ذكرا و أنثى، لأنه بمنزلة المصدر. و انما سمي بشرا لظهور بشرته و عدم سترها بشيء، و اللام في (لبشر) للحق، و يدل عليه قوله تعالى حكاية عن عيسى: «وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ» المائدة - 116. و المراد به نفي الحقية التكوينية، أي لا حق تكوينا.

و ذكر هذا اللفظ و تعليق الحكم عليه لبيان الدليل و السبب أي أن البشرية تنافي الألوهية و انها غير ممكنة ذاتا الا بمجرد الادعاء الباطل.

و على هذا تكون جملة (ما كان لبشر) لنفي الشأن الذي هو أبلغ من نفي الوقوع. أي ليس من شأن بشر ذلك و لا حق له في أن يدعي الربوبية، بل يمتنع تحقق ذلك، لأنه من الجمع بين المتناقضين، و إن تحققت الدعاوي من مثل فرعون و نمرود، لكنها خارج عن موضوع الآية رأسا لأنهما بمعزل عن الكتاب و الحكم و النبوة.

و المراد من الكتاب ما هو المشتمل على المعارف الربوبية، و الاحكام الإلهية و مكارم الأخلاق. كما أن المراد من الحكم هو الولاية على فصل القضاء بين الناس بأمر إلهي. و المراد من النبوة تلك الصفة الخاصة التي يمنحها اللّه تعالى من يشاء من عباده.

ص: 92

و تصور هذه الموضوعات الثلاثة بنفسها يغني عن الاستدلال على امتناع دعوى الألوهية، فالآية الشريفة من القضايا التي قياساتها معها.

و إنما جمع سبحانه بين هذه الأمور الثلاثة، لبيان أن هذه الصفات موجبة للدعوة للّه، و الإرشاد اليه. و لأجل الأعلام بأن الذي يؤتى هذه الأمور قد تربى بتربية إلهية لا تصدر منه هذه الدعوة الباطلة، و لا يملك ذلك لعلمه ببطلانها، لأن الأنبياء هم أرفع شأنا و أجلّ قدرا من أن يدعي أحد منهم هذه الدعوة.

قوله تعالى: ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ .

العباد جمع عبد، و يختص استعماله بما إذا نسب الى اللّه تعالى، يقال: عباد اللّه. و لعله لأن العباد من العبادة دون العبيد الذي هو من العبودية التي لا تمتنع أن تكون لغير اللّه تعالى، يقال: عبيد فلان. و لا يقال: عباده.

و التقييد بقوله «مِنْ دُونِ اَللّهِ» لبيان أن هذا القول جحد للألوهية و انكار لمقام الربوبية، و تغيير للعبودية الحقة المنحصرة في اللّه تعالى و للاعلام بأن الشرك في الألوهية إنكار لأصلها، لأن اللّه تعالى لا يرضى من عباده إلا الخلوص و الإخلاص في عبادته، قال تعالى: «وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ» البينة - 5.

و المعنى: لا يحق لبشر قد أنعم اللّه عليه بالكتاب و الحكم و النبوة و تربى بالتربية الإلهية أن يدعو الناس - الذين بعث إليهم - إلى عبادة نفسه، و يدعي الألوهية لها، فان ذلك مستحيل لم يقع أبدا، فان من كان كذلك لا يخرج عن زي العبودية للّه تعالى، و أنه عز و جل لم يمنح الكتاب و الحكم و النبوة لمن يدّعى لنفسه الألوهية.

ص: 93

قوله تعالى: وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ .

الرباني المنسوب إلى الرب، زيد الألف و النون للمبالغة في التفخيم و التعظيم، كما يقال: رقباني لعظيم الرقبة، و لحياني لعظيم اللحية.

و المراد به التوغل و التحنّك في عبادة اللّه تعالى بحيث تعلق قلبه به عز و جل و لا يخطر بباله غيره، و قد ظهرت آثار العبودية على جميع أقواله و أفعاله و أحواله و معارفه لأجل انتسابه إلى رب العالمين، و وضع نفسه تحت إرادته و مشيته.

و الجملة استدراك عن ما ذكر سابقا، و إثبات لما نفي آنفا. اي أن البشر المنوه به آنفا يقول للمبعوث إليهم كونوا ربانيين متلبسين بالإيمان باللّه مشتغلين بعبادته و مختصين به في جميع شؤونكم، و يقتضى ذلك الاعراض عن غيره عز و جل.

قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ .

الباء للسببية، متعلق ب (كونوا). و الدراسة التكرار في القراءة درس الكتاب أي كرر قراءته، و داوم على حفظه.

و إنما كرر عز و جل (بما كنتم) لبيان أن كل واحد من التعليم و الدراسة له الاستقلال في الأثر و هو التلبس بالربانية. كما انه يستفاد من إتيان الفعل في (تعلمون و تدرسون) مضارعا للدلالة على الاستمرار عليها و المثابرة في ذلك دون مجرد التلبس.

أي كونوا كذلك بسبب مثابرتكم على الاستمرار بتعلّمكم الكتاب و تعليمكم له، و دراستكم لما ورد فيه من المعارف الحقة و الاحكام

ص: 94

الإلهية، فان ذلك يقتضي أن تكونوا على ايمان كامل و معرفة حقه و التخلق بمكارم الأخلاق، و التلبس بالأعمال الصالحة التي تسوقكم إلى اللّه تعالى، فتكونوا أتقياء صلحاء علماء ربانيين.

قوله تعالى: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً .

الأرباب جمع الرب. و الآية عطف على قوله تعالى: «يَقُولَ لِلنّاسِ» المنفي بمفاد «ما كانَ» ، فيكون (لا) لتأكيد النفي اهتماما بالأمر و استعظاما للشأن.

و في الآية التعريض لطائفتين، الطائفة التي تتخذ الملائكة أربابا، كبعض الصائبة الذين يعبدون الملائكة، و ينسبون ذلك إلى دين اللّه و أما العرب فقد كانت تعتقد ان الملائكة بنات اللّه، و هم و إن لم يسندوا دعواهم إلى دين من الأديان إلا انهم كانوا يدّعون انهم على دين ابراهيم (عليه السلام).

و الطائفة الثانية هي التي اتخذت الأنبياء أربابا، و هي اليهود التي ادعت أن عزيرا ابن اللّه على ما حكي عنها عز و جل في القرآن الكريم و من النصارى أيضا من تعظيم عيسى (عليه السلام)، و يعتبرونه ابن اللّه تعالى.

و الآية تنفي هذه النسبة و تبطل ما يدعونه فان الأنبياء لا يأمرون باتخاذ الملائكة و الأنبياء أربابا، و ما كان لبشر آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة و أرسله لدعوة الناس إلى اللّه الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد و بعثه لإرشادهم إلى الكمالات و مكارم الأخلاق يأمرهم بالشرك و الكفر و أعظم أنحاء الفساد فان هذا غير ممكن، و هو كفر باللّه العظيم.

و تختلف هذه الآية عن سابقتها، في أن السابقة تنفي دعوى البشر

ص: 95

الألوهية و المعبودية لنفسه، لأنه فرض محال مشتمل على التناقض، كما عرفت، و هنا نفي لأمر خاص، و هو اتخاذ الأرباب بعد فرض كون المخاطب مؤمنا باللّه تعالى، فيكون الأمر أمرا بالخروج عن الإيمان الى الكفر، فتختلف الآيتان موردا و حكما، و ذلك يوجب الاختلاف في المخاطبين أيضا.

قوله تعالى: أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

الاستفهام للإنكار. و الخطاب عام لكل من آمن باللّه تعالى و انقاد له عز و جل، و استسلم لأمره، و اعترف بدعوة الأنبياء، فيشمل أهل الكتاب، و كل من يدعي الانتساب إلى دين سماوي: و المراد بالإسلام هو دين التوحيد، و الطاعة و الانقياد للّه عز و جل نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ» آل عمران - 19.

و المعنى كيف يأمر الأنبياء باتخاذ الملائكة و النبيين أربابا مع انكم تعتقدون باللّه الواحد الأحد و تعبدونه، فان ذلك كفر و ضلال، و هم لا يأمرون بالكفر. و الآية تنفي كل أنحاء الشرك في العبادة.

و ذكر جملة من المفسرين أن الخطاب للمسلمين الذين اعترفوا بنبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، فإنهم المسلمون. فيكون أمرا بالكفر بعد الإسلام و أيدوا ذلك بما ورد من انهم قالوا له (صلى اللّه عليه و آله): أفلا نسجد لك؟ فنزلت هذه الآية.

و فيه: إن الإسلام في التنزيل غير ما هو المصطلح بعد النزول.

فان المراد به الإذعان بالتوحيد و الانقياد بالطاعة الذي هو دين الفطرة التي دعى الأنبياء إليها، و قد تقدم الكلام فيه مفصلا. فراجع آية 19 من هذه السورة.

ص: 96

بحوث المقام
بحث أدبي:

المعروف بين المفسرين أن الظرف (لبشر) في قوله تعالى:

«ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» خبر مقدم، و جملة (أن يؤتيه اللّه) اسم كان مؤخر. و لكن يمكن أن يجعل (كان) تامة فلا تحتاج إلى الخبر أي لا تحقق لمثل ذلك و يمتنع، فتدل الآية على نفي الوقوع بالفحوى. و تكون جملة «أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» لبيان الموضوع، يعني أن هذا الموضوع يمتنع تحقق دعوى الألوهية فيه. فالآية تؤكد عدم تحقق مثل ذلك بلفظ كان في المقام، و لا محذور في أن تكون الجملة بحسب الظاهر مفيدة لشيء، و هي في الواقع تفيد شيئا أدق من ذلك.

و انما عطف عز و جل الجملة ب (ثم) في قوله تعالى: «ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي» لتعظيم الأمر، أي أن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول أبدا و إن كان بعد زمان و في مهلة.

و (لي) ظرف متعلق بمحذوف تقديره كائنا، أي عبادا كائنين لي.

و قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اَللّهِ» ظرف متعلق ب (عبادا) لأن فيه معنى الفعل، و يحتمل أن يكون صفة ثانية.

و (ما) في قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ» مصدرية، و إنما جعل الخبر مضارعا في الموردين لبيان الاستمرار على التعليم و الدراسة و المثابرة عليهما.

ص: 97

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور: -

الأول:

يشتمل قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اَللّهِ» على براهين ثلاثة تدل على امتناع دعوى الألوهية من البشر و بطلانها.

أولها: إن البشر بما له من الأطوار المختلفة، فطورا هو جنين و آخر يكون طفلا؛ ثم صغيرا، ثم شابا، ثم كهلا، ثم شيخا إلى غير ذلك من الأطوار. ثم في جميع أحواله و أطواره قرين الفقر و الاحتياج، كما انه يتدرج في الكمال فينشأ و هو جاهل ثم يتدرج في المعرفة، و يطرأ عليه من التبدلات كالصحة و المرض، و الفقر و الغنى و العلم و الجهل، و الألم و الجوع و نحو ذلك، و جميع ذلك ينافي كونه إلها واجب الوجود يمتنع ان يطرأ عليه الاختلاف و التبدلات و يستفاد ذلك من كلمة البشر.

ثانيها: إن البشر الذي آتاه اللّه الكتاب و الحكم و النبوة، و تربي بالتربية الإلهية لا يحق له أن يدعي الألوهية و يدعو الناس إلى عبادته، و إن اتفق لبعض الناس أن يدعي هذه الدعوى لكنه ناقص لم يتصف بما ورد في الآية الشريفة فانه لا يعقل أن يدعي هذا البشر الموصوف بما ورد في الآية بتلك الدعوى، لأنه خلف و يناقض الحكمة الإلهية و هو تعالى الحكيم كالعليم لا يؤتي الكتاب و الحكم و النبوة لكل احد فضلا من أن يدعو العباد إلى عبادته.

ص: 98

ثالثها: إن اللّه تعالى أخبر في الآية الشريفة بانه لم يقع مثل ذلك من البشر الموصوف بما في الآية الكريمة، و هو أصدق القائلين.

الثاني:

إنما قدم سبحانه الكتاب على غيره لكثرة أهميته فانه أصل المعارف الإلهية، و الاحكام الربوبية، و مكارم الأخلاق، و أن غيره يرجع اليه، كما أن النبوة تدعو اليه.

و يمكن أن يراد به الأعم مما كتبه اللّه تعالى على عباده من المعارف الحقة، فيشمل السنة المقدسة أيضا.

الثالث:

إنما ذكر سبحانه هذه الأمور الثلاثة لبيان أن من اتصف بها قد فاز بالتربية الإلهية، و نال جميع الكمالات الانسانية و لبيان مراتب الأنبياء، فمنهم من نال جميع هذه الأمور، و منهم من نال بعضها على اختلاف مراتبهم، فيدخل فيهم العلماء العاملون بشريعة خاتم الأنبياء الذين قال فيهم نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل» و الآية بمفهومها تدل على أن كل من لم يتصف بمفاد واحد منها ليس له من البشرية حظ بل يكون أقرب إلى الحيوانات ذوات الاشعار و الأوبار.

الرابع:

إنما عبر سبحانه بقوله: «أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ» لبيان أن هذا الإعطاء قد تمكن في الفرد الممنوح له هذه النعم، و أثرت فيه، فلا يمكن أن يدعي الربوبية و الألوهية، فان التربية الإلهية لا تتخلف عن مقصدها.

الخامس:

إنما قدم سبحانه التعليم و التعلم لشرفهما و ان بهما يحظي الإنسان المقامات العالية. كما أن الآية الشريفة تشير إلى أن شأن الأنبياء إنما هو الإرشاد و الدعوة إلى الحق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «بِما كُنْتُمْ» التعريض بالنصارى من أهل الكتاب باعتبار انهم كانوا يدرسون الكتاب السماوي و يعلمونه

ص: 99

و لكنهم حرّفوه و غيّروا ما فيه من الاحكام، و انما كان الواجب عليهم أن يكونوا ربانيين بالتعليم و الدراسة لا يقولون في عيسى بما ينافي عبوديته، و لا يأتون بما يخالف الاحكام الإلهية. و قد حكي اللّه تعالى ذلك عنهم في مواضع متفرقة، و صرحت بها كتبهم المقدسة، راجع أناجيل يوحنا: 33-36. و متى 41:22-46. و مرقس 13 35-38. و لوقا: 41-45 و غيرها تجد الشيء الكثير، و في بعض الفقرات: أن عيسى أخبرهم انه ابنه و كلمته. و قد أكذبهم عز و جل و أبطل دعاويهم و انذرهم عليها بأشد العذاب و ذكر أن عيسى و غيره من الأنبياء انما هم كسائر البشر و قد بعثهم عز و جل ليرشدوا الناس إلى الكمال بدعوتهم إلى التوحيد، و يعلمونهم الكتاب و الحكمة ليكونوا ربانيين حكماء صلحاء، ليسعدوا في دنياهم و آخرتهم.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ» أن الأنبياء الذين أوتوا الكتاب و الحكم و النبوة لا يأمرون بأي نحو من أنحاء الكفر سواء في العبودية، أو في الخلق، أو في الحكم. كما انهم مبرأون عنه.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» على أن الكفر لا يمكن اجتماعه مع الإسلام اعتقادا و عملا، فانه أعظم رادع عن الكفر.

التاسع:

تدل الآيات الشريفة على ذم العلو و الاستعلاء من أي فرد تحقق، و لكن يمكن أن يقال أن العلو إما أن يكون من الحق و بالحق، و هو الحاصل من الأنبياء، و الأولياء الذين فضلهم اللّه تعالى على غيرهم. و إما أن يكون بالباطل و في غير الحق، كاستعلاء الناس بعضهم على بعض لأغراض وهمية خيالية، و هذا هو المذموم غاية الذم و لا منشأ له إلا الغرور و الغفلة عن اللّه تعالى، و هو يوجب البعد عن

ص: 100

الواقع و الابتعاد عن الحق، و له اسباب عديدة و اثار خطيرة، و قد عالج الإسلام هذه الرذيلة، و بين اسبابها و آثارها الخطيرة الفردية و الاجتماعية الدنيوية و الأخروية. و ذكر ما يوجب علاج هذا المرض النفسي، و منه ما ورد في المأثور انه إذا مدح أحد آخر ينبغي للممدوح أن يقول: اللهم اجعلني فوق ما يقولون و اغفر لي ما لا يعلمون. و الجدير بالإنسان أن يعمل الطاعات و يجتنب عن المعاصي و الموبقات ليفوز بثناء اللّه تعالى فانه الغاية القصوى، و السعادة الحقيقة، و مع وجوده يشكر و مع عدمه يستمد العون منه عز و جل.

العاشر:

انما قال تعالى: «بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ اَلْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ» لبيان أن تعليم الكتاب و تدريسه لا بد أن يكون عن معرفة و كمال حتى يكون قابلا لأن يكون ربانيا، فلا يصلح لكل أحد تعليم الكتاب الكريم و السنة الشريفة و تدريسهما إلا إذا كان جامعا للشرائط منها العمل بما علم، و التخلق بمكارم الأخلاق، و يدل على ذلك جملة من الأحاديث.

و انما عبرّ سبحانه ب (تعلّمون) دون غيره للدلالة على ما ذكرناه، فان التعليم و التدريس لا بد ان يكونان عن تعلم و فهم و اخلاص.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ - الآية. إن عيسى لم يقل للناس إني خلقتكم

ص: 101

أقول: قد ذكرنا في التفسير أن ذلك ممتنع عن الأنبياء، و في نفس الحديث ما يدل عليه أيضا فان قوله: إني خلقتكم. الاحتجاج على ذلك و يمكن ان يستفاد ذلك من نفس الآية الشريفة لما فيها من التعريض بالنصارى.

و في العيون عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: «لا ترفعوني فوق حقي، فان اللّه تعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا، ثم تلا هذه الآية».

أقول: قد ورد في مضمون ذلك روايات كثيرة، و في بعضها قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «هلك فيّ اثنان محب غال، و مبغض قال». و يظهر من جميع ذلك أن ما يفعله بعض الناس في شأن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الائمة الهداة (عليهم السلام) داخل في مضمون هذه الأحاديث.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً - الآية». قال: كان قوم يعبدون الملائكة، و قوم من النصارى زعموا أن عيسى رب، و أن اليهود قالوا: عزير ابن اللّه فقال اللّه: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا اَلْمَلائِكَةَ وَ اَلنَّبِيِّينَ أَرْباباً - الآية».

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير.

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي - الآية. نزلت في نصارى نجران حين عبدوا عيسى. و قوله: (لبشر) يعني عيسى. أن يؤتيه اللّه الكتاب، يعني الإنجيل.

أقول: هذا بيان لبعض المصاديق، و إلا فالآية الشريفة عامة تشمل جميع الأنبياء.

ص: 102

و في الدر المنثور عن ابن عباس في نفس الآية الشريفة: أن أبا رافع القرظي حين اجتمعت الأحبار من اليهود، و النصارى من أهل نجران عند رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و دعاهم إلى الإسلام قال: أ تريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس: أو ذاك تريد يا محمد منا؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): معاذ اللّه أن نعبد غير اللّه، أو نأمر بعبادة غيره ما بذلك بعثني، و لا بذلك أمرني، فانزل اللّه من قولهما: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ - الآية.

و في أسباب النزول عن الحسن قال: بلغني أن رجلا قال:

يا رسول اللّه نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض، أ فلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لاحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيكم و اعرفوا الحق لأهله، فانزل اللّه هذه الآية.

أقول: أن جميع ذلك من المصاديق و الآية عامة تشمل جميع ما ذكر في اسباب نزول هذه الآية الشريفة.

بحث عرفاني

من المعلوم انه لا كمال أرفع و أجل و أعلى من العبودية للّه تعالى، فهي فوق الرسالة و النبوة، و الولاية، بل بها تنال تلك المقامات الرفيعة، و الدرجات العالية و لا غاية لها إلا جماله و جلاله جلّت عظمته و بما انهما غير متناهيين، فلا يعقل التناهي فيها أيضا، و كيف

ص: 103

جوهرة لا يعلم كنهها إلا اللّه سبحانه. و لكن آثارها عظيمة، فهي التي تهيء العبد لنيل الكمالات الواقعية، و السعادة الحقيقة، و العبد يكون مظهرا من مظاهر تجلي اللّه تعالى، و تظهر آثار العبودية على جميع جوارحه، و أفعاله، و أقواله و لحظاته، فلا يخرج لحظة عن طور العبودية و زيّ الرقية، و لا يعقل لمثل هذا العبد أن يدعو إلى غير اللّه تعالى و يتخذ غيره عز و جل ربا، فانه خروج عن الفطرة و استبدال الطيب بالخبيث الذي هو قبيح عقلا.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى نبذ كل أنحاء الأنانية، و تدعو إلى العبودية الحقة، و التوجه إلى اللّه الواحد الأحد، و الاعراض عن كل ما يبعد عن ذكر اللّه عز و جل، و تحرضّهم إلى نيل الكمالات بالتعلم و التعليم و دراسة المعارف الحقة الإلهية، و تبين أن الغرض الأقصى من سعي الإنسان في الدنيا أن يكون ربانيا قد تخلّق بأخلاق اللّه عز و جل و زكيّ نفسه بالتخلية عن الرذائل، و التحلية بالفضائل و مكارم الأخلاق ليستعد بذلك أن يكون معلّما للمعارف الإلهية، و مرشدا إلهيا، و داعيا إلى كتاب اللّه تعالى، و لا ينال هذه الدرجة إلا بتهذيب النفس و تزكيتها، و التخلق بمكارم الأخلاق، و تعلم المعارف الحقة و تعليمها فلا يليق بهذا المنصب كل متطاول ليس له حظ من ذلك، فان الأغيار لا يمكنهم الوصول و التقرب إلى دار الحبيب إلا بعد الجهاد مع النفس و التزين بما يرضي المحبوب. و على مرشدي الامة و طلاب العلم لا سيما علوم الدين أن يزكوا أنفسهم أولا و يتخلقوا بمكارم الأخلاق، و أن يكونوا داعين إلى اللّه تعالى علما و عملا بل يكونوا داعين إلى اللّه بعملهم اكثر من دعوتهم اليه بعلمهم، و لا يخرجوا عن زي العبودية أبدا.

ص: 104

بحث فلسفي

المعبود الحقيقي لا يعقل التعدد فيه بوجه من الوجوه، لأنه عبارة عن الكمال المطلق المسلوب عنه جميع النواقص الواقعية و الإدراكية، و هو الربوبية العظمى بالنسبة إلى جميع الموجودات تدبيرا و علما و حكمة فلا يعقل التعدد في مثل هذه الحقيقة، لأن التعدد فيها نقص، و المفروض انتفاء جميع النواقص عنه. و قد أكد سبحانه و تعالى وحدته مطلقا في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ببراهين متعددة، و هو أساس نظام الشرائع السماوية، و جميع ما افتعل في التعدد انما حصل من مغالطات الوهم و الآية الشريفة بأسلوبها الواضح المتين تبين امتناع التعدد في المعبود ببراهين ثلاثة ذكرناها في البحث الدلالي، و المعروف بين الفلاسفة أن بسيط الحقيقة من كل حيثية و جهة لا يعقل الاثنينية و التغاير فيه، لأنه خلف لفرض البساطة، لأن معنى بساطته من كل جهة انه مع الكل، قال تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» الحديد - 4 و قال تعالى: «نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» ق - 16. فكل فرض اثنينية يكون خلاف للمعية المطلقة، و لا يعني بالمعية الحلول الذي يدعيه النصارى، و لا وحدة الوجود و الموجود التي يذهب إليها بعض المتصوفة، بل المعية القيومية، كما فسرها علي (عليه السلام) بقوله: «خارج عن الأشياء لا بالمغايرة و المزايلة، و داخل في الأشياء لا بالممازجة» فهو الحي القيوم باحاطة قيومية على جميع ما سواه، و في

ص: 105

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَ.......

اشارة

وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (82) أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (85) الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي تبين دستور الإنسان و منهاجه في الدنيا و مصيره في الآخرة و هي عامة تشمل جميع أفراد الإنسان بما فيهم الأنبياء، و هي باسلوبها الخلاب نفيسا و اثباتا تقرر حقيقة من الحقائق، و هي عالم الميثاق و أخذ العهود المؤكدة من أفراد الإنسان بالإيمان باللّه تعالى و تصديق الأنبياء و نصرتهم، و دعوة كل نبيّ سابق

ص: 106

إلى نبيّ لاحق، و هي تدعو الناس باتباع الإسلام و الانقياد إلى اللّه تعالى و طاعته، و عدم الخروج عن طور العبودية له عز و جل، و هي تثبت نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله)، و تدحض حجج المخالفين، و تقطع اعذار المعاندين، و تبطل ما ادعاه أهل الكتاب في الأنبياء العظام و انكار نبوة خاتم الأنبياء، و ترجعهم إلى الفطرة التي تدعوهم إلى الوفاء بالعهد و التسليم للّه تعالى و الايمان بالأنبياء لا سيما خاتمهم، و نبذ كل ما يخالف ذلك العهد المأخوذ منهم. و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة التي تدعو أهل الكتاب إلى الإيمان و التسليم و الانقياد، و طرح كل مكر و خديعة، و الاجتناب عن الكذب و الافتراء على الأنبياء و في هذه الآيات يأمرهم عز و جل بالجري على الميثاق.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ .

الآية تقرر عالما من العوالم الإلهية و هو عالم الميثاق الذي أخذ فيه من الإنسان العهود المؤكدة بالتسليم للّه و التصديق بالأنبياء و نصرتهم، و العمل بما انزل عليهم، و أودعه عز و جل في الفطرة الانسانية، فهي تدعو إلى اللّه تعالى كما تخبر عن أن هناك ميثاقا مأخوذا من أفراد الإنسان يجب الوفاء به بحكم العقل.

و تتجلى عظمة هذا الميثاق انه ذو أطراف عديده، فمن ناحية انه

ص: 107

بعضهم لبعض، بأن يبشر كل نبي سابق لنبي لاحق و يدعو الناس بالإيمان به و نصرته، كما أن كل نبي لاحق ينوّه بالنبي السابق و يدعو إلى الايمان به، كما قال تعالى «آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ» البقرة - 285. و ثالثة بينه تعالى و بين الأنبياء جميعا لسيد الأنبياء و خاتمهم، كما في قوله تعالى في ما يأتي «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ» و رابعة بين اللّه تعالى و جميع عباده مطلقا بالإيمان به، و العمل بما أنزله على الأنبياء و جميع هذه المواثيق متلازمة يتقوم بعضها ببعض.

و الميثاق الأول دليل اعتماد المعاهد (بالفتح) على نفسه من حيث انه مبعوث إلهي لا ينطق عن الهوى، كما يوجب زيادة اعتماده على من يصدر عنه لاتصاله بالحي القيوم.

و اما الثاني فلأن وحدة المعبود الحقيقي بالوحدة الحقة الحقيقة لا بد له من وحدة الداعي اليه، و التقدم و التأخر الزماني و تعدد الأفراد لا اثر له في ذلك، لأنه من لوازم هذا العالم المادي المبني على التكثر و التعدد. كما أن المرايا المتقابلات لشيء واحد لا يوجب تكثر ذلك الواحد، و إن تكثرت المرايا.

و اما الثالث: فلأن الغاية مقدمة في العلم و إن كانت متأخرة في الوجود خصوصا في مثل هذا الكمال المطلق الذي هو أصل الكمالات بل هو مرآة الكمال المطلق الأتم الأرفع.

و أما الأخير فلإتمام الحجة و إيضاح المحجة، و قطع اعذار الناس لئلا يقولوا بانه لو كنا في غير هذا النحو من الوجود لآمنا باللّه تعالى و لإظهار كمال قدرته عز و جل على كافة مراتب الوجود، و جميع العوالم الممكنة، و عالم الميثاق من اظهر عوالمه و قد تجلّت فيه قدرة اللّه

ص: 108

عز و جل و لا يمكن الاحاطة به لغير علام الغيوب، و المطلع على السّر المكنون المحجوب، و سياتي في البحث القرآني تتمة الكلام.

و الميثاق هو العهد المؤكد المشدّد، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في عدة مواضع، و لكن تستعمل في الكتاب و السنة في موضوع خاص، و هو عالم الميثاق و قد جمع بعض المحدثين - رفع اللّه تعالى شأنهم - أحاديث هذا الموضوع الواردة في أبواب متفرقة في باب واحد، و سمّاه باب الطينة و الميثاق.

و قد ذكر المفسرون في المراد من هذا الميثاق وجوها كثيرة لم يقم دليل يصح الاعتماد عليه على اعتبارها، بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة، و هي قد بينت الميثاق العام المأخوذ من الأنبياء عن أممهم على ما عرفت تفصيله، و وجه الميثاق، و قررته بأسلوب لطيف لا غموض فيه.

و ذكر بعض المفسرين أن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد أمم النبيين على حذف المضاف. كما ذكر السيوطي و غيره عن سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: أن اصحاب عبد اللّه - يعني ابن مسعود - يقرءون و إذا أخذ اللّه ميثاق الذين أوتوا الكتاب و نحن نقرأ ميثاق النبيين. فقال ابن عباس: انما أخذ اللّه ميثاق النبيين على قومهم».

و الظاهر انه من تفسير الآية الشريفة لا كونه من القرآن، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلق بذلك أيضا.

و المراد بأخذه تعالى الميثاق هو الجعل و الإلزام ثم قبوله منهم على الإيمان باللّه تعالى و توحيده، و النصرة للنبيين و دعوتهم إلى خاتم الأنبياء.

و انما ذكر سبحانه ميثاق النبيين أولا لأن ميثاقهم هو الأصل في كل

ص: 109

ميثاق. و تشريفا لهم، و تعظيما لميثاقهم، و لكونه أشد و آكد بالنسبة إلى غيرهم، قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ اَلنَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» الأحزاب - 8، و لورود ذكرهم في الآية الشريفة السابقة.

قوله تعالى: لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ .

قرأ الجمهور (لما) بفتح اللام و التخفيف. و قرئ بالكسر.

و المعروف أن اللام هي الموطئة للقسم، لأن الميثاق كالعهد و النذر في دخول اللام على جوابه، نظير قوله تعالى: «وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اَللّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ» التوبة - 76. و قيل: (ما) شرطية، كما في قوله تعالى: «لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ» الأعراف - 17، و هي في موضع نصب مفعول أول ل (آتيت)، و المفعول الثاني الضمير المخاطب. و (من) بيانية.

و قيل: اللام ابتدائية، و (ما) موصوله، و آتيتكم صلته، و الضمير المحذوف يدل عليه قوله: من كتاب و حكمة، و الموصول في موضع رفع مبتدأ، و الخبر «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» الذي يكون اللام فيه لام القسم.

و الحق أن يقال: إن (ما) موصولة، كما هو المتفاهم العرفي و الجملة تتضمن معنى الشرط، فيكون فهم الشرطية منها سياقيا، لا أن يكون لفظيا دلاليا بالمطابقة، أو التضمن و أما الدلالة الالتزامية فقد تكون داخلة في الدلالات السياقية، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلق بذلك أيضا.

و الخطاب للنبيين و أممهم بقرينة قوله تعالى: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» .

ص: 110

و الخطاب للنبيين و أممهم بقرينة قوله تعالى: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» .

و المعنى كلما آتيتكم يا أيها الناس - الأنبياء و الأمم - من كتاب يتضمن التشريعات السماوية، و المعارف الإلهية، و البشارات بنبوة خاتم الأنبياء و الأحكام الإلهية، و الدلائل الدالة على حكمة إرسال الرسل و بعث الأنبياء.

قوله تعالى: ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ .

تقرير للميثاق المأخوذ من الأنبياء و اللام في (لتؤمنن به و لتنصرنه) جواب القسم، و الجملتان جواب القسم و الشرط معا إن جعلنا (ما) شرطية و الضمير في الموضعين راجع إلى الرسول، كما هو الظاهر.

و قيل: إن الضمير في «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ» يرجع إلى ما أوتوا من كتاب و حكمة. و الضمير الثاني راجع إلى الرسول. و لكن الظاهر - كما عرفت - هو الأول، و يستفاد الثاني من السياق.

و التراخي الزماني المستفاد من إتيان (ثم) في الكلام لبيان الميثاق المأخوذ من النبي السابق و هو الدعوة بالإيمان بالنبي اللاحق و نصرته، كما أن كل نبي لاحق لا بد له من التنويه بالنبي السابق و الإيمان به.

و المراد بقوله تعالى: «مَعَكُمْ» هو المعية المعنوية المستكملة للنفوس الانسانية، لا خصوص المعية الجسمانية، فانه (صلى اللّه عليه و آله) أرسل بعد فترة من الرسل، و هو خاتمهم.

و الآية في مقام بيان حقيقة النبوات السماوية، و كيفية ارتباط بعضها مع بعض، و ارتباطها مع الخلق، و تفصيلها أولا ثم بيان مجملها بما هو منطو في خاتم رسله، لأن النبوّات السماوية متقومة

ص: 111

بالبيانات الإلهية التي هي عبارة عن الكتاب و الحكم المودعة فيه.

و هي تشمل جميع المعارف الضرورية من المبدأ و المعاد، و كل ما يحكم به العقل السليم، و الفطرة المستقيمة التي قررتها الكتب السماوية، و هي الميثاق المأخوذ من الجميع، فالحكمة ترجع إلى الكتاب و هو يرجع إليها، و الفرق بينهما بالإجمال و التفصيل، كما أن الفرق بين جميع الأنبياء و خاتم النبيين أيضا كذلك، لأنه يبين حقيقة ما أوحي إليهم مع شيء زائد، فلذلك كانت دعواتهم اليه (صلى اللّه عليه و آله) و لأجل ذلك فصّل سبحانه الدعوة اليه بقوله عز و جل: «ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ» اهتماما به، و إرشادا إلى علوّ درجته و سموّ مقامه.

قوله تعالى: قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا .

خطاب للمأخوذ منهم الميثاق و الاستفهام تقريري. و الإقرار معروف و هو الإثبات و الإلزام. و الإصر هو العهد و الميثاق، سمي به، لأنه إما من الإصر و هو الثقل، لأن العهد فيه ثقل و تشديد. أو من الإصار، و هو ما يعقد به و يشدّ، لأن العهد يشد به، و تقدم في قوله تعالى: «رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا» البقرة - 286 بعض الكلام.

و إنما عدل سبحانه عن لفظ العهد إلى هذه الكلمة (إصري) للإرشاد إلى أن ناقضه محروم من الثواب و واقع في مأزق العقاب و شدة العذاب، فيكون مثل هذا العهد قد حبس صاحبه عن التهاون في التزامه، و التسامح فيه.

أي قال اللّه تعالى للنبيين: أ أقررتم بالميثاق المذكور آنفا و أخذتم

ص: 112

من الأمم العهد و بلغتموه إليهم. قال النبيون أقررنا بذلك و أخذنا من الأمم العهد و الإصر.

و انما ذكر جواب الأنبياء باعتبار انه كان جوابا عما أراد عز و جل تقريره منهم ابتداء، فيتضمن عهد الأمم و تقريرهم أيضا، فاكتفي بالأول. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

و قيل: المراد من أخذ العهد هو القبول، و استشهد لذلك بقوله تعالى: «وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ» البقرة - 46، بقرينة قوله تعالى في موضع آخر «وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ» البقرة - 123. فيكون قوله: و أخذتم على ذلكم إصري عطف بيان لقوله: «أ أقررتم». و على هذا يكون الميثاق مختصا بالأنبياء لا يتعداهم إلى غيرهم من الأمم.

لكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة. و الأخذ هو بمعناه المعروف و هو الاستيفاء. و يبعده أيضا قوله عز و جل: «قالَ فَاشْهَدُوا» لظهوره في كون الشهادة على الغير. و لكن يهون الخطب أن الميثاقين متلازمان يغني ذكر أحدهما عن الآخر، كما ذكرنا سابقا.

قوله تعالى: فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ .

ظاهر السياق أن تكون الشهادة من النبيين و الأمم، أي شهادة الأنبياء على الأمم بأخذ العهد منهم، و شهادة الأمم عليهم بالتبليغ و المناصرة لهم، و إقرار منهم بالقبول. و أما شهادة خاتم النبيين فإنها تقوم على إمضاء شهادتهم و تقريرها باعتباره العلة الغائية للخلق، و أن شهادة النبيين كانت لأجله (صلى اللّه عليه و آله)، فكانّ شهادتهم لا تقبل إلا بشهادته (صلى اللّه عليه و آله).

و قيل: ان المراد من الآية شهادة الأنبياء بعضهم لبعض، و هذا

ص: 113

و إن كان صحيحا في نفسه و لكنه تخصيص بلا موجب.

و قيل: الخطاب للملائكة أمروا بالشهادة على الأنبياء و الأمم، و قد وردت به رواية أيضا. و فيه: انه خلاف الظاهر.

و الحق أن الشهادة عامة، و هي من الأنبياء على الأمم و بالعكس من قبيل مقابلة الجمع بالجمع.

ثم إن هذه المحاورة التي وقعت في الآية الشريفة إنما هي لتأكيد الميثاق و تثبيته، و بيان أهميته، و ظاهرها الاخبار بوقوعها في ما مضى من الزمان لا أن يكون من مجرد التمثيل، و لكنها مجملة في تعيين زمان هذه المحاورة، فأصل السبق الزماني معلوم و أما تعيينه في انه كان في عالم الذر الأول، أو الثاني، أو انه كان في عالم المثال المعبر عنه بعالم الأشباح و الاظلة، أو انه كان في الأعيان الثابتة المسماة بالثابتات الأزلية - بناء على صحة هذا القول - أو انه من قبيل لوازم الماهيات الممكنة مطلقا و لو في هذا العالم، أو غير ذلك احتمالات، و لا يظهر من الآيات الشريفة، و الادلة العقلية و النقلية تعيين واحد منها.

قوله تعالى: فَمَنْ تَوَلّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

تأكيد للميثاق المذكور، أي من تولّى بعد أخذ الميثاق منه و إقراره به، فلا ريب في فسقه و خروجه عن طاعة اللّه تعالى، بحكم العقل و الفطرة، لأنهما يحكمان بوجوب الوفاء بالعهد. فان كان توليه عن أصل الايمان بالتوحيد و المعاد فهو كافر مضافا إلى فسقه، و إن كان توليه عن العمل بالاحكام فهو و إن كان فاسقا و لكنه ليس بكافر إن لم يحصل منه ما يوجب الكفر. و لأجل ذلك عبّر سبحانه بالفسق ليشمل الجميع، و لم يبين جهته، و لا ما يترتب على ذلك للتنبيه على

ص: 114

عظمة هذا الموضوع و كثرة اهميته.

قوله تعالى: أَ فَغَيْرَ دِينِ اَللّهِ يَبْغُونَ .

عطف على الآية السابقة، و تفريع على أخذ الميثاق من النبيين و الأمم، و توبيخ لمن اعرض عنه، و يدل على أن دين اللّه واحد و هو دين الإسلام، فانه تعالى بعد ما ذكر أخذ الميثاق من جميع افراد الإنسان، و اثبت انهم متفقون في الدين الذي أراده عز و جل منهم، و أخذ الميثاق من النبيين على الدعوة اليه. كما أخذ ميثاق كل نبي بالدعوة إلى النبي اللاحق، و التنويه بالنبي السابق، و أن على جميعهم الدعوة إلى الرسول الكريم خاتم النبيين، و التبشير به و التصديق به و نصرته فإذا تولى أحد عن هذا الميثاق، و لم يف بما عاهد عليه و أقر به، فليس هناك دين آخر يعتقد به. كيف و قد خرج عن الطاعة و دين الحق. و اعرض عن الدين الحقيقي الذي أمر العباد بالاعتقاد به و عانده فلا يرجى منه خير حيث لم يؤمن بدين الإسلام و لم يعترف بنبوة الرسول الكريم الذي يسوق الإنسان إلى دين الفطرة الذي أخذ عليه الميثاق.

و الهمزة في (أ فغير) للإنكار و التسفيه لمن تولى عن دين اللّه و نبذ العهد، و لها التصدير في الكلام، و لذا جاءت قبل حرف العطف بين المعطوف و المعطوف عليه.

قوله تعالى: وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً .

جملة حالية مؤكدة، و هي في مقام الاحتجاج على كون الإسلام دين الفطرة. و الإسلام إما أن يراد به التسليم التكويني القهري للّه

ص: 115

تعالى، فيكون المراد من الطوع مقهورية الممكنات تحت إرادته عز و جل القهارة، و المراد من الكره قهارية إرادته عز و جل التامة بالنسبة إليها فيجتمع في كل شيء الطوع و الكره معا، فانه من حيث الاضافة إلى ذات المخلوق يكون طوعا، و من حيث إضافته إلى الخالق و الجاعل يكون كرها، و لا محذور فيه. و يكون التعبير ب (من) المستعمل في ذوي العقول إما لأجل الفضل، أو الغلبة، كما يكون الواو في قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» لمطلق الجمع.

و إما أن يراد من الإسلام التشريعي الاختياري، فيكون المراد من الطوع هو إسلام من آمن باللّه تعالى لأنه وجده أهلا للعبادة فعبده، و لم يتعلق غرضه بغيره جل جلاله فوجد الذات ذاتا لا تليق الا للعبادة و الايمان بها. و المراد من الكره هو اسلام الذين آمنوا به عز و جل لأغراض زائدة على اهلية المعبود للعبادة، كدخول الجنة أو الخوف من النار أو غير ذلك.

و قد اختلف المفسرون في معنى الآية الشريفة، فقيل: المراد من الإسلام طوعا ما إذا حصل من الدليل و الفكر و الرويّة بخلاف الإسلام كرها و هو ما إذا حصل من السيف و الخوف.

و قيل: إن المراد بالإسلام طوعا ما إذا حصل من غير معارضة في النفس، و الإسلام كرها هو الانقياد مع معارضة النفس و الوساوس و التعلق بالوسائط.

و الحق ما ذكرناه، و يمكن أن يرجع الأخير اليه بالعناية.

ص: 116

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ .

حجة أخرى على لزوم الرجوع إلى الدين الحق و التسليم للّه تعالى و الانقياد له، و قبح التولي عن الميثاق. لأن جميع من في السموات و الأرض مرجعهم اليه عز و جل فيجزيهم على معتقداتهم و أعمالهم، رجوعا قهريا لا دخل للإرادات مطلقا و إن بلغت ما بلغت فيه، فاللازم هو الرجوع إلى ما بينه المعبود الحقيقي، و الالتزام بالدين الحق و الرجوع إلى ما أخذ عليه الميثاق.

و يمكن أن يكون هذا قرينة على أن المراد من الكره هذا المعنى في الآية السابقة. فان من كان مرجعه اليه بلا اختيار منه و لا إرادة كيف يعقل أن يتخذ إلها غير اللّه تعالى الذي ترجع اليه الأمور، و هو مرجع العباد، فيقبح منه التخلّي عن الميثاق المأخوذ منه، و التولي عن دين الحق.

قوله تعالى: قُلْ آمَنّا بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا .

أمر للرسول الكريم بالجري على الميثاق المأخوذ منه و دعوة منه به و هو الميثاق الذي أخذ منه (صلى اللّه عليه و آله) بالإيمان باللّه تعالى و التنويه بالأنبياء السابقين و الايمان بهم، و بالقرآن الكريم المشتمل على جميع المعارف الحقة، و قد بين سبحانه هذا الميثاق بعد أن أشار اليه في الآيات السابقة، و بين الميثاق المأخوذ من الأنبياء بالإيمان بالرسول الكريم خاتم النبيين و التبشير به و الدعوة إلى نصرته.

و انما قدم سبحانه المنزّل عليه (صلى اللّه عليه و آله) على المنزل عليهم اشارة إلى علوّ منزلته، و لأنه واسطة الفيض، و هو الوجود الجمعي للكل.

ص: 117

و قد عبر عز و جل في المقام (علينا)، و في غيره (إلينا)، و لا فرق بينهما، إلا انه إذا لوحظ المنزل من اللّه عز و جل باعتبار انه محيط بالجميع و مستول عليهم، فتكون فيه جهة العلو من جميع الجهات فيصبح التعبير ب (على) حينئذ. و اما إذا لوحظ المنزل عليه فيعبر حينئذ (إلينا).

قوله تعالى: وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ .

الأسباط جمع السبط و هم القبائل من أبناء يعقوب الاثني عشر و الإنزال عليهم باعتبار الإنزال على أنبيائهم بقرينة ذكر الأنبياء المنزل عليهم قبلهم و بعدهم. و هم كثيرون، كداود و سليمان و يونس و غيرهم.

و انما خص عز و جل هؤلاء بالذكر باعتبار اعتراف أهل الكتاب بنبوتهم جميعا، و قبول ما انزل عليهم، و المراد بما انزل عليهم الصحف.

قوله تعالى: وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ اَلنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ .

من التوراة و الإنجيل و سائر الكرامات الباهرات، و انما ذكر النبيين بعد ذكر آحادهم للتعميم ليشمل جميع الأنبياء، و قد خصّ موسى و عيسى بالذكر تشريفا لهما و تعظيما لما انزل عليهما، و لأن الكلام مع اليهود و النصارى.

و انما ذكر سبحانه الرب لبيان كمال العناية بهم، و لأنه الرب الرءوف بالعباد نزّل عليهم الكتاب لتكميل النفوس المستعدة.

ص: 118

قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ .

تأكيد بالإيمان بجميع الأنبياء، فان الميثاق قد أخذ منهم بالإيمان بجميعهم من دون تبعيض، و فيه التعريض باليهود و النصارى الذين يؤمنون ببعض دون بعض تبعا لأهوائهم الفاسدة. و ما تمليه عليهم العصبية البغيضة.

قوله تعالى: وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ .

اي نحن جميعا منقادون للّه تعالى مطيعون له في جميع ما أنزله عز و جل على الأنبياء و ما أراده عز و جل.

في التعبير بالإسلام كمال التذلل و الانقياد، أي مستسلمون لكل ما هو في الميثاق.

و فيه اشارة إلى أن الايمان لا يتم و لا يكمل إلا بالاستسلام و الانقياد من كل جهة قوله تعالى: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ .

بعد ما بين عز و جل أن الأيمان المطلوب هو الإسلام دون غيره، و به أخذ الميثاق، و انه الجامع لجميع الأديان الإلهية، و الكمالات الانسانية، فيكون الإسلام للّه تعالى هو الجامع بين جميع الأديان السماوية ذكر هنا أن غيره باطل لا أثر له و لا يهدي الإنسان الى الكمال المنشود بل يوجب بطلان الانسانية و مقامها الرفيع.

و في التعبير بالابتغاء الإشارة الى أن الإنسان و ان اجتهد في ما ابتغاه و ارتاض

ص: 119

فيه كمال الجهد و الرياضة لا يقبل منه.

قوله تعالى: وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

دليل على أن الأعمال مع غير الإسلام تكون فاسدة و مفسدة للآخرة فإنها هي المحل الأتم لظهور مقام الانسانية الكاملة. فمن ذهب من العرفاء و عظماء الفلاسفة إلى وحدة الوجود و الموجود إن كان نظره إلى ذلك فلا بأس، و تشهد له الادلة الكثيرة، و إلاّ فلا يرجع إلى محصل. و هذه الآية الشريفة تشتمل على الإثبات و النفي بطريق برهاني علمي، و هو ترتب المعلول على العلة التامة.

بحوث المقام
بحث أدبي:

(إذ) في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ» منصوب بفعل مقدر، أي و اذكر إذا أخذ اللّه... كما في غير هذا المورد.

و قيل: انه مقول لقوله تعالى في ما يأتي: «قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ» . و أورد عليه بعضهم أن خطاب أ أقررتم إنما كان بعد أخذ الميثاق. و لكن فساده واضح. و قد تقدم الكلام في نظير هذه الآية فراجع.

و الميثاق كالنذر و القسم في دخول اللام على جوابه. لأنه يتضمن العهد الذي يؤخذ من المعاهد (بالكسر) للمعاهد (بالفتح). و هي

ص: 120

لتلقي القسم و نحوه، كما انها هي التي يؤتى بها مع الشرط تثبيتا لدخول الشرط على حيز القسم و العهد تقوية لتلقيهما بالجواب.

و اللام في قوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ» بالفتح و التخفيف على قراءة الجمهور. و قرأ حمزة بالكسر. و قرأ غيره بالفتح و التشديد. و الأول هو المتبع. و هي اللام الموطئة - كما ذكرنا - و قد اختلف الأدباء في اعراب هذه الآية الكريمة بحيث عدوّها من مشكلات القرآن إعرابا.

فقيل: إن اللام هي الموطئة للقسم و (ما) شرطية، و هي في موضع نصب ب (آتيت) و المفعول الثاني ضمير المخاطب و من بيانية كما عرفت في التفسير. و اعترض عليه بأن حمل (من) على البيانية شايع بعد الموصولة دون الشرطية فانه يحتاج إلى النقل. و لذا قال بعضهم انها زائدة، و قال آخر انها تبعيضه ذكرت لبيان (ما) الشرطية.

و قيل: أن (ما) موصولة، و اللام الداخلة عليها هي لام الابتداء و (ما) مبتدأ و الخبر (لتؤمنن به) مع القسم المقدّر. أو يكون الخبر (من كتاب و حكمة) و النكرة هنا بمنزلة المعرفة. أو يكون مقدرا. و الهاء محذوف من آتيتكم، تقديره للذي آتيتكموه من كتاب و حكمة.

و أورد عليه أولا: بأن الميثاق كالقسم مما يعتني بربطه بالجواب و تلقيه بروابط القسم، و هما ينتقضان بلام الابتداء التي لها الصدارة في الكلام فتقطعه.

و يمكن الجواب عنه بأن مجموع الكلام مرتبط بعضه مع بعض من دون أن يضره لام الابتداء و صدارتها.

و ثانيا: إذا جعلنا (لتؤمنن) خبرا لقوله تعالى: «لَما آتَيْتُكُمْ»

ص: 121

و كذا (لَتَنْصُرُنَّهُ) فما هي اللام فيهما، فإنها حينئذ لا تصلح أن تكون رابطة لجواب العهد و الميثاق، و لا مزحلقة لأنها مختصة بخبر (إن) و الجواب عنه يظهر مما سبق. و ثالثا: إن الضمير في (به) إن عاد على المبتدأ - كما هو الظاهر - كان الميثاق هو ايمانهم بما آتاهم، و لكن المقصود من الآية أخذ الميثاق بالإيمان بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) و نصرته. و إن عاد على الرسول - كالضمير الثاني المنصوب العائد عليه مطلقا - خلت الجملة عن العائد.

و أجيب عنه بأن الجملة المعطوفة لما كانت مشتملة على ما هو بمعنى المبتدأ الموصول استغني عن الضمير، فيكون ضمير (به) راجعا للرسول مع ملاحظة (مصدق لما معكم) القائم مقام الضمير العائد على (ما) فاكتفي بذلك عن الضمير في خبرها لارتباط الكلام بعضه مع بعض.

و فيه: إن التكلف ظاهر فيه، و قد ذكر في التفسير ما يرتبط بذلك أيضا. و رابعا: أنه لو كان الأمر كذلك يلزم أن يكون للذي آتيتكم من كتاب و حكمة لتؤمنن به فردا، و جملة (ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتنصرنه)، فردا آخر.

و فيه ما لا يخفى، مع انه فرض يجلّ القرآن الكريم عن مثله لأنه تعقيد للكلام، و إخراج له عن الأسلوب الفصيح المرغوب فيه. هذا كله بناء على القراءة المعروفة.

و أما بناء على قراءة حمزة فان (ما) مصدرية، و اللام للتعليل متعلقة ب (لتؤمنن) أي لأجل اتياني إياكم بعض الكتاب ثم مجيء رسول مصدق له.

و اعترض عليه بانه يستلزم إعمال ما بعد لام القسم في ما قبلها.

و يمكن الجواب عنه بانه لا يضرّ، و بعض العلماء يقول بجواز ذلك.

و الحق أن يقال: أن كل ذلك تطويل بلا طائل تحته، بل قد

ص: 122

يضرّ بعض تلك الأقوال و الاحتمالات بفصاحة القرآن الكريم و بلاغته مع ان فيه من التكلّف و التعسف ما لا يخفى، و مقتضى المتفاهم العرفي الذي هو الأصل في فهم الآيات الشريفة ما ذكرناه في التفسير من أن كلمة (ما) موصولة، و الجملة بتمامها متضمنة لمعنى الشرط، فيكون فهم الشرطية سياقيا لا أن يكون دلاليا، و ما ذكروه في وجه بطلان ذلك كله لا يمكن المساعدة عليه، و قد أجبنا عن بعض ذلك.

و قرئ (تبغون) بالتاء الفوقانية، و عليه يكون في قوله تعالى:

«وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ» التفات.

و طوعا و كرها في قوله تعالى: «وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» مصدران في موضع الحال أي طائعين و كارهين و الطوع مصدر طاع يطوع، و الإطاعة مصدر أطاع يطيع، و هو بمعنى الانقياد.

و (كرها) بفتح الكاف من الكره بقرينة المقابلة للطوع، نظير قوله تعالى: «لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً» النساء - 23 أي إكراها. و قيل من الكراهية أي كارهين. و دينا في قوله تعالى:

«وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً» منصوب على التمييز من غير، و هو مفعول (يبتغ)، و قيل: دينا مفعول (يبتغ)، و غير صفة قدمت فصارت حالا و هو الأصح.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأول:

قد أكد سبحانه و تعالى الميثاق المأخوذ من جميع افراد الإنسان، لأنه أصل العهود، و به تتم الوحدة، و عنه ينتزع الكل و هو بمنزلة البذرة و الأعمال نتائجها و ثمراتها، و قد ذكرنا في التفسير

ص: 123

أنواعه، و يستفاد اهمية هذا الميثاق من الآية الكريمة أن نسب عز و جل الأخذ إلى نفسه المقدسة، و أخذ الإقرار من المعاهد (بالكسر)، و شهادة الأنبياء، و خاتم النبيين عليه، فيكون هذا الميثاق أصل الانسانية الكاملة التي خلق الإنسان لأجلها، و القرآن الكريم و سائر الكتب الإلهية شرح لهذا الميثاق.

الثاني:

يستفاد من الآيات الشريفة أن هذا الميثاق يقوم على وحدة الدين بين جميع أفراد الإنسان الأنبياء و الأمم على السواء - لأن مبدأ الممكنات جل جلاله واحد بالوحدة البسيطة الحقيقية، و الرجوع و المعاد إنما يكون إلى واحد لأنه أتم مظهر للعدل فلا بد أن يكون الدين واحدا لأنّه أتم تجلّ للواحد الحقيقي الظاهر في عبادة واحد، و لا محالة يكون غيره باطلا محضا و خسرانا صرفا، فمن ذهب من العرفاء، و عظماء الفلاسفة إلى وحدة الوجود و الموجود في عين الكثرة إن كان نظره إلى ما قلناه فهو و إلا فلا دليل على صحته.

الثالث:

تدل الآيات الشريفة على أن حقيقة الميثاق هي الايمان بالمبدأ و المعاد، و التصديق بالأنبياء و ما أنزل عليهم، و البشارة بخاتم النبيين، و يصح أن يكون الميثاق مأخوذا على الكليات لا بالنسبة إلى الجزئيات و إن شملها لا محالة.

الرابع:

ذكر بعض المفسرين أن من اللطائف الواقعة في هذه الآية الشريفة أن الميثاق مأخوذ من النبيين للرسل على ما يعطيه قوله تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ - إلى قوله: ثُمَّ جاءَكُمْ» فيكون الميثاق مأخوذا من مقام النبوة لمقام الرسالة من غير عكس للفرق بين المقامين.

و فيه: إن ذلك و إن كان حسنا في نفسه، و لكنه يستلزم تقديم الفرع على الأصل و هو خلاف مقام المشهود عليه، لما يستفاد من

ص: 124

الآية التلازم بين أخذ الميثاق و الشهادة، فالحق ما ذكرناه في التفسير.

الخامس:

قد ذكر سبحانه و تعالى ما يتعلق بنقض الميثاق و التولي عنه، و اعتبر الناقض فاسقا و لكن لم يذكر هنا ما يتعلق بالوفاء بالميثاق و التعهد به، و لعله لأجل انه لاحد لعظمة هذا المقام و جلالته، فأهمله تعالى ليذهب ذهن السامع أيّ مذهب أمكن، و يصح أن يقال إن ذكر النبي و الرسول إشارة إلى رفعة ذلك المقام و علوّه، و أن العمل به و الوفاء به يوجب الالتحاق بدرجة الأنبياء و المرسلين.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً...» أن الميثاق ليس من العلة التامة في شيء، بل هو من المقتضيات المحضة، و إلا لزمت أمور كثيرة لا يقول بها أحد منهما بطلان الاختيار، و زوال الثواب و العقاب و غير ذلك.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ» على أن المنهاج السليم للإنسان هو التسليم للّه تعالى و الانقياد له عز و جل، و أن دستوره في الحياة هو الطاعة للّه تعالى، و العمل بما أنزله على أنبيائه المرسلين، و في غير ذلك بطلان الانسانية و الحط من مقامها الرفيع و لأجل ذلك كان في الآخرة من الخاسرين، لأن الآخرة المحل الأتم لظهور مقام الانسانية الكاملة و الخاسرة.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» أن جميع من في السموات و الأرض لا يخرج عن أحد هذين الأمرين هما الإسلام طوعا و الإسلام كرها، بل يمكن أن يكون كلا الأمرين في فرد واحد باعتبارين، و قد ذكرنا إن العبادة و التسليم إن كانا للذات و بالذات يكونان طوعا، و إن كانا لجهات خارجية يكونان كرها، و لكنه ليس بإكراه، بلا فرق بين أن يكون الإسلام تكوينيا أو تشريعيا، و لا

ص: 125

يستفاد من لفظ (أسلم) الدال على المضي و التحقق خصوص التسليم التكويني لأمر اللّه تعالى. لأن المراد منه تحقق الإسلام أما الزمان فهو خارج عن مفهوم اللفظ.

التاسع:

الآيات الشريفة تدل على صحة نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) بل يستفاد منها أن التبشير به من اصول الدعوات الإلهية و الرسالات السماوية.

العاشر:

انما قدم سبحانه الايمان بما انزل علينا على الايمان بما انزل على من قبلنا في قوله تعالى: «قُلْ آمَنّا بِاللّهِ ... وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ...» مع أن الثاني اسبق زمانا، لأن الايمان بما انزل علينا هو غاية الرسالات السماوية، و الغاية متقدمة في التعلم و إن كانت متأخرة في الزمان، مع انه الأصل في معرفة السابق علينا، و الطريق لإثباته.

الحادي عشر:

من اللطائف الواقعة في هذه الآيات أن اللّه تعالى افتتحها بذكر الايمان و اختتمها بالإسلام، لبيان أن الايمان بدون الأخير لا ثمرة فيه، و للاعلام بأن الإسلام هو الدستور في الحياة، و المنهج في الدنيا، و غيره باطل لا ثمرة فيه.

الثاني عشر:

انما نفى عز و جل القبول بصيغة المجهول في قوله تعالى: «فَلَنْ يُقْبَلَ» للاشارة إلى أن غير الإسلام لا يفيد في النظامين التكويني و التشريعي، و لعل هذا هو السر أيضا في إتيان (لن) في النفي الدالة على التأبيد فيه.

ص: 126

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ» . قال: فان اللّه أخذ ميثاق نبيه، أي محمد (صلى اللّه عليه و آله) على الأنبياء أن يؤمنوا به و ينصروه، و يخبروا أممهم بخبره.

أقول: و ذلك لأن محمدا (صلى اللّه عليه و آله) العلة الغائية لخلق العالم من النبيين و غيرهم، و شريعته أكمل الشرائع و أفضلها، فيجب الاهتمام به بأخذ الميثاق من كل النبيين على كل الأمم، و هذه الروايات شارحة لمعنى الميثاق الوارد في الآية الشريفة.

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في الآية «إن اللّه أخذ الميثاق على الأنبياء قبل نبينا أن يخبروا أممهم بمبعثه و نعته و يبشروهم به، و يأمروهم بتصديقه».

و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب (رضي اللّه عنه) قال: لم يبعث اللّه نبيا آدم فمن بعده الا أخذ عليه العهد في محمد لئن بعث و هو حي ليؤمنن به و لينصرنّه، و أمره بان يأخذ العهد بذلك على قومه، ثم تلا: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ - الآية -».

و في المجمع، و الجوامع عن الصادق (عليه السلام) في الآية ما معناه: «و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النبيين كل أمة بتصديق نبيها، و العمل بما جاءهم به، فما وفوا به، و تركوا كثيرا من شرايعهم

ص: 127

و حرّفوا كثيرا».

أقول: الميثاق من الأمور الاضافية، من النبيين على الأمم.

و من الأمم للنبيين على العمل بما جاءوا به، و الروايات تشرح بعض جهات الميثاق و تبين بعض المصاديق، و لكن الآية شاملة للنبيين على الأمم، و بالعكس، و قد تقدم في التفسير ما يشير الى الرواية الاخيرة أيضا، فراجع.

و في تفسير العياشي عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر (عليه السلام): أ رأيت حين أخذ اللّه الميثاق الذر في صلب آدم فعرضهم على نفسه كانت معاينة منهم له؟ قال (عليه السلام): نعم يا زرارة ذرّ بين يديه و أخذ عليهم بذلك الميثاق بالربوبية و لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بالنبوة، ثم كفّل لهم بالأرزاق، و أنساهم رؤيته، و اثبت في قلوبهم معرفته، فلا بد من ان يخرج اللّه الى الدنيا كل من أخذ عليه الميثاق، فمن جحد مما أخذ عليه الميثاق لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) لم ينفعه إقراره لربه بالميثاق، و من لم يجحد ميثاق محمد نفعه الميثاق لربه».

أقول: الرواية تشتمل على جهات من الكلام. أما قوله (عليه السلام): «حين أخذ الميثاق الذر في صلب آدم» فانه ظاهر في أن الميثاق كان في عالم الذر، و لكن لا يظهر من الحديث اختصاصه بهذا العالم.

و أما قوله (عليه السلام): «كانت معاينة منهم له» فانه ليس المراد المعاينة الحسية، بل المراد المعاينة المعنوية بأن أفاض عز و جل عليهم ما يدركون به أنه خالقهم و مبدأهم و معيدهم.

و أما قوله (عليه السلام): «ذر بين يديه» أي بين يدي اللّه

ص: 128

تعالى، و يحتمل أن يكون المراد بين يدي آدم، أي قداّمه بحيث انه (عليه السلام) يراهم بوجودهم الجمعي، كما في بعض الروايات.

و أما قوله (عليه السلام): «الميثاق بالربوبية، و لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بالنبوة». فقد تقدم وجه ذلك، و أن أخذ الميثاق بالنبوة لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) يرجع إلى أخذ الميثاق لجميع النبيين، كما عرفت في التفسير.

و أما قوله (عليه السلام): «ثم كفّل لهم بالأرزاق» فان الرزق أعم من المادي و المعنوي، و كل ما يكمل به الإنسان روحا و جسما.

و أما قوله (عليه السلام): «و أنساهم رؤيته» فانه لأجل توارد الصور الجسمانية عليهم، و توغلهم في الماديات، فنسوا ذكر اللّه تعالى و يمكن أن يراد به الإنساء لأنهم لو كانوا متوجهين اليه تعالى في كل طرفة عين و آن لاختلّ نظامهم الجسماني في الدنيا، و في بعض الآثار بمعصية ابن آدم عمرت العالم.

و أما قوله (عليه السلام): «و أثبت في قلوبهم معرفته» فان المراد به الفطرة التي فطر الناس عليها، و تظهر بعد ارتفاع الحجب الجسمانية، و الاغشية الظلمانية.

و أما قوله (عليه السلام): «فلا بد من أن يخرج كل من أخذ عليه الميثاق». فلأن عهد اللّه غير قابل للتغيير و التبديل.

و يستفاد من قوله (عليه السلام): «فمن جحد مما أخذ عليه الميثاق لمحمد (صلى اللّه عليه و آله) أن الميثاق المأخوذ بالتوحيد، و الميثاق المأخوذ بالنبوة واحد» لفرض أن الثاني شارح و مبيّن للأول.

و في تفسير القمي عن ابن مسكان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما بعث اللّه نبيا من ولد آدم هلم جرا إلا و يرجع إلى الدنيا

ص: 129

و ينصر أمير المؤمنين (عليه السلام)، و هو قوله «لتؤمنن به» يعني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله). «و لتنصرنه» يعني أمير المؤمنين (عليه السلام)، ثم قال لهم في الذر: «أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» أي عهدي «قالوا أقررنا» قال اللّه للملائكة:

«فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ» .

أقول: و في سياق ذلك جملة من الأخبار، و هي تدل على تحقق الرجعة، و يأتي شرحها مفصلا إن شاء اللّه تعالى. و يمكن أن تحمل الرواية على مرتبة من مراتب التأويل، و هو شيء، و ظاهر الآية الشريفة شيء آخر، و يدل على ما ذكرناه ما رواه العياشي عن سلام ابن المستنير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: لقد تسمّوا باسم ما سمى اللّه به أحدا إلا علي بن أبي طالب و ما جاء تأويله. قلت:

جعلت فداك متى يجيء تأويله؟ قال (عليه السلام): إذا جاء جمع اللّه أمامه النبيين و المؤمنين حتى ينصروه، و هو قول اللّه: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ - إلى قوله - وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ اَلشّاهِدِينَ» .

و في المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى:

«أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي» . قال (عليه السلام): أ أقررتم و أخذتم العهد بذلك على أممكم. قالوا اي الأنبياء و أممهم: أقررنا بما أمرتنا بالإقرار به، قال اللّه: فاشهدوا بذلك على أممكم، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و على أممكم».

و في الدر المنثور أخرج ابن جرير عن علي بن أبي طالب في قوله تعالى: «فَاشْهَدُوا» . يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك، و أنا معكم من الشاهدين عليكم و عليهم، فمن تولى عنك يا محمد بعد هذا

ص: 130

العهد من جميع الأمم فأولئك هم الفاسقون، هم العاصون بالكفر».

أقول: الروايتان تدلان على أن المخاطب في الآية الشريفة هم النبيون، و رواية القمي المتقدمة تدل على أن المخاطب الملائكة، و لا منافاة بينهما لتعميم الخطاب بالنسبة إلى الجميع، و الآية ليست في مقام الحصر.

و في التوحيد روى الصدوق عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «سمعته و هو يقول في قوله عز و جل: «وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً» . قال (عليه السلام). هو توحيدهم للّه عز و جل».

أقول: روى مثله العياشي أيضا، و الحديث يدل على أن المراد بالإسلام التوحيد الأعم من التكويني و الاختياري، لأن الجميع مجبولون على التوحيد فطرة.

و في المجمع في الآية: إن معناه إكراه أقوام على الإسلام، و جاء أقوام طائعين. قال: كرها، أي فرقا من السيف».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «طَوْعاً وَ كَرْهاً» أي فرقا من السيف».

أقول: قد تقدم في التفسير ما يستفاد ذلك أيضا.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً الآية -» أخرج أحمد، و الطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال:

قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «تجيء الأعمال يوم القيامة، فتجيء الصلاة، فتقول: يا رب أنا الصلاة، فيقول: إنك على خير، و تجيء الصدقة، فتقول: يا رب أنا الصدقة، فيقول: إنك على خير، ثم يجيء الصيام، فيقول: أنا الصيام، فيقول: إنك

ص: 131

على خير، ثم تجيء الأعمال كل ذلك يقول اللّه: إنك على خير، بك اليوم آخذ، و بك أعطي، قال اللّه في كتابه: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» .

بحث كلامي

الآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها من جملة الآيات الكثيرة التي دلت على ثبوت عالم العهد و الميثاق، و هي من جلائل الآيات التي وردت في هذا الموضوع فقد تكفلت و لو على سبيل الإيجاز لبيان العهد و المأخوذ منه العهد، و من أخذ له العهد، و الغاية منه، و أثره على الإنسان، و تأثيره في بقية العوالم التي يرد عليها الإنسان، و قد وردت أحاديث في السنة الشريفة، تبين بعض الجوانب التي نتعلق بهذا العالم الذي هو من العوالم الربوبية المتعددة.

و لكن لم يعلم ان أخذ العهد كان في عالم الذر الأول، أو في عالم الذر الثاني، كما لا يعلم الزمان و المكان الذي أخذ فيه الميثاق، و لذلك اختلف العلماء فيه فبعضهم عبر عنه بالثابتات الازلية و آخر يقول انه الأعيان الثابتة، و ثالث انه عالم المثل الأفلاطونية، و رابع اعتبر انه عالم المثال المنفصل، و خامس انه عالم الأشباح و الاظلة، و الجميع يريدون التوصل إلى معرفة هذا العالم الذي أقصى ما يمكن القول فيه انه من الغيب و لا يمكن الاطلاع عليه إلا لذوي النفوس القدسية الزكية التي يفاض عليها من عالم الغيب بقدر الاستعداد.

و يرجع الميثاق إلى المعارف اللائقة للإنسان التي لا بد أن يتلقاها في

ص: 132

جميع النشئات التي يمكن أن يرد عليها إتماما للحجة، و إيضاحا للمحجة و الآخذ للميثاق هو اللّه تعالى و المأخوذ منه الإنسان في أي عالم ممكن أن يرد عليه، و المأخوذ هو حقائق الكتاب و الحكمة و أصول المعارف الحقة التي يجب أن يتحلى بها الإنسان الكامل، و بعبارة أخري المأخوذ هو الحق المطلق الذي يكون غاية خلق العالم بروحانياته و جسمانياته، و لأجل عظمة هذا العهد المأخوذ اهتم به سبحانه لأنه مرآة الكمال المطلق، و قد أظهره سبحانه في كتابه الكريم لمصالح كثيرة.

و غاية ما يمكن أن يقال انه حادث مسبوق بالعدم، و لكنه أبدي دائم بدوام اللّه تعالى، تتبدل صوره بحسب تبدل النشئات، فان العلم الازلي الأتم الأكمل الذي هو عين ذاته الأقدس من جملة مراتبه، حيث يكون الكل فيه واحدا، و مجردا عن الزمان و المكان.

و له مراتب كثيرة ففي مرتبة يكون في مقام العلم بالنظام الأحسن و في مرتبة اخرى عهد و عمل، و في مرتبة ثالثة جنة و رضوان، كما انه الغاية من بعث الأنبياء و الرسل، و خلق الجنة و التحذير عن النار، و يصح أن يعبر عنه بالفلسفة العملية المعروفة بين الفلاسفة الإلهيين، كما انه التجلي الجلالي و الجمالي، و عالم الجمع مقابل عالم التفريق - و هو العالم الذي نحن فيه - إذا لوحظ الجمع و التفريق بالمعنى الاضافي النسبي و هو الفطرة التي فطر اللّه عليها و الوجوه الجامعة بين جميع الأديان الإلهية، فيكون التخلي عنها خروجا عن الفطرة و فيه فساد العالم، و خسران بني آدم، فلا يفيد الإنسان شيئا آخر غيره، كما قال تعالى في آخر الآيات المتقدمة «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» .

ص: 133

بحث عرفاني

لا ريب في أن الإنسان أشرف الموجودات بل هو اجلّها و أعظمها فهو النوع الأتم الأكمل لسائر الأنواع الممكنة، و كيف لا يكون كذلك و قد تباهي اللّه عز و جل به على سائر المخلوقات في قوله تعالى «فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ» في نظام خلقه الجسماني فضلا عن روحانيته المقدسة التي خرّت الاملاك ساجدة لها، فهو مظهر جميع النشئات الممكنة في عالمي الغيب و الشهادة، و في مثل هذه الأعجوبة التي حارت العقول فيها لا بد أن يتجلى اللّه تعالى لها في كل نشئاته، فان المعية التي أثبتها سبحانه و تعالى للإنسان في قوله: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ» ليس المراد بها المعية الزمانية أو المكانية في عالم الدنيا فقط، بل المعية المطلقة في كل العوالم، فان للّه تعالى أطوارا من التجليات منها عالم الميثاق، و منها عالم الذر، و عالم الشهادة، و قد حصلت من هذه التجليات جذبة روحانية للإنسان الى اللّه تعالى، فهو عز و جل محبوبه في تمام حالاته و جميع نشئاته، و لكن الحجب الجسمانية الظلمانية تحجبه عن الوصول الى المحبوب، و في عالم الميثاق تجلى اللّه تعالى فيه و أخذ عز و جل من الإنسان العهود المؤكدة بالنسبة الى معرفة خالقه و توحيده، و الايمان برسله و ما ينزل عليهم، ليكون على معرفة في جميع العوالم التي يرد عليها عارفا لمبدئه و معاده، و منهجه في الحياة و عاقبته، و يصح للعارف المطلع على الأسرار أن يعبّر عن عالم الميثاق بالتجلي الجمالي و الجلالي للّه تعالى، و لكن الحجب الظلمانية المانعة عن

ص: 134

مشاهدة عالم الميثاق، و حجب الابتعاد عن ما عوهد عليه الإنسان كثيرة تختلف قلة و كثرة بالنسبة إلى النفوس، ففي نفس تكون لأجل عدم فعالية القوى المدركة، و الاختصاص بالآلات الجسمانية فإنها نحو حجاب ظلماني بالنسبة إلى درك ذلك العالم. و من انسلخ عن هذه المرتبة، فقد أزال عن نفسه حجابا من الحجب، كما أن التقرب إلى ساحة الحبيب، و الدخول في تجلياته عز و جل لا يكونان إلا بالعبودية الخالصة و الخلوص لديه، و قد ذكرنا أن عالم الميثاق من مظاهر تجلياته عز و جل و الاشتغال بالوفاء بما أخذ منه العهود من آثار هذا التجلي الالهي.

ثم ان عموم قوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ» يشمل جميع المفتعلات التي ليست على طريقة الإسلام و هديه تماما فيشمل كل ما ينسب إلى الدين و لو مع الواسطة ان لم يطابق الظواهر المقدسة الشرعية، و لعله لذا ورد النهي عن التعمق في الدين، بل عدّ في بعض الروايات من جنود الجهل و النفاق فان التسليم و الاستسلام لما أنزله اللّه تعالى شيء و التعمق شيء آخر.

و الآية المباركة تنفي كل المذاهب المنسوبة إلى الطوائف الصوفية و جميع اعمال المرتاضين الذين يرتاضون على غير ظاهر الإسلام.

و بالجملة: فإنها بعمومها تنفي كل مذهب و دين غير الإسلام الذي كان عليه سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و ما بينه القرآن الكريم.

ص: 135

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَل.......

اشارة

كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ (90) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) الآيات الشريفة لا تخلو عن الارتباط بالآيات المباركة المتقدمة، فانه تعالى بعد ان بيّن حقيقة الدين الذي يجب اتباعه و انه الإسلام الذي بعث به جميع الأنبياء و أخذ عليه الميثاق، و بيّن ان غيره باطل لا يقبل منه.

ذكر عز و جل في هذه الآيات حال الكافرين به و الظالمين الذين خرجوا عن هدايته سبحانه و تعالى و اتبعوا أهواءهم و فسقوا بالخروج عن الميثاق الذي أخذ منهم، و بيّن جزاءهم بأن أوعدهم سوء العذاب

ص: 136

و سجّل عليهم لعن من في السماوات و الأرض.

و في معرض الكفر و الايمان قسّم سبحانه و تعالى الكافرين إلى اصناف ثلاثة، فمنهم من يقبل توبته إذا رجع إلى الحق و أنكر الباطل و أصلح نفسه و اتبع الإسلام، و منهم من ضل عن الصراط المستقيم و اصرّ على الكفر و توغل فيه، فهؤلاء أفلتت منهم الفرصة فان اللّه لا يقبل توبتهم و منهم من مات على الكفر و لم يؤمن به تعالى فلن تقبل منهم فدية و لو كانت ملء الأرض ذهبا فإنهم مخلدون في العذاب و ما لهم من ناصرين.

التفسير

قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ .

كيف لفظ استفهام يفيد الاستبعاد و الجحد و الإنكار. و يراد به استحالة الهداية نظير قوله تعالى: «كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ» التوبة - 7 أي: يستحيل ان يكون لهم العهد.

و المعنى: انه لا طريق لهم يهديهم إلى الحق الا ما يريده اللّه عز و جل و قد كفروا به لأنه تعالى اقام الدلائل الواضحة و الحجج القويمة على الدين الحق و هم قد تركوه و اعرضوا عنه باختيارهم فهم قد ابعدوا أنفسهم عن الألطاف الإلهية، و التوفيقات الربانية التي هي سنة اللّه تعالى في هداية البشر إلى الحق و قد حرموا أنفسهم عن الكمال.

و الآية الشريفة و ان كانت تستعد الهداية عنهم مطلقا، و لكن

ص: 137

ذيل الآية يدل على ان الهداية تستحيل مع تلبسهم بالظلم قال تعالى:

«وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ» فان الوصف فيه مشعر بالعلية اي لا يهديهم مع وجوده فيهم لأنه من الجمع بين النقيضين المستحيل عقلا فإذا رجعوا عنه بالتوبة الصادرة عن القلب فلا ينافي هدايته عز و جل لهم.

و في الآية الشريفة إيئاس للنبي (صلى اللّه عليه و آله) من ايمانهم لأنهم رأوا الهدي فنكبوا عنه و شهدوا الحق فاعرضوا عنه فاستحقوا جزاء الظالمين بطبيعة اختيارهم.

قوله تعالى: وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ .

عطف على معنى الفعل في «إِيمانِهِمْ» اي بعد ان آمنوا و شهدوا ان الرسول حق. و الواو للحال و الجملة حالية بتقدير (قد).

و المراد بهم إما اهل الكتاب فتكون شهادتهم هي الاعتراف بالدلائل الواضحة على صدق الرسول كما يدل عليه قوله تعالى:

«وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» أو اهل الردة، فشهادتهم تكون إقرارا منهم بالرسالة عن معرفة بحقيقة الرسول و صدق ما جاءتهم البينات فلا يكون إقرارهم إقرارا صوريا.

قوله تعالى: «وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» .

البينات - جمع بينة مؤنث البين - و هي الدلائل الواضحة و الحجج القويمة و البراهين الناطقة على حقية الرسول و صدقه سواء كانت هذه الدلائل هي الآيات القرآنية الدالة على صدق الرسول و صحة دعواه، أو المعجزات الباهرات، أو البشارات التي وردت في الكتب السماوية و صدقها العارفون بها فيكون كفرهم بعد وضوح الحق و قيام

ص: 138

الحجة مكابرة للحق و عنادا منهم معه و عن بغي و لذلك كانوا ظالمين و قد استحبوا العمى على الهدى و آثروا الظلام على النور.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

برهان قويم على عدم هدايتهم، و قد أقام عز و جل الوصف (الظالمين) مقام الضمير لبيان العلة في حرمانهم عن الهداية و هي الظلم الذي هو العدول عن الطريق الذي يجب سلوكه في الاهتداء إلى الكمال المنشود، و لا يهتدي معه صاحبه إلى الفلاح و النجاح. و لكن ذلك لا ينافي هدايته عز و جل لهم بعد رجوعهم عن الظلم و تبريهم من الكفر.

ثم ان الظلم إما ان يكون قبل الدخول إلى الإسلام فيمحى بالإسلام و لا يبقى له اثر فان الإسلام يجب ما قبله. و إما ان يكون بعد الإسلام مع البقاء على الظلم و التلبس به فيكون الإسلام منه صوريا و من مجرد الإقرار اللساني و لا يترتب على هذا الإسلام اثر بل يترتب عليه آثار الكفر و النفاق، أو يكون الظلم مسبوقا بالإسلام و هو الارتداد، أو يكون مسبوقا بالإسلام ثم لا يزول حتى يموت. و قد ذكر سبحانه و تعالى هذه الأقسام في الآيات اللاحقة بعد اجمالها في هذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ .

أولئك مبتدأ، و جزاؤهم مبتدأ ثان و جملة «أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ» خبر المبتدأ الثاني، و الجملة من المبتداء و الخبر خبر للمبتدأ الاول.

و استحقاقهم هذا الجزاء و هو لعن جميع من في السموات و الأرض

ص: 139

لخبث ذواتهم و انطباع قلوبهم على الكفر، فهم آيسون من رحمة اللّه تعالى مطرودون عن هدايته و توفيقاته، و لان الخارج عن الهداية و المارق عن الانسانية الكاملة التي خلق اللّه تعالى الإنسان لأجلها يستحق لعن كل لاعن و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ» البقرة - 159 ما يتعلق بعود جميع اقسام اللعنة عليهم و المقام تفصيل لما أجمله عز و جل هناك.

و لعن اللّه تعالى لهم طردهم عن رحمته و الدخول في سخطه كما ان لعن الملائكة هو الدعاء عليهم باللعنة، و اللعن من الخلق السبّ و الدعاء عليهم، و قد اذن عز و جل للناس بالدعاء عليهم باللعنة و هم إما المؤمنون خاصة فهو واضح لأنهم يلعنون الكافرين أو المطلق فلان كل واحد من افراد الإنسان يعلم بأن من لم يتبع الحق يستحق اللعن بل يلعن نفسه في حاق الواقع أيضا لأنه يعلم ان خلاف الحق باطل و لكن جهله المركب منعه عن درك ذلك.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها .

اي في اللعنة و الطرد عن رحمة اللّه تعالى، و اللعنة عليهم تستلزم دخولهم النار، فيمكن إرجاع الضمير في «فيها» إلى النار المستفاد من السياق، إذ لا فرق في رجوع الضمير إلى السبب التام أو المسبب منه.

و الجملة حال من الضمير في «عليهم». و خلودهم فيها إيئاس لهم عن الهداية و التوفيق لملازمتهم للظلم.

قوله تعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ .

بيان للخلود الذي استحقوه لخبث في ذواتهم و رسوخ حب الظلم في نفوسهم فالعذاب يدوم بدوام علته.

ص: 140

قوله تعالى: وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ .

الانظار الامهال، كناية عن انهم لا تنالهم الرحمة و لا يؤخر عنهم العذاب يوم القيامة فان المسبب لا يمكن ان يتخلف عن السبب الذي هو الظلم و خبث الذات.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا .

استثناء ممن ذكر سابقا، و المراد من «بعد ذلك» من بعد الكفر و «أصلحوا» اي صاروا صالحين و أتوا بالعمل الصالح - كقولهم «أغدّ البعير اي صار ذا غدة» - بقرينة سائر الآيات التي جمع فيها بين الايمان و العمل الصالح و البقاء عليه.

و المراد من التوبة البقاء عليها قلبا و عملا، فان الذنب كبير لا يكفي فيه مجرد الندم بل لا بد من كون التوبة نصوحا يظهر أثرها على الجوارح.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

اي: فان اللّه يغفر لهم ذنوبهم ليزكي به نفوسهم و يرحمهم بالرضا و الثواب و الدخول في رضوانه و جنته.

و الجملة تعليل لما دل عليه الاستثناء وضع فيها العلة موضع المعلول تأكيدا، و لبيان ان رحمته و مغفرته لازمتان لمن كان أهلا لهما.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً .

بيان للصنف الثاني من الكافرين و هم الذين انغمروا في الضلالة و الكفر بعد ظهور الحق و تمام الحجة، فانه لا سبيل لهم للصلاح و لا مطمع في اهتدائهم فلا يهديهم اللّه تعالى و لا تقبل توبتهم بعد الكفر لاستهزائهم بالدين و احكام الشرع المبين فهم أصروا على العناد و صدوا

ص: 141

عن سبيل اللّه تعالى و أحلوا نفوسهم دار البوار و ازداد الطغيان في نفوسهم لممارستهم الملكات السيئة.

و من ذلك يعلم ان ذكر هذا الصنف بعد قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» يكون من تطبيق الكلي على بعض مصاديقه فلا مجال للاشكال في عدم قبول التوبة، لمنافاته للآيات الكثيرة الدالة على قبول التوبة مطلقا قال عز و جل: «وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ» الشورى - 25 و كذا السنة الشريفة الدالة على قبول التوبة حتى قبل حضور الموت و قد تقدم في بعض مباحثنا تفصيل ذلك.

و ملخص الكلام: ان التوبة مقبولة مطلقا الا إذا أسقط التائب نفسه عن قبولها و هذا الصنف و ما ياتي من هذا القبيل. نعم لو آمن ثم ارتد و كفر ثم تاب فعن جمع من الفقهاء تبعا لبعض الروايات عدم قبول توبته أيضا. لكن صرح المحققون منهم تبعا للعمومات و الإطلاقات بقبول توبته أيضا الا في الاحكام المختصة كقتله، و بينونة زوجته، و تقسيم تركته بين و رثته. و لكن هذا الفرد (الفطري) خارج عن مفهوم الآية الشريفة إذ ليس فيه العلة في عدم قبول توبته و هي الازدياد في الكفر، بل هو كفر واحد بعد الايمان.

قوله تعالى: لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ .

نفي مؤبد لقبول التوبة في المستقبل، لأنهم ازدادوا كفرا و أصروا على العناد و اللجاج و هم على ضلالة فلا تقبل توبتهم.

و انما عدل سبحانه و تعالى عن قول «لا تقبل توبتهم» إلى «لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ» للاشارة إلى ان توبتهم المستقبلة و المتأخرة لن تقبل

ص: 142

منهم ابدا. لأنها لا تصدر عن خوف من اللّه تعالى، بل هي تصدر عن نزعات النفس الامارة و الاستهزاء بالحق، و الا فان التوبة الصادقة المنبعثة عن الخوف من اللّه عز و جل و التقوى مقبولة حتى قبل حضور الموت كما هو ظاهر اطلاق الآيات الشريفة و صريح جملة من الروايات.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ .

الضالون المخطئون طريق النجاة و المعرضون عن الحق اي هم كذلك في مدة حياتهم، و من تحقق الحصر، و إتيان الإشارة البعيدة (أولئك) و تأكيد الجملة بالضمير المنفصل (هم) و وجود اللام في الخبر و اسميته كل ذلك يدل على تأكيد الضلال و تمكنه فيهم و هو راسخ فيهم فلا يرجى هدايتهم.

و الآية الشريفة تشمل على علة عدم قبول توبتهم و هي الضلال الناشئ من ازدياد الكفر.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ .

هؤلاء هم القسم الثالث من اقسام الكافرين و هم الذين لا تقبل توبتهم لأجل انهم ماتوا على الكفر و العناد و موتهم على الكفر كناية عن فوت التوبة عنهم في مدة حياتهم بخلاف الطائفتين السابقتين، فان الاولى ثابت عن الكفر توبة نصوحا و لم تعد اليه و الثانية تابت عن الكفر ثم رجعت إلى الكفر و ازدادت كفرا، و هذه الطائفة لم تتحقق منهم التوبة في مدة حياتهم ابدا فلا يستحقون المغفرة و الرحمة و لا يهديهم اللّه تعالى في يوم القيامة و ان حاولوا الافتداء عما فعلوه في الدنيا لتقبل توبتهم.

ص: 143

قوله تعالى: فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ اَلْأَرْضِ ذَهَباً .

ملء الشيء (بالكسر) مقدار ما يملؤه و في الدعاء «لك الحمد ملء السموات و الأرض» و معناه لو قدر ان تكون كلمات الحمد أجساما لبلغت من كثرتها ان تملأ السموات و الأرض فالمراد التمثيل لكثرة العدد و الا فالمكان ليس ظرفا للكلام و إن كان ظرفا للمتكلم.

و الملاء (بالفتح) مصدر ملأه ملأ.

و قد شبه عز و جل الأرض بالإناء الذي يملأه الذهب فتضمن الكلام استعارة بليغة، و انما ذكر عز و جل ملء الأرض ذهبا لأنه غاية ما يعظم عند الإنسان فيبذله للخلاص.

و انما دخلت الفاء في خبر «إن الذين كفروا» هنا و لم تدخل في الآية السابقة مع ان الآيتين سواء في ذلك، لخروج المبتدأ - في المقام - باعتبار صلته مخرج الشرط بخلاف الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ لَوِ اِفْتَدى بِهِ .

اي: و لو قدم ذلك بعنوان الفداء في الآخرة، و انما ذكره سبحانه و تعالى في هذه الطائفة دون السابقة لان الفداء استنقاذ محبوب بمال و قد فاتتهم التوبة في الدنيا فلا يمكن استنقاذها في الآخرة بشيء و ان بلغ في نظر الإنسان ما بلغ في العظمة، و فيه غاية التهويل و التخويف لأنه لا خلاص لهم من الوعيد.

و الواو في «وَ لَوِ اِفْتَدى» قيل انها للمصاحبة للشرط تستدعي شرطا آخر يكون الخبر المذكور منبها عليه بالطريق الاولى، ففي المقام إن افتدائهم بملء الأرض ذهبا من اكثر الاحتمالات بقبول الفدية فإذا لم يقبل فالاحتمالات الاخرى اولى بعدم القبول، و مثل ذلك كثير في

ص: 144

الفصيح من الكلام، فتكون «لَوِ» منبّهة على ان ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء و ما بعدها يكون أقوى الوجوه بالقبول، فلا يندرج في ما قبلها. فهذا التركيب يفيد هذا المعنى الدقيق.

و قيل: ان الواو للعطف و التقدير اي التفصيل بعد الإجمال.

و يمكن ارجاعه إلى السابق. و يحتمل ان يكون هذا التركيب لبيان غاية التهويل و التخويف. و الظاهر ان بين جميع ما ذكر في المقام تلازم في الجملة.

قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

مبالغة في التحذير، و نهاية بعدهم عن التوبة و استعدادهم لها و إيئاسهم عن جميع ما يمكن ان يتوسل به لدفع العذاب.

قوله تعالى: وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ .

نفي للانتفاع بالشفعاء الذين قد يتشفعون بهم في دار الدنيا و ينصرونهم فلا تلحقهم الشفاعة المعدة لأهل الذنوب و المعاصي في يوم القيامة.

و (من) تدل على استغراق النفي و عمومه لجميع افراد الناصرين لكل واحد منهم و لجميعهم بالأولى.

بحث دلالي

يبين عز و جل في قوله تعالى: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا..» قاعدة كلية أثبتها علماء الفلسفة العملية - و ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم - و استدلوا عليها بأدلة كثيرة عقلية و نقلية و هي ان للرذائل

ص: 145

النفسانية انما ترسخ في النفس بممارستها و مزاولتها و عدم الاعتناء برفعها و إزالتها و تطهير النفس عنها، فإذا رسخت لا تزول الا بصعوبة شديدة و متاعب مريرة بل لا يمكن زوالها في بعض النفوس و ان أمكن تخفيفها و لكنها تعود بين حين و آخر و تظهر آثارها، لكون أصلها في الذات، فإذا رسخ الكفر مثلا في النفس فانه لا ينفعه الايمان فلو آمن و شهد الحقيقة و الرسول و آياته و بيناته ثم كفر يكشف كفره هذا عن رسوخ ملكة الكفر في نفسه و لا تزول الا بالتطهير اي التوبة النصوح المقارن مع الصلاح و الإصلاح. و لأجل هذا أكد سبحانه و تعالى على الصلاح في هذه الآية الشريفة. و هي كبرى تنطبق على الأقسام التالية التي يذكرها سبحانه و تعالى في ذيل الآية المباركة، كما عرفت في التفسير، فيكون لفظ «كَيْفَ» للتعجب الانكاري اي الامتناع العادي.

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى. «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ - الى قوله تعالى - إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا» قيل نزلت الآيات في رجل من الأنصار يقال له الحارث بن سويد بن الصامت و كان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا و هرب و ارتد عن الإسلام و لحق بمكة ثم ندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هل لي من توبة؟ فسألوا فنزلت الآيات المتقدمة فحملها اليه رجل من

ص: 146

قومه فقال: اني لأعلم انك لصدوق و ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أصدق منك، و ان اللّه تعالى اصدق الثلاثة و رجع الى المدينة و تاب و حسن إسلامه» و قال الطبرسي و هو المروي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام).

أقول: روى قريبا منه السيوطي في الدر المنثور.

و في الدر المنثور أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ارتد رجل من الأنصار عن الإسلام و لحق بالشرك فندم فأرسل الى قومه ان يسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هل لي من توبة فاني ندمت؟ فنزلت: «كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ - الى قوله تعالى - إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا» فكتب بها قومه اليه فرجع فاسلم».

أقول: يمكن أن يكون سبب النزول متعددا.

و في الدر المنثور عن عطاء في قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ» قال: «نزلت في اليهود كفروا بعيسى و الإنجيل ثم ازدادوا كفرا ببعثة محمد (صلى اللّه عليه و آله) و القرآن».

و في اسباب النزول للواحدي عن أبي العالية في الآية: «انها نزلت في اليهود و النصارى كفروا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) بعد ايمانهم بنعته و صفته ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً بإقامتهم على كفرهم».

أقول: بعد كون دين اللّه واحدا في اصل التوحيد و النبوة و المعاد فلا فرق بين ان آمن بني واحد ثم كفر به أو آمن صنف بني خاص أخبر بالنبي ثم كفروا بالنبي اللاحق فتنطبق الآية الشريفة على كل منهما بعد وحدة المناط فيهما.

ص: 147

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ.......

اشارة

لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اَللّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ (95) بعد ان ذكر سبحانه و تعالى جملة من احوال الكافرين، و بيّن الميثاق الذي أخذ منهم و حاجهم في ما ادعوه من الايمان. ثم سرد أقسام الكافرين و بيّن ان قسما منهم تقبل توبتهم إذا كانوا في مقام الإصلاح و أتوا بالعمل الصالح.

يذكر عز و جل في المقام ان الايمان لا بد و ان يقترن بالعمل بالاحكام الإلهية التي أنزلها اللّه تعالى على رسله و ان الميزان الصحيح هو متابعة ملة ابراهيم و نبذ الشرك و الكفر و العناد و ان من أهم مظاهر الايمان و العمل الصالح هو الانفاق في سبيل اللّه تعالى بل ان البر هو الثمرة الظاهرة للايمان فلا بد ان يقترن ذكره لان البر يكشف عن محبة اللّه تعالى و الزهد في حطام الدنيا و الرغبة الى ثوابه عز و جل و رضائه، فمن آثر شهوة المال و جمعه كان ممن آثر حب الدنيا على محبة اللّه تعالى، فالإنفاق في سبيل اللّه تعالى هو الميزان الفارق بين الايمان الحقيقي و الادعائي.

ثم بين بعض مفتريات اليهود على اللّه تعالى و فنّد مزاعمهم و وبّخهم على التعدي في احكام اللّه و الشرك به و أوعدهم العذاب.

ص: 148

التفسير

قوله تعالى: لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ .

النيل هو الإصابة و الوصول و في الحديث: «خرج بلال بفضل وضوء النبي (صلى اللّه عليه و آله) فبين ناضح و نائل» اي مصيب منه و آخذ.

و البر هو كل ما يصح ان يتقرب به الى اللّه تعالى من الخير و الإحسان و الفعل المرضي، و من أسمائه تعالى «البر» بالفتح اي العطوف على عباده ببره و لطفه و تقدم في قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ» البقرة - 177 بعض ما يتعلق باشتقاق هذه الكلمة.

و المشهور ان الخطاب للمؤمنين و لكن يمكن ان يكون الخطاب للجميع لا سيما بعد ورود هذه الآية بعد الآية التي بينت اقسام الكافرين و ما سيذكره عز و جل من بيان خلاف اليهود و افترائهم.

و المراد بنيل البر هو الدخول في زمرة الأبرار و الوصول الى الدرجات العالية و الثواب الجزيل الذي أعده اللّه تعالى لهم، و قد اختلف المفسرون في المراد بالبر الذي يناله المنفق في المقام، فقيل انه الجنة، و قيل انه بر اللّه تعالى و إحسانه، و قيل غير ذلك و لكن كل ذلك يرجع الى ما ذكرناه، و ما ذكروه يكون احد افراده.

و البر كما يشمل الأفعال الخيرة كعبادة اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل

ص: 149

أيضا ما هو فعل القلب كالايمان باللّه عز و جل و كتبه و رسله، و الاعتقاد الحق، و النية الصادقة، و تهذيب النفس بمكارم الأخلاق و يدل عليه قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177. فانه تعالى جمع القسمين من البر: الأفعال القلبية و الأفعال الجوارحية.

كما أن الانفاق عام يشمل الانفاق من الأموال و غيرها، و لكنه بقرينة ما يأتي يختص بتلك الأشياء التي يرغب إليها الإنسان و يعتز بها الإفراد و يهواها و يحبها، و هو يعم المستحب و غيره، و لا معنى للنسخ حينئذ، لان وجوب بعض افراد الانفاق لا ينافي استحباب بعضها الآخر.

و انفاق المحبوبات و المشتهيات في سبيل اللّه تعالى من أعظم ما يختبر به الايمان الصحيح عن الايمان الفاسد، لان فيه يظهر الاعتزاز بالإيمان باللّه و محبته عز و جل التي لا بد أن تعلو على محبة الأموال و غيرها التي يعتز بها الإنسان و تشح بها نفسه و يرغب في ادخارها، فهو كاشف عن رضى اللّه تعالى و الرغبة في ثوابه و الايمان الصادق، فيكون الانفاق في حبه برا يرضاه اللّه تعالى بالشروط التي ذكرها عز و جل في آيات الانفاق في سورة البقرة.

و ذكر بعض المفسرين انه يفهم من الحصر المستفاد من النفي و الإثبات - اي: من اثبات البر في الانفاق و نفيه عن غيره، و ان الانفاق غاية لا ينال البر الا بها - أن من أنفق مما يحب كان برا و ان لم

ص: 150

يأت بسائر شعب البر من الايمان بجميع أركانه.

و لكنه باطل لان هذه الآية بانضمام سائر الآيات الواردة في الانفاق يستفاد منها ان انفاق المحبوب هو احد اركان الايمان، و قد جمع سبحانه و تعالى الانفاق مع سائر اركان الايمان و شعبه في سورة البقرة آية - 177. و انما جعل الانفاق غاية لنيل البر هنا للاهتمام به لما يترتب عليه عظيم الفائدة، و لما فيه الآثار الكبيرة التربوية و النفسية و الاجتماعية و لان الانفاق من أهم الاساليب في ترويض غريزة النفس في حب الدنيا و ما فيها بحيث يكون فقد المال موجبا لتألمه بخلاف غيره، كما قال علي (عليه السلام): «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب»، و قد تقدم في آيات الانفاق في سورة البقرة بعض ما يتعلق به.

يضاف الى ذلك ان قوله «مِمّا تُحِبُّونَ» يدل على ان الشيء الذي يبذل لا بد أن يكون مرضيا للّه تعالى فان الشيء الزهيد الذي لا ترضونه لا يدخل في الانفاق المحبوب، لان القصد هو التقرب الى اللّه تعالى و ابتغاء وجهه الكريم و هو من احد طرقه و بقية الأركان هي من شروطه.

و من جميع ذلك يستفاد ان الالف و اللام في «اَلْبِرَّ» إما للحقيقة اي حقيقة البر التي بيّنها عز و جل في مواضع كثيرة من القرآن الكريم أو للعهد اي ذلك البر المعهود الذي جعله اللّه تعالى للأبرار و هم المؤمنون الصادقون المتقون.

قوله تعالى: وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اَللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .

ترغيب للإنفاق، و ترهيب عن تركه و تطييب لنفوس المنفقين

ص: 151

و إخلاصهم و يجازيهم على ذلك و يضاعف لهم الجزاء، كما وعدهم به فلا يخشى احد بعد ذلك عن الانفاق، و لكن لا بد من الإخلاص فيه ليفوز بالجزاء الأوفى.

و ترشد الآية الشريفة إلى حسن الإخفاء في الانفاق و الحث عليه، فان اللّه تعالى عليم به و ان خفي عن الناس و لم يعلم به سوى المنفق.

قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ .

الطعام ما يطعم و يتغذى به و في الحديث: «ما لنا طعام إلا الأسودان التمر و الماء» و ان كان يطلق عند اهل الحجاز على البر و خاصة و ينصرف عند الإطلاق اليه عندهم، و في حديث أبي سعيد: «كنا نخرج زكاة الفطرة صاعا من طعام أو صاعا من شعير» و يأتي بمعنى المطعوم.

و الحل مصدر بمعنى المفعول كالحَل مقابل العقد و هو ضد الحرام و هما قسمان من اقسام الاحكام الخمسة التكليفية، و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله: «من أكل من حلال القوت صفا قلبه و رق و دمعت عيناه و لم يكن لدعوته حجاب».

و إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن ابراهيم و هي كلمة عبرانية مركبة، و معناها المحارب أو المجاهد في اللّه أو جندي اللّه، و قد ذكر المؤرخون من اليهود في وجه تسمية يعقوب بهذا الاسم إنه صارع اللّه أو الملاك عند فنوئيل و هو اسم موضع. و هذا مما يكذبه القرآن الكريم و العقل السليم. و اطلق على الأسباط الاثني عشر عموما، و يعرفون ببني إسرائيل و بعد ذلك صار اسما للمملكة الشمالية التي لم تكن لقبائل يهوذا و بنيامين، و لاوى، و دان، و شمعون شركة فيها. و بعد سبي

ص: 152

بابل اتخذ الراجعون من السبي إسرائيل اسما لامتهم مع ان أكثرهم كانوا من مملكة يهوذا. و في القرآن الكريم يطلق على من دان بدين موسى بن عمران.

و المعنى: كل الطعام بجميع أصولها كانت حلالا لبني إسرائيل الا ما استثناه عز و جل من تحريم يعقوب على نفسه بعض المطعومات.

و هذا الحكم ارفاقي امتناني بالنسبة إليهم كجملة كثيرة من الاحكام الامتنانية التي شرعها اللّه جل جلاله عليهم ابتداء و لكنهم ظلموا فحرم عز و جل عليهم بعض الطعام تأديبا لهم و عقوبة لما فعلوه من الجرائم كما حكي عز و جل في موضع آخر فقال: «فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً» النساء - 160.

و يستفاد من قوله تعالى «عَلى نَفْسِهِ» ان التحريم لم يكن عاما يشمل جميع بني إسرائيل بل كان مختصا به لأجل مصالح خاصة كانت تتعلق به.

و قد اختلف المفسرون في النوع الذي حرمه فنسب الى ابن عباس انه الشحم الباطن و الكليتان و زائدتا الكبد. و عن آخر انه لحوم الانعام و عن ثالث انه حرم لحوم الإبل و ألبانها و نقل الحاكم عن ابن عباس انه (عليه السلام) كان به عرق النساء فنذر ان شفي لم يأكل أحب الطعام اليه و كان تلك أحب الطعام اليه».

و لكن نقل شيخنا البلاغي انه: «لم تذكر التوراة ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا بل انما تذكر ان إسرائيل ضرب على حق فخذه على عرق النساء لذلك لا يأكل بنوا إسرائيل عرق النساء إلى هذا اليوم فتوراتهم تقول ان ذلك تشريع منهم لا من إسرائيل كما في الفصل

ص: 153

و الآية الشريفة مجملة من هذه الجهة فلم تعين شيئا و لعل الغرض من ذلك اثبات ان التحريم كان لبعض انواع المطعومات لشخص معين لا لجميع الشعب، و ان اللّه تعالى قد أحل لهم جميعها، فما تقوّله اليهود في هذا المجال افتراء على اللّه تعالى.

و قال بعض المفسرين ان المراد من إسرائيل الشعب كله كما هو شايع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب. و يرد عليه: انه استعمال غير معهود في القرآن الكريم بل عند العرب في عصر النزول، و قد ورد لفظ بني إسرائيل في ما يقرب من أربعين موردا. مع ان ذكر بني إسرائيل أولا شاهد على ان المراد من إسرائيل هو يعقوب (عليه السلام) و لا يتصور وجه لحذف المضاف من الكلمة الثانية في موضع الإبهام و الالتباس، يضاف إلى ذلك رجوع الضمير المفرد في «عَلى نَفْسِهِ» اليه فلو كان بني إسرائيل لكان الضمير ضمير الجمع.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ .

الظاهر انه متعلق ب «حرم» و المعنى: ان اللّه تعالى لم يحرم من الطعام شيئا على بني إسرائيل قبل نزول التوراة الا ما حرم إسرائيل على نفسه.

و ذكر بعض المفسرين انه متعلق ب «كان حلا». و أورد عليه بانه يلزم الفصل باجنبي و هو جملة «إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» المشعرة بتمام ما قبلها فيلزم التعقيد و الإبهام.

و أجيب عنه بانه لا يضر الفصل بالاستثناء، إذ هو فصل جائز لأنه من متممات الكلام.

و كيف كان فالمعنى على كلا التقديرين واضح و هو اثبات الحلية العامة و الحرمة الخاصة قبل نزول التوراة.

ص: 154

و الاحتمالات في الآية الكريمة ثلاثة: الاول: إن تكون الآية الشريفة مقولة قول اليهود، و من مزاعمهم الفاسدة، و يؤيده ذيل الآية المباركة «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» الذي هو في مقام الرد عليهم بالرجوع إلى توراتهم. فيصير معنى الآية:

ان بعض اهل الكتاب قالوا ان جميع المطعومات كانت حلالا لبني إسرائيل قبل ان تحرم التوراة بعضا منها و استثنوا من ذلك ما حرمه إسرائيل على نفسه من قبل ان تنزل التوراة، فنزلت هي بتحريمه.

و جميع ذلك كذب منهم و افتراء، فان التوراة حرمت الرجس عليهم كما في العدد الثالث من الفصل الرابع من سفر التثنية، و نصت في الفصل الحادي عشر من سفر اللاويين على حرمة الحيوانات البرية و المائية و الطيور، فكيف يكون الرجس حلالا عليهم قبل نزول التوراة، كما ان التوراة لم تذكر ان إسرائيل حرم على نفسه شيئا كما عرفت آنفا فما ذكروه افتراء و كذب.

الثاني: ان تكون الآية جملة خبرية في مقام الإنشاء، و هذا كثير شايع في المحاورة، و اعتمد عليه في علم الأصول، نظير قوله تعالى «قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اَللّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اَللّهُ عَهْدَهُ» البقرة - 74 و غير ذلك. و حينئذ فالآية في مقام الاستفهام الانكاري حذفت منه اداة الاستفهام لدلالة المقام عليه، فيكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» تفسيرا و اثباتا لمضمونها.

الثالث: ان يكون قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» حكاية عن قول اليهود الذي أوردته لإلقاء الشبهة على المؤمنين، و نفي كون الإسلام دين الفطرة و على ملة ابراهيم، و هي ان الرسول لو كان صادقا لما اخبر بالنسخ

ص: 155

و ان اللّه حرم الطيبات لظلمهم بعد ما كانت حلالا لبني إسرائيل و يكون قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» واردة في دفع الشبهة لإظهار كذبهم و ابطال شبههم، فأمرهم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بتعليم من اللّه عز و جل بالرجوع إلى التوراة فإنها الفصل في الدعوى ورد مزاعمهم و هي دالة على حلية كل الطعام فان أبيتم الإتيان بالتوراة و تلاوتها فاعلموا انكم المفترون على اللّه كذبا و انكم الظالمون و ان الرسول هو الصادق في دعوته و ان ملته على ملة ابراهيم.

و قد ذكر بعض المفسرين في المقام وجوها لم يقم دليل على صحتها بل بعضها خلاف ظاهر الآية الشريفة فراجع.

قوله تعالى: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .

خطاب إلى الرسول الكريم بالمحاجة معهم لإظهار حقيقة مدعاهم و أمرهم بإتيان التوراة و تلاوتها في الموارد التي حاجوا المؤمنين و افتروا على اللّه الكذب فيها ليتبين اي الفريقين على الحق و اي منها كاذب في دعواه.

و في الآية الشريفة دلالة على صحة دعوة نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فانه اخبر عن ان التوراة تدل على كذبهم و هو لم يقرأها، و هذا لا يكون الا من وحي من اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَمَنِ اِفْتَرى عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

الخطاب توبيخي للفريق الكاذب بعد المحاجة معهم و قد ذمهم عز و جل

ص: 156

بافترائهم على اللّه بعد قيام الحجة و الأمر بالكف عن الافتراء على اللّه و إلا كانوا ظالمين لأنفسهم يستحقون العقاب.

و الافتراء هو الكذب المخترع. و أصله القطع، و كأن المفتري يقطع صلة كلامه بالواقع و الحقيقة فيكون كذبا.

قوله تعالى: قُلْ صَدَقَ اَللّهُ .

اي أعلمهم بان اللّه تعالى صادق في جميع ما أخبر به و اني لم أستطع ان أنبئكم بذلك لو لا وحي اللّه تعالى اليّ فإذا عرفتم صدقي في الدعوة و اني على حق فلا بد من متابعة ديني و الاعتراف باني على ملة ابراهيم و في الآية الشريفة تثبت لدعواه و نبوته.

قوله تعالى: فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ .

تفريع على معرفة الحق و ثبوت صدق الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و انما أمرهم بمتابعة ملة ابراهيم لأنهم كانوا معترفين بملته (عليه السلام) و لبيان ان شريعته على ملة ابراهيم التي هي على دين الفطرة و المبتنية على الإخلاص للّه تعالى و التسليم لوجهه الكريم و نبذ كل أنحاء الشرك، و للإرشاد إلى ان عدم قبول الإسلام يستلزم عدم متابعة ملة ابراهيم كما تزعمون و هذه حجة اخرى على بطلان مزاعمهم و اظهار كذبهم. و إنما وصف ابراهيم بكونه حنيفا و عدم كونه من المشركين لإظهار عظيم منزلته و جلالة قدره، و لبيان ان شريعته كذلك أيضا و فيه التعريض لهم بأنهم على الشرك.

ص: 157

بحوث المقام
بحث ادبي:

الطعام: مصدر منعوت و كل مصدر منعوت يستوي فيه المذكر و المؤنث و الواحد و الجمع و هو بمنزلة الجنس. و كل في قوله تعالى:

«كُلُّ اَلطَّعامِ» لتأكيد الاستغراق المفهوم من الجنس المعرف بالألف و اللام (الطعام).

و ذكر شيخنا الأديب النيسابوري الاول (رحمة اللّه تعالى عليه) ان بعض الآيات القرآنية تجيء في النظم و الأسلوب وزان الشعر مع انه ليس ذلك مراد المتكلم. و هو يدل على نهاية الفصاحة و البلاغة و كان يعد جملة كثيرة من الآيات الكريمة منها هذه الآية الشريفة «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» التي هي من البحر السابع و هو بحر الرمل. و منها قوله تعالى: «إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ» الأنفال - 38 و هو من بحر الرجز.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول:

كلمة البر الواردة في قوله تعالى: «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ»

ص: 158

موضوعة لذات البر و طبيعته بلا اختصاص له بنوع دون آخر فتشمل البر المادي و المعنوي بجميع مراتبهما.

كما ان لفظ الانفاق كذلك فانه يشمل انفاق الماديات و المعارف الحقة و الكمالات الانسانية، و ذلك لان الألفاظ موضوعة في حد ذاتها للمعاني العامة من غير تقييد في حاق الواقع بنوع دون آخر و لا لعالم مخصوص دون سائر العوالم، و انما التقييد و التخصيص يحصل من ناحية الاستعمال بلا التفات إليهما، و قد جعل بعض الأعاظم ذلك من الأصول العقلائية النظامية و أثبتها علماء الأدب و الأصول بأدلة كثيرة فالآية المباركة بعمومها تشمل من حيث المعنى جميع ما يمكن ان يفرض من الكمالات الانسانية الفردية و الاجتماعية و النوعية و الشخصية، و هذه الآية نظير قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177 في جمعها للكمالات الانسانية و انما الاختلاف بينهما بالإجمال و التفصيل.

الثاني:

لعل وجه ارتباط قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» بآية البر من حيث المفهوم ببيان لطيف و أسلوب رفيع و هو ان غير الإخلاص و الصدق ليس من البر حتى ينفق اعتقادا كان أو قولا أو عملا فلا بد في جميع ذلك من الإخلاص و الصدق ليكون برا يقبله اللّه تعالى و يثيب عليه بالجزاء الأوفى فما ورد في الآية من الحلية و الحرمة إذا كانتا من افتعال اليهود فلا

ص: 159

ربط لها بالبر و هما خارجان عن البر موضوعا، و اما إذا كانتا من شرايع اللّه تعالى فهما عين البر فيشملهما قوله تعالى: «حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» .

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ - الآية» التعريض باليهود في انهم يكذبون و لا يصدقون و انهم لا يعلمون احكام اللّه تعالى و يستهزئون بها مع ان اللّه تعالى في مقام الامتنان عليهم و التسهيل لهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» على تحريف التوراة و انهم يكذبون في كثير من الأمور التي ينسبونها إليها و ليس المراد بالتوراة في الآية الشريفة هي التوراة المحرفة التي هي بين ايدي اليهود، بل المراد منها التوراة التي نزلت على موسى (عليه السلام) و التي لم تنلها يد التحريف فان اللّه تعالى أمرهم بالرجوع إليها و طرح التوراة المحرفة، فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي تدل على تحريفها و تنهاهم عن الكذب و الافتراء على اللّه تعالى و تأمرهم بالرجوع إلى الحق، و يشهد لذلك الآية التي تدل على انهم يفترون على اللّه الكذب بقرينة قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» .

الخامس:

يدل قوله تعالى: «فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ» على انهم هم الظالمون الذين عرفوا بتحريف احكام اللّه تعالى و تبديل آياته عز و جل و ان مقابلهم على الصدق و الحق. كما تدل عليه الآية التالية، فيكون تفريع قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» من قبيل ترتب النتيجة على المقدمات المعلومة.

ص: 160

بحث روائي

في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «لن تنالوا البر حتى تنفقوا ما تحبون» قال (عليه السلام):

«هكذا فاقرأها».

أقول: هذه قراءة اهل البيت و الفرق بينها و بين قراءة المشهور ان الاولى تبين مصداق المحبوب عند المنفق و الثانية تبين فردا من كل محبوب فيشمل المصداق أيضا.

و في المجمع عن ابن عمر قال: «سئل النبي (صلى اللّه عليه و آله) عن هذه الآية «لَنْ تَنالُوا اَلْبِرَّ حَتّى تُنْفِقُوا مِمّا تُحِبُّونَ» هو ان ينفق العبد المال و هو شحيح يأمل الدنيا و يرجو الغنى و يخاف الفقر».

أقول: وردت روايات كثيرة عن اهل البيت (عليهم السلام) في ذلك، و انما عدد (صلى اللّه عليه و آله) هذه الجهات لان كل واحدة منها من الأمور التي تورث محبة الشيء فإذا اجتمعت و أنفق المال معها كان جزاؤه أعظم و نيله للبر اكثر.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» قال: «ان يعقوب كان يصيبه عرق النساء فحرم على نفسه لحم الجمل فقال اليهود ان لحم الجمل محرم في التوراة فقال عز و جل لهم «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» انما حرم هذا إسرائيل على نفسه و لم يحرمه على الناس و هذا حكاية عن اليهود و لفظه لفظ الخبر».

ص: 161

أقول: ذكرنا سابقا المحتملات في الآية الشريفة و هذا من أحدها.

و في الكافي و تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام): «ان إسرائيل كان إذا أكل لحم الإبل هيج عليه وجع الخاصرة فحرم على نفسه لحم الإبل و ذلك قبل ان تنزل التوراة فلما نزلت التوراة لم يحرمه و لم يأكله».

أقول: لا منافات بين وجع الخاصرة الذي ورد في هذا الحديث و عرق النساء الذي ورد في الحديث السابق لإمكان اجتماعهما، و يظهر منه ان التحريم لم يكن تحريما شرعيا بل كان تنزيهيا لأجل ذلك العارض.

و معنى قوله (عليه السلام): «لم يحرمه و لم يأكله» اي لم يحرّمه إسرائيل بعنوان التشريع السماوي و لكنه لم يأكله خيفة من عروض ذلك العارض عليه. و يحتمل ان يرجع الضمير فيهما إلى موسى (عليه السلام) المدلول عليه بقوله تعالى: «فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ» .

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ» قال أبو روق و الكلبي نزلت حين قال النبي (صلى اللّه عليه و آله): «انا على ملة ابراهيم فقالت اليهود كيف و أنت تأكل لحوم الإبل و ألبانها؟! فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله):

كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه فقالت اليهود كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه فانه كان محرما على نوح و ابراهيم حتى انتهى إلينا فانزل اللّه عز و جل تكذيبا لهم: «كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ» .

أقول: على فرض اعتبار الرواية فان ما ورد فيها يكون من جملة الاحتمالات التي ذكرناها سابقا و تقدم ان مقالة اليهود كذب و افتراء.

ص: 162

بحث عرفاني

من أفضل البر و أهمه هو الانقياد لأوامر اللّه تعالى و أطاعته في كل ما شاء و أراد، و التفاني في مرضاته عز و جل الذي هو آخر حد الإمكان و أول حد الوجوب، كما ان أعلى المحبوبات عند الناس هو حب الجاه و الشرف و العزة، و لا بد من انفاق هذا المحبوب في ساحته جل جلاله لينال العبد الغاية القصوى من البر بالمعنى المطلق و عليه سيرة اولياء اللّه المخلصين و نسب إلى سيدهم علي (عليه السلام):

«الهي كفى بي عزا ان أكون لك عبدا و كفى بي فخرا ان تكون لي ربا أنت كما أحب فاجعلني كما تحب» حيث لم يجعل لنفسه عزا و لم ينسب إليها فخرا مقابل جلال اللّه تعالى و عظمته، و ما ورد في هذا المعنى من اولياء اللّه اكثر من ان يحصى.

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْ.......

اشارة

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ (97) بعد ما ذكر سبحانه ان البر لا ينال إلا بالإنفاق في سبيل اللّه عز و جل و ان البر يشمل جميع ما ينفقه في سبيله تبارك و تعالى - عملا كان أو مالا أو جاها أو المعارف الحقة الإلهية، و بين سبحانه بعض مفتريات اليهود

ص: 163

و ادعاؤهم الكذب على اللّه عز و جل في نسبة الاحكام اليه تعالى. و كان الواجب عليهم نيل البر بإتيان الوظائف التي قررها اللّه تعالى في التوراة التي أنزلها على موسى (عليه السلام) و اتباع ملة ابراهيم (عليه السلام) حنيفا.

و في هذه الآيات الشريفة يقرر تعالى مظهرا آخر من مظاهر البر و هو تعظيم بيت اللّه الحرام الذي هو أول بيت تحقق فيه الهدى و دين الحق و تضمن شعار الوحدة لجميع الأديان السماوية في عبادة الواحد الأحد، و الذي فيه آيات بينات تدل على منزلته العظيمة في الملة الحنيفية التي أمرنا باتباعها. و ان اليهود و غيرهم من اهل الكتاب إن كانوا حريصين حقا على ديانة اوائلهم و مناسكهم و آثارهم فلا بد لهم من تعظيم هذا البيت المبارك الذي فيه للناس هدى و للخائف أمن و ان محمدا يدعوهم إلى البيت الذي دعى ابراهيم اليه.

و قد امر اللّه تعالى الناس بالحج اليه إذا توفرت فيه الشروط المعتبرة و ان من اعرض عن ذلك كان من الكافرين لنعمة عظيمة و أنكر حكما الهيا.

و في الآية الشريفة التعريض باهل الكتاب و لا سيما اليهود الذين طعنوا في نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) عند ما امر المسلمين بالتوجه إلى الكعبة و اعترضوا على هذا الحكم بأن بيت المقدس أعلا شأنا و أعظم منزلة من الكعبة و انه قبلة الأنبياء و منهم ابراهيم (عليه السلام) الذي يدعى الرسول انه على ملته، فان استقبال الكعبة أعراض عن ملته و نسخ لها و هو محال عند اليهود، فرد عز و جل عليهم و أنكر هذه الشبهة بإثبات المنزلة العظيمة و الشأن الكبير لبيت اللّه الحرام و السبق الزماني له على بيت المقدس، و جعل الآية على ذلك انه مبارك و ان فيه مقام ابراهيم (عليه السلام) بخلاف بيت المقدس الذي لم

ص: 164

يحدث إلا بعد ابراهيم (عليه السلام).

للتفسير

قوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ .

الأوّل من الأول و سمي أولا لرجوع غيره اليه و هو كثير الاستعمال في الكتاب و السنة. و الأولية من الأمور الاضافية تستعمل بالنسبة إلى الزمان و المكان و الشرف و الرتبة و الوضع و غير ذلك و قد اجتمعت جميعها في البيت الحرام فانه أول مكان خلقه اللّه تعالى ثم مدّ منه بقية الأرض كما دل عليه النقل الصحيح، و أول من حيث الزمان إذ لا بيت عبادة قبله و أول من حيث الشرف و العبادة لأنه كان معبدا للملائكة.

و البيت معروف و تقدم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 و قد أضاف عز و جل البيت تارة إلى نفسه، فقال:

«وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» البقرة - 125 و قال تعالى حكاية عن ابراهيم:

«رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ» ابراهيم - 37. و اخرى: للناس كما في المقام. و ثالثة أطلقه قال:

«فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا اَلْبَيْتِ» قريش - 3 و قال تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ» البقرة - 127 و المراد به الكعبة المقدسة لقوله تعالى: «جَعَلَ اَللّهُ اَلْكَعْبَةَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ» المائدة - 97 و بقرينة قوله تعالى: بعد ذلك «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و هي الموضع الذي يزدحم

ص: 165

الناس فيه و هو الكعبة التي يزدحم الناس عندها لأداء العبادة من الصلاة و الطواف.

و الوضع هو الجعل و الإثبات و هو عام أيضا يشمل جميع انواع الجعل و الإثبات.

و «لِلنّاسِ» متعلق ب «وُضِعَ» و اللام فيه للغاية.

و المعنى: ان أول بيت جعله اللّه تعالى مشعرا لعبادة الواحد الأحد و شعارا لدين الحق، و قبلة للناس، وفد وصفه اللّه تعالى بأوصاف متعددة تدل على سمو منزلته و عظمته و رفعته.

قوله تعالى: لَلَّذِي بِبَكَّةَ .

مادة (بكك) تدل على التزاحم و دق العنق، و منها «تبارك القوم إذا ازدحموا» و لم ترد هذه الكلمة في القرآن الكريم إلا في هذا الموضع. و هي ارض البيت التي يزدحم الناس فيها لأداء الطواف و الصلاة و نحوهما و تذل فيها الجبابرة بالخضوع لرب العالمين.

و قد اختلف المفسرون في المراد منهما فقيل انها اسم للمسجد، و قيل انها المطاف، و قيل: انها مكة أبدلت الباء ميما لتقربهما، و قيل انها الحرم. و يمكن تصحيح الجميع بالإضافة التشريفية لان موضع البيت بكة معلوم من الآية الشريفة بلا ريب و تشمل مكة و الحرم و المطاف تشريفا.

قوله تعالى: مُبارَكاً .

حال من الضمير. مادة (برك) تدل على الثبوت و الاستقرار و في حديث الصلاة على النبي (صلى اللّه عليه و آله): «و بارك على محمد و آل محمد كما باركت على ابراهيم و آل ابراهيم» اي اثبت له و أدم

ص: 166

ما أعطيته من التشريف و الكرامة و هو من برك البعير إذا ناخ في موضع فلزمه. و برك الرجل إذا ثبت على حاله، و البركة هي ثبوت الخير و استقراره و زيادته. و منه أيضا «تبارك اللّه» اي ثبت فلم يزل و لا يزال كما يقال «بركاء الحرب» اي ثبوتها و دوامها. و البرك هو الصدر لثبوت المحفوظات فيه و في حديث علي (عليه السلام):

«القت السحاب برك بوانيها» اي صدر البنية.

و المباركة المفاعلة من البركة بالتحريك و هي الخير الثابت بالنمو و الزيادة و هي عامة تشمل البركات الدنيوية و الاخروية و قد ذكر سبحانه و تعالى كلا القسمين في آيات اخرى قال تعالى: «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ» القصص - 57 مع انه بني في واد غير ذي زرع لا ثروة فيه و لا تجارة و لا صناعة و لا زراعة، و مع ذلك عاشت فيه أقوام في سعة من العيش و تمتع من النعم و توفر فيهم الهمم العالية إلى عمرانه و اجتمعت الدواعي إلى احترامه و توقيره و إكرامه مع ما هم عليه من الاقتتال و سوء الحال. و من جهة اخرى جعله اللّه تعالى: «هدى للعالمين» يقصده المتعبدون لأداء وظيفة العبودية و يتوجه اليه المسلمون في كل وقت.

و بالجملة: فان بركة هذا البيت أظهر من ان يخفى، و يعتبر من معجزاته انه مسكن ابراهيم الخليل و مأوى الأنبياء و المرسلين في أخص عباداتهم و مهوى قلوب المؤمنين. و قد ذكر سبحانه إجمال تلك البركات في قوله حكاية عن ابراهيم (عليه السلام)، «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ اَلْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا اَلصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ اَلنّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ اُرْزُقْهُمْ مِنَ اَلثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ» ابراهيم - 37.

ص: 167

قوله تعالى: وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ .

عطف على مباركا و هذه فضيلة اخرى تدل على عظمة البيت و رفعته و له من المقامات المعنوية التي لم تكن لغيره من بيوت اللّه تعالى، و انما خصه اللّه تعالى بالذكر لأهميته مع انه يمكن شمول البركات المعنوية لها.

و هدى بمعنى هاد و انما اطلق عليه هدى لمزيد هداه و جهات الهداية فيه كثيرة فمن جهة التوصل بالقرب إلى ساحة الرحمن و الزلفى لديه لكونه مقصدا للناسكين و موئلا للعابدين و الطائفين و الراكعين لأنه جامع الناس تحت كلمة التوحيد و يحفظهم من التفرقة و الاختلاف لأنه بيت رب العالمين و هو يشعر إلى رب البيت فهو يقتضي الوحدة من جميع الجهات ففي العبادة تجتمع وحدة المعبود و العبادة و العبودية وجهة العبادة فتكون جميع الإفراد فيه كنفس واحدة في عبادتهم و عبوديتهم وجهة عبادتهم فإذا اجتمعت مع ذلك وحدة القلوب كانت الآثار عظيمة و الفوائد كثيرة.

يضاف إلى ذلك ان مكة مولد رسول الانسانية و مهبط الوحي المبين و مشرق القرآن الكريم و مبدإ الدعوة إلى دين الحق فهو هدى بجميع مراتب الهداية الدنيوية و الاخروية لجميع العالمين لا لطائفة خاصة و عالم خاص و كل واحد منهم يستفيض منه بحسب استعداداته الخاصة على نحو الاقتضاء لا العلية كما في سائر موارد الهداية قال تعالى في شأن القرآن الكريم: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» البقرة - 2 و قال تعالى في شأن الرسول العظيم: «ما مَنَعَ اَلنّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ اَلْهُدى إِلاّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اَللّهُ بَشَراً رَسُولاً» الإسراء - 94 فالهداية عناية خاصة

ص: 168

هي أخص من البركة، فان المشاعر العظام بذاتها هدى للناس إذ لا معنى للمشعرية للّه تعالى إلا الهداية المحضة.

قوله تعالى: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ .

بينات جمع بينة و هي الواضحة اي الدلائل الواضحات و ترتب الآيات البينات على كونه مباركا و هدى للعالمين من قبيل ترتب الدال على المدلول فإنهما لا يعرفان إلا بجعل العلامات الواضحات الكاشفات عنهما و نظير هذا ورد في شأن القرآن الكريم أيضا قال تعالى: «شَهْرُ رَمَضانَ اَلَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ اَلْقُرْآنُ هُدىً لِلنّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ اَلْهُدى وَ اَلْفُرْقانِ» البقرة - 185.

قوله تعالى: مَقامُ إِبْراهِيمَ .

بعد ان ذكر سبحانه و تعالى فضائل البيت الشريف من كونه أول بيت وضع للناس، و كونه مباركا، و كونه هدى للناس يبين سبحانه آياته و هي: مقام ابراهيم، و أمن داخله، و الحج اليه، فتكون هذه الثلاثة بيانا للآيات البينات و شرحا لها.

و الآيات و ان وصفت بالبينات الا ان الوصف لا يرفع إبهامها من كل جهة و لذلك وصفها بما يرفع الإبهام في المقام و قد ذكر سبحانه و تعالى ثلاث آيات من بين الآيات الكثيرة التي تميز بها البيت كالحجر الأسود، و الحطيم، و المستجار و غيرها.

و انما خص هذه الثلاثة لحكم خاصة و هي تدل على منزلة البيت السامية في الشرف و كرامته عند اللّه عز و جل. و ما ذكرناه اولى من القول بان مقام ابراهيم و بقية الثلاثة بدل تفصيلي من الآيات البينات، أو القول بانه عطف بيان من الآيات فان جميع ذلك لا تخلو عن الأشكال

ص: 169

و مخالفة للقواعد المرعية في العلوم الادبية و يأتي في البحث الادبي ما يرتبط بالمقام.

و مقام ابراهيم هي الصخرة الصماء التي كان يضعها ابراهيم (عليه السلام) تحت قدميه حين بنائه للبيت الشريف، و قد اثرت فيها قدماه الشريفتان و بقي اثرهما و سيبقى ما بقي البيت الشريف.

و قد كان لهذا المقام اثر جلي يدل على عظمة البيت و عهدا أبديا على خلوص باني البيت الشريف و وسيلة لتعظيمه و توقيره جزاء خدمته للناس، و لذا أمرنا سبحانه و تعالى باتخاذه مصلّى حيث قال عز و جل:

«وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 عرفانا لجميله علينا.

و انما خص سبحانه و تعالى هذه الآية بالذكر لان ابراهيم (عليه السلام) موضع احترام جميع الأديان الإلهية و تقدير جميع الأمم، و هو أول مشرع الهي و مقنن الدستور الانساني و ان الأديان بعده انما هي على ملته و دينه و هو أبو الأنبياء العظام و هو الباني للبيت الشريف و ان مقامه محفوظ على مرّ الزمان فليس في البين آية أبين و اجلى من هذه الآية الدالة على عظمة هذا البيت الذي وضع للعبادة عند الملل الثلاثة و تحريض لهم فلا بد لاتباع سائر الأديان الإلهية من توقير البيت و تعظيمه و الاهتمام بندائه حين امر الناس بالحج اليه و التوجه اليه و الا كانوا خارجين عن دينه معرضين عن شريعته و ملته، فهذه الآية الشريفة حجة على المعاندين للإسلام و المخالفين للتوجه إلى البيت الشريف و ليس لهم اي عذر في الإعراض عن أوامره، و لعل السر في بقاء أثر قدميه الشريفتين في الصخرة الصماء هو الاقتداء به و ان يخطو الناس خطاه و العمل بإخلاص ليبقى اثره عند اللّه تعالى و في هذا العالم.

و الآية الشريفة لا غموض فيها في ان المراد منها هي تلك الصخرة

ص: 170

المعروفة عن القديم و قد ورد ذكرها في الاشعار القديمة كقول أبي طالب في لاميته:

و موطأ ابراهيم في الصخر رطبة *** على قدميه حافيا غير ناعل

و لم يشك احد في ذلك الا ما ذكره بعض المفسرين من ان المراد من المقام المكان الذي اتخذه ابراهيم (عليه السلام) للعبادة و اما الأثر فقد كانت العرب تعتقد انه موضع قدمي ابراهيم و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى» البقرة - 125 ما يتعلق بالمقام.

قوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً .

الضمير المنصوب راجع إلى البلد أو الحرم على سبيل الاستخدام بقرينة قوله تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم - 35 و قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً» العنكبوت - 67 و قوله تعالى: «نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً» القصص - 57، و الجملة عطف على سابقتها كما عرفت.

و أمن من يدخله آية اخرى دالة على شرف البيت و كان معروفا في الجاهلية و قبل البعثة فقد كانت الأقوام حول البيت الشريف على ما هم عليه من الفوضى و الوحشية و التهور في الاقتتال و العدوان و العصبية و غلظة في الأخلاق لا يمنعهم عن ذلك رادع من شريعة أو عقل، و مع ذلك كله فقد كانوا يحترمون البيت و يعظمونه و يخضعون لأمر اتفقوا عليه و هو أمن من دخل الحرم و يشير إلى ما ذكرنا قوله تعالى:

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ اَلنّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ» العنكبوت - 97 فالحكمة من يراد هذه الآية الشريفة في المقام هي تحريض المشركين إلى الدخول في الإسلام و الايمان بخاتم النبيين و العمل بشريعته.

ص: 171

كما ان الآية الاولى كانت لأجل تحريض اليهود و النصارى إلى الدخول في الإسلام و نبذ العناد و اللجاج.

و هذه الآية و هي: أمن من دخل الحرم لم تكن من قسر الطبيعة و انما كان يجعل الهي فان العناية الإلهية شملت هذا البيت استجابة لدعاء ابراهيم الخليل باني البيت في قوله: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» ابراهيم - 35 و قوله في موضع آخر: «رَبِّ اِجْعَلْ هَذَا اَلْبَلَدَ آمِناً» البقرة - 126 فكان ذلك تشريعا الهيا، و الهم الناس باحترام البلد الحرام إكراما للبيت الشريف، و ساقهم إلى قبول هذا التشريع.

و من ذلك يعلم انه لا وجه للنزاع في ان هذا التشريع إلهي أو اخبار عن خاصة تكوينية، أو هل هو تشريع عام أو خاص فان كل ذلك تطويل بلا طائل تحته بل هو تشريع الهي لم ينسخ يكشف عن حكمة وضعية و ليس إخبارا عن خاصة تكوينية.

كما ان الحكم يختص بالإنسان و تدل عليه كلمة (من) الموصولة الظاهرة في العقلاء لسياق الآية الشريفة و بقرينة الآيتين الاخريتين و هما مقام ابراهيم و الحج اليه فإنهما يختصان بالإنسان. و يمكن جعل هذا النزاع لفظيا لان العظمة تكوينية و تشريعية انشائية و اخبارية فلا موضوع للنزاع، و لكن شموله لمطلق الحيوان لا يستبعده العقل، فان عناياته تعالى كثيرة و عامة و قد نقل في أمن الحيوانات في الحرم حكايات كثيرة، و قد ورد في السنة الشريفة عدم جواز الاعتداء على الحيوان و عدم جواز قطع نباتات الحرم.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ .

جملة ابتدائية معطوفة على ما تقدم، و لا يضر الاختلاف في الخبرية

ص: 172

و الإنشائية، و اللام في (للّه) للإلزام و الإيجاب و (على) لتأكيد الوجوب كما هو معروف في مثل هذه الهيئة يقال: له عليّ كذا. و قد وكد سبحانه و تعالى الوجوب في الحج بما لم يؤكده في غيره من الواجبات.

و مادة (حجج) تدل على القصد و لكن استعمل في الحج إلى بيت اللّه الحرام لأداء النسك، و الاسم (الحج) بالكسر، و الحجة مرة واحدة. و الالف و اللام في البيت للعهد اي بيت اللّه الحرام لأداء نسك الحج المعروفة.

قوله تعالى: مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً .

بدل من الناس و سبيلا تمييز عن قوله استطاع. و استطاع فعل من الاستطاعة و هي استدعاء طواعية الفعل و تأتيه اي: أوجب اللّه على المستطيع من الناس حج البيت و من تقييد الأمر بالاستطاعة يعرف انها غير الاستطاعة العقلية التي هي شرط في كل تكليف.

و يستفاد منه و من اطلاق الآية الشريفة و عدم تقييدها بشيء ان المراد بها الاستطاعة العرفية و هي تختلف باختلاف الأشخاص.

و قد اختلف العلماء في الاستطاعة المحصلة للوجوب، فقيل انها الاستطاعة البدنية اي القدرة على المشي و الكسب و لو كان في الطريق و قيل انها الاستطاعة المالية.

و الحق انها تشمل جميع أقسام القدرة في المال و البدن و تخلية السرب و قد وردت روايات متعددة عن الائمة الهداة (عليهم السلام) في تفسير الاستطاعة بجميع ذلك و ياتي في البحث الروائي نقل بعضها ثم ان الآيات الكريمة الواردة في البيت على طوائف:

الاولى: قوله تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» الحج - 26.

ص: 173

الاولى: قوله تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْقائِمِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» الحج - 26.

الثانية: قوله تعالى: «وَ إِذْ جَعَلْنَا اَلْبَيْتَ مَثابَةً لِلنّاسِ وَ أَمْناً وَ اِتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطّائِفِينَ وَ اَلْعاكِفِينَ وَ اَلرُّكَّعِ اَلسُّجُودِ» البقرة - 125.

الثالثة: قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» الحج - 27.

الرابعة: قوله تعالى في المقام: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» و مقتضى المتفاهم العرفي ان كل آية راجعة إلى جانب من جوانب البيت الشريف، فالآية الاولى راجعة إلى تعيين مكان البيت و هندسة البناء و الحكمة في جعل المبني مرجعا للطائفين و العاكفين. و الآية الثانية راجعة إلى مقام الباني و فعليه البناء و شأنه و الحكم المترتبة عليه و يدل عليه قوله تعالى: «وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ» البقرة - 127. و الآية الثالثة راجعة إلى الدعوة إلى حج البيت المعين. و الآية الرابعة بيان لإنشاء الدعوة إلى البيت و فتح باب ضيافة اللّه تعالى هذا بحسب الواقع و الترتيب في الجعل. و اما بحسب النزول الزماني فيصح التقديم و التأخير رعاية للنظم الطبيعي، و ربما يكون الوحي إلى ابراهيم الخليل (عليه السلام) في زمان واحد و ان كان النظم بينهما طبيعيا.

و قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ» جملة خبرية مستعملة في الإنشاء و هي ابلغ في الوجوب كما أثبتناه في علم الأصول. و يمكن ان تكون الجملة إخبارا محضا عن قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ» الحج - 27 و كيف كان فالنتيجة واحدة على اي تقدير،

ص: 174

لان الأذان من اللّه تعالى و ان صدر عن خليله (عليه السلام) فيكون المشرّع واحدا الا ان مبدأ التشريع من زمان ابراهيم بل في بعض الاخبار من حين آدم (عليه السلام) و المظاهر مختلفة و أتمها تشريع خاتم الأنبياء فان الحج بلغ فيه غاية الكمال كما في سائر تشريعاته المقدسة.

قوله تعالى: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ .

تأكيد لوجوب الحج و توبيخ لتاركه اي: ان تارك الحج كافر و لا يضر اللّه شيئا فان اللّه غني عن العالمين و كفى مذمة لتاركه بان جعل تعالى مقره مقر الكافرين و هي النار. و انما أقام عز و جل الكفر مقام ترك الحج تغليظا عليه و لبيان شدة العصيان و ان فعل تارك الحج كفعل الكافرين فيكون الكفر كفرا بالفروع. ثم أعقبه عز و جل بانه غني عن العالمين لبيان كمال السخط على تاركه و الخذلان له فيكون من وضع العلة موضع المعلول.

و انما ذكر عز و جل استغناؤه عن العالمين دون تارك الحج بالخصوص للدلالة على الاستغناء الكامل و لبيان عظم السخط فانه تعالى لا تزيد في ملكه طاعة المطيعين و لا تنقصه معصية العاصين.

و ذكر بعض المفسرين ان الكفر هنا يرجع إلى جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه ابراهيم للعبادة بعد أن قامت الادلة على ذلك و عدم الإذعان لما فرضه اللّه من الحج. و لكن الظاهر ما ذكرناه و تدل عليه جملة من الاخبار الصحيحة و يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، و يمكن إرجاع ما ذكره إلى ما ذكرناه.

ص: 175

بحوث المقام
بحث ادبي:

قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» اسم إن جملة «أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» و الخبر «لَلَّذِي بِبَكَّةَ» و اللام في «لَلَّذِي» مزحلقة و انما اخبر عن النكرة بالمعرفة لتخصيص الأولى و «مُبارَكاً» حال من الضمير المستتر في الظرف. و قيل: انه حال من الضمير في «وُضِعَ» .

و قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» مرفوع إما على الاستئناف جيء به بيانا و تفسيرا للهدى، أو حال اخرى و لا بأس بحذف حرف العطف في الجملة الاسمية الحالية.

و «مَقامُ إِبْراهِيمَ» إما مبتدأ محذوف الخبر، أو خبر محذوف المبتدأ اي منها مقام ابراهيم.

و الجملة إما بدل البعض من الكل أو عطف بيان، و أشكل على الأخير بانه لا يجوز التخالف في عطف البيان في التنكير و التعريف.

كما ان عطف «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» يستلزم التقدير. يضاف إلى ذلك انه إذا عطفت جملة «لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ» على الجملة السابقة يستلزم تأويلها إلى المفرد أو التقدير، و كل ذلك مما لا يساعد عليه الكلام.

و الحق هو القول بأن جميع ذلك بيان للآيات البينات و به يرتفع الإبهام و الإجمال من الآيات و انما ذكر عز و جل كل واحدة من هذه

ص: 176

الثلاث لغرض خاض.

و اختلاف الثلاث في الخبرية و الإنشائية لا يضر بعد كون مجموعها بيانا و لا نحتاج إلى التقدير و التأويل، كما عرفت. و هذا الأسلوب من الاساليب الفصيحة و من بديع الكلام يؤتى به في ما إذا كانت الأغراض متفاوتة من الجمل الواردة في الكلام. و قد ورد مثل ذلك كثيرا في القرآن الكريم قال تعالى: «وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ. اُرْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنّا وَ ذِكْرى لِأُولِي اَلْأَلْبابِ وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ اَلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوّابٌ» ص - 44 و هناك وجوه اخرى في اعراب الجمل الثلاث مذكورة في الكتب المفصلة.

و جملة «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ» مشتملة على المبتدأ و هو حج البيت و الخبر و هو «لِلّهِ» و «عَلَى اَلنّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو بمحذوف وقع حالا من المستتر، و العامل فيه الاستقرار و قيل: إن «عَلَى اَلنّاسِ» خبر و «لِلّهِ» متعلق بما تعلق به الاول.

و «مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» بدل من الناس و الضمير محذوف تقديره (منهم). و قيل: انه خبر لمبتدأ محذوف اي (هم من استطاع).

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» على

ص: 177

عظمة البيت و شرفه و مكانته العظمى عند اللّه تعالى فقد جعل له الأولية في كل شيء كما هو ظاهر الإطلاق، فهو أول في الشرف لأنه بيت اللّه و واضعه هو اللّه جلت عظمته و لا شرف أعلى و أجل من ذلك.

و هو أول في الزمان لأنه أول بيت بني لعبادة الواحد الأحد و لم يكن قبله بيت آخر بهذا الشكل و المضمون و هو أول في المكان فان موضعه أول قطعة خلقت من الأرض كما نطقت به جملة من الاخبار و هو أول في اجتماع جملة كثيرة من الآيات العظيمة فيها و قد ذكر سبحانه و تعالى بعضا منها في الآيات التالية و مواضع اخرى في القرآن الكريم و وردت جملة اخرى في السنة المقدسة منها الحطيم، و الركن اليماني، و الحجر الأسود، و المستجار فان جميع ذلك أبواب رحمة اللّه تعالى على عباده، فهو بيت مبارك من جميع الجهات.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «وُضِعَ لِلنّاسِ» ان وضع هذا البيت قد سبق كل وضع من قبل الناس فلا يحق لاحد مزاحمته بوجه من الوجوه و لذا يؤمن الجاني الداخل إلى الحرم دون الجاني في نفس الحرم فان امنه قد حدث من وضع اللّه تعالى إياه لجميع الناس سواء. كما أن موضعه قد سبق تحديده من اللّه تعالى فلا يعارضه بناء آخر و لا يزاحمه حق ذي حق.

الثالث:

انما عبر سبحانه و تعالى «لِلنّاسِ» لبيان انه لا يختص بطائفة خاصة أو قوم معين فان الناس سواء في شرعه و قد جعله تعالى موضع رفادته لجميع افراد الإنسان يأمن فيه الخائف و يستجير به الملهوف لا يجوز لاحد منع آخر من الاستفاضة من فيضه إلا إذا ورد من قبل الشرع المبين تحديده كما بالنسبة إلى الكافر و المشرك فإنها ممنوعان من الدخول في الحرم الالهي.

ص: 178

و من مفهومه يستفاد أن لغير الإنسان بيتا آخر أيضا و قد ورد في أحاديث كثيرة ان اللّه تعالى وضع البيت المعمور للملائكة في السماء بحذاء البيت في الأرض.

الرابع:

قد أكد سبحانه أمر الحج في قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» بوجوه من الدلالة من توكيد الوجوب بصيغة الخبر و ابرازه في الجملة الاسمية و إيراده على وجه يفيد انه حق للّه تعالى في رقاب الناس لا يسعهم ان يخالفوه و يتركوه و في التعميم أولا ثم التخصيص بالابدال فان فيه التفصيل بعد الإجمال و الإفصاح بعد الإبهام كما ان فيه تنبيه المراد و تكريره و تسمية ترك الحج كفرا تغليظا عليه، ثم ذكر الاستغناء على تقدير عدم الفعل و هو دليل المقت و السخط و تعميم الاستغناء عن العالمين لما فيه من المبالغة في النكال و الترغيم و إيراد المطلب ببرهان قويم.

الخامس:

انما عمم عز و جل الحج في هذه الآية و قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ» الحج - 200 لان الدعوة إلى بيت الرب الكريم الغني المطلق لا بد ان تكون عامة من كل جهة فعن أبي جعفر (عليه السلام): «ما يقف احد على تلك الجبال من بر و لا فاجر إلا استجاب له في آخرته و دنياه و اما الفاجر فيستجاب له في دنياه» و يفتح من هذا الحديث أبواب من المعارف لعلنا نتعرض لبعضها في الآيات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.

السادس:

يستفاد من مجموع الآيات الشريفة امور تعتبر من مكارم الأخلاق التي لا بد للإنسان التحلي بها.

منها: ان البناء لا بد ان يقتصر على الحد المطلوب فلا يبالغ فيه

ص: 179

من كل جهة كما يستفاد من ظاهر قوله تعالى: «إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ اَلْقَواعِدَ مِنَ اَلْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنّا» البقرة - 127 و تدل عليه جملة من الاخبار ان ما زاد على الحاجة فهو وبال على صاحبه.

و منها: حسن الرفادة و الاستضافة و عدم منع صاحب الدار ذوي الحاجات الشرعية من الدخول في داره و مراعات الشرائط المعتبرة كما يستفاد من الآيتين «وَ اُرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ اَلثَّمَراتِ» البقرة - 127 و قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ» الحج - 28.

و منها: المبالغة في زيادة الالفة و الايتلاف بين افراد العائلة و زيارة الاخوان في البيوت كما يستفاد من الآيات الواردة في سورة الحج.

و منها: ايتمار الوارد بأوامر رب الدار و الانتهاء عن نواهيه كما يأتي في سورة الحج و يظهر من بعض الاخبار.

و منها: ان تكون الدعوة و فتح الضيافة عامتين من دون اختصاص بقوم دون قوم كما يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَذِّنْ فِي اَلنّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً» الحج - 27.

و منها: ان الدعوة لا بد ان تكون من صاحب البيت أو باذن منه كما يأتي في سورة الحج إلى غير ذلك من الأمور العقلية التي شرحها الكتاب و السنة.

السابع:

يستفاد من الآيات الشريفة اهمية الحج و عظم امره كما عرفت و هو كذلك فانه قد يتحد العامل و العمل فيه كما في حج اولياء اللّه لكثرة تفانيهم في مرضات اللّه تعالى و انقيادهم له من كل جهة فيكون بنفسه حجا اكبر يطوف حول البيت الشريف و يكون هو الحشر الأكبر يظهر في الحشر الأصغر و مثل هذا الحج يتباهى به اللّه جلت عظمته و الملائكة و المشاعر العظام. و كشف السر عن هذا المقام لا يمكن

ص: 180

ان يكون بالمقال و الكلام لما فيه تجلى اللّه تعالى.

و قد اهتم عز و جل بحرمه الأقدس بما لم يهتم به في سائر تشريعاته المقدسة، فانه ما من قلامة ظفر في هذا المكان المقدس إلا و فيها ملك متخاضع لذي الجلال، و مبهوت عن شروق مشارق ذلك الجمال، و ما من موضع شبر إلا و هو اثر قدم نبي نادى بالتلبية، و ما من موضع رجل إلا و قد دفن ولي من اولياء اللّه العظام و يكفينا ان مكة مقدم خليل الرحمن و مولد حبيب اللّه فهنيئا لمن توجه إلى تلك المحال المقدسة مصدر الخير و البركة و معلم الهدى و النور للناس أجمعين.

بحث كلامي

كل تكليف سواء أ كان خالقيا أم خلقيا لا بد و ان يتعلق بالمقدور و إلا كان تكليفا بالمحال و هو قبيح عقلا و يمتنع بالنسبة إلى اللّه تعالى و قد استدل الفلاسفة و المتكلمون على ذلك بأمور كثيرة، و يكفي في ذلك الآيات الكثيرة الدالة على ذلك قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» البقرة - 286 و غيرها من الآيات الشريفة المرشدة إلى حكم العقل.

و نسب إلى بعض الاشاعرة جواز التكليف بالممتنع الذاتي، بل وقوعه و لكن ذلك مردود عقلا و نقلا كما فصل ذلك في محله و لعلنا نتعرض له في بعض الآيات المناسبة له ان شاء اللّه تعالى.

ثم إن القدرة المعتبرة في التكاليف على أقسام ثلاثة: الاول القدرة

ص: 181

العقلية - اي الإمكان الذاتي - في مقابل الامتناع العقلي.

الثاني: القدرة التعبدية الشرعية.

الثالث: القدرة العرفية كما في جميع الأمور الاختيارية الصادرة عن الناس. و لا وجه للأول و إلا لاختل النظام و لزم العسر و الحرج في امتثال الاحكام كما لا وجه للثاني لعدم الإشارة إليها في الكتاب و السنة و ما ذكر في الاحكام من الشروط و الاجزاء أو الأوصاف يرجع إلى الثالث بل لا معنى عندنا للتعبد في الاحكام الشرعية مطلقا فضلا عن موضوعاتها لان كل ذلك يرجع إلى مقررات الفطرة و انما أشار إليها الشارع الأقدس و كشف عنها كما تقدم منا مكررا في هذا التفسير و بيناه في علم الأصول. فيتعين الأخير كما هو المستفاد من الكتاب و السنة الشريفة قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» البقرة - 286 و قال تعالى: «يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ» البقرة - 185 و قال تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» الحج - 87 و من السنة قول نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) المتواتر بين الفريقين: «بعثت على الشريعة السهلة السمحاء». و قوله تعالى: «مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ» في الآية التي تقدم تفسيرها يبين ذلك كما هو معلوم.

و من ذلك يعرف ان ما فصله جمع بين الفقهاء في المقام لا بد أن يرجع إلى ما قلناه و إلا فهو من التطويل بغير طائل.

بحث عرفاني

الكعبة المباركة من حيث مقام معنويتها ازلية و أبدية لأنها وجهة

ص: 182

التوحيد و فناء المعبود الوحيد و فيها تفاني باني البيت ابراهيم الخليل الجليل بل و تفاني جميع الأنبياء من صفيهم إلى حبيبهم، فإنهم بالطواف حول البيت الشريف يظهرون تفديتهم للعزيز المهيمن القهار، و يطرحون جميع جهات انانيتهم من الحجب و الأستار و يبرزون مقهوريتهم من جميع الجهات لرب البيت العتيق و ينسون أنفسهم و قد أتوا من فج عميق.

ترى المحبين صرعى في ديارهم *** كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

و لعل من أحد اسرار طواف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) حول البيت الشريف و هو على البعير ان هذا المقام مقام علوّ العبودية التي يفيضها اللطيف الخبير فأظهر (صلى اللّه عليه و آله) العلو الجسماني رمزا إلى العلو المعنوي الروحاني فليس المقام مقاما لعروض الدهشة على الطائف من حضرت الكبرياء و الجلال كما عن بعض العرفاء بل مقام ذل العبودية التي تشير إلى عز الربوبية و اسرار المقام كثيرة لا يحصيها القول و لا رعاف القلم.

ثم إن الحج كسائر العبادات منه ما هو ظاهري مسقط للتكليف كحج عامة الناس، و منه واقعي يوجب نيل أقصى الكمالات و الفوز بأعلى المقامات في ما إذا أراد بإحرامه ترك جميع ما يلهيه عن ربه و رأى في طوافه التفدية الحقيقية في مرضات ربه، و من سعيه الدنو إلى ساحة قربه، و أراد من رمي الجمرات طرح جميع ما لا يرتضيه الرب و من الذبح إهلاك القوى الشهوانية و افناؤها، و من صلاته في مقام ابراهيم (عليه السلام) الفوز بمقام ابراهيم الخليل و هو مقام الخلة.

ص: 183

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إن اللّه اختار من كل شيء شيئا و اختار من الأرض موضع الكعبة».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و معنى إختياره عز و جل كثرة عنايته به و يصح ان يكون هذا جهة من جهات اولية البيت.

و في الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) قال: «لما أراد اللّه تعالى ان يخلق الأرض امر الرياح فضربن وجه (متن) الماء حتى صار موجا ثم أزيد فصار زبدا واحدا فجمعه في موضع البيت ثم جعله جبلا من زبد ثم دحا الأرض من تحته و هو قول اللّه عز و جل «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» . و زاد في الفقيه:

«فأول بقعة خلقت من الأرض الكعبة ثم مدت الأرض منها».

أقول: قد شرح ذلك علي (عليه السلام) في خطبته التي أنشأها في خلق السموات و الأرض، و الاخبار في دحو الأرض من تحت البيت كثيرة و ليس في القرآن الكريم ما ينافي ذلك بل يمكن ان يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» الأولية من هذه الجهة اي أول بقعة من بقاع الأرض و دحيت بقية الأرض من تحتها.

و اما كيفية الدحو و انبساط الأرض ثم الرد إلى البيت كما في بعض الروايات فيمكن ان يكون من جهة كروية الأرض و التفصيل يطلب من محله.

كما ان ذلك لا ينافي ما نسب إلى بعض القدماء من ان الأرض

ص: 184

عنصر بسيط كسائر العناصر البسيطة فلأن قولهم هذا انما كان في البساطة العقلية لا البساطة الخارجية و لو بعد زمان على اصل الخلقة. مع ان العلماء قد اثبتوا بطلان القول بالبساطة في العناصر الاربعة و حللوا كل واحد منها إلى عناصر كثيرة ربما تبلغ إلى أربعين عنصرا منتزعه من عنصر واحد. و قد ذكر سيد مشايخنا العالم العامل الزاهد العابد سيد الحكماء المتألهين السيد حسين البادكوبي (قدس سره) في مجلس بحثه الشريف ان المراد بالبساطة في قولهم، هي البساطة الفرضية العلمية الاعتبارية لا البساطة الحقيقية الواقعية و كان يستدل على ذلك بأمور كثيرة و شواهد من كلماتهم، فلا نزاع حينئذ بين ما ذكروه و ما أثبته العلم الحديث.

و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام):

«سألته عن البيت كان يحج اليه قبل ان يبعث النبي؟ قال: نعم لا يعلمون ان الناس قد كانوا يحجون و نخبركم ان آدم و نوحا و سليمان (عليهم السلام) قد حجوا البيت بالجن و الانس و الطير و لقد حجه موسى (عليه السلام) على جمل احمر يقول: لبيك لبيك، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً» .

أقول: ما ورد في الحديث هو مقتضى الأولية في البيت الشريف.

و عن ابن شهر آشوب عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ» فقال له رجل: «أهو أول بيت؟ قال: لا قد كان قبله بيوت، و لكنه أول بيت وضع للناس مباركا فيه الهدى و الرحمة و البركة و أول من بناه ابراهيم ثم بناه قوم من العرب من جرهم ثم هدم فبنته العمالقة ثم هدم فبناه قريش».

أقول: قد ورد مضمون ذلك في روايات و المراد منه هو اولية

ص: 185

البيت للناس الذي تضمن البركة و الهدي و نحوهما. و اما الأولية بالنسبة إلى اصل العبادة فيظهر من بعض الاخبار ان مسجد الكوفة كان مصلى آدم (عليه السلام) و غيره من الأنبياء العظام و السائل انما سأل عن تقدم البيت الحرام على جميع البيوت المسكونة و الامام نفى ذلك.

و في الدر المنثور اخرج ابن المنذر، و ابن أبى حاتم من طريق الشعبي عن علي بن أبى طالب (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» قال: «كانت البيوت قبله و لكنه كان أول بيت وضع لعبادة اللّه».

و في العلل عن الصادق (عليه السلام) قال: «انما سميت مكة بكة لان الناس يتباكون فيها» اي يزدحمون.

و فيه أيضا عنه (عليه السلام) قال: «موضع البيت بكة و القرية مكة».

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام): (لم سميت الكعبة ببكة قال (عليه السلام) لبكاء الناس حولها و فيها».

أقول: لان البيت في قديم الأيام لم يكن محجوبا عن الدخول فيه و انما كان في محل الباب الستار فقط و كانوا يدخلون فيه و يبكون.

و فيه أيضا عن أبى جعفر الباقر (عليه السلام): «انما سميت بكة لأنها تبك بها الرجال و النساء و المرأة تصلي بين يديك، و عن يمينك و عن شمالك و معك و لا بأس بذلك انما يكره ذلك في سائر البلدان».

أقول: هذه استفادة لطيفة من لفظ بكة.

و في الخصال عن الصادق (عليه السلام): «اسماء مكة خمسة:

أم القرى، و مكة، و بكة، و البساسة إذا ظلموا بها بستهم اي أخرجتهم و أهلكتهم، و أم رحم كانوا إذا الزموها رحموا».

ص: 186

أقول و في بعض الأحاديث «من اسماء مكة الباسة» و البس و الحطم سميت بها لأنها تحطم من اخطأ فيها، و عن بعض أن من أسمائها «الناسة» لجدبها و يبسها أو بمعنى الطرد عنها.

و في تفسير العياشي عن عبد الصمد بن سعد قال: «طلب أبو جعفر المنصور ان يشتري من اهل مكة بيوتهم ان يزيد في المسجد فأبوا فارغبهم فامتنعوا فضاق بذلك فاتى أبا عبد اللّه (عليه السلام) فقال له: إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم و أفنيتهم أن نزيد في المسجد، و قد منعوا في ذلك فقد غمني غما شديدا فقال أبو عبد اللّه (عليه السلام) لم يغمك ذلك؟!! و حجتك عليهم فيه ظاهرة فقال و بم احتج عليهم؟ فقال بكتاب اللّه فقال في اي موضع؟ فقال قول اللّه تعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ» لما قد أخبرك اللّه ان أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة فان كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم و ان كان البيت قديما قبلهم فله فناؤه فدعاهم أبو جعفر فاحتج عليهم بهذا فقالوا له: اصنع ما أحببت».

أقول: و قريب منه رواية اخرى أيضا إلا ان فيها «لما بنى المهدي» و الظاهر ان أبا جعفر المنصور هو البادي في البناء و أتمه المهدي فلا منافاة و كيف كان ما ذكره الامام (عليه السلام) هو استدلال عقلي صحيح.

و في الكافي و تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ» قال (عليه السلام): «مقام ابراهيم حين قام عليه فأثرت فيه قدماه و الحجر الأسود و منزل إسماعيل».

أقول: الآيات كثيرة و انما ذكر (عليه السلام) بعضها.

و في الكافي عن ابن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام)

ص: 187

عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» البيت عني أم الحرم؟ قال (ع): من دخل الحرم من الناس مستجيرا به فهو آمن من سخط اللّه، و من دخله من الوحوش و الطير كان آمنا ان يهاج أو يؤذى حتى يخرج من الحرم».

أقول: أمن الوحوش و الطير انما يكون من فروع أمن الآدميين و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلق بذلك.

و في الكافي و العياشي عن عبد الخالق الصيقل قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» قال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه احد إلا ما شاء اللّه ثم قال: إن من أم هذا البيت و هو يعلم انه البيت الذي امر اللّه تعالى به و عرفنا اهل البيت حق معرفتنا كان آمنا في الدنيا و الآخرة».

أقول: الأمن و الاستيمان يكون محدودا بحدود و مشروطا بشروط و إلا فان البيت ليس أمن على كل احد حتى من يحادد اللّه تعالى و من شروطه هو معرفة اهل البيت و عقد القلب على ما هو الحق الواقع و نظير ذلك ما رواه الفريقان متواترا عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه قال: «كلمة لا إله إلا اللّه حصني و من دخل حصني أمن من عذابي» فلا ريب في ان الأمن من عذابه تبارك و تعالى مشروط بشروط كثيرة.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» قال: «يعني به الحج و العمرة جميعا لأنهما مفروضان».

أقول: ان اعمال الحج مركب من هذين و هذا واضح في حج التمتع و اما في غيره فليست العمرة واجبة إلا في بعض صور

ص: 188

حج الإفراد و ما إذا أوجب على نفسه بنذر و نحوه و اما احتمال وجوب العمرة نفسها لمن استطاع دون الحج فلا دليل عليه.

و في الكافي عن علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: «ان اللّه عز و جل فرض الحج على اهل الجدة في كل عام، و ذلك قول اللّه عز و جل: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ» قلت فمن لم يحج منا فقد كفر؟ قال (عليه السلام): «و لكن من قال: ليس هذا هكذا فقد كفر».

أقول: المراد من اهل الجدة أهل القدرة و قوله (عليه السلام) «في كل عام» متعلق بالجدة لا بقوله «فرض» اي كل من استطاع في كل عام يجب عليه الحج و حينئذ فان حج يسقط عنه الفرض و إلا فهو باق عليه.

و المراد بقوله (عليه السلام): «ليس هذا هكذا» انكار اصل الفرض و الوجوب فيكون كفرا جهتيا حاصلا من انكار حكم إلهي و واجب ضروري و لا ينافي هذا ما يأتي من تفسير الكفر بالترك لأنه لا بد من حمله على الترك التسويفي.

و في تفسير العياشي عن الصادق (عليه السلام) أيضا في قوله تعالى:

«وَ مَنْ كَفَرَ» قال (عليه السلام): «ترك».

أقول تقدم ما يتعلق به في الحديث السابق.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً» قال: «من كان صحيحا في بدنه مخلا في سربه، له زاد و راحلة فهو ممن يستطيع الحج، أو قال: ممن كان له مال فقال له حفص فإذا كان صحيحا

ص: 189

في بدنه فخلى سربه له زاد و راحلة فلم يحج فهو ممن يستطيع الحج؟ قال (ع): نعم».

أقول: قد ورد في مضمون ذلك أحاديث كثيرة و هي تبين الاستطاعة العرفية كما قلنا في المال و البدن و السرب اي الطريق فلا اختصاص للاستطاعة بأحدها كما عن بعض.

و اما سؤال حفص الكناسي انما هو بالنسبة إلى استقرار الحج بعد تحقق الاستطاعة و المسامحة في إتيان الحج و قد حكم بأن المسامحة لا تسقط التكليف بعد ثبوته و قد ذكرنا تفصيل ذلك في كتاب الحج من (مهذب الاحكام).

ثم انه قد ذكرنا جملة مما يتعلق بالبيت الشريف و بعض احكام الحج في آيات 196-201 من سورة البقرة فراجع.

و في الفقيه في وصية النبي (صلى اللّه عليه و آله) لعلي (عليه السلام) «يا علي تارك الحج و هو مستطيع كافر قال اللّه تعالى: «وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ «يا علي من سوّف الحج حتى يموت بعثه اللّه يوم القيامة يهوديا أو نصرانيا».

أقول: ذيل الحديث يبين صدره و المراد من كونه يهوديا أو نصرانيا ان تركه يكون كذلك كما ان اليهود و النصارى يتركونه كما يتركونه سائر الاحكام الإلهية.

بحث فقهي

استدل الفقهاء بقوله تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً» على عدم

ص: 190

إقامة الحد في الحرم على من التجاء اليه و قد تظافرت الاخبار بذلك فعن الصادق (عليه السلام) في معتبرة الحلبي قال: «سألته عن قول اللّه تعالى: «وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً قال: إذا أحدث العبد جناية في غير الحرم ثم فر إلى الحرم لم ينبغ لاحد ان يأخذه من الحرم، و لكن يمنع من السوق و لا يبايع، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يكلم فإذا فعل ذلك يوشك ان يخرج فيؤخذ و إذا جني في الحرم جناية أقيم عليه الحد لأنه لم يرع للحرم حرمة».

و في صحيح معاوية بن عمار عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قلت له رجل قتل رجلا في الحل ثم دخل الحرم؟ فقال (عليه السلام) لا يقتل، و لا يطعم، و لا يسقى، و لا يبايع، و لا يأوى حتى يخرج من الحرم فيقام عليه الحد. قلت: فما تقول في رجل قتل في الحرم أو سرق؟ فقال (عليه السلام) يقام عليه الحد صاغرا انه لم ير للحرم حرمة و قد قال اللّه تعالى: «فَمَنِ اِعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اِعْتَدى عَلَيْكُمْ» يقول هذا في الحرم، فقال: لا عدوان إلا على الظالمين».

أقول: و هناك روايات تدل على ذلك و الحكم متفق عليه عند الامامية. و قد أقيمت عليه شواهد كثيرة في جميع الأعصار، و هذا من خصائص الحرم الالهي، و قيل بإلحاق الحرم النبوي بالحرم الالهي و لكن الحكم لم يثبت عند الجميع فلا ترفع اليد عن الأصول المعتبرة النافية للتكليف بل عن الإطلاقات و العمومات.

و اما كونه أمنا بالنسبة إلى حيوان الحرم و نباته فقد وردت روايات تدل على انه يحرم إيذائهن و تهييجهن، و قلع النبات لا سيما على المحرم و المسألة مذكورة في باب تروك الإحرام من أبواب الحج و تقدم ما يدل

ص: 191

على ذلك في البحث الروائي.

و قد تظافرت الاخبار أيضا في انه أمن من العذاب يوم القيامة منها ما عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «من مات في احد الحرمين بعثه اللّه من الآمنين» و لا بد من تقييده بما إذا دفن فيه مع وجود سائر الشرائط.

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتاب.......

اشارة

قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ (99) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) هذه الآيات الشريفة راجعة إلى بيان حقيقة الاستكمالات المعنوية و الموانع التي تمنع عن الوصول إليها، و يشهد لها العقل السليم و لا يصل الإنسان إلى تلك الحقيقة التي هي منتهى الغايات الكمالية و أقصاها الا باتباع ما ذكره القرآن الكريم في ذلك و الانقياد له انقيادا تاما اثباتا و نفيا امتثالا و اجتنابا.

و تبين هذه الآيات ان فريقا من اهل الكتاب يكفرون بآيات اللّه و يصدون المؤمنين عن سبيله عز و جل بل انها ترشد إلى حقيقة من

ص: 192

الحقائق الاجتماعية التي طالما يعانيها المجتمع الانساني و هي ان طائفة من الناس على الباطل و تكفر بآيات اللّه و تنكر الحقائق الواضحة و تصد عن الحق و تمنع عن رقي الإنسان و استكماله و تعرض الشبهات التي تمثل السبيل الضلال المعوج العقيم سبيلا مستقيما موصلا إلى الكمال المنشود. و قد حذر سبحانه المؤمنين منهم و انذرهم من متابعتهم، و إلا دخلوا في زمرتهم و كانوا كافرين، و أمرهم بالاعتصام باللّه و رسوله و العمل باحكامه فان ذلك هو الصراط المستقيم الذي يوصل الإنسان إلى الكمال المنشود و الهداية التي لا بد لكل فرد ابتغاؤها و ذلك هو الصواب الواقعي الذي جبلت القلوب السليمة المستقيمة عليه.

و الآيات لا تخلو عن الارتباط بالآيات السابقة التي بينت سبل الهداية و عرّفت الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه و أنذرت المؤمنين من شبهات الكافرين و الملحدين.

التفسير

قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ .

الآيات في المقام هي الدلائل الدالة على الحق و نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الكتاب المنزل عليه و ما اشتمل البيت الحرام من الآيات البينات بل كل ما يوصل إلى الهداية.

و انما خاطبهم عز و جل باهل الكتاب إلزاما لهم للايمان بالكتاب و تصديقه و مبالغة في تقبيحهم و تكذيبهم. و الاستفهام للتوبيخ و التعجيز عن اقامة العذر في كفرهم و أعمالهم الفاسدة.

ص: 193

قوله تعالى: وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ .

جملة حالية، و الشهادة هي الحضور و الاطلاع على الأمور و الشهيد بمعنى العالم المطلع و هو من اسماء اللّه الحسنى اي الحاضر الذي لا يغيب عنه شيء و لا تخفى عليه خافية.

و المعنى: قل يا رسول اللّه لأهل الكتاب الذين يعاندون الحق و يكفرون به لاي سبب تكفرون و الحال ان اللّه يعلم اسراركم و اعلانكم و مطلع على أعمالكم و هو يجازيكم عليها.

و في الجملة غاية التوبيخ، و فيها الإرشاد إلى مراقبة الإنسان اعماله و تزكية النفس بالتخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل فان اللّه مطلع على السرائر و عالم بمكنون الضمائر.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ .

مادة (صدد) تدل على المنع و الصرف و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة في ما يقرب من أربعين موردا.

و السبيل كالطريق يستعمل - مذكرا و مؤنثا - و يستعمل في القرآن الكريم كثيرا مذكرا و قد جاء مؤنثا في قوله تعالى: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي» يوسف - 108 و في المقام بقرينة قوله تعالى: «تَبْغُونَها» اي السبيل لتضمينها معنى الآيات بقرينة الآية السابقة.

و المراد بها طرق الهداية و هي الآيات البينات الدالة على الحق و نبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و ما أنزله اللّه تعالى عليه.

و الاستفهام كسابقة توبيخي تعجيزي. و في خطابهم باهل الكتاب

ص: 194

لزيادة تقريعهم و شدة توبيخهم اي: مع انكم اهل الكتاب تعرفون الآيات الدالة على الحق و تنكرونها و تعرضون عن الايمان بها.

و المعنى: يا اهل الكتاب لاي سبب تصدون المؤمنين باللّه عن الايمان و الحقائق و تصرفونهم عن سبيل اللّه بإلقاء الشبهات.

قوله تعالى: تَبْغُونَها عِوَجاً .

جملة حالية إما من الضمير في «تصدون» أو حال من السبيل جيء بها لبيان الصد. و الضمير يرجع إلى السبيل لتضمنه معنى الآيات كما عرفت.

و عوجا مفعول ثان لتبغون و المفعول الاول هو الضمير المتصل بعد حذف اللام، فان بغي يتعدى إلى مفعولين أحدهما بنفسه و الثاني باللام اي يبغون لها عوجا. و قيل انه منصوب على المصدر نحو رجع القهقري. و قيل ان عوجا حال وقع موقع الاسم مبالغة. و فيهما نظر.

و مادة (بغي) تدل على طلب التجاوز عن الاقتصاد في ما يتحرى تجاوزه سواء تجاوز أم لا و هو تارة يكون في الكمية و اخرى في الكيفية و كل منهما إما محمود كقوله تعالى: «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً» * الفتح - 29 أو مذموم كقوله تعالى: «وَ لا تَبْغِ اَلْفَسادَ فِي اَلْأَرْضِ» القصاص - 88 فالبغي على اقسام:

الاول: أن يكون من الحق إلى الحق كقوله تعالى: «وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اَللَّيْلَ وَ اَلنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ» القصص - 73 و قوله تعالى: «وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ اِبْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً» الإسراء - 110 باعتبار ذات الصلاة.

الثاني من الباطل إلى الحق كقوله تعالى: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» العنكبوت - 17 و قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا» البقرة - 187.

ص: 195

الثاني من الباطل إلى الحق كقوله تعالى: «إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ اَلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اَللّهِ اَلرِّزْقَ وَ اُعْبُدُوهُ وَ اُشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ» العنكبوت - 17 و قوله تعالى: «فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ اِبْتَغُوا ما كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا» البقرة - 187.

الثالث: من الحق إلى الباطل كقوله تعالى: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ اَلْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ» آل عمران - 85 و قوله تعالى: «فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ» * المؤمنون - 7.

الرابع: من الباطل إلى الباطل كقوله تعالى: «وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا» النور - 33. و كيف كان فتلك المادة كثيرة الاستعمال في القرآن الكريم بهيئات مختلفة.

و العوج خلاف الاعتدال و هو الميل عن الاستواء و في الحديث في وصف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «حتى يقيم به الملة العوجاء» اي ملة ابراهيم (صلى اللّه عليه و سلم) التي غيرها المشركون عن استقامتها.

و المعروف انه بفتح العين مختص بالمحسوسات كالأجسام المرثية و بالكسر فيما ليس يمرئي كالرأي و القول و مطلق المعاني قال أبو زيد في كتاب الفرق: «كل ما رأيته بعينك فهو مفتوح و ما لم تره فهو مكسور» و لكن يرد عليه انه ورد في القرآن الكريم بكسر العين في المحسوسات قال تعالى: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً» طه - 106 و لذا قيل ان الكسر يقال فيهما معا و الاول اكثر. و قيل في المنتصب كالحائط و العصا يقال عوج (بالفتح) و في الأرض و الدين و المعاش يقال

ص: 196

عوج (الكسر) و كيف كان ان المراد منه في المقام الزيغ و التحريف و الكتمان و المخادعة.

و المعنى: انكم - اهل الكتاب - تظلمون بصدكم عن سبيل اللّه بالخديعة و التزوير و الزيغ و التحريف و الكتمان و الشبهات فيها لتردوا المؤمنين عن ايمانهم بغيا و كيدا، مع انها الصراط المستقيم الظاهرة الحجة الساطع البرهان.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ .

اي و الحال أنتم شهداء على استقامة سبيل اللّه. تعلمون ان صدكم عنه تعالى انما يكون صدا عن الحق و ان منكره ضال مضل و يلزم من ذلك معرفتهم بحقية الرسول الكريم و صحة دعواه، و قد عرفوا البشارات بنبوته و دينه التي دلت عليها كتبهم و أخبرهم انبياؤهم، فكان الواجب عليهم الايمان به، و السبق بالاعتراف بدينه لا الصد عنه.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ .

تهديد لهم على صنيعهم فانه تعالى عليهم بصدهم و ضلالهم و مجزيهم عليه لا يفوته شيء و هو شديد الانتقام.

و انما ذكر سبحانه و تعالى عدم الغفلة في هذه الآية الشريفة، لمّا نسب الشهادة إليهم على الحقية و انما احفوها بمكرهم و خدائعهم الخفية في جعل السبيل المستقيم عوجا، فناسب ذكر عدم الغفلة عن جميع ذلك.

كما ان في الآية السابقة كان كفرهم و انكارهم لآيات اللّه تعالى، فذكر عز و جل انه شهيد على ذلك. و كيف كان ففي نسبة الشهادة إلى نفسه في الآية السابقة، و في المقام نسبتها إليهم من اللطف ما لا يخفى.

ص: 197

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الاجتماعية التي لا يخلو عنها اجتماع من بدء تكوينه و هي تأثير بعض طوائف المجتمع الانساني في البعض الآخر و تأثرها منها، و هذه العملية - اي التأثير و التأثر - هي من أهم الأمور الاجتماعية التي يبتني عليها الاجتماع الانساني و لها الأثر الكبير في تقدم المجتمع أو تأخره و القرآن الكريم لا ينكر هذه الحقيقة الاجتماعية، و انما كان له الفضل الكبير في تهذيبها و بيان ما يترتب عليها من الآثار المهمة في النفس و التربية و الاقتصاد و سائر الشؤون حيث انه ما يكون في الطائفة المطاعة يسرى إلى الطائفة المطيعة من مفاسد الأخلاق و الضلال و بناء على ذلك لا وجه لتعيين معنى الفريق كما ذكره بعض المفسرين، فانه من القضايا الحقيقية المنطبقة في كل عصر على الطائفة المضلة في ذلك العصر سواء كانت من اهل الكتاب أم كانت من غيرهم إذا كانت لها قوة الضلال و الإضلال، و يشير إلى ذلك قوله تعالى: «فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» فان المراد منه هم الذين عرفوا شيئا من الكتاب و لكن جعلوه وسيلة للاضلال و قد نهى اللّه تعالى المسلمين من اطاعة هؤلاء و حذّرهم من سوء أثرها و من أهمه انها تردهم كافرين بعد ايمانهم و فيه هلاك الدين و الدنيا، و الذلة في العاجل و الآجل و فناء استقلاليتهم في شؤونهم، فلا بد من التنبه إلى ذلك و الالتفات اليه و العمل بما أنزله اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة التشديد على انكار اطاعة المؤمنين للكافرين لكمال شناعة الكفر بعد الايمان و زيادة قبحه. و انما قدم عز و جل توبيخ

ص: 198

الكافرين على هذا الخطاب لبيان ان الكفر كالعلة الداعية اليه.

قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ .

استبعاد من ان يقع من المؤمنين الكفر و انكار لما يقع منهم و عندهم ما يكون سببا في عدم وقوعه منهم و الاجتناب عنه.

و قد ذكر سبحانه و تعالى أمرين مهمين هما آيات اللّه تعالى و رسوله العظيم فهما حبلان ممدودان من السماء لا يضل من تمسك بهما، دالان على كل حق و فيهما الهداية و الرشاد. و من يعتصم بهما فقد اعتصم باللّه العظيم، و الكفر بعد وجودهما يكون نظير الجمع بين المتناقضين.

و من ذلك يعرف ان الآية المباركة عامة لا تختص بطائفة خاصة و لا عصر مخصوص.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ .

كبرى كلية تنطبق على جميع سبل الهداية و الرشاد. و مادة (عصم) تدل على المنع و الحفظ مما يخاف و يحذر، و في الحديث «من كانت عصمته شهادة ان لا إله إلا اللّه» اي ما يعصمه من المهالك يوم القيامة. و العاصم هو الحافظ المانع سواء كان بفعله أو بتسبيب منه، و المعتصم هو الملتجئ إلى العاصم و اللائذ به مما التجأ و لاذ حذرا منه و الاسم العصمة و في شعر أبي طالب في وصف نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله).

ثمال اليتامى عصمة للأرامل و الاعتصام باللّه هو الامتناع به بالتجاء العبد و انقطاعه اليه ليحفظه من مضلات الفتن و موبقات المعاصي و موارد غضبه، و من سفاسف الأخلاق

ص: 199

و يوفقه لموجبات رحمته و يرضى عنه. و لا بد لهذا الاعتصام من سبب محقق له و هو مخالفة النفس الامارة، و اتباع العقل و الفطرة اللذين دعا إليهما دين اللّه و رسله، و لذا وجب الايمان بخاتم النبيين و قرآنه و من يكون داعيا إليهما علما و عملا. فيكون ذكر القرآن الكريم و الرسول من اسباب الاعتصام و محققاته.

و من ذلك يعلم ان المراد من الاعتصام العملي منه دون القولي و الاعتقادي فقط.

قوله تعالى: فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

ص: 200

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول

يدل قوله تعالى: «قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ قُلْ يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ» على قواعد عقلية نظامية اجتماعية منها قاعدة «امتناع اجتماع المتنافيين» فان الكفر بآيات اللّه مع دعوى الايمان يكون من المتنافيين الذي هو ممتنع بفطرة العقول و برهنت عليها العقلاء و لذا كان الخطاب ب (كيف) الدال على التعجب.

و منها ثبوت الاختيار للإنسان الذي هو من مهمات مباحث الفلسفة و الكلام.

و منها: تفكيك المقتضى (بالفتح) عن فعلية المقتضي (بالكسر) من كل جهة و هي مما يستنكره العقل، فان تلاوة آيات اللّه تعالى و وجود الرسول الأعظم فيهم مقتضيان للتخلق بأخلاقه، و الامتثال لأوامره و الانتهاء عن نواهيه فهم منكرون هذه القاعدة التي دلت عليها الادلة العقلية و النقلية.

الثاني:

ذكر سبحانه و تعالى في المقام: «مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً» و في سورة الأعراف - 86: «مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً» و انما حذف «به» و الواو في المقام لان حذف (به) موافق لقوله تعالى «وَ مَنْ كَفَرَ» فقد حذف (به) فيه أيضا. كما ان حذف الواو انما هو لأجل ان قوله تعالى «تَبْغُونَها» جملة حالية و الواو لا تزاد مع الفعل إذا وقع حالا مثل قوله تعالى: وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ» المدثر - 6

ص: 201

و اما في سورة الأعراف عطف على الحال هي قوله تعالى: «تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ» و كذلك «لا تبغونها عوجا».

الثالث:

ذكرنا ان قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» يدل على قاعدة اجتماعية لا ينفك عنها اي اجتماع إنساني و هي تبادل الأفكار و العادات و التقاليد بين المجتمعات و القرآن الكريم يحذر المسلمين من ذلك و يبين ان كل طائفة إذا أطاعت طائفة اخرى و أخذت بافكارها و ثقافتها لا بد ان تتأثر بها فان كانت الأفكار فاسدة و منحرفة فهي تؤثر في المؤمنين و تذهب فضائل افكارهم و تفسد عليهم ثقافتهم و تحرّمهم من سعادتهم و توجب ضلالهم و ذلهم و عبوديتهم و قد أوجز سبحانه جميع ذلك في قوله تعالى: «يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» الذي فيه قبح عظيم و اثار سيئة. و قد لطف تعالى بالمؤمنين حيث خاطبهم بقوله «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» و بين عز و جل اثره الكبير بأسلوب رائع.

الرابع:

انما عبر سبحانه و تعالى بالتلاوة في قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ» لان التلاوة هي البيان بقصد التفهيم و التفهم فلا يكتفي بمجرد وجود القرآن الكريم فقط دون تلاوته و العمل به.

و اما ذكر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) مجردا عن كل شيء فلأنه (صلى اللّه عليه و آله) بنفسه و حركاته و سكناته و أقواله و أفعاله حجة للّه على خلقه و معلم عظيم للكمالات الانسانية و شارح للآيات الشريفة و مفسر لها و مبين القرآن الكريم قولا و عملا و هو الصراط المستقيم الذي عقب اللّه تعالى به ذلك. و يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة اشتداد العقوبة على المخالفة عند تمامية الحجة.

الخامس:

انما وصف سبحانه الصراط بالمستقيم لبيان انه لا يختلف و لا يغيره إضلال المعاندين و إفساد المفسدين، كما انه يحفظ سالكيه

ص: 202

عن الوقوع في الضلال.

بحث روائي

في الخصال عن الحسين الأشعر: «قلت لهشام بن الحكم ما معنى قولكم: إن الامام لا يكون إلا معصوما؟ فقال سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن ذلك فقال: «المعصوم هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه و قد قال اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ» .

أقول: المراد من قوله (عليه السلام): الممتنع باللّه اي الممتنع بالاعتصام في جميع أموره و شؤونه فيحصل له توفيق ترك محارم اللّه بالاختيار، فقد جمع الطاعة و ترك المحارم و هذا هو معنى العصمة.

و في اسباب النزول للواحدي عن عكرمة في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ قال: «كان بين هذين الحيين من الأوس و الخزرج قتال من الجاهلية فلما جاء الإسلام اصطلحوا و ألف اللّه بين قلوبهم و جلس يهودي في مجلس فيه نفر من الأوس و الخزرج فأنشد شعرا قاله احد الحيين في حربهم، فكأنهم دخلهم من ذلك، فقال الحي الآخر قد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا و كذا فقال الآخرون و قد قال شاعرنا في يوم كذا: كذا و كذا فقالوا تعالوا نرد الحرب جذعا كما كانت فنادى هؤلاء يا آل أوس و نادى هؤلاء يا آل خزرج فاجتمعوا و أخذوا السلاح و اصطفوا للقتال، فنزلت هذه الآية فجاء النبي (صلى اللّه عليه و آله) حتى قام بين الصفين فقرأها و رفع صوته

ص: 203

فلما سمعوا صوته أنصتوا له و جعلوا يستمعون اليه فلما فرغ ألقوا السلاح و عانق بعضهم بعضا و جثوا يبكون».

أقول: على فرض اعتبار الرواية انها تبين بعض مصاديق الآية الشريفة كما ذكرنا مرارا من ان مورد الآية و مصاديقها لا تكون مخصصة للآية النازلة.

ص: 204

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اِعْتَص.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) هذه الآيات من جلائل الآيات الكريمة التي وردت في تكميل النفوس الانسانية و تنظيم نظام الدنيا و الآخرة بالنحو الأحسن الأكمل الذي

ص: 205

يعترف به جميع العقول و تقبله الفطرة المستقيمة و هي مرتبطة بالآيات السابقة فانه تعالى بعد ما حذر المؤمنين من مكائد الكافرين و فتن أهل الكتاب و اضلالهم أمرهم بالاعتصام بحبل اللّه جلت عظمته ليهديهم إلى الصراط المستقيم و يوفقهم للدين القويم و يحفظهم من المهالك.

و يبين سبحانه في هذه الآيات المباركة الصلة به تعالى تلك التي يحبها كل قلب مؤمن و هي التقوى لأنها من سبل الاعتصام باللّه بل من أهمها فكل ما اقترب العبد من اللّه بتقواه اشتقاق إلى مقام ارفع مما بلغ إليها.

و قد دعا سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة أيضا إلى الاعتصام بحبل اللّه، من الدعوة إلى الخير، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فهي كلها من سبل الاعتصام به.

ثم أمرهم بالاجتماع و عدم التفرق و نهاهم عن الاختلاف و وعدهم الحسنى و الخير إن هم قاموا بالوظيفة التي أمرهم بها.

فهذه الآيات المباركة تعتبر تتمة الآيات السابقة فان السياق في الطائفتين واحد.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ .

تقدم ما يتعلق بهذا الخطاب في أول سورة البقرة و غيره من الآيات الشريفة، و في تكراره لا يخفى من اللطف بالمؤمنين و التشريف لهم لا سيما بعد خطاب «مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ» الآية - 100.

ص: 206

و التقوى كما تقدم مكررا هي الطاعة للّه تعالى و الاحتراز عن الوقوع في ما يوجب سخطه و عذابه و يلزم ذلك الشكر لنعمه، و انما أمرهم بالتقوى لأنها جوهرة الكمالات الانسانية و مفتاح السعادة و أساس مكارم الأخلاق و بها يفوز العبد بالقرب إلى اللّه تعالى و البعد عن النار و هي تحفظ ايمان المؤمن و تزيده قوة و ثباتا.

هذا و لكن التقوى على نحوين تقوى ظاهرية خالية عن الخلوص و الإخلاص و باطنية حقيقة مشتملة عليهما و هي التي لا يشوبها باطل و لا فساد و هي ذكر المنعم بلا نسيان و طاعته بلا عصيان و بالجملة فهي العبودية المحضة التي لا كمال بعدها و هذا النحو من التقوى هو حق في نفسه و حق للّه تعالى و هي التي تليق بساحته تبارك و تعالى دون غيرها.

و قد ورد مثل هذا التعبير في ستة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى: «يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ» البقرة - 115 و قال تعالى: «جاهِدُوا فِي اَللّهِ حَقَّ جِهادِهِ» الحج - 77 و قال تعالى: «فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها» الحديد - 27 و قال تعالى: «ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» * الانعام - 91 و مثله في سورة الحج - 73 و سورة الزمر - 67 و المستفاد من هذا التعبير هو الأمر بالحقيقة الخالصة من شوائب الأوهام، و تدل تلك الجملات على كمال الأهمية بالمورد حتى انه تعالى نفى الحقية عن غيره كما هو المستفاد من النفي و الإثبات و عرفان الحق لا يحتاج إلى البيان. فانه نفس واقع الشيء على ما هو عليه في ذاته.

و يحتمل ان يكون المراد في قوله تعالى: «حَقَّ تُقاتِهِ» آخر مراتب التقوى و أعلا درجاتها التي من صفات الأنبياء و الأولياء و هي حقيقة التقوى التي أوحاها عز و جل إلى أنبيائه و بشرت بها رسله و غيرها خارج عن تلك الحقيقة و ليست شيئا زائدا عليها. نعم الاشتداد و التضعف

ص: 207

الجاريان في كل مقولة يجريان في هذه الحقيقة أيضا و لكن الآية المباركة ليست ناظرة إلى هذه الجهة، كما انها ليست منسوخة و لا ناسخة، فيكون تعميم الخطاب في صدر الآية لجميع المؤمنين تشريفا لهم شيئا و طلب حق التقوى شيئا آخر و طلب الموت على الإسلام في ذيل الآية الشريفة شيئا ثالثا، فيصير صدر الآية و ذيلها شاهدين على ان ليس المراد بالتقوى هنا خصوص تقوى الأنبياء و الأولياء فقط بل هي عامة تشمل الآية جميع المراتب كل على حسب ما يقدر عليه.

و يحتمل التنزيل على مراتب القدرة و الاستطاعة بل هي ظاهر الآية الشريفة، فالصحيح يصلي قائما مثلا و المريض جالسا و هكذا كل على قدر استطاعته و على هذا فيكون قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» التغابن - 17 شارحا لهذه الآية الشريفة.

و محصل معنى الآيتين ان مراتب التقوى، كمراتب اصل التكليف كما ان الأخير لا يتعلق إلا بالمستطاع و ينحل الى مراتب كثيرة و كذلك التقوى فكل مؤمن لا بد ان يحظى بالتقوى على قدر استطاعته و طاعته.

كما انه يحتمل ان يكون المراد من قوله تعالى: «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» التغابن - 17 الترغيب إلى إتيان المندوبات و التنزه عن إتيان المكروهات لان الأولى من شؤون الواجبات و الثانية من شؤون المحرمات و كل ذلك من حمى اللّه تعالى كما في بعض الروايات. و عليه فلا ربط لها لهذه الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ .

تحريض على مداومة التقوى بعد الأمر بتحصيل حقيقتها و الخلوص فيها، فيكون المراد من الإسلام في الآية هو الإسلام الحقيقي الاستمراري

ص: 208

حتى الانتقال إلى النشأة الاخرى و وقوع الموت الذي هو امر غيبي في حال الإسلام و التسليم.

و على هذا لا وجه للتفصيل بكون الطلب في الآية الشريفة متعلقا بأمر تكويني أو بجامع من الأمر التكويني و اختياري، فان ظاهر الآية هو الأمر بتحصيل المداومة على التقوى حتى الموت و تقدم بعض الكلام في آية 189 من سورة البقرة.

و المراد بالإسلام هو الطاعة للّه تعالى و عدم المحادة له بالمعصية، و هذه هي التقوى التي أمرنا اللّه تعالى بها سابقا. و ذكر بعض المفسرين ان المراد بالإسلام هو الايمان القلبي، لان الأعمال حال الموت مما لا تكاد ان تتأتى. و فيه من التكلف ما لا يخفى، فما ذكرناه اظهر من الآية الشريفة و انسب إلى الأمر بالتقوى كما عرفت، و كيف كان ففي الآية المباركة التأكيد على ترك طاعة اهل الكتاب.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا .

الاعتصام هو التمسك و الالتجاء و تقدم اشتقاق الكلمة في الآية السابقة.

و الحبل معروف، و يستعمل في سبب منيع يوصل إلى البغية و الحاجة و في الدعاء «يا ذا الحبل الشديد» و المراد به القرآن أو الدين أو السبب كما ورد في صفة القرآن «كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض» اي نور هداه يكون كذلك، و في حديث آخر: «و هو حبل اللّه المتين». و قيل المراد عهده و امانه الذي يؤمن من العذاب و قيل المراد منه العهد و الميثاق و قيل غير ذلك و جميعها من باب التفسير بالمصداق.

و المراد به في المقام ما جعله اللّه تعالى سببا عاصما من الوقوع في

ص: 209

الضلالة و المهالك، و المعروف ان في الكلام استعارة تمثيلية بأن شبه التمسك بما جعله اللّه عاصما من الوقوع في المهالك بالتمسك بالحبل المتدلي من مكان رفيع وثيق مأمون الانقطاع الذي يمنع المتمسك به من السقوط و الهلكة.

و جميعا حال من فاعل اعتصموا أي: مجتمعين، فيكون قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا» تأكيدا و النهي عن التفرق باتباع السبل المختلفة فيوجب البعد عن سبيل اللّه تعالى كما قال عز و جل: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» الانعام - 152.

و اختلف المفسرون في المراد بالحبل في هذه الآية الشريفة فقيل انه كتاب اللّه. و قيل انه الإسلام. و قيل انه الطاعة و الجماعة. و الحق ان يقال انه بعد ان بين عز و جل في الآية السابقة ان التمسك بآيات اللّه تعالى و بالرسول اعتصام باللّه تعالى مضمون له الهدى و مأمون من الضلال و الهلاك، فان كل واحد منهما يكمل الآخر و يفسره. و الرسول كتاب ناطق كما ان القرآن رسول صامت فيكون التمسك بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) تمسكا بالقرآن لا سيما بعد أمر القرآن بذلك قال تعالى: «وَ ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا» الحشر - 7 و قد أمرنا سبحانه و تعالى بالاعتصام بحبل اللّه في هذه الآية فتكون النتيجة ان حبل اللّه هو الكتاب و الرسول. و لكن بما ان الحكم في الآية السابقة معلق على شخص الرسول الكريم باعتباره جامعا لجميع الكمالات و ملتزما للطاعات و معصوما من المعاصي و الزلات شارحا للكتاب المبين و مفسرا لرموزه و دقائقه فمن يكون مثل الرسول من هذه الجهة يكون من مصاديق حبل اللّه، و يدل على ذلك حديث الثقلين المتواتر بين الفريقين «إني مخلف فيكم الثقلين ما إن تمسكتم

ص: 210

بهما لن تضلوا كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي» فان الكتاب و الرسول و عترته كلها مشاعر هدايته عز و جل و مصاديق حبل اللّه، و ان حقيقة هذا الحبل هي الانسانية الكاملة التي هي في الحقيقة الصراط المستقيم؛ و ان الكتب السماوية و الأنبياء و المرسلين تدعوا إلى الاهتداء إليها، و هي حقيقة الجنة التي وعد اللّه عباده بها، و هي التي توجب مخالفتها النار، فلهذه الحقيقة صور كثيرة مختلفة في جميع العوالم و النشئات، فتارة: يكون موسى بن عمران و التوراة و اخرى: يكون عيسى بن مريم و الإنجيل، و ثالثة: يكون حبيب اللّه محمد بن عبد اللّه و القرآن الكريم و رابعة: يكون عترته الطاهرة لأنهم شراح القرآن و امتداد لشخص الرسول الكريم كما عرفت، و حينئذ يكون الأمر بالاعتصام بحبل اللّه امرا حقيقيا واقعيا تكوينيا و هو عبارة عن الاضافة بين العلة و المعلول أو المقتضى (بالكسر) مع المقتضى (بالفتح) أو بين الخالق و المخلوق فالخطاب من سنخ الخطابات التكوينية التي لا يختص بزمان دون زمان و لا بقوم دون آخرين. نعم أفضل مصاديقه الإنسان الكامل و الإسلام لأنهما أفضل الممكنات.

و من ذلك كله يعرف انه ليس المراد بالاعتصام القولي منه فقط أو الاعتقادي بل الاعتصام العملي و الطاعة للّه تعالى بكل ما شاء و أراد و مثل هذا الاعتصام تحكم بحسنه فطرة العقول، لان اعتصام الفقير المطلق بالغني كذلك مما يحكم بلزومه الفطرة، بل ان الممكن بذاته معتصم لمبداه لا سيما بعد ان اثبت المحققون من الفلاسفة ان مناط الحاجة هو الإمكان لا الحدوث، و لا بد و ان يظهر الإنسان هذا الاعتصام الذاتي في الاعتقاد و القول و العمل بان يطابق ما يصدر عنه لما هو المحبوب لدى المعتصم به.

ص: 211

و انما امر سبحانه و تعالى بالاعتصام بحبل اللّه على نحو الجمع في قوله «وَ اِعْتَصِمُوا» ثم أكده بقوله تعالى: «جَمِيعاً» و ثالثة بقوله «وَ لا تَفَرَّقُوا» لان اختلاف الامة أحزابا أو اشياعا أضر شيء بالنظام، و يستفاد منه ان هذا الحكم لا يتحقق حدوثا و بقاءا إلا على نحو الجمع و الاجتماع، فالاعتصام الفردي من دون الجماعة لا يثبت المطلوب و الغرض من هذا الحكم، فيكون عدم الاجتماع على هذا الحكم من موجبات التفرق و الاختلاف و الوقوع في المهالك، فالآية السابقة تتعرض لحكم الفرد من حيث التقوى و الموت على الإسلام و هذه الآية لحكم الجماعة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

دعوى إلى تذكر نعم اللّه تعالى التي فيها الموعظة و العبرة و فيها الحث على الاجتماع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى المؤدي إلى التآلف و زوال الاضغان و النفرة بين افراد المجتمع.

و في الآية الشريفة دعوة إلى تعلم العلل و الأسباب التي تؤدي إلى خير الإنسان و سعادته و تهديه إلى الحق و التوفيق إلى الايمان الصحيح و نبذ التقليد الأعمى الذي لا يجنى منه الخير و هذا هو الأصل القويم الذي اعتمد عليه القرآن الكريم في تعليم الإنسان و هديه إلى سعادته فانه يأمره بالعلم النافع و العمل الصالح ليمكنه معرفة الحقائق و ارتباط بعضها مع البعض ثم كيفية ارتباطها مع مسبب الأسباب و المبدأ الفياض و رجوعها إلى اللّه تعالى و الأمر بالاعتصام بحبله و التسليم لأمره، فان في ذلك السعادة الحقيقية و في غيره الجهل و البعد عن الحقيقة و قد نهى عز و جل عن التقليد الأعمى الذي يسلب الارادة عن الإنسان و ينفى

ص: 212

عنه التفكر الصحيح، و يشوه الحقائق. و قد اقام سبحانه ادلة ثلاثة على ما حث عليه من التذكر و ندب اليه من التفكر اثنتان منها تشهد عليهما التجربة و الثالث مبني على البرهان القطعي.

قوله تعالى: إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ .

هذا هو الدليل الاول و هو تذكر العداوة التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي الفاسد و البغضاء التي كانت قائمة بينهم و قد قاسوا مرارتها و كابدوا شدائدها و أهوالها فقد كانت الحروب و القتل و الدمار و الضغائن و الأحقاد ملتهبة و بلغت ذروتها أبان الدعوة الاسلامية، فألف عز و جل بين القلوب بالإسلام و الرسول الكريم الأمين فزالت تلك الأحقاد و حل الصلح و الوئام و قد تألفت قلوبهم و هو اكبر دليل على حقيقة الايمان باللّه و الاعتصام بحبله و تذكر نعمه فانه لو لا الإسلام لما ذاق الاجتماع حلاوة المحبة و الاخوة و لما زالت مرارة العداوة و الفرقة.

قوله تعالى: فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً .

هذا هو الدليل الثاني و الاخوان جمع الأخ. و قيل ان اكثر ما يجمع أخو الصداقة على الاخوان، و الأخ في النسب على الاخوة و قد ورد في أخ الصداقة قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ» الحجرات - 10 و في النسب قوله تعالى: «أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ» النور - 31 و قوله تعالى: «أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ» النور - 61.

و المراد بها وقوع التآلف في القلوب كعادة الاخوة الاشقاء في كونهم يدا واحدة بقلوب مؤتلفة. و في تكرار هذه المنة التنبيه على ما ذكرناه و الحث على التمسك بحبل اللّه و الاعتصام به و تذكر نعمه التي توصلكم إلى السعادة و تهديكم إلى الرشاد فان في الاخوة التي منّها اللّه تعالى

ص: 213

عليهم الاجتماع و التآلف.

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها .

عطف على «كُنْتُمْ أَعْداءً» و هذا هو الدليل الثالث المبني على البرهان. و شفا حفرة اي طرف الحفرة و حافتها، فان شفا كل شيء جرفه و حافته. و منه حديث علي (عليه السلام): «نازل بشفى جرف هار» أي جانبه و في المأثور: «لا تنظروا إلى صلاة احد و لا إلى صيامه و لكن انظروا إلى ورعه إذا شفى» أي اشرف على الدنيا و أقبلت عليه و يقال: «أشفى على الهلاك» أي ورد على شفاه و قيل ان كلمة «شفى» لا تستعمل إلا في الشر.

و قد تستعمل في القليل أيضا يقال «ما بقي منه إلا شفا» أي قليل و يثنى على شفوين و الجمع اشفاء و يضاف إلى الأعلى و إلى الأسفل.

و كنتم على شفا حفرة أي مشرفين على السقوط فيها.

و المراد من النار هي التي اوقدوها بأعمالهم و معتقداتهم التي كانت سببا للنار الحقيقية و هي نار جهنم و نار الدنيا التي هي الحروب و المنازعات فإنها استعملت فيها كثيرا في المحاورات الصحيحة كقوله تعالى: «كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اَللّهُ» المائدة - 64.

و كيف كان فالآية الشريفة تبين حالهم في المجتمع الجاهلي الفاسد المبني على الضغائن و الحروب و المنازعات و التنافر و الافتراق كما تبين مآلهم الذي يصلون اليه و هو الدخول في النار في الآخرة و سلب الطمأنينة و الأمن فقد جلبت لهم الشقاوة و العناء و الزوال في الدنيا. و قد انقذهم اللّه تعالى من مآلهم الفاسد بالإسلام الذي جلب لهم الطمأنينة و الأمن و الرفاه و العيش الهنيء و السعادة و قد شاهدوا بدخولهم في الإسلام

ص: 214

ما لم يتخيلوه في الحسبان فلذلك كان هذا البرهان أوقع في النفوس من غيره لأنه كان به خلاصهم من العذاب في الآخرة و الشقاء و الحرمان في الدنيا و هذا الدليل حاصل مضمون الدليلين المتقدمين المشتملين على الحس و الوجدان دون محض التقدير و مجرد الحسبان.

قوله تعالى: كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ .

أي يبينها برهانا و وجدانا و مشاهدة لأجل اهتدائكم إلى حقيقة الايمان و الاعتصام بحبل اللّه المبين و تدخلون في الصراط المستقيم و تتذكرون نعمه التي أنعمها اللّه تعالى على المسلمين.

قوله تعالى: وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

أمر سبحانه و تعالى بتكميل الغير بعد ما أمرهم بتكميل أنفسهم حيث ان الاعتصام بحبل اللّه تعالى المادة المهيأة لتوارد الصور الكمالية عليها.

و من المعلوم ان المادة لا فعلية لها الا بالصورة كما هو ثابت في الفلسفة الإلهية، فلا بد من السعي في تحصيل تلك الصورة و هي الدعوة إلى الخير سواء كان من النبي أو الوصي أو من يقوم مقامهما في هذا الشأن.

و انما تكون الدعوة إلى الخير بمنزلة الصورة الفعلية للاعتصام باللّه تعالى، و الدعوة إلى الخير هي من أهم الأسباب التي تكون دخيلة في رقي الامة و تقدمها في كل المجالات، فهي تحفظ العلم عن الضياع و العمل عن الفساد. و المجتمع عن الانهيار في مهلكة الشرور، فهي جامعة السعادة و مانعة الشقاوة، و ان القوانين المجعولة خالقية كانت أم خلقية انما يترتب الأثر عليها من حيث البقاء و مداومة العمل بها لا بمجرد حدوثها فقط، و ان البقاء يتقوم بأمرين:

ص: 215

الأول: العمل بها بشرائطها المقررة.

الثاني: الترغيب إلى فعلها و الترهيب عن تركها، و بعبارة اخرى ان القوة المجرية لها في مقام حفظ القانون هي الدعوة. و يعبر عنها بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لذا كانت لهما المنزلة العظيمة في الشرائع السماوية، بل في القوانين المجعولة، و لولاهما لاختل النظام و تعطّلت الاحكام، و لأنبياء اللّه العظام و أوصيائهم الكرام الزعامة الكبرى في التصدي لهذين التكليفين العظيمين.

و المراد من الخير كل ما له دخل في الاعتصام بحبل اللّه سواء كان من المعارف الحقة او الأعمال الصالحة أو مكارم الأخلاق، و ما ذكره عز و جل في المقام ترغيبا إلى الخير الذي تدعو اليه فطرة العقول و يحبه كل انسان و لا يمكن ان يجهله احد، و لبيان ان المجتمع الذي يكون الخير هو مطلبهم و منهاجهم و عملهم هو المجتمع السعيد و الأمة الراقية.

و قد اختلف المفسرون في معنى الخير في المقام فقيل انه الإسلام و قيل انه اتباع القرآن و سنة الرسول، و قيل غير ذلك. و الحق ان ما ذكروه من مصاديق مطلق الخير، و الصحيح ما ذكرناه فان جميع ذلك دواع إلى الاعتصام بحبل اللّه تعالى.

و الامة: الجماعة التي تؤم امرا معينا، و قد أطلقت في القرآن الكريم كثيرا على اتباع الأنبياء لأنهم اجتمعوا على قصد واحد و هو اتباع الحق وراء قدوة شخص معين، و تطلق أيضا على الدين و الملة قال تعالى: «إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ» * الزخرف - 22 و على السنين قال تعالى، «وَ اِدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» يوسف - 45 و الجميع يرجع إلى معنى واحد، و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً» البقرة - 128 و كذا في قوله تعالى: «تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ» * البقرة - 141

ص: 216

بعض الكلام في اشتقاق هذه الكلمة.

و الدعاء إلى الخير هو الدعاء إلى كل ما فيه صلاح الأمة دينا و دنيا و آخرة كما عرفت. و في الحديث: «سأخبركم بأول امري: دعوة أبي ابراهيم و بشارة عيسى» دعوة ابراهيم (عليه السلام) هي قوله تعالى: «رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ» البقرة - 129 و بشارة عيسى هي قوله تعالى: «وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ» الصف - 6.

و المعروف: كل ما هو خير و حسن عقلا و لم ينه عنه شرعا فهو اسم جامع يشمل طاعة اللّه جل جلاله و التقرب اليه و الإحسان إلى الناس، و في الحديث: «اهل المعروف في الدنيا هم اهل المعروف في الآخرة» يعني من بذل معروفه في الدنيا و احسن العشرة مع الناس آتاه اللّه جزاء معروفه في الآخرة و روي عن ابن عباس في معنى الحديث: «يأتي اصحاب المعروف في الدنيا يوم القيامة فيغفر لهم بمعروفهم و تبقى حسناتهم جامة (جامدة) فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته فيغفر له و يدخل الجنة فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا و الآخرة».

و المنكر: هو ما أنكره العقل و الشرع فيكون ضد المعروف.

و عطف الأمر بالمعروف على دعوة الخير يكون عطفا تفسيرا لبيان ان دعوة الخير هي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و لمعلومية الخير و محبوبيته لدى الجميع فلا بد ان يكون المعروف و المنكر معلومين عند الداعي إلى الخير، و للاعلام بأن المجتمع الذي بلغ من الكمال بالاعتصام بحبل اللّه تعالى صار المعروف عندهم هو الخير و المنكر هو الشر، كما انه يمكن ان يكون أيضا لأجل ان المعروف و المنكر عند

ص: 217

الشرع هو الخير و الشر المعروفان عند العقل و تدعو إليهما الفطرة.

و قيل ان عطف الأمر بالمعرف و و النهي عن المنكر على دعوة الخير هو من عطف الخاص على العام فيكون من قبيل عطف أفضل الإفراد على الكلي. و لا ينافي ذلك ما ذكرناه.

و كيف كان فالآية الشريفة تدل على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بلا شك في ذلك.

و انما البحث و الخلاف في كونه كفائيا أو عينيا و الظاهر انه يرجع إلى دلالة «من» فقيل انها للتبعيض، فيكون الوجوب كفائيا.

و قيل انها بيانية. و المعنى: كونوا امة كذلك فيكون الوجوب عينيا و سياق الآية الشريفة يدل على الاول، و يرجحه ان الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر انما تكون واجبة لأجل البعث على الطاعات و الزجر عن القبائح و المعاصي و لا معنى لوجوبهما بعد حصول الغرض من البعض، فالخطاب و ان كان متعلقا بالجميع لكن الغرض يحصل من أي فرد كان، و بما ان المقام يحتاج إلى التعاضد و التعاون حتى يكون له التأثير القوي في حصول الغرض و ليسا كغيرهما من الواجبات كان الأمر متعلقا بالجميع، و بعد ذلك فلا وقع للنزاع في كون «من» تبعيضية أو بيانية فان الأمر متعلق بالجميع بقدر ما يتعلق بالإفراد و البعض، فان هذا التكليف لطف الهي يتعلق بالجميع و لا بد من التعاضد و التعاون و لا يمكن ترك القائم به لوحده و الاعراض عنه و قد ذكرنا في الأصول انه لا فرق بين الوجوب الكفائي و الوجوب العيني بحسب ذات الوجوب و انما الفرق بينهما باعتبار سقوط التكليف عن الكل بعد قيام البعض به في الاول دون الثاني و هذا يكون من باب تعدد الدال و المدلول لا باعتبار حقيقة الوجوب و لذا اشتهر بين الفقهاء ان في ترك الجميع للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر يعاقب

ص: 218

الكل لا البعض فراجع ما ذكرناه في (مهذب الاحكام) و يدل على ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة الظاهر في الرجوع إلى الموصوفين بهذه الصفة.

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ .

جملة استينافية اي الداعون إلى المعروف و الناهون عن المنكر هم الكاملون في الفلاح، كما هو قضية الحصر.

و يستفاد من الآية الشريفة كمال الأهمية لهذا التكليف الالهي و المنصب الرفيع بل هما من مناصب الأنبياء و الأوصياء و الأولياء الصالحين و قد ورد في فضلهما روايات كثيرة يأتي في البحث الروائي نقل بعضها، و لهما شروط و آداب كثيرة يستفاد بعضها من هذه الآية الشريفة و البقية من غيرها.

و يستفاد من مجموع الادلة الواردة في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كتابا و سنة ان هذه الدعوة من صفات الباري جل جلاله كالحكم بين الناس بالعدل، و قد فوّض اللّه تعالى ذلك إلى أنبيائه و اوصيائه و القائمين مقامهم، و هذه الدعوة ترجع إلى التخلق بأخلاق اللّه تعالى و التخلي عما لا يرضاه اللّه و التحلي بما يرضاه، و تفاني الدنيا في عالم العقبى فيصير الكل باقيا ببقاء اللّه تعالى و لعل ما ورد في الحديث:

«الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر خلقان من خلق اللّه تعالى من احياهما أحياه اللّه تعالى» يرجع إلى ذلك فان الخلق انما يعتبر في مرتبة الفعل لا في مرتبة الذات، و المراد بالاحياء الأعم من الأحياء الدنيوي و الاخروي و سبب الأحياء معلوم لأنه اتصال فعلي بالحي القيوم.

ص: 219

قوله تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

بعد ما أكد سبحانه الدعوة إلى الاتحاد و الاعتصام بحبل اللّه تعالى و الدعوة إلى الخير. بيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية ما يترتب على الاعراض عن ذلك و الاحجام عن ما أمرهم في سبيل الوحدة و الاتحاد بين أفراد المجتمع، فانه لا يمكن ان تختلف امة إذا اجتمعت على مقصد واحد و هدف معين و اتفقت عقائدهم، و كانت بعيدة عن الأهواء الباطلة و ما يوجب الضلال، و تحقق التعاون و التناصر بين افرادها، و قويت أواصر الوحدة فيهم و بعدت عما يوجب الافتراق و الاختلاف بينهم، فهذه الآية كالدليل على لزوم متابعة ما ورد في الآيات السابقة.

و التفرق انما يكون في ما يجب فيه الاجتماع مما فيه الصلاح و الإصلاح و يكون ابتداء في الأبدان و الابتعاد عما يوجب اتحاد الإفراد. و اما الاختلاف انما يكون في العقائد و الآراء و يوجبه الافتراق في الكلمة، فهو كالمقدمة التي توصل إلى الاختلاف في العقائد و الآراء، فان كل اختلاف في الرأي انما ينشأ عن التفرق في الكلمة و تباعد افراد المجتمع و الاختلاف هذا انما يكون عن ضلال الأهواء و البغي، و لذا نسب سبحانه و تعالى الاختلاف إلى البغي في عدة آيات منها قوله تعالى:

«و ما اختلفوا فيه إلا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ» البقرة - 213 و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى في المقام «مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ» فان الاختلاف بعد مجيء الآيات للحق الموجبة للاتحاد و الاجتماع انما يكون عن أعراض عنها فيكون عن بغي و ضلال.

و المعنى: و لا تكونوا كالذين تفرقوا في الكلمة و لم يجتمعوا على

ص: 220

ما أمرهم اللّه تعالى و خرجوا عن الجماعة فأوجب التباغض بينهم و التباين في آرائهم و الاختلاف في عقائدهم فصاروا شيعا و أحزابا و في ذلك زوال سعادتهم و وقوعهم في الشقاق و النفاق و الحروب و المنازعات فتذهب كرامتهم و استقلالهم و امنهم و أمانهم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان الاختلاف المذموم هو ما إذا كان البغي و الضلال و اما غيره فلا ضرر فيه بل هو ضروري لاختلاف الافهام و الإدراكات و يكون سببا للرقي و الاستكمال و لكن لا بد ان لا يصل إلى حد يوجب التباغض و التنافر.

قوله تعالى: لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .

جملة استينافية هي نتيجة للسابق أي: ان الذين افترقوا و اختلفوا في دين اللّه لهم عذاب عظيم جزاء لظلمهم و عدوانهم لما اوجدوا من التفرق و الاختلاف.

و انما ختم سبحانه و تعالى هذه الآية الشريفة بهذه الجملة مقابلة للآية السابقة فان النتيجة إذا كان فيها الفلاح و النجاح فلا محالة يكون في عكس ذلك الخسران و العذاب.

قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ .

تفريع على التقسيم السابق و بيان لجزاء الطائفتين المتقدمتين و يكون التقسيم من اللف و النشر المشوش المصطلح عليه في علم البديع فتكون الوجوه المفلحين مبيضة و وجوه الظالمين مسودة.

و انما ذكر عز و جل الوجوه من بين سائر الأعضاء اعلانا لرفعة شأن المفلحين في الآخرة حتى يعرفهم جميع اهل المحشر و ينظروا إليهم و تبيينا لخسة الظالمين و إذلالهم حتى يكونوا منفعلين في الآخرة كما كانوا

ص: 221

كذلك في الدنيا.

و قد خص سبحانه و تعالى من نعم الآخرة و عذابها بياض الوجه و سواده لان المفلحين لما كانوا معتصمين بحبل اللّه تعالى تلحقهم البشارات الإلهية في كل آن و كانوا مجتمعين في الاعتصام به عز و جل كانت الطلاقة و البشاشة ظاهرة في وجوههم في الدار الدنيا، فيكونون كذلك في الدار الآخرة، و اما الظالمون الذين اعرضوا عن الاعتصام بحبله، فانقطعت عنهم البشارات الربانية و وقعوا في النزاع و التباغض و الاختلاف فكانوا مخذولين قد ظهرت على وجوههم الانكسار و الانفعال في الدنيا فلحقهم مثل ذلك في الدار الآخرة، فكان الجزاء مناسبا لاعمالهم و صفاتهم.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ .

تفصيل بعد إجمال. و الجملة مركبة من الشرط و هو «فَأَمَّا اَلَّذِينَ اِسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ» و الجواب فيقال لهم «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» و حذف القول و استتباع الفاء في الحذف له شايع في كلمات الفصحاء و انما الممنوع حذفها وحدها.

و عن بعض المفسرين يجوز ان يكون الجواب «فهم في عذاب اليم» كما يدل عليه قوله تعالى: «فَذُوقُوا اَلْعَذابَ» و يناسبه قوله تعالى في الآية الاخرى: «فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ» و فائدة ذلك التهويل بالجواب ليقدره السامع بكل نحو يشعر به المقام من الهول و هو باب واسع في البلاغة.

و لكن يمكن ان يقال انه لا وجه لهذا الاختلاف في الأسباب التوليدية كما أثبتناه في علم الأصول سواء كان الجواب السبب أو المسبب، مع

ص: 222

ان هذا التهويل و التخويف يستفاد من لفظ العذاب المعهود الموصوف بالعظمة.

و كيف كان ففي قوله تعالى: «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» التفات لغرض التوبيخ و التقريع. و انما قدم عز و جل جزاء الظالمين لمجاورته لقوله تعالى: «تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» و توبيخا لهم و تشنيعا لفعلهم، مع انه عز و جل ابتدأ بذكر اصل الثواب و اختتم بجزاء المفلحين ليكون الابتداء و الاختتام بما يشرح الصدر و يسر الطبع، و للاعلام بأن رحمته سبقت غضبه. و حقيقة هذا الخطاب عامة بالنسبة إلى الدنيا و الآخرة.

و المراد بالإيمان الظاهري منه أي الذين آمنوا به كما ان المراد بالكفر ترك الاعتصام بحبل اللّه فتفرقوا و اختلفوا و بدّلوا دين اللّه تعالى و هتكوا حرماته فكفروا بأنعم اللّه و حينئذ لا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة كما قيل بل تعم جميع من آمن صورة و ترك العمل بما آمن به و كفر بأنعمه عز و جل.

قوله تعالى: فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ .

انما اطلق عز و جل العذاب و لم يصفه بأمر تعظيما له و تهويلا، و الأمر للاهانة، و الفاء للإيذان بان العذاب مترتب على الكفر كما يدل عليه ذيل الآية الشريفة «بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» و الباء للسببية.

و انما جمع عز و جل الفعل الماضي و المستقبل للدلالة على استمرارهم على الكفر و كأنه صار طبعهم و بذلك استحقوا الجزاء الأليم و ان ذلك العذاب جزاء أعمالهم اختاروه بسوء أعمالهم.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِبْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اَللّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

الرحمة عامة شاملة لجميع مواهبه تعالى و إفاضاته بالنسبة إلى عباده

ص: 223

المؤمنين دنيوية كانت تلك الرحمة أو اخروية، و كل ما يكون في الدنيا يتمثل في العقبى بصورة حسنة و كل ما هو في الجنة يكون في صورة الفلاح و النجاح فهما متحدان ذاتا، فيكون الجزاء في الطائفتين مناسبا لأفعالهم، فكل ما يصدر عنهم في الدنيا يكون لهم أو عليهم في العقبى.

قوله تعالى: تِلْكَ آياتُ اَللّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ .

الظرف متعلق بالآيات كما يصح تعلقه بقوله «نَتْلُوها» لأن المتلو عين تلك الآيات و هي عين ما يتلوها اللّه تعالى على نبيه فلا فرق بين تعلق الظرف بالتلاوة أو بالآيات المتلوة. و هو قيد توضيحي لان كل ما يصدر عنه تبارك و تعالى حق بجميع معنى الكلمة.

و المراد بالآيات و الدعوة إلى الخير و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، كما ان المراد بالحق نفس الأمر الواقعي الذي يقوم به نظام الدنيا و الآخرة فان الاحكام التي شرعها اللّه تعالى لعباده تتضمن سعادتهم الدنيوية و الاخروية بل لأجلها شرعت.

قوله تعالى: وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ .

بيان لمعنى الحق فان ما هو الحق واقعا لا يعقل منه الظلم لأنه انما يكون لترميم النقص و تكميله و المفروض انه محال عليه تعالى، فهو عام يشمل جميع أنحاء الظلم تشريعا و جزاء كما تدل عليه الآية الشريفة فان الظلم نكرة واقعة في سياق النفي.

و العالمين جمع محلي باللام يفيد الاستغراق يشمل كل عالم في سلسلة الزمان كما يشمل عالم البرزخ و الآخرة إلى ما لا نهاية له. و هذه الآية

ص: 224

تأكيد لقوله تعالى: «فَذُوقُوا اَلْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ» فان العذاب إذا كان نتيجة الكفر لا وجه لاحتمال الظلم بالنسبة إلى العامل الذي اختار الجزاء بنفسه، فتكون جميع المساوي و الشرور التي تصيب الإنسان في العالمين - الدنيا و الآخرة - من ترك الاعتصام بحبل اللّه تعالى عملا، و من التفرق و الاختلاف كما تقدم.

بحوث المقام
بحث أدبي:

نصب «حق» في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» على النيابة عن المفعول المطلق المضاف اليه لأنه من صفاته.

و اللام في قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ» للأمر، و الجمهور على إسكانها، و قرئ بكسرها على الأصل و (تكن) إما من كان التامة، فتكون «امة» فاعلا و جملة «يدعون» صفته، و «منكم» متعلق ب (تكن) أو بمحذوف يكون صفة لأمة قدم عليها فصار حالا، و إما من كان الناقصة فتكون «امة» اسمها و (يدعون) خبرها و (و منكم) إما حال من امة أو متعلق بكان الناقصة.

و انما اتى «يدعون» مذكرا باعتبار إرادة الجماعة من الذكور من الامة و تدخل النساء تغليبا ان لم نقل باشتراك الصيغة للمذكر و المؤنث.

و نصب يوم في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» للظرفية قيل ان العامل فيه «عظيم»، و يجوز ان تعمل فيه الجملة في معنى يعذبون يوم

ص: 225

و قيل: انه منصوب على الظرفية اي (لهم) لان فيه معنى الاستقرارية.

و قيل انه منصوب بإضمار (اذكر) على انه مفعول. و قيل انه ظرف لفلاح المفلحين و عاقبة المتفرقين.

و الحق ان يقال: ان النصب لما كان يدل على الإعلان و الإظهار و التفخيم فيكون المقدر «أعلن يوم تبيض وجوه و تسود وجوه» فتدل الآية المباركة على عظمة هذا الخطاب و تجليله و تعظيمه بحيث يجذب القلوب و تصير العقول صرعى.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على امور:

الاول:

قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» على مراعاة التقوى و المبالغة فيها في جميع الأحوال بحيث لا تشوبها غفلة فلا يتركها احد قدر المستطاع، و لذا قسم اهل العرفان التقوى على مراتب ثلاث: تقوى العوام و هي الاجتناب عن ما لا يرضاه اللّه تعالى و تقوى الخواص و هي الاجتناب عن كل مرجوح حتى المكروهات، و تقوى أخص الخواص و هي الاجتناب عما سوى اللّه تعالى في الكونين.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» على لزوم الإسلام في جميع الأزمان و عدم الانصراف عنه في وقت من الأوقات، و التمسك به حتى يقع الموت و هو على الإسلام بحيث لا تصرفه الشبهات و لا تعوقه المشكلات عن العمل باحكام الإسلام فلا يرده بعد إيمانه كافرا، فان الحشر انما يكون على ما يقع عليه الموت

ص: 226

و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «كما تعيشون تموتون و كما تموتون تحشرون» فإذا مات على دين الإسلام و الالتزام به اعتقادا و عملا حشر على هذه الحالة و فاز بالسعادة و الرضوان من حين موته و من ذلك يظهر الوجه في التأكيد و الحصر الواردين في الآية الشريفة.

كما انه يمكن ان يستفاد من هذه الآية أيضا ان المعصية قد توجب الصرف عن الايمان حين الموت، فتحقق الخسران لا محالة، فلا بد من ترك المعصية مطلقا حتى لا يكون للشيطان فيه مطمع و على هذا يكون ترتب هذه الآية على قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» من قبيل ترتب المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر)، و اللازم على الملزوم.

الثالث:

يستفاد من قوله «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» ان الاعتصام بحبل اللّه تعالى انما هو أمر من الأمور الاجتماعية التي تؤثر في المجتمع و لا يمكن ان ينال الأثر المطلوب منه الا بعمل جميع افراد المجتمع به و عدم التفرق عنه بوجه من الوجوه، و على هذا لا بد ان يكون هذا الحبل ذا اثر اجتماعي قويم و له التأثير الكبير في المجتمع، و يكون مقبولا لديهم، و هم مأمورون بالتمسك به عملا و هو بمنزلة الروح للأمة و لولاه لما كان للافراد اثر أصلا بل كانوا كالجسم بلا روح. و الروح الاجتماعية في الإسلام إنما هي الاعتصام بحبل اللّه تعالى عملا و هذه الروح هي النعمة الحقيقة على المجتمع و مثل هذا الحبل في الإسلام هو القرآن الكريم و من انزل عليه و من شرح القرآن حق الشرح.

و من ذلك يعرف السر في تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فانه تعالى يبين بعض وجوه التفرق و الاعراض عن الاعتصام بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلام ثم ما وصل اليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه و الالتفاف حول الرسول الكريم و الاجتماع على الاخوة، كما عرفت في التفسير. فيكون الاعتصام بحبل اللّه حق الاعتصام علة تامة منحصرة لحفظ الاجتماع عن الخلاف و الاختلاف حدوثا و بقاءا، كما ان الانفصام عنه علة تامة منحصرة للنفاق و التفرق و الخلاف و السقوط في هاوية الهلاك، و العيان في كل ذلك يغني عن البيان و البرهان.

ص: 227

و من ذلك يعرف السر في تعقيب هذه الآية بقوله تعالى: «وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فانه تعالى يبين بعض وجوه التفرق و الاعراض عن الاعتصام بحبل اللّه في عصر ما قبل الإسلام ثم ما وصل اليه الأمر بعد التمسك بحبل اللّه و الالتفاف حول الرسول الكريم و الاجتماع على الاخوة، كما عرفت في التفسير. فيكون الاعتصام بحبل اللّه حق الاعتصام علة تامة منحصرة لحفظ الاجتماع عن الخلاف و الاختلاف حدوثا و بقاءا، كما ان الانفصام عنه علة تامة منحصرة للنفاق و التفرق و الخلاف و السقوط في هاوية الهلاك، و العيان في كل ذلك يغني عن البيان و البرهان.

الرابع:

يستفاد من التأكيد في إتيان لفظ «جميعا» و النهي عن التفرق في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا» ان جعل الداعي إلى الاجتماع و المانع عن الخلاف و الاختلاف امر حقيقي خارجي واقعي و واحد لا ان يكون اعتقاديا بان يدعي كل احد انه معتصم بحبل اللّه تعالى و لا يلزم الخلاف الباطل بضرورة العقل، فيصح ان يقال انه كل ما حصل الخلاف و الاختلاف لم يتحقق الاعتصام الحقيقي بحبل اللّه فيرجع محصل معنى الآية: ان اجعلوا انفسكم من مظاهر الاعتصام باللّه. و لعل من احد اسرار هذا التأكيد على الاجتماع و النهي عن الاختلاف هو ما كان يعلمه اللّه تعالى من مستقبل هذه الأمة من وقوع الاختلاف فيها و انها تختلف كما اختلف غيرهم من اليهود و النصارى و هذا هو دأب القرآن الكريم انه إذا بالغ في التحذير عن شيء انما يريد التنبيه على ترتب وقوعه، و هو من ملاحم القرآن الكريم.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» على وجوب النظر في الادلة و الآيات و التفكر الصحيح المنتج فان في ذلك الهداية للإنسان.

ص: 228

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ» اهمية الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فقد أمر عز و جل الأمة إلى تحمل هذه المسؤولية أولا، لان المقام يحتاج إلى التعاون و التعاضد فلا يمكن ترك المتصدي وحده كما مر في التفسير، ثم امر طائفة خاصة منها إلى التصدي لهما لأنه يشترط فيهما العلم و القدرة و من المعلوم عدم تحقق جميع الشروط في كل فرد ثم ثبوت الجزاء الجزيل على ذلك و تشديد النكير على تركه.

و أخيرا ان هذا التكليف من اسباب التكميل و التهذيب و الصلاح و الإصلاح و ترويض النفس و تزيينها بالفضائل و الكمالات و سعادة الفرد و المجتمع و تحسين نظام الاجتماع و المدنية، و لذا كان التكليف جاريا على احسن نهج و ما هو الأوفق بالحكمة، فهو من أعظم صفات اللّه تعالى أوكلها إلى أنبيائه و رسله و يدل على ذلك جملة من الأحاديث فقد ورد عن الامام محمد الباقر (عليه السلام) في حديث: «إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سبيل الأنبياء و منهاج الصلحاء فريضة عظيمة بها تقام الفرائض و تؤمن من المذاهب، و تحل المكاسب، و ترد المظالم، و تعمّر الأرض، و ينتصف من الأعداء، و يستقيم الأمر - الحديث».

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ» مراتب هذه الدعوة فإنها تبتني على كونها باعثة على الانقياد و داعية إلى الزجر و رادعة عن المنكر من القول و الفعل و سائر الأمور المحصلة لهذا الغرض و ان كان في بعض المراتب يتوقف على اذن ولي الأمر، فان عموم الدعوة يشمل جميع هذه المراتب القولية و العملية و غيرهما.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» ان الدار الآخرة و ما فيها من النعيم و الجحيم بمنزلة المرآة للدار الدنيا (أو كالصورة) فكل ما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا.

ص: 229

يستفاد من قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ» ان الدار الآخرة و ما فيها من النعيم و الجحيم بمنزلة المرآة للدار الدنيا (أو كالصورة) فكل ما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا.

كما تدل الآية الشريفة على سنخية الثواب و العقاب مع العمل، و يصح ان يراد باليوم في قوله تعالى: «يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ» طبيعة اليوم المنطبقة على يوم الآخرة و ايام الدنيا، فان المفلحين مبيضة وجوههم في هذا العالم قبل يوم الآخرة: و الظالمون عكس ذلك، و يكون البياض كناية عن الراحة النفسية و استقرار الضمير و اعتماد الناس عليه و في الآيات الكريمة و السنة المقدسة شواهد كثيرة يأتي في المحل المناسب شرح ذلك ان شاء اللّه تعالى.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «وَ مَا اَللّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ» ان ترك التكاليف الإلهية يوجب اختلال النظام و سوء الحال في كل عالم، فيكون كل ظلم يرد على الإنسان انما يرد من ناحيته، و اما التكاليف فقد وضعها اللّه تعالى على عباده لسعادتهم و تحسين نظامهم و صلاحهم و إصلاحهم و حسن معيشتهم و رفع الظلم من بين افراد الناس.

بحث فقهي
اشارة

جعل الاحكام مطلقا شرعية كانت أم غيرها على اقسام:

الاول:

ما إذا تعلق الحكم بالطبيعة من حيث الإفراد الانبساطية، و يلزمه محبوبية الاجتماع فيه، بل قد يتعلق الأمر الندبي بها مستقلة كالصلاة فرادى و جماعة و غيرها من العبادات التي يكون الاجتماع فيها مطلوبا و مرغوبا فيه.

ص: 230

الثاني:

ان يكون الاجتماع فيه مطلوبا مستقلا، فتسرى المطلوبية فيه إلى كل فرد أيضا، و يكون ذلك مطلوبا لا ان يكون هدرا و باطلا و الاعتصام بحبل اللّه تبارك و تعالى من هذا القبيل فيتعلق التكليف بالجميع كما تعلق بالإفراد مستقلا أيضا، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كذلك.

الثالث:

ان يتعلق التكليف بالجميع و لكن ليس من قدرة كل أحد امتثال هذا التكليف بنفسه من نفسه، كالتكليف بحمل حجر ثقيل لا يقدر على حمله إلا جماعة، و لا وجه حينئذ لتعلق التكليف بكل فرد مستقلا، بل هو ثابت للجميع و ليس الاعتصام بحبل اللّه تعالى من هذا القبيل، و هناك اقسام اخرى لعلنا نتعرض لها في المقامات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.

ثم إن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لهما شروط و آداب كثيرة مذكورة في كتب الفقه و قد تعرضنا لها في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من (مهذب الاحكام).

و يستفاد من قوله تعالى: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى اَلْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» اصل الوجوب و انه كفائي كما ذكرنا مضافا إلى علم الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر و معرفته بوجوبهما لان الخير معروف لدى كل احد و ان المعروف هو كل الخير كما عرفت.

بحث روائي

في المعاني و المحاسن و تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «سألت

ص: 231

أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه عز و جل: اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: يطاع فلا يعصى، و يذكر فلا ينسى، و يشكر فلا يكفر».

أقول: ورد مثله في الدر المنثور عن ابن مسعود عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و ما ورد عن الصادق (عليه السلام) بعض مراتب التقوى التي ذكرها (عليه السلام) و هي تكفي في التلبس بالتقوى و ترتب اثار التقوى في الدنيا و العقبى.

و في تفسير العياشي قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» قال (عليه السلام) منسوخة يقول اللّه «فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ» .

أقول: روي في المجمع و في تفسير القمي أيضا و المراد من المنسوخ هنا المرتبة الاخيرة من التقوى المسماة في علم الأخلاق بتقوى أخص الخواص. و المراد بالنسخ هنا عدم وجوب مراعاتها دفعا للعسر و الحرج و تسهيلا على الامة و اما لو رعاها احد مع مراعات القواعد الشرعية فلا محذور فيها.

و في الدر المنثور اخرج الخطيب عن أنس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا يتقي اللّه عبد حق تقاته حتى يعلم ان ما اصابه لم يكن ليخطئه، و ما أخطأه لم يكن ليصيبه».

أقول: فيكون المراد من قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» استناد جميع الأمور اليه تبارك و تعالى و جعله مسبب الأسباب في كل سبب اي الاعتقاد بقوله تعالى: «قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً» النساء - 78 و هذه عبارة اخرى عن الذكر المعروف المأثور «لا حول و لا قوة الا باللّه العلي العظيم».

و بعبارة اخرى: ان قوله تعالى: «اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ» جامع

ص: 232

للتوحيد الذاتي و توحيد المعبود و التوحيد الفعلي و هذه احسن كلمة جامعة للمعارف القرآنية.

و في تفسير البرهان عن ابن شهر آشوب عن تفسير وكيع عن عبد خير قال: «سألت علي بن أبي طالب عن قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ قال: و اللّه ما عمل بها غير بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نحن ذكرناه فلا ننساه، و نحن شكرناه فلن نكفره، و نحن اطعناه فلم نعصه فلما نزلت هذه الآية قالت الصحابة لا نطيق ذلك فانزل اللّه: فَاتَّقُوا اَللّهَ مَا اِسْتَطَعْتُمْ قال وكيع ما أطقتم - الحديث -».

أقول: يبين (عليه السلام) أولا ان المراد بالآية حقيقة الشكر و حقيقة الطاعة بجميع مراتبها و هذا هو الذي يعبر عنه في اصطلاح العرفاء و علم الأخلاق ب تقوى أخص الخواص و ذيل الرواية يبين تقوى العامة.

العياشي عن الحسين بن خالد قال: «أبو الحسن الاول (عليه السلام) كيف تقرأ هذه الآية: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» ماذا؟ قلت: مسلمون فقال سبحان اللّه يوقع عليهم الايمان فيسميهم مؤمنين، ثم يسألهم الإسلام. و الايمان فوق الإسلام. قلت: هكذا يقرأ؟ في قراءة زيد قال (ع): انما هي قراءة على التنزيل».

أقول: صدر الآية الشريفة تبين ان الايمان أخص من الإسلام و لا معنى لبيان الأعم بعد ذكر الأخص و لكن ذيل الرواية كما نسب ذلك إلى قراءة علي (عليه السلام) المراد من الايمان هو الإسلام كما كان ذلك شايعا في صدر الإسلام من ان المراد من الايمان الإسلام كسائر الآيات

ص: 233

المشتملة على قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» .

و في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «و أنتم مسلّمون بالتشديد».

أقول: المراد بالتسليم اعتقادا و قولا و عملا في كل ما يرتضيه اللّه تبارك و تعالى و هذا ليس الا تقوى اللّه حق تقاته.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً» اخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كتاب اللّه هو حبل اللّه الممدود من السماء إلى الأرض».

أقول: لا ريب في صحته كما لا ريب في صحة ما ورد عنه (صلى اللّه عليه و آله) متواترا انه كتاب اللّه و عترته لفرض ان عترته شارحة لكتاب اللّه فلا ينافيه من هذه الجهة.

و فيه أيضا اخرج ابن أبي شريح الخزاعي قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ان هذا القرآن سبب، طرفه بيد اللّه، و طرفه بأيديكم فتمسكوا به فإنكم لن تزالوا و لن تضلوا بعده ابدا».

أقول: و هو معنى الاعتصام بحبل اللّه. و حبل اللّه الممدود و نحو ذلك من التعبيرات اي الممدود إليكم لتأخذوا به.

و في معاني الاخبار عن السجاد (عليه السلام): «حبل اللّه هو القرآن، و القرآن يهدي إلى الامام».

أقول: كما ان الامام (عليه السلام) يهدي إلى القران فهما في الهداية اليه تبارك و تعالى سواء.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً» قال التوحيد و الولاية» أقول: هما على نحو المتن و الشرح.

ص: 234

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

«آل محمد هم حبل اللّه الذين أمرنا بالاعتصام به فقال: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا ».

أقول: لأنهم لا ينطقون إلا عن القرآن و لا يبينون شيئا إلا منه.

و في الدر المنثور عن زيد بن أرقم قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): اني لكم فرط و انكم واردون علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني في الثقلين؟ قيل و ما الثقلان يا رسول اللّه؟ قال (ص):

الأكبر كتاب اللّه عز و جل سبب طرفه بيد اللّه و طرفه بأيديكم فتمسكوا به لن تزالوا و لن تضلوا و الأصغر عترتي، و انهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، و سألت لهما ذاك ربي فلا تقدموهما فتهلكوا و لا تعلموهما فإنهما أعلم منكم».

أقول: هذا الحديث الشريف يبين جميع ما ورد في اخبار الثقلين و في التمسك بحبل اللّه تعالى فليس لأحد ان يتمسك بتلك الاخبار إلا بعد عرضها على هذا الحديث لفرض انه في مقام البيان و الشرح و التعليل.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لا تَفَرَّقُوا» عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ان اللّه تبارك و تعالى علم انهم سيفترقون بعد نبيهم و يختلفون فنهاهم عن التفرق كما نهى من كان قبلهم فأمرهم ان يجتمعوا - الحديث -».

أقول: قريب منه روايات كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله).

و في الدر المنثور عن انس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) افترقت بنوا إسرائيل على إحدى و سبعين فرقة، و ان امتي ستفترق على اثنتين و سبعين فرقة كلهم في النار إلا واحدة قالوا

ص: 235

يا رسول اللّه و من هذه الواحدة؟ قال الجماعة ثم قال و اعتصموا بحبل اللّه جميعا».

أقول: المراد بالجماعة: الجماعة التي تمسكوا بالقرآن و بالعترة كما في الحديث السابق آنفا الشارح لمثل هذا الحديث.

و في الدر المنثور أيضا اخرج أبو داود، و الترمذي، و ابن ماجة و الحاكم في صحيحه عن أبى هريرة قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): افترقت اليهود على احدى و سبعين فرقة و تفرقت النصارى على اثنتين و سبعين فرقة، و تفترق امتي على ثلاث و سبعين فرقة».

أقول: في مضمون ذلك روايات كثيرة متواترة روتها الشيعة و الجمهور.

و في الخصال عن سليمان بن مهران عن جعفر بن محمد عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «سمعت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يقول: إن امة موسى افترقت على احدى و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و سبعون في النار و افترقت امة عيسى بعده على اثنتين و سبعين فرقة. فرقة منها ناجية، و احدى و سبعين في النار و ان امتي ستفترق بعدي على ثلاث و سبعين فرقة فرقة منها ناجية و اثنتان و سبعون في النار».

أقول: لا بد من عرض أمثال هذه الروايات على الحديث المتقدم الشارح لها المنقول عنه (صلى اللّه عليه و آله).

و في جامع الأصول عن الترمذي عن ابن عمرو بن العاص قال:

«قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يأتي على امتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل حتى لو كان فيهم من نكح امه علانية كان في امتي مثله ان بني إسرائيل افترقوا على احدى و سبعين ملة

ص: 236

و تفترق امتي على ثلاث و سبعين ملة كلها في النار الا ملة واحدة فقيل له ما الواحدة؟ قال: ما أنا عليه اليوم و أصحابي».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور و المراد من الأصحاب هم الملتزمون بالقرآن و العترة لئلا يقع التنافي بينه و بين ما دل على انهما المناط في الرشاد و عدم الضلال كما دلت عليه جملة كثيرة من الروايات.

و في كمال الدين باسناده عن غياث بن ابراهيم عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كل ما كان في الأمم السابقة فانه يكون في هذه الامة مثله حذوا النعل بالنعل و القذة بالقذة».

أقول: المراد بالقذة تقدير كل واحدة من الأمتين على قدر صاحبتها و تقطع و قال ابن الأثير: «يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان» و ذكر الحديث: «لتركبن سنن من كان قبلكم حذوا القذّة بالقذة».

و في الكافي عن أبى عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بمحمد» هكذا و اللّه نزل جبرئيل على محمد صلى اللّه عليه و آله».

أقول: و في تفسير العياشي مثله الا من دون «و اللّه نزل بها جبرئيل على محمد» و هذا تنزيل لمعنى القرآن لا ان يكون تحريف في البين كما يتوهم. أو يحمل على بعض مراتب اصل النزول فلا تنافي بينه و بين نزول اصل الآية الشريفة كما في المصاحف، فان مراده تبارك و تعالى قد يظهر بصورة الوحي ثم توحي الآية بصورة اخرى مع معلومية اصل المراد و تحققه.

و في تفسير القمي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله): «لتركبن

ص: 237

سنة من كان قبلكم حذو النعل بالنعل، و القذة بالقذة لا تخطون طريقهم و لا يخطى شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى ان لو كان من قبلكم دخل حجر ضب لدخلتموه قالوا اليهود و النصارى تعني يا رسول اللّه؟ قال فمن اعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة».

أقول: بعد وجود الشيطان في الامة المرحومة و عدم منعه عن التدخل فيها فيعلّمهم الشيطان تلك الطرق المنتهية إلى الفساد المستلزمة للبعد عن تقوى اللّه تعالى التي أفسد بها الأمم السابقة و قد جرب تلك الطرق في الأمم السابقة و استنتج منها نتائج هامة فلا يعقل ان يخلى هذه الامة لنفسها و عن أعوانه باغواء هذه الامة بتلك الطرق.

و المراد بالأمانة: التكاليف الواقعية اصولا و فروعا و المراد بالصلاة ذهاب صورتها من بين المسلمين أيضا و في جملة من الأحاديث انه لا تقوم الساعة إلا على شرار خلق اللّه تبارك و تعالى و من ذلك يستفاد ان الصلاة بمنزلة العمود للدين فما دامت هي بين المسلمين بحدودها و قيودها يحتفظ بها نظامهم و يتوحد بها كلامهم.

و في صحيح الترمذي عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه قال:

«و الذي نفسي بيده لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى إن كان فيهم من اتى امه يكون فيكم فلا ادري أ تعبدون العجل أم لا؟».

أقول: تقدمت الروايات الدالة على ذلك، و السر في الاختلاف يرجع إلى اختلاف الآراء و الأهواء و هو ذاتي بعد عدم التزامهم بالشريعة الواقعية و تشرعهم بغير الواقع.

و في الصحيحين عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال:

ص: 238

«ليردن عليّ الحوض رجال ممن صاحبني حتى إذا رفعوا اختلجوا دوني فلأقولن: اي رب اصحابي فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».

أقول: هذا حديث صحيح يشهد له الوجدان و الاعتبار.

و في الصحيحين أيضا عن أبي هريرة ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من اصحابي - أو قال من امتي - فيحلئون عن الحوض فأقول «يا رب اصحابي فيقول:

لا علم لك بما أحدثوا بعدك ارتدوا على أعقابهم القهقري فيحلئون».

أقول المراد من (يحلأون) اي يصدون عنه و يمنعون من وروده و مضمون هذا الحديث متواتر بين المسلمين مضافا الى الوجدان الخارجي كما دلت عليه الآية الشريفة: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ» آل عمران - 144.

و في الدر المنثور اخرج الحاكم و صححه عن ابن عمر: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه حتى يراجعه و من مات و ليس عليه إمام جماعة فان موتته ميتة جاهلية».

أقول: المراد من امام الجماعة امام زمانه كما وقع بهذا التعبير في جملة من الروايات.

و في المجمع في قوله تعالى: «أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «هم اهل البدع و الأهواء و الآراء الباطلة من هذه الامة».

أقول: في سياق ذلك روايات كثيرة.

ص: 239

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَ.......

اشارة

وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ (109) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112) الآيات الشريفة مرتبطة بالآيات السابقة فإنها اختتمت بأن اللّه تعالى لا يريد أن يوقع بالعالمين ظلما.

و في الآية الاولى من هذه الآيات يبين سبحانه العلة لذلك من انه غنى عن ظلمهم لأنه يملك ما في السموات و ما في الأرض و اليه مصير الأمور و انما يريد جلت عظمته ان يحق الحق و يجرى العدل و ينال كل انسان جزاء ما احسن أو أساء فيترتب الجزاء على العمل و يعيش الإنسان بالحق و ينتهي الى الحق فقد جمع اللّه فيها بين المبدأ و المعاد.

و اما الآية الثانية منها فتبين قدر هذه الامة في هذه الأرض و بم استحقت هذه المنزلة و نالت هذه الكبرياء و العظمة؟! لم تكن محاباة

ص: 240

و لا مجازفة بل لأنها اعتصمت بحبل اللّه تعالى، فالآية الشريفة توصف المعتصمين به الداعين للخير بوصف شريف رفيع و تبين قدرهم و فضلهم على من سواهم.

كما ان الآيات الاخيرة تكشف عن هوان و تصغير اهل الكتاب بل و غيرهم من الكفار بأنهم لا يملكون ما يضروكم و انما هم في ذلة و كتبت عليهم المسكنة، تعيش في ضمائرهم و تمزق مشاعرهم لأنهم كفروا بآيات اللّه و تمردوا بقتل الأنبياء و الاعتداء على الحق و الحقيقة.

التفسير

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

اي: له وحده جميع ما في السموات و الأرض من جميع الجهات خلقا و تصرفا و تدبيرا و إيجادا و إفناء لأنه إله العالم و مدبره و خالقه و ما سواه محتاج اليه في جميع شؤونه.

و انما ذكر اسم الجلالة لبيان وجه مالكيته و رجوع سائر الخلق اليه، لأنه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، و لما في الألوهية من السلطة التامة على جميع الممكنات.

و المراد بالملكية فيه عز و جل هي الملكية الحقيقية الايجادية و الابقائية و الإفنائية و التربوية التامة الابدية لا الملكية الاضافية الاعتبارية، فإنها من الاعتباريات التي لا تليق به تبارك و تعالى كما ذكرنا في هذا التفسير مكررا.

ص: 241

قوله تعالى: وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ .

بيان للمعاد بعد ذكر المبدء لان من كان موجودا لما سواه لا بد ان يصير ما سواه اليه أيضا لما هو ثابت في الفلسفة الإلهية من التلازم بين المبدء و المعاد فليس لغيره من الأمر شيء، فلا محالة ترجع الأمور اليه عز و جل، فهو واحد في الإيجاد و الإرجاع و المعاد.

و انما ذكر عز و جل ذلك في المقام لبيان التلازم بين المبدء و المعاد و الإظهار في مقام الإضمار لبيان الدليل لإقامة المعاد و رجوع الأمر اليه كما استدل بذلك على إيجاد الممكنات، و لإظهار المهابة و منتهى العظمة و غاية الكبرياء، فإذا كان اللّه تعالى مالكا لسائر خلقه و مصيرهم اليه و هو يجازي كلا بما تقتضيه حكمته و عدله حسب عمله، فلا يتصور وجه للظلم فيه تعالى.

قوله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ .

إخبار عن حقيقة الواقع على ما هو عليه، و هو غير محدود بأي حد من الحدود الزمانية و المكانية كما هو شأن الحقائق الواقعية يكفي في صدقها صرف الوجود و قد تحقق ذلك عند ما كان المسلمون متصفين بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و داعين إلى الخير فقد كانت لهم السلطة الروحية و الظاهرية و التفوق على غيرهم من الأمم و صدرت منهم العجائب. و سيستعيدون سلطتهم و عظمتهم و روحانيتهم و تفوقهم إذا ظهر العدل الحقيقي في الإسلام و اتفقت كلمة المسلمين على التوحيد و اجتمعت الامة على الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و شاعت الرحمة بينهم.

ص: 242

و المراد بالخروج هو الظهور بحسب مراتبه التدريجية الواقعية كخروج الأوراد من أكمامها و النباتات عن منبتها قال تعالى: «يَخْرُجُ مِنْهُمَا اَللُّؤْلُؤُ وَ اَلْمَرْجانُ» الرحمن - 22.

وجهة الخيرية معلومة و هي الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و التخلق بأكرم اخلاق اللّه تعالى، فيصير حقيقة المعنى: كنتم خير امة ظهرت للناس لأنكم متخلقون بأعظم اخلاق اللّه تعالى و لا ريب في ان الصفة تعليلية يعني: انكم ما دمتم على تلك الصفة تتصفون بالخيرية و تنسلخ عنكم إذا زالت الصفة كما هو شأن كل وصف تعليلي فتكون هذه الجملة من قبيل القضايا العقلية المشتملة على العلة و المعلول المطابقة لفطرة العقول، يؤتى بها لزيادة التحريض على الانقياد و الطواعية و لبيان شدة الاهتمام بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و تدل الآية الشريفة على مدح المؤمنين بالصفات الواردة فيها و تفوقهم على سائر الناس، و قد تشرفت الامة بهذه الطائفة المعينة المتصفة بحقيقة الايمان و بأكرم صفات الباري عز و جل.

و من ذلك يعرف ان (كان) ناقصة تدل على تحقق الشروط، لا ما يقال: من انها تدل على تحقق مضمونها في الزمان الماضي و انقضى و انقطع، على ما ذكر جمع كثير من ان الآية الشريفة نزلت في الذين هاجروا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة، و اخرج بعضهم عن عمرانه قال: «أولنا و لا تكون لآخرنا فلو شاء اللّه لقال أنتم فكنا كلنا و لكن قال: كنتم في خاصة اصحاب محمد (صلى اللّه عليه و آله) و من صنع مثل صنيعهم كانوا خير امة أخرجت للناس».

و لكن حق القول أن (كان) و ان كانت ناقصة و غير منسلخة عن الزمان، و لكنها لا تدل على ما ذكروه فانه لو كان الأمر كذلك

ص: 243

لكانت الآية الشريفة واردة في ذم الصحابة لا في مدحهم لأنها تدل على انهم كانوا متصفين في وقت النزول بالمضمون و لكنهم انسلخوا عنه في وقت آخر. و هذا بعيد عن سياق الآية الشريفة، و لأجل هذا قال بعضهم ان (كان) في المقام منسلخة عن الزمان و قد استعملت للأزلية قياسا على قوله تعالى «وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً» النساء - 148 و أشباهه فإنها تستعمل على اللزوم من دون انقطاع و انقضاء.

و لكن ذلك مردود أيضا فان كان كذلك بالنسبة إلى صفات الباري لان صفاته سبحانه و تعالى ازلية ابدية لا يعقل المضي و الانقطاع فيها و لكن ذلك لا يوجب صرفها عن وضعها في المقام كما هو معلوم.

و قيل: ان (كان) تامة - كقوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ» البقرة - 280 - مأخوذة من الكون المطاوع للتكوين نظير قوله تعالى: «كُنْ فَيَكُونُ» * البقرة - 117، و خير امة حال من الضمير، و جملة أخرجت صفة للامة بمعنى أخرجت من العدم إلى الوجود.

و لكن كل ذلك تطويل بلا طائل بعد ظهور السياق في مدح من اتصف بهذه الصفة سواء كان في عصر النزول أو بعد ذلك و قد تشرفت الامة بهذه الطائفة المؤمنة، و قد أثبتنا في الأصول ان القضايا الحقيقية الواقعية تنطبق على موضوعاتها قهرا أينما تحققت و وجدت في الماضي و الحال و المستقبل. فلا وجه للنزاع في ان (كان) تامة أو ناقصة أو منسلخة عن الزمان أو غير منسلخة بعد ان كانت الآية من قبيل القضايا الحقيقية و هكذا في سائر القضايا القرآنية.

ص: 244

قوله تعالى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

بيان لسبب الصلاح و الخيرية للمجتمع بل الحياة السعيدة كما تقدم فان بهما يتحقق صلاح المجتمع و الامة و تبعّد الشر عنهما فالامر بالمعروف و النهي عن المنكر بكل ما فيهما من المتاعب و المشاق ضروريان لإصلاح المجتمع و كل ما ازداد، و انتشر الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر اتصفت الامة بالعظمة و الخيرية و كل ما ضعفا انهارت الامة في كيانها.

قوله تعالى: وَ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ .

اي: تؤمنون باللّه تعالى حق الايمان، و انما قدم عز و جل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر على الايمان باللّه تعالى و ان كان الأخير مشتملا عليهما و أصلا لهما، لبيان اهميتهما و ان الإخلال بشيء منهما إخلال بالإيمان، و لان الايمان يمكن ان يدعيه كل احد الا إذا اقترن القول بالفعل. فالامر بالمعروف و النهي عن المنكر لهما الدلالة على صدق الدعوى فهما اظهر في الخيرية من مجرد ادعاء الايمان، فيكونان كالمقتضي لتحقق الايمان و ثبوته و صدقه. و لان الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا بد ان يكونا عن علم بموردهما و عمل لهما فقد جمعا بين الاعتقاد و العمل.

و من سياق الآية الشريفة يستفاد ان مجرد الايمان لم يكن كافيا في الاتصاف بالخيرية و الفضل العظيم بل لا بد من تحقق الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فتختص هذه الفضيلة بطائفة خاصة و ليس كل واحد من المؤمنين داخلا فيها فالخطاب يكون لجماعة مخصوصين ملازمين للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر متلبسين بحقيقة الايمان

ص: 245

قوله تعالى: وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ اَلْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ .

اي: و لو كان اهل الكتاب على ما وصف به المؤمنون و استعصموا بالإيمان باللّه العظيم حقيقة و واقعا لفازوا بالسعادة في الدنيا و الآخرة و دفع عنهم العذاب.

قوله تعالى: مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ .

اي: لكنهم مختلفون فمنهم أمة مؤمنة و اخرى فاسقة خارجة عن طاعة اللّه تعالى فكان هذا الاختلاف سببا في بعدهم عن حقيقة الايمان فلم يجتمعوا على الاعتصام بحبل اللّه تعالى بخلاف المؤمنين الذين آمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) و اجتمعوا على الاعتصام بحبله تعالى و اتفقوا على طاعة اللّه عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ففازوا بسعادة الدارين و على هذا يمكن ان يكون الايمان و الكفر في الآية الشريفة هما الايمان و الكفر الجهتيان اي الاجتماع على الاعتصام باللّه و التمسك بحبله و الاتفاق على طاعته و الكفر خلاف تلك.

قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً .

الأذى: ما يعرض الإنسان من مكروه في نفسه أو جسمه أو تبعاته و المراد به في المقام إما في القول كالكذب و البهتان، و قبيح الكلام أو في الفعل كالتهييج و التجمع للحرب و القتال أو ما يجرح قلوب المؤمنين بإظهار الكفر و المجاهرة بالضلال و إفساد القلوب الضعيفة و قد يستلزم الضرر اليسير فيكون الاستثناء متصلا.

و قيل: ان الاستثناء منقطع باعتبار خروج الأذى عن مفهوم الضرر و لكنه بعيد لان الضرر مطلق النقص فيشمل الجميع.

ص: 246

و المعنى: ان اهل الكتاب لا يمكنهم إيقاع الضرر بكم الا ما يوجب أذيتكم فإنهم مع اختلافهم المزبور و فسقهم لا يجتمعون على امر فيه الضرر عليكم و لا يقدرون على قتالكم و الغلبة عليكم.

قوله تعالى: وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ اَلْأَدْبارَ .

تولى الأدبار: كناية عن الانهزام و هو معروف و الآية في مقام بيان الضرر الذي تقدم ذكره اي: و ان اجتمعوا على إيقاع الضرر بكم بالقتال معكم فإنهم ينهزمون من غير ان يظفروا منكم بشيء.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ .

جملة اخبارية مستقبلة و وعد آخر منه عز و جل بأنهم لا ينصرون عليكم، لأنه لا ينصرهم احد عليكم. و يمكن ان تكون الجملة تتمة للسابق اي مع انهزامهم لا ينصرهم احد فتكون عاقبتهم العجز و الخذلان.

و كيف كان ففي الآية الشريفة ثلاث بشارات للرسول الكريم و المؤمنين، و قد تحققت مصاديقها على احسن وجه و أكمله و تستمر ذلك أيضا او اتفق المسلمون على العمل بما نزل من القرآن الكريم و ما جاء به الرسول العظيم، و نبذوا الاختلاف و التفرق كما أمرنا به.

قوله تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا .

الذلة (بالكسر) ذل خاص قرين الاهانة ضد العز الذي هو بمعنى الامتناع فيكون الذل بالمعنى العام هو الانكسار و الضعف و من أسمائه تعالى «المذل» اي هو الذي يلحق الذال بمن يشاء من خلقه، و ينفى عنه جميع انواع العز كما ان من أسمائه عز و جل «المعز» و «العزيز».

و هما اي الانكسار و الضعف تارة يكونان عن قهر فهو ذل (بالضم)

ص: 247

و اخرى: عن تصعب و شماس فهو الذل (بالكسر) و هي من صيغ الهيئة.

و ضرب الذلة عليهم كناية عن ملازمتها لهم و ظهور أثرها فيهم فلا خلاص لهم منها كضرب السكة على الفلز.

و ثقفوا بمعنى وجدوا و أدركوا الظفر بهم. و المعنى: ان الذلة قد تمكنت في نفوسهم بحيث يظهر اثرها فيهم عند الملاقاة و الظفر فيهم فانه لا منعة لهم بسببها.

قوله تعالى: إِلاّ بِحَبْلٍ مِنَ اَللّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ اَلنّاسِ .

استثناء مفرغ، و الحبل هو السبب الذي يوجب التمسك به العصمة و الامتناع و يطلق على العهود، و الذمام و الرعاية توسعا، و حبل اللّه هو الالتجاء اليه عز و جل بالإيمان به و الإخلاص له، و حبل الناس هو الدخول في ذمامهم و عهودهم و حمايتهم.

و المعنى: انهم لن يسلموا من الذلة إلا إذا آمنوا و دخلوا في عهد اللّه تعالى و انقطعوا اليه بإخلاص أو دخلوا في عهود الناس و ذمامهم فإنهم يسلمون من القتل و الأسر و ذل التباغض و نحو ذلك.

و إنما كرر سبحانه و تعالى لفظ الحبل لاختلاف المعنى فانه من اللّه هو الحكم و القضاء تكوينا أو تشريعا و من الناس العمل و البناء.

و المراد بضرب الذلة الأعم من التشريعي الذي هو القتال معهم و أخذ الجزية منهم و التكويني الذي جعله اللّه تعالى عليهم بسبب الجحود بآيات اللّه تعالى و قد أثبته التاريخ في العهود الماضية، و لا تختص الآية الشريفة بطائفة خاصة منهم بل تشمل اليهود و النصارى و كل من جحد الحق.

ص: 248

قوله تعالى: وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ .

اي: رجعوا من رحمة اللّه تعالى و هم متلبسون بغضبه عز و جل.

قوله تعالى: وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلْمَسْكَنَةُ .

المسكنة شدة الفقر، و المراد بها الفقر الذاتي الذي لا خلاص لهم عنه و هو أشد أنحاء الفقر و الحال السيئة.

و المعنى: ان إصرارهم على الجحود أوجب اتصافهم بانحاء الرذائل المعنوية و الظاهرية.

قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اَللّهِ وَ يَقْتُلُونَ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

تعليل لاتصافهم بالرذائل و قد ذكر عز و جل بعض الإفراد و هو الكفر بآيات اللّه تعالى و قتل الأنبياء بغير حق. ثم أجمله عز و جل بعد ذلك بوجه كلي.

و انما كان قتل الأنبياء من أسلافهم و لكن نسب إلى الأخلاف باعتبار رضائهم بفعل الآباء كما انه وصف قتل الأنبياء بغير حق تشديدا لهذه الجريمة النكراء لبيان أن قتل كل نبي انما يكون بغير حق فيكون القيد توضيحيا اعلاما لأهمية الجريمة و تشديد النكير فيها.

قوله تعالى: ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ .

تعليل لاتصافهم بالرذائل المعنوية و الظاهرية و ظاهر التعليل شموله لكل من اتصف به و لو لم يكن منهم فلا وجه لما في بعض التفاسير من التخصيص بطائفة خاصة منهم فان المناط عموم التعليل اي إصرارهم

ص: 249

على الاعتداء الذي أوجب العصيان و الكفر بآيات اللّه فيكون العصيان منهم مستمرا بسبب استمرار الاعتداء منهم.

بحث دلالي

قد اشتهر في العلوم العقلية ان الجزئي لا يكون كاسبا و لا مكتسبا و ذلك لان العلم مطلقا انما يتعلق بالكليات و القواعد العامة و اما الجزئيات و الإفراد فهي تابعة لها و هذا هو المراد من قول الفلاسفة الإلهيين و الطبيعيين ان نتائج الأفكار مطلقا ليست الا الكليات هذا في العلم المستفاد من الحواس الجسمانية.

و اما ما يوحى من اللّه سبحانه و تعالى على أنبيائه أو ما يقوله نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فإنها كلها ليست إلا قواعد كلية عقلية فطرية فان الجزئيات لا يمكن ان تكون مورد نظر الفلاسفة المتألهين فضلا عن المبدء القيوم و نبيه الأعظم الذي يفتخر على سائر الأنبياء بقوله (صلى اللّه عليه و آله): «أوتيت جوامع الكلم» فالقرآن الكريم و السنة المقدسة كلاهما حقايق كلية و كليات واقعية تظهر للعقول آثارها و تنشر في العالم أخبارها، و يستفاد من كل آية قواعد و اصول كثيرة، و لذا اتفق الجميع على ان المورد لا يكون مخصصا و مقيدا.

و من ذلك يعرف ان ما ورد في الآية الشريفة حقيقة من الحقائق لا تختص بعصر دون آخر و لا بطائفة معينة من المؤمنين فكل ما تحققت فيه الشروط كان داخلا في مضمون الآية الشريفة و ثبتت له الخيرية و التفضيل على سائر الناس، فلا وجه للنزاع في ان (كان) في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ» ناقصة أم تامة منسلخة عن

ص: 250

الزمان أم لا و ان كان ظاهر السياق بحسب العلوم الادبية يقتضي ان تكون (كان) ناقصة لكن حقيقة الواقع على ما هو عليه لا تتغير بالجهات الادبية، فالآية المباركة في مقام الإخبار عن أمة مؤمنة وفت بما التزمت للّه تعالى و ثبتت على إيمانها ففازت بالسعادة و الخيرية و الفضل على سائر الناس، و لا ينافي ذلك ان يقال: انهم كانوا في علم اللّه كذلك.

ثم انه يدل قوله تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» على ان السبب في نفي الخيرية عنهم انهم اختلفوا و لم يجتمعوا على الايمان و الثبات عليه، فكان هذا الذيل راجعا إلى صدر الآيات التي أمرنا فيها بالاعتصام بحبل اللّه و الاجتماع، فيرجع الذيل إلى الصدر، و هذا من بدائع الأسلوب كما فيه التأكيد على اهمية الاجتماع و نبذ الافتراق.

و السر في التعبير بالبناء للمجهول في «أخرجت» كون الناس في طريق الاستكمال تكوينا و ان الحركة في سير الاستكمال، فتصير هذه الامة خير الأمم لا محالة ان طبقت على نفسها مبادئ دينها و ذلك لا يتحقق إلا بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر كما تقدم.

و انما عبّر سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة بالمجهول «أخرجت» و في قوله تعالى: «اَللّهُ وَلِيُّ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ» البقرة - 227 بالمعلوم، و أضاف الفعل إلى نفسه الأقدس، لان تأسيس الاهتداء إلى الصراط المستقيم و جعل هذا القانون القويم يختص باللّه تعالى و لذا أضاف ذلك إلى نفسه الأقدس قال تعالى: «يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اَللّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - الحجرات - 17. و اما بعد البيان و إتمام الحجة فتصبح النفوس مستعدة لنور الفيض عليها و قبولها للكمالات

ص: 251

اعتقادا و عملا و لذا أتى بالفعل مجهولا «أخرجت» مدحا لهم.

فالآيتان المباركتان تبيّنان السبب الفاعلي و المادة القابلة اي النفوس المستعدة.

و التعبير ب (الأذى) في قوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاّ أَذىً» للاشعار بان الضرر لا يكون عميقا و لا أصيلا بحيث يتناول أمس الدعوة و انما هو مجرد عرض يزول و ان النصر ليس من نصيبهم فالآية الشريفة تعد من ملاحم الآيات في القرآن الكريم و هي تدل على ان المسلمين لو داوموا على ما كانوا عليه في بدء الدعوة من الاتحاد و الوحدة بينهم تاركين الخلاف و الاختلاف لكانت لهم الكلمة العليا و السيطرة و الاستيلاء على الأعداء و الكفار و لن يقدر احد ان يضرهم، و لكنهم اختلفوا و تفرقوا و كان فعلهم هذا بمنزلة إعطاء السلاح بيد عدوهم فصار يقاتلهم بسلاح أنفسهم فلا يلوموا في ذلك إلا أنفسهم و في مثل ذلك لا ينفع الدعاء و لا الاستغاثة باللّه العظيم كما تقدم في مباحث الدعاء.

كما يستفاد من الآية الشريفة ان الذلة عليهم كانت مستمرة ما داموا مستحقين لها لسوء أعمالهم إلا ان يعتصموا بحبل اللّه أو يعتصموا بذمة المسلمين.

و انما جمع بين ضرب الذلة و ضرب المسكنة على هؤلاء، فان الاولى انما هي حالة خاصة تعتري الشخص الذليل من ناحية الغير إما لانكسار الشوكة و انحلال الجامعة أو لسلب الحق و نحو ذلك. و المسكنة هي حالة تعتري الشخص من ناحية نفسه منشؤها استصغار الشخص نفسه عند الغير كتوارد حالات الذلة و الفقر عليه.

و تعدد كلمة «ضربت» في الآية الشريفة لأجل تعدد متعلقها.

كما ان تعدد اسم الإشارة «ذلك» انما هو لتعظيم الأمر و التفخيم و لتعدد السبب و التأكيد و إتمام الاحتجاج.

ص: 252

بحث روائي

في تفسير العياشي عن عمرو الزبيري عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» قال: «يعني الامة التي أوجبت لها دعوة ابراهيم (عليه السلام) فهم الأمة التي بعث اللّه فيها و منها و إليها، و هم الامة الوسطى و هم خير امة أخرجت للناس».

أقول: يستفاد من هذا الحديث ان الامة التي ورد مدحها في مواضع من القرآن الكريم واحدة و هي التي تتصف بفعل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و هي محصورة في افراد معدودين كما عرفت في التفسير.

في تفسير القمي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال نزلت:

«كنتم خير أئمة أخرجت للناس».

أقول: قريب منه في تفسير العياشي و هذا على وجه التأويل و هو بيان لأظهر مصاديق الامة الآمرة بالمعروف و الناهية عن المنكر.

و في الدر المنثور اخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر (ع): «كنتم خير امة أخرجت للناس» قال: «اهل بيت النبي (صلى اللّه عليه و آله) أقول: تقدم ما يتعلق بذلك.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنّاسِ» عن عكرمة و مقاتل: «نزلت في ابن مسعود و ابى ابن كعب و معاذ بن جبل و سالم مولى أبي حذيفة، و ذلك أن مالك بن الضيف و وهب بن يهوذا اليهوديين قالا لهم: ان ربنا خير مما تدعوننا اليه و نحن خير و أفضل منكم فانزل اللّه تعالى هذه الآية».

ص: 253

أقول: لو صح الحديث و انطبقت عليه العلة يكون الحديث بيانا لبعض المصاديق فلا تنافي بينه و بين غيره.

و في الدر المنثور اخرج احمد: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أعطيت ما لم يعط احد من الأنبياء نصرت بالرعب، و أعطيت مفاتيح الأرض، و سميت احمد، و جعل التراب لي طهورا و جعلت امتي خير الأمم».

أقول: الحديث معروف بين الفريقين، و المراد بالفقرة الاخيرة هي البعض كما عرفت. أو تشرفت سائر الامة بهم.

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْ.......

اشارة

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ (114) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) الآيتان المباركتان متحدتان في السياق مع ما قبلهما من الآيات لأنهما تبين و تقرر ان اهل الكتاب ليسوا جميعا علي حد سواء في الانحراف و البعد عن الايمان باللّه تعالى كما اسلفتها الآيات السابقة بل استثنى سبحانه و تعالى عنهم امة مستقيمة على الهدى قائمة بالعبادة مؤمنة بالمبدإ و المعاد ناهضة بتكاليف الامة المسلمة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر سباقة إلى الخير فهم مجزيّون على أعمالهم كما يجزى الصالحين و اللّه سبحانه و تعالى يعلم ما اضمرته قلوبهم كما هو عليم بالمتقين.

ص: 254

التفسير

قوله تعالى: لَيْسُوا سَواءً .

جملة استينافية تبين عدم استواء جميع اهل الكتاب في ما وصفهم اللّه تعالى به و الحكم الذي حكمه عليهم آنفا، فانه سبحانه و تعالى قد قسمهم الى طائفتين هما المؤمنون و هم الأقلون، و الفاسقون و هم الأكثرون. قال تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» آل عمران - 110 ثم بين أوصاف الفاسقين و حذّر المؤمنين من غيّهم و مكرهم و بيّن تعالى جزاؤهم ثم حكم على النوع بما تقدم.

و في هذه الآية المباركة يبين عز و جل حال الطائفة المؤمنة منهم و صفاتهم.

و السواء مصدر، و لذا أفرد مع كونه خبرا لجمع، و لكن أريد به الوصف أي: ليسوا مستوين.

قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ .

جملة تعليلية تفصيلية تبين الوجه في عدم الاستواء. و مادة (قوم) تدل على الثبات و الاستدامة، و قد استعملت في القرآن الكريم كثيرا بهيئات مختلفة، و المراد في المقام استقامة تلك الأمة على الطاعة و الايمان و العبادة و ثباتها على ذلك.

و بعبارة جامعة: الثبات على الحق مقابل من أنحرف عنه، و يدل على ذلك ذيل الآية الشريفة الذي يبين انها كانت قائمة في الايمان باللّه و الطاعة له عز و جل و القيام بوظائف العبودية و العمل الصالح.

و المراد من أهل الكتاب هم الذين ذكرهم اللّه تعالى في الآية

ص: 255

السابقة عند تقسيمه لهم. قال تعالى: «مِنْهُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ اَلْفاسِقُونَ» بلا فرق في ذلك بين اليهود و النصارى، و ذكر المفسرون أنهم النجاشي و جماعة من اليهود الذين ثبتوا على الحق و آمنوا بمحمد (صلى اللّه عليه و آله) المبشر به في الكتب الإلهية.

و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف متعددة تبين صدق إيمانهم و استقامتهم على الحق.

قوله تعالى: يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ آناءَ اَللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ .

تفصيل بعد إجمال، و التلاوة هي القراءة مع التأمل في الجملة.

و الآناء جمع (انى) بكسر الهمزة أو فتحها و هو مطلق الوقت و الزمان أي قيامهم في الليل بقراءة آيات اللّه في صلاتهم و تهجدهم.

و المراد بآيات اللّه تعالى الأعم مما ورد في التوراة و الإنجيل و القرآن الكريم. و هذا الوصف يبين جهة عبودتهم و ثباتهم فيها.

قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

وصف آخر يبين سبقهم الى الايمان بالمبدإ و المعاد الأعم من الايمان بهما في حالة العمل بشريعتهم و حالة ظهور شريعتنا و تصديقهم لها، فهم في كلتا الحالتين يؤمنون باللّه و اليوم الآخر.

و إنما أخر سبحانه و تعالى الايمان باللّه و اليوم الآخر عن التلاوة و السجود اشعارا بان العمل بالدين أهم أركانه. و انه ليس من مجرد الاعتقاد فقط و ان عبادتهم للّه تعالى و ملازمتهم لها أوجبت توفيقهم بقبول الإسلام و عدم جحودهم له.

ص: 256

قوله تعالى: وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ .

وصف ثالث يبين طاعتهم للّه تعالى بأهم أركانها و هو الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و يتشرفون بذلك بالاتصاف بما اتصف به خير أمة.

قوله تعالى: وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ .

وصف رابع يبين الإخلاص في اعتقادهم و الصدق في ايمانهم و سعادتهم.

و المسارعة: المبادرة. و الفرق بينها و بين العجلة أن المسارعة وصف للحركة، سواء كانت بارادة أم لا. و أما العجلة فهي وصف للمتحرك اي استعجل في فعله و حركته.

و عن جمع من اللغويين و بعض المفسرين ان الفرق بين السرعة و العجلة ان السرعة: التقدم في ما ينبغي أن يتقدم فيه، و هي محمودة و نقيضها مذموم و هو الإبطاء، و العجلة: التقدم في ما لا ينبغي ان يتقدم فيه و هي مذمومة و نقيضها محمود و هو الإناءة.

و لكن لا يمكن قبول ذلك على الإطلاق لاستعمال العجلة بالنسبة اليه تعالى، قال جل شأنه: «وَعَدَكُمُ اَللّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ اَلنّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح - 20.

و الخيرات جمع خير و هو معلوم عند الجميع سواء كان في العبادة أو في غيرها، و لكن الغالب استعماله في بذل المال و قضاء الحوائج به و لكن لا بد ان لا يتعلق به نهي شرعي و الا سقط عن الخيرية.

ص: 257

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ .

قضية حقيقية تبين نتيجة ما تقدم من الصفات و الأعمال، فتكون جميع الآية المباركة بمنزلة العلة و المعلول.

و الصالحون هم اهل الحق في الدنيا و الآخرة، و لهم مقام محمود يتمناه الأنبياء العظام قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام):

«تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ» يوسف - 101، و قال تعالى حكاية عن ابراهيم: «رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصّالِحِينَ» الشعراء - 83. فيكون المراد من الصالح من كمل اعتقاده و عمله فصلح للوصول إلى مقام القرب اليه تعالى، و لهذه الصلاحية مراتب كثيرة ياتي التعرض لها ان شاء اللّه تعالى.

و المعروف بين المفسرين ان المراد بهؤلاء الممدوحين عبد اللّه بن سلام و أصحابه. و لكن ذكرنا سابقا أن الآيات الشريفة كليات حقيقية واقعية انما يتعرض المفسرون لبعض مصاديقها و ذلك لا يوجب التخصيص بشيء ابدا.

قوله تعالى: وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ .

المراد من الخير ما تقدم في الآيات السابقة من الايمان باللّه و اليوم الآخر، و الطاعة له عز و جل و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و المسارعة إلى الخيرات.

و المعنى: و كل ما يصدر منهم من خير اعتقادا كان أو عملا فلن يحرموا شكر اللّه تعالى و الاثابة لهم و لن يضيع عملهم عند اللّه فيوفيهم أجورهم من غير نقصان و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اَللّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ» البقرة - 108.

ص: 258

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ .

اي: ان اللّه تعالى يعلم السرائر و ما تنطوي عليه نفوسهم و عليم بأعمالهم و إن أسروا بها، و عليم بتقواهم فيجازي كل فرد بحسب ما يعمله.

و في الآية الشريفة التحريض على تحصيل التقوى، و قد ختم سبحانه و تعالى الخطاب بالتقوى للتنويه بفضلها و لبيان انها الأساس في جميع الأديان.

بحث ادبي

ذكرنا ان قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» جملة مستقلة مركبة من اسم ليس و هو الضمير، و خبرها «سواء» و قوله تعالى: «مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ أُمَّةٌ» جملة اخرى مركبة من المبتدأ و الخبر.

و قيل «امة» اسم ليس و سواء خبرها، و أتى الضمير في ليس على لغة من قال «أكلوني البراغيث» ورد بأن المقام ليس مثل أكلوني.

و قوله تعالى: «يَتْلُونَ آياتِ اَللّهِ في موضع رفع صفة ل أمة.

و قيل: ان الجملة في موضع نصب على الحال من ضمير «يتلون» و لكن أشكل عليه بان التلاوة لا تكون في السجود و لا في الركوع.

و الحق ان يقال: ان المستفاد من الجملة استمرار التلاوة منهم في حال تهجدهم و عبادتهم سواء كانت في السجود أم الركوع أم في غيرهما، مع انه لم يثبت بدليل امتناع التلاوة في شريعة اهل الكتاب في حال السجود.

و قوله تعالى: «آناءَ اَللَّيْلِ» نصب على انه ظرف زمان.

و انما تعدى «فلن يكفروه» إلى مفعولين لأنه بمعنى الكفران اي

ص: 259

ان يحرموا ثواب فعلهم و الشكر عليه.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» التفرقة بين الحق و الباطل، و هو امر فطري كالتفرقة بين النور و الظلمة و يرشد الى ذلك قوله تعالى: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ» السجدة - 18 فانه عز و جل ارجع عدم استواء الفريقين إلى فطرة الإنسان و هو لا يختص بفريقين أحدهما يكون مؤمنا و الآخر فاسقا، بل يمكن ان يجري في الشخص الواحد في حالتين مختلفتين و هو أمر وجداني.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «أُمَّةٌ قائِمَةٌ» على ان مناط الايمان انما هو الاستقامة و انما تتحقق بالعمل بكتاب اللّه تعالى و الطاعة له عز و جل و الايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه فيصير بذلك صالحا و يدخل في زمرة الصالحين، و قد ذكر عز و جل صفات متعددة في هذه الآيات كل واحدة منها تبين جانبا من جوانب الشخصية الايمانية.

الثالث:

انما قرن سبحانه و تعالى الايمان باللّه مع الايمان باليوم الآخر لبيان ان ايمانهم كان ايمانا يثير الخشية للّه تعالى و الاستعداد للقاء اللّه تعالى و المحاسبة للأعمال، فكان ايمانهم ايمانا اذعانيا لا ايمانا ادعائيا كما يدعيه أبناء جنسهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ» ان هذين التكليفين من أهم الواجبات النظامية في جميع الشرائع الإلهية و كل مؤمن في اي دين كان انما يثبت إيمانه بالأمر بالمعروف

ص: 260

و النهي عن المنكر.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ» ان الخير قد تمكن في نفوسهم بحيث يبادرون إلى فعله غير متثاقلين لعلمهم بحسنه و عظيم اثره و جلالة مقامه و رفعة شأنه فهذه الصفة جامعة لجميع الفضائل و مكارم الأخلاق.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ أُولئِكَ مِنَ اَلصّالِحِينَ» ان تلك الصفات ثابتة فيهم و ناشئة عن ملكات راسخة و قد صلحت سرائرهم فتكون الذات و الاعتقاد و العمل صالحا و يدخلون بذلك في زمر الصالحين و هم عباد اللّه المخلصين و هم الأقلّون في كل امة، و لهم المقام المحمود في الدنيا و الآخرة.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ» على حقيقة من الحقائق و هي ان اعمال العباد محفوظة عند اللّه تعالى، فهو العالم بصلاحها و فسادها، و هو يجازي كل فرد بما يستحقه، و تدل عليها جملة كثيرة من الآيات الشريفة.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ» ان المناط في قبول فعل الخيرات انما هو التقوى، و يدل عليه قوله تعالى: «إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ» المائدة - 27.

بحث روائي

في الدر المنثور في قوله تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» عن ابن عباس قال: «لما اسلم عبد اللّه بن سلام و ثعلبة بن سعية، و أسيد بن عبيد و من اسلم من اليهود قالت اخبار اليهود: ما آمن لمحمد إلا شرارنا

ص: 261

و لو كانوا من أخيارنا لما تركوا دين آبائهم، و قالوا: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دينا غيره فانزل اللّه تعالى: «لَيْسُوا سَواءً» - الآية.

و فيه أيضا عن ابن مسعود قال: «نزلت الآية في صلاة العتمة يصليها المسلمون و من سواهم من اهل الكتاب لا يصليها».

أقول: على فرض اعتبار الروايتين و غيرهما مما ورد في هذا الشأن فإنها تبين بعض المصاديق و قد ذكرنا ان الآية الشريفة مطلقة تشمل جميع اهل الكتاب قبل الإسلام و حين الدعوة و أما بعد استقرار الدعوة فلا تنفعهم أعمالهم لفرض انهم مأمورون بالإيمان.

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلن.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى صفات المؤمنين المتقين من اهل الكتاب و بين حسن سريرتهم و سعادتهم يذكر تعالى في هاتين الآيتين الكريمتين حال الكفار - الذين خسروا أنفسهم و باعوها للشيطان فجحدوا الحق - توبيخا لهم و تشنيعا عليهم و إتماما للحجة، و مقابلة للطائفة الاولى المتقدمة ليعرف المؤمنون بذلك مقاماتهم المعنوية و ما لهم من الجزاء الكبير.

كما بين سبحانه و تعالى ان ما أنفقت هذه الطائفة الكافرة باللّه العظيم في هذه الدنيا لحفظ جاهها و استمرار ملذاتها لن تنفعها عما أعدلها من الجزاء في هذه الدنيا و لها في الآخرة عذاب الخلود و مثل تعالى

ص: 262

ما ينفقونها كعاصفة باردة تحرق الحرث و تدمره لأنهم ظلموا أنفسهم و اندفعوا وراء شهواتهم مختارين فكان مصيرهم الهلاك و العذاب.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

الآية المباركة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية، و تظهر سوء حال الكافرين لا سيما في يوم الجزاء، و هي عدم انتفاع الإنسان بما يعتبره رافعا لحوائجه و ما يدخره للانتفاع به، و ان بذل غاية جهده في نيله و الاحتفاظ به الا إذا أضيف ذلك إلى اللّه تعالى لأنه الدائم الباقي و الغني المطلق و هو الذي يحفظ الأعمال ليجازي عليها، و حيث أن أهم ما يبذل الإنسان جهده فيه هو الأموال و الأولاد و يعول عليهما في النوائب و الشدائد فقد ذكرهما عز و جل.

و بما ان ما عند الكافر لم يكن مضافا إلى اللّه تعالى لفرض كفره فلا موضوع لاغنائهما عنه في يوم حاجته إليهما و ان تمتع بهما قليلا لكن لا يغنيه شيء منهما، و يؤكد ذلك قوله تعالى «شَيْئاً» الدال على عدم الإغناء بوجه من الوجوه، و قد تقدم في الآية العاشرة من هذه السورة بعض الكلام.

و المراد من الذين كفروا مطلق من كفر بالحق و عانده سواء كان من اهل الكتاب أو المشركين. فهذه الآية الشريفة من جهة تكون مقابلة للطائفة المؤمنة كما عرفت، و من جهة اخرى تكون توطئة لما سيذكره عز و جل في قصة أحد.

ص: 263

قوله تعالى: وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ .

اي: أولئك الكافرون داخلون في النار و ملازموها و لا يمكنهم الخلاص منها لأنهم كانوا ملازمين للكفر و مداومين على الظلم و قد جبلت نفوسهم على الفسق و الضلال فلا موضوع لنجاتهم منها. و هذه الآية المباركة كقوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ» آل عمران - 10.

و انما افترقت هذه الآية عن سابقتها في ان السابقة اختتمت بقوله تعالى: «وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ اَلنّارِ» و في المقام «وَ أُولئِكَ أَصْحابُ اَلنّارِ» و المآل و ان كان واحدا و لكن السابقة ناظرة إلى كيفية العذاب و هذه إلى أصله.

قوله تعالى: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

الآية الشريفة في بلاغتها و فصاحتها و حسن اسلوبها تصور الواقع الذي عليه تصرفات الظالمين و الكافرين و المنافقين و انفاقهم بأبلغ صورة و احسن تشبيه.

و فيها مثل عام لكل من ينفق في غير وجه اللّه تعالى و كان للدنيا و في الدنيا. و هي كالدليل لعدم إغناء الأموال عن الكافرين، و تبين عدم انتفاع المنفق بها بوجه من الوجوه بل يكون و بالا عليهم لأنهم كفروا باللّه العظيم و آياته و أشركوا به، و لم يطلبوا من الانفاق وجه اللّه تعالى و رضاؤه و ان كان بزعمهم منه فانه من مجرد الوهم و الظن لوجود المانع فيهم.

و المثل في الكلام هو إيراد كلام يشبه كلام آخر يقصد به شيء معين يبين أحدهما الاخر و يصوره، و الأمثال في القرآن الكريم كثيرة

ص: 264

و هي تقرب المقصود إلى أذهان المخاطبين بأحسن وجه.

و انما خص سبحانه و تعالى التمثيل بالحياة الدنيا لبيان انهم منقطعون عن الدار الآخرة؛ و هذا وجه آخر دال على ان انفاقهم كان للدنيا و في الدنيا و منقطعا عن اللّه تعالى و الدار الآخرة مضافا إلى كفرهم، فهم لا ينفقون غالبا إلا على نظائرهم و أمثالهم، و لو اتفق انهم أنفقوا في صلة الرحم و الفقراء و المساكين، و نفع المحتاجين و غير ذلك من المقاصد و الشؤون، فان كفرهم مانع عن قبول اللّه تعالى لها الذي هو المناط في جميع الأعمال.

و انما خص الأموال بالذكر و لم يذكر الأولاد لأنهم يتبعون الآباء ان كانوا كفارا و إلا فلا ارتباط بينهما لأنهم مسلمون فهم عليهم لا لهم.

قوله تعالى: كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ .

الريح واحدة الرياح، و قيل ان المفرد يستعمل في العذاب ان لم تكن قرينة على خلاف ذلك مثل قوله تعالى: «وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها» يونس - 22 و الجمع في الرحمة و في الحديث:

«كان يقول إذا هاجت الريح: اللهم اجعلها رياحا و لا تجعلها ريحا» و مما يثبت ذلك ان اغلب المواضع التي ذكر اللّه تعالى في القرآن الكريم إرسال الريح بلفظ الواحد كان في العذاب. و الجمع في آيات الرحمة قال تعالى: «فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ اَلرِّيحِ» الإسراء - 69، و قال تعالى: «وَ أَمّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ» الحاقة - 6، و قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ اَلرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ» الفرقان - 48.

و مادة (ص ر ر) تدل على الجمع و الاشتداد و التأكد، و قد

ص: 265

استعملت في موارد كثيرة بهذه الدواعي منها البرد الشديد، و منها الضجة و الصيحة؛ قال تعالى: «فَأَقْبَلَتِ اِمْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ» الذاريات - 29.

و منها: الجمع و الانضمام قال تعالى: «فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ» البقرة - 260.

و منها: الإصرار على الشيء، و في الحديث: «ما أصر من استغفر». و لعل استفادة الشدة من المعنى للقاعدة المعروفة بين الأدباء «ان زيادة المباني تدل علي زيادة المعاني».

و الحرث: الزرع. و في الآية الشريفة تشبيه مركب فقد شبه سبحانه و تعالى إنفاقهم في مقاصدهم و شؤونهم التي يزعمون انها وجه اللّه أو التي يريدون بها الصد عن سبيل اللّه تعالى بالريح الباردة التي تضر بالحرث و الزرع، فهي فاسدة و مفسدة فلا ينتفعون من انفاقهم ابدا لا في الدنيا و لا في الآخرة بل يكون مفسدا لأخلاقهم و موجبا لسقوط الآثار الواقعية التي تترتب على كل انفاق، و يحرمهم من السعادة الدنيوية و الأخروية فلم يجنوا من انفاقهم الا الشقاء و الحرمان، فالآية المباركة تبين حال انفاقهم مع كفرهم في احباطه له فيكون الكفر و الظلم بمنزلة الريح الباردة.

و انما وصف القوم بالظالمين لبيان ان ظلمهم هو السبب في هلاك الزرع و الانفاق، فهو يتلف الأعمال و يذهب آثارها الدنيوية و الأخروية فيكون الهلاك و الحرمان عقوبة لهم.

و انما عبر سبحانه و تعالى بالريح الباردة دون النار و غيرها التي توجب إتلاف الزرع و سقوط الانتفاع به بالكلية، لان الريح الباردة تفسد الزرع و تهلكه فلا قابلية له للنمو و لكن يبقى حشيشها و اصل المادة و يمكن الانتفاع بها في بعض الجهات و هكذا انفاق الكافرين فانه قد ينتفع به إما في الدنيا لقضاء مآربه أو في البرزخ فانه يوجب تخفيف

ص: 266

العذاب ان كان لأغراض حميدة.

قوله تعالى: وَ ما ظَلَمَهُمُ اَللّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ .

الضمير يرجع إلى الكافرين المنفقين. و هذه القضية مكررة في القرآن الكريم بأساليب مختلفة، و هي تدل على نفي الظلم عنه عز و جل و ثبوت الاختيار للإنسان و انه الفاعل المختار، و ان الجزاء و الآثار التي تترتب على الأفعال انما يستحقها بما يختاره من الأفعال و الأعمال إن خيرا فخير و ان شرا فشر. و ذلك لان نظام العالم انما يتحقق يترتب المسببات على الأسباب و المعلول على العلة، فإذا كان للشيء سببا واحدا فالترتب واضح معلوم، و اما إذا كانت الأسباب متعددة و المقتضيات كثيرة، فالمسبب و المقتضى (بالفتح) يترتب على السبب الأخير، و ان كان للجميع دخل في التحقق، و لا ريب ان جميع الممكنات يستند إلى قضاء اللّه تعالى و قدره، و مشيته الكاملة، و لكنه تعالى أراد ان يجعل الإنسان مختارا في أفعاله لحكم كثيرة منها تصحيح قانون الثواب و العقاب على الفعل الاختياري و حينئذ يستنكر العقل ان يستند الظلم إلى اللّه تعالى بعد خلقه للإنسان مختارا في أفعاله و اعماله فتنحصر نسبة الظلم إلى الفاعل المباشر فالآية الشريفة هي قضية عقلية كما عرفت. و من أهم الأمور الدينية، لان جميع الأديان الإلهية تستنكر استناد الظلم إلى اللّه عز و جل. و وجدانيته لان اللّه تعالى بعد ان أتم الحجة على العباد و بيّن لهم الصراط المستقيم و أرسل الرسل و انزل الكتب لتكميل الإنسان و منحهم العقل و الشعور و الاختيار، فإذا اختار عبد غير المطلوب منه فقد ظلم نفسه بأن حرّم نفسه من الكمالات و الأجر الجزيل.

ص: 267

و المعنى: ان اللّه لم يظلم الكافرين الذين أنفقوا أموالهم في غير وجه اللّه فحرموا أنفسهم من الثواب و احبطوا عملهم لكنهم هم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر المانع عن القبول فاختاروا العذاب و الحرمان.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيتان الشريفتان على امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً» على حقيقة من الحقائق الواقعية و هي: ان الأموال و الأولاد انما يستفيد منهما الإنسان مطلقا و يستغنى بهما في حوائجه و مآربه إذا كان كل واحد منهما للّه تعالى و في وجه اللّه عز و جل حتى تكون محفوظة عنده تعالى، و تبقى ببقاء اللّه لأنها تدخل في خزائنه، و للّه خزائن السموات و الأرض، و يوفي صاحبها الجزاء الأوفى و يدفع العذاب عنه، و الكافر قد انقطعت العصمة بينه و بين اللّه تعالى بسبب كفره فحرم نفسه عن جميع تلك الآثار فلن تغني عنه من اللّه شيئا.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» امور:

منها: ان انفاقهم للأموال انما كان للدنيا و لأجل الشؤون و المقاصد الدنيوية فقط و لا نظر لهم إلى ما ورائها.

و منها: انهم ظلموا أنفسهم باختيارهم الكفر، كما ظلموا أنفسهم في انفاق الأموال في غير وجه اللّه تعالى، فقد حرموا أنفسهم من

ص: 268

الآثار الواقعية التي تترتب على إنفاقها.

و منها: انهم لم يحرموا من بعض الآثار كما لم يحرم الزارع من حشيش الزرع و بقاياه بعد إصابته الريح الباردة و اتلافها له، و لذلك نرى إن التعبير يختلف بالنسبة إلى أعمالهم في آية اخرى قال تعالى:

«وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اَللّهَ عِنْدَهُ فَوَفّاهُ حِسابَهُ وَ اَللّهُ سَرِيعُ اَلْحِسابِ» النور - 39.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» على استمرار الظلم و تجدده باستمرار العلة و هي الكفر و العصيان.

الرابع:

يستفاد من الآية الشريفة ان الذنوب و المعاصي قد توجب هلاك الزرع و النسل و الكوارث و الآفات، لان للذنوب آثارا واقعية لا يمكن التخلف عنها، و قد دلت على ذلك نصوص كثيرة من القرآن الكريم و السنة الشريفة، بل ان كل ذنب له اثره الخاص به كما دلت عليه أدلة متعددة و في كثير من الدعوات المأثورة، منها الدعاء المعروف بدعاء كميل المروي عن أمير المؤمنين (عليه السلام).

بحث عرفاني

جميع الأفعال الحاصلة من النفس الانسانية بواسطة القوى الباطنية الجسمانية انما هي بمنزلة الأشباح و الاظلة للصور الحاصلة في النفس، فهي كالمرآة التي تبث أشعتها إلى الخارج، و قد اثبت ذلك المحققون من الفلاسفة و قال بعض المحققين:

ص: 269

النفس في وحدتها كل القوى *** و فعلها في فعلها قد انطوى

و القرآن الكريم و السنة الشريفة يثبتان ذلك ايضا فإذا كانت النفس متوجهة إلى اللّه تعالى تكون أشعتها من سنخها متصلة إلى اللّه جل جلاله و إذا كانت متوجهة إلى غيره عز و جل تكون أشعتها كذلك فلا تتحقق أية اضافة للّه تعالى و الا لزم الخلف الباطل هذا من جهة النفس.

و اما من جهته عز و جل فقد قال اللّه تعالى: «انا خير شريك من عمل لي و لغيري تركته لغيري» فإذا كان العمل له تعالى و لغيره لا يعتني به اللّه تعالى فكيف إذا كان تمام العمل لغيره، و إذا كانت تربية الأولاد و مصرف الأموال في غير ما يرتضيه عز و جل لا يمكن ان ينتفع من ذلك نفعا إلا ما يتصور من المنافع الوقتية الوهمية و هي عدم محض بالنسبة إلى النفع الواقعي الحقيقي، قال تعالى: «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» النور - 39 و قال تعالى:

«أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ» * الأنفال - 25.

ص: 270

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) بعد ما ذكر عز و جل صفات خاصة من الكافرين و هي المؤمنين منهم و ذكر بعض صفات الجاحدين منهم أيضا و بيّن انهم لا يقدرون على تحقيق مقاصدهم في الصد عن سبيل اللّه تعالى مهما بذلوا من جهد و أنفقوا من الأموال.

يبين سبحانه و تعالى في هذه الآيات ما تنطوي عليه ضمائرهم و ما تخفيه صدورهم بالنسبة إلى الحق الواقع و المؤمنين.

و بين سبحانه و تعالى ان الكافرين لا يحبونهم و يحقدون عليهم و يفرحون بما يصيبهم من المكروه و يضمرون، كل عداوة لهم و الحسد منهم. و قد حذرهم سبحانه المؤمنين من كيد الكافرين و سبل اضلالهم

ص: 271

و أمرهم بالاجتناب عنهم و التصدي لهم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ .

دستور إلهي يبين منهج المجتمع الاسلامي في احتكاكه مع المجتمعات الأخرى. و تتضمن الآية المباركة أهم الاحكام الاجتماعية التي أراد اللّه تعالى بها الاحتفاظ على وحدة المجتمع الاسلامي و صونه عن التفرق و الفساد، و ذلك لان اسرار المجتمع الواحد لا بد ان تكون محفوظة لدى افراده، و أن لا يطلع عليه غيرهم، بل في اطلاع العدو عليها هلاكهم و تفرقهم لا سيما إذا كان متصفا برذائل الأخلاق، كما ذكره عز و جل في هذه الآيات المباركة.

و مادة (بطن) تدل على الخفاء مقابل الظاهر، و قد استعملت في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: «ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ» * الانعام - 151، و قال تعالى: «وَ ذَرُوا ظاهِرَ اَلْإِثْمِ وَ باطِنَهُ» الانعام - 120 و من أسمائه الحسنى «الباطن» قال تعالى: «هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّاهِرُ وَ اَلْباطِنُ» الحديد - 3 اي هو المحتجب عن أبصار الخلائق و أوهامهم فلا يدركه بصر و لا يحيط به وهم، أو هو العالم بما بطن.

و بطانة الثوب خلاف ما ظهر من الثوب، قال تعالى: «بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ» الرحمن - 55.

و المراد بالبطانة في المقام هو وليجة الرجل و خاصته الذي يكاشفه باسراره و يستبطن امره و يشاوره في أحواله و هو مصدر يسمى به الواحد

ص: 272

و الجمع، و في الحديث: «ما بعث اللّه من نبي و لا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان». و المراد من «دونكم» اي غيركم و التعبير به لبيان ان غيركم أدون منكم فلا ينبغي ان تتخذوهم بطانة تلقون إليهم اسراركم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف متعددة تدل على غاية بعدهم عن المؤمنين و نفرتهم عنهم.

قوله تعالى: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً .

بيان للنهي عن اتخاذ الأعداء و المنافقين بطانة فإنهم يضمرون الشر و الفساد، فهذه الجملة في حين كونها تعليلية تكون مبينة لحقيقتهم و هي الصفة الاولى من صفاتهم بل الأصل لجملة كثيرة من الصفات الآتية.

و يألونكم من الإلو، و هو التقصير و الإبطاء و الضعف، و الفعل ألا كغزا، يألو، ألوا، و هو لازم يتعدى إلى المفعول بالحرف و إلى المفعولين و يتضمن معنى المنع يقال: لا آلوك نصحا اي لا أمنعك و قد يجعل بمعنى الترك فيتعدى إلى مفعول واحد يقال: ما ألوت الشيء اي ما تركته.

و كيف كان ففي المقام إذا جعلناه بمعنى التقصير فلا يتعدى إلى مفعول فضلا عن المفعولين، فلا بد من جعله بمعنى لا ينقصوكم كما في قوله تعالى: «ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً» التوبة - 4.

و مادة (خبل) تدل على الفساد سواء كان في الرأي أو غيره يقال: «خبل الحب قلبه» اي أفسده، و منه الحديث: «و بطانة لا تألوه خبالا» اي: لا تقصر في إفساد امره و شأنه. و في الحديث ايضا «بين يدي الساعة الخبل» اى الفتن المفسدة. و الخبل قد يصيب الحيوان فيؤدي إلى الاضطراب في شعوره و حركاته. و خبالا مفعول ثان

ص: 273

و الجملة صفة توضيحية تبين قبح اتخاذهم بطانة.

و المعنى: انهم لا يقصرون لكم فسادا و لا ينقصوكم شرا فيجهدون في الإضرار بكم، و هذه حقيقة واقعية تترتب على اتخاذ الأعداء و المنافقين أعوانا و بطانة يعتمد عليهم و يلقى إليهم الأسرار مع انهم لا يضمرون المؤمنين الا العداء و الخديعة و الإضلال.

قوله تعالى: وَدُّوا ما عَنِتُّمْ .

الصفة الثانية من صفاتهم و هي حب الإضرار بالمؤمنين و إيقاعهم في الهلاك و المشقة.

و العنت: المشقة و شدة الضرر، و في الحديث: «أيما طبيب تطبب و لم يعرف بالطب فأعنت فهو ضامن» اي أضر المريض و أفسده، و ما مصدرية.

يعني أحبوا مشقتكم و تمنوا عليكم الوقوع في الضرر و الهلاك.

قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ اَلْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ .

صفة ثالثة و هي ظهور علامات العداء و الشنآن على أقوالهم و لحن كلامهم و فلتات ألسنتهم لان البغض قد استولى على قلوبهم فلا يقدرون على حفظ ألسنتهم و لا يمكنهم ان يملكوا أنفسهم عند الملاقاة و عز عليهم إخفاء ما في ضمائرهم من العداوة و البغضاء فكأنهم يتفوهون بما في ضمائرهم بلا اختيار منهم.

و البغضاء شدة البغض. و الأفواه جمع فم و أصله فوه و لامه هاء و الجمع يرد الشيء إلى أصله اي من أقوالهم و فلتات ألسنتهم.

ص: 274

قوله تعالى: وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ .

صفة رابعة و هي تدل على تمكن البغضاء في قلوبهم و ان ما في قلوبهم اكبر مما يعلمه احد إلا ان يظهره اللّه تعالى و يبينه لكم.

و انما أبهم عز و جل ما في الصدور لبيان انه لا يوصف لعظمته و تنوعه، و ليذهب ذهن المخاطب كل مذهب، و ان كل ما صدر منهم كان قليلا مقابل ما في قلوبهم. و بعد ما بين اللّه عز و جل حقيقتهم و عرّف حالهم و طبايعهم لا يبقى للمؤمنين مجال و عذر أن يتخذوهم بطانة من دون المؤمنين.

قوله تعالى: قَدْ بَيَّنّا لَكُمُ اَلْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ .

اي قد أظهرنا لكم العلامات الفارقة بين الحق و الباطل و بها يتميز الولي عن العدو. و قد عرف من يتخذ بطانة و من هو خائن لا يصلح ان يكون كذلك إن كنتم تعقلون البيان و تلك الآيات و تفهموها و تجعلونها محط انظاركم و مورد عملكم فلا يبقى بعد ذلك عذر.

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ .

تأكيد على ترك اتخاذهم بطانة، و تنبيه للمؤمنين على خطاء من يتخذهم كذلك و قد ذكر عز و جل ذلك بأسلوب بديع و عبارة فصيحة و خطاب بليغ يثير المخاطب عند سماعه و يستفزه على أمر مهم قد خفي عليه.

و «ها» للتنبيه و «أنتم» مبتدأ و «أولاء» اسم إشارة و هو منادى يفيد فائدة الاختصاص، و جملة «تحبونهم» خبر، و انما يؤتى مثل هذا الخطاب في مقام التحريض على التباعد و التنبيه على امر خفي و هو بيان حقيقة المنافقين الذي هو من أعظم مقاصد القرآن

ص: 275

الكريم، و للنحويين مذاهب اخرى في إعراب مثل هذا التركيب من شاء فليراجع كتبهم، و «لا يحبونكم» إما عطف أو حال.

و كيف كان فقد وصف اللّه تعالى المؤمنين بأنهم يحبون الناس بل يحبون أشدهم عداوة اللذين لا يقصرون في إفسادهم و تمني عنتهم كما ذكره عز و جل آنفا مع انهم لا يحبونهم، و انما أحبوهم لان الإسلام دين المحبة و الرحمة و مع ذلك كيف تتخذونهم بطانة و هم لا يملكون أية رحمة في قلوبهم و ليس عندهم ما يدعو إلى حبكم لهم.

قوله تعالى: وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ .

المراد بالكتاب جنسه اي جميع الكتب التي أنزلها اللّه تعالى على أنبيائه و رسله كتابكم و كتبهم و هم لا يؤمنون بكتابكم.

و انما أكده عز و جل بقوله «كله» لبيان انهم يؤمنون بجميع جزئيات الكتاب و اجزائه حتى في ما يكون مشقة عليهم بخلاف المنافقين و الكافرين الذين لا يؤمنون بالكتاب و لو أمنوا ببعض كتبهم فإنما يؤمنون بما ينفعهم، فإذا كنتم تحبونهم و لا يحبونكم، و تؤمنون بكتبهم و لا يؤمنون بكتابكم، فأنتم أحق بان تبغضوهم و قد نهيتم في مواطن كثيرة عن الركون إليهم و الاعتماد عليهم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف كالظلم قال تعالى: «وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ» هود - 113، و الاعتداء قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ» * البقرة - 190، و الخيانة قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْخائِنِينَ» الأنفال - 58، و الفساد قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُفْسِدِينَ» القصص - 77 و الكفر قال تعالى: مخاطبا لنبيه «اِتَّقِ اَللّهَ وَ لا تُطِعِ اَلْكافِرِينَ»

ص: 276

الأحزاب - 1 فلا يبقى بعد ذلك عذر في اتخاذكم إياهم بطانة و ليس من شأنكم و لا يحسن منكم ان تحبوا من لا يحبه اللّه تعالى، فإذا كنتم مؤمنين بالكتاب فهو ينهاكم عن الركون إليهم و يرشدكم إلى ترك محبتهم في كل عصر و زمان إلى يوم القيامة.

قوله تعالى: وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ اَلْأَنامِلَ مِنَ اَلْغَيْظِ .

بيان لشدة نفاقهم، و انما حكم على الجميع باعتبار صدور ذلك عن بعضهم لان الجميع مسؤول عما يصدر عن بعض بحكم قانون التكافل الاجتماعي.

و العض هو الأخذ بالأسنان مع ضغط و هو إما ان يكون عن الندم أو عن شدة الغيظ بحيث لا يتمالك المغتاظ عن ان يعض أنامله و يؤلمها قال أبو طالب:

يعضون غيضا خلفنا بالأنامل و الأنامل جمع أنملة و هي طرف الإصبع.

و المعنى: إذا لقوكم قالوا نفاقا آمنّا بما امنتم به و نحن معكم و إذا اختلى بعضهم مع بعض أظهروا ما في أنفسهم و عضوا لاجلكم أطراف أصابعهم حنقا و غيضا و انما كانوا يعضون الأنامل لأنهم لا يستطيعون التشفّي من المؤمنين إلا بهذا الطريق.

قوله تعالى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ .

دعاء عليهم و إن كان في صورة الأمر. اي: أمتهم بغيضهم.

و المعنى: قل لهم يا محمد افعلوا ما شئتم فان اللّه تعالى يعلي كلمة الحق

ص: 277

و ان الإسلام الذي هو سبب غيضكم لا يزداد الا علوا و جلالا و عزة و ان اللّه تعالى خاذلكم فستموتون من شدة الغيظ.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

اي ان اللّه تعالى لا يخفى عليه سرائركم و ما في صدوركم من البغي و الحسد و الحقد و ان جاهدتم في كتمانها.

و ذات الصدور كناية عن السريرة أو الحالة أو العلة المتعلقة بالصدور من نفاق أو ايمان و نحو ذلك فان الصدور وعاء للقلب الذي هو مرجع جميع الأمور، و لذا قال تعالى في آية اخرى: «وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» آل عمران - 154.

قوله تعالى: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها .

المسّ هو اللمس و المراد به هنا الإصابة و انما عبر بالمس كناية عن قلة النفع. و المساءة خلاف السرور، و الحسنة الخير و النعمة، و السيئة الفادحة و المحنة.

و اختلاف التعبير في الحسنة و السيئة لبيان ان الكافرين يسؤهم ما يصيب المسلمين من الخير و إن قلّ، و يفرحون باصابتهم السيئة دون مجرد المس، و هذا يكشف عن شدة الغيظ و استيلاء البغض على قلوبهم و حسدهم الشديد للدين و المؤمنين.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا .

اي: إن تصبروا على طاعة اللّه و نصرة دينه و جهاد الأعداء و عداوتهم و البعد عن الأهل و الأوطان. و تتقوا اللّه في جميع الأفعال

ص: 278

و الأعمال و تنفيذ احكام اللّه تعالى.

قوله تعالى: لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً .

وعد منه عز و جل بالحماية و النصرة. و الكيد هو المكر و الخديعة.

و يضركم (بضم الراء و تشديدها) من الضرر، و قرئ بكسر الضاد و سكون الراء المخففة من ضاره يضره بمعنى المضرة. و شيئا منصوب على المصدر.

و المعنى: لا يضركم مكرهم و أذاهم شيئا من الضرر لا قليلا و لا كثيرا. و هذا من مكارم الأخلاق الاسلامية حيث لم يأمرهم عز و جل بمقابلة مكرهم و كيدهم بمثلهما، بل أمرهم بالصبر و التقوى و عدم التعدي، و الخير و الإحسان فإنهم في حماية اللّه عز و جل و كنفه.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ .

وعد منه للمؤمنين بالحسنى و وعيد للكافرين بسوء العقبى فان اللّه تعالى يعلم كيد الكافرين و صبر المؤمنين و تقواهم و هو محيط بجميع الأفعال و الأعمال و الأشخاص إحاطة علم و قدرة، فيجازي كلا حسب فعله ثوابا و عقابا و في الآية المباركة التأكيد على نجاة المؤمنين و خلاصهم من كيد الكافرين و منعهم عن المؤمنين.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول

ظاهر قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» حرمة اتخاذ البطانة بالقيود المذكورة و هي: انهم لا يألونكم خبالا، و تمنى العنت لكم، و ظهور البغضاء من أفواههم و يمكن ان تحمل هذه القيود على الغالب، فإذا لم يكن في العدو تلك الصفات و القيود و لكن علم منه العداوة بالقرائن فهو أيضا داخل في الآية المباركة، بل هو منافق بصريح ذيل الآية الشريفة.

ص: 279

ظاهر قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» حرمة اتخاذ البطانة بالقيود المذكورة و هي: انهم لا يألونكم خبالا، و تمنى العنت لكم، و ظهور البغضاء من أفواههم و يمكن ان تحمل هذه القيود على الغالب، فإذا لم يكن في العدو تلك الصفات و القيود و لكن علم منه العداوة بالقرائن فهو أيضا داخل في الآية المباركة، بل هو منافق بصريح ذيل الآية الشريفة.

الثاني:

الآية الشريفة ترشد إلى أهم الاحكام الاجتماعية و هو الاهتمام بالصاحب الذي يريد أن يصحبه الإنسان في حياته و القرين الذي يعتمد عليه في جميع أموره، و قد اهتم الإسلام به أشد اهتماما فان له التأثير الكبير على الفرد سلوكا و أخلاقا و دينا، فأمر سبحانه و تعالى المؤمنين ان يكون القرين الذي يتخذ مؤمنا و متصفا بأوصاف حسنة و متحليا بمكارم الأخلاق ففي الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل». و في المثل:

عن المرء لا تسل و سل عن قرينه *** فان القرين بالمقارن يقتدي

الثالث:

قد ذكر سبحانه و تعالى في الآيات المباركة أمورا قد اتصف بها الكافرون و كل واحد منها يبين جانبا من جوانب شخصيتهم النفسية و الاجتماعية و حقدهم و حسدهم على الحق و اهله و انما أكد عز و جل ذلك بسرد تلك الأوصاف اهتماما بالموضوع و تذكيرا للمؤمنين بترك اتخاذ مثل هؤلاء الموصوفين و عدم صلاحيتهم للخلة و البطانة و المواصلة ثم ارشدهم إلى امر فطري و ارجعهم إلى أنفسهم عند ما حكى عز و جل انهم لا يحبونكم فكيف يصلحون للمواصلة المبنية على الود و المحبة.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا» أن الأمن من كيد الكافرين مشروط بالصبر على أذاهم و كيدهم بتقوى اللّه و ترك كل معصية منها الرد بالمثل، و يمكن ان يحمل التقوى على

ص: 280

خصوص ترك موادتهم و اتخاذهم بطانة. و كيف كان فان ذلك وعد منه عز و جل لهم بالحسنى و الظفر و حسن العاقبة و الأمن من مكائدهم و ما يضمرون من شرار الصفات.

الخامس:

يستفاد من لفظ «البطانة» جميع ما ورد في الصاحب و القرين و غيرهما مما يستعمل في هذا المضمون فان البطانة مشتمل عليها مع زيادة و هذا هو دأب القرآن الكريم في استعمال ألفاظ خاصة يبين الموضوع بتمام جهاته بأسلوب رصين و ألفاظ بديعة، و هذا اللفظ يشمل مثل تعليم اسرار القرآن و معارفه فان افشاءهما لغير الأهل داخل في الآية الشريفة.

بحث روائي

في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ» قال: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين و يواصلون رجالا من اليهود، كما كان بينهم من القرابة و الصداقة و الحلف و الجوار و الرضاع، فانزل اللّه تعالى هذه الآية ينهاهم عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم».

أقول: على فرض اعتبار الحديث انه يبين بعض المصاديق.

ص: 281

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِ.......

اشارة

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) الآيات الشريفة تذكر المؤمنين بالمواقف الصعبة التي مرت على الإسلام و المسلمين، و ما لاقاه صاحب الدعوة من المتاعب و المصاعب

ص: 282

من المنافقين و المشركين، و الحروب التي خاضها المؤمنون ضد العتاة و الجبابرة الذين أرادوا النيل من الإسلام و الوقوف أمام تقدمه، كما تذكر الآيات النعم التي أنعمها على المؤمنين من الايمان و النصرة و كفاية الأعداء و هدايتهم إلى ما يوجب سعادتهم في حياتهم و بعد مماتهم، و أوعدهم النصر و المغفرة إذا صبروا و اتقوا المعاصي و أطاعوا اللّه و الرسول الكريم.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة غزوة أحد و بدر من بين سائر الغزوات لما فيهما من العبر و الدروس العظيمة و ان ما وقع في غزوة احد انما هو نموذج من أفاعيل المنافقين الذين كانوا مندسين في صفوف المؤمنين فميّز هم اللّه تعالى بما وقع منهم من المحنة فالآيات الشريفة تتمة لما أراده عز و جل من هذه السورة من تذكير المؤمنين بحقيقة الايمان و نعم اللّه تعالى عليهم، و ما لهم من الجزاء الكبير في الآخرة و أمرهم بالصبر و التقوى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ .

إذ ظرف في موضع نصب متعلق بمحذوف مثل (اذكر) و نحوه و جملة «تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ» حال من فاعل «غدوت». و «مقاعد» مفعول ثان ل «تبوّئ».

و غدوت: من الغدوة يقال غدا يغدو غدوا، و هو الخروج أول

ص: 283

النهار ضد الرواح، و قال بعضهم: انه بمعنى انطلق، و يمكن ان يكون المراد به هو السير و الانطلاق في زمان مخصوص و هو أول النهار و صدره و يستفاد منه قرب الموقع من المدينة، و قد حدده ارباب السير و التواريخ ب (أحد) و الغدو سحر يوم السبت سابع شوال من سنة ثلاث من الهجرة.

و الأهل: قرابة الرجل و من يجمع و إياهم نسب، أو مصاهرة أو بيت، أو دين، أو صناعة و نحو ذلك، و يستوي فيه المذكر و المؤنث، و المفرد و الجمع، و يختص استعماله بالإنسان و المراد به في المقام خاصة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و من يتعلق به من قرابته و أصحابه، و انما عبر به عز و جل في المقام لبيان شدة الاتصال و الألفة بينه (صلى اللّه عليه و آله) و بينهم، فكأنهم جميعا من اهله و لا يختص بفرد معين كما ذكره جمع من المفسرين، و قدّر بعضهم (بيت اهله) و لكن ذلك لا دليل يدل عليه، و الحق ما ذكرناه.

و انما غدى من اهله بعد المشاورة معهم في أمر الجهاد مع العدو و استمالة قلوبهم اليه مقدمة لتوطين أنفسهم على الجهاد و اقامة دعائم الإسلام.

و مادة (بوأ) تدل على الرجوع و القرار، سواء كان إلى الحق أو إلى الموضع المعين و اصل البواء اللزوم يقال: تبوء المكان إذا استقر فيه و الزمه، و بوّأه المقعد إذا أقره فيه، و بوّأته دارا إذا اسكنته إياها. و قد استعملت هذه الهيئة في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا مضافة إلى اللّه تعالى و أنبيائه الكرام قال تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ» الحج - 26، و قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ» العنكبوت - 58 و قال تعالى: «وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» يوسف - 56 و في المأثور «أبوء بنعمتك عليّ و أبوء بذنبي» و قال (صلى اللّه عليه و آله) في وصف المدينة «هاهنا المتبوّأ». و الجميع يشعر بعناية المبوئ (بالكسر) للمبوّأ (بالفتح).

ص: 284

و مادة (بوأ) تدل على الرجوع و القرار، سواء كان إلى الحق أو إلى الموضع المعين و اصل البواء اللزوم يقال: تبوء المكان إذا استقر فيه و الزمه، و بوّأه المقعد إذا أقره فيه، و بوّأته دارا إذا اسكنته إياها. و قد استعملت هذه الهيئة في القرآن الكريم في أحد عشر موضعا مضافة إلى اللّه تعالى و أنبيائه الكرام قال تعالى: «وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ اَلْبَيْتِ» الحج - 26، و قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ» العنكبوت - 58 و قال تعالى: «وَ كَذلِكَ مَكَّنّا لِيُوسُفَ فِي اَلْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ» يوسف - 56 و في المأثور «أبوء بنعمتك عليّ و أبوء بذنبي» و قال (صلى اللّه عليه و آله) في وصف المدينة «هاهنا المتبوّأ». و الجميع يشعر بعناية المبوئ (بالكسر) للمبوّأ (بالفتح).

و في المقام تدل الكلمة على عناية خاصة من سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) للمؤمنين الذين هيء لهم مقاعدهم للقتال لأنه قائدهم و مدبر شؤونهم، و قد هيء بنفسه المقدسة لهم ذلك اهتماما بهم و لعظمة الموضوع، و قطعا للمعاذير، و الدعاوي الباطلة من سائر الإفراد، و قد عين مواقع الجيش و المواضع التي يجب أن يتخذوها أثناء الحرب في القتال، و قد ورد في الأحاديث انه (صلى اللّه عليه و آله) عين سفح أحد - بضم الالف و الحاء، جبل على نحو ميل من المدينة في شمالها على طريق العراق - موقعا حربيا و جعله في ظهورهم و جعل على الشعب عبد اللّه بن جبير مع خمسين من الرماة، و سياتي في البحث التاريخي نقل ذلك. و في الآية الكريمة تقرير إلهي لحسن تخطيط نبيه الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و تدبيره لجهات الحرب.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ .

اي: و اللّه سميع لكل ما قيل في هذه الحرب، سواء من المؤمنين و المنافقين و ما قاله الرسول العظيم لهم و دعاؤه لهم بالنصر. عليم بالنيات و ما في الضمائر.

و في اختصاص هذين الاسمين بالذكر لما يتطلبه المقام من الشدة و السيطرة و ما يجرى في الخلوات بين الناس و ما يقال في تثبيط العزائم و وهنها، و تنشيط المنافقين في هذا المضمار.

ص: 285

و في الآية الشريفة التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و لعله لأجل ما يلوح من الآية الشريفة اللوم و العتاب و التعريض بالمؤمنين لما ظهر من بعضهم من الوهن في العزائم و الفشل في القتال، و لذلك أعرض عن خطابهم إلى خطاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله)، و ذكر عز و جل ما يهم هذه الحرب و ما يرتبط بها من تعيين مواقع الجيش، و هو من مختصات قائدهم و أميرهم و به اختبر درجات ايمانهم و ثباتهم و قوتهم.

قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ .

إذ ظرف في موضع نصب متعلق بقوله تعالى «عَلِيمٌ» اي: و اللّه سميع عليم حين همت طائفتان منكم ان تفشلا. و قيل: انه بدل من «إذ غدوت». و قيل: انه متعلق ب: «تبوئ».

و كيف كان فان الآية المباركة تبين وجه اللوم و العتاب و التعريض بالمؤمنين.

و الهم هو القصد و أول العزيمة، و الفشل الجبن و ضعف القلب، و الطائفتان هما بنو سلمة من الخزرج، و بنو حارثة من الأوس و هذا هو المشهور بين المفسرين، و قيل انهما طائفة من المهاجرين و طائفة من الأنصار. و قيل: انه عبد اللّه بن أبي، و جماعة من أصحابه الذين اتبعوه في الخذلان و لكن من المعلوم أن هؤلاء قد نافقوا و فشلوا و قعدوا عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لا انهم هموا بالفشل، و اللّه تعالى يذكرهم بالنفاق و الخذلان و الذم و المقت و انهم يومئذ للكفر اقرب منهم للايمان في هذه السورة، فالطائفتان غيرهم، و سيأتي في البحث التاريخي ما يتعلق بذلك.

ص: 286

قوله تعالى: وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما .

حال من فاعل «همت» اي: الحال انهما يعلمان ان اللّه ناصرهما و يعصمهما عن الفشل، و في الآية الشريفة اللوم و العتاب لهاتين الطائفتين فان المؤمن لا ينبغي له أن يفشل أو يقصده و عنده رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) السبب المتصل و قد امر بالتوكل على اللّه تعالى و الاعتصام به.

و ذكر بعض المفسرين أن هذا الهم لم يكن عن عزم و تصميم على مخالفة النبي (صلى اللّه عليه و آله) و مفارقته له. لان ذلك لا يصدر عن مؤمن بل كان مجرد وسوسة و حديث نفس كما في قوله:

أقول لها إذا جشأت و جاشت *** مكانك تحمدي أو تستريحي

و لكن ذلك اجتهاد في مقابل النص فان المعروف من معنى الهم هو القصد دون مجرد الخطور بالبال و الوسوسة مع ان مجرد الخطور لو كان سببا لهذا اللوم و العتاب لما نجى من ذلك مؤمن فلا وجه لاختصاص الطائفتين بهما. يضاف الى ذلك أن الأمر بالتوكل و التذكير بولاية اللّه تعالى لهما فيهما الدلالة على ان الهم لم يكن من مجرد الوسوسة بل هو قصد و عزيمة من دون فعل، فالآية الشريفة تدل على ان اللّه تعالى عصمهما عما همتا به لأنه عز و جل ولي المؤمنين يرعى مصالحهم و يثبتهم على الايمان. قال تعالى: «يُثَبِّتُ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ اَلثّابِتِ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ فِي اَلْآخِرَةِ» ابراهيم - 27.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ .

اي: على اللّه تعالى لا على غيره يتوكل المؤمنون لأنه وليهم و ناصرهم فلا يهنوا في نصرة الدين، و ان المؤمن بمقتضى إيمانه لا بد و ان يتوكل على اللّه تعالى في جميع أموره و لكن يجب أن لا يقصّر

ص: 287

في إقامة الأسباب فانه تعالى ابى ان يجرى الأمور الا بأسبابها، و هو الموفق بين الأسباب و المسببات، و قد ينصر الفئة القليلة على الفئة الكثيرة و يمدهم بالقوة المعنوية و الظاهرية، كما حكى جل شأنه في الآيات التالية.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ .

بدر: اسم ماء أو بئر بين مكة و المدينة يقال انه كان لرجل من جهينة فسمي الموضع باسمه، و قد وقع فيه أول غزوة من غزوات النبي (صلى اللّه عليه و آله) في السابع عشر من شهر رمضان المبارك سنة اثنتين من الهجرة، و فيها قاتل المشركين و انتصر فيها المسلمون.

و اذلة جمع ذلة، و انما ذكره عز و جل لبيان الذلة في جميع الشؤون الظاهرية المعدة لهذا المقام. و جملة «أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» حال من مفعول «نَصَرَكُمُ» و المراد من الذلة نوع خاص منها هو القلة في العدد و العدة و الانقطاع عن جميع الجهات الدنيوية.

و الآية الشريفة تؤكد نصر اللّه تعالى للمؤمنين فتذكرهم بالنعم التي أنعمها عز و جل عليهم فقد نصرهم اللّه تعالى في بدر ذلك النصر الباهر على أعدائهم مع ما هم عليه من العدة و العدد كما أيد اللّه تعالى المؤمنين بالملائكة و هو يكفي في التنبيه على ان التوكل على اللّه تعالى بعد إقامة السبب الظاهري يؤثر الأثر الكبير العجيب، فتكون الآية الشريفة مسوقة لإيجاب التوكل على اللّه تعالى بذكر أحد موارده، كما انها تؤكد اللوم و العتاب على ما ظهر منهم من الهم بالفشل في أحد، فكان الاجدر بهم ان لا يهنوا في الحرب فان اللّه تعالى على نصرهم لقدير كما نصرهم في غزوة بدر الكبرى مع ذلة المؤمنين ظاهرا و استذلال

ص: 288

المشركين لهم حيث لم يكن لهم أهبة حرب و لا عزة محارب، و لا منعة لهم لا في العدد و لا في العدة فقد كان عددهم ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا و ليس لهم من العدة إلا جريد النخل و فرسين و أباعر معدودة يتعاقب عليها بعض المسلمين و قليل من الزاد بينما كان عدد المشركين ما يناهز الالف و لهم العدة الكاملة من الخيل و النعم و السيوف و الدروع إلا ان اللّه تعالى نصر المسلمين بأعز وجه لأنهم كانوا معززين بعزة اللّه تعالى واقعا، قال تعالى: «وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ» المنافقون - 8 و قد أوجب على نفسه النصر الكامل لهم بقوله تعالى «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ» الروم - 47 فهم و ان كانوا أذلة من قبل العتاة و الجبابرة مقابل تلك القوة و الشوكة في يوم بدر، و لكن لهم العزة من جهة اخرى.

قوله تعالى: فَاتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

اي: فاتقوا اللّه بتذكر نعمه لا سيما نعمة النصر في يوم بدر و بترك المعاصي حتى الهم بالفشل و الخذلان و النفاق، و بالصبر في عظائم الأمور حتى تستعدون للقيام بوظيفة الشكر الذي هو من أجل المقامات لأنه يوجب تواتر النعم عليكم و يمنحكم النصر العظيم.

قوله تعالى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ .

إذ ظرف ل (نصركم) و هو يبين ولاية اللّه تعالى على المؤمنين جزاء شكرهم و توكلهم على اللّه تعالى. و الكفاية هي الاستغناء بالشيء عن غيره. و الإمداد هو إعطاء الشيء حالا بعد حال و على طريق الاتصال و قال بعضهم الإمداد ما كان بطريق التقوية و الإعانة، و ما كان

ص: 289

بطريق الزيادة يقال مده مدا، و قال آخرون: مده في الشر، و أمده في الخير. و الهمزة في «ألن» للإنكار، و النفي ب «لن» لتأكيده و للدلالة على أنهم كانوا آيسين من النصر لقلة العدد و العدة.

و إنما اتى بلفظ الرب و اضافة إلى ضمير المخاطبين للدلالة على كمال العناية بهم، و التربيب العظمى و انه لا يدعكم في هذه الحالة التي تحتاجون إلى عطفه و عنايته و نصرته، و هو يدل على تقوية الإنكار.

و الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه و آله) تعريضا بالمؤمنين لما هموا بالفشل.

و المعنى: تقول يا محمد للمؤمنين في أحد عند ما هموا بالفشل أليس اللّه تعالى بقادر على ان يكفيكم العدو كما كفاكم في بدر بأن يمدكم ربكم الذي يرعاكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من السماء و قد أمدكم يوم بدر بأقل من ذلك.

و المراد بقوله «منزلين» اي متهيئين لنصركم و هذا خصيصة لبعض الملائكة دون كلهم، فكما ان جبرئيل موكل لجملة من الأمور السماوية و الارضية التي ليس ذلك من شأن كل ملك كذلك ملائكة النصر في بدر و أحد. و ظاهر الآية الشريفة يدل على انه وعد من النبي (صلى اللّه عليه و آله) للمؤمنين و ترغيب لهم إلى الصبر و التقوى حتى يتحقق الموعود به، و تثبيت لعزيمتهم.

و لا يستفاد من الآية الشريفة وقوع ذلك في غزوة أحد بل كان مجرد وعد إن وفوا بما اشترط عليهم من الصبر و التقوى بخلاف غزوة بدر و الأحزاب و يوم حنين، قال تعالى في يوم بدر «فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» الأنفال - 9. و في الأحزاب قال تعالى: «إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها» الأحزاب - 9، و في يوم حنين قال تعالى: «وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها»

ص: 290

التوبة - 26.

ثم انه لا منافات بين تحديد الاستجابة لطلب الإمداد في يوم بدر بألف و نزول ثلاثة آلاف من الملائكة فيه، إذ ان مردفين في قوله تعالى: «بِأَلْفٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» يمكن أن يكون المراد به أن هذا العدد هو قسم خاص من الملائكة أردف لآخرين، فتكون ثلاثة آلاف لمجموع العدد كما يأتي ان شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا .

تصديق لكفاية اللّه تعالى لهم من الأعداء و نصرتهم عليهم و لكنه وعد بشروط ان وفوا بها يف اللّه تعالى بوعده، و هي الصبر على الجهاد، و الثبات في نصرة دين اللّه، و تقوى اللّه عما يوجب الخذلان و الوهن في العزائم و صرف الإمداد الالهي و الفيض الربوبي، و مجيء الأعداء من فورهم.

و مادة (فور) تدل على الحركة و الاضطراب يقال: فار الماء إذا نبع و جرى، و يقال: فارت القدر إذا غلت، و في الحديث:

«ان شدة الحر من فور جهنم» و تطلق على الغضب لأنه يشبه فور القدر، و استعملت في السرعة و الحركة التي لا سكون و لا بطء فيها، يقال جاء فلان في حاجته ثم رجع من فوره اي من حركته فكأنه في حركة مستمرة.

و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم في أربعة موارد قال تعالى: «حَتّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ اَلتَّنُّورُ» هود - 40، و مثله في سورة المؤمنون - 27، و قال تعالى: «سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ» الملك - 7. و في المقام.

ص: 291

و اختلف المفسرون في المراد منه فقيل: انه من وجههم، و قيل انه من سفرهم، و قيل: انه من غضبهم. و الحق إن جميع ذلك لا دليل عليه لا سيما إذا كان المراد من غضبهم من يوم بدر، لكان الأنسب أن يقول عز و جل من (فورهم ذلك)، مع ان الآية الشريفة بملاحظة سياقها و القرائن نزلت في شأن غزوة بدر.

و الصحيح ان المراد منه هو الفور ضد التراخي اي: يأتوكم المشركون و الأعداء من ساعتهم من دون إبطاء، و إنما وصف عز و جل مجيئهم بذلك لتأكيد السرعة و شدة غضبهم و تصميمهم على منازلة المؤمنين فإذا كانوا كذلك فان الإمداد واقع لا محالة و يكون أسرع.

قوله تعالى: يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ .

بيان لسرعة الإمداد عند سرعة مجيء المشركين؛ و الآية الشريفة تبين أقصى الحالات التي يحتاج إليها المؤمنون إلى المدد، و هي حالة المباغتة في الحرب و سرعة الحركة التي يتطلبها المحاربون في تلك الحالة و قد وعدهم عز و جل بانزال المدد فوق ما يتصور من السرعة.

و (مسومين) من السيما و هي العلامة، يقال: سوّمه و يسومه تسويما اي اظهر علامة الشيء. يعني: ان الملائكة كانوا معلمين بعلامة خاصة، كما هو الشأن في جميع الحروب التي يكون لكلا الطرفين علامة خاصة يتميز بها عن الطرف الآخر و بها كان المسلمون يعرفون الملائكة، كما عرفهم المشركون و قد ملئوا منهم رعبا كما هو المعروف.

و قد اختلفت الروايات في علامة الملائكة، ففي بعضها انها (العمائم) و في بعضها الآخر ان سيماء الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض في نواصي

ص: 292

الخيل و اذنابها. و غير ذلك من الاخبار.

و الحق ما ذكرناه فان المناط هو معرفة الطرفين الملائكة أحدهما بعلامة النصر و تثبيت القلوب، و الآخر بالخذلان و الرعب، و لا ينافي ذلك ان تكون للملائكة علائم خاصة، و لا ثمرة في البحث عن العلامة الخاصة بعد وضوح الحال لكلا الطرفين.

و الآية الشريفة لا تدل على نزول الملائكة في أحد لان سياقها بضميمة القرائن تدل على انها ناظرة إلى يوم بدر، و قد وعدهم عز و جل بالامداد و لكنهم وهنوا و عصوا و تركوا أمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و لو انهم صبروا و اتقوا اللّه لأمدهم الملائكة بالنصرة و الثبات.

قوله تعالى: وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ .

تثبيت آخر لقلوب المؤمنين لتطمئن نفوسهم. و هو يدل على عدم نزول الملائكة في أحد، لان اللّه تعالى جعل نزول الملائكة مشروطا بأمور ثلاثة و هي: الصبر، و التقوى، و مجيء الأعداء من فورهم، و لم تتحقق تلك الشروط فلم يكن ذلك إلا وعدا منه عز و جل فيه البشارة و الطمأنينة لقلوب المؤمنين.

و الضمير يرجع إلى ما ورد في الآية السابقة من الاخبار بنزول الملائكة و الوعد بالامداد فانه و ان لم يتحقق الموعود به، كما عرفت لكن ذلك بشرى للمؤمنين يذهب به خوفهم و تنبسط نفوسهم، و هذه حكمة عظيمة من تذكيرهم بما مضى من المدد و الوعد بالامداد.

قوله تعالى: وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ .

حكمة أخرى في الوعد بالامداد و هي تسكين قلوب المؤمنين و تثبيتها

ص: 293

عند النزال فلا يلحقهم الخوف من كثرة العدو وعدتهم.

و انما أخر عز و جل «به» في المقام و قدمه في موضع آخر قال تعالى: «وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ» الأنفال - 10. و لعل الوجه في ذلك ان المؤمنين لذلتهم و قلة عددهم و عدتهم في بدر لم يكن لهم أمل في النصر الا ارادة اللّه تعالى و نصرته و انجاز وعده عز و جل، كما هو معروف من انقطاعهم إلى اللّه تعالى، فكان القصر في الكلام بخلاف أحد، فان الأمر لم يكن كذلك فنزل الخطاب من غير قصر.

قوله تعالى: وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ اَلْعَزِيزِ اَلْحَكِيمِ .

(عند) يفيد مطلق الحضور الأعم من الجسماني و الروحاني و ما هو فوق ذلك كالحضور عند اللّه تعالى، و قد استعمل في القرآن الكريم في الجسمانيات المحضة في الدنيا كقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اَللّهَ عِنْدَ اَلْمَشْعَرِ اَلْحَرامِ» البقرة - 198، و قوله تعالى: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ» النحل - 96 و في الآخرة كقوله تعالى: «وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ» الصافات - 28 و في المجردات و الروحانيات كقوله تعالى:

«إِنَّ اَلَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ» الأعراف - 206، و مثل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ اَلْمُنْتَهى» النجم - 14. و في فوق الروحانيات و المجردات كقوله تعالى: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ» النحل - 96، و قال تعالى: «لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنّاتِ» القلم - 34 إلى غير ذلك من الآيات الشريفة بل استعمل مضافا إلى اللّه تعالى في القرآن الكريم بانحاء مختلفة.

و الحصر في الآية الشريفة يفيد ان جميع أنواع النصر - معنوية كانت أو مادية - تنحصر به تعالى، لفرض ان الكل مسخر تحت

ص: 294

امره و مشيته و ان الملائكة لا شأن لهم في ذلك إلا انهم بمنزلة الآلة الجسمانية و القوى المحضة.

و في ذكر العزيز الحكيم بيان لعلة انحصار النصر فيه تبارك و تعالى لان من كان عزيزا و قويا منيعا بكل معنى الكلمة و عالما حكيما بدقائق الأمور ينحصر النصر فيه لا محالة.

قوله تعالى: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ .

بيان لبعض وجوه الحكمة التي من أجلها ينصر اللّه تعالى المؤمنين مطلقا، و حينئذ لا فرق بين أن يكون اللام متعلقا بقوله تعالى:

«وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ» أو يكون متعلقا بالنصر في قوله تعالى:

«وَ مَا اَلنَّصْرُ إِلاّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ» فان اللّه تعالى عزيز حكيم يضع الأشياء على ما تقتضيه الحكمة و قد ذكر عز و جل وجوها من الحكمة في نصر المؤمنين و هي قطع طرفا من الكافرين، و كبتهم.

و قطع الطرف كناية عن إهلاك طائفة من الكافرين و إضعاف قوتهم و اذهاب شوكتهم كما وقع في يوم بدر و خيبر و نحوهما.

و مادة كبت تدل على الاهانة و الذلة بدواعي مختلفة إما الخزي و العار، أو الصرف، أو الرد بالغيظ، أو الرد بعنف و تذليل، أو بالصرع على الوجه، أو بالهزيمة و نحو ذلك، و قد استعملت هذه المادة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد أحدها المقام، و الثاني و الثالث قوله تعالى: «كُبِتُوا كَما كُبِتَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» المجادلة - 5 و الجامع هو الاهانة و الذلة. و ما ذكره اهل اللغة و التفسير من المعاني انما هو دواعي الاستعمال و ان جعلوها من اصل المعنى.

ص: 295

و كبت الذين كفروا وقع في يوم الأحزاب و أحد و أمثالها حيث أذلهم اللّه تعالى بأخسّ وجه فقد رجعوا خائبين منهزمين قد انقطعت آمالهم و لم يلحقهم إلا الخزي و العار.

قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ .

جملة معترضة تفيد ان جميع الأمور المتعلقة بالخلق سواء كانت في الهدى أو التعذيب أو القتل أو الأسر أو التوبة ترجع إلى خالقهم و قدرته و ارادته و ليس للنبي (صلى اللّه عليه و آله) شيء من ذلك سوى انه ينفذ أمر اللّه تعالى فيهم فانه بشر مخلوق مثلهم.

و انما أدرج عز و جل هذه الجملة في التقسيم لبيان ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) إذا أصابه مكروه أو إذا دارت الدائرة على المسلمين لا يلام على ذلك فانه ليس له في ذلك صنع و انما يرجع إلى قدرة اللّه تعالى و إرادته، و كذا بالنسبة إلى الظفر على الأعداء فان الشكر لا بد ان يكون للّه تعالى على ما أنعم.

و لهذه الجملة في هذا الموضع لها وقع كبير في النفوس، فان امر الحرب شديد و لا يمكن ان تتقبلها النفس بسهولة فان تهيئة الناس لها تهيئة نفسية و معنوية و ظاهرية تحتاج إلى عناية خاصة، و لأجل ذلك أدرج سبحانه هذه الجملة لبيان ان جميع الأمور ترجع إلى اللّه تعالى و هو الذي يحكم ما يريد فليس للافراد دخل في هذا الأمر، فكان لها تأثير كبير في نفوس المؤمنين، و تزيد في انقطاعهم إلى اللّه تعالى، و تظهر توكلهم عليه، و حينئذ كان الإمداد و الفيض الربوبي كبيرا، و الاقدام على الحرب و المنازلة شديدا، ففي هذا البيان الربوبي من الحكم الدينية و الاجتماعية و الحربية ما لا يخفى.

ص: 296

قوله تعالى: أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ .

الجملتان معطوفتان على قوله «ليقطع» و هما من أفراد التقسيم التي ذكرت لبيان وجوه الحكمة في نصر اللّه تعالى للمؤمنين.

و المعنى: أو يتوب على الكفار و المشركين فيهديهم إلى الإسلام و تزيد بذلك شوكة المسلمين و عددهم و عدتهم، و هذا هو نصر كبير فانه لا يختص في ساحة القتال و منازلة الأعداء، أو يعذبهم في الدنيا بما يريده اللّه تعالى و يشاء، أو في الآخرة بما أعد لهم من العذاب الأليم. و ذلك لأنهم ظالمون لأنفسهم فقد اعرضوا عن الإسلام و لم يحسنوا التوبة إلى اللّه تعالى.

و الترديد الظاهري في الآية المباركة إما بداعي تهويل الأمر عليهم أو لأجل وقوع ذلك بالنسبة إلى الأفراد فبعضهم استأصلوا، و بعضهم كبتوا، و بعضهم تاب اللّه عليهم بعد أن اسلموا، و بعضهم عذبوا.

و يمكن أن يكون قوله تعالى: «أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ» و الآية اللاحقة لأجل ترغيبهم إلى التوبة، و العفو عما يفعله أراذل الأنام، و أن العفو عند المقدرة من أخلاق الكرام.

و قد ذكر المفسرون في اعراب هاتين الجملتين «أو يتوب عليهم أو يعذبهم» وجوها مذكورة في كتب التفسير، و الجميع لا يرجع إلى محصل و تحتاج إلى عناية زائدة.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

كلام مستأنف يفيد عظمة من يرجع جميع الأمور اليه فانه مالك لجميع ما في السموات و الأرض ملكا حقيقيا يفعل فيها ما يشاء و ما يريد، خاضعة لديه، مسخرة تحت إرادته، حكيم في أفعاله.

ص: 297

و الجملة في موضع التعليل لما تقدم.

قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

من حكمته انه يغفر لمن يشاء، و قد فسره عز و جل في موضع آخر قال تعالى: «وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى» طه - 84. و يعذب من يشاء إذا أعرض عن الهدى و التوبة.

و تعليق المغفرة و العذاب على المشيئة لبيان انه تعالى يفعل ذلك وفق حكمته المتعالية، و تنبيه الإنسان على عدم الاغترار بأعماله و أفعاله و عدم إيئاسهم من رحمته تعالى، و بيانا لإحاطة رحمته و مغفرته على غضبه و عذابه على أي فرض.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تقرير لمضمون ما ورد في الصدر، فهو غفور للمذنبين رحيم لهم لئلا يحصل لهم اليأس من رحمته تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» كثرة اهمية النبي الكريم بأمته و عنايته (صلى اللّه عليه و آله) بأمورهم فإنهم رعيته و هو مسئول عن رعيته فقد

ص: 298

خرج من اهله الذين هم أولى الناس به غدوة ليعين مقاعد القتال و مواضع جيش المسلمين، و لأهمّيّة الأمر و عظمته فقد خرج غدوة اليه و قدمه على سائر أموره و يستفاد منه قرب الموضع من مدينة الرسول، و قد عينه التاريخ بانه جبل أحد كما هو المشهور المعروف هناك.

الثاني:

يستفاد من سياق الخطاب العتاب و اللوم على ما فعله المؤمنون من الوهن في العزيمة و الفشل في القتال و لذا أعرض عز و جل عن خطابهم إلى خطاب النبي الكريم في عدة مواضع من هذه الآيات الكريمة، منها قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ» ، و قوله تعالى: «إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ» ، و قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» . و وجه الخطاب إلى المؤمنين في كل مورد يستفاد منه اللوم و العقاب.

الثالث:

يستفاد من مجموع الآيات الشريفة الواردة في المقام و غيره كثرة هموم نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) بالنسبة إلى شؤون أمته، و قد قاسى في سبيل اللّه و إظهار كلمة الحق من الأعداء و المنافقين ما لم يقاسه أحد من أنبياء اللّه تعالى فان أنبياء اللّه تعالى خصوصا سيدهم (صلى اللّه عليه و آله) دائما في حالة الجهاد و المحاربة مع غيرهم إلا أن مراتب الجهاد و المحاربة مختلفة قولا و عملا، و ذلك لأنهم مظاهر العقل المجرد و اخلاق اللّه تعالى و معارفه الواقعية، و مثل ذلك إذا اختلط مع غيره إنما يكون من اختلاط العلم بالجهل المركب أو البسيط، و عداء الطرفين معلوم لكل ذي شعور.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» علم اللّه تعالى بالجزئيات كما تدل عليه الادلة العقلية و النقلية

ص: 299

قال تعالى: «يَعْلَمُ خائِنَةَ اَلْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي اَلصُّدُورُ» غافر - 19.

و تتضمن هذه الجملة العتاب مع الدلال و هو من أجمل الاساليب و ابدعها كما في قوله تعالى: «وَ اَللّهُ وَلِيُّهُما» فان العتاب فيه ظاهر أي لأي شيء صدر منكم الهم بالفشل مع ان اللّه تعالى معكم يحفظكم و يرعى مصالحكم.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ» العفو عن ما صدر عنهم من الهم بالفشل و ان ذلك يزول فتستقر النفوس و يثبت المؤمنون في أمورهم بالتوكل على اللّه تعالى، و إن من حق الايمان باللّه تعالى هو التوكل عليه و هو يكفى المؤمنين.

و حذف المتعلق في التوكل للدلالة على أن المؤمن ينبغي ان يتوكل عليه في جميع أموره و شئونه جليلها و حقيرها سهلها و صعبها.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» بقرينة الحال هي الانقطاع التام عن المخلوق و عالم المادة و التوجه الكامل إلى عالم الغيب، و حينئذ يقع نصر اللّه تعالى لا محالة، فان المستفاد من مجموع الآيات المباركة الواردة في نصرة اللّه للمؤمنين في مواضع مختلفة ان المناط كله هو تحقق هذه الحالة الانقطاعية الى اللّه عز و جل، و كل من حصلت له هذه الحالة فهو من اصحاب بدر الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة دين اللّه تعالى و بذلوا مهجهم في سبيله عز و جل، فسلام عليكم يا اهل بدر فقد فضلتم على بدر السماء لأنكم أنوار الهدى و اصحاب محمد المصطفى، فلا ينسى مناركم، و يرتجى مقامكم ابدا، و فيكم يدوي صوت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في الآفاق:

«زملوهم بدمائهم فإنهم يحشرون يوم القيامة و تشخب أوداجهم دما» و احمرار الشمس حين طلوعها و غروبها من شواهد بقاء حياتكم الابدية و رمز سعادتكم السرمدية.

ص: 300

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ» ان الكفاية انما يتحقق في الإمداد الربوبي و هو لا يختص بنوع خاص، بل يشمل جميع ما يتعلق بنصرة المؤمنين المادية و المعنوية و ما يتعلق بشئونهم العسكرية و ثبات نفوسهم و استقرارها و إلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ ما جَعَلَهُ اَللّهُ إِلاّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ» ان الإفاضات الربوبية بقدر اطمينان القلب الحاصل من التصفية، و لا بد أولا من البشارات الإلهية بالفيض و الإمداد، و ان لذلك الأثر الكبير في اطمينان القلب الذي يكون المؤمن بحاجة اليه في جميع حالاته لا سيما حالة الجهاد و الحرب مع الأعداء.

و إنما وجه الخطاب إلى الرسول الكريم باعتبار انه واسطة الفيض و لبيان أن كل فيض لا بد ان يكون عن طريقه و من وجهه، و إذا اجتمعت الواسطة من تصفية النفس و اطمينان القلب و التوجه اليه عز و جل يقع النصر و الفيض الربوبي لا محالة، و يتقدران بقدر اطمينان قلب المفاض عليه و سائر خصوصياته.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا الآية» وجوه الحكمة في الجهاد مع الأعداء و قد عد سبحانه و تعالى جملة منها و هي قطع دابر الكافرين و اذهاب شوكتهم، و كبتهم أو الهداية و التوبة عليهم، و زيادة شوكة المسلمين، أو التعذيب بما يراه اللّه تعالى في شأنهم، و قد ذكر عز و جل جملة أخرى منها في مواضع متفرقة يأتي التعرض لها في الموضع المناسب.

العاشر:

انما عبر سبحانه و تعالى بقطع الطرف، لأن الجيش انما يتقوم بقيام طرفه فإذا قطع فلا تبقى له قائمة، كما في قطع أطراف الإنسان، و القطع هنا أعم من القتل أو الأسر أو الخذلان أو التطميع

ص: 301

بالمادة، أو إيقاع الرعب في قلبه، ففي كل ذلك قطع للطرف و اذهاب للشوكة.

الحادي عشر:

إن في وقوع جملة «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» المستأنفة الواقعة بين جملتين مرتبطتين فيها من الحكم الكثيرة ما لا يخفى فمنها انها تكون لأجل التهويل و تعظيم الموضوع، و التسلية للنبي العظيم (صلى اللّه عليه و آله) بما جرى على اهله و عشيرته من القتل و الأسر، و تسكينا لأقاويل المنافقين لما كثرت حيث قالوا لو كان نبيا لما كسرت رباعيته و لا شج و جهه، و منها دفع توهم الغلو فيه (صلى اللّه عليه و آله) نظير قوله تعالى: «وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى» الأنفال - 17 و جلبا لقلوب المؤمنين، و منها توطئة لذكر التوبة بعد ذلك لئلا يستوحش المسلمون من قبول توبتهم؛ فإنها من اللّه تعالى و يكون التوفيق لتوبتهم منه تعالى أيضا، مضافا الى أن لهذه الجملة من التأثير المعنوي في ساحة القتال و الوغى على النفوس ما لم يكن للسلاح و غيره، و هي تؤثر في الروح المعنوية و تشدها و تقويها في حالة يكون المحاربون بأشد الحاجة إليها، و غير ذلك من الحكم الكثيرة و قد جرت عادة الفصحاء و البلغاء على ذكر جملة مستأنفة بين جمل مترابطة يشد بعضها مع بعض وحدة كلامية اهتماما بالموضوع.

الثاني عشر:

ان قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» بملاحظة سائر الآيات المباركة يدل على أن المنفي هو بعض مراتب القضاء و القدر، و الا فان امر التشريع و جعل الاحكام مفوض اليه فانه «ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى» النجم - 4 فلا يصح لأحد ان يتمسك بهذه الآية الشريفة و ينفي بعض الأمور عنه (صلى اللّه عليه و آله) باعتبار انه ليس له من الأمر شي.

ص: 302

بحث روائي

في تفسير القمي عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ» قال (عليه السلام): «سبب نزول هذه الآية ان قريشا خرجت من مكة تريد حرب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فخرج يبغي موضعا للقتال».

أقول: سياق الآية المباركة يشهد على صحة ما ورد في مثل هذه الروايات؛ كما عرفت في التفسير.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» قال: «نزلت في عبد اللّه بن أبي و قوم من أصحابه اتبعوا رأيه في ترك الخروج و القعود عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أقول: يمكن ان يكون فعل عبد اللّه بن أبي سببا لحصول الهم بالفشل في جمع آخر، و الآية المباركة ناظرة إلى هذا الجمع و اما عبد اللّه بن أبي فقد قعد عن القتال لا أنه همّ بالفشل، و يشهد لذلك ما رواه الطبرسي في المجمع و السيوطي في الدر المنثور، و الاختلاف في من همّ بالفشل لا يضر بعد معروفيته.

و في المجمع عن الصادقين (عليهما السلام): «هما بنو سلمة و بنو حارثة حيان من الأنصار، و قيل هما بنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس و كانا جناحي العسكر».

و في الدر المنثور عن السدي في حديث: «و خرج رسول اللّه

ص: 303

(صلى اللّه عليه و آله) إلى أحد في ألف رجل، و قد وعدهم الفتح إن يصبروا فرجع عبد اللّه بن أبي في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم فأعيوه و قالوا له: ما نعلم قتالا و لئن أطعتنا لترجعن معنا... ثم قال «إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا» و هم بنو سلمة و بنو حارثة همّوا بالرجوع حين رجع عبد اللّه بن أبي فعصمهم اللّه و بقي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في سبعمائة».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» قال أبو عبد اللّه (عليه السلام): «ما كانوا أذلة و فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و انما نزل «و أنتم ضعفاء» أقول: و روى مثله في المجمع و هذه الروايات تؤيد ما ذكرناه في معنى الذلة؛ و هو الانقطاع الى اللّه تعالى من كل جهة، و إنما ينفي الأمام (عليه السلام) الذلة الحاصلة لبعض الجيوش عند غلبة العدو عليه لا المعنى الذي قلناه، و قوله (عليه السلام) «و نزل» المراد به النزول تأويلا لا النزول اللفظي.

و في تفسير العياشي عن أبي بصير قال: «قرأت عند أبى عبد اللّه (عليه السلام) «وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ» فقال (ع):

مه ليس هكذا أنزلها اللّه انها أنزلت: أنتم قليل».

أقول: هذا الحديث يبين ما ذكرناه، و المنفي هو الذلة الحاصلة لبعض النفوس عند فقدان الحامي و الكفيل. و اما الذلة التي تكون بسبب قلة العدد و العدة و الانقطاع عن الخلق فلا تنفيها الروايات.

و في الكافي عن أبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل «يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ» قال (ع): العمائم اعتم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فسد

ص: 304

لها من بين يديه، و من خلفه، و اعتم جبرئيل فسدلها من بين يديه و من خلفه».

و في الكافي ايضا عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «كانت على الملائكة العمائم البيض المسترسلة يوم بدر».

أقول: تقدم ما يتعلق بهذه الروايات في التفسير.

في الدر المنثور عن انس بن مالك قال: «كسرت رباعية رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد و دمي وجهه، فجعل الدم يسيل على وجهه، و يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيهم بالدم، و هو يدعوهم إلى ربهم؟! فانزل اللّه تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ» .

ص: 305

بحث عرفاني

يمكن ان يكون قوله تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ» اشارة إلى معراج آخر لنبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فان معراجه الاول كان في مكة من بيت أم هاني و كان من الخلق إلى الحق و الانقطاع عن العلائق بالكلية و الانقطاع إلى الرب الفياض من جميع الجهات و إعداد نفسه الأقدس لمعراج آخر و السفر من الحق لكشف الحجب الظلمانية عن النفوس و لا حجاب أقوى و اغلظ من الكفر مطلقا و لا ينكشف ذلك الحجاب إلا بالسيف فكما أن لجهاده و حروبه المقدسة دخلا في نظام التشريع لها دخل في نظام التكوين أيضا، و هو إثارة العقول المستترة بالسيوف التي تعمل في نصرة الحق. و الغدو من الأهل لتعيين مواقع القتال للمؤمنين معراج للرسول الكريم لإظهار الحق و ازالة الحجب و الاغشية الظلمانية، و من المعلوم إن أغلى الأشياء و أعظمها لدى الإنسان هي الروح التي بين جنبيه و نفسه التي يقضي بها آماله و يفعل أفعاله فهي الأصل و جميع ما سواها من الأهل و المال و سائر الجهات من الفروع التي ترجع إلى حفظ النفس و حب بقائها، و هذه الجوهرة النفيسة إن بذلت في الأوهام و الخيالات و الماديات فقد بيعت بأرخص الأشياء و شريت بثمن بخس، و ان كان بذلها في الحقيقة التي لاحد لكمالها بوجه من الوجوه فهي السعادة العظمى. و من مظاهر تلك الحقيقة الجهاد في سبيل اللّه تعالى فانه اتصال بالمبدأ القيوم قال تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ» آل عمران - 169 فهل يعقل حدا لمعنى «عند»

ص: 306

من لا تناهي لحد الحضور لديه، مضافا إلى ان في رفع الحجب و الأستار من الأسرار و الدقائق ما لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

بحث تاريخي
اشارة

الآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها ترشد المؤمنين إلى بعض الأمور التي لا بد من مراعاتها في ميدان القتال و الجهاد مع اعداء اللّه تعالى فقد أمرت المسلمين بالتوكل عليه في جميع أمورهم، و الصبر و الثبات و التقوى عن جميع ما يوجب البعد عنه عز و جل، و الاستعانة و الانقطاع اليه لطلب الإمداد الربوي و الفيض الالهي المعد للمنقطعين اليه و المستغيثين به و قد بين عز و جل بعض الصفات التي يجب على المؤمن التحلي بها و هي طاعة اللّه تعالى و متابعة الرسول الكريم، و الصبر و التقوى، و التوكل عليه و ترك ما يوجب الوهن في العزائم، و قد ذكر عز و جل غزوة بدر و غزوة أحد.

اما الاولى فلأجل ما حصل من المسلمين من الالتفات حول النبي الكريم و الانقطاع إلى اللّه تعالى و الإمدادات الغيبية لهم و موجبات النصر على الأعداء.

و اما الثانية فلما ظهر من بعض المسلمين من الهم بالفشل و الوهن في العزائم و ترك متابعة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في وصاياه و أوامره و كادوا أن يقاسوا مرارة الهزيمة لو لا ما منّ اللّه تعالى به عليهم من العفو و التوبة فأمدهم بالامداد الغيبي، و سيأتي ذكر غزوة أحد في الآيات الآتية و الإشارة إلى بعض غزوات رسول اللّه (صلى اللّه

ص: 307

عليه و آله) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم. و نحن نذكر في هذا البحث عدد غزوات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و ما يتعلق بغزوة أحد و اما سائر الغزوات فيأتي البحث عنها في مواضعها.

حروب رسول اللّه (ص):

تنقسم حروب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى قسمين:

الاول: الغزوة و هي القوة المؤلفة من اعداد كبيرة مقاتلة التي كان يقودها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بنفسه الأقدس.

الثاني: السرية و هي مجموعة من الجند (يقدر عددها ما بين الثلاثين إلى الأربعين أو اكثر) يناط بهم مهمة قتالية محدودة أو مهمة استطلاعية حيث انها تستقصى اخبار العدو و تحصل المعلومات اللازمة عنه و لا تخرج إلا باذن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) فيعقد لها رأيتها، و المعروف انه (صلى اللّه عليه و آله) كان يودعها بنفسه الكريمة و يدعو لها بالنصر و التوفيق.

و اما العين أو العيون فان المراد منها إرسال شخص أو اكثر يقوم بمهمة استطلاعية و التجسس على الأعداء فقط، و عدد سرايا الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) ست و ثلاثون سرية على ما هو المعروف.

غزوات رسول اللّه (ص):

المعروف ان عدد غزوات رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ست و عشرون

ص: 308

غزوة، و قيل إنها اكثر.

أولها: غزوة الأبواء و تسمى غزوة ودان - و هي قرية بين مكة و المدينة بينها و بين الأبواء ستة أميال - و ذلك في محرم من السنة الثانية من الهجرة.

ثانيها: غزوة بواط وقعت في ربيع الاول من السنة الثانية أيضا و بواط جبال جهينة على إبراد من المدينة جهة ينبع.

ثالثها: غزوة العشيرة في جمادي الاولى من تلك السنة.

رابعها: غزوة بدر الاولى بعد رجوع النبي (صلى اللّه عليه و آله) من غزوة العشيرة بقليل.

خامسها: غزوة بدر الكبرى في السابع عشر من شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة و معه ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، مائتان و نيف و أربعون من الأنصار، و الباقون من المهاجرين، و معهم فرسان و سبعون بعيرا يتعاقبون عليها و الحامل للواء مصعب بن عمير العبدري. و أما المشركون فقد كانوا تسعمائة و خمسين رجلا معهم مائة فرس و سبعمائة بعير.

سادسها: غزوة بني سليم في النصف من شوال من نفس السنة.

سابعها: غزوة السويق و سميت هذه الغزوة بهذا الاسم لان المشركين كانوا يلقون جرب السويق و هم يهربون.

ثامنها: غزوة ذي أمر و هو ماء و تسمى بغزوة غطفان أيضا وقعت في شهر ربيع الاول من السنة الثالثة.

تاسعها: غزوة بحران عند ما بلغ النبي (صلى اللّه عليه و آله) ان جمعا من بني سليم يريدون الغارة على المدينة فسار إليهم في ثلاثمائة من أصحابه لست من جمادي الأولى.

عاشرها غزوة احد لعشر خلون من شوال من السنة الثالثة على ما يأتي من التفصيل.

ص: 309

الحادية عشرة: غزوة حمراء الأسد - و هي من المدينة على سبعة أميال - و أقام (صلى اللّه عليه و آله) بها الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء بعد رجوعهم من غزوة احد.

الثانية عشرة: غزوة بني النضير لما نقضوا العهد مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أرادوا قتله غدرا فخرج لهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في عسكر، فتحصنوا و حاصرهم حتى خضعوا لأمره و رضوا بالجلاء و ذلك في السنة الرابعة.

الثالثة عشرة: غزوة ذات الرقاع بعد غزوة بني النضير بشهرين و هما ربيع الاول و ربيع الثاني في السنة الثالثة، و ذلك لما تهيأت قبائل من نجد لحربه فتجهز لهم و خرج في سبعمائة مقاتل.

الرابعة عشرة: غزوة بدر الآخرة في شعبان من هذه السنة عند ما بلغه توعد أبي سفيان.

الخامسة عشرة: غزوة دومة الجندل - و هي مدينة بينها و بين المدينة خمس عشرة ليلة و بين دمشق خمس ليال عند ما بلغه ان جمعا كثيرا فيها يظلمون من مر بها و يريدون الاغارة على المدينة فخرج لهم (صلى اللّه عليه و آله) لخمس ليال بقين من شهر ربيع الاول من السنة الخامسة و كان في ألف من المسلمين.

السادسة عشرة: غزوة بني المصطلق - و تسمى بغزوة المريسيع - قبل غزوة الخندق بثلاثة أشهر من السنة الخامسة.

السابعة عشرة: غزوة الخندق وقعت في شهر شوال من السنة الخامسة عند ما اجتمعت قبائل قريش في اربعة آلاف مقاتل و غطفان في ألف فارس، و بنو مرة في أربعمائة و بنو أشجع و بنو سليم في سبعمائة و بنو أسد و غيرهم حيث بلغ المجموع عشرة آلاف مقاتل

ص: 310

يقودهم أبو سفيان بن حرب.

الثامنة عشرة: غزوة بني قريظة و كانت عند انصرافه عن الخندق و لما كان الظهر امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مؤذنا ان يؤذن من كان يصلي العصر لا يصليها إلا في بني قريظة بحكم سعد بن معاذ.

التاسعة عشرة: غزوة بني لحيان، و هم قبيلة نزلت شمالي شرق مكة و هم الذين قتلوا سبعين صحابيا الذين أرسلهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) في صفر من السنة الرابعة إلى نجد ليدعوهم إلى الإسلام، فخرج إليهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في جمادي الاولى من السنة الخامسة في مأتي راكب و معهم عشرين فرسا.

العشرون: غزوة الحديبية في ذي القعدة من السنة الخامسة للهجرة عند ما خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) معتمرا لا يريد حربا و معه من المهاجرين و الأنصار و غيرهم ما يبلغ عددهم ألف و خمسمائة و لكن المشركون منعوه من الزيارة و دخول مكة إلا ان الجميع اتفقوا على الصلح، و سمي بصلح الحديبية.

الواحدة و العشرون: غزوة خيبر في محرم من السنة السابعة عند ما خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إليها في ألف و أربعمائة رجل معهم مائتا فارس و خيبر تبعد عن المدينة نحو مائة ميل من الشمال الغربي.

الثانية و العشرون: غزوة وادي القرى.

الثالثة و العشرون: غزوة الفتح أي فتح مكة، و ذلك إنه كان بين النبي (صلى اللّه عليه و آله) و بين قريش عهد يمنع احد الفريقين من مقاتلة الآخر و الزعامة عليه و عند ما حارب بنو بكر - و هم في عهد قريش - بني خزاعة - و هم في عهد المسلمين - و الجميع بمكة ساعد القرشيون بني بكر بالسلاح و قاتل معهم من قاتل مستخفيا حتى أخرجوا

ص: 311

خزاعة إلى الحرم و اصابوا منهم ما اصابوا و بذلك نقضت قريش العهد فأرسلت قريش أبا سفيان بن حرب إلى المدينة لتجديد العهد و لكن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عقد العزم على فتح مكة فتجهز للسفر و سار النبي (صلى اللّه عليه و آله) في منتصف شهر رمضان في عشرة آلاف و وصل إلى مكة في عشرين خلت من نفس الشهر حتى وصل الحجون موضع رايته.

الرابعة و العشرون: غزوة حنين عند ما اجتمعت هوازن و ثقيف و غيرهما من القبائل و خرجوا مع الأموال و الذراري و النساء إلى غزو رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و عند ما بلغه (صلى اللّه عليه و آله) خبر هذه الغارة خرج في اثني عشر ألف مقاتل في شوال من السنة الثامنة.

الخامسة و العشرون: غزوة الطائف و ذلك لما قدم المنهزمون من ثقيف و من انضم إليهم من غيرهم إلى الطائف أغلقوا عليهم مدينتهم و جمعوا ما يحتاجون اليه و استحصروا فيها فسار إليهم النبي (صلى اللّه عليه و آله) بمن معه في شوال من نفس السنة.

السادسة و العشرون: غزوة تبوك و هي آخر غزوة غزاها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بعد خروجه من الطائف بستة أشهر عند ما بلغه ان نصارى العرب قد اجتمعوا مع جند الروم لمحاربته و وصلت مقدمتهم إلى بلقاء - ارض بالشام - فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالتجهيز لغزوهم فتجهز ثلاثون الفا في ساعة العسرة و ساروا إلى تبوك في جمادي الثانية من السنة الثامنة و لما انتهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى تبوك لم يلق حربا و صالح أهلها و قفل راجعا.

و اما غزوة موته فلم يشترك فيها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و انما جهز جيشا في ثلاثة آلاف مقاتل و استعمل عليه زيد بن حارثة

ص: 312

و قال: «ان أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب، فان أصيب فعبد اللّه ابن رواحه» فسار الجيش و شيعهم الرسول الكريم و ذلك في جمادي الاولى من السنة الثامنة.

هذه جملة غزوات النبي (صلى اللّه عليه و آله) و هذا الحصر استقرائي تاريخي يختلف حسب شدة الاستقراء و ضعفه و لعله لأجل ذلك اختلفوا في عدد الغزوات.

و نحن نذكر في هذا البحث غزوة احد و ما يتعلق بها من موقعها و اسبابها و نتائجها و كيفية الحرب و غير ذلك على ما هو المعروف بين اهل السير و التواريخ و ما ورد عن الائمة الهداة (عليهم السلام) ان شاء اللّه تعالى.

موقع القتال:

هذه الغزوة كانت في أحد و هو جبل بظاهر المدينة في شمالها على خمسة أميال و هو اقرب الجبال إليها، و طوله من شرقه إلى غربه يساوي ستة كيلو مترات، و ترتفع قمة هذا الجبل عن سطح البحر بمقدار ألف و مأتي مترا.

و قد عسكر المسلمون و المشركون في هذا الموضع، و كان موقفا الفريقين متعارضا لاختلاف هدف كل واحد منهما. فالفريق الذي كان يريد مهاجمة المدينة (المشركون) فانه استقبل جبل احد و استدبر المدينة، و الفريق الذي أراد الدفاع عن المدينة (المسلمون) فانه استقبل المدينة و استدبر جبل احد.

ص: 313

و من ذلك يعرف ان جيش المشركين وصل إلى جنوب غربي جبل احد عن طريق وادي العقيق غربي المدينة، و تمكن من الوصول إلى الطرف الشمالي من المدينة المنورة، فيكون الموضع الذي عسكر فيه المشركون يقع بالتحديد شمال شرق المدينة.

و قد اطلق المشركون ابلهم و خيولهم في مزارع المسلمين شمالي المدينة ليستنفروا المسلمين و يجبروهم على القتال خارج ابنية المدينة و عند السفوح الجنوبية بجبل احد.

و قد تجنبوا الدخول إلى المدينة المنورة و حاراتها و آطامها و تحصيناتها فإنهم كانوا يعلمون بأنهم لا يتمكنون من محاربة المسلمين فيها لأنهم لم يكونوا يحسنون مثل هذا النوع من القتال.

و قد لفت الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) انظار أصحابه إلى هذه الجهة عند ما اظهر رأيه لهم في البقاء داخل المدينة و التحصن فيها و مقاتلة المشركين إذا هموا الدخول فيها، لعلمه (صلى اللّه عليه و آله) بأنهم لا يقدرون على ذلك و سينصرفون عنها خائبين تماما كما حدث في غزوة الخندق أو لغير ذلك من الأسرار، و بعد ما ورد في القرآن الكريم من الآيات المتقدمة يشير إلى بعض منها و لكن اكثر المسلمين اتفقوا على الخروج و مقاتلة المشركين خارج المدينة و كان ذلك خلاف المأمول منهم، و لقد لاقوا المتاعب و المصاعب في خروجهم هذا.

و كيف كان فقد امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه بالتهيؤ للخروج و دخل داره و تقلد سيفه و ارتدى عدة القتال، و لما تردد من خالف رأي النبي (صلى اللّه عليه و آله) و أظهروا الرغبة على النزول على رأيه قال قولته المشهورة «لا ينبغي لنبي لبس لامته - الدرع و نحوه - ان يضعها حتى يحكم اللّه بينه و بين عدوه» و لقد

ص: 314

تلقى الوحي من السماء بالخروج قال تعالى: «وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ اَلْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اَللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» فخرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و معه ألف رجل من ناحية المشرق حتى نزل (الشيخين) موضع بين المدينة و أحد على الطريق الشرقية مع الحرة إلى جبل أحد - و لقد اختار النبي (ص) أرضا للقتال في أحد بمنتهى الحكمة و المهارة، و لقد اعترف بذلك غير المسلمين أيضا فوضع خمسين من الرماة في فم الشعب خلف قواته لغرض حرمان العدو من الالتفاف على قواته من الخلف، و تحمى ظهرها و تستر انسحابه عند الحاجة و حددت كتب السير و التواريخ ذلك الموضع ب (جبل عينين) و ان كان ذلك اقرب إلى الربوة منها الى الجبل.

و كيف كان فقد أسند إلى هذا الموضع جناحه الأيسر كما أسند جناحيه الأيمن الى سفح جبل أحد الذي كان شديد الانحدار و استقبل قوات المشركين، فكان في حصن منيع و كبير. و لذا لما سقط هذا الموضع بيد المشركين انهار دفاع المسلمين و تدفقت خيل المشركين على المسلمين و وقعت الهزيمة كما نطق به التنزيل قال تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» آل عمران - 153 هذا موقع القتال في غزوة أحد و هندسة الحرب فيها.

اسباب الحرب:

إذا راجعنا كتب السير و التاريخ نجد انهم يذكرون أسبابا عديدة لهذه الغزوة و لكن أكثرها لا تخلو عن المناقشة و الذي يستفاد من مجموع

ص: 315

الحوادث الواقعة قبل غزوة أحد و بعدها امور هي:

الاول: خذلان المشركين في غزوة بدر الكبرى و رجوعهم إلى مكة مقهورين موتورين؛ و في المجمع عن الصادق (عليه السلام):

«كان سبب غزوة احد ان قريشا لما رجعت من بدر إلى مكة؛ و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر لأنه قتل منهم سبعون و أسر سبعون» فحرصت قريش منذ نكبتها في بدر على الأخذ بثأرها من المسلمين و صممت على الاستعداد عسكريا لاستعادة كرامتها و شرفها.

الثاني: خوف القبائل المجاورة للمدينة سواء كانت من المشركين أم اليهود من قوة المسلمين مما كانوا يترقبون الفرص للانتقام منهم و نقض العهد و يتربصون الدوائر و يتجسسون عليهم و يؤذونهم بالقول و الفعل. و لما علمت بعزم قريش على الغزو حرضتها على ذلك.

الثالث: خوف قريش على الطرق التجارية المؤدية إلى الشام و إلى العراق من ان تقع بيد المسلمين فيمنعونهم عن التجارة كما وقعت المدينة بأيديهم و أصبحت قاعدة أمنية لدعوتهم و حركاتهم العسكرية.

الرابع: خوف انتشار الدعوة الاسلامية لأنها كانت تلقى إذنا صاغية و ارتفعت بعض الموانع عن قبولها بعد هزيمة قريش في بدر الكبرى فقد أسلمت اكثر مشركي المدينة بعد بدر.

الخامس: الدفاع عن المدينة بعد ما عرف الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) استعداد قريش لغزوها و ابادة أهلها و محو الدعوة في مهدها.

السادس: استفزاز قريش المسلمين في عدة مواقع منها انهم أرسلوا إبلهم و خيلهم ترعى زروع يثرب.

ص: 316

التعبئة:

لما رجعت قريش إلى مكة من بدر بعد اصابتهم الهزيمة و الخذلان - قتلا و اسرا - حرصت على الأخذ بثأرها من المسلمين و قد نذر أبو سفيان بن حرب ان لا يمس رأسه ماء من جنابة حتى يغزو محمدا و صممت على استعادة كرامتها و شرفها كما عرفت فاستعدت لذلك استعدادا تاما قرر كبراء قريش تخصيص ربح تجارة قافلة أبي سفيان التي جرت من أجلها معركة بدر لإنجاز هذه المعركة و تقويتها بالمواد و السلاح، و قد كان ربح تلك التجارة - كما في السيرة الحلبية - خمسين ألف دينار فبذلوا الربح في معركة الثار، و قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم فان الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمد فلما غزوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح» و اجتمعت قريش للحرب بحدها - و هو البأس - وجدها - و هو العظمة و الغنى - و احابيشها - و هم حلفاء قريش - و من اطاعتها من قبائل كنانة و اهل تهامة فكانوا نحو ثلاثة آلاف، الفان و تسعمائة من قريش و مواليها و احابيشها، و مائة من بني ثقيف، بينهم سبعمائة دارع و معهم مائتا فرس و ثلاثة آلاف بعير، و في مجمع البيان عن الصادق (عليه السلام): «ان القوة لما خرجت من مكة كانت ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل» و لقد جاء المشركون من مكة إلى أحد و ليس فيهم رجل واحد يمشي على قدميه و استصحب أكثرهم نساءهم للتشجيع و رفع المعنويات.

و قد بذلت نساء قريش - خاصة هند بنت عتبة زوجة أبى سفيان -

ص: 317

أقصى جهودهن لتشجيع قريش و بعث الحماس في نفوس الرجال لأخذ الثار من المسلمين و هي التي حرضت وحشيا الحبشي على قتل حمزة عم النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقتله بحربته المعروفة. ثم انه خرجت قريش من مكة و وصلت أحد في شوال من السنة الثالثة للهجرة في اربعة عشر شهرا.

و قد أرسل العباس عم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) رسالة مع أحد الرجال لأخذ الثار من المسلمين يخبرهم عن وقت خروج قريش لقتاله و عن عدد قواتها فاسرع الرجل بعد ما اشترط عليه العباس ان يسير ثلاثا إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فلما بلغ رسول اللّه الخبر جمع أصحابه و حثهم على الجهاد فقال عبد اللّه بن أبي سلول اللّه لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقتها، فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الامة على أفواه السكك و على السطوح فما أرادنا قوم قط فظفروا بنا و نحن في حصوننا و دورنا و ما خرجنا إلى عدو لنا قط إلا كان الظفر لهم علينا» و كان الرسول الكريم يرغب البقاء في المدينة ايضا و قام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا يا رسول اللّه ما طمع فينا احد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام فكيف يطمعون فينا و أنت فينا؟ لا حتى نخرج إليهم فنقاتلهم فقبل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) رأيه و خرج مع نفر من أصحابه يتبوءون موضع القتال كما حكي عز و جل عنهم في الآية الشريفة و قد عرفت سابقا موضع القتال و عبّأ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه فسار في ألف من أصحابه كما سيأتي.

ص: 318

القوى:

وصلت قوات المسلمين و قوات المشركين الى أحد يوم الجمعة الخامس عشر من السنة الثالثة للهجرة اما قوى المسلمين فقد كانت مؤلفة من ستّمائة و خمسون فارسا و حامل اللواء علي بن أبي طالب (عليه السلام) كما ورد عن الصادق (عليه السلام) و قيل ان حامل اللواء هو مصعب بن عمير اخي بني عبد الدار، و خمسون من الرماة على الشعب قال الصادق (عليه السلام): «و وافت قريش إلى احد و كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عبّأ أصحابه و كانوا سبعمائة رجل و وضع عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب و اشفق ان يأتي كمينهم من ذلك المكان فقال (ص): لعبد اللّه بن جبير و أصحابه ان رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكة فلا تبرحوا من هذا المكان و ان رأيتموهم هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و الزموا مراكزكم» و قد رجع عبد اللّه بن أبي مع ثلاثمائة من أصحابه عند ما وصل الرسول مع ألف إلى الشوط و قد كان خروجهم خيرا للمسلمين و قد ذمهم اللّه تعالى و قبح أفعالهم و لما انتهى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى احد و بالتحديد موضع القنطرة - و قد اندرست فلا يعلم موقعها - و قد حانت الصلاة و هو يرى المشركين امر بلالا فاذن و صلى و لقد همت طائفتان من المؤمنين و هما بنو سلمة من الخزرج و بنو حارثة من الأوس بالفشل، و لم يعرف عدد هاتين الطائفتين، و كان معسكر المسلمين بالقرب من أحد على ما عرفت و قد

ص: 319

استعرض (صلى اللّه عليه و آله) المسلمون ورد من استصغر منهم و هم سبعة عشر شخصا و أجاز اشخاصا من أبناء الخامسة عشر. و قد لبس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) الدرع فوق الدرع و جعل على أحد الجانبين الزبير بن العوام و على الآخر المنذر بن عمرو.

و اما قوات المشركين فقد كانت مؤلفة من ثلاثة آلاف أو خمسة آلاف كما ورد عن الصادق (عليه السلام) و كان على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، و على ميسرتها عكرمة بن أبى جهل، و كان اللواء عند طلحة بن أبى طلحة من بني عبد الدار، و قد نظم المشركون قواتهم للقتال بأسلوب الصف و أمنوا حماية ميمنة الصفوف و ميسرتها بالفرسان. و كان مع القوة مائتا فرس و ثلاثة آلاف بعير و هذه القوات كانت بقيادة أبى سفيان.

و قال في المجمع عن الصادق (عليه السلام): «و وضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مأتي فارس كمينا و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم» و عند احتدام القتال انحط خالد بن الوليد في مأتي فارس على عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع.

وفد تفوق المشركون على المسلمين بالعدد إلى خمسة أمثال المسلمين و اما بالعدة فقد كان تفوقهم اكثر كما عرفت.

المعركة:

ابتدأ القتال عند ما قامت مفرزة من قوات المشركين بقيادة أبى عامر

ص: 320

عبد عمرو بن صيفي الأوسي بالهجوم على قوات المسلمين، و قد خرج إلى أحد في خمسة عشر رجلا من الأوس و من عبيد اهل مكة و قال ابن هشام في السيرة «انه كان معه خمسون غلاما من الأوس» و قريب منه ما ذكره الواقدي، و كان يزعم لقريش انه إذا نادى أهله الذين في صفوف محمد (صلى اللّه عليه و آله) استجابوا له و انحازوا معه. و خرج أبو عامر مناديا: «يا معشر الأوس انا أبو عامر فأجابه المسلمون لا أنعم اللّه بك عينا يا فاسق» و قد اذن الرسول (صلى اللّه عليه و آله) للمسلمين بالقتال فنشب بين الطرفين.

و قد حاول أبو عامر و عكرمة بن أبي جهل الهجوم على اجنحة المسلمين و لكن المسلمين ردوهم و فشلت محاولات اخرى لهم في الالتفاف حول المسلمين لأنهم كانوا في حصن منيع و كبير، كما عرفت و لما التقى الناس و دنا بعضهم من بعض قامت هند بنت عتبة في النسوة اللاتي معها و أخذن الدفوف يضربن بها خلف الرجال و يحرّضنهم فقالت هند:

ويها بني عبد الدار *** ويها حماة الأدبار

ضربا بكل بتار

و تقول:

نحن بنات طارق *** نمشي على النمارق

إن تقبلوا نعانق أو تدبروا نفارق

فراق غير وامق

فاحتدم القتال بينهم و حميت الحرب، و قاتل أبو دجانة حتى أمعن في الناس، و قدم قريش صاحب لوائهم طلحة بن أبي طلحة و صفوا صفوفهم و صاح طلحة من يبارز؟ فخرج اليه عليّ (عليه السلام)

ص: 321

فقتله، و في المجمع عن الصادق (عليه السلام):» و أخذ الراية أبو سعيد بن أبى طلحة فقتله علي (عليه السلام) ايضا، و سقطت الراية فأخذها مسافع بن أبى طلحة فقتله علي (عليه السلام) حتى قتل تسعة نفر من بني عبد الدار حتى صار لوائهم إلى عبد لهم أسود يقال له: صواب فانتهى اليه على (عليه السلام) فقطع يده اليمنى فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها فاعتنقها بالجذماوين إلى صدره، ثم التفت إلى أبى سفيان فقال: عذرت في بني عبد الدار؟ فضربه علي (عليه السلام) على رأسه فقتله، و سقط اللواء فأخذتها غمرة بنت علقمة الكنانية فرفعتها ثم شد اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على كتائب المشركين حتى نقضت صفوفهم و تصدعت فانهزم المشركون حتى أحاط المسلمون بنساء المشركين و وقع الصنم الذي احتملوه للتبرك به فوق الجمل الذي كان يحمله و أخذ المسلمون يتعقبون المشركين حتى ابعدوهم عن معسكرهم ثم عادوا يجمعون الغنائم، قال الصادق (عليه السلام): «و حمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة و وضع اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في سوادهم و انحط خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير فاستقبلوهم بالسهام فرجع بل قام بأكثر من محاولة للالتفاف حول المسلمين و على هذا الجناح الخطير بالخصوص فلم يفلح لشدة الرماة في موضعهم قبل تركهم له و نظر اصحاب عبد اللّه بن جبير ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد اللّه بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة؟ فقال لهم عبد اللّه فان رسول اللّه قد تقدم إلينا ان لا نبرح فلم يقبلوا منه، و أقبلوا ينسل رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم و بقي عبد اللّه بن جبير في اثني عشر رجلا».

ص: 322

و من ذلك يعلم ان هزيمة المشركين كانت منكرة بحيث ان المسلمين تركوهم و بادروا إلى جمع الغنائم و الاسلاب ثم تبعتهم الرماة و انتصر المسلمون نصرا باهرا.

المحنة:

لما انشغل المسلمون بجمع الغنائم و غفلوا عن عدوهم انحط خالد ابن الوليد و كان على ميمنة جيش المشركين على عبد اللّه بن جبير و قد فر معظم أصحابه و بقي في نفر قليل، فقتلهم على باب الشعب ثم اتى المسلمين من أدبارهم و نظرت قريش إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها و لم يتنبه المسلمون إلا و المشركون فوق رؤسهم و أحاطوا بهم فانهزموا هزيمة عظيمة و اقبلوا يصعدون الجبال و في كل وجه حتى خلص المشركون إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فجرحوا وجهه الشريف و كسروا رباعيته اليمنى من ثناياه السفلى و رموه بالحجارة حتى سقط في حفرة من الحفر التي كان ابو عامر الفاسق يكيد بها المسلمين، و حمل ابن قميئة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و قال:

«أروني محمدا لا نجوت ان نجا فضربه على حبل عاتقه و نادى قتلت محمدا و اللات و العزى» و تطارد هذا الخبر في المعركة و كان حمزة بن عبد المطلب و علي بن أبي طالب و أبو دجانة سماك بن خراشه و جماعة اخرى قليلة قد التفوا حول الرسول الكريم مستقتلين فكلما حملت طائفة على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) استقبلهم علي (عليه السلام) فدفعهم عنه حتى تقطع سيفه فدفع اليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) سيف

ص: 323

ذا الفقار و انحاز رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى ناحية أحد فوقف فلم يزل علي (عليه السلام) يقاتلهم حتى أصابه في رأسه و وجهه و بدنه و بطنه و رجليه ستون جراحة، فقال جبرائيل: إن هذه لهي المواساة يا محمد. فقال محمد (صلى اللّه عليه و آله) انه مني و أنا منه. فقال جبرائيل: و انا منكما، قال أبو عبد اللّه الصادق (عليه السلام) نظر رسول اللّه إلى جبرائيل بين السماء و الأرض على كرسي من ذهب و هو يقول: «لا سيف الا ذو الفقار و لا فتى إلا علي». و قد نادى كعب بن مالك بأعلى صوته بعد إشاعة المشركين قتل محمد (صلى اللّه عليه و آله) يا معشر المسلمين ابشروا هذا رسول اللّه» و صاح حمزة بالهتاف المعروف للمسلمين في يوم أحد «أمت أمت» و اندفع إلى قلب المشركين، و اقبل ثابت بن الدحداحة يومئذ و المسلمون اوزاع قد سقط في أيديهم فجعل يصيح: يا معشر الأنصار إليّ إليّ انا ثابت بن الدحداحة ان كان محمد قد قتل فان اللّه حي لا يموت فقاتلوا عن دينكم فان اللّه مظهركم و ناصركم فنهض اليه نفر من الأنصار فجعل يحمل بمن معه من المسلمين و قد وقفت لهم كتيبة خشناء من المشركين فجعلوا يناوشونهم و حمل عليه خالد بن الوليد بالرمح فطعنه فأنفذه فوقع ميتا و قتل من كان معه من الأنصار، و يقال: ان هؤلاء آخر من قتل من المسلمين.

اما حمزة بن عبد المطلب فكان يحمل على القوم فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له احد، و كانت هند قد اعطت وحشيا عهدا لئن قتلت محمدا أو عليا أو حمزة لأعطينك كذا و كذا قال وحشي: أما محمد فلم أقدر عليه. و أما علي فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمع فيه.

فكمنت لحمزة فرأيته يهد الناس هدا فمر بي فوطئ على جرف نهر

ص: 324

فسقط و أخذت حربتي فهززتها و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنته فسقط، فأتيته فشققت بطنه و أخذت كبده و جئت به إلى هند. فقلت: هذه كبد حمزة فأخذتها في فمها فلاكتها فلفظتها و رمت بها.

و اجتمع المسلمون رويدا رويدا و تجمعوا حول الرسول و استعصموا بالجبل و بلغ الإعياء برجال قريش حدا بالغا، و فشلت محاولاتها لقتل الرسول الكريم و القضاء على المسلمين و كانت هذه محنة كبيرة على المسلمين، و قد حكي عز و جل عنها فقال تعالى: «حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ» آل عمران - 152 و آل حال المسلمين إلى الاضطراب و دخل قسم من المنهزمين المدينة و لاذ الباقون إلى الفرار.

النصر:

قررت قريش بعد المحاولات العديدة للقضاء على المسلمين و بلغ بهم التعب و الإعياء اكثر مما لحق بالمسلمين فقررت إنهاء القتال و كان ذلك لأسباب عديدة نذكر المهم و سيأتي في الآيات التالية قسم آخر.

منها: الإمداد الغيبي الالهي بعد التوبة عليهم، و صرف المشركين عنهم بإلقاء الرعب في قلوبهم قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ. سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ»

ص: 325

آل عمران - 151.

و منها: الوهن و الإعياء و التعب في الطرفين بل كان في طرف المشركين أعظم و اكثر لما لحقهم من الهزيمة أول الأمر، و قتل أبطالهم و صناديدهم.

و منها: ظنهم بأنهم أدركوا الثأر من المسلمين لقاء ما أصابهم يوم (بدر) و لو انهم لم يكونوا قد قتلوا من المسلمين أحدا غير حمزة بن عبد المطلب عم النبي لكفاهم ذلك.

و منها: استقامة المسلمين بعد ما لحقتهم النكسة و التفافهم حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و استعادة قواهم بأخذ الراية الكبرى بأيديهم، و دعوات الرسول (صلى اللّه عليه و آله) المتتالية بالاجتماع و ترك الهزيمة فكان ذلك السبب المهم في لحوق الهزيمة بالمشركين فإنهم استيقنوا بأنهم لا يمكنهم البقاء و استمرار الحرب مع هذه الاستقامة من المسلمين، و كأنهم أدركوا انه ما بقي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فيهم لا يمكنهم النصر، فقررت إنهاء القتال و الرجوع في موعد آخر فلما انصرف أبو سفيان و من معه نادى:

و ان موعدكم بدر العام القابل و قد اجبرتهم هذه الأمور على الفرار و ترك المحاربة مع المسلمين.

الخسائر:

قررت قريش بعد الهزيمة الرجوع إلى مكة و إنهاء الحرب، مخذولين خائبين محرومين عما كانوا يأملون. و انتصر المسلمون بالتوبة

ص: 326

و الثبات و العزيمة و التزام الطاعة، و الالتفاف حول الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و قد عرفت سير القتال في ما تقدم، و لما انقضت الحرب اشرف أبو سفيان على الجبل فقال: يوم بيوم بدر و الحرب سجال، ثم انصرف أبو سفيان و من معه و قال: ان موعدكم العام المقبل، ثم بعث رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليا في أثرهم و قال: «انظر فان جنبوا الخيل، و امتطوا الإبل فإنهم يريدون مكة و ان ركبوا الخيل فإنهم يريدون المدينة، فو الذي نفسي بيده لئن أرادوها لأناجزنهم. قال علي (عليه السلام): فخرجت في أثرهم فامتطوا الإبل و جنبوا الخيل يريدون مكة» و كانت حصيلة هذه الحرب انه قتل من قريش جمع غفير، و قيل اثنان و عشرون رجلا و أثخن الجراح فيهم، و دفن المشركون موتاهم.

و اما المسلمون فقد استشهد منهم سبعون رجلا أو نيف و سبعون و قد أصابهم الجراحات لا سيما الذين كانوا يحوطون حول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقد وجد في علي (عليه السلام) ستون جراحة و في أبى دجانة نيف و سبعون. و التمس المسلمون قتلاهم فرأوا أن المشركين قد مثّلوا بهم و كان التمثيل بحمزة (عليه السلام) شر تمثيل «و وقعت هند و صواحباتها على القتلى يمثلن بهم و اتخذت هند من آذان الرجال و آنافهم خدما (الخلخال) و قلائد». و أقبلت صفية بنت عبد المطلب فقال: رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لابنها الزبير ليردها لئلا ترى ما بأخيها حمزة، فلقيها الزبير فأعلمها بأمر النبي (ص) فقالت: انه بلغني انه مثل بأخي و ذلك في اللّه قليل فما ارضانا بما كان من ذلك لاحتسبن و لأصبرن فاعلم الزبير النبي (صلى اللّه عليه و آله) بذلك فقال: خل سبيلها فأتته وصلت عليه

ص: 327

و استرجعت» و امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) به فدفن و نزل في قبره علي و أبو بكر و عمر و الزبير و جلس رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) على حفرته. و حمل بعض الناس قتلاهم إلى المدينة فأمر رسول اللّه (ص) بدفنهم حيث صرعوا و أمر أن يدفن الاثنان و الثلاثة في القبر الواحد، و أن يقدم إلى القبلة أكثرهم قرآنا و صلى عليهم، فكان كلما أتي بشهيد جعل حمزة معه و صلى عليهما، و كان يجمع تسعة من الشهداء و حمزة عاشرهم فيصلي عليهم. و أمر أن يدفن عمرو بن الجموح و عبد اللّه بن حرام في قبر واحد و قال: «و كانا متصافين في الدنيا» و ربما كانوا يلفون بثوب واحد لقلة الثياب، و لم يغسّلوا، و قيل:

انه لم يصل على شهداء أحد، كما في صحيح البخاري و لكنه مردود.

و خرجت نساء من المدينة لمساعدة الجرحى و كانت فاطمة (عليها السلام) هي التي داوت جرح النبي (صلى اللّه عليه و آله)، و في صحيح البخاري: «كانت ابنته تغسله و على يسكب الماء بالمجن (الترس) فلما رأت فاطمة ان الماء لا يزيد الدم الا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها فالصقتها فاستمسك الدم».

و في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «انه أصاب عليا (عليه السلام) يوم احد ستون جراحة و ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) أمر أم سليم و أم عطية ان تداوياه فقالتا: انا لا نعالج منه مكانا إلا انفتق مكان و قد خفنا عليه و دخل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و المسلمون يعودونه و هو قرحة واحدة و جعل يمسحه بيده، و يقول: ان رجلا لقى هذا في اللّه فقد ابلى و اعذر فكان القرح الذي يمسحه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يلتئم - الحديث -».

و لما أراد النبي (صلى اللّه عليه و آله) الرجوع إلى المدينة ركب

ص: 328

فرسه و امر المسلمين ان يصطفوا فاصطفوا خلفه و عامتهم جرحى و اصطف خلفهم النساء و هن اربع عشرة امرأة كن بأصل أحد فقال اصطفوا حتى اثني على ربي فاصطف الناس صفين خلفهم النساء ثم دعا فقال: «اللهم لك الحمد كله اللهم لا قابض لما بسطت و لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت و لا هادي لمن أضللت و لا مضل لمن هديت و لا مقرب لما باعدت و لا مباعد لما قربت اللهم اني اسألك بركتك و رحمتك و فضلك و عافيتك اللهم اني اسألك النعيم المقيم الذي لا يحول و لا يزول اللهم اني اسألك الأمن يوم الخوف و الغناء يوم الفاقة عائذا بك اللهم من شر ما أعطيتنا و شر ما منعت منا اللهم توفنا مسلمين اللهم حبب إلينا الايمان و زيّنه في قلوبنا و كرّه إلينا الكفر و الفسوق و العصيان و اجعلنا من الراشدين اللهم عذب كفرة اهل الكتاب الذين يكذبون رسولك و يصدون عن سبيلك اللهم انزل عليهم رجسك و عذابك اله الحق أمين» و اقبل (صلى اللّه عليه و آله) حتى نزل ببني حارثة يمينا و اطلع على بني عبد الأشهل و هم يبكون على قتلاهم فقال (صلى اللّه عليه و آله): «اما عمي حمزة فلا بواكي له» و كان رجوعه إلى المدينة يوم السبت من يوم الواقعة. و خرجت النساء ينظرن إلى سلامة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فنظرت اليه أم عامر الاشهلية فإذا عليه الدرع كما هي فقالت «كل مصيبة بعدك جلل يا رسول اللّه» و قالت أم سعد بن معاذ: «اما إذ رأيتك سالما فقد اشفت المصيبة» فعزاها رسول اللّه بابنها عمرو بن معاذ و قال: يا أم سعد ابشري و بشري أهليهم ان قتلاهم قد ترافقو في الجنة و قد شفعوا في أهليهم».

ص: 329

شهداء أحد:

ذكرنا ان شهداء أحد من المسلمين سبعون رجلا و قيل نيف و سبعون ثلاثة منهم من المهاجرين و الباقون من الأنصار اما المهاجرون فهم:

1 - حمزة بن عبد المطلب بن هاشم عم النبي (صلى اللّه عليه و آله) و كان الذي اصابه وحشي بحربته.

2 - عبد اللّه بن جحش و كان خاله حمزة و قتله أبو الحكم بن الأخنس ابن شريق. 3 - مصعب بن عمير الذي قاتل دون رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و معه لواؤه حتى قتل، و كان الذي اصابه ابن قميئة الليثي و هو يظن انه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فرجع إلى قريش فقال: قتلت محمدا.

و قد ورد انه بعد ان انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) راجعا إلى المدينة فلقيته حمنة بنت جحش، فنعي لها أخوها عبد اللّه ابن جحش فاسترجعت و استغفرت له، ثم نعي لها خالها حمزة بن عبد المطلب فاسترجعت و استغفرت له، ثم نعي لها زوجها مصعب ابن عمير فصاحت و ولولت فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) «ان زوج المرأة منها لبمكان».

4 - شماس بن عثمان قتله أبي بن خلف.

و اما الأنصار فهم: 1 - عمرو بن معاذ بن النعمان قتله ضرار بن الخطاب. 2 - الحارث بن انس بن رافع. 3 - عمارة بن زياد بن السكن 4 - سلمة بن ثابت بن وقش قتله أبو سفيان بن حرب. 5 - عمرو

ص: 330

ابن ثابت بن وقش قتله ضرار بن الخطاب. 6 - ثابت بن وقش.

7 - رفاعة بن وقش قتله خالد بن الوليد. 8 - حسيل بن جابر أبو حذيفة اليمان قتله المسلمون خطاء. 9 - صيفي بن قيظي قتله ضرار بن الخطاب 10 - الحباب بن قيظي. 11 - عباد بن سهل، قتله صفوان بن أمية 12 - الحارث بن أوس قتله ضرار بن الخطاب. 13 - إياس بن أوس 14 - عبيد بن التيهان قتله عكرمة بن أبى جهل. 15 - حبيب بن قيم 16 - يزيد بن حاطب بن امية، و هؤلاء كلهم من بني عبد الأشهل.

و اما من بني عمرو بن عوف. 1 - أبو سفيان بن الحارث بن قيس بن زيد و هو أبو البنات الذي قال لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أقاتل ثم ارجع إلى بناتي فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) صدق اللّه عز و جل. 18 - حنظلة بن عامر و هو غسيل الملائكة بماء مزن، قتله الأسود بن شعوب. 19 - أنيس بن قتادة قتله أبو الحكم ابن الأخنس. 20 - عبد اللّه بن جبير بن النعمان أمير الرماة كما جعله النبي (صلى اللّه عليه و آله) قتله عكرمة بن أبى جهل. 21 - أبو حبة عمرو بن ثابت.

و من قبائل اخرى: 22 - خيثمة أبو سعد قتله هبيرة بن أبى وهب.

23 - عبد اللّه بن سلمة قتله ابن الزبعري. 24 - سبيع بن حاطب قتله ضرار بن الخطاب. 25 - خارجة بن زيد قتله صفوان بن امية.

26 - سعد بن ربيع و هما دفنا في قبر واحد. 27 - أوس بن أرقم.

28 - مالك بن سنان و هو أبو أبى سعيد الخدري قتله غراب بن سفيان 29 - سعد بن سويد. 30 - عتبة بن ربيع بن رافع. 31 - ثعلبة ابن سعد بن مالك. 32 - حارثة بن عمرو. 33 - سقف بن فروة 34 - عبد اللّه بن ثعلبة. 35 - قيس بن ثعلبة. 36 - طريف.

ص: 331

37 - ضمرة. 38 - نوفل بن عبد اللّه قتله سفيان بن عويف.

39 - عباس بن عبادة قتله سفيان بن عبد شمس. 40 - النعمان بن مالك قتله صفوان بن امية. 41 - عبدة بن الحساس. 42 - المجدر ابن زياد قتله الحارث بن سويد غيلة و قد دفن هؤلاء الثلاثة في قبر واحد. 43 - عنترة مولى بني سلمة قتله نوفل بن معاوية. 44 - رفاعة بن عمرو. 45 - عبد اللّه بن عمرو من بني حزام قتله سفيان ابن عبد شمس. 46 - عمرو بن الجموح و دفنا في قبر واحد.

47 - خلاد بن عمرو بن الجموح قتله الأسود بن جعونة. 48 - المعلى بن لوذان قتله عكرمة بن أبى جهل. 49 - ذكوان بن عبد قيس قتله أبو الحكم بن الأخنس بن شريق. 50 - عمرو بن قيس قتله نوفل بن معاوية الديلي. 51 - قيس بن عمرو. 52 - سليط بن عمرو 53 - عامر بن مخلد. 54 - أبو أسيرة بن الحارث قتله خالد بن الوليد 55 - عمرو بن مطرف. 56 - أوس بن حرام. 57 - انس بن النضر عم انس بن مالك خادم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قتله سفيان بن عويف. 58 - قيس بن مخلد، 59 - كيسان بن مولى مازن بني النجار. 60 - سليم بن الحارث. 61 - نعمان بن عمرو 62 - سهل بن قيس. 63 - حارث بن عدي بن خرشة. 64 - أبو ايمن مولى عمر بن الجموح. 65 - مالك بن إياس. 66 - إياس ابن عدي.

و مجموع هؤلاء سبعون رجلا على ما هو المشهور بين المؤرخين و قد ضبط بعضهم اكثر من ذلك و اقل - كالواقدي في المغازي و غيره كما مر، و سجل التاريخ أيضا اسماء قتلة المشركين.

و كان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بزور الشهداء و يقول

ص: 332

«السلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» و مر (صلى اللّه عليه و آله) على قبر مصعب بن عمير فوقف عليه و دعا، و قرأ: «رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اَللّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً» الأحزاب - 33 - و كانت فاطمة بنت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) تأتيهم بين اليومين و الثلاثة فتبكي عندهم و تدعو و كانت أم سلمة زوج النبي (صلى اللّه عليه و آله و سلم) تذهب فتسلّم عليهم في كل شهر فتظل يومها فجاءت يوما و معها غلامها نبهان فلم يسلم، فقالت: اي لكع ألا تسلم عليهم؟! و اللّه لا يسلم عليهم احد الا ردوا إلى يوم القيامة. و عن فاطمة الخزاعية تقول: «غابت الشمس بقبور الشهداء و معي اخت لي، فقلت لها تعالي نسلّم على قبر حمزة و ننصرف. قالت: نعم، فوقفنا على قبره فقلنا: السلام عليك يا عم رسول اللّه فسمعنا كلاما رد علينا، و عليكما السلام و رحمة اللّه و بركاته، قالتا: و ما قربنا احد من الناس».

المجروحين:

امر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) أبا عمرو ان يداوي كل مجروح في داره فباتوا يوقدون النيران و يداوون الجراح و ان فيهم لثلاثين جريحا أو اكثر و قال: لا يبلغ معي بيتي عزيمة مني فنادى فيهم سعد عزيمة رسول اللّه إلا ان سعد بن معاذ مضى معه (صلى اللّه عليه و آله) إلى بيته، ثم رجع إلى نسائه فساقهن، و لم تبق امرأة إلا جاء بها إلى بيت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فبكين بين المغرب و العشاء

ص: 333

و قام رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) حتى فرغ من النوم لثلث الليل فسمع البكاء فقال ما هذا؟! فقيل: نساء الأنصار يبكين على حمزة، فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) رضي اللّه عنكن و عن أولادكن، و أمرنا ان نرد إلى منازلنا فرجعنا إلى بيوتنا بعد ليل معنا رجالنا، فما بكت منا امرأة قط الا بدأت بحمزة إلى يومنا هذا - أي قبل واقعة الطف. فسلام عليك يا خير الشهداء و يا عم رسول اللّه و يا اسد اللّه و أسد رسوله، جزاك اللّه عن الإسلام و أهله خيرا.

نتائج الحرب:

وقعت الحرب بين المسلمين و المشركين في (أحد) و قد اقتسما النصر و الهزيمة بينهما بادئ الأمر، و لم يكن النصر حاسما للمشركين، كما زعمه بعض المؤرخين، بل إذا تعمقنا في سير القتال و نتائج هذه الغزوة نرى أن النصر كان أقرب إلى المسلمين منه إلى المشركين، فإنهم مع تفوقهم الكبير على المسلمين في العدد و العدة و احاطتهم بهم من كافة الجوانب بعد قتل رماة المسلمين في فم الشعب، لم يتمكنوا من هزيمتهم و القضاء عليهم قضاء تاما، كما كان هو هدف المشركين من هذه الغزوة، و قد نجح المسلمون بقيادة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و حكمته و براعته من تطويق المشركين و إخراجهم من موقع الحرب باصابات قليلة، قدرها بعض المؤرخين عشرة بالمائة بالنسبة إلى قوات المشركين المتفوقة و قد تمكن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) من تخليص قواته من الموت المحتم، و هذا هو النصر الكبير.

ص: 334

ثم إنه يمكن استخلاص نتائج كبيرة من هذه الغزوة نذكر المهم في المقام و تأتي البقية في مستقبل الكلام.

منها: ظهور عظمة الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) في هذه الحرب كقائد عظيم و زعيم كبير في قيادة الجيش بحكمة و مهارة في احرج المواقف، و ظهرت عبقريته (صلى اللّه عليه و آله) في جعل النصر للمسلمين المغلوبين آخر الآمر، و قد انهارت معنويات الكثيرين منهم إلا جماعة خاصة مؤمنة خلصت في إيمانها و استقامت على الحق و الدفاع عنه.

و منها: معرفة المنافقين المندسين في صفوف المسلمين مما اتاح لهم الفرصة في التخلص منهم على حكمة و بصيرة.

و منها: حصول المسلمين على المعلومات الكثيرة عن نوايا المشركين و قوتها و سائر الأمور التي تخصهم مما جعلت المسلمين على حيطة منهم.

و منها: إن هذه الحرب نبّهت المسلمين أن التعدي عن أوامر القائد يؤدي إلى نتائج وخيمة يصعب تحملها، فقد كانت مخالفة رماة المسلمين لتعليمات الرسول الكريم (ص) الدرس الكبير لهم لكي لا يعودوا إلى مثلها.

و منها: معرفتهم أن الاستقامة على الحق و الصبر في ميدان القتال و الثبات في الشدائد و الأهوال كل ذلك يؤدي الى النصر الحاسم و الحاق الهزيمة بالأعداء.

و منها: أن الأخلاق الرذيلة التي توجه النفس إلى الأمور المادية و الانشغال بأمور تافهة توجب أعراض النفس عن الجانب المعنوي في الجهاد مع الأعداء، و تؤثر في وهن العزائم، فقد كان العجب الذي لحق ببعض المسلمين نتيجة نصرهم الساحق على المشركين في يوم بدر،

ص: 335

الأثر الكبير في الحاق النكسة بهم.

هذا مضافا إلى أنهم استفادوا من وقعة أحد أن التعليمات الإلهية و الفيوضات الربانية لها التأثير التام في الثبات في ميدان القتال و النصر الأكيد، و هو مما يؤكد عليه القرآن الكريم في الآيات المتقدمة، و ما سيأتي في الآيات اللاحقة.

و بالجملة أن في غزوة أحد من الدروس العظيمة التي لا بد للمسلمين الاستفادة منها، و الاعتبار بها، و ستبقى احد رمزا للتفاني و الجهاد المقدس مدى الدهر.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130).......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) ذكرنا مرارا أن الآيات القرآنية نزلت لتكميل الإنسان و ارشاد الناس إلى ما يوجب سعادتهم في الدارين، و قد دأب القرآن الكريم على إنزال الاحكام الإلهية على سبيل التدريج و التأني لسبق النفوس بالجاهلية التي لا بد من إزالتها و إصلاح الفاسد فيها، و بيان الصراط المستقيم و تهذيب النفوس بالعلم و العمل بكل ما يمكن التحريض عليه إما الوعد الجميل أو الثناء الجزيل حتى تستقيم النفوس بالتقوى، و من عادة اللّه عز و جل في تربية الإنسان إنزال الاحكام على سبيل التدريج لترتاض النفوس المستنفرة من علم و حكمة، و لذا كان كل حكم في القرآن الكريم يتعقبه التحريض على العمل. و في هذه الآيات الشريفة يأمر سبحانه الناس ببعض ما يوجب سعادتهم و يزجرهم عما

ص: 336

يوجب شقاوتهم، و يرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم، كما أن الآيات السابقة دعتهم إلى الجهاد مع الأعداء و نبذ تلك الخصال المذمومة و الصفات السيئة التي أوجبت الوهن في العزيمة و الضعف في القتال، فهذه الآيات و سابقتها و التي تليها لا تخرج عن ما رسمه القرآن الكريم في تعليم الإنسان و تربيته و تهذيبه، و من ذلك يظهر السّر في الأمر باطاعة اللّه و الرسول لان فيها الفلاح و النجاح.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا اَلرِّبَوا .

الآية المباركة تشتمل على الأمر و النهي و الترغيب و الترهيب و ترشد الناس إلى أهم موضوع اعتنى به الإسلام اعتناء بليغا فحرمه و شدد النكير عليه و هو الربا الذي ذكره عز و جل في مواضع متعددة من القرآن الكريم، و لكثرة اهمية الموضوع تدرج الإسلام في تشريع الحكم فيه و بين وجوه المفاسد المترتبة عليه.

و الآية الشريفة تنهي المؤمنين عن تعاطي الربا و تحرمه حرمة مؤكدة و قد تقدم في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ» البقرة - 275 بعض الكلام.

و المراد بالأكل هو الأخذ و التعاطي، و قد ذكره بالخصوص لأنه الأهم من المقاصد، و لزيادة في التشنيع اي: انكم تفعلون ذلك مع ما فيه من المفاسد لأجل غرض دني و هو الاكل.

و الربا هو مطلق الزيادة و شرعا زيادة يشترط في القرض، أو في بيع

ص: 337

احد المثلين بالآخر. على ما فصلناه في (مهذب الاحكام).

قوله تعالى: أَضْعافاً مُضاعَفَةً .

بيان لبعض وجوه المفاسد لأن الربا بحسب طبعه يستهلك اموال المديون لتتراكم عند الدائن منضما إلى رأس ماله فيكون ما يأخذه أضعافا مضاعفة.

و الأضعاف جمع قلة لضعف، و هو مثل الشيء، و ضعفاه مثلاه، و أضعافه أمثاله و هو من الألفاظ المتضايفة التي يقتضي وجودها وجود آخر من جنسها في الكم أو من جهة اخرى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

اي: اتقوا اللّه في ما نهاكم عنه فان في التقوى صلاح المجتمع، و انتظام النظام بالوجه الأحسن الأكمل.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

اي لكي تفلحوا في جميع أموركم الدنيوية و الاخروية. و الفلاح هو من أهم الغايات، و الآية ترشد الناس إلى ان التقوى توجب الفلاح كالاسباب التوليدية دون ما يتوهمه الإنسان.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ .

تأكيد للتحريم السابق اهتماما بالموضوع و تشنيعا على من أكل الربا الذي يؤدي إلى نار عظيم. و فيه الدلالة الواضحة على كفر آكل الربا.

قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ .

الإطاعة المتابعة اعتقادا و قولا و عملا و هي أعم من العبادة و اطاعة

ص: 338

اللّه و الرسول متابعتهما في جميع الاحكام و التكاليف و منها حرمة الربا.

و انما قرن سبحانه و تعالى إطاعته باطاعة الرسول لبيان ان إطاعة اللّه لا تكون إلا باطاعة الرسول و لا تكون إطاعة الرسول إلا باطاعة اللّه تعالى، فتكون اطاعة أحدهما من دون الآخر باطلة.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ .

بيان لبعض ما يترتب على اطاعة اللّه و اطاعة الرسول من رحمة اللّه تعالى للمطيعين و هي الغاية العظمى، لان بالاطاعة تستعد النفوس لتلقى الرحمة و الفيض الالهي.

و في الآية الشريفة عتاب لمن ترك الإطاعة للّه و للرسول في غزوة احد.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول:

تأكيده سبحانه و تعالى النهي عن الربا بوجوه: الاول:

قوله تعالى: «أَضْعافاً مُضاعَفَةً» الثاني: قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» الثالث: قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَلنّارَ اَلَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» الرابع: قوله تعالى: «وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ» و هذه وجوه أربعة تؤكد التنفير عن الربا، و التنزه عن اكله و التشنيع على فاعله، لان الربا من أهم الموضوعات التي تمس الفرد و الاجتماع من جهات شتى.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» الحكمة في النهي عن أكل الربا و اطاعة اللّه و الرسول فيه هو اثبات التراحم بين

ص: 339

الإفراد الذي يفضي إلى التعاون و التعاضد بينهم، و هو يستلزم الفلاح و الصلاح في الدنيا و الآخرة.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ» ان النار مخلوقة و معدة للكافرين العاصين جزاء لهم، و انما خص سبحانه الكافرين بالذكر إما لأجل انه النار قد أعدت لهم أولا و بالذات و لغيرهم بالتبع، أو لان الكافرين يخلدون فيها دون غيرهم، أو لأجل بيان ان المرائي الذي لا يعمل الحكم الالهي بعد علمه به في حكم الكافرين فيشمل الكافر كل فاسق ايضا و قد تقدم في هذا التفسير مكررا ان للكفر مراتب.

و من العجائب ان الآية الشريفة افتتحت بالخطاب للمؤمنين فما أيسر ان يخرج المؤمن عن إيمانه و يدخل في زمرة الكافرين بترك حكم الهي و ارتكاب منكر عقلي و لذا قيل انها أخوف آية في القرآن الكريم.

الرابع:

ان قوله تعالى: «وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ» يتضمن حكما عقليا بتيا إرشاديا قرره الواحد الأحد على لسان سيد الأنبياء احمد (صلى اللّه عليه و آله)، و بذلك تتم الحقيقة الانسانية و تتحقق العبودية المحضة.

و انما قرن أطاعته عز و جل بطاعة الرسول (ص) لبيان ان اطاعة الرسول من اطاعة اللّه فلا بد من المسارعة إليها، و قد ذكر سبحانه و تعالى الحكمة في الأمر بالطاعة هي الفلاح المفضيّ للنجاح في جميع الأمور و الحالات و هو مطلوب كل فرد.

الخامس:

انما عقب الوعيد بالوعد ترغيبا في الطاعة و ترهيبا عن المخالفة كما هو دأبه تعالى في القرآن الكريم.

ص: 340

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) اَلَّ.......

اشارة

وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (134) وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ (136) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) الآيات الشريفة من جلائل الآيات التي يذكر فيها أهم الخصائل الحميدة الفردية و الاجتماعية، و هي تهدي الإنسان إلى استكمال نفسه و مجتمعه و تعلمه كيفية علاج الرذائل النفسانية فهي تدعوه إلى الخير و الإحسان، و التحلي بمكارم الأخلاق و الانزجار عن الشر و السوء و مساوي الأخلاق.

ص: 341

و هي المسارعة إلى الخير، و الانفاق في سبيل اللّه في السراء و الضراء، و كظم الغيظ، و العفو عن الناس، و التوبة عن المعاصي و الذنوب التي تبعد الإنسان عن خالقه و توقعه في الورطات و المشاكل.

و قد امر عز و جل بنيل الإحسان و كل خير فردي و اجتماعي، و بيّن سبحانه و تعالى ان في التخلق بها و في افشائها يحقق للإنسان الحياة السعيدة و تأمنه من الوقوع في المهالك و توجب له النجاة من الشدائد و بها تثبت الوحدة بين افراد المجتمع و يشد بعضهم بعضا.

فهذه الآيات الشريفة تبين الصراط المستقيم الذي من سلكه لا يضل و لا يشفى، و قد ذكر سبحانه في الآيات السابقة أهم ما يمنع الإنسان من السير على ذلك الصراط المستقيم و ما يعيقه من تكميل نفسه و مجتمعه و هو الربا الذي يعد في نظر الإسلام من أهم الموانع المادية و المعنوية التي تحرم الإنسان عن الحياة السعيدة و تمنع من الانفاق الذي يعد من أهم الأسس في نيل السعادة.

و قد عد عز و جل ان التعدي عما ذكره و الاعراض عما بينه يؤدي إلى الشقاء و الحرمان و امر عز و جل بالاعتبار عما جرى في الأمم السابقة التي أعرضت عما ارتضاه اللّه تعالى لهم.

التفسير

قوله تعالى: وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .

دعوة عامة إلى الغفران، و بشارة عظيمة لجميع اهل الذنوب و العصيان و استضافة من الجواد الغني لجميع الواردين عليه، و ترغيب إلى العباد

ص: 342

في إزاحة جميع الاغشية و الظلمات، و دفع انواع الجهالات، و وعد منه عز و جل لمن أطاع اللّه و أطاع الرسول، و قد ذكر جزاء المتقين المطيعين اتباعا للوعيد بالوعد الجميل، و اقترانا للترهيب بالترغيب كما هو سنته عز و جل.

و المسارعة المبادرة و الاشتداد في السرعة، و هي في الخير ممدوحة و في الشر مذمومة، و المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إليها. و انما امر سبحانه و تعالى بالمسارعة إليها باطاعة اللّه تعالى و الرسول للتنبيه على ترك التسويف الذي يفوت به الأجر و الحظ و كثرة المثبطات و وسوسة الشيطان التي توهن العزائم.

و يمكن ان يكون قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ» مبينا للمغفرة في هذه الآية الشريفة، كما ان قوله تعالى:

«اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ» مبينا للمسارعة إلى الجنة.

و كيف كان فان اسباب المغفرة و الدخول في الجنة معروفة مذكورة في القرآن الكريم و السنة الشريفة، كما ان اسباب الدخول في النار كذلك.

قوله تعالى: وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ .

العرض خلاف الطول و هو اقصر الامتدادين عادة، و يكنى به عن السعة، و استعماله في ذلك شايع يقال بلاد عريضة اي واسعة، و منه قولهم: اعرض في المكارم إذا توسع فيها، و في الحديث عنه (صلى اللّه عليه و آله): «لقد ذهبتم فيها عريضة» اي الأرض الواسعة و قد قال (صلى اللّه عليه و آله) ذلك عند ما هرب جماعة يوم أحد فرارا من الزحف.

ص: 343

كذلك فأين الطول و ما مقداره مع انه لا يجري ذلك إذا فرضنا كروية الجنة.

و يمكن ان لا يكون التعبير كنائيا بل كان على الحقيقة أما بناء على عدم تناهي الابعاد كما عن جمع من الفلاسفة فالامر واضح. و اما بناء على التناهي كما عن بعض فلا ريب في انه على فرض صحته انما هو في الدنيا، و اما في الآخرة فهي غير متناهية من جميع الجهات زمانا و مكانا و سعة و نعمة و غير ذلك.

و قد ذكر المفسرون في معنى العرض في المقام بما لا يرجع إلى محصل و نقل عن أبي مسلم بن بحر أن المراد من العرض في الآية الشريفة هو من عرضك الشيء على البيع و المقايضة اي لو عرضت الجنة بالسموات و الأرض لكانتا ثمنا. و هذا تأويل باطل.

و كيف كان فالآية الشريفة ترمز إلى معنى جميل ترغب المخاطبين إلى المراد بأسلوب لطيف و جار على ما يتصوره الناس من التمثيل بالموجود في الخارج و تبين بلوغ الجنة في السعة بحيث لا يمكن أن يجدها حد وهمي، و هذا مما يوجب اطمينان الإنسان بأن له ما تشتهيه النفس من جميع الجهات ففي بعض الأحاديث القدسية: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر» و هذا هو شأن النعمة التي أعدت من غير المتناهي من كل جهة إلى المنعم عليه المتناهي من كل جهة، و هذه هي الحياة الكاملة الابدية التي لا ينبغي للإنسان إلا السعي في دركها.

قوله تعالى: أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ .

الاعداد التهيئة و هو إما علمي أو خارجي، في هذه النشأة أو في

ص: 344

نشأة اخرى أو في عالم الملكوت الذي يكون كالصورة و المرآة لهذا العالم بجميع جزئياته و كلياته، و يمكن ان يعبر عنه بعالم المثال الخارجي و هو موجود بوجود روحاني معنوي، و دخله سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) في معراجه و اطلع على خصوصياته فيكون الاعداد مطابقا للوجود العلمي الازلي، و الوجود الخارجي في الدنيا و الوجود الاخروي في ما لا يزال.

و التقوى هي سبب معد للجنة فتكون حقيقة التقوى منزلة من العلم الازلي مثل بالوجود المثالي ثم نزلت إلى هذا العالم و ستعود إلى المحل الذي أعدته لنفسها، كما ان حقيقة العصيان و الطغيان و الكفر كذلك و لكل منها مظاهر خاصة تناسب عالم ظهورها، و يمكن التمثيل له في هذا العالم ايضا فان بعض الاراضي لا قابلية لها إلا لزراعة مثل الزعفران و قطعة اخرى لا تصلح إلا ان تكون سبخة يعلوها الملح. و ذلك كله بنحو الاقتضاء لا العلية التامة و من ذلك يعلم المراد من قولهم (عليهم السلام): «كل ما هناك لا يعلم إلا بما هنا» أو «ان الدنيا مزرعة الآخرة».

و انما أتى عز و جل الفعل مجهولا للاشارة إلى ان لفعل الفاعل دخلا في الاعداد، و أضيفت الجنة إلى المتقين لبيان ان الوصف و هو التقوى علة لهذا الاعداد.

و نظير هذه الآية قوله تعالى: «سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ» الحديد - 21. و لعل الاختلاف في التعبير بالمسارعة و المسابقة لأجل ان المسارعة تكليف للجميع من غير اختصاص بفرد و المسابقة تكليف فردي بان يتسابق كل فرد فردا آخر حين المسارعة، فتكون المسابقة أخص من المسارعة، و يكون

ص: 345

المراد بالجنة في آية المسابقة جنة خاصة عرضها كعرض السماء و الأرض فان للّه تعالى جنات كثيرة بل غير متناهية.

كما ان المراد بالجنة في آية المسارعة الجنس التي يكون عرضها السموات و الأرض، و يصح ان يراد بالسماء في آية المسابقة الجنس فيتحد مفاد الآيتين حينئذ.

ثم انه تعالى ذكر المتقين في المقام لغرض الأوصاف التي وصفهم بها، و هي أوصاف جامعة لمكارم الأخلاق و هي تفيد المجتمع كما تفيد الأفراد أمروا بالتحلي بها لغاية تهذيبهم و تكميلهم و قد نزلت هذه الآيات بعد غزوة احد، و قد جرى على المسلمين ما جرى، كما صدر منهم ما صدر فاستلزم ذلك تنبيه المؤمنين و تهذيبهم و اعدادهم لما ستجري عليهم من الحوادث و قد وصف عز و جل المتقين بأوصاف خمسة و هي:

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ .

السراء من السرور، و هو الرخاء و الفضل، و الضراء من الضرر و هو الشدة و العسر و الضيق. اي: الذين ينفقون لوجه اللّه تعالى في حالة الرخاء و السرور، و حالة الشدة و الضيق و العسر.

و ظاهر الآية الشريفة ان السراء و الضراء حالتان للمنفق، و يحتمل ان تكونان حالتان للإنفاق في حالة الرخاء و السرور، و حالتي الضيق و الشدة فمن الاول الانفاق في التوسعة على العيال، و من الثاني الانفاق لرفع ما يضطرون اليه.

و انما حذف عز و جل متعلق الانفاق ليشمل القليل و الكثير، و كل ما يصلح للإنفاق، سواء كان مالا أو غيره.

ص: 346

و قد بدأ سبحانه و تعالى من بين الأوصاف بالإنفاق مقابلة للربا الذي نهى عنه عز و جل في الآية السابقة الماحق لكل فضل و فضيلة، و لان الانفاق في الحالتين يكشف عن محبة المنفق للّه تعالى و تقواه لأنه أنفق أحب الأشياء لنفسه. و لان الانفاق انفع للناس من سائر الصفات فان فيه يظهر التعاون بين افراد المجتمع و به ترتفع المشكلات و تنحل المعضلات و يخفف من هموم الفقراء و يبعث في نفوسهم الأمل و يشدهم مع سائر افراد المجتمع.

قوله تعالى: وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ .

وصف ثان و مادة (كظم) تدل على الحبس و الإمساك، و منه الحديث «إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع» اي يحبسه مهما أمكن و يقال كظم البعير اي امسك عن الجرة، و كظم القربة شد رأسها عند الامتلاء. و الغيظ شدة الغضب و فوران الدم للانتقام.

قوله تعالى: وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ .

وصف ثالث و هو من أجل مكارم اخلاق اللّه تعالى فان بعفوه يتم تدبير نظام العالم. و من أسمائه تعالى العفوّ و هو المبالغة في العفو الذي هو التجاوز عن الذنب و ترك العقاب عليه، و أصله المحو و الطمس و العفو عن الناس هو ترك مؤاخذتهم مع القدرة عليها و التجاوز عن عقوبة من استحقها، و هو اقرب للتقوى و في الحديث: «سلوا اللّه العفو و العافية و المعافاة» اما العفو فمحو الذنوب، و العافية ان تسلم من الأسقام و البلايا و هي الصحة، و المعافاة هي صرف أذى الناس عنك و أذاك عنهم و يغنيك عنهم و يغنيهم عنك.

و إنما حذف المتعلق ليشمل كل ما يدخل تحت حقه.

ص: 347

و هذا الوصف يكشف عن كرم المتصف به و حسن سريرته و ضبط نفس الامارة تحت ارادته و حكمته فتكون مرتبة هذا الوصف أعلى من مرتبة كظم الغيظ فان الشخص قد يكظم غيظه و لكن على حقد و ضغينة و العفو دليل على انتفائهما.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

وصف رابع و هو الإحسان الذي له المرتبة الأعلى من بين جميع ما سبق بل هو أكرم المكارم و لعله لأجل ذلك لم يعطفه على ما سبق.

و الإحسان: صفة كريمة تتصف بها النفس يكشف بها كظم الغيظ و العفو عن الناس فان هذه نعوت معدة لكسب الإحسان و التحلي به، و الإحسان: هو جعل الأشياء في موضعها و إتيان الأعمال على الوجه اللائق بها، و بالإحسان يتم الانفاق الذي لا بد ان يعري عن جميع ما يشينه و يكمل كظم الغيظ و العفو عن الناس، و لذلك كان للمحسنين اجر عظيم و منزلة كبيرة، قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ» العنكبوت - 69 و يكفي في منزلة هذا الوصف ان اللّه يحب المحسنين و يثيبهم على إحسانهم و كفى بذلك فخرا و فوزا.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ .

وصف خامس، و هو أعظم آية في القرآن الكريم في تهييج رجاء العبد و فيها التنويه بمقام العفو و الإحسان، و تذكر المتقين بعدم اليأس لو صدر منهم ذنب فانه بعد ان ذكر أوصاف المتقين من كظم الغيظ و العفو و الإحسان عقبه سبحانه بأعظم ما منّ به على العباد و هو العفو عن المذنبين و الإحسان بهم تعليما لهم و تنويها لمقامها و اعلاما بأن

ص: 348

الإنسان لا يخلو عن الذنب إلا ان يكون معصوما بعصمة اللّه تعالى، فهو محتاج إلى العفو و الإحسان فتكون الجملة معطوفة على المتقين، و أولئك في الآية التالية اشارة إلى الجميع.

و الفاحشة من الفحش و هو مجاوزة الحد في السوء فتكون الفاحشة كل ما اشتد قبحه من الذنوب و المعاصي و شاع استعماله في الزنا باعتبار انه اظهر افراد الفحشاء؛ و كل خصلة قبيحة فهي فاحشة من الأقوال و الأفعال و في الحديث: «ان اللّه لا يحب الفحش و التفاحش».

و المراد بها في الآية الشريفة بقرينة المقابلة للظلم المعصية الفاحشة في قبحها، سواء كانت مقتصرة على النفس كترك الصلاة و نحوه، أو متعدية إلى الغير، كالقتل و الغيبة و نحوهما. و الظلم ما دون ذلك كما يصح أن يكون الفرق بينهما كالفرق بين الكبيرة و الصغيرة.

قوله تعالى: ذَكَرُوا اَللّهَ .

اي تذكروا عظمة اللّه تعالى و آياته الموجبتين للخشية منه و انه مرجعهم في كل خوف و رجاء بعد أن اغفلهم الشيطان و أنساهم ذكر ربهم حين الذنب فيسرعون إلى الاستغفار و طلب المغفرة.

و المراد بذكر اللّه هو الذكر الحقيقي الذي يكون داعيا إلى ترك الذنب و استشعار الخوف و الرجوع اليه تعالى لا مجرد الذكر اللفظي مع البقاء على الذنب فانه حينئذ يكون كالمستهزئ به تعالى.

قوله تعالى: فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ .

اي حين ما ذكروا اللّه و تذكروا جلاله و كبريائه أحبوا التقرب اليه بعد أن انصرف عنهم طائف الشيطان فتابوا اليه طالبين المغفرة منه عز و جل لجميع ذنوبهم.

ص: 349

و الآية الشريفة في مقام التمييز بين من يفعل المعاصي محادة و عنادا و لجاجا فانه بعيد عن الاستغفار و لا يوفق اليه ابدا. و بين من تذكر اللّه تعالى حين المعصية و ارتدع عنها خوفا فتاب اليه تعالى و طلب المغفرة منه فان لهم مقاما معلوما.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ .

بشارة عظيمة، و تطييب للنفوس، و تشويق إلى التوبة و الاستغفار و تنبيه للمذنبين بالالتجاء إلى اللّه تعالى و عدم اليأس منه عز و جل، فانه لا منجى من الذنوب و لا ملجأ في الغفران الا إلى اللّه تعالى، و هذا مما يؤكد الفزع و الرجوع اليه عز و جل.

و الآية المباركة باسلوبها البديع و خطابها البليغ تؤثر في المخاطبين ابلغ التأثير و ينبه الضمير الانساني الذي تأثر بارتكاب الذنوب و المعاصي بالرجوع إلى اللّه و الانابة اليه لازالة ما يوجب ضلاله و اغوائه.

و في هذا الخطاب وجوه من الدلالة على المعنى المراد كإظهار اسم الجلالة، و اسناد المغفرة إلى ذاته المقدسة المستجمعة لجميع الصفات الكمالية، و دلالة ذلك على الغفران الواسع و انحصاره فيه عز و جل لأنه المسلط على ذلك كله فان من بيده اصل الخلق و تدبير شؤونهم يكون مسلطا على الغفران بالأولى و ليس لغيره هذا الحق، و هذا ما يدل عليه الحصر المستفاد من النفي و الإثبات. و فيه الإنكار على من يطلب المغفرة من الأوثان أو الإفراد الذين لم يأذن لهم اللّه تعالى بالاستشفاع لديه في غفران الذنوب بالخصوص.

و يؤكد ذلك ورود الخطاب على هيئة الإنشاء دون الاخبار.

و في ذكر الجمع المحلي باللام الدال على العموم إعلان بان اللّه جل

ص: 350

شأنه يغفر جميع الذنوب صغائرها و كبائرها فيكون المذنب بعد الاستغفار و التوبة عنده كمن لا ذنب له كما في الحديث.

ثم ان مجيء هذا الخطاب بعد ذكر الفاحشة و ظلم النفس فيه الدلالة على سعة غفران اللّه تعالى و عدم مبالاته فيه فان الذنوب مهما كبرت و جلت و لكن عفوه و غفرانه أجل و أعظم و اكبر.

قوله تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ .

الإصرار على الشيء المداومة عليه و ملازمته و اكثر ما يستعمل في الشر و الذنوب، و في الحديث: «ويل للمصرين الذين يصرون على ما فعلوه و هم يعلمون» و قد تقدم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى:

«كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ» آل عمران - 117.

«وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» حال من فاعل الإصرار و متعلق به.

و المعنى: انهم لم يداوموا على الذي فعلوه من الذنوب و المعاصي و هم عالمون بقبحها و بالنهي عنها و الوعيد عليها.

و انما قيد الإصرار على الفعل بالمعصية لبيان ان مجرد الإصرار على المعصية مع الجهل بها لا يكون إصرارا شرعا، كما يبينه قوله تعالى «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ» النساء - 17.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى ترك الإصرار في المعاصي لأنه يوجب عدم المبالاة بحرمات اللّه تعالى و الاستكبار عليه و الاستهانة باحكامه المقدسة و يجعل النفس ميالة إلى الطغيان و الخروج عن الطاعة فتنتفي العبودية و تخرج عن الفطرة المستقيمة فلا ينفع حينئذ ذكر اللّه تعالى الذي كان يمنع عن المعصية و الاقامة على الذنب.

ص: 351

قوله تعالى: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها .

وعد منه عز و جل للمتقين الموصوفين بما تقدم من الأوصاف و بيان للأجر الجزيل و الثواب الكبير المعد لهم و هو المغفرة و الجنات العظيمة التي تجري من تحتها الأنهار زيادة في بهجتها، و لتمامية النعمة انهم خالدون فيها لا يشوبها نقص.

و يمكن أن يكون ما ورد في هذه الآية المباركة هو نفس ما ذكره عز و جل في الآية السابقة من الأمر بالمسارعة إلى المغفرة و جنة عرضها السموات و الأرض، فتكون تلك الأوصاف من المعدات و الأسباب للمغفرة و الدخول في الجنة و تكون هذه الجنات ضمن تلك الجنة الفسيحة.

و قد أضاف سبحانه و تعالى الجزاء إلى ضمير «هم» تشريفا، و في ذكر الرب المضاف إلى «هم» لبيان العلة في نيلهم لذلك الجزاء العظيم و تربيته تعالى المعنوية لهم.

قوله تعالى: وَ نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ .

تأكيد للوعد الجميل و تشويق لهم الى العمل اي: تلك المغفرة و الجنات انما تكون على تلك الأعمال الحسنة التي تعد النفس اعدادا صالحا و تهيئوها لنيل تلك المراتب العالية.

و الخطاب على إيجازه يشمل على وجوه من الدلالات المحسنة الدالة على عظمة الموضوع و الاهتمام به و تهييج الشوق و المسارعة الى نيله.

منها إقامة الأجر مقام الجزاء إعلاما بإنجاز الوعد و تحققه مما يزيد في شوق العامل و تنشيطه للعمل فكان العامل يستحق ذلك.

و منها: ذكر الجمع المحلي باللام و إقامته مقام الضمير تأكيدا،

ص: 352

و للدلالة على حصول المطلوب.

و منها إتيان هذه الجملة بعد ذكر الجزاء و تفصيله لبيان الاهتمام بالوعد، و التأكيد على المسارعة لدركه.

قوله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي اَلْأَرْضِ .

أمر بالاعتبار بما جرى على الأمم الغابرة و النظر في ما بقي من آثارهم زيادة في التحريض على العمل و الاستعداد لنيل الكمال، و تشويقا للجزاء الذي أعده اللّه تعالى للعاملين و تنبيها للمؤمنين على عدم الغفلة و تذكيرا لمن خالف الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و تسلية للمؤمنين، و توبيخا لمن اعرض عن آيات اللّه تعالى و أحكامه المقدسة و غفل عن الاستكمال و تشنيعا على من أدرج نفسه في عداد المكذبين بعد إتمام الحجة التي يكون منها الرجوع إلى احوال الماضين و السير في الأرض و النظر في ما خلفته تلك الأمم من الآثار فقد خلت عن أصحابها بعد ما كانت قصورا شاهقة أو عروشا جمعت كل اسباب البهجة و السرور و قد ابتهج ساكنوها و عمارها مدة فيها، أو كنوزا امتلأت بكل اسباب العيش الهنيء، أو ذخائر عظيمة لم تدخل في الحسبان، و قد جرت عادته عز و جل انه يرجع المخاطبين بعد سرد جملة من الحوادث و بيان الاحكام الفردية و الاجتماعية إلى سنن الأمم الغابرة و الأمر بالاعتبار بها و النظر في آثارهم لمزيد التنبيه، و الاستفادة من تجاربهم و لئلا تتكرر ما جرى عليهم على هذه الأمة و ان يسلكوا الطريق المستقيم الذي سلكه الصالحون منهم و الاعراض عن سبل المكذبين لئلا يدخلوا في زمرتهم فينالوا جزاءهم، و قد جعل القرآن الكريم هذا الأمر من سبل إتمام الحجة على العباد.

ص: 353

و خلت بمعنى مضت، و السنن جمع سنة و هي الطريق المعبدة المسلوكة و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعة عشر موضعا، قال تعالى: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ اَلْأَوَّلِينَ» الأنفال - 38، و قال تعالى: «وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ اَلْأَوَّلِينَ» الحجر - 13.

و النظر في سنن الماضين من سبل الرشاد، و فيها وجوه من الحكمة منها الاعتبار بها، و إتمام الحجة على اللاحقين، و تسلية لما يجري عليهم، و الاستفادة من تجاربهم و غير ذلك، و لذا اهتم بها عز و جل فذكرها في مواضع متعددة. و بالجملة: فهو إرشاد إلهي.

و المراد بها في المقام منهاج الماضين و ما جرى عليهم سواء كان سنة المؤمنين الصادقين المجاهدين في سبيل اللّه تعالى و العاملين المستعدين للقائه و الدار الآخرة، و ما كابدوا من عتاة زمانهم و جبابرتهم و صعوبة العيش فرضوا بما قسمه اللّه لهم و صبروا و آثروا الآخرة على الحياة الدنيا الفانية، و سنة الكاذبين الكافرين الذين آثروا الحياة الدنيا على الآخرة و نعيمها لانهماكهم في الضلال و الشهوات مع وضوح الحجة و معرفة البينات، و الأمر بالسير في الأرض لزيادة الاعتبار من آثار الماضين و التبصر منها، و يدخل في السير في الأرض السير في حالات اهل الأرض من خلال التاريخ و الحوادث الواقعة فيهم.

قوله تعالى: فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ .

المراد بالنظر هو التأمل و التبصر بانه كيف كان علاقة المكذبين مع المؤمنين و ما جرى من الصراع بين الحق و الباطل، و ما آل أمر المؤمنين اليه و عاقبة امر المكذبين و ما حل بهم من العذاب و الهلاك

ص: 354

بسوء أعمالهم فان النظر في ذلك كله يزيد المعرفة و يوجب التسلية بما يجري على المؤمنين، و يفيد العظة و الاعتبار. و التوبيخ للمكذبين الكافرين.

قوله تعالى: هذا بَيانٌ لِلنّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ .

الإشارة راجعة إلى ما ورد في الآيات السابقة من ذكر غزوة أحد و المضامين العالية التي احتوتها تلك الآيات، و التقسيم باعتبار حالات الناس و مدى تأثرهم بالقرآن الكريم، فبعضهم يكون القرآن بالنسبة اليه بلاغا و بيانا، و البعض الآخر يكون هدى و موصلا له إلى الهداية و موعظة تدعوه إلى الاتعاظ و الاعتبار و زيادة الايمان و ثباته، كل ذلك لا بد ان يكون للذين اعدوا أنفسهم لقبول الهداية و الاتعاظ، و هم المتقون الذين يتأثرون بالبيان و ينتفعون منه و يهتدون بهداه و يتعظون بمواعظه دون سواهم، و قد تقدم نظير ذلك في أول سورة البقرة فراجع.

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

قد جمعت الآيات المباركة المتقدمة وجوه البر و مكارم الأخلاق التي لا بد من التحلي بها و لا يسع لاحد الإعراض عنها فإنها فاتحة الكمالات و جامعة للخيرات و هي من المكارم الفردية و الاجتماعية بها يعيش الفرد حياة سعيدة خالية عن ما ينغصه من الكدورات

ص: 355

و الشرور. و بها يصلح المجتمع.

و من هذه الآيات الشريفة نستفيد المنهج الاخلاقي في الإسلام، فانا ذكرنا في أحد مباحثنا الاخلاقية: أن المنهج الاخلاقي في الإسلام يختلف عن المناهج الاخرى في الأصول و الأسلوب و الطريقة و ان الإسلام ينظر إلى التقوى و العمل أولا و بالذات و انه السبيل الوحيد لنيل الكمال و الوصول إلى الغاية، و هذه الآيات تبين المنهج العملي، و نظير هذه الآيات قوله تعالى: «لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ» البقرة - 177 فراجع ما ذكرناه هناك.

الثاني:

انما قدم عز و جل المغفرة على الجنة لان المغفرة سبب للدخول فيها، و كل سبب مقدم على المسبب، مع ان الجنة دار طهر لا يصلح لدخول غير المطهرين فيها و بالمغفرة يطهر المذنب فيصلح للدخول فيها.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» ان التقوى هي السبب في اعداد الجنة و تهيئتها للمتقين و حضورها لهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ» كمال الجنة من جميع الجهات و تمامية النعمة فيها فان الجنة التي تكون سعتها كذلك فلا بد أن تكون محفوفة بجميع موجبات البهجة و السرور و فيها الحياة الكاملة كما قال عز و جل: «وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ» العنكبوت - 64.

ص: 356

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ» ان كل وصف سابق معد للوصف اللاحق فان الانفاق يوجب ترويض النفس المحبة للأموال و الملذات و السيطرة عليها، فتستعد لكظم الغيظ و هذا موجب للعفو عن الناس، و هو موجب لمزيد الإحسان.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «ذَكَرُوا اَللّهَ» ان ذكر اللّه تعالى هو السبب في انقلاع العبد عن المعصية و الانزجار عن الذنوب و عدم العود إليها و التوبة إلى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه عز و جل لان غفران الذنوب تحت سلطته عز و جل، و ان الإصرار على المعصية يسلب التوفيق عن تذكر اللّه تعالى و هم يعلمون بان الإصرار يكون كذلك و يوجب التجري على اللّه تعالى و الاستكبار عليه و عدم المبالاة بحرماته و تزول عنه حالة الندم و الخوف عن نفسه.

السابع:

انما جعل عز و جل قصص الماضين سواء الصالحين منهم أو الظالمين خاتمة لتلك التعاليم الاسلامية عبرة لللاحقين و دستورا للعمل و منهاجا في سيرهم و سلوكهم، مضافا إلى كونها مواعظ يتعظ بها المتعلمون، و يصلح بها الفاسد.

بحث روائي

في المجمع عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه سئل إذا كانت عرضها السموات و الأرض فأين تكون النار؟ فقال (ص):

ص: 357

أقول: روى السيوطي أيضا في الدر المنثور عن التنوخي في كتاب هرقل إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مثل ذلك، و يمكن أن يكون هذا الجواب منه (صلى اللّه عليه و آله) إقناعيا اسكاتيا. كما يمكن ان يكون على وجه التحقيق بان نقول ان خلق النار تبع لخلق الجنة فهي لا تنفك عنها، كما ان خلق الليل لا ينفك عن خلق النهار و أما وجه التبعية فلقوله تعالى: «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً» غافر - 7 و «سبقت رحمته غضبه».

و في الخصال عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله تعالى:

«أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» قال (ع). «انكم لن تنالوها إلا بالتقوى».

أقول: لما تقدم من أن التقوى سبب لحصول الجنة فلا يعقل نيلها إلا بالتقوى و لا بد من تعميم التقوى إلى التوبة و الاستغفار، كما في صدر الآية الشريفة.

و في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ما من عبد كظم غيظا إلا زاده عزا في الدنيا و الآخرة، قال اللّه عز و جل:

و الكاظمين الغيظ و العافين عن الناس و اللّه يحب المحسنين».

أقول: وردت روايات كثيرة في شأن كظم الغيظ سيأتي في المحل المناسب التعرض لبعضها.

و في الكافي أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عليكم بالعفو فانه لا يزيد العبد إلا عزا فتعافوا يعزكم اللّه».

أقول: لان العفو من صفات اللّه تعالى فيعز العبد العافي بعزه، و يأتي في الموضع المناسب شرح ذلك.

و في المجمع و الإرشاد للمفيد «إن جارية لعلي بن الحسين (عليهما السلام)

ص: 358

جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة فسقط الإبريق من يدها فشجه فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: ان اللّه تعالى يقول: و الكاظمين الغيظ، فقال لها: كظمت غيظي، قالت: و العافين عن الناس.

قال: عفا اللّه عنك. قالت: و اللّه يحب المحسنين قال: اذهبي فأنت حرة لوجه اللّه».

أقول: رواه السيوطي في الدر المنثور أيضا عن البيهقي، و الحديث يدل على أن الإحسان أمر زائد على اصل العفو، و مثل ذلك كثير في العالمين العاملين بعلمهم.

و في الكافي و تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا» قال (عليه السلام):

«الإصرار ان يذنب الذنب فلا يستغفر اللّه، و لا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار».

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة، و قد تقدم ما يشهد لذلك، و سيأتي ما يرتبط بذلك أيضا.

و في تفسير العياشي في حديث قال: «و في كتاب اللّه نجاة من الرديء و بصيرة من العمى. و شفاء لما في الصدور في ما أمركم اللّه به من الاستغفار و التوبة قال اللّه تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اَللّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ إِلاَّ اَللّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ» ، و قال تعالى: «وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً» فهذا ما امر اللّه به من الاستغفار و اشترط معه التوبة و الإقلاع عما حرم اللّه فانه يقول: «إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ»

ص: 359

أقول: تقدم مكررا ان العمل الصالح من الايمان فلا ايمان إلا به.

و في المجالس عن عبد الرحمن بن غنم الدوسي في قوله تعالى:

«وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» نزل في بهلول النباش و كان ينبش القبور فنبش قبر واحدة من بنات الأنصار فأخرجها و نزع أكفانها - و كانت بيضاء جميلة - فسوّل له الشيطان فزنى بها ثم ندم فجاء إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فرده ثم اعتزل الناس و انقطع عنهم يتعبد و يتبتل في بعض جبال المدينة حتى قبل توبته و نزل فيه القرآن».

و في اسباب النزول للواحدي عن ابن عباس في رواية عطا قال:

«نزلت الآية و هي قوله تعالى: «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» في نبهان التمار أتته امراة حسناء تبتاع منه تمرا، فضمها إلى نفسه و قبلها ثم ندم على ذلك فأتى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و ذكر ذلك له فنزلت هذه الآية».

أقول: قد وردت روايات متعددة في شأن هذه الآية و هي على فرض صحتها لا تكون مخصصة للآية بل هي بعمومها تشمل كل فاحشة تاب صاحبها عنها.

و في المجالس عن الصادق (عليه السلام) قال: «لما نزلت هذه الآية «وَ اَلَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» صعد إبليس جبلا بمكة يقال له ثور فصرخ بأعلى صوته بعفاريته فاجتمعوا اليه فقالوا له: يا سيدنا لم تدعونا؟ قال: نزلت هذه الآية فمن لها؟ فقام عفريت من الشياطين فقال: أنا لها بكذا و كذا. فقال: لست لها. فقام آخر فقال مثل ذلك. فقال: لست لها. فقال الوسواس الخناس: أنا لها. قال: بما ذا؟ قال: أعدهم و أمنيهم حتى يواقعوا الخطيئة فإذا واقعوها أنسيتهم الاستغفار. فقال: أنت لها فوكله بها إلى يوم القيامة».

ص: 360

أقول روي مثله من طرق الجمهور أيضا.

بحث اخلاقي

الإصرار على الذنب سواء كان صغيرا أم كبيرا من القبائح العقلية التي يحكم العقل بقبحه و شناعته بل هو من أشد القبائح لأنه يوجب شقاوة النفس و الجرأة على اللّه تعالى، و قد يصل إلى حد الاستهزاء بحرماته عز و جل، و هو على حد الكفر. و الإصرار على الذنب على الأقسام:

الاول: إتيان الذنب ثم تكراره و البناء على إتيانه مكررا من دون تخلل التوبة و الاستغفار.

الثاني: إتيان الذنب و البناء على الإصرار و التكرار و لكن لم يتهيّأ له اسباب إتيانه مع السعي في مقدمات الإتيان.

الثالث: نفس الصورة السابقة مع عدم السعي في المقدمات.

الرابع: أن يأتي بالذنب و كان بانيا على الإتيان قلبا من دون صدور عمل خارجي منه أصلا.

الخامس: ان يأتي بذنب ثم يتوب ثم يأتي به ثانيا. و غير الأخير كله من الإصرار بحسب مراتبه. و اما الأخير فمقتضى قوله (صلى اللّه عليه و آله): «لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار» محو الأول و زواله بسبب التوبة فلا يتحقق موضوع الإصرار حينئذ، و الإصرار كما يتحقق بفعل المعصية يتحقق بترك الواجب عصيانا أيضا.

ص: 361

آخر فيتعدد العقاب و لا موجب لتداخله فان تعدد المنشأ و السبب يستلزم تعدد المسبب لا محالة.

ثم ان الغفلة عن اللّه جل جلاله، و عدم الاعتقاد بحضوره تعالى هي من أشد الذنوب و المداومة على هذه الحالة ذنب عظيم بل هي أم المفاسد و رأسها، و الكتب الإلهية و أنبياء اللّه تعالى انما اهتموا لإزالة هذه الحالة و إرجاع العبد إلى اللّه تعالى و يتحقق التوجه اليه عز و جل بإتيان الصلاة؛ فإنها تنهى عن الفحشاء و المنكر، كما نطق به التنزيل.

بحث عرفاني

لا ريب في ان عالم الدنيا متقوم بالخيالات و الأوهام و الجهالات، و الناس بعيدون عن الحقائق و الواقعيات و موجبات الإغراء بالشهوات كثيرة و متعددة، و الآيات الشريفة المتقدمة ترشد الإنسان الى أهم الحقائق التي بها يستقيم الفرد و ينتظم نظام المجتمع و حقيقة هذه الآيات ترجع إلى التغافل عن ما يصيب الفرد من المكروه و الأذى من الغير، و بذل أحب الأشياء لديه و هو المال و الجاه و ترويض النفس و جعلها تحت إمارة العقل و الحكمة و اعتبار الفرد نفسه من أفراد المجتمع و جزءا لا يتجزأ منه بحيث يعتبر ما يكون كمالا للمجتمع كمالا له و ما يصيبهم من السوء يصيب نفسه.

و قد أكد عز و جل إرساء قواعد العفو و المغفرة بين الناس فان كل فرد أحوج من غيره إلى العفو و المغفرة لما يصدر منه من الذنوب و المعاصي، فبالعفو عن إساءة الغير و بذل ما عنده اليه يدخل في زمرة من تخلق

ص: 362

بأخلاق اللّه تعالى التي من أهمها بالنسبة إلى الإنسان العفو و المغفرة فان الدنيا مزرعة الآخرة فما يزرع فيها يحصد في الآخرة، و قد فتح اللّه تعالى باب التوبة و الرجوع اليه عز و جل بأي وجه أمكن، فان لها جهتان جهة تكوينية و هي تربية الإنسان، و جهة تشريعية و هي تكثير صفوف المتقين و قد اهتم به اللّه عز و جل اهتماما بليغا و أعلن في جميع الكتب السماوية خصوصا القرآن الكريم بانه الغفور الرحيم و جهر بقبول التوبة و الدعوة بالرجوع اليه، و هذا هو عين ما يدعو اليه العقل المجرد فما ورد في تلك الآيات الشريفة كله من الاحكام العقلية النظامية صدر عن خالق العقل و موجده.

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسّ.......

اشارة

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ

ص: 363

عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ (145) وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اِسْتَكانُوا وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ (146) وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (148) الآيات الشريفة متصلة بالآيات السابقة و انها كالغاية و اصل المقصود للآيات المتقدمة التي اشتملت على بعض الحقائق التي نبهت المؤمنين على ما صدر منهم و ما سيجري عليهم و امرتهم بالاستعداد التام له و التخلق بمكارم الأخلاق، ففي هذه الآيات المباركة يرشد سبحانه و تعالى المؤمنين إلى التعاون و التعاضد امام المصاعب و عدم الوهن و الضعف فيهما و نبههم بأن ما يصيبهم من المكروه هو سنة المجتمع البشري في هذه الأرض، و انما هي مداولة بين الناس. ثم بين سبحانه و تعالى ان السعادة في الدارين لا يمكن الوصول إليها إلا بالجهاد و الصبر، و أمرهم بالإعراض عن الكافرين و ترك الظلم فان اللّه لا يحب الظالمين.

ص: 364

و بين عز و جل انه لا بد من الامتحان لتمييز المجاهد الصابر الصادق عن غيره، ففي هذه الآيات المباركة اجتمعت اصول الكلام من الأمر و النهي و المدح و الثناء و التوبيخ و الإرشاد و كفى بذلك دليلا و هاديا.

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا .

الوهن هو ضعف خاص في الخلق و الخلق، و المراد به في المقام الضعف في القتال أو في العزيمة، أو في الاهتمام في الجهاد في سبيل اللّه تعالى و اقامة الدين.

و الحزن خلاف الفرح و هو ما يعرض الإنسان بفقد عزيز عليه أو ما يحبه من مال أو جاه.

اي: لا تهنو ايها المسلمون و لا يظهر عليكم اثر الضعف و الخوف و لا تحزنوا على ما أصابكم، لان الحزن انما يكون على ما فات من الإنسان بغير عوض و اما انكم فستجدون عوض ما أصابكم بأحسن وجه و من يقتل منكم شهداء عند ربهم يرزقون، و هو مما يتمناه كل مؤمن مع ان ما أصابكم انما هو امر طبيعي يقتضيه سير القتال و قد خلت من قبلكم السنن فاتخذوها عبرة.

و الآية المباركة ترشد إلى أهم الأمور التي توجب الظفر و هو الثبات و الاستقامة و عدم المبالات بما يصيب الإنسان في الجهاد في سبيل اللّه تعالى و هو امر فطري يحكم بحسنه العقل أيضا فلا فرق حينئذ بين ان تكون الجملة انشائية أو خبرية محضة لأنها في مقام بيان الواقع

ص: 365

و ارشاد الناس اليه.

قوله تعالى: وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ .

تشويق إلى الجهاد و المثابرة و بشارة بالغلبة و تسلية للمؤمنين. و الجملة في موضع التعليل اي: مع انكم الأعلون فلما ذا يقع منكم الوهن و الحزن، و فيه التوبيخ لما صدر منهم في يوم أحد من الفشل و الهزيمة مع انهم ذاقوا حلاوة النصر أول الحرب حيث هزموا المشركين و اثخنوا فيهم القتل فما أصابكم كان من كسب أيديكم.

و قيل ان الجملة ابتدائية اي: لا تهنوا و لا تحزنوا إن كنتم مؤمنين و أنتم الأعلون فتكون متضمنة للبشرى بالعلو مطلقا حتى في المستقبل.

و الظاهر ان الجملة تتضمن معنى أدق من ذلك، فإنها تشير إلى العتاب و الاحتجاج عليهم بان اللّه تعالى بشرهم بعلو امر الدين و الظفر على الأعداء فلما ذا هذا الوهن و الحزن.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

ايمانا صادقا فان مثل هذا الايمان يستلزم الغلبة و الظفر و يوجب اطمينان النفس اي: لا تهنوا في عزمكم و لا تحزنوا لما فاتكم من الخير أو ما أصابكم من القتل ان كان فيكم الايمان فانه جنة واقية و يلازم الصبر و التقوى و هما الموجبان للنصر و الظفر.

و في الآية الشريفة عتاب لهم بأن الايمان فيهم لم يكن متصفا بما يوجب النصر. كما ان فيها تشويق للمؤمنين منهم بالجهاد و تنشيط لنفس المؤمن.

ص: 366

قوله تعالى: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ .

المس هنا بمعنى الإصابة عبر به لتهوين المصاب. و القرح - بفتح القاف - الجرح و عض السلاح، و قرئ بضم القاف. و قيل: ان القرح بالفتح مصدر، و بالضم اسم. و قيل: انهما لغتان. و ذكر بعض اللغويين ان القرح بالفتح اثر الجرح من الخارج، و بالضم الأثر من داخل كالبترة و نحوها، و المراد به في المقام القتل و الجروح.

و المعنى: إن ما أصابكم ايها المسلمون من الجراح و القتل في الحرب فقد أصاب المشركين مثل ما أصابكم.

و المستفاد من الآية الشريفة انها في مقام التسلية ببيان اصل المثلية في الجراح و المصاب دون كميته و كيفيته فلا ينافي ذلك قوله تعالى:

«قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» آل عمران - 159 مضافا إلى انه يمكن ان يكون المراد بالمثلين هو القتل و الجرح و الأسر في بدر واحد.

و أسلوب الآية الشريفة يدل على تحضير الواقعة في ذهن المخاطب كأنها ماثلة امام عينه، تمسه حرارتها، و يكابد آلامها، و لذا كان لمثل هذا الأسلوب وقع كبير في تنشيط عزيمة القوم، و تشجيعهم على الاقدام و العمل لان إصاباتهم كاصابات العدو مع كمال استعداده في العدد و العدة و شدة نزاله في الحرب التي اشتملت على الكر و الفر و الاقدام و الخذلان من كلا الجانبين، و هذا هو امر طبيعي، فإنما هي مداولة بين الناس، و قد جرت سنته عز و جل على ان يجري الأمور بأسبابها العادية و ان كان التقدير بيده تبارك و تعالى.

قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ .

حقيقة من الحقائق الواقعية نطق بها القرآن الكريم و صارت مثلا

ص: 367

من الأمثال القرآنية التي يستعملها الناس من حين النزول.

و المراد من الظرف المظروف اي ما يقع في الأيام من الظفر و الغلبة أو الحزن و السرور، كما أن المراد من (نداولها) نصرفها بين الناس.

و قد استفاد العلماء من الآية الشريفة قواعد كلية في العلوم منها:

ما استفاده العرفاء الشامخون من انه لا مؤثر في الوجود الا اللّه تعالى و استشهدوا له بهذه الآية المباركة، و بقوله تعالى: «لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» * الشورى - 12، و قوله تعالى: «وَ لِلّهِ خَزائِنُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ» المنافقون - 7، و بقوله تعالى: «وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ اَلْغَيْبِ» الانعام - 59 إلى غير ذلك من الآيات الشريفة و الأحاديث المقدسة.

و منها: ما استفاده الفلاسفة المتألهون من ان مناط الحاجة الإمكان لا الحدوث و استشهدوا له بالآية الشريفة أيضا و بقوله تعالى: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» الرحمن - 29، و قوله تعالى: «بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ» المائدة - 14.

و منها: ما استشهد به بعضهم لمذهب الأدوار و الأكوار و هو مذهب قديم و مفاده ان الموجودات مطلقا تتكرر في الأدوار و الأكوار بحسب حركات الأفلاك و نسبوا ذلك إلى يوذاسف من حكماء اليونان و رده المحققون من الفلاسفة، و قال بعضهم في ذلك.

و ما انقضى العام الربوبي اليوم كر *** أمثال الأجسام و انفس أخر

لا ما مضى الا لدى يوذاسف و القول بالمحو و الإثبات اصطفي

و اصل المذهب مبني على قدم الأفلاك و حركاتها و انها الفاعلة و المؤثرة في حدوث الكائنات مطلقا و كل ذلك باطل كما سيأتي في محله ان شاء اللّه تعالى.

و كيف كان فالمراد بالأيام هي حوادثها الواقعة فيها كما عرفت

ص: 368

و هي عطف بيان ل «تلك» و «نداولها» خبر و «بين الناس» ظرف ل «نداولها». و المداولة المداورة و التصريف و جعل الشيء يتناوله واحد بعد آخر قال الشاعر:

يرد المياه فلا يزال مداولا *** في الناس بين تمثل و سماع

و مداولة الأيام سنة تكوينية إلهية تابعة لمصالح عامة و منوطة بأسباب عادية فقد تكون الدولة مرة لفرد و مرة اخرى لفرد آخر و هي جارية في جميع الأمم إلى ان يأتي امر اللّه تعالى و بها ينتظم النظام حتى تظهر دولة الحق.

قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

بيان لوجه من وجوه الحكمة في إقامة السنة الإلهية في الناس، و ذكر لإحدى العلل في ثبوت المداولة بينهم، و الجملة معطوفة على محذوف إيماء بان الأسباب متعددة و المصالح كثيرة، و أن الذي ينفع المؤمنين هو ما يذكره عز و جل لعدم إمكان إحاطة العقول بجميع الجهات الا ما يبنه تعالى. و قد ذكر عز و جل وجوها ثلاثة في المقام و هي قوله تعالى «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» . و قوله تعالى: «وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ» . و قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» .

و المراد من قوله تعالى «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» مطابقة المعلوم الخارجي مع العلم الازلي و ظهوره و وقوعه في الخارج، لأن إرادته عز و جل بالعلم بشيء هي ارادة تحققه في الخارج على طبق السنة الإلهية و هي قانون الأسباب و المسببات، و منها جريان المداولة بين الناس، و لا بد من امور توجب تحقق المعلوم بعد خفائه، فان علم اللّه تعالى بما سواه ليس على نحو العلم الحصولي يؤخذ من انطباع الصورة نظير

ص: 369

علومنا، بل هو أدق من العلم الحضوري للنفس بذاته أي أن العلم بالحوادث و الأشياء في الخارج عين وجودها فيه، و حينئذ يكون مراده عز و جل بالعلم بشيء تحققه في الخارج، كما عرفت.

و مبحث علم الباري عز و جل من أدق المباحث الكلامية، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى. و يمكن ان يقال في المقام على نحو الإيجاز: و هو أنه يمكن فرض ذات قديمة تكون عين العلم بحقائق الممكنات من الجواهر و الاعراض، و الجزئيات و الكليات، و هي عين جميع الكمالات الواقعية من الحكمة و التدبير و القيّومية و نحو ذلك، و لا بد أن يكون هذا لمفروض متحققا في الخارج و إلا يلزم الخلف، و هو باطل، فالذات القديمة التي تكون كذلك منحصرة في اللّه تعالى، و قد تقدم في قوله تعالى: «لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ اَلرَّسُولَ» البقرة - 142 بعض الكلام في مثل هذا الخطاب فراجع.

و المعنى: ليظهر اللّه تعالى ايمان المؤمنين و صدقهم و ثباتهم، فيميز المؤمن المجاهد الصابر من المنافق.

قوله تعالى: وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ .

حكمة اخرى في اقامة السنة الإلهية. و الشهداء: جمع الشهيد بمعنى المقتول في سبيل اللّه تعالى، فيشمل شهداء بدر و أحد و سائر غزوات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) المباركة.

و انما عبر سبحانه و تعالى بالاتخاذ لكمال العناية لهم و التكريم بهم فقد أحبهم و ارتضاهم فاتخذهم شهداء كما في قوله تعالى: «وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً» النساء - 125.

و ذكر بعض المفسرين ان المراد بالشهداء في المقام شهداء الأعمال لعدم معهودية استعمال هذا اللفظ جمعا للشهيد بمعنى المقتول في القرآن

ص: 370

الكريم، و لان الاتخاذ لا يلائم الشهداء بمعنى المقتولين، و لان قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» قرينة على ان المراد بالشهداء هم شهداء الأعمال أو من يصلح للشهادة على الأمم في يوم الحساب.

و فيه: أولا انه خلاف سياق مثل هذه الآيات الشريفة إذ لا ربط لقبول قول الشهداء في عداد بيان خصوصيات القتال و الجهاد في سبيله.

و ثانيا: إذا كانوا من الشهداء في الحق يكونون من الشهداء على الأعمال أيضا، لما ذكرنا سابقا من الشهداء في سبيل اللّه لهم مقام الشهادة على الأعمال و الشفاعة لما ابتلوا بالصبر و الإيثار ببذل النفس.

و ثالثا: ان قوله تعالى: «لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» تفصيل بين الشهداء في الحق فهم ممن أحبهم اللّه تعالى و اتخذهم و ارتضاهم و بين من قتل في غير الحق.

و رابعا: ان استعمال الشهداء بمعنى المقتول في المعركة مطابق للقواعد العربية الفصيحة فلا محذور في وروده في القرآن الكريم فليكن المقام من ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ .

ارشاد للمؤمنين بترك الظلم و بيان لهم بان حب اللّه تعالى منحصر بهم، و يمتنع تعلقه بغيرهم لمكان ظلمهم و قبح أفعالهم و لا يتعلق حبه تعالى بالقبيح. و الجملة معترضة بين وجوه العلل.

و الآية المباركة تنبّه المؤمنين إلى مضمون قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» فان الأسباب و المقادير و ان اقتضت تسلط الظالمين استدراجا و ابتلاء للمؤمنين و لكنه تعالى لا يحب الظالمين و لا ينصرهم على الحق و لا يتخذهم شهداء.

ص: 371

و في الآية الشريفة بشارة للمؤمنين بانه تعالى يحبهم و إنذار لاعدائهم بانه جلت عظمته يبغضهم لأنهم غير ثابتين على الايمان.

قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا .

وجه ثالث من وجوه الحكمة التي اقتضت المداولة بين الناس، و قد ذكر سبحانه و تعالى اللام في «ليمحص» اهتماما بهذه الحكمة؛ كما ان اظهار اسم الجلالة في موضع اسم الإشارة يقتضى ذلك أيضا.

و مادة (محص) تدل على الخلوص و التطهير من كل عيب، يقال: محص الذهب بالنار اي خلصه مما يشربه، و عن علي (عليه السلام) في ذكر فتنة قال: «يمحص الناس فيها كما يمحص ذهب المعدن» اي يختبرون، كما يختبر الذهب و يخلص ذهب المعدن من التراب، و في الدعاء «اللهم محص عنا ذنوبنا» اي خلصنا من ذنوبنا قال الشاعر:

حتى بدت قمراؤه و تمحصت *** ظلماؤه و رأى الطريق المبصر

اي تكشفت و خلصت، و لكن في التمحص معنى زائدا على التطهير و التكفير، و هو التطهير عن اختبار شديد و ملازمة للبلاء.

و المعنى: ان من الحكمة في مداولة الأيام و من مصالحها تخليص المؤمنين مع شدة بلائهم و تطهيرهم عن شوائب الرذائل كالنفاق و الكفر و مفاسد الأخلاق و الذنوب و المعاصي، فيتجلى المؤمن بالتمحيص بأكمل وجه خالصا عن كل شين و عيب و رذيلة، و هذا هو التمحيص، فهو التطهير مع شدة الاختبار و الامتحان كما يتمحص الذهب بالنار عن كل شائبة.

ص: 372

و هذا التمحيص و الاختبار بين الصحيح و الفاسد من مدارك العقل السليم، و ان بعث الأنبياء و إنزال الكتب السماوية لم يكن إلا لهذه الجهة و هي دخيلة في تنظيم نظام الأحسن و بدونها يختل النظام.

قوله تعالى: وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ .

بيان للطرف الذي قد خسر في التمحيص. و المحق هو الازالة و التنقيص شيئا فشيئا و قد تقدم في قوله تعالى: «يَمْحَقُ اَللّهُ اَلرِّبا وَ يُرْبِي اَلصَّدَقاتِ» البقرة - 76 بعض الكلام، و لم يرد هذا اللفظ في القرآن الكريم إلا في هذين الموضعين فقط، و في الحديث: «ما محق الإسلام شيئا ما محق الشح» و عنه (صلى اللّه عليه و آله) «الحلف منفقة للسلعة و ممحقة للبركة».

و محق الكافرين إما باذهاب شوكتهم أو ابطال حججهم، و إزالتهم و افناؤهم شيئا فشيئا فان تمحيص المؤمن يستلزم إبادة آثار الكفر و الشرك و النفاق و الكيد شيئا فشيئا حتى يضمحلوا.

و في الآية المباركة بشارة عظيمة بغلبة المؤمنين و نصرهم على الكافرين و ظهور دولة الحق.

قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ .

لوم و عتاب لما قد يصدر من المؤمنين كما صدر عنهم في يوم بدر و أحد من العجب و ما يدور في سرائرهم من الظنون الباطنة التي قد توجب اختلال نظام الامتحان و الاختبار و في ذلك بطلان نظام التشريع و بطلان الفطرة التي ابتني عليها الدين، و فساد للسنة الإلهية التي جرى عليها نظام الأسباب و المسببات للعادة فان اللّه تعالى لم يخلق العالم عبثا و جزافا، و ببين تعالى في هذه الآيات حقيقة الحال ليبطل

ص: 373

الظنون، فهذه الآية المباركة تبين الغاية من المداولة و النتيجة لما ورد في الآيات السابقة.

و «أم» منقطعة تفيد الإنكار جيء بها لبيان العلة في ما لقوه من المصاعب و المتاعب و الشدائد، و لكنه عز و جل لطفا بهم جعل كل تلك الشدائد وسيلة للفوز و للوصول إلى المقام الأعلى، و تمحيصا لهم. و في الآية الشريفة جعل المسبب موضع السبب.

و المعنى: أم حسبتم كما حسب بعض اهل الغرور من انهم على الحق - و هو لا يغلب - و ان الظفر و الغلبة لا تفوتهم و كذا الفوز بالسعادة الأخروية و اللّه تعالى ينكر ذلك عليهم و يبين انه حسبان محض.

قوله تعالى: وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية و هي انه لا يمكن الوصول إلى الهدف الا ببذل النفس و النفيس في طريق الوصول فلا بد من الامتحان و الاختبار ليعلم الصابر المجاهد عن غيره و يستبين المستحق لنيل الدرجات الرفيعة من غيره.

و معنى لما يعلم: انه لم يتحقق معلومه الخارجي بعد كما تحقق في علمه الازلي، فالتعبير عن نفي المعلوم بنفي العلم و هذا من مختصات علم الباري جل شأنه لان نفي علمه يستلزم عدم وجود ذلك الشيء، لما تقدم في الآيات السابقة من ان علمه عين ذاته و لا يعزب عن علمه شيء قال تعالى: «وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي اَلسَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ» يونس. 61.

ص: 374

قوله تعالى: وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ .

ظاهر الخطاب انه لطائفة من المؤمنين كانوا يتمنون الشهادة في سبيل اللّه تعالى، و يؤيد ذلك ما ورد في الحديث ان المؤمنين لما أخبرهم اللّه تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر و منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك و طلبوا منه عز و جل ان يرزقهم القتل في سبيله فلما أراهم اللّه تعالى يوم أحد إياه لم يثبتوا إلا من شاء منهم.

و المراد من الموت هنا هو الشهادة في سبيل اللّه تعالى و الجهاد مع أعدائه مما يتمناه كل مؤمن لا مطلق الموت فان تمنيه مكروه.

و في الآية الشريفة عتاب لمن كان يتمنى القتل في سبيل اللّه تعالى ثم لم يثبت عليه و تنبيه المؤمنين إلى ترك الغرور و التمني بما لا يقدرون على الثبات عليه.

كما ان هذه الآية المباركة تعطي درسا للمؤمنين بأنهم إذا تمنوا خيرا لا سيما الجهاد و القتل في سبيل اللّه تعالى لا بد من محاسبة أنفسهم و امتحان قلوبهم، و اختبار استعدادهم على الثبات و المثابرة و إلا فان تمني كل أمر من دون ملاحظة تلك الخصوصيات انما يكون ضربا من التخييل و الوهم و الغرور، و لذا نرى ان كثيرا من المتمنين لم يثبت على ما تمناه عند الامتحان في الفعل و مرحلة العمل لأنه لم يصدر عن قدم راسخ و عزيمة قويمة.

و انما عقب سبحانه و تعالى الاختبار و التمحيص بهذه الآية الشريفة لبيان كيفية التمحيص و الاختبار، و ما في هذه الآية انما هو مثال لهما و زيادة في الإيضاح.

و المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ» : من قبل

ص: 375

الامتحان بالعمل و الاختبار بالاقدام على الفعل.

قوله تعالى: فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ .

الرؤية: الاحساس بالباصرة. و النظر هو المعانية و هو غير الرؤية فان الثانية متعدية إلى المفعول بنفسها و النظر يتعدى إلى المفعول ب إلى.

و الجملة تبين شدة معاناتهم للحادثة و الوقوع في الاختبار و الامتحان فقد رأوا ما فيه الاختبار و تمعنوا فيه و نظروا إلى جميع الخصوصيات التي تمكنهم الوصول إلى ما تمنوه من الشهادة في سبيل اللّه تعالى.

و انما عبر سبحانه بالرؤية مبالغة في مشاهدتهم له و تأكيدا لظهور الخصوصيات لهم و معاينتهم لها و لذا عبر عز و جل ب «وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» .

قوله تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ .

مثال آخر من الامثلة القرآنية لاختبار الناس و تمحيص المؤمنين، و يبين سبحانه و تعالى في هذه الآية حقيقة من الحقائق الواقعية التي يشهد عليها البرهان و وجدان المتأملين من افراد الإنسان و هي انه متى ظهر في الدنيا مثال للعقل العملي و النظري و دعا الناس إليهما فآمن به جمع ثم غاب عنهم يكون اتباعه على قسمين، قسم استعدت نفوسهم لنيل المعارف الإلهية و تمكنت فيهم فيكون حضوره و غيبته عندهم على حد سواء، بل لا يرون غيبته غيبة لحضور معارفه لديهم ابدا و يرون ان العمل بها منشا لسعادتهم الدنيوية و الأخروية قال تعالى: «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي اَلسَّماءِ. تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اَللّهُ اَلْأَمْثالَ لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» ابراهيم - 54 و قسم

ص: 376

آخر يكون ايمانهم طمعا في الحطام أو خوفا من الحسام فهم «كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اُجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ اَلْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ» ابراهيم - 26 فلا محالة يميلون مع كل ريح بعد غيبته يمينا و شمالا و يسعون وراء كل شهوة قال تعالى: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا» مريم - 59 و لا اختصاص لمضمون هذه الآية الشريفة باتباع سيد المرسلين بل هو متحقق في اتباع كل نبي بعد ارتحاله، و لعل في قوله تعالى: «قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» اشارة إلى ذلك، و يدل على ذلك الحديث المعروف بين الفريقين: «ستفترق امتي بعدي ثلاث و سبعون فرقة».

و هذه الآية المباركة من ملاحم آيات القرآن الكريم و قد اخبر سبحانه و تعالى نبيه الكريم تسلية لقلب سيد الانس و الجان و ان ما تحمل به من الأذى و الصعاب في سبيل اللّه تعالى محفوظ عنده عز و جل، و ان لم تعرف الامة قدر نبيها الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و فيها العتاب على من لم يثبت على الايمان.

و محمد علم لنبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و هو بمعنى من كثرت خصاله المحمودة سماه به جده عبد المطلب و قال: «رجوت ان يحمد في السماء و الأرض» و لم يسم به أحد قبله و هو مشتق من حمّد (المضاعف) و في هذا الاسم العظيم اسرار لا يعرفها الا الراسخون في العلم.

و المعنى: ليس محمد (صلى اللّه عليه و آله) إلا بشرا رسولا من اللّه مثل سائر الرسل و الأنبياء التي مضت من قبله بلغوا رسالات ربهم و لا يملكون من الأمر شيئا إذا دعاهم اللّه أجابوا فمن هداه اللّه عز و جل إلى الايمان فإنما اهتدى بهداه فلا يضره موت النبي، فهو

ص: 377

يبلّغ عن اللّه تعالى و يدعو اليه فالدين باق ببقاء اللّه تعالى و ان تبدلت المبلغين عنه تعالى فلا يكون موت نبي موجبا للخروج عن طاعة اللّه تعالى و دينه.

قوله تعالى: أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ .

الهمزة للإنكار و الموت: هو زهاق الروح، كما ان القتل كذلك و لكن الأخير متضمن لسبب الموت، و لعله في المقام باعتبار اشاعة قتله (صلى اللّه عليه و آله) في يوم أحد، كما عرفت في البحث التاريخي.

و ذكر موته باعتبار وقوعه عليه (صلى اللّه عليه و آله) بعد ارتحاله عن هذا العالم، فالآية الشريفة تبين جميع المحتملات، سواء كانت باشاعة أو بوقوعه الخارجي حين ارتحاله و الأثر مترتب على كل منهما.

قوله تعالى: اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .

كناية عن الخروج عن الطاعة و الرجوع إلى الكفر، و التعبير بذلك اشارة إلى بقاء جميع رذائل الجاهلية و عدم رسوخ الدين في قلوبهم و إلا فلا معنى للانقلاب بعد معرفة الحق حقيقة. و فيه إيماء إلى انه إذا قتل أو مات ترجعون إلى الكفر و تكونوا محاربين مع الرسول.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اَللّهَ شَيْئاً .

تقدم ان المراد بالانقلاب على الأعقاب هو الرجوع عن الطاعة و الكفر بالدين، و هذا الخطاب يختص بالرجوع السريع من دون توقف، فكأنما ركب الفرس في الرجوع إلى الوراء.

و المعنى: من يخرج عن طاعة اللّه تعالى و يكفر بالدين فانه يضر

ص: 378

نفسه بتعريضها للسخط و الهلاك و حرمانها عن الكمال المعد لها، و لن يضر اللّه كفر الكافرين ابدا، لأنه غني عن العالمين، و هؤلاء هم الذين ذكرهم الشيطان في ما حكاه عز و جل عنه: «قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ اَلْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ» الأعراف - 17 و يقابلهم من سيذكره تعالى بعد ذلك الذين شكروا اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ .

بيان لنوع آخر مقابل لمن ينقلب على عقبيه. و الشكر هو صرف العبد جميع ما أنعم اللّه به عليه من لسانه و قلبه و جميع جوارحه في ما خلق لأجله، فهو اظهار النعمة بالعمل و يقابله الكفر، و مقام الشكر من أعلى مقامات العارفين الشامخين، و أخص صفات المخلصين المتقين و قد تقدم في سورة الفاتحة الفرق بين الحمد و المدح و الشكر فراجع.

و الشاكرون هم الذين ثبتوا على الايمان و أقاموا على طاعة اللّه عز و جل و الإخلاص له، و استقر فيهم وصف الشكر فهم في حالة ذكر اللّه تعالى بالقول و العمل؛ و هم الأقلّون الذين ذكرهم اللّه تعالى في قوله «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ» سبأ - 13، كما انهم هم المخلصون الذين لا مطمع للشيطان فيهم و استثناهم عن اغوائه؛ قال تعالى حكاية عنه «فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ» ص - 83.

و الآية الشريفة ترشد إلى أن في القوم من يثبت على دينه و يعمل على طبقه فهو شاكر للّه تعالى و لا يختص مضمونها بعصر الرسالة بل يجري في جميع الامة، و إنما لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء الشاكرين

ص: 379

تعظيما له و إعلاما بجلالة قدره.

قوله تعالى: وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .

تثبيت لمضمون الآية المتقدمة فان موت الرسول (صلى اللّه عليه و آله) لم يكن جزافا و لا بتحقق بالإشاعة و لا يمكن أن يكون سببا للارتداد لو تحقق، و تعريض بمن كان يثبط المؤمنين بالقعود عن القتال و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، كما حكى عنهم عز و جل في موضع آخر قال سبحانه «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» و تسلية للمؤمنين بمن قتل منهم، و ارشاد للناس إلى ان الموت و الحياة بيد اللّه تعالى و قدرته لا يتحققان مصادفة من دون تقدير من اللّه عز و جل، و هذه هي سنة محكمة فلا وقع للجبن و الخوف، و لا عذر للوهن و الضعف و القعود عن الجهاد.

و المعنى: انه لم يثبت و لا هو ثابت لنفس ان تموت إلا بمشية اللّه تعالى و تقديره فهذه سنة محكمة في خلقه و يجري عليها نظام الحياة.

قوله تعالى: كِتاباً مُؤَجَّلاً .

تأكيد لمضمون ما قبله، و الكتاب مصدر منصوب بفعل مقدر من لفظه اي كتبه اللّه تعالى كتابا مقرونا بأجل معين معلوم حدوده غير قابل للتغيير و التبديل، كما قال تعالى: «إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ» يونس - 49.

و الآية المباركة تحرض المؤمنين على الجهاد و التشجيع على لقاء العدو و ترك الحذر و الخوف، لأنه لا يموت احد قبل الوصول إلى أجله.

ص: 380

قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها .

بعد ما ذكر سبحانه و تعالى خصائص الطائفتين المنقلبتين على الأعقاب و الباقين مع الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و الراسخين على دينهم يبين جل شأنه في هذه الآية المباركة جزاء الطائفتين. فمنهم من يعمل للدنيا و يريد جزاء عمله في الدنيا فاللّه تعالى لا يحرمه منها، و منهم من يعمل للآخرة و لا يريد الجزاء إلا فيها.

و المعنى: من يريد من اللّه بعمله ثواب الدنيا و الجزاء فيها فاللّه تعالى يؤتيه منها و من يرد بعمله من اللّه ثواب الآخرة و ما أعده اللّه تعالى لمن يطلها نؤته منها على قدر خلوصه و إخلاصه.

و في الآية المباركة وعد منجز منه عز و جل بالوفاء إن تحققت الشرائط فيهم قال تعالى: «مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَ مَنْ أَرادَ اَلْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً» الإسراء - 19 فلا بد ان يقيد المقام بهذه الآية الشريفة التي تكون تفسيرا لها.

قوله تعالى: وَ سَنَجْزِي اَلشّاكِرِينَ .

بيان مستقل للتنويه بمقام الشاكرين و وفور جزائهم، و لبيان ان الشاكرين لم يكونوا يقصدون في أعمالهم إلا وجه اللّه تعالى و شكره، و لا يمكن أن ينقطع الجزاء عنهم، و لذا لم يذكر سبحانه و تعالى كيفية الجزاء و كميته لعدم التحديد في كل منهما، و للتعظيم و الترغيب حتى يذهب ذهن السامع اي مذهب ممكن.

ص: 381

قوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ .

ثناء جميل على جميع السعداء الذين وفوا بعهدهم و ثبتوا على الصراط المستقيم، و شيدوا اركان التوحيد القويم. و بشارة هامة لمن استقام على الطاعة للّه عز و جل، و تشويق للمؤمنين بالإيتمام بالمتقين الذين أبلوا البلاء الحسن في نصرة دين اللّه تعالى، و الاعتبار بما جرى عليهم و الاتعاظ منهم، و تثبيت لما ورد في الآيات السابقة، فكأن الآية الشريفة خاتمة لجميع تلك الآيات، و اشتملت على مضمونها، و توبيخ لمن انهزم في احد فإنهم لم يستنوا بسنة المجاهدين الربانيين، و إنذار للذين جاهدوا مع سيد الأنبياء و تحملوا انواع البلاء و الأذى بأن لا يعجبوا بفعلهم، فان سنة من قبلهم كانت كذلك أيضا.

و كأين: تفيد معنى كم الخبرية و التكثير، و قد استعملت في القرآن الكريم في سبعة مواضع. و (من) بيانية. و (ربيون) هو المنسوب إلى الرب كما يقال رباني. و قال في الكشاف قرئ بالحركات الثلاث و انما كسرت الراء لتغيير النسب، فان النسبة تكون معها تغييرات كثيرة في بناء الكلمة، و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ لكِنْ كُونُوا رَبّانِيِّينَ» آل عمران - 79 معنى الكلمة. و قيل: إن الكلمة مشتقة من (ربة) بكسر الراء أو ربوة و هي الجماعة ثم اختلفوا في عددها فقيل: انها الجموع الكثيرة، قيل: انها ألوف، و قيل: انها عشرة آلاف، و قيل: انها ألوف الألوف، و قد وردت في القولين الأخيرين روايتين، و يمكن أن يكون المراد بذلك كمية خاصة اتصفوا بالربانية فيختلف عددهم حسب اختلاف الازمنة، فلا نزاع في البين و كيف كان فنسبة الربي إلى الربوة يحتاج إلى تصرف زائد بقلب

ص: 382

الواو ياء ثم حذف الياء، مع أن ظاهر الآية الشريفة التوبيخ لأصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) المنهزمين في أحد فلو كان لمجرد بيان العدد فلا يستفاد منه التوبيخ و لا موقع له، يضاف إلى انه تعالى وصفهم بأوصاف حميدة و جليلة مما يدل على عدم وجودها في كل أحد.

و المعنى: و كم من نبي قاتل معه في جهاده في إقامة الحق و نصرة دين اللّه تعالى من كان منتسبا الى الرب و تخلق بأخلاق اللّه تعالى و تربّى بتربيته الرسول الكريم و النبي العظيم فصبروا. فلما ذا فررتم عن سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و لم تصبروا؟!! و قد وصف اللّه تعالى الربيون بأوصاف تدل على جلالة قدرهم.

قوله تعالى: فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

وصف أول، و هو عدم لحوق الوهن في عزائمهم بما أصابهم من الشدائد و الأذى في الحرب، و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، أو ما عجز عن الجهاد عند قتل أنبيائهم أو شاع قتلهم ثبتوا على دينهم.

قوله تعالى: وَ ما ضَعُفُوا .

وصف ثان. و هو عدم اصابة الضعف في أبدانهم و ما فتروا لأنهم لم يستسلموا للرعب و الخوف و روعة الحرب و شدتها، و يمكن ان يكون المراد بالوهن الضعف للمجموع و الضعف للآحاد.

قوله تعالى: وَ مَا اِسْتَكانُوا .

وصف ثالث. و الاستكانة: هي الخضوع و الذلة بحيث يؤثر في نفوسهم و يوجب الرجوع عن الايمان و الانقلاب الى الكفر، و يحتمل

ص: 383

ان يكون كل وصف من الأوصاف المتقدمة إشارة إلى طائفة من الطوائف التي كانت مع نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) فالأول إشارة إلى الجماعة التي رجعت عن الحرب و ولّوا الأدبار، و الثاني إشارة إلى الطائفة التي همت بالفصل و استسلموا للرعب أو المال كالذين رجعوا عن فم الشعب، و الثالث هم المنافقون المرجفون الذين رجعوا عن نصرة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلصّابِرِينَ .

أي ان الربيون مع مقاساتهم الأهوال و توارد انواع الشدائد عليهم صبروا، و كفاهم فخرا ان اللّه يحب الصابرين فيوفيهم أجرهم بأحسن وجه و يغظم قدرهم و منزلتهم، و في الآية الشريفة كمال الثناء عليهم و بيان وجه العلة فيه.

قوله تعالى: وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اِغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا .

بعد ما بين عز و جل أفعالهم و أحوالهم ذكر في هذه الآية الشريفة أقوالهم لتتم الحجة على المؤمنين فان عليهم الاتعاظ من أفعالهم و أقوالهم و الاعتبار بها و الاستنان بسنتهم و الاقتداء بهم حتى لا يتكرر منهم الوهن و الفشل في جنب اللّه تعالى و نصرة دينه.

و الآية المباركة تبين شدة صلتهم باللّه تعالى و كمال خضوعهم له عز و جل فقد كان قولهم مطابقا لفعلهم و لم يختلفا.

و ما كان قولهم في تلك الحال الا الاعتصام باللّه تعالى قولا و طلب الغفران لذنوبهم التي توجب بعدهم عنه تعالى و قطع الفيض الربوبي.

ص: 384

قوله تعالى: وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا .

اي: تجاوزنا عن الحدود التي حددها اللّه تعالى لنا، فان شدة الحال قد توجب صدور بعض الهفوات و الزلات و التجاوز عن الحد.

و هذا الدعاء منهم يدل على استصغار عملهم، و اعترافهم بالتقصير في مقام عبوديتهم، و كمال انقطاعهم اليه تبارك و تعالى.

و انما قدموا الدعاء بالمغفرة على غيره لازالة الحجب عن وصول الفيض و العطف الربوبي، و لتقدم التخلية على التحلية.

قوله تعالى: وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا .

اي: لا تزل أقدامنا عن الصراط المستقيم، و في جميع الأحوال لا سيما عند الجهاد و الطاعة لئلا تضلنا الاهوية و مضلات الفتن.

قوله تعالى: وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ .

لتطهير الأرض من مآثمهم و مفاسد أخلاقهم، فان طهارتهم من الذنوب يستلزم النصرة على من يكون محاطا بها.

و انما قدم طلب الغفران و التوفيق لأن الدعاء الصادر عن الخضوع و الطهارة اقرب إلى الاستجابة.

قوله تعالى: فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا .

تعظيم لهم لما يترتب على طاعتهم الثواب العظيم اي: اعطاهم اللّه تعالى جزاء لما قالوا ثواب الدنيا فأنعم عليهم انواع النعم الدنيوية كالنصر و حسن السمعة و السعادة الدائمية.

و ترتب الآية الشريفة على ما تقدم من قبيل ترتب المسبب على السبب.

ص: 385

قوله تعالى: وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ .

تفضيل لثواب الآخرة على ثواب الدنيا و ارتفاع قدره و منزلته و توصيف ثواب الآخرة بالحسن، لبيان ان ثواب الدنيا في مقابل ثواب الآخرة ضئيل جدا بل ليس فيه حسنا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

اي جزاء لإحسانهم و اللّه يحب المحسنين و محبة اللّه تعالى لعبده مبدأ كل خير و سعادة، و في الآية الشريفة الترغيب إلى تحصيل تلك المناقب و التحريض على الدخول في المحسنين.

بحوث المقام
بحث ادبي:

قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» فيه وجوه من الاعراب فقيل انه جملة حالية من فاعل الفعلين «لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا» فتكون كالاحتجاج عليهم في النهي عن الوهن و الحزن. و قيل: ان الجملة ابتدائية فتكون متضمنة للبشرى بالعلو. و قيل: انها جملة حالية مطلقا في جميع الحالات في علم اللّه تعالى و بحسب علمكم بما وعده اللّه تعالى و بشره لكم، كما عرفت.

و الفعل المضارع في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ» لحكاية الحال و استمرار ذلك في المتقاتلين.

ص: 386

و تلك في قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» اسم إشارة يشار به إلى البعيد يفيد التفخيم و التعظيم، و «الأيام» عطف و «نداولها» خبر، و قيل: اسم الإشارة مبتدأ و «الأيام» خبره و «نداولها» في موضع نصب حال من «الأيام» و فعل المضارع دال على الاستمرار و التجدد. و اللام في «الأيام» إما للعهد اي:

اوقات الظفر، أو للجنس اي أيام الدنيا و ما يقع فيها من الحوادث.

و اللام في قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا» للعاقبة اي:

و لتكون العاقبة ان يتحقق في الخارج المعلوم و هو ايمان المؤمنين. و قيل للتعليل. و الجملة معطوفة على فعل آخر اى ليظهر أمركم و ليعلم أو ليتميز المؤمن من غيره و ليعلم.

و الالتفات إلى الغيبة في قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ» و اسناده إلى الاسم الظاهر لبيان ان كل صفة من صفاته المقدسة الكمالية لها مجمع واحد و هو اسم الجلالة، و لإظهار المهابة و العظمة.

و «أم» في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ» منقطعة، و قيل انها مقدرة ب (بل) و همزة الاستفهام الانكاري و لكن الحق إن هذه الكلمة تفيد الإنكار، و لا يحتاج إلى التقدير.

و جملة «وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا» حال من «تدخلوا» مؤكدة للإنكار، و كلمة «لمّا» تفيد النفي المستمر حتى يتحقق المعلوم في المقام.

و انما ذكر عز و جل «لما» دون «لم» لبيان أن الجهاد قد يتحقق منهم في المستقبل.

و الواو في قوله تعالى: «وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ» بمعنى مع، و يعلم منصوب ب (أن) المضمرة، فيكون العلم الصابرين قيدا لا اثر العلم بالمجاهدين. و قيل: ان الواو للاستيناف أو الواو للحال بتقدير و هو

ص: 387

و (يعلم) مرفوع على كلا التقديرين.

و تمنون في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ» أصله تتمنون فحذفت احدى التائين.

و (كأيّن) قيل: إنها مركبة من كاف التشبيه و أي الموصولة و رسمت النون للمحافظة على التنوين في الأصل و انها صارت بعد التركيب اسما تفيد معنى (كم) الخبرية و التكثير، و محلها الابتداء و ما بعدها تمييزها و خبرها.

ثم ذكروا ان كم و كأين متشابهتان في خمسة امور هي: الإبهام، و البناء، و لزوم التصدير، و إفادة التكثير، و الافتقار إلى التمييز.

و تخالف كأين كم في خمسة امور أيضا: انها مركبة و كم بسيطة - على ما ذكره جمع - و ان تمييزها مجرور ب من غالبا، و انها لا تقع مجرورة، و ان خبرها لا يقع مفردا، و انها لا تقع استفهامية.

و الصحيح ان (كاين) كلمة بسيطة لا أنها مركبة و النون اصلية، و المعروف ان فيها لغات اربع قرئ بها «كأين» بالتشديد و هذه القراءة معروفة و مرسومة في المصحف و (كائن) مثل كاعن، و (كئن) مهموزا مقصورا مثل (كعن) و (كأين) مثل كعين.

و قاتل في قوله تعالى: «قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ» خبر و «ربيون» فاعل، و قيل ان الفاعل ضمير يعود إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و «مَعَهُ رِبِّيُّونَ» جملة حالية لقاتل و هو ضعيف لان الجملة الاسمية تحتاج في كونها حالا إلى الرابط بالواو أو بها مع الضمير، و لا يصح الاكتفاء بالضمير وحده كما هو المعروف عندهم. و قيل وجوه اخرى في إعراب هذه الجملة.

و جملة «وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاّ أَنْ قالُوا» قولهم بالنصب خبرا لكان

ص: 388

و اسمها المصدر المتحصل من ان و ما بعدها. و الاستثناء مفرغ من أعم الأشياء، و قيل (قولهم) بالرفع على ان يكون اسم كان و الخبر ان و ما في حيزها أي: و ما كان شيئا الا قولهم.

بحث دلالي
اشارة

تدل الآيات الشريفة على أمور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» ان الوهن و الحزن في الحق قبيح عقلا مع العلم بالعلو، فالنهي ارشادي لا ان يكون مولويا مع ان الحزن انما يكون على شيء قد خسره الإنسان وفات منه بدون عوض و اما العمل الذي يكون محفوظا لديه عز و جل و يجزى عليه بأحسن وجه فلا وجه للحزن عليه.

و في الآية الشريفة تأديب للمؤمنين في كيفية حزنهم و همهم.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» على ان الانتهاء عن الوهن و الحزن انما يكون على قدر الايمان باللّه تعالى لأنه جنة واقية تمنع المؤمنين عن الوقوع في المهالك.

و هذا الخطاب ينبه الإنسان إلى محاسبة نفسه و الاستعداد للقاء الشدائد و أخذ الحيطة في الاقتحام في المهالك و النظر في مقدار الايمان و معرفة خصوصياته فان الإمداد الالهي و النصر انما يكون على قدر اللياقة.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» أن القرح الذي أصابهم لم يكن نكاية، و التعبير بالمس لتهوين المصاب و الخطاب يفيد حضور مضمون الآية في أذهان المخاطبين

ص: 389

و استمراره في جميع الأعصار.

و يمكن ان تكون تعقيب الآية الاولى بهذه الآية لبيان ان سبب الوهن و الحزن هو ما شاهدوه من القرح الذي أصابهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» على ان الزمان يكون ظرفا للأعمال، و إنما العبرة بالأعمال التي تقع فيه و التي لها الخلود و ان العاقبة مع المتقين من الناس.

الخامس:

الآيات الشريفة: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» كلها تبين الغرض و وجوه الحكم في حروب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مع الأعداء، و قد ذكر عز و جل في الآيات السابقة بعض الوجوه و ذكر في هذه الآيات بعضها الآخر و هي تحقق سنة اللّه تعالى و إقامتها في الناس، و تحقق معلوم اللّه في ايمان المؤمنين و تمحيصهم و اتخاذ الشهداء، و محق الكافرين. و هذه الوجوه يحكم بحسنها العقل السليم و الفطرة المستقيمة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها ان شاء اللّه تعالى.

السادس:

يدل قوله تعالى: «وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ» على ان التخطي عن الاحكام الإلهية و الخروج عن طاعة اللّه عز و جل و ما ورد في الآيات السابقة ظلم و اللّه تعالى لا يحب الظالمين و كفى بذلك خزيا، و يستفاد منه أيضا ان ذلك يوجب تسلط الظالمين فان مقادير الأمور و مجرى الأسباب العادية تقتضي استيلاء الظالمين لو تحققت المخالفة و تركت الطاعة.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان تمحيص المؤمنين يستلزم محق الكافرين، فان اللّه تعالى ينقص الكافرين شيئا فشيئا حتى يفنيهم و يقيم دولة الحق و تظهر كلمة اللّه و يستولي اهل الحق و العدل على الظلم و العدوان.

ص: 390

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان تمحيص المؤمنين يستلزم محق الكافرين، فان اللّه تعالى ينقص الكافرين شيئا فشيئا حتى يفنيهم و يقيم دولة الحق و تظهر كلمة اللّه و يستولي اهل الحق و العدل على الظلم و العدوان.

الثامن:

يستفاد من اطلاق ما تقدم من قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» ان التمحيص كما يقع على الفرد يقع على المجتمع أيضا فإذا وقع على المؤمن اقتضى ظهور فضائله الكامنة و إذا وقع على المجتمع يوجب تمييز المؤمن عن الكافر و المنافق.

و اما المحق فانه يتحقق بعد توارد الامتحانات الإلهية على الكافر التي توجب ظهور الخبائث الكامنة في الكافر و زوال الفضائل الظاهرية فكان ذلك محقا تدريجيا حتى ظهور دولة الحق التي تقضي على اصل الظلم و العدوان قال تعالى: «أَنَّ اَلْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ اَلصّالِحُونَ» الأنبياء - 105 و انما قدم عز و جل التمحيص على المحق لسبق رحمته على غضبه.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ» على ان دخول الجنة انما يكون بالمجاهدة و الصبر، و بهذين العمادين انتظم النظام الأحسن و حفظ المجتمع الاسلامي و أقيمت وحدته و تحققت شوكته و ان الظفر و الفوز في الدنيا و الدخول في الجنة في الآخرة لا يكون بالأماني و الغرور بل بالمجاهدة و المكافحة و المصابرة.

و الآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية التي لا يمكن التخلف فيها و سنة الهية لا يدخل فيها التغيير و التبديل.

العاشر:

يدل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ» على انه لا بد للمؤمنين محاسبة أنفسهم و امتحان قلوبهم في كل ما يريدون

ص: 391

التمني من دون عزيمة و عمل لا يوصل الإنسان إلى الواقع فلا بد من الامتحان و الاختبار حتى ينال المقصود.

الحادي عشر:

يستفاد من الشرط و الجزاء في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» ان ايمان بعض كان قائما بوجود النبي (صلى اللّه عليه و آله) و يزول بزواله و ان موت النبي (صلى اللّه عليه و آله) أو قتله يقتضي ظهور الكفر الباطن عند جمع و يوجب تركهم القيام بالدين و ان ايمانهم كان ظاهريا لأجل الثواب الدنيوي كما في بعض الأحاديث، و لذا أكد سبحانه على الشاكرين و كرر ذكرهم و بيّن جزاؤهم الأوفى، و وعدهم الحسنى مقابلة لتلك الطائفة.

الثاني عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ سَيَجْزِي اَللّهُ اَلشّاكِرِينَ» التنويه بمقام الشاكرين و هو يدل على وجود طائفة في من آمن بالنبي (صلى اللّه عليه و آله) قد استحكم فيهم الدين و استقاموا على الصراط المستقيم و أظهروا الشكر العملي و لم ينقلبوا على أعقابهم لأنهم دخلوا في زمرة الشاكرين و الذين استقر فيهم الشكر و صار ملكة فيهم لا تفارقهم و يدل على ذلك ذكر الوصف الذي يدل على الاستقرار و صيرورة المعنى ملكة في المتلبس بخلاف الفعل الذي يدل على مجرد التلبس، و لذا لم يرد في القرآن الكريم اسم الشاكرين على نحو التوصيف إلا في هذين الموردين.

الثالث عشر:

اطلاق قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ» يشمل جميع النفوس نباتية كانت أو حيوانية، أو انسانية، أو روحانية، فان موت كل ذي نفس لا يكون إلا بقضاء اللّه تعالى و قدره التفصيلي الاحاطي و هذا هو المراد بالإذن، سواء كان بدون سبب اختياري من الغير أو كان كذلك، و لكن لا بد من انتهاء كل ذلك إلى الحي القيوم خصوصا

ص: 392

ما يتعلق بالحياة مطلقا.

و من ذلك يعلم انه لا معنى للنزاع في القتل أو غيره مما يوجب موت الإنسان هل يكون هو الموت الطبيعي أولا، فان الموت سواء كان طبيعيا أو غير طبيعي متحقق بزهاق الروح بلا اشكال. نعم مدة العمر و الأجل شيء آخر و قال بعض المحققين:

موتا طبيعيا غدى اخترامي *** قيس إلى كلية النظامي

يعني: كل موت اخترامي موت طبيعي إذا قيس الموت إلى كلية النظام الأحسن، و اما إذا لوحظ الموت الاخترامي بنفسه لنفسه فقد يكون مختلفا مع الموت الطبيعي في الزمان و الأجل.

الرابع عشر:

تبين الآيات الشريفة: «وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ .. إلى آخر الآيات» حقيقة الطائفتين المتقدمتين و هما المنقلبون على الأعقاب و المؤمنون الثابتون، فذكر عز و جل ان الأولى عملت لأجل الدنيا و ثوابها و استهانوا بالسنة الإلهية في الموت و الحياة و اعتقدوا بطلان الملك الالهي و التدبير الرباني. و اما الطائفة الثانية فقد وصفهم اللّه تعالى بأحسن الأوصاف و أعظمها و يكفي في فخرهم انه وصفهم بالشاكرين و المحسنين و اللّه تعالى يحبهما.

الخامس عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» جلالة قدرهم و رفعة منزلتهم فقد نعتهم عز و جل بنعوت تدل على كمالهم و توجههم إلى اللّه تعالى و طاعتهم له عز و جل و احترامهم للأنبياء و قد أحبهم اللّه تعالى لجهتين تارة لأجل صبرهم و اخرى لأجل إحسانهم، و هذا هو فضل عظيم و فخر كبير و فوز عظيم.

ص: 393

ربيون كثير» على ان جميع ما ورد فيها من مكارم الأخلاق و أفضل المناقب، و أنها من سبل الإحسان و من اتصف بها يدخل في زمرة المحسنين الذين يحبهم اللّه تعالى.

و يستفاد منها أيضا انه لا بد للمؤمن من ملازمة الخضوع و الخشوع و ظهور آثارهما على الأقوال و الأعمال حتى يحبهم اللّه تعالى.

السابع عشر:

يدل قوله تعالى: «وَ اُنْصُرْنا عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْكافِرِينَ» ان هدف كل مؤمن في جهاده و كفاحه هو النصرة على القوم الكافرين و إخماد نارهم و اذهاب شوكتهم و تطهير الأرض من مكائدهم و مفاسدهم و احقاق الحق و هذا هو المحق الذي ذكره عز و جل في ما سلف من الآيات الشريفة و يطلبه المؤمنون في دعوتهم و لا معنى لحقانية الحق في مقابل الباطل الا طلب النصرة عليه تكوينا و اختيارا.

بحث عرفاني

الاستقامة في الحق و بالحق من ابرز مقامات الأنبياء و المرسلين و الأولياء الصالحين و العرفاء الشامخين و هي عبارة عن الصراط المستقيم بل هي حقيقة الجنة التي تظهر في الآخرة بأحسن مطلوب، و لا يمكن ان تحصل الاستقامة الا باختبار العبد و امتحانه و تمحيصه بأشد البلاء لتظهر مكارم أخلاقه الكائنة في نفسه و اذهاب ما هو فاسد فيه فلو لم يكن اختبار لما كان هذا الجزاء الجزيل و لا ترتبت هذه الثمرات المطلوبة و بعد ذلك للتأييدات السماوية دخل في البين على نحو الاقتضاء لا العلية التامة و أس الاستقامة في الحق بالحق و اساسها مبني على تجلي عظمة

ص: 394

اللّه تعالى في القلب و احتقار ما سواه بحيث لم ير العبد شيئا غيره جلت عظمته و كلما اشتد ذلك في القلب و ظهر أثره على الجوارح اشتدت الاستقامة و رسخت في النفس، و حقيقة المجاهدات الشرعية سواء كانت نفسانية أو خارجية مع اعداء اللّه تعالى لا تكون إلا من سبل الاستقامة و استحكام حقيقة الشكر في النفس و ظهور الخشوع و الخضوع على الجوارح و الجوانح و هذا هو السر في تكرار «اَلشّاكِرِينَ» في الآيات المتقدمة و ذكر صفاتهم و ما يوجب رسوخ الشكر في النفس.

بحث روائي

في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ قال: «انهزم اصحاب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) يوم أحد فبينا هم كذلك إذ اقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد ان يعلو عليهم الجبل فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) اللهم لا يعلّون علينا اللهم لا قوة لنا الا بك اللهم ليس يعبدك بهذه البلدة غير هؤلاء النفر فانزل اللّه تعالى هذه الآيات و ثاب نفر من المسلمين رماة فصعدوا الجبل و رموا خيل المشركين حتى هزموهم فذلك قوله تعالى: «وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ» .

أقول: لا ريب في علو الإسلام مطلقا حقيقة فضلا عن دعاء الرسول (صلى اللّه عليه و آله).

و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» قال:

ص: 395

«ما زال منذ خلق اللّه تعالى أدم دولة للّه تعالى و دولة لإبليس فان دولة اللّه ما هو الا قائم واحد».

أقول: المراد بالقائم من يقوم بالحق و احقاقه في مقابل الباطل.

و ان المراد بالوحدة الوحدة النوعية لا الشخصية فتنطبق على كل نبي في كل عصر خصوصا على سيدهم في عصر ظهوره، و على من سيظهر في دولة الحق.

و في تفسير العياشي أيضا عن الوشا عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» قال:

«و اللّه لتمحصن، و اللّه لتميزن، و اللّه لتغربلن حتى لا يبقى منكم إلا ندر [الأبذر] - الحديث -».

أقول: الحديث مطابق للوجدان لان كل احد إذا أراد أن يتخذ صديقا لنفسه لا يتبادر إلى كل من يدعي الصداقة إلا بعد الامتحان و الاختبار.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ وَ لَمّا يَعْلَمِ اَللّهُ اَلَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ اَلصّابِرِينَ» قال: «و لما ير لأنه عز و جل قد علم قبل ذلك من يجاهد و من لا يجاهد، فأقام العلم مقام الرؤية لأنه يعاقب الناس بفعلهم لا بعلمه».

أقول: المراد بالرؤية ما ذكرنا من الوقوع الخارجي فان الرؤية لا تتعلق إلا بما هو واقع في الخارج.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ» عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام): «ان المؤمنين لما أخبرهم اللّه تعالى بالذي فعل بشهدائهم يوم بدر و منازلهم في الجنة رغبوا في ذلك فقالوا: اللهم

ص: 396

أرنا قتالا نستشهد فيه فأراهم اللّه إياه يوم أحد فلم يثبتوا الا من شاء اللّه منهم فذلك قوله تعالى: «وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ اَلْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ» .

أقول: هذا سيرة جميع الناس في كل عصر عند ما يخبرون بالشهادة و فضلها و مناقبها فيتمنونها و في مقام العمل يحجمون عنها.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» قال: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) خرج يوم أحد و عهد العاهد به على تلك الحال فجعل الرجل يقول لمن لقيه ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قد قتل، النجا، فلما رجعوا إلى المدينة انزل اللّه تعالى: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ» قال عطية العوفي: لما كان يوم أحد انهزم الناس فقال بعض الناس: قد أصيب محمد فأعطوهم بأيديكم فإنما هم إخوانكم و قال بعضهم: ان كان محمد قد أصيب ألا تمضون على ما مضى عليه نبيكم حتى تلحقوا به؟ فانزل اللّه تعالى في ذلك «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ - إلى قوله تعالى - وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ...» الآية.

أقول الروايات في ذلك كثيرة و جميعها من باب التطبيق.

و في أمالي الشيخ عن ابن عباس: «ان عليا (عليه السلام) كان يقول في حياة رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه عز و جل يقول: «وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ» و اللّه لا ننقلب على أعقابنا بعد إذ هدانا اللّه و لئن مات أو قتل قاتلت عليه حتى أموت و اللّه انى لاخوه و ابن عمه و وارثه فمن أحق به منى».

ص: 397

أقول: الأحاديث في ذلك كثيرة و الوجه في ذلك ان نبي كل زمان خصوصا سيدهم انما يكون مثالا للّه تعالى من حيث الأخلاق و الأقوال و لا بد و ان تكون أمته مثالا للنبي من هذه الجهة حتى تصير مثالا لأخلاق اللّه تعالى بواسطة النبي، فكل من بقي على كونه مثالا لنبيه فقد و في بعهده و بقي على ملته و لم يضره موت النبي أو قتله إذ لا فرق حينئذ لديه بين حياة النبي و موته؛ و كل من تخلف عن ذلك فقد ارتد و رجع على عقبيه بلا فرق بين أنحاء التخلف و الرجوع فان الكفر و الارتداد ذو مراتب كثيرة كما تقدم في هذا التفسير.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ» الربيون الجموع الكثيرة و الربوة الواحدة عشرة آلاف.

و في المجمع: «الربيون عشرة آلاف و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)».

و في تفسير العياشي «الربيون ألوف آلاف».

أقول تقدم في التفسير ما يتعلق بهذه الروايات.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149).......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ اَلنّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ (151) بعد ما أمر عز و جل المؤمنين باتباع الأنبياء و انصاره المجاهدين الصابرين المكافحين في تثبيت دعائم الدين و اركان التوحيد و بيّن ما لهم

ص: 398

من الفضل العظيم و الأجر الجزيل و حسن العاقبة يبين سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة أصلا من أصول النظام الاسلامي و حقيقة من الحقائق الاجتماعية التي تحفظ وحدة الاجتماع و هو الايمان باللّه العظيم و الاعتقاد بانه مولى المؤمنين يكفيهم و ينصرهم، و قد أمرهم بالإعراض عن الكافرين الذين ما برحوا في تثبيط عزيمة المؤمنين و إرجاعهم إلى الكفر و الارتداد عن الايمان و قد نهاهم عز و جل عن متابعتهم و بيّن ما يترتب عليها من الآثار السيئة و سوء العاقبة و قد وعد سبحانه و تعالى المؤمنين بالنصر على الكافرين الذين أوعدهم سوء العاقبة.

و الآيات المباركة من تتمة الآيات النازلة في احد حيث يذكر عز و جل بعض ما جرى في هذه الغزوة العظيمة التي قلّما اشتملت غزوة أخرى مثلها من الحقائق و التعليم.

و قد أمر سبحانه و تعالى في هذه الآيات بأن لا يطيعوا غير ربهم الذي هو مولاهم يكفيهم أمورهم و يعينهم على مقاصدهم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

ص: 399

كما ان المراد بالذين كفروا هم الذين لم يؤمنوا بنبوة نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) سواء كانوا من المشركين أو المنافقين الذين كفروا بقلوبهم و ان آمنوا بأفواههم.

و يستفاد من الآية الشريفة ان الكافرين كانوا يلقون على المؤمنين ما يوجب التنازع و التفرقة و الاختلاف و ما يثبطهم عن الجهاد في سبيل اللّه تعالى و قتال أعدائه عز و جل، و يدل عليه ما ورد في الآيات اللاحقة التي يحكم سبحانه و تعالى فيها بعض مكائدهم.

و يمكن ان يقال بان ذلك من الأمور الطبيعية في كل اجتماع مكوّن من طبقات أو مركب من فرق مختلفة الأهواء فان كل فرقة تعين على الفرقة الاخرى بكل ما يتاح لها من السبل قولا أو فعلا، و في المجتمع الاسلامي المنافقون و المشركون و غيرهم ممن يجحد نبوة محمد (صلى اللّه عليه و آله) كان لهم الدور الكبير في هذا الشأن، و قد حذر اللّه عز و جل المؤمنين من طاعتهم في مواضع متعددة من القرآن الكريم و حكى تعالى بعض المصاديق إتماما للتحذير، و ليكون الزجر على أكمل الوجه.

قوله تعالى: يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ .

الرد على الأعقاب هو الرجوع إلى الوراء. و مادة (عقب) تدل على التأخر سواء كان في الخير أو في الشر زمانا أو شأنا، و الاول كما في حديث الذكر الذي علمه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) للزهراء (سلام اللّه عليها): «معقبات لا يخيب قائلهن اربع و ثلاثون تكبيرة و اربع و ثلاثون تحميده و ثلاث و ثلاثون تسبيحة» و الثاني كما في الرواية «ويل للاعقاب من النار».

ص: 400

و المعنى: انكم لو أطعتم الذين كفروا يرجعونكم إلى ما كنتم فيه من الكفر و الضلال و الشرك باللّه تعالى سواء كان الضلال و الرجوع إلى الكفر دفعة أو تدرجا. و من ذلك إطاعتهم في ترك الجهاد، و القتال أو طلب الأمان منهم كما صدر عن بعض المؤمنين في غزوة أحد عند ما غلبوا على أمرهم بادئ الأمر فانه يقتضي تسلط الكافرين على المؤمنين و الميل إلى ولايتهم و هو يوجب الرد عن الايمان.

و مضمون الآية الشريفة لا يختص بعصر نزول القرآن الكريم بل هو حقيقة من الحقائق التي أكد القرآن الكريم عليها بأساليب مختلفة قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ» آل عمران - 100.

قوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ .

اي: فترجعون إلى ورائكم و أنتم خاسرون للدنيا و الآخرة و هو أعظم الخسران للإنسان.

قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ مَوْلاكُمْ .

اضراب عن تولي الكافرين لأنهم ليسوا أهلا للطاعة. اي: فلا تطيعوا الكفار بل أطيعوا اللّه تعالى مولاكم و ناصركم و قد وعدكم النصر و تولي شؤونكم بعنايته الخاصة قال تعالى: «فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ» الأنفال - 39.

قوله تعالى: سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللّهِ .

بيان لكونه خير الناصرين و وعد منه تعالى بنصر المؤمنين بالرعب

ص: 401

و خذلان الكافرين.

و الرعب: بسكون العين شدة الخوف و الفزع و هو مما اختص به (صلى اللّه عليه و آله) كما في الحديث المعروف: «و نصرت بالرعب مسيرة شهر» فكان أعدائه قد أوقع اللّه تعالى في قلوبهم الخوف منه فإذا كان بينه و بينهم مسيرة شهر هابوه و فزعوا منه.

و المعنى: سنفرغ في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب اشراكهم باللّه العظيم. و انما عبر سبحانه و تعالى بنون العظمة «سنلقي» و التفت في الكلام على طريق المهابة و الكبرياء و أكد عز و جل الإلقاء بالسين «سنلقي» اهتماما بالموضوع.

و قد ذكر عز و جل من افراد النصر إلقاء الرعب في قلوب الأعداء و هو مما وعده به عز و جل المؤمنين في مواضع مختلفة و انه من مختصات خاتم النبيين (صلى اللّه عليه و آله) كما تقدم في الحديث و قد شهد به التاريخ في حروبه مع المشركين.

و انما ورد اسم الجلالة صريحا لبيان ان هذا الاسم الجامع لجميع صفات الكمال ينافي اتخاذ الشريك له و يشمل الشرك كل انحائه في الذات و الخلق و الفعل و اسناد التأثير لغيره كالدهر و المادة و غيرها.

قوله تعالى: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً .

السلطان: هو الحجة و البرهان، و انما عبر تعالى به لإثبات التسلط على الخصم، فيستفاد ان كل ما زعموه من الحجج في اثبات الشرك باطل و موهون.

و الآية المباركة تنفي النزول و الوجود معا، فانه لا حجة في ثبوت الشريك حتى ينزلها.

ص: 402

قوله تعالى: وَ مَأْواهُمُ اَلنّارُ .

المأوى: هو المكان الذي يومئ اليه ليستراح فيه و يحتمي به، و في هذا التعبير تبكيت لهم بسوء العاقبة. اي: ان مكانهم الذين يأوون اليه في الآخرة ليستراح فيه هو النار لا مأوى لهم غيرها.

قوله تعالى: وَ بِئْسَ مَثْوَى اَلظّالِمِينَ .

المثوى: هو المكان الذي يمكث فيه و هو من ثويت على وزن مفعل قلبت لامه ياء اي المكان الذي يؤوى اليه الظالمين هو بئس المكان الذي يمكثون فيه و لا يمكنهم مفارقته بسبب ظلمهم.

و انما وضع الظاهر موضع المضمر و لبيان ان ايوائهم انما يكون أبديا و هم خالدون فيه، كما ان في ذكر الظالمين بيان للعلة في استحقاقهم هذا الجزاء لأنهم في اشراكهم ظالمون.

بحث دلالي

الآية الشريفة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد و هو اطاعة المنافقين و المشركين في شأن الجهاد و إقامة الدين و ترتيب الأثر على أقوالهم و أفعالهم و قد حذر سبحانه و تعالى المؤمنين في مواضع متعددة في القرآن الكريم و بيّن الآثار السيئة التي تترتب عليه بأسالبب مختلفة، فقد ذكر عز و جل في المقام من تلك الآثار السيئة الخسران في الدنيا و الآخرة و هو معلوم لان في اطاعة الذين كفروا إذهاب شوكة المسلمين و حرمانهم مما أوعده اللّه تعالى لهم من النصر و السعادة و تبديل

ص: 403

الأمن إلى الخوف و الامتهان و الإذلال و هذا هو الخسران في الدنيا و اما الآخرة فلهم عذاب أليم و حرمان مما وعد اللّه المتقين، و تتضمن الآية الشريفة أهم التعاليم الإلهية للمؤمنين.

كما ان الآية الشريفة تبين ان السبب في إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا هو الشرك و هذا جار على طبق السنة الإلهية في قانون الأسباب و المسببات و كلما تحقق هذا السبب يتحقق المسبب فلا اختصاص لذلك بالذين كفروا بل يجرى في المؤمنين إذا هم اعرضوا عن الدين الحق و هذا ما نراه من حال المؤمنين فإنهم كانوا في أعز مقام و احسن حال و لكنهم أصبحوا مرعوبين يخافون من كل احد، مع ان اللّه تعالى وعدهم النصر و حسن العاقبة و هو يفي بعهده ان وفوا بعهدهم.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا اَلَّذِينَ كَفَرُوا» - الآية -» عن علي (عليه السلام): «يعني عبد اللّه ابن أبي حيث خرج مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ثم رجع قال للمؤمنين يوم أحد يوم الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم و ارجعوا إلى دينكم».

أقول الرواية من باب التطبيق.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا اَلرُّعْبَ» قال السدي لما ارتحل أبو سفيان و المشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم انهم ندموا و قالوا

ص: 404

بئس ما صنعنا قتلناهم حتى لم يبق منهم إلا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم فلما عزموا على ذلك القى اللّه تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما عزموا و انزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: تقدم في التفسير ما يدل على ذلك.

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَ.......

اشارة

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ

ص: 405

وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (154) إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) لما وعد اللّه المؤمنين النصر و الظفر على الأعداء و ذكر سبحانه و تعالى ما يوجب نيل هذا الفيض الالهي و هو التقوى و الصبر و الثبات و شدة العزيمة يبين عز و جل في هذه الآيات صدق وعده كما يبين السبب في الهزيمة التي لحقت بالمؤمنين، و هو عصيان امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و التنازع في شؤون الحرب و عدم الثبات و الصدق في النية.

كما ذكر سبحانه و تعالى بعض خصوصيات تلك الهزيمة التي كانت لها الأثر الكبير على المؤمنين و وعد عز و جل بالعفو و المغفرة.

و هذه الآيات المباركة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة احد التي كانت درسا كبيرا للمؤمنين.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ .

مادة (حسس) تدل على وصول شيء إلى الحاسة (إي الإدراك) فان كان بآفة فهو القتل و أمثاله و إلا فهو من مجرد الحس، و يستعمل هذه المادة في القتل على سبيل الاستئصال كما يقال «حسوهم بالسيف

ص: 406

حسا» اي استأصلوهم قتلا. و الحسيس هو القتيل وزنا و معنى.

اي: لما وعدكم اللّه تعالى النصر فقد وفى بوعده و اظهر مصداقه لما وفيتم بالشروط و هي الصبر و التقوى و الثبات كما عرفت، و كان هذا النصر أول الأمر في غزوة احد حين ظهروا على عدوهم و قتلوهم قتلا ذريعا و اجلوهم من مواقعهم و هزموهم باذن اللّه تعالى، إلا انهم لم يستمروا على الشروط فكان الفشل و الهزيمة و العتاب كما حكى عنهم عز و جل في الآيات التالية.

و انما قيد عز و جل القتل باذنه لبيان ان ذلك من مصاديق الوعد الذي وعدهم به.

قوله تعالى: حَتّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي اَلْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ .

بيان بأن الوعد بالنصر كان مستمرا من اللّه تعالى إلى ان تحقق منهم ما أوجب انقطاع ذلك الفيض، و قد ذكر عز و جل أمورا ثلاثة و هي الفشل، و التنازع في الأمر، و عصيان امر الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله).

اما الفشل فقد ظهر منهم عند ما كر عليهم المشركون بعد فرارهم و المؤمنون لم يقدروا أن يملكوا أنفسهم عن الغنيمة فظهر الجبن و الجور عليهم.

و اما التنازع فقد حصل من الرماة عند ما رأوا ان اصحاب الرسول (صلى اللّه عليه و آله) بدءوا بجمع الغنائم فتنازعوا بينهم في ترك المكان حيث رغب أكثرهم في الغنيمة فقالوا ما بقاؤنا هاهنا و قد انهزم المشركون، و قال الآخرون لا نبرح من هذا المكان و لا نخالف امر الرسول.

و اما العصيان فقد كان في مخالفة أمر الرسول (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 407

بعدم ترك المكان مهما كان الأمر، كما انه حصل أيضا بالفرار عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) كما يأتي في الآيات التالية.

و «حتى» للغاية و «إذا» بمعنى الوقت و الحين لا الشرط، و قيل انها للشرط و قد حذف الجواب ليذهب ذهن المخاطب في تقديره كل مذهب.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ .

اي: ان كل ذلك حصل منكم من بعد ما رأيتم النصر و قتل المشركين و هزيمتهم. و فيه التنبيه على قبح ما صدر منهم، و عظم المعصية، و زيادة في التقريع لان الذي يرى توارد النعم عليه و إنجاز الوعد بالنسبة اليه لا بد ان يمتنع عن المعصية و لا يقدم على مخالفة المنعم و إلا كان كفرانا و سببا في سلب الإكرام و الفيض عنه و هذا ما جرى عليهم في أحد.

قوله تعالى: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ .

تفصيل بعد إجمال و بيان لسبب التنازع الذي حصل منهم في ترك المكان فان من ترك فم الشعب و خالف امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) آثر الحياة الدنيا و الغنيمة على طاعة الرسول (ص) و الجهاد في سبيل اللّه و منهم من آثر الآخرة و امتثل امر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فثبت و جاهد حتى استشهد.

قوله تعالى: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ .

بيان للأثر الذي ترتب على أفعالهم. و الجملة عطف على «صدقكم اللّه» اي ان اللّه تعالى صدقكم وعده و أيدكم بالنصر و من عليكم

ص: 408

بهزيمة الأعداء و لكن صرفكم عن المشركين بسبب ما صدر منكم من الفشل و التنازع و العصيان، فكان ذلك طبق السنة الإلهية من ايكال الأمر إلى الناس إذا صدر منهم العصيان. و الصرف هو الكف.

و المعنى: ثم كفكم عن المشركين و كان ذلك بانهزامهم بعد الظفر على المشركين و كان سبب ذلك ظهور الاختلاف في المسلمين بالفشل و التنازع و العصيان، و كل ذلك كان لأجل امتحانكم و اختباركم ليظهر صبركم أو رسوخ ايمانكم فيتميز المؤمن عن المنافق ليجزي اللّه تعالى المؤمنين بمراتب ايمانهم و يرفع درجات الصابرين المجاهدين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ .

اي: و لقد عفا اللّه تعالى بفضله عنكم ببركة ايمانكم، أو كان هذا العفو بعد الاختبار و التمحيص. و قد ظهر أثر هذا العفو بعد ذلك عليهم و أنجز وعده لهم بالظفر على الأعداء بعد الهزيمة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ .

تقرير لمضمون ما قبله و تأكيد لإنجاز الوعد، فهو يتفضل على المؤمنين بأنحاء النعم فلا يذرهم على ما هم عليه من الضعف و ياتي في الآيات اللاحقة بعض وجوه نعمه و تفضله عليهم. و انما ذكر «المؤمنين» تشريفا و لبيان العلة في الفضل و هي الايمان و التنوين في «فضل» للتفخيم.

قوله تعالى: إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ .

بيان للصرف اي صرفكم عنهم في الوقت الذي كنتم تنهزمون فيه و الإصعاد هو الدخول في الصعود الى الجبال و الابتعاد عن المواقع نظير انجد، و أبهم و قيل الإصعاد هو الدخول في السير في الأرض قال الشاعر:

ص: 409

يبارين الاعنة مصعدات اي مقبلات و متوجهات نحوكم. و قال بعضهم: صعد بمعنى ذهب أينما توجه.

و مادة (لوي) تدل على الميل و الالتفات و الاعراض يقال: مرّ لا يلوي على أحد اي: لا يلتفت و لا يعطف او لا ينتظر و لا يبالي و قال في المجمع لا يستعمل الا في نفي فلا يقال: لويت على كذا.

و المعنى: ان اللّه تعالى صرفكم عن المشركين في الوقت الذي ابتعدتم عن مواقفكم منهزمين فرارا من القتل غير ملتفتين إلى احد سواء كان مؤمنا مسالما أو عدوا محاربا لشدة الدهشة و الخوف الذي وهمكم.

قوله تعالى: وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ .

الأخرى مقابل الاولى و أخر القوم الجماعة التي في آخرهم.

اي: و الرسول (صلى اللّه عليه و آله) من ورائكم يناديكم اليه.

و هو يدل على إمعان القوم في الفرار و ابتعادهم عن الرسول (صلى اللّه عليه و آله) حتى كان النداء و الدعاء في آخرهم و هم لا يبالون إلى دعائه و ندائه.

و قيل ان «فِي أُخْراكُمْ» حال من الفاعل في «يدعوكم» اي الرسول يدعوكم حال كونه في الجماعة التي ثبتت معه و هي في اخراكم و هم الذين وصفهم اللّه تعالى في الآيات السابقة بأنهم من الشاكرين.

قوله تعالى: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ .

مادة ثوب تدل على رجوع الشيء إلى حالته الاولى حقيقة أو اعتبارا، و يسمى الثواب ثوابا لأنه بمنزلة رجوع العمل إلى عامله

ص: 410

قال تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ» الزلزلة - 8 و تستعمل في الخير و الشر و ان كان في الاول اكثر قال تعالى: «فَآتاهُمُ اَللّهُ ثَوابَ اَلدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ اَلْآخِرَةِ» آل عمران - 148 و من الثاني قوله تعالى: «هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اَللّهِ» المائدة - 60 و كذا المقام.

و المعنى: اي رجع إليكم غما مقابل غم اوقعتموه على المشركين، فيكون هذا مبينا لما تقدم في قوله تعالى: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ» و هذه هي المداولة المذكورة في قوله تعالى:

«وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ» فيكون متعلق الغمين متعددا كما تقدم في القرحين.

و يحتمل ان يكون متعلقهما واحدا بالنسبة إلى المسلمين فقط، فالغم الاول إشراف المشركين و الغم الثاني وقوع الهزيمة و يشهد له بعض الروايات.

و يحتمل وجه ثالث و هو ان يكون الغم الثاني مؤكدا للغم الاول اي غما متصلا و شديدا و منشأ الشدة توارد الهموم عليهم، فالغم الاول هو غم الهزيمة و الثاني غم الندامة و الحسرة و ذلك شايع في كل مقاتل انهزم حيث يتوارد عليه الغموم. و هناك وجوه اخرى ذكرها المفسرون لا طائل في ذكرها و الخدشة فيها.

و كيف كان فيكون تفريع هذه الآية المباركة على الآية السابقة من قبيل ترتب المسبب على السبب، فان الاختلاف، و عدم الاعتناء بقول الرسول (صلى اللّه عليه و آله) اقتضى ان يقعوا في غم و لكن اللّه سبحانه و تعالى تفضل عليهم بان جعل هذا الغم مقابل الغم الذي أوقعه على المشركين، فتكون هذه الجملة مبينة لجهات فضله تعالى عليهم كما بينه عز و جل في الآية اللاحقة أيضا.

ص: 411

قوله تعالى: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ .

بيان لقوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ» و هو عدم الحزن على ما فاتكم من الظفر بعدوكم و النصر التام عليه أو الغنيمة و الغلبة.

قوله تعالى: وَ لا ما أَصابَكُمْ .

بسبب إثم المخالفة و العصيان فانه كان لهما الأثر الكبير في الانكسار و الهزيمة و الخوف و الرعب. و المعنى: ان اللّه تعالى أثابكم غما بغم لأجل التسلية و عدم تراكم الغموم عليكم و لأجل ان تذهلوا عن الحزن الذي أصابكم من الهزيمة و غلبة العدو، و هذه حكمة الهية يختبر بها عباده المؤمنين و يعلمهم الصبر في الشدائد و يرزقهم الثبات في الايمان و للتمييز بين المؤمن و المنافق و لتكميل الفضائل و مكارم الأخلاق و هي سنة الهية قال تعالى: «ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيرٌ لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ» الحديد - 23.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

اي و اللّه لا يخفى عليه أعمالكم و نياتكم و هو محيط بكم و قادر على مجازاتكم.

و الخبير: من اسماء اللّه الحسنى و هو بمعنى العليم و لكن العلم إذا أضيف إلى الأمور الخفية سمى خبرة و كان صاحبها خبيرا.

و في الآية المباركة الترغيب في الطاعة و الزجر عن المعصية.

ص: 412

قوله تعالى: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ .

الغم معروف و هو حالة تعرض على الإنسان عند المصائب و الحزن و مادة غمم تدل على الستر و الخفاء فكأن هذه الحالة تستر الفرح و السرور و تخفي أسارير الوجه و تضيق الصدر.

و الأمنة بالتحريك مصدر، كالمنعة و هو بمعنى الأمن و في حديث نزول المسيح بعد ظهور الحجة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف):

«و تقع الأمنة في الأرض» اي تمتلئ الأرض بالأمن فلا يخاف احد من الناس و الحيوان.

و النعاس ما يتقدم على النوم من فتور و يظهر اثره على العين ابتداء و هو بدل اشتمال من أمنة الذي هو مفعول «انزل» و قيل غير ذلك في اعرابهما. و الغشيان الاحاطة.

و المعنى: ان اللّه تبارك و تعالى رأفة بكم أنزل عليكم من بعد الغم الذي أصابكم ما يشغلكم عن خوفكم و يغفلكم عن ذلك الغم بأن سلط عليكم النعاس الذي أصاب طائفة منكم و أحاط بهم و كانت هذه الحالة بمنزلة الأمن لكم. و هذه الطائفة هي التي اصابها الغم الشديد و تراكم عليهم من عدة وجوه كالخوف من اللّه تعالى و غم المخالفة و غم الهزيمة و غم الندم على الذنب، و كانت هذه نعمة كبرى عليهم و سكينة إلهية و عناية خاصة بهم في هذه الحالة التي سلبت عنهم لبهم و ازداد غمهم فكان النعاس لهم راحة للأجسام بعد الضعف و الفتور، و اطمينان للقلب الذي اصابه الغم و التسليم لقضاء اللّه و قدره. و هؤلاء هم الذين رجعوا إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و احتفوا به و نصروه.

ص: 413

قوله تعالى: وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ .

اي و طائفة اخرى مقابل الطائفة الاولى الذين لم يكونوا أهلا لهذه المنحة الربانية و اللطف الالهي بهم فلم يكن لهم هم الاحفظ أنفسهم و حطام الدنيا فلم يهتموا بحفظ النبي (صلى اللّه عليه و آله) و دين الحق بشيء أصلا. و انما كان شغلهم الشاغل أنفسهم لما اعتراهم الخوف و هم الضعفاء في الايمان الذين لم يثقوا بوعد اللّه تعالى و لم يرسخ الايمان في قلوبهم يميلون مع كل ريح. و لا تختص هذه الطائفة بخصوص المنافقين كما ذكره بعض المفسرين بل يجرى في كل من كان ضعيف الايمان.

و يستفاد من الآية الشريفة شدة الخوف و استيلائه عليهم بحيث سلب النعاس عنهم فلم يكن لهم همّ الا نجاة أنفسهم فيكون المراد بالنعاس في الآية السابقة النوم الطبيعي الذي يعرض على الإنسان و يوجب الراحة في الجملة له و كان ذلك بفضل اللّه تعالى عليهم و الندم على ما فعلوه بحيث حصل لهم الطمأنينة بوعد اللّه عز و جل.

قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ .

بيان لقوله تعالى: «قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» لان شغل اهل الجاهلية لم يكن إلا الاهتمام بالنفس و حفظها فقط فلا محالة تنتفي عنهم الثقة باللّه تعالى و تعرض جهات الخوف على النفس فيظنون باللّه ظنا باطلا كظن اهل الجاهلية، و المراد بالظن هنا الاعتقاد، و سيأتي في الآيات اللاحقة ذكر بعض ما اعتقدوه كقوله تعالى: حكاية عنهم: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» و قوله تعالى: «هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ» .

و من الظنون الباطلة ان من آمن باللّه تعالى لا بد ان يحفظ من جميع انواع البلايا و يسعد في الدنيا لفرض انه على دين الحق و هو لا يغلب.

ص: 414

و هذا الظن باطل لان الايمان به تعالى لا بد و ان يجري على المجرى الطبيعي، و قد حكى عز و جل في ما تقدم من الآيات ابتلاء المؤمنين و اختبارهم و تمحيصهم، و لا يخرج كل ذلك عن قانون الأسباب و المسببات. نعم للّه تعالى عنايات خاصة لهم يظهر أثرها بين حين و آخر حتى تظهر دولة الحق.

قوله تعالى: يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ .

بيان لظنهم الباطل و هذا القول سواء كان خطابا للرسول (صلى اللّه عليه و آله) أو كان في ما بينهم. و يحتمل ان يكون القول بمعنى الاعتقاد اي يتردّدون في اعتقادهم و هو يكشف عن عدم ثبات الايمان في قلوبهم و تشكيكهم في الدين و استحكام روح الشرك و الكفر.

و الاستفهام انكاري، و المراد من الأمر إما الحق أو النصر و الظفر أو ان الأمر هنا هو الأمر في قوله تعالى: «لَيْسَ لَكَ مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ» الذي يكشف سبحانه فيه حقيقة الدين و هي ان العبد مطلقا لا يملك من الأمر شيئا سوى التسليم لأمر اللّه تعالى و هو المؤثر فقط إلا انه اقتضت حكمته ان تجري الأمور بأسبابها.

و المعنى: انهم يقولون ليس لنا من الحق أو النصر و الظفر نصيب و اللّه تعالى لا ينصر رسوله كما نصره في بدر و ذلك لأنهم اعتقدوا ان الدين و النصر متلازمان و لم يعلموا ان اللّه تعالى جعل الأمر مداولة بين الناس و اختبارا للمؤمنين و تمحيصا لهم.

قوله تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ .

خطاب للرسول الكريم بالتبليغ لهم لأنه واسطة الفيض بان ازمة الأمور كلها بيده عز و جل و تجري الأمور وفق سنة محكمة متقنة بها

ص: 415

انتظم نظام الدنيا و الآخرة و سينصر اللّه تبارك و تعالى المؤمنين المتقين على ما يشاء و يريد دون ما يعتقدون.

قوله تعالى: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ .

تأكيد لظنهم الباطل و توصيف لهم بأشد مما وصفهم أولا، و هم يضمرون امرا لا يبدونه لك لرسوخ النفاق و الشقاق فيهم كما كانوا في الجاهلية.

اي: و ان أظهروا ظنهم الباطل في صورة السؤال و كان ذلك كاشفا عن شكهم و عدم ثبات ايمانهم إلا انهم يضمرون في أنفسهم اكثر من ذلك فهم يكذبون الحقيقة و ينكرون الحق و يكفرون بالدين و لكنهم لا يبدونه لك.

قوله تعالى: يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا .

اي: يقولون في أنفسهم أو في ما بينهم أو يعتقدون ذلك دون ان يبدونه للنبي لأنه يشتمل على الكفر، و هذا القول يحتوي على الإنكار في صورة البرهان بزعمهم و هو لو كان الأمر لنا كما وعد به رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما وقع القتل فينا و انما قالوا ذلك زعما منهم بأنهم مهما كانوا من اصحاب النبي (صلى اللّه عليه و آله) بأي اعتقاد كانوا ينصرهم اللّه تعالى و هم غافلون عن حقيقة الدين و قد امر اللّه تعالى نبيه الكريم ببيان الأمر لهم.

قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ .

البروز: الظهور و البراز الصحراء و الأرض المستوية. و المضاجع

ص: 416

جمع المضجع و هو في المقام المصرع الذي قدر القتل فيه.

أي: قل لهم يا محمد جوابا عما أخبره اللّه تعالى بما هو مكنون في قلوبهم و ما يعتقدونه ان القتل تابع للتقدير و القضاء ابتلاء للمؤمنين و تمحيصا لهم و تمييزا بين الصابر المجاهد و المنافق الكاذب فإذا تعلقت ارادته بموت أحد لخرج بسبب من الأسباب من بيته إلى مضجعه فيلقى مصرعه من دون دخل ارادته فيفوز السعيد و يشقى الشقي و يستفاد من الآية الشريفة امور:

الاول: ابطال زعمهم بأن الحق لا بد ان لا يغلب و ان المؤمن لا بد ان يكون حليفه النصر دائما فان مقادير الأمور و تدبيراتها كلها بيد اللّه عز و جل و ان النصر و الظفر كسائر الأمور انما تدخل تحت سنة الهية و هي جريان الأمور بأسبابها.

الثاني: ان من قتل في المعركة انما كان بتقدير اللّه تعالى و قضائه و ليس قتله كان لأجل عدم كونه على الحق و عدم الأمر له، بل لان القضاء الالهي إذا تعلق بذلك فلا راد لقضائه و لا مناص من وقوعه فلو لم يخرج احد من بيته لبرز من تعلق قضاؤه بمصرعه إلى مضجعه بل لو لم يخرجوا إلى القتل و كتب اللّه عليهم القتل و الموت لماتوا و قتلوا و هم في بيوتهم لفرض تعلق القضاء و القدر بذلك.

الثالث: ان تلك سنة إلهية محكمة تتعلق بالإنسان لأجل الاختبار و الامتحان و التمحيص و تمييز الحق عن الباطل.

قوله تعالى: وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ .

بيان لإحدى وجوه الحكمة في ما حل بهم. و الواو هنا مقحمة و يحتمل ان يكون حرف عطف على غاية مقدرة.

ص: 417

اي: ان كل ذلك يقع لأجل اختبار اللّه تعالى ما في قلوبكم بذلك و ليظهر مكنونها من الطاعة و النفاق.

قوله تعالى: وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ .

اي: و لأجل تخليص ما فيها من سوء الاعتقاد و وساوس الشيطان و يطهرها من النفاق و الشرك و تمييز المؤمن الصابر المجاهد الثابت و اظهار ما في قلبه من النيات الحسنة و مكارم الصفات عن غيره.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

لإحاطته القيوميّة بجميع الممكنات إيجادا و إبقاء و إفناء و لا يعقل تلك الاحاطة إلا بالاحاطة العلمية. و اللّه عليم بنياتهم و مكنونات ضمائرهم و في الآية الشريفة التحذير عن سوء النية و مخالفة الفعل للنية.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ إِنَّمَا اِسْتَزَلَّهُمُ اَلشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا .

المراد من الذين تولوا هم الذين انهزموا من المعركة و فروا من أماكنهم إلى الجبال و غيرها كما حكى عنهم عز و جل في الآيات السابقة «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ» .

و المراد بالجمعين: هما جمع المؤمنين و جمع المشركين لما التقيا في يوم أحد.

و الاستزلال: هو الوقوع في الزلل الذي هو الخطيئة و الانحراف و يستفاد من هذه الكلمة الوقوع في الذنب تدريجا قال الراغب:

«استجرهم الشيطان حتى زلوا فان الخطيئة الصغيرة إذا ترخص الإنسان فيها تصير مسهلة لسبيل الشيطان على نفسه» و في الحديث:

ص: 418

«فازله الشيطان فلحق بالكفار».

و المعنى: ان الذين انهزموا و ولّوا الدبر من المعركة يوم التقى الجمعان في أحد انما أوقعهم الشيطان في تلك الخطيئة الكبيرة و هي الهزيمة و الاعراض عن الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) بسبب انقيادهم للشيطان بما كسبوه من سوء النية و السيئات التي سهلت لهم الوقوع في الذنب الكبير و كان ذلك سببا في تمكين الشيطان ان يغويهم و يزلهم و يوقعهم في الهلكة. و ذلك لان الإنسان إذا اقترف الإثم و الخطيئة تأثرت نفسه و هانت عليها فتميل إلى اكتساب الخطيئة و تندرج من الصغيرة إلى الكبيرة، فان الذنب يجر الذنب و يدعوا إلى الخطيئة و ارتكاب الآثام.

و من ذلك يستفاد ان الباء في «ببعض ما كسبوا» هي للسببية فيكون الكسب متقدما على الاستزلال و الوقوع في الذنب العظيم و هو التولي.

و قيل ان الباء للآلة اي: ان الزلل الذي أوقعهم الشيطان فيه و دعاهم اليه هو التولي فيتحد ما كسبوا و التولي. و لكنه بعيد عن ظاهر الآية الشريفة.

و مما يهون الخطب ان التولي لم يكن حدثا آنيا بل كانت له مقدمات أوجبت هذه النتيجة المذلة و هذه المقدمات هي بعض ما كسبوا فحينئذ لا فرق بين ان تكون الباء للسببية أو للآلة.

و انما ذكر عز و جل بعض ما كسبوا دون الجميع إما لان في كسبهم ما هو طاعة للّه عز و جل أو لان العقوبة انما كانت ببعض ما كسبوا دون الجميع فإنها تستدعى ان تكون اكبر إلا ان اللّه تعالى منّ عليهم بالعفو عن كثير.

ص: 419

قوله تعالى: وَ لَقَدْ عَفَا اَللّهُ عَنْهُمْ .

اي: لقد عفى عن جميع المؤمنين الذين حضروا في أحد و المنهزمين و من تولوا عن الجهاد ببركة الرسول الكريم و ما اظهروه من الندم و انما كانت عقوبة الهزيمة للاختبار و التمحيص و تربيتهم تربية عمليا.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ .

الجملة في موضع التعليل لما تقدم اي عفا عنهم لأنه غفور لجميع الذنوب و من يحسن التوبة حليم لا يعجل بالعقوبة.

ثم إن المنساق من الآيات الشريفة ان هذه الطائفة هم ضعفاء المؤمنين الذين لم يثبت الايمان في قلوبهم و لم يترسخ الدين في نفوسهم فلم تطهر قلوبهم من رذائل الجاهلية فظنوا باللّه الظنون الباطلة و ابدوا بعض ما في صدورهم و اخفوا الكثير منه على ما حكى عنهم عز و جل. و لا يقدح ان يكون بعضهم من المنافقين الذين كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر و هم لا يعتقدون باللّه العظيم لا ان يظنون به الظن الباطل و سيذكرهم اللّه تعالى في الآيات التالية.

هذا و لكن المعروف بين جمهور المفسرين ان المراد بهؤلاء هم المنافقون الذين كانت تهمهم أنفسهم و يظنون باللّه ظن الجاهلية و يخفون ما في أنفسهم من الكفر و لكنهم يعتذرون بألسنتهم عن أنفسهم احتجاجا على النبي (صلى اللّه عليه و آله).

و فيه ان المنساق من الآيات المباركة غير هؤلاء فان الخطاب للمؤمنين و ارجاعه إلى المنافقين يستلزم التفكيك في الآيات الشريفة و هذا ينافي بلاغة القرآن الكريم مضافا إلى ان الكلام في المنافقين يأتي في ما بعد. و لكن ذكرنا آنفا انه لا ينافي ان يتفق هؤلاء الذين وصفهم

ص: 420

اللّه تعالى بأوصاف تدل على ضعف العقيدة و الايمان باللّه تعالى مع المنافقين في بعض الأقوال و الأفعال.

و لا ينقضي العجب من بعض المفسرين حيث احتمل ان يكون الخطاب للمؤمنين و ان اللّه تعالى يحكي عن كمال ايمانهم و ثقتهم بان الأمور كلها بيده عز و جل و تحت مشيته و انهم كانوا يظنون ان النصر و الظفر لهم كما كان في بدر.

و بطلان هذا الاحتمال أوضح من ان يخفى فانه لو كان الأمر كذلك فكيف يجعله تعالى من الظنون الجاهلية التي ذكرها عز و جل في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى: «سَيَقُولُ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اَللّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ اَلظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاّ تَخْرُصُونَ» الانعام - 148 و احتمال ورود مثل هذه الآيات في المخلصين من المؤمنين و من رسخ الايمان في قلوبهم بعيد عن ادب القرآن بالنسبة إليهم.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ» ان اللّه تعالى وعد المؤمنين وعدا حسنا بالنصر و الظفر، و قد تكرر في القرآن الكريم ذكره و وعد به النبي (صلى اللّه عليه و آله) أصحابه في عدة

ص: 421

منها في الآيات السابقة و هي الطاعة و الثبات، و الصبر و الاستقامة فإذا تحققت تلك الشروط فلا محالة ينزل الفيض الالهي و الإمداد الربوي و على قدر الخلوص و الإخلاص يتقدر الجزاء و الفيض كما يدل عليه قوله تعالى: «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلْآخِرَةَ» و يؤكد ذلك نصر المؤمنين و هزيمة المشركين أول الأمر و قتل المسلمين لهم قتلا ذريعا حتى أجلوهم عن مواقعهم و أخرجوهم عن ميدان المعركة، و توقف الإمداد الربوي عند ما ظهر الفشل و العصيان. فظهر صدق وعده عز و جل و تبين ان الإمداد كان محدودا بحد معين و هو تحقق الشروط و ما عدى ذلك لا يستحقون العناية الخاصة و يكفي ذلك عبرة للمؤمنين و درسا لهم يجعلونه محط نظرهم و موعظة لهم يستفيدون منها في المواقع الحرجة إلى يوم الحشر.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ» كمال العناية بالمؤمنين و ان اللّه تعالى قد اذن لهم بقتل المشركين و أمدهم بعناياته الخاصة مع قلة عددهم و عدتهم و لم يكلهم إلى أنفسهم.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ» على ان العناية الخاصة التي منحها عز و جل لهم انما كانت لأجل غاية حميدة و هي التربية تربية حقيقية واقعية، فان الإسلام قد اهتم بهذه الجهة اهتماما بليغا حتى جعلها عز و جل من جملة غايات بعث الرسل و الأنبياء قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ» الجمعة - 2 و من سنن هذه التربية اسناد بعض الأمور اليه عز و جل لأنه تعالى ولي المؤمنين يؤيدهم بنصره و اسناد بعضها الآخر إلى أنفسهم قال تعالى: «ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ» باعتبار تحقق

ص: 422

الأسباب الداعية إلى تحقق المسببات من عند أنفسهم، فان قانون الأسباب و المسببات يدعو إلى ذلك ثم يأتي العفو و الغفران و هذه هي التربية العلمية و فيها الفضل الكبير على المؤمنين، و لذا ختم عز و جل هذه الآيات بقوله «وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ» و قد ظهر اثر هذه التربية في عدة مواطن بعد أحد، و نرجو ان يهتم المسلمون لهذه الجهة حتى يظهر اثر فضل اللّه عليهم.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ» على شدة الابتلاء و عظم المعصية فإنهم بسبب الفشل و العصيان اعدوا لأنفسهم هذه الهزيمة التي أثرت في نفوسهم و كابدوا مرارتها برهة من الزمن و تعرضوا للنكاية بها، و يستفاد من الآية الشريفة عظم الهزيمة فقد تفرقوا في كل وجه حتى انهم خرجوا عن موقع القتال، لشدة الدهشة و الذعر الكبير الذي حل بهم فلم يبالوا بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) و هو واسطة الفيض و كان يجب عليهم ان يتأسوا به (صلى اللّه عليه و آله) و يبقوا معه في موقع القتال و كان عليهم الصبر و فيهم واسطة الفيض.

و في ذكر الرسول في الآية الشريفة كمال التقريع و العتاب لهم و لذا كانت النكاية كثيرة حيث جازاهم اللّه تعالى بالغم الشديد الذي بقي اثره في نفوسهم و استمر زمانا و يكفي في ذلك انه نزل فيهم التقريع و التوبيخ الربوبي و لم يأمنوا من العذاب بعد ما كانوا مطمئنين منه، و يدل على ذلك قوله تعالى: «وَ اَللّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ» فانه يدل على اضطراب أحوالهم و عدم استقرارهم فإنهم كانوا يلتمسون الاعذار لما فعلوه و لم يعاقبهم عز و جل لان فيهم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله).

و الآية المباركة تدل على ان عدم اعتنائهم بدعوة الرسول (ص)

ص: 423

إلى الثبات و المقاومة لشيوع خبر قتله و انتشاره بينهم.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ» على ان للمعاصي و الذنوب آثارا خاصة تؤثر في النفس و توجب الهموم و الغموم و ان لكل ذنب الأثر الخاص به كما ستعرف.

السادس:

يدل قوله تعالى: «ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ اَلْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً» على ان نزول النعاس كان معجزة خاصة للطائفة المؤمنة و ان اللّه تعالى اظهر قدرته و عنايته بهم في إنزال ما يوجب السكون و الطمأنينة و الأمن في حال تقتضي الحركة و الاضطراب و لا يتصور فيها السكون فضلا عن النعاس فالمعجزة تظهر في جعل الفائدة و الأثر في الأمر المضاد لتلك الحالة ظاهرا.

و يمكن ان يكون المراد من النعاس حالة الراحة و الاسترخاء و السكون الموجبة للأمن. و المعروف انه كان المؤمن منهم بعد إنزال النعاس ينام حتى تحت ترسه كأنه آمن بخلاف غيره فانه أهمتهم أنفسهم فلم يكرمهم اللّه تعالى بهذه المكرمة. و نظير هذه النعمة نزلت في غزوة بدر قال تعالى: «إِذْ يُغَشِّيكُمُ اَلنُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ» الأنفال - 12 إلا ان الفرق بينهما ان في أحد كانوا أحوج إلى الأمن من يوم بدر لشدة الدهشة و الذعر فاقتضى تقديم الأمن في هذه الآية المباركة بخلاف غزوة بدر فابدل اللّه تعالى حالة الذعر و الخوف إلى حالة الأمنة و الطمأنينة.

السابع:

ترشد الآية الكريمة «وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ» إلى ان في كل أمة طائفتان الأقوياء في الايمان الثابتون فيه المعتقدون بحدوده و أحكامه العاملون بها الذين قد فوضوا أمرهم إلى اللّه تعالى فمنحهم سعادة الدنيا و الآخرة. و الطائفة الثانية هم الضعفاء في الايمان الذين يعتقدون ان مجرد الانتساب إلى الدين و انتحال اسمه يكفي في فوزهم

ص: 424

بكل ما وعده اللّه تعالى في الدنيا و الآخرة و قد جعلوا اسم الدين سبيلا لنيل مقاصدهم يستدرون به حيث ما درت معايشهم، و إذا لم يسعدهم الحظ انقلبوا على أعقابهم، و قد وصفهم اللّه تعالى بأوصاف بعضها ترجع إلى عقيدتهم و نفوسهم المريضة و هي الظن باللّه تعالى الظنون الباطلة كالشك و إضمار ان اللّه تعالى و كل إليهم امر النصر و وعدهم الظفر و هو لا يرضى بظهور أعدائه. و قد أبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم و اظهر عقائدهم الفاسدة و لا تختص الآية المباركة بعصر النزول بل انها جارية إلى يوم القيامة.

الثامن:

يتضمن قوله تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ» دستورا الهيا و حقيقة من الحقائق الواقعية التي يشهدها الإنسان في الحياة و هي ان كل امر في هذا النظام الكياني يجري تحت ارادته و مشيته و وفق قانون محكم و سنة منتظمة لا يمكن التخلف عنها فان اللّه تعالى خالق كل شيء و بيده ملكوت كل شيء و خلقه انما يكون تحت ارادة حكيمة و وفق تدبير ربوبي، و الاعتقاد بهذا الأمر يخفف عن الإنسان كثيرا من الهموم و يذلل له جملة من الصعاب و قد ذكر سبحانه و تعالى هذه الحقيقة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم و جعلها من جملة الأمور التي يجب على المؤمن الاعتقاد بها و في الآيات التالية يبين عز و جل بعض مظاهر هذه الحقيقة.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِيَبْتَلِيَ اَللّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ» ان الابتلاء و الاختبار و التمحيص من غايات قتل من يبرز إلى مضجعه بارادة اللّه تعالى و مشيته، فان ذلك سنة لا يمكن التخلف عنها. و ان السعادة و الشقاوة لا تظهران إلا بهذه السنة الإلهية. و قد ذكر عز و جل في المقام ان الابتلاء انما كان لإظهار

ص: 425

ما في الصدور و تمحيص ما في القلوب.

و قد اطلق سبحانه في الآية المتقدمة «وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ» لان المقام اظهار لما في القلوب بعد ما ان ظنوا باللّه الظنون الباطلة و ما اضمروا في أنفسهم اكثر مما أبدوه بأفواههم بخلاف الآية المتقدمة.

و لا يدل قوله تعالى: «قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ» بشيء من الدلالات على الجبر كما يدعيه بعض فانه بمعزل عن ذلك و الآية المباركة في مقام بيان كون الأمر كله بيد اللّه تعالى و لا ينافي ذلك تطبيقه على قانون الأسباب و المسببات.

العاشر:

يدل قوله تعالى: «بِبَعْضِ ما كَسَبُوا» على ان المصائب و المتاعب التي تعرض عليهم سواء الفردية منها أو الاجتماعية انما هي آثار طبيعية لبعض أعمالهم، و ان لكل ذنب أثره الخاص به و تترتب عليه عقوبة خاصة، و تترك الذنوب و المعاصي آثارا خاصة في النفس و تكدر صفائها و هذا ما يؤكده جلّ شأنه في القرآن الكريم قال تعالى:

«وَ لَوْ يُؤاخِذُ اَللّهُ اَلنّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً» الفاطر - 45 و توجب تلك الآثار بعدها عن بارئها حسب كبر الذنب و صغره و شدته و ضعفه إلا إذا انمحت بالتوبة فيعفو اللّه تعالى عنها و يمحي آثارها.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ» ان الغفران سبب العفو فان اللّه تعالى يستر الذنب ظاهرا ثم يمحي اثره عن النفس و هما يزيلان المانع و يرفعان المنافي المضاد في رضوان اللّه تعالى و اطلاق قوله سبحانه يشمل جميع الآثار الوضعية و التشريعية اي يرفع العقاب و ما يمنع السعادة و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام.

ص: 426

بحث روائي

في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ..» الآية -» قال محمد بن كعب القرظي: «لما رجع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة و قد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال ناس من أصحابه: من اين أصابنا هذا و قد وعدنا اللّه تعالى نصره؟ فانزل اللّه عز و جل: «وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اَللّهُ وَعْدَهُ» - إلى قوله جل شأنه - «مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ اَلدُّنْيا» يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد».

أقول: على فرض صحة الرواية انها من باب التطبيق و اللّه العالم.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كان.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ (158) الآيات الشريفة تبين جانب آخر من جوانب غزوة أحد و هو ما ظهر من بعضهم من الأسف و التحسر على الذين قتلوا فيها، و كان

ص: 427

السابقة، فقد ظنوا ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) هو الذي أوردهم إلى هذه المهلكة و حذرهم سبحانه و تعالى ان مثل هذا الظن الذي من وساوس الشيطان هو الذي استزلهم و أوردهم المهالك و أفسد قلوبهم.

و يبين سبحانه و تعالى ان الحياة و الموت أمران طبيعيان داخلان تحت ارادته و مشيته و الجميع يحشرون اليه تعالى و الغاية التي لا بد للإنسان في كفاحه و جهاده من ابتغائها هي المغفرة و الرحمة و هي الخير الذي يبتغيه كل عاقل.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا .

بيان الهي يرشد المؤمنين إلى التخلي عن اتخاذ الكافرين قدوة يحتذي بهم في الأقوال و الأفعال و الاعتقاد، فان الكافر جاهل بحقيقة الدين و لا يعتقد الاعتقاد الحق فان مما اعتقده انه ينسب الحوادث و الظواهر الكونية إلى اسبابها العادية فقط و إلى الصدقة دون الالتزام باستنادها إلى اللّه تعالى و تصرفه في العالم و ان الأمور تجري بإرادته و مشيته و تقديره و قضائه. و من المعلوم ان الاعتقاد الباطل يفضي بصاحبه إلى الخسران و الشقاوة، و قد نهى عز و جل المؤمنين ان يكونوا مثلهم في الجهل و الخسران.

و المراد بالذين كفروا كل من يعتقد خلاف الحق سواء كان من المنافقين أم غيرهم. و قيل ان المراد بهم في المقام خصوص المنافقين و لكنه تخصيص بلا دليل مع ان الظاهر من الخطاب هو الأعم، و اما

ص: 428

المنافقون فسيأتي ذكرهم في ما بعد قال تعالى حكاية عنهم «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» و لكن قد يتحد المنافقون مع الكافرين في كثير من الأمور.

قوله تعالى: وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى .

بيان لمظهر من مظاهر الاعتقاد الباطل للكافرين. و الضرب في الأرض كناية عن السعي إما للتجارة أو طلبا للمعاش أو لأغراض اخرى قال تعالى: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ» النساء - 101 يقال: «ضربت الطير» ذهبت تبتغي الرزق، كما يقال: «ضرب يعسوب الدين بذنبه» اي اسرع الذهاب في الأرض فرارا من الفتن.

و غزى جمع غاز كعاف و عفى و شاهد و شهد و طالب و طلب.

و اللام في «لإخوانهم» للشأن اي في شأنهم أو تعليلية اي لأجلهم.

و المعنى: و قال الكافرون في شأن إخوانهم في الدين أو في النسب إذا ضربوا في الأرض سفرا عاديا أو كانوا غزاة فمات بعضهم أو قتل.

و انما قال عز و جل «إِذا ضَرَبُوا» دون (إذ) حكاية للحال فيفرض وجود ذلك في النفس. و بعبارة اخرى: ان القضية حقيقية لا تتقيد بزمن معين و (إذ) يستعمل في الظرف إذا كان وقتا شخصيا.

قوله تعالى: لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا .

اي: كان من اعتقادهم الباطل انهم قالوا لو كانوا مقيمين عندنا و لم يسافروا و لم يغزوا ما ماتوا و ما قتلوا. و هذا من سوء الرأي و يدل على جهل قائله بحقيقة الدين فان مقادير الأمور تحت مشية اللّه تعالى و قضائه و قدره

ص: 429

كما بين عز و جل ذلك في الآيات السابقة قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ» و ان موت كل فرد انما يكون باذن اللّه عز و جل قال تعالى:

«وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً» آل عمران - 145 و غير ذلك من الآيات الشريفة الدالة على ذلك، و ان القضاء و القدر و ايكال الأمر إليهما اصل من اصول الدين. و يكفي في بطلان قولهم و مخالفته للعقل انهم يعتقدون ان من مات أو قتل فقد ختم حياته و انتهى أمره كما تدل عليه كلمة «لو» في قوله تعالى «لَوْ كانُوا» الدالة على امتناع موتهم أو قتلهم عند حضورهم لديهم و لكنهم غافلون عن حقيقة الأمر.

قوله تعالى: لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ .

اي: ان قولهم و اعتقادهم انما يبعث في نفوسهم الحسرة و اللام للعاقبة.

يعني: تكون عاقبة اعتقادهم الحسرة و الندامة فيعذبون بهما، و الجملة من قبيل وضع الغاية موضع المغيى، فإنهم يتألمون كل ما يفكرون في أمواتهم قتلا أو غيره و يتحسرون عليهم و يتأسفون و يقولون لما ذا تركناهم يسافرون أو يغزون، و لم ندفع عنهم السوء فيزيدهم ضعفا و يورثهم ندما و حسرة.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ .

رد لمزاعمهم الباطلة و بيان لحقيقة الأمر التي لا بد من الاعتقاد بها و هي ان اللّه تعالى بيده امر الحياة و الموت و هما من الأمور المختصة به عز و جل وحده فيحيي من يشاء من عباده و يميت من يشاء بمقتضى قواعد و سنن خاصة لا يعلمها إلا هو لان اسرار القضاء و القدر في التكوينيات مما لا يمكن للعقل الاحاطة بها فإذا تحقق مؤثرهما فلا محالة تقع الحياة أو الموت

ص: 430

و لا راد لقضائه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ .

اي: لا يخفى على اللّه تعالى ما تعملون فلا تكونوا ايها المؤمنون مثل الذين كفروا في الاعتقاد و العمل، و في الآية الشريفة كمال الترهيب عن المعصية و الترغيب في الطاعة، و التهديد للمؤمنين عن المماثلة مع الكفار فليتقوا اللّه في تركها. و الآية المباركة صريحة في ان اللّه تعالى يعلم الجزئيات و يراها.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ .

حكمة اخرى من وجوه الحكم في النهي عن المماثلة للكفار في الأقوال و الأعمال و الاعتقاد، و هي ان عمدة ما يبتغيه الإنسان في كفاحه في هذه الحياة الدنيا هو ما يجمعه من المال و المتاع اللذين بهما يقضى مآربه و يحقق آماله و مقاصده و يمضي بهما شهواته و ما عند اللّه تعالى أعظم و اكبر من ذلك و هو الخير الذي لا بد من السعي في ابتغائه و نيله.

و السبيل الذي يصل الى اللّه عز و جل هو القتل في سبيل اللّه أو الموت في رضاء اللّه تعالى كالموت على الايمان و الأعمال الصالحة فان ذلك هو الفوز العظيم و ما سواه ضئيل لا بد ان لا يعتنى به.

قوله تعالى: لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ .

اي: يكون اجركم على اللّه تعالى و هو مغفرة من اللّه تمحى بها الذنوب و رحمة ينال بها رضوان اللّه تعالى و ترتفع بها الدرجات و هما خير مما يجمعه الإنسان من حطام الدنيا.

و انما قدم القتل في سبيل اللّه على الموت لان القتل اقرب إلى

ص: 431

المغفرة و الرحمة، و للترغيب اليه، و التعريض بمن كان يثبط المؤمنين عنه و الرد على الكفار.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ .

بيان للواقع الذي عليه الإنسان في الدنيا و الآخرة، و هو ان أي فرد من أفراد الإنسان بأي سبب كان هلاكه سواء كان بالموت أو القتل لا بد ان يحشر إلى اللّه تعالى وحده فيحاسبه على اعماله و يجازيه بها ان خيرا فخير و ان شرا فشر، و عليه تعالى يقدم الإنسان فيوفيهم أجورهم وعدا مؤكدا عليه.

و انما قدم الموت على القتل لان الاول أعم من الثاني و اكثر فناسب الترتيب الطبيعي بخلاف الآية السابقة.

بحوث المقام
بحث ادبي:

تقدم ان «غزىّ» جمع نادر في المعتل و هو خبر (كانوا) منصوب بفتحة مقدرة على الالف المنقلبة عن الواو المحذوفة لالتقاء الساكنين لان أصله (غزوا) فتحركت الواو و انفتح ما قبلها فقلبت الفا ثم حذفت، و قرئ بتخفيف الزاي.

و انما أتى عز و جل بجمع القلة للاشارة إلى انه لا بد من ترك ذلك و التقليل منه إذا لم يكن في سبيل اللّه تعالى.

ص: 432

و الواو في قوله تعالى: «وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ» للحال كما ان اللام في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ» موطئة للقسم، و ان اللام في قوله تعالى: «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ» واقعة في جواب القسم، و جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه.

و التنوين في «لَمَغْفِرَةٌ و رَحْمَةٌ» للتنكير، و لبيان عدم حد للمغفرة و الرحمة، و ليذهب ذهن المخاطب إلى اي مذهب ممكن و قرأ الجمهور (متم) بالكسر من مات يمات مثل خفتم من خاف يخاف، و قرأ بعضهم بضم الميم من مات يموت مثل كنتم من كان يكون.

بحث دلالي
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الاول:

الآية الشريفة «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا» تؤكد مضمون الآيات السابقة، و تضع حدا فاصلا بين الأقاويل الكاذبة و ما هو الحق، و تبين للمؤمنين ما يجب الاعتقاد به لا سيما في الظروف الصعبة التي لا بد من أخذ الحيطة و الحذر من المنافقين و التمسك بتعاليم الإسلام و لدفع كيدهم.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا» انما قالوا ذلك تثبيطا لمن بقي من إخوانهم لئلا يلحقوا بالمؤمنين حتى لا يصيبهم ما أصاب السابقين فيموتوا او يقتلوا فهم كانوا يعتقدون امتناع موت إخوانهم أو قتلهم عند حضورهم لديهم فكأنهم العلة في حفظهم، و هدا نحو من الشرك.

ص: 433

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ» ان بعض الاعتقادات الفاسدة توجب الحسرة في الحال أو في المآل، و يمكن ان يكون إشارة إلى ان عمل المؤمنين بالتعاليم الإلهية و الاحكام الشرعية يوجب الحسرة في قلوب الأعداء لأنهم يرون ان العمل بها لا يزيد المؤمنين الا ثباتا و شدة في جنب اللّه تعالى و هذا مما يزيد في حزنهم و ندامتهم و هم يريدون عكس ذلك فان الايمان لا يزيد صاحبه إلا تسليما و ثباتا و استقامة و ارتفاعا لمقامهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» ان جميع ما يحتمله الإنسان نافعا في دفع المكروه عنه هو من مجرد الظن لا يغير الواقع عما هو عليه و ان الأمر بيد اللّه تعالى يجريه بمقتضى قانون الأسباب و المسببات، و اللّه يعلم ما في الضمائر فقد يخيب آمال الإنسان جزاء لاعتقاده الفاسد فلا بد من تسليم الأمر اليه عز و جل و طلب العون منه.

الخامس:

يستفاد من الترديد في قوله تعالى: «لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رَحْمَةٌ» اختلاف مقامات العاملين فمنهم من يكون عمله هباء منثورا لأجل شركه أو كفره و منهم من يعمل لثواب الدنيا و منهم من يعمل لثواب الآخرة بحسب مراتبه الكثيرة.

السادس:

يستفاد من إطلاقه قوله تعالى: «لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ» بروز الأعمال حينئذ فيحشر كل احد مع عمله و يجازى به كما مر.

ص: 434

بحث روائي

في تفسير العياشي عن جابر عن أبى جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوْ مُتُّمْ» قال (ع): «يا جابر أ تدري ما سبيل اللّه؟ قال: لا أعلم إلا ان اسمعه منك قال (ع):

سبيل اللّه علي و ذريته (عليهم السلام) و من قتل في ولايتهم قتل في سبيل اللّه و من مات في ولايتهم مات في سبيل اللّه.

أقول: هذا من باب التطبيق و ذكر احد المصاديق لأنه ورد من الموت في سبيل اللّه الموت في طريق الحج و الجهاد، كما ورد أيضا في الموت في سبيل اللّه الموت في تعلم الاحكام و تحصيلها، و الموت في المشي الى الصلاة.

في تفسير العياشي أيضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ» و قد قال اللّه تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» * فقال ابو جعفر (عليه السلام):

«قد فرق اللّه بينهما ثم قال: أ كنت قاتلا رجلا لو قتل أخاك؟ قلت: نعم قال: (ع) فلو مات موتا كنت قاتلا به؟ قلت: لا قال (ع): ألا ترى كيف فرق بينهما؟!!».

أقول: لا ريب في اختلاف اصناف الموت و أنواعه و لا ربط لاحد الأصناف و الأنواع بالآخر، فذات الموت شيء و القتل شيء آخر و ان كان الأخير سببا له و هو (عليه السلام) يبين منشأ الخلاف و الراوي تمسك بذكر جنس الموت كما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» .

ص: 435

أقول: لا ريب في اختلاف اصناف الموت و أنواعه و لا ربط لاحد الأصناف و الأنواع بالآخر، فذات الموت شيء و القتل شيء آخر و ان كان الأخير سببا له و هو (عليه السلام) يبين منشأ الخلاف و الراوي تمسك بذكر جنس الموت كما في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ» .

و يحتمل ان تكون هذه الرواية اشارة الى تعدد الموت و القتل بحسب تعدد العوالم فمن مات في هذا العالم يمكن ان يقتل في عالم الرجعة و العكس بالعكس كما وردت به روايات متعددة يأتي ذكرها في الآيات المناسبة لها ان شاء اللّه تعالى.

و الحمد للّه أولا و آخرا

ص: 436

المجلد 7

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

تتمة تفسير سورة آل عمران

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ.......

اشارة

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (160) خطاب إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) يبين فيه عز و جل فضله العظيم و ما من اللّه عليه من الصفات الكريمة و يذكّره نعمة اللّه تعالى عليه و على المسلمين أن جعل قلبه رحيما بهم ولينا معهم، و قد مدح رسوله الكريم بالعفو و ترك الفظاظة و الخشونة مع المؤمنين و انهم كانوا مستحقين لأكثر من اللوم و العتاب بعد ما صدر منهم ما أوجب الفشل و الهزيمة و قد ضعفوا امام إغراء الغنيمة و وهنوا عن الجهاد في سبيله تعالى و قد ارشدهم سبحانه و تعالى في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم و يسعدهم في دنياهم و ترك ما يوجب شقائهم في الدنيا و الآخرة.

و الآيات المباركة تشتمل على أهم الحقائق و الصفات التي لا بد لمن يتصدى امور المؤمنين من التحلي بها و هي العفو عنهم، و المشاورة

ص: 5

معهم، و التوكل على اللّه لان فيها اظهار العبودية فتكون حياتهم و اتجاهاتهم حسب ما قرره سبحانه و تعالى.

و فيها وعدهم عز و جل بالنصر على الأعداء لأنه لا يعطى النصر إلا لمن يستحق و لا يكتب الهزيمة و الخذلان إلا على من خالف أوامره و نواهيه تعالى و إلا فليس له الا الخذلان و الردى، و أمرهم بالتوكل عليه.

التفسير

قوله تعالى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ .

التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) لان الخطاب يتضمن اللوم و العتاب لما صدر عنهم في احد و قد استحقوا بسببه التوبيخ من النبي (صلى اللّه عليه و آله) و التعنيف فقد فعلوا ما أوجب الهزيمة و ما يمس النبي (صلى اللّه عليه و آله) بالاعتراض عليه فإنهم قالوا ان النبي هو الذي أورد من قتل منهم إلى ذلك و لكن عظمة رحمة اللّه تعالى التي أنزلها على رسوله الكريم شملت الجميع فخاطب رسوله الكريم لأنه أرسله رحمة للعالمين كما قال عز شأنه «وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ » الأنبياء - 107.

و مما ذكرنا يظهر ان الفاء في قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ » هو لترتيب مضمون الكلام على ما سبق، و المعروف ان «ما» زائدة جاءت مؤكدة للكلام، و ادعي الإجماع عليه. و لكنه موهون لأنه ليس في القرآن الكريم حرف زائد مضافا إلى ذهاب جمع إلى الخلاف في المقام و سيأتي في البحث الادبي ما يتعلق بذلك.

ص: 6

قوله تعالى: لِنْتَ لَهُمْ .

مادة (لين) تدل على ضد الخشونة و الصلابة و في حديث أوصاف المؤمنين «يتلون كتاب اللّه لينا» اي سهلا على ألسنتهم لكثرة تلاوتهم له.

و المعنى: مع كون المؤمنين على ما وصفناهم فبرحمة من اللّه تعالى عليك حيث جعلك متصفا بمكارم الأخلاق لان جانبك و رؤفت بالمؤمنين و صرت تحتملهم و تعطف عليهم و تعفو عنهم و تشاورهم في الأمر مع ما هم عليه من اختلاف الآراء و الأحوال و ما صدر عنهم مما أوجب اللوم و العتاب و التعنيف و عدم رضاء اللّه تعالى عنهم و بسبب هذه الرحمة العظيمة التي من بها عز و جل عليهم و بواسطة الفيض دخلوا تحت لوائه و اهتدوا بهداه و أقيم عمود الدين و انتظمت شؤون الإسلام و انقمعت شوكة الكفر و الطغيان.

قوله تعالى: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ .

الفظاظة: هي الخشونة و الشراسة في الأخلاق. و غليظ القلب:

اي قسيّ القلب و الثاني سبب للأول فان غلظة القلب و قساوته سبب للفظاظة، و قدمها لظهورها في بادئ الأمر.

و انما أكد عليهما عز و جل لأنه يتبعهما كل صفة ذميمة، و الانفضاض التفرق قال تعالى: «وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً اِنْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً» الجمعة - 11 و تستعمل في موارد التفرق الموجب للسقوط في الهاوية و الردى.

ص: 7

و الآية المباركة ترشد إلى أهم ما يجب على الزعيم الروحي ان يتحلى به و هو نبذ كل ما يوجب نفرة الناس منه قولا أو فعلا فانه مهما كثرت فضائله و عمت نوائله و فواضله لكنهم يتفرقون عنه و يتركونه و شأنه إذا رأوا منه ما يوجب تنفيرهم عنه فلا ينتظم أمره و لا يستقيم شأنه و تفوته الغاية التي بعث الأنبياء لأجلها و هي الهداية و الإرشاد و الدعوة إلى الطاعة و العبودية.

و هكذا يقرر الإسلام صفات القائد الإلهي كالرسول العظيم الذي هو متصف بمكارم الأخلاق و بالمؤمنين رؤوف رحيم مهتم بإرشادهم و حريص على هدايتهم.

قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ .

بيان لسيرته (صلى اللّه عليه و آله) مع المؤمنين و تقريره تعالى لها و قد امره عز و جل بعدم الترتيب على أفعالهم اثر المعصية إذا خالفوه في امر الجهاد و القتال و ما يرجع إلى نفسه المقدسة و يطلب لهم من اللّه تعالى المغفرة في ذلك.

قوله تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ .

المشاورة المناظرة و المراجعة في أخذ الرأي و استخلاصه من الغير قيل انه مأخوذ من شرت العسل إذا اجتباه و استخرجه من موضعه و الاسم الشورى و المشورة بسكون الشين و فتح الواو.

و المراد بالأمر هو ما يهتم بشأنه كالحرب و ما يتعلّق بها، كما هو المنساق من الآيات الشريفة و لا تشمل الآية المباركة امور الدين و ما يتعلق به أو ما انزل فيه الوحي من امور الدنيا.

يعني: و شاورهم في ما يعرض عليك من الأمور في ما يهتم بشأنه

ص: 8

لمصالح كثيرة منها استصلاحهم و تطميعا لهم في الدخول في مكارم الإسلام و التخلق بفضائل الأخلاق و استمالة لقلوبهم و تعليما لامته بعدم تركها في أمورهم. و إلا فانه (صلى اللّه عليه و آله) لم يكن بحاجة إليهم و لم تفده المشاورة - علما أو سدادا أو صلاحا - كيف و هو المسدد من قبل اللّه تعالى و قد قال عز و جل في شأنه «وَ ما يَنْطِقُ عَنِ اَلْهَوى إِنْ هُوَ إِلاّ وَحْيٌ يُوحى » و النجم - 4 و عن الحسن بن علي (عليهما السلام) «قد علم اللّه انه ما به إليهم حاجة و لكن أراد ان يستن به من بعده» و عن ابن عباس عنه (صلى اللّه عليه و آله): «اما ان اللّه و رسوله لغنيّان عنها - اي المشاورة - و لكن جعلها اللّه تعالى رحمة لأمتي فمن استشار منهم لم يعدم رشدا و من تركها لم يعدم غيا».

و الآية الشريفة تدل على إمضاء سيرته عز و جل مع المؤمنين كالآية السابقة في المشاورة معهم، و اللّه تعالى راض عنه، و قد استشار مع أصحابه في عدة مواطن منها غزوة بدر الكبرى حين ما نزل عند ادني ماء بدر فأشاروا عليه ان ينزل ادنى ماء من القوم. و كاستشارته في غزوة أحد عند ما كان رأيه ان يبقى في المدينة و يحارب فيها و قد اشاروا عليه الخروج عنها إلى أحد.

و كيف كان فللشورى فوائد جمة و مصالح كثيرة، و قد وردت روايات كثيرة في مدحها ففي الحديث عنه (صلى اللّه عليه و آله) «ما تشاور قوم قط إلا هدوا لأرشد أمرهم» و عن علي (عليه السلام) «لا ظهير كالمشاورة و ما ندم من استشار».

قوله تعالى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ .

إرشاد الهي بعدم الاتكال على المشاورة. و العزم: عقد القلب

ص: 9

و الإمضاء على إتيان الفعل بعد المشورة و عزم قلبه (صلى اللّه عليه و آله) انما يكون بنور اللّه تعالى و تسديده له.

و التوكل على اللّه: هو تفويض الأمر اليه عز و جل فانه الأعلم بمصالح العباد و هو يقضي ما يشاء و يحكم ما يريد، و المشورة و الفكر و إحكام الرأي و إمضائه لا تكفي في النجاح إلا بتوفيق من اللّه تعالى و تسديد منه و لا تؤثر الأسباب إلا به تعالى، فان الموانع كثيرة لا يعلمها و لا يقدر احد ان يزيلها إلا اللّه عز و جل.

و من ذلك يعرف ان التوكل انما يتم إذا استحكم الإنسان امره و استكمل العدة و راعى الأسباب العادية الظاهرية و لكن لا يعول عليها و لا يتكل على حوله بل على حول اللّه و قدرته عز و جل فلا ينافي التوكل مراعاة الأسباب العادية.

و للتوكل فوائد جمة ايضا منها اظهار العجز و العبودية و غيرها كما ياتي في البحث الاخلاقي ان شاء اللّه تعالى.

و انما اتى عز و جل اسم الجلالة لبيان ان هذه الذات المستجمعة لجميع الصفات الكمالية تستدعي التوكل عليه و لا ينبغي للإنسان ان يتكل على نفسه و هو العاجز عن تدبيرها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ .

المنقطعين اليه الواثقين به و إذا أحب اللّه تعالى أحدا كان و ليسا و ناصرا له و لم يخذله بحال، و محبة اللّه تعالى هي من أعظم الكمالات التي يسعى الإنسان إليها و هي الخير بجميع معنى الكلمة.

ص: 10

قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ .

جملة مستأنفة ترغب المؤمنين الى طاعة من يستمد منه النصر و تحذّرهم عن عصيان من يكون عصيانه سببا للخذلان، و الخطاب فيها تشريفا للمؤمنين يدعوهم الى التوكل بيان وجه من وجوه الحكمة في وجوب التوكل على اللّه تعالى و هو ان الإنسان إذا استعد للعمل و هيئ مقدماته على قدر المستطاع و هو لا يعلم عواقب الأمور فتوكل على من يعلمها و يدبرها على النحو الأحسن فلا محالة تحصل في نفسه ثقة و اطمينان بتحققه، و قد اقتضت حكمته محبة المتوكلين عليه و نصرتهم فإذا نصرهم فلا يغلب احد عليه.

و قوله تعالى: «فَلا غالِبَ لَكُمْ » يبين نفي الجنس بنفي جميع افراد الغالب ذاتا و صفة و هذا ابلغ من قول «لا يغلبكم احد» لأنه يدل على نفي الصفة فقط.

قوله تعالى: وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ .

اي: و ان أراد تعالى خذلانكم بسبب معاصيكم و عدم توكلكم عليه فلا احد يملك نصركم بعد خذلانه. و الاستفهام إنكاري يفيد نفي التأخير، و الكلام في قوله تعالى: «فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ » على حد قوله تعالى «فَلا غالِبَ لَكُمْ » من نفي الجنس بنفي جميع افراد الناصرين ذاتا و صفة.

و انما لم يذكر سبحانه النفي صريحا في هذه الآية المباركة كما ذكره في جواب الشرط الاول تلطفا بالمؤمنين حيث لم يصرح سبحانه بانه لا ناصر لهم و اكتفى بعدم الغلبة لهم و ان كان هذا يفيد ذلك أيضا.

ص: 11

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ .

اي: ان ايمان المؤمنين يستدعي التوكل على اللّه تعالى فانه لا ناصر و لا معين لهم إلا هو عز و جل المستجمع لجميع صفات الكمال و هو الذي وعد المؤمنين بالنصر يوفقهم الى ذلك و اليه يكون التجائوهم.

بحوث المقام
بحث ادبي:

تقدم ان المعروف بين المفسرين ان «ما» في قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ » زائدة جاءت مؤكدة، و ادعى الطبرسي و الزجاج الإجماع عليه، و لكنه موهون لذهاب جمع إلى الخلاف حيث ذهب جماعة إلى انها نكرة بمعنى (شيء) و «رحمة» بدل منها. و قال جمع آخر:

ان «ما» لتفخيم قدر الرحمة التي لان بها لهم و يرجع هذا إلى قول من قال بأن (ما) استفهامية للتعجب و التقدير. و التنوين في رحمة للتفخيم يضاف إلى ذلك انه لم يرد شيء في القرآن الكريم إلا لمعنى مفيد و لم يكن حرف من حروف القرآن زائدة.

و الفاء في قوله تعالى: «فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ » لبيان ترتيب ما بعدها على ما تقدم من غلبة المؤمنين على تقدير نصر اللّه لهم أو مغلوبيتهم و خذلانه إياهم و العلم بذلك يستدعي قصر التوكل عليه عز و جل.

و قد اشتملت الآية الشريفة «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ» على أسلوب لطيف و ترتيب حسن يقبله الذوق السليم و الطبع المستقيم فقد امر عز و جل بالعفو عن الحقوق التي ترجع إلى نفسه (صلى اللّه عليه و آله) ثم طلب الاستغفار من اللّه تعالى لهم فيما يتعلق بحقوقه عز و جل، فإذا زال المانع عنهم و استعدوا للمشاورة امر عز و جل بالمشورة معهم، ثم امر بإظهار العبودية للّه تعالى و عدم الاعتماد على غيره عز و جل بالتوكل عليه تعالى و الانقطاع اليه فانه لا ملجأ إلا اليه و لا منجا إلا به.

ص: 12

و قد اشتملت الآية الشريفة «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ» على أسلوب لطيف و ترتيب حسن يقبله الذوق السليم و الطبع المستقيم فقد امر عز و جل بالعفو عن الحقوق التي ترجع إلى نفسه (صلى اللّه عليه و آله) ثم طلب الاستغفار من اللّه تعالى لهم فيما يتعلق بحقوقه عز و جل، فإذا زال المانع عنهم و استعدوا للمشاورة امر عز و جل بالمشورة معهم، ثم امر بإظهار العبودية للّه تعالى و عدم الاعتماد على غيره عز و جل بالتوكل عليه تعالى و الانقطاع اليه فانه لا ملجأ إلا اليه و لا منجا إلا به.

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ - إلى أخر الآية الشريفة -» ان النبوات السماوية تتقوم بأمرين:

الاول: المظهرية التامة لأخلاق اللّه تعالى و المرآتية الكاملة للوحي المبين.

الثاني: اجتماع جميع الجهات الانسانية في النبي من دون نقص فيها و بالأول يستفيض من اللّه تعالى، و بالثاني يخالط الناس و يعاشرهم فيفيدهم، و تدل على ما قلناه الادلة العقلية و النقلية قال تعالى: «وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » الانعام - 9 و قال تعالى: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ » * الكهف - 110 و قال تعالى حكاية عن الكافرين: «ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ » الفرقان - 7 و هذا الأمر لا يختص بني دون آخر فهو جار في جميع الأنبياء و المرسلين بل يجري بالنسبة الى اولياء

ص: 13

اللّه الداعين اليه المستمدين علومهم من قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ » البقرة - 282 و اما سيد الأنبياء و خاتمهم فمقامه الجمع الجمعي من أجل المقامات و أعلاها ففي كل آن له سفران سفر من الخلق إلى الحق المطلق لأن يأخذ منه الكمالات المعنوية التي بها يربّي العباد تربية حقيقية كاملة، و سفر من الحق إلى الخلق لتربية النفوس المستعدة، و أسفاره الجسمانية و ان كانت محدودة و لكن أسفاره الروحانية لا تعد و لا تحصى كيف و هو (صلى اللّه عليه و آله) يقول: «أبيت عند ربي يطعمني و يسقيني ربي» بل قول خليل اللّه: «اَلَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَ اَلَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ » الشعراء - 80 يدل على ان لهم صلوات اللّه عليهم عالما خاصا غير ما نحن فيه و ان كانوا يشتركون معنا في كثير من الأمور.

و الآيات الشريفة التي تقدم تفسيرها تدل على ما ذكرناه فهو (صلى اللّه عليه و آله) مظهر الرحمة الإلهية و اخلاق اللّه تعالى؛ كما انه بشر كسائر البشر و قد أمر بأن يخالط الناس و يتشاور معهم.

الثاني:

الآيات الشريفة تدل على ان الرحمة و اللين مع الخلق و التودد معهم و الرحمة لهم من أجلّ صفات اللّه تعالى فأفاضها على نبيه (صلى اللّه عليه و آله) فصارت من سيرته (صلى اللّه عليه و آله) كما ان العفو عنهم، و الاستغفار لهم، و المشاورة معهم كانت كذلك و اللّه سبحانه و تعالى راض عن فعله.

الثالث:

يتضمن قوله تعالى: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ - الآية -» على شروط التوكل على اللّه تعالى و هي المخالطة مع الناس بأحسن وجه و تهيئة الأسباب و المقدمات و المشاورة معهم و تبيين الوجه الصحيح

ص: 14

و عزم النية و عقد القلب ثم التوكل عليه عز و جل في إصلاح الأمور و إنجاحها و سيأتي في البحث الاخلاقي تفصيل ذلك

الرابع:

يدل قوله تعالى: «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ » على ان الأثر المهم المترتب على التوكل على اللّه هو النصر على الأعداء و الظفر بالمراد، و لا يمكن ان يدفع ذلك احد مهما كانت مرتبته أو عظمت سلطته، لأنه يدخل في سلطان اللّه تعالى و هو القوي الذي لا يغلب.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ » ان شأن المؤمن ان يتوكل على اللّه و لا ينبغي له التخلي عنه بعد أن آمن به عز و جل و علم بانه مسبب الأسباب و ان الأمور تحت ارادته و مشيته و لا ناصر له غيره عز و جل فلا محيص من التوكل عليه و لذا كان التوكل من شأن جميع الأنبياء و المرسلين و اولياء اللّه الصالحين.

السادس:

يدل قوله تعالى: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اَللّهِ لِنْتَ لَهُمْ » على ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مثال الانسانية الكاملة و المرآتية الكبرى للّه جلّ جلاله و قد خلق من رحمته عز و جل كما أرسله رحمة للعالمين فصار لينا لهم كما هو شأنه عز و جل فقد سبقت رحمته غضبه و على هذا يكون قوله تعالى: «وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ اَلْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ » قضية فرضية امتناعية كما هو شأن غالب استعمالات كلمة «لو» فان صدقها انما يكون بصدق لزوم ترتب الجزاء على الشرط لا الوقوع الخارجي، فتصدق هذه القضية مع الامتناع للشرط مهما كان ترتب الجزاء على الشرط لازما و لو امتنع الشرط.

و كيف كان فهذا الخطاب البليغ مع إيجازه يبين أقصى مراتب الانسانية الكاملة.

ص: 15

بحث روائي

في الخصال عن عبد اللّه بن الفضل الهاشمي قال: «سألت أبا عبد اللّه جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن قوله عز و جل: «وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ » و قوله عز و جل: «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اَللّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا اَلَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ » » فقال (ع): إذا فعل العبد ما أمره اللّه عز و جل به من الطاعة كان وفقا لأمر اللّه سمي العبد موفقا، و إذا أراد العبد ان يدخل في شيء من معاصي اللّه فحال اللّه تبارك و تعالى بينه و بين المعصية فتركها كان تركه لها بتوفيق اللّه تعالى و متى خلى بينه و بين المعصية فلم يحل بينه و بينها حتى يركبها فقد خذله و لم ينصره».

أقول: مثل هذا الحديث يبين حقيقة الايمان و كيفية انسلاخ العبد عنه و بيان مراتب التوفيق له، فيكون كل ذلك بمنشأية نفسه و الإمدادات الغيبية، فالخذلان من نفس العبد إذا تجرى على المعاصي، كما ان الوصول الى المراتب يكون من نفسه أيضا.

و في تفسير العياشي عن علي بن مهزيار: «كتب إليّ ابو جعفر الجواد (عليه السلام) ان اسأل فلانا يشير عليّ و يتخير لنفسه فهو يعلم ما يجوز في بلده و كيف يعامل السلاطين فان المشورة مباركة قال اللّه تعالى لنبيه في محكم كتابه «فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » فان كان ما يقول مما يجوز كنت أصوب رأيه، و ان كان غير ذلك رجوت ان أضعه على الطريق الواضح ان شاء اللّه. «وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ»

ص: 16

قال (ع): يعني الاستخارة».

أقول الاستخارة من المؤمن من احدى مراتب التوكل لفرض ان المستخير يكل امره إلى اللّه تعالى و المراد من قوله (عليه السلام) «و يتخير لنفسه» اي: اختيار. مورد المشورة لنفسه و بيانه لغيره.

بحث اخلاقي
اشارة

التوكل: فضيلة من الفضائل السامية و خلق كريم من مكارم الأخلاق و خصلة حميدة، و منزل شريف من منازل الايمان و مقام رفيع من مقامات الموقنين بل أفضل مقامات الانسانية الكاملة، به يظهر المؤمن صدق إيمانه و ثبات اعتقاده و يجتمع فيه كثير من الفضائل و الخصال الحميدة فهو قرين الصدق و العز و الاستعانة باللّه العظيم و غيرها و به ينتظم العلم و الحال و العمل. و كفى به فضلا و منقبة ان اللّه تعالى يحب المتوكلين و هو من اخلاق الأنبياء العظام، و لمكانته السامية فقد امر به عز و جل نبيه الكريم (صلى اللّه عليه و آله) بالتحلي به في عدة مواطن من كتابه الكريم، و قد ورد في فضل التوكل و مدحه و الترغيب اليه من الكتاب الكريم و السنة الشريفة الشيء الكثير و نحن نذكر في هذا البحث ما ورد في التوكل من الفضل، و معنى التوكل، و حقيقته، و شروطه، و آثاره،

فضل التوكل:

قد ورد في مدح التوكل و فضله و الترغيب اليه و الحث على التحلي

ص: 17

به في الكتاب الكريم و السنة الشريفة ما يبهر منه العقول.

التوكل في الكتاب الكريم:

وردت مادة (وكل) في القرآن المجيد على ما يناهز السبعين موضعا و غالب استعمالاتها تدل على مدحه و الترغيب اليه قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » الطلاق - 3، و قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ «عَزِيزٌ حَكِيمٌ » الأنفال - 50 و قال تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159.

و قد ورد قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ » آل عمران - 160 في عدة مواضع و كذا قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ » ابراهيم - 12 و قال تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » المائدة - 23 و يستفاد منه ان الايمان منوط بالتوكل و قال تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » الشورى - 36 و هذه الآية المباركة تبين حقيقة التوكل على ما ستعرف.

و يستفاد من الآيات الواردة في شأن الأنبياء ان التوكل كان من سيرتهم و أنه فضيلة مشتركة بينهم قال تعالى حكاية عن ابراهيم (ع) و الذي معه «رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ» الممتحنة - 4 و قال تعالى حكاية عن يعقوب (عليه السلام): «وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ اُدْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اَللّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ اَلْحُكْمُ إِلاّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ »

ص: 18

يوسف - 67 و قال تعالى حكاية عن موسى (عليه السلام): «وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ فَقالُوا عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ » يونس - 85 و قال تعالى حكاية عن شعيب: «وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ اَلْفاتِحِينَ » الأعراف - 89 و قال تعالى حكاية عن هود (عليه السلام): «إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اَللّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » هود - 56 و قال تعالى حكاية عن صالح (عليه السلام):

«إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ اَلْإِصْلاحَ مَا اِسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ » هود - 88 و قال تعالى حكاية عن نوح (عليه السلام) «إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اَللّهِ فَعَلَى اَللّهِ تَوَكَّلْتُ » يونس - 71. و قد تحدث سبحانه و تعالى عن جمع من الرسل (عليهم السلام) و حكى عن شأنهم و ذكر ان التوكل من عمدة صفاتهم و من سيرتهم و هو و الصبر قرينان لديهم قال تعالى:

«قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ ما لَنا أَلاّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اَللّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُتَوَكِّلُونَ » ابراهيم - 12.

و يكفى في فضله ان اللّه تعالى قد امر به نبيه الكريم (صلى اللّه عليه و آله) في مواضع كثيرة من كتابه الكريم قال تعالى: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً» النساء - 81 و قال تعالى:

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ » التوبة - 129 و قال تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159. و المستفاد من جميع ذلك ان التوكل فضيلة سامية و انه من أعلى مقامات التوحيد و هو يدل على كمال ايمان المؤمنين و لذا كان من صفات الأنبياء الكرام و المؤمنين المخلصين بل هو توحيد عملي يكشف عن درجة الايمان و شدة اعتمادهم على اللّه عز و جل قال تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » الأنفال - 2. و يستفاد منه ان التوكل اجلى برهان و احكم علامة على ثبات عقيدة المؤمن و رسوخ التوحيد في قلبه لأنه لا يرى لغيره عز و جل سلطة و شأنا فهو خاضع له يطلب منه وحده تهيئة الأسباب و تدبيرها قال تعالى في الشيطان: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » النحل - 90 و سيأتي مزيد بيان.

ص: 19

«فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ اَلْعَرْشِ اَلْعَظِيمِ » التوبة - 129 و قال تعالى: «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159. و المستفاد من جميع ذلك ان التوكل فضيلة سامية و انه من أعلى مقامات التوحيد و هو يدل على كمال ايمان المؤمنين و لذا كان من صفات الأنبياء الكرام و المؤمنين المخلصين بل هو توحيد عملي يكشف عن درجة الايمان و شدة اعتمادهم على اللّه عز و جل قال تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » الأنفال - 2. و يستفاد منه ان التوكل اجلى برهان و احكم علامة على ثبات عقيدة المؤمن و رسوخ التوحيد في قلبه لأنه لا يرى لغيره عز و جل سلطة و شأنا فهو خاضع له يطلب منه وحده تهيئة الأسباب و تدبيرها قال تعالى في الشيطان: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » النحل - 90 و سيأتي مزيد بيان.

التوكل في السنة الشريفة:

وردت أحاديث كثيرة عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) و الائمة الهداة (عليهم السلام) تدل على فضل التوكل على اللّه و جميعها - سواء القولية و الفعلية - تحكي سيرتهم التي تدل على شدة اعتمادهم على اللّه تعالى و تفويضهم الأمر اليه و تحريض الناس عليه ففي الحديث عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه قال: «من انقطع إلى اللّه عز و جل كفاه اللّه كل مؤونة و رزقه من حيث لا يحتسب، و من انقطع إلى الدنيا وكله اللّه إليها».

و قال (صلى اللّه عليه و آله): «لو انكم تتوكلون على اللّه حق

ص: 20

توكله لرزقكم كما يرزق الطير تغدو خماصا و تروح بطانا».

و قال (صلى اللّه عليه و آله): «من سره ان يكون اغنى الناس فليكن بما عند اللّه أوثق منه بما في يده».

و روي عن الصادق (عليه السلام): «اوحى اللّه تعالى إلى داود ما اعتصم عبد من عبادي بي من خلقي عرفت ذلك من نيته ثم تكيده السموات و الأرض و من فيهن إلا جعلت له المخرج من بينهن و ما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلق عرفت ذلك من نيته إلا قطعت اسباب السموات و الأرض من يديه و أسخت الأرض من تحته و لم أبال باي واد هلك».

و عنه (عليه السلام): «ان الغنى و العز يجولان فإذا ظفرا بموضع التوكل أوطنا».

و عن الكاظم (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » قال: «التوكل على اللّه على درجات منها ان تتوكل على اللّه في أمورك كلها فما فعل بك كنت عنه راضيا تعلم انه لا يألوك خيرا و فضلا و تعلم ان الحكم في ذلك له فتوكل على اللّه بتفويض ذلك اليه وثق به و في غيرها».

و قال الصادق (عليه السلام): «من اعطي ثلاثا لا يمنع ثلاثا من اعطي الدعاء اعطي الاجابة، و من اعطي الشكر اعطي الزيادة و من اعطي التوكل أعطي الكفاية ثم قال: أ تلوت كتاب اللّه عز و جل «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » ، و قال: «و لئن شكرتم لأزيدنكم»، و قال تعالى: «اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ » . إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالة على فضل التوكل و مدحه و الترغيب اليه و انه خلق كريم يجب على المؤمن التحلي به و يدل عليه العقل ايضا.

ص: 21

معنى التوكل:

التوكل مشتق من الوكالة يقال و كل فلان الأمر إلى غيره اي فوضه اليه و اكتفى به لاعتماده عليه انه ينجزه و وثق به و يسمى المفوض اليه متكلا و متوكلا عليه، و اما الوكيل فانه فعيل يأتي بمعنى المفعول - و هو الذي يوكل الأمر اليه أو موكول اليه الأمر. و يأتي بمعنى الفاعل فيكون بمعنى الحافظ و الناصر و الرقيب و المطلع لأنه الذي يرعى الأمور و يحفظها و يتعهدها و ينصر من يركن اليه و منه قوله تعالى: «وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ » آل عمران - 173 لأنه هو الذي يتعهد الأمور التي وكلت اليه من عباده و ناصره و حافظه و الاسم التكلان (بضم التاء).

و إذا رجعنا إلى اللغة نرى ان التوكل تارة يطلق و يراد منه التولي للغير، يقال توكلت لفلان إذا صرت وكيلا عنه و توليت له، و منه الوكالة (بفتح الواو) أو (بالكسر على لغة) و هي الوكالة المعروفة في الفقه.

و يطلق اخرى و يراد به الاعتماد على الغير و الوثوق به. و التوكل على اللّه تعالى هو تفويض الأمر اليه عز و جل و الاكتفاء به و يشبه التوكل التفويض من هذه الجهة فهما يشتركان في تسليم الأمر اليه عز و جل قال تعالى حكاية عن شعيب: «فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» غافر - 44 أي اسلم الأمور اليه عز و جل فهو الذي يكفيكها، و في الحديث ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) كان يدعو فيقول: «اللهم اني أسلمت نفسي و فوضت امري إليك».

ص: 22

لكن التوكل يزيد على التفويض في انه يتضمن طلب النصرة منه و الوثوق بأنه ينجزها و يحفظ من يكل اليه أمره و الرضاء بفعل اللّه عز و جل بعد الاعتراف بالعجز و لقصوره امام عظمته و كبريائه.

حقيقة التوكل:

التوكل على اللّه تعالى هو الاعتماد عليه عز و جل قلبا و اطمينان النفس به و الوثوق بأنه لم يهمله بعد الاعتراف بعجز الإنسان امام قدرته و علمه و إحاطته و قيموميته، و الاعتقاد بانه تعالى هو الفاعل لا غيره و ان لا رب غيره فيعلم علما قطعيا بانه لا حول و لا قوة إلا باللّه. يضع الأشياء في مواضعها بحكمته و هو القادر على كل شيء في السموات و الأرض.

و من ذلك يظهر السر في ذكره عز و جل العزة و الحكمة في قوله تعالى «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَإِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » لان الاعتقاد بأنه حكيم يضع الأشياء في مواضعها و عزيز قادر لا يمتنع عليه شيء إذا أراد فلا محالة يذعن المؤمن بأنه تعالى ناصره و معينه و هو حسبه و كافيه و يحصل له الاعتقاد بأن كل ما يسوقه اليه ربه هو طيب و كريم و حسن و خير و يعتمد عليه في جميع أموره و تحصل الثقة باللّه العظيم فيتوكل عليه عز و جل.

فالتوكل إنما هو ارتباط عالم الشهادة المتناهية من كل جهة بعالم الغيب غير المتناهي كذلك و لذا نرى انه و التوحيد قرينان لا يتحقق أحدهما من دون الآخر فمن لا توحيد له لا توكل له و من لا توكل له لا ايمان له و يدل عليه قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »

ص: 23

بل يمكن ان يقال بأن التوكل طريق لمعرفة ايمان المؤمن بل هو محقق له لأنه لا يرى لغير اللّه تعالى أثرا فالجميع مسخر تحت ارادته و انما جعل لها نظاما معينا أقام امور العالم به فتجرى وفق قانون الأسباب و المسببات خاضعة له لا تتخلف عنه، إلا انها عاجزة عن اي نفع و ضرر لأنها لا تفعل شيئا الا بإرادته و مشيته عز و جل و المؤمن يذعن بهذا النظام الذي أقام اللّه تعالى هذا العالم به و يطلب كل شيء عن طريق سببه و يعمل و يكافح على إيجاد الأسباب الظاهرية المنوطة بها المسببات و يطلبها وفق ما امره اللّه تعالى طلبا تكوينيا أو تشريعيا و لكنه يعترف بالعجز امام قدرة اللّه تعالى و يذعن بالجهل امام المقادير التي قدرها عز و جل و يعلم بأن الأسباب الظاهرية التي عمل لأجلها شيء و المقادير و القضاء و القدر و الأسباب الخفية التي يجهلها شيء آخر و جميعها خاضعة له عز و جل مسخرة امام ارادته و مشيته و هو عاجز عنها فيوكل امره اليه معتقدا بانه حسبه و ناصره و معينه.

و من جميع ذلك يعلم بأن التوكل لا ينافي الأسباب الظاهرية بل الاعتقاد بها و العمل عليها من جملة اساسيات فضيلة التوكل و يدل على ذلك قوله تعالى: «فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » الشورى - 36.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة أمران: الاول ان الإنسان لا يمكن له التغاضي عن متاع الحياة الدنيا الذي هو من نعم اللّه تعالى عليه فهو الذي يقضى به مآربه و يحقق مقاصده و يعيش عليه في هذه الحياة الدنيا و أما ما عند اللّه فهو خير من هذا المتاع القليل في الكمية و الكيفية و انما جعل اللّه هذه الدنيا وسيلة لنيل ما هو أعظم منها و لا يمكن تحصيل هذا المتاع الا بأسباب خاصة معروفة يجري عليها نظام هذا العالم فالتوكل

ص: 24

على اللّه تعالى و الاعتماد على الأسباب الظاهرية قرينان بل هي من طرق تحصيل التوكل عليه عز و جل كما عرفت و يدل عليه قوله (صلى اللّه عليه و آله): «اعقلها ثم توكل».

الثاني: ان التوكل من شروط الايمان الصحيح بل هو من أعلى مقامات التوحيد فانه التوحيد العملي الذي اعتنى به اللّه تعالى في كتابه الكريم و اهتم به الأنبياء و المرسلون فهو يبين الجانب العملي في الايمان لأن التوكل وظيفة من وظائف القلب فان به تطمئن النفس و يسكن القلب و به يدخل المؤمن تحت الآية المباركة «يا أَيَّتُهَا اَلنَّفْسُ اَلْمُطْمَئِنَّةُ اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبادِي وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي» الفجر - 30.

و بالجملة: لما كان هذا العالم متقوما بالأسباب و المسببات الطولية و العرضية و لا بد من انتهاء تلك إلى سبب غيبي و ربوبية عظمى لا يعقل فوقها ربوبية و قيمومية كبرى ليس ورائها قيم أصلا، فيكون الجميع مسخرا تحت ارادته و مشيته التامة، فلا الماديات تعوق مشيته و لا التكثرات تمتنع قهاريته، و لا ريب في تحقق ما ذكر في هذا النظام الأحسن و آثار عظمته و ابداعه و وحدانيته ظاهرة في كل شيء، و التوحيد عبارة عن الاعتقاد بهذه الحقيقة، و التوكل هو الاعتماد على مدبر هذا العالم و خالقه و صانعه، فان طابق الاعتقاد مع الواقع على ما هو عليه تتجلّى حقيقة التوكل و إلا فلا توكل.

و من ذلك يظهر السر في ما ورد عن الائمة (عليهم السلام):

«ان قول القائل لو لا ان فلانا لهلكت شرك قيل له (عليه السلام) فكيف نقول ؟ قال (عليه السلام) تقول لو لا ان منّ اللّه عليّ بفلان لهلكت» كما يظهر السر في قوله تعالى: «وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ » يوسف - 106 فالتوكل الحقيقي هو الاعتقاد

ص: 25

باستناد الكل اليه عز و جل و انبعاث الجميع منه تعالى، و يستلزم ذلك الاعتقاد بتسبيب الأسباب و السعي في تحصيلها، فان التوكل بدون ذلك لا ثمرة فيه بل هو لغو و باطل، فترجع حقيقة التوكل إلى إرجاع الأمور - لا يتعلق بها عقولنا من تحصيل المقتضيات - إلى اللّه تعالى لأنه مسبب الأسباب و مسهل الأمور الصعاب.

و من ذلك كله يظهر ان التوكل عنوان التوحيد و هو داع اليه فهما متلازمان و به ينتظم حال الإنسان و علمه و عمله. و بما ذكرناه يرتفع الغموض من حيث ان ملاحظة الأسباب و الاعتماد عليها شرك في التوحيد و التباعد عنها خلاف طريقة العقل و الشرع، و التوكل يرفع الغموض و العسر عن ذلك كله.

شروط التوكل:

للتوكل على اللّه تعالى شروط لا يتحقق إلا بها تظهر من التمعن في ما ذكرناه في حقيقة التوكل و هي:

الاول: الاعتقاد باللّه تعالى و انه الرب القيوم المدبر لجميع ما سواه و انه العزيز لا يمنعه شيء، الحكيم الذي يضع الأشياء في مواضعها وفق ارادة و علم بجميع الخصوصيات.

الثاني: الاعتقاد بانه لا فاعل في هذا العالم إلا اللّه تعالى و ان ما سواه مربوب له و مقهور تحت قهاريته العظمى، فهو الذي يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

الثالث: الإذعان بأن هذا العالم ينتظم بقانون خاص لا يمكن التخلف فيه، و ان اللّه تعالى هو الذي جعل هذا القانون و هو قانون

ص: 26

الأسباب و المسببات و لا يمكن فيه التغيير و التبديل و لا التخطي عنه.

الرابع: تحصيل الأسباب و المعدات و المقتضيات التي تقع تحت تصرف الإنسان و السعي في تهيئتها و اعدادها و اما غيرها من الأمور الخفية التي لا يعلمها إلا اللّه تعالى فلا بد من الرجوع فيها إليه تعالى و التضرع لديه في تحقيقها كما عرفت.

الخامس: حسن الظن باللّه تعالى و استسلام القلب له عز و جل و الخضوع لديه في رفع الموانع و العوائق في ترتب النتيجة على المقدمات و المسبب على الأسباب.

السادس: ان يكون التوكل على من يكون قادرا على جميع الأمور و مستجمعا لجميع الشرائط و هو ينحصر في اللّه تعالى قال عز و جل في عدة موارد من كتابه الكريم: «وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً» * الأحزاب - 3 و قال تعالى محكيا عن المؤمنين: «وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ » آل عمران - 173 فينحصر التوكل عليه عز و جل قال سبحانه: «فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً» النساء - 81.

السابع: تفويض الأمر إلى اللّه تعالى و توكيله في جميع الأمور و الشؤون فانه القادر على تحقيقها يضعها وفق حكمته المتعالية لأنه العالم بحقائق الأمور و جميع خصوصياتها.

و إذا تحققت جميع هذه الشروط تحصل للإنسان راحة نفسية و اطمينان قلبي فتحصل له حالة التوكل عليه عز و جل و يدخل في زمرة المتوكلين الذين يحبهم اللّه تعالى، كما ورد في جملة من الآيات الشريفة قال تعالى:

«إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159 و قال عز و جل: «وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » المائدة - 23.

ص: 27

درجات التوكل:

للتوكل درجات و منازل تختلف حسب شدة اليقين و ضعفه و حسب كثرة الأمور المتوكل فيها و قلتها و هي:

الاولى: ان يكون المتوكل على درجة كبيرة من اليقين و الثبات في العقيدة و الخضوع و الطاعة للّه تعالى بحيث لا يرى شيئا إلا يرى اللّه تعالى معه يثق بكرمه و عنايته، و يعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل خاص الخاص، و في هذا المنزل يفوض المتوكل جميع أموره إلى اللّه تعالى و يرضي بحكمه فيكون بين يديه تعالى كالميت الملقى بين يدي الغاسل، و لعل الآية المباركة تشير إلى هذه الدرجة:

«وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اَللّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً» الطلاق - 3 فان من اتقى اللّه تعالى و وثق به عز و جل و توكل في جميع أموره عليه عز و جل اطمأنت نفسه بأن اللّه ناصره و هو حسبه، و هذه المرتبة عزيزة الوجود في الناس تختص و بالأنبياء و اولياء اللّه تعالى المخلصين له و قد حكى اللّه جل شأنه عن الأنبياء و المرسلين في كتابه الكريم ما يشهد لذلك.

الثانية: ان لا يكون على الدرجة من اليقين و الثبات في العقيدة و الاطمينان بما قسمه اللّه تعالى لعباده و لكن يعتمد في أموره على اللّه تبارك و تعالى يفزع اليه و يعتمد عليه و لا يترك الدعاء و التضرع في كل مسألة و امر مثل الصبي الذي يفزع إلى أمه و يتعلق بها و قد فنى في امه و لا يرى غيرها و في هذه الحالة يفني المتوكل في الموكل عليه

ص: 28

و لا يلاحظ الواسطة، و يعبر بعض علماء الأخلاق عن هذه الدرجة بتوكل الخواص.

و تفترق هذه الدرجة عن الدرجة السابقة في ان المتوكل في الاولى لا يرى شيئا إلا اللّه تعالى قد وثق بكرمه و لطفه و عنايته فربما يترك الدعاء و المسألة وثوقا منه به عز و جل في قضاء الحوائج كما قال ابراهيم الخليل (عليه السلام): «حسبي من سؤالي علمه بحالي» و في هذه الدرجة لا يترك الدعاء و المسألة و التضرع و إلى هذه الدرجة يشير قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159 فقد توكلوا في جميع أمورهم عليه عز و جل و أفنوا جميع حيثياتهم في اللّه تعالى و قد اعرضوا عن غيره.

الثالثة: ان يكون كثير الاعتناء بالأسباب فيرى للتدبير و الاختيار في تهيئة الأمور الأثر الكبير و لكن لا يترك التوكل عليه عز و جل و هو يعتمد على توكله و يلتفت اليه دائما في أموره لا يغض النظر عنه و هذا هو الشغل الصارف عن الموكل اليه، و لأجل ذلك اختلفت هذه الدرجة عن سابقتها في ان المتوكلين في الدرجة الثانية يعتمدون على المتوكل عليه وحده كما يعتمد على التضرع لديه بالدعاء و الابتهال اليه عز و جل. و الى هذه الدرجة يشير قوله تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ » آل عمران - 160.

و تختلف أيضا عن السابقة في ان هذه الحالة قد تدوم أياما كثيرة أو في جميع الحالات لدى المؤمنين بينما في الدرجة الثانية لا تدوم إلا أياما قليلة.

و قد عبر بعض العلماء (رحمة اللّه تعالى عليه) عن هذه الدرجة بتوكل العامي، و ربما يكون توكلهم في جميع الأمور و ربما يكون في بعضها.

ص: 29

و بالجملة: ان درجات التوكل تختلف باختلاف قوة الايمان باللّه عز و جل و الاعتقاد به تعالى و تفويض الأمور اليه و التسليم بقضائه و قدره و الرضا بما قسمه على عباده، كما انها تختلف باختلاف تفويض جميع الأمور أو بعضها و شدة الاعتماد على الأسباب و قوة الاعتقاد بها.

آثار التوكل:

إذا حصل التوكل على اللّه تعالى فانه يخلف آثارا كبيرة على المتوكل نحن نذكر بعضا منها:

الاول: التوكل يحقق معنى الايمان و يزيد فيه و يثبت دعائمه في المؤمن و يثبت عقيدة التوحيد في قلبه قال تعالى: «وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » المائدة - 23.

الثاني: التوكل سبب إلى النصر و الفوز بالمراد قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » الطلاق - 3.

الثالث: التوكل يفتح أمام صاحبه طريقا إلى الجنة فيدخل و يرزق فيها بغير حساب قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ اَلْعامِلِينَ اَلَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ » العنكبوت - 59.

الرابع: ان التوكل يورث محبة اللّه تعالى و الرضاء الالهي للمتوكل قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ » آل عمران - 159 و كفى بذلك فخرا.

الخامس: التوكل يجعل كل ما يسوقه اللّه تعالى الى العبد حسنا طيبا و خيرا.

ص: 30

السادس: التوكل يورث الاطمينان في قلب المتوكل و الراحة في نفسه.

هذا موجز ما أردنا ان نذكره في هذه الفضيلة الكبيرة و هو غيض من فيض فان كل ما يقال في هذا الخلق الكريم قليل و كفى بذلك داعيا في التخلق بهذه الفضيلة و المسارعة الى هذا الخير العظيم.

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ.......

اشارة

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) الآيات الشريفة تبين جانبا آخر من الجوانب المتعددة في غزوة أحد فإنها تظهر حقيقة المنافقين و ضعفاء الايمان الذين لم يألوا جهدا من النيل من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقد و صموا هذا النبي الأمين بالخيانة و نفى اللّه تعالى عنه هذه التهمة و وصفه بأحسن الأوصاف و ذلك اتباع رضوانه جلّت عظمته الذي هو أهم الغايات و لا يعدوه مؤمن فضلا عن خاتم الأنبياء و المرسلين.

و قد أعلن سبحانه و تعالى انه من اتهم الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و خالفه

ص: 31

فقد باء بسخط من اللّه تعالى كما بين عز و جل ان من يتبع رضوان اللّه تعالى في درجة و من باء بسخط من اللّه في درجة اخرى.

ثم ذكر سبحانه انه من على المؤمنين بموهبة عظيمة و هو النبي العظيم الذي اتصف بمكارم الأخلاق بل انه المنة الكبرى و النعمة العظمى و قد جعله أمينا على وحيه و مبلغا لأحكامه لينقلهم من الضلال الذي كانوا فيه إلى الهداية و يطّهرهم من دنس الشرك و المعصية و يخرجهم من الجهالة الى المعرفة و يعلمهم الكتاب و الحكمة و مثل هذا النبي العظيم الأمين كيف يمكن ان يتصف بالخيانة!! و الآيات الشريفة مرتبطة بما قبلها من الآيات كما هو معلوم.

التفسير

قوله تعالى: وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ .

مادة غلل تدل على الخروج عن الحد المقرر أو الدخول في شيء من غير حل سواء كان في المال أو العقيدة أو غيرهما، و في حديث صلح الحديبية: «لا إغلال و لا إسلال». و الأغلال: السرقة الخفية، و الإسلال سل البعير في جوف الليل. و في حديث أبى ذر:

«غللتم و اللّه» اي: خنتم في القول و العمل و لم تصدقوا. و التجاوز إذا كان في الفيء و المغنم تكون خيانة.

و قيل: ان غل يختص بالأخذ خفية و ان كان في ما يضمره الناس في صدورهم يقال رجل غلّ صدره إذا كان ذا غش أو حقد أو ضغن و يقال رجل غل (مجهولا) اشتد عطشه أو كان في جوفه حرارة. و تغلل في الشيء دخل فيه و اختفى في باطنه. و الغلول و الغل

ص: 32

(بالفتح) هو السرقة و الأخذ خفية سمي بذلك، لأنها تجري في الملك خفية. و قيل: انها تختص بالمغنم و الفيء.

و المعنى: حاشا لنبي من أنبياء اللّه تعالى ان تقع منه خيانة مطلقا سواء كانت في ما يتعلق باحكام اللّه تعالى أو ما يتعلق بشئون الناس فان الخيانة معهم خيانة مع اللّه أيضا لأنه ليس من شأنهم ذلك و لا يصح منهم.

و الخطاب ينزه ساحة الأنبياء عن الخيانة بأبلغ وجه و أبدع أسلوب، لأنه يتضمن حكما مع دليل متين فهو ينفي الوقوع بنفي الشأن و الصحة، و لان الأنبياء معصومون و هم أمناء اللّه تعالى في ارضه و قد تقدم نظير هذا الخطاب في قوله تعالى: «ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اَللّهُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحُكْمَ وَ اَلنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنّاسِ كُونُوا عِباداً لِي» آل عمران - 79 و مر الكلام فراجع. و ذكر العلماء في شأن نزول هذه الآية بعض الروايات لا يخلو عن ضعف سيأتي في البحث الروائي نقلها.

و قد ذكر بعض المفسرين ان الغل انما هو في الوحي و كتمانه عن الناس لا الخيانة في المغنم. و لكن ظاهر الآية المباركة التعميم لا الاختصاص، و مما يهون الخطب ان الآية الشريفة تنزه ساحة الأنبياء عن الخيانة و تطهرهم عنها و عن كل سوء و فحشاء و قد ذكرنا ان الخيانة مع الناس خيانة مع اللّه تعالى أيضا.

قوله تعالى: «وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » .

جملة حالية تبين الجزاء المترتب على الفعل و الخيانة اي: ان الخائن يلقى ربه بخيانته يوم القيامة و هو يوم ظهور حقائق الأعمال للناس فيفضحه اللّه تعالى من حين حشره.

ص: 33

و الآية الكريمة تدل على تجسم الأعمال في يوم الجزاء، و المراد بإتيان اللّه تعالى بما غل هو الحضور لديه عز و جل و ظهوره للناس و إيجاد تلك الحالة في ذلك العالم بما يناسبه.

قوله تعالى: ثُمَّ تُوَفّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ .

اي: إذا احضر الغال للجزاء و الحساب فيوفى و ينال جزاء ما كسب غلا كان أو غيره كما توفى كل نفس وفاء تاما بما كسبت ان خيرا فخير و ان شرا فكذلك.

و الآية الشريفة تدل على ان الغال كما ينال جزاء فعله ينال المغلول منه حقه فان ذلك هو الوفاء التام الذي يعطى لكل نفس يوم الجزاء.

و في ذكر «ثم» لبيان التفاوت بين يوم عرض الأعمال و يوم الجزاء.

قوله تعالى: وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ .

بيان لتمامية الوفاء من كل جهة اي: و الحال انهم المحسنون و المسيئون لا يظلمون في جزائهم فلا يظلم المسيء بأن يجازي بغير ما كسب كما لا يظلم المحسن بنقصان جزائه و لا يعاقب العاصي بأكثر و لا ينقص ثواب المحسن.

قوله تعالى: أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ .

هذه الآية الشريفة من جلائل الآيات القرآنية الراجعة إلى تهذيب الإنسان و تربيته - علمية و عملية - و هي تبين اختلاف الناس في الهداية و الضلال و الدخول في رضوان اللّه تعالى و اختيار سخطه على رضوانه تبعا لاختلاف الطينات و الاستعدادات فان هذا الاختلاف مما لا يسع لاحد إنكاره إلا ان ذلك هل هو امر ذاتي غير قابل للتغيير و التبديل، أو هو اقتضائي

ص: 34

فقط قابل لهما و الأفعال انما تنبعث عن كل واحد منهما حين تثبت الغالبية أو المغلوبية لكل واحد منهما؟ و الحق هو الثاني لأدلة كثيرة يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها و القول بالأول يستلزم بطلان الثواب و العقاب و محاذير كثيرة لا يقبلها العقل.

و الآية الكريمة صريحة في المطلوب فإنها تدعو الناس إلى ابتغاء رضوان اللّه عز و جل في الأعمال و الأقوال و الاعتقادات و أطاعته عز و جل و الاهتداء بهدى الداعين إلى الصلاح من الأنبياء و المرسلين و اولياء اللّه الصالحين و لا بد رسوخ هذا الأمر الاقتضائي الذي يدعو الى رضوان اللّه تعالى في النفس ليغلب على الطرف الآخر الذي يدعو إلى سخط اللّه تعالى و ان لم يوجب زواله بالكلية و لا يتحقق ذلك إلا بازالة الحجب و الموانع عن النفس و ما تدعو اليه الفطرة و ما يرشد إلى الهداية و هذا من أهم الطرق التي اتبعها الأنبياء في تربية النفوس الانسانية و بها يقوم النظام الأحسن الانساني.

و يمكن ان يقال: ان ذلك لا يختص بالتربية الإلهية بل تجرى في غيرها من الأمور الشرعية و العقلية فان في الإنسان الفطرة المستقيمة و نور العقل و ركيزة الجهل و حياة العزم و الخيال، و العالم قائم بذلك كله.

و الرضوان: مصدر كالرضا مصدر رضي و الصحيح انه اسم مصدر فان معناه أوفر من الرضا و فيه من المزية ما لا توجد في مجرد الرضا قال تعالى: «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً» * الحشر - 8 و قال تعالى: «وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » التوبة - 72.

و الآية المباركة تدعو الناس إلى جعل رضوان اللّه تعالى مقصودهم في جميع أمورهم و شؤونهم فانه السعادة العظمى و الصراط المستقيم و هو لا يتحقق الا بمطابقة ما يصدر من الإنسان مع دين الحق و شريعة اللّه

ص: 35

عز و جل و اسباب الفوز بالرضوان كثيرة و قد ذكر سبحانه و تعالى في كتابه الكريم جملة منها كما ورد في السنة الشريفة جميعها.

و في الآية الشريفة رد على مزاعمهم و ابطال لدعواهم في نسبة الخيانة إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فان الذي يتبع رضوان اللّه تعالى في جميع أموره و لا يعدو عن رضا ربه كيف يتحقق فيه الخيانة لان الخائن قد باء بسخط من اللّه تعالى.

قوله تعالى: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ .

باء بمعنى رجع و استقر و في الحديث: «من طلب علما ليباهي به العلماء فليتبوّأ مقعده في النار» اي لينزل و يستقر فيها.

و السخط: هو الغضب العظيم و المراد من سخط اللّه تعالى هو الدخول في ما يوجب غضبه كالمعاصي و الموبقات و ما نهاه عز و جل و يجمعها متابعة الشيطان و النفس الامارة.

و المعنى: ليس من اتبع رضوان اللّه تعالى في اعتقاده و أفعاله و أقواله كمن دخل في سخط اللّه عز و جل بسبب أفعاله و أقواله و اعتقاده و خروجه عن النهج القويم و الصراط المستقيم و استوجب السخط و العقاب بفعل المعاصي و الموبقات.

و الآية الكريمة ترجع الأمر الى الفطرة التي تحكم بالفرق بينهما، و ان قياس أحدهما على الآخر قياس باطل بل هو جائر و نظير ذلك قوله تعالى: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ » السجدة - 18.

و انما لم يقل سبحانه و تعالى كمن اتبع سخط اللّه كما قال في رضوان اللّه، لان ترك متابعته يستلزم الدخول في سخط اللّه تعالى لأنهما من قبيل الضدين اللذين لا ثالث لهما مضافا إلى ان اسباب الرضوان هي

ص: 36

الصراط المستقيم و اعلام الهداية و هي مما يحكم العقل باتباعه بخلاف اسباب السخط فإنها شرور و قبائح فلا وجه لاتباعها.

قوله تعالى: وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ .

بيان لحال من باء بسخط من اللّه تعالى. اي: ان المأوى الذي يريد ان يأوى اليه ليستريح فيه انما هي جهنم و قد ساء ذلك المصير الذي يصار اليه.

و انما عبر عز و جل بالمصير لان المكان الذي يصار اليه هو أسوأ حالا إذا قيس بالمكان الذي هو عليه في الدنيا، و لان الرجوع الى سخط اللّه يكون مصيره التكويني النار، فالآية المباركة من قبيل القضايا التي قياساتها معها.

و قد قال بعض العلماء الفرق بين المصير و المرجع ان الاول يستعمل في مورد يقتضي مخالفة ما صار اليه على ما كان عليه في الدنيا بخلاف المرجع فانه يقتضي انقلاب الشيء الى حال قد كان عليها.

و هو مردود لاستعمال كل واحد منهما في الآخر قال تعالى: «وَ إِلَى اَللّهِ تُرْجَعُ اَلْأُمُورُ» * الأنفال - 44 و قال تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» يونس - 4 إلا ان يريد اختلاف الجهات و الحيثيات.

و لم يذكر سبحانه و تعالى جزاء من اتبع رضوان اللّه لعظمته و ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن فان رضوان اللّه اكبر و هو يستلزم كل نعيم و هو غير متناه من كل جهة.

قوله تعالى: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ .

مدح بليغ لمن ابتغى رضوان اللّه تعالى و بيان لمقاماتهم العالية و مآلهم الحميد الذي يرجعون اليه.

ص: 37

و الضمير «هم» عائد الى الموصول الاول و هو «أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ » و اما الطائفة الثانية و هي من باء بسخط من اللّه تعالى فقد ذكر سبحانه حكمها و حالها في يوم الجزاء في قوله عز و جل «وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ» مع ان سياق لفظ الدرجات ظاهر في الاختصاص.

و انما أتى عز و جل بضمير الجماعة العائد إلى ذوي العقول لبيان ان درجات الرضوان عند اللّه تعالى لها حياة ابدية و من اشرف انواع العقول و ان كانوا متفاوتين في ما بينهم و لا يعلم احد خصوصيات ذلك و جهاته إلا اللّه عز و جل قال تعالى في شأن الأنبياء العظام:

«وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ » البقرة - 253.

و ظهر مما ذكرناه انه لا حاجة إلى ما قاله جمع من المفسرين: من ان الآية الشريفة على سبيل الاستعارة بأن شبههم بالدرج في تفاوتهم علوا و سفلا، أو انها على سبيل المبالغة في جعلهم نفس الدرجات فيكون تشبيها بليغا بحذف الأداة كقولهم زيد عدل، أو زيد أسد، أو انه على تقدير المضاف اي: ذووا درجات. و قال بعضهم: بأن الآية المباركة تشمل الطائفتين الا ان فيها تغليب الدرجات على الدركات فان الاول لمن اتبع رضوان اللّه تعالى و الثاني لمن باء بسخط من اللّه.

و الجميع كما ترى فان ظاهر الآية المباركة على خلاف ذلك كما قلنا.

و يستفاد من قوله تعالى: «عِنْدَ اَللّهِ » عناية خاصة بهم لا تستفاد من غير هذا اللفظ فان ما عند من هو غير متناه لا يعقل ان يكون متناهيا؛ كما لا يعقل ان يكون محدودا بحد خاص من الكمال و الجلال و العظمة و الكبرياء.

و الآية الكريمة مطلقة تشمل الدرجات في الدنيا و الآخرة، اما الدرجات في الدنيا فقد قال تعالى فيها «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ » الزخرف - 32 و قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » الانعام - 165 و اما في الآخرة فالآيات فيها كثيرة قال تعالى: «وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى» طه - 76 و قال تعالى: «يَرْفَعِ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» المجادلة - 11 و اما قوله تعالى: «اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً» الإسراء - 21 فانه يشمل درجات الآخرة قال تعالى: «وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً» النساء - 96 و الآيات في سياق ذلك كثيرة و هي تبين بعض اسباب رفع الدرجات و موجبات نيلها.

ص: 38

و الآية الكريمة مطلقة تشمل الدرجات في الدنيا و الآخرة، اما الدرجات في الدنيا فقد قال تعالى فيها «أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ » الزخرف - 32 و قال تعالى: «وَ هُوَ اَلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ اَلْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ اَلْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ » الانعام - 165 و اما في الآخرة فالآيات فيها كثيرة قال تعالى: «وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ اَلصّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ اَلدَّرَجاتُ اَلْعُلى جَنّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكّى» طه - 76 و قال تعالى: «يَرْفَعِ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ» المجادلة - 11 و اما قوله تعالى: «اُنْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً» الإسراء - 21 فانه يشمل درجات الآخرة قال تعالى: «وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً» النساء - 96 و الآيات في سياق ذلك كثيرة و هي تبين بعض اسباب رفع الدرجات و موجبات نيلها.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ .

بيان بأن نيل تلك الدرجات لا يكون على التمني و الوهم و الخيال و انما هو على الحقيقة و الأعمال، فان اللّه تعالى لا يغيب عنه شيء و لا يفوت عنه الحقير من خير أو شر فهو عليم بما في الضمائر و النيات و دقائق الأمور و الأعمال فيجازى بحسبها.

قوله تعالى: لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ .

ذكر لأفضل افراد من اتبع رضوان اللّه تعالى و بيان لأهم سبيل من سبل الدخول في رضوانه عز و جل.

ص: 39

و المنة: و هي النعمة العظيمة التي تفاجئ الإنسان من دون سبق سؤال و من صفات اللّه العليا: «يا من مننه ابتداء و عطيته فضل» و من أسمائه جلت عظمته «المنان» اي المنعم المعطي.

و لا خير في الممكنات مطلقا أعلى و أكمل و اشمل من تكميل النفوس الناقصة المستعدة فهو الخير المطلق في الدنيا و الآخرة، بل لا آخرة إلا بذلك فيكون أعظم صنع اللّه تعالى و لم يخلق ما سواه الا لأجله، و لذا أجمل سبحانه هذه المنة العظيمة في المقام و أهملها فان أنبياء اللّه تعالى و ان خلقوا في هذا العالم لكنهم (صلوات اللّه عليهم أجمعين) شوارق غيب يستمدون من الفيض الرباني غير المتناهي و يفيضون على الأعيان المستعدة فهم بوجودهم الجمعي ليسوا الا العقل الكلي المجرد يظهر تارة في صورة خليل اللّه تعالى ابراهيم و اخرى في صورة حبيب اللّه احمد (صلى اللّه عليه و آله) فالحقيقة واحدة و الشوارق مختلفة، و من ذلك يظهر السر في أقوالهم (عليهم السلام): «من لا عقل له لا ايمان له و من لا ايمان له لا عقل له» و الآيات الشريفة ناصة في هذا التلازم كما ستعرف ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ان قلت: ان ما ذكر من ان إفاضة الخير من دون سبق سؤال تسمى منة مخالفة لظاهر قوله تعالى حكاية عن ابراهيم (عليه السلام) «رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ » البقرة - 129 و قول سيد الأنبياء «انا دعوة أبي ابراهيم».

قلت: ان المراد من دون سبق سؤال من نفس المفاض عليه لا ممن يكون من طرق الفيض و في سلسة الافاضة.

ص: 40

قوله تعالى: إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ .

بيان لمنته العظمى التي من بها اللّه تعالى على المؤمنين و تأكيد لها فقد ابتدأ عز و جل بالنعمة ان بعث فيهم رسولا عظيم الشأن جليل القدر. و (إذ) ظرف - ل من - و يتضمن التعليل.

و قد وصف سبحانه و تعالى هذا الرسول بأوصاف تدل على جلالة قدره و تؤكد المنة عليهم و ان كل واحد منها نعمة جليلة تستوجب الشكر، و هي اربع:

الاول: انه رسول من أنفسهم اي: من جنسهم فلم يكن من غير الإنسان و لا من غير العرب ليستأنسوا به كما يستأنس الرجل بأبيه و أخيه فيفهموا كلامه و يسهل التلقي منه و ليتأكدوا على أحواله و كماله و ملكاته العظيمة الفائقة و أخلاقه الفاضلة و غيرها مما يدعو الى الإقبال عليه و الانقياد اليه و التصديق به؛ و لئلا تأخذهم النخوة و العصبية أو العزة بالإثم من الايمان به لو كان من غيرهم، فكان من عظيم المنة على العرب ان سهل عليهم التعرف على الرسول و يسّر لهم الايمان به و ازدادوا بذلك شرفا و عزة، و قد أكد عز و جل هذه المنة في مواضع متعددة في القرآن الكريم قطعا للمعاذير و إتماما للحجة قال تعالى:

«هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » الجمعة - 2.

قوله تعالى: يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ .

وصف ثان. الآيات جمع آية و المراد بها الآيات التي أوحاها اللّه تعالى عليه المشتملة على جميع المعارف الإلهية و العلوم الحقيقية الواقعية.

و التلاوة هي القراءة مع التدبر و التمعن ليسهل عليهم فهم تلك الآيات

ص: 41

و يدركوا معانيها و حقائقها و إشاراتها و قد جعل اللّه تعالى معجزة هذا الرسول العظيم و الدليل على رسالته في القرآن الكريم الذي نزل بلغتهم.

قوله تعالى: وَ يُزَكِّيهِمْ .

وصف ثالث و هو تزكية نفوسهم و تطهيرها من العقائد الزائفة و الآراء الباطلة و الأخلاق الذميمة و الصفات الرذيلة التي كانوا عليها قبل بعثته فان مع وجود تلك الملكات الفاسدة في النفس لا يمكنها التحلي بالمعارف الإلهية و هي حجب ظلمانية تعوق عن الوصول الى الفيض الالهي، و التخلية متقدمة على التحلية.

قوله تعالى: وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ .

وصف رابع و هو تعليمهم الكمالات الانسانية و جهات الحكمة العلمية و العملية، و الحكمة بأي معنى أخذت مما يفتقر إليها الإنسان و يعجز عن الاحاطة بها البيان.

و التعليم و ان كان مترتّبا على التلاوة الا انه لا بد من التزكية التي هي عبارة عن تخلية النفس عن الرذائل و الحجب و تصفية النفس و تهذيبها بالفضائل ثم تكميلها بالعلم و التعليم المترتبين على التلاوة، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «رَبَّنا وَ اِبْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ » البقرة - 129 إلا ان الفرق بينهما في تقديم التزكية على التعليم و تأخيرها عنه و يأتي في البحث الدلالي ما يتعلق بذلك.

و الآية المباركة تدل على ان جهات تكميل الانسانية الواقعية تكون مفوضة الى اللّه تعالى و ليس للجهات الامكانية دخل فيها ابدا.

ص: 42

قوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ .

جملة حالية تبين حالتهم السابقة التي كانوا عليها قبل البعثة و قد وصفها اللّه تعالى بالجاهلية في مواضع متعددة من القرآن الكريم، و يتضمن هذا اللفظ على جهات الفساد في العقيدة و العمل.

و المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَبْلُ » القبلية الرتبية اي قبل العمل بالشريعة فيشمل ما بعد البعثة و قبلها.

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:

يستفاد من سياق قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » تنزيه ساحة الأنبياء و طهارتهم عن السوء و الفحشاء و عصمتهم عن كل معصية و رذيلة فيصح ان تجعل هذه الآية الكريمة من جملة الادلة الدالة على عصمة الأنبياء و لو عن معصية الخيانة فتتم في غيرها بالقول بعدم الفصل، و كذا نقول في القائمين مقامهم.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » على تجسم الأعمال و ظهور الملكات بما يناسبها من الصور و الحقائق في يوم القيامة و الظالم المذنب يتحمل تبعات تلك المعاصي فيحاسب عليها و يوفي جزاؤه.

الثالث:

يرشد قوله تعالى: «وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ » على ان نسبة الخيانة إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) ظلم و لا بد من التنزه عنها كما تنزه عز و جل عنه فلا يظلم عباده يوم الجزاء مطلقا.

ص: 43

الرابع:

يدل قوله تعالى: «أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ » على ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) لا يمكن رميه بالخيانة، و الخائن باء بسخط من اللّه تعالى.

و في الآية المباركة الموعظة للمؤمنين و إرشادهم الى اتباع رضوان اللّه تعالى و التعريض لهم بأن هذه الأقوال و الأعمال من التعرض بسخط اللّه و لا بد من الابتعاد عنه.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ » ان لمن اتبع رضوان اللّه تعالى منازل كريمة و اجرا عظيما، و قد عبر عز و جل في موضع آخر: «لَهُمْ دَرَجاتٌ » الأنفال - 4 و لعل الاختلاف في التعبير باعتبار الاضافة الى اللّه تعالى التي هي الأصل لجميع خيرات الدنيا و الآخرة فقال «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ » و من حيث الاضافة الى نفس العاملين الموفين فقال: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ » و الجميع صحيح لا اشكال فيه، مع انه يصح ان يقال ان اللام في قوله تعالى: «لَهُمْ دَرَجاتٌ » للاختصاص الذاتي كما يقال: للجنة أشجار و أوراد و رياحين.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ » أهم اصل من أصول التعليم و التربية في الإسلام و هذه الآية المباركة مع إيجازها تتضمن أعظم المقومات في السير و السلوك في الأخلاق و هي تدل على ان المتبع لها يتصف بفضيلة الصلاح و هي توجب الفوز بالسعادة الفردية و الاجتماعية لمن عمل بها، كما انها تبين الحد الفاصل بين الحقيقة و الوهم و الخيال، فان كل من لم يتبع رضوان اللّه تعالى انما هو قشر بدون لب و جسد بلا روح، و ان كان الظاهر مليحا و لكنه سراب زائل و ضال و لم يبين سبحانه سبل رضوان

ص: 44

اللّه تعالى لأنها ذكرت في القرآن الكريم و السنة الشريفة و هي معلومة يحكم بحسنها العقل و الفطرة المستقيمة، و لذا ورد في الحديث «ان الذين اتبعوا رضوان اللّه تعالى هم الأئمة (عليهم السلام) لأنهم يدعون الى الكمال المطلق و هم مثال للأخلاق الفاضلة و الأصل في جميع الاحكام.

السابع:

يبين قوله تعالى «لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ » ان جهات تكميل الإنسان لا بد ان تكون من اللّه تعالى و ان مكمل الانسانية يجب أن يكون مبعوثا من قبله عز و جل لان جهات التكميل الواقعية مما لا يمكن ان يحيط بها العقل.

و بمثل هذه الآية الشريفة يمكن ان يستدل على ان وصي الرسول لا سيما خاتم الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) لا بد ان يكون باختيار اللّه تعالى و تنصيص من النبي (صلى اللّه عليه و آله) عليه لان ما يتمم الانسانية الواقعية مثل المكمل للانسانية لا دخل لاختيار الناس فيه فلا بد و ان يكون باختيار من اللّه عز و جل و تعيين من واسطة الفيض بطريق التنصيب و سيأتي في الآيات اللاحقة تفصيل الكلام ان شاء اللّه تعالى.

الثامن:

انما خص المؤمنين بالذكر في قوله تعالى، «لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ » مع ان رسول اللّه تعالى و أنبيائه مبعوثون إلى كافة الناس لبيان مزيد المنة و تماميتها عليهم لأن تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية و لأنهم مستعدون لنيل الإفاضات الربوبية، و قد تقدم في قوله تعالى: «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ » ما يرتبط بالمقام فراجع.

التاسع:

انما قدم عز و جل التزكية على التعليم في المقام و أخرها في قوله تعالى: «وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ » البقرة - 129

ص: 45

لبيان التلازم بين التخلية و التحلية في النفوس المستعدة فلا ينافي تقديم احد المتلازمين على الآخر في موضع مع تأخره عنه في موضع آخر، أو لأن التزكية و التعليم الواقعين لا بد ان يدعو كل واحد منهما الى الآخر و إلا فليسا من التخلية و التحلية بشيء.

بحث روائي
اشارة

في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » قال (عليه السلام): «فصدق اللّه لم يكن اللّه ليجعل نبيا غالا «و من يغلل يأت بما غل يوم القيامة» و من غل شيئا رآه يوم القيامة في النار ثم يكلف ان يدخل اليه فيخرجه من النار».

أقول: الحديث ينص على تجسم الأعمال و ان العامل مأخوذ بعمله في الدار الآخرة.

و في المجالس عن الصادق (عليه السلام): «و إن رضاء الناس لا يملك و ألسنتهم لا تضبط، ألم ينسبوه - أي نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) - يوم بدر الى انه أخذ لنفسه من المغنم قطيفة حمراء حتى أظهره اللّه على القطيفة و برّأ نبيه من الخيانة، و انزل في كتابه:

«وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » .

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة مروية من الخاصة و الجمهور، و يستفاد منها انهم قد نسبوا ذلك اليه (صلى اللّه عليه و آله) في عدة مواضع.

في الكافي عن عمار الساباطي قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع)

ص: 46

عن قول اللّه عز و جل: «أَ فَمَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَ اَللّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ » فقال (عليه السلام): الذين اتبعوا رضوان اللّه هم الأئمة، و هم و اللّه يا عمار درجات للمؤمنين، و بولايتهم إيانا يضاعف اللّه لهم أعمالهم و يرفع اللّه لهم الدرجات العلى».

أقول من كان مع الحق و في الحق في جميع أفعاله و أقواله تنطبق عليه الآية الشريفة فتكون الرواية من باب التطبيق.

و في تفسير العياشي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: «هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اَللّهِ » قال (ع): «الدرجة ما بين السماء الى الأرض».

أقول: لا ريب في اختلاف الدرجات اختلافا كثيرا بل ربما تكون التفاوت غير متناهية.

أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَل.......

أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوِ اِدْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ

ص: 47

وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الآيات الشريفة تبين جانبا من الجوانب المتعدّدة في غزوة احد فقد كشفت عن شبهات المنافقين و كيدهم في إضلال المؤمنين عن القتال و تعرضت للرد عليهم و بينت الحقيقة فيهم و انهم على الكفر و الضلال.

و الآيات المباركة تكشف عن الموازنة بين ما أصابهم من خسارة و هزيمة حصلت من عند أنفسهم و بين تلك النعمة العظمى و المنة الكبرى بما تحقق لهم من اتباع الرسول العظيم الذي هو من أنفسهم.

التفسير

قوله تعالى: أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها .

بيان لحقيقة واقعية و هي ان ما يصيب الإنسان من المصائب إنما يكون بسبب المعاصي التي تقع منه جريا على قانون الأسباب و المسببات و قد تقدم في الآيات السابقة بيان الكبرى فراجع قوله تعالى: «وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ » آل عمران - 140.

و الاستفهام للتقريع فيكون السؤال الاستنكارى في موضعه. و الواو عاطفة و قد تقدمت عليها همزة الاستفهام لان لها الصدارة في الكلام و «ما» ظرف بمعنى حين و «قَدْ أَصَبْتُمْ » صفة لمصيبة و قيل في محل نصب على انه حال.

و المصيبة هي التي اصابتهم يوم أحد إثر عصيان الرسول (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 48

و مخالفتهم لأوامره و عدم التقوى عندهم و الفشل و التنازع بينهم مما كان سببا لهزيمتهم و توبيخهم و تقريعهم. و المشهور بين المفسرين ان المراد بالمثلين: المثلان في غزوة بدر الكبرى فإنهم قتلوا من المشركين سبعين و أسروا منهم سبعين فكان ذلك مثل ما أصاب المسلمين يوم أحد من قتل سبعين منهم. و الظاهر انه أعم من ذلك و مما أصاب المسلمون من المشركين في غزوة احد فقد هزموهم أول الأمر و قتلوا منهم جمعا و لكن عصيانهم للرسول و فشلهم و تنازعهم كان السبب في هزيمتهم و قتل المشركين لهم. و كيف كان ففي هذا التوصيف تسكين لقلوبهم و تحقير للمعصية و لما يورث السكون و هذا كاف في الجواب عن سؤالهم.

و المعنى: أ تدرون لما ذا أصابكم تلك المصيبة فإنها كانت من عند انفسكم و نتيجة حتمية لأعمالكم لأنكم خالفتم أوامر الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و فشلتم و اختلفتم و تنازعتم فكان ذلك سببا في إفساد الفتح و الظفر اللذين كانا من نصيبكم.

قوله تعالى: قُلْتُمْ أَنّى هذا .

سؤال عن سبب المصيبة تعجبا منهم و استيحاشا و استعظاما و استبعادا للحادثة مع مباشرتهم لسببها و الجملة جواب «لما» و هذه واحدة من تلك الشبهات التي ذكروها في المقام بعد ما رأوا النصر الباهر في بدر فاعتبروا أن ذلك لأجل كونهم مسلمين و لكنهم ذهلوا عن الحقيقة.

قوله تعالى: قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ .

بيان للحقيقة الّتي غفلوا عنها و تأكيد لما بينه عز و جل سابقا من ان ما يصيب الإنسان انما هو آثار أفعاله و نتائج اعماله.

و المعنى: قل يا رسول اللّه في جوابهم انكم أخطأتم في الرأي فان الذي أصابكم انما هو بسبب أعمالكم و أفعالكم حيث خالفتم أوامر الرسول

ص: 49

(صلى اللّه عليه و آله) و فشلتم و تنازعتم في الرأي، و انكم اخترتم هذه المصيبة لأنكم طمعتم بفداء الأسرى مع ان الرسول (صلى اللّه عليه و آله) انذرهم بأنه يقتل منهم بعددهم و اشترط عليهم ذلك فرضوا به. و هذا محمول على الغالب من الذين كانوا معه (صلى اللّه عليه و آله) و اما أعاظم الصحابة مثل علي (عليه السلام) و نحوه فلا تشملهم الآية الشريفة فلا وجه لإشكال بعض المفسرين في المقام.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

اي: ان اللّه تعالى قادر على الظفر عند المطاوعة و الصبر و الخذلان عند المخالفة. و ما وقع انما كان بسوء اختياركم و جريا على سنة الأسباب و لكنه تعالى قادر على اللطف بكم.

و في الآية الشريفة كمال العناية بهم و تطييب لأنفسهم حيث قرن مرارة التقريع بحلاوة الوعد و فيها درس من دروس الحكمة التي يعلّمها اللّه تعالى للمؤمنين.

قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ بيان لقدرته الكاملة، و ذكر لاحد مصاديقها فان كل شيء لا بد ان ينتهي الى اذن اللّه تعالى و قدرته «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي اَلسَّماواتِ وَ لا فِي اَلْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً» فاطر - 45 فكل ما أصاب المسلمين يوم التقى جمعهم بجمع المشركين في احد من قتل و جراح إنما كان باذن اللّه تعالى و ارادته الازلية و تقديره و قضائه فانه جرت إرادته على امتحان المؤمنين و تمحيصهم ليكمل ايمانهم بذلك و ينال من قتل منهم بدرجة الشهادة.

و ذكر بعض المفسرين ان هذه الآية الشريفة تؤيد المراد من الآية السابقة لان المستفاد من قوله تعالى: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ »

ص: 50

اختيارهم الفداء من اسرى يوم بدر، و شرطهم على أنفسهم للّه ما شرطوا فأصابهم هذه المصيبة باذن اللّه تعالى.

و فيه: ان ظاهر هذه الآية المباركة يبين القدرة الكاملة و الارادة التامة الازلية التي قضى بها عز و جل على اجراء سنة الأسباب في هذا العالم و يمكن ان يكون لما أصابهم اسباب كثيرة قد بين جملة منها في الآيات السابقة و يدل على ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

غاية اخرى من الغايات المترتبة على ما أصابهم من المصائب و هي وقوع المعلوم في الخارج ليطابق علمه الازلي اي: أصابتكم المصيبة ليعلم حال المؤمنين في قوة ايمانهم و ضعفه. و ليعلم الذين صبروا و ثبتوا مع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في ميدان القتال و الذين آثروا الفرار و خذلوا الرسول الكريم، فهذه الآية الشريفة لبيان وجه الحكمة و الغاية و الآية الاولى لبيان السبب.

و كيف كان فهذه الآيات الشريفة تبين جانبا من الجوانب المتعددة في غزوة احد التي اشتملت على وجوه من الحكمة و تضمنت غايات متعددة قلما اجتمعت في غزوة اخرى.

و انما ذكر عز و جل المؤمنين ابتداء تشريفا لهم عن الانتظام و الدخول في الطائفة الاخرى فان الفريقين مختلفان من جميع الجهات، و يمكن ان يكون ذكر اسم الفاعل الدال على الثبوت و الاستمرار للاشارة الى ما ذكرناه.

قوله تعالى: وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا .

تمهيد لذكر احوال المنافقين الذين ظهروا في غزوة احد بأقبح

ص: 51

صورة سواء في أقوالهم أو أفعالهم. و الجملة عطف على قوله تعالى:

«فَبِإِذْنِ اَللّهِ » و انما أعاد عز و جل الفعل للتأكيد على هذه الغاية و اعتناء بهذه العلة.

و المراد من «اَلَّذِينَ نافَقُوا» هم الذين أظهروا الايمان و ابطنوا الكفر، اي انما أصابتكم المصيبة ليظهر المنافق و يميز بينه و بين المؤمن.

و انما ذكر عز و جل هذه الطائفة بموصول صلة فعل، للدلالة على الحدوث و عدم الثبوت بانه قد يتوب منهم بعد ذلك و يرجع الى الايمان و قد ذكرهم تعالى بعد ذكر المؤمنين للعبرة بسوء عاقبتهم و الاحتراز عن أفعالهم و أقوالهم و عدم التشبه لهم.

قوله تعالى: وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَوِ اِدْفَعُوا .

بيان لوجوه نفاقهم منها ان الذين نافقوا قد دعوا الى القتال في سبيل اللّه و نصرة دينه لينالوا الشهادة فيفوزوا بدرجاتها العالية و لو لم تقاتلوا كذلك فادفعوا عن انفسكم و أهليكم حمية أو ابتغاء للغنيمة و الكسب و غير ذلك من المقاصد الدنيوية و لكنهم تكاسلوا و راوغوا بنفاقهم.

و انما ذكر عز و جل «تعالوا» لما فيه من الدلالة على التظاهر و التعاون ترغيبا لهم عليهما و المشاركة مع المؤمنين في نيل السعادة.

قوله تعالى: قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاَتَّبَعْناكُمْ .

مظهر من مظاهر نفاقهم فإنهم قالوا لو كنا نعلم انكم تلقون العدو لأجل القتال في سبيل اللّه و اقامة الحق لذهبنا معكم و لكن لا نرى قتالا حقا في البين، و هذا تعلل منهم نفاقا و استهزاء بالمؤمنين، فان القتال معلوم حيث نزل العدو بساحتهم بجميع عدده و عدته و قد

ص: 52

حنق غيظا على الحق و على المؤمنين به. و قد رد عز و جل عليهم و بيّن كذبهم.

و المراد باتبعناكم هو الذهاب مع المؤمنين للقتال و لم يفصحوا بالقتال لكمال معاندتهم مع الحق و غيظهم و احجامهم عن ذكره.

قوله تعالى: هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ .

اي: هم يوم إذ قالوا «لو نعلم قتالا» اقرب إلى الكفر منهم قبل ذلك إلى الايمان لظهور إمارته عليهم فان هذه المقالة كفر باللّه العظيم و استهزاء بالنبي الكريم فإنهم يميلون إلى الكفر اكثر من ميلهم إلى الايمان.

و انما ذكر عز و جل «يَوْمَئِذٍ» مع انهم لم يؤمنوا لرفع شأن ذلك اليوم الذي ظهر فيه الحق و تميّز المؤمن عن المنافق.

كما انه سبحانه و تعالى قال: «هم اقرب» لبيان ظهور كفرهم الصريح و اما النفاق فأمره واضح لأنهم واقعوه قبل ذلك و ظهر على أفعالهم و أقوالهم، و لترغيبهم إلى الإسلام و الدخول فيه و لو كانوا على خلاف الحق و عدم ايئاسهم.

قوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ .

بيان لحال المنافقين مطلقا، و الجملة مستأنفة تبين حقيقة نفاقهم.

اي: انهم لم يؤمنوا بالحق و لم يتبعوكم و لو علموا به لأنهم على الكذب دائما و اظهار خلاف ما يضمرون و ذلك عادتهم و سيرتهم، فهم مستمرون عليه. و الأفواه: جمع فاه و انما ذكره عز و جل للتأكيد و مقابلة للقلوب و زيادة في التقريع و نظير ذلك قوله تعالى: «سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » الفتح - 11.

ص: 53

اي: انهم لم يؤمنوا بالحق و لم يتبعوكم و لو علموا به لأنهم على الكذب دائما و اظهار خلاف ما يضمرون و ذلك عادتهم و سيرتهم، فهم مستمرون عليه. و الأفواه: جمع فاه و انما ذكره عز و جل للتأكيد و مقابلة للقلوب و زيادة في التقريع و نظير ذلك قوله تعالى: «سَيَقُولُ لَكَ اَلْمُخَلَّفُونَ مِنَ اَلْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ » الفتح - 11.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ .

اي: انهم غافلون عن الحقيقة فان اللّه تعالى اعلم بما يكتمونه من الكفر و النفاق و الشر و الفساد و هو يحاسبهم به و يجازيهم عليه.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا .

مظهر آخر من مظاهر نفاقهم و انما صدر منهم هذا القول بعد القتال، كما ان القول السابق صدر منهم قبله كما هو واضح. و الجملة بدل.

و المراد بإخوانهم: الاخوان في النسب، و انما ذكره بالخصوص لأنهم يدعون الاخوة الظاهرية و مع ذلك يخالفونها و لم يفوا بدعواهم فإنهم قعدوا عن مساعدتهم حين ابتلائهم بالقتال و هذا أقبح تعيير في الجاهلية فضلا عن الإسلام.

قوله تعالى: لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا .

هذا من من المثبطات التي كان المنافقون يتوسلون بها في تضعيف المؤمنين و بث روح الشك و الارتياب في نفوسهم.

و المعنى: انهم قالوا لإخوانهم لو أطاعونا بالقعود عندنا و عدم الذهاب إلى ما دعاهم اليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) من الجهاد مع اعداء اللّه تعالى ما قتلوا كما لم يقع علينا القتل. و قولهم هذا يرجع إلى جحودهم للقضاء و القدر و اعتقادهم بأن الموت يستند إلى اسباب معلومة إذا اتقاها الإنسان سلم عنه و ان الموت مما يمكن ان يستدفع عنه و يتحرز منه و هذا مكابرة منهم و انكار للوجدان الذي يحكم بأن الموت و الحياة و ان كانا أمرين طبيعين لهما اسباب معلومة

ص: 54

لكنهما كسائر الحوادث الكونية تحت ارادة اللّه تعالى و قضائه و قدره كما أكد عز و جل ذلك في الآيات السابقة.

قوله تعالى: قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ .

تثبيت لإرادة اللّه تعالى و تأكيد بان الأمور تحت قضائه و قدره.

و الدرء هو الدفع.

اي: قل يا محمد في جوابهم تبكيتا لهم و إظهارا لكذبهم فادفعوا عن انفسكم الموت فان القعود لا ينجيكم منه لأنه امر محتم يحل إذا حلّ الأجل و ان طال بلا فرق بين القاعد و المجاهد، و الحذر عن سبب معين لا يقي عن باقي الأسباب التي تقع بارادة اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .

قضية شرطية معلقة على امر ممتنع فيكون الصدق منهم ممتنعا في ذلك. و في الآية الشريفة التأكيد على كذبهم فانه يمتنع ان يكونوا صادقين في أقوالهم و أفعالهم.

اي: فان كنتم صادقين فادرأوا عن انفسكم جميع اسباب الموت.

بحوث المقام
بحث ادبي:

«ما» في قوله تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ » اسم موصول مبتدأ و «أَصابَكُمْ » صلته «فَبِإِذْنِ اَللّهِ » خبره

ص: 55

و انما دخل عليه الفاء لتضمن الموصول معنى الشرط و قيل انه للسبب.

و انما ترك العاطف بين «تعالوا» و «قاتلوا» في قوله تعالى:

«تَعالَوْا قاتِلُوا» لبيان التلازم بينهما و ان المقصود بهما واحد.

قوله تعالى: «وَ قَعَدُوا» إما حالية من ضمير قالوا بإضمار (قد) و إما معطوفة بالواو التي هي لمطلق الجمع فتكون جملة معترضة بين قالوا و مقوله و هو قوله تعالى: «لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا» .

الظرفان في قوله تعالى: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ » قيل ان كليهما متعلقان ب «اقرب» و ذكروا أن من القواعد في باب الظروف انه لا يتعلق حرفا جر، أو ظرفان بمعنى واحد بمتعلق واحد إلا في ثلاث صور:

الاولى: ان يتعلق أحدهما به مطلقا ثم يتعلق به الآخر بعد تقييده بالأول.

الثانية: ان يكون الثاني تابعا للأول ببدلية أو عطف بيان أو نحوهما.

الثالثة: ان يكون المتعلق افعل تفضيل لتضمنه الفاضل و المفضول اللذين يجعلانه بمنزلة تعدد المتعلق كما في المقيد و المطلق، و المقام من هذا القبيل.

و الجامع في جميع ذلك لحاظ الوحدة الاعتبارية فكلما لوحظ فيه هذه الجهة يصح ذلك و لا يختص بتلك الصور الثلاث.

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
اشارة

ص: 56

الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» واقع الإنسان بعد إصابة المصيبة بانه يلتمس أسبابا لتلك و إلقاء تبعاتها على الغير تخفيفا للوعة المصاب و لما فيه الأثر النفسي الكبير. و الآية الشريفة لا تنفي ذلك بل تبين الطريق الصحيح و تهدي الإنسان إلى الصراط المستقيم و تبين ان الأسباب لتلك المصائب و الهموم انما تكون من عند الإنسان نفسه و قد أتى الجواب عن جميع تلك الأسئلة و الشبهات واضحا يبين الحقيقة قال تعالى: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ » و قال تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» الشورى - 30 و على الإنسان التفكر في عقيدته و أفكاره و أفعاله و أقواله فان فيها الأسباب التي تقتضي حدوث المصائب على الإنسان و كيفية التحرز عنها بالالتزام بالشرع و الاتكال على اللّه تعالى.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» على ان قانون الأسباب و المسببات الذي بني عليه هذا النظام لا يخرج عن قدرة اللّه تعالى و قضائه و قدره فانه عز و جل المدبر لهذا النظام الكياني و هو المهيمن على جميع ما يجرى فيه فان الأسباب و ان اقتضت المسببات المعلومة إلا انها تؤثر بارادة اللّه عز و جل و اذنه.

و من ذلك يعلم السر في تعقيب ذلك بقوله تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ اِلْتَقَى اَلْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اَللّهِ » و أكد ذلك بقوله عز و جل: «وَ لِيَعْلَمَ اَلْمُؤْمِنِينَ » الذي يدل على ان الاعتقاد بذلك من الايمان.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا» إلى أهم ما كان يريد المنافقون من أقوالهم و أفعالهم و هو تثبيط المؤمنين عن القتال و بث روح الشك في نفوسهم و الاحجام عن تنفيذ أوامر اللّه تعالى و ترك طاعة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و قد فند عز و جل مزاعمهم و أبطل

ص: 57

دعاويهم و أعلن كفرهم و اظهر كذبهم و حقيقة أمرهم و هي انهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم و أن ذلك صار من عادتهم و سيرتهم.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ اَلْمَوْتَ » حسن المحاورة و المحاجة مع المنافقين و الكافرين و اقامة البرهان لهم حتى يرجعوا إلى الايمان و حيث لا بد ان تكون بالتي هي احسن و إلا خرج عن الحدود الشرعية و هذه الآيات كلها تعليم للحكمة التي وردت في الآية السابقة «وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ » .

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى: «أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» قال الصادق (عليه السلام): «كان المسلمون قد اصابوا ببدر مائة و أربعين رجلا قتلوا سبعين رجلا و أسروا سبعين رجلا، فلما كان يوم أحد أصيب من المسلمين سبعون رجلا فاغتموا بذلك فانزل اللّه تعالى: «أَ وَ لَمّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها» .

أقول: قد روى الجمهور مثل ذلك ايضا و الرواية على فرض صحتها ترشد إلى استنكار التعجيب منهم بعد وصول مثلي ما أصابهم إليهم في يوم بدر.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ لِيَعْلَمَ اَلَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ » قال: فهم ثلاثمائة منافق رجعوا مع عبد اللّه بن أبي سلول، فقال لهم جابر بن عبد اللّه أنشدكم في نبيكم و دينكم و دياركم فقالوا و اللّه لا يكون القتال اليوم و لو نعلم ان يكون القتال لاتبعناكم، يقول اللّه: «هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ » .

أقول: بيان لبعض مصاديق النفاق و قد تقدم في التفسير ما يتعلق بذلك.

ص: 58

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ .......

اشارة

وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ (171) اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اِتَّبَعُوا رِضْوانَ اَللّهِ وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) بعد ما بين سبحانه و تعالى مكر المنافقين و ضعف نفوسهم و تحداهم بأمر واقع لا نكران فيه بأن الموت كما يصيب المجاهدين في سبيله تعالى كذلك يصيب القاعدين و لا يستطيعون درء الموت عن أنفسهم بقعودهم.

بين في هذه الآيات الشريفة المائز و الفارق بين ميتة القاعدين و بين ما يصيب المجاهدين في سبيله تعالى و لا يموتون ميتتهم فإنهم ليسوا

ص: 59

أمواتا و لا تكون حياتهم محدودة فلا تنتهي و انما لهم الحياة عند ربهم متصفين بأكمل الصفات و أسماها، فرحين، و مستبشرين، لا يطرأ عليهم خوف و لا حزن لأنهم عند «مليك مقتدر».

و الأحياء عند ربهم هم الذين استجابوا للّه و الرسول و لم تزلزلهم المحنة و لم تقعدهم الجراحات عن الجهاد في سبيله و لم يخشوا من تجمع الأعداء و لم يرهبهم ارجاف الناس بل زادهم كل ذلك ايمانا به تعالى و تسليما لأمره فاعتمدوا عليه و ساروا على النهج الذي فيه رضوان اللّه تعالى و يستبشرون خيار المؤمنين بكمال سعادتهم.

و قد كشف سبحانه و تعالى عن منشأ الخوف و هو الشيطان الذي يخوف أولياءه تعالى و لكنهم لا يخافون سواه تعالى و ان قلوبهم مملوءة بالثقة باللّه العظيم و الايمان به.

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع من قصر نظره على المادة و الماديات و اعرض عن الواقع و الحقيقة، و لأجل اهمية المضمون تحقق الالتفات في الآية المباركة عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فكأن هذه الحقيقة لا يمكن دركها بسهولة و لا يتقبلها عقول سائر الناس المأنوسة بالماديات إلا من كان متصلا بالفيض الربوبي و متربيا بالتربية الإلهية و مهتديا بهدى اللّه تعالى.

و الآية المباركة رد لجميع مزاعم المنافقين و الكافرين و كل متوهم

ص: 60

يتوهم ان الموت هو سبب لصيرورة الميت كالجماد روحا و بدنا و انعدام كل منهما فلا حياة بعد ذلك وراء هذه الحياة الدنيا و لا بعث. و التعبير بالحسبان للاعلان ببطلان هذا الزعم و فساده.

و المراد بسبيل اللّه كل سبيل شرع لإقامة الحق و إزاحة الباطل و قمعه سواء كان من الجهاد الأكبر أو الجهاد الأصغر، و تعلم المعارف الربوبية و الاحكام الشرعية، و تهذيب النفس بما يرتضيه اللّه تعالى، بل و يشمل السعي في قضاء حوائج المؤمنين تقربا إلى اللّه تعالى؛ فكل من قتل في سبيل تلك تشمله الآية الشريفة.

كما ان المراد بالموت هنا هو الموت الظاهري و سقوط الإدراك لأجل مفارقة تلك الحياة الحيوانية المعروفة.

و الحياة الثانية هي الحياة الواقعية المعنوية، فالشهيد بالحق و في الحق تصعد روحه الى الجنة و تعيش في المقامات المعدة لها، فتكون أرواح الشهداء من مظاهر تجليات الحق بالحق و من شوارق اشعة الذات غير المحدودة بحد أبدا.

فالآية الشريفة تبين حقيقة من الحقائق الواقعية و هي الحياة بعد الموت و ان الإنسان بروحه لا بجسده فحسب فهي التي تشقى أو تسعد و المنافقون و غيرهم غفلوا عن هذه الحقيقة و اقتصروا على ما هو المحسوس و كان قصدهم من ذلك تثبيط المؤمنين عن الجهاد في سبيل اللّه تعالى و تقنيطهم عن مأمولهم و ما كانوا يرجونه في جهادهم و قتلهم في سبيل اللّه تعالى لكن الوجدان الانساني يعلن بطلان أقوالهم و يحكم عليهم بالخزي و العار و ان نصيبهم من ذلك الحرمان و الشقاء.

فالآية المباركة ترشد إلى أمر وجداني يذعن الإنسان به بعد أدنى تفكر و روية، و لعل ذلك كله هو الوجه في تأكيد هذه الحقيقة في القرآن

ص: 61

الكريم و تكرارها في مواضع متعددة منه و قد تقدم في قوله تعالى:

«وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ » البقرة - 154 فقد نفى عز و جل عنهم الشعور لكثرة انسهم بالماديات و غفلتهم عن الحقائق و المعنويات و بعد التفكير و عدم الاقتصار على الجانب المادي فقط في هذه الحياة تنكشف الحقيقة بوضوح هذا و للإذعان بهذه الحقيقة فوائد كثيرة فانه يوجب الاعتقاد ببقاء الروح و انها تنتقل من عالم الى عالم آخر، كما انه يقتضي زوال كثير من الهموم و الغموم التي تصيب الإنسان في الحياة الدنيا و شدة الاقدام و المثابرة في تحمل المكاره للعلم بأنها إذا كانت في سبيل اللّه تعالى فان لها الجزاء الأوفى و هي توجب السعادة و العيش الهنيء في العقبى.

و لذا نرى ان هذه الحقيقة انما تذكر بعد آيات الجهاد و القتال في سبيل اللّه لما لها الأثر الكبير على الصبر في ميدان القتال و المثابرة عند النزال.

كما ان الاعتقاد بهذه الحقيقة يكون من اسباب استكمال الإنسان و اعداد نفسه لحياة اخرى بوجه أتم و أكمل كما تدل عليه ذيل الآية الشريفة و آيات اخرى في مواضع متعددة، يضاف إلى ذلك ان لها الأثر الكبير في النفس فتجعلها مطمئنة راضية بما قسمه اللّه تعالى و ما ينزل عليها من المصائب.

قوله تعالى: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ .

إبطال لما زعموه في المقتولين في سبيل اللّه تعالى بأنهم أموات قد انتهت حياتهم بل هم احياء بحياة خاصة و مقربون عند ربهم يتغمون بأنواع الرزق في تلك الحياة الكريمة و سعداء في ذلك العالم الحميد، و قد كرمهم عز و جل بذكر (عند) و الربوبية و اضافتها إلى ضمير

ص: 62

(هم) و فيه غاية التكريم و التبجيل و قد تقدم في آية (154) من سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

قوله تعالى: فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

الفرح: السرور و هو ضد الحزن اي: انهم مسرورون بما وجدوه من فضل اللّه الذي كان حاضرا مشهودا عندهم، و الفضل هذا يكون زائدا على الرزق فانه ما كان من غير مقابلة قال تعالى: «لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ» فاطر - 30.

و هذه الآية الشريفة تثبت الحياة الكاملة لهم بعد قتلهم، و تبين نهاية السعادة و رفعة الدرجات.

قوله تعالى: وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ .

مزيد بيان لتلك الحياة فإنهم في تنعمهم في فضل اللّه تعالى يفرحون بأخبار خيار المؤمنين الباقين في الحياة الدنيا و يستبشرون بسعادتهم و صلاحهم في الآخرة. و انما عبر تعالى: «مِنْ خَلْفِهِمْ » لبيان انهم على طريقة الشهداء و يقتفون أثرهم.

قوله تعالى: أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ .

بيان لصلاحهم في الآخرة اي: انهم يستبشرون بمن خلفهم بأنهم لا خوف عليهم من المتوقع و لا هم يحزنون من الواقع و انما كان ذلك منهم مشاهدة و إرشادا للمؤمنين بأن لا يخافوا مما يصيبهم و لا يحزنوا مقابل تلك المقامات العالية.

و قد أبهم الخوف و الحزن لتدل على التعميم من كل جهة يمكن ان تفرض، لان النكرة في سياق النفي تفيد العموم.

ص: 63

قوله تعالى: يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ .

جملة مستقلة لم يذكر فيها حرف العطف اهتماما و تعظيما لأن مفادها نعمة عظيمة فوق جميع النعم.

و الاستبشار هو الخبر السار الظاهر سروره على البشرة و هذا الاستبشار أعم من الاستبشار بحال أنفسهم و الاستبشار بحال غيرهم، و انما حصلت هذه الفضيلة لهم من مجاهداتهم في سبيل اللّه تعالى و الاصطبار عليها.

و النعمة: هي الأجر الجزيل الذي اتحفهم تعالى به و خصهم بولايتهم، و الفضل هو الكرامة التي حباهم عز و جل زيادة على أجرهم و جزائهم نظير قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا اَلْحُسْنى وَ زِيادَةٌ » يونس - 26.

و انما جمع عز و جل بين الاستبشار بانتفاء الخوف و الحزن، و الاستبشار بنعمة من اللّه و فضل لبيان تمامية النعمة و كمال الحياة بعد الموت، و الإرشاد الى ان أعمالهم مشكورة و مقبولة عند اللّه و هي محفوظة لهم قال تعالى: «وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اَللّهِ » * البقرة - 110 و لعله لأجل ذلك كله كرر سبحانه و تعالى الاستبشار و الفضل في الآيات المتقدمة.

و قد أبهم عز و جل النعمة و أضافها الى نفسه جلّ جلاله ليقترن الفخامة الذاتية لفخامة الاضافية، و ليذهب ذهن السامع كل مذهب ممكن، كما انه عز و جل جمع بين النعمة و الفضل لبيان ان النعمة التي أنعمها اللّه تعالى عليهم مضاعفة و لا نهاية لسرورهم و لذّاتهم و لا حد لعناياته عز و جل بهم.

قوله تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

تأكيد آخر بتوفية اللّه اجر المؤمنين من الشهداء و غيرهم من غير

ص: 64

نقصان، و الآية الشريفة تبين وجه نفي الحزن و الخوف عنهم فان الإنسان انما يخاف إذا كانت النعمة التي هو فيها في معرض الزوال، و يحزن إذا علم بفقدان السعادة التي اكتسبها فإذا تيقن بأن الأعمال محفوظة عند اللّه تعالى و انه عز و جل لا يضيع الأجر عنده فيرتفع الخوف و الحزن عنه و هذا هو الفضل الذي ذكره تعالى ابتداء و إذا كان عز و جل هو الذي يتولى أمرهم و يمنحهم الفضل الكبير لا وجه للحزن و الخوف عنده.

و انما ذكر عز و جل المؤمنين تنويها بمقامهم السامي و ان تلك المقامات التي ذكرها عز و جل انما تنال بالإيمان. فما ذكره تعالى في هذه الآيات انما هو لبيان تمام النعمة و الدخول في حياة كاملة لا ينغصها شيء من الكدورات و قد خصهم عز و جل بولايته و منحهم انواع النعم.

و الآيات الشريفة المتقدمة من أجل الآيات التي وردت في اثبات الحياة للروح بعد الموت و اثبات عالم البرزخ و تنعم أرواح الشهداء و ابطال مزاعم الكفار و المنافقين في هذا المجال و هي في غاية الفصاحة و البلاغة بأسلوب جذاب لطيف في منتهى الجمال و الروعة و قد ذكر عز و جل فيها من الدقائق و الرموز التي لا يمكن ان يدركها عقول سائر الناس إلا بواسطة الوحي المبين و ارشاد واسطة الفيض الربوبي و هي تدل على امور نحن نذكر جملة منها في المقام.

منها: انه عز و جل ذكر ابتداء الأمر بطلان كل ما قيل من السوء أو يقال في هذا المجال و بين فساد مزاعم المنافقين في أرواح الشهداء و المؤمنين و أدرج جميع ذلك في قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ » و يستفاد من ذلك ان الاعتقاد بخلاف ما ذكره عز و جل من مجرد الحسبان الذي لا واقع له.

ص: 65

و منها: ثبوت الحياة الكاملة لأرواح الشهداء التي شرّفها عز و جل و انها حاظت مقام القرب لديه الذي هو من أجل المقامات و لا يعقل محمدة فوق هذه المحمدة لان الشهداء بذلوا أعز الأشياء عندهم و هي الروح فإذا فدّى الإنسان ما هو أعز الأشياء لديه في سبيله جلت عظمته كان الجزاء عظيما و ينال ذلك المقام العظيم و هو مقام القرب و لذا ورد في الحديث انه «فوق كل بر بر إلا القتل في سبيل اللّه فليس فوقه بر» و العندية المذكورة في الآية المباركة ليس المراد بها العندية الظاهرية بل العندية الواقعية الحقيقية التي لا يعقل لها حد. و ليس لجلالها و لا لكمالها غاية فهي خارجة عن الحدود الامكانية و إدراكات العقول و رزقنا اللّه تعالى لمحة من لمحاتها و شارقة من شوارقها.

و منها: انها تتنعم في تلك الحياة بأنواع الرزق الظاهرية و المعنوية بجميع مراتبها فلا ينقص من تلك الحياة شيء من اسباب العيش الهنيء و قد منحهم عز و جل ذلك الرزق العظيم لأنهم حرموا في هذه الحياة المحدودة الفانية عن تلك الأرزاق ببذل أعز شيء عندهم في سبيل اللّه تعالى و كانوا في جهاد مستمر مع النفس الأمارة و اعداء اللّه تعالى.

و منها: انهم فرحون بما أتاهم اللّه تعالى من فضله لأنهم وجدوا جزاء أعمالهم تاما كاملا قد منحهم اللّه تعالى الفضل الكبير، و هذا الفرح مما يزيد في بهجة تلك الحياة، و انما كانوا فرحين فيها لأنهم كانوا محزونون في الحياة الدنيا بسبب افعال الكافرين و المنافقين و أقوالهم و ما كان يصيبهم من شدة البلاء و المثابرة في سبيل اللّه تعالى.

ص: 66

اتصال مع خيار المؤمنين الباقين بعدهم في الدنيا يستخبرون عن أحوالهم و يصل إليهم اخبارهم و يسألون عن شؤونهم و يسرون بصلاحهم، و يفرحون بنجاتهم عن سوء العقاب.

و منها: انهم بمشاهدتهم جزاء أعمالهم و اعمال المؤمنين فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و بذلك كملت حياتهم لان الحياة التي اشتملت على جميع اللذات و اسباب الفرح و خلصت من جميع ما يوجب الحزن و الخوف لا يعقل فوقها كمال و إذا كان ذلك على وجه الدوام و الخلود و لم يكن في معرض الزوال فلا نقمة من هذه الجهة ايضا، فهذه هي السعادة العظمى، و لذا نرى ان اللّه تعالى يؤكد على هذا الجانب في آيات اخرى قال تعالى: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى » * القصص - 60 و قال تعالى: «ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ باقٍ » النحل - 96.

و منها: انهم في ولاية اللّه تعالى يرعى شؤونهم و يفيض عليهم ما يوجب استبشارهم في كل آن لأنهم رأوا جزاء ما عملوا حاضرا قد زانه الفضل من اللّه تعالى و بعد اجتماع تلك الخصوصيات في هذه الحياة لا يعقل حياة و لا سعادة فوقها.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ .

الآية الشريفة باسلوبها اللطيف تبين كيفية تأثير التربية الحقيقة الملهمة في نفوس المؤمنين بعد ان وعوا تلك الدروس الهائلة التي مرت بهم في معركة احد، و بعد ما لاقوا من الشدائد و الصعاب بسبب المخالفة و العصيان، فكانت حصيلة تلك التعليمات الإلهية و الارشادات الربوبية انهم هبّوا من غفلتهم، و أفاقوا مما لحقهم من تبعات المعصية

ص: 67

و التفرق و الاختلاف، و رجعوا إلى الحق و الصراط المستقيم فاجتمعت فيهم صفات الثبات و الصمود و العزيمة و التوكل على اللّه تعالى فأطاعوا اللّه و الرسول و استجابوا له عند ما دعاهم إلى قتال الكفار إثر المعركة السابقة فقد لاحقوا جيش المشركين في رجوعهم من معركة احد على ما هم عليه من الجراح و هم لا يزالون يقاسون الآلام التي انهكت قواهم و أصروا على ان لا يعودوا إلى العهد السابق حذرا من العتاب و الخروج عن الحق فأدوا العمل على أكمل وجه و اتقوا التقصير الذي حصل منهم في تلك المعركة فكانوا في صورة مقابلة للصورة السابقة التي حكى عنها عز و جل في قوله: «إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ اَلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » - 153 هذه هي التربية الإلهية التي تؤثر في النفوس و تغيرها إلى صورة اخرى مخالفة للتي كانت عليها قبلها، و هؤلاء هم المؤمنون الذين حكى عنهم عز و جل آنفا بان الشهداء يستخبرون عن أحوالهم و يستبشرون بجزائهم الجزيل و مقامهم الرفيع.

و انما ذكر سبحانه و تعالى «لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ » مع ان اطاعة أحدهما اطاعة للآخر لبيان أن ما صدر منهم في أحد قد تضمن مخالفة اللّه و عصيان الرسول كليهما اما الاولى فقد خالفوا اللّه تعالى في أوامره بالصبر و الثبات فعصوه بالفرار و التولي. و اما عصيان الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فقد كان بمخالفة امره بالصمود في فم الشعب و لزوم مراكزهم.

و في هذه الواقعة قد استجابوا للّه و الرسول فاستحقوا الثناء الجميل و الأجر الجزيل.

قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ .

ثناء جميل لمن احسن ممن استجاب للّه و الرسول و اتقى في أقواله

ص: 68

و أفعاله و امتثل أوامر اللّه تعالى و الرسول بحسن نية و اخلاص و احترز عن كل ما يوجب البعد عنه عز و جل، فان اللّه تعالى و ان وصف الجميع بالاستجابة إلا انها أعم من الإحسان و التقوى اللتين عليهما مدار هذا الثناء و الأجر الجزيل.

و الاستجابة امر ظاهري تشمل جميع من لبّى دعوة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) إلا ان وراء ذلك امرا خفيا لا يمكن ان يطلع عليه إلا اللّه تعالى و هو تحري الإخلاص، و مراقبة العمل و التحذر مما يشينه فانه الإحسان الذي أمرنا اللّه تعالى بابتغائه في جميع الأحوال.

و إذا لازم ذلك التقوى و التحرز عما يوجب سخط اللّه تعالى في الأقوال و الأفعال، فقد استحق العامل ذلك الثناء الجميل و عظيم الأجر، و هذا مما يختص به طائفة معينة.

فالآية المباركة تقسم المستجيبين إلى طائفتين إحداهما ما حصل منهم الاستجابة الظاهرية التي خلت عن الإحسان و التقوى، و الثانية كانت محسنة و متقية فاستحقت عظيم الأجر.

و من ذلك يظهر ان «من» في قوله تعالى: «مِنْهُمْ » تبعيضية و قيل ان «من» بيانية و عليه الأكثر. كما في قوله تعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ - إلى ان قال تعالى - وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً» الفتح - 29 و عليه يكون المستجيبون للّه و الرسول كلهم محسنين و متقين، و الجمع بين الوصفين انما يكون للمدح و التعليل لا التقييد، و يمكن تقريب هذا الاحتمال على ما يوافق الاول بأن الآية الشريفة في الموردين و ان كانت صورتها جارية على النوع إلا ان المراد منها البعض بالتقريب المتقدم و في غيره يكون التأويل خلاف السياق و يأتي

ص: 69

في البحث الادبي ما ينفع المقام.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ .

اثر من آثار التربية الحقة الحقيقية انهم لا يتأثرون بأقاويل المرجفين و تحذير المنافقين بل ان اثر ذلك يكون على الخلاف فيزيد في ايمانهم باللّه تعالى و توكلهم عليه عز و جل و الثبات و العزيمة و قد كان ذلك فضلا كبيرا من اللّه تعالى عليهم و لذا لمّا عرف المشركون عزم المؤمنين و ذلك الثبات لم يصدقوا بأن فلول الجيش المتفرقة المضطربة في الأمس تريد القتال مع ما بهم من الجراح فأرهبتهم هذه العزيمة فآثروا الفرار على القرار.

و المراد بالذين هم الذين استجابوا للّه و الرسول فهي بدل من قوله تعالى «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا» . كما ان المراد من الناس الاول هم الخاذلون المثبطون للعزيمة الذين قد اشاعوا خبر اجتماع العدو ليخذلوا المؤمنين عن القتال و المراد بالناس الثاني المشركون.

و الظاهر من الآية المباركة انهم في كلا الموردين جماعة لا واحد و اختلفوا في المراد من الناس الاول فقيل انه نعيم بن مسعود الأشجعي قبل إسلامه فيكون اللفظ عاما و يراد به الخاص، و قيل انه ركب من قريش و قيل غير ذلك.

قوله تعالى: فَزادَهُمْ إِيماناً .

اي: ان هذا القول زادهم ايمانا باللّه تعالى و برسوله لأنهم أخلصوا للّه عز و جل عن جميع ما سواه و أحسنوا ظنهم به جلت عظمته و صدقوا بوعده فأثرت فيهم التربية الحقة و جنبوا أنفسهم من الرذائل و المعاصي فتجلت في قلوبهم الأنوار الربوبية فلا يبقى موضوع حينئذ

ص: 70

لتأثرها بما كان من غير الحق قولا أو فعلا فيزيد التحذير و التخويف في اشتداد الايمان بربهم و لم يعد يؤثر في نفوسهم فان الإنسان إذا لم يحسن الظن بأحد و اعتقد بكونه على الخلاف و يريد الإضلال و الإفساد من أقواله و أفعاله فانه لا يلتفت إلى تخويفه و كل ما أصر عليه زاد في تصميمه و المضي على ما يريد و قوي العزم عنده على طاعة اللّه و الرسول و ثبت على دين الحق لأنه يرى نفسه محقا و انه على يقين من نصر اللّه تعالى و على علم من ان اللّه عز و جل لم يتمّ لهم أمرهم إلا مع ملاقاة الأهوال و ان النصر لا يكون إلا في الجهاد مع اعداء اللّه تعالى و القتال معهم.

و انما يظهر اثر هذه الزيادة في الايمان في اعتقاده و أقواله و أفعاله و يشتد بذلك كله عزيمته على الاقتحام في الشدائد و تحملها في جنب اللّه فلا يخاف فيه لومة لائم.

قوله تعالى: وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ .

هذا أثر من آثار زيادة الايمان فيهم و اشتداده في قلوبهم فإنهم صدقوا في أقوالهم و عبَّروا عما يجيش في نفوسهم و اعتقدوا بأن اللّه تعالى يكفيهم من الأمور و قد اعرضوا عن ما سوى اللّه تعالى، و هو نعم الوكيل الذي يدبر أمورهم و يكفيهم أعداؤهم و ينصرهم عليهم لأنه لا يعجزه شيء في السموات و الأرض فاجتمعت النية الصادقة و الفعال الحسان و القول الحق فيهم.

و حسبنا مأخوذ من الإحساب و هو الكفاية يقال احسبني الشيء اي كفاني. و قيل انه مصدر مأول باسم الفاعل اي فحسبنا. و الحق هو الاول.

ص: 71

قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ .

ترتب هذه الآية الشريفة على الآية السابقة من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة، فان المؤمن إذا و كل امره إلى اللّه تعالى و اعتقد انه عز و جل يكفيه و يعطيه اللّه تعالى الجزاء العظيم.

و قد ذكر عز و جل أمورا اربعة هي، الانقلاب بنعمة من اللّه، و الفضل، و صرف السوء، و اتباع الرضا.

اما النعمة: فهي عودة المؤمنين إلى التربية الحقة و الاستجابة للّه و الرسول (صلى اللّه عليه و آله)، و الطاعة بعد المعصية و الصمود بعد الخذلان و هذه هي نعمة كبرى، فجزاهم اللّه تعالى بان صرف عنهم الأسواء و المهالك، فما ذكره بعض المفسرين في هذه النعمة من ان المراد منها السلامة و العافية و الرجوع عن حمراء الأسد بدون قتال انما هو تخصيص بلا مخصص نعم هي من لوازم تلك النعمة الكبرى.

و اما الفضل فهو زيادة الايمان و ثبات العقيدة و الخروج عن العصيان و الخذلان كما حصل منهم في غزوة أحد و هذا الانقلاب كان واضحا عندهم و قد استشعروا برد تلك النعمة و الفضل في نفوسهم و ظهرت آثارهما على أقوالهم و أفعالهم.

و من زيادة النعمة عليهم انهم لم يمسسهم سوء فلم يصبهم قتل أو نكبة و برأهم اللّه تعالى عن السوء الذي لاقوه في معركة احد.

قوله تعالى: وَ اِتَّبَعُوا رِضْوانَ اَللّهِ .

ثناء جميل و مدح عظيم لهم، و اتباع رضوان اللّه تعالى هو السعادة العظمى و مناط كل خير و قد مدح عز و جل من اتبع رضوان اللّه تعالى في الآيات السابقة، و في هذه الآية الشريفة يبين تعالى حقيقته و هي

ص: 72

الاستجابة للّه و الرسول، و شرطها الإحسان و التقوى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ .

لأنه تعالى وفقهم لهذه التربية الصالحة و من عليهم ان استجابوا للّه و الرسول، و أخرجهم عن ما هم عليه في معركة أحد فعادوا إلى الصراط المستقيم و زاد ايمانهم و قويت عزيمتهم و اشتد توكلهم على اللّه تعالى و من الفضل عليهم انهم مع ما هم عليه من الجراح و الشدّة ان العدو لما رأى فيهم العزيمة على القتال خشي ان ينقلب عليه الأمر فتقع عليه الهزيمة و الفرار دون القتال و هذا هو الفضل العظيم على المؤمنين في هذه الحال.

قوله تعالى: إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ .

بعد ما اثبت سبحانه و تعالى ان المؤمنين خرجوا عن غفلتهم و عصيانهم بالاستجابة للّه تعالى و الرسول و انقلبوا عن التفرق و الاختلاف و الطاعة و تفضل عليهم ربهم ان من عليهم و ثبتهم و هداهم إلى الصراط المستقيم فعادوا أقوى عزيمة و أتم ايمانا و أشد توكلا على اللّه تعالى إلا ان الشيطان يلعب دورا هاما في حياة الإنسان يتربص بالمؤمنين الدوائر و يريد إغواءهم و يبث أولياءه و أعوانه ليقوموا بهذه المهمة فينشروا الفساد في الأرض و يروّجوا الضلال، فكان ذلك النداء الشيطاني بالخشية من العدو حفظا لأوليائه و حماية للكفر و الضلال و تثبيطا للمؤمنين عن القتال بإلقاء الرعب و الخوف في نفوسهم ليخضعوا لهم.

و الآية الشريفة ترشد المؤمنين الذين كمل ايمانهم و اهتدوا بهدى اللّه تعالى و توكلوا عليه عز و جل حق التوكل إلى امر مهم يمس عقيدتهم و سعادتهم في الدارين و هو ترك الرهبة و الخوف من الشيطان و أوليائه

ص: 73

و عدم الوقوع في حبائله و وساوسه لان الخوف يستوجب الوهن في العزيمة و يلزم ذلك الطاعة لمن يخاف منه فمن خاف اللّه تعالى فانه لا محالة يتبع أحكامه فيبتعد عن الشيطان، و إذا خاف الشيطان و أولياءه فانه يطيعه و يقيم حكمه فيبتعد عن اللّه تعالى و هذا هو السبب للتأكيد على ترك خوف الشيطان بقوله تعالى: «فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ » .

و اسم الإشارة في قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ » إما راجع إلى الناس المذكور في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ » فيكون من اطلاق الشيطان على الشياطين. و إما ان يرجع إلى الوساوس الحاصلة بين الناس من الشيطان، و انما اتى بضمير ذوي العقول ترجيحا للموسوسين على نفس الوسوسة.

قوله تعالى: فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

لان الايمان يستلزم خوف اللّه تعالى، و الخوف يوجب الطاعة كما عرفت و اللّه تعالى هو ولي المؤمنين و ناصرهم و قد وعدهم النصر و حسن الجزاء فلا ينبغي الخوف من غيره فالسعادة في خوف اللّه جلت عظمته و تقواه دون غيره.

و في الآية الشريفة الذم لإبليس و أوليائه و البشرى للمؤمنين و من اتبع رضوان اللّه تعالى بالأمن من شر الشيطان و أوليائه، و لا تختص الآية الكريمة بخصوص مشركي قريش و غيرهم للعموم في الطرفين.

ص: 74

بحوث المقام
بحث ادبي:

المفعول الاول في قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً» محذوف و هو أنفسهم.

و قوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ » قيل انه في محل رفع على انه خبر ثان للمبتدأ المقدر، أو صفة ل (احياء)، أو في محل نصب على انه حال من الضمير في «أحياء».

و قوله تعالى: «فَرِحِينَ » منصوب إما على انه حال من الضمير في «يرزقون» أو يكون على المدح أو الوصفية.

و يستبشرون عطف على «فرحين» و يحتمل ان تكون جملة استينافية أو على تقدير (و هم يستبشرون) فتكون حالا في الضمير من (فرحين).

و قوله تعالى: «أَلاّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ » بدل اشتمال من «الذين من خلفهم» مبين للاستبشار.

و الذين في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ » مبتدأ و الخبر قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » . و قيل انه منصوب بإضمار اعني و قيل انه في موضع رفع على إضمار «هم».

و منهم في قوله تعالى «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » حال من الضمير في أحسنوا. و من للتبعيض، كما عرفت.

و قيل انها للبيان. و يرد عليه ان التي للإبهام لا بد ان تكون مباينة

ص: 75

فيه إبهام في جنسه و يكون في مجرورها بيان يرفع ذلك الإبهام، و لا إبهام في الآية الشريفة حتى يرفع ب من و مجرورها. و مما يهون الخطب انه يمكن إرجاع ذلك إلى القول الاول كما عرفت في التفسير.

و قيل ان «من» للتبعيض و الضمير يرجع إلى المؤمنين في آخر الآية السابقة اي: ان من المؤمنين من لم يخرج إلى حمراء الأسد.

و على هذا لا بد من نصب (الذين) على المدح في أول الآية المباركة إذ لا يستقيم ذلك على كون (الذين) مبتدأ و الخبر جملة «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ » إذ تبقى الجملة بلا رابط.

و يرد على نصب (الذين) على المدح انه لا عطف يدل على المغايرة مضافا إلى ان جعلها منصوبا على المدح بعيد، إذ لا دليل عليه.

و الذين في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ » بدل من «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا» أو صفة.

و المخصوص بالمدح في قوله تعالى: «وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ » محذوف هو ضميره تعالى و الجملة الخبرية، و في الآية الكريمة كلام طويل في عطف الجملة الإنشائية على الجملة الخبرية.

و الحق ان كل ذلك تطويل بلا طائل تحته، بل ان جميع هذه الآيات جمل مستقلة وردت في مقام مدح المؤمنين و بيان صفاتهم و جيء بالواو لتزيين الكلام.

و جملة «يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » جملة مستأنفة مبينة لشيطنة الشيطان، أو حال.

و خاف يتعدى إلى مفعول واحد، و يتعدي بالتشديد إلى مفعول ثان، و قد يحذف المفعول الاول كما في الآية الشريفة فان الأصل يخوفكم أوليائه. و قد يحذف المفعول الثاني كما تقول خوفني عمرو.

ص: 76

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً» على حقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن و أكد عليها في مواضع متفرقة و هي تجرد الأرواح و حياتها بعد الموت و قد كانت هذه الحقيقة مورد البحث و النظر من أول حدوث العالم، فالروح جوهر مجرد مختلف التكون عن غيرها و هي من شعاع الذات المقدسة غير المتناهية.

و الآية المباركة رد على شبهات المنافقين و المشركين من ان الإنسان يموت حين القتل في سبيل اللّه و الموت نهاية الحياة في الأرض فتذهب ذكراه و لا يبقى له اسم و لا رسم بعد فترة تطول أو تقصر.

و المستفاد من الآية الشريفة انها تثبت الحياة بعد القتل، و تبين أجر المؤمنين و هو الرزق عند اللّه تعالى، و انه نعمة من اللّه تعالى و فضل منه، و زاد عز و جل عليهم انه لا خوف عليهم و لا هم يحزنون و هذه كلها من أهم مقومات الحياة الكاملة السعيدة الهنيئة في عالم البرزخ.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » ماهية هذه الحياة السعيدة و حقيقتها التي تتقوم بالفرح و الاستبشار و نفي الحزن و الخوف، و هي مرزوقة عند اللّه تعالى و هذا هو الحد الفاصل في ما يقال في هذه الحياة، فلا يصغي إلى ما قد قيل فيها من ان أرواح المؤمنين في حواصل طير خضر، فان أرواح المؤمنين اجلّ قدرا من ان

ص: 77

يجعلهم اللّه تعالى في تلك الحواصل، بل هو نحو من التناسخ الذي ثبت بطلانه.

و قد أنعم تعالى عليهم بأنواع الرزق، و أعزهم بأن جعلهم (عنده).

الثالث:

يدل قوله تعالى: «عِنْدَ رَبِّهِمْ » على سنخية أرواح المؤمنين لعالم القدس كيف لا و ان اللّه تعالى خلقها من روحه قال عز و جل: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» * ص - 72 فنزلت من المحل الأرفع لتتحد مع البدن برهة من الزمن و بعد الموت أو القتل تصعد الى محلها فتكون عند ربها، و هذه العندية أعظم قدرا من العندية المكانية أو الزمانية بل هي تبين حقيقة تلك الأرواح المقدسة التي خلقت من روح اللّه جلت عظمته.

فاختلاف العلماء و المفسرين في المراد من قوله تعالى «عِنْدَ رَبِّهِمْ » لا وجه له بعد ملاحظة سياق الآية الشريفة و ما ورد في هذا المضمار في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال تعالى: «وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلْمَآبِ » آل عمران - 14 و قال تعالى: «وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ اَلْمُصْطَفَيْنَ اَلْأَخْيارِ» ص - 47 و غيرهما من الآيات الشريفة.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ » على ان القرح و ما يصيب المؤمنين في ميدان القتال مع اعداء اللّه تعالى في اثبات الحق و إعلاء كلمة الدين و إزهاق الباطل له الأثر الكبير في تهذيب المؤمنين و إرجاعهم الى الصواب بل له دخل في النظام الأحسن فان ما لاقاه المؤمنون من المصائب و المتاعب بسبب عصيانهم و فشلهم و العتاب الشديد العنيف تارة و الخفيف اللطيف اخرى كان السبب في زيادة ايمانهم و الرجوع الى التربية الحقة و الانقلاب عن التفرق و الاختلاف الى الطاعة و الاتحاد و شدة العزيمة و التوكل على

ص: 78

اللّه تعالى فهو من المقتضيات في إعداد الإنسان نفسه بالدخول في السير التكاملي. و لأجل ذلك كانت المصائب و القرح الذي لحقهم في معركة أحد من أهم طرق التربية الإلهية الحقة. و لذا عدّ سبحانه و تعالى تلك نعمة ربانية و فضلا من اللّه تعالى عليهم لأنها كانت من الأسباب المهمة في تقويم النفوس و احياء القلوب فقد رجعت الى الحق و خلصت في إيمانها و اشتد توكلها عليه تعالى فكان في الخذلان و الهزيمة و المعصية دروسا كبيرة اثرت في نفوسهم بل كانت معركة أحد أهم مدرسة للمؤمنين عبر التاريخ.

الخامس:

يمكن ان يجعل قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ » من الآيات الدالة على لزوم مراعاة الاستقامة الحقيقية للحق في الحق نظير قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اَللّهُ ثُمَّ اِسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ اَلْمَلائِكَةُ أَلاّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ اَلَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ » فصلت - 30 و قوله تعالى:

«فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ » هود - 112 و قوله تعالى:

«وَ أَنْ لَوِ اِسْتَقامُوا عَلَى اَلطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً» الجن - 16 إذ لا ريب في ان بناء الشيطان و أوليائه انما هو التشكيك في عقيدة المؤمنين و بث الأشواك و المزالق في طريق الوافدين الى اللّه تعالى لان العبد حينئذ انما أزال جميع الحجب الظلمانية عن نفسه بالصبر و المثابرة حتى وصل إلى معدن النور و العظمة فلم يبق في البين إلا سرادق الجلال و الجمال التي قال فيها جبرائيل أعظم الاملاك: «لو دنوت انملة لاحترقت» و لعل المراد بالاحتراق انطماس الحدود الامكانية بالكلية.

السادس:

يدل قوله تعالى: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » ان الإحسان و التقوى هما المناط في القرب الى اللّه تعالى و احراز

ص: 79

الأجر العظيم و الثناء الجميل و هذان الأمران لا يتوفران في كل احد لان المؤمنين على درجات متفاوتة و الإحسان و التقوى يكشفان عن شدة الخلوص للّه تعالى فيهم و كمال الايمان عندهم و شدة ارتباطهم مع اللّه تعالى و ذلك هو السبب في استحقاقهم لهذا الأجر العظيم الذي أبهمه تعالى ليذهب ذهن السامع إلى كل مذهب أمكن.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً» حقيقة من الحقائق القرآنية و هي دأب المنافقين و اهل الباطل على التشكيك في معتقدات المؤمنين و اهل الحق و السعي في فسخ عزائمهم و نقض هممهم و إلقاء الرعب و الخوف في نفوسهم و هما مصدران لكل الفساد و الخروج عن الطاعة، و الطغيان على الأوامر الإلهية و الاحكام الربوبية.

و تبين الآيات الكريمة ان ذلك ناشئ من المضادة التي هي بين الطرفين كما ان اهل الحق يسعون في ابطال مزاعم المنافقين و إفساد مكرهم و كيدهم بالطاعة للّه تعالى و الرسول و الاستجابة لاوامرهما، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الارشادات الحقة و لا تزول تلك المضادة إلا باضمحلال احد الضدين كما هو واضح بالوجدان.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ قالُوا حَسْبُنَا اَللّهُ وَ نِعْمَ اَلْوَكِيلُ » كمال ايمانهم و خلوصهم فيه و انهم كانوا مخلصين للّه تعالى مسلّمين أمرهم اليه عز و جل قد اكتفوا باللّه سبحانه عن غيره من الأسباب، و اعتقدوا بأن اللّه ناصرهم و مؤيدهم؛ كما قال تعالى: «وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اَللّهَ بالِغُ أَمْرِهِ » الطلاق - 3 فلا يخشون غير اللّه تعالى و لا يخافون لومة لائم و قد صدق اللّه وعده فيهم بأن قال:

«فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ » و اعطاهم الأجر العظيم.

ص: 80

التاسع:

يستفاد من ظاهر الآية الشريفة: «فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اَللّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ » ان مضمونها لا تختص بحالة دون اخرى و لا بعالم دون آخر.

و المراد بالانقلاب المعنى العام الشامل للتحولات الدنيوية و البرزخية و الاخروية، كما ان المراد بالنعمة و الفضل ايضا كذلك، و تشمل النعم الدنيوية و المثالية و الاخروية و الوجه في ذلك ان الموضوع كلما اتسعت جهات كماله و فضله اتسع جميع جهات الاضافة إلى اللّه تعالى و المنعم إذا كان محيطا و وسيعا من جميع الجهات المفروضة فيه، فلا يعقل وجه للتخصيص حينئذ، و جهة التعميم تارة مأخوذة في الكلام كما إذا قيل: لا تأكل الرمان لأنه حامض فيشمل الكلام كل حامض، و اخرى مأخوذة في السياق العام من الكلام، و الثانية اولى من الاول بمراتب، و قد اشتهر في العلوم الادبية ان الكناية ابلغ من التصريح و القرآن العظيم مشتمل على أنحاء الكنايات و الاستعارات و التشبيهات البليغة وفقنا اللّه تعالى للتدبر فيها.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى، «وَ اَللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ » ان من لم يتصف بما ذكر في الآيات السابقة قد فوت على نفسه امرا عظيما لا يمكن ان يتدارك و هو جدير بأن يتحسر على ما فاته.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّما ذلِكُمُ اَلشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » ان الخوف الناشئ من الأمور الدنيوية انما يكون منشأه الشيطان الذي يريد ان يخرج الإنسان بسببه عن طاعة اللّه تعالى و الاحجام من تنفيذ أوامره و أحكامه عز و جل و الخوف الذي يكون مصدره الشيطان هو من أهم سبله التي يتوصل بها لإغواء الإنسان و لذا أمرنا عز و جل بعدم الخوف و حصره اللّه تعالى في نفسه، فان الخوف منه عز و جل

ص: 81

مصدر كل خير و مبعث كل سعادة فالآية المباركة ترشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم و الكمال العظيم الذي لا كمال فوقه كما انها تنبه المؤمنين إلى الموازنة بين وليّ الكافرين و المشركين و المنافقين و اهل الباطل الذي عجز عن نصرهم و بين ولي المؤمنين الذي لا يعجزه أمر و هو القادر على كل شيء.

الثاني عشر:

يدل قوله تعالى: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » على ان الايمان جنة واقية تحرس صاحبه من الخوف عن غير اللّه تعالى. و ان الايمان مع الخوف من غير اللّه تعالى هما ضدان لا يجتمعان فمن يرجح الخوف من اولياء الشيطان فان إيمانه مشكوك فيه، فهذه الآية الشريفة من الآيات التي ينبغي ان يوزن الإنسان نفسه و إيمانه و اعماله بها.

بحث عرفاني

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ » كمال العناية بالشهداء الذين قتلوا في سبيل اللّه فقد أرادوا من جهادهم و بذل أرواحهم الغالية في إعلاء كلمة اللّه و احياء الحق و اماتة الباطل فأعطاهم اللّه تعالى الأجر الجزيل و الثناء الجميل، و الذكر الحميد، و منحهم السعادة الكبيرة ان جعلهم عنده يرزقون و يستبشرون و يفرحون قد خلت حياتهم عن كل ما ينغصها من الخوف و الحزن و الآلام، فإذا كان الجهاد الأصغر له هذه الحظوة عند خالق الأرواح، فما ظنك بالجهاد الأكبر مع النفس الأمّارة لكسر سورتها، و قمع الهوى بالصبر و الاصطبار و كان العبد معه مطيعا لمولاه مخالفا لهواه مراقبا لنفسه

ص: 82

و اعماله و أقواله فان له الفضل العظيم و المنزلة الكبرى عند اللّه عز و جل قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا» العنكبوت - 69 و الجهاد الأصغر و ان كان في وقت معين معلوم اما الجهاد الأكبر فان مدته أطول و معاناته أشد و أعظم.

و المجاهدون مع النفس الامارة لهم الحياة الحقيقة لان الأرواح لها نحو تعلق خاص بالمبدأ الفياض، و الحي القيوم فإذا اشتد ارتباطها معه اشتاقت اليه، و ان حبها له قد تصل إلى مرتبة لا تحس بآلام الجراح و وقع السيوف مثل ما نسب إلى علي (عليه السلام) من عدم توجهه إلى إخراج السهم من بدنه حين اشتغاله بالصلاة و قد نظم هذه القضية جملة من العرفاء باشعار لطيفة و ما نسب الى الصادق (عليه السلام) من مشيه على النار و قوله (عليه السلام): «انا ابن ابراهيم الخليل» الى غير ذلك من آثار ذلك العالم الوسيع الذي لا يمكن ان يحيط به بيان فانه لا يهدي من الجنة إلا بعض ثمارها لإتمام أشجارها. و حينئذ يقدر العبد المجاهد المؤمن على الخلع و اللبس، و من حيث شروق نوره على هذا البدن يتحرك البدن بقدر ذلك الشارق، و مع درك هذه المرتبة قد يصل الى مرتبة جمع الجمع بأن يكثر بدنه كما نسب الى بعض الأولياء من وجودهم في زمان واحد في امكنة متعددة، و قد رأينا بعض مشايخنا (رضوان اللّه تعالى عليه) و رآه بعض أصحابه في عين هذا البدن في محل آخر، و لكن لا يعد ذلك شيئا في مقابل تلك المجاهدات لشدة تفانيه في مرضاة اللّه تعالى و من هنا تنكشف أبواب من المعارف.

و يمكن ان يكون قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ » اشارة الى بعض مقامات العارفين باللّه في سيرهم

ص: 83

و سلوكهم، و هم الذين طرحوا جميع الجهات الجسمانية للوصول الى المعشوق الحقيقي و المحبوب الواقعي، فيكون ألم النبال و السهام في ذلك يسير و وقع الصمصام على أبدانهم سهلا حقيرا، بل وجدوا في ذلك التذاذا كبيرا، و هم الذين سمعوا زئير جهنم بآذانهم و رأوا الحور المقصورات في الخيام بأعينهم، فتجاوزوا عن ذلك كله و خرقوا جميع الحجب الظلمانية بهممهم العالية و طرحوا حدود الامكانية فوصلوا الى حد الوجوب و رأوا ان الاملاك قد وضعت أجنحتها تبركا بمقدمهم و وصلوا الى ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر، فنزلت عليهم أنوار الجمال و استشرقوا من مشارق الجلال الى غير ذلك من جذبات الحبيب التي يبهر فيها كل عاقل لبيب. رزقنا اللّه تعالى رشحة من تلك الرشحات و نسمة من تلك النفحات.

و خلاصة الكلام ان هذه الطائفة من المخلصين (بفتح اللام) هم الذين تابعوا نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) حيث قيل له:

«هل لك شيطان يا رسول اللّه ؟ قال (صلى اللّه عليه و آله): نعم و لكن أسلمت شيطاني بيدي».

بحث روائي

في المجمع في قوله تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً - الآيات -» عن الباقر (عليه السلام) «نزلت في شهداء بدر و أحد معا».

أقول: وردت في ذلك روايات متعددة في بعضها انها نزلت في

ص: 84

شهداء أحد خاصة و في بعضها في شهداء بئر معونة و قصتهم مشهورة و ذكر كل ذلك من باب المثال لا التخصيص كما هو كذلك في شأن نزول الآيات.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً - الآية -» عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «هم و اللّه شيعتنا إذا دخلوا الجنة و استقبلوا الكرامة من اللّه استبشروا بمن لم يلحق بهم من إخوانهم من المؤمنين في الدنيا».

أقول: المراد من الشيعة هنا من تابع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في اعتقاده و أفعاله و أقواله حتى في قوله (ص): «انى تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي» و قوله (ص): «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» الى غير ذلك من الأحاديث التي رواها المسلمون في شأن ذلك.

و في تفسير العياشي في الآية المتقدمة ايضا عن الصادق (عليه السلام) «هم و اللّه شيعتنا حتى صارت أرواحهم في الجنة و استقبلوا الكرامة من اللّه عز و جل و استيقنوا انهم كانوا على الحق و على دين اللّه عز و جل فاستبشروا بمن لم يلحقوا بهم من خلفهم من المؤمنين».

أقول: المراد من الشيعة من تابع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فان متابعته متابعتهم ايضا كما مر في الرواية السابقة.

و في تفسير العياشي ايضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «اتى رجل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد في سبيل اللّه قال (ص): فجاهد في سبيل اللّه فإنك إن تقتل كنت حيا عند اللّه ترزق و ان مت فقد وقع أجرك على اللّه و ان رجعت خرجت من الذنوب إلى اللّه هذا تفسير «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً» .

ص: 85

و في تفسير العياشي ايضا عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «اتى رجل رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقال: إني راغب نشيط في الجهاد في سبيل اللّه قال (ص): فجاهد في سبيل اللّه فإنك إن تقتل كنت حيا عند اللّه ترزق و ان مت فقد وقع أجرك على اللّه و ان رجعت خرجت من الذنوب إلى اللّه هذا تفسير «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً» .

أقول: لا منافاة بين هذا التفسير و ما مر من قول الصادقين (عليهما السلام).

و في اسباب النزول عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في أجواف طير خضر ترد انهار الجنة، و تأكل من ثمارها و تأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مآكلهم و مشربهم و (حسن) مقيلهم قالوا: من يبلغ إخواننا (عنا) انا في الجنة نرزق لئلا يزهدوا في الجهاد و لا ينكلوا في الحرب ؟ فقال اللّه عز و جل انا أبلغهم عنكم فانزل اللّه تعالى: «وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » .

أقول: رواه في الدر المنثور و قال اخرج احمد و ابن داود، و ابن جرير، و ابن المنذر، و الحاكم - صححه - و البيهقي من الدلائل و غيرهم رووا جميعا عن أبي سعيد الخدري، و عبد اللّه بن مسعود، و أبي العالية و ابن عباس و غيرهم، و هي و ان اختلفت في بعض الألفاظ و لكنها متقاربة في المعنى. و هذه الروايات لا بد من تأويلها على نحو تساوق القواعد العقلية و النقلية، و المؤمن أعز على اللّه تعالى من ان يحصره في حواصل الطير، و يمكن ان يراد بحواصل الطيور الخضر الأبدان المثالية التي تكون لهم في ذلك العالم، و قد تقدم ما يتعلق بهذه الروايات في سورة البقرة آية - 153.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » اخرج ابن إسحاق و ابن جرير، و البيهقي في الدلائل «انها نزلت

ص: 86

في حمراء الأسد» و في تفسير القمي أيضا انها نزلت في حمراء الأسد.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في الآية المباركة انها نزلت في غزوة بدر الصغرى.

أقول: يأتي في البحث التاريخي تفصيل الكلام.

و في اسباب النزول في قوله تعالى: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » عن قتادة: «ذلك يوم بعد القتل و الجراحة و بعد ما انصرف المشركون - أبو سفيان و أصحابه - قال نبي اللّه لأصحابه ألا عصابة تشدد لأمر اللّه فتطلب عدوها فانه أنكى للعدو، و أبعد للسمع، فانطلق عصابة على ما يعلم اللّه تعالى من الجهد حتى إذا كانوا بذي الحليفة جعل الاعراب و الناس يأتون عليهم فيقولون: هذا أبو سفيان مائل عليكم بالناس؛ فقالوا: حسبنا اللّه و نعم الوكيل فانزل اللّه تعالى فيهم قوله: «اَلَّذِينَ قالَ لَهُمُ اَلنّاسُ إِنَّ اَلنّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » ، و في المجمع و تفسير القمي عنهما (عليهما السلام) في الآية يعنى نعيم بن مسعود الأشجعي.

أقول: انه على تقدير كون الغزوة هي غزوة بدر الصغرى و إلا فان الناس المحذرين هم غيرهم و يحتمل ان يكون هذا الشخص قد حذر المؤمنين في الغزوتين فلا منافاة في البين.

و في الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا «حسبنا اللّه و نعم الوكيل».

و فيه أيضا عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) انه قال:

«حسبي اللّه و نعم الوكيل أمان كل خائف».

أقول: على فرض صحتهما فإنهما تدلان على اهمية الآية الشريفة على كل تقدير.

ص: 87

بحث تاريخي
اشارة

تقدم ان قوله تعالى: «اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ » يشير إلى وقعة اخرى من وقعات الرسول (صلى اللّه عليه و آله) التي كانت مع المشركين و الكفار و اعداء اللّه تعالى لتثبيت الإسلام و الدفاع عنه و عن المؤمنين من كيد المشركين و الكافرين و المنافقين و ابطال مزاعمهم و تقدم في أحد مباحثنا السابقة ذكر عدد غزوات الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و سراياه، و تكلمنا عن غزوة احد مفصلا و نذكر في المقام ما يتعلق بغزوة حمراء الأسد و موقعها، و اسبابها، و اهدافها.

و قبل ان نذكر ذلك لا بد من التنبيه على أمر و هو ان المعروف بين العلماء و المفسرين أن الآيات المتقدمة نزلت في شأن غزوة حمراء الأسد على ما عرفت و قد وردت في ذلك أحاديث من الفريقين، و ذهب جمع من المفسرين إلى ان الآية الكريمة نزلت في خروج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بمن معه لموعد أبي سفيان في غزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة في شهر ذي القعدة رأس الحول من وقعة أحد على ما رواه الواقدي، أو في شعبان من السنة الرابعة في رواية الدر المنثور عن مغازي ابن عقبة، و دلائل البيهقي. و في تاريخ ابن جرير عن ابن إسحاق، و في الدر المنثور عن ابن شهاب قال:

«ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) استنفر المسلمين لموعد أبي سفيان بدرا فاحتمل الشيطان أولياءه من الناس يخوفونهم و قالوا:

ص: 88

قد أخبرنا ان العدو قد جمعوا لكم من الناس مثل الليل يرجون ان يواقعوكم فيثبتوكم فالحذر الحذر، فعصم اللّه المسلمين من تخويف الشيطان فاستجابوا للّه و رسوله و خرجوا ببضائع لهم، و قالوا: ان لقينا أبا سفيان فهو الذي خرجنا له، و ان لم نلقه اتبعنا بضائعنا و كان بدر متجرا يوافي كل عام فانطلقوا حتى أتوا موسم بدر فقضوا منه حاجتهم، و اخلف أبو سفيان الموعد فلم يخرج هو و لا أصحابه، و مرّ عليهم ابن حمام فقال من هؤلاء؟ قالوا رسول اللّه و أصحابه ينتظرون أبا سفيان و من معه من قريش فقدم على قريش فأخبرهم فارعب أبو سفيان و رجع إلى مكة و انصرف رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة بنعمة من اللّه و فضل فكانت تلك الغزوة تعد غزوة جيش السويق و كانت في شعبان من السنة الرابعة» و روي قريب منه عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) و في المجمع رواه أبو الجارود عنه (عليه السلام) أيضا.

و لكن الاول هو المعروف بين العلماء و المفسرين و رواه القمي في تفسيره بطريق معتبر، و الشيخ الطوسي في التبيان و قد نسب الثاني إلى القيل. و كيف كان فان تسمية هذه الوقعة بالغزوة باعتبار خروج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بنفسه الشريفة على ما اصطلح عليه العلماء، و إلا فانه لم يكن في هذه الوقعة قتال، بل كان المقصود منها مطاردة المشركين، و ابطال نواياهم، و إفساد ما كانوا يشنونه من الحرب الدعائية ضد المسلمين، فإنهم كانوا يذكرون نتائج غزوة احد و يظهرونها بمظهر يرفع من قدرهم و الحط من قدر المسلمين على ما ستعرف، فتسميتها بقوة مطاردة لها اهداف معينة غير القتال لما كان يعلم رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) انه لم يقع قتال اولى و قد تحققت تلك الأهداف بأحسن وجه.

ص: 89

الموقع و الزمان:

حمراء الأسد: سوق للعرب على ثمانية أميال من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا الحليفة، و المعروف انه انتهى إليها رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في اليوم الثاني من يوم أحد، فان وقعة أحد كانت في السنة الثالثة من الهجرة و في اليوم الثاني من يوم أحد اي اليوم الخامس عشر من شوال، و لما كان الغد أذّن مؤذن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بالغزو، و قال: «لا يخرج معنا إلا من حضر بالأمس» فاستجاب المؤمنون للّه و الرسول فخرجوا إلى حمراء الأسد فأقاموا بها ثلاثة ايام ثم رجعوا إلى المدينة حين علم (صلى اللّه عليه و آله) ان قريشا قد استمرت إلى مكة و قال: «و الذي نفسي بيده لقد سومت لهم حجارة لو صبحوا بها كانوا كأمس الذاهب».

العدد:

عدد المسلمين الذين خرجوا للحرب كما في تفسير العياشي: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بعث عليا (عليه السلام) في عشرة استجابوا للّه و الرسول من بعد ما أصابهم القرح» و في اسباب النزول للواحدي: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) استنفر الناس بعد أحد حين انصرف المشركون فاستجاب له سبعون رجلا» و يمكن رفع الاختلاف بان رواية الواحدي وردت في مجموع الذين

ص: 90

استجابوا للّه و الرسول. و رواية القمي وردت في خصوص المحسنين و المتقين منهم.

و في تفسير القمي: «فلما دخل رسول اللّه المدينة نزل عليه جبرئيل فقال: يا محمد إن اللّه يأمرك ان تخرج في إثر القوم و لا يخرج معك إلا من به جراحة، فأمر رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مناديا ينادي يا معشر المهاجرين و الأنصار من كانت به جراحة فليخرج و من لم يكن به جراحة فليقم، فاقبلوا يضمدون جراحاتهم و يداوونها فانزل اللّه تعالى على نبيه: «وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ » و هذه الآية (المباركة) في سورة النساء و يجب ان تكون في هذه السورة قال عز و جل: «إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » فخرجوا على ما بهم من الألم و الجراح، فلما بلغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بحمراء الأسد و قريش قد نزلت الروحا قال عكرمة بن أبي جهل، و الحارث ابن هشام، و عمرو بن العاص، و خالد بن الوليد نرجع فنغير على المدينة فقد فقد سراتهم و كبشهم يعني حمزة فوافاهم رجل خرج من المدينة فسألوه الخبر، فقال تركت محمدا و أصحابه بحمراء الأسد يطلبونكم جدّ الطلب، فقال أبو سفيان: هذا النكد و البغي قد ظفرنا بالقوم و بغينا و اللّه ما أفلح قوم قط بغوا، فوافاهم نعيم بن مسعود الأشجعي فقال أبو سفيان اين تريد؟ قال المدينة لامتار لأهلي طعاما، قال هل لك ان تمر بحمراء الأسد و تلقى اصحاب محمد و تعلمهم ان حلفاءنا و موالينا قد وافونا من الأحابيش حتى يرجعوا عنا و لك عندي عشرة قلائص (الإبل) املئوها تمرا و زبيبا؟ قال: نعم، فوافى من غد ذلك اليوم حمراء

ص: 91

الأسد فقال لأصحاب محمد (صلى اللّه عليه و آله) اين تريدون قالوا:

قريش، قال: ارجعوا فان قريشا قد اجنحت إليهم حلفاؤهم و من كان تخلف عنهم و ما أظن إلا و أوائل القوم قد طلعوا عليكم الساعة فقالوا «حسبنا اللّه و نعم الوكيل» و نزل جبرئيل على رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقال: ارجع يا محمد فان اللّه قد ارهب قريشا و مروا لا يلوون على شيء و رجع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) إلى المدينة و انزل اللّه: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ » .

أقول: قوله (عليه السلام): «و يجب ان تكون في هذه السورة» ليس المراد الوجوب الاصطلاحي حتى يستلزم التحريف و لعل المراد المناسبة السياقية كما يدل عليه ذيل الحديث أيضا.

الأسباب:

اما اسباب هذه الوقعة فهي متعددة و يمكن تلخيصها في امور:

الاول: الخشية من مداهمة العدو المدينة استغلالا منهم لضعف المسلمين و ما أصابهم في أحد ففي الدر المنثور اخرج النسائي و ابن أبي حاتم و الطبراني عن عكرمة عن ابن عباس قال: «لما رجع المشركون عن أحد قالوا: لا محمدا قتلتم و لا الكواعب أردفتم بئس ما صنعتم فسمع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بذلك فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغ حمراء الأسد - إلى ان قال - فقال المشركون نرجع قابل فرجع رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فكانت تعد غزوة.

الثاني: بلوغ رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ان المشركين قد

ص: 92

ازمعوا على الرجعة، ففي الدر المنثور عن عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حرم قال: «خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بحمراء الأسد، و قد اجمع أبو سفيان بالرجعة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و أصحابه، و قالوا: رجعنا قبل ان نستأصلهم لنكون على بقيتهم، فبلغه ان النبي (ص) خرج في أصحابه يطلبهم فثني ذلك أبا سفيان و أصحابه».

الثالث: الحرب الدعائية التي شنها المشركون بإظهار نتائج غزوة احد بمظهر يرفع من قدرهم و يحط من قدر المسلمين، و من المعلوم ان لذلك أثرا كبيرا في وهن العزيمة، و تفكيك القوى و إلقاء الخلاف في الصفوف و هو زوال الهيبة التي اكتسبها المسلمون في غزوة بدر.

الرابع: إعادة الكرة في التطهير العام لإعادة النظام و تمييز المؤمن المستسلم عن غيره و إلقاء الرعب في قلوب الأعداء.

الاهداف:

كانت لهذه الوقعة اهداف معينة و قد حصلت جميعها و هي متعددة منها: إزالة اثار الهزيمة عن نفوس المؤمنين، فانه لو استقرت في قلوبهم لأورثت الرعب في قلوبهم و بقيت اثار الخوف في نفوسهم فلا يعودون يقتحمون ميدان الجهاد بسهولة، و كانت لهذه الوقعة الأثر الكبير في ازالة تلك الآثار و تشجيعهم على القتال، و إلقاء الرعب و الخوف في قلوب الأعداء فإنهم لم يصدقوا ان افرادا من الطائفة التي منيت بالهزيمة بالأمس و قتل صناديدهم و شجعانهم قد تجمعت اليوم لتقاتلهم

ص: 93

و هي مثخنة بالجراح فأرهبتهم هذه العزيمة فخشوا ان تنقلب عليهم الدائرة فيذهب ما أحرزوه من النصر بزعمهم.

و في اسباب النزول: «قال نبي اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لأصحابه ألا عصابة تشد لأمر اللّه فتطلب عدوها فانه أنكى للعدو و أبعد للسمع فانطلق عصابة على ما يعلم اللّه تعالى من الجهد - الحديث -».

و منها: ظهور التربية الإلهية فيهم فتراهم يلبون دعوة اللّه و الرسول من دون شك و ارتياب و قد أخذوا من الدروس الماضية عبرا و وعوها و جعلوها محط نظرهم و صغت لها قلوبهم، فخرجوا من غفلتهم و غسلوا نفوسهم من آثار المعصية و التفرق و الاختلاف و عادوا إلى الصورة التي ينبغي ان يكونوا عليها.

و منها: ان هذه الوقعة بينت للمشركين ان المسلمين على ما هم عليه من الجراح ففيهم القوة الكافية لمجابهتهم ورد كيدهم فأورثت رعبا في نفوس الأعداء قال ابن إسحاق و «انما خرج رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مرهبا للعدو و ليبلغهم انه خرج في طلبهم، ليظنوا به قوة و ان الذي أصابهم لم توهنهم عن عدوهم».

وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ .......

اشارة

وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اَللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

ص: 94

ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) الآيات الشريفة ترشد المؤمنين إلى امور تهمهم في حياتهم الدنيوية و الاخروية و تمس عقيدتهم، فهي تحذرهم من المنافقين و الكافرين و أكاذيبهم و قبائح افعاهم و مكرهم فإنهم لم يتحرجوا من إعلان الكذب على اللّه عز و جل و رسوله (صلى اللّه عليه و آله) و ما يوجب و هن العزيمة و الحط من قدر المسلمين، و الشك في عقيدتهم و تنفيرهم عن الإسلام.

و الآيات المباركة تسلي النبي الكريم من ما يوجب حزنه، و تعلن ان اللّه تعالى لن يتركه و المؤمنين فهو يرعاهم و يحفظهم، و تبين ان ذلك كله سنة الهية جارية في خلقه فلا بد من تمييز المؤمنين من المنافقين و الخبيث من الطيب، و تأمر المؤمنين بالإيمان باللّه و رسله و التقوى و التسليم لأمره ليفوزوا بالأجر العظيم.

و الآيات الكريمة مرتبطة بما تقدم من الآيات التي وردت في بيان الجوانب المتعددة في غزوة احد و قد تقدم ذكر المنافقين و بعض كيدهم و في المقام يبين سبحانه و تعالى نوعا آخر منه، و يحذّر المؤمنين منه.

ص: 95

التفسير

قوله تعالى: وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ .

تسلية للنبي الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و مواساة له من الحزن الذي كان يصيبه من افعال المنافقين و أقوالهم مما يوجب و هن عزيمة المؤمنين و إيقاع الشك في عقيدتهم و الوقوع في الكفر. و كل ذلك مما يوجب الحزن.

و الآية المباركة توجه الخطاب للنبي (صلى اللّه عليه و آله) تشريفا له و لأنه واسطة الفيض، و لأنه المسؤول عن أمته و يرعى مصالحهم و هو يكشف عن ان الشغل الشاغل للرسول العظيم هو امر الدين و المؤمنين به و هي ترفع الحزن بنفي أسبابه و ترشد المؤمنين بازالة الحزن عن أنفسهم ببيان الواقع في المقام و هو انهم لن يضروا اللّه.

و قد أسند الحزن إلى ذواتهم باعتبار كونها مظاهر الفساد و الغواية و الضلال فتراهم يسارعون في الكفر و يقعون فيه سريعا من دون ترّيث و يجتهدون فيه و يمارسونه في أقوالهم و أفعالهم و نياتهم لأنهم استقروا في الكفر و تمكن في قلوبهم و لأجل ذلك كله تعدت المسارعة ب (في) و لم تتعد ب (إلى) و مثل ذلك ما ورد في حق المؤمنين قال تعالى:

«وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ » آل عمران - 114 فان من شدة ايمانهم باللّه تعالى و كمالهم أنهم حريصون على الخير و راغبون فيه، و قد داوموا على ملابستهم له و استقروا فيه. و لعل تعدي المادة ب إلى في قوله تعالى «وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ » آل عمران - 133 باعتبار ان المغفرة و الجنة منتهى سيرهم و مسيرهم الاستكمالي.

ص: 96

«وَ يُسارِعُونَ فِي اَلْخَيْراتِ » آل عمران - 114 فان من شدة ايمانهم باللّه تعالى و كمالهم أنهم حريصون على الخير و راغبون فيه، و قد داوموا على ملابستهم له و استقروا فيه. و لعل تعدي المادة ب إلى في قوله تعالى «وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ » آل عمران - 133 باعتبار ان المغفرة و الجنة منتهى سيرهم و مسيرهم الاستكمالي.

قوله تعالى: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية فان اللّه تعالى غني عن العالمين لا يغلبه شيء في السموات و الأرض و لا يضره كيد المنافقين و الكافرين و غيرهم و تظاهرهم على اطفاء نور اللّه تعالى و إيقاع الضرر بالمؤمنين لا يوجب اطفاء ذلك النور و طمس الحق، فهم لا يضرون إلا أنفسهم لأنهم يحاربون اللّه تعالى و قد خرجوا بسبب ذلك عن اهلية اللطف و حرموا أنفسهم عن كل خير فلا يبقى موضوع للتحزن و الأسى، و هم مسخرون تحت ارادته و مشيته عز و جل فقد تعلقت ارادته بأن يحرمهم من حظ الآخرة و يسلك بهم إلى أسوء العذاب فكانت عاقبة مسارعتهم في الكفر و بالا عليهم.

و في تعليق الضرر به تعالى كمال التسلية للنبي (صلى اللّه عليه و آله) و التشريف للمؤمنين، و لبيان ان مضارتهم مضارته تعالى و هي غير معقول في الواقع و هذا أيضا كذلك.

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَلاّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي اَلْآخِرَةِ .

تعليل و تأكيد لعدم مضارتهم له تعالى و اعلام بأن المضارة الحقيقية هي التي كانت في الآخرة دون ما يتوهموه و هم قد سلكوا مسلكا.

اختاروا فيه الملذات الدنيوية الفانية على الدرجات الرفيعة الاخروية و نعيمها و حرموا على أنفسهم نصيب الآخرة، و تعلقت ارادة اللّه تعالى الاقتضائية على طبق اختيارهم. و يأتي في الآيات التالية تفسير كيفية تعلق ارادته عز و جل بحرمانهم من نصيب الآخرة.

ص: 97

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ .

اي و لهم مع الحرمان من كل ثواب و نعيم في الآخرة عذاب عظيم لا يتقدر بقدر جزاء ما كانوا يكفرون.

و قد وصف سبحانه و تعالى العذاب بانه عظيم إما باعتبار ان المسارعة في الكفر تدل على عظم قدره عند المسارع اليه و تعلق كل ارادته به و صرف جميع حيثياته في سبيله، فوصف تعالى عذابه بالعظيم تنبيها على حقارة ما سارعوا اليه، أو لأجل ان القصد عظيم لأنهم قصدوا إضرارا عظيما لا منتهى لعظمته فيترتب عليه العظيم.

و لم يقيد سبحانه و تعالى العذاب بالآخرة كما قيد الحرمان بها لكون عذابه أعم و لا مانع في ذلك فقد ورد في المنافقين: «سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ » التوبة - 101. و استحقاق العذاب العظيم هو نتيجة الحرمان من نصيب الآخرة لان كل من لم يكن له نصيب في الآخرة يكون سعيه في الدنيا و ان بلغ ما بلغ سببا في زيادة العذاب.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ .

تعميم لجميع الكافرين بعد تخصيص الآية السابقة بالمسارعين في الكفر فيصح ان تكون علة اخرى تعم لنفي ضرر جميع الكافرين و فيهم المسارعون في الكفر تقديرا للحكم السابق و تأكيدا له و لزيادة التسرية عن قلب سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و التسلية له.

و انما ذكر سبحانه لفظ الاشتراء زيادة في التقريع لأنهم بمعاملتهم في تبديل الايمان بالكفر قد استبدلوا الشريف العظيم بالدني الحقير، و لبيان انهم قد أخذوا الكفر رغبة منهم في ما أخذوا و إعراضا عما تركوا فيكون اظهر على سوء الاختيار و كمال الرضاء منهم، و لا يتأتى

ص: 98

ذلك في لفظ آخر و يستفاد منه علمهم بالخسران الكلي و الحرمان الأبدي فيكون الضرر عليهم عظيما.

و يصح ان يكون المراد بالكفر في المقام جميع مراتبه من الاعتقادي و القولي و العملي، و يشهد لهذا التعميم بعض الآيات الشريفة قال تعالى: «وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ اَلْفاسِقُونَ » البقرة - 99 و قال تعالى: «وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ » الممتحنة - 1 كما ان الايمان كذلك.

قوله تعالى: لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً .

اي: ان الكافرين جميعا لن يضروا اللّه شيئا و هذه العلة عامة يمكن تعليل الخاص و هم المسارعون في الكفر بها أيضا.

و الآية المباركة تبين قضية عقلية حقيقية هي عين الواقع لان من كان جامعا للصفات الكمالية و الجلالية بالذات و مسلوبا عنه جميع النواقص الواقعية و الادراكية لا يعقل في حقه النقص و النفع و إلا يلزم الخلف المحال و لعله لذلك عبر تعالى بالنفي التأبيدي و عن مولانا السجاد (عليه السلام) في صحيفته الملكوتية «يا من يستغنى به و لا يستغنى عنه و يا من يرغب اليه و لا يرغب عنه و يا من لا تفني خزائنه المسائل و يا من لا ينقطع عنه الوسائل».

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

جزاء لتمردهم على اللّه تعالى، و هو يدل على شدة العذاب و فظاظته بذكر أحد آثاره و هو غاية الإيلام.

و قد وصف سبحانه و تعالى العذاب في الآية السابقة بالعظيم و هنا بكونه أليما لتفاوت الطائفتين فان الاولى كانوا مسارعين في الكفر

ص: 99

فكان الجزاء المترتب على فعلهم عظيما و قد حرموا أيضا من نعيم الآخرة و لذاتها و استحقوا العذاب العظيم.

قوله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم، و هي سنة من السنن الحكيمة في الاجتماع البشري، فإنها تدل على السير التكاملي الجاري عليه هذا النظام الأحسن. و تتضمن التوجيه للمؤمنين في ما يدور في نفوسهم إثر كل انتصار للباطل على الحق في الظاهر كما انها توجه الحديث إلى الكفار لتنذرهم بعدم الاغترار بما يحرزونه من النصر الظاهر المؤقت و ما يمليه لهم اللّه تعالى عليهم من انواع نعمه في الاعمار و الأولاد و الأموال فان ذلك ليس لأجل عناية خاصة من اللّه تعالى بهم، بل انما هو سنة جارية في الخلق فلا يعتبروه خيرا لكل واحد منهم بحسب نفسه و لا يضمرون في نفوسهم الخبيثة بأنهم خير من المؤمنين، أو ان الباطل الذي هم عليه خير من الحق ففي الواقع يكون الإملاء سببا لاسترسالهم في الغي و الضلال و الفجور و علة لغرورهم فتزيد آثامهم و جرائمهم لتكون خاتمة اعمارهم و أعمالهم العذاب المهين فان العبرة بالخواتيم لا بالمبادي، فالآية الشريفة قطع لأعذار المبطلين، و ازالة لكل وهم و حديث نفس من البين، فان ما املى اللّه تعالى به لكل فرد لا بد ان يصرف في التوجه إلى المحبوب الحقيقي و المطلوب الواقعي حتى يصل إلى الدرجة العالية من الكمال و الحياة الابدية و النعم السرمدية، و ان غير ذلك يكون وبالا على صاحبه و غيّا و ضلالا فاملاء اللّه تعالى للكافرين و العصاة انما يكون وفق

ص: 100

سنة حكيمة و لعل من بعض اسرارها أعمار نظام الدنيا الظاهري حتى تظهر دولة الحق فان اللّه تعالى أراد ان يعمرها بهذا النحو لأجل مصالح كثيرة، و ان اللّه تعالى ينعم على الكافرين ليميز الخبيث من الطيب و يزيد في درجات المؤمنين أو يرجع الكافر من العصيان الى الطاعة و الايمان فإذا اختاروا صرف ما املى به اللّه تعالى لهم في الطغيان و العصيان فهم في غضب اللّه تعالى و سخطه ما لم يرجعوا فإذا رجعوا إلى الايمان و الطاعة دخلوا في رحمته و رضوانه فالاملاء ليس علة تامة للمعصية بل هي تصدر بعمد الفاعل و اختياره.

و لا يختص مضمون هذه الآية الشريفة بالذين كفروا أو بشخص معين بل يجري في النوع و في كل من يعصى اللّه تعالى.

و مادة (ملل) تدل على رفع القيد، و منه أملى لفرسه إذا أرخى الطول ليرعى كيف شاء و منه الملأ: الحين الطويل و الأرض الواسعة لأنه يرجع إلى رفع القيد و الإطالة أيضا، و إلى هذا يرجع الملوان و هما الليل و النهار لطول تعاقبهما.

و المعنى: لا يحسبن الكافرون إن املاءنا لهم بالإمهال و ازالة القيود المانعة عن الاستفادة من أموالهم و أولادهم و شؤونهم خير لأنفسهم لان الإنسان بطبعه يحب الخير لنفسه و الشيء انما يكون خيرا إذا صرفه الإنسان في تهذيب نفسه و تزكيتها من مساوي الأخلاق أو كسب به عملا صالحا ينتفع به دائما و لكنهم صرفوها في الخيرية الموقتة الزائلة و لا ريب انه ليس بخير بل الخير ما كان نفعه دائما و ابدا.

قوله تعالى: إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً .

بيان لإحدى المصالح و الحكم التي اقتضت إملاء اللّه تعالى لهم

ص: 101

و هي تعلق ارادة اللّه تعالى بأن يكون امهالا لهم و استدراجهم إلى زيادة الإثم بسوء اختيارهم و إضرارا بأنفسهم جهلا منهم.

و اللام في قوله تعالى: «لِيَزْدادُوا» للعاقبة نظير قوله تعالى:

«فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً» القصص - 7.

و الحصر المستفاد من «انما» باعتبار العاقبة لانحصار الحكمة في ذلك فقط.

اي: ليس لهم عاقبة خير ما داموا على الكفر و العصيان كما عرفت.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ .

بيان لسوء حالهم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا اي وراء ذلك عذاب معه الهوان جزاء كفرانهم و انما كان عذابا مهينا باعتبار تعززهم و تجبرهم في الدنيا بما املى اللّه تعالى به لهم من انواع النعم و إطالة الاعمار فاورثتهم ذلك في الآخرة عذابا مهينا لهم.

قوله تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ .

ذكر تبارك و تعالى في هذه الآية الكريمة جملة من القضايا الحقيقة الثابتة في الطبيعة التي هي مسخرة تحت ارادته و مشيته جلّت عظمته و هي من أهم القوانين الجارية في مسير التكامل و الاستكمال، و لا تختص بنوع معين بل هي جارية في جميع الماديات من الجماد و النبات و الحيوان و الإنسان لان المهم لافراد الإنسان في عالم المادة هو تمييز الخبيث من الطيب لأغراضهم العقلائية و نرى ذلك في الاعشاب و النبات و الأثمار و المعادن و الأحجار إلى غير ذلك مما لا يحصى و أوكل اللّه تعالى كل ذلك إلى بني آدم كما في قوله تعالى: «سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ » * لقمان - 20 على حسب مراتبهم في العقول و الأفكار.

و اما نفس الإنسان فقد تصدى الباري عز و جل تمييز خبيثهم عن

ص: 102

طيبهم بواسطة أنبيائه و رسله الذين هم ادلة مقاله و تراجمة وحيه، و كفى بذلك فخرا لهم على غيرهم من الممكنات.

و في هذه الآية الشريفة التفات إلى المؤمنين و إعراض عن خطاب الكافرين الذين بين سبحانه و تعالى حقيقة الأمر بالنسبة إليهم، و فيها أرشد عز و جل المؤمنين إلى انهم لم يخرجوا عن سنة الابتلاء التي هي من أهم سبل التكميل.

و المراد بقوله تعالى: «عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ » اي: بما هم عليه من اشتباه الحال و اختلاط بعضهم ببعض. و في الآية الشريفة الوعد بالنسبة إلى المؤمنين و الوعيد بالنسبة إلى الكافرين و المنافقين. و قد ذكر المفسرون في المراد من الآية الكريمة اقوالا لا ترجع إلى محصل.

قوله تعالى: حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ .

غاية للنفي السابق اي: ان اللّه تعالى ما كان يذر المؤمنين على اشتباه الحال و اختلاط المخلص في الايمان بغيره حتى يفرق بين الخبيث و الطيب فانه لا بد من التمييز لان الأمور لا تستقيم إلا إذا تميز الخبيث من الطيب لان الخبيث لا اهلية له بالاختلاط مع الطيب و لا اهلية له لحمل الأمانة الملقاة على المؤمنين و لا تستقيم حالهم إذا خالطهم الخبيث فانه يعوقهم عن إقامة الحق و يوهن عزائمهم و يعوج لهم الطريق المستقيم فالخبيث بمنزلة المرض الذي يوجب الهلاك و الفناء.

و المراد بالخبيث كل من كان منقادا للشيطان و تابعا لهواه و لم يتنور قلبه بنور الايمان فيسرع الى فعل الموبقات و ارتكاب الآثام و يسعى إلى البغي و الفساد و الانقلاب على الأعقاب.

و الطيب بخلافه و هو المطيع للّه تعالى المخالف لهواه و المتبع للحق.

ص: 103

و يميز - بفتح الياء و كسر الميم و سكون الياء - فعل مضارع و ماضيه ماز، و قرئ بالتشديد فيكون ماضيه ميّز، و هما لغتان بمعنى، كما عن جمع من اللغويين، و ليس التضعيف لتعدي الفعل لأنهما يتعديان إلى مفعول واحد يقال: مرّت الشيء بعضه من بعض أميزه، و ميزته تمييزا و قال بعضهم: مزت الشيء اميزه ميزا إذا فرقت بين شيئين، فان كانت أشياء قلت ميزتها تمييزا نظير (فرق) فانه إذا جعلت الواحد شيئين يقال: فرقت بينهما (مخففا). و منه فرق الشعر و إذا جعلت بين الأشياء يقال فرقت (مشددا) تقريبا. و امتاز القوم اي تميز بعضهم عن بعض و في الحديث: «من ماز أذى عن الطريق فهو له صدقة».

و الطيب و الخباثة قد ينسبان إلى الذوات، و قد ينسبان إلى الأفعال و الأعمال و الصفات، و لمشيته تبارك و تعالى و ارادته دخل في تمييز الخبيث من الطيب بنحو الاقتضاء كما ان لإرادة العبد أيضا دخلا كذلك، فإذا اجتمعت جميع مقتضيات الخباثة فإلى النار لا محالة، كما إذا اجتمعت جميع مقتضيات الطيب فالى الجنة لا محالة، و المقتضيات في كل واحد منهما كثيرة لا يحصيها الا اللّه تعالى، و لعل تعقيب هذه الآية الشريفة بقوله تعالى: «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ » اشارة إلى ذلك.

و طرق تمييز الخبيث من الطيب كثيرة و لا يتعين في طريق خاص فاما الإخبار بالطيبين و الخبثاء و الاطلاع عليهم بالوحي من دون مقاساة الأهوال و البلايا و لكن ذلك خلاف حكمته تعالى فانه لا يطلع على غيبه احد و ما اقتضته السنة الاجتماعية و النظام الأحسن. أو الابتلاء الذي يكشف عن خفايا النفوس و غير ذلك.

ص: 104

و كيف كان فلا بد من تدبير ربوبي و معية قيومية و لا يمكن ان يقوم به غير اللّه تعالى و هو من علم الغيب الذي استأثر اللّه تعالى به نفسه فلا يطلع عليه احد إلا من اجتبى من رسله فيطلعه على ذلك بالوحي و في ذلك يقول تعالى: «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ » .

و التمييز هذا يقترن مع الشدة و الجهاد و بذل الأنفس و الأموال و فيها مقاساة البلاء و مشاهدة مختلف الأهوال و المتاعب و المشاكل الكثيرة و يحتاج الى الصبر و المثابرة، فان جميع ذلك مقدمة للسعادة العظمى و الفوز الأكبر في الدنيا و العقبى، بل مقدمة لوصول العاشق المتيم الى المعشوق الحقيقي و ليست متاعب هذه المرتبة محدودة بحد خاص و درجة مخصوصة و قد وصف علي (عليه السلام) المؤمنين الممتحنين بالامتحان الربوبي في خطبته المباركة الواردة في وصف المتقين بأحسن وصف.

و لكن لا بد ان يعلم ان التمييز الذي يوجب الحمد و استحقاق عظيم الأجر و الثواب انما هو ما كان بالاختيار الحاصل من الايمان باللّه تعالى و رسله، و العمل الصالح و التقوى، فالطيب و الخباثة انما يدوران مدار الأمر الاختياري و هو الايمان و الكفر و لذا كانا أمرين اختياريين، و لعل ذيل الآية الشريفة يرشد إلى ذلك قال تعالى: «فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » آل عمران - 179.

قوله تعالى: وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ .

اي ان اللّه تعالى لا يليق بحكمته و جلالة شأنه ان يطلع أحدا من عباده على الغيب إلا من يجتبي من رسله من يشاء فيطلعه على الغيب بالوحي.

ص: 105

و المراد بالغيب الشريعة و شؤونها و موارد الامتحان و خصوصياته و درجاته فانه كما عرفت له شأن كبير ليس كل احد أهلا له، بل قيام كل فرد به اختلال النظام و لأن عالم المادة هو عالم الحجب الظلمانية و عالم الغيب مباين له فكيف يمكن ان يطلع المحجوب بالحجب الظلمانية على الغيب المكنون. نعم لو أمكن لعبد ازالة تلك الحجب باختياره لعلم ما لا يعلمه غيره و هو يختص بمقام الأنبياء و المرسلين حيث أشرقت على نفوسهم المقدسة الشوارق الازلية و كانوا أهلا للكمال فعرجوا بهممهم العالية عن الأمور الدنيئة فتتابعت عليهم الفيوضات الإلهية فصاروا قسيمي الجنة و النار.

قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ .

اي: ان الطريق الذي اختارته الحكمة الإلهية و الذي يكشف به خبايا النفوس و يتميز الطيب من الخبيث هو ان يرسل اللّه من يجتبيه من رسله و يدعوا الناس الى الايمان باللّه و رسله و الطاعة له و الجهاد في سبيله تعالى و الصبر على الايمان فانه الطريق الذي يميز به الخبيث من الطيب. و قد بين سبحانه و تعالى في موضع آخر من القرآن الكريم ان الحياة الدنيا هي محل الابتلاء قال تعالى: «اَلَّذِي خَلَقَ اَلْمَوْتَ وَ اَلْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً» الملك - 2.

و الاستدراك في الآية المباركة «وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي» لبيان كيفية وقوع التمييز على سبيل الإجمال و اشارة الى امر مهم لا يمكن ان يتصدى له احد الا هو عز و جل و هو الاصطفاء و الاجتباء من عباده للانذار و التبشير و تصديه للتمييز بين الخبيث و الطيب بأمره تبارك و تعالى، و لعل في ذكر اسم الجلالة إيماء الى ان تلك الأمور يتصف بها هو عز و جل لكونه الها.

ص: 106

قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ .

أتم بيان للتمييز بين الخبيث و الطيب اي: آمنوا مخلصين في ايمانكم باللّه و رسله الذين اجتباهم تعالى لهدايتكم. و التفريع باعتبار ان الايمان باللّه تعالى و الرسل مادة الطيب و روح الحياة الطيبة كما قال تعالى: «مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » النحل - 97 و هو يدل على ان ثمرة الايمان هي الحياة الطيبة، و المستفاد من ذلك ان الطيب و الخباثة يدوران مدار الايمان و الكفر، و قد امر سبحانه و تعالى باكتساب سبب الطيب و مادته بالاختيار لان الايمان امر اختياري.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

إعلام بأن آثار الحياة الطيبة مترتبة على العمل الصالح و الأجر متفرع على الايمان و التقوى بعد بيان أن الايمان روح الحياة الطيبة و هو مادة الطيب فالاجر العظيم المعدّ للمؤمنين انما يكون لمن آمن باللّه تعالى و رسله و اتقى ما يوجب مخالفته عز و جل و هذا ما يدل عليه جملة كثيرة من الآيات الشريفة. و لذا كرر عز و جل الأمر بالإيمان فان الاول كان لدرك طيب الحياة، و الثاني لدرك الأجر العظيم الذي لا يعرف كنهه و خصوصياته الا اللّه تعالى لان الابتلاء عظيم و هو شاق على النفوس فيكون أجره عظيما ايضا.

ص: 107

بحوث المقام
بحث ادبي:

قوله تعالى: «وَ لا يَحْزُنْكَ » بفتح الياء و ضم الزاي، فان (يحزن) بفتح الياء و الزاي للقاصر، و بضم الزاي للمتعدي و في المصباح انها لغة قريش و عليها استعمال القرآن الكريم في تسعة موارد منها المقام و اسم المفعول (محزون) في العامة من هذه اللغة.

و شيئا في قوله تعالى: «لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً» واقع موقع المصدر اي شيئا من الضرر و هو يفيد العموم لوقوعه في حيز النفي اي لا واقعا و لا وهما.

و قوله تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ » عطف على قوله تعالى: «وَ لا يَحْزُنْكَ » و الفعل مسند الى الموصول و (ان) و معمولها ساد مسدّ مفعوليه لحصول المقصود و هو تعليق افعال القلوب بنسبة بين المبتدأ و الخبر، و قيل المفعول الثاني محذوف و (ما) إما مصدرية أو موصولة؛ و الضمير في (نملي) محذوف أو التقدير عليه و كان الحق ان تكتب (ما) في الوجهين مفصولة و لكنها كتبت موصولة في المصاحف، و لعل الوجه هو المشاكلة لما بعده. و «خير» خبر و قرئ «خيرا» بالنصب على ان يكون لأنفسهم هو الخبر. و «لهم» بيان أو حال من «خير» هذا.

و قرئ و «لا تحسبن» بالتاء و الخطاب إما للنبي (صلى اللّه عليه و آله)

ص: 108

أو لكل من يتأتى منه الحسبان فيكون الموصول مفعولا و «انما نملي» بدل اشتمال من «الذين» فيسد مسد المفعولين كما عرفت.

و اللام في قوله تعالى: «ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ» قيل انها متعلقة بمحذوف هو الخبر و الفعل يذر منصوب بأن مضمرة اي: و ما كان اللّه مريدا لان يذر المؤمنين.

و قيل إن اللام مزيدة للتأكيد و ناصبة للفعل، و الخبر هو الفعل و أشكل عليه بأن الزائدة كيف تعمل و يجاب عنه بانه لا يقدح زيادتها فان الزائد قد يعمل كما في حروف الجر.

و الحق ان اللام لا تكون زائدة بل هي للتأكيد و تنصب الفعل لأنه لا معنى للزيادة في القرآن و لو بحرف واحد كما عرفت.

و «يذر» من يوذر حذفت الواو منها تشبيها لها بيدع و ليست العلة التي أوجبت حذفها موجودة في الأخيرة و لكنها موجودة في «يذر» إذ لم تقع بين ياء و كسرة و لا ما هو في تقدير الكسرة بخلاف (يدع) كما هو معلوم.

و انما فتحت الذال تشبيها بيدع فان الدال فيه فتحت لان لامه حرف حلقي مثل يسع، و يقع، و لم يستعملوا من «يذر» ماضيا و لا مصدرا، و لا اسم الفاعل، استغناء بتصرف مرادفه، و هو يدع.

و من في قوله تعالى: «وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ » لتبين الصفة لا التبعيض لان الأنبياء كلهم مجتبون كما في قوله تعالى: «ما يَفْتَحِ اَللّهُ لِلنّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ » فاطر - 2، و كما في قولك: (عندي عشرون من الدراهم) إذا قصد بالدراهم جنسها دون دراهم معينة، و قد أوضح ذلك الشيخ الرضي في شرح الكافية.

و قيل: إن (من) في المقام لابتداء الغاية و تعميم الاجتباء لسائر

ص: 109

الرسل للدلالة على ان شأن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) في هذا الباب له اصل اصيل و أمر مبين له و جار على سنة اللّه تعالى الجارية في جميع الرسل (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

و لا فرق بين الوجهين من حيث النتيجة لان الأنبياء في كل من الوجهين يكونون من المجتبين للّه تعالى، و لكن الوجه الأخير من الوحدة في الكثرة باعتبار ان مقام سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) مقام جمع الجمع بخلاف الاول فانه بلحاظ الكثرة بنفسها.

و قيل: ان (من) للتبعيض لان الاطلاع على المغيبات مختص ببعض الرسل بما فضل اللّه تعالى به بعضهم على بعض لا بأصل الرسالة و لكنه بعيد عن السياق خصوصا بملاحظة التفريع في قوله تعالى:

«فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ » .

و طلع في قوله تعالى: «لِيُطْلِعَكُمْ » لازم و متعد يقال: طلعت على كذا، و اطّلعت عليه، و اطلعت عليه غيري فهو لازم و متعد.

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ» على ان إعراض الناس عن الايمان موجب لحزن سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و نظير ذلك قوله تعالى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً» الكهف - 6 و قوله تعالى: «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ »

ص: 110

فاطر - 8 فهو الحريص على ايمان الناس جميعهم و الدخول في رحمة اللّه عز و جل و لا يبقى بغي و ظلم على وجه الأرض.

و الآية الشريفة تسلي النبي (صلى اللّه عليه و آله) عن ذلك و ترشده الى الحزن لأنه ليس له الا البلاغ قال تعالى: «فَإِنَّما عَلَيْكَ اَلْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا اَلْحِسابُ » الرعد - 40، مضافا الى أن المستفاد من الآية الكريمة أن سبب حزنه (صلى اللّه عليه و آله) هو مسارعتهم في الكفر و خوف الإضرار بالمؤمنين، و لذا ورد في علة النهي «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً» .

الثاني:

يدل قوله تعالى: «إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً» على كمال عنايته عز و جل بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين حيث جعل مضرتهم مضرته عز و جل، و هو يعدهم بأن إضرار الكافرين لا يصل إليهم كما ان اضرارهم لا يصل الى اللّه تعالى فانه الغني عن العالمين و القادر على أن يغني المؤمنين و يعزهم بعزته، و يمنحهم الصبر و يجزيهم الجزاء الأوفى، و يقمع كيد الكافرين و يرده عليهم قال تعالى:

لَهُ مَقالِيدُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » * الزمر - 63. و من مظاهر استيلاء اللّه تعالى عليهم و عدم إمكان اضرارهم له أن حرمهم اللّه تعالى من حظ الآخرة الذي هو عظيم امره، و أوعدهم العذاب العظيم الذي أعده اللّه تعالى الكافرين جزاء مسارعتهم في الكفر و كانت ارادته تعالى لذلك مستمرة معهم لا تبديل لها و هم اختاروا ذلك.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ اِشْتَرَوُا اَلْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ » ان كل من اعرض عن الايمان سواء كان من المسارعين في الكفر أم من غيرهم لن يضروا اللّه تعالى و المؤمنين فإنهم معززون بعزته.

ص: 111

و الآية المباركة تدل على كمال غبنهم في هذا التبديل حيث بدّلوا أعز الأشياء و أعظمها و خيرها بأخسّها و أقبحها و شرها و في هذه الحالة كيف يمكن ان يضروا اللّه تعالى و هو القيوم و العزيز الذي لا يضام و العظيم الذي لا يدانيه احد.

و هذه الآيات تدل على أعظم الحقائق الواقعية التي غفل عنها جميع اهل الباطل، فان انغماسهم في المادة و غرورهم في الدنيا و تجبرهم على الحق و اهله أوجبت أن يظنوا باللّه العظيم الظنون الباطلة التي أوقعتهم في المهلكة و الشقاء.

الرابع:

ص: 112

يؤتون خيرا مما أوتوه في الدنيا قال تعالى: «وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً» الكهف - 36.

و قد بين عز و جل في موضع آخر ان هذا الاستدراج من كيده المتين، قال تعالى: «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ » * الأعراف - 183 فاعتبر عز و جل أن ذلك الاستدراج من جزاء الكيد الذي اراده الكافرون للّه و للمؤمنين فهو يسوقهم به الى ازدياد الإثم الموجب لاستحقاق العذاب المهين و لا يخرج جميع ذلك عن سنة متقنة جارية في الحياة و هي سنة التكميل و ابتلاء المؤمنين و تمييز الخبيث من الطيب، قال تعالى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» آل عمران - 186 هذه هي الحقيقة في استدراج الكافرين و بيان الواقع في إملاء اللّه تعالى لهم في الأموال و الأولاد.

الخامس:

يستفاد من التفنن في وصف العذاب في المواضع الثلاثة - بين عظيم و اليم و مهين - ان كل وصف يناسب مضمون الآية التي ورد فيها الوصف، ففي المسارعة في الكفر يكون العذاب عظيما لان الكفر قد خلب لبهم و استولى على جميع احاسيسهم، و اشتد تسرعهم فيه، فكان ذلك عظيما و كان الجزاء كذلك ايضا.

و في اشتراء الكفر بالإيمان يكون العذاب أليما لأنهم تركوا الإيمان و رغبوا في الكفر بسوء اختيارهم فإنهم بعد معرفتهم حقيقة الحال لا بد من تألمهم كما يتألم المشتري المغبون إذا عرف مقدار الغبن الكبير و لا محيص عن دفعه عنه.

و في الإملاء للكافرين يكون العذاب مهينا فإنهم كانوا يتجبرون بما

ص: 113

املاهم اللّه تعالى لهم و يطلبون بذلك العز و الكرامة فآتاهم اللّه عز و جل العذاب المهين و كل ذلك من دقائق الأمور التي لا يعلمها إلا اللّه جلت عظمته.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ » ان التكميل و الابتلاء في طريقه و توارد الآلام و المحن في ابتغائه مما لا بد منه و لا محيص عنه فان من أراد ان يسلك في سلك الطيبين فلا بد له من تحمل البلاء و الصبر عليه.

و تدل الآية الشريفة على ان التمييز بين الخبيث و الطيب في الإنسان منحصر في الايمان باللّه تعالى و التقوى و العمل الصالح، فالدخول في الطيبين طريقه منحصر في الايمان باللّه تعالى و لكن ذلك لا يكفي في نيل الأجر العظيم بل لا بد من البقاء و الاستمرار عليه و حفظ طيبه و هو منحصر في العمل الصالح و التقوى.

و بالجملة: ان من كان مؤمنا بنحو ما اراده اللّه تعالى من العبد فهو من الطيب فإذا وافق العمل الاعتقاد كان طيبا بالذات و بالفعل، و يستتبع ذلك سعادة الدنيا و الآخرة. و من كان غير ذلك فهو خبيث إما اعتقادا أو عملا أو هما معا.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ » انهما أمران اختياريان لأنهما يدوران مدار الايمان و الكفر و هذه حقيقة قرآنية و يترتب عليها امور مهمة منها جزاء الأعمال، و منها تكشف اسرار التوحيد و لعلنا نتعرض لذلك في موضع مناسب ان شاء اللّه تعالى.

الثامن:

يدل تكرار لفظ الجلالة - في قوله تعالى: «ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » ، مع ان الثلاثة الأخيرة من وضع الظاهر موضع المضمر - على ان اللّه تعالى هو مصدر الجلال و الجمال، و ان تلك الأمور التي في الآية الشريفة من مختصات الإله الواحد المتصف بالالوهية و ان الرسل وسائط الفيض.

ص: 114

يدل تكرار لفظ الجلالة - في قوله تعالى: «ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى اَلْغَيْبِ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » ، مع ان الثلاثة الأخيرة من وضع الظاهر موضع المضمر - على ان اللّه تعالى هو مصدر الجلال و الجمال، و ان تلك الأمور التي في الآية الشريفة من مختصات الإله الواحد المتصف بالالوهية و ان الرسل وسائط الفيض.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ ما كانَ اَللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ » ان طريق الإنسان الى العلم بالحقائق إنما هو منحصر بالاستدلال، و الحاصل من نصيب العلامات و اقامة البراهين، و انه لا مطمع لاحد في الاطلاع على الغيب فانه منحصر باللّه تعالى و بمن يجتبيهم عز و جل.

و تعقيب هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: «وَ لكِنَّ اَللّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ » يدل على فضل الرسل و مزيتهم على سائر الخلق و قصور رتبة غيرهم عن الاطلاع على الغيب و الوقوف على خفايا الأمور و الأسرار التي لا بد من إصدارها عن طريق الوحي.

العاشر:

الآية الشريفة لا تبين طرق التمييز بين الخبيث و الطيب و إنما تدل على انه من الأمور التي تختص باللّه تعالى و قد بين عز و جل في مواضع اخرى من القرآن الكريم تلك الطرق و لعل ذكر اجتباء الرسل بعد ذلك فيه الدلالة على ان جميع مجاهدات الأنبياء و غزواتهم و حروبهم ليس الا للتمييز بين الخبيث و الطيب، فتكون هذه الآية الكريمة بمنزلة العلة لجميع ما ذكر في غزوة أحد و سائر الغزوات و اللّه تعالى هو العالم بما مضى و بما هو آت.

الحادي عشر:

يدل قوله تعالى: «وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » على ان الايمان لا يكمل الا بالتقوى و ان الأجر انما يكون على حسب الايمان المقترن بالتقوى و العمل الصالح.

ص: 115

بحث روائي

في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: أخبرني عن الكافر الموت خير له أم الحياة ؟ فقال (ع): الموت خير للمؤمن و الكافر قلت: و لم ؟ قال لان اللّه تعالى يقول: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» و يقول: «وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ » .

أقول: روي قريبا منه في الدر المنثور عن ابن مسعود، و حيث انه ذكر الأبرار في مقابل الذين كفروا صح ان يراد به مطلق المؤمنين لا طائفة خاصة، و يشهد لذلك جملة من الآيات و الاخبار التي وردت في بيان درجات الجنة للمؤمنين.

و في اسباب النزول للواحدي قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) «عرضت عليّ امتي في صورها كما عرضت على آدم و أعلمت من يؤمن بي و من يكفر، فبلغ ذلك المنافقين، فاستهزأوا، و قالوا يزعم محمد انه يعلم من يؤمن به و من يكفر، و نحن معه و لا يعرفنا فانزل اللّه تعالى هذه الآية «وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ » .

أقول: على فرض صحة الحديث لا بعد فيه بحسب القواعد العقلية لان المستفيض قابل لجميع أنحاء الاستفاضة و المفيض بالنسبة اليه لاحد لإفاضته، فعرض صور الامة عليه يكون كعرض أعمالها عليه في كل يوم الاثنين و الخميس كما نطقت به الأحاديث.

ص: 116

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوّ.......

اشارة

وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لِلّهِ مِيراثُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ (184) تضمنت الآيات الشريفة المتقدمة ما يتعلق ببذل النفس في الجهاد في سبيل اللّه تعالى و قد ذكر جلت عظمته فيها ما يرتبط بغزوة احد و ما لاقاه المؤمنون المجاهدون في سبيله عز و جل من البلاء و المحن و ما صدر عنهم فيها من الفشل و الجبن و المخالفة و ما ترتب على ذلك من اللوم و العتاب و الآثار الكبيرة و بيّن سبحانه و تعالى جميع الجهات التي تعلقت

ص: 117

بها، فكانت غزوة أحد درسا عظيما للمؤمنين و فيها من العبر المهمة لهم و حث جلّ شأنه على الرجوع الى الحق و بذل النفس و الصبر و المثابرة و وعدهم الجزاء العظيم، و ذكر الكافرين و المنافقين و بيّن حقيقة الحال فيهم. ثم ذكر تعالى ان إملائه للكافرين ليس إلا استدراجا لهم ليزدادوا إثما و لهم عذاب مهين.

و يذكر عز و جل في هذه الآيات المباركة بعض اقسام الإملاء و الاستدراج و هو الإملاء في جمع المال و ضرب مثلا في الذي يبخل عن إنفاقه في سبيل اللّه تعالى فكان حاله حال إملاء الكافرين و أرشده سبحانه إلى الواقع و بين أشد انواع الوعيد بالنسبة اليه ثم عطف الكلام الى اليهود الذين كانوا مع النصارى موضوع الحوار في هذه السورة و بين خطيئة اليهود و انهم جمعوا كثيرا من صفات السوء و الشر ما لم تجتمع في غيرهم فقد أساءوا الظن باللّه تعالى و كذبوا بآياته عز و جل و نسبوا الفقر اليه و عادوا أنبياء اللّه و كذبوهم و كتموا الحق و الميثاق الذي أخذ منهم و قد أمروا ببيانه، و أوعدهم اللّه تعالى العذاب جزاء اعتقادهم و أعمالهم.

و الآيات المباركة خاتمة الآيات الكريمة التي وردت في غزوة أحد و هي تأمر بالصبر و الثبات و تستنهض الناس الى متابعة الحق و الجهاد في سبيل اللّه و تحرضهم على الانفاق في سبيل اللّه تعالى و الحذر من كيد اليهود، و تسلّي النبي (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين من تكذيبهم.

ص: 118

التفسير

قوله تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ .

تحريض على بذل المال في سبيل اللّه تعالى بعد التحريض على بذل النفس في الجهاد، و توكيد لما ذكره عز و جل آنفا من إملاء الكافرين ببيان اظهر مصاديقه و هو الإملاء بالمال، فيكون حال الذين يبخلون بالمال و عدم إنفاقه في سبيل اللّه تعالى كحال الذين املى لهم اللّه تعالى و كلا الفريقين يعيش في الوهم و الخيال و واقع في أعظم الشر في الحقيقة و بيان لحال البخيل و سوء عاقبته و تخطئة لما يتوهمه هو و اهله من دعوى الخيرية ببيان حال الدنيا، و هي ان جملة من معتقداتهم التي يهتمون بها و يرتبون الآثار عليها تكون وزرا عليهم و وبالا في دار القرار و نظير هذه الآية قوله تعالى: «وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ » البقرة - 216 فالبخيل عن انفاق المال في سبيل اللّه تعالى و ان كان يجمع المال و هو خير بحسب الظاهر له و لكنه طوق ثقيل يحمله الإنسان في عنقه في الواقع و يظهر ذلك يوم ظهور الحقائق قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ يَكْنِزُونَ اَلذَّهَبَ وَ اَلْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ » التوبة - 35.

الآيات الشريفة المتقدمة صريحة في تجسم الأعمال كما دلت

ص: 119

عليه الادلة العقلية و النقلية، و التجسيم يحصل بعمل نفس الإنسان و إعداده له كما تدل عليه هذه الآية. على ان الغنى و المال انما هو من فضل اللّه تعالى يؤتيه من يشاء من عباده و فعل المكلف في ذلك انما يكون مقتضيا فيترتب عليه اثر فعله لا اثر فضله جلت عظمته.

قوله تعالى: بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ .

فيه كمال الاحتجاج على الباخلين، و فيه التوبيخ و الذم لهم فان ما يبخلون به إنما هو من عطاء اللّه تعالى و فضله، و الآية الكريمة لا تختص بنوع معين فان عموم قوله تعالى: «بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » يشمل المال و العلم و الجاه و كل فضل من اللّه تعالى يمكن ان ينتفع به الناس فان الامتناع عن بذله و البخل به يكون مرجوحا و تشمله الآية المباركة و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله):

«من سئل عن علم فكتمه ألجم من نار».

قوله تعالى: هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ .

بيان لواقع الحال في ان ما توهموه خيرا انما هو في الحقيقة شر لان ما زعموه في وجه الخيرية في البخل هو حفظ المال لمنافعهم و شؤونهم و هذا في مقابل الشر العظيم المترتب على ذلك عدم محض، و هو يكشف عن رذيلة خلقية و هي رذيلة الشح و سوء الظن باللّه العظيم، و ينبئ عن فسق صاحبه لان فيه خسة المعصية و بعده عن مكارم الأخلاق لأنه يخسر فضيلة الطاعة و حسن السماحة و الرحمة، و الإعانة للضعيف، و التكافل الاجتماعي، مضافا إلى انه موجب للحرمان عن الثواب الجزيل المترتب على البذل و العطاء في سبيل اللّه تعالى و لعله لأجل ذلك جاء النص على كونه شرا مبالغة فيه و دفعا لكل توهم في قوله تعالى:

ص: 120

«بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ » مع كفاية ما تقدم في نفي الخيرية على ذلك.

قوله تعالى: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

إخبار عن عواقب الحال و تعليل لكون البخل شرا لهم ببيان ذكر أهم العلل و الآثار. و «سَيُطَوَّقُونَ » من الطوق و السين للتأكيد، و المراد به أن ما بخلوا سيتمثل يوم القيامة كالحمل الثقيل الذي يجعل في عنقهم كالطوق فيزيد في تعبهم و فزعهم فوق ما يحملونه من الأوزار فيكون من طوق التكليف (المشقة) لا من طوق التقليد و منه قول الشاعر:

(كل امرئ مجاهد بطوقه) و قد ذكر المفسرون في بيان ذلك وجوها و الظاهر انها ترجع إلى امر واحد و هو تصوير الحمل الثقيل في يوم القيامة و هو إما ان يكون طوقا في التكليف اي تكلفوا ان يأتوا بمثل ما بخلوا أو طوقا على وجه التقليد كالثعبان و به روايات و في الحديث عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «من ظلم شبرا من ارض طوقه اللّه من سبع ارضين» و على اي حال فالمراد به ما ذكرناه.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مِيراثُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

اي: و هم لا يعلمون انهم عن قريب يتركون ما بخلوا به و ما اكتنزوه لأنفسهم فيرثه اللّه تبارك و تعالى الذي له ميراث السموات و الأرض وحده فلا هم ينتفعون به و لا هم ينجون من تبعاته و آثامه يوم القيامة فتبقى الحسرة عليهم و الندامة لهم لا تنفك عنهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ .

تهديد و توعيد لهم بانه لا يخفى على اللّه تعالى شيء و هو يعلم

ص: 121

ما يعملون فيجازيهم عليه. و اظهار اسم الجلالة لبيان المهابة و زيادة في التهديد.

قوله تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ .

بعد أن كان الخطاب عاما يشمل اليهود و غيرهم و بين لهم حقيقة الحال في البخيل و ما يزعمه في ما يدخره و يبخل به.

ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة مظهرا آخر من مظاهر سوء الظن باللّه العظيم و البعد عنه عز و جل و هو نسبة الفقر الى اللّه تعالى و هي تنبئ عن ان قائلها لا يعرف اللّه أصلا و لا يخشاه عز و جل.

و القائلون بهذه المقالة هم اليهود بقرينة السياق في تعداد مثالبهم و جرائمهم فهم الذين صدرت عنهم تلك الأقوال البذيئة و الأفعال الشنيعة و السبب في صدور هذا القول منهم متعدد فاما ان يكون تهكما بالقرآن الكريم في قوله تعالى: «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً» * البقرة - 245 أو استهانة بفقراء المؤمنين و تعريضا بفقرهم و فاقتهم، أو استهزاء بالإيمان و اهله، فإنهم عرفوا بالاستهزاء و الوقاحة و الجرأة على اللّه تعالى و الحق. و لا يقدح ان يجتمع جميع تلك الأسباب فيهم كما يأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

و انما ذكر عز و جل السماع دون غيره لبيان شناعة القول و فيه التوعيد و التهديد لقائله فهو سماع علم و تهديد و اثبات للعذاب الأليم لهم لا سماع قبول و رضا.

و اما وجه القسم فهو تأكيد لشناعة قولهم و صدوره عنهم فإنهم بمقالتهم هذه كأنهم ينكرون السمع للّه تعالى أو ينكرون المقال أصلا

ص: 122

فأكده عز و جل بالتأكيد القسمي على السماع و ترتب الجزاء على ما سمع.

قوله تعالى: سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

تأكيد آخر. اي: نحفظ ما قالوا و نثبته في صحائف أعمالهم لوصول جزائهم إليهم، كما أثبتنا قتلهم الأنبياء بغير حق علما منهم بأنهم أنبياء و ظلما و عدوانا عليهم.

و انما قرن بين قولهم و فعلهم لتثبيت شناعتهما من كل جهة و لبيان فساد كل واحدة منهما و المراد بالكتابة هو الحفظ لأجل الجزاء عليه و السين للتأكيد و الخطاب يدل على عظم ما قالوه.

و في نسبة القتل الى الحاضرين منهم إما لأجل رضائهم بفعل السلف أو لان الامة تستوي في التكافل الاجتماعي و انهم على حد سواء في الأمور العامة التي لا بد من الالتزام بها و مراعاتها، و الاعتراض على من أنكرها، و من تلك الأمور الإنكار على فاعل المنكر من افراد تلك الأمة، و الا كانوا متساوين في الجريمة و استحقاق العذاب و قد تقدم في سورة البقرة ما يتعلق بذلك أيضا فراجع و في الحديث عن الصادق (عليه السلام): «ان بين القائلين ان اللّه عهد إلينا - و هم الذين قالوا: ان اللّه فقير و نحن اغنياء - و بين القاتلين للأنبياء خمسمائة عام، فألزمهم اللّه القتل برضاهم بما فعلوا».

أقول: لعل التقدير بالخمسمائة من باب المثال للكثرة.

قوله تعالى: وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ اَلْحَرِيقِ .

الذوق معروف و هو ما يكون باللسان لمعرفة طعم الطعام و أصله في ما يقل تناوله دون ما يكثر ثم اتسع استعماله لإدراك سائر المحسوسات و الحالات يقال: ذاق الأمرّين إذا وقع في الشدائد و كابد أحوالها

ص: 123

و قاسى آلامها. و قال بعضهم: إن كلمة (ذق) تستعمل لمن آيس عن العفو، و هي تؤذن بأن ما هم فيه من العذاب و الهوان يعقبه ما هو أشد من ذلك و ادهى.

و الحريق إما بمعنى المحرق فتكون اضافة العذاب اليه بيانية أو تكون الاضافة للسبب لتنزيله منزلة الفاعل فيقال عذاب الحريق النار أو اللهب.

و الانتقام بهذا القول لبيان ان العذاب قد تحقق و وجد و لا يمكن الخلاص منه و هو ينبئ عن كمال الغضب.

و في الآية الشريفة وجوه تدل على المبالغة في الوعيد و الشدة في العذاب، فقد ذكر فيها القول، و العذاب، و الحريق، و الذوق.

قوله تعالى: ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ .

الاسم (ذلك) إشارة الى العذاب الذي نزل منزلة المحسوس المشاهد لتحققه و لتهويل الأمر و تعظيم شأنه في الفظاظة. و الباء للسببية.

و المراد بالأيدي الأنفس و الأشخاص، و انما ذكرت لأنها آلة للتقديم غالبا و لبيان ان ذلك مما جنته أيديكم و أنتم تتحملون مسؤوليته فتفيد النسبة إلى يد الفاعل الصاق العمل بعامله و تمام مسؤوليته عليه ما لا يفيد غيرها ذلك.

و المعنى: ان ذلك العذاب انما هو بسبب ما قدمتم من العمل و هو الجزاء المختص لهذه النفوس الآثمة الوقحة على اللّه تعالى و رسله.

قوله تعالى: وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ .

تعليل لجميع ما تقدم اي: ان ذلك العذاب و الكتابة و الحفظ لأجل ان اللّه تعالى ليس بظلام للعبيد، و يستفاد منه انه لو لم يكن ذلك الحفظ و الجزاء لكان إهمالا لقانون الجزاء المبني عليه النظام

ص: 124

الأحسن، و نفي الظلم الكثير حسب تعدد الأعمال و الجزاء فيكون ظلاما كما أن نفي الظلم عنه عز و جل يستلزم اثبات العدل فيه فهو عدل في حكمه و فعله و جزائه و عذابه.

و هيئة «ظلام» تأتي اما للنسب كعطار، أو للمبالغة، و كلاهما صحيح في المقام اما الاول اي لا ينسب اليه ظلم أصلا لأن من كان على نهاية الكمال و العظمة و كانت كل صفة فيه في أعلى مراتب الكمال لا يعقل الظلم بالنسبة اليه لان الظلم يستلزم النقص و المفروض انتفاؤه فيه جلّ شأنه فلو كان سبحانه و تعالى ظالما كان ظلاما.

و اما الثاني فلان المنفي عنه الظلم الكثير فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع و الضر كان لقليله مع قلة نفعه اكثر تركا و أشد امتناعا. و تقدم آنفا انه يمكن ان يكون التكثير و المبالغة لأجل تعدد الأعمال و الجزاء.

و من ذلك يعلم انه لا وجه للاشكال بأن نفي الظلم ابلغ من نفي الاكثرية لان الأخير لا ينفي أصله، بل ربما يشعر بوجوده. و أنت بعد الاحاطة بما ذكرناه تعلم الجواب عنه فان التعبير بالكثرة لبيان ان ساحته تبارك و تعالى منزهة عن اي ظلم و انه بلغت نزاهته الى حد الكمال و لشدة كماله و تماميته كان الظلم القليل يعد بالنسبة اليه ظلما كثيرا فيصير ظلاّما فكماله المطلق يوجب عدم ثبوته له مطلقا.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ .

الجملة في موضع خفض بدلا من الذين في الآية الكريمة المتقدمة أو نعتا له. و المراد بالعهد هو الأمر و التوصية.

و الآية الشريفة تبين زعما آخر من مزاعم اليهود الفاسدة، فقد

ص: 125

زعموا أن رفضهم الايمان برسول - يدعي برسالة من اللّه تعالى و هم لا يعترفون برسالته حسب اهوائهم - كان بوصية من اللّه تعالى و إطاعة لأمره عز و جل.

و انما قالوا «لرسول» مداهنة و مغالطة و الافهم لا يعترفون برسالة أحد إلا من يعلقون الايمان به على ما قالوه.

قوله تعالى: حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ .

القربان: فعلان من القربة و هو يأتي اسما كالبرهان و السلطان و مصدرا كالعدوان و الخسران و هو كل ما يتقرب به الى اللّه تعالى من نعم و غيرها. و أكل النار كناية عن إحراق القربان و احالته إلى رماد و كان ذلك معجزة خاصة تدل على صدق المدعي في دعواه.

و يستفاد من الآية الشريفة و ذيلها انها كانت شائعة عندهم و في بعض الأحاديث انها كانت لأنبياء بني إسرائيل و في قصة ابني آدم دلالة على وقوعها كما حكى اللّه تعالى ذلك في سورة المائدة آية 27.

و ذكر بعض المفسرين ان إحراق القربان كان بفعل أنفسهم و بأيديهم و لم يكن معجزة خارقة للعادة و استشهد ببعض الفقرات من الفصل الاول من سفر اللاويين. و لكن ما ذكره مخالف لظاهر الآية الشريفة بل صريحها في ان إحراق القربان كان بسبب غيبي فهي معجزة دالة على صدق مدعي الرسالة و استشهاده بالتوراة الرائجة غريب جدا فإنها مضافا إلى معلومية تحريفها بحيث لا يبقى مجال للاستشهاد بها معارض بما دل على نزول النار من السماء. و قد كفانا مؤونة الرد عليه شيخنا البلاغي (قدس اللّه نفسه) فراجع.

و كيف كان فهي معجزة خارقة للعادة و هؤلاء زعموا ان ايمانهم

ص: 126

بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) متوقف على مجيء النار لتأكل القربان الذي يقدمونه و ما دام الرسول لم يأتهم بذلك فهم لا يؤمنون به إطاعة لأمر اللّه تعالى لهم فيكون طلبهم لهذه المعجزة على سبيل التعنت لا الاسترشاد و لذا جاء الرد عليهم بالتكذيب.

قوله تعالى: قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ .

تكذيب لهم في دعواهم على اللّه تعالى و الزام لهم بالإيمان. اي:

قل لهم يا رسول اللّه قد جاءكم رسل من اللّه تعالى قبلي و جاءكم بالبينات الواضحات الدالة على صدق دعواهم و حقية رسالتهم خصوصا ذلك الذي قلتم و هو القربان الذي تأكله النار.

قوله تعالى: فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ .

اي: انكم لم تكتفوا بالعصيان و عدم الايمان بهم بل تجرأتم عليهم فقتلتموهم و هو يدل على خبثهم و جرأتهم على الحق و اهله.

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ .

زيادة تقريع لهم بأنهم كاذبون في ما زعموه و ما نسبوه الى اللّه تعالى فكل ما ذكروه هي من مفتعلاتهم التي أرادوا منها الاعراض عن الايمان مع انه قد أمرهم انبياؤهم بالإيمان بالرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ .

تسلية للرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) في تكذيبهم له اي:

فان كذبوك يا رسول اللّه مع ما جئت به من الحجج الباهرة و المعجزات الكثيرة فقد كذّبوا رسلا من قبلك جاءوا بمثل ما جئت به فلا تحزن

ص: 127

لكفرهم فإنهم أبوا الا على العصيان و لا تعجب من فساد أمرهم.

قوله تعالى: جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ .

البينات: هي الحجج الباهرات و المعجزات الواضحات، و الزبر جمع زبور و قد ذكر لمادة (زبر) معان متعددة و لكن يمكن جعلها من متحد المعنى - و ما ذكروه انما هو من ذكر المصاديق لا الاختلاف في اصل المعنى - و هو القطع و الفصل يقال: زبرت اي كتبت لان الكتابة تستلزم تقطيع الحروف و الكلمات، و منه زبر الحديد اي قطعها و اجزائها، و منه ايضا زبرت الرجل اي: انتهرته و هو يستلزم قطعه عما زبر عنه.

و المراد بها تلك الكتب التي تشمل على الحكم و المواعظ التي تزجر الإنسان عن المعاصي و تمنعه عن ارتكاب الآثام.

و الكتاب المنير اي المضيء بشرائعه و معارفه و أحكامه، و المراد به جنس الكتاب و هو الكتب المنزلة من السماء لإنارة الطريق و هداية الناس الى الصراط المستقيم: و انما جمع بين الزبر و الكتاب و هما بمعنى واحد لاختلاف اصلهما و الآثار المترتبة عليهما.

بحوث المقام
بحث ادبي:

خيرا في قوله تعالى: «هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ » مفعول ثان ليحسبن، و المفعول الاول هو البخل المدلول بقوله تعالى «يَبْخَلُونَ »

ص: 128

أو الذي بخلوا به مما آتاهم اللّه. و «هو» ضمير فصل و الفاعل «الذين» هذا بناء على القراءة المشهورة «لا يحسبن» بالياء و اما من قرأ بالتاء فالفاعل هو المخاطب إما النبي (صلى اللّه عليه و آله) أو من يستحق الخطاب، و «الذين» مفعول أول على تقدير حذف مضاف و اقامة (الذين) مقامه و هو فاصلة و خيرا مفعول ثان.

و الالتفات في قوله تعالى: «وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ » الى الخطاب للمبالغة في التهديد لان تهديد العظيم بالمواجهة أشد و قرئ «بما يعملون» بالياء على الغيبة. و انما قال تعالى: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» دون (كتبنا ما قالوا) لان الكتابة في الماضي ربما تحتمل العفو فكان الخطاب الاول ابلغ في الوعيد.

و نظير قوله تعالى: «جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» قوله عز و جل: «وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» فاطر - 25 و لكن الفرق بينهما من جهتين:

الاولى: انه جعل لفظ الماضي و مبني للمجهول في الشرط مقام لفظ المستقبل في آية آل عمران قال تعالى: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ » بخلاف الآية الشريفة الواردة في سورة فاطر فان الشرط فيها بلفظ المستقبل و الفاعل مذكور مع الفعل.

الثانية: ان الآية المباركة في سورة آل عمران قد ذكر فيها (باء) واحدة «بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» إلا في قراءة ابن عامر و الآية الشريفة الواردة في سورة فاطر قد ذكر فيها باءات ثلاثة «بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» و لعل الوجه في ذلك انه قد ذكر فيها الشرط بلفظ المستقبل و ذكر الفاعل أيضا فاقتضى ذكر الباءات

ص: 129

الثلاثة لبيان ان كل رسول كان من الرسل كان له واحدا من الثلاثة و الآية الشريفة الواردة في سورة آل عمران كان الأمر فيها بيان ان الرسل كان من شأنهم إقامة الحجة على أقوالهم و إعطاء المواعظ الزاجرة و إنارة الطريق بالكتب بمعارفها الفاخرة.

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ » على ذم البخل و انه من رذائل الأخلاق بل من مهلكاتها فهو يجلب الشر و الشقاء للفرد البخيل و يضر الاجتماع و هو مانع عن الخير و السعادة الفردية و الاجتماعية، و يكفي في بعد صاحب هذه الرذيلة عن الكمال ان اللّه تعالى أوعد على من يبخل من ما تفضل اللّه تبارك و تعالى عليه بأن يجعله في شدة و عذاب و سيتمثل ذلك له حملا ثقيلا يكون كالطوق في عنقه مضافا إلى الفزع الأكبر الذي هو فيه، و قد ترك ما ادخره و ما بخل به فلم يأخذوا منه شيئا و يرثه اللّه تعالى الذي له ميراث السموات و الأرض، فكان ذلك و بالا عليه لم ينتفع به لا في الدنيا و لا في الآخرة.

و البخل تارة يكون عن عدم إعطاء الحقوق الواجبة على الإنسان - كالزكاة و الخمس - و غيرهما. و اخرى يكون عن عدم الانفاق في الجهات الراجحة غير الواجبة و ثالثة يكون عن عدم الانفاق في الأمور المباحة غير المرجوحة شرعا و اطلاق الآية الكريمة يشمل الجميع و سيأتي

ص: 130

في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذه الرذيلة الخلقية ان شاء اللّه تعالى.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » على تجسم الأعمال و قد دلت عليه الادلة العقلية و النقلية كما عرفت.

و لم يبين سبحانه الطوق الذي يتمثل لهم يوم القيامة في هذه الآية الشريفة لتهويل الأمر، و لاختلافه باختلاف درجات البخل و كمية ما بخل به و سائر خصوصياته و قد ورد في بعض الأحاديث «يطوق ماله شجاعا اقرع» و لعله في مقام بيان احد المصاديق،

الثالث:

يدل قوله تعالى: «وَ لِلّهِ مِيراثُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » ان كل ما يعطاه الإنسان من مال و جاه و قوة و فضل و علم بل كل ما في الأرض و السموات عرض زائل لا يبقى و صاحبه يفنى و لا وجه للبخل به و استبقاء ما هو فان و زائل، و عليه ان يقرضه الى من يبقى ملكه و يدوم و ان يبذله في المواضع اللائقة له و ما أمره اللّه تعالى به و ما هو مطلوب منه و بذلك قد أدرك رضاء اللّه تعالى فيكون محسنا و اللّه يحب المحسنين.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » على ان القائلين بهذه المقالة قد اجتمع فيهم من صفات السوء و خصال الشر ما لم تجتمع في غيرهم من سوء ادب مع اللّه تعالى و الجرأة عليه و تكذيب الرسل و البخل و قتل الأنبياء، و معاندة الحق.

و الآية الشريفة تعدد تلك الخصال و تبين جرائمهم و تندد بها و توعد عليها و تقلل من شأن المتصفين بها في نفوس المؤمنين.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ » ان الرضا بالمعصية معصية فمن رضي بقتل الأنبياء بغير حق من متأخري اليهود يكون مع المتقدمين الذين وقع القتل على أيديهم على حد سواء

ص: 131

في المعصية و هم مشتركون في الجزاء و العذاب الحريق. و يدل عليه قوله تعالى: «ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ » فكأن تلك الأفعال المنكرة قد حصلت منهم جميعا مباشرة مع العمد. و يرشدنا اللّه تعالى في مثل هذه الآيات إلى النظر في افعال المتقدمين و العبرة منها و استحسان ما استحسنوه و تقبيح ما فعلوه من القبائح و الا كانوا شركاء معهم في الإثم.

السادس:

يمكن ان يستفاد من قوله تعالى: «وَ أَنَّ اَللّهَ لَيْسَ بِظَلاّمٍ لِلْعَبِيدِ» ان كثرة الظلم انما هو من جهة كثرة ما يجزى على المعاصي الصادرة من العبيد فيكون التعدد و الكثرة بحسب تعدد المتعلق و قد تقدم في التفسير وجه آخر فراجع.

و يستفاد منه انه لا يمكن ان ينسب الظلم اليه تعالى لفرض انه الذات المستجمعة لجميع الكمالات الواقعية و الادراكية و مسلوب عنه جميع النقائص الواقعية و الادراكية و الظلم نقص و اي نقص أشد منه فيمتنع ان ينسب اليه و الا كان خلفا. و هذا البرهان يأتي في كل النقائص الواقعية و الادراكية و لا يختص بالظلم فقط.

و من الآية الشريفة يستفاد بطلان فلسفة اليهود و النصارى و اشتمالها على امور لا تطابق العقل و فسادها أوضح من أن يخفى مع ان الفلسفة الاسلامية قد فتحت عليهم ابوابا من المعارف و الحقائق و لكنهم اعرضوا عنها و حرفوا الكلم عن مواضعه.

السابع:

يدل قوله تعالى: «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» على كمال الحفظ لما فيه من أمن النسيان، و فيه من التوعيد ما لا يكون في غيره.

و قد شاع استعمال لفظ الكتابة في التوعيد على الذنب و ارادة العقوبة عليه.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» ان الرسل انما بعثوا بهذه الأمور الثلاثة: البينات

ص: 132

و هي الدلائل الواضحات التي تدل على صدق دعواهم و إثباتها مقابل كيد الكافرين و أباطيلهم. و الزبر و هي المواعظ المشتملة على مكارم الأخلاق و فضائلها و ما يكون موجبا لتهذيب النفس و تطهيرها من الرذائل و المفاسد. و الكتاب المنير المشتمل على اصول المعارف و الاحكام الإلهية التي تهدي الإنسان الى الكمال المنشود و السعادة في الدارين و هو اسم جنس يشمل جميع الكتب السماوية كما تقدم.

و انما ذكرها عز و جل لبيان شدة التنكير و قبح العمل فان الذين كذبوا الرسل انما حرموا أنفسهم من السعادة و ما هو الصالح، و للاعلام بأن جميع المعارف الإلهية و الاحكام الشرعية و الأصول الاعتقادية لا بد و ان تنتهي الى وحي السماء.

بحث روائي

في الكافي عن الصادقين (عليهما السلام) في قوله تعالى:

«سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » قال (عليه السلام): «ما من احد يمنع من زكاة ماله شيئا الا جعل اللّه ذلك يوم القيامة ثعبانا من نار مطوقا في عنقه ينهش من لحمه حتى يفرغ من الحساب و هو قول اللّه عز و جل سَيُطَوَّقُونَ - الآية -».

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: «سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ما من ذي مال نخل و لا زرع و لا كرم يمنع زكاة ماله إلا قلدت ارضه في سبع ارضين يطوق بها الى يوم القيامة».

ص: 133

أقول: الأحاديث في مضمون ذلك كثيرة مروية في كتب الفريقين و قد ذكرنا انها من باب المثال لكل ثقل يطوق به في عنق الذي بخل بما تفضل اللّه عليه و ذكر الزكاة و المال انما هو من ذكر أهم المصاديق و إلا فالآية المباركة عامة تشمل مطلق ما تفضل اللّه تعالى على الإنسان و لا بعد في تقليد الأرض في عنق مانع الحق لان تقليل الكثير و تكثير القليل واقعان تحت قدرته فهو يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.

و في الدر المنثور اخرج ابن المنذر و ابن جرير عن قتادة في قوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا» قال: «ذكر انها نزلت في حيي بن اخطب لما نزل «مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً » قال: يستقرضنا ربنا انما يستقرض الفقير الغني».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة و في بعضها ان الذي قال ذلك رجل من اليهود و يقال له فنحاص و كان من علمائهم؛ و في آخر ان الذي قاله هم اليهود لما أتت الى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله).

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: «لَقَدْ سَمِعَ اَللّهُ قَوْلَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » قال: «و اللّه ما رأوا اللّه حتى يعلموا انه فقير و لكنهم رأوا أولياء اللّه فقراء فقالوا: لو كان غنيا لا غنى أولياءه و فخروا على اللّه بالغنى».

أقول: مثله ما رواه القمي في تفسيره و يستفاد منه ان الأسباب لهذه المقالة متعددة و مقصود اليهود من ذلك معروف و هو تطميع المؤمنين بالمال و الإيحاء إليهم بأنهم هم الأغنياء و المال عندهم فقط فلا ينفعهم الايمان، و يدل على ما ذكرناه ما ورد في المناقب عن الباقر (عليه

ص: 134

السلام) قال: «هم الذين يزعمون أن الامام يحتاج الى ما يحملونه اليه» فلو كان الامام - الذي هو من باب المثال - يحتاج الى مال اليهود فكيف بالمؤمنين و هذا هو أسلوب من الاساليب الخبيثة التي اتبعها اليهود عبر التاريخ لصد الناس عن الايمان بالرسل و الأنبياء.

و قد أبطل سبحانه و تعالى مزاعمهم بأحسن وجه و ابلغ أسلوب، و كل ذلك يدل على عدم فهمهم للكنايات و لوازم الكلمات.

في تفسير القمي في قوله تعالى: «أَلاّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ» قال: «كان عند بني إسرائيل طست كانوا يقربون القربان فيضعونه في الطست فتجيء نار فتقع فيه فتحرقه فقالوا لرسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): لن نؤمن لك حتى تأتينا بقربان تأكله النار كما كان لنبي إسرائيل فقال اللّه تعالى: قل - لهم يا محمد - «قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » .

أقول: الوارد في جملة من كتب التواريخ ان محل قبول القربان كان في بيت المقدس و لعل ذكر الطست مثال لذلك المحل الخاص.

و في الكافي في قوله تعالى: «وَ قَتْلَهُمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ » عن الصادق (عليه السلام): «أما و اللّه ما قتلوهم بأسيافهم و لكن أذاعوا أمرهم و أفشوا عليهم فقتلوا».

أقول إذاعة اسرار أنبياء اللّه تعالى أسرع في التسبب الى قتلهم من المباشرة في القتل و لعل ذلك هو السر في بيان الامام (عليه السلام) له.

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ اَلزُّبُرِ وَ اَلْكِتابِ اَلْمُنِيرِ» قال أبو جعفر

ص: 135

(عليه السلام) الزبر هو كتب الأنبياء، و الكتاب المنير الحلال و الحرام».

أقول: يمكن ان يكون ذلك بيانا لبعض المصاديق فلا ينافي ما تقدم في التفسير.

بحث فقهي

الآية الشريفة «وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ - الآية -» تدل على حرمة البخل و قبح جمع المال و ادخاره، و لكن المستفاد من مجموع الأدلة الواردة في الكتاب و السنة ان جمع المال و ادخاره ينقسم حسب الاحكام الخمسة التكليفية.

الأول: ما إذا كان واجبا و هو ما إذا جمعه الإنسان لأن يصرفه في النفقات الواجبة - خالقية كانت او خلقية - و هي كثيرة كالانفاق على الأولاد أو إعطاء الدين و غيرهما مما ذكر في الكتب الفقهية.

الثاني: ما إذا كان مندوبا و هو الجمع للصرف في الخيرات و المبرات الراجحة شرعا.

الثالث: ما إذا كان مكروها و هو الجمع و الادخار للإنفاق في الأغراض المرجوحة شرعا غير البالغة حد الحرمة كجملة من الانفاقات التي تنفق لأجل التفاخر بين الناس و المراءاة معهم.

الرابع: ما إذا كان محرما و هو الجمع للصرف في الأغراض المحرمة شرعا.

الخامس: ما إذا كان مباحا و هو ما إذا لم يترتب عليه أية جهة راجحة أو مرجوحة لو لم نقل بأن جمع المال من حيث هو مرجوح

ص: 136

شرعا كما يستفاد من جملة من الأخبار كقول رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله). «الدنيا جيفة و طلابها كلاب» و قول مولانا الصادق (عليه السلام): «و اللّه ما تناولت من دنياكم إلا ما اضطررت إليها»: الى غير ذلك مما روي عن المعصومين (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

بحث عرفاني

جمع المال بلا شوق و محبة اليه غير ممكن لما ثبت في محله ان كل فعل معلول الشوق و المحبة و بدونهما يكون المعلول بلا علة و هو باطل بالضرورة و لا ريب في انه ينافي محبة اللّه تعالى و الشوق اليه و هو من أهم الموانع التي تصد الإنسان عن ذكر اللّه تعالى و القيام بوظائفه الشرعية، و هو من العوائق التي تعيق عن الاستكمال و التخلق بأخلاق اللّه عز و جل اللهم الا ان يكون الجمع لأجل الانفاق في ما يرتضيه اللّه تعالى فيرجع الى حب اللّه تعالى.

و من ذلك يظهر السر في ما ورد في القرآن الكريم من الانفاق في سبيل اللّه تعالى فانه الطريق الأمثل للوصول الى أعلى المقامات و التنزه عن جملة من الرذائل كرذيلة الشح و البخل و نحوهما.

و لكن مع ذلك جمع المال بنفسه من المبعدات عن حظيرة القدس و ساحة الرحمن و لعل السر في كثرة تنزه الأنبياء (عليهم السلام) و الأولياء عن الدنيا هو ذلك.

ص: 137

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِ.......

اشارة

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ (186) وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) رجوع إلى استنهاض الناس إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى و الصبر و المثابرة في ميدان القتال و ان المعركة مع اعداء اللّه تعالى حتمية لا بد منها و اثبات كلمة التوحيد مما لا يمكن التخلّي عنه و الموت الذي يصيب كل ذي حياة لا يمكن الفرار منه فلا بد ان لا يخاف منه و لا يكون حائلا عن تطبيق ذلك الهدف الأسمى و اللّه جلت عظمته يوفي الأجور في يوم يحتاج إليها الإنسان و ليست الدنيا محلها فإنها المتاع الذي يستمتع به الإنسان في ايام قلائل ثم يزول عنها، فهذه الآيات الشريفة تحرض

ص: 138

المؤمنين الى الجهاد بأبلغ أسلوب.

ثم ذكر سبحانه و تعالى ان السنة في هذه الحياة الفانية هي التمحيص و التمييز و الابتلاء و لا يمكن لاحد التخطي عن هذا الامتحان الالهي و هي سنة حتمية لا يمكن الفوز بالسعادة في الدنيا و الآخرة و نيل الأجر الحقيقي و العبودية الكاملة الا مع العبور على هذه القنطرة و الدخول في تلك السنة الربانية.

و قد ذكر عز و جل من الابتلاء ما يناله المؤمنون من اعداء اللّه تعالى من الأذى قولا و العدوان فعلا ثم وعدهم الحسنى ان هم صبروا و اتقوا و هما من عزائم الأمور التي يحتاج إليها كل فرد في مواجهة المشاكل و المكايد.

و أخيرا بين سبحانه و تعالى مفاسد اخلاق اهل الكتاب الذين أمرهم اللّه جلت عظمته ببيان الحق و أخذ عليه الميثاق منهم و لكنهم خالفوه و عاندوه فكتموه و حرفوه و أوعدهم النار و سوء العذاب.

كما بين سبحانه و تعالى ان ما سواه عز و جل هو ملك له يتصرف فيه بما يريد جلت عظمته و بما يشاء و هو على كل شيء قدير لا يمنعه عن ارادته احد.

التفسير

قوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ .

قضية حقيقية طبيعية وجدانية، فان بناء هذا العالم على تجدد الأمثال و تبدل الأحوال، و ان دار الدنيا دار الكون و الفساد و مقتضى ذلك ان

ص: 139

التبدل و الموت و الفناء من مقومات حقيقة هذا العالم و لذا بدأ بالحكم العام المقضي له في حق كل ذي حياة و لا يستثنى من ذلك احد فاصل القضية وجداني لكل ذي حياة. نعم عامة الناس محرومون عن ترتيب الأثر على هذا الأمر الوجداني قال تعالى: «اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ » الأنبياء - 1 و في الحديث: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

و الآية الشريفة تنبه الناس الى المصير المحتوم، و تزجرهم عن ما هم عليه من الغفلة و الذهول، و تحرض المؤمنين الى القتال مع اعداء اللّه تعالى، و تبين أن هذه المعركة حتمية فلا ينبغي الخوف لان كل نفس ذائقة الموت، فمن يقعد عن القتال لا ينجو من الموت فلا عذر في القعود، ثم هي توعد الكافرين و المنافقين الذين قعدوا عن القتال فان الموت لا بد منه و هو ملاقيهم و لا مفر منه قال تعالى: «قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ اَلْغَيْبِ وَ اَلشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ » الجمعة - 9 و ليست الدنيا إلا متاعا يستمتع به الإنسان ثم يزول مهما طال الزمن فهم لا بد لهم من الورود على اللّه عز و جل الذي يجازيهم على أعمالهم، فالآية المباركة تتضمن الوعد للمصدق و الوعيد للمكذب.

و هي تسلي النبي (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين بأن حياة الظالمين منتهية لا محالة و سينتهي ما يلاقونه منهم من البلاء و العذاب، و ليس عليكم من أوزارهم شيئا.

و المراد بالنفس ما به الحياة و عمومها يشمل كل ذي حياة من الإنسان و الحيوان و النبات و الملائكة قال تعالى: «فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ » الزمر - 68 و المنساق من الاستثناء خصوص فرد واحد و هو ملك الموت و لكنه يموت بعد ذلك بمشية الهية كما هو مفصل في الحديث.

ص: 140

و المراد بالنفس ما به الحياة و عمومها يشمل كل ذي حياة من الإنسان و الحيوان و النبات و الملائكة قال تعالى: «فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاّ مَنْ شاءَ اَللّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ » الزمر - 68 و المنساق من الاستثناء خصوص فرد واحد و هو ملك الموت و لكنه يموت بعد ذلك بمشية الهية كما هو مفصل في الحديث.

و قد يقال ان الآية المباركة بعمومها تشمل الباري عز و جل لإطلاق النفس عليه قال تعالى حكاية عن عيسى بن مريم: «تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ » المائدة - 116. و لكنه فاسد لاختصاص لفظ النفس بالأجسام، و ان النفس التي تضاف اليه عز و جل ليست النفس الاصطلاحية المعروف فان مثل هذه النفس لا يعقل ذوق الموت بالنسبة إليها بل هي بمعنى الذات، و اطلاق النفس عليه جلت عظمته لحسن المشاكلة و مراعاة الفصاحة و البلاغة.

و ذوق النفس للموت باعتبار انفصال تدبيرات النفس عن البدن و مفارقة الروح عنه و لذا عبر سبحانه و تعالى بالذوق لأنه انما يكون عن شعور و هو يختص بالنفس و هي باقية ببقاء اللّه تعالى إما في زمرة السعداء أو في زمرة الأشقياء، و اما البدن فلا شعور و لا احساس له بعد انفصال الروح عنه بالموت و ان كان اصل المادة باقية، و اما الصور فهي تتبدل حسب مرور الدهور و الأيام إلى ان يحشر في يوم القيامة.

قوله تعالى: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ .

التوفية العطاء الكامل يقال وافاه اجره اي: أعطاه إياه تماما و لم ينقص منه شيئا و في الحديث: «انكم وفيتم سبعين امة أنتم خيرها» اي. تمت العدة بكم سبعين.

و المعنى: من ذاق الموت يوفى اجره تاما سعيدا كان أو شقيا لأن كلا منهما يستحق جزاء عمله و يوفى اجره اليه فنتائج الأعمال لا تنفك عن العامل.

ص: 141

قوله تعالى: يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

القيامة مصدر و يوم القيامة هو وقت قيام الناس لرب العالمين من القبور و الأجداث و انما خصه عز و جل بالذكر لبيان انه مهما نال الإنسان من الأجر فان التوفية انما تكون في ذلك الوقت و للاعلام بأن الأجور فيه هي الأجور الحقيقية التي يستحق الإنسان ان يسعى إليها دون ما يتمتع في الحياة الدنيا فإنها ناقصة فانية، فيستوفي الجميع أجورهم اما الكفار و المنافقون فيأخذون جزاء أعمالهم وافيا من دون عفو و مغفرة من اللّه تعالى و أما المؤمنون فإنهم يستوفون جزائهم في الأجر الذي يعطيهم اللّه تعالى كاملا و أما جزاء السيئات فهو في معرض المسامحة و الغفران.

قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ .

تفصيل لتوفية الأجر بعد الإجمال. و الزحزحة تكرير الزح و هو الجذب بعنف و عجلة.

و هذه الآية الشريفة بعبارتها البليغة الموجزة و اسلوبها الجذاب لها الأثر العظيم في نفوس المؤمنين و الوقع الكبير عليهم فان عندها تسكب العبرات و تحل المخاطر و المهالك و تزل فيها أقدام الرجال و تحط دون الوصول إليها الرحال و يشيب في تصور معناها الصغير و يهرم الكبير، فهي تبين هول النار و شدتها و انها تجذب الإنسان إليها بعنف فيحتاج الى الجهد الكبير للابتعاد عنها و الفك من قيودها، و تستوقفنا كلمة (زحزح) فإنها تدل على شدة البلاء و الجهد الكبير و المشقة العظيمة التي لا بد منها في الابتعاد عن النار، فكأن لكل فرد جذورا عميقة في النار لا يمكن بسهولة قلعها إلا مع الزحزحة ببذل جهد عظيم،

ص: 142

و الوجه في ذلك معلوم لان الإنسان محفوف بما يجذبه إلى النار من جهات فان جاذبية الشهوات و النفس الامارة بالسوء اللتين تشدان الناس إلى النار شدا. و الحجب الظلمانية التي حجبت النفس عن الكمال كل ذلك تسوق إلى النار و تدفعه إليها و هي تجذبه إليها جذبا عنيفا، و في الحديث «حفت الجنة بالمكاره، و حفت النار بالشهوات» فكل فرد من افراد الإنسان فيه الموجبات الكثيرة للدخول في النار قال تعالى: «وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا» مريم - 72 بناء على رجوع الضمير إلى النار.

و لذلك لا بد من جهاد مرير و مشقة عظيمة للابتعاد عن دائرة جذبها و الانفلات من إسارها إلى ان يدخل في الجنة فان ذلك هو الفوز العظيم الذي لا نهاية لعظمته إذ لا اجر في الحقيقة غير ذلك و البقية خسران محض لان فيه السلامة من النار و النجاة منها و قد كاد ان يبقى فيها. و السلامة عن المكروه أهم ما يطلبه المرء في جميع الأحوال ناهيك انه يدخل الجنة و يفوز بنعيمها الدائم في دار الخلود.

و ليس الدخول في الجنة قيدا زائدا على الزحزحة عن النار، فانه لا واسطة بينهما، فان النجاة من النار ليس الا الدخول في الجنة كما يستفاد من الآيات الشريفة و السنة المباركة.

و لكن الآية الكريمة تبين معنى دقيقا آخر في الخروج من النار الذي هو مطلوب كل فرد و الدخول في الجنة الذي لا برفوقه فان التعبير بالمجهول في كل من «زحزح و أدخل» يوحى بأن الإنسان لا يتزحزح من قبل نفسه بل هناك أيد خفية تجذب الإنسان جذبا عنيفا لتزحزحه عن النار و تدخله الجنة و لولاها لبقي في النار و هذه الايدي قد مدت في دار الدنيا لتنقذ عباد اللّه من المهالك و المخاطر و من الدخول في النار.

ص: 143

و هي كثيرة كأيدي الرسل و الأنبياء (عليهم السلام)، و كتاب اللّه العظيم، و الاحكام الإلهية، و ايدي الملائكة الذين و كلوا للاستغفار لمن في الأرض و اعانتهم، و أهمها يد اللّه الرحيمة سبحانه و تعالى التي بسطت على جميع خلقه، و الشفاعة العظمى.

قوله تعالى: وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ .

الدنيا مؤنث الأدنى صفة للحياة، و حياة الدنيا هي الحياة السفلى أو القربى و هي الحياة ما قبل الموت التي نعيش فيها و نتمتع بما فيها من الملذات، و قد وصفها اللّه تعالى في القرآن الكريم بأوصاف متعددة جميعها تدل على دنائتها بالنسبة إلى الحياة الآخرة منها انها متاع للغرور لأنها تغرّ صاحبها فيخدع لها فتشغله عن إعداد نفسه إلى الكمال الواقعي.

و المتاع ما يتمتع به الإنسان و ينتفع به، و الغرور هو الخداع، و متاع الغرور اي المتاع الذي يظهر بمظهر جميل ليغتر به المغترون، و الآية المباركة تبين حقيقة الواقع على ما هو عليه.

و الدنيا تضاف تارة الى اللّه و اخرى تلحظ بحسب نفسها، و ثالثة بحسب الأعمال التي تقع فيها.

و الاولى: محمودة لأنه لا يصدر من الخير المحض إلا الخير كما هو معلوم و هذه قاعدة فلسفية أسسها الفلاسفة جميعهم - الطبيعيون منهم و الإلهيون - خصوصا بناء على ملاحظة السنخية بين العلة و المعلول، و لكنا أثبتنا بطلان ذاك بالنسبة إلى الفاعل المختار في احد مباحثنا المتقدمة.

و اما الثانية: فهي أيضا حسنة لا نقص فيها لأنها دار عبادة اللّه تعالى و محل أوليائه و أنبيائه، و مهبط نزول الكتب الإلهية، و مقام إظهار مكارم الأخلاق و تربية الإنسان و إعداد المؤمن نفسه للكمال الذي لا يكون شيء أعز منه في الدارين.

و اما الثالثة: فان الأعمال تارة تكون من المؤمنين السعداء و هي

ص: 144

حسنة و تعد من مفاخر الدنيا و الآخرة و اما من الأشقياء فلا شبهة في مبغوضية أعمالهم السيئة و الدنيا من حيث الاضافة إليها مبغوضة أيضا و بتعبير آخر: الدنيا من هذه الجهة اما ان تكون من النعيم الاخروي يظهر في الدنيا بالوجود المناسب لها و اما من الجحيم، و من هذه الجهة تكون متاع الغرور و بذلك يمكن الجمع بين ما ورد في مدح الدنيا و ما ورد في ذمها.

و كيف كان فانه يستفاد من الحصر الوارد في الآية الشريفة «وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ» ان كل فعل و عمل في هذه الدنيا سواء صدر من الأخيار أو من الفساق الفجار فانه لا محالة محدود لا بقاء له هذا إذا جعلنا عمل الخير من متاع الدنيا، و اما إذا جعلنا من الآخرة في الدنيا كما تقدم آنفا فالحصر مختص بعمل الشر، فالآية المباركة تبين ان الدنيا لا بد ان لا تغر الإنسان بمظاهرها الخلابة فتمنعه عن ذكر اللّه تعالى و الايمان به و العمل الصالح و تكميل نفسه بمكارم الأخلاق و لا يصح ان يجعل متاع الدنيا غاية تمنعه عن الكمال، كأنه لا نهاية له بل هي وسيلة لطلب السعادة و زيادة الأجر، لان الأجر الحقيقي هو ما ذكره عز و جل من الزحزحة عن النار و الدخول في الجنة فلا سعادة وراء ذلك و لا بد من السعي إليها، كما ان الأجر الحقيقي ليس هو أياما في هذه الدنيا يستمتع فيها ثم يزول فيرد على عذاب ابدي لا خلاص منه و ذلك هو الخسران المبين.

قوله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ .

بعد ما ذكر عز و جل جريان سنة البلاء و الابتلاء في المؤمنين و ما يوجب الوهن في عزيمتهم، يبين سبحانه و تعالى في هذه الآية الكريمة

ص: 145

ان ذلك الابتلاء مستمر و سيتكرر من الكافرين و المنافقين و سيلقون منهم الأذى بكل ما يمكنهم، و انما أعلمهم عز و جل به قبل وقوعه ليوطنوا أنفسهم على احتماله فتستعد نفوسهم و يتقبلوا الابتلاء بصبر و عزيمة و رضى فلا يحزنوا على ما يفوتهم من متاع الدنيا، فيكون ترتب هذه الآية الشريفة على سابقتها من قبيل ترتب المعلول على العلة أو المقتضى (بالفتح) على المقتضي (بالكسر) لان من لوازم متاع الغرور الابتلاء بالنسبة الى من هو مؤمن و ليس من اهل الاغترار فلا بد من التمييز و اظهار الثابت على الحق و المطيع عن غيرهما، بل يمكن ان يعد وجود من يهتم بإصلاح نفسه و يطلب وجه اللّه تعالى و الآخرة في دار الغرور ابتلاء و في الحديث: «ان أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل» و على هذا يكون ما ورد في هذه الآية الشريفة من قبيل القضايا الحقيقية.

و كيف كان ففي الآية المباركة التسلية للنبي (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين بعد التسلية بقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » .

و البلاء و الابتلاء بمعنى واحد و هو الاختبار بما يصعب تحمله أو فعله و يأتي في الخير و الشر قال تعالى: «وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ اَلسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ » الأعراف - 168 و قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ » الأنبياء - 35 و قال تعالى: «فَأَمَّا اَلْإِنْسانُ إِذا مَا اِبْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَ أَمّا إِذا مَا اِبْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ » الفجر - 16 و الابتلاء في الأموال و الأنفس هو الوقوع في تكاليف خاصة حسب المصالح، و مثال الاول هو التكاليف الآمرة ببذل الأموال في الصدقات و قضاء الحوائج و ما يتطلبه الدعوة على المؤمن من بذل المال، و ما يفقد

ص: 146

في أثناء الحروب و القتال. و الثاني مثل التكليف ببذل النفس و من يحب من الأهل و الأولاد في سبيل اللّه تعالى و يدخل فيه التسليم للامراض و الآفات.

و انما قدم عز و جل الأموال إما لان الابتلاء فيها اكثر من الأنفس أو لأجل ان تحمل الرزايا فيها أصعب و أشد و في الحديث عن علي (عليه السلام): «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على الحرب» أو على سبيل الترقي إلى الأشرف.

و يدخل في النفس الرزايا في الأولاد و الأهل و من يحبه الإنسان من الأصدقاء. و التأكيد بالقسم المحذوف «لتبلون» للاعلام بان ذلك سنة حتمية لا مفر منها و قد تقدم ما يدل على ذلك في الآيات السابقة.

قوله تعالى: وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً .

ابتلاء آخر بالأقوال بعد الابتلاء بالافعال و قد ذكره بالخصوص لأهميته. و بيان أن الابتلاء بالعدوان صادر من طائفة خاصة و هم الذين أوتوا الكتاب من قبلكم - اليهود و النصارى - و من الذين أشركوا.

و الأذى: اسم جمع يأتي بمعنى الضرر و العدوان و منه الحديث «ادنى الصدقة إماطة الأذى عن الطريق» و هو ما يؤذي فيها كالشوك و الحجر و النجاسة و غيرها و عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) «كل مؤذ في النار» و هو وعيد لمن يؤذي الناس في الدنيا بعقوبة النار في الآخرة.

و ما ورد في الآية الشريفة من القضايا الفطرية فان من ذكر فيها هم الأعداء للحق و المؤمنين، و ما يلاقيه كل فرد من عدوه من

ص: 147

الأذى معلوم.

و انما ذكر عز و جل «مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ » تعريضا بهم بأن من أوتي الكتاب لا ينبغي ان يصدر منه ذلك فانه لا بد ان يكون زاجرا له و يؤكد ذلك ذكر «مِنْ قَبْلِكُمْ » و أما ما صدر منهم من الأذى بحق الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و الدين الحق و المؤمنين فهو معلوم و لا يزال يصدر ذلك منهم على مر العصور.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا .

بيان لاهم ما ينتظم به نظام الدين و الدنيا و هو الصبر على الشدائد و الأهوال و ما يرد عليهم من المكاره و الآفات في الأنفس و الأموال و لو كانت من ناحية التكاليف و المقادير الإلهية.

و التقوى للّه تعالى بالطاعة له عز و جل و باجتناب نواهيه و ما يوجب سخطه، و بهما تستعد النفوس لتلقى الأهوال و الأذى الكثير و العصمة من الوهن و الفشل. كما ان بهما تنال الدرجات العالية و الثواب العظيم فلو تجسم الصبر لكان في احسن مثال و أتم حال كما انه لو تجسمت التقوى في الدنيا لكانت في أفضل نعيم الآخرة. و انما قرن عز و جل بين الصبر و التقوى لما ذكرناه و لبيان ان العمل لا بد و ان ينبعث عن القلب فيكون من عزم الأمور.

قوله تعالى: فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ .

عزم مصدر بمعنى المعزوم يقال: عزم الأمر بالنصب على المفعولية و قيل عزمت على الأمر ايضا. و هو يرجع الى عقد القلب، و الجزم في العمل لما فيه من كمال الشرف و المزية. و عزائم الأمور محكماتها و متقناتها التي لا تصدر الا من ذوى الألباب الذين وصفهم اللّه تعالى

ص: 148

بأحسن أوصاف. و في الحديث: «خير الأمور عوازمها»، و صاحب العزم هو الثابت في الارادة و الكمال و الفضيلة قد اتصف بالفضل و الكمال بحيث نال آخر مقامات الانسانية الكاملة و لو عبر عنه بآخر مقام الوفاء بالعهد و أول مرتبة التفاني في مرضات المعبود لكان حسنا و جديرا و لذا صار الأنبياء العظام من اولي العزم.

و المعنى: ان الصبر و التقوى لهما من الكمال و المزية ما لا يمكن اقتناؤهما بسهولة و يسر بل لا بد من عقد القلب و جزم الارادة عليهما و بصيرة بهما فلا بد من عزيمة لمواجهة كيد الأعداء و المكابرة.

و انما أشار سبحانه و تعالى إليهما بالإشارة البعيدة إيذانا بعلو درجتهما و بعد منزلتهما كما انه عز و جل اتى بالمفرد «ذلك» لبيان انهما متلازمان فلا يتحقق أحدهما بدون الآخر، فان الصبر في الدين للدين يلازم التقوى كما ان التقوى تلازم الصبر و في الحديث: «ان الصبر من الايمان بمنزلة الرأس من الجسد».

قوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ .

رجوع الى اليهود و النصارى. و الميثاق - كما تقدم - هو العهد المؤكد و قد تقدم اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلنَّبِيِّينَ » آل عمران - 81 و المراد من الذين أوتوا الكتاب هم اليهود و النصارى، و يحتمل ان يكون اليهود، و انما خصهم بالذكر لأنهم عرفوا بالعناد و كتمان الحق، و انما ذكر إيتاء الكتاب تقبيحا لأفعالهم و تذكيرا لهم بأنهم أهل الكتاب فلا ينبغي ان يصدر منهم ذلك و قد تقدم ما يتعلق بأخذ الميثاق فراجع.

ص: 149

قوله تعالى: فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ .

النبذ: الطرح و النبذ وراء الظهر كناية عن الإهمال و عدم الاعتناء لترك العمل، بل هو أشد من الكتمان، و ضده «نصب العين» الذي يكنى به عن الاعتناء بالشيء و الاهتمام به.

و انما نبذوه قضاء لأطماعهم الشريرة و نواياهم الفاسدة و ليكونوا مطلقي العنان في فعلهم و كيدهم فلا يقاومهم احد و لا يستنكر عليهم فلذلك كتموه و اهملوه لئلا يحكم به عليهم.

قوله تعالى: وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً .

لأنهم آثروا الحياة الدنيا فباعوا الحياة الآخرة بها فهي ممن قليل بالنسبة الى الجزاء الذي أعد لمن بين الكتاب و الحق. و فيه من الذم و التوعيد ما لا يخفى.

و الضمير في (به) يرجع الى الحق الذي وجب بيانه.

قوله تعالى: فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ .

تقبيح لهم و تسفيه لعقولهم فإنهم جعلوا الفاني الزائل بدلا عن النعيم الدائم الباقي، و قد ذكر سبحانه و تعالى في عدة مواضع من القرآن الكريم كتمان الحق و تبديله بالثمن القليل.

قوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا .

بيان لبعض الصفات الذميمة التي اتصف بها الذين ذكرهم اللّه تعالى في الآية المتقدمة و هي الفرح بما فعلوه من التحريف و التدليس و كتمان الحق و الظن السوء بأن ذلك شرف لهم و قد من اللّه به عليهم و هو من الفرح

ص: 150

بالباطل، فانه يكشف عن استحكام رذيلة العجب في نفوسهم و الغرور بالفعل، و انما حكى عز و جل هذه الخصلة الباطلة لتحذير المؤمنين منها فإنهم عرضة لذلك.

قوله تعالى: وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا .

صفة اخرى من صفاتهم الذميمة اي: انهم يحبون ان يمدحهم الناس على الذي لم يفعلوه و هو الوفاء بالميثاق و اظهار الحق فإنهم لم يفعلوا شيئا من ذلك و انما فعلوا نقيضه من كتمان الحق و تحريف الكتاب بما يوافق أهواءهم الباطلة.

و هذه الصفة اكثر ما تكون في العلماء غير العاملين بعلمهم كالرهبان و حفاظ الكتاب فإنهم يحبون ان يحمدوا بالدين و الفضل و حفظ الكتاب و لكنهم في الحقيقة مراءون و لم يفعلوا شيئا مما يرضي اللّه تعالى.

و يستفاد من الآية الشريفة ان حب المحمدة بما لم يفعل باطل و من الصفات الذميمة فانه يكشف عن الغرور و العجب و الرياء و سوء الأخلاق. و أما إذا كان بالحق فهو خلق حسن بل من الأمور الفطرية فان الإنسان يحب المحمدة على الفعل النافع و قد ورد في الكتاب و السنة ما يدل على ذلك قال تعالى محكيا عن نوح: «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اَللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ » الأعراف - 62. و قال تعالى حكاية عن هود: «قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ اَلْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ » الأعراف - 68.

و في هذه الآية الشريفة استعمل لفظ الحمد في غير اللّه تعالى، و هذا هو المورد الوحيد في القرآن الكريم، و قد ذكرنا في سورة الفاتحة

ص: 151

انه لم يرد استعمال مادة الحمد في غيره عز و جل إلا في هذا الموضع و تقدم الجواب عن ذلك فراجع.

و نزيد هنا انه يمكن ان يكون لأجل انهم جعلوا أنفسهم حفاظ الشريعة و القائمين بأمور الدين و ورثة الأنبياء فأحبوا لأنفسهم حمد الناس و هذا من مجرد الزعم الباطل و قد ذمهم اللّه تعالى على ذلك حيث لم يصدر منهم فعل اللّه تعالى حتى يستحقوا المدح و الثناء.

و في الآية المباركة التنبيه العجيب للعلماء و إنذار لهم بالاحتراز عما يوجب انطباق مضمون هذه الآية عليهم.

قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ .

بيان لسوء عاقبتهم بعد بيان خستهم في الدنيا، و انما أعاد عز و جل كلمة «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ » للتأكيد.

و المفازة مصدر ميمي بمعنى الفوز و النجاة و التاء ليست للوحدة و سمي موضع المخاوف مفازة على جهة التفاؤل. و احتمل بعضهم ان يكون المفازة اسم مكان اي محل فوز فيكون «مِنَ اَلْعَذابِ » صفة له لان اسم المكان لا يعمل فيقدر المتعلق خاصا أو عاما.

و لكنه بعيد.

و المعنى: انهم ليسوا بناجين من العذاب بل ليس لهم عذاب محدود. و انما لم يبين عز و جل نوع العذاب لأنه اما ان يكون بما يطابق سجاياهم الفاسدة و ملكاتهم الخسيسة او يكون عذابا إليها ناشئا عن سخطه عز و جل لأنه لا ولاية للحق عليهم بعد ما تعلقت نفوسهم بالباطل و فسدت أخلاقهم.

ص: 152

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

تأكيد في التوعيد بالعذاب في الآخرة جزاء كفرهم و عنادهم للحق و التنكير في العذاب و وصفه بكونه أليما، لبيان انه لا أمد له و لا نهاية لشدته.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

تعليل لجميع ما ورد في الآيات السابقة، و احتجاج على من عاند الحق و نسب الفقر اليه تبارك و تعالى.

أي: له تعالى وحده ملك جميع العالم - ما سواه - يتصرف فيه بما يشاء و يريد إيجادا و افناء، و رحمة و عذابا، و هو الذي يملك امر عباده فيدبرهم وفق حكمته المتعالية.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

فلا يعجزه شيء، و لا يقهره احد. و من قدرته انه يجازي كل انسان حسب عمله و يعذب الظالمين بظلمهم.

بحوث المقام
بحث ادبي:

كل نفس في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » مبتدأ، و الابتداء بالنكرة جائز هنا لما فيه العموم، و «ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » خبر. و «كل»

ص: 153

إذا أضيف الى نكرة كان الحكم في الخبر و الإضمار لتلك النكرة، كقوله تعالى «ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » ، و قوله عز و جل «كُلُّ اِمْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ » الطور - 21، و قوله تعالى: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ » الإسراء - 71. و كل رجلين قاما، و كل امرأتين قامتا، فالتذكير و التأنيث و الإفراد و التثنية و الجمع بحسب النكرة التي أضيف إليها كل.

و قرئ «ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » بالتنوين و نصب الموت على الأصل و قرئ «ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » بطرح التنوين مع النصب.

و عزم الأمور في قوله تعالى: «مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» من اضافة المصدر الى فاعله.

و انما لم يؤكد «وَ لا تَكْتُمُونَهُ » بالنون كما في «لتبيننه» للاكتفاء بالتأكيد في الاول.

و قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ » الفاعل هو الضمير المخاطب سواء كان الرسول الكريم أو من له أهلية الخطاب. و «اَلَّذِينَ » المفعول الأول و المفعول الثاني محذوف لتهويل الأمر، فيقدره المخاطب بما يليق بهم من العذاب و الذم لدلالة مفعولي «تحسبنهم» الآتي عليه.

و أما قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ » فقد ذكر فيه المفعول الثاني فالأول (الهاء و الميم)، و الثاني هو «بمفازة» لبيان نوع العذاب الذي حذف في الاول فيكون الفاء للتفريع.

ص: 154

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة أمور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » على تجرد النفس و انها غير البدن فهي لا تموت بموته لان الذوق لا يكون الا عن شعور.

و في ذكر هذه الآية الشريفة بعد حكاية احوال المنافقين و الكافرين و المشركين و تكذيبهم للرسل و أذاهم في الفعل و القول التسلية العظيمة و للإرشاد الى تذكر الموت مما يزيل الهموم و الأشجان الدنيوية و لذا أمرنا بزيارة القبور إذا غلبت علينا الغفلة قال تعالى: «أَلْهاكُمُ اَلتَّكاثُرُ حَتّى زُرْتُمُ اَلْمَقابِرَ» التكاثر - 2. و في الحديث «أكثروا ذكر هادم اللذات فانه ما ذكر في كثير إلا قلله و لا في قليل الا كثره» فان ذكر الموت و التفكر فيه يهون كل خطب.

الثاني:

عموم قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » يدل على ان كل ذي نفس لا بد لها من ذوق الموت سواء كانت النفس حيوانية أو نباتية أو من الملائكة، فكل حي لا بد ان يموت إلا اللّه تعالى فانه حي لا يموت و هو الأول و الآخر.

و هذه الآية الشريفة وردت في القرآن الكريم في مواضع متعددة قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ اَلْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ » الأنبياء - 35. و قال تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ » العنكبوت - 57. و تختلف الآية الكريمة التي تقدم

ص: 155

تفسيرها عن الآيات الاخرى في انها قد ذكر فيها توفية الأجر و نوعه و كيفيته فتكون كالتفسير لتلك الآيات المباركة لأنه عز و جل اكتفى بكونه مرجعا للعباد فقال «إِلَيْنا تُرْجَعُونَ » .

الثالث:

انما عبر سبحانه و تعالى بالذوق في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » لبيان ان الموت يسري في جميع البدن كما يسري المذوقات فيه كما إذا شرب سما، و للكناية عن الاحساس بمرارة خروج الروح، و للاعلام بان ذوق الموت شيء و ذات الموت شيء آخر، و لذا ورد في بعض الاخبار ان المقتول يرجع ليذوق الموت و قد تقدم في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اَللّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اَللّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ» آل عمران - 156.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ» على إيجازه البليغ المعجز ان لكل نفس جزاء معينا إما خيرا أو شرا. و نوعية الجزاء و انها إما الجنة أو النار، و كيفيته و هي هول النار و شدتها، و راحة الجنة و النجاة فيها.

و انما ذكر عز و جل ذلك عقيب ذلك الحكم الكلي العام المقضي في حق كل نفس للاعلام بأن وراء الموت حياة اخرى يتميز فيها المحسن عن المسيء و يرى كل منهما جزاء عمله، فان العلم بذلك يهون كل خطب و يسهل كل صعب.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ » ثبوت حياة البرزخ و ان الأرواح فيها إما ان تكون معذبة أو متنعمة

ص: 156

فان التوفية انما تكون في ما إذا سبق بعض العطاء، و ان في يوم القيامة العطاء الوافي الكامل و في الحديث: «القبر إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران».

السادس:

يدل قوله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» على عظمة الموقف و شدة الهول، فان لكل انسان موقفا في النار لا يمكن إزاحته عنه إلا بعد الزحزحة و مقاساة الشدائد و الأهوال و الصبر عليها حتى يتحقق الفوز و الدخول بالجنة.

و حذف المتعلق في الفوز يفيد العظمة و التعميم، فانه فوز عن كل مكروه و سلامة من كل شدة و نجاة من النار، كما انه الفوز بالمحبوب و الدخول في الجنة و ان فيها النعيم الدائم.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ مَا اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ مَتاعُ اَلْغُرُورِ» على خسة هذه الحياة في مقابل الحياة الاخرى، و ان في هذه الحياة يتعين مصير الإنسان في العقبى، ففي هذه الحياة تتحقق الزحزحة عن النار و الدخول في الجنة، و في الآية الشريفة الترغيب الى العمل الذي يوجب ذلك و الاعراض عن زخارف الدنيا و مباهجها التي تبعد الإنسان عن كل خير و سعادة فإنها تغره و تلقيه في الشقاء و الخسران.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ » ان الزحزحة عن النار و الفوز بالجنة و النعيم الدائم لا يتحققان إلا بالبلاء و الابتلاء و الصبر على البلايا و الرزايا و الأذى الكثير و تقوى اللّه تعالى و أن في الصبر و التقوى النجاة فتعتبر هذه الآية الشريفة كالعلة بالنسبة الى الآية السابقة مضافا الى ان الآية المباركة ترغب المؤمنين الى الصبر و التقوى، فإنهما الأساس لكل سعادة.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ» على

ص: 157

ان عزائم الأمور هي التي تنجي الإنسان و تهيئه لنيل السعادة و الفوز بالأجر العظيم و قد اهتم سبحانه و تعالى بها فذكرها في مواضع متعددة من القرآن الكريم و جعلها من صفات الأنبياء العظام، فلهذه الأمور التي لا بد فيها العزم منزلة عظيمة و شأن كبير. و قد رغب القرآن الكريم إليها و هي من أهم السبل الى سعادة الإنسان.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: «إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ » ان بيان الحق و ما أنزله اللّه تعالى في الكتب الإلهية مما أخذ اللّه عليه الميثاق بلا اختصاص له بقوم خاص و ملة معينة و في الحديث عن علي (عليه السلام): «ما أخذ اللّه على اهل الجهل ان يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم ان يعلموا» و بمضمون ذلك وردت أحاديث كثيرة.

و انما أكد سبحانه و تعالى على وجوب البيان بعدم الكتمان لرفع كل التباس من البين، فتشمل الآية الشريفة كل شبهة و تحريف و نفاق، و تزييف فانه قد يتصور متصور انه من البيان للكتاب إذا كان فيه تحريف و تزييف؛ و لكن الآية الشريفة تضع الحد الفاصل في جميع ذلك و تعتبر ان البيان و اظهار الكتاب لا بد ان يكون واضحا و جليا من دون التباس و تحريف.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا» ذم الفرحين بأفعالهم التي لا تطابق الواقع مع بعدهم عن الحق و يدل على انه رذيلة تنطوي تحتها مساوئ من الأخلاق، فان الفرح الذي لا يكون عن حق و في حق ينبئ عن الغرور و العجب و التجري على المولى و كل ذلك مذموم بل من المهالك.

و أما إذا كان الفرح عن حق فلا ذم فيه، ففي الحديث: «من

ص: 158

سرته حسنة و سائته سيئة فهو مؤمن» و الآية الشريفة لا تختص بطائفة خاصة بل هي تشمل كل من كان فعله مخالفا للواقع إذا فرح بما فعل.

الثاني عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا» ان حب محمدة الناس أمر فطري لا يسع لاحد إنكاره، و ان المذموم منها هو ما إذا لم يكن عن سبب و منشأ صحيح عقلائي في البين فانه يكشف عن غرور صاحبه و جهله بالواقع و اعتماده على النفس الامارة، و يستفاد من قوله تعالى: «بِما لَمْ يَفْعَلُوا» ان كل فعل إذا لم يكن مرضيا للّه تعالى و لم يكن مطابقا لقواعد الشرع، فلا أثر يرجى منه و لا فائدة فيه. فلا موجب للمحمدة بالنسبة اليه فما يصدر من الكافرين و المنافقين و أصحاب الأهواء الباطلة و غيرهم من الأفعال و لم تكن مطابقة للشريعة المطهرة و مرضية عند اللّه تعالى فان حب المحمدة من الناس عليها باطل و لا وجه لها، لأنه لم يصدر منهم شيء يستحق عليه المحمدة و أما إذا كان ذلك بالحق و في الحق، فلا ذم فيه. و في الحديث: «من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق» و هو يدل على ان مطلق الثناء على الأفعال الحسنة ممدوح بل هو من حمد اللّه تعالى، و يمكن ان يكون هذا وجها آخر في استعمال لفظ الحمد في المقام حيث اعتبروا حمدهم من حمد اللّه تعالى و هو عز و جل أبطل مزاعمهم و بيّن انه إذا كان بالحق و في الحق فانه من حمده عز و جل.

الثالث عشر:

يدل قوله تعالى: «فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ » على ان الخصال المذمومة و الملكات الرذيلة سبب للدخول في العذاب و عدم نجاتهم منه فلا بد للإنسان من السعي لتهذيب النفس عنها و جعلها مرآة لمكارم الأخلاق لتجلى اخلاق اللّه تعالى فيها فان في ذلك الفوز و السعادة.

ص: 159

بحث روائي

في الكافي عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «يموت اهل الأرض حتى لا يبقى احد ثم يموت اهل السماء حتى لا يبقى أحد إلا ملك الموت و حملة العرش و جبرائيل و ميكائيل قال: فيجيء ملك الموت حتى يقوم بين يدي اللّه عز و جل فيقال له من بقي - و هو اعلم - فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت و حملة العرش و جبرائيل و ميكائيل، فيقال له قل لجبرائيل و ميكائيل فليموتا، فيقول الملائكة عند ذلك يا رب رسولاك و اميناك فيقول: إني قد قضيت على كل نفس فيها الروح الموت، ثم يجيء ملك الموت حتى يقف بين يدي اللّه عز و جل فيقال له: من بقي - و هو اعلم - فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت و حملة العرش فيقول: لحملة العرش فليموتوا ثم قال يجيء كئيبا حزينا لا يرفع طرفه فيقال له من بقي - و هو اعلم - فيقول يا رب لم يبق إلا ملك الموت فيقال له: مت يا ملك الموت فيموت ثم يأخذ الأرض بيمينه، و يقول: اين الذين كانوا يدعون معي شريكا؟ أين الذين كانوا يجعلون معي إلها آخر».

أقول: مثل هذا الحديث كثير و هي تدل على ان كل كائن حي لا بد و ان تنقضي حياته في دار الإمكان لأنه كتب الفناء على الجميع بل لا معنى للإمكان إلا ذلك فتنحصر الحياة في ما هو حي بالذات، و عموم الآية الشريفة «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » يدل على ذلك أيضا.

و في تفسير العياشي عن زرارة عن ابي جعفر (عليه السلام) في

ص: 160

قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ » قال (ع): «لم يذق الموت من قتل، و قال: لا بد من ان يرجع حتى يذوق الموت».

أقول: يستفاد من ذلك أمران: الاول: ان ذات الموت شيء و القتل شيء آخر و ان كان القتل سببا له و قد تقدم في الآية الشريفة «وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ » آل عمران - 158 ما يرتبط بالمقام.

الثاني: الرجعة كما يأتي الكلام فيها مفصلا ان شاء اللّه تعالى.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » اخرج ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب قال: «لما توفى النبي (صلى اللّه عليه و آله) و جاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه و لا يرون شخصه فقال: السلام عليكم يا اهل البيت و رحمة اللّه و بركاته «كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ اَلْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » إن في اللّه عزاء من كل مصيبة، و خلفا من كل هالك و دركا من كل ما فات، فباللّه فثقوا، و إياه فارجوا، فان المصاب من حرم الثواب، فقال علي (عليه السلام): هذا الخضر».

أقول: لا عجب في حضور الخضر للتسلية بعد حضور سادات الملائكة لأجل ذلك.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «خياركم سمحاؤكم و شراركم بخلاؤكم، و من خالص الايمان البر بالإخوان و السعي في حوائجهم و ان البار بالإخوان ليحبه الرحمن و في ذلك مرغمة الشيطان و تزحزح عن النيران و دخول الجنان».

أقول: الحديث يبين بعض مصاديق الزحزحة عن النار و الدخول في الجنة.

و في الدر المنثور اخرج ابن مردويه عن سهل بن سعد قال:

ص: 161

«قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا و ما فيها ثم تلا هذه الآية: فمن زحزح عن النار و ادخل الجنة فقد فاز».

أقول: يبين (صلى اللّه عليه و آله) بعض مراتب الفوز و إلا فهي غير متناه.

و في العلل عن الرضا (عليه السلام) في قوله تعالى: «لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ » قال (عليه السلام): «في أموالكم بإخراج الزكاة و في انفسكم بالتوطين على الصبر».

أقول: ما ورد في الحديث من باب ذكر احد المصاديق.

و في تفسير القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى:

«وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ » قال (عليه السلام):

«في محمد (صلى اللّه عليه و آله) «لتبيّننه للناس» إذا خرج و لا تكتمونه «فنبذوه وراء ظهورهم» يقول نبذوا عهد اللّه وراء ظهورهم».

أقول: لا فرق في رجوع الضمير إلى العهد أو الكتاب لتلازم كل منهما مع الآخر.

و في تفسير القمي أيضا في قوله تعالى: «بِمَفازَةٍ مِنَ اَلْعَذابِ » عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ببعيد من العذاب».

أقول: لا بأس به لان معنى المفازة النجاة من العذاب و هو يحصل بالبعد عنه.

ص: 162

بحث فلسفي

الحياة و الموت أمران وجدانيان لكل ذي حياة و لكن الكلام في حقيقة الحياة التي لم تكتشف بعد و ان بذل العلماء غاية الجهد في دركها و معرفة حقيقتها و خصوصياتها مع ان آثارها مشاهدة بالحس و درك أصلها وجداني لكل ذي حياة.

كذلك حقيقة الموت فانه و ان كان معلوما لكل ذي حياة سواء كان الموت نباتيا أو حيوانيا أو انسانيا. نعم الذي تدل عليه الكتب السماوية و اقوال المحققين من الفلاسفة ان موت الإنسان ليس انعداما لروحه، بل هو نقل الروح من عالم إلى عالم آخر يرى فيه نتائج اعماله و آثار أفعاله و أقواله هذا بالنسبة إلى موت الإنسان.

و اما بالنسبة إلى موت الحيوان و النبات فهل هو من انتقال الروح إلى عالم آخر من سنخه أو انعدامها كما ينعدم نور السراج باطفائه، أو من قبيل تبدل صورة إلى صورة اخرى مناسبة جوهرا كانت أو عرضا أو غير ذلك. كل ذلك محتمل و لم يرد في الفلسفة القديمة و لا الحديثة شيء يروي الغليل و يشفي العليل، و يمكن اختيار الاحتمال الأخير و القول بالتبدل لما عليه من الشواهد النقلية و التجربية بل العقلية أيضا و يأتي في الموضع المناسب تتمة الكلام ان شاء اللّه تعالى.

ص: 163

بحث عرفاني

يمكن ان يكون المراد من عن النار في قوله تعالى: «فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ» نار الشهوات المادية الجسمانية التي هي اصل النار الكبرى و مادتها. و يراد بالجنة جنة التفاني في مرضات اللّه تعالى التي هي أعلى من جنة عدن بمرات كثيرة قال تعالى «وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » التوبة - 72 فانه لا فوز أعظم من ذلك و ان جميع الممكنات دونه نزر يسير. فتكون الآية الشريفة في مقام بيان حقيقة اولياء اللّه تعالى الذين أماتوا أنفسهم بالاختيار، و استخرجوا النفس الامارة من جحيم الشهوات ففازوا بلقاء اللّه تعالى و شربوا من عيون الحياة المعنوية و استشرقوا بشوارق الأنوار الازلية، و جعلوا متاع الغرور تحت اقدامهم فابتهجوا بابتهاجات غير متناهية في المدة و العدة كما ابتهج العرش الأعلى بوجودهم.

و الآيات الشريفة المتقدمة من آيات السير و السلوك إلى اللّه تعالى فإنها ترشد الإنسان إلى الكمال و تبين ان الوصول اليه صعب المنال فلا بد من الصبر و التقوى و خلع النفس الامارة بالسوء التي لها منابت في النار.

كما انها ترشد المؤمنين إلى التحلي بمكارم الأخلاق و تذكرهم فيها ببعض مساوي الأخلاق التي تبعدهم عن الواقع و توقعهم في المهالك و الردى.

ص: 164

بحث اخلاقي

من أحسّ الرذائل النفسانية حب الثناء و المحمدة بل يعتبره علماء الأخلاق أم الفساد و اصل المهلكات و قد ورد في ذمه شيء كثير من الأحاديث ففي الحديث «احثوا في وجوه المداحين التراب» لان مدح الناس يوجب الغرور و صرف النفس عن نيل الكمال، و لذا ورد انه يستحب ان يقول الممدوح عند سماع المدح: «اللهم اجعلني فوق ما يظنون و اغفر لي ما لا يعلمون» هذا إذا كان منشأ المدح موجودا في الإنسان و الا فالخطب أعظم و الرزء أكبر.

إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (190) اَلَّذِي.......

اشارة

إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ (190) اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ اَلْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ (194)

ص: 165

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوابِ (195) الآيات الشريفة من جلائل الآيات و اعاظمها التي تدعو الناس إلى التفكر و التدبر و التذكر، و ترشد المؤمنين إلى أهم طريق من طرق السير و السلوك و تعلمهم التربية الحقيقية و هي تطبيق المشاعر الايمانية في سلوك عملي و إبرازها في عمل واقعي.

و سياق الآيات المباركة يدل على انها نزلت من العرش العظيم على قلب الرسول الكريم، و هي تحكي الارتباط التام بين العابد و المعبود و عنايته بالعابد، فإذا اعترف في مقام عبوديته بالقصور و التقصير و التسليم للمعبود تجلّى له بكل ما يطلبه و يبغيه.

و العناية الظاهرة في قوله جلت عظمته «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ » مما لا يمكن ان يظهر بلسان و ان جذبات المحبوب لحبيبه في هذه الآيات متوالية، و لو لم يكن لمقام العبودية إلا هذا المقام لكفاه فخرا و عزا.

و قد مدح عز و جل أولي الألباب الذين يذكرون اللّه تعالى و يتفكرون في خلقه و يسلّمون أمرهم اليه سبحانه و تعالى و يقرون له بالطاعة و العبودية فهم عباد ربانيون لا يفترون عن ذكر اللّه تعالى في جميع حالاتهم قياما و قعودا و على جنوبهم يرجون رحمته و ما وعدهم اللّه تعالى على لسان رسله.

ص: 166

و ذكر جل شأنه انه لا يضيع عملهم فهو محفوظ لديه و سيكفّر اللّه تعالى عنهم سيئاتهم و يدخلهم الجنات العظيمة و ذلك جزاء ما لاقوه في سبيله عز و جل من الأذى و ذلك الجزاء العظيم ينتظرهم يوم الحساب.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

دعوة إلى التفكر في خلق اللّه تعالى بعد بيان ان جميع خلقه ملك له عز و جل و هو على كل شي قدير، فان انضمام هذه الآية الشريفة الى الآيات السابقة يثبت الوحدانية الكبرى و الربوبية العظمى و لذا ترك العطف بينهما، فان في خلق السموات و الأرض الآيات الدالة على قدرته عز و جل و اعتنائه تعالى بخلقهما على ما فيهما من العجائب و البدائع التي ترشد اصناف العباد إلى المبدأ و المعاد و تجذبهم إلى الحي القيوم.

و الآية الشريفة باسلوبها الجذاب و مضمونها الخلاب تدعو الناس إلى النظر و التفكر في الآيات الكونية و تفتح لهم أبواب الفلسفة العلمية و العملية، فان آثار رحمته عز و جل فيها واضحة، و دلالات إحاطته تعالى و قيموميته العظمى الكاملة مشهودة.

و المراد بخلق السموات و الأرض الآيات الكونية المحسوسة التي ظهرت في جميع موجودات السموات و الأرض من الجواهر و الاعراض و العرضيات و الروحانيين و الاملاك و الكواكب و الأفلاك، و ما في الأرض من الآيات الكثيرة في الإنسان و الحيوان و النبات و ما في البر و البحر و الجو، فان فيها الآيات التي تبهر منها العقول و قد بذل الإنسان غاية الجهد

ص: 167

في معرفتها و لم يبلغ معشار ما فيها، و في كل يوم يبرز علما جديدا و معرفة مستجدة و ما جهله اكثر مما علمه بمراتب.

و انما اتى عز و جل لفظ الأرض مفردا لان الأرض التي يعيش عليها الإنسان و يستفيد منها انما هي واحدة كما دلت عليه الادلة العقلية و اما النقلية فسيأتي البحث فيها.

قوله تعالى: وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ .

آية من الآيات الكونية التي يحسها كل أحد و معنى اختلافهما تعاقبهما و مجيء كل واحد منهما عقيب الآخر على حد قوله تعالى: «يُولِجُ اَللَّيْلَ فِي اَلنَّهارِ وَ يُولِجُ اَلنَّهارَ فِي اَللَّيْلِ » * فاطر - 13 و اختلاف الليل و النهار يأتي وفق نظام دقيق له آثار كبيرة و خواص عجيبة محسوسة ظاهرة في النباتات و الحيوانات و في الإنسان. و الأعجب من الجميع ان هذا النظام المتسق الموزون في العالم الكياني و ترتيب الفصول يبتني على ذلك الاختلاف، فان ذلك يدل على عظمة الصنع الدالة على عظمة الصانع و علمه و حكمته التامة.

و هذه الآيات الكونية ذات وقع على الحس الانساني لا يمكن لأحد التنصل منها و انما يستفيد كل فرد من افراد الإنسان بمقدار فهمه وجودة فكره.

قوله تعالى: لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ .

الآيات العلامات و الدلالات التي تدل على عظمة الخالق و وحدته عز و جل و كمال علمه و قدرته و حكمته التامة المتعالية.

و الآيات جمع قلة لكنه يقوم مقام جمع الكثرة و لعل مجيئه لأجل ان الآيات المحسوسة قليلة في جنب ما خفي منها.

ص: 168

و الألباب جمع اللب و هو خالص كل شيء يقال لب يلبّ مثل عضّ يعض و هذه لغة اهل الحجاز و اهل نجد يقولون لبّ يلب على وزن فرّ يفر و في الحديث: «ان اللّه منع بني مدلج لصلتهم الرحم و طعنهم في الباب الإبل» اي خالص ابلهم و كرائمها. و لب العقل ما خلص عن شوائب الأوهام مطلقا.

و قد ورد لفظ اولي الألباب في القرآن الكريم في ما يقرب من ستة عشر موضعا كلها مقرونة بالمدح و الثناء و التعظيم، فقد عرفهم عز و جل بأنهم اصل الهداية و الايمان باللّه تعالى، و التقوى و الطاعة، و الخضوع، و الانابة اليه عز و جل، و هم الذين يتبعون احسن القول و هم اهل الذكر و التذكير و التفكر.

و قد وصفهم تعالى في الآيات التالية بالصفة التي تميزهم و لا يبقى مجال إلى تفسير آخر فهم الذين يذكرون اللّه تعالى في جميع الحالات لا يفترون عن ذكره و هم عباد ربانيون مرتبطون مع عالم الغيب بكل معنى الارتباط علما و عملا و قولا و فكرا و قلوبهم متعلقة به يرجون رحمته و يخافون عذابه.

و انما خص اولى الألباب لأنهم لا يقصرون نظرهم على الماديات و المظاهر الخارجية فقط و لا يوصدون قلوبهم عن الغوص في أعماق الموجودات بل يتفكرون و يتدبرون و يستفيدون منها، فهم يلتفتون بقلوبهم و عقولهم إلى ما في ذلك من الوجوه و الحكم الدالة على الوحدانية و الحكمة و العلم و القدرة.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ .

وصف بليغ لأولى الألباب، و شرح لأحوالهم شرحا وافيا فقد

ص: 169

وصفهم تعالى بأوصاف متعددة و هي:

الاول: انهم اهل الذكر في جميع الحالات لا يفترون عن ذكر اللّه تعالى و لا يغفلون عنه في حال. و المراد من «عَلى جُنُوبِهِمْ » اي مضطجعين و نظيره قوله تعالى: «دَعانا لِجَنْبِهِ » يونس - 12 أي دعانا مضطجعا على جنبه.

و هذا الذكر أعم من الذكر اللفظي و الذكر العملي و هو الصلاة، و قد ورد في بعض الروايات ما يدل على التعميم، فهم يذكرون اللّه جلت عظمته مع حضور القلب، فان الذكر ما كان عن خضوع و خشوع و إنابة و الا لا يسمى ذكرا.

و انما خص تعالى هذه الحالات الثلاثة القيام، و القعود، و على جنوبهم لان الإنسان لا يخلو عن احداها، فيكون المراد ان معظم حركاتهم و سكناتهم في ذكر اللّه تعالى و بذكر اللّه عز و جل و هذا يسير على اولي الألباب لأنهم لا يرون للدنيا قيمة أصلا حتى يجعلوا شيئا للدنيا، فهم في حال كونهم في الدنيا جعلوا الآخرة نصب أعينهم، و هذه هي الفلسفة العملية التي اتعب الفلاسفة و علماء الأخلاق و السير و السلوك أنفسهم فيها و جعلوا لها قواعد و اصولا و افردوا لها كتبا مستقلة و اللّه تبارك و تعالى جمعها في جملة واحدة.

قوله تعالى: وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

وصف ثان لأولي الألباب. اي: انهم ينظرون في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار فيذكرون اللّه تعالى بل يذكرونه في جميع أحوالهم لا يفترون عن ذكره و قد ملأ الايمان قلوبهم و تفكروا في خلق السموات و الأرض مهتدين إلى وحدانيته و حكمته التامة و قدرته

ص: 170

الكاملة و علمه الأتم فاهتدوا إلى ان اللّه تعالى لم يخلقها باطلا و عبثا.

و الآية المباركة تدل على ان الفكر إذا لم يستند على اللب فلم يهتد بنور الايمان و كان عرضة للضلال، فكم ضلت عقول الذين يتفكرون في خلق السموات و الأرض و يغوصون في عجائبها و اسرارها و لكنهم كانوا غافلين عن الخالق العليم المدبر القادر قال تعالى: «وَ ما خَلَقْنَا اَلسَّماءَ وَ اَلْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ اَلنّارِ» ص - 27 و لكن أولوا الألباب تفكروا في خلقها و اهتدوا إلى ان اللّه تعالى لم يخلقها باطلا و انها من صنع الإله القادر الحكيم فاكملوا نورانية فكرهم بذلك و اعترفوا بأن الخلق بالحق و في الحق.

و الفكر من أهم خصائص الإنسان و به ينتظم شؤونه و يقوم نظام الدنيا و الآخرة، و قد حثت الكتب الإلهية الناس الى التفكر و التدبر، و وردت مادة (فكر) في القرآن الكريم في اكثر من ستة عشر موضعا جميعها تدل على عظمة هذه النعمة الربانية و الموهبة الإلهية، و هي من الحقائق المعدودة التي يجهلها الإنسان لحد الآن و ان عرف مفهومها فهو من الأمور التي:

مفهومها من اعرف الأشياء و كنهها في غاية الخفاء.

و المعروف بين الفلاسفة انه توجه النفس بمبادئ معلومة ليستنتج منها نتائج مطلوبة تترتب عليها قهرا، و هل هذا الترتب من قبيل الأسباب التوليدية أو انه من مجرد الاقتضاء كما في جميع المقتضيات، أو انه عملية كيمياوية كما يدعيها الماديون، أو انه من مجرد الاتفاق من دون دخل للأسباب في البين، أو انه من الإفاضات الغيبية حفظا للنظام و تسهيلا على الأنام قال بكل جمع من الفلاسفة و ان كان الحق هو الأخير فتكون النتائج الفكرية كالمصابيح الكهربائية التي لا تضيء إلا

ص: 171

مع الاتصال باسلاك تربط بالمحل المولد لتلك القوة، و في الفكر لا بد من الاتصال بالمبدأ الفياض.

و لكن لا يمكن لاحد انكار ان بعض الأقسام منها تكويني بديهي الإنتاج و هذا لا ينافي ما ذكرناه، ففي مثل المقام التفكر في خلق السموات و الأرض يورث التذكر و الإذعان بأنها حادثة و كل حادث يحتاج إلى مؤثر و المؤثر هو اللّه تعالى و لان فيها بدائع من النظم العجيب و الإبداع الفريد و الأسرار و الدقائق و الرموز و الحكمة التي لا يمكن ان تصدر إلا عن عليم حكيم، فلا بد ان يكون الخالق عليما حكيما متصفا بصفات الجمال و الجلال، و هذا النحو من الاستدلال يسمى عندهم بالبرهان الإني اي العلم من المعلول بالعلة و يقابله البرهان اللمي اي العلم من العلة بالمعلول و القرآن الكريم مشحون بالقسمين و يأتي في قوله تعالى: «أَ فِي اَللّهِ شَكٌّ فاطِرِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » ابراهيم - 10 بعض الكلام ان شاء اللّه تعالى.

و في كلمات المعصومين الشيء الكثير من ذلك قال علي بن الحسين (عليهما السلام): «بك عرفتك و أنت دللتني عليك و دعوتني إليك و لو لا أنت لم أدر ما أنت» و قال (عليه السلام) ايضا: «و ان الراحل إليك قريب المسافة و انك لا تحتجب عن خلقك إلا ان تحجبهم الأعمال دونك» و سئل عن بعض الأولياء فقيل له: ما قدر المسافة بين العبد و معرفة اللّه تعالى ؟ قال: «قدمان. قدم يضعها على الممكنات و قدم يضعها في مقام العرفان» و سئل آخر عنها؟ فقال: قدم واحدة يضعها على نية نفسه يتجلّى له ربه فان من عرف نفسه فقد عرف ربه» و البحث في ذلك طويل عقلا و نقلا و عرفانا و شهودا.

و يستفاد من الآية المباركة الترغيب إلى التفكر و التدبر و في الحديث

ص: 172

عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «تفكر ساعة خير من عبادة سبعين سنة» كما ان المستفاد من الادلة الدالة على حسن التفكر و الحث عليه ان التفكر الحسن المرغوب اليه لا بد ان لا يكون منهيا عنه شرعا ففي الحديث: «تفكروا في آلاء اللّه تعالى و لا تتفكروا في اللّه تعالى» و في حديث آخر «تفكروا في الخلق و لا تتفكروا في الخالق» فان التفكر في المبدأ تعالى لا بد ان يكون من جهة خلقه و صفاته الفعلية و اما التفكر في ذاته المقدسة و صفاته التي هي عين ذاته فلا يفيد إلا تحيرا بل ربما ضلالا و قد ورد في تفسير قوله تعالى: «وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى » النجم - 41 انه «إذا انتهى الكلام الى اللّه تعالى فأمسكوا» و اما النظر و التفكر في ما هو منهي عنه شرعا فلا يكون منتجا بل ان تسميته بالفكر مجاز لأنه في الحقيقة و هم باطل أو النكراء أو الشيطنة أو من ايحاء الشيطان قال تعالى: «وَ إِنَّ اَلشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ » الانعام - 121 فلا بد للمتفكر ان يتأمل في مقدمات فكره بان لا تبتني على الأوهام و الخيالات، و الا فيحرم من الفيض الأقدس الالهي، و يكون من الذين كان للشيطان عليه سبيلا و كل ما كان الفكر بريئا من الخيال و الأوهام و خاليا من الوسوسة كان إلى الواقع اقرب و الا فانه يؤدي إلى اختلال القوة الفكرية و انطفاء هذا النور الالهي الذي أودعه اللّه تعالى في الإنسان، فلا بد من أن يلتمس سببا صحيحا اليه و هذا من شؤون الأنبياء و المرسلين و من يقوم مقامهم فإنهم يستنيرون بنور اللّه تعالى كما في الحديث «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور اللّه».

ثم ان الخلق في قوله تعالى: «فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » إما بمعنى المخلوق فتكون الاضافة إما بمعنى (في) اي يتفكرون في ما خلق في السموات و الأرض أو تكون الاضافة بيانية اي: يتفكرون في

ص: 173

المخلوق الذي هو في السموات و الأرض. أو يكون بالمعنى المصدري اي: يتفكرون في انشائهما و إبداعهما.

و انما لم يذكر سبحانه و تعالى اختلاف الليل و النهار في المقام إما لأجل اندراج اختلاف الليل و النهار في خلق السموات و الأرض فانه من شؤونهما أو لبيان ان اولي الألباب بسبب فكرهم الثاقب بمثابة بحيث إذا تفكروا في بعض الآيات تنسبق الى ذهنهم الآيات الاخرى فتترتب عليها النتيجة لا محالة.

قوله تعالى: رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً .

اي: انهم يتفكرون في خلق السموات و الأرض فيبهرون من عظمة الخلق و يعترفون بالعجز و التقصير أمام الخالق العظيم فينطلق لسانهم بالثناء و الدعاء فيقولون: ربنا ما خلقت هذا المخلوق باطلا لأنك العليم الحكيم.

و انما اهتدوا الى هذه الحقيقة الكبرى لأنهم رأوا آثار عظمة الخالق و حكمته فأذعنوا بأن خلقه تعالى بالحق و في الحق و لا يمكن ان يكون هذا الصنع العجيب باطلا و بلا غاية، و هي الرجوع الى اللّه تعالى و ترتب الجزاء إما درجات الجنان التي وعد بها رسوله للصلحاء أو دركات النيران التي هي جزاء الظالمين لأنهم لما اعترفوا بأن خلق الدنيا و ما فيها لم يكن عبثا و باطلا فلا بد ان يكون الرجوع الى اللّه تعالى و الحشر اليه عز و جل و الحساب على ما تحقق في الحياة الدنيا من الأعمال فهناك الثواب و العقاب قال تعالى: «أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ » المؤمنون - 115 و الا كان من العبث الذي يتنزه الخالق منه و الباطل الذي ينفى عن كل عاقل فضلا عن الحكيم المطلق فانطلق لسانهم بالتنزيه و قد ملئت قلوبهم بالدهشة منه و تعاقب عليها

ص: 174

الخوف و الرجاء.

قوله تعالى: سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ .

اي: انهم لما بهرتهم عظمة الخالق قالوا «سبحانك» يعنى تنزيها لك من كل ما لا يليق بك و تقديسا لك من الباطل و العبث و هم يستغيثون به من عذاب النار و يتوسلون اليه بالنجاة منه لأنهم علموا بأن الظالمين سيحشرون اليه فيجازيهم على أعمالهم فطلبوا منه التوفيق الى الأعمال التي تقيهم من عذاب النار.

قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ .

توسل منهم الى اللّه تعالى الذي رباهم ان يجيرهم من النار و مبالغة منهم في استدعاء الوقاية عنها اعترافا منهم بقبح ما يوجب دخول النار و ان ذلك هو الخزي المبين.

و انما قالوا ذلك مبالغة في التضرع الى الرب الذي عودهم على الإحسان و عرفوه بالانعام و الإكرام على خلقه بعد التفكر في مخلوقاته فان آثار الكرم و النعمة عليها ظاهرة.

و أخزيته من الخزي و هو الافتضاح و الإذلال يقال: اخزاه اللّه اي اذله و مقته و الاسم الخزي و يستفاد من الآية المباركة ان الدخول في النار هو أشد انواع الخزي مع قطع النظر عن إحراقه بالنار، لان دخول النار فيه البعد عن لقاء اللّه تعالى و احبائه و الابتلاء بعذاب الفراق و هو أشد و أقوى من العذاب الجسماني.

قوله تعالى: وَ ما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ .

بيان للسبب الموجب لدخولهم في النار. اي: ان الذين يخزون

ص: 175

يدخلون في النار لأنهم ظلموا أنفسهم و الظالم ليس له ناصر ينصره من النار لأنه حرم نفسه من الفيض الالهي و قطعها عن رحمته بالكفر و العصيان، و ان النصر في يوم الجزاء لا بد أن يكون منه تعالى و هو لا يشمل غير المؤمن به عز و جل. و هذا اعتراف منهم بأن الظلم على النفس من أشد أنحاء الظلم و اقرار منهم بأن النصر لا بد ان يكون من اللّه تعالى، و الظالم قد حرم نفسه منه بسبب ظلمه.

و الظلم هنا أعم من الكفر و المعاصي التي توجب الدخول في النار.

قوله تعالى: رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ .

ص: 176

و إنما أكدوا ايمانهم بإيراد لفظ الايمان و مشتقاته ثلاث مرات ليؤهلهم الى الفيض الربوبي، و لبيان ان الايمان شغلهم الشاغل و انهم احبوه و قد ملأ مشاعرهم.

و ذكرهم للرب حثا منهم له عز و جل بالعطف عليهم لأنهم عبيد مربوبون له عز و جل.

و انما اسرعوا الى الايمان بمجرد ان سمعوا المنادي ينادي للايمان باللّه تعالى لأنهم رأوا آثار عظمته في الخلق بعد النظر و التفكر.

قوله تعالى: رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا .

زيادة في التضرع و توجه منهم الى اللّه تعالى بالدعاء لطلب المغفرة و التكفير للسيئات لأنهم آمنوا باللّه تعالى و رسله الذين يخبرون عن اللّه عز و جل بما يوجب سعادتهم و يحذرونهم عن ما يوجب سخطه و عقابه و شقائهم فاعترفوا بالقصور و التقصير و الرهبة مما يصدر منهم من الذنوب داعين - عند من لا يعقل حد لعظمته و رحمته - المغفرة للذنوب و التكفير للسيئات.

و الغفران للذنوب يحصل بالتوبة و الاستغفار عنهما بخلاف التكفير للسيئات فانه ربما يحصل بإتيان الحسنات قال تعالى: «إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ » هود - 114 أو باجتناب الكبائر قال تعالى: «إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً» النساء - 31 فيكون التكفير للسيئات أعم من الاستغفار لها.

و المعنى وفقنا للتوبة عن الذنوب و السيئات إما بالاستغفار أو بفعل ما يوجب التكفير عن السيئات.

ص: 177

قوله تعالى: وَ تَوَفَّنا مَعَ اَلْأَبْرارِ .

اي: اجعلنا عند أخذك لنا من هذه الدنيا و انتقالنا من هذا العالم في زمرة الأبرار و في صحبتهم. و الأبرار جمع بار و قيل جمع بر و قد تقدم معناه في الآيات السابقة و للأبرار شأن خاص و منزلة رفيعة عند اللّه تعالى.

قوله تعالى: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ .

زيادة ترغيب في التقرب الى اللّه تعالى بعد ما أبدوه من الرهبة من المعاصي و الذنوب التي تستوجب النار و دعاء بالثبات و الاستقامة على الايمان فان الثواب مشروط بالموافاة على الايمان.

و المعنى: ربنا و اعطنا ما وعدتنا و ما أنزلته من التبشيرات على رسلك، و في الحقيقة انهم سألوا اللّه تعالى التوفيق للايمان و التقوى و العمل الصالح ليكونوا أهلا لوفاء الوعد لهم و هو الجزاء الحسن الذي أوحاه عز و جل الى رسله.

و من ذلك يعلم الجواب عن ما ذكره بعضهم من انه كيف يسألون اللّه تعالى شيئا قد وعد به و هم يعلمون انه لا يخلف الميعاد.

و هذا الدعاء منهم يدل على نهاية الخضوع و عدم الاعتماد على النفس و الاعتراف بالتقصير و عدم الثقة بالثبات الا بتوفيق منه عز و جل.

و عموم الآية المباركة يشمل الدعاء لتنجيز كل ما وعده عز و جل للمؤمنين سواء في الدنيا أو في الآخرة قال تعالى: «وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » التوبة - 72 و قال تعالى: «وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ » النور - 55 و قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » محمد - 7 و غير ذلك من الآيات الشريفة التي تضمنت الوعد و البشرى للمؤمنين.

ص: 178

و عموم الآية المباركة يشمل الدعاء لتنجيز كل ما وعده عز و جل للمؤمنين سواء في الدنيا أو في الآخرة قال تعالى: «وَعَدَ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اَللّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ » التوبة - 72 و قال تعالى: «وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ » النور - 55 و قال تعالى: «إِنْ تَنْصُرُوا اَللّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ » محمد - 7 و غير ذلك من الآيات الشريفة التي تضمنت الوعد و البشرى للمؤمنين.

و انما ذكر عز و جل «عَلى رُسُلِكَ » لبيان ان ذلك وحي منزل من اللّه تعالى على الرسل و قد تناقله أنبياؤه الكرام (عليهم السلام) خلفا عن سلف و هم شاهدون على ذلك مع ضمانهم لذلك عليه عز و جل.

قوله تعالى: وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

مبالغة في الدعاء و الإلحاح فيه بما استولى عليهم الرهبة.

و المراد بالخزي في المقام هو عدم وفاء الوعد الموعود به المؤمنون بقرينة ذيل الآية المباركة فيستلزم الهلاك و الوقوع في البلية.

و انما خصوا ذلك بيوم القيامة لما فيه من الأهوال العظيمة فطلبوا النجاة منها و عدم الخزي على رؤوس الخلائق فما أشد على من يخال نفسه من المؤمنين في الدنيا و هو في القيامة من المفضوحين يستحيي مما ورد عليه من الذل و الهوان فهذه الفقرة من الدعاء تأكيد للدعاء المتقدم و طلب للنجاة من الخزي و الفضيحة يوم القيامة الذي تظهر نتائج الأعمال فيه.

قوله تعالى: إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ .

ثناء جميل و تمجيد للّه تعالى و تقديس منهم له بما هو حقه، و قد ختموا به دعاءهم ليكونوا على اطمينان بالاجابة فان الدعاء الذي يتضمن التقديس و التمجيد للّه تعالى أقرب الى الاستجابة.

ص: 179

قوله تعالى: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ .

الفاء للترتيب و ما بعده مترتب على السابق ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة و تدل عليه هيئة الماضي الدالة على تحقق الاستجابة و تقررها و ذيل الآية المباركة «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ » تقرير لقولهم «إِنَّكَ لا تُخْلِفُ اَلْمِيعادَ» .

و الاستجابة هي الجواب مع حصول المقصود و المراد، بخلاف الاجابة فإنها تطلق على مجرد الجواب بالرد ايضا. و هذه الاستجابة تكوينية ذكرها عز و جل لإبراز العناية بالداعين و التلطف معهم. بل ان أولى الألباب بذواتهم القدسية مراتب استجابة اللّه تعالى بجميع أطوارهم و شؤونهم في أي عالم ورد عليهم.

و في ذكر الرب مضافا إليهم دلالة على كمال العطف بهم و اختصاصهم بالرحمة الإلهية.

قوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ .

زيادة تلطف في الكلام، و كمال تحبب معهم، و الاعتناء بشأنهم و تشريف الداعين بشرف الخطاب و لذلك جاء الالتفات في الكلام بقوله تعالى (اني) للتكلم و الخطاب بقوله جل شأنه (منكم).

و الضياع: بمعنى الهلاك و الابطال اي: اني احفظ لكم أعمالكم و استجب لكم بشرط العمل الصالح.

و الآية المباركة تدل على ان الاستجابة لم تكن الا لأجل العمل فهو المدار فيها، فلم تكن تلك المشاعر الايمانية الصادقة التي لازمت الدعاء كافية في الاستجابة حتى تتحول الى العمل فكانت الاستجابة بالنسبة الى العاملين هي توفية جزاء أعمالهم فتكون هذه الآية الشريفة بيانا

ص: 180

للاستجابة و كيفيتها.

قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى .

بيان لجنس العامل اي: انه لا يفرق عنده تعالى حينئذ بين الذكر و الأنثى فالجميع بالنسبة الى سبب الاستجابة على حد سواء و ان المناط هو العمل مع الإخلاص سواء كان العامل ذكرا أم أنثى.

قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .

بيان لسبب التساوي بين العاملين الذكور و الإناث. و في الآية الشريفة كمال العناية و التحبب و اللطف بهم، اي: انكم في الثواب و التقرب و سائر الصفات و الخصوصيات سواء عندي بعد ان كنتم جميعا من أولي الألباب.

قوله تعالى: فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ .

بيان للأعمال التي يثبت فيها الجزاء الموعود، و تفصيل لما أجمله آنفا بذكر أهم أفراد العمل و أفضلها و لبيان ان المثوبة التي أكد اللّه تعالى عليها في مواضع متعددة من القرآن الكريم لا يمكن ان ينالها احد الا مع العمل، فلا يطمعن احد فيها بدونه.

و لما كانت السورة مشتملة على الجهاد في سبيل اللّه تعالى و المعركة في تثبيت كلمة التوحيد، و إعلاء شأن دين اللّه تعالى كانت الامثلة المضروبة للأعمال الصالحة لها ارتباط بهذا المضمار مع المدح و الثناء و التعظيم. فمنها الهجرة في سبيل اللّه تعالى و إيثار الدين الحق سواء كانت الهجرة عن الشرك أو الوطن أو الذنوب فتكون الهجرة أعم من الإخراج من الديار.

ص: 181

و منها إخراج المؤمنين من ديارهم و أوطانهم ظلما و عدوانا لأنهم آمنوا باللّه تعالى و اعرضوا عن الباطل.

و انما ذكر الهجرة لأنها أشق شيء على النفس فإنها مجبولة على حب الوطن الذي نشأت فيه، و يمكن ان يكون الإخراج من الديار تغييرا للهجرة و تفصيلا بعد إجمال و لكنه بعيد عن ظاهر الآية المباركة و يحتمل ان يكون لبيان ان ترك الديار انما كان عن ظلم و عدوان و أما الهجرة عن الأوطان فلأجل انهم لم يتمكنوا من اقامة الدين.

و الآية الشريفة تبين اهمية الهجرة الى اللّه تعالى و هو يشمل الهجرة اليه عز و جل كما مر سواء كانت مكانية أو زمانية او عملية فالمهاجر عن المعاصي مهاجر اليه جلت عظمته و كذا ورد في بعض الأحاديث «ان المؤمن مهاجر» لأنه يهجر عن المعاصي.

قوله تعالى: وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي .

اي و تحملوا الأذى في سبيل اللّه تعالى و هو يشمل كل ما يصيب المؤمن من المشركين و غيرهم قولا و فعلا.

قوله تعالى: وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا .

اي: و قاتلوا الكفار و المشركين و اعداء اللّه تعالى فقتلوا و استشهدوا في سبيل اللّه تعالى فان من جمع فيه هذه الصفات له المثوبة العظيمة المؤكدة.

قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ .

اي: من اتصف بتلك الأوصاف لأسترن عليهم سيئاتهم و أمحوها و هي صغائر المعاصي لأنهم تركوا الكبائر و هجروها بالترك أو التوبة.

و يحتمل ان يكون ذلك جوابا عن ما طلبوه من اللّه تعالى: «وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » .

ص: 182

و يحتمل ان يكون ذلك جوابا عن ما طلبوه من اللّه تعالى: «وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ » .

قوله تعالى: وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

أي: و أتفضل عليهم بأن أدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار قد جمعت فيها موجبات البهجة و السرور و هذا هو الذي طلبه الداعون في قولهم «و آتنا ما وعدتنا على رسلك».

قوله تعالى: ثَواباً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

اي: ان جميع ذلك كانت نتائج أعمالهم و هي محفوظة عند اللّه تعالى.

و إنما قال ذلك عز و جل لأنه أكمل في اللذة و للتنبيه بأنه من عظيم لا نهاية لعظمته.

و انما ذكر اسم الجلالة تنويها بشرفه و كرامته، و ثوابا مصدر مؤكد لما قبله.

و هذه الآية المباركة مبينة لقوله تعالى: «أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ » فان الأعمال محفوظة لديه عز و جل و يثيب عليها اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ اَلثَّوابِ .

تأكيد لما سبق، و لبيان أن الثواب من رحمة اللّه الواسعة و من فضله العظيم، و للاعلام بأن الثواب قد تشرف بحضرته، و انه محفوظ عنده لا يصيبه الهلاك و الفناء.

و قد ذكر عز و جل في هذه الآية المباركة أمورا ثلاثة: الاول محو السيئات و غفران الذنوب و هو الذي طلبوه في قولهم «رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنّا سَيِّئاتِنا» و انما لم يذكر عز و جل غفران الذنوب و قال «لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ » فقط لأنها غفرت بالهجرة و التوبة.

ص: 183

الثاني: الثواب العظيم و هو الدخول في الجنات التي تجري من تحتها الأنهار و هو الذي طلبوه في قولهم «وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ » .

الثالث: ان ذلك ثواب من عند اللّه تعالى لأنه لا يضيع عمل عامل منكم، فالاعمال محفوظة لديه و يكون الثواب نتائج أعمالهم و هذا الثواب مقرون بالتعظيم و التجليل و يكفي في شرفها انه من عند اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث ادبي:

انما حذف العطف بين قوله تعالى: «لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ» ، و قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ» لان الأخير يبين كمال قدرته و علمه و حكمته في ملكه فهو مؤكد للأول.

و الآيات في قوله تعالى: «لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ » اسم ان و قد دخله اللام لتأخره عن الخبر، و للتأكيد و التنوين فيه للتفخيم اي:

آيات عظيمة.

و قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ » في موضع جر نعت لأولي الألباب و يجوز ان يكون في موضع رفع او نصب على المدح.

و قوله تعالى: «قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » منصوب على الحال في يذكرون أو في موضع الحال.

و قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ » انما وضع

ص: 184

الظاهر (النار) موضع المضمر للتهويل.

و الخزي: هو الخسران و قيل انه بمعنى الهلاك او الاهانة او الافتضاح و منه قوله تعالى: «وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي» هود - 78 او الابعاد و لكن جميع ذلك متقاربة.

و النداء: في قوله تعالى «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ » لما كان مخصوصا بما يؤدى له و منتهيا اليه تعدى باللام تارة كما في المقام و اخرى ب (الى) فلا حاجة الى صرف اللام عن ظاهرها و جعلها بمعنى الى او غيرها و قال بعضهم ان جملة ينادي مفعول ثان ل (سمع) و قال آخرون ان سمع تعدت الى واحد و ينادي صفة له و انما حذف المفعول الصريح في «ينادي» إيذانا بالتعميم.

و قوله تعالى: «أَنْ آمِنُوا» إما تفسير لينادي إذا جعل ان مصدرية أو بأن آمنوا فيكون متعلقا ب (ينادي) و قال بعضهم انه بدل من الايمان و لكنه ليس بشيء.

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على أمور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ» على حقيقة من الحقائق الواقعية التي طالما أكد عليها القرآن الكريم في مواضع متعددة بل انها مراده، و هي الاستدلال بآيات اللّه تعالى في مخلوقاته العلوية و السفلية على عبادة اللّه الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد و عبادة الآيات الكونية و الخوارق

ص: 185

و هذه هي دعوة الأنبياء و الرسل.

و الآية الشريفة تضمنت المبدأ و المعاد فان قوله تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » يدعو الى المبدأ المتصف بجميع صفات الكمال من العلم و القدرة و الحياة و الحكمة و الربوبية، و اما قوله تعالى «وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ» فانه يدل على المعاد لما في هذه الآية من الدلالة على القدرة الإلهية و ان اختلاف الليل و النهار لا يخلو من المشابهة للموت و الحياة فالليل فيه الإشارة الى الخمود و السكون و النهار اشارة الى الحركة و الظهور و النشور، و الموت خمود و سكون و الحياة ظهور و حركة. كما ان اختلاف الليل و النهار سنة الهية طبيعية و الموت و الحياة سنة إلهية كذلك.

و من ذلك يعرف السر في تقديم الليل على النهار فان الموت اسبق على الحياة فإنها الإيجاد من العدم.

الثاني:

يستفاد من ذكر اختلاف الليل و النهار بعد خلق السموات و الأرض ان اختلاف الليل و النهار من شؤون خلق السموات و الأرض و تابع له.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ » المنزلة العظيمة لأولي الألباب فهم الذين ينظرون في الآيات و يتعمقون فيها و يدركون تلك الآيات الكونية و يستفيدون منها و يعتبرون بها و اما سائر الناس فلا حظ لهم منها إلا المناظر البديعة و ما فيها من الحسن و الروعة و البهجة دون التعمق و الاعتبار.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » ان ذكر اللّه تعالى له الأثر الكبير في استفادة ذوي الألباب من آيات اللّه تعالى و له المنزلة العظيمة في الاهتداء به الى

ص: 186

الحقيقة فقد ملأ الذكر جميع مشاعرهم و تمام حالاتهم فلا يغفلون عن اللّه تعالى لأنهم شاهدوا آثار عظمته في خلقه و أيقنوا أن ما سواه من فيض رحمته فاستغرقت سرائرهم في مراقبته فلا يشاهدون حالا من الأحوال في الآفاق و في الأنفس الا و هم يعاينون شأنا من شؤونه و مظهرا من مظاهره تعالى.

و اطلاق الذكر يشمل جميع انحائه من حيث الذات أو الصفات أو الأفعال فكانوا في طاعة اللّه تعالى دائما مما أوجب استعداد أنفسهم لقبول الفيض الالهي.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ » ان التفكر الصحيح انما يكون بعد تهذيب الروح و تطهير النفس من الرذائل و ذكر اللّه تعالى إنما يقوم بتلك الوظيفة؛ و لذا قدمه عز و جل على التفكر في خلق السموات و الأرض و هو يعد النفس لهذه الموهبة، و يستفاد من الآية المباركة اختصاص التفكير في السموات و الأرض دون الذات المقدسة لعدم الوصول الى كنه ذاته و قد ورد النهي عن التفكر في الذات، يضاف الى ذلك ان ذكر اللّه تعالى يغني عن التفكر في الذات، و هذه الآية المباركة ترشد الناس إلى التفكر في أفعاله تبارك و تعالى.

السادس:

يمكن ان يراد بالقيام في قوله تعالى: «قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » مطلق القيام بالوظائف العبودية لا خصوص القيام حال الصلاة، فكل من سعى في قضاء حوائج المؤمنين أو في تعظيم شعائر اللّه تعالى، أو في معاش العيال و نحو ذلك مما هو كثير داخل في الآية الشريفة لقوله (عليه السلام): «الكاد لعياله مجاهد في سبيل اللّه» و قوله (عليه السلام): «الكاسب حبيب اللّه» و قوله (عليه السلام)

ص: 187

«جهاد المرأة حسن التبعل» و قوله (عليه السلام): «من سعى في قضاء حاجة كان له اجر الشهيد»، كما يمكن ان يراد بالقعود:

القعود عن كل ما لا يرتضيه اللّه تعالى و عدم الحركة فيه أصلا و ان يراد بالجنوب الحالات الحاصلة للعبد عند التوجه الى القهار العظيم:

و من ترتيب التفكر على ما ذكر في هذه الآية الشريفة يستفادان التفكر الصحيح المنتج انما يكون بعد العمل الصالح و يدل عليه قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اَللّهُ » البقرة - 282 و لكن الإنسان غفل عن ذلك كله فجعل نفسه مقيدة بأمور اصطنعها فما أقبح ذلك منه.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: «رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ » ان الرب الذي خلق الخلق بهذا النظم العجيب و دبر أمورهم هو حق و لا يصدر منه الا الحق و هو منزه عن الباطل و انى للعقول ان يحيطوا بآثار حكمته، و ان الخلق مهما تفكروا في مخلوقاته فلن يعرفوا حقيقتها و ليس لهم الا الإذعان بانه لم يخلقها باطلا لأنه منزه عنه و هو الحق و لا يصدر منه الا الحق، فان لم يدرك العقل آثار الحكمة و العظمة لا يمكنه انكار هذا الأمر و هو انه لم يخلقه باطلا و يستفاد منه ادب الدعاء و المناجاة مع اللّه تعالى و فيه تعليم المؤمنين كيفية المخاطبة مع اللّه تعالى فلا بد من الثناء و التنزيه و الدعاء و الابتهال.

الثامن:

يستفاد من سياق قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ اَلنّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ » العلية و المعلولية اي: ان دخول النار لا يكون الا لأجل ظلم الإنسان على نفسه و لا ناصر للظالم على النفس فيترتب الخزي لا محالة: أما ان دخول النار لا يكون إلا لأجل الظلم فهو معلوم لأنه مترتب على المعصية و الطغيان، و اما انه لا ناصر للظالم على النفس فلانة منحصر في اللّه تعالى لأنه إما الشفاعة أو التوبة و المفروض عدم

ص: 188

تحققهما فلا محالة يترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ » ان ايمانهم مبني على أمرين أحدهما الدليل العقلي الذي اعتمد على التفكر في خلق اللّه تعالى و الادلة القطعية و الثاني الدليل السمعي عند ما سمعوا المنادي يناديهم الى الايمان باللّه تعالى و هم بعد تأملهم في هذا الدليل السمعي وقعت منهم الاجابة بلا فاصلة و فتور.

و يمكن ان يكون المراد بالسمع هنا الاجابة الحقيقية كما في قول «سمع اللّه لمن حمده» فالمنادى داع الى اللّه تعالى و شاهد على تحقق الدعوة الحقة و بعد فناء العالم ينتفي موضوع الدعوة و تبقى موضوع الشهادة.

و هذه الآية الشريفة على اختصارها تبين المبدأ و المعاد و استدل على الاول بالمعلول على وجود العلة و تسمى هذه الطريقة في الاصطلاح بالبرهان الاني و استدل على الثاني مع قطع النظر عن الملازمة بينهما بالإقرار و الاعتراف الذي هو من أقوى الادلة في القوانين الجزائية.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ تَوَفَّنا مَعَ اَلْأَبْرارِ» ان مقام الأبرار من أعلى المقامات الذي لا مقام أعلى و ارفع عند اللّه تعالى منه قال جل شأنه: «إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ ... يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ » المطففين - 18 و قال تعالى: «إِنَّ اَلْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ ... يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ اَلْمُتَنافِسُونَ » المطففين - 22 و يكفي في عظمة شأنهم ان هؤلاء الداعين مع علو شأنهم يطلبون من اللّه تعالى ان يتوفاهم مع الأبرار و يجعلهم معهم. فتكون حالاتهم من سنخ حالات الأبرار، و ان تكون عوالمهم كعوالمهم.

و الحاصل: ان هذه الآية الكريمة تبين ان اولي الألباب هم الذين يكونون مع الأبرار في جميع النشآت و في مرضاة اللّه تعالى و الأبرار

ص: 189

هم شهداء الخلق و قادة أهل الجنة.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ » ان الجامع بين الجميع - الذكور و الإناث - كونهم من اولي الألباب و هو بمنزلة المادة الواحدة التي تجمع الجميع و الخصوصيات الفردية بمنزلة الصور المتعددة، فتكون (من) نشوية حينئذ اي: ان منشأهم واحد و هو كونهم أولي الألباب و هذه الخصوصية هي التي أوجبت اشتراك النساء مع الرجال في هذا الأمر المهم، و يدل على ذلك قوله تعالى: «وَ اَلْمُؤْمِنُونَ وَ اَلْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اَللّهُ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » التوبة - 71 و إذا انتفت هذه الخصوصية كان الآمر على خلاف ما اراده اللّه عز و جل و كذا الأمر في ضد المؤمنين و هم المنافقون كما في قوله تعالى:

«اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ اَلْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اَللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ » التوبة - 67.

الثاني عشر:

يستفاد من قوله تعالى: «فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا» ان اولي الألباب لم يبلغوا تلك المقامات العالية و لم يتصفوا بتلك الصفات الكريمة الا لأنهم تحملوا الأذى في سبيل اللّه تعالى و هجروا المعاصي و الملذات و الأهل و العيال و الديار ليقيموا دين الحق، و جعلوا أنفسهم وفقا لمرضاة اللّه عز و جل فعند ما طلب منهم الشهادة لم يتوانوا في ذلك فقدموها اليه عز و جل و أذعنوا ان سعادتهم انما هي بإقامة دين الحق.

الثالث عشر:

انما لم يذكر سبحانه و تعالى اسماء هذه الطائفة في

ص: 190

الآيات و اقتصر جل شأنه على ذكر حالاتهم و صفاتهم و ابتهالاتهم لأجل انهم القدوة و الأسوة بعملهم و سيرتهم و انهم ينيرون لنا الطريق و ان حالاتهم و ابتهالهم هي طريق السير و السلوك الى اللّه تعالى:

بحث روائي
اشارة

الآيات الشريفة من جلائل الآيات القرآنية و قد تضمنت مضامين عالية في التوحيد و العرفان و اعتبرها علماء السير و السلوك من أهم الآيات التي وردت في هذا الطريق و نحن نذكر ما وردت في فضلها من الروايات ثم ما وردت في تفسير المفردات منها.

فضل الآيات:

في المجمع عن النبي (صلى اللّه عليه و آله) انه لما نزلت هذه الآيات قال: (صلى اللّه عليه و آله): «ويل لمن لاكها بين فكيه و لم يتأمل ما فيها».

و في تفسير البرهان عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال:

«ويل لمن قرأ الآية ثم مسح بها شبكته» اي تجاوز عنها من غير فكر فيه و ذم المعرضين عنها.

و في التهذيب عن معاوية بن وهب قال: «سمعت أبا عبد اللّه (ع) يقول في صلاة النبي (صلى اللّه عليه و آله): «كان يؤتى بطهور

ص: 191

فيخمر عند رأسه، و يوضع سواكه تحت فراشه ثم ينام ما شاء اللّه فإذا استيقظ جلس ثم قلب بصره في السماء ثم تلا الآيات من آل عمران: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ » ثم يستن و يتطهر، ثم يقوم الى المسجد فيركع اربع ركعات على قدر قراءة ركوعه و سجوده على قدر ركوعه، و يركع حتى يقال متى يرفع رأسه و يسجد حتى يقال متى يرفع رأسه ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء اللّه ثم يستيقظ فيجلس فيتلوا الآيات من آل عمران و يقلب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم الى المسجد و يصلي الأربع ركعات كما ركع قبل ذلك ثم يعود الى فراشه فينام ما شاء اللّه ثم يستيقظ و يجلس و يتلو الآيات من آل عمران و يقلب بصره في السماء ثم يستن و يتطهر و يقوم الى المسجد فيوتر و يصلي الركعتين ثم يخرج الى الصلاة».

أقول يستفاد من الرواية فضل الآيات المباركة و اهميتها لأنه (ص) كان يكرر قراءتها و يواظب عليها.

و في الدر المنثور اخرج ابن حيان في صحيحه و ابن عساكر و غيرهما عن عطاء قال: «قلت لعائشة اخبرني بأعجب ما رأيت من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قالت: و أي شأنه لم يكن عجبا؟!! إنه أتاني ليلة فدخل معي في لحافي ثم قال: ذريني أتعبد لربي، فقام فتوضأ ثم قام يصلي فبكى حتى سالت دموعه على صدره ثم ركع فبكى ثم سجد فبكى، ثم رفع رأسه فبكى فلم يزل كذلك حتى جاء بلال فآذنه بالصلاة فقال يا رسول اللّه ما يبكيك و قد غفر اللّه تعالى لك ما تقدم من ذنبك و ما تأخر؟! قال (صلى اللّه عليه و آله):

ا فلا أكون عبدا شكورا و لم لا افعل ؟ و قد انزل اللّه تعالى عليّ في

ص: 192

هذه الليلة: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ اَلنّارِ» ثم قال: (صلى اللّه عليه و آله) ويل لمن قرأها و لم يتفكر فيها».

و في الدر المنثور أيضا عن علي (عليه السلام): «انه (صلى اللّه عليه و آله) إذا قام تسوك ثم ينظر الى السماء ثم يقول «ان في خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار لآيات لأولي الألباب».

و اخرج الشيخان، و أبو داود، و النسائي و غيرهم عن ابن عباس قال: «بت عند خالتي ميمونة فنام رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) حتى انتصف الليل أو قبله بقليل، أو بعده بقليل ثم استيقظ فجعل يمسح النوم عن وجهه بيديه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران حتى ختم».

أقول: الروايات متفقة المضمون على جلالة هذه الآيات و الاهتمام بشأنها و كثرة التدبر في مضامينها و الحث في الإتيان بها في أهم الأوقات و هو السحر الذي يكون الدعاء فيه اقرب الى الاستجابة و القبول.

تفسير مفردات الآيات:

في الكافي عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «أفضل العبادة إدمان التفكير في اللّه تعالى و في قدرته».

أقول: المراد بالتفكر في اللّه تعالى التفكر في خلقه و صفاته لا

ص: 193

التفكر في الذات فانه منهي عنه و لا يوجب الا التحير قال تعالى:

«وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً» طه - 110 و عن علي (عليه السلام):

«تاهت العقول في كنه معرفته» و اما التفكر في الصفات و الأفعال فقد ورد في الأمثال الكثيرة و السنة الشريفة الحث عليه قال تعالى:

«وَ تِلْكَ اَلْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ » الحشر - 21.

و في الكافي ايضا عن معمر بن خلاد قال: «سمعت أبا الحسن الرضا (عليه السلام) يقول ليس العبادة كثرة الصلاة و الصوم إنما العبادة التفكر في امر اللّه عز و جل».

أقول: الحديث شاهد على ما ذكرناه أيضا.

و فيه أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال امير المؤمنين (ع):

«التفكر يدعو الى البر و العمل به».

أقول: لان الفكر الصحيح المنتج يوجب تهييج النفس و تحرك القوى الارادية الى العمل.

و في الدر المنثور اخرج ابو الشيخ في العظمة عن ابي هريرة قال:

«قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فكر ساعة خير من عبادة ستين سنة».

أقول في بعض الروايات عنه (صلى اللّه عليه و آله): «تفكر ساعة خير من قيام ليلة» و في رواية اخرى من عبادة سنة و هي المروية من طرق الامامية و يمكن حمل الاختلاف على مراتب اختلاف الفكر و قربه و بعده نحو اصابة الواقع.

و في الدر المنثور ايضا عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) تفكروا في خلق اللّه و لا تفكروا في اللّه».

أقول: قد تقدم في التفسير ما يبين ذلك لان التفكر في اللّه تعالى

ص: 194

لا يزيد إلا تحيرا فانه لا يمكن ان يحيط احد به علما.

و في الكافي عن الحسن الصيقل عن ابي عبد اللّه (عليه السلام) في حديث قال: «سألته كيف يتفكر؟ قال (عليه السلام) يمر بالخربة، أو بالدار فيقول اين ساكنوك ؟ اين ساكنوك ؟ مالك لا تتكلمين».

أقول: هذا بيان لبعض مصاديق الفكر الممكنة لعامة الناس و الا فللتفكر مراتب كثيرة حسب درجات المتفكرين من العرفاء.

و في تفسير العياشي عن ابي حمزة الثمالي عن ابى جعفر (عليه السلام) قال: «لا يزال المؤمن في صلاة ما كان في ذكر اللّه إن كان قائما أو جالسا أو مضطجعا لان اللّه تعالى يقول «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » .

أقول هذا محمول على مراتب قدرة الذاكر للّه تعالى على ما يأتي في البحث الفقهي.

و في تفسير العياشي عن ابي جعفر (عليه السلام) قال: «الموت خير للمؤمن ان اللّه تعالى يقول: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» .

أقول: في جملة من الاخبار انه خير للمؤمن و الكافر أما المؤمن فلاستراحته عن همّ الدنيا و غمها و وروده الى رحمة اللّه تعالى. و اما الكافر فلاستراحة الناس منه فتكون الخيرية باعتبار عدم زيادة عقوباته في الآخرة.

و في الدر المنثور في قوله تعالى: «فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » قالت أم سلمة: «يا رسول اللّه لا اسمع اللّه ذكر النساء في الهجرة بشيء فانزل اللّه تعالى الآية».

و في الأمالي في قوله تعالى: «فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ » نزلت الآية في علي (عليه السلام) لما هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت اسد. و فاطمة بنت محمد (صلى اللّه عليه و آله) و فاطمة بنت الزبير، ثم لحق بهم في ضجنان أم ايمن، و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون اللّه في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي و قد نزلت الآيات».

ص: 195

و في الأمالي في قوله تعالى: «فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ » نزلت الآية في علي (عليه السلام) لما هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت اسد. و فاطمة بنت محمد (صلى اللّه عليه و آله) و فاطمة بنت الزبير، ثم لحق بهم في ضجنان أم ايمن، و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون اللّه في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي و قد نزلت الآيات».

أقول: ورد من طرق الجمهور انها نزلت في المهاجرين و كيف كان فالآية المباركة عامة الى يوم القيامة و ما ورد في شأن النزول بيان لبعض المصاديق.

بحث قرآني

مما أكد عليه القرآن الكريم و اهتم به اهتماما بليغا الدعاء و التضرع الى اللّه تعالى و الاستمداد منه في قضاء الحوائج، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا ما يتعلق بهذا الموضوع المهم الذي يمس الإنسان من جميع جهاته الدنيوية و الاخروية بل دخيل في سعادته الابدية و بيّنا الجوانب المتعددة فيه و في المقام نذكر ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدمة في هذا الأمر فإنها اشتملت على امور مهمة تكشف عن بعض الجهات المقومة للدعاء و تبين ادب الدعاء.

و يستفاد من تلك الآيات المباركة ان الدعاء داخل في صميم حياة أولي الألباب و لا يهملونه في حالة من الحالات، و يعتبرونه من أهم الأسباب في نيل المطلوب و نجح المقصود، و الآيات الشريفة قد اشتملت على دقايق و رموز تكون دخيلة في استجابة الدعاء التي قلما توجد في

ص: 196

آيات أخرى، و نحن نذكر جملة منها في المقام. و الأمر المهم هو ان الدعاء هنا صدر عن قلوب مؤمنة صادقة في إيمانها تفكرت و تدبرت و تذكرت و اهتدت الى الحق فتوجهت الى اللّه تعالى بمشاعر ايمانية خالصة، و توسلت اليه عز و جل و جعلت إيمانها وسيلة لقبول دعائهم و هذا الدعاء الحار الذي صدر منهم يدل على كمال العرفان الالهي فيهم و نراهم انهم يكررون لفظ «ربنا» خمس مرات في دعواتهم على سبيل الاستعطاف و طلب رحمته و قد ذكروا هذا الاسم لما فيه من الأثر العظيم في استجابة الدعاء.

و قد تكرر هذا الاسم المبارك كثيرا في دعوات الأنبياء و المرسلين و ذلك لأن في هذا الاسم الدلالة النفسية على حرارة التوجه و صدق الرغبة في التكرار لدلالته على الإلحاح في المسألة و كثرة الطلب من اللّه سبحانه و تعالى، فهم لا يزالون يلحون في الدعاء و يقولون «ربنا» حتى استجاب لهم ربهم و عطف عليهم و رحمهم ثم إنهم دخلوا في هذا الميدان بعد تطهير أنفسهم من الذنوب و الآثام و الاشتغال بذكر اللّه تعالى و ملأوا مشاعرهم من عظمته و قد كرروا لفظ الايمان و مشتقاته لتوكيد ايمانهم و تقديمه امام طلبهم لما فيه الأثر في الاستجابة.

و قد اشتمل دعاؤهم على كمال الخضوع و الخشوع و شدة التوجه اليه عز و جل. فقدموا الثناء على الطلب و الدعاء ثم طلبوا الوقاية من النار فإنها أهم مطلب لأولي الألباب لما علموا من تقصيرهم و ما يصدر عنهم مما يوجب سلب التوفيق و الخزي فالتمسوا منه عز و جل العناية و التوفيق و السلامة من كل خزي و طلبوا منه النصرة ثم أكدوا على طلب غفران الذنوب و تكفير السيئات بعد ما قدموا ما يؤهلهم للاستجابة و هو الايمان ثم لم يقتصر دعاؤهم على خصوص الدنيا بل

ص: 197

طلبوا منه عز و جل ان يجعلهم مع الأبرار الذين لهم المقام المعلوم و المنزلة العظيمة.

و أخيرا طلبوا منه عز و جل أن يوفيهم ما وعده لهم و هو لا يخلف الميعاد.

و قد اشتمل دعاؤهم على الأدب المعهود بين اللّه تعالى و عباده المخلصين و ما تضمنه دعاؤهم على الثناء و التنزيه و الإلحاح في الطلب و موجبات الاستجابة فاستجاب لهم ربهم لان فيهم ما يوجب ذلك و هو العمل الصالح الذي هو العمدة في ذلك هذا فيض من غيض ما تشتمل عليه الآيات المتقدمة من الرموز و الدقائق و أدب الدعاء و لا بد لكل داع ان يجعل ما في هذه الآيات نصب عينيه و يجعلها منهاجا لكل دعواته لتحصل له الاستجابة.

بحث فقهي

من المسلمات في الفقه ان التكاليف تتنزل على مراتب القدرة و الاستطاعة فليس تكليف العاجز و المضطر في الصلاة - مثلا - تكليف القادر المختار، و استدلوا على ذلك بحكم العقل المقرر بالكتاب و السنة قال تعالى: «لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها» البقرة - 286 و قال تعالى: «وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » الحج - 78 الى غير ذلك من الآيات الشريفة و عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله) «إذا امرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم» و قد تقدم في احد مباحثنا السابقة تفصيل الكلام فيه.

ص: 198

و قوله تعالى: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » حسب ما ورد في تفسيرها من السنة الشريفة من ادلة توسعة التكليف تبين مراتب التكليف تبعا لأحوال المصلين فالصحيح يصلي قائما و المريض يصلي جالسا، و من لا يقدر على الجلوس يصلي على جنبه، ففي الكافي عن ابي حمزة الثمالي عن ابي جعفر (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ » قال (عليه السلام): «الصحيح يصلي قائما و قعودا و المريض يصلي جالسا؛ و على جنوبهم الذين يكون الأضعف من المريض الذي يصلي جالسا».

أقول: المراد من قوله (عليه السلام) «قياما و قعودا» بالنسبة الى صلاة النافلة فان المكلف مخير في إتيانها قائما أو قعودا و اما الصلاة الواجبة فانه يتعين فيها القيام ان كان صحيحا.

و في تفسير العياشي عن ابي جعفر (عليه السلام): «في قول اللّه عز و جل: «اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً» الأصحاء «و قعودا» يعنى المرضى «و على جنوبهم» قال (عليه السلام): اعلّ ممن يصلي جالسا و أوجع».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة قد فصلنا القول في كتابنا (مهذب الاحكام) فراجع.

بحوث عرفانية

الآيات الشريفة المتقدمة تشتمل على مضامين عالية في السير و السلوك

ص: 199

و يعتبرها اهل الذوق و العرفان دستورا و منهاجا لهم في عروجهم العرفاني و نحن نشير الى بعض ما تقتضيه الحال:

الأول تتضمن الآيات الشريفة على مخاطبة المربوب مع الرب و مثل هذه المخاطبة تستلزم الحضور اي حضور المخاطب لدى المتكلم و هو من طرف مخاطبة اللّه تعالى مع عباده و خلقه صحيح لا ريب فيه لأنه حضور احاطي فعلي من كل جهة و أما من طرف المربوب مع الرب فهو حضور وجداني و هو من أعظم مراتب تجليات الرب العظيم على القلوب و الضمائر و يبين مثل هذا الحضور الوجداني قول ابي عبد اللّه الحسين (عليه السلام) في بعض حالاته الانقطاعية مع ربه «سيدي ماذا وجد من فقدك و ما الذي فقد من وجدك» و يشير الى ذلك قول علي (ع) في الدعاء المعروف «الهي صبرت على عذابك فكيف اصبر على فراقك» و هذه هي الرابطة الاختيارية للعباد مع معبودهم الحقيقي.

و لعل من أعظم أسمائه الحسنى تأثيرا على القلوب و أشدها حضورا عند المخاطب اسم (الرب) و لذا نرى ان الأنبياء العظام يتوسلون بهذا الاسم المبارك في دعواتهم الشريفة و حالاتهم الانقطاعية، و هو يدل على كمال الخضوع و الخشوع لربهم و يستميلون عطفه و عنايته عز و جل الذي خلقهم و رباهم و منّ عليهم بجميع النعم الظاهرية و المعنوية.

ص: 200

اليه، و هذه الحالة هي غاية آمال المجاهدين و المرتاضين في الحق بالحق، و قد اسموه بالسفر في النفس بالنفس، و لا منتهى لهذا السير الا ما أشار اليه سيد الأنبياء بقوله (صلى اللّه عليه و آله): «من رآني فقد رأى الحق» و هذا هو المعراج الروحاني الذي هو العلة التامة لاستكمال النفوس المستعدة.

و إن شئت قلت هو إيجاد تمام العوالم في عالم واحد و هو عالم الانسانية الكبرى بالاختيار، فتصير النيران تحت ارادته و الجنان تحت اقدامه فتخاطبه النار بقولها: «جز يا مؤمن فان نورك يطفئ لهبي» و هذه كلها لمحة يسيرة من سير الإنسان الى الكمال غير المتناهي من كل جهة.

كما انها من تجليات أولي الألباب بعد ما لاقوا أشد المصاعب في هذه الدار الفانية فقد هجروا الأهل و الديار و تركوا المعاصي لأجل رب الأرباب و قاتلوا النفس الامارة فقتلوها بالسيطرة عليها و توجيهها الى ما يرضي خالقها و لأجل ذلك كانت عنايات اللّه جل شأنه بهم عظيمة لا حد لها لأنهم مظاهر أخلاقه و هم الصور المرئية من العقل الكلي في هذا العالم و في عالم البرزخ و في عالم الآخرة و قد أعد لهم جنات عظيمة لا نهاية لعظمتها و هذه الجنات هي جنة الأعمال، و جنة الرضوان و جنة اللقاء و هي منتهى الغايات و أعلى الكمالات.

الثالث: غلبة ذكر اللّه تعالى على العبد توجب تجلي عظمة اللّه جل جلاله عليه فيصير طوع ارادته فلا يعمل الا بما يرتضيه، و لا يرى و لا يسمع الا ما يشاء اللّه تعالى و يصبح بذلك مرآة لوحي السماء و لا معنى لأولي الألباب الا ذلك، فترى انهم يسرعون الى الايمان عند ما يسمعون المنادي ينادي اليه لان النداء جلب مشاعرهم بعد ما

ص: 201

كانت مشغولة بذكر اللّه تعالى، و هذا هو السمع الحقيقي الذي يغير العبد عما عليه من الغفلة.

و بعبارة اخرى: هي الجذبة الملكوتية التي تحصل للنفس و كم لأولي الألباب من هذه الجذبات الى رب الأرباب، و لا بد من الارتباط مع هؤلاء بالمعنى الذي ذكره عز و جل لان العالم خلق لتكميل الانسانية و لا يحصل إلا بذلك و هذا هو غاية دعوة الأنبياء العظام خصوصا سيدهم (صلى اللّه عليه و آله).

بحث فلسفي

تختلف الفلسفة الاسلامية عن غيرها من المذاهب الفلسفية في معالمها و مناهجها و اسلوبها في بيان المسائل العقلية و تفصيل ذلك لا يناسب المقام و المهم ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدمة في الفلسفة الاسلامية فإنها من الآيات المعدودة التي وردت في بيان معالم هذه الفلسفة الجامعة لكثير من المعارف و العلوم و أهم ما تمتاز به عن غيرها ذلك الذوق العرفاني و بيان المسائل المتعلقة بما وراء الطبيعة و العمق الفلسفي في البحث و التحقيق.

و المستفاد من الآيات الشريفة ان الفلسفة الاسلامية تتميز بأمور ثلاثة:

الأول: ابتناء هذه الفلسفة على التفكر و التدبر و النظر كسائر المذاهب الا ان الفرق ان الفلسفة في الإسلام تعتمد على التفكر الذي يدعو الى العمل و يتحول الى سلوك و منهج تطبيقى في الحياة فلا تعتمد على التفكر من حيث هو تفكر فقط كالفلسفة اليونانية التي تعتمد على

ص: 202

التفكر و التدبر لأجل التفكر و التدبر فقط قال تعالى: «إِنَّ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ اِخْتِلافِ اَللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي اَلْأَلْبابِ اَلَّذِينَ يَذْكُرُونَ اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً» .

الثاني: الاعتماد على التجربة و الاستقراء، و يعتبر الإسلام هو الذي انشأ المنهج التجريبي و سبق الفلسفة المعاصرة و البحث العلمي في في القرون المتأخرة.

الثالث: انها تعتمد على الفلسفة العملية و تجعلها جزء لا يتجزأ عن الفلسفة العلمية و تعتبرهما الأصل في كل كمال انساني في الدنيا و الآخرة.

الرابع: ان الفلسفة الاسلامية تمتاز عن غيرها بأنها منهج اخلاقي تطبيقي فهي تعتمد على التخلية و هذه هي أهم معالم الفلسفة الاسلامية التي يمكن استفادتها من الآيات الشريفة المتقدمة التي اشتملت على مضامين عالية في الفلسفة و العرفان.

و حقيق لهذه الآيات المباركة ان تجعل خاتمة سورة الاصطفاء فانه لا اصطفاء إلا من اولي الألباب و تعتبر هذه الآيات الشريفة تفسيرا لمعنى اولي الألباب و تشرح أحوالهم.

و السر اللطيف الذي في هذه الآيات الكريمة انه لم يشر فيها الى شيء من الدنيا بوجه من الوجوه و لعل الوجه في ذلك التباين الكلي بين مقام اولي الألباب و الدنيا الفانية فإنها جيفة و طلاّبها كلاب كما في الحديث و اين ذلك من المقام الرفيع لأولي الألباب و المنزلة العظيمة لهم.

ص: 203

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِها.......

اشارة

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ (197) لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (199) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى بعض احوال اولي الألباب و بعض صفات الأبرار و أعمالهم الحسنة و الجزاء الحسن الذي وعده تبارك و تعالى لهم أشار في هذه الآيات الشريفة الى ما يتعلق بمن يضادهم و ينافيهم لما ارتكز في النفوس من ان الأشياء انما تعرف بأضدادها، و التمييز بين الأبرار و الكفار، و لبيان ما ابتلى به المؤمنون ذلك البلاء الشاق من الهجرة و الإخراج من الديار و الإيذاء و القتل و القتال انما هو للتمييز و التمحيض الذي هو سنة الهية كما عرفت، و للاعلام باستحقاقهم ذلك الثواب الجزيل فلا يقاس حالهم بحال الكفار الذين يتمتعون متاعا قليلا ثم لهم سوء العقاب.

و في هذه الآيات المباركة الموعظة الكبيرة للمؤمنين و النهي عن الاغترار بحال الكفار الذين يتنعمون في نعم ظاهرية بل لا بد ان يجعل الأمر في نظرهم أبعد من ذلك فان لهم الثواب العظيم و النعيم الحقيقي

ص: 204

التفسير

قوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ .

تسلية للنبي الكريم (صلى اللّه عليه و آله) و المؤمنين الذين تحملوا البلاء و الأذى في سبيل الحق. و الخطاب و ان كان موجها الى النبي لكنه خطاب للأمة باعتبار ان النبي (صلى اللّه عليه و آله) واسطة الفيض و انه الوجود الجمعي للأبرار فهو (صلى اللّه عليه و آله) من حيث كونه واسطة الفيض الالهي مبدأ فاعلى لهم، و من حيث كونه صاحب المقام المحمود غاية لهم، ففي وجوده اجتمعت العلة الفاعلية و الغائية للأبرار.

و مادة (غرر) تدل على الأثر الظاهر على الشيء سواء كان سببه الغفلة أو امر آخر و منه غرة الفرس، و غرار السيف اي حده، و غر الثوب أثر كسره، يقال اطوه على غره اي اطوه على طياته الاولي و جمع الغر على غرور، و يقال: غره خدعه و أطمعه بالباطل فكأنه ذبحه بالغرار.

و التقلب هو التحول من حال الى حال و يستعمل غالبا في الحركات المنطبعة غير الارادية و المراد به كون الكفار في رفاه الحال و شرف الحياة يتقلبون في البلاد آمنين متنعمين بالصحة و الامهال، و لكن مع ذلك فقد وصفهم تبارك و تعالى بأخسّ الأوصاف فقال عز و جل «مَتاعٌ قَلِيلٌ » .

و المراد بالكفر في المقام هو الأعم من الكفر الاعتقادي و العملي

ص: 205

مقابلته للأبرار.

و انما نهى عز و جل عن الغرور بتقلب الذين كفروا لان الحقيقة غير ما هم عليه، و لا ينبغي ان يكون المظهر سببا للغرور و الإغماض عن الحقيقة، و لعل سبب النهي هو ان المؤمنين لما تحملوا تلك المشقات الكثيرة و ذلك الابتلاء العظيم كما حكى عنهم عز و جل في الآية السابقة بينما ان الذين كفروا يتقلبون في البلاد يتحولون من نعمة الى نعمة اخرى مطمئنين آمنين يمكن ان يوسوس لهم الشيطان ان الكفار اولى منهم لأجل اولوية حالهم في الدنيا، فكانت هذه الآية الشريفة بمنزلة دفع الدخل و التقدير، و لرفع ذلك الهاجس البشرى و تزيل الاسى في نفوسهم الحاصل من الوسوسة.

قوله تعالى: مَتاعٌ قَلِيلٌ .

بيان لعلة النهي عن الغرور. اي: ان تقلبهم في البلاد انما هو متاع قليل لا دوام له، و هذا من أخس الأوصاف و لا يمكن ان يقابل ذلك الثواب العظيم الذي أعده اللّه تعالى للأبرار، بل ان متاع الأرض كله لا يمكن ان يقابل ذلك لان حركات غير الأبرار لما كانت للدنيا و في الدنيا، فان الدنيا و ما فيها قليل من جميع الجهات بالنسبة الى الآخرة و في الحديث: «ما الدنيا في الآخرة الأمثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليم فلينظر بما ذا يرجع». و المتاع يمثل به عن الشيء الحادث الزائل خصوصا إذا اتصف بالقلة.

قوله تعالى: ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ .

اي: ثم مصيرهم - الذي يأوون اليه و قد مهدوه بكفرهم و سوء أعمالهم - هو جهنم و هي اسم لدار مجازاة الكفار و المذنبين في الآخرة.

ص: 206

و المهاد: المكان الممهد كالفراش و انما ذكره عز و جل تهكما بهم اي: ان تلك الدار التي يأوون إليها و ذلك المصير مما جنته أيديهم و قد مهدوها لأنفسهم بسوء اختيارهم و يبين هذه الآية قوله تعالى في موضع آخر: «أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ » الشعراء - 207.

قوله تعالى: لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ .

بيان لمصير الأبرار و سعادتهم مقابلة لمصير الكفار و شقائهم فانه لا يقاس أحدهما بالآخر لأن حال الطائفة الاولى ابتلاء و مقاساة للأهوال مدة قصيرة و نعيم الخلد في الآخرة و حال الطائفة الثانية متاع قليل و مأواهم جهنم و بئس المهاد.

و الكفار و ان استمتعوا بملاذ الدنيا و نعيمها لكنهم حرّموا أنفسهم من نعيم الآخرة التي لا نهاية لعظمتها و احلوها دار البوار، و اما الذين اتقوا ربهم و ان حرموا من نعيم الدنيا و تحملوا المشاق و الأذى في سبيل اللّه لكن جزاؤهم كبير و عظيم، فالاستدراك انما هو لأجل طمأنينة قلوب المتقين و الأبرار و المجاهدين في سبيل اللّه تعالى فلا يوهن عزائمهم للجهاد بتمتع الكافرين في الأرض و لا يشغلهم تنعم هؤلاء و رفاههم و تقلبهم في البلاد و لا ينبغي ان يكون سببا لوهن عزائمهم و نشاطهم في سبيل الدين و إعلاء كلمة اللّه تعالى فان مصيرهم أعظم و أعلى من مصير الكافرين.

قوله تعالى: لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

اي: ان مصيرهم الى نعم لا نهاية لبهجتها و سرور ساكنيها و هي جنات تجري من تحتها الأنهار و هذه الجنات تعددت لأنهم قاسوا

ص: 207

اهوال الدنيا و مرارة العيش فيها، و هي الجنات التي وعدها اللّه تعالى لأولي الألباب جزاء جهادهم و كفاحهم في الدنيا، و يمكن ان تكون الجنات متعددة باعتبار حالات الإفراد و شدة تفانيهم في اللّه تعالى و ضعفه فإنهم متفاوتون في ذلك.

قوله تعالى: نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

النزل - بضمتين أو بتسكين الزاي - ما يهيأ للنزيل أول نزوله من المنزل و الزاد و الفرس و النزيل هو الضيف قال الشاعر:

نزيل القوم أعظمهم حقوقا *** و حق اللّه من حق النزيل

و خص بعضهم النزل بالزاد مطلقا و يأتي مصدرا و جمعا و هو منصوب على الحال و قيل انه منصوب على التفسير.

و جعل الجنات نزلا لهم فيه الكرامة العظمى للمتقين لا سيما إذا كانت من عند اللّه تعالى فان فيه الشرف العظيم لهم و فيه اشارة الى عدم تناهي ذلك النزل كمية و كيفية و مدة فانه من عند من لا تناهي له من كل جهة.

قوله تعالى: وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ .

نعمة اخرى لا نهاية لها. اي: ان ما عند اللّه تعالى خير للمتقين الأبرار مما عند الكافرين من المتاع القليل أو خير مما كان المتقون فيه في الدنيا.

و التفنن في النعم لبيان ان الاولى من النعم الجسمانية كالجنات التي تجري من تحتها الأنهار، و هذه من النعم المعنوية كالقرب الى اللّه تعالى و الحظوة لديه و لقائه عز و جل و رضوان اللّه اكبر و هذه النعمة لا يوازيها أية نعمة اخرى من نعم الجنة فهذه كرامة اخرى للأبرار زائدة

ص: 208

عما كانت للمتقين.

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ .

بيان لمشاركة بعض اهل الكتاب مع المؤمنين في الايمان باللّه و اجره العظيم، و عدم اختصاص السعادة الاخروية بطائفة خاصة و لتشجيع اهل الكتاب الى الدخول في الايمان و متابعة الحق.

و في ذلك إيماء إلى ان هؤلاء مع ما هم عليه من السعة قد اختاروا ثواب المؤمنين الأبرار و آثروا ما عند اللّه تعالى على المتاع الدنيوي و ان كان المؤمنون في ضيق فانه خير من سعتهم.

و قد وصف سبحانه و تعالى هذه الطائفة بخمس صفات هي الأصل في كل سعادة الاولى: الايمان باللّه جلّ شأنه ايمانا صحيحا داعيا إلى العمل الصالح لا يشوبه شرك و فساد.

الثانية: الايمان بما انزل إلى المسلمين و هو القرآن الكريم، و الايمان به يستلزم الايمان بمن انزل عليه و هو الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله).

و انما قال تعالى: «إِلَيْكُمْ » باعتبار ابتداء الدعوة بهم و إلا فان القرآن الكريم منزل لكل البشر و هو المهيمن على سائر الكتب الإلهية يدعو الناس إلى السعادة و دين الحق و لعله لذلك قدم الايمان بالقرآن على الايمان بما انزل إليهم و ان كان الأخير مقدما في الوجود و لبيان ان الايمان بما انزل إليهم لا فائدة فيه إذا لم يكن معه ايمان بما انزل إلى المؤمنين.

الثالثة: الايمان بما انزل إليهم و هو ما اوحى اللّه تعالى إلى أنبيائهم من غير تحريف فانه يدعو إلى اللّه تعالى و إلى ما انزل إلى المؤمنين و هاتان الصفتان تدعوان اهل الكتاب إلى عدم التفريق بين رسل اللّه

ص: 209

تعالى كما ذمهم اللّه تعالى به في ما تقدم من الآيات.

قوله تعالى: خاشِعِينَ لِلّهِ .

وصف رابع و هو منصوب على الحال. و الخشوع فوق الخضوع و هو نوع انكسار يعرض على القلب و على جوارح الإنسان عند الطاعة للّه تعالى و قد تقدم في قوله تعالى: «وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاّ عَلَى اَلْخاشِعِينَ » البقرة - 45 و الخشوع انما هو اثر الخشية من اللّه تعالى و الخوف منه و هذا من ثمرة الايمان الصحيح.

قوله تعالى: لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً .

وصف خامس و هو عدم كتمان الحق و الاشتراء بآيات اللّه تعالى ثمنا قليلا مما ذم اللّه تعالى به اهل الكتاب و الكافرين في مواضع متعددة من القرآن الكريم قال تعالى: «اِشْتَرَوْا بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » التوبة - 9 و قال تعالى:

«فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً» المائدة - 44.

و قد نفى عن هؤلاء هذه الخصلة و هي كتمان الحق و الاشتراء بآيات اللّه ثمنا قليلا و هو يدل على صدقهم في الايمان و خلوصهم فيه.

قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ .

اي: ان أولئك المتصفين بتلك الصفات الحميدة لهم أجرهم المعلوم و هو ثواب طاعتهم. و انما أضاف الأجر إلى الرب الذي رباهم بنعمه في الدنيا للتشريف و كمال العناية بهم.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

اي: ان اللّه يحاسب العباد و يعلم ما لكل احد من الثواب و العقاب

ص: 210

فلا يعقل التأخير بالنسبة اليه عز و جل لإحاطته بجميع جزئيات اعمال عباده فيوفيهم أجورهم بلا امهال و تأخير.

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ» على ان ما عند الكافرين من الحظوظ الدنيوية مهما بلغت في العظمة في الكم و الكيف لا تقابل ما للمؤمنين من الجزاء العظيم الذي أعد اللّه تعالى لهم في يوم الجزاء مضافا إلى مصير الكافرين السيء الذي هو نتيجة أعمالهم و جهدهم في الدنيا و ما كسبته أيديهم و ان كان لتقلبهم دخل في نظم البلاد و لكنه حقير ضئيل خصوصا إذا لوحظ بالنسبة إلى النظام الأحسن لو كان الأنبياء و المؤمنون هم الذين يتصدون لنظم الدنيا قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » الأعراف - 96.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «مَتاعٌ قَلِيلٌ » على دناءة المتاع الذي يتمتعون به و قلته من جميع الجهات فهو قليل في المدة، و قليل بالقياس إلى مؤونة السعي و الجهد الذي يبذلونه في سبيله، و قليل بالنسبة إلى ما أعد اللّه تعالى للمؤمنين من الأجر العظيم و الثواب الجزيل، كما دلت عليه الآية السابقة.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» على ان المناط في كل خير و نفع هو التقوى، و ان الدنيا و ما فيها انما هي وسيلة إلى النعمة العظيمة الابدية التي لا يمكن نيلها إلا بالتقوى، فالآية الكريمة رد لمزاعم الكفار و المنافقين في انهم متمتعون و المؤمنون في خسران.

ص: 211

يدل قوله تعالى: «لكِنِ اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» على ان المناط في كل خير و نفع هو التقوى، و ان الدنيا و ما فيها انما هي وسيلة إلى النعمة العظيمة الابدية التي لا يمكن نيلها إلا بالتقوى، فالآية الكريمة رد لمزاعم الكفار و المنافقين في انهم متمتعون و المؤمنون في خسران.

و انما ذكر عز و جل التقوى للدلالة على أن حرمان المؤمنين من بعض حظوظ الدنيا من سبل التقوى، فلا يتوهم احد بأنه من موجبات شقائهم. و ذكر المتقين بعد الكافرين من احسن وجوه البلاغة في بيان الصنفين المختلفين المتضادين.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «وَ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ» على ان للأبرار منزلة عظيمة فوق منزلة سائر المؤمنين المتقين و انهم طائفة خاصة من الذين اتقوا و لهم شأن عظيم عند اللّه تعالى و قد شرفهم اللّه تعالى بأن حباهم ما هو اكثر و أدوم، و أعظم، و أوصلهم الى مقام القرب الذي لا يوازيه شيء من نعيم الجنة قال تعالى: «إِنَّ كِتابَ اَلْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ اَلْمُقَرَّبُونَ إِنَّ اَلْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى اَلْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ اَلنَّعِيمِ » المطففين - 24.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ » على ان الوحدة الجامعة لجميع الأديان الإلهية هي الايمان باللّه تعالى و ما انزل الى المؤمنين و ما انزل إليهم ما لم تمسه يد التحريف و التزوير، و الخشوع للّه تعالى و عدم كتمان الحق فمن كان من اهل الكتاب متصفا بهذه الصفات الحميدة كان له الأجر العظيم المحفوظ عند ربهم الذي يرعى شؤونهم و مصالحهم، و من تخلف كان

ص: 212

اللّه سريع الحساب فهو الذي يعلم الأسرار و من هو مطيع خاشع له تعالى و غيره، و يعلم خصوصيات الثواب و العقاب.

بحث روائي

روى الواقدي في أسباب النزول في قوله تعالى: «لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ» انهم كانوا في رجاء و لين من العيش و كانوا يتجرون و يتنعمون فقال بعض المؤمنين: ان اعداء اللّه تعالى في ما نرى من الخير و قد هلكنا من الجوع و الجهد فنزلت هذه الآية».

أقول: روي غير ذلك في شأن نزول الآية الشريفة و على فرض اعتبارها تكون من باب التطبيق لا التخصيص.

و في الدر المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اَللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ » ان الآية «نزلت في النجاشي و نفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و هو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين انه يصلي على من ليس في دينه فانزل اللّه تعالى: «وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ الآية -».

و قيل انها نزلت في أربعين رجلا من اهل نجران من بني الحارث ابن كعب إثنين و ثلاثين من ارض الحبشة و ثمانية من الروم كانوا جميعا على دين عيسى (عليه السلام) فآمنوا بالنبي (صلى اللّه عليه و آله).

ص: 213

أقول: انها على فرض اعتبارها من باب التطبيق أيضا.

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الآية الشر.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الآية الشريفة خاتمة لجميع الوصايا و الكلمات و الحقائق التي تضمنتها هذه السورة و هي تدعو الى المحافظة عليها و مراعاتها و هي مع ايجازها تشمل على أهم الوصايا و الكمالات الانسانية و هي الصبر و المصابرة و المرابطة في سبيل اللّه تعالى في إقامة جميع احكام اللّه تعالى و التقوى فان ذلك يعد الإنسان اعدادا علميا و عمليا لنيل الفلاح و السعادة في الدارين.

و هذه الآية المباركة خلاصة ما ورد في هذه السورة العظيمة تبين السر في النجاح و الفلاح فهي أعظم آية وردت لبيان نظامي التكوين و التشريع.

و قد بدأت هذه السورة بالتوحيد و ذكر فيها آية الاصطفاء و ختم سبحانه و تعالى السورة بهذه الآية المباركة للاعلام بأن الاصطفاء لا يتحقق الا بالصبر و المصابرة و المرابطة و ان المرابطة لا يمكن الا بالتوحيد الخالص.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا .

أمر بأهم ما يعتمد عليه المؤمن عند طاعته لربه و إرشاد الى أهم الأسس في نجاح الإنسان في كفاحه و عيشه في حياته و بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية من ان كل فلاح و سعادة سواء في الدنيا أم في الآخرة إنما تعتمد على الصبر و المصابرة.

ص: 214

ثم إن الصبر فضيلة سامية، و خصلة حميدة، و خلق كريم، بل هو أم الفضائل و لا يستقيم سائرها الا به، فله منزلة عالية و مقام رفيع بينها، و قدم في قوله تعالى: «وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ » البقرة - 45 ما يتعلق به فراجع.

و انما اطلق سبحانه الأمر ليشمل جميع أقسام الصبر و هي الصبر على الشدائد، و الصبر على طاعة اللّه تعالى، و الصبر عن المعصية» و لبيان ان موضوع الصبر يرجع تحديده الى المؤمنين فالصبر انما يكون على ما يحمد عليه الصبر و في ما يحمد مطلقا، و الأمر بالصبر لأجل ان جميع ما ورد في هذه السورة من الحقائق و الكمالات و الدروس و العبر لا يمكن تحصيلها الا بالصبر و لذا قدمه عز و جل في الآية الشريفة على غيره.

قوله تعالى: وَ صابِرُوا .

المصابرة من باب المفاعلة و هي المغالبة في الصبر، و يلزم ذلك مقابلة الصبر بالصبر و تضاعف تأثيره و تقوى الحال به. و انما يظهر هذه الخصلة الحميدة في الجماعة في حال الاجتماع و التعاون.

و المستفاد من الآية الشريفة أن الاول كان بلحاظ حال الانفراد، و الثاني انما هو بلحاظ حال الجمع و الاجتماع، و الأمر بالمصابرة لأجل وقوف الجماعة امام المشاكل الاجتماعية و التعاون في حلها و تحمل الأذى في إعلاء كلمة الحق و اقامة احكام اللّه تعالى. و المصابرة في ميدان القتال مقابلة الأعداء الذين يريدون اطفاء نور اللّه تعالى و خذلان الحق و الغلبة على المؤمنين.

ص: 215

قوله تعالى: وَ رابِطُوا .

المرابطة الملازمة و الثبات و المواظبة اي: واظبوا على تكميل انفسكم بالكمالات الواقعية، و اثبتوا في تنفيذ احكام اللّه تعالى، و لازموا الحق في جميع حالاتكم في الشدة و الرخاء.

و هذه الخصلة الحميدة تبين كيفية استمرار السعادة و تثبيتها بعد اصل ثبوتها فإنها لا تحصل إلا بالمرابطة. و الأمر ايضا مطلق ليشمل جميع أنحاء المرابطة و منها المرابطة في سبيل اللّه تعالى في ثغور الإسلام و مباراة الأعداء و الترصد للغزو.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

اشارة الى ان كل ذلك إنما تحصل بالتقوى المنبث على جميع ذلك بحسب الحالات و الظروف و الخصوصيات، فالتقوى قوام الصبر و المصابرة و المرابطة و ان السعادة الحقيقة لا تحصل الا بها.

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

اي ان جميع ذلك من اسباب الفلاح بل لا فلاح إلاّ بذلك.

و انما ذكر «لعل» بداعي الترغيب الى ذلك بحسب أذهان المخاطبين.

بحث روائي

في الكافي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل «اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا» قال (عليه السلام): «اصبروا على

ص: 216

الفرائض و صابروا على المصائب و رابطوا على الائمة».

أقول: الروايات في هذا المضمون كثيرة من الفريقين، و قد ذكرنا معنى المرابطة و هي الالتزام بما يشرحون به كتاب اللّه تعالى مطلقا.

و في الغنية عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا» قال: «اصبروا على أداء الفرائض و صابروا عدوكم و رابطوا إمامكم المنتظر».

أقول: هذا من أحد المصاديق لمعنى المرابطة و الا فكل من دعا الى الحق في الحق لا بد من المرابطة معه في اي زمان كان.

و في المعاني عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا» قال (ع): «اصبروا على المصائب، و صابروهم على الفتنة، و رابطوا على من تقتدون به».

أقول: المراد من المصابرة على الفتنة التقية مع الأعداء و اجتناب مضلات الفتن.

و في تفسير القمي عن الرضا (عليه السلام): «إذا كان يوم القيامة ينادي مناد أين الصابرون ؟ فيقوم فئام - جماعة - من الناس ثم ينادي أين المتصبرون فيقوم فئام من الناس. قلت: جعلت فداك و ما الصابرون ؟ قال (ع): على أداء الفرائض و المتصبرون على اجتناب المحارم».

أقول: هذا الحديث قرينة على أن المراد من الفتنة في الحديث السابق المحارم و كل ما يسخط اللّه تعالى.

و في المجمع عن علي (عليه السلام): «رابطوا الصلوات اي انتظروها لان المرابطة لم تكن حينئذ».

أقول: الحديث يفسر المعنى الأعم من المرابطة الخاصة.

ص: 217

و في الدر المنثور أخرج ابن جرير و ابن حيان عن جابر بن عبد اللّه قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ألا أدلكم على على ما يمحو اللّه به الخطايا، و يكفر به الذنوب قلنا بلى يا رسول اللّه قال:

إسباغ الوضوء مع المكاره، و كثرة الخطا إلى المساجد، و انتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط».

أقول: الحديث كسابقه يبين المعنى العام للمرابطة.

بحث قرآني
اشارة

المرابطة: من أهم الموضوعات في الإسلام و هي تؤمن بقاء الشريعة و الحفاظ عليها بعد حدوثها، و تحدد المسؤولية الاجتماعية و الفردية اتجاه الحق و احكام اللّه تعالى، و لا بد من بيان معنى المرابطة في الإسلام و حدودها و آثارها في المجتمع الاسلامي اجمالا.

معنى المرابطة:

المرابطة المأمور بها في الكتاب و السنة: هي الالتزام العملي بالحفاظ على الشريعة و دوام العمل بها و تحديد مسؤولية كل فرد بالنسبة إلى الاجتماع و هي التي تقوي الروابط بين الفرد و المجتمع و توجب اشتراك كل واحد منهما في الهدف و سائر الشؤون و الخصوصيات، و لذا نرى ان الإسلام يهتم بالمجتمع كاهتمامه بالفرد فهما في نظره على حد سواء

ص: 218

من الأهمية. و يعتبر أحدهما مكملا للآخر فلا يمكن استغناء أحدهما عن الآخر و ان كليهما ينشدان الكمال المشترك بينهما و هي السعادة الحقيقية و القرب الى اللّه تعالى و الحظوة لديه، و المرابطة من أهم الأسباب التي تؤمن هذه السعادة و الغرض، فهي روح المجتمع الاسلامي و بدونها يتبعد الفرد و الاجتماع عن الصراط المستقيم.

اهمية المرابطة:

المرابطة بمعناها العام من الأمور النظامية الاجتماعية بين افراد الإنسان و بدونها يختل النظام و لا يمكن تحصيل السعادة و الفلاح و هي المراد من قول قدماء الفلاسفة: ان الإنسان مدني بالطبع بحسب التعاون و التعاضد و يسعى الى الكمال، فهي المدينة الفاضلة - كما عبر بها بعض الفلاسفة - التي اهتم بها الإنسان من بدء الخليقة و قد دعت الكتب السماوية و الشرائع الإلهية إلى المرابطة و اهتمت بها من جهات شتّى و بينت جميع خصوصياتها، و قد تكفلت الشريعة المقدسة الاسلامية شرح المرابطة و بيان مقوماتها و خصوصياتها المطلوبة و ان القرآن الكريم و السنة الشريفة مشحونان بذلك.

متعلق المرابطة:

ذكرنا ان المرابطة من أهم الواجبات النظامية بل لا يتحقق النظام إلا بالمرابطة و لا يظهر أثرها إلا في المجتمع فهي من أهم الأمور

ص: 219

التكوينية في الاجتماع فلا اجتماع إلا بالمرابطة، و لا مرابطة إلا فيه فهما متلازمان حدوثا و بقاءا و ارتفاعا، و قد تقدم ان الإسلام يهتم بالمجتمع، كما يهتم بالفرد و يعتبر أحدهما مكملا للآخر، و يدل على ذلك القرآن الكريم و السنة المقدسة، و شواهد من الادلة العقلية قال تعالى: «وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » آل عمران - 103، و قال تعالى: «إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ » الحجرات - 10 إلى غير ذلك من الآيات التي تأمر ببناء المجتمع الاسلامي على الاتحاد و التعاون و التكافل و تأمر بالاهتمام بإتيان الاحكام الإلهية و مراعاة الشريعة فان في ذلك الصلاح و الفلاح، قال تعالى: «وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ » الأعراف - 96 و هو يدل على ان سعادة العيش انما تكون بالاجتماع دون الانفراد.

ما فيه المرابطة:

المرابطة انما تكون في ما فيه الخير و الصلاح للأمة و الإفراد و ما يجلب السعادة لهما فتشمل المرابطة جميع جوانب الحياة و ما يتعلق بالدنيا و الآخرة، فتكون المرابطة في ما يتعلق بالفرد مع خالقه فتشمل العبادات كالصلاة و الصيام و غيرهما كما تشمل المعاملات بين الإفراد و العلاقات الفردية و احكام الزواج و غير ذلك فان جميع ذلك انما أنزلها اللّه تعالى

ص: 220

لصالح الإنسان و هدايته إلى الكمال الذي أعده اللّه تعالى له.

منهج المرابطة:

بعد ما عرفت ان المرابطة انما تكون في الاحكام الإلهية و المعارف الربوبية و الشريعة المقدسة فلا بد و أن يكون منهج المرابطة مستندا إلى وحي مبين يتعلق بما فيه سعادة الناس و نجاحهم في الدنيا و الآخرة و يعلم جميع جهات الصلاح فيأمر بها و جميع جوانب الفساد فينهى عنها و الا فمع التخلف يكون خطأ محضا بل فيه الإثم و العصيان من كل جهة لفرض ان الموضوع امر اجتماعي و لا تثمر المرابطة في غير ذلك الثمرة المطلوبة منها.

و من ذلك يعلم ان مأخذ المرابطة لا بد ان يكون الثقل الأكبر اي كتاب اللّه تعالى و الثقل الأصغر اي العترة الشارحة للكتاب و إلى ذلك يشير الحديث المعروف بين المسلمين «إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللّه و عترتي اهل بيتي فإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» - و ان من يقوم به المرابطة انما هو اللّه تعالى المطلع على الغيب و العالم بجميع الجزئيات و لا يمكن ان يكون نفس المجتمع كل فرد بحسب شخصه و ذاته، أو نفس المجتمع لا بحسب الإفراد بل فردا معينا باعتباره وكيلا عن جميع الإفراد، لان بطلان الأخير واضح لفرض عدم إحاطة ذلك الفرد بجميع الأمور، و لا الإفراد الذين يوكلونه في ذلك. و أما بطلان الاول فلاختلاف آراء الإفراد، كما هو معلوم، فتكون المرابطة أقرب إلى الفساد منه إلى الصلاح.

ص: 221

و ما عن بعض المفسرين من أن الخطابات القرآنية موجهة إلى الإفراد فيكون ذلك حقا لهم. مردود لان تعلق الخطاب بالجماعة انما هو لأجل ان القوانين المجعولة خطابات موجهة إلى الجماعة في مرحلة الجعل و التشريع، فما ذكره مغالطة بين إنشاء القانون و بين من يتصدى لجعل نفس القانون و لا ربط لأحدهما بالآخر. نعم في القوانين الجعلية القابلة للحل و النقض و الإبرام يمكن ان يتجه ما ذكره كما نشاهد ذلك في القوانين الوضعية حيث تجتمع أفراد المجتمع على انتخاب أفراد معينين أو تجتمع الرعية على نصب فرد رئيسا لهم و في كلتا الصورتين يحق لكل واحد منهما جعل القوانين، و لكن ذلك خارج عن بحثنا فان كلامنا في القوانين الإلهية و المرابطة فيها.

إن قلت: ان اجتماع الامة على جعل الرئيس و إعطاء الصلاحية له في جعل القوانين يكون بشروط خاصة، فإذا تخلّف أحدها ينعزل بنفسه بلا احتياج إلى عزل، كما هو المشهور بين الفقهاء من انه إذا اختلت عدالة الحاكم الشرعي ينعزل بنفسه.

قلت: اطلاق قوله تعالى: «وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً» الأحزاب - 36 و كذا قوله تعالى:

«وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ سُبْحانَ اَللّهِ وَ تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ » القصص - 68 ينفي ذلك و هو يدل على ان نصب الحاكم انما يكون منحصرا في النصب الالهي، و يدل على ذلك ما ذكره الفقهاء في الحاكم الشرعي المنصوب من قبل الشرع مثل قولهم (عليهم السلام): «فاني جعلته حاكما» فلو فقد بعض الشروط منه يزول

ص: 222

الموضوع فيزول الحكم لا محالة و اما في غيره فمقتضى الأصل عدم حجية قوله و فعله و آرائه و تفصيل الكلام يطلب من موضعه راجع (مهذب الاحكام) كتاب القضاء هذا موجز ما أردنا ذكره في المرابطة.

ص: 223

(4) سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَل.......

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) هذه السورة من جلائل السور التي تضمنت الاحكام الإلهية التي نزلت لصالح الناس و جلب سعادتهم في الدنيا و الآخرة فقد اشتملت على معظم احكام الأحوال الشخصية و الاحكام الاجتماعية الجارية على حقيقة العدل و ناموس الفطرة و مراعاة الحقوق كالزواج و علاقات افراد الاسرة، و امور اليتامى و احكام المواريث، و جملة من احكام المعاملات كالتجارة و نحوها، و تعرضت لبعض العبادات كالصلاة و الجهاد و غيرهما و حثت على التضامن و التكافل و التراحم، كما ذكر فيها بعض الأمور العامة كالشهادات و احوال اهل الكتاب. و لما كانت الغاية القصوى من تلك الاحكام هي حصول ملكة التقوى في كل نفس و استقامتها في الخفاء و الظاهر و هي أساس كل كمال إنساني و لا يمكن تحصيل السعادة بدونها فلأجل ذلك كله امر اللّه تعالى بها و قدمها على سائر الأمور و ابتدأ بها في هذه السورة كما اختتم بها في السورة السابقة.

ص: 224

ثم ان الحكمة الربانية اقتضت ترويض النفوس التي اعتادت الباطل و استحكم فيها الجور و التعسف على قبول تلك الاحكام الإلهية و إجرائها على الحقيقة، فقد اقترنت تلك الآيات بالتذكير و الموعظة و الإرشاد الى جلال اللّه و عظمته و قدرته و علمه و اطلاعه على خفايا الأمور و مراقبته لاعمال الناس.

و أسلوب هذه السورة و مضامينها تشهدان على انها مدنية نزلت نجوما حسب مقتضيات الظروف و الحاجة و تحتوي على موضوعات متعددة كما عرفت تجمعها رابطة واحدة و هي تهذيب النفس، و التخلق بأخلاق اللّه تعالى، و تثبيت العقيدة و تطبيقها في العمل و معرفة امور الدين و أحكامه.

و ابتدأت هذه السورة بخلق الإنسان و الإعلان بانه خلق من نفس واحدة تحريضا للتعاون و الايتلاف و نبذ الاختلاف و توطئة لما سيذكره عز و جل من الاحكام كالزواج و احوال اليتامى و المواريث و علاقات الاسرة و المجتمع و أكد سبحانه على ملازمة التقوى لأنها روح تلك الاحكام و الغاية منها.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ .

الآية الشريفة باسلوبها الجذاب تحتوي على رموز و بدائع أهليّتها ان تكون مفتتح هذه السورة.

منها: الاقتران بين العلة المادية و الغائية و تقديم الأخيرة على الاولى

ص: 225

في الذكر لأهمّيّتها و هي التقوى لان خلق الإنسان و إنزال الكتب و الاحكام الإلهية لم تكونا إلا لها و لأجلها، و لأنها هي الأساس الذي يجب ان يقوم عليه كل علاقة سواء بين افراد الاسرة أو بين الزوجين أو بين جميع افراد المجتمع. ثم ذكر تعالى العلة المادية و هي خلق الإنسان من نفس واحدة، فإنها صارت لجمع افراد الإنسان و دخولهم في نفس واحدة فكأنهم بجميع اشتاتهم أعضاء نفس واحدة تتحكم فيهم روابط قويمة متكاملة.

و منها: انها تشير إلى الموضوع الرئيسي في هذه السورة و هو العلاقة الزوجية و علاقات الاسرة و المجتمع، فكانت توطئة لجميع تلك الاحكام التي وردت في هذه السورة فقد ذكر فيها النفس الواحدة التي وردت في هذه السورة فقد ذكر فيها النفس الواحدة التي خلقت منها زوجها. و ذكر الرجال و النساء و الأطفال، و أخيرا الأرحام التي تنشأ من التزاوج بين الرجال و النساء.

و منها: الإشارة إلى اصل الإنسان و الأسس الثابتة التي يرتكز عليها عيشه في هذه الحياة و انه لا يخرج عن ذلك الأصل القويم مهما طال الزمن و تغيرت الحياة و بذلك تبطل نظرية التطور التي لا تجعل للحياة أساسا و قواعد ثابتة فهي تسير في اتجاهات متعددة لا يتحكم فيها ضوابط خاصة بل يحكم عليها التغير و التطور و سيأتي في البحث العلمي ما يتعلق بذلك ان شاء اللّه تعالى.

و منها: الدلالة على ان للإنسان ربا يحوطه بالتربية و العناية، و ان من رحمته بهم ان هداهم إلى ما هو الأصلح لهم الذي فيه كمالهم و ارشدهم إلى ما يجلب سعادتهم في الدارين.

و الخطاب ب (يا ايها الناس) عام إلى كل فرد من افراد البشر

ص: 226

و ليس للمؤمنين وحدهم كما ذكره بعض المفسرين و ذلك لان الخطابات الواقعية لا تختص بطائفة خاصة، و إذا ورد خطاب يتعلق بالمؤمنين خاصة فلأجل انهم اشرف الإفراد، كما ان دين الإسلام دين الانسانية و ان الرسول (صلى اللّه عليه و آله) داع الهي مرسل إلى نوع الإنسان بلا استثناء، و للاشارة إلى ان القضايا التي وردت في هذه السورة هي قضايا فطرية تشمل جميع افراد البشر، و نزلت لسعادتهم فلا تخص مجتمعا معينا، و ان الخروج عنها خروج عن الصراط السوي و النهج المستقيم.

و الناس: اسم لجنس البشر و هو اسم جمع للإنسان يشمل الذكور و الإناث على حد سواء و قيل ان أصله (أناس) فحذفت الهمزة عند دخول الالف و اللام عليه، و هو يفيد العموم و هذه قرينة اخرى على تعميم الخطاب.

و المعروف ان خطاب «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ » * لأهل مكة و قد ورد في السور المكية، و خطاب «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا» * لأهل المدينة كما ورد في السور المدنية. و لكن ذكرنا في احد مباحثنا السابقة ان ذلك مردود لان الخطابات القرآنية خطابات واقعية تشمل جميع افراد الناس، و خطاب المؤمنين انما هو باعتبار انهم اشرف الإفراد، مضافا إلى انه قد ورد كثيرا خطاب «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ » * في السور المدنية منها المقام كما ورد الخطاب الثاني في السور المكية.

قوله تعالى: اِتَّقُوا رَبَّكُمُ .

امر بتحصيل ملكة التقوى التي هي القضية الاولى في القرآن الكريم و الأصل الثابت الذي لا يقبل التغيير و التبديل و قد حكم بها عز و جل على جميع افراد البشر من لدن آدم (عليه السلام) إلى انقراض العالم

ص: 227

و قد تقدم الكلام في معنى التقوى مكررا.

و انما خص عز و جل اسم الرب بالذكر لتذكيرهم بانه خالقهم و يدبر أمورهم و يرعى مصالحهم، فلا بد ان يتقوه.

قوله تعالى: اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ .

هذه الآية الشريفة على ايجازها البليغ تتضمن وجوها من الحكم التي لها دخل في تشريع الاحكام و ما اشتملت عليه هذه السورة الكريمة.

الاول: الآية الشريفة تدل على ان للإنسان خالقا قديرا عليما حكيما، فان الخلق يقتضي ذلك كله فهو الذي خلقهم و يرعى مصالحهم و يرشدهم إلى الكمال فلم يكن خلق الإنسان وليد الصدفة من غير سبق تقدير، أو يكون خلقه ناشئا من التفاعل في الطبيعة كما يقول به بعض الفلاسفة الطبيعيون حيث ذكروا ان الطبيعة تخلق كل شيء و لا حد لقدرتها. و بطلان ذلك أوضح من ان يخفى فان الطبيعة العمياء التي لا عقل لها و لا فكر كيف يمكنها ان يخلق هذه المخلوق العجيب و هو الإنسان المفكر العاقل الدارك، و قد أكد سبحانه و تعالى في مواضع متعددة من القرآن الكريم ان خالق الإنسان هو اللّه تعالى و بين كيفية خلقه و نفى جميع المحتملات عنه قال تعالى: «أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ اَلْخالِقُونَ » الطور - 35.

و يستفاد من قوله تعالى: «اَلَّذِي خَلَقَكُمْ » انه تعالى هو الذي خلقهم و الخلق يقتضي الحياة و القدرة و العلم كما تضمن الرب الحكمة و القيمومية و الرحمة فكان الخالق مستجمعا لجميع صفات الكمال.

الثاني: ان الآية المباركة تدل على ان الإنسان خلق من نفس واحدة؛ و هي المادة الاولى لجميع افراد الناس و هذه قضية ثابتة اتفقت

ص: 228

عليها جميع الأديان السماوية و أثبتت بالأدلة القطعية فيكون للإنسان اصل واحد و هو الحقيقة الانسانية يتحد فيها جميع الإفراد و كل السلالات و الأقوام و المجتمعات بلا تفاوت بينها فهم كأعضاء نفس واحدة متفقون في الفطرة، و مشتركون في القيم و السير التكاملي، و بذلك ينفي نظرية التطور التي نادى بها بعض الفلاسفة الطبيعيون، فالإنسان نسيج وحده و هو اصل منفرد قد خلقه اللّه تعالى ابتداء و مباشرة بنفسه الأقدس و بيّن عز و جل كيفية خلقه في عدة مواضع من القرآن الكريم قال تعالى:

«وَ بَدَأَ خَلْقَ اَلْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ » السجدة - 8 و قال تعالى: «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » ص - 71 و يأتي في البحث العلمي تفصيل ذلك.

و الآية الشريفة قد جعل فيها الأمر التكويني محور التشريعات السماوية و ان جميع الاحكام الإلهية تدور على هذا الأصل و هو الاتفاق في اصل الحقيقة و ان البشر لهم وحدة نوعية منبثقة من نفس واحدة يستوي فيها الرجل و المرأة الصغير و الكبير و الضعيف و القوي و غيرها و لأجل ذلك كان الخطاب موجها لجميع الناس دون المؤمنين خاصة.

الثالث: الآية المباركة تتضمن العلة التي أوجبت الأمر بالتقوى و إنزال الاحكام الإلهية و هي تهذيب الناس و تكميلهم اي ان الذي خلق الإنسان و رباه و أنعم عليه بأنواع النعم الظاهرية و الباطنية، و تكفل امره بالتربية و التكميل لجدير بأن يتقى و يطاع و لا يخالف له امر.

و من ذلك يظهر السر في تعليق التقوى بربهم دون غيره من أسمائه المقدسة فان هذا الوصف يعم جميع الناس من غير اختصاص بطائفة خاصة.

ثم ان المراد بالنفس هي تلك الحقيقة التي يمتاز بها الإنسان عن غيره و ما به يكون الإنسان إنسانا و هو الذي تعلق به الخلق كما ان

ص: 229

المراد بالوحدة الوحدة الفردية الشخصية و هي آدم (عليه السلام) أبو البشر الذي ورد اسمه و كيفية خلقه في القرآن الكريم مكررا، لا الوحدة النوعية كما ذكرها بعض المفسرين لكونها خلاف ظواهر الآيات الكريمة و السنة المقدسة الشارحة لها، و حينئذ لا بد ان يراد بالخلق في قوله تعالى: «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» الخلق التقديري لا الفعلي من كل جهة لفرض كون الخلق قبل خلق الروح، فيصير المعنى انكم تنتهون إلى نفس واحدة كانتهاء الصور الكثيرة إلى المادة الأولية و الهيولى الاولى. و في ذلك الامتنان و التذكير بالقدرة، و نوع استعطاف للناس بعضهم على بعض بما بينهم من النسب و الرحم، و وجوب قيام العلاقات بينهم.

و انما لم يقل تبارك و تعالى من أب واحد لفرض عدم تحقق الأبوة بعد مضافا إلى ان الآية المباركة في مقام بيان اتحاد افراد الإنسان في الحقيقة و انهم تشعبوا من اصل واحد، و هناك اقوال اخرى في تفسير هذه الآية الشريفة بعيدة عن الصواب، بل بعضها لا يليق بكرامة القرآن الكريم و لذلك أعرضنا عنها.

قوله تعالى: وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها .

الزوج اسم لكل واحد من القرينين سواء كانا من الحيوانات المتزاوجة، أو ما يقترن بآخر مماثلا أو مضادا. و المراد بها هنا.

اي: و خلق من تلك النفس الواحدة زوجها و هي منشأها فتفيدانها من نوع تلك النفس الواحدة و جنسها و ان الزوجين متماثلان في اصل الانسانية و قيمها و متحدان في العبودية للّه تعالى و جميع الاحكام إلا ما يختص طبع كل جنس ببعض الحقوق و الواجبات.

و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» الزمر - 6 و على هذا لا فرق بين ان يكون (من) نشوية أو تبعيضية فان كل واحدة منهما ترجع إلى الأخرى.

ص: 230

و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» الزمر - 6 و على هذا لا فرق بين ان يكون (من) نشوية أو تبعيضية فان كل واحدة منهما ترجع إلى الأخرى.

ثم إن خلق الزوج من النفس الواحدة يحتمل وجوها: الاول ان يكون خلق الزوج بعد تمامية خلق آدم (عليه السلام) و تعلق الروح به بأن يكون قد انفصل جزء من الحي فصار إنسانا آخر.

الثاني: ان يكون الخلق بمعني التقدير بأن يكون المعنى: خلق من نوعها و على طبعها زوجها و لو بعد حين فلا يكون انفصالا.

الثالث: انها خلقت من الطينة الزائدة التي خلق منها آدم (عليه السلام) قبل تعلق الروح بهما فيكون آدم (عليه السلام) و حواء موجودين مختلفين و لكنهما متحدان في اصل الطينة.

و الأولان لا وجه لهما كما يأتي فيتعين الأخير، و يشهد لذلك امور:

منها: تكرار كلمة الخلق في الآية المباركة «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» و هو يدل على تفاوت الخلقين.

و منها. التراخي في قوله تعالى في سورة الزمر: «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها» - 6.

و منها: الأحاديث الكثيرة المعتبرة التي تنص على ان حواء (عليها السلام) خلقت من فاضل طينة آدم (عليه السلام) و اما ما نقل من ان حواء خلقت من الضلع الأيسر من آدم (عليه السلام) فهو مما لا دليل له يصح الاعتماد عليه اللهم إلا ان يراد من ذلك ان الطينة الفاضلة من خلق آدم (عليه السلام) لو جعلت في بدن آدم (عليه السلام) لكان موضعها الضلع الأيسر.

و مما ذكرنا يظهر ان هذه الآية الكريمة لا ربط لها بالآيات الكثيرة التي تدل على كون الزوج من انفسكم لإثارة المودة و المحبة قال تعالى:

ص: 231

«وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً » الروم - 21 و غيرها من الآيات الشريفة فان ذكر «انفسكم» فيها لبيان التماثل و إثارة المحبة و الرأفة نظير قوله تعالى:

«لَقَدْ مَنَّ اَللّهُ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ » آل عمران - 164 فيكون المراد من النفس السنخية النوعية لا الانفصال الحقيقي من النفس.

قوله تعالى: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً .

البث هو النشر و التفرق بالإثارة و السعة قال تعالى: «وَ أَلْقى فِي اَلْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ » لقمان - 10 و قال تعالى في وصف الناس في يوم الحشر انهم «كَالْفَراشِ اَلْمَبْثُوثِ » القارعة - 4 و قال تعالى حكاية عن يعقوب: «إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اَللّهِ » يوسف 86 فان الحزن بنفسه مبثوث يظهره الإنسان عند القادر على كشفه و رفعه.

و انما قدم الرجال على النساء لتقدمهم عليهن في الكتاب و السنة قال تعالى: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ » النساء - 34 بل في التكوين أيضا لأنهم الأصل في نشو الإنسان و ان كانت النساء لهن الدخل الكبير فيه.

و توصيف الرجال بالكثرة ليس من باب الخصوصية و الاحتراز بل الوصف لهما و لكن حذف الوصف من النساء لدلالة الاول عليه.

و المعنى: اتقوا ربكم الذي نشر النسل الانساني بكثرة من آدم و زوجته.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ .

أمر آخر بالتقوى و في تكرارها دلالة على الحث عليها. و المراد بالتساؤل سؤال الناس به بعضهم بعضا - و الإقسام - باللّه تعالى في مهمات

ص: 232

الأمور كما يقال: باللّه اسألك ان تفعل كذا و كذا. و هذا يقتضي الاتقاء من مخالفة أوامره و نواهيه لما في المسئول به من العظمة و الجلال و الكبرياء و العزة ما ليس في غيره حتى عند المشركين و الكفار و لذا يقسم و يتساءل به.

و انما خص التساؤل به تعالى لعموم جريانه في المجتمع و ان المسئول به كامل من جميع الجهات و من هو كذلك يستحق التقوى عن مخالفة أوامره و نواهيه.

و الأرحام جمع رحم و هو مستودع الجنين في المرأة و محل نمو النطفة قال تعالى: «هُوَ اَلَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي اَلْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ » آل عمران - 6 و اطلق على من يمس الإنسان بالقرابة لانتهائه و مآله الى رحم واحد و انها عطف على لفظ الجلالة.

و المعنى: اتقوا مخالفة أوامر اللّه الذي له من العظمة و الجلال و العزة على حد تتساءلون به و اتقوا قطيعة الأرحام و ظلمها.

و الآية المباركة تدل على عظمة صلة الرحم و حقها و رفع شأنها على حد قارن تقوى الأرحام بتقوى نفسه فكما ان للّه تعالى حقوقا لا بد من مراعاتها كذلك للرحم حقوق لا بد من مراعاتها قال تعالى:

«أَنِ اُشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ اَلْمَصِيرُ» لقمان - 14 و قال تعالى: «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ » محمد - 22.

و قيل ان الأرحام معطوف على محل الضمير في قوله تعالى «بِهِ » فهي مجرور فيكون المعنى و اتقوا اللّه الذي تتساءلون به و بالأرحام كما كان شايعا عند الناس بقولهم «باللّه أسألك و بالرحم ان تفعل كذا و كذا».

و لكن سياق الآية الشريفة يأبى ذلك لأنها في مقام رفع شأن صلة الأرحام و مقارنتها بشأن نفسه تعالى مع ان ذلك مخالف للقواعد

ص: 233

المرعية في الأدب لأنه يقتضي عطف المظهر على المضمر المجرور و هو بغير اعادة الجار لا يجوز لأنه بمنزلة الحرف و لا يجوز العطف عليه عند الأكثر. و على اي حال فالآية الكريمة تدل على عظمة مقام الرحم سواء كان معطوفا على اسم الجلالة أو على الضمير و ان كان المتعين هو الاول.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً .

الجملة في موضع التعليل للأمر بالتقوى و هي تتضمن التهديد و التوعيد لمن تمرد و عصى و خالف.

و الرقيب: هو المتفوق المطلع على الأعمال و الحركات عن كتب و عناية بخلاف الحارس.

و الإتيان بلفظ الجلالة بعد ذكر الرب في الآية الشريفة للدلالة على القدرة الكاملة و للتحذير و التهديد عن المخالفة لأنها توجب التفرق في الوحدة الاجتماعية الانسانية و بث الفساد فيها و هدم كيانها فالمخالفة عظيمة تستلزم غاية التحذير و كمال التهديد.

و المعنى: اتقوا اللّه الذي تعظمونه و تهيبونه فانه القادر الذي لا يخفى عليه شيء و لا يفوته و يحاسبكم و يجازيكم في امر الأرحام.

بحوث المقام
بحث ادبي:

الناس: في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ » اسم جمع للإنسان كما مر و هو

ص: 234

يشمل كل بشر على الأرض و اللام فيه لام التعريف يفيد العموم و الاستغراق.

و التنكير في قوله تعالى: «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » لأجل تعظيم الأمر و تجليل مقام آدم أبي البشر (عليه السلام) و التقييد بواحدة للاحتراز.

و الزوج يطلق على كل واحد من القرينين كما تقدم و ان قال الراغب أن اطلاق الزوجة عليه رديّ .

و كثيرا في قوله تعالى: «رِجالاً كَثِيراً» صفة تؤكد لما يتضمنه التكثير من العدد أو غيره في الموصوف و قيل انه نعت لمحذوف اي بثا كثيرا.

و تسائلون أصله تتساءلون حذف احدى التائين للتخفيف و هذا مطرد عند العرب و هو من باب التفاعل و يرد بمعنى الفعل إذا تعدد فاعله و انه منسلخ عن التقوم بالطرفين لو اعتبرنا ذلك في باب المفاعلة مع ان هذه الدعوى أيضا لا دليل عليها كما تقدم في احد مباحثنا السابقة.

و خلق منها زوجها: إما عطف على محذوف اي خلقكم من نفس واحدة انشأها من تراب و خلق منها زوجها و انما حذف لدلالة المعنى عليه و إما عطف على الخلق و على اي منهما يكون المعنى واحدا.

و إتيان الفعل ماضيا في قوله تعالى «إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» للتأكيد و الاستمرار الدائمي في المراقبة.

بحث دلالي
تدل الآية الشريفة على امور:
الاول:

تعليل الأمر بالتقوى بكونه تعالى خالقا لهم يدل على

ص: 235

مطلوبية التقوى من جميع الناس لان العلة إذا كانت عامة فالحكم يكون كذلك لأنه يدور مدارها.

الثاني:

التعبير بالرب في قوله تعالى: «اِتَّقُوا رَبَّكُمُ » للدلالة على تربيته للعباد و الإحسان إليهم و انه خالقهم و مالك أمورهم و الرءوف بهم و المنفق عليهم و من كان كذلك يجب الاتقاء منه كما تقدم؛ فالامر الاول بالتقوى للترغيب كما يدل عليه لفظ الرب و الأمر الثاني بها للترهيب كما يدل عليه لفظ الجلالة.

الثالث:

تقديم خلق الناس على خلق الزوجة للدلالة على اظهار القدرة و العظمة و انه تعالى هو المنظم للخليقة و تفخيما لشأن أدم (ع) و انه الأصل في انحدار النسل منه.

الرابع:

التقييد بالوحدة في قوله تعالى: «مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » للدلالة على أمرين:

الاول: ان خلق جميع الذرية و بثها لا يكون عند اللّه تعالى الا كخلق نفس واحدة كما يدل عليه قوله تعالى: «ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ » لقمان - 28، فيصح ان يراد من البث البث الدنيوي و البث الاخروي و هو الحشر و المعاد فهما متلازمان.

الثاني: ان المراد بالوحدة هي الشخصية الفردية فيصير المقام من الكثرة في الوحدة التي أثبتها الفلاسفة بقسميهم و قوله تعالى: «وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً » من الوحدة في الكثرة التي أثبتها الفلاسفة بقسميهم ايضا فيكون بث الوحدة في الكثرة و انطماس الكثرة في الوحدة نظير اتحاد الهيولى الاولى مع الصور الكثيرة غير المتناهية و اتحاد الوجود المطلق في الإفراد الشخصية الفردية، فتدل الآية الشريفة على الوحدة الاعتبارية بل الحقيقية في أدم (عليه السلام) و نسله من أول هبوطه

ص: 236

إلى آخر فنائه، فكما ان الجميع نوع واحد حقيقة فهذا النوع الواحد.

له افراد يكون بمنزلة الأعضاء للبعض الآخر فلا بد بينهم من الترابط و العناية الخاصة في جميع شئون الآدمية الحقيقية.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» لطيفة خاصة و هي ان الزوجة بمنزلة الجزء من الزوج فيحن الجزء الى الكل و يتقوم الكل بالجزء فالكل بدون الجزء ناقص و الجزء بدون الكل لا حيثية له فما أعلى شأن الزوجة في نظام التكوين.

السادس:

يصح ان يراد من الرجال و النساء في قوله تعالى:

«رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً » ذرية خاصة من نسل آدم (عليه السلام) و هم - الذين ناسبوا مقام ابوة أدم (عليه السلام) الذي هو مسجود الاملاك - يعني الأنبياء و الذين تابعوهم من الصالحين و الصالحات و يشهد لذلك ذكر التقوى في صدر الآية الشريفة، فيكون المراد من البث البث الظاهري و المعنوي و هم كثيرون في أنفسهم و ان كانوا قليلين بالنسبة إلى اصل الذرية و هم الذين حازوا مقام الانسانية الكبرى فصار من دونهم كالأنعام.

السابع:

الوجه في تكرار التقوى في الآية المباركة هو: ان التقوى الاولى لأجل انعامه بالخلق و بث الذرية و التقوى الثانية لأجل انه تعالى سبب التعاطف و التراحم بالتسائل بعض مع بعض.

الثامن:

ان التسائل الوارد في الآية الكريمة «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ » أعم من تساؤل بعض مع بعض كما تقدم و التسائل النفسي - اي ايقاظ الشعور الانساني الذي يسكن في كيان كل بشر فيهيج به لدواعي التطلع إلى اللّه العلي القدير و المسائلة فيما بينه و بين نفسه في ذاته تعالى و صفاته - فهو موجود في الفطرة و يدل عليه قوله تعالى: «وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ » ابراهيم - 34.

ص: 237

ان التسائل الوارد في الآية الكريمة «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ » أعم من تساؤل بعض مع بعض كما تقدم و التسائل النفسي - اي ايقاظ الشعور الانساني الذي يسكن في كيان كل بشر فيهيج به لدواعي التطلع إلى اللّه العلي القدير و المسائلة فيما بينه و بين نفسه في ذاته تعالى و صفاته - فهو موجود في الفطرة و يدل عليه قوله تعالى: «وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ » ابراهيم - 34.

التاسع:

تدل الآية الشريفة على ان تقوى الأرحام من تقوى اللّه تعالى فيجب مراعاة حقوقها و ان جميع البشر من أبوين و ان بعضهم من بعض فهم كأسرة واحدة لا عنصرية و لا عصبية بينهم لأنهم من نسل واحد و يرجعون إلى أب واحد و هذا هو منهج الإسلام و الفطرة السليمة.

بحث علمي

اتفقت الأديان السماوية و محققوا الفلاسفة من المسلمين و غيرهم على ان الإنسان بجوهره و صورته الفعلية خلقه اللّه تعالى و انه من صنع الفاعل العليم المختار - و هو من اشرف الخليقة - و ليس وليد التطور و النشوء و قد انتشر النسل البشري على هذه الكرة الارضية من آدم و حواء و هو الذي اتفقت عليه كلمة الأنبياء و شرحه القرآن شرحا وافيا.

و ليس وجوده و تكوّنه من مجرد الصدفة و الاتفاق من دون فاعل ارادي مختار لما أثبتوه في الفلسفة ببراهين كثيرة من بطلان الصدفة و الاتفاق و تدل على البطلان الفطرة العقلية مع قطع النظر عن الكتب السماوية و مقتضيات نفس الطبيعة.

و اما انه وليد التطور و النشوء - فلا يكون منتسبا إلى الخلق بل ان صورته الفعلية حصلت من إبراد الأنواع في الخارج بالتحول كاقتضاء التكوين من بعض الحشرات السماوية ثم الارضية عند اقتضاء اسبابها - كما نسب إلى بعض علماء الغرب بابتنائه على قانون الوراثة التي هي الأساس لهذه النظرية - و ان كان قانون التنازع و بقاء الأصلح لهما المساس فيها الا ان الأصل و الأساس هو قانون الوراثة - و هي: ان

ص: 238

الصفات التي حدثت في الحيوان من اثر البيئة أو الاجتماع أو أواسط المعيشة أو غيرها قبل آلاف السنين صفات بسيطة كانت في الطبقة العليا ثم انتقلت إلى الطبقات اللاحقة لكنها اشتدت و تحولت على نحو تسببت نوعية خاصة في الحيوان و هي الإنسان فهو وليد تلك الصفات بالتحول و النشو.

و هو باطل من أساسه لان الصفات و ان كانت في هذا العالم موروثة الا انها لا تتمكن من انقلاب العرض إلى الجوهر (نوع) الا بتعدد العوالم - عالم الدنيا و الآخرة كما مر في البحث عن تجسم الأعمال - لان الجواهر أو الأنواع متباينة مع الاعراض و ان مواليد الطبيعة و متكوناتها في هذا العالم لا بد ان تكون من سنخ نفس مقتضياتها و مثل هذا الخلق البديع و الصنع العجيب كيف يعقل ان يكون من ملوّثات و دنيّاتها التي لا علم لها و لا شعور.

مع ان انقلاب النوع إلى نوع آخر بعد تحصّل النوعية غير ممكن إلا بالاستحالة و الأدوار حتى يصلح للمنقلب اليه. و هناك وجوه اخرى تثبت بطلان هذه النظرية لعلنا نتعرض لها في الآيات المناسبة ان شاء اللّه تعالى.

فالنظرية الواقعية الحقيقية هي ما تقدم من ان الإنسان مخلوق و ان البشرية انتشرت من نفس واحدة و هي آدم الذي هو من صنع الفاعل العليم القهار الغني بالذات.

بحث قرآني

الخطابات الواردة في القرآن الكريم المتضمنة ب «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ » *

ص: 239

خطاب إلى الكثرة و الجمع و هذه الكثرة و الجمع لا يعقل لها حد و لا نهاية فتكون الخطاب عام لجميع البشر من زمان صدور الخطاب - بل من زمان الهبوط - إلى زمان الخلود فهي نوع لاحد لأفراده و قد أثبتنا في علم الأصول ان الخطابات المشتملة على النداء لا يعتبر فيها وجود المنادى خارجا بل يكفي فيها الوجود العلمي الاعتباري.

و المراد من النفس المتصف بالوحدة الواردة في الآية الشريفة هو آدم (عليه السلام) كما هو معلوم من الآيات التي وردت في كيفية خلق أدم (عليه السلام) و شرح حالاته فما عن بعض المفسرين من التشكيك في ذلك غير صحيح و لا ينبغي ان يعتني به.

و لا شك ان القرآن و غيره من الادلة تثبت ان النسل الاول من الإنسان انحدر من أدم (عليه السلام) و لكن في تكثر الذرية من بعدهما و في أولادهما يتصور وجوه:

الاول: ان يكون التناسل و التكاثر من نكاح كل ولد ذكر مع امه.

الثاني: ان يكون ذلك بتزويج كل ذكر مع أخته.

الثالث: ان يكون ذلك بتزويج كل ذكر بروحاني متجسّد. و لا يتصور اكثر من ذلك.

و الاول باطل بالضرورة للاستقباح الفطري عند كل ذي شعور حتى الحيوانات. و كذا الثاني لان نكاح الاخت من المحرمات النظامية التي لا يختص بشريعة دون اخرى كقبح السرقة و قبح شرب الخمر و غيرهما مع ما كشفه العلم الحديث من ان نكاح المحارم يستعقب مفاسد كثيرة في النسل فيكون قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ » النساء - 23 قضية حقيقية تكوينية أبرزها اللّه تعالى على صورة التشريع كقوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » * النساء - 24 و قوله تعالى: «يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ » الأعراف - 157 فان جميع ذلك من القضايا التكوينية أبرزت بصورة التشريع توافقا بين النظامين.

ص: 240

و الاول باطل بالضرورة للاستقباح الفطري عند كل ذي شعور حتى الحيوانات. و كذا الثاني لان نكاح الاخت من المحرمات النظامية التي لا يختص بشريعة دون اخرى كقبح السرقة و قبح شرب الخمر و غيرهما مع ما كشفه العلم الحديث من ان نكاح المحارم يستعقب مفاسد كثيرة في النسل فيكون قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ » النساء - 23 قضية حقيقية تكوينية أبرزها اللّه تعالى على صورة التشريع كقوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » * النساء - 24 و قوله تعالى: «يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ » الأعراف - 157 فان جميع ذلك من القضايا التكوينية أبرزت بصورة التشريع توافقا بين النظامين.

و اما ما نسب إلى المجوس من تزويج الأخ مع لاخت و غيرها من المحارم فليس ذلك مستندا إلى كتابهم السماوي و انما هو من افتعالاتهم.

ان قيل: وضع الفقهاء مباحث في كتاب الميراث لإرث المجوس فلو كان مفتعلا يصير من الزنا و لا ارث لأولاد الزناء.

قلت: الافتعال الاول حصل بالجعل الاولي منهم و تبعه عوامهم فيصير كالوطى بالشبهة - جهلا بالحكم - فيتحقق موضوع الميراث.

و ما عن بعض المفسرين من ان قبح نكاح الأخ مع الاخت ليس من الفطريات الأولية بل من القبائح العرضية التي تزول لغرض الأهم و لذا لم يكن قبيحا لأجل بث النسل و الذرية.

غير صحيح لأن قبح نكاح الأخ مع الاخت مسلّم في الجملة و هذا مما لا شك فيه كما تقدم و مع إمكان رفع هذا القبح بأمر آخر لا قبح فيه أصلا كيف يتوسل بما هو قبيح و لو في الجملة. مع انا لا نسلم ان ذلك قبيح عرضي و انما هو قبيح ذاتي كما في بعض الروايات الآتية كالنكاح مع الام و اللواط و غيرهما.

و يصح ان يقال ان التجسد الروحاني كان بمثال الاخت في نظر الأخ لتحقق التناسب حسب هذه الطبيعة قال تعالى في قصة مريم العذراء: «فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا» مريم - 17 و قال تعالى: «وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ » الانعام - 9.

و اما ما قيل انه يستفاد من الآية الشريفة: «وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً » انحصار البث فيهما فلا بد من تزويج الأخ مع الاخت لأجل هذا الانحصار.

ص: 241

و اما ما قيل انه يستفاد من الآية الشريفة: «وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً » انحصار البث فيهما فلا بد من تزويج الأخ مع الاخت لأجل هذا الانحصار.

قلت: انه لا مفهوم للقب كما هو متفق عليه و قد أثبتناه في علم الأصول فراجع [تهذيب الأصول].

فتلخص من جميع ما تقدم ان بدو انتشار النسل كان بطريق معقول مشروع من غير تدخل ايّ منقصة في ذلك و هو التجسد روحاني و شروع النسل منه و من ولد آدم (عليه السلام) و لا فرق في تجسد الروحاني بين ان يتجسد بالذكر للأنثى كما في قصة مريم (عليها السلام) أو العكس كما في المقام و ان كان فرق بينهما في الجملة و لكن في الأصل التجسد و تهيج القوة الفاعلة و المنفعلة لا فرق بينهما.

بحث روائي
اشارة

و فيه نذكر الروايات الواردة في خلق حواء، و كيفية بث الذرية من نسل أدم و حواء، و ما وردت في شأن الأرحام.

في نهج البيان عن الشيباني: «سئل الصادق عن التقوى ؟ فقال هي طاعته فلا يعصى و ان يذكر فلا ينسى و ان يشكر فلا يكفر».

أقول: هذا بيان بعض مراتب التقوى.

ما وردت في خلق حواء:

عن الصدوق باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «سميت حواء لأنها خلقت من حي قال اللّه عز و جل «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» .

ص: 242

عن الصدوق باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «سميت حواء لأنها خلقت من حي قال اللّه عز و جل «خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها» .

أقول: هذه الرواية لا تدل على تبعض انفصال عضو من آدم (ع) و صيرورته حواء به باذن اللّه تعالى لان المراد من الحي هو مادة لها اقتضاء الحياة لا الحياة الفعلية من كل جهة إذ لو كان الحياة من كل جهة لاستلزم ان تكون حواء أختنا و أمنا لأنها متفرعة منه. و قد ذكرنا سابقا ان «من» لبيان الجنس كما في قوله تعالى: «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ » التوبة - 128 لا للتبعيض و على فرض ان يكون للتبعيض هو التبعيض في الجملة بحيث لا يكون بطريق التوليد.

عن الصدوق أيضا باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال:

«سميت المرأة مرأة لأنها خلقت من المرء».

أقول: المراد من المرء الشخص و الكلام فيه عين الكلام في سابقه بل هو أهون كما لا يخفى.

و في نهج البيان عن أبى جعفر الباقر (عليه السلام): «انها خلقت من فضل طينة آدم عند دخول الجنة».

أقول: هذه الرواية شارحة لمعنى التبعيض المستفاد من لفظ «من» ان قلنا انها تبعيضية.

العياشي باسناده عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «خلقت حواء من قصير جنب أدم و القصير هو الضلع الأصغر و أبدل اللّه مكانه لحما».

أقول: المراد من هذه الرواية طينة آدم (عليه السلام) قبل ان يجعل له ضلعا لا بعد تحقق الضلعية و نفخ الروح و الانفصال عن آدم (عليه السلام) بقرينة الرواية السابقة.

و عن العياشي أيضا باسناده قال (عليه السلام): «خلقت حواء من

ص: 243

جنب آدم و هو راقد».

أقول: معنى الرواية خلقت من طينة أدم بحيث لو كانت موضوعة في آدم (عليه السلام) لكانت في جنبه و هو راقد اي كان خلق حواء في حال رقود آدم (عليه السلام).

عن عمرو بن أبى المقدام عن أبيه قال: «سألت أبا جعفر (ع) من اي شيء خلق اللّه حواء؟ فقال اي شيء يقولون هذا الخلق ؟ قلت يقولون ان اللّه خلقها من ضلع من أضلاع آدم فقال كذبوا أ كان اللّه يعجزه أن يخلقه من غير ضلعه ؟ قلت جعلت فداك يا ابن رسول اللّه من اي شيء خلقها؟ فقال اخبرني أبى عن آبائه (عليهم السلام) قال قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ان اللّه تبارك و تعالى قبض قبضة من طين فخلطها بيمينه و كلتا يديه يمين فخلق منها آدم و فضلت فضلة من الطين فخلق منها حواء».

أقول: ذيل الرواية «كلتا يديه يمين» كناية عن القوة و الفعالية و الاستيلاء لان اليمين كناية عنها و البسيط الحقيقية بالوحدة الحقيقية تكون جميع جهاته الملحوظة كذلك فهو جلّ شأنه مستول و قوي و فعّال لما يريد فلا يعقل بالنسبة اليه يسار إن كان اليسار كناية عن جهة النقص كما هو كذلك.

و هذه الرواية معتبرة و شارحة لجميع روايات الباب و مفصلة لها فلا بد من رد جميعها إليها و هي مطابق لقانون العقل الذي قلناه.

عن أبى علي الواسطي قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) ان اللّه خلق آدم من الماء و الطين فهمة ابن آدم من الماء و الطين و ان اللّه خلق حواء من آدم فهمة النساء من الرجال فحصنوهن في البيوت».

أقول: حيث كانت طينة حواء قبل ان يخلق منها مقتضية لأن

ص: 244

يجعل في آدم فهذه الاقتضاء باقية للمرأة إلى الأبد فهي تهم إلى ما اقتضته منها.

ما وردت في كيفية بث النسل منهما:

عن أبى بكر الحضرمي عن أبى جعفر الباقر (عليه السلام) قال:

«ان آدم ولد له اربعة ذكور فاهبط اللّه إليهم أربعا من الحور العين فزوج كل واحد منهم فتوالدوا ثم ان اللّه رفعهن و زوج هؤلاء الاربعة أربعا من الجن فصار النسل فيهم فما كان من حلم فمن آدم (عليه السلام) و ما كان من جمال فمن قبل حور العين و ما كان من قبح أو سوء خلق من الجن».

أقول هذه الرواية تبين ما شرحناه في كيفية بث النسل. و يستفاد منها ان الإنسان بجميع ألوانه و صفاته كالبيض و السود و الحمر و الصفر و القصير و الطويل أو الجميل و القبيح و غيرها ينتهي إلى آدم (عليه السلام) و زوجته و لا دخل للصفات و الألوان في انحدار النسل منه و ما ورد في الرواية من قوله (عليه السلام): «فما كان من حلم فمن آدم (عليه السلام) و ما كان من جمال فمن قبل حور العين و ما كان من قبح أو سوء خلق فمن الجن» يمكن مثالا لكل تغير نوعي لونا كان أو غيره من الصفات فلا مجال للتشكيك في ان بعض الألوان لا ينحدر إلى آدم (عليه السلام) لأنه كان من غير ذلك اللون.

و عن العياشي عن أبي بكر الحضرمي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال «قال لي ما يقول الناس في تزويج آدم ولده ؟ قلت يقولون ان حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما و جارية فتزوج الغلام الجارية

ص: 245

التي من البطن الآخر و تزوج الجارية الغلام الذي من البطن الآخر الثاني حتى توالدوا فقال أبو جعفر (عليه السلام) ليس هذا كذلك يحجكم المجوس و لكنه لما ولد آدم هبة اللّه و كبر سأل اللّه ان يزوجه فانزل اللّه له حوراء من الجنة فزوجها إياه فولدت له اربعة بنين ثم ولد لآدم (ع) ابن آخر فلما كبر امره فتزوج الى الجان فولد له اربع بنات فتزوج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن حور العين و ما كان من حلم فمن قبل أدم و ما كان من حقد فمن قبل الجان فلما توالدوا صعدت الحوراء إلى السماء».

أقول: هذه الرواية تبين بعض ما ذكرناه في التفسير و يمكن حمل الاختلاف على تعدد الواقعة.

عن الصدوق باسناده إلى زرارة قال: «سئل أبو عبد اللّه (ع) كيف بدأ النسل من ذرية آدم ؟ قال عندنا أناس يقولون ان اللّه تبارك و تعالى اوحى إلى أدم (عليه السلام) ان يزوج بناته من بنيه و ان هذا الخلق كلهم أصله من الاخوة و الأخوات قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) سبحان اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا من يقول هذا؟! ان اللّه عز و جل جعل اصل صفوة خلقه و احبائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات من حرام و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال!! و قد أخذ ميثاقهم على الحلال و الطهر الطاهر الطيب و اللّه لقد نبئت ان بعض البهائم تنكرت له أخته فلما نزا عليها و تزل كشف له عنها و علم انها أخته اخرج غرموله ثم قبض عليه بأسنانه ثم قلعه ثم خر ميتا قال زرارة ثم سئل عن خلق حواء و قيل له ان أناسا عندنا يقولون ان اللّه عز و جل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى قال سبحان اللّه تعالى عن ذلك علوا كبيرا يقول من

ص: 246

يقول هذا ان اللّه تبارك و تعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه و جعل للمتكلم من اهل التشنيع سبيلا إلى الكلام يقول ان آدم كان ينكح بعضه بعضا إذا كانت من ضلعه ما لهؤلاء حكم اللّه بيننا و بينهم ثم قال ان اللّه تبارك و تعالى لما خلق آدم من طين امر الملائكة فسجدوا له و القى عليه السبات ثم ابتدع له خلقا ثم جعلها في موضع النقرة التي بين ركبتيه و ذلك لكي تكون المرأة تبعا للرجل فأقبلت تتحرك فانتبه لتحركها فلما انتبه نوديت ان تنحى عنه فلما نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير انها أنثى فكلمها فكلمته بلغته فقال لها من أنت ؟ فقال خلق خلقني اللّه كما ترى فقال أدم (ع) عند ذلك يا رب من هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني قربه و النظر اليه فقال اللّه هذه أمتي حواء أ فتحب ان تكون معك فتؤنسك و تحدثك و تأتمر لأمرك ؟ قال نعم يا رب و لك بذلك الشكر و الحمد على ما بقيت فقال اللّه تبارك و تعالى فاخطبها اليّ فإنها امتي و قد تصلح أيضا للشهوة فالقى اللّه عليه الشهوة و قد علم قبل ذلك المعرفة فقال يا رب اني اخطبها إليك فما رضاك لذاك ؟ قال رضاي ان تعلمها معالم ديني، فقال ذلك يا رب ان شئت ذلك فقال عز و جل قد شئت ذلك و قد زوجتكها فضمها إليك فقال اقبلي، فقالت بل أنت فاقبل اليّ فأمر اللّه عز و جل لآدم ان يقوم إليها فقام و لو لا ذلك لكان النساء هن يذهبن الى الرجال حتى خطبن على انفسهن فهذه قصة حواء صلوات اللّه عليها».

أقول: هذه الرواية المعتبرة تتضمن أمورا هامة:

الاول: ان اصل التزويج الذي في شرع الإسلام هو من الميثاق الذي اخذه اللّه تعالى على جميع الأنبياء و المرسلين.

الثاني: ان ما يقال لخلق أدم (عليه السلام) من دون الرجوع

ص: 247

إلى السنة الوحي المبين هو لسان التشنيع على الدين فلا ينبغي الإصغاء اليه بوجه من الوجوه.

الثالث: لم يرد فيها ذكر انها خلقت من ضلع أو من فضالة طين آدم (عليه السلام) للاستغناء عن ذلك بقوله (عليه السلام) «ثم ابتدع له خلقا».

الرابع: ان تبعية المرأة للرجل تكوينية من بدء الخلقة إلى اخرها.

و عن الصدوق باسناده إلى زرارة قال: «سئل أبو عبد اللّه (ع) عن بدء النسل من آدم كيف كان و عن بدء النسل من ذرية آدم (عليه السلام) فان أناسا عندنا يقولون ان اللّه تبارك و تعالى اوحى إلى آدم ان يزوج بناته من بنيه و ان هذا الخلق كله أصله من الاخوة و الأخوات ؟!! فقال أبو عبد اللّه: تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا يقول من قال هذا بأن جل و عز يخلق صفوة خلقه و احبائه و أنبيائه و رسله و المؤمنين و المؤمنات و المسلمين و المسلمات من حرام و لم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال و قد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب؛ فو اللّه لقد نبئت ان بعض البهائم تنكرت له أخته فلما نزا عليها و نزل كشف له عنها فعلم انها أخته اخرج غرموله ثم قبض عليه بأسنانه حتى قطعه فخر ميتا و أخر تنكرت له امه ففعل هذا بعينه فكيف الإنسان في انسيته و فضله و علمه غير ان جيلا من هذا الخلق الذي ترون رغبوا عن علم بيوتات أنبيائهم و أخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه فصاروا إلى ما قد ترون من الضلالة و الجهل بالعلم. كيف كانت الأشياء الماضية من بدأ فخلق اللّه ما خلق و ما هو كائن ابدا، ثم قال ويح هؤلاء اين هم عما لم يختلف فيه فقهاء اهل الحجاز و لا فقهاء اهل العراق فان اللّه عز و جل امر القلم فجزى على

ص: 248

اللوح المحفوظ بما هو كائن إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام و ان مما كتب اللّه كلها فيما جرى فيه القلم في كلها تحريم الأخوات على الاخوة مع ما حرم، و هذا نحن قد نرى منها هذه الكتب الاربعة المشهورة في هذا العالم - التوراة و الإنجيل و الزبور و القرآن - و أنزلها اللّه من اللوح المحفوظ على رسله صلوات اللّه عليهم أجمعين منها التوراة على موسى و الإنجيل على عيسى و الزبور على داود و الفرقان على محمد (صلى اللّه عليه و آله) و على النبيين (عليهم السلام) ليس فيها تحليل شيء من ذلك حقا أقول ما أراد من يقول هذا و شبهه الا تقوية حجج المجوس على موسى فما لهم قاتلهم اللّه - ثم انشأ يحدثنا كيف كان بدأ النسل من آدم و كيف كان بدأ النسل من ذريته - فقال ان آدم ولد له سبعون بطنا في كل بطن غلام و جارية إلى ان قتل هابيل فلما قتل قابيل هابيل جزع آدم (عليه السلام) على هابيل جزعا شديدا قطعه عن إتيان النساء فبقى لا يستطيع ان يغشى حواء خمسمائة عام ثم تجلى ما به من الجزع عليه فغشى حواء فوهب اللّه له شيثا (ع) وحده ليس معه ثان و اسم شيث هبة اللّه و هو أول وصي اوصى اليه من الآدميين في الأرض ثم ولد له من بعد شيث يافث ليس معه ثان فلما أدركا و أراد اللّه عز و جل ان يبلغ بالنسل ما ترون و ان يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرم اللّه عز و جل من الأخوات على الاخوة انزل اللّه بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة اسمها بركة (نزلة) امر اللّه عز و جل أدم ان يزوجها من شيث فزوجها منه ثم نزل بعد العصر حورا من الجنة اسمها بوكة (منزلة) فأمر اللّه عز و جل آدم ان يزوجها من يافث من ابن شيث ففعل ذلك فولد الصفوة من النبيين و المرسلين من نسلهما و معاذ اللّه ان يكون ربك على ما قالوا من

ص: 249

الاخوة و الأخوات».

أقول: هذه الرواية من مفصلات الروايات الشارحة فتكون حاكمة على جميع ما تقدم و موافقه لحكم الفطرة.

و عن الصدوق باسناده عن أبي بصير قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) لاي علة خلق اللّه عز و جل آدم من غير أب و أم و خلق عيسى من غير أب، و خلق سائر الناس من الآباء و الأمهات ؟ فقال ليعلم الناس تمام قدرته و كما لها و يعلموا انه قادر على ان يخلق خلقا من أنثى من غير ذكر كما هو قادر على ان يخلقه من غير ذكر و أنثى، و انه عز و جل فعل ذلك ليعلم انه على كل شيء قدير».

أقول تبين هذه الرواية كمال قدرته تعالى و انه على كل شيء قدير و صد عن السنة من يقول بغير علم ففي مثل هذه الرواية دقايق و اشارة لا يفهمها إلا من تأمل فيها حق التأمل.

و عنه أيضا باسناده عن عبد الحميد بن الديلم عن الصادق (ع) في حديث طويل قال: «سمي النساء نساء انه لم يكن لآدم (ع) انس غير حواء».

أقول: هذه الرواية تبين وجه الاشتقاق.

و في الاحتجاج عن علي بن الحسين (عليهما السلام) في حديث له مع قرشي: «يصف فيه تزويج هابيل بلوزا اخت قابيل و تزويج قابيل باقليما اخت هابيل فقال له القرشي فأولداهما؟ قال: نعم فقال له القرشي فهذا فعل المجوس اليوم فقالوا إن المجوس فعلوا ذلك بعد التحريم من اللّه ثم قال له: لا تنكر هذا انما هي شرائع اللّه جرت أليس اللّه قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له ؟ فكان ذلك شريعة من شرائعهم ثم انزل اللّه التحريم بعد ذلك».

ص: 250

أقول: هذه الرواية مضافا إلى قصور سندها و معارضتها بما هي اكثر منها لما تقدم ان المراد من الاخت الواردة فيها الروحانية المتجسدة بشباهة اخت قابيل و كذا تزويج قابيل اخت هابيل. و اما قول القرشي نحو توهم و قول الامام (عليه السلام) للقرشي جواب إسكاتي له و ذيل الرواية محمول كما تقدم مع ان متن الرواية يشهد بعدم صدوره عن المعصوم (عليه السلام) فلا بد من طرحها.

ما وردت في تعدد خلق آدم طولا:

في التوحيد للصدوق عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال:

«لعلك ترى ان اللّه لم يخلق بشرا غيركم ؟ بلى و اللّه لقد خلق ألف آدم أنتم في آخر أولئك الآدميين».

أقول: لم يدل دليل عقلي على ان أبانا آدم (عليه السلام) هو أول خلق آدمي في الممكنات، فمقتضى اصالة الإمكان جواز تعدد الآدميين قبله. و ما عن بعض المفسرين من سوء المقال في المقام ظاهر في انه غير مطلع على القواعد العقلية و لا على الشواهد الخارجية.

و في الخصال عن الصادق (عليه السلام) قال: «ان اللّه تعالى خلق عشر ألف عالم كل عالم منهم اكبر من سبع سماوات و سبع ارضين ما يدرى عالم منهم ان للّه عز و جل عالما غيرهم».

أقول: لا ريب في الإمكان الذاتي بالنسبة إلى هذه العوالم كما لا ريب في قدرة اللّه تبارك و تعالى غير المتناهية بالنسبة إلى خلق هذه العوالم و لا دليل من عقل أو نقل على امتناع وقوعها بل الشواهد الكثيرة تدل على وقوعها و انكار بعض المفسرين يدل على قصور فهمه و عدم

ص: 251

دركه بما جعله الفلاسفة من الأوليات من قولهم: «كل ما قرع سمعك من العجائب و الغرائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يمنعك عنه قائم البرهان» مع ان جمعا كثيرا من قدماء الفلاسفة اثبتوا الأدوار و الأكوار في هذا العالم، و تسالم الكل على قدم الهيولى و الصور المتوالية المتتابعة.

و في الخصال عن أبي جعفر (عليه السلام): «لقد خلق اللّه عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس هم من ولد آدم خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه ثم خلق اللّه عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه».

أقول لا تنافي بين هذه الرواية و بين الروايات السابقة لان الروايات السابقة لم تبين كيفية المخلوقات في تلك العوالم. و الحصر في هذه الرواية اضافي لا ان يكون حقيقيا حتي يحصل التنافي. مع انه يمكن ان تكون الرواية الاولى بالنسبة إلى نوع آخر.

ما وردت في شأن صلة الرحم:

في الكافي عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه (ع):

عن قول اللّه عز ذكره: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» فقال يعني أرحام الناس ان اللّه عز و جل امر بصلتها و عظمها ا لم تر ان اللّه جعلها معه».

أقول: هذه الرواية تدل على تعظيم صلة الأرحام و نظيرها كثيرة:

و في الكافي أيضا عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال:

«قال أمير المؤمنين (عليه السلام) صلوا أرحامكم و لو بالتسليم يقول اللّه تبارك و تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» .

ص: 252

«قال أمير المؤمنين (عليه السلام) صلوا أرحامكم و لو بالتسليم يقول اللّه تبارك و تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» .

أقول لصلة الرحم مراتب كثيرة أدناها التسليم.

و عن عمر بن حنظلة عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه تعالى:

«اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » قال: «هي أرحام الناس ان اللّه امر بصلتها و عظمتها الا ترى انه جعلها معه».

عن جميل بن دراج عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«سألته عن قول اللّه: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » قال: «هي أرحام الناس امر اللّه تبارك و تعالى بصلتها و عظمتها الا ترى انه جعلها معه».

أقول تقدم ما يتعلق بهما.

في الكافي باسناده عن محمد بن الفضيل الصيرفي عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: «ان رحم آل محمد الائمة المعلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني ثم هي جارية في المؤمنين ثم تلا هذه الآية: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » .

أقول: لا ريب في ان رحم آل محمد (صلوات اللّه عليهم أجمعين) هي المتيقنة مما ورد في صلة الأرحام من الكتاب و السنة و الادلة العقلية. و معنى التعلق بالعرش كونهم بوجودهم النوراني موجودين في هذا المقام العظيم يدعون لمن وصلهم و على من قطعهم.

و في الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن عكرمة في قوله تعالى «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » قال ابن عباس قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): «يقول اللّه تعالى صلوا أرحامكم فانه أبقى لكم في الحياة الدنيا و خير لكم في آخرتكم».

أقول: قريب منه غيره من طرقنا و ما ذكره (صلى اللّه عليه و آله) من الآثار الوضعية من المقتضي لا العلية التامة.

ص: 253

و في الكافي باسناده عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) عن قول اللّه تبارك و تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » قال هي أرحام الناس ان اللّه امر بصلتها و عظمتها الا ترى انه جعلها معه».

أقول: تقدم ما يدل على ذلك و لا تنافي بينها و بين ما تقدم من تفسير صلة الرحم برحم آل محمد (عليهم السلام) لان هذه الرواية تبين بعض اقسام الرحم و ليست في مقام الحصر الحقيقي حتى يتحقق التنافي.

العياشي عن الأصبغ بن نباتة قال: «سمعت أمير المؤمنين (ع) يقول. «ان أحدكم ليغضب فما يرضى حتى يدخل به النار فأيما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليدن منه فان الرحم إذا مسها الرحم استقرت و انها متعلقة بالعرش ينقضه انتقاض الحديد فينادى اللهم صل من و صلني و اقطع من قطعني و ذلك قول اللّه في كتابه «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً» و أيما رجل غضب و هو قائم فليلزم الأرض من فوره فانه يذهب رجز الشيطان».

أقول: لا تنافي بين هذه الرواية و بين ما دلت على ان رحم آل محمد (صلى اللّه عليه و آله) متعلقة بالعرش لان مراتب التعلق متفاوتة جدا.

و معنى تعلق سائر الأرحام بالعرش حضورهن بالحضور العلمي لدى اللّه تبارك و تعالى و الدعاء لمن وصلهم و على من قطعهم.

و اما ان مس كل رحم بالرحم يوجب هبوط فوران الغضب فلما أثبته العلم الحديث من انتهائهم إلى شيء واحد فتستولى الوحدة و تنطفي الغضب.

و اما ذيل الرواية فلان القعود يوجب سكون فوران الدم في الجملة فيتوجه إلى نفسه فيحصل له التعوّذ من الشيطان.

و عن ابن شهر آشوب باسناده عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » نزلت في رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و اهل بيته و ذوي أرحامه و ذلك ان كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة الا ما كان من سببه و نسبه صلى اللّه عليه و آله».

ص: 254

و عن ابن شهر آشوب باسناده عن ابن عباس في قوله تعالى: «وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ » نزلت في رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و اهل بيته و ذوي أرحامه و ذلك ان كل سبب و نسب منقطع يوم القيامة الا ما كان من سببه و نسبه صلى اللّه عليه و آله».

أقول: يستفاد منه ان الرحم ما كان متصلا إلى يوم القيامة و كان رحما فيها ايضا و هو مختص بنسب رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لان ما سواه ينسون أنفسهم في تلك الأهوال و الشدائد فضلا عن أرحامهم قال تعالى: «يَوْمَ يَفِرُّ اَلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » عبس - 37.

و في تفسير علي بن ابراهيم قال: «تسائلون يوم القيامة عن التقوى هل اتقيتم ؟ و عن الأرحام هل وصلتموها».

أقول: هذا من التفسير بأكبر المصاديق.

و عن علي بن ابراهيم في تفسيره ايضا عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) «الرقيب الحفيظ».

أقول: حيث ان رقابته جلّ جلاله من الحضور العلمي الاحاطي و هذا يستلزم الحفظ بما يراه من المصالح.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام): «اتقوا الأرحام ان تقطعوها».

أقول: الروايات في حرمة قطع الرحم كثيرة جدا و هي من المعاصي الكبيرة كما ذكرناه في الفقه.

بحث فقهي

إطلاق الآية الشريفة و غيرها من الآيات و الروايات يشمل كل رحم

ص: 255

- ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا - نسبيا كان أو سببيا وارثا كان أو غير وارث قاطعا كان أو وصولا بل صلة القاطع أحب عند اللّه تبارك و تعالى من صلة الرحم الوصول لدلالة الروايات المتواترة على ذلك.

و المراد من الرحم ما ينتهي إلى رحم واحد بحسب الاجتماع العرفي الا إذا دل دليل من الشرع على الخلاف كما في رحم آل محمد (صلوات اللّه عليهم) الذي وسع فيه إلى يوم القيامة بل و فيها و لذا أكد في الشرع اولوية الأرحام في إيصال الصدقات و الخيرات و تقدمهم على غيرهم و هناك موارد تفضيل ذكرناها في كتاب (مهذب الاحكام).

بحث عرفاني

في خلق أدم (عليه السلام) جهتان: الاولى: الجهة النورانية المعنوية و تستفاد هي من قوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» * و هي من ارفع الجهات و أعلى الدرجات و ليس في الممكنات ما يفوقها.

الثانية: الجسمانية و هي الطين و الصلصال و الحمأ المسنون و قد اعتنى سبحانه و تعالى بكل منها اعتناء بليغا لم يعتن بشيء من الممكنات بمثله لأنه أول خليقته و أب الأنبياء.

اما الجهة الاولى فيكفيك قوله تعالى: «وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» * ص - 72 و بأي معنى لوحظ ذلك لا يدرك كنه عظمته و رفعته.

و اما الجهة الثانية فيكفى فيها قوله تعالى: «ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ » ص - 75 و اظهر منها إسجاد الاملاك لهذا الخلق

ص: 256

العجيب الذي تحير الأفكار في مغزى درك حقيقته و درك واقعيته.

و الجهتان متلازمتان في الجملة في هذا الموجود العظيم في اي مرتبة من مراتب ظهوره و بروزه.

و هذه المراتب غير محدودة و ان أمكن تحديد كلياتها في الجملة، فالاولى مرتبة العلم الازلي و هي أعلى المراتب و أسماها.

الثانية: مرتبة المشيئة الكلية و هي: «إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » ص - 71.

الثالثة: مرتبة الارادة الفعلية الحتمية و هي: «فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي» * ص - 72.

الرابعة: مرتبة الإيجاد بالأمر و هي: «وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » البقرة - 117.

الخامسة: مرتبة تعليم الأسماء و هي: «وَ عَلَّمَ آدَمَ اَلْأَسْماءَ كُلَّها» البقرة - 31.

السادسة: مرتبة التقصير و هي: «فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ اَلْجَنَّةِ » طه - 121.

السابعة: مرتبة الهبوط: «وَ قُلْنَا اِهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ» البقرة - 36.

الثامنة: مرتبة التوبة و قبولها و هي «قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ اَلْخاسِرِينَ » : الأعراف - 23 و قال تعالى: «فَتَلَقّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ » البقرة - 37.

التاسعة: عالم الاصطفاء قال تعالى: «إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى اَلْعالَمِينَ » آل عمران - 33.

ص: 257

العاشرة: عالم الذر بقسميه في السماء و في الأرض في بطحاء بمكة قال تعالى: «وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إِنّا كُنّا عَنْ هذا غافِلِينَ » الأعراف - 172.

الحادية عشر: مرتبة انتشار النسل و بثه بالتدرج الزماني.

الثانية عشر: مرتبة أصلاب الآباء و أرحام الأمهات و ادوارها.

الثالثة عشر: مرتبة خروج الروح و تحقق الموت.

الرابعة عشر: عالم البرزخ قال تعالى: «وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ » المؤمنون - 100.

الخامسة عشر: عالم الخلود.

هذه كليات ما يرد على هذه اللطيفة الربانية. و ان قيل ان هذا الموجود العظيم أعظم عمل رباني لا بأس به و يأتي تتمة المقال في مستقبل الكلام.

وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إ.......

اشارة

وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا (3) وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً

ص: 258

وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً (6) الآيات المباركة من جلائل الآيات التي تتعلق بالقواعد النظامية و هي تبين أهم القوانين التي لها دخل في حياة الاسرة و المجتمع الانساني من تنظيم الروابط بينهم و حفظ العلاقات - بين افراد الاسرة - التي أهمها رعاية اليتامى و حفظ أموالهم و تحديد النكاح باليتيمات اللواتي تحت الوصاية بعدم التقصير في حقوقهن. و تعدد الزوجات المراعى بعدم الجور و الظلم عليهن و حفظ حق المرأة في صداقها و عدم التعدي فيه.

و المنع من تصرف السفهاء - الذين لا يحسنون التصرف - في أموالهم و ان كان لهم الحق منها في الرزق و الكسوة الا إذا تبين الرشد و الأهلية منهم فيرجع إليهم أموالهم. و الآية الكريمة تقرر الاشهاد حين تسليم المال إليهم دفعا للشبهة و الخصومة، فهذه الآيات في مقام الردع عن الأخلاق الجاهلية و من يحذو حذوهم في الإسلام.

و من أجل اهمية هذه القوانين و ارتباطها بنظام الاسرة و المجتمع سبقت الآيات الشريفة بانه جل شأنه رقيب و ختمت بانه تعالى محاسب ما يصدر عن عباده من الأعمال.

و ارتباط هذه الآيات الشريفة بما قبلها هو ان القيام بشئون الأيتام

ص: 259

و غيرها مما تقدم من أهم مصاديق التقوى و في عرض صلة الأرحام بلا فرق بين ان يكون اليتيم من الأرحام أ و لم يكن منهم مع انها توطئة لما يأتي من احكام الإرث.

التفسير

قوله تعالى: وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ .

هذه الآيات الكريمة مشتملة على اصول نظامية فطرية متينة ترتبط بحياة الاسرة و المجتمع كما تقدم و قد قررها الوحي المبين و هي امور:

الاول: ما يتعلق بأموال اليتامى. و الخطاب في الآية الشريفة عام يشمل الأوصياء و الأولياء - الجعليين و الشرعيين - و غيرهم المتصدين بشئون اموال اليتامى.

و الأمر بإيتاء اليتامى أموالهم من التفصيل لموارد الاتقاء و انما بدأ بهم إظهارا لشأنهم و عناية خاصة بهم لأنهم الضعفاء في الاسرة و المجتمع و اليتيم من اليتم و هو الانفراد عن المثل و في الإنسان هو: الصغير الذي مات أبوه و في سائر الحيوانات هو فاقد الام.

و المراد بالإيتاء إيصال أموالهم إليهم - اما صرفا عليهم أو عينا - و التعبير باليتيم حين الإيصال باعتبار ان الاستيلاء على المال كان حين اليتم اي كان يتيما. و يمكن ان يراد باليتامى كل مظلوم و مقهور استولى على ماله - يتيما كان بالمعنى المصطلح أولا - ثم ارتفع عنه ذلك كما يأتي في البحث العرفاني.

و المعنى: ان من استولى على اموال اليتامى - بحق كان كالوصي

ص: 260

و الولي أو بغير حق كالظالم - يجب دفعها إليهم ان بلغوا الرشد و الكمال بقرينة الآية الآتية.

قوله تعالى: وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ .

الثاني من تلك الأصول: ما يتعلق بتبديل الخبيث بالطيب الذي هو من المستنكرات الفطرية العقلية.

و التبديل هو جعل شيء مكان الآخر و الخبيث هو ما تتنفر عنه الطبائع و الطيب ما رغبت اليه الطبائع.

و المعنى: لا تبدلوا الردي من أموالكم بالطيب من اموال اليتامى أو لا تأكلوا اموال اليتامى فهو الخبيث اي الحرام بدلا عما طيب اللّه لكم من أموالكم اي الحلال.

و القدر الجامع بين الاحتمالين هو عنوان تبديل الحرام بالحلال سواء كان بالمعنى الاول أو بالثاني فيوخذ به و ان كان المعنى الاول اقرب الى الذهن و لكن ذيل الآية المباركة كالقرينة للمعنى الثاني.

قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ .

الثالث من الأصول المتقدمة: الخلط بين اموال اليتامى و اموال المتصدين ثم أكل الجميع و هذا ايضا من المستنكرات.

و النهي في الآية الشريفة تعلق بمطلق التصرف و هو المراد بالأكل فيها.

و المعنى: لا تتصرفوا في اموال اليتامى سواء كان التصرف بالأكل أو الانتفاع أو المشاركة مع أموالكم لان الواجب عليكم حفظ اموال اليتامى و صيانتها و استثمارها لصالح الأيتام.

ص: 261

قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً .

الضمير يرجع الى مطلق التصرف. و الحوب: هو الإثم و توصيفه بالكبر للتهويل و العظمة لأن في الفعل و الارتكاب جرأة عظيمة.

و المعنى: من تصرف في اموال اليتامى - اي تصرف كان - فقد ارتكب إثما كبيرا الا إذا كان باذن من الشرع كما فصل في الفقه.

قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ .

الرابع: مما تقدم من الأصول كيفية القسط و المعاشرة بين نفس اليتامى.

و القسط هو النصيب بالعدل بعد ما بين سبحانه و تعالى حكم اموال اليتامى شرع فيما يتعلق بأنفس اليتامى و انما اخره لان الاول اكثر شيوعا من الثاني.

و الآية الشريفة تحتمل صورا: الاولى: ان يكون المراد التزويج من اليتيمات - اللواتي لهن مال - واحدة كانت أو متعددة - و كان التزويج موجبا لتحقق القسط بين اليتامى في انفسهن و أموالهن فلا ريب في جواز هذه الصورة و صحتها و حينئذ لا اشكال في ارتباط صدر الآية الشريفة مع ذيلها.

الثانية: التزويج بيتيمة ليس لها مال مع تحقق القسط من قبل الرجل بنفسه في التزويج سواء تعددت الزوجات منهن أم لم تتعدد و حكمها حكم الصورة الاولى.

الثالثة: التزويج باليتيمات مع خوف عدم القسط سواء كان التزويج بواحدة منهن أو بمتعددة و ان كان الخوف في صورة التعدد أشد

ص: 262

و الآية الشريفة تنفي هذه الصورة.

الرابعة: التزويج بامرأة ذات أب و عندها يتيم.

الخامسة: ما إذا كانت اليتيمات في معرض الزواج و كانت نساء من غيرهن في معرض الزواج ايضا و يخاف الإنسان إن تزوج من اليتيمات ان لا يقسط بينهن فيدعهن و يتزوج من سواهن و هذه الصورة هي المشهورة بين المفسرين.

السادسة: ان تكون الآية المباركة في مقام الإرشاد و دفع التوهم اي: انكم لو خفتم من التزويج باليتيمات و لأجله منعتموهن من التزويج بأنفسكم أو بغيركم خوفا من ان لا تقسطوا فيهن و تظلموهن فتزوجوا منهن و ان كنتم ذوي زوجات فإنهن حلال لكم و لغيركم فان اللّه تعالى يرشدكم الى ذلك.

و هذه الصور الثبوتية تتوافق مع ذيل الآية الشريفة و هو «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ » .

و اما في مقام الإثبات و الظهور فيجتمع مع اكثر الصور و ان كانت الخامسة مشهورة بين المفسرين كما قلنا.

و ظهر مما ذكرنا فساد ما ذهب اليه بعض المفسرين من عدم ارتباط صدر الآية الشريفة بذيلها و قد عرفت كمال الربط بينهما.

قوله تعالى: مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ .

هذه الألفاظ تدل على اعداد مكررة و هي: اثنين اثنين، و ثلاثا ثلاثا؛ و أربعا أربعا. و انها ممنوعة من الصرف.

و الخطاب متوجه الى الجميع و العطف بمعنى التخيير فيكون المعنى المراد بلحاظ الخطاب و العطف و بقرينة ذيل الآية الكريمة: لكل واحد

ص: 263

من المؤمنين ان يختار واحدة ان خاف من الجور و التعسف و الا اثنتين أو ثلاث أو اربع.

و لا يستفاد من الآية الشريفة الجمع بين التسع منهن كما توهمه بعض لعدم دلالتها بوجه على ذلك، بل انه غير محتمل أصلا فلو قال احد جاء القوم مثنى و ثلاث و رباع لا يستفاد أصلا مجيئهم تسعة مع ان لفظ (و) بمعنى التخيير بقرائن قطعية منها ضرورة الدين كما يأتي في البحث الفقهي.

قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً .

المراد من الخوف في هذه الآية المباركة العلم العادي المعبر عنه بالاطمينان، و انما عبر بالخوف لكون المورد و المتعلق منشأ للخوف عرفا.

و المعنى: ان حصل لكم الاطمينان في عدم تسوية حقوقهن و ان لا تعدلوا بين المتعددات فانكحوا و تزوجوا واحدة منهن.

قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ .

اي: من خاف من عدم التقسيط فيهن فينكح واحدة من الحرائر أو ما يختار من الإماء ما شاء إذ ليس لهن شيء من حقوق الزوجية الثابتة للحرائر حتى يستلزم الجور و التعسف الا إذا كان نكاحهن على وجه الزوجية كما فصل في الفقه.

و الآية الشريفة لا تدل على تجويز الظلم و التعدي على الإماء - فانه تعالى ليس بظلام للعبيد فلا يرخص بالظلم - و انما في مقام بيان ان الإماء ليست محدودة بحد الحرائر لان الإماء يتحملن من المشاق و المتاعب ما لا تتحمل الحرائر فليست الآية الكريمة في مقام تجويز الظلم عليهن.

ص: 264

قوله تعالى: ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا .

العول: هو الميل اي تميلوا الى الجور و المشار اليه في «ذلِكَ » ما تقدم من الاحكام النظامية فيتضمن نكاح الإماء و غيره.

و المعنى: انكم إذا عملتم بما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية تكونون اقرب الى الحق و عدم الميل الى الباطل.

و يمكن إرجاع الخطاب «ذلِكَ » الى خصوص تملك الإماء لعدم التحديد في تملكهن و التمتع بهن و عدم لزوم التسوية بينهن و ان كان الاولى ما تقدم لشموله لهن بالعموم ايضا.

قوله تعالى: وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً .

الخامس من الأصول النظامية المتقدمة: ما يتعلق بمهور النساء - اللواتي كاليتامى في الضعف - دفعا و أخذا منهن.

و الأمر متوجه الى من استولى على صدقاتهن و مهورهن زوجا كان أو غيره بدفع ما استولى منها إليهن.

و الصدقات: جمع صدقة بفتح الصاد و ضم الدال و هي كالصداق بمعنى المهر و هو المال - أو اي شيء له اعتبار عرفي و لم ينه الشرع عنه - يملّكه الزوج المرأة عند الازدواج لعادة استمرت بين الناس و قررتها الشرائع السماوية الا عند بعض المليين.

و النحلة هي العطية المقصود منها الانتفاع بلا عوض و التعبير بها للترغيب.

و المعنى: اعطوا النساء مهورهن التي جعلتم لهن نحلة و عطية أو جعل اللّه تعالى لهن عطية و لا تمنعوهن من مهورهن شيئا.

ص: 265

قوله تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً .

إي ان وهبن لكم شيئا من صداقهن و طابت نفوسهن إلى الهبة لكم - غير كارهات و لا لشكاسة أخلاقكم أو لسوء معاشرتكم - حل لكم اخذه و اكله.

و الضمير في (منه) يرجع إلى الصداق و الأمر للاباحة المشروطة بطيب النفس.

و الهنيء و المريء صفتان الاولى النعمة بلا نكد و لا تعب، و الثانية السائغة بلا غصة. و في حديث الاستسقاء «اللهم اسقنا غيثا مريثا».

قوله تعالى: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً .

بيان للأصل السادس من الأصول الفطرية العقلائية المطابقة للوجدان و هو التحفظ على المال عن الفساد و الانهيار إذ لولاه لاختل النظام و قد علل هذا الأصل في الآية الشريفة بأمتن تعليل و شهد به العقل و هو ان المال قيام لمعاش الناس، و مع وقوع الاختلال فيه يختل المعاش و مع اختلال المعاش يختل المعاد أيضا لقولهم (عليهم السّلام): «من لا معاش له لا معاد له».

و الخطاب (النهي) متوجه إلى الناس بأجمعهم وليا كان أو غيره كان المال للسفيه أو لغيره مخلوطا كان المال الذي هو مال السفيه مع غيره أو خالصا، ففي جميع ذلك لا يجوز دفع المال إلى السفيه فهذه الآية المباركة تشمل الآيات الشريفة المتقدمة شمول الكلي لأفراده.

و السفهاء: جمع سفيه، و السفه الخفة في العقل على نحو لا يضع

ص: 266

الأمور في مواضعها و ليس عنده حالة باعثة على حفظ ماله و الاعتناء به يصرفه في غير موقعه و يتلفه بغير محله و ليست معاملاته مبنية على المكايسة و التحفظ عن المغابنة و لا يبالي بالانخداع فيها و تقدم في آية 142 من سورة البقرة ما يتعلق بالمقام.

و اضافة الأموال إلى المخاطبين في قوله تعالى «أَمْوالَكُمُ » أعم من ان يكون للولي أو غيره مال و يريد ان يدعه عند سفيه أو يكون المال للسفيه و هو وليه يصرفه عليه يريد ان يعطيه و يرده اليه فحينئذ تكون الاضافة بالعناية و التنزيل أو غيرها. و في جميع ذلك يراعى فيه المصالح المقررة الشرعية التي أوجبها اللّه تعالى على عباده و حينئذ ان لم يراع فيه تلك المصالح المقررة الشرعية يكون من الصرف في الباطل و يستلزم الاختلال و حينئذ يخرج النظام عن الاستقامة إلى الانحراف و نظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى: «لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » * النساء - 29 و قوله تعالى: «وَ كُلُوا وَ اِشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا» الأعراف - 31.

و المعنى: لا تعطوا السفهاء أموالكم التي جعل اللّه لكم قياما و سببا لمعاشكم و قضاء مآربكم.

قوله تعالى: وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً .

الأصل السابع من تلك الأصول المتقدمة يتضمن العناية الخاصة منه جلّ شأنه بالنسبة إلى السفهاء لئلا يقعوا في الحرج و الشدة - و لا يقع الناس منهم في الحرج - لحرمانهم في التصرف في أموالهم فأمر جلت عظمته بالقيام بشئونهم من أموالهم.

ص: 267

و المراد من رزقهم فيها الانفاق عليهم و تغذيتهم و تنظيم معاشهم. كما ان المراد من كسوتهم هي اللباس و المقصود من القول المعروف هو المعاملة الحسنة تألفا لهم و رفعا لحزازة حبس الأموال عنهم لأنهم بشر أمثالكم يتأثرون بالقول الخشن و قد تغير المعاملة الحسنة و الأخلاق الحميدة سلوكهم و يزيل السفه عنهم و هذا هو الأصل الثابت من الأصول المتقدمة.

قوله تعالى: وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى حَتّى إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ .

الثامن: من الأصول المتقدمة في تمحيص اليتامى و اختبارهم لإحراز صلاحيتهم و اهليتهم لدفع أموالهم إليهم و هو متقوم بأمرين:

الاول: البلوغ في السن و هو المراد ببلوغ النكاح اي المرحلة التي جعلها اللّه تعالى لنوع البشر و هي الحالة التي تحدث فيها مادة النسل في الذكر و دم الحيض في الأنثى بحيث يكونان صالحين للأزواج و الانجاب و لها امارات كالاحتلام و الإنبات و السن على ما فصلناه في الفقه فراجع كتاب الحجر من (مهذب الاحكام) اي: امتحنوا اليتامى بعد بلوغهم و اختبروا حالاتهم.

قوله تعالى: فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ .

الأمر الثاني: احراز الرشد و الاهتداء لحفظ المال.

و الجملة جواب لإذا الظرفية الذي هو «إِذا بَلَغُوا اَلنِّكاحَ » اي:

إذا وجدتم من اليتامى البالغين رشدا و اهتداء في حفظ أموالهم و ضبطها بعد كبرهم و بلوغهم فادفعوا إليهم أموالهم، فدفع الأموال لا يكون إلا بعد البلوغ و وجدان الرشد فيهم.

ص: 268

قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا .

الأصل التاسع في المنع عن التعدي في اموال اليتامى. و الاكل معروف و المراد منه مطلق الاستيلاء. و الإسراف: تجاوز الحد.

و البدار: المسارعة إلى الشيء.

و المعنى: لا تأكلوا اموال اليتامى بالتجاوز و التعدي و لا تبادروا في أكلها بحيث لو بلغ اليتيم رشيدا لمنعهم عن ذلك.

قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ .

الأصل العاشر: في تحديد تملك من يتصدى لأموال اليتيم من أموالهم لاجرة عمله اي من كان غنيا ذا مال و ثروة فليكف عن الاكل و التصرف في اموال اليتامى و من كان فقيرا و كان عمله في صلاح اموال اليتامى فليأكل منها و ليتصرف بالمعروف بحسب اجرة مثل عمله.

و الأمر و ان كان للاباحة إلا انه مقيد بالمعروف فالاكثار منه فيه محذور فولي اليتيم - أو من يتصدى لأمواله - ان استغنى عف و ان افتقر أكل بالمعروف.

قوله تعالى: فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ .

الأصل الحادي عشر: في الاستيثاق عند دفع الأموال إليهم و هو الشهادة تحكيما للأمر و دفعا للاختلاف.

و المعنى: إذا سلّمتم إليهم أموالهم بعد توفر الشروط السابقة و قبضوها منكم فاشهدوا عليهم بالقبض.

و الأمر ارشادي محض لأنه لو فرض الاستيثاق و الاستيمان في القبض بلا الشهادة لا تجب شهادة حينئذ كما هو واضح.

ص: 269

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً .

تعليل لجميع ما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية و في ذكر اسم اللّه تعالى تنبيه على انه محيط و مسلط على جميع ذلك و كفى به محاسبا عليكم في جميع أعمالكم و ما صدر و يصدر منكم.

بحوث المقام
بحث ادبي:

اليتامى في قوله تعالى: «وَ آتُوا اَلْيَتامى » جمع يتيم و هو فعيل - صفة - و هي قد تجمع على فعال - مثل كريم و كرام - أو على فعلاء - كشريف و شرفاء - أو فعل كنذير و نذر أو فعلى مثل مريض و مرضى و لا يأتي على فعالي إلا في مثل هذه الآية الشريفة و في قوله تعالى: «وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى » - سورة البقرة - 85 و لعله انه جمع أولا على يتمى كمرضى ثم جمع يتمى على يتامى.

أو يكون ذلك بالقلب فان يتيم صفة جار مجرى الأسماء فجمع يتيم يتائم ثم قلب إلى يتامى كنديم و ندامى و جميع ذلك على وجه السماع.

و التبدل في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا» من باب التفعل و مجيئه بمعنى الاستفعال غير عزيز.

و الباء في قوله جلّ شأنه «بِالطَّيِّبِ » للبدلية دخلت على المبدل منه كما في قوله تعالى: «وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ اَلْكُفْرَ بِالْإِيمانِ » البقرة - 108.

ص: 270

و إلى في قوله تعالى: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ » بمعنى مع كما في قوله تعالى: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ » * آل عمران - 52 اي مع اللّه و قوله تعالى: «فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ » المائدة - 6.

و ما في قوله تعالى: «ما طابَ » كما تقع لما لا يعقل كذلك تقع لنعوت ما يعقل و في المقام وقعت لنعت ما يعقل اي فانكحوا الطيب من النساء.

و مثنى و ثلاث و رباع في موضع نصب بدلا من (ما) و قد وردت هذه الجملة في القرآن الكريم في موردين أحدهما المقام و الثاني قوله تعالى: «جاعِلِ اَلْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » فاطر - 1 و يستفاد من الآية الاخيرة ان هذه الكلمات الثلاث نكرات لأنها جاءت صفة للنكرة و النكرة لا توصف بالمعرفة.

و النصب فيها بدل عن التنوين فان كل منهما تمييز و حق التمييز النصب بالتنوين و لكنها ممنوعة من الصرف للتأنيث و العدول فإنها معدولة عن الاعداد المكررة اثنين اثنين، و ثلاث ثلاث، و اربع اربع فنصب بالفتح فقط، و قيل انها صفة.

و المشهور ان العرب لا تجاوز في هذا الباب عن رباع الى ما فوق فلا يقولون خماس.

و من في قوله تعالى «مِنْهُ نَفْساً» للتبيين و ليس للتبعيض مثل قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ مِنَ اَلْأَوْثانِ » الحج - 30 و النصب في (نفسا) للتمييز.

و افراد (التي) في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً» لان الأموال جمع لا يعقل و يجري فيه لفظ الواحد كقوله تعالى: «فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ اَلَّتِي» سورة هود - 101 و قال

ص: 271

تعالى: «جَنّاتِ عَدْنٍ اَلَّتِي» * مريم - 61 بخلاف ما لو كان لما يعقل كقوله تعالى:

«وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي» النساء - 22 و قوله تعالى: «وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي» . النساء 22 و الباء في قوله تعالى: «كَفى بِاللّهِ حَسِيباً» للحصر.

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:

ان التعبير بآتوا في قوله تعالى «وَ آتُوا اَلْيَتامى » يدل على عناية خاصة منه تعالى للأيتام لم تكن في التعبير بغيره مثل اعطوا أو ارجعوا لان الإيتاء هو إعطاء خاص لا مطلق الإعطاء.

الثاني:

انما عبر جلّ شأنه بالخبيث دون غيره حتى يشمل الفاسد و المحرم و غيرهما فانه كما تقدم عام يشملهما و يشمل الردي و الفاسد و ما سواهما و كذا الطيب يشمل المباح و الواجب و المندوب.

الثالث:

ان الاختلاف في التعبير بقوله تعالى: «أَلاّ تُقْسِطُوا» و قوله تعالى: «أَلاّ تَعْدِلُوا» لان الاول وقع موقع الخوف من عدم الاقساط الذي هو بمعنى العدل اي: خفتم من ترك العدل في اموال اليتامى و نسائهم و الثاني بمعنى الجور يعني: ان خفتم ان تجوروا و تميلوا في النفقة عن الحق فواحدة منهن.

الرابع:

يستفاد من الآية الشريفة «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » الجمع في الحكم اي يجوز للرجل التزويج بتسع نساء طولا لان الواو و إن بقيت على حالها لكنها لا يستلزم الجمع بين تسع نسوة عرضا لان الجمع في الحكم لا يستلزم الجمع في الزمان الواحد و ذلك بقرينة ما ورد

ص: 272

في الكتاب و السنة من عدم جواز الجمع بأكثر من اربع منهن.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » على مشروعية تعدد الزوجات و التخيير بين التزويج بواحدة منهن أو اثنتين أو ثلاث أو اربع و هذه الآية من الآيات المعدودة التي تقرر مبدأ تعدد الزوجات الى اربع و تبيح ذلك و لكن الاباحة مقيدة بقيود تحددها الى الحد المطلوب و الذي تستقيم به الحياة كما تدل عليه الآية الشريفة و سيأتي الكلام في هذا المجال في البحث الآتي.

و انما عدل سبحانه و تعالى عن الاثنين و الثلاث و الأربع الى مثنى و ثلاث و رباع لان الخطاب للجميع فالمعنى ان كل من يريد الجمع من المخاطبين اثنتين اثنتين فقط أو ثلاث ثلاث أو اربع اربع و لو أفردت لما أفاد هذا المعنى.

و من ذلك يعلم الوجه في إتيان حرف العطف ب (و) دون (او) فانه يدل على جواز الجمع بين انواع القسمة التي دلت عليه الواو اي: ان شاء الجميع ان يتفقوا في اي عدد من تلك الاعداد أو يختلفوا في تلك الاعداد.

و ذهب بعض الى ان الآية الكريمة تدل على جواز الجمع بين تسع نسوة التي هي مجموع اثنتين و ثلاث و اربع لمكان الواو و لكنه مردود بما ذكرناه.

السادس:

انما خص النهي عن أكل مال اليتامى مع اموال الأولياء أو الأوصياء أو غيرهما و لم ينه عن الاكل وحده مع ان ذلك حرام أيضا لان أكل مال اليتيم كذلك أقبح لان فيه الاستغناء حيث لغير اليتيم مال و هو مستغن به و لذلك خصه بالنهي. و ان الاكل كذلك فيه نحو خفاء و تستر بخلاف الاكل وحده، كما أنه جاء النهي على ما وقع منهم.

ص: 273

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً » على ان النكاح ليس من المعاوضة الحقيقية فالصداق نحو نحلة و هدية من الزوج إلى المرأة.

كما ان التعبير ب (طبن) يدل على اعتبار ان يكون اعطائهن الصداق للزوج عن جزم و عزم نفساني غير قابل للتبدل لا مجرد الاذن الظاهري فذلك لا يتحقق إلا بهذا التعبير (طبن).

الثامن:

يدل قوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً» على كثرة المعاشرة مع اليتامى و معاشرة اليتامى معهم بحيث صار ذلك مغروسا في النفس و حصل الاطمينان الكامل بالرشد كما في قوله تعالى حكاية عن موسى بن عمران (عليه السّلام): «إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً» .

التاسع:

يدل قوله تعالى: «وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» على اختلاف كيفية المقاولة معهم بحسب الازمنة و الأمكنة و الحالات كما في قوله تعالى: «وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ » فان ذلك يختلف اختلافا كثيرا و كذا في قوله تعالى: «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » .

العاشر:

يدل قوله تعالى: «وَ كَفى بِاللّهِ حَسِيباً» على التهويل و اهمية ما تقدم من الاحكام و الأصول النظامية على نحو ان الحي القيوم المحيط بجميع العوالم بكلياتها و جزئياتها هو يتكفل الحساب و يحاسبكم على أعمالكم و ما صدر منكم.

بحث روائي

في تفسير علي بن ابراهيم في قوله تعالى: «وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » يعني: «لا تأكلوا مال اليتيم ظلما فتسرقوا و تبدلوا الخبيث بالطيب» و الطيب ما قال اللّه: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ... وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ » يعني مال اليتيم إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً . اي إثما عظيما».

ص: 274

في تفسير علي بن ابراهيم في قوله تعالى: «وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » يعني: «لا تأكلوا مال اليتيم ظلما فتسرقوا و تبدلوا الخبيث بالطيب» و الطيب ما قال اللّه: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ... وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ » يعني مال اليتيم إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً . اي إثما عظيما».

أقول: هذه الروايات من باب بيان أهم المصاديق للآية الشريفة و كذا في تبديل الخبيث بالطيب.

و في نهج البيان للشيباني في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » قال ابن عباس: «لا تتبدلوا الحلال من أموالكم بالحرام من أموالهم لأجل الجودة و الزيادة فيه قال و هو المروي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه (عليهما السّلام)».

أقول: ما ورد في الرواية من باب ذكر احد المصاديق و أهمها و انطباق الكلي عليه و الا فالآية الشريفة عامة لها مصاديق اخرى يأتي في البحث العرفاني و تقدم في التفسير أيضا.

و في مجمع البيان قال: «روى انه نزلت هذه الآية» (وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ » .

كرهوا مخالطة اليتامى فشق ذلك عليهم فشكوا ذلك إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فانزل اللّه سبحانه: «وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ » قال و هو المروي عن السيدين الباقر و الصادق «عليهما السلام».

أقول: هذه الرواية و أمثالها ارشاد إلى لزوم الجادة الوسطى في كل الأمور و عدم الإفراط و التفريط.

و في تفسير العياشي عن سماعة عن الصادق (عليه السّلام) قال:

«سألته عن رجل أكل مال اليتيم هل له توبة ؟ فقال يؤدي الى اهله

ص: 275

لان اللّه يقول: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» و قال: «إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» .

أقول: هذه الرواية موافقة للقاعدة لان التوبة لا تتحقق الا بعد أداء حق الناس إليهم.

و في الفقيه باسناده عن أبى بصير قال: «قلت لأبى جعفر (عليه السّلام) ما أيسر ما يدخل العبد النار؟ قال: من أكل من مال اليتيم درهما و نحن اليتيم».

أقول: هذه الرواية من باب بيان أهم المصاديق.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ - الآية -» نزلت في رجل من غطفان كان عنده مال كثير لابن أخ له يتيم. فلما بلغ اليتيم طلب المال فمنعه عمه فترافعا الى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فنزلت الآية فلما سمعها العم قال: اطعنا اللّه و اطعنا الرسول، نعوذ باللّه من الحوب الكبير فدفع اليه ماله فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) من يوق شح نفسه و يطع ربه فانه يحل داره يعني جنته فلما قبض الفتى ماله أنفقه في سبيل اللّه فقال النبي (صلى اللّه عليه و آله) ثبت الأجر و بقي الوزر فقالوا يا رسول اللّه قد عرفنا انه ثبت الأجر فكيف بقي الوزر و هو ينفق في سبيل اللّه فقال (ص): ثبت الأجر للغلام و بقي الوزر على والده».

أقول: لا ريب في ان ذلك من باب بيان بعض المصاديق فيجري الحكم في الجميع مطلقا و ذيل الرواية موافق لقوله تعالى: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى » النجم - 39 فكأن والده حمل أوزارا في جمع المال.

و في تفسير العياشي عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليه السّلام) «إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً» قال: «هو مما قال يخرج الأرض من اثقالها».

ص: 276

أقول: هذه الرواية تدل على عظمة هذا الإثم.

و في حديث الدعاء «تقبل توبتي و اغسل حوبتي» اي اثمي و فيه ايضا «اللهم اغفر لنا حوبنا» اي إثمنا.

و في تفسير علي بن ابراهيم قال: «نزلت مع قوله تعالى:

«وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ...

فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » فنصف الآية في أول السورة و نصفها على رأس المائة و عشرين آية و ذلك انهم كانوا لا يستحلون ان يتزوجوا بيتيمة قد رأوها فسألوا رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) عن ذلك فانزل اللّه تعالى «يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ - الى قوله - مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » و قوله تعالى «ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا» اي لا تتزوجوا ما لا تقدرون ان تعولوا».

أقول: يمكن ان يكون التفكيك في كيفية سماع الناس من رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مرتين لا في اصل نزول الوحي.

و في اسباب النزول للواحدي: «أنزلت هذه الآية «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا» في الرجل يكون له اليتيمة و هو وليها، و لها مال و ليس لها احد يخاصم دونها فلا ينكحها حبا لمالها و يضّربها و يسيء صحبتها فقال اللّه تعالى: «وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ » ما أحللت لك ودع هذه».

أقول: و قريب منه ما رواه المسلم في صحيحه و ان ذلك من باب ذكر أهم المصاديق.

و في الكافي باسناده عن نوح بن شعيب قال: «سأل ابن أبي

ص: 277

العوجاء هشام بن الحكم فقال أو ليس اللّه حكيما؟ قال بلى هو احكم الحاكمين قال فاخبرني عن قوله عز و جل «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » أ ليس هذا فرض ؟ قال بلى قال فاخبرني عن قوله عز و جل: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ » ايّ حكيم يتكلم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه (عليه السّلام) فقال يا هشام في غير وقت حج و لا عمرة ؟ قال نعم جعلت فداك لأمر اهمني ان ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء قال و ما هي ؟ قال فأخبره بالقصة فقال له أبو عبد اللّه (عليه السّلام) اما قوله عز و جل: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » يعني بالنفقة و اما قوله تعالى: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ » يعني في المودة قال فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره قال و اللّه ما هذا من عندك».

أقول: يمكن رفع التهافت و ردّ قول ابن أبي العوجاء بالاختلاف الجهتي المعقول و ما قاله (عليه السّلام) من احدى تلك الجهات.

و في تفسير علي بن ابراهيم: «سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول فقال: أخبرني عن قول اللّه عز و جل: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » و قال في آخر السورة: «وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ » فبين القولين فرق ؟ فقال أبو جعفر الأحول فلم يكن عندي في ذلك جواب فقدمت المدينة فدخلت على أبي عبد اللّه (عليه السلام) و سألته عن الآيتين فقال اما قوله:

ص: 278

«فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » فإنما عنى به النفقة و قوله «لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ » فإنما عنى به في المودة فانه لا يقدر احد ان يعدل بين المرأتين في المودة فرجع ابو جعفر الأحول إلى الرجل فأخبره فقال هذا حملته الإبل من الحجاز».

أقول: ما قاله (عليه السلام) رفع معقول للتنافي كما تقدم في الرواية السابقة.

و في الكافي باسناده عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق و قال لا يجمع ماء في خمس».

و في تفسير العياشي باسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «لا يحل لماء الرجل ان يجري في اكثر من اربعة أرحام من الحرائر».

أقول: هذا بناء على ما هو المتسالم بين المسلمين من ان المطلقة الرجعية زوجة فلا بد من حمل الطلاق فيها على الطلاق الرجعي دون البائن و من لا عدة له.

و عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن سنان ان أبا الحسن الرضا (عليه السلام) «كتب اليه فيما كتب من جواب مسائله: علة تزويج الرجل اربع نسوة و تحريم ان تزوج المرأة اكثر من واحد لان الرجل إذا تزوج اربع نسوة كان الولد منسوبا اليه و المرأة لو كان لها زوجان أو اكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف».

أقول: هذه الرواية محمولة على ما إذا كان الزوجان في زمان واحد عرضا لا طولا بان تزوجت برجل ثم فارقته و اعتدت منه

ص: 279

فتزوجت بآخر و هكذا.

و عن ابن بابويه باسناده عن محمد بن الفضيل عن سعد الجلاب عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «ان اللّه عز و جل لم يجعل الغيرة للنساء و انما تغار المنكرات منهن فاما المؤمنات فلا انما جعل اللّه عز و جل الغيرة للرجال لأنه قد أحل اللّه عز و جل له أربعا و ما ملكت يمينه و لم يجعل للمرأة الا زوجها وحده و ان بغت معه غيره كانت عند اللّه زانية».

أقول: يشهد لذلك روايات اخرى تدل على ما ورد فيها.

و عن العياشي باسناده عن الصادق (عليه السلام) قال: «في كل شيء اسراف الا في النساء قال اللّه تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » و قال: «و أحل اللّه ما ملكت ايمانكم».

أقول: المراد من عدم الإسراف في النساء جواز التعدد الى الأربع في العقد الدائم و إلى ما لا حد له في ملك اليمين و الانقطاع كما فصلناه في كتابنا (مهذب الاحكام).

و في الكافي باسناده عن سعيد بن يسار قال: «قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام) جعلت فداك المرأة دفعت إلى زوجها مالا من مالها ليعمل به و قالت حين دفعت اليه أنفق منه فان حدث بك حدث فما أنفقت منه كان حلالا طيبا فان حدث بي حدث فما أنفقت منه فهو حلال طيب فقال أعد عليّ يا سعيد المسألة فلما ذهبت ان أعيدها عليه عرض فيها صاحبها و كان معي حاضرا فأعاد عليه مثل ذلك فلما فرغ أشار بإصبعه إلى صاحب المسألة فقال: يا هذا ان كنت تعلم انها قد أفضت بذلك إليك فيما بينك و بين اللّه فحلال طيب ثلاث مرات ثم قال يقول اللّه عز و جل: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» .

ص: 280

أقول: يستفاد من الرواية ان ما أعطته المرأة أعم من ان يكون من صداقها أو من غيره.

و في الكافي عن عدة من أصحابنا باسناده عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته و لا المرأة فيما تهب لزوجها اجيزت أو لم تجز ا ليس اللّه تبارك و تعالى يقول:

«وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً» و قال: «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» و هذا يدخل في الصداق و الهبة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية ان الهبة غير المعوضة في الزوج و الزوجة لازمة كما ذكرنا في الفقه و ان الصداق داخل في الهبة من باب الدخول الحكمي لا الموضوعي.

و في تفسير العياشي عن زرارة قال: «لا ترجع المرأة فيما تهب لزوجها حيزت أو لم تحز ا ليس اللّه يقول: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» .

أقول: يستفاد ذلك من روايات كثيرة تقدم بعضها و قد ذكرنا أن الهبة بين الزوج و الزوجة لازمة.

و في تفسير العياشي ايضا باسناده عن سماعة بن مهران عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه تعالى «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» يعنى بذلك أموالهن في أيديهن مما ملكن».

أقول: الرواية تشمل الصداق و غيره مما ملكن.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن القداح عن الصادق عن أبيه (عليهما السلام) قال: «جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال أمير المؤمنين (عليه السلام)

ص: 281

أ لك زوجة ؟ قال نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فاني سمعت اللّه يقول في كتابه: «وَ نَزَّلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً مُبارَكاً» و قال «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » و قال «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» شفيت ان شاء اللّه تعالى ففعل ذلك فشفى».

أقول: اقتباس حسن لطيف من الآيات المباركة و لعل الشفاء من الآثار الوضعية لما قرره في تلك الآيات الشريفة و قريب منها غيرها.

و في تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ » فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل ان امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له ان يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل اللّه له قياما يقول: «وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها وَ اُكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» المعروف العدة».

أقول: المراد بالعدة الوعد بالإحسان، و توصيف السفيه بالمفسد بيان لبعض مراتب السفاهة.

و في تفسيره ايضا باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): شارب الخمر لا تصدقوه إذا حدث و لا تزوجوه إذا خطب و لا تعودوه إذا مرض و لا تحضروه إذا مات، و لا تأتمنوه على امانة؛ فمن ائتمنه على امانة فأهلكها فليس على اللّه ان يخلفه عليها و لا ان يأجره عليها لان اللّه يقول: «وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ » و اي سفيه أسفه من شارب الخمر؟!».

أقول: قد ورد في كثير من الاخبار تفسير السفيه بشارب الخمر و هو صحيح من باب ذكر اللازم و ارادة الملزوم فان شرب الخمر

ص: 282

ملازم لزوال العقل و عدم إصلاح المال خصوصا إذا غلب عليه ذلك و صار مدمنا و يمكن الحمل على السفه الواقعي لا ما هو موضوع حكم السفه شرعا و على هذا كل من ارتكب المعاصي سفيه من هذه الجهة و لا اختصاص بشرب الخمر لان «العقل ما عبد به الرحمن و اكتسب به الجنان» و كل ما كان خلافه فهو سفه.

و في تفسير علي بن ابراهيم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال:

«إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب اللّه ثم قال في بعض حديثه ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السئوال فقيل له يا ابن رسول اللّه اين هذا من كتاب اللّه ؟ قال ان اللّه عز و جل يقول «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ » و قال: «لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً» و قال: «لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ » .

أقول: الروايات في ذلك كثيرة و ما ذكره (عليه السلام) استفادة حسنة من الآيات الشريفة.

و في تفسير العياشي عن يونس بن يعقوب قال: «سألت أبا عبد اللّه (عليه السلام) في قول اللّه: «وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ » قال:

من لا تثق به».

أقول: المراد من عدم الوثوق عدم تدبيره لأجل خفة في عقله كما مر في التفسير.

و عن علي بن ابراهيم في تفسيره عن علي بن أبى حمزة عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال هم اليتامى لا تعطوهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال إذا كنت أنت الوارث لهم».

ص: 283

أقول: مفاد الرواية التنزيل بإضافة المال إلى كل من الوارث و المورّث.

و عن علي بن ابراهيم قال: أمير المؤمنين (عليه السلام) من كان في يده مال بعض اليتامى فلا يجوز له ان يعطيه حتى يبلغ النكاح و يحتلم، فإذا احتلم وجب عليه الحدود و اقامة الفرائض، و لا يكون مضيعا و لا شارب خمر و لا زانيا فإذا انس منه الرشد دفع اليه المال و اشهد عليه و ان كانوا لا يعلمون انه قد بلغ فانه يمتحن بريح إبطه و نبت عانته فإذا كان ذلك فقد بلغ فيدفع اليه ماله إذا كان رشيدا و لا يجوز ان يحبس عنه ماله و يعتل عليه بانه لم يكبر بعد».

أقول: يظهر من هذه الرواية ان إتيان كل كبيرة سفه و هو كذلك و ان لم يعمل مشهور الفقهاء بذلك و ما ورد من الاختبار بريح الإبط مهجور لدى الأصحاب و لم يعمل به احد.

و في اسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: «وَ اِبْتَلُوا اَلْيَتامى - الآية -» نزلت في ثابت بن رفاعة و في عمه و ذلك؛ «ان رفاعة توفى و ترك ابنه ثابتا و هو صغير فاتى عم ثابت إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فقال له: ان ابن أخي يتيم في حجري فما يحل لي من ماله ؟ و متى ادفع اليه ماله ؟ فانزل اللّه تعالى هذه الآية».

أقول: الرواية من باب ذكر المصداق و الا فالآية الشريفة عامة إلى يوم القيامة.

و في الفقيه باسناده عن الصادق (عليه السلام): «انه سئل عن قول اللّه عز و جل: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » قال إيناس الرشد حفظ المال».

أقول: قريب منها ما عن العياشي في تفسيره و مثل هذه الروايات تبين اظهر مصاديق الرشد و آثاره.

ص: 284

و في الفقيه ايضا باسناده عن الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: «فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ » قال:

«إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة».

و قال ابن بابويه «ان الحديث غير مخالف لما تقدم و ذلك انه إذا أونس منه الرشد و هو حفظ المال دفع اليه ماله و كذلك إذا أونس منه الرشد في قول الحق اخبر به و قد تنزل الآية في شيء و تجرى في غيره».

أقول: قريب منها ما عن العياشي في تفسيره و يظهر من مثل هذه الرواية ان ترك كل كبيرة مأخوذ في معنى الرشد و ان رفع الدرجة أخص من دفع المال لهم.

و في الفقيه أيضا باسناده عن منصور بن حازم عن هشام عن الصادق (عليه السلام) قال: «انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشده و ان احتلم و لم يونس منه رشد و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله».

أقول: المراد من الضعف ضعف التدبير في أموره و ان لم يبلغ مرتبة السفه.

و عن ابن بابويه باسناده عن صفوان عن عيص بن القاسم عن الصادق (عليه السلام) قال: «سألته عن اليتيمة متى يدفع إليها؟ قال:

إذا علمت انها لا تفسد و لا تضيع، فسألته ان كانت قد تزوجت ؟ فقال:

إذا تزوجت فقد انقطع ملك الوصي عنها».

أقول: المراد من التزويج الكناية عن بلوغها تسع سنين.

و في الكافي باسناده عن عثمان بن عيسى عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال:

«من كان يلي شيئا لليتامى و هو محتاج ليس له ما يقيمه فهو يتقاضى أموالهم و يقوم في ضيعتهم فليأكل بقدر الحاجة و لا يسرف فان كانت

ص: 285

ضيعتهم لا تشغله عما يعالج لنفسه فلا يزرأ من أموالهم شيئا».

أقول: ان العامل في مال اليتيم - وليا كان أو غيره - من يستحق اجرة مثل عمله ان لم يقصد الاباحة المطلقة هذا بحسب القواعد الشرعية و ما ورد من الاخبار الدالة على غير ما ذكرنا كما تقدم فهي محمولة على الفضل و الفضيلة.

و في الكافي أيضا باسناده عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال: «المعروف هو القوت و انما عنى الوصي أو القيم في أموالهم و ما يصلحهم».

أقول: قريب منه ما عن الشيخ في التهذيب و المراد من القوت هو القوت الغالب فتنطبق الرواية على اجرة المثل غالبا.

و في التهذيب باسناده إلى أبي الصباح الكناني عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه عز و جل: «مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال:

«فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس ان يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فان كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا».

أقول: هذه الرواية و أمثالها محمولة على مراتب الفضل.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن أسباط عن الصادق (عليه السلام) قال: «سمعته يقول ان نجدة الحروري كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقضي يتمه ؟ فكتب اليه اما اليتيم فانقطاع يتمه و هو الاحتلام إلا ان يونس منه رشدا بعد ذلك فيكون سفيها أو ضعيفا فليشد عليه».

أقول: معنى ذيل الرواية اي لا يعطى ماله اليه.

و في تفسير العياشي باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه: «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » فقال هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية و يشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف و ليس ذلك في الدنانير و الدراهم التي عنده موضوعة».

ص: 286

و في تفسير العياشي باسناده عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قول اللّه: «وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » فقال هذا رجل يحبس نفسه لليتيم على حرث أو ماشية و يشغل فيها نفسه فليأكل منه بالمعروف و ليس ذلك في الدنانير و الدراهم التي عنده موضوعة».

أقول: ان الدراهم و الدنانير لو كانتا بنحو الامانة و الا فحكمهما حكم غيرهما.

و عن العياشي في تفسيره باسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «سألته عن قول اللّه: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال: ذلك إذا حبس نفسه في أموالهم لا يحترث لنفسه فليأكل بالمعروف من أموالهم».

أقول: هذه الرواية محمولة على الفضل و الا يجوز له أخذ اجرة المثل و ان كان محترثا لنفسه ايضا.

و عن رفاعة عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) في قوله «فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال كان أبي يقول انها منسوخة».

أقول: و في الدر المنثور: نسختها إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً - الآية» و المراد من النسخ الإطلاق و التقييد لا النسخ المصطلح.

و عن زرارة و محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام) انه قال:

«مال اليتيم ان عمل به من وضع على يديه ضمنه و لليتيم ربحه قال قلنا له قوله «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » قال انما ذلك إذا حبس نفسه عليهم في أموالهم فلم يتجر لنفسه فليأكل بالمعروف من مالهم».

أقول: انها محمولة على الفضل و الفضيلة كما تقدم في الروايات السابقة.

و في مجمع البيان في قوله تعالى: «رُشْداً» قال: «المراد به العقل و إصلاح المال و هو المروي عن الباقر (عليه السلام) و قال في قوله

ص: 287

تعالى: «وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ » معناه من كان فقيرا فليأخذ من مال اليتيم قدر الحاجة و الكفاية على جهة القرض ثم يرد عليه ما أخذ قال و هو المروي عن الباقر (عليه السلام)».

أقول: اما الاول فقد تقدم انه من باب ذكر أهم المصاديق و الثاني محمول على الفضيلة و الا فيجوز له أخذ اجرة عمله كما مر.

بحث قرآني

مقتضى الروايات الواردة ان لكل واحد من الآيات الشريفة القرآنية آثارا وضعية و خواصا واقعية معلومة و هي واضحة لأهل العرفان بالتجربة و الاختبار بعد الخلوص و الإخلاص - و قد تقدم بعضها في البحث الروائي - و من تلك الآثار و الخواص شفاء المرضى و قضاء الحاجات و كشف الكربات و كانت الآيات المباركة في مدة من الزمن يستشفي بها في جملة كثيرة من المرضى و ذوي الأسقام عند الأخيار و لكن كثرة الحجب الظلمانية منعت عن تلك الآثار، فعدم الأثر لوجود المانع لا لعدم المقتضي.

و لعل السر في وجود تلك الخواص الأثر المعنوي الموجود في تلك الآيات الكريمة و انها عين الواقع و الحقيقة التي لا ريب فيها فهي واقع محض صدر عن واقع محض و من بيده مقاليد السموات و الأرض و من بيده ملكوت كل شيء و من عنده مفاتيح الغيب فلا بد من التأثير و تحقق تلك الخواص حينئذ لا محالة.

و لذا لا يختص الأثر في الآيات المباركة بطائفة خاصة و يعم الجميع

ص: 288

فان رحمته جلت عظمته غير محدودة و لا تختص بطائفة.

نعم تشخيص المورد له اهمية عظمى و رفع الحجب الظلمانية أهم منه بمراتب فعدم الأثر في بعض الموارد اما لعدم التشخيص أو لوجود الحجب (المانع) و الا فان المقتضي تام.

و لا فرق في ذلك بين ان يكون الأثر مترتب على نفس الآيات الشريفة كما ذكروه في كتب خواص الآيات الكريمة أو على ما يستفاد منها كما علّمه علي (عليه السلام) على ما تقدم في البحث الروائي.

و ينبغي ان يعد هذه الآثار و الخواص من معجزات الآيات الكريمة و كراماتها الباهرة التي تظهر بعد القرون و الدهور.

و انما لا تظهر لبعض النفوس لغلظة الحجب الظلمانية عليه و لعله بعد ظهور شمس الحقيقة عن أفق الغيبة ينحصر علاج المرضى بالقرآن و آياته المباركة و انكشاف المهمات و قضاء الحاجات بها و لا بد و ان يكون كذلك لان القرآن لم يتجلّ بعد بحقيقته النورانية و لم ينطق به الا الشفاه و لم تلج بها الا الالسنة و كيف يكون مورد التجلي الأعظم في كتابه الكريم بذلك!!.

و يشهد لما تقدم شواهد كثيرة معلومة منها: الدعوات الكثيرة المأثورة عن الائمة الهداة (عليهم السلام) لشفاء بعض الأمراض و الأسقام الواردة فيها الآيات الكريمة من القرآن.

و منها: ما تقدم في البحث الروائي و في تفسير العياشي قال:

«اشتكى رجل الى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال له: سل من امرأتك درهما من صداقها فاشتر به عسلا فاشربه بماء السماء ففعل ما امر به فبرئ فسأل أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ذلك أ شيء سمعته من النبي (صلى اللّه عليه و آله) قال: لا و لكني سمعت اللّه

ص: 289

يقول في كتابه «فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً» و قال: «يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ » و قال: «نَزَّلْنا مِنَ اَلسَّماءِ ماءً مُبارَكاً» فاجتمع الهنيء المريء و البركة و الشفاء فرجوت بذلك البرء».

و منها: الروايات الواردة في خواص الآيات الكريمة و آثارها المذكورة في الكتب المعدة لها و بعض التفاسير.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة احكام:

الاول: ان اطلاق الآية الشريفة «وَ آتُوا اَلْيَتامى أَمْوالَهُمْ » يشمل كل يتيم ذكرا كان أو أنثى صغيرا كان أو كبيرا ان كان محجورا عليه.

كما لا فرق بين من عيّن الأب له قيّما أولا. نعم لو كان الجد موجودا فالولاية له.

و لا فرق في مال اليتيم بين ما إذا وصل اليه بإرث أو غير ذلك من الهدايا و المنح فان جميع ذلك ماله فتشمله الآية الكريمة.

الثاني: مقتضى الآية الشريفة و ما وردت من الروايات انه يجوز لليتيم التصرف في أمواله مع تحقق الشرائط و هي: ان يكون التصرف باذن الولي - شرعيا كان الولي أو تكوينيا. و ان يكون فيه المصلحة لليتيم كما فصلناها في كتابنا (مهذب الاحكام) و ان يكون التصرف سائغا شرعا كما يجوز للولي التصرف في اموال اليتيم بشرط عدم المفسدة بل مع وجود المصلحة كل ذلك كما فصلناه في الفقه.

ص: 290

الثالث: لا تختص حرمة تبدل الخبيث بالطيب بأموال اليتامى بل يجري ذلك في تبدل كل مال كذلك و لو كان من الكبير و الرشيد مع عدم مجوز شرعي لان ذلك أكل بالباطل و قال تعالى: «وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » البقرة - 188 و قال تعالى: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ اَلَّذِينَ إِذَا اِكْتالُوا عَلَى اَلنّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ » المطففين - 3 و لكن في اموال اليتامى تكون الحرمة أشد و اكثر تنفرا من غيرها و لذا أكّد النهي فيها.

و لو فعل ذلك احد لا يملك الطيب و تشتغل ذمته برده الى صاحبه و مع التلف ينتقل الى العوض بالمثل أو القيمة.

الرابع: ان قوله تعالى: «أَلاّ تَعُولُوا» عام يشمل النفقة و غيرها و التودد الخارجي بل الميل القلبي أيضا نعم ما كان خارجا عن الاختيار في القسم الأخير فهو معفوّ عنه و ان كان تحت الاختيار و ترتب عليه الأثر يكون داخلا في احد الأولين.

الخامس: مقتضى اطلاق الآية الشريفة و ما ورد من الروايات ان السفيه كما هو محجور عليه في ذمته فلا يصح ان يتعهد مالا أو عملا كذلك لا يصح اقتراضه و ضمانه و لا بيعه و لا شراؤه بالذمة و لا تزويجه، و كذا لا يصح ان يجعل نفسه اجيرا و عاملا للمضاربة و المزارعة و المساقاة و غير ذلك للحجر عليه شرعا.

كما ان المراد من عدم نفوذ تصرفات السفيه هو عدم استقلاله في ذلك فلو كان باذن الولي صح و نفذ.

السادس: لو احرز رشد السفيه سلّم اليه أمواله كما نصت عليه الآية الشريفة و غيرها من الروايات و لو لم يحرز رشده و اشتبه حاله يختبر السفيه بما يناسب شأنه بتفويضه البيع و الشراء و الاجارة و غيرها

ص: 291

مما يناسبه و كذا السفيهة و قد فصلنا ذلك في الفقه و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الاحكام).

السابع: يجب دفع اموال السفيه اليه فورا بعد تحقق الرشد و إحرازه لاصالة فورية دفع مال الغير اليه كما أثبتها الفقهاء و ذكرناها في الفقه.

الثامن: الاستعفاف لأولياء اليتامى عن التصرف في اموال اليتامى حسن و ليس بواجب شرعا لأنه يجوز أخذ اجرة عمله و ان كان غنيا كما أثبتناه في الفقه.

و كما ان الاكل بالمعروف كذلك ليس بواجب عليه بل له ان يرفع اليد عن ذلك و يعطى الجميع لليتيم.

بحث فلسفي

من أهم الأصول النظامية التكوينية الثابتة في علم الفلسفة التزاوج بين المادة الفاعلية و المادة المنفعلة بلا فرق في ذلك بين الإنسان و الحيوان و النبات كما بينه تعالى: «وَ أَرْسَلْنَا اَلرِّياحَ لَواقِحَ » الحجر - 22 فالتزاوج بينهما من الأصول التكوينية التي يقوم بها هذا العالم و له حدود و قيود لا يحيط بها الا اللّه تعالى و ان ظهر بعض منها بالتجربيات في ممر العصور و الدهور و بقيت جملة كثيرة اخرى منها في الخفاء و الكمون و سيظهر بعد ذلك ان شاء اللّه تعالى.

و يختص الإنسان من بين الحيوانات في هذا التزاوج و السفاد بمراسم خاصة قررها الشارع بمقتضى ان الإسلام دين الفطرة و عبر عنها في الكتب السماوية بالنكاح و أكد الترغيب اليه قال تعالى «وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » النور - 32 و في السنة المقدسة اخبار متواترة ترغب اليه مثل قوله (صلى اللّه عليه و آله): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني» و قوله (صلى اللّه عليه و آله): «تناكحوا و تناسلوا فاني اباهي بكم الأمم» إلى غير ذلك من الروايات.

ص: 292

و يختص الإنسان من بين الحيوانات في هذا التزاوج و السفاد بمراسم خاصة قررها الشارع بمقتضى ان الإسلام دين الفطرة و عبر عنها في الكتب السماوية بالنكاح و أكد الترغيب اليه قال تعالى «وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ » النور - 32 و في السنة المقدسة اخبار متواترة ترغب اليه مثل قوله (صلى اللّه عليه و آله): «النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني» و قوله (صلى اللّه عليه و آله): «تناكحوا و تناسلوا فاني اباهي بكم الأمم» إلى غير ذلك من الروايات.

كما نهى عن النكاح الذي لا يتوفر فيه تلك الشروط و عبر عنه بالزنا و أكد سبحانه و تعالى في النهي عنه كقوله تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً» الإسراء - 32.

و قد حدد الشارع الأقدس الزواج الدائم باعداد معينة و هي اربع و في غيرها بقيود اخرى كما تقدم في الآية الشريفة و سيأتي في البحث الآتي وجه التشريع في ذلك.

كما قرر نكاح جميع الملل و النحل فيما بينهم لأنه امر طبيعي بين البشر لا يختص بملة دون اخرى و لا يمكن التخلي عنه الا ان الشارع حدده بقيود لأجل تنظيم النظام و حفظ الأنساب و غيرهما من الحكم.

بحث اجتماعي
اشارة

الآيات الشريفة المتقدمة تدل على اباحة تعدد الزوجات في الإسلام و هذا الموضوع طالما اعترض اعداء الإسلام عليه و اتخذوه نحو قدح فيه، و قد استنكرت الجاهلية المعاصرة تعدد الزوجات و اعتبرته من عوائق التقدم الحضاري، و ان التعدد خلاف المصلحة بل موجب لسلب السعادة. و نحن في هذا البحث نذكر جملة مما ذكره اعداء الإسلام من المناقشات و الإشكالات على هذا الموضوع ثم الجواب عنها ثم نعالج الموضوع على ضوء ما ورد في الكتاب في هذا المضمار.

ص: 293

الإشكالات:

قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات باشكالات متعددة نحن نذكر المهم منها.

الاول: ان تعدد الزوجات خلاف الطبيعة فان التجربة و الإحصاء يدلان على تساوي عدد الذكور و الإناث في جميع الأمم و القبائل و يستفاد من ذلك ان الطبيعة اقتضت ان يكون الواحد من الذكور لواحدة من الإناث و خلاف ذلك يكون خلاف الطبيعة.

الثاني: ان حكم تعدد الزوجات ينافي الغرض المنشود من المجتمع الذي لا بد ان يسوده الحب و التعاون و التآلف بين الإفراد و إنه يعكس روح الانتقام في النساء من الرجال الذين أساءوا إليهن.

و يوجب الإهمال و التثاقل في تربية الاسرة و الأولاد و اشاعة الفساد و الخيانة هو مما يوجب انحطاط المجتمع الى الشقاء و الغواية.

الثالث: ان تعدد الزوجات استهانة لحرمة النساء في المجتمع فان معادلة الأربع من النساء بالواحد من الرجال تعريض لحقوقهن للخطر و أعراض عن عواطفهن.

الرابع: ان هذا التشريع يوجب ازدياد الشهوة في الرجال و ترغيبهم إلى الشره و بالاخرة انه يوجب تقوية هذه القوة في المجتمع.

هذه هي أهم الإشكالات التي أوردوها على هذا التشريع الالهي.

الجواب عن الإشكالات:
اشارة

و يمكن الجواب عن تلك الإشكالات بوجوه:

ص: 294

الاول:

ان ما ذكروه من ان التشريع خلاف الطبيعة فهو باطل اما أولا فان تساوي عدد الذكور و الإناث امر يكذبه الوجدان و الإحصاءات المتعددة التي اعلنت و تعلنها الجهات المختصة في مختلف العصور فان الحروب و الحوادث و كذا الموت تصيب المجتمعات فتفنى من الرجال اكثر من النساء و هذا امر ثابت بالوجدان.

و ثانيا: ان امر الزواج لا يستند على ما ذكروه من ان الطبيعة ساوت بين الرجال و النساء في العدد، بل ان هناك أمورا اخرى، فان النساء يختلفن عن الرجال في التهيؤ إلى النكاح و صلاحهن للازدواج و المضاجعة و الانجاب و لهذا اعتبر الإسلام سنّ التكليف في النساء بلوغ العشر، و في الرجال بلوغ الست عشرة من السنين و ذلك لاختلاف الطبائع في الطائفتين و هذا يكشف عن ان الطبيعة تقتضي التعدد كما هو واضح.

الثاني:

ان ما ذكروه من ان التعدد يميت عواطف النساء و تخيب آمالهن فهو باطل. لان الإنسان مركب من أمرين التعقل و العواطف و الاحساس. و السعيد هو الذي يمسك زمام العواطف و الاحساس و يجعلها تحت ادارة التعقل، و الإسلام و سائر الأديان السماوية أرادت من تعاليمها وضع الإنسان في مسير التعقل. و تهيئة المجتمع الانساني على نحو تقرره الحياة التعقلية دون الاحساس و العواطف التي لا تهدي إلى الكمال المنشود، و على هذا فالمرأة التي هذبتها الأخلاق الفاضلة، و قومتها التعاليم الاسلامية الرشيدة فإنها تجعل التعقل مقام العواطف و النزوات الشهوانية فهي ترى السعادة في ذلك.

و ما ذكروه قياس بين المجتمعات الغربية التي هي قائمة على تلك العواطف و الشهوات الحيوانية البغيضة و المجتمع الاسلامي الذي قوامه

ص: 295

التعقل، و من ثم نرى ما عليه من التفكك و الانحطاط الخلقي و انواع الشر و الفساد المتداول بينهم لأنهم خرجوا عن الفطرة التي خلقهم اللّه تعالى عليها و الصراط الذي أعدته التعاليم الإلهية لهم فترى ان المنكر الذي يعترف به العقل يكون معروفا عندهم. و انهم يشرعون القوانين في اباحة الفساد و الدمار و هذا لم يكن قبيحا عندهم و لا تجرح العواطف و لكن تعدد الزوجات يمسها و يميت الآمال هذه هي المدنية الحاضرة التي وصلت إلى الطريق المسدود.

الثالث:

ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات تضييع لحقوق النساء و عدم الاحترام لعواطفهن باطل، لما ذكرناه مرارا من ان الإسلام اعطى لكل ذي حق حقه، و انه احترم النساء و راعى حقوقهن بما لم يكن في ملّة اخرى و يتبين ذلك بوضوح عند معرفة منزلة النساء في المجتمعات الاخرى غير المجتمع الاسلامي. هذا مضافا إلى ان تعدد الزوجات لم يكن تضييعا لحقوق احد فان الإسلام في تشريعه هذا كان ينظر إلى أبعد من ذلك كما ستعرف ان شاء اللّه تعالى.

الرابع:

ان ما ذكروه من ان تعدد الزوجات يزيد في شره الرجال و الترغيب إلى الشهوة فهو مغالطة واضحة فان التربية الاسلامية الحقيقية تضع الرجال و النساء في هذا الموضوع في احسن تقويم فان النساء اللائي لا تقل شهوتهن عن شهوة الرجال لو اثرت التربية الواقعية فيهن جميعا فإنهن يضعن تلك الشهوة الغريزية في الطريق المستقيم الذي حدده الإسلام فتراه يعطي لهذه الحاجة الغريزية حقها و يفتح لها سبل معالجتها و الحد من سورتها و يمنع الكبت و الحرمان و لكنه يحرم الفجور و الفحشاء و الاسترسال في الأهواء الباطلة و كل ما يوجب إثارة الشهوة، فهو قد وضع هذه الغريزة الجامحة تحت سيطرة التعقل فلا يمنعها حتى يوجب

ص: 296

الكبت و الحرمان و لا يطلقها و يبسطها كل البسط ليزيد الفحشاء و الفجور فكان هذا التشريع الجديد من أهم السبل في تحديد هذا الغرض.

يضاف إلى ذلك ان الإسلام لم ينظر إلى النكاح بانه مجرد قضاء حاجة وقتية بل كان نظره إلى انه من سبل التربية الحقيقية فقد تحقق فيه جميع أساليب التربية الخلقية و النفسية و هذا ما يمتاز به هذا الدين القويم عن سائر الأديان الإلهية. و سيأتي في الموضع المناسب بيان ذلك ان شاء اللّه تعالى.

و على هذا يكون التشريع مشتملا على وجوه الحكمة و الصواب فانه أباح ذلك حفظا للمجتمع الانساني و تكثيرا للنسل و الأولاد و مراعاة للحقوق من الضياع و مدرسة للتربية الواقعية و غير ذلك مما اعترف به الخصم و أقرت به بعض الجمعيات التي رأت في تشريع تعدد الزوجات الخير و السعادة.

و مما ذكرنا يظهر الوجه في ادعاء بعض من اننا نرى ان الذي تزوج بزوجتين أو اكثر في شقاء دائم و صراع مستمر بين الضرتين أو الضرائر مما يسلب الهناء من العيش و الصلاح من الحياة و ربما يبلغ من شدة الحال انه يكون الأمر على خلاف المرجو من هذا التشريع فان ذلك مغالطة بين الواقع و الخيال.

و بتعبير آخر: انه خلط بين التشريع و التطبيق فان الإسلام راعى في هذا التشريع المصالح العامة و اما إذا اصطدمت هذه المصالح مع العادات و النزوات الشخصية فان الاحكام الشرعية تتبع المصالح و المفاسد الواقعية و اما مرحلة العمل و التطبيق فإنها راجعة إلى المكلف نفسه فان اللازم على المكلف ان يراعي جميع ما اعتبر في التكليف و التطبيق بين ما اراده الشارع المقدس و عمل المكلف و في هذه الحالة يؤثر التشريع اثره المطلوب و الا فان الأثر السيء الذي يقع خارجا يكون

ص: 297

نتيجة عمل المكلف و سوء تربيته و هذا الوجه جار في جميع التشريعات الإلهية بل التشريعات الوضعية أيضا، و ليس لاحد العذر في انها لم تؤثر أثرها لان الناس لم يراعوا حقها و لم يعملوا بها على ما اراده المشرع فمرحلة العمل و التطبيق امر يرجع إلى الناس و مرحلة التشريع امر آخر فانه يرجع إلى الشارع الذي يلاحظ المصالح العامة.

نظر الإسلام في هذا التشريع:

الآية الشريفة المتقدمة التي تضمنت خطابا موجها للعموم كسائر الخطابات القرآنية التي تكفلت تربية الناس تربية حقيقية واقعية فإنها تجعل الاباحة أو الترخيص أصلا ثم تورد القيود على هذا الأصل على حد يكون موجبا لتضييق مجالها إلى الحد الذي تستقيم به الحياة و يتحقق الكمال المنشود و هذا الأسلوب من أهم الاساليب التربوية التي تؤثر في النفس و تستلفت النظر الى المضمون، فقد جعلت هذه الآية الشريفة اباحة التعدد و جوازه هو الأصل ثم أوردت القيد الذي يضيق هذا الأصل الى الحد الذي يتحقق به الكمال و ينتظم به الحياة، و هو العدل بين الزوجات و انه لا يتحقق و لن يتحقق إذا لم يترب الفرد بالتربية الإلهية و لم يقم بالوظائف الشرعية فيكون هذا التشريع جامعا لمكارم الأخلاق و أهم الاحكام الاجتماعية و أعظم الأسس التربوية.

و من توجه الخطاب إلى العموم «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا» يستفاد ان التعدد لا بد ان يحدث في المجتمع الذي يسوده العدل بحيث يتزوج رجل واحد عدة نساء في ظل العدل و الإنصاف يسودهم الإخاء و المحبة فإذا توفرت تلك الشروط جاز التعدد و الا كانت الوحدة أفضل

ص: 298

فيستفاد من الآية المباركة ان الوحدة هي المطلوبة و ان كان التعدد مباحا بلا ريب و لا اشكال و إذا تحققت القيود التي ذكرها الشارع كانت الحياة معها أفضل و اهنأ.

تعدد ازواج النبي (صلى اللّه عليه و آله):

بعد ما عرفت الوجه في تشريع تعدد الزوجات في الإسلام و الحكمة فيه يتضح لك الوجه في تعدد زوجات الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله) فقد كان (ص) المتفرد بامتثال هذا التكليف الالهي بأكمل وجه فصار أسوة في هذا المجال حتى عد من مختصاته المعروفة حسن المعاشرة مع نسائه و رعاية حقوقهن و العدل بينهن و كفى به حجة على اعداء الإسلام الذين اعترضوا على هذا الترخيص الالهي و مع ذلك فقد اعترض بعضهم على تعدد زوجات النبي (صلى اللّه عليه و آله) بانه لا يخلو عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة، مع انه (صلى اللّه عليه و آله) لم يقنع بما شرعه لامته فتعدى منه إلى الازدواج بالتسع من النسوة.

و لكن المتأمل في حياة هذا الرجل العظيم الذي يعتبر بحق انه مثال للكمال المطلق و الذي مدحه الجليل الأعلى بقوله تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » القلم - 4 انه بعيد عن ما نسبوه اليه كل البعد و لم يظهر اي أثر من آثار الشره و الانقياد إلى الشهوة عليه في تمام مدة حياته و في معاشرته مع النساء و هو الذي امره اللّه تعالى بان يخير أزواجه بين التمتيع و الطلاق ان كن يردن الدنيا و زينتها على ما نزل عليه في كتابه المجيد من امره له فقال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» الأحزاب - 29 و كيف ينطبق عليه و قد زهد عن الدنيا و زخارفها و اعرض عن كل ما يلهيه عن ذكر اللّه تعالى.

ص: 299

و لكن المتأمل في حياة هذا الرجل العظيم الذي يعتبر بحق انه مثال للكمال المطلق و الذي مدحه الجليل الأعلى بقوله تعالى: «وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ » القلم - 4 انه بعيد عن ما نسبوه اليه كل البعد و لم يظهر اي أثر من آثار الشره و الانقياد إلى الشهوة عليه في تمام مدة حياته و في معاشرته مع النساء و هو الذي امره اللّه تعالى بان يخير أزواجه بين التمتيع و الطلاق ان كن يردن الدنيا و زينتها على ما نزل عليه في كتابه المجيد من امره له فقال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ فَإِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً» الأحزاب - 29 و كيف ينطبق عليه و قد زهد عن الدنيا و زخارفها و اعرض عن كل ما يلهيه عن ذكر اللّه تعالى.

و من ذلك كله يستفاد انه (صلى اللّه عليه و آله) أراد من زواجه بهن غير الذي ذكروه فهو قد أراد إماتة العادات الجاهلية أولا، و اظهار منزلة النساء التي أهملوها عندهم ثانيا، و بيان كيفية المعاشرة معهن ثالثا، و ليعطي الاهداف الخاصة في زواج كل واحدة منهن رابعا. هذا موجز الكلام و سيأتي في الموضع المناسب تفصيله.

بحوث عرفانية

الاول: يصح ان يراد باليتيم في الآية المباركة كل ذي حق واجب لا بد في نظام التكوين و التشريع مراعاة ذلك الحق و ان لم يكن من اليتم اللغوي كالأنبياء و الائمة المعصومين (عليهم السلام) و العلماء العاملين بعلمهم و التاركين للهوى مطلقا فإنهم بين الورى محرومون لا يعرف حقهم و لا يتخلقون بأخلاقهم، و هم يعيشون منفردين في مجتمع لا يهتمون إلا بالماديات الصرفة و الظواهر الحسية و لا يعرفون من وراء ذلك شيئا و يدل عليه قول أبى جعفر الباقر (عليه السلام) «نحن اليتيم» فهم أيتام بهذا المعنى و يتيمة جميع العوالم الامكانية. و كل من يرشد الى الحق بالحق في الخلق يتيم بين الخلق الذين هم لا يعرفونه حق معرفته و غرباء في بلدهم كما في الحديث «المؤمن غريب في بلده

ص: 300

لا يستأنس الا بإيمانه» فلا بد من الاهتمام بإيتاء حقوقهم و التخلق بأخلاقهم.

الثاني: إذا كانت الماديات لا تتحصل لها صورة نوعية و لا تدخل لها في النظام الأحسن الكياني الا بالترابط بينها بارتباط القوى الفاعلية بالقوى المنفعلة فالمعنويات اولى بذلك فما لم يرتبط من له مقاليد السموات و الأرض و من عنده مفاتح الغيب و المعية القيومية مع الممكنات لا وجه لتحققها في اي مرتبة من مراتب التحقق قال تعالى: «وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ » الحديد - 4 و قال تعالى: «وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ» ق - 16 و قال علي (عليه السلام): «ما رأيت شيئا إلا و رأيت اللّه قبله و بعده و فيه» فلا يمكن تحقق اي امر معنوي إلا بذلك قال نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «للّه في ايام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها» و ليست تلك النفحات من الجواهر و الاعراض أو الوهميات بل هي شوارق غيبية تتدفق من عالم الغيب على القلوب المستعدة و مثله قوله (صلى اللّه عليه و آله) في شأن اويس القرني:

«اني أشم نفس الرحمن من ناحية اليمن» ففي ارتباطات النفوس المقدسة مع معدن الكبرياء و العظمة تتحقق ينابيع من المعنويات يصفو عندها كل معدن و يهيج. و كيف لا يكون كذلك و الإنسان الكامل هو مفخر الاملاك و غاية حركات الأفلاك و طاوس الكبرياء و حمام الملكوت.

الثالث: يصح ان يراد من الخبائث في قوله تعالى: «وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » جميع حرمات اللّه تعالى سواء كانت من الماديات أو من غيرها مما حرمه اللّه تعالى فإنها توجب البعد عن ساحته و القرب إلى الشيطان و للخبائث مراتب شدة و ضعفا.

و المراد من الطيب ما يوجب القرب إلى ساحته عز و جل و له ايضا مراتب شدة و ضعفا كما يكون القرب و البعد كذلك.

ص: 301

و الفطرة السليمة تأبى من تبدل الخبيث بالطيب إلا إذا عميت عين البصيرة و عطبت الفطرة المستقيمة بالحجب الغليظة و حينئذ تختار النفس الامارة بالسوء الخبيث على الطيب.

فالآية المباركة تجري في جميع الأقوال و الأفعال و الحركات بل المعتقدات فان جميعها تتصف بهما و تطبيقهما على المال من باب الكلي على الفرد.

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُ.......

اشارة

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) الآيات الشريفة تشتمل على أهم حكم من الاحكام الاجتماعية التي تبتني على شريعة الحق و هو حكم الإرث و نظرا لأهميته فقد ذكر سبحانه و تعالى من المقدمات تمهيدا و تثبيتا له بعد ما سادت تقاليد و عادات جاهلية.

و قد بين عز و جل ان الجميع رجالا و نساء لهم النصيب من الإرث

ص: 302

و لا حرمان لأحد إذا ثبتت الولادة أو القرابة. و قد حذر الناس من تحريم الأيتام عما فرض اللّه تعالى لهم و أكل أموالهم ظلما و عدوانا، و أوعد سبحانه و تعالى على آكل أموالهم بالخزي و سوء العذاب.

و قد تعرضت الآيات الشريفة لحكم أدبي اجتماعي و هو رزق اولي القربى و اليتامى و المساكين - إذا حضروا قسمة التركة - غير ذوي النصيب منهم.

التفسير

قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

النصيب: الحظ و السهم و يجمع على أنصباء و انصبة. و المراد به مطلق السهم سواء كان بالفرض كالسهام الستة المعروفة أم بالقرابة كما في غيرها كالولد إذا انفرد فان المال كله له بالقرابة أو انضم اليه بنت أو بنات فان للذكر مثل حظ الأنثيين.

و المراد من الرجال ايضا مطلق الذكر و ان كان صغيرا فان الصغار كالكبار لهم النصيب من التركة. و لعل التعبير بالرجال لبيان ان المناط في تسليم المال كون الوارث بالغا مبلغ الرجال كما ذكره عز و جل في الآية السابقة و هذا وجه آخر من وجوه الارتباط بين هذه الآيات الكريمة.

و الظرف في «مِمّا تَرَكَ » متعلق ب «نَصِيبٌ » و قيل متعلق بمحذوف صفة للنكرة. و التركة اسم لكل ما يخلفه الميت و ما بقي من ماله كأنه تركه و ارتحل.

ص: 303

قوله تعالى: «وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » .

الحكم عام كسابقه لا يختص بوصف معين أو حال و المراد من النساء مطلق الإناث من غير اختصاص بالكبار، و الوجه في التخصيص ما تقدم من ان المناط هو بلوغهن مبلغ الإناث البالغات.

و الإظهار في موقع الإضمار لدفع كل لبس و احتمال، و لبيان ان السبب في التوارث هو الولادة و القرابة و هذا هو اصل من الأصول المهمة في الفقه الاسلامي، و هذا الأصل بيّن الشريعة الحق في قانون الإرث و العدل الالهي في هذا الحكم و الإسلام يرد بذلك على تلك العادات و التقاليد.

الجاهلية التي كانت تحرم المرأة و بعض الوارثين عن حقوقهم و الإسلام يبين هذا الأصل المبتني على دعائم قوية و هي الاخوة الايمانية و الحب في اللّه و القرابة الشرعية دون العصبية و الأهواء الباطلة و لذلك نرى ان المؤمنين تقبلوا هذا الحكم بمجرد التشريع لموافقته للفطرة و العدل.

و الآية الشريفة تبين ان الرجال و النساء مشتركون في تركة مورثهم و ان لكل واحد منهم نصيبا فيها، و اما توزيع المال الموروث فسيأتي بيانه في الآيات اللاحقة من هذه السورة.

قوله تعالى: «مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ» .

تأكيد للحكم السابق، و زيادة في التوضيح لأنه يستفاد ذلك من اطلاق قوله تعالى: «مِمّا تَرَكَ » و لدفع كل توهم في تحريم بعض الورثة من القليل أو الحقير دون الكثير و العظيم أو بالعكس فإنهم سواء في جميع التركة قليلة كانت أو كثيرة بالنسبة الى اصل الوراثة، و اما الكمية فلها شأن آخر سيأتي بيانها بالتفصيل.

ص: 304

قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» .

مفعول مطلق نوعي يبين النصيب المجمل الذي ذكره عز و جل في صدر الآية الشريفة و فيه التأكيد للمعنى السابق ايضا.

اي: ان ذلك النصيب للرجال و النساء مقطوع و مفروض من اللّه تعالى لا يقبل التغيير و التبديل و الاختلاط و الإبهام، و لعل تسمية المواريث بالفرائض لأجل هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى .

مقتضى السياق أن المراد بالقسمة قسمة التركة و الميراث، و يمكن ارادة التعميم و يكون قسمة التركة من باب المثال لكل قسمة فتشمل قسمة اموال اليتامى بعد البلوغ و الرشد، و الحضور عند الميت حين الوصية لان كل ذلك نحو إحسان وصلة لأولي القربى و يوجب التآلف و التعاطف و ان كان ظاهر السياق من الآية الكريمة هو الاول.

و المراد باولي القربى هم الفقراء من أقرباء الميت غير الوارث الأقربين و يدل على ذلك ذكر الورثة قبل ذلك و ذكر اليتامى و المساكين بعده.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ .

المحتاجون من غير اولي القربى الذين يحضرون حين القسمة.

قوله تعالى: فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ .

اي: فأعطوهم شيئا من المال المقسوم المدلول عليه سابقا.

و ظاهر الخطاب للورثة و اولياء الميت الذين يقسمون المال وراثة.

و لم يعين سبحانه و تعالى المقدار إذ المناط تحقق هذا العنوان في اي مقدار تحقق ما لم يكن إجحاف في البين على الورثة و نظير هذه العبارة

ص: 305

تقدم في قوله تعالى: «وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً وَ اُرْزُقُوهُمْ فِيها» النساء - 5 و لعل الاختلاف في الظرف يرجع إلى استمرار الانفاق من الجماعة التي تولت حفظ اموال اليتامى فان المال لهم؛ و اما في الانفاق من التركة فانه يكون مرة واحدة ينتهي عند قسمة الميراث.

و ظاهر الخطاب و ان كان يفيد الوجوب في المقام و لكن مقتضى ما ورد في السنة في تفسير الآية الشريفة هو مطلق الرجحان.

قوله تعالى: وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً .

اي: و ليقل ارباب المال لهؤلاء المذكورين قولا طيبا دفعا للشحناء و البغضاء و ما يوجب الحسد لان المقام يستدعي كل ذلك. فإذا اعطوهم شيئا فلا يمنوا عليهم و يستقلوا ما اعطوهم و إذا لم يعطوهم شيئا فليدعوا لهم و يعتذروا من ذلك.

و ظاهر الخطاب الذي ورد مورد الاسترحام و الاسترفاق يدل على استحباب مؤداه و عليه اجماع الامامية.

و اختلف العلماء و المفسرون في ان الآية الشريفة محكمة أو منسوخة بآية المواريث. و من المعلوم انه لا نسبة بين هذه الآية و آية المواريث فان الاولى تعين فرائض الورثة، و هذه الآية تدل على استحباب الانفاق و الاسترحام على الوارث فلا موجب للنسخ و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلق بذلك ان شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ .

الخشية: هي خوف خاص فقيل انها خوف مع شائبة تعظيم و إكبار

ص: 306

و قيل: انها خوف في محل الأمل.

و المستفاد من موارد استعمال هذه الكلمة انها تأثر قلبي لما يخاف نزوله و يرجى منه الأمل.

و الضعاف جمع ضعيف و هو يشمل الصغير و غيره ممّن لا يتمكن دفع الضرر عن نفسه كالمعتوهين و النساء الضعيفات و وصف سبحانه الذرية بالضعاف ترغيبا للترحم عليهم. كما ان التصريح بكونهم من خلفهم مبالغة في تهويل الحالة.

و الجملة تبين غاية الرحمة و الرأفة على الذرية الضعاف الذين لا وليّ لهم يذود عنهم الذل و الهوان و لا كافل يتكفل أمرهم و يرعى شؤونهم و الآية في مقام التمثيل.

و انها تستلفت الناس إلى الفرض و التقدير لو حلّ ذلك في أيتامهم و ما يجرى عليهم من بعد ارتحال آبائهم و فقدان من يكفلهم فإنهم يتألمون و يقدرون له جميع ما يمكن أن يتصور من الحلول، فالآية المباركة جارية مجرى قوله (صلى اللّه عليه و آله): «كما تدين تدان» فهي من الأمور الوضعية السارية في كل خلف عن سلف. و هذا الأسلوب من الاساليب المثيرة للاحساس و العواطف و يظهر واقع الحال في مظهر المثال الخارجي الذي له الأثر الكبير على الإنسان.

و الآية الشريفة تبين واقع الحال سواء كانوا ذرية أم لا. و تبعث الرحمة و الرأفة في النفوس، و تثير الشفقة و الرحمة الكامنة في الإنسان لرعاية شؤون اليتامى و الاعتناء بشأنهم و ترك ظلمهم و اضطهادهم لان كل من يخاف ان يترك الذرية الضعفاء من خلفه لا يريد ذلك بالنسبة الى ذريته فلا بد من تركه من جميع الناس كما تقدم.

و مما زاد في عظمة ذلك و شدة تأثيرها على النفس ان اللّه تعالى

ص: 307

لم يأمر فيها بالترحم و العطف بل امر بالخشية و الاتقاء منه عز و جل فانه شديد الانتقام و فيه غاية التهديد و التوعيد.

و كيف كان فالآية المباركة تحث على مراعاة حال اليتامى و إصلاح أمورهم و ترك ظلمهم و إعطاء حقوقهم و تسوق التهديد لمن لم يتق اللّه تعالى و يحرم صغار الورثة من حقوقهم فهي متصلة بالآيات السابقة التي تأمر بحفظ اموال اليتامى. و الآية التي تبين ان للرجال نصيبا فإنها بعمومها تشمل الأيتام الصغار، فتكون مؤكدة لمضمون الآيات السابقة و قد ذكر المفسرون في المقام وجوها لم يقم عليها دليل.

قوله تعالى: فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ .

اي: فليتقوا اللّه في جميع أوامره بتنفيذها و نواهيه بتركها و الاجتناب عما نهى عنه، فان تقوى اللّه أهم الغايات و هي الكمال المطلق.

قوله تعالى: وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً .

السديد: هو الصواب المستقيم اي: فليكن القول و الرأي مطابقا للعمل في السداد و الصواب و يتحدان في تثبيت الاحكام و مراعاة حال اليتامى و إصلاح شؤونهم فان المقام يحتاج الى تطابق العمل مع القول في العدل و الصواب. و يشمل ذلك كل ما يوجب إرشادهم الى الصلاح و العمل باحكام الشريعة و ردعهم عن المنكر و الفساد، فان جميع ذلك يدخل في سداد القول، و الخطاب يرجع إلى تهويل امر اليتامى على الأولياء أو المجتمع الذي له قسط كبير في حفظ اليتامى و مراعاة حالهم و إصلاح شؤونهم.

ص: 308

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً .

جملة استينافية جيء بها تأكيدا لما ورد في الآية السابقة و تثبيتا لما فصل من احكام اليتامى سابقا.

و ظلما حال اي: ظالمين أو تمييز يرفع الإبهام عن محتملات الاكل اي: ان الذين يأكلون اموال اليتامى من غير وجه شرعي فهم ظالمون أو ان أكلهم كان على سبيل الظلم و انما يكون ظلما إذا لم يكن الاكل له سبب شرعي إما بالاقتراض على وجه شرعي أو ما يأخذه بلحاظ اجرة عمله أو على وجه التقدير لاجرة العمل كما تقدم و في غير ذلك يكون الاكل ظلما.

قوله تعالى: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً .

هذه الجملة كناية عن الإثم العظيم، و ملء البطن النار يدل على تجسم الأعمال فتمثل الواقع الذي يعيش عليه آكل اموال اليتامى و من هضم حقوقهم و ان لم نره بالعيان.

أو ان ما يوجب إلى الغاية المهوّلة المخزية تكون موجبة لاستحقار سائر الغايات فان النار التي تترتب على أكل اموال اليتامى هي غاية عظيمة مهولة يستحقر معها سائر الغايات فكأن الاكل نار محضة و لذا جيء بكلمة الحصر.

و على كلا الوجهين يكون الكلام على وجه الحقيقة دون المجاز.

و قيل: ان الكلام على المجاز دون الحقيقة لان المتبادر من «يَأْكُلُونَ » انه للحال دون الاستقبال بقرينة العطف عليه بقوله تعالى:

«وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» المشتمل على حرف الاستقبال، فلو كان المراد حقيقة الاكل و وقته يوم القيامة لكان الأنسب أن يكون لفظ الآية هكذا (فسيأكلون

ص: 309

نارا و يصلون سعيرا) فيراد به المعنى المجازي اي انهم في أكلهم مال اليتامى كمن يأكل في بطنه نارا فالأكل عذاب باطن البدن و الصلي عذاب ظاهره فهو جزاء اللباس و سائر التصرفات.

و لكن فساد هذا القول ظاهر، لأنه مخالف لظاهر الآية الشريفة إذ أن المتبادر هو حقيقة الأكل دون المعنى المجازي و النار الفعلية دون النار في المستقبل مضافا إلى انه يوجب خروج الآية المباركة عن مفادها الواقعي و هو تجسم الأعمال.

قوله تعالى: وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً .

الآية الكريمة تشير إلى العذاب الأخروي. و السعير من سعر النار و اسعرها إذا أوقدها، و هو فعيل بمعنى المفعول و يقال في المؤنث ايضا نحو كف خضيب. و النار المستعرة اي الملتهبة المشتعلة و هو من اسماء نار الآخرة، و يقال صلى النار يصلي صليا و صليا و صلّى و صلى (بالقصر فيهما) هو الاحتراق بالنار و مقاساة حرها و عذابها، و أصله يرجع إلى التسخن بقرب النار أو مباشرتها ثم توسع فيه و استعمل في الحرق و مقاساة اهوال النار.

و التنكير في السعير للتهويل اي: انهم سيدخلون نارا عظيمة لا يعلم احد وصفها إلا اللّه تعالى.

ص: 310

بحوث المقام
بحث ادبي:

قال بعضهم ان «نَصِيباً» في قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» منصوب على الاختصاص اي اعني نصيبا مفروضا. و يرد بأن المنصوب بالاختصاص المصطلح عليه في النحو يشترط فيه ان لا يكون نكرة و «نَصِيباً» في المقام نكرة إلا ان يريد من الاختصاص معنى آخر.

و قيل: انه منصوب على انه مصدر مؤكد مؤول بمعنى العطاء أو القسمة و نحوهما من المعاني المصدرية، و إلا فهو اسم جامد.

و قيل: انه منصوب على الحالية جيء بها توطئة للوصف بكون النصيب مفروضا، و مؤكدة لما قبلها.

و قيل: انه منصوب على انه مفعول لفعل محذوف.

و القسمة مفعول مقدم لأنها المبحوث عنها، و لتعدد الفاعل، فلو روعي الترتيب لفات تجاذب أطراف الكلام.

و (الذين) في قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً» فاعل «لْيَخْشَ » و مفعوله محذوف لدلالة الكلام عليه. و «خافُوا» جواب ل «لَوْ تَرَكُوا» و جملة «لَوْ» صلة للذين و يجوز حذف اللام في جواب (لو). و حذف الالف في «وَ لْيَخْشَ » للجزم بلام الأمر.

ثم ان الأسلوب في قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً» من الأساليب الفصيحة التي تؤثر في النفوس و تستفزها نحو المطلوب و تصور الفرض و التقدير في لباس الواقع المحسوس لتعميم التعليم و زيادة تأثيره فمن يستمع هذا الخطاب يتصور المضمون و يفرض لنفسه ذرية ضعافا قد أحاط بهم جميع اسباب الذل و الهوان و يجعلهم نصب عينيه و هو من الاساليب التعليمية المثيرة.

ص: 311

ثم ان الأسلوب في قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً» من الأساليب الفصيحة التي تؤثر في النفوس و تستفزها نحو المطلوب و تصور الفرض و التقدير في لباس الواقع المحسوس لتعميم التعليم و زيادة تأثيره فمن يستمع هذا الخطاب يتصور المضمون و يفرض لنفسه ذرية ضعافا قد أحاط بهم جميع اسباب الذل و الهوان و يجعلهم نصب عينيه و هو من الاساليب التعليمية المثيرة.

و السديد في قوله تعالى: «قَوْلاً سَدِيداً» هو العدل و الصواب كما عرفت، و السداد بالفتح هو الاستقامة و الصواب، و بالكسر هو البلغة و ما يسد به الحاجة، و لكن قال ابن السكيت في إصلاح المنطق انه لا فرق بين الفتح و الكسر و انهما بمعنى واحد يقال: سداد من عوز و سداد. و كذا حكاه غيره.

بحث دلالي
تدل الآيات الشريفة على امور:
الاول:

يدل قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » على ان الأصل في التوارث هو الولادة أو القرابة و بذلك يرد القرآن الكريم على العادات و التقاليد التي كانت سائدة في المجتمع الجاهلي فإنهم كانوا يحرمون بعض الورثة و يمنعون حقوقهم عنهم من دون سبب معين سوى العصبية و بعض العواطف الظالمة، و القرآن في تأسيس هذا الأصل القويم يبين الشريعة الحقة في أهم حكم من الاحكام الاجتماعية الذي طالما كان مورد النزاع و الاختلاف في جميع المجتمعات.

و أسس الإسلام قاعدة معروفة هي المرجع في الإرث و هي: قاعدة الاقربية التي تقوم على العلقة النسبية و الاقربية في الرحم، و أكد

ص: 312

سبحانه و تعالى على هذه القاعدة في موارد متفرقة من القرآن الكريم قال تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » الأنفال - 75 و قال تعالى: «اَلنَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُهاجِرِينَ » الأحزاب - 6 و الآيات التي تقدم تفسيرها تبين جهة الاقربية و هي الولادة، و النسب، و القرابة و من تقديم الولادة يستفاد انها الأصل للقرابة.

و لم يذكر سبحانه و تعالى في هذه الآية مقدار النصيب لما سيأتي في الآيات التالية ذكره و بيان سائر خصوصياته.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » اشتراك النساء مع الرجال في الإرث و أكد عز و جل ذلك بالتصريح و التعميم و الإظهار في مقام الإضمار و نص عليه نصا قاطعا بقوله تعالى: «مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» فانه يدل على كون السهام مقطوعة لا إبهام فيها و لا خلط، و هذه الآية الشريفة تعطى للنساء حقوقهن قبل ان يطالبن بها، فان شريعة الحق و العدل الرباني يثبتان الحقوق لأهلها قبل المطالبة بها، و سيأتي في الآيات الكريمة التالية الكلام في مقدار حق المرأة في الإرث و بيان السبب في التفاضل بين الرجال و النساء فيه.

الثالث:

يدل عموم قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » على شمول الحكم لجميع افراد الإنسان بلا استثناء فيدخل فيه تركة النبي (صلى اللّه عليه و آله) الا إذا قام دليل معتبر على التخصيص و هو مفقود كما ستعرف في الموضع المناسب ان شاء اللّه تعالى، كما ان عموم الآية

ص: 313

الشريفة يدل على بطلان التعصيب ايضا.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ » على حكم ادبي تجتمع فيه الرحمة و الرأفة في حال يكون أقرباء الميت أحوج إليهما من غيرهم، فانه إذا قسنا هذا الحكم مع ما كانت عليه الحال في الجاهلية، و ما كان يقتضيه المقام من التعسف و الظلم بحقوق الآخرين يتجلى عظمة هذا الحكم الالهي الذي يثير العطف و الشفقة في قلوب الأولياء لا سيما بالنسبة إلى فقراء القربى و اليتامى و المساكين و الإحسان إليهم و مد يد العون إليهم فاجتمع في هذا الحكم الجانب الاخلاقي و الاجتماعي و التربوي و هذا هو شأن الاحكام الإلهية التي لا تقتصر على جانب معين.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» على ان النصيب يدخل في ملك الوارث قهرا بقرينة سياق الآيات الشريفة المشتملة على لفظ «اللام» الظاهر في الاختصاص و لعل ما ذكره الفقهاء من ان الإرث من النواقل القهرية غير الاختيارية مستفاد من مثل هذه الآيات المباركة و الروايات الواردة في السنة المقدسة.

السادس:

اطلاق قوله تعالى: «أُولُوا اَلْقُرْبى » يشمل قرابة الميت الأغنياء منهم و الفقراء، و قيده بعضهم بالفقراء و لكنه خلاف الظاهر نعم لا ريب في اولوية الفقير.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً» على حقيقة من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم و أكد عليها في مواضع متعددة و هي ارتباط الحوادث الخارجية مع الأعمال سواء كانت حسنة أو سيئة. و من مصاديق هذه الحقيقة ما ورد في الآية

ص: 314

الشريفة التي تقدم تفسيرها فإنها تبين ان الآثار الوضعية لظلم الأيتام سيعود إلى الظالم و لو على أعقابه و يؤكد هذا قوله تعالى: «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » الزلزال - 8 و إطلاقه يشمل عود الجزاء إلى نفس العامل أو إلى ذريته و أعقابه و في بعض الروايات «يؤثر العمل السيء و لو إلى سبعين بطنا» و على هذا فربما يكون ما يصيب الإنسان من خير أو شر من انعكاس اعمال آبائه عليه.

و يمكن ان يقام الدليل العقلي على ذلك ايضا فان الذي يحسن إلى غيره انما يفعل ذلك لأجل انه رضي بالإحسان و ارتضاه لنفسه، فإذا احسن للأيتام فهو قد رضي ذلك لذريته ايضا و بالعكس اي إذا ظلم احد فإنما طلب ذلك لنفسه و رضي و ما يرتضيه لنفسه يتعلق بأولاده و أعقابه ايضا ان لم يتدارك. نعم هناك اسباب و عوامل قد تمنع انعكاس العمل على النفس و الذرية لا يعلمها إلا اللّه تعالى كما يدل عليه قوله تعالى: «وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ» الشورى - 30 و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام ان شاء اللّه تعالى.

الثامن:

يمكن ان تكون من احد بطون قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً» الإشارة إلى كيفية المعاشرة مع اولياء اللّه تعالى إماما كان أو عالما عاملا هاديا، فان ترك المعاشرة معهم أو سوئها يؤثر في الذرية و الأعقاب و قد ادعي التجربة في ذلك فحينئذ يكون المراد من قوله تعالى: «قَوْلاً سَدِيداً» اي قولا مطابقا مع العمل بما يرشدون اليه فإنهم واسطة الفيوضات المعنوية.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً» على تجسم الأعمال و هو صحيح - و يستفاد

ص: 315

ذلك من قوله تعالى: «وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً» و ان أكل اموال اليتامى سبب تام للدخول في النار - لان الحقيقة الواحدة يمكن اختلافها باختلاف العوالم و خصوصيات الإدراكات - مثلا - لو رأى احد في المنام انه يشرب اللبن يعبر عنه بالعلم بمناسبة ان اللبن مادة الحياة الجسمانية و العلم مادة الحياة المعنوية فأكل مال اليتيم حقيقة واحدة هي في عين وحدة تلك الحقيقة متعددة بحسب العوالم و المدركات فهي أكل للمال عند ذوي البصائر المستورة بالحجب الظلمانية الغليظة و عند ارتفاعها تعرف البصائر تلك النار و تظهر في النشأة الآخرة و لذا قال سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله): «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا» و قال مولانا الرضا (عليه السلام): «كلما هناك لا يعلم إلا بما هاهنا» فكما ان آثار الدنيا تظهر في الآخرة بما يناسب ذلك العالم فلا بد ان تكون تلك الآثار ظاهرة في هذه الدنيا بما يناسبها لكن لأهل البصائر لا لكل احد و الامثلة و الشواهد كثيرة في القرآن الكريم و السنة الشريفة لعل اللّه تعالى يوفقنا لبيانها.

بحث روائي

في تفسير القمي في قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ - الآية» قال: «هي منسوخة بقوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » .

أقول: ليس المراد به النسخ المصطلح في علم الأصول بل المراد الإجمال و التفصيل كما عرفت.

ص: 316

و عن الطبرسي: اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما انها محكمة غير منسوخة و هو الصحيح.

أقول: ما ذكره مطابق للأصل و عليه اجماع الامامية.

و في الدر المنثور اخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن ابي حاتم عن عكرمة في قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ » قال: نزلت في أم كلثوم و ابنة أم كحلة (كجة) أو أم كحلة و ثعلبة بن أوس و سويد و هم من الأنصار كان أحدهم زوجها و الآخر عم ولدها فقالت يا رسول اللّه توفي زوجي و تركني و ابنته فلم نورث من ماله فقال عم ولدها يا رسول اللّه لا تركب فرسا، و لا تنكى عدوا و يكسب عليها و لا تكتسب فنزلت الآية».

أقول: روى قريبا منه الواحدي في اسباب النزول و في بعض الروايات عن ابن عباس: «انها نزلت في رجل من الأنصار مات و ترك ابنتين فجاء ابنا عمه و هما عصبته فقالت امرأته: تزوجا بهما - و كان بهما دمامة - فأبيا فرفعت الأمر الى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فنزلت آيات المواريث - الرواية».

أقول: يمكن تعدد منشأ النزول و لا تنافي بينهما.

و في تفسير العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى - الآية -» قال:

«نسختها آية الفرائض».

و في المجمع في الآية: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى » : «اختلف الناس في هذه الآية على قولين أحدهما انها محكمة غير منسوخة قال و هو المروي عن الباقر (عليه السلام).

أقول: تقدم ما يتعلق بذلك في التفسير، و يأتي في البحث الفقهي

ص: 317

تتمة الكلام.

و في الكافي عن سماعة عن ابي عبد اللّه (عليه السلام): «أوعد اللّه تبارك و تعالى في مال اليتيم بعقوبتين إحداهما عقوبة الآخرة النار، و أما عقوبة الدنيا فيقول عز و جل: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ - الآية -» يعني: ليخش أن اخلفه في ذريته كما صنع بهؤلاء اليتامى».

أقول: روى مثله العياشي عن الصادق و ابي الحسن (عليهما السلام) و في المعاني عن الباقر (عليه السلام) أيضا و الآيات و الروايات الدالة على وجود الآثار الوضعية في المعاصي كثيرة جدا و هذه من احدى مصاديقها، و يستفاد منها عظمة المعصية.

و في تفسير العياشي عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قال أبو عبد اللّه (عليه السلام) مبتدءا: «من ظلم سلط اللّه عليه من يظلمه أو على عقبه و عقب عقبه فذكرت في نفسي. فقلت: يظلم و هو يتسلط على عقبه و عقب عقبه ؟!! فقال لي قبل ان أتكلم ان اللّه يقول وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً» .

أقول: هذه الرواية منقولة متواترة من ان للظلم آثارا وضعية دنيوية و اخروية و لا بد من ظهورها في الدنيا سواء على الظالم أم على عقبه و مثل ذلك قولهم (عليهم السلام): «قطيعة الرحم و اليمين الفاجرة تذر الديار بلاقع من أهلها».

و في الكافي عن الباقر (عليه السلام): «ان آكل مال اليتيم يجيء يوم القيامة و النار تلتهب في بطنه حتى يخرج لهب النار من فيه يعرفه اهل الجمع إنه آكل مال اليتيم».

ص: 318

و في تفسير القمي عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: «قال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) لما اسري بي الى السماء رأيت قوما تقذف في أجوافهم النار و تخرج من ادبارهم فقلت من هؤلاء يا جبرئيل ؟ فقال هؤلاء الذين يأكلون اموال اليتامى».

أقول: وجه ذلك انه (صلى اللّه عليه و آله) اسري الى عالم كشف الحقائق و ظهور السرائر و الضمائر و لا بد ان يرى الأشياء على ما هي عليه، و قد يحصل له (صلى اللّه عليه و آله) تلك الحالة في هذا العالم من دون ان يسرى به الى السماء و كذلك يحصل عند بعض أولياء اللّه تعالى.

و في الدر المنثور اخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: «ذكر لنا ان نبي اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: «اتقوا في الضعيفين:

اليتيم و المرأة ايتمه ثم اوصى به، و ابتلاه و ابتلى به».

أقول: و نظير ذلك ما عنه (صلى اللّه عليه و آله): «دخلت الجنة و رأيت اكثر أهلها النساء علم اللّه ضعفهن فرحمهن» و هو محمول على المؤمنات الصالحات.

بحث فقهي

الآية الشريفة: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» تبين وجه الإرث و السبب فيه و انه الولادة و الاقربية، و استفاد الفقهاء من مثل هذه الآية الشريفة الأصل الاول في الإرث

ص: 319

الذي هو النسب و هو يبتني على أمرين الولادة و الاقربية في الرحم، و الآية المباركة تدل على ان الرجال و النساء مشتركان في حصة من الميراث على الإجمال و يرثان النوعان معا إذا كانا متساويين في الدرجة و القرابة و الا فالأقرب يمنع الا بعد.

و من ذلك يظهر بطلان التعصيب فان اللّه تعالى فرض للنساء كما فرض للرجال في التركة و شرك بينهما و اختصاص بعض الورثة بها و حرمان الآخر عما زاد من الفرض خلاف مقتضى الآية الشريفة.

كما ان مقتضى قوله تعالى: «نَصِيباً مَفْرُوضاً» ان الإرث من النواقل القهرية و دخول النصيب في ملك الوارث يكون بغير الاختيار فلا يخرج عنه الا بسبب شرعي؛ ثم ان ظاهر قوله تعالى: «وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً» ان الأمر بالرزق محمول على الندب لا على الوجوب كما في الأمر بالقول السديد ايضا لقرائن متعددة في الآية الشريفة و ما وردت في السنة من الروايات.

و المعروف بين الامامية انها غير منسوخة و ادعى الإجماع عليه و لكن في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «نسختها آية الفرائض» و الظاهر انه لا منافاة بين آية الفرائض و هذه الآية الشريفة بعد ظهورها في الندب.

و على فرض الوجوب ان آية الفرائض تدل على تحديد الفرائض و تعيين السهام و هذه الآية الكريمة تدل على القسمة على الإجمال من غير تعيين سهم فلا موجب للنسخ.

و يمكن ان يكون المراد من النسخ في الحديث مطلق الرفع في الروايات لا النسخ المصطلح في علم الأصول فحينئذ تصح الرواية و لا

ص: 320

تنافي بين الآيتين الشريفتين.

و الخطاب في الآية المباركة للأولياء أو الأوصياء و غيرهم من القضاة ان يرزقوا اولي القربى غير الوارثين سواء كانوا اغنياء أم فقراء قبل قسمة التركة أو بعدها مما صار إليهم مع القول المعروف الحسن حين الإعطاء أو الرد بالإحسان إذا لم يعطوهم شيئا.

ثم إن مقتضى قوله تعالى: «وَ لْيَخْشَ اَلَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اَللّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً» حرمة أكل مال اليتيم ظلما و اما إذا لم يكن على النحو المذكور فيجوز لوجود الاذن الشرعي فيه، و الخطاب في الآية الكريمة للأولياء و الأوصياء و من يتصدى امور اليتامى.

يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ .......

اشارة

يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ

ص: 321

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14) الآيات الشريفة تتضمن احكاما الهية ترشد الناس الى الكمال و تسوقهم الى السعادة في الدارين، و هي احكام اجتماعية روعي فيها حفظ اموال الناس و توزيعها وفق نظام متين على ما بينه عز و جل دفعا للتشاجر و التخاصم. و حفظا لحقوق الإفراد و مراتبهم.

و قد ذكر سبحانه و تعالى عمدة احكام المواريث و الفرائض في هذه الآيات المباركة مرتبة على قاعدة الاقربية في الرحم التي هي أهم القواعد في الإرث و جرى عليها العمل في الفقه الاسلامي و هي من أجل و احسن نظام روعي فيه جميع الخصوصيات و أبطل بها عز و جل جميع

ص: 322

الاحكام الوضعية التي كانت سائدة في المجتمعات القديمة و منها المجتمع الجاهلي و ما وضعته القوانين المدنية و قد جعل عز و جل من يتبع تلك الاحكام السماوية مطيعا للّه و للرسول و قد وعد تعالى له الجزاء العظيم و السعادة العظمى في الدارين و أوعد تعالى على من خالف تلك الاحكام و تعدى حدودها و عصى اللّه و رسوله النار و العذاب المهين.

التفسير

قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ .

الوصية: العهد و الأمر، و منه الوصية المعروفة و هي ما يتعهد به الى الغير للعمل به و اليه يرجع ما ذكره الراغب في المفردات: انها التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ.

و المراد بها في المقام الفرض و التشريع و انما عدل إلى هذه اللفظة لأنها ابلغ في الاهتمام بما اوصى به و الاعتناء به و طلب حصوله بسرعة كما عدل من الأبناء إلى لفظ الأولاد لأنه يشمل من تولد من الرجل بواسطة أو بدونها و ان كان الأبناء أيضا كذلك إلا ان في التعبير ب «أَوْلادِكُمْ » نحو استيناس اليه و فيه تعميم يشمل الذكور و الإناث كبارا أو صغارا. و ذكر بعضهم ان الولد حقيقة في أولاد الصلب و مجاز في غيرهم و لكنه فاسد كما هو واضح.

و انما ذكر الأولاد ابتداء لأنهم اقرب رحما إلى الميت من غيرهم.

و المعنى: ان اللّه تعالى فرض عليكم احكاما في ارث أولادكم، و الآية فيها إجمال تبينه الآيات الشريفة التالية.

ص: 323

قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

تفصيل بعد إجمال و بيان لاهم ما وصى به عز و جل و هي تتضمن قاعدة كلية من قواعد الإرث و لذا قدمها عز و جل على سائر أحكامه و استدل بها الفقهاء في كتبهم الفقهية في أكثر من مورد.

و الآية الشريفة بايجازها البليغ تتضمن تفضيل الذكر على الأنثى في الإرث إذا اجتمعا وجهة التفضيل، و الإشارة إلى تقرر نصيب الأنثى في الواقع و بيان سهم الأنثيين إذا انفردتا و لا يظهر ذلك المضمون لو كانت العبارة غير ما ذكره جلّ شأنه فسبحان من ظهرت آياته في محكم كتابه.

و أسلوب الخطاب ينبئ عن ابطال ما كانت عليه الجاهلية و بعض المجتمعات الاخرى من منع توريث النساء كما عرفت سابقا، و الإسلام بدأ أولا بابطال العصبيات و التقاليد و شرّك النساء مع الرجال في التركة كما تقدم ثم بين ان ارث الأنثى محفوظ و معروف و انه الأصل في تشريع ارث الذكر وعد كل واحد منه باثنتين من النساء إذا اجتمع الصنفان من الذكور و الإناث، فالإسلام يعطي نصيب الضعف للرجل، فيكون نصيب المرأة نصف الرجل في المال الموروث ثم فصل سهام الإناث بعد ذلك و لم يذكر سبحانه سهام الرجال مستقلا إلا مع سهام النساء، و ذلك لبيان اهمية الموضوع و قطعا لكل عصبية و إبطالا لكل عادة و تقليد و رفعا للإبهام و الإجمال.

و اما العلة في تفضيل حظ الذكر من المال الموروث على الأنثى مع كون هذا المال لم يبذل فيه جهد و مشقة من اي منهما فلوجوه عديدة، منها ما سيذكره عز و جل في قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ » النساء - 32 فان الرجل كلف بالإنفاق، و المرأة لم تكلف به فالتفضيل حق في مقابل هذا التكليف. و هناك وجوه اخرى يأتي بيانها.

ص: 324

و اما العلة في تفضيل حظ الذكر من المال الموروث على الأنثى مع كون هذا المال لم يبذل فيه جهد و مشقة من اي منهما فلوجوه عديدة، منها ما سيذكره عز و جل في قوله تعالى: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ » النساء - 32 فان الرجل كلف بالإنفاق، و المرأة لم تكلف به فالتفضيل حق في مقابل هذا التكليف. و هناك وجوه اخرى يأتي بيانها.

و اللام في الذكر و الأنثيين للجنس. اي: جنس الذكر يعادل جنس الأنثيين إذا اجتمع الصنفان، و انما قدم الذكر على الأنثى لبيان زيادة حظ الذكر لا نقص حظ الأنثى فان الإشارة إلى جهة فضل الفاضل احسن في التعليل من الإشارة إلى جهة نقص المفضول كما ذكره بعض العلماء و هو حسن.

قوله تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ .

تخصيص لسهام النساء المنفردات لأهمية الموضوع و رفعا لكل إجمال و إبهام كما عرفت. و تأنيث الضمير الذي يرجع إلى الأولاد «كُنَّ » باعتبار الخبر.

أي إذا كن الوارثات نساء ليس معهن في طبقتهن ذكر واحد أو اي: متعدد فلهن ثلثا ما تركه المورث المعروف من سياق الكلام.

و قوله تعالى: «فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ » صفة نساء، أو خبر ثان. و المراد به الفوقية في العدد أي ثلاثا فصاعدا فلهن الثلثان و الباقي يرد على من اجتمع معهن مع تساوي الدرجة أو يرد عليهن إذا لم يكن معهن احد من نفس الدرجة.

و انما ذكر الثلثين لبيان انهما الميزان في الرد على غيرهن فيبقي مجال لسهم الوالدين أو أحدهما و الزوج أو الزوجة إذا كانوا مع البنات.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ .

الضمير يرجع إلى المولودة المفهومة من الكلام، و اللام في النصف

ص: 325

عوض عن المضاف اليه اي نصف ما ترك. و النصف مثلث النون و قرئ بعضهم بالرفع لزوما قياسا على بقية الأعشار كالثلث و الربع و الخمس فان كلها مضمومة الأوائل و هي لغة اهل الحجاز. و النصف احد شقي الشيء و انما ذكر النصف لبيان انه الميزان في الرد على من يجتمع معها كالابوين أو أحدهما أو الزوج أو الزوجة فيعرف سهام كل واحد منهم.

و قد ذكر سبحانه سهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم فوق اثنتين من البنات و هو الثلثان و لم يذكر سهم البنتين و سيأتي في البحث الدلالي تفصيل الكلام.

قوله تعالى: وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ .

الضمير في (لأبويه) يرجع إلى الميت المعلوم من السياق و السدس خبر، و المراد بالأبوين هما الأب و الام تغليبا للفظ الأب فان العرب يجري المختلفين مجرى المتفقين فيغلب أحدهما على الآخر كالقمرين و الحسنين و الملوين.

و انما عطف حكم الأبوين على حكم الأولاد لبيان اشتراكهما مع الأولاد في الطبقة.

و المعنى: و لكل واحد من ابوي الميت السدس مما تركه الميت فهما في هذه الصورة في الفريضة سواء لا يتفاضلان كما يتفاضل الذكور و الآنات إذا اجتمعا.

و هذا الحكم مختص بالأب و الام و لا يتعدى إلى الجد و الجدة لعدم اطلاق الأب و الام على الجد و الجدة حقيقة و ان كان يشملهما لقرائن

ص: 326

خارجية كما في قوله تعالى: «كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ اَلْجَنَّةِ » الأعراف - 27 مضافا إلى ان تثنية الأبوين شاهد آخر على ان المراد هما القريبان لان الجد و الجدة في الطبقة الاولى يكونون اربعة لا إثنين كما هو معلوم، و يتضاعف العدد كلما علت الطبقة و يدل على الحكم المزبور اجماع الامامية ايضا. هذا إذا كان مع الأبوين ولد للميت ذكرا كان أو أنثى، منفردا أو متعددا للصلب أو غيره لان الولد جنس يشمل الجميع. نعم ان كان الولد بنتا واحدة فلها النصف و لكل واحد من الأبوين السدس، فما زاد يرد على الجميع أخماسا ان لم يكن حاجب و الا فارباعا كما هو معروف في فقه الامامية.

و لا يعطى للعصبة شيء خلافا للجمهور و هي مسألة التعصيب المعروفة في الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ .

بيان لصورة انحصار الوارث في الأبوين اي و ان لم يكن للميت ولد مطلقا كما عرفت آنفا و انحصر الوارث في الأبوين معا لا أحدهما فان الوارث ان كان الأب فقط فالمال كله له، و ان كانت الام فلها الثلث تسمية و الباقي ردا، فإذا اجتمع الأبوان معا و انحصر الوارث فيهما فللام الثلث مما تركه المورث و الباقي للأب و انما لم يذكره لكونه معلوما و لأنه لم يكن صاحب فرض غيرها و الكلام في اصحاب الفروض.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ .

بيان لصورة الحجب اي: و ان كان للميت اخوة، فلام الميت السدس توفيرا على الأب، فيعطى الباقي له قرابة و يشترط في حجب الاخوة من الثلث إلى السدس امور ذكرها الفقهاء في الفقه من يشاء

ص: 327

فليراجع كتابنا (مهذب الاحكام).

و ذكر الاخوة بعد قوله تعالى: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ » فيه الدلالة على ان الاخوة في الطبقة الثانية بعد الطبقة الاولى التي فيها الأبناء و الآباء.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ .

قاعدة اخرى من قواعد الإرث و هي: «ان الإرث انما يكون من اصل المال الذي تركه الميت إذا لم يوص بوصية أو لم يكن عليه دين فان كانت وصية أو دين فانه يجب اداؤهما أولا ثم التوريث مما بقي».

و الوصية - كما تقدمت - هي التعهد إلى الغير بعمل معين، و هو المراد بها في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ » البقرة - 180 و انما وصف الوصية بأنها يوصى بها لبيان أهمية الوصية، و الدلالة على التأكد من ثبوتها و التحقق من نسبتها إلى الميت و لم يقيد الدين بما قيد به الوصية للدلالة على انه لا يعتبر في إخراج الدين الوصية به و لا حصوله عليه باختياره.

و انما قدم الوصية على الدين مع انها مؤخرة عنه في الترتيب لأنها اكثر وقوعا و للاهتمام بها و تنزيلها منزلة اصل الدين و الا فان الدين مقدم في الوفاء على الوصية فيخرج الدين أولا من تركة الميت ثم تخرج الوصية ثم الإرث و قد دل على هذا الترتيب السنة الشريفة و الإجماع المحقق، مع ان القصد في الآية الشريفة هو بيان تقديمها على الميراث من دون قصد بيان ترتيبهما في أنفسهما مضافا إلى انه يستفاد التأخير من كلمة «بَعْدِ» فإنها تدل على ان الميراث بعد إخراج الوصية و هي

ص: 328

تلو الدين فوافقت الآية الكريمة ما ورد في السنة الشريفة و الإجماع.

و الدين يشمل كل ما هو واجب مالي لازم الوفاء سواء كان دينا خالقيا - كالزكاة و الخمس و الحج - أو خلقيا كالقرض و غيره.

قوله تعالى: آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعية و خطاب عام يبين خطأ الأوهام و التقاليد التي كانت متبعة عند الأمم في عصر نزول القرآن الكريم و دفعا لما قد يقال في هذا الموضوع المهم الذي هو في معرض التشاجر و التنازع و الجواب عن السبب في اختلاف السهام ببيان ان الإنسان مهما بلغ في الذكاء و الفطنة لا يعلم من هو الأقرب اليه نفعا في الدين و الدنيا و الآخرة فانه يقع تحت تأثير العواطف و النزعات النفسية و التقاليد و العادات الاجتماعية فكم من شخص يحرص الإنسان توريثه و توفير سهمه و لكن لو انكشف الأمر له لمنعه عن ذلك، و الإسلام ينظر في ذلك نظرة واقعية و يسنّ قانونا الهيا لا يقبل التغيير و هو بعيد عن الأوهام الباطلة و العواطف الانسانية و النزعات الشخصية. و يقسم السهام على افراد الورثة حسب ما ينظره من المصلحة العامة و ما يقتضيه تكوين الإنسان و فطرته كسائر الاحكام الاسلامية التي تبتني على الفطرة و المصلحة العامة. و يدل عليه تقديم الآباء على الأبناء في الآية الشريفة و هما يشيران الى الأصول و الفروع في باب التوارث، فتشمل الأب و الام و الجد و الجدة و الأبناء الذكور و الإناث، و الاخوة و الأخوات و يستفاد من تقديم الآباء على الأبناء ان الآباء اقرب نفعا من الأبناء.

و المراد من النفع: الأعم من النفع الدنيوي المادي أو النفع

ص: 329

الاخروي المعنوي، ففي الحديث المعروف «إذا مات الرجل انقطع عمله الا من ثلاثة صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له» و الآية الكريمة تؤكد مضمون ما ورد في الآيات السابقة.

قوله تعالى: فَرِيضَةً مِنَ اَللّهِ .

فريضة منصوب على انه مصدر مؤكد لنفسه اي: فرض عليكم فريضة، و قيل منصوب على انه حال من المواريث الموصى بها اى أوصى بتلك السهام حال كونها مفروضة.

و الآية المباركة تؤكد على ان تلك السهام مقدرة و معينة من اللّه تعالى وفق حكمة متعالية لا تقبل التغيير و التبديل.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً .

اي: ان اللّه تعالى المحيط بعلمه بجميع مصالحكم، و لحكمته المتعالية البالغة التي يضع الأشياء بها في مواضعها فانه شرع لكم تلك الاحكام و الوصايا وفق الحكمة التامة و المصالح العامة.

قوله تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ .

بعد ما ذكر سبحانه و تعالى الموجب الأول للارث و هو النسب و القرابة و بين ما يتعلق بالطبقة الأولى و هو سهام الأولاد و الوالدين و بعض الاحكام كحجب الاخوة عن نصيب الأم.

يبين عز و جل في هذه الآية المباركة موجبا آخر و هو السبب فذكر قسما منه و هي الزوجية و انها تنص على انه يرث كل واحد من الزوجين من الآخر في جميع الحالات و لا يحجبهما عن النصيب الأعلى - و هو النصف للزوج و الربع للزوجة - الا الولد مطلقا، فيستفاد من

ص: 330

الآية الكريمة انهما يشاركان جميع الطبقات، فيشاركان الأولاد و ان نزلوا، و الآباء و ان علوا، و سائر الورثة بالأولوية.

و قد ذكر سبحانه جميع صور إرثهما و هي أربعة: الزوج مع عدم الولد للزوجة، و نصيبه النصف، و الزوج مع الولد لها، و نصيبه الربع، و الزوجة مع عدم الولد للزوج و نصيبها الربع، و الزوجة مع الولد له و نصيبها الثمن.

و المراد بالزوجة مطلق من تحققت بهن الزوجية الدائمية، سواء دخل بهن أم لا على ما فصل في الفقه؛ كما أن المراد بالولد مطلق من تولد منهن سواء كان ذكرا أم أنثى للصلب أم غيره و ان نزل واحدا كان أم متعددا. و يستفاد من قوله تعالى: «لَهُنَّ » ان المناط تحقق الولد منهن و ان لم يكن من الزوج الوارث لها.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ .

هذه هي الصورة الثانية، و المراد من الولد تحققه منهن، سواء كان من الزوج أم من غيره، فان في هذه الحالة للزوج الربع.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ .

اي: ان الزوج انما يرث في كلتا الحالتين بعد إخراج الدين و الوصية التي توصي بها الزوجة، فإذا فضل بعد ذلك شيء يخرج منه السهام، و منها سهم الزوج على ما تقدم من التفصيل.

قوله تعالى: وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ .

هذه هي الصورة الثالثة، و الكلام فيها كالكلام في الصورة الاولى و المستفاد من «لَكُمْ » ان المناط تحقق الولد منه و ان لم يكن ولدا

ص: 331

لها، و نصيب الزوجة في هذه الحالة الربع.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ .

الصورة الرابعة، و هي ارث الزوجة من الزوج ان كان له ولد فلها الثمن مما تركه الزوج على ما تقدم من التفصيل.

و اطلاق الآية المباركة يقتضي عدم الفرق بين الزوجة الواحدة و المتعددة فإنهن يشتركن في الربع ان لم يكن للزوج ولد و في الثمن ان كان له ولد.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ .

على ما تقدم من التفصيل، فان الزوجة انما ترث في الحالتين من تركة الزوج بعد وفاء الدين و إخراج الوصية التي اوصى بها الزوج.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ .

بيان لبعض احكام الطبقة الثانية من الموجب الأول للارث، و هم الاخوة و الأجداد.

و «كانَ » تامة، و رجل فاعل، و جملة «يُورَثُ كَلالَةً » صفة له و «كَلالَةً » حال من الضمير في «يُورَثُ » و (امرأة) عطف على رجل. و قيل، في وجه الاعراب غير ذلك و لكنه لا يخلو عن تكلف.

و مادة كلل تدل على الاحاطة، و كلالة مصدر من كلّ يكلّ ، و تكلّله النسب بمعنى احاطه، و منه الإكليل و هو التاج لإحاطته بالرأس و كذا الكل (بالضم) لإحاطته بالجزء. و قيل: ان الكلالة بمعنى الإعياء و سميت القرابة البعيدة كلالة لضعفها بالنسبة إلى القرابة القريبة و هم الأصول و الفروع. و قيل: إنها بمعنى البعد، و منه كلت الرحم

ص: 332

بين فلان و فلان إذا تباعدت القرابة، و سميت القرابة البعيدة بها لبعدهم عن الميت، و الكلالة ما خلا الوالدان و الولد سموا كلالة، لإحاطتهم بنسب الميت. و لم يرد لفظ الكلالة في القرآن الكريم إلا في موضعين أحدهما المقام، و الثاني في آخر هذه السورة و لم يقصد منهما إلا الاخوة و الأخوات. و هي اسم يجمع الوارث و المورث من جهة انتساب كل واحد منهما إلى الآخر، و هي تشمل الذكر و الأنثى، و لا تثنى و لا تجمع لأنها مصدر، كالوكالة و الدلالة.

و كيف كان فالمتفق عليه عند الجميع انها لا تشمل الآباء و الأولاد.

و المعنى: ان كان الميت المورث كلالة ليس له أب و لا ابن و الآية تختص بما إذا لم يكن للميت وارث من الطبقة الأولى في الإرث و هم الآباء و الأبناء و كان له أخ أو اخت، و المرأة حكمها حكم الرجل إذا كانت كلالة ليس لها أب أو ابن.

قوله تعالى: وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ .

الضمير في «كَلالَةً » يرجع إلى الرجل اكتفاءا به عن المعطوف لاشتراكهما في الحكم. و الأخ أصله «أخو» لدلالة التثنية (اخوان) عليه فحذف منه الواو و نقلت الضمة الى الخاء على غير قياس. و أما اخت فقد حكى جمع انه ضم أولها لأن المحذوف منها واو، كما كسر أول بنت لان المحذوف منها ياء اي: و ان كان المنتسب الى الميت واحدا من الكلالة إما أخ أو اخت فله السدس مما تركه الميت.

قوله تعالى: فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي اَلثُّلُثِ .

اي: و ان كان المنتسب اكثر من واحد اي أخوين فصاعدا أو أختين كذلك أو هما معا فلهم الثلث يقتسمونه بينهم بالسوية من دون تفاضل بين الذكر و الأنثى.

و الأخ و الاخت و ان كان مطلقا يشمل الاخوة من طرف الام و الاخوة من طرف الأبوين، أو الأب، و لكن اشتراكهم في الثلث بالسوية يدل

ص: 333

على ان المراد منهم خصوص كلالة الام فقط، و قد اجمع المسلمون على ذلك، و يشهد له الجمع بين هذه الآية و الآية الاخرى في الكلالة في آخر هذه السورة.

قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ .

اي: انما ترث كلالة الأم السدس ان كانت واحدة، و الثلث ان كانت متعددة بعد وفاء الدين و إخراج الوصية من التركة، كما تقدم التفصيل.

قوله تعالى: غَيْرَ مُضَارٍّ .

جملة حالية من الفاعل، و العامل فيها (يوصى) اي يوصي الرجل و مثله المرأة حالكونه غير مضار للورثة بوصيته بان يوصي بأكثر من الثلث أو يضرهم بافتعال الدين لنفسه فيحرمهم من الإرث.

و المضارة من الإضرار و هذا القيد يعتبر في جميع الموارد التي ذكر فيها الوصية في ما تقدم من الآيات الشريفة ك «يوصي و يوصين و توصون» و لكن حذف لدلالة ما بعده عليه، و انما ذكره في المقام لأنه مظنة الضرر، فان كلالة الأم كثيرا ما تكون ثقيلة على المورث.

قوله تعالى: وَصِيَّةً مِنَ اَللّهِ .

مصدر منصوب بفعل مقدر اي: يوصيكم بذلك وصية من اللّه تعالى فيجب الإذعان بها و العمل بمضمونها، و انما نسبها اليه عز و جل للتأكيد على مضمونها و تعظيم شأنها و التحذير من مخالفتها.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ .

اي: و اللّه عليم بمصالحكم و نياتكم فيعلم المطيع منكم و العاصي

ص: 334

المتعدي على حدود اللّه تعالى، حليم لا يعاجل بالعقوبة، فعليكم بالتخلق بأخلاق اللّه تعالى.

و انما ذكر عز و جل هذين الاسمين المباركين لان أحدهما يبين حكمة التشريع، و الثاني يبين تنفيذ التشريع فانه شرع الاحكام لمصالحكم فيجب عليكم العمل بها و من يخالف يعاقب و ان يمهله اللّه تعالى لحلمه بكم.

قوله تعالى: تِلْكَ حُدُودُ اَللّهِ .

الحد هو الحاجز بين الشيئين بحيث يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و التمايز بينهما، و المراد بها تلك الاحكام التي شرعها اللّه تعالى في المواريث و غيرها التي هي حدوده عز و جل فلا يجوز التعدي و التجاوز عنها.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ .

تفريع على ما سبق فان كون الاحكام حدوده تعالى يستلزم الإطاعة و بيان الجزاء على الموافقة و المخالفة اي: و من يطع اللّه تعالى في العمل باحكامه على حدودها و يتبع ما ورد على لسان الرسول (صلى اللّه عليه و آله) في تفسيرها و بيانها فانه واسطة الفيض و ما ينطق عن الهوى فانه يجزيه الجزاء الأوفى.

قوله تعالى: يُدْخِلْهُ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها .

اي: ان جزاء المطيع هو ان يدخله اللّه تعالى جنات في غاية البهجة و استكملت جميع اسباب السرور خالدين فيها لا ينغص عيشهم حزن الفراق.

ص: 335

و انما جمع «خالِدِينَ » مراعاة لمعنى «مَنْ يُطِعِ » لأنه من الألفاظ التي تدل على العموم و لبيان انهم مجتمعين فان في الاجتماع كمال اللذة.

كما انه أفرد الضمير في «يُدْخِلْهُ » مراعاة للفظ «مَنْ » .

قوله تعالى: وَ ذلِكَ اَلْفَوْزُ اَلْعَظِيمُ .

فانه عظيم بنفسه، لأنه في غاية البهاء و الصفاء و استكملت جميع اسباب البهجة و السرور و السعادة و خلي عن جميع المنغصات و الكدورات و عظيم بالإضافة لأنه من عند اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ .

بعد ان ذكر أن المناط في الطاعة هو العمل بحدود اللّه تعالى و ما جاء به الرسول الكريم (صلى اللّه عليه و آله). بين عز و جل أن المناط في للعصيان هو التعدي عن حدود اللّه.

اي: و من يخالف احكام اللّه تعالى و لم يعمل بما أنزله عز و جل و ما جاء به الرسول العظيم (صلى اللّه عليه و آله).

قوله تعالى: وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ .

تفسير العصيان، و فيه التأكيد على ترك المخالفة، و لبيان ان مخالفة الرسول من التعدي عن حدود اللّه تعالى. و للاشارة بان الزيادة عليها يكون من التعدي عن حدود اللّه، فيكون ردا على بطلان العول و التعصيب كما ستعرف.

قوله تعالى: يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها .

اي: ان جزاؤه هو الخلود في النار. و انما أفرد «خالِداً» لبيان انه لا يتمتع من منفعة الاجتماع، و هي الانس لشدة العذاب

ص: 336

و مقاساة أهوالها، فهم كالفرادى في النار.

قوله تعالى: وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ .

اي: له مضافا إلى دخوله النار عذاب عظيم كنهه، مذل له، و انما اذله اللّه تعالى في العذاب لأنه اغتر بنفسه و تعدى حدود اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث دلالي:
تدل الآيات الشريفة على امور:
الأول:

يستفاد من الآيات المباركة المتقدمة اهمية الفرائض و احكام المواريث في الشريعة الاسلامية، فقد اعتنى القرآن الكريم بهذه الفرائض و اهتم بها اهتماما بليغا و تضمنت تلك الآيات رموزا و وجوها كثيرة تدل على ما قلناه.

منها: ان اللّه تبارك و تعالى شرّع تلك الاحكام و فرضها على الناس و أمرهم بمراعاتها و تعهدها حالا بعد حال، و في الوصية بالفرائض اهتمام بها و تأكيد على مراعاتها و العمل بها ما لم يوجد ذلك في غيرها.

و منها: انه ذكر عز و جل القواعد الكلية المتبعة في المواريث و لم يعهد مثل ذلك في غيرها، فمن تلك القواعد قاعدة «ان للذكر مثل حظ الأنثيين» و قاعدة «الأقرب يمنع الأبعد» و غيرهما من القواعد.

و منها: انه تعالى بسط السهام، و ذكر أصولها في هذه الآيات

ص: 337

و هي: النصف؛ و الربع، و الثمن، و الثلثان، و الثلث، و السدس.

و منها: انه جلّ شأنه عظّم أمر تلك الفرائض ببيان جزاء المطيع و العاصي فذكر الثواب على إطاعة اللّه تعالى و اطاعة الرسول (صلى اللّه عليه و آله) فيها و العذاب المهين على المخالفة و العصيان.

و منها: انه تعالى جعلها من حدوده التي لا يجوز التعدي عنها، و قد وردت أحاديث متعددة تدل على اهمية الفرائض و الأمر بتعلمها ففي الحديث المعروف عن رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) انه قال: «تعلّموا الفرائض و علّموها الناس فاني امرؤ مقبوض، و ان العلم سيقبض، و تظهر الفتن حتى يختلف الاثنان في الفريضة و لا يجدان من يقضي بها» و غيره من الأحاديث الكثيرة.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ » على ان حكم السهم و السهمين مخصوص بأولاد الصلب للميت مباشرا، و اما غيرهم فهم في حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان و لأبن البنت سهم واحد إذا اجتمعا و لم يكن هناك من يتقدم عليهم في المرتبة، و كذلك حكم الاخوة و الأخوات و أولادهم. هذا بخلاف الابن و البنت فإنهما اعمان من ان يكونا بواسطة أو بغيرها.

الثالث:

يدل قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » بايجازه البليغ و أسلوبه الجذاب على أعظم حكم سنته الشريعة الإلهية في الفرائض و المواريث فانه يعلن أن جنس الذكر يعادل في النصيب سهم انثيين و هو يبين حقيقتين.

إحداهما: ارث الأنثى و انه امر مقرر معروف لا يمكن لاحد إنكاره و هو الأصل في ارث الذكر.

الثانية: ان للذكر مثل حظ الأنثيين. و بذلك يبطل جميع التقاليد

ص: 338

و العادات البائدة التي لم ينزل بها سلطان، و قد قيل في وجه الحكمة في هذا الحكم الالهي وجوه كثيرة بعضها لا تخلو من المناقشة. و المهم ان القرآن الكريم في هذا الأسلوب يبين جهة فضل الفاضل و لم يتطرق إلى جهة نقص حظ الأنثى.

الرابع:

قد ذكر سبحانه في الآيات المتقدمة من موجبات الإرث النسب - المتحقق في الآباء و الأبناء و الاخوة - و السبب المتحقق في الزوجية و قد ذكر الأبناء و الآباء في قوله تعالى: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ مِمّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ » . و كلالة الأم من الاخوة. فاما السبب فقد ذكر عز و جل سهم الزوجين الأعلى و الأدنى على ما عرفت من التفصيل.

الخامس:

يستفاد من التفصيل في سهام البنات انه لا يستغرق فرضهن التركة، فان الواحدة منهن تأخذ النصف و المتعددة يأخذن الثلثين و اما الزائد فيرد عليهن بالتساوي. هذا إذا لم يكن معهن وارث ذكر، و الا فان للذكر مثل حظ الأنثيين و يعلم من هذا التفصيل ان الذكر الواحد أو المتعدد يأخذون التركة و يتساوون فيها.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ » انه لا نصيب لذوي السهام في التركة قبل إخراج الدين و الوصية منها، فإذا اوفي الدين و أخرجت الوصية من التركة فما فضل منهما يتعلق به سهام ذوي الفروض.

و انما قدم الوصية لإثبات الاهتمام بها فان أداء دين المورث مفروغ عنه بين العقلاء بخلاف الوصية.

السابع:

يستفاد من نسبة السهام إلى التركة ان كل سهم من السهام الستة - و هي الثلث، و الثلثان، و السدس، و النصف، و الربع، و الثمن - يتعلق

ص: 339

بأصل التركة في عرض واحد و على حد سواء، فإذا اجتمع السدس و الربع مثلا فان السدس يخرج من اصل التركة كما يخرج الربع كذلك لا أن يخرج السدس أولا ثم يخرج الربع من ما بقي أو بالعكس و كذا في بقية فروض الاجتماع - كالثلث، و الثمن، أو الثلثان، و الربع - فالسهام كسور عشرية تتعلق بجميع المال و أصله فان كل جزء من اجزائه ينحل إلى كسور و كل كسر معين لصاحب فرض، فلا وجه لتقديم احد الفروض و إخراجه من المال المورث ثم إخراج فرض آخر من ما بقي و هكذا فان ذلك خلاف ظواهر الآيات الكريمة و خلاف المنساق من تعلق الكسور في مال معين.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» على ان تلك الاحكام الإلهية و القسمة الربانية تبتنى على مصالح واقعية يعم النفع بها لجميع افراد البشر.

بحث روائي

في اسباب النزول و الدر المنثور اخرج عبد بن حميد، و البخاري، و مسلم، و ابو داود، و الترمذي، و النساء، و ابن ماجة، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و البيهقي في السنن عن جابر ابن عبد اللّه قال: «عادني رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و ابو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي (صلى اللّه عليه و آله) لا اعقل شيئا بماء فتوضأ منه ثم رش عليّ فأفقت فقلت: ما تأمرني ان اصنع في مالي يا رسول اللّه ؟ فنزلت. يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » .

أقول: في ماء الوضوء آثار فكيف بماء وضوئه (ص) فانه قد يوجب احياء الموتى.

ص: 340

و في اسباب النزول ايضا عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال:

«جاءت امرأة إلى رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) بابنتين لها فقالت يا رسول اللّه هاتان بنتا ثابت بن قيس - أو قالت سعد بن الربيع - قتل معك يوم أحد و قد استفاء عمهما مالهما و ميراثهما فلم يدع لهما مالا إلا أخذه فما ترى يا رسول اللّه ؟ فو اللّه ما تنكحان ابدا إلا و لهما مال فقال يقضى اللّه في ذلك فنزلت سورة النساء و فيها: «يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ - الآية» فقال لي رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) ادع لي المرأة و صاحبها فقال لعمهما: أعطهما الثلثين و اعط أمهما الثمن و ما بقي فلك».

أقول: الرواية لا تتعرض لحكم الزائد عن السهام و هناك روايات اخرى تتعرض له و ان الزائد يرد على البنتين.

و يمكن أن يكون منشأ النزول متعددا و النزول واحدا و لا بأس بذلك.

و في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن السدي قال: «كان اهل الجاهلية لا يورثون الجواري و لا الضعفاء من الغلمان لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن - أخو حسان الشاعر - و ترك امرأة له يقال لها أم كحة و ترك خمس جواري فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) فانزل اللّه تعالى هذه الآية «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اِثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا اَلنِّصْفُ » ثم قال في أم كحة: وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ » .

و فيه ايضا عن ابن عباس قال: «لما نزلت آية الفرائض التي فرض اللّه فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة

ص: 341

النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء احد يقاتل القوم و لا يحوز الغنيمة و كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث الا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر».

أقول: يعلم ان منشأ افتعال التعصيب في الإسلام و جذوره كانت من الجاهلية كما يعلم من ذلك ان قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» كان ردا على جميع هذه الخرافات و الافتعالات الجاهلية منها و ما كانت في الإسلام.

و في الدر المنثور اخرج الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال:

«أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و اللّه ما ادري كيف اصنع بكم ؟ و اللّه ما ادري أيكم قدم اللّه و أيكم أخر؟ و ما أجد في هذا المال شيئا احسن من ان اقسمه عليكم بالحصص ؟ ثم قال ابن عباس: و أيم اللّه لو قدّم من قدم اللّه و أخّر من أخّر اللّه ما عالت فريضة فقيل له و ايها قدم اللّه ؟ قال: كل فريضة لم يهبطها اللّه من فريضة إلا الى فريضة فهذا ما قدم اللّه و كل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخّر اللّه فالذي قدم كالزوجين و الام، و الذي أخر كالاخوات و البنات فإذا اجتمع من قدم اللّه و أخر بدئ بمن قدم فأعطي حقه كاملا فان بقي شيء كان لهن و ان لم يبق شيء فلا شيء لهن».

و فيه ايضا اخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال. «ا ترون الذي احصى رمل عالج عددا جعل في المال نصفا و ثلثا و ربعا؟ إنما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و اربعة أرباع».

و في الكافي عن الزهري عن عبيد اللّه بن عبد اللّه بن عتبة قال:

«جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس

ص: 342

سبحان اللّه العظيم أ ترون الذي احصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و ثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث ؟ فقال له زفر بن أوس البصري يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض فقال عمر بن الخطاب لما التفّت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا قال: و اللّه ما ادري أيكم قدم اللّه و أيكم أخر؟ و ما أجد شيئا أوسع من ان أقسم عليكم هذا المال بالحصص و أدخل على كل ذي حق حقه فادخل عليه من عول الفرائض. و ايم اللّه لو قدم من قدم اللّه و أخر من أخر اللّه ما عالت الفريضة فقال له زفر بن أوس: و أيهما قدم و أيهما أخر؟ كل فريضة لم يهبطها اللّه عن فريضة إلا الى فريضة فهذا ما قدم اللّه و اما ما أخر اللّه فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها ما بقي فتلك التي أخر، فاما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء، و الام لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شيء فهذه الفرائض التي قدم اللّه عز و جل، و اما التي أخر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر اللّه فإذا اجتمع ما قدم اللّه و ما أخر بدئ بما قدم اللّه فاعطي حقه كاملا فان بقي شيء كان لمن أخر و إن لم يبق شيء فلا شيء له فقال له زفر فما منعك ان تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال هبته».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة و نفي العول مذهب اهل البيت (عليهم السلام).

و في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث قال:

ص: 343

«كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: ان الذي احصى رمل عالج ليعلم ان السهام لا تعول على ستة لا تبصرون وجهها لم تجز ستة».

و فيه ايضا عن الصادق (عليه السلام) قال: «قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحمد للّه الذي لا مقدم لما أخر و لا مؤخر لما قدم.

ثم ضرب بإحدى يديه على الاخرى ثم قال يا أيتها الامة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدّم اللّه و أخّرتم من أخر اللّه و جعلتم الولاية و الورثة حيث جعلها اللّه ما عال ولي اللّه و لا عال سهم من فرائض اللّه، و لا اختلف اثنان في حكم اللّه و لا تنازعت الأمة في شيء من امر اللّه ألا و عند علي علمه من كتاب اللّه، فذوقوا وبال أمركم و ما فرضتم فيما قدمت أيديكم و ما اللّه بظلام للعبيد، و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون».

أقول: الروايات في رد العول متضافرة، و اما كيفية تقسيم التركة على الوارث إذا كانت السهام اكثر منها فهي مذكورة في كتب الحديث و الفقه فليراجع إليها.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام) قال: «لا تحجب الام عن الثلث إلا اخوان أو أربع أخوات لاب و أم أو لاب».

أقول: الاخبار في ذلك كثيرة و قد تقدم ما يستفاد ذلك من الآية ايضا.

و في التهذيب عن السكوني عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال:

«أول شيء يبدأ به من المال الكفن، ثم الدين، ثم الوصية، ثم الميراث».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة و هي متفقة على ان الدين مقدم على الوصية و هي مقدمة على الميراث و الكفن من شؤون

ص: 344

الميت نفسه فلا بد من إخراجه أولا.

و في المجمع في قوله تعالى: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ » عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و انكم تقرأون في هذه الآية الوصية قبل الدين و ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قضى بالدين قبل الوصية.

أقول: رواه السيوطي و غيره ايضا و تقدم الوجه في تقديم الدين على الوصية.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «ان اللّه ادخل الزوج و المرأة على جميع اهل المواريث فلم يقصها من الربع و الثمن».

أقول: هذه الاخبار و نظائرها دليل على عدم العول و التعصيب بالنسبة إليهما و اما الرد إليهما ففيه كلام ذكرناه في الفقه و من شاء فليرجع إلى (مهذب الاحكام).

و في الكافي في معنى الكلالة عن الصادق (عليه السلام): «من ليس بوالد و لا ولد».

أقول: تقدم معنى الكلالة و ذكرنا ان ذلك مستفاد من نفس الآية الشريفة.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المتقدمة - التي فرض اللّه تعالى فيها السهام بضميمة الآيات الاخرى الواردة في الإرث منها الآية التي تقدم تفسيرها «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ مِمّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» و الآية التي

ص: 345

في آخر هذه السورة و غيرها - احكام مهمة تعتبر كليات باب الفرائض و المواريث و قد اعتمد عليها الفقهاء في كتبهم الفقهية و نحن نذكر المهم منها في ضمن مسائل.

المسألة الاولى: قاعدة: «تفضيل الذكر على الأنثى» التي هي من القواعد في الفرائض و الإرث و الأصل فيها قوله تعالى: «لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ » فإنها تقضي تقسيم التركة إذا اجتمع الذكور و الإناث من الورثة و لم يكن لواحد فرض على تفضيل الذكر على الأنثى في النصيب. و إذا تأملنا في الفرائض التي فرضها اللّه تعالى في الإرث للرجال و النساء نرى ان سهم النساء ينقص عن سهام الرجال مطلقا إلا في مورد واحد و هو الأبوان إذا اجتمعا فان سهم الام قد يزيد على سهم الأب، كما إذا اجتمع الأب و الام و البنت الواحدة فان للبنت الواحدة النصف، و للأب و للام السدسان و الباقي يرد على البنت و الام دون الأب فيزيد سهم الام على الأب حينئذ، و لعل الوجه في ذلك ان الأم أمس رحما للولد من الأب لما تتحمله من المصاعب و تقاسي من الهموم في سبيل تربيته و حضانته، فلها المنزلة العظمى في الإسلام و في غير هذا المورد يكون نصيب المرأة اقل من نصيب الرجل، فالزوج له النصف مع عدم الولد للزوجة و الربع مع وجوده، و اما الزوجة فلها الربع مع عدم وجود الولد للزوج و الثمن لها مع وجوده و نحو ذلك.

و اما وجه الحكمة في كون سهم الرجل ضعف سهم الأنثى في الجملة فانه يبتني على أمرين: أحدهما اجتماعي اقتصادي و الآخر يرجع إلى الخلق و التكوين و يشير إلى كلا الأمرين قوله تعالى: «اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ »

ص: 346

النساء - 34 فان المراد من الفضل الوارد فيها هو تعقل الرجال و استيلاء روح التعقل بحسب الطبع و التكوين عليهم و ما يمتاز به الرجل من زيادة البأس، و الصلابة و الشدة، و الغلظة و الخشونة. فان جميع ذلك امور يتطلبها المجتمع الانساني في مواطن الدفاع و الأعمال الشاقة، و في تحمل الشدائد و المحن، و الثبات في الأهوال و نحو ذلك مما هو ضروري في الحياة فالرجال على الأكثر يقومون بهذه الشؤون.

و اما المرأة فهي متصفة بالاحساسات و العواطف التي لا غنى للمجتمع عنها فان لهما آثارا عجيبة في الإنسان لما يتطلبه من الوداعة في العيش و السكن و المحبة و الانس و الرحمة و الرأفة مضافا إلى تحمل المرأة أثقال الحمل و الوضع و الحضانة و خدمة البيوت و لا يصلح لهذا الجانب إلا الرحمة و الرأفة و الاحساس اللطيف و العاطفة الرقيقة، فالرجل و المرأة يتبادلان هذين الأمرين الضروريين و يتعادل بهما الحياة و ينتظم شؤونها فإنها يتقوم بهما.

و اما الوضع الاجتماعي فان وضع الرجل الاجتماعي يقتضي الصرف و ادارة المعاش و السعي فيهما و يجب عليه الانفاق غالبا و ذلك يتطلب التدبير المالي في الإنتاج و الاسترباح فهذا إلى روح التعقل انسب إذ لا فائدة للاحساس و العواطف التي هي إلى روح التصرف و المصرف انسب و لذا كانت المرأة اكثر من الرجل فكانا متعاكسين في الملك و المصرف فإذا ملك الرجل الثلثين فان المرأة تذهب بنصف هذين الثلثين بينما تملك المرأة الثلث و لكنها تملك زمام ملكه و مصرفه. و يستفاد ما ذكرناه من عدة آيات كما مر و روايات.

منها: ما رواه هشام: «ان ابن أبي العوجاء قال لمحمد بن النعمان الأحول ما بال المرأة الضعيفة لها سهم واحد، و للرجل القوي الموسر

ص: 347

سهمان ؟ قال فذكرت ذلك لأبي عبد اللّه (عليه السلام) فقال: ان المرأة ليس عليها عاقلة و ليس عليها نفقة و لا جهاد، و عدّد أشياء غير هذا، و هذا على الرجل فلذلك جعل له سهمان و لها سهم» و في مضمونها وردت روايات اخرى.

المسألة الثانية: قاعدة «تقريب الأقرب و تقديمه، و ان القريب يمنع البعيد» و يدل عليها قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فانه اعتبر الاقربية إلى الميت امرا مفروغا عنه و لكن الإنسان يجهل خصوصيات الاقربية و بضميمة الآيات الاخرى يتبين الأقرب و الأبعد اللذان يكونان مؤثرين في زيادة السهم و قلته و يدل على ان الأقرب نسبا يمنع الا بعد قوله تعالى: «وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اَللّهِ » * الأحزاب - 6 فمن الآيات المتقدمة يستفاد:

ان اقرب الأقارب و الأرحام هو الأب و الأم و الإبن و البنت و مع وجودهما لا تصل النوبة إلى أولادهما، لأن الإبن و البنت يتصلان بالميت بدون واسطة و أولادهما يتصلون به بواسطتهما.

ثم بعد هذه الطبقة تأتي الطبقة الثانية و هم اخوة الميت و أخواته و جدودته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة و هي الأب و الأم و أولاد الأخ و الأخت كأولاد الإبن و البنت فإنهم يتصلون بالميت بواسطة آبائهم، و أمهاتهم و هم يمنعون الأولاد.

ثم تأتي الطبقة الثالثة و هم أعمام الميت و عماته و خالاته و أخواله فإنهم يتصلون بالميت بواسطتين الجدودة و الأبوين و الأم و هكذا القياس في جميع الإفراد.

و من ذلك يظهر ان ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد فإذا اجتمع الأبوين مع كلالة الأب فان الاول مقدم على الثاني و اما كلالة

ص: 348

الأم فلا يزاحمها احد من كلالة الأبوين أو الأب لأدلة خاصة.

المسألة الثالثة: قاعدة الحجب و يستفاد تلك القاعدة من الآيات المباركة المتقدمة و السنة الشريفة فان بعض الإفراد يحجب صاحب سهم عن سهمه و هذا على نحوين فانه تارة يحجبه عن سهم إلى سهم آخر كحجب الاخوة لنصيب الأم من الثلث إلى السدس و يدل عليه قوله تعالى: «فَلِأُمِّهِ اَلثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ اَلسُّدُسُ » و في حجب الاخوة شروط مذكورة في كتب الفقه.

منها: ان يكون الاخوة متعددين سواء كانوا ذكرين أو أخا و أختين أو اربع أخوات، و يدل عليه ظاهر الآية الشريفة و بعض الاخبار و الإجماع المحقق.

و منها: ان يكونوا للأب و الأم أو للأب، و يدل عليه الاخبار كما عرفت و الإجماع ايضا.

و منها: ان يكون الأب حيا و غير ذلك من الشروط المذكورة في الفقه.

و اخرى: يكون الحجب من سهم معين و لكن لا ينتقل إلى سهم آخر مثل حجب الأبن و البنت لسهم الأب و الأم.

المسألة الرابعة: التركة إذا قيست مع السهام فتارة: تكون مساوية للسهام مثل بنتان و أب و أم فان للبنتين الثلثين و للأب السدس و للام السدس، فاستغرقت السهام التركة و المال الموروث أو زوج و اخت فان للاخت الواحدة النصف و للزوج النصف ايضا.

و اخرى: تكون السهام اكثر من التركة مثل زوج و أختين أو أخوات فان للزوج النصف و للاخوات الثلثين و كما إذا اجتمع ابوان و بنتان و زوج فان السهام سدسان و ثلثان و ربع و هي تزيد على التركة

ص: 349

بربع إذا هي لا تزيد عن السدسين الثلثين.

و ثالثة: تكون السهام انقص من التركة كما إذا اجتمع أب و بنت واحدة فان للأب السدس و للبنت الواحدة النصف و هي تنقص عن التركة بمقدار السدسين و كما إذا كان بنتا فقط أو بنتين فقط أو أختين فقط.

و الصورة الثانية: تسمى في اصطلاح الفقهاء بالعول، و الصورة الثالثة: تسمى بالتعصيب و فيهما النزاع المعروف بين الامامية و الجمهور فإنهم حكموا بورود النقص في مسألة العول على جميع الورثة؛ كما حكموا في مسألة التعصيب بأن الزائد يرد على عصبة الميت - و هم أقاربه من الذكور فقط - فحرموا الإناث منه.

و لكن الامامية شددوا النكير على ذلك تبعا لما ورد من ائمة اهل البيت (عليهم السلام) و اعتبروا ذلك خروجا عن حدود اللّه تعالى و تعد عليها، و يستفاد من تشديد التنكير في آخر الآيات المتقدمة على التعدي عن حدوده سبحانه و الاقتران بين عصيان اللّه و الرسول (صلى اللّه عليه و آله) و التعدي عن حدود الباري عز و جل ان ذلك خروج عما فرضه اللّه تعالى، و لعل ما ورد في السنة الشريفة من انكار العول و التعصيب مأخوذ من الآيات المتقدمة.

و كيف كان فان ائمة الهدى (عليهم السلام) حكموا في مسألة العول ان النقص يدخل على خصوص الذين لم يعين لهم الا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم كالام و الزوج الذين عين لهم اللّه تعالى فرائضهما الأعلى و الأدنى في جميع الفروض و في مسألة التعصيب يكون الزائد للجميع حسب نسبة السهام و التفصيل يطلب من محله و تقدم في البحث الروائي ما يتعلق بذلك ايضا.

المسألة الخامسة: ظاهر اطلاق الآية الشريفة في الأولاد و غيرهم

ص: 350

ان الأولاد يقومون مقام آبائهم في مقاسمة الأبوين و يرث كل واحد منهم نصيب من يتقرب به كما تقدم في البحث الدلالي، و يدل عليه اخبار كثيرة و الإجماع المحقق.

المسألة السادسة: اطلاق الأزواج في قوله تعالى: «وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ » يشمل المعقود عليها و ان لم يحصل المقاربة و الدخول فترثه و يرثها، كما يتناول المطلقة طلاقا رجعيا لأنها بحكم الزوجة ما دامت في العدة. و بعد العدة إلى سنة يقع فيها الوفاة و يدل على ذلك الإجماع و الاخبار المستفيضة إلا انه استثنى من القسم الاول ما إذا تزوج المريض زوجة فلم يدخل بها حتى مات في مرضه الذي تزوج بها و يدل على ذلك الاخبار و الإجماع.

كما ان ظاهر اطلاق الآية الشريفة «وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ » ارث الزوجة من جميع التركة من العقار و البناء و نحو ذلك فلا تحرم من شيء منها و لكن الروايات المستفيضة و الإجماع المحقق يدلان على حرمانها من بعض الأشياء. و اختلف الفقهاء في تعيين ذلك تبعا لاختلاف الاخبار و المتفق بينهم انها تحرم من العقار بلا اشكال كما فصلناه في الفقه.

المسألة السابعة: ظاهر قوله تعالى: «وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ اِمْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا اَلسُّدُسُ » ان الاخوة و الأخوات لا يرثون مع الوالدين و الأولاد، و لا مع واحد منهم، لما ذكرناه من ان طبقة الاخوة و الأخوات بعد طبقة الوالدين و الأولاد فإذا وجد واحد من الطبقة الاولى لا ترث الطبقة الثانية و هو متفق عليه عند الامامية، و لكن الجمهور يورّثون الاخوة مع الام و تعرضنا لذلك في الفقه فراجع (مهذب الاحكام).

ص: 351

بحث فلسفي

الوراثة على اقسام: الاول الوراثة المالية و هي كما تقدم ان الإنسان يورّث مالا للطبقات التي بعده و قد شرحها اللّه عز و جل بأحسن شرح و أفضل بيان و فصلتها السنة المقدسة بما لا مزيد عليه خصوصا في الموارد التي لها المعرضية للتشاجر و الاختلاف.

و علم هذا التشريع منحصر به جلت عظمته فهو تبارك و تعالى يبين أصولها و السنة المقدسة تبين شرائطها و قيودها و غيرهما مما يتعلق بها و اما الفروع و الاحكام فيبيّنها الأولياء العظام و الائمة الكرام، و هذا مما لا شك فيه لان الإنسان مهما بلغ من الكمال لا يمكن له درك الحقائق الواقعية و المصالح النوعية على ما هي عليه فلا بد و ان يرجع إلى وحي السماء و هو يبيّنها كما أنزلها تعالى بالترتيب المتقدم و يدل عليه قوله تعالى «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» .

الثاني: الوراثة في الملكات الراسخة في نفس الموّرث - حسية كانت أو حدسية - و هي وجدانية لكل احد في الجملة فقد يؤثر ملكات الآباء أو الأجداد في الأولاد غالبا، و قد ثبت ذلك في العلم الحديث المعبر عنه ب (قانون الوراثة).

و علم هذا القسم و خصوصياته منحصر به جلّ جلاله ايضا لأنه العالم بالواقعيات و المحيط بدقائق الأمور - كلياتها و جزئياتها - و من هذا القسم نشأت القبائل و العشائر و عليه بنيت اكثر الأمور الاجتماعية و الاعتبارية الشرعية على ما فصل في الفقه.

و هو من اقدم الأمور فكان مقارنا مع أول نسل آدم (عليه السلام)

ص: 352

و قد كشف العلم الحديث كشفا صحيحا بمشيته و اذنه تعالى و في السنة المقدسة ما يدل على ذلك و قد ورد بعضها في كتاب النكاح و غيره قال تعالى: «وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ » الصافات - 113 بدعوى ان الإحسان في المحسن حصل من الملكات الموروثة و كذا ظلم الظالم لنفسه صار مقتضيا لظلم الذرية و قال تعالى: «وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا اَلنُّبُوَّةَ وَ اَلْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ » الحديد - 26، و قال تعالى:

«آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» .

الثالث: الوراثة الروحانية و في بعض المعنويات في الجملة فيورثها الأب لذريته قال تعالى: «وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اِتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ » الطور - 21 و غيره من الآيات المباركة.

و هذا القسم يختص بأولياء اللّه تعالى يتقدمهم سيد الأنبياء و ذلك مشروط بعدم النقص و الخلل في الذرية فإنهما يمنعان عن تلك الوراثة بعد الاعتقاد بانه تعالى عليم حكيم.

و يمكن ان يجتمع في ولي من اولياء اللّه تعالى أو نبي من أنبيائه الوراثة في المال و الصفات الحسنة و الوراثة التشريعية الروحانية فما نسب إلى نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «إنا معاشر الأنبياء لا نورّث درهما و لا دينارا» ليس في مقام نفي الوراثة أصلا و إلا لخالف الآيات الشريفة بل في مقام ان الأنبياء ليسوا في مقام جمع المال و ادخاره لورّاثهم - كما يصنع أبناء الدنيا - فان شأنهم و مقامهم يجل عن ذلك نعم لو فرض شيء لهم ينتقل بعدهم إلى وارثهم و ان الورثة يصرفونه في ذوي الحاجات و هذا هو معنى ما الحق بذيل الحديث: «و ما تركناه صدقة» فمعنى صدر الحديث و ذيله ان النبي و وارثه الروحاني كل منهما

ص: 353

ليس في مقام ادخار المال بل أموالهم تصرف في ذوي الحاجات و إلا فإنهما كسائر الناس يرثون، فان وارث النبي يرث منه من جهتين الجهة المالية و الجهة الروحانية و لا يمكن التفكيك بينهما.

ثم إن اهتمام القرآن في تشريع اصول سهام الإرث بهذا التقسيم البليغ انما هو لأجل ان الموضوع كان مورد التشاجر و التخاصم في المجتمع فشرع السهام على وجه معقول و أكد الالتزام بها بقوله تعالى:

«وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ » و قوله تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فهذه كلها لدفع التشاجر و التخاصم و الافتعالات الخاطئة و ان ما سوى ما شرعه اللّه تعالى يكون «كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ اَلظَّمْآنُ ماءً حَتّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً» النور - 39.

بحث اجتماعي
اشارة

الإرث: من الأمور الاجتماعية التي لازمت المجتمع الانساني من أول حدوثه و قد مرت اطوار كثيرة على هذا الأمر المهم حتى وصل إلى الحالة التي نراها في الإسلام الذي يعتبر بحق احسن ما شرع فيه لأنه يبتني على حكمة متعالية و مصلحة عامة و نحن نذكر في هذا البحث ما يتعلق به:

ص: 354

بداية الإرث و تحوله:

الإرث من أقدم الأمور الاجتماعية بل يمكن ان نقول انه امر طبيعي لا يسع لاحد إنكاره و قد برز للوجود بظهور الملكية و التملك عند الإنسان فانه من مصادر الملكية، لكنه يختلف عن سائر المصادر بانه مصدر قهري للملكية، فان بموت احد يتملك غيره سواء كان قريبا له أو لا ما كسبه في حياته و تركه لغيره، اختلاف المجتمعات في هذه الظاهرة شدة و ضعفا لا يضر ان يكون الإرث من اقدم العهود و السنن الاجتماعية.

و من الطبيعي ان هذا الأمر الاجتماعي كان في بداية ظهوره بسيطا كسائر الأمور الاجتماعية فان الحياة كانت بسيطة و غير معقدة و لم يتكون المجتمع إلا من افراد قليلين و لم يكن المال الذي يرثه سوى بعض الأشياء البسيطة، و لكنه تطور و تحول تدريجيا و ان لم تصل إلينا كيفية ذلك.

تطور الإرث و تقسيمه:

بعد ما عرفت ان الإرث و التوارث هو امر طبيعي و قد كان بسيطا ثم تطور و كان في ابتداء امره مبنيا على القرابة و الولاء فان لكل فرد أبوين و اولادا و زوجة و قرابة و صديقا و رحما و هذه الإفراد تتفاوت في القرب و البعد و الأولوية و من هؤلاء تتشكل العشيرة و القبيلة و نحو ذلك فكانت قسمة الإرث تتفاوت في المجتمعات تبعا لاختلاف الآراء

ص: 355

في الأولوية و الاقربية، ففي المجتمع الجاهلي مثلا كانوا يحرمون كثيرا من الورثة عن التركة لأنهم كانوا يعتبرون القوة في الوارث فبعضهم كانوا يعتبرون القوي هو رئيس القبيلة، و الآخر يعتبره الأب و ثالث يعتبره أشجع القوم و ظل هذا الأمر الاجتماعي مختلفا فيه و يتحول من حال إلى حال آخر.

و لكن الأمر المتفق عليه انهم كانوا يحرمون الصغار و النساء و الضعفاء من الإرث. و بلغ هذا الأمر الاجتماعي أوج كماله في الشريعة الاسلامية لأنها تبتني على الفطرة و الحكمة بخلاف غيرها فإنها لا تنبع عن الفطرة بل تتبع العواطف و النزوات و الإحساسات حتى عند الأمم الراقية التي سنت القوانين في حياتها مثل اليونان و الرومان و لذا كان يطرأ عليها التغير و التبدل بخلاف ما شرعه الإسلام في الإرث فان المسلمين قبلوا هذا الحكم بمجرد نزوله على صاحب الشرع و اسرعوا إلى العمل به و ظلوا على ذلك منذ اربعة عشر قرنا.

مقارنة الإرث في الأمم المتمدنة:

أما اليونان فكانوا يحرمون النساء مطلقا الزوجة و البنت و الاخت من الإرث كما كانوا يحرمون صغار الأولاد و لكنهم كانوا يحتالون في توريث من حرموه من الميراث بالوصية إليهم.

و اما الرومان فإنهم كانوا يقسمون الإرث على القرابة التي يبتني عليها البيت عندهم و ما يريده أب البيت، فإنهم كانوا يعتبرون ان للبيت شخصية قانونية و استقلالا مدنيا عن المجتمع العام و كانت تشكيلة البيت من رب البيت و الزوجة و الأولاد و العبيد، و كان رب البيت

ص: 356

هو المعبود لأهله و هو يعبد رب البيت السابق من اسلافه كما انه المالك و غيره لا يملك و القيم عليهم و الأولاد ان بقوا في البيت بعد تأسيسهم لبيت جديد فانه تابع لرب البيت و إلا فهو رب للبيت الجديد بعد ما كان من افراد البيت القديم و اما إذا مات فانه يرثه احد ابنائه أو إخوانه و لا ترث النساء مطلقا الأم و البنت و الاخت و الزوجة بحكم القانون الذي يسنه أب البيت، فالنساء ذوات قرابة طبيعية دون القرابة الرسمية التي بموجبها يرث افراد البيت. و لعل السبب في ذلك انهم كانوا يحرمونهن من الإرث لئلا ينتقل مال الميت إلى بيت آخر بالازدواج، فان المال عندهم ملك للبيت الذي اكتسبه و لا يجوزون انتقال الثروة من بيت إلى بيت آخر.

و اما سائر الأمم - كالهند و الصين و غيرهما - فإنهم كانوا يحرمون النساء و ضعفاء الأولاد و يقتربون في ذلك إلى اليونانين و الرومانيين.

و اما الفرس فإنهم كانوا يحرمون بعض النساء في بعض الحالات مثلما كانوا يحرمون البنات المزوجات و الزوجات غير الكبيرات و اما الزوجة الكبيرة و البنت غير المزوجة فإنهما ترثان، و رب البيت قد يحب بعض النساء حبا بجعلها مقام الأولاد فترثه كما يرث الابن و الدعي لأنهم كانوا يجوزون الإرث للبنين و اما البنت فإذا لم تتزوج فهي ترث نصف الابن و اما إذا تزوجت فلا ترث شيئا لئلا تنتقل الثروة إلى خارج البيت.

و اما في العصر الجاهلي المعاصر لنزول القرآن فإنهم كانوا يورثون الأولاد تبعا للرشد و القوة، فحرموا النساء و صغار الأولاد فان لم يكن في الأولاد رشيد قوي فيرث المال العصبة.

ص: 357

الإرث في الإسلام:

بعد ما عرفت حال هذه السنة الاجتماعية قبل الإسلام و عصر نزول القرآن و قد اتفقوا على منع النساء و الضعفاء و من لا حول له و لا قوة من الإرث و الجميع أسسوا هذه القواعد و الاحكام على أساس العصبية و العواطف التي لا تهدى إلى السعادة و الحقيقة.

اما الإسلام فقد سن حكمه على الفطرة و الحكمة و التعقل و شرع قانون الإرث على أساس محكم متين و هو النسب و السبب و الولاء، و اعتبر ان القرابة تقوم على أساس الرحم الذي هو أم تكويني و الغي كثيرا من الأمور التي كانت متبعة عند المجتمعات قبل الإسلام منها التبنّي و الادعاء و القوة و النفوذ و الشجاعة و الرشد و نحو ذلك من الأوهام الخاطئة التي بها حرم كثير من الورثة، بل يمكن ان نقول ان الإرث مطلقا كان يبتني على ارادة رب البيت و ما تمليه العادات و التقاليد دون الحكمة و التعقل. و قد عرفت ان الإسلام يبني الإرث على اصلين جوهريين هما اصل القرابة و الرحم الذي هو الرابط بين الفرد و أقربائه و في هذا الأصل لا يختلف الذكور و الإناث و الكبار و الصغار بل حتى الجنين في بطن امه فإنهم جميعا يشتركون في الرحم و القرابة لكن الإفراد تختلف في القرب و البعد و لذلك سنّ قانون الاقربية و ان الأقرب يمنع الأبعد و على ذلك بنيت طبقات الإرث المتتالية و هي ثلاث طبقة الآباء و الأبناء، و طبقة الأجداد و الاخوة، و طبقة الأعمام و الأخوال على ما هو المعروف و لا ترث الطبقة اللاحقة عند وجود فرد من الطبقة السابقة و في كل طبقة تجري قانون أن الأقرب يمنع الا بعد. و كان أساس

ص: 358

ذلك أمر تكويني و حكم رباني مبني على الحكمة المتعالية و المصلحة العامة.

كما له اصل آخر قويم و هو: اختلاف الذكر و الأنثى في الإرث و أسس القانون العظيم و هو: «للذكر مثل حظ الأنثيين» و ذلك لاختلاف الطبائع في كل واحد منهما الموجب لاختلاف منزلتهما الاجتماعية و ان كان الجميع سواء في الشخصية الانسانية بلا اختلاف بينهما في هذه الجهة، و بذلك أبطل جميع التشريعات الوضعية التي أسست على العاطفة و الاحساس، فكانوا يحرمون النساء لأنهم كانوا لا يرون لهن منزلة في المجتمع الانساني و لكن الإسلام رد المرأة إلى منزلتها الطبيعية و ارجع لها الحقوق التي اغتصبت برهة من الزمن.

و اما ما تدعيه المدنية المعاصرة من تساوي الحقوق بين المرأة و الرجل فهذه ليست إلا بدعة أرادوا بها إذلال المرأة و جعلها لعبة يستفيد منها المغرضون في الميل عن الحق و اثبات أغراضهم الفاسدة و اعمال نواياهم السيئة فاي حق لها كان ضايعا في الإسلام حتى يردوه إليها.

و كيف كان فالإسلام بنى الإرث على هذين الأصلين و قسّمه على الكيفية المعهودة كما عرفت سابقا. و جاء رد الإسلام واضحا في قول اللّه تعالى: «آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً» فإنهم قصدوا المنافع الدنيوية من الإرث و في تقسيمه و لكنهم جهلوا خصوصياته فضلّوا و اضلّوا.

و من ذلك تعرف الفرق الجوهري بين النظامين الاسلامي و الوضعي فانه يفترق عن غيره في المنهج و القاعدة و الغرض كما عرفت مما سبق.

و من نافلة القول ان بعض من يدعي الفضل يرى ان قانون الإرث في الإسلام مأخوذ من الإرث الروماني، و كأنه غفل عن التباين الكلي بينهما و انه جهل أساس كل من القانونين و نحن في غنى عن التفصيل

ص: 359

بعد ما اتضح لك الحال.

الإرث في الأمم المعاصرة:

يختلف الإرث في الأمم المعاصرة المتمدنة عن قانون الإرث في الإسلام في الأصل و المنهج، و لكنها تتفق معه في توريث المرأة لاعتمادهم على تساوي الحقوق بين الرجل و المرأة و يدّعون انهم خالفوا بذلك جميع المجتمعات التي حرمت النساء من حقوقهن و لكن بعد التأمل في ما ذكرناه ترى ان فضل ذلك يرجع إلى الإسلام عند ما اعتبر المرأة جزء من الاجتماع و ان لها حقوقا كما للرجال.

و لقد ثارت في الجاهلية المعاصرة منذ القرن السادس عشر قضية المرأة و شغلت بال النساء و الرجال على حد سواء برهة من الزمن و كانت في بداية الأمر لا تتعدي عن بعض الأمور و لكنها اتسعت و تعدت حتى وصلت إلى المساواة المطلقة في كل شيء بل نادى بعضهم بالحرية للمرأة في ان تهب نفسها لمن تشاء. و شتان بين الجاهلية التي جعلت المرأة كالمتاع و حكّمت العواطف و الإحساسات على التعقل و الحكمة و بين ما أثيرت في عصر نزول القرآن من المسلمات المؤمنات اللواتي أردن المساواة بينهن و بين الرجال في الحقوق و درجة الشهادة و التساوي في الميراث فجاء الخطاب السماوي الذي يفصل بين الواقع و الخيال وردا على التمنيات التي توجب الفوضى و الفساد قال تعالى: «وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً» النساء - 32 فان اللّه خلق كل واحد من الجنسين لمهمة معينة تقوم

ص: 360

بها الحياة و ينتظم النظام الأحسن و جعل لكل جنس حكمه المختص به التي تتطلبه وظيفته الفطرية و في غيرها يشترك الجنسان في جميع الاحكام و الحقوق، و قد أسست في الفقه الاسلامي قاعدة معروفة يعتمد عليها الفقهاء و هي: «اشتراك الرجال و النساء في جميع الاحكام إلا ما خرج بالدليل» كما عرفت في احد مباحثنا السابقة. و تطبيقا لتلك المشاعر العاطفية و النعرات الجاهلية فقد وضعت القوانين الحديثة احكاما تشرك النساء مع الرجال في جميع المجالات منها تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالاباء و الأمهات و البنات و البنون سواء فيه.

و قد سن القانون الوضعي في فرنسا في الإرث أمورا منها انه رتب الطبقات على اربع: الاولى البنون و البنات. الثانية: الآباء و الأمهات و الاخوة و الأخوات. الثالثة: الأجداد و الجدات. الرابعة: الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات. و لم يجعل القانون موضعا للزوجية في هذه الطبقات لأن الجاعلين اعتبروا علاقة الزوجية من مجرد المحبة القلبية و لكنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج فلا يحق لها ان تتصرف في الأموال التي ترثها من أقاربها إلا باذن زوجها. إلا ان القوانين التي وضعت بعد ذلك أخرجت المرأة عن قيمومية الرجل و ساوت بينهما في الملك و التصرف. و بعد الاحاطة بما ذكرناه آنفا تعرف الفرق الكبير بين قانون الإسلام و القوانين الوضعية التي تباين الإسلام من جهات كثيرة، فان الشريعة التي وضعت على الحكمة و المصلحة العامة و أعرضت عن الاحساس و العواطف الوقتية لجديرة بالعمل بها و الاعراض عن غيرها.

ص: 361

وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُو.......

اشارة

وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً (16) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى بعض احكام اليتامى و احكام المواريث و بين شريعة الحق فيها ففي هاتين الآيتين يبين عز و جل حكما اجتماعيا يتعلق بالاجتماع و الإفراد معا، و هو النهي عن الفحشاء و التغليظ على من يأتي الفاحشة و يرتكب هذه المعصية الموبقة و إخلاء المجتمع منها لأنها توجب زوال الحياء و العفة و تستلزم إفساد النسل و الشقاء. و يبين سبحانه و تعالى لزوم اجراء الحد الشرعي على مرتكبها.

و يجمع هذه الآيات المباركة انها تشتمل على الاحكام الشرعية الإلهية التي نزلت لتكميل الإنسان و جلب السعادة له في الدارين، و هذا هو وجه الارتباط بين هاتين و ما سبقتهما من الآيات الكريمة و لا موجب لالتماس وجوه بعيدة عن السياق للتوفيق بينها.

التفسير

قوله تعالى: وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ .

اللاتي: احدى صيغ جموع (التي) السماعية و هو اسم مبهم للمؤنث و لا يتم إلا بصلته و لا ينزع الالف و اللام منه، و لذا أدخل بعض

ص: 362

الشعراء حرف النداء عليه كاسم الجلالة قال:

لأجلك يا التي تيمت قلبي *** و أنت بخلية بالوّدعني

و يأتي في البحث الادبي تتمة الكلام.

و (يأتين) من الإتيان و هو المجيء يكنى به عن الفعل، كما جاءت الكناية عن الفعل بالقرب في القرآن الكريم قال تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ » الانعام - 151 و انما عبر به عنه عز و جل لمزيد التهجين، و لبيان ان الفعل صدر عنهم مع القصد و الاختيار.

و الفاحشة: اسم لكل فعل قبيح، بل لكل ما اشتد قبحه من المعاصي و هي مصدر كالعافية و العاقبة و قيل اسم وضع موضع المصدر.

و هي إما تصدر من الذكرين و تسمى باللواط و التفخيذ أو تصدر من الأنثيين و تسمى مساحقة أو بين الذكر و الأنثى و تسمى بالزنا، و قد استعملت في القرآن الكريم في جميع تلك الموارد ففي الزنا قال تعالى: «وَ لا تَقْرَبُوا اَلزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً» الإسراء - 32 و في اللواط و السحق قال تعالى: «إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ اَلْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ اَلْعالَمِينَ » العنكبوت - 28.

ثم ان المحتملات في المراد من الفاحشة في الآيتين ثلاثة:

الاحتمال الاول: ان يكون المراد منها الزنا، و هذا هو المعروف بين المفسرين و الفقهاء و استدلوا على ذلك بأمور:

منها: ان الزنا هو المعهود من اطلاق لفظ الفاحشة.

و منها: مناسبة المقام تقتضي ان يكون المراد منها الزنا.

و منها: ظهور الآية المباركة في ان الحكم فيها مؤقت و انه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور حيث قال تعالى في المقام «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» و السبيل ما ورد في سورة النور: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » سورة النور - 2.

ص: 363

و منها: ظهور الآية المباركة في ان الحكم فيها مؤقت و انه منسوخ بالحد المفروض في سورة النور حيث قال تعالى في المقام «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» و السبيل ما ورد في سورة النور: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » سورة النور - 2.

و منها: الروايات المتعددة التي تدل على ان المراد منها الزنا فقد روى كبار المحدثين من الجمهور عن عبادة بن الصامت في حديث:

«ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) اوحي اليه، و لما سرى عنه الوحي فقال (صلى اللّه عليه و آله): «خذوا عني قد جعل اللّه لهن سبيلا: الثيب جلد مائة و رجم بالحجارة، و البكر جلد مائة ثم نفي سنة» و مثله غيره.

و في الكافي عن أبي جعفر الباقر (عليه السلام) في حديث: «ان سورة النور نزلت بعد سورة النساء قال اللّه تعالى: «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» فالسبيل الذي قال اللّه تعالى هو: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » و في تفسير العياشي عن جابر عن الباقر (عليه السلام). «جعل السبيل الرجم أو الجلد» و غير ذلك من الروايات.

و اصحاب هذا القول اختلفوا في تعيين المراد من الآيتين فقيل ان الاولى في زنا المحصنات لتخصيص النساء بالذكر دون الرجال، و شيوع اطلاق النساء على ذوات الأزواج لا سيما إذا أضيفت إلى الرجال كما في قوله تعالى: «مِنْ نِسائِكُمْ » و الآية الثانية متعرضة لحكم الزنا من غير إحصان، فيكون الحكم المذكور في الآية الاولى مؤجلا إلى ان يجعل اللّه لهنّ سبيلا، فان المراد من السبيل الحكم الالهي المبين بالوحي أو السنة المقدسة، و لا يسمى هذا نسخا. و المراد من قوله تعالى: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ » ترغيب الأولياء إلى النهي عن المنكر و ردعهن عن الفاحشة و تربيتهن تربية صالحة حتى يأتي حكم

ص: 364

آخر و حينئذ فان تابت فلا حد و إلا فيجري عليها الحد.

و المراد من الإيذاء مطلق ما يوجب الاذية من الضرب و الحبس و التعبير بالقول و الاهانة و نحو ذلك و على هذا تكون الآية منسوخة ببيان الحد في سورة النور و هو الجلد.

و قيل: ان الاولى تتعرض لبيان حكم الزنا في الثيب و الثانية لبيان حكم الأبكار؛ و حينئذ يكون المراد بالإيذاء الحبس ثم تخلية السبيل مع التوبة و الإصلاح.

و قيل: ان الآية الاولى متعرضة لحكم الزانيات و الثانية متعرضة لحكم الزاني من الرجال، و جميع الاحكام الواردة فيهما منسوخة بآية النور.

و قيل: ان المراد من الآيتين شيء واحد و هو بيان عقوبة الزنا و هي الإيذاء ثم نسخ بالحبس ثم نسخ بالجلد و الرجم و استقر الحكم على ذلك. و قيل غير ذلك.

و بالجملة: ان الآية الاولى تتعرض لحكم النساء الزانيات مطلقا على نحو الإجمال، و اما التفصيل فهو مذكور في آية سورة النور و السنة المقدسة سواء كن محصنات أم غير محصنات ثيبات أم أبكارا. و اما الآية الثانية فهي تتعرض لحكم من يصدر عنه الفاحشة كما ستعرف.

و لكن لا وجه للنسخ من الآية بل هي مفصلة و مشروحة بعضها في هذه السورة و البعض الآخر - و هو حكم غير المحصنات - في سورة النور.

الاحتمال الثاني: ان يكون المراد من الفاحشة في الآية الاولى خصوص المساحقة و في الآية الثانية اللواط و قد نسب هذا القول إلى أبي مسلم من الجمهور و بعض المفسرين، و أيده الاردبيلي في زبدة البيان فيكون حكم المساحقات الحبس و الإمساك في البيوت و المنع من مخالطة النساء مع المرأة التي اعتادت هذه الجريمة و الفاحشة حتى تتوب

ص: 365

أو يتوفاهن الموت. و اما اللواط فحكمه معلوم من السنة و هو القتل فيكون ما ورد في السنة تفسيرا للأذية الواردة في الآية الثانية فالآيتان غير منسوختين.

و لا دليل على تعيين هذا الاحتمال أصلا إلا ما يقال: من انه لو لم يكن المراد منها ذلك لم يذكر في الكتاب حكمهما و هو تبيان كل شيء.

و فيه: انه كذلك بلا ريب و لا اشكال لكن مع شرحه في السنة المقدسة و قد ورد حكمهما فيها مفصلا و تقدم سابقا ان القرآن الكريم يتكفل اصول الاحكام و جذورها و اما الشروط و القيود بل الفروع تتكفلها السنة.

او ما يقال: من ان لفظ «اَللاّتِي» يدل على المساحقة إذ ليس بينهن فاحشة غيرها.

و فيه: ان الآية الاولى الوارد فيها «اَللاّتِي» باعتبار غلبة افراد النساء الزانيات و لا مانع منهن من ارتكاب المساحقة و غيرها و سيأتي في البحث الدلالي ما يرتبط بالمقام.

الاحتمال الثالث: ان يكون المراد من الفاحشة في الآية الاولى المعنى الأعم من الزنا و المساحقة و هو احتمال حسن أخذا بالعموم الوضعي للفظ الفاحشة فيكون الحكم المذكور في الآية الشريفة مجملا تبينه الآيات التي وردت في الحدود و ما ورد في السنة الشريفة. و اما الآية الثانية فيجري فيها ما يجري في الآية الاولى ايضا كما عرفت إلا ان المراد بالفاحشة فيها إما اللواط أو التفخيذ أو الزنا، و الاولى هو التعميم ايضا كما تقدم فيكون الحكم فيها مجملا تبينه السنة المقدسة و ما ورد في سورة النور. و احتمال اختصاصها بخصوص اللواط يبعده ظاهر الآية الشريفة فان مجرد الإيذاء لا يناسب تلك المعصية العظيمة

ص: 366

التي ورد فيها التغليظ الشديد. فقد خسف اللّه تعالى قوم لوط لأجلها و كيف كان فالآيتان غير منسوختين.

ثم ان المراد من قوله تعالى: «مِنْ نِسائِكُمْ » هو النساء المؤمنات تشريفا لهن، و قيل ان المراد النساء ذوات الأزواج لشيوع هذا الاستعمال قال تعالى: «مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ » النساء - 23 و قال تعالى: «وَ آتُوا اَلنِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً » النساء - 4 و من هنا قال بعض المفسرين باختصاص هذه الآية بالمحصنات ذوات الأزواج.

و فيه. ان اللفظ مطلق يشمل ذوات الأزواج و غيرهن و اختصاصه بالأولى لبعض القرائن لا يوجب تقييد بقية الموارد و قد ورد في القرآن الكريم استعماله في العموم قال تعالى: «زُيِّنَ لِلنّاسِ حُبُّ اَلشَّهَواتِ مِنَ اَلنِّساءِ وَ اَلْبَنِينَ » آل عمران - 14 و قال تعالى: «فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ » النساء - 3 و غير ذلك مما ورد في القرآن الكريم و السنة المقدسة.

قوله تعالى: فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ .

اي: أقيموا اربعة من الشهداء الرجال عليهن باتيانهن الفاحشة.

و تخصيص الفاحشة بإقامة اربعة شهداء ذكور انما هو للتغليظ على المدعي و الستر على العباد و عدم شيوع الفحشاء.

و لا يختص الزنا بإقامة اربعة شهود بل يشترك معه اللواط و السحق ايضا فلا يستفاد من هذا الحكم اختصاص الفاحشة بالزنا في الآية كما عن بعض. كما لا يستفاد من الآية المباركة وجوب تحمل الشهادة و لزوم المراقبة لهن فان ذلك أمر آخر لا ربط له بالآية المباركة، فتشمل الآية الشريفة الشهادة الاتفاقية ايضا.

ص: 367

قوله تعالى: فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ .

اي: و ان شهد الرجال الاربعة و ثبت الأمر عند الحاكم الشرعي باتيانهن الفاحشة فاحبسوهن في البيوت حائلين بينهن و بين الفاحشة.

و الظاهر ان هذا الحكم ادبي اجتماعي تربوي حيث تجعل المرأة التي اقترفت هذه الجريمة تحت المراقبة و للابتعاد عن مظان الجريمة و المواظبة على تهذيبهن و تربيتهن تربية صالحة.

و على هذا لا ينافي خروجهن من البيوت إذا تحقق المناط و هو المراقبة، و يستفاد ذلك من لفظ الإمساك ايضا حيث لم يعبر عز و جل بالحبس و السجن و نحوهما.

قوله تعالى: حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ .

اي حتى يستوفيهن الموت بانتهاء أجلهن و قد تقدم في قوله تعالى:

«يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ » آل عمران - 55 الكلام في مادة (و ف ي).

قوله تعالى: أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً .

اي: أو يشرع لهن حكما غير الحبس فيه المخرج لهن، و يستفاد من ذلك ان الحكم السابق مؤقت حتى يأتي الحكم الجديد. و السبيل هو الجلد أو الرجم كما ورد في القرآن الكريم و السنة الشريفة.

و قد راعى القرآن الكريم في من اقترف الفاحشة من النساء السماحة و التسهيل فقد جعل الإمساك في البيوت عقابا مؤقتا يسائر الضمير، و لوحظ فيه تربية من اقترف الفاحشة و تهذيبه بالإصلاح و ترك الفاحشة و الحيلولة بين المقترف و بينها ثم ينتقل الى حكم آخر روعي فيه قمع مادة الفساد، فكان كلا الحكمين جاريا على حكمة متعالية وفق المصلحة

ص: 368

العامة فان الحكم الاول بني على الفطرة و هي بعث العفة بين النساء التي طمست في الجاهلية، و اما الحكم الثاني فقد بني على المحافظة لناموس العفة و زوال مادة الفساد و هذه قرينة اخرى على عدم اختصاص الفاحشة بالزنا أو السحق، كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَلَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ .

اللذان تثنية (الذي) و التثنية إما باعتبار الزانية و الزاني تغليبا كما عليه المشهور؛ أو الرجلين في اللواط كما عليه جمع، أو الرجلين في الفاحشة مطلقا اللواط و التفخيذ و سائر الفواحش بينهما.

و الضمير في «يَأْتِيانِها» يرجع الى الفاحشة و قد ذكرنا ان الفاحشة و ان كانت مطلقة في الآيتين لكنها تختلف في الآية الاولى عن الآية الثانية فراجع. و الضمير في «مِنْكُمْ » يرجع الى المسلمين لكونهم أهلا لإلقاء الخطاب و تلقي الاحكام الإلهية.

و هذه الآية المباركة تتعرض لحكم الرجال في الفاحشة اما الآية الاولى فهي تتعرض لحكم النساء كما عرفت آنفا.

و قيل: ان هذه الآية تتعرض لحكم زنا الأبكار و ان المراد بالأذية هي مطلق الحبس ثم تخلية السبيل مع التوبة. و فيه: انه لم يقم دليل عليه.

قوله تعالى: فَآذُوهُما .

بالقول أو الفعل بما هو المعتاد للردع عن الفاحشة، سواء كان بالحبس أم الضرب أم الاهانة أم بالتوبيخ و التعيير و نحو ذلك، و الحكم و ان كان مطلقا أول الأمر الا انه ورد تفسيره في السنة الشريفة بالحد المعين لفاحشة الرجال و هو القتل في اللواط و الجلد في التفخيذ، و لو حظ في هذا الحكم ابتداء جانب التربية و روعي فيه التسهيل و السماحة

ص: 369

و اثارة العفة و الحياء و الترغيب إليهما ثم ورد تفسيره بذلك قمعا لمادة الفساد على سبيل التدريج.

قوله تعالى: فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا .

هذه قرينة على ان الحكم كان مبنيا على السماحة و التسهيل فانه إذا تابا حقيقة و أصلحا أعمالهما بالرجوع عن الفاحشة. و عطف الإصلاح على التوبة لبيان تحقق حقيقتها دون مجرد اللفظ لو بقي في حالة معينة.

قوله تعالى: فَأَعْرِضُوا عَنْهُما .

اي: اصفحوا عنهما و كفوا عن ايذائهما بعد تحقق التوبة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ تَوّاباً رَحِيماً .

اي: ان التوبة و الرحمة ثابتتان منه تعالى لعباده ازلا و ابدا.

بحوث المقام
بحث ادبي:

اللاتي احدى صيغ جموع التي كما عرفت و هي «اللات» بحذف الياء و إبقاء الكسرة، و «اللائي» بالهمز و اثبات الياء، و «اللاء» بكسر الهمز و حذف الياء، و «اللا» بحذف الهمزة، و اما جمع الجمع فاللاتي تجمع على «اللواتي» و «اللاء» على «اللوائي»، و قيل:

(اللوات) بحذف الياء و إبقاء الكسرة و (اللوا) بإسقاط التاء.

ص: 370

و تصغير «التي» اللتيا بالفتح و التشديد قال الراجز:

بعد اللّتيا و اللّتيا و الّتي *** إذا علتها نفس تردت

و اللتيا و التي اسمان للداهية. يقال: وقع في اللتيا و التي.

و اللذان تثنية الذي - كما تقدم و القياس ان يكون اللذيان كرحيان و مصطفيان و لكن قيل انه حذفت الياء تخفيفا و قيل: انه للفرق بين الأسماء المبهمة و الأسماء المتمكنة لان نون التثنية قد تنحذف فيها مع الاضافة نحو رحياك و مصطفيا القوم، فلو حذفت الياء لاشتبه المفرد بالاثنين. هذا بخلاف اللذان فان النون لا تنحذف فيه.

و قرئ بتخفيف النون و بالتشديد و هي قراءة قريش.

بحث دلالي
تدل الآيتان الشريفتان على امور:
الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» أطراف الفاحشة التي نهى عنها اللّه تعالى في مواضع متفرقة من القرآن الكريم و شدد النكير عليها و جعل على من ارتكبها حدا ردعا معينا عن اقترافها مرة اخرى و إصلاحا للمجتمع.

و المذكور في هذه الآية المباركة من المقومات و الأطراف هي الطرفان المرتكبان، و الفاحشة، و ثبوتها باربعة شهداء، و الحد.

و قد أجمل سبحانه و تعالى سائر الخصوصيات في هاتين الآيتين لأنهما في مقام قبح هذه الجهة (الفاحشة) و اعلام الناس بها، و بعث الضمير الانساني

ص: 371

على التجنب عنها، و هذه الآية الشريفة من اجمع الآيات الواردة في هذا الموضوع، و حملها على إطلاقها بحيث تشمل جميع اقسام الفاحشة اولى من اختصاصها ببعض الأقسام من غير دليل.

و قيل: ان الموصول في الآية الاولى «وَ اَللاّتِي» يدل على اختصاص الفاحشة بالتي ترتكبها النساء و هي المساحقة و الموصول في الآية الثانية «اَلَّذانِ » يدل على اختصاصها بالتي يرتكبها الرجال و هي اللواط و التفخيذ فلا اطلاق لها.

و يرد عليه: ان ذلك صحيح إذا لم يكن احتمال آخر يساويه و يمنعه عن الظهور فان اسم الموصول في الآية الاولى قد يراد به الطرف الانثوي في الفاحشة اي الإفراد منهن و الموصول في الآية الثانية يراد به الطرف المقابل لها و هو الرجل فتختص الفاحشة بالزنا كما ذكره جمع من الفقهاء و خصه عز و جل بالذكر لشيوع هذه الجريمة في المجتمع و هي ذات طرفين ذكر و أنثى فالآية الاولى تتعرض للثاني و الآية الثانية تتعرض للأولى، و انما قدم عز و جل الأنثى على الذكر في هاتين الآيتين لقوام هذه الجريمة بالمرأة نظير قوله تعالى: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » النور - 2.

و يحتمل ايضا ان يكون إتيان اسم الموصول جمعا للمؤنث في الاولى لبيان مطلق الفاحشة الصادرة من النساء سرا و جهرا حتى انهن كن ذوات الأعلام في الجاهلية كما هو معروف، و إتيان التثنية مذكرا في الثانية باعتبار الفواحش الصادرة من الرجال و شناعتها بحيث فرض وجودها كالعدم و لم يعرف ذو علم بالنسبة إلى رجل فلا تختص الإتيان بفرد خاص من الفاحشة كما عرفت في التفسير فراجع.

الثاني:

يدل قوله تعالى: «فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ » على ان

ص: 372

المراد منه منع الخروج عن البيوت و الحيلولة بينهن و بين الفاحشة.

و بعبارة اخرى: ابقاؤهن في البيوت لغرض تربيتهن تربية صالحة.

و لعل ذلك هو السر في العدول عن التعبير بالسجن و الحبس. و يشهد على ان المراد من الإمساك منع الخروج قوله تعالى: «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ » الطلاق - 1 و إن كان الإمساك في الموردين يختلفان في الغاية. و كيف كان فلا ينافي ذلك كونه حدا لهن في المقام، لما يقتضيه بعض النصوص. و كيف كان فالآية الشريفة تتضمن سماحة الإسلام و سهولته كما لا يخفى.

الثالث:

ذكر بعض المفسرين ان قوله تعالى: «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » يشير الى عادة جاهلية و حمل قوله تعالى: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» على جعل الحكم الالهي و الحد الشرعي - الفاحشة و هو ما ورد في سورة النور و السنة المقدسة فيزول الحكم الالهي لا محالة بعد التشريع.

و يمكن ان يراد من قوله تعالى: «حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » المعنى الكنائي و هو اظهار النفرة عنها يعني ان المرتكبة لهذه الفاحشة لا يختلط و لا يعاشر معها حتى يأتيها الموت لقبيح فعلها، و لا بد ان يقيد ذلك بما قبل التوبة و اظهار الندامة و صدور العمل الصالح عنها، فيزول الموضوع لا محالة كما يدل عليه الآية الثانية.

الرابع:

يدل قوله تعالى: «يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ » على ان الفعل صدر عنهن بالاختيار من دون جبر و اكراه فيكون للمكرهة حكم آخر.

الخامس:

يدل قوله تعالى: «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» على ان الحكم مغيى بجعل حكم جديد فليس ذلك من النسخ المصطلح كما عرفت في التفسير لأنه يشترط في المنسوخ ظهوره في التأبيد.

السادس:

يدل قوله تعالى: «فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما»

ص: 373

على ان التوبة و الإصلاح مسقطان للحد على ما فصل في الفقه.

بحث روائي

في تفسير العياشي عن ابي بصير عن الصادق (عليه السلام) قال:

«سألته عن هذه الآية: وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» قال (عليه السلام) هذه منسوخة قلت: كيف كانت ؟ قال (ع) كانت المرأة إذا فجرت فقام عليها اربعة شهود أدخلت بيتا و لم تحدث، و لم تكلم، و لم تجالس و أوتيت بطعامها و شرابها حتى تموت قال «أَوْ يَجْعَلَ اَللّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً» فقال (عليه السلام) جعل السبيل الجلد و الرجم و الإمساك في البيوت».

و في تفسير النعماني عن الصادق (عليه السلام) عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام) في حديث ذكر فيه احكام هذه الآية - الى ان قال - «فلما قوي الإسلام انزل اللّه: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » فنسخت هذه الآية الحبس و الأذى - الحديث».

و في تفسير القمي في قوله تعالى: «وَ اَللاّتِي يَأْتِينَ اَلْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ اَلْمَوْتُ » كان في الجاهلية إذا زنى الرجل يوذي و المرأة تحبس في بيت الى ان تموت ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: «اَلزّانِيَةُ وَ اَلزّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ » .

ص: 374

و في المجمع: «و حكم هذه الآية منسوخة عند جمهور المفسرين و هو المروي عن ابي جعفر و ابي عبد اللّه (عليهما السلام).

أقول: ليس المراد بالنسخ هنا النسخ المعروف بين الفقهاء الذي يبحث عنه في علم الأصول و علم الكلام و هو: «رفع حكم شرعي ثابت بحكم شرعي آخر» بل المراد بالنسخ هنا ابطال الحكم الجاهلي بتشريع الهي جديد و لعل المراد من قول بعض المفسرين بالنسخ هذا المعنى فلا نزاع و يدل على ما ذكرناه ما تقدم من الحديث.

بحث عرفاني

ذكرنا في احد مباحثنا السابقة ان للقرآن الكريم بطونا ترتقي الى سبعة بطون كما في بعض الروايات او الى سبعين بطنا كما في بعضها الآخر، و لا بد أن يكون كذلك لأنه كلام من لا تناهي لعلمه و حكمته و تدبيره، و قد حكي عن بعض الفلاسفة الأقدمين انه كان يلقي على أصحابه كلمات الحكمة و هم يستفيدون من كل واحدة منها وجوها من الحكمة كلها صدق و صواب.

و ما يرتبط بالآيات التي تقدم تفسيرها انه ورد في بعض الروايات تفسير الفاحشة بحب الدنيا، كما ورد تفسير السفه في قوله تعالى:

«وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ » بحب الدنيا أيضا، و الجميع حق و صواب لقول سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله): «حب الدنيا رأس كل خطيئة» و قول سيد الأولياء و العرفاء علي (عليه السلام): «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» فإذا اجتمعا معا كانا من أفحش

ص: 375

الفواحش في إيجاب المفسدة المهلكة و الى ذلك أشار عز و جل في سورة العصر:

«وَ اَلْعَصْرِ إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ» و هذه السورة على صغرها تعين مبدأ الإنسان و منتهاه الاختياريين، كما ان قوله تعالى: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » البقرة - 156 يعين مبدؤه و منتهاه غير الاختياريين، مع اننا إذا لاحظنا معنى قوله تعالى: «إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » بالملاحظة التفصيلية في المعتقدات و الأفعال و الحركات و السكنات يكون داخلا في قوله تعالى: «إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ » و كيف كان فان اكبر الفواحش حب الدنيا الذي يجتمع مع الاهوية النفسانية، و حينئذ يكون الحد لهذه الفاحشة هو إماتة النفس الامارة و إصلاحها بالتوبة و العمل الصالح و ترويضها بالملكات الفاضلة و تزيين النفس بالأخلاق الحميدة و تزكيتها بالتقوى ليحصل القرب الى اللّه تعالى و البعد عن الدنيا و ما فيها فان ذلك هو الكمال المطلق.

إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوب.......

اشارة

إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

ص: 376

لما ختم سبحانه و تعالى الآيات السابقة بالتوبة و بيّن ان بها تسقط العقوبة و الحد الشرعي ذكر عز و جل في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة من الحقائق الإلهية التي امتاز بها الإسلام عن سائر الأديان السماوية، فبين عز و جل حكم التوبة و انها حق من حقوق العبد على خالقه و مربيه و قد وصف نفسه بالرحمة و ذكر شروط التوبة و مواردها التي تقبل من الإنسان و الموارد التي لا تقبل.

كما بين عز و جل ان التوبة انما تكون وفق النظام الربوبي المتقن المبني على الحكمة و العلم.

و الآية من الآيات المتعددة التي ترغب العاصين إلى هذه الموهبة الربانية و تحرضهم إلى التوبة قبل فوات الأوان. و انما ذكر عز و جل هذه الحقيقة ضمن الاحكام الإلهية لما لها من الأهمية الكبرى في تربية الإنسان و هدايته إلى السعادة و الكمال و لا تخلو الآيتان من الارتباط بالآيات الاخرى.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الإلهية التي كشف عنها القرآن الكريم بما لم يكشف عنها كتاب سماوي آخر، فانه بيّن حقيقة التوبة و شروطها و مواردها و آدابها و آثارها. و يمكن اعتبارها بحق من التعاليم المختصة بهذا الكتاب العزيز و انها لم تكن بهذه الخصوصية في سائر الشرائع الإلهية و قد اهتمّ القرآن المجيد بها اهتماما بليغا حتى ورد ذكرها فيه بما يزيد على ثمانين موردا، و سميت سورة من سور القرآن المجيد باسم التوبة.

ص: 377

و التوبة في نظر الإسلام من الأمور المعدودة التي لها جوانب متعددة فهي عملية تربوية تربّي الإنسان تربية دينية مبنية على الحقيقة دون الوهم و الخيال، كما انها عملية اصلاحية تصلح النفوس الفاسدة و تهذبها و تزكيها و تصلح المجتمع و تجعله في المسار الصحيح، كما انها فضيلة اخلاقية و هي من أجل مكارم الأخلاق. و نحن ذكرنا ما يتعلق بها في قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ اَلْبَيِّناتِ وَ اَلْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنّاهُ لِلنّاسِ فِي اَلْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اَللّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اَللاّعِنُونَ إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ » البقرة - 160 فراجع الآية الكريمة.

و مادة (توب) تدل على الرجوع سواء استعملت بالنسبة اليه عز و جل أم استعملت بالنسبة إلى العبد قال تعالى: «ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا» التوبة - 118 و توبة اللّه تعالى على العبد هي الرجوع عليه بالرحمة و التوفيق و غفران الذنوب و توبة العبد هي الرجوع إلى اللّه تعالى بالندامة و الانصراف عن المعصية.

و المستفاد من الآيات الواردة في هذا الموضوع أن توبة العبد محفوفة بتوبتين من اللّه تعالى إحداهما: التوفيق لها لان العبد محتاج بذاته و هو الفقير اليه عز و جل قال تعالى: «يا أَيُّهَا اَلنّاسُ أَنْتُمُ اَلْفُقَراءُ إِلَى اَللّهِ وَ اَللّهُ هُوَ اَلْغَنِيُّ اَلْحَمِيدُ» فاطر - 15، فإذا وفقه اللّه تعالى للتوبة تاب و رجع اليه عز و جل بالندامة و الانصراف عن المعصية: الثانية:

توبة اللّه تعالى عليه بالقبول و الغفران فتكون مطهرة للعبد مما أصاب نفسه بسبب المعصية من القذارات و النجاسات المعنوية فيحصل بها التقرب اليه عز و جل.

و (على) في قوله تعالى: «عَلَى اَللّهِ » تفيد اللزوم و الثبوت و هو

ص: 378

يرادف الوجوب، و انما وجبت التوبة لأنها من افراد رحمته التي أوجبها على نفسه قال تعالى: «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ » الانعام - 54 و استعمال (على) في الوجوب و اللزوم كثير و لا ضير في ذلك.

الا ما يقال: من ان استعمال الوجوب بالنسبة اليه عز و جل امر مستنكر بل لا يصلح لأنه لا سلطة على اللّه تعالى يوجب بها عليه و لذا ذكر بعض المفسرين ان هذه العبارة و أمثالها التي هي ظاهرة في وجوب بعض الأشياء على اللّه قد جاءت على طريق العرب في التخاطب و لا يفهم منه إلا انه واقع لا محالة.

و لا يخفى ان ذلك تطويل لا طائل تحته و ما ذكره انما هو تغيير في ظاهر اللفظ، فلا مانع من إيجاب اللّه تعالى على نفسه أمورا تقتضيه حكمته المتعالية و قد نطق بها القرآن الكريم و شهد بها العقل السليم من دون ان يكون لغيره سلطة عليه يوجب عليه شيئا أو يكلفه بتكليف فإذا كانت التوبة من مصاديق الرحمة الإلهية التي وعد بها عباده» و اللّه لا يخلف الميعاد فيجب عليه قبول توبة عباده من هذه الجهة ايضا.

ثم ان اطلاق الآية الشريفة يشمل جميع اقسام التوبة من الكفر و الشرك و الضلال و أنحاء الفسق و العصيان الا ما يستثنيه سبحانه و تعالى بعد ذلك. نعم تختلف أنحاء التوبة ففي بعض المعاصي تكون بالإيمان باللّه تعالى و في البعض الآخر تكون بأداء الحقوق، و في ثالث بإيقاع الحد، و في رابع باجتناب الكبائر، و في خامس بالطاعة و المواظبة على الصلاة و قد ذكرنا جميع ذلك في مبحث التوبة فراجع آية 160 من سورة البقرة.

ص: 379

قوله تعالى: لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ .

(للذين) خبر، و (التوبة) مبتدأ، و (على اللّه) متعلق بما تعلق به الخبر، و قيل غير ذلك و (بجهالة) حال من فاعل (يعملون) و الباء للسببية و (السوء) هو العمل القبيح الذي يسوء فاعله بارتكابه و هو لا يليق به سواء كان كفرا أم معصية كبيرة أم صغيرة و (الذين) عام يشمل المؤمن و الكافر معا فالجملة تبين حالهما، لأنهما معا يعملان السوء. و (العمل) أعم من الجوارح أو عمل القلوب. و التعبير به مع ان الكفر من اعمال القلوب لبيان ان الكفر سيئة و منشأ للأعمال السيئة.

و الجهالة من الجهل مقابل العلم و المراد بها إما عدم العلم بالموضوع أو الحكم أو هما معا، قصورا أو تقصيرا، و في الكل لا يتحقق العصيان حتى يتحقق موضوع التوبة، لان مقتضى ما هو المتواتر بين المسلمين عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله): «رفع عن امتي ما لا يعلمون» عموم الحكم لجميع افراد عدم العلم. إلا ان يدعى الانصراف عن مورد التقصير، كما عن جمع من العلماء من تحقق العصيان في الجهل التقصيري و هو مقتضى ظاهر بعض الاخبار ايضا فلا تكون الجهالة في المقام بهذا المعنى بلا إشكال.

أو المراد بالجهالة في المقام فعل كل ما لا ينبغي صدوره عن العاقل المتوجه إلى نفسه و العارف ببصيرته ما فيه صلاحه عن ما يسوؤه كما في قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): «قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ » سورة يوسف - 89 فما يصدر حينئذ عن الفرد انما يكون من داع نفساني غالب على ما تقتضيه القوة العاقلة فيكون مغلوبا لنفس امارة و داعية شهوية أو غضبية،

ص: 380

و غواية الشيطان الذي يمني الإنسان بالسوء و حب العاجل و التغاضي عن الجزاء، فان جميع ذلك توجب الغفلة و الوقوع في الجهالة فيغفل عن وجه قبح الفعل و ذمه مع كون الفاعل انما يفعل عن علم و ارادة و على هذا تكون الجهالة قيدا توضيحيا لكل معصية تصدر عن الهوى و غلبة الشهوة و الغضب فتكون صادرة عن الجهالة، و لذا لو سكنت ثائرة الغضب و خمد لهيب الشهوة و رأى جزاء عمله عاد إلى العلم و زالت الجهالة و ندم على فعله و مما ذكرنا يظهر السر في قوله (صلى اللّه عليه و آله):

«كفى بالندم توبة».

هذا إذا لم يكن صدور الذنب عن المكابرة للحق و عناد معه و إلا فان ذلك يرجع إلى خبث الذات و رداءة الفطرة، و معهما لا يرجع إلى الحق بالتوبة و يستمر على ذلك طول حياته إلا إذا لحقته العناية الربانية فيرجع عن عناده و لجاجته و تلحقه الندامة و في غير هذه الحالة لا يكون المعاند نادما، و إن اظهر الندامة فإنما يكون لحيلة يحتالها لنفسه فرارا عن الجزاء و نحوه و يدل عليه رجوعه إلى غيه و لجاجته لو ارتفعت الضرورة كما قال تعالى: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ » الانعام - 28.

و مما ذكرناه يظهر ان القيد يمكن أن يكون احترازيا ايضا فيكون المراد به ان لا يكون الذنب عن عناد و لجاجة و استعلاء على اللّه تعالى، و يشهد لذلك عدم تقييد عمل السيئات بالجهالة في الآية التالية فان المنساق منها هو التعمد و التجبر على اللّه تعالى كما يشهد له قوله تعالى: «وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ» فالحالة التي تكون بين الموت و عمل السيئة على اقسام.

الاول: ان يكون مبادرا إلى التوبة بعد عمل المعصية فهذا تقبل التوبة منه:

ص: 381

الثاني: ان يكون بانيا على الطغيان و العصيان إلى ان يحضر بعض علامات الموت فيتوب حينئذ، و المنساق من الآيات الشريفة عدم قبول التوبة حينئذ قال تعالى: «فَلَمّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنّا بِاللّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اَللّهِ اَلَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ اَلْكافِرُونَ » غافر - 85 لان التوبة انما تقبل في ظرف اختيار العبد و تمشي القصد الجدي منه و هو لا يتحقق في وقت ظهور علامات الموت و ورود الإنسان في الأشراف على أول منازل الآخرة و هو البرزخ إذ لا اختيار له.

الثالث: ما إذا كان بانيا على التوبة بحسب الفطرة و لكن تساهل فيها لغلبة الشهوات الدنيوية حتى إذا حضر بعض علامات الموت التي لا تسلب الاختيار و يتحقق منه القصد الجدي في الطاعة و المعصية و يترتب عليهما الآثار الشرعية و العرفية فتاب عن قصد فحينئذ تقبل التوبة ان كانت جامعة للشرائط كما تقبل وصيته قال تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ اَلْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً اَلْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى اَلْمُتَّقِينَ » البقرة - 180 و الروايات الدالة على قبول التوبة حتى إذا بلغت النفس الحلقوم تختص بهذه الصورة فتقبل التوبة لتحقق موضوعها.

و بالجملة: بعد إرجاع بعض الآيات إلى بعض يستفاد منها ان عدم قبول التوبة إما لأجل عدم تحقق الموضوع كما في صورة العناد و اللجاج أو لأجل عدم تحقق ظرفها و هو الاختيار و القصد للطاعة و المعصية، و نرجو منه جلت عظمته ان يدخل عباده في قوله عز شأنه في القدسيات «أغفر و لا ابالي».

و قد ظهر من جميع ذلك ان الاحتمال الاول و هو كون القيد احترازيا و ان كان أوفق للقواعد فان المعروف ان الأصل في القيود ان يكون

ص: 382

احترازيا إلا ان كونه توضيحيا أوفق لسعة رحمته.

قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ .

القريب من الأمور الاضافية و له مراتب كثيرة، و قد استفاد العلماء من هذا اللفظ الفورية العرفية في التوبة و هي في نفسها حسن لان العصيان حجاب بين العبد و المعبود و درن للروح، و العقل يحكم بازالة الدرن و النجاسة عن اللباس و البدن فضلا عن الروح و هذا لا ينافي ان تكون الجملة اشارة إلى المسارعة و عدم التساهل، فيكون المراد من القريب الزمان القريب قبل ظهور الموت و بروز آيات الآخرة بحيث لا يعدّ تساهلا في امر التوبة حتى تفوت الفرصة بحضور علامات الموت.

و بالجملة: المراد من قوله تعالى: «مِنْ قَرِيبٍ » التوبة في عهد قريب من قبل ان تموت الشهوات و تسقط دواعي المعصية، بل تكون في حال صراع النفس مع القوة العاقلة فترغم النفس الامارة و يقلع عن المعصية ندما و يرغب في الطاعة شوقا إلى رضاء اللّه تعالى و طلبا لعفوه و غفرانه، و يؤدي حقوق الناس و حقوق اللّه سبحانه و تعالى لو كانتا عليه ففي كل وقت صح إبراز ما في الضمير و الارادة الجدية من القلب تقبل التوبة كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ .

أولئك اسم الإشارة الموضوع للبعيد و هو مبتدأ و خبره جملة «يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ » و عديت التوبة ب (عليهم) لتضمنها معنى العطف و الرحمة اي: انه تعالى يعطف عليهم بقبول التوبة و يعود بالرحمة.

و انما أشار إليهم بالبعيد اعلاما بعلوّ قدرهم و تعظيم شأنهم،

ص: 383

لأنهم تابوا على حقيقة التوبة و التفريع بالفاء المفيدة لسببية ما قبلها لما بعدها و لبيان ان قبول التوبة من مصاديق ذلك الوعد الذي قرره تعالى في صدر الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

اي ان اللّه تعالى عالم بحقيقة الحال فيعلم شؤون عباده و مصالحهم و يعلم المخلص في توبته، حكيم في أفعاله قد وضع التوبة وفق نظام محكم، فلا تغره ظواهر الأحوال و صريف الأقوال.

و انما ذكر هذين الاسمين لبيان اهمية الموضوع و انه تابع لعلمه الأتم و حكمته المتعالية يضع التوبة في مواضعها و هو ارحم الراحمين.

قوله تعالى: «وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ » .

بيان لحال من لا تقبل توبتهم و هم طائفتان: إحداهما لأجل عدم تحقق موضوع التوبة منهم و هم الذين يعملون السيئات دوما و لا بتحقق منهم الندم حتى إذا حضرهم الموت و انتفى اسباب العمل فلا داعي فيهم لعمل السيئات لانقطاع آمالهم و موت شهواتهم فلا تقبل توبتهم.

و انما ترك عز و جل اعادة اسم الجلالة (على اللّه) لبيان انقطاع العناية الإلهية عنهم، و للاعلام بان التوبة الصحيحة لا تقع منهم لنفي موضوعها كما عرفت آنفا.

و انما جمع عز و جل السيئات و أفردها في الآية السابقة و قال «يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ » للدلالة على إحصاء سيئاتهم الكثيرة العديدة و استمرارهم على فعلها و إصرارهم على التكرار بلا فرق بين ان تكون السيئة المكررة من انواع مختلفة أو من نوع واحد فان التكرار يوجب التعدد لا محالة.

ص: 384

قوله تعالى: حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ .

أي: حتى إذا حضر الموت برؤية علاماته لاهية قلوبهم، و الجملة تدل على استهانتهم بالتوبة و استحقارهم لموجبات الرحمة و المغفرة، فهم يدعون التوبة حال العجز و لم تتحقق حقيقتها عندهم و لم ترغب نفوسهم عن الذنب فإذا زال عنهم المهلكة عادوا إلى الذنب و رجعوا الى المخالفة و العصيان كما يخبر عن ذلك قوله تعالى: «وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا» الانعام - 28.

قوله تعالى: قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ .

اي: انه في حال العجز و اليأس يردد على لسانه التوبة في تلك الحال فقط من دون ان يكون ذلك من حاق نفسه.

و الآية تدل على تحقق التوبة اللسانية مرة واحدة بلا استمرار عليها بخلاف الآية السابقة التي دلت على الاستمرار المستفاد من هيئة المضارع في قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » و هذه تؤكد ما ذكرناه آنفا من ان التوبة منه ليست على الحقيقة فانه التجأ إليها عند مشاهدة سلطان الآخرة و انقطاع أمله عن الدنيا بحضور الموت و لذا ذكر عز و جل «قالَ إِنِّي» و لم يقل (تاب) و نحو ذلك تحاشيا عن تسمية ما قاله توبة، و نظير ذلك قوله تعالى حكاية عن المجرمين «وَ لَوْ تَرى إِذِ اَلْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنّا مُوقِنُونَ » السجدة - 12.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ .

بيان لحال الطائفة الثانية و هم الذين يصدر عنهم الذنب عنادا و لجاجا و استكبارا على اللّه تعالى فلا توبة لهؤلاء كما لا توبة لأولئك

ص: 385

لأنهم تمادوا في الكفر فماتوا و هم كافرون فلم تصدر عنهم السيئات بجهالة بل عن عناد و لجاج فإذا مات الإنسان على هذه الحالة لا تنفعه التوبة و لا نجاة له بعد الموت و قد أكد القرآن الكريم ذلك في مواضع متعددة قال تعالى: «إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ . إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ . خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ » البقرة - 162.

قوله تعالى: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

اي: أولئك الفريقان قد اعتدنا لهم و هيّأنا لهم عذابا أليما مؤلما جزاء لاعمالهم السيئة التي قدموها في دار الأعمال. و قد ذكرهم باسم الإشارة للدلالة على بعدهم عن ساحة القرب و العناية الربانية.

بحوث المقام
بحث دلالي:
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:

يستفاد من الحصر الوارد في قوله تعالى: «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ » ان التوبة من الأمور المختصة به عز و جل و من مظاهر ربوبيته العظمى و من مصاديق رحمته الواسعة التي وسعت كل شيء، و هو رد على كل من يدعي ان هذا الأمر يمكن ان يتصديه بعض

ص: 386

الإفراد إما ولي من اولياء اللّه تعالى أو الكنيسة كما في الديانة المسيحية التي اعترفت لها غفران الذنوب حتى بلغ من افراط الكنيسة انها كانت تبيع صكوك الغفران بعد ما كانت التوبة في هذه الديانة من الأمور غير النافعة للإنسان لان المسيح (عليه السلام) فدّى بنفسه لأجل خلاص الإنسان على ما هو المعروف عندهم.

فالآية الشريفة رد على جميع المزاعم فإنها صريحة في ان التوبة من شؤون الباري عز و جل و انها محصورة عليه تبارك و تعالى لا شأن لاحد غيره فيها.

الثاني:

تدل الآية الشريفة على فضل التوبة و انها من مظاهر رحمته عز و جل و فضله العظيم و قد من بها على عباده و من المعلوم انه لا شيء يوجب رحمته عليه و لكن لا ينافي ذلك وجوب هذا القسم من الفضل عليه بإيجاب من نفسه على نفسه لا من إيجاب غيره عليه و قد ذكرنا ما يتعلق بذلك في مبحث التوبة في سورة البقرة آية - 162.

و اما ما ذكره بعض المفسرين من ان اللّه تعالى غير مجبور في قبول التوبة لأن له الأمر و الملك يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد و استدل على ذلك بقوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ » آل عمران - 90 و قوله تعالى: «إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً» النساء - 137.

فانه يرد عليه ان اللّه تعالى قد وعد عباده بقبول التوبة - كما اعترف به هذا المستدل - و كل وعد منه عز و جل واجب الوفاء عليه كما قال في كتابه العزيز: «إِنَّ اَللّهَ لا يُخْلِفُ اَلْمِيعادَ» * آل عمران - 9 و الآيات الشريفة التي استدل بها تدل على عدم قبول توبة المتمادي في

ص: 387

الكفر و هذا ما استثناه عز و جل من القبول في المقام أيضا كما عرفت.

و كيف كان فالآية الشريفة من الآيات التي تعتني بشأن العاصين و تأمرهم بالتوبة من الشرك و الضلال و السيئات و المعاصي كلها.

و للتوبة اثار عظيمة فإنها من سبل الصلاح و التقوى و تجلب السعادة و تزيل درن الشقاء و الرذيلة من القلب الذي هو محل الصلاح و الفساد معا. و تصفى النفوس التي انكدرت بالعصيان، و تزيل الغشاوة عن القلوب و ترفع الموانع عن طريق سير الإنسان نحو السعادة و الكمال، و تخلّص الناس من بوار الذنب و هلاك المعصية و هي الوسيلة للفلاح قال تعالى: «وَ تُوبُوا إِلَى اَللّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا اَلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » النور - 31.

و من آثار التوبة ايضا انها تجعل قلب المذنب متعلقا بالرحمة الإلهية و تبعث روح الرجاء بعد انخماد نور النفس بظلمة الذنب و تمحو الآثار السيئة التي تترتب على الحياة بسبب العصيان و عمل السيئات. و الآية المباركة تعد البشارة العظمى للمذنبين.

ثم ان التوبة مظاهر مختلفة كالندم، و الاستغفار و الانقلاع عن المعصية و إتيان الطاعة و التلبس بالعمل الصالح و أداء الحقوق و غير ذلك مما ذكره علماء الأخلاق و تقدم في مبحث التوبة و هي تبدل السيئات بالحسنات.

الثالث:

يستفاد من الآية الشريفة ان التوبة امر اختياري فإنها رجوع إلى اللّه تعالى بعد البعد عنه بسبب فعل السيئة و إتيان المعصية بالدخول في سلك الطاعة و العبودية بعد الاعراض عنه عز و جل و ذلك لا يتحقق إلا في ظرف الاختيار و كون العبد مخيرا بين طريقي الصلاح و السعادة، و الطلاح و الشقاوة، و في غير ذلك فلا توبة له لما يدل عليه ذيل الآية الشريفة.

ص: 388

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «بِجَهالَةٍ » ان كل ذنب يصدر عن جهالة قابل للعفو و الغفران من اللّه تعالى، و بهذا القيد يخرج كل ذنب يصدر عن لجاج و عناد مع الحق و استكبارا على اللّه تعالى، و قد عرفت في التفسير ان الجهالة في المقام - و في باب الأعمال على العموم - هي الغفلة عن وجه قبح الفعل و فساده لغلبة الشهوة و استيلاء الهوى و لكن ذلك لا يسلب نسبة الفعل إلى الفاعل لأنه صدر عنه عن علم و ارادة كما يسمى الشاب قليل التجربة جاهلا لأجل غلبة العواطف و النزوات الشهوانية عليه.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ » ان المؤمن إذا صدر عنه الذنب ينبغي ان يبادر إلى التوبة بعده و لا يسوّف في ذلك فهو في صراع مع النفس الامارة و توبة مستمرة يرجو رحمة ربه و هذا ينبئ عن حسن السريرة و شدة الأمل باللّه تعالى، و لعل ما ورد في بعض الروايات: «طوبى لمن كان له تحت كل سيئة توبة» إشارة إلى ذلك و يستفاد من قوله تعالى: «ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ » اولوية التوبة من الذنب من ترك الذنب رأسا فان اللّه تعالى مدح التائبين من الذنب و أدخلهم تحت رحمته و قرّبهم اليه. و قال بعض العلماء ان ترك الذنب مطلقا احسن و اولى من ارتكابه ثم التوبة عنه، لان اللّه تعالى مدح هؤلاء بما لم يرد في غيرهم و هم المختصون لمقام العبودية التشريفية.

و لكن يمكن اختيار الاول لكثرة ما ورد من الترغيب الى التوبة كتابا و سنة و قد ورد عن نبينا الأعظم (صلى اللّه عليه و آله):

«التائب من الذنب كمن لا ذنب له» فيصير التائب من الذنب مساويا له من هذه الجهة اي عدم الذنب و يكون تذلله مما في نفسه عند

ص: 389

ربه لتصوره لما صدر منه من المعصية موجبا لترجيح هذا المقام بنفسه عند اللّه تبارك و تعالى نعم من عصمه اللّه من الزلل كالأنبياء و الائمة الهداة (عليهم السلام) و الأولياء لهم مقام خاص وهبه اللّه تعالى لهم.

و في حديث آخر «لو لا انكم تذنبون اللّه ثم تستغفرونه لذهب بكم ثم يأتي بأقوام يذنبونه ثم يستغفرونه» و هذا هو المطابق لما هو المتسالم بين اذواق المتألهين من ان كل اسم من اسماء اللّه المقدسة لا بد له من مظهر خارجي و من أسمائه جلت عظمته التواب و الغفور و لا مظهر لذلك الا بعد الذنب و التوبة.

مع ان حالة الندامة و الاستحياء من اللّه تعالى من حالات العبد و أحسنها و لا يتحقق تلك الحالة الا بذلك.

السادس:

يدل قوله تعالى: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ » على وعد منه عز و جل للمذنبين بقبول توبتهم و هو لا يخلف الميعاد. كما انه يدل على ان التوبة الصحيحة الجامعة للشرائط تمحو الذنوب و تزيلها.

السابع:

يمكن ان يكون المراد من قوله تعالى: «حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ » موت الأمزجة و القوى فمن كانت معاصيه من سنخ اعمال الشهوة الجنسية و وصل إلى سن الأربعين مثلا و ترك تلك المعاصي لأجل عوارض عرضت عليه فلا توبة له حينئذ و كذلك سائر القوى لأنه لا توبة بعد انتفاء القدرة على ارتكاب المعاصي، و هذا الاحتمال و ان كان مخالفا لما استفدناه من الآيات المباركة، و لكنه احتمال حسن يوجب المسارعة إلى التوبة و الاستعداد لها في حال القدرة.

الثامن:

اطلاق الآية الشريفة: «فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ » يشمل التوبة من الشرك و جميع المعاصي و يشمل ايضا المؤمن و الكافر إذا تاب عن كفره فيكون إسلامه توبة لما صدر عنه في حال كفره لقوله (صلى

ص: 390

اللّه عليه و آله): «الإسلام يجب ما قبله» و اما توبته عن معصية فيها حق اللّه في حال كفره مع بقائه على الكفر فيشكل قبولها. نعم إذا كان الذنب من حقوق الناس كالسرقة و إيذاء الناس و نحوهما فأرضى الناس سقط هذا الذنب منه لزوال موضوعه و يمكن ان يستفاد ذلك من مفهوم قوله تعالى: «وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ» ان توبة الكافرين في حال حياتهم مقبولة إلا ان يستظهر ذلك بخصوص إسلامهم.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لاَ اَلَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفّارٌ» ان التوبة من اللّه تعالى تشمل العاصين من المؤمنين إذا استغفر لهم الأحياء و لو بعد مماتهم بخلاف الكافر المعاند الذي مات على الكفر بلا فرق بين اقسامه.

بحث روائي

في الكافي عن جميل بن دراج قال: «سمعت أبا عبد اللّه (عليه السلام) «يقول: إذا بلغت النفس هاهنا و أشار بيده إلى حلقه لم يكن للعالم توبة ثم قرأ «إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ » .

أقول: أراد (عليه السلام) بالعالم هو اللجوج المستكبر على اللّه تعالى و اطلاق الآية الشريفة لا ينافي ما ذكرناه سابقا، و يمكن ان يجمع بذلك بين ما ورد من عدم قبول التوبة حين ظهور علامات الموت و ما ورد من قبولها حينها بحمل الاول على العالم العامد المستكبر على اللّه تعالى كفرعون و نحوه و الثاني على غيره.

و في تفسير العياشي عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق (عليه السلام) قال: «كل ذنب عمله العبد و ان كان عالما» به فهو جاهل حين خاطر

ص: 391

لنفسه في معصية ربه و قد قال في ذلك تبارك و تعالى يحكي عن قول يوسف لإخوته «هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ » فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه عز و جل».

أقول: يشهد ذلك على ما قلناه في معنى الجهالة.

و في تفسير العياشي ايضا عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا بلغت النفس هذه و أهوى بيده إلى حنجرته لم يكن للعالم توبة و كانت للجاهل توبة».

أقول: يشهد ذلك على ما جمعنا به بين الروايات آنفا.

و في الكافي عن محمد بن مسلم عن جعفر (عليه السلام) قال:

«يا محمد بن مسلم ذنوب المؤمن إذا تاب عنها مغفورة له فليعمل المؤمن لما يستأنف بعد التوبة و المغفرة اما و اللّه انها ليست إلا لأهل الايمان قلت: فان عاد بعد التوبة و الاستغفار في الذنوب و عاد في التوبة ؟ فقال يا محمد بن مسلم أ ترى العبد المؤمن يندم على ذنبه فيستغفر اللّه منه و يتوب ثم لا يقبل اللّه توبته ؟! قلت: فان فعل ذلك مرارا يذنب ثم يتوب و يستغفر؟ فقال: كلما عاد المؤمن بالاستغفار و التوبة عاد اللّه تعالى عليه بالمغفرة و ان اللّه غفور رحيم يقبل التوبة و يعفو عن السيئات فإياك ان تقنط المؤمنين من رحمة اللّه».

أقول: ورد في بعض الروايات إلى سبعين مرة و يشهد لذلك تحذير الامام (عليه السلام) الراوي في ذيل الرواية و يستفاد ذلك من قوله تعالى: «قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ » الزمر - 53 إذ المراد بالجميع الكثرة العددية. ثم انه قد ذكرنا الروايات الواردة في التوبة في مبحث التوبة فراجع سورة البقرة الآية 160.

ص: 392

بحث عرفاني

التذلل لدى المعبود الحقيقي الجامع لجميع الكمالات غير المتناهية و الاعتراف بالقصور و التقصير عنده محبوبان لديه عز و جل. و العبودية التي هي غاية مقامات العارفين و اولياء اللّه المخلصين متقومة بهما فانه لا ريب في تحقق الارتباط بين الممكن و الواجب كالارتباط بين المعلول مع العلة التامة و المخلوق مع الخالق، و الأثر مع المؤثر بلا فرق في ذلك بين المجردات و الماديات و الاملاك و الأفلاك فان جميعها متعلقة بالإرادة الازلية حدوثا و بقاءا و بزوالها ينعدم جميع ما سوى اللّه تعالى، و لا يبقى إلا وجهه الواحد القهار و لكن الإنسان يرتبط مع اللّه جل جلاله بارتباطين:

الاول: الارتباط العام القهري الذي يعم جميع الخلق و ما سواه تعالى.

الثاني: الارتباط الاختياري اي الطاعة و الامتثال و الانقياد و هذا هو الأصل و الأساس في علاقة الإنسان مع اللّه عز و جل فإذا زال يبقى الارتباط الاول و هو يعم الجميع - الحيوان و الجماد - على حد سواء.

و الانسانية انما تظهر في الارتباط الثاني و لا يزول إلا بالطغيان و العصيان، و حينئذ لا بد من التوبة و الرجوع إلى اللّه تعالى ليعود الارتباط إلى ما كان عليه و تستكمل به الانسانية، و تزول الشقاوة و تحل محلها السعادة الابدية إذ القرب من ينبوع الحكمة و العلم و الكمال المطلق يوجب بلوغ الانسانية إلى الكمال و يتم به العقل و الدين، كما ان البعد عنه يوجب زوال ذلك كله، فللتوبة الحقيقية دخل في

ص: 393

استكمال الانسانية و الدين و العقل، و يكفي في فضلها ان فيها يتجلى المعبود الأعظم للتائبين بقوله عز و جل: «أَنَا اَلتَّوّابُ اَلرَّحِيمُ » فالعبد يعترف بما هو من زي العبودية، و المعبود يظهر بما هو من شأن الربوبية الواقعية و لذا ترى ان أحب حالات المتعبدين إلى اللّه تعالى هي حالة الاعتراف بالتقصير كما هو واضح في الدعوات المأثورة عن الائمة الاطهار (سلام اللّه تعالى عليهم) لا سيما الصحيفة الملكوتية السجادية على صاحبها و منشيها (أفضل الصلاة و السلام) و ليس الاعتراف بالتقصير مع عدم صدور ذلك عنهم كذبا لأنهم يعلمون ان تلك الحالة محبوبة للّه عز و جل و تقربهم اليه تعالى و يعترفون بذلك في جملة من دعواتهم الشريفة و هذا كاشف عن اشتياقهم إلى هذا المقام من العبودية.

ثم ان ظاهر الآية الشريفة: «وَ لَيْسَتِ اَلتَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسَّيِّئاتِ حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ اَلْآنَ » انما هو في الموت الطبيعي الذي هو مسير كل ذي حياة و اما الموت الاختياري الذي هو غاية آمال العارفين و قرة عين اهل التقوى و اليقين فهو فوق التوبة بمراتب كثيرة إذا وفق له ولي من اولياء اللّه تعالى بشرطه و شروطه.

ص: 394

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) الآيات الشريفة تشمل على احكام اجتماعية تهم المجتمع الاسلامي و قد تضمنت تشريعات الهية للحياة الزوجية و قد امر عز و جل الزوج بالمعاشرة بالمعروف مع الزوجة و نبذ الإحساسات و العواطف التي تهدد حياتهما و تجلب الشقاء لهما كما نهت الزوجة عن الخيانة و الفحشاء فالعمل بهذه الاحكام الإلهية تجلب السعادة و يهدى الى الكمال و هذه هي وجه الارتباط بين الآيات في هذه السورة.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً .

خطاب إلى المؤمنين الذين آمنوا باللّه و دانوا بشريعة الحق و اعرضوا

ص: 395

عن العادات الجاهلية و التقاليد الباطلة، فصاروا بذلك مستحقين للخطاب الالهي كما تشرفوا به منه تعالى.

و الآية الشريفة تشير إلى عادة جاهلية و هي انهم كانوا يجرون على النساء حكم المتاع و العروض بل يستفاد منها انها كانت في زعمهم بمنزلة الحيوانات العجم التي لا ارادة لها و لا اختيار كالإبل و الغنم و ذلك من اضافة الوراثة إلى النساء إلا ان وراثة النساء عندهم كانت وراثة خاصة لم تكن في عرض وراثة سائر الأموال.

و المعروف انهم كانوا يرثون النساء مع التركة إذا لم تكن المرأة اما للوارث فكان احد الوراث يلقى ثوبا على زوجة الميت فيرثها و يتسلط عليها فان شاء عضلها عن النكاح و حبسها حتى الموت فيرث أموالها و ان شاء يزوجها فينتفع من مهرها. و الآية المباركة تنهي عن تلك العادات التي لم ينزل بها سلطان، و تضمنت قوانين فطرية عقلية قررها الوحي المبين و هي امور اجتماعية يسعد بها الاجتماع و الحياة الزوجية.

منها: النهي عن ارث النساء كرها و هذا الحكم فطري يقرره كل عقل سليم. و كرها بالفتح كما هو المعروف و قرئ بالضم. و الكره بالضم و الفتح بمعنى عدم الرضا إما من الغير أو من قبل نفسه و قيل:

بالفتح الكراهية و بالضم الإكراه و قيل. غير ذلك و هو مصدر في موضع الحال إما نائب عن المفعول المطلق المستفاد من «تَرِثُوا» أو انه منصوب على انه حال من النساء. و هذا الحكم يتصور فيه وجوه:

الاول: ان يستوهب منها المال الذي يصل من المورث بالإكراه بأن تحرم من تركتها فيستقل الوارث بتمام التركة دونها.

الثاني: ان يؤخذ نفس النساء كسائر الأموال و هن مكرهات على ذلك أو انهن يكرهن ذلك.

ص: 396

الثالث: ان يستكرهها احد الوراث على ان تهب تركتها أو نفسها له دون سائر الورثة و غير ذلك من الحيل الإكراهية.

و على اى حال يكون القيد (كرها) لبيان الواقع الذي كان في الجاهلية، فتكون الآية في مقام الردع عن تلك العادة السيئة و حينئذ لا معنى للنزاع في ان هذا القيد هو قيد توضيحي أم احترازي و يستفاد من اضافة الوراثة إلى النساء انهن بمنزلة المال فيشمل نفسهن و المال الذي عندهن.

قوله تعالى: وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ .

حكم فطري آخر عطف على قوله تعالى: «أَنْ تَرِثُوا» و مادة (عضل) تدل على التضييق و اليه يرجع الحبس و الشدة. يقال: أعضل الأمر اي:

اشتد و عضلت المرأة بولدها عسر عليها. و عضل المرأة يعضلها - مثلثة الضاد - منعها الزوج ظلما و قد وردت هذه المادة في موضعين أحدهما المقام؛ و الثاني في قوله تعالى: «وَ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ » البقرة - 232 و قد تقدم الكلام هناك فراجع و المراد به هو المنع من حقوقهن في الحياة الزوجية بخلاف الآية الاولى التي كانت في المال الذي تمتلكها النساء.

و هذا ايضا يتصور على اقسام: فاما ان يكون العضل و المنع عن الزواج و هذا ما تقدم في سورة البقرة - 232 أو العضل عليهن في الطلاق حتى تفتدي بشيء من المال أو العضل عليهن من النكاح حتى تفتدي جميع الصداق أو ببعض منه.

و الآية المباركة تؤكد النهي عن منع المرأة من حقوقها المشروعة

ص: 397

التي قررها القرآن الكريم في مواضع متعددة منها قوله تعالى: «فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ » البقرة - 234 فان المنع و التضييق عليهن باي وجه كان هو خلاف قاعدة السلطنة المقررة عقلا و شرعا.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ .

استثناء عن ما تقدم. و الفاحشة هي الفعل القبيح قد شاع استعمالها في الزنا و المبينة من البين و هو الواضح اي الفاحشة المعلومة الواضحة.

و المعنى: و لا تمنعوا النساء من النكاح و تضيقوا عليهن ليضطررن إلى بذل شيء من المال إما الصداق أو غيره مما دفعتموه إليهن لرفع الاضطرار إلا ان تأتي المرأة بفاحشة معلومة واضحة فله ان يعضلها حتى تدفع مالا له ليفارقها.

و نظير هذه الآية ما ورد في سورة البقرة قال تعالى: «وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاّ أَنْ يَخافا أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ يُقِيما حُدُودَ اَللّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا اِفْتَدَتْ بِهِ » البقرة - 229 و «إِلاّ» في المقام يفسر عدم اقامة حدود اللّه تعالى بإتيان الفاحشة هذا كله لو لم يكن رضاء منها في البذل.

و اما لو كان عن تراض منهما فلا اشكال في جوازه إذا لم تكن عن مفسدة شرعية. و من تقييد الفاحشة بالمبينة يستفاد ان مجرد صرف الوجود غير كاف ما لم تكن مبينة و واضحة.

قوله تعالى: وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

بيان لأصل من اصول الحياة و هو الأساس للحياة السعيدة فان اللّه تعالى نهى عن ارث النساء كرها و عضلهن، و وضع حدا للظلم عليهن و بين في هذه الآية المباركة ان الطريق الصحيح هو المعاشرة مع النساء

ص: 398

بالمعروف بأن تكون المخالطة و المصاحبة و العيش معهن بما هو المعروف بين افراد المجتمع و لم يعين سبحانه و تعالى كيفية ذلك ليكون العرف الذي هو الشائع في كل عصر و زمان هو المعتمد في ذلك و هذا من المفاهيم الاسلامية القويمة التي تذكر في مجال التطبيق العملي و ان الجاهلية و الشقاء تتحققان بقدر الاعراض عمّا شرعه اللّه تعالى فيما بينته السنة المقدسة و الإسلام دين متكامل يعطي بقدر ما يترك و لا يصلح جانبا على حساب جانب آخر أو إهمال جهة معينة، ففي المقام الواجب على الرجل حسن المعاشرة مع النساء بالمعروف فإذا كان ذلك من جانب الرجل ففي جانب المرأة هو اطاعة الزوج و هما يتوازنان الأمر و تتأدى الحقوق و الواجبات.

قوله تعالى: فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً .

تأكيد لما ذكره عز و جل و هو المعاشرة مع النساء بالمعروف، و ايقاظ للشعور الانساني بأن دين اللّه تعالى لا بد ان يعمل به بجميع حدوده و قيوده في جميع اتجاهاته.

و تبين الآية الشريفة حكم الاستمرار في الحياة الزوجية و او كانت مع الكراهية فإنها تأمر بالمعاشرة حتى مع الكراهة و عدم فصم العلاقة الزوجية و قطعها عند ادنى تحول في المشاعر و الاحساس و يصلح حالها بالصبر و حسن المعاشرة لتعود حياتهما إلى الانتظام و تتهيأ اسباب السرور و البهجة فان اللّه تعالى قادر على ان يمنحهما السعادة و يتمتع الرجل - الذي وجد أمورا يكرهها في زوجته - بما فيه خير كثيرا مما يهون عند ما شاهد ما كرهه في زوجته.

ص: 399

و للخير الكثير مظاهر كثيرة منها: اظهار الحق و ابطال الباطل.

و منها: كثرة النسل و البركة فيه و في المال.

و منها: التخلق بأخلاق الكرام.

و منها: الهناء في العيش و البعد عن مشاكل الحياة.

و منها: السعادة في الدارين و غير ذلك مما لا يخفى.

و اسناد الكراهة إلى الزوجات انفسهن يدل على أن اسباب الكراهة توجد في انفسهن إما ذاتا كما كان عليه الناس في العصر الجاهلي أو لأمر خارجي كالعيب الخلقي أو الخلقي دون نفس الحياة الزوجية و نكاحهن، و الآية المباركة ترشد الى عدم المسارعة إلى مفارقتهن و مضارتهن.

و التعليل في الآية الشريفة عام لا يختص بمورد الآية فهو من الحقائق الواقعية التي كشف عنها القرآن الكريم و هي توقظ روح التعقل في الإنسان عند استيلاء القوى الشهوية و الغضبية عليه و ترشده إلى التفكر في عواقب الأمور و تروّض النفوس على التخلق بمكارم الأخلاق و حسن المعاشرة مع النساء و انه بعمله بما ورد في هذه الآية الشريفة يرتقى إلى المستوي المرغوب منه من المحل الواقعي له و يصل إلى الكمال الذي أعد له فانه أذعن بالحق و عمل به و أنكر الباطل و زيّغه.

و الآية المباركة تبعث الأمل و الرجاء عند اليأس في الحياة و عروض المشكلات على الإنسان و قد تقدم نظير ذلك في قوله تعالى: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » البقرة - 216 و تقدم البيان في ذلك ايضا فراجع.

ص: 400

قوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ .

الاستبدال: هو طلب البدل و اقامة زوج مكان زوج أخرى ترغبون عنها لكراهتكم لها كما يدل عليه قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ » فان الارادة تستدعي ذلك بان تكون رغبة عن المبدل و رغبة في البدل.

و الآية الشريفة تحدد المسئولية عند تشكيل الحياة الزوجية و اقامة زوج آخر.

و من كلمة الاستبدال الواردة في الآية الشريفة نستفيد ان الأمر إذا بلغ الانفصام و الانفصال بينهما رغم التوصية في الآية السابقة على عدم مسارعة الرجل إلى فصم رباط الزوجية عند تحوّل المشاعر، فعسى ان يكره شيئا و يجعل اللّه فيه خيرا كثيرا فلا ينبغي ان يحدث ذلك و اما إذا أحدث فلا بد ان تقام الوحدة الاجتماعية مرة اخرى بزوج اخرى و تجتمع الاسرة لئلا تتعطل وظيفتها.

و الإسلام يؤكد على ذلك و هو شديد الحرص على تكوين الاسرة و ذلك لأسباب كثيرة منها سد أبواب الفحشاء، و جعل دوافع الفطرة في مسيرها الطبيعي و توحي كلمة الاستبدال منضمة بقوله «أَرَدْتُمُ » على ملء الفراغ في الحال و عدم الإهمال في هذا الأمر العظيم.

قوله تعالى: وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً .

القنطار: هو المال الكثير و قد تقدم تفسير هذه الكلمة في قوله تعالى: «وَ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ» آل عمران - 75 و أتي به مبالغة في كثرة ما يعطي من المهور و تأكيدا في الزجر فإذا دفع الزوج الصداق إلى الزوجة و لو كان كثيرا أو التزم به في الذمة فلا يجوز ان يأخذ منه شيئا و لو كان قليلا إذا بلغ الأمر إلى انفصام

ص: 401

علاقة الزوجية و الطلاق و لا يحل له ذلك.

قوله تعالى: أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً .

إنكار على أخذهم لذلك الشيء، و البهتان مصدر نصب على الحالية و هو ما يجعل الإنسان متحيرا، و غلّب استعماله في الافتراء الذي يبهت المكذوب عليه و يجعله متحيرا و الإثم: الذنب و هو حال ايضا و المبين الموضح، فيكون البهتان بمعنى الدعوى بغير حق و لا ريب ان أخذ شيء من صداق المرأة بعد كثرة علاقتها به بدون رضاها بهتان و اثم مبين واضح لا ريب فيه. نعم لو رضيت به لا اشكال فيه حينئذ كما في الخلع و غيره.

و قيل: البهتان في المقام نسبة المرأة إلى الفاحشة ليستلب أموالها و صداقها اي: أ تأخذون شيئا مما دفعتموه إليهن صداقا و لو كان السبب رميهن بالفاحشة باهتين لها أو ناسبين الكذب إليها كعدم اقامة حدود اللّه تعالى لتلتجأ إلى الافتداء.

و هذا و ان كان حسنا ثبوتا لكنه خلاف المنساق من الآية الشريفة.

و بناء على ما ذكرناه يكون «إِثْماً مُبِيناً» عطفا تفسيريا للبهتان كما هو واضح.

قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ .

تعليل لمنع الأخذ من مال المرأة و انكار آخر له و إرجاع إلى الفطرة مبالغة في التنفير و هو من احسن الاساليب البلاغية فان الصداق انما يكون بإزاء الزوجية و الخلوة بها قضاء لما تدعو اليه الشهوة و الفطرة و هذا يؤكد ما ذكرناه من رجوع البهتان إلى نفس الأخذ و فيه كمال الذم و التوبيخ للآخذ.

ص: 402

قوله تعالى: وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ .

الإفضاء: هو المخالطة و الاتصال بالمماسة يقال افضى إلى الأرض يده إذا مسها في سجوده و يكنى به في النكاح عن الجماع غالبا. و الإفضاء من الكلمات التي تستعمل في الحياة الزوجية لأنها تشمل على الارتباط و التمتع و رفع الحشمة، و هي من احسن الكنايات في هذا المجال.

و المعنى: كيف تأخذون من مالها شيئا و قد ارتبطتم معها ارتباط اللباس باللابس كما في قوله تعالى: «هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » البقرة - 187 و اختلطتم معها و تحققت علاقة الزوجية فكأنهما حقيقة واحدة و في هذه الحالة لا يصح الظلم و البهتان و الرمي بالكذب و أخذ المال ظلما و عدوانا و هو مما يتعجب منه.

قوله تعالى: وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً .

الميثاق: هو العهد المؤكد المشدد، و الغليظ إما عطف بيان على «مِيثاقاً» فيكون المعنى و أخذن منكم شيئا غليظا و هو المني الذي يكون محترما بالعقد الواقع بينهما.

أو تكون وصف من قبيل ذكر الخاص بعد العام اي: العقد الغليظ الواقع غالبا بمحضر من الناس مقرونا بالطرب و السرور.

و كيف كان فهذه الآية الشريفة تدل على احترام العلاقة الزوجية و ان العقد الواقع بين الزوجين مما عظمه الإسلام و سائر الأديان الإلهية، و يجب الالتزام به بحسب الفطرة.

و قيل: ان الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ من الرجل للمرأة في ما ذكره عز و جل «فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ » البقرة - 229 و قيل الحلية المجعولة شرعا في النكاح و قيل غير ذلك.

ص: 403

و لا يخفى بعد جميعها و يمكن إرجاعها إلى ما ذكرناه و الآية المباركة تدل على انكار الأخذ و انه بهتان.

بحث دلالي
يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الاول:

يستفاد من قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ » ان في عصر نزول القرآن كان الناس يعتبرون النساء متاعا من الامتعة يتوارثونهن و يحكم الرجل عليها بما يريده و ان كان على كره منها و قد نهى القرآن الكريم عن هذه العادة السيئة و بيّن عز و جل حكمه الابدي فيها ورد عليها كرامتها و الزم الرجل معاشرتها بالمعروف و جعل تبارك و تعالى ذلك أصلا من الأصول النظامية فلا بد من مراعاتها و الا حصلت امور لا تحمد عقباها كما عرفت في التفسير.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ » حرمة الابتزاز و الاستبداد بالمرأة و النهي عن التضييق على النساء بكل وجه من وجوه التضييق و حرمة اضطهادهن ليستفيدوا منهن أية فائدة فان ذلك قبيح إلا ما استثناه عز و جل، و لا منافاة لهذه الآية الشريفة مع آية الخلع فانه انما يكون من جانب المرأة، فإذا رضيت بالفداء يجوز للزوج قبوله و مفارقتها. و في غير ذلك لا يجوز عضلها و منعها مطلقا إلا إذا أتت بفاحشة مبينة.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ »

ص: 404

ان الفاحشة التي توجب العضل لا بد ان تكون معلومة ثابتة فلا يكفي الظن في هذا المقام الذي هو في معرض الخصومة و الجدال و سوء الظن فهذه الكلمة «مُبَيِّنَةٍ » لها موقعها العظيم في المقام و في هذه الحالة يجوز عضلها من باب النهي عن المنكر و الأمر بالمعروف.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: «فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اَللّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً» حقيقة من الحقائق الواقعية و هي تدل على جهل الإنسان بالواقع و ان ما يجهله اكثر مما يعلمه، فانه قد يقع تحت وقع المشاعر و الاحساس و العواطف التي قد تكون حجابا عن التفكر في عواقب الأمور.

فالآية الشريفة من الآيات الكثيرة التي نزلت لتربية الإنسان تربية حقيقية واقعية، و تحدد مسؤوليته اتجاه الحياة الزوجية التي بنيت على المحبة و تحكيم العقل دون المشاعر الوهمية الخاطئة التي تسبب كثيرا من المشاكل و المتاعب في هذه الحياة.

و الآية المباركة توحي إلى الإنسان بعدم التسرع في الحكم عند غلبة العواطف و لها وقع كبير في الحياة الزوجية التي لا تخلو من التنازع و الخصومة إذ ليس كل زوجة مطلوبة للزوج من كل جهة و كذا بالعكس.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ » منضما إلى قوله تعالى: «فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ » ان الأخذ المحرم من الصداق هو ما كان بعنوان الإكراه و الإلجاء لها على ذلك و لو كان البذل بإرادتها و عن طيب نفس منها فلا بأس به و على هذا فلا منافاة بين هذه الآية و آية الخلع سورة البقرة - 229.

السادس:

يدل قوله تعالى: «وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ » على اهمية الاسرة و انه لا بد من تشكيل الاسرة بعد انفصام

ص: 405

الاولى لجهة من الجهات إعادة الوحدة الألفة التي يعطي لها الإسلام اهمية خاصة في بناء المجتمع. و توحي الآية الكريمة بانه لا يجوز تعطيل وظيفة الاسرة لاي جهة من الجهات.

السابع:

يدل قوله تعالى: «وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ » على أسلوب من الاساليب البلاغية البديعة فانه يرجع الإنسان إلى الضمير و تحكيمه على سائر المشاعر و العواطف فان الحياة التي بنيت قاعدتها على الترابط بين شخصين يكون أحدهما بمنزلة اللباس للآخر كيف يمكن جعل المال عوضا عن تلك الحياة الزوجية.

الثامن:

يدل قوله تعالى: «إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» على انه لا تحديد في المهر بالنسبة إلى الكثرة كما انه لا تحديد فيه بالنسبة إلى القلة، و قد ورد في السنة المتواترة «ان المهر كل ما تراضيا عليه قليلا أو كثيرا» نعم لا ريب في ان الفضل في مهر السنة.

التاسع:

يدل قوله تعالى: «وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» على ان المرأة هي التي أخذت الميثاق من الرجل، و لكن المستفاد من الادلة الاخرى ان الميثاق مأخوذ من الطرفين و هو متقوم بالزوجين يأخذ الميثاق من المرأة على تمكينها من التمتع بها و قيامها بسائر الوظائف الزوجية الواجبة عليها و الزوجة تأخذ الميثاق من الرجل على العشرة بالمعروف أو التسريح بالإحسان: و عقد النكاح بينهما عند كل قوم ينحل إلى ذلك.

و لعل الوجه في تخصيص الزوجة بالأخذ في الآية الشريفة لأجل شدة عواطفها و سلطة الزوج عليها، فخصها عز و جل بالذكر لئلا تنقهر تحت تلك السلطنة، كما يمكن ان يكون لأجل انها أخذت مسئولية الحمل و الإرضاع و هو المراد ب (المني) في بعض الروايات، و كيف

ص: 406

كان فالمستفاد من الآية الشريفة ان للمرأة شأنا عظيما في هذه الحياة و انها بمنزلة الهيولى و المادة و لولاها لما كان للميثاق موضوع ابدا، كما انه لو لم تكن الأرض لما كان للنبات موضوع أصلا.

بحث روائي

في تفسير القمي عن أبي الجارود عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً» قال (عليه السلام): «كان في الجاهلية في أول ما اسلموا من قبائل إذا مات حميم الرجل و له امرأة القى الرجل ثوبه عليها فورث نكاحها بصداق حميمه الذي كان أصدقها فكان يرث نكاحها كما يرث ماله فلما مات ابو قيس بن الاسلب القى محصن بن أبي قيس ثوبه على امرأة أبيه و هي كبيشه بنت معمر بن معبد فورث نكاحها ثم تركها لا يدخل بها و لا ينفق عليها فأتت رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) فقالت يا رسول اللّه مات أبو قيس بن الاسلب فورث ابنه محصن نكاحي فلا يدخل عليّ ، و لا ينفق عليّ ، و لا يخلي سبيلي فألحق باهلي ؟ فقال رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله): ارجعي إلى بيتك فان يحدث اللّه في شأنك شيئا علمتك به فنزل: «وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً» فلحقت باهلها، و كانت نساء في المدينة قد ورث نكاحهن كما ورث نكاح كبيشه غير انه ورثهن من الأبناء فانزل اللّه «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً»

ص: 407

و في الدر المنثور و اسباب النزول للواحدي عن عكرمة عن ابن عباس في الآية الشريفة «يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً» قال: «كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ان شاء بعضهم تزوجها، و ان شاؤوا زوجوها و ان شاؤوا لم يزوجوها و هم أحق بها من أهلها فنزلت هذه الآية».

أقول: الروايات في مضمون ذلك متعددة من الخاصة و الجمهور و جميعها تنكر ما كان شايعا في الجاهلية و قد عرفت في التفسير ما يرتبط بالمقام.

و في تفسير العياشي عن هاشم بن عبد اللّه عن السري البجلي قال:

«سألته عن قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ » قال: فحكى كلاما ثم قال: كما يقول النبطية إذا طرح عليها الثوب عضلها فلا تستطيع تزويج غيره و كان هذا في الجاهلية».

أقول: هذا يبين بعض مراتب العضل.

و في تفسير العياشي ايضا عن ابراهيم بن ميمون عن الصادق (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ » قال: «الرجل تكون له المرأة فيضربها حتى تفتدي منه فنهى اللّه عن ذلك».

أقول: هذا ايضا نحو من العضل.

و في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «إِلاّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ » قال، «كل معصية».

أقول: لا ريب انه كل معصية فاحشة إلا ان بعضها افحش من بعض.

و في الكافي عن الصادق (عليه السلام): «إذا قالت له لا اغتسل لك من جنابة و لا أبر لك قسما و لأوطين فراشك من تكرهه حل

ص: 408

له ان يخلعها و حل له ما أخذ عنها».

أقول: هذا من بعض مصاديق الفاحشة و الا فلو كانت موجبة لما هو مستنكر في المعاشرة بين الزوجين و قد نهى عنها الشرع تكون تلك فاحشة ايضا.

و في تفسير البرهان قال الشيباني: «الفاحشة يعني الزنا»، و ذلك إذا اطلع الرجل منها على فاحشة منها فله أخذ الفدية قال و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام)».

أقول: هذا ايضا بيان لبعض المصاديق.

في الكافي عن الباقر (عليه السلام) في قوله تعالى: «وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً» قال (عليه السلام) «الميثاق هي الكلمة التي عقد بها النكاح و اما غليظا فهو ماء الرجل يفضيه إلى امرأته».

أقول: كون المني غليظا باعتبار كونه منشأ الحياة و هو محترم إذا كان بعقد شرعي و الا فلا احترام له.

و في المجمع: الميثاق الغليظ هو العقد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان قال و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).

أقول: لا منافاة بين التعبيرين فان الإمساك بالمعروف و التسريح بإحسان من الالتزامات الضمنية الداخلة في مفهوم العقد.

و في الدر المنثور اخرج ابن جرير عن جابر ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: اتقوا اللّه في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه، و ان لكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا تكرهونه فان فعلن ذلك فاضربوهن ضربا غير مبرح و لهن عليكم رزقهن و كسوتهن بالمعروف».

ص: 409

و في الدر المنثور ايضا اخرج ابن جرير عن ابن عمر: «ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) قال: يا ايها الناس ان النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة اللّه، و استحللتم فروجهن بكلمة اللّه و لكم عليهن حق، و من حقكم عليهن ان لا يوطئن فرشكم أحدا، و لا يعصينكم في معروف و إذا فعلن ذلك فلهن رزقهن و كسوتهن بالمعروف».

أقول: كل ذلك بيان لمعنى الميثاق القولي الحاصل بين الزوجين.

و في الدر المنثور اخرج الزبير بن بكار في الموفقيات عن عبد اللّه ابن مصعب قال «قال عمر: لا تزيدوا في مهور النساء على أربعين اوقية، فمن زاد ألقيت الزيادة في بيت المال فقالت امرأة: ما ذاك لك قال و لم ؟ قلت لان اللّه يقول: «وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً» فقال عمر امرأة أصابت و رجل اخطأ».

أقول: تقدم ما يدل على تحديد المهر كما و كيفا فراجع.

ص: 410

محتويات الكتاب

[سورة آل عمران الآية: 159-160] 5 الخطاب المتوجه الى النبي (صلى اللّه عليه و آله) يذكر فيه نعمة اللّه عليه بأن جعل قلبه رحيما و بعيدا عن الفظاظة و الخشونة.

6 الوجه في التفات الخطاب من المؤمنين الى النبي (صلى اللّه عليه و آله).

7 مادة (لين) و معناها:

الفظاظة و معناها و ان سببها قساوة القلب.

8 المراد من الأمر الوارد في الآية الشريفة 9 العزم و معناه:

10 التوكل و معناه و آثاره.

11 كلمة «لا» الوارد في الآية المباركة لنفي الجنس.

بحوث المقام:

12 بحث ادبي يتعلق بالآية الشريفة:

بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

(الاول): ان النبوات السماوية تتقوم بأمرين» 14 (الثاني): الآيات الشريفة تدل على ان الرحمة و اللين مع الخلق و التودد معهم و الرحمة لهم من اجلّ صفات اللّه تعالى افاضها على نبيه (ص) (الثالث): تتضمن الآية الشريفة شروط التوكل.

(الرابع): تدل الآية الكريمة على الأثر المهم المترتب على التوكل.

(الخامس): يستفاد من الآية الشريفة ان شأن المؤمن التوكل على اللّه و لا ينبغي له التخلي عنه.

(السادس): الآية المباركة تدل على ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) مثال الانسانية الكاملة.

16 - بحث روائي يتعلق بالآيات الشريفة.

17 بحث اخلاقي في التوكل.

فضل التوكل 18 التوكل في الكتاب الكريم.

20 التوكل في السنة الشريفة.

22 معنى التوكل.

23 حقيقة التوكل.

ص: 411

26 شروط التوكل.

28 درجات التوكل.

30 آثار التوكل.

[سورة آل عمران الآية 161-164] الآيات الشريفة مرتبطة بغزوة احد.

32 الغل و معناه و انه عام و لا يختص بالوحي.

33 الآية الكريمة تبين الجزاء المترتب على الغل.

34 الرضوان و معناه و ان الآية الشريفة من جلائل الآيات القرآنية.

36 السخط و معناه.

الوجه في التعبير ب (المصير).

38 ما يتعلق بإتيان الضمير «هم» العائد الى ذوي العقول.

39 في بيان ان نيل تلك الدرجات لا يكون بالتمني و الوهم و الخيال و انما هو على الحقيقة و الأعمال.

40 المنة و معناها.

في ان تكميل النفوس الناقصة من أجل نعم اللّه تبارك و تعالى.

41 في بيان المنة الواردة في الآية الشريفة.

42 ما ورد في تعداد أوصاف النبي (صلى اللّه عليه و آله) في الآية الكريمة و انها تدل على جلالة قدره و توكد المنة عليهم.

43 المراد من «قبل» الوارد في الآية الكريمة.

بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

(الاول): يستفاد من سياق الآية الكريمة تنزيه ساحة الأنبياء عن السوء و الفحشاء و عصمتهم عن كل رذيلة.

(الثاني): تدل الآية المباركة على تجسّم الأعمال.

(الثالث): نسبة الخيانة إلى النبي (صلى اللّه عليه و آله) ظلم و لا بد من التنزه عنها.

ص: 412

الشريفة أهم اصل من اصول التعليم و التربية في الإسلام.

45 (السابع): تبين الآية الكريمة ان جهات التكميل في الإنسان لا بد و ان تكون من اللّه تعالى.

(الثامن): في الوجه باختصاص المؤمنين بالذكر مع ان رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله) و سائر الأنبياء مبعوثون الى كافة الناس.

(التاسع): الوجه في تقديم التزكية على التعليم في المقام و تأخيرها في آية اخرى.

46 بحث روائي يتعلق بالآيات الشريفة.

[سورة آل عمران: 165-168] الآيات الشريفة تبين جانبا من الجوانب المتعددة في غزوة احد و تكشف الموازنة بين الخسارة و الهزيمة و بين تلك النعمة العظمى و المنة الكبرى.

48 الاستفهام في الآية الكريمة للتقريع و يكون السئوال الاستنكاري في موضعه.

49 المراد من المثلين الوارد في الآية الشريفة.

بيان المصيبة و الحقيقة التي غفلوا عنها.

معنى الآية الشريفة.

50 الآية الكريمة تبين القدرة الكاملة و تذكر احد مصاديقها.

51 غاية اخرى من الغايات المترتبة على ما أصابهم.

52 المراد من «الذين نافقوا» و بيان وجوه نفاقهم.

53 بيان لحال المنافقين.

54 الوجه في ذكر الاخوان في الآية الكريمة بالخصوص.

بحوث المقام.

55 بحث ادبي يتعلق بالآية الشريفة.

56 بحث دلالي و فيه يستفاد من الآية الشريفة امور:

(الاول): يستفاد من الآية الكريمة واقع الإنسان بعد اصابته بمصيبة.

57 (الثاني): تدل الآية الشريفة على ان قانون الأسباب و المسببات لا يخرج عن قدرة اللّه تعالى.

(الثالث): الآية المباركة تدل على أهم ما كان يريده المنافقون.

ص: 413

58 (الرابع): يستفاد من الآية المباركة حسن المحاورة و المحاجة مع المنافقين.

بحث روائي يتعلق بالآية الشريفة.

[سورة آل عمران 169-175] الآيات المباركة تبين المائز بين من مات من القاعدين و بين ما يصيب المجاهدين.

60 - صفات الأحياء عند ربهم.

وجه الالتفات من خطاب المؤمنين الى خطاب الرسول (صلى اللّه عليه و آله).

60 الآية الكريمة رد على من يزعم ان الموت سببا لانعدام الروح و البدن.

المراد من سبيل اللّه و من الموت.

63 الفرح و معناه.

64 الوجه في إبهام النعمة و اضافتها اليه جلّ شأنه و كذا الجمع بين الاستبشار بانتفاء الخوف و الحزن و الاستبشار بنعمة من اللّه و فضل.

تأكيد آخر بتوفية اللّه اجر المؤمنين و الشهداء و غيرهما.

الآية الشريفة تبين وجه الحزن و الخوف عنهم.

التخصيص بالمؤمنين في الآية الكريمة و تنويه بمقامهم السامي.

الآيات المباركة تدل على اثبات الحياة للروح و اثبات عالم البرزخ و غيرهما كما يستفاد منها امور تتعلق بالحياة للروح.

67 الآية المباركة تبين كيفية تأثير التربية الحقيقية الملهمة في نفوس المؤمنين.

68 ثناء جميل لمن استجاب اللّه و الرسول.

69 الآية الشريفة تقسم المستجيبين الى طائفتين.

ذكر بعض الآثار للتربية الحقة الحقيقية في الآية المباركة.

72 ترتب الآية الكريمة على ما قبلها من قبيل ترتب المعلول على العلة التامة المنحصرة.

بحوث المقام.

75 بحث ادبي يتعلق بالآية المباركة.

77 بحث دلالي و فيه ان الآيات الشريفة تدل على امور:

(الاول): تدل الآية الكريمة على تجرد الأرواح.

(الثاني): يستفاد من الآية الشريفة

ص: 414

ماهية حياة المؤمنين و الشهداء في الآخرة.

(الثالث): تدل الآية المباركة على سنخية أرواح المؤمنين لعالم القدس.

78 (الرابع): يستفاد من الآية الكريمة ان القرح و ما يصيب المؤمنين في ميدان القتال مع اعداء اللّه له الأثر الكبير في تهذيب النفس.

79 (الخامس): ان الآية الشريفة من الآيات التي يستفاد منها لزوم مراعاة الاستقامة للحق و الحقيقة.

(السادس): تدل الآية المباركة على ان الإحسان و التقوى هما المناط في القرب الى اللّه تعالى.

80 (السابع): يستفاد من الآية الكريمة حقيقة من الحقائق و هي أدب المنافقين و عاداتهم.

(الثامن): يستفاد من الآية الشريفة كمال ايمان من استجاب للّه و الرسول.

81 (التاسع): يستفاد من ظاهر الآية الكريمة ان مضمونها لا تختص بحالة دون اخرى و المراد بالانقلاب المعنى العام.

(العاشر): يستفاد من الآية المباركة من لم يتصف بما تقدم في الآيات السابقة قد فوت على نفسه امرا عظيما.

(الحادي عشر): يستفاد من الآية الشريفة ان الخوف من الأمور الدنيوية انما يكون منشأه الشيطان.

(الثاني عشر): تدل الآية الكريمة على ان الايمان جنة واقية تحرس صاحبه من الخوف.

82 بحث عرفاني يتعلق بمقام الشهداء و المجاهدين في سبيل اللّه و كذا المجاهدين مع النفس الامارة.

84 بحث روائي يتعلق بالآية المباركة.

88 بحث تاريخي و فيه ان الآيات الشريفة تشير الى وقعة حمراء الأسد.

90 موقع غزوة حمراء الأسد و زمانها.

عدد المسلمين فيها.

92 اسباب الغزوة.

93 اهداف الغزوة.

[سورة آل عمران: 176-179] الآيات الشريفة مرتبطة بما تقدمت و مع انها لإرشاد المؤمنين هي لتسلي النبي الكريم من ما يوجب حزنه.

ص: 415

96 توجه الخطاب الى النبي (صلى اللّه عليه و آله) تشريفا له و تسلية له.

الوجه في اسناد الحزن الى ذواتهم و تعدى المسارعة ب (في).

97 الآية المباركة تعليل لعدم مضارتهم.

98 الوجه في توصيف العذاب بالعظمة و عدم تقييده بالآخرة.

الآية نعم جميع الكافرين و الوجه في التعبير بالشراء و ان المراد بالكفر جميع مراتبه.

99 الآية الشريفة تبين قضية عقلية حقيقية الآية المباركة تبين جزاء تمردهم.

100 الآية الكريمة تكشف عن حقيقة من الحقائق الواقعية.

مادة (ملل) و معناها.

102 الآية المباركة تبين سوء حال الكفار في الآخرة.

الآية الكريمة تبين أهم القوانين الجارية في مسير التكامل.

103 المراد من الخبيث و الطيب و ان الآية غاية لما تقدمت.

104 اضافة كل من الطيب و الخبيث.

ظرف تمييز الخبيث من الطيب.

105 اختصاص الغيب باللّه و المراد منه.

106 الوجه في الاستدراك عما تقدم بالاجتباء.

107 الآية الكريمة تميز بين الخبيث و الطيب. و فيها إعلام بان الحياة الطيبة مترتبة على العمل الصالح.

108 بحوث المقام.

بحث ادبي يتعلق بالآية الشريفة.

110 بحث دلالي و فيه ان الآيات الشريفة تدل على امور:

(الاول): تدل الآية الكريمة على ان أعراض الناس عن الايمان موجب لجريان سيد الأنبياء (صلى اللّه عليه و آله) و انها تسلم له.

111 (الثاني): تدل الآية المباركة على كمال عنايته تعالى بالرسول (صلى اللّه عليه و آله) و الايمان.

(الثالث): الآية المباركة تدل على أعظم الحقائق و هو كل من اعرض عن الايمان به لن يضر اللّه.

112 (الرابع): تدل الآية الشريفة على ان الخير الحقيقي هو ما بينه عز و جل و غيره يكون من الاستدراج.

ص: 416

113 (الخامس): الوجه في التفنن في وصف العذاب.

114 (السادس): تدل الآية الكريمة على ان في طريق الاستكمال لا بد من الابتلاء و توارد الصعوبات و المحن و ان التمييز بين الخبيث و الطيب في الإنسان منحصر بالإيمان به تعالى.

(السابع): يستفاد من الآية المباركة ان الخبيث و الطيب أمران اختياريان.

(الثامن): في وجه تكرار لفظ الجلالة في الآية الشريفة.

115 (التاسع): تدل الآية الكريمة على انحصار علم الغيب باللّه تعالى و ان طريق الإنسان في العلم بالحقايق منحصر بالاستدلال.

(العاشر): في ان التمييز بين الخبيث و الطيب منحصر به تعالى.

(الحادي عشر): تدل الآية الشريفة على ان الايمان لا يكمل الا بالتقوى و العمل الصالح.

116 بحث روائي يتعلق بالآية المباركة.

[سورة آل عمران 180-184] 118 الآيات المباركة تبين بعض اقسام الإملاء كما تبين مآثم اليهود و تظهر نواياهم الشريرة و الآيات مرتبطة بما قبلها و هي تأمر بالصبر و الثبات و تستنهض الناس الى متابعة الحق و الجهاد.

119 تحريض على بذل المال في سبيل اللّه تعالى بعد التحريض على بذل النفس في الجهاد.

120 في الآية المباركة كمال التوبيخ و الذم على الباخلين و تبين واقع حالهم.

121 المراد من الطوق.

تتضمن الآية الشريفة التهديد و التوعيد للباخلين.

122 ذكر تعالى مظهرا آخر من مظاهر سوء الظن باللّه العظيم و هو نسبة الفقر اليه تعالى كما عن اليهود.

123 الآية الشريفة تتضمن التهديد لليهود و الوجه في نسبة القتل الى الحاضرين منهم الذوق و معناه.

124 الآية الكريمة بمنزلة التعليل لجميع ما تقدمتها من الآيات.

125 الوجه في إتيان صيغة المبالغة «ظلام»:

الآية المباركة تبين زعما آخر من

ص: 417

مزاعم اليهود الفاسدة.

126 القربان و معناه.

127 الآية الشريفة تتضمن تسلية للرسول الكريم.

بحوث المقام.

128 بحث ادبي يتعلق بالآيات الكريمة.

130 بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات المباركة امور:

(الاول): يستفاد من الآية الكريمة ذم البخل و اقسامه:

(الثاني): تدل الآية الشريفة على تجسم الأعمال.

131 (الثالث): تدل الآية المباركة على ان كل ما يعطي للإنسان و كل ما في الأرض عرض زائل.

(الرابع): الآية الكريمة تبين صفات السوء و خصال الشر التي في اليهود.

(الخامس): يستفاد من الآية المباركة ان الرضا بالمعصية معصية.

132 (السادس): يستفاد من الآية الكريمة ان كثرة الظلم لأجل تعدد متعلقه و انه لا يمكن انتساب الظلم اليه تبارك و تعالى.

(السابع): تدل الآية الشريفة على كمال الحفظ و الأمن من الضياع و فيها نحو توعيد.

(الثامن): في وجه انحصار بعثة الرسل بالبينات و الزبر و الكتاب المنير.

133 بحث روائي يتعلق بالآية الشريفة.

136 بحث فقهي و فيه ان البخل ينقسم حسب الاحكام الخمسة التكليفية.

137 بحث عرفاني يتعلق بالإنفاق.

[سورة آل عمران 185-189] الآيات المباركة تستنهض الناس الى الجهاد في سبيل اللّه تعالى و ان المعركة مع أعدائه عز و جل حتمية الإثبات لكلمة التوحيد و ان الموت الذي يصيب كل ذي حياة لا يمكن الفرار منه و تبين الآيات الكريمة ان التمحيص سنة الهبة و انها تبين مفاسد اخلاق اهل الكتاب و ان الملك لوحده تعالى.

139 الموت من مقومات هذا العالم و ان الآية المباركة تبين قضية حقيقية

ص: 418

طبيعية وجدانية و انها تسلي النبي (ص).

141 التوقية و معناه.

142 كلمة (زحزح) و معناها.

143 هل الدخول في الجنة غير التزحزح عن النار؟.

الوجه في إتيان الفعل مجهولا في الآية المباركة.

144 في لحاظ اضافة الدنيا الى اللّه و الى نفسها و الى الأعمال التي تقع فيهما.

146 ما يتعلق بالابتلاء في الأموال و الأنفس 147 الابتلاء بالعدوان الوارد في الآية المباركة.

148 العزم و معناه.

150 الآية المباركة تبين صفات ذميمة اتصف بها الذين ذكرهم اللّه تعالى في الآية السابقة.

153 الآية الكريمة تعليل لجميع ما ورد في الآيات السابقة.

بحوث المقام:

بحث ادبي يتعلق بالآيات الشريفة.

155 بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

(الاول): ان الآية الكريمة تدل على تجرد النفس.

(الثاني): عموم الآية تدل على ان كل نفس لا بد لها من ذوق الموت، 156 (الثالث): الوجه في التعبير بالذوق.

(الرابع): يستفاد من الآية الشريفة ان لكل نفس جزاء معينا.

(الخامس): يستفاد من الآية الكريمة ثبوت حياة البرزخ.

(السادس): يستفاد من الآية المباركة عظمة الموقف.

157 (السابع): تدل الآية الشريفة على خسة الحياة الدنيا:

(الثامن): ان الفوز الدائم لا يتحقق الا بالبلاء و الابتلاء.

(التاسع): يستفاد من الآية الكريمة ان ما اخذه اللّه عليه الميثاق هو من الأنبياء و انه بيان الحق.

158 (الحادي عشر): يستفاد من الآية المباركة ذم الفرحين بأفعالهم التي لا تطابق الواقع.

159 (الثاني عشر): ما يستفاد من الآية الشريفة في حب المحمدة.

ص: 419

(الثالث عشر): يستفاد من الآية المباركة ان الخصال المذمومة و الملكات الرذيلة سبب للدخول في النار.

160 بحث روائي يتعلق بالآيات الشريفة.

163 بحث فلسفي يتعلق بالحياة و الموت.

بحث عرفاني يتعلق بنار الشهوات.

165 بحث اخلاقي يتعلق بمذمة حب الثناء و المحمدة.

[سورة آل عمران 190-195] الآيات الشريفة من جلائل الآيات و اعاظمها التي تدعو الناس الى التفكر و السير و السلوك و انها نزلت من مقام عظيم.

167 دعوة الى التفكر و المراد بخلق السموات و الأرض.

168 المراد من اختلاف الليل و النهار.

الآيات و معناها.

169 الألباب جمع لب و معناه و الوجه في ذكرهم في الآية الكريمة 170 في توصيف أولي الألباب بأوصاف متعددة 171 ما يتعلق بالفكر.

175 الخزي و معناه.

176 ما يتعلق بالنداء الوارد في الآية المباركة.

177 الفرق بين غفران الذنوب و التكفير للسيئات.

178 ما يتعلق بسؤالهم من اللّه تعالى عما وعدهم.

179 الوجه في تخصيص الخزي بيوم القيامة.

180 تدل الآية الشريفة على ان الاستجابة لم تكن الا لأجل العمل.

181 في بيان الأعمال التي يثبت فيها الجزاء الموعود.

183 في بيان ان الآية المباركة تضمنت أمورا ثلاثة.

بحوث المقام:

بحث ادبي يتعلق بالآيات الشريفة.

185 بحث دلالي و فيه ان الآيات الشريفة تدل على امور:

(الاول): الاستدلال بآيات اللّه تعالى في مخلوقاته العلوية و السفلية على عبادة اللّه تعالى.

الآية الشريفة تضمنت المبدأ و المعاد.

ص: 420

186 (الثاني): تدل الآية المباركة على ان اختلاف الليل و النهار من شئون خلق السموات و الأرض.

(الثالث): يستفاد من الآية الكريمة المنزلة العظيمة لأولي الألباب.

(الرابع): يستفاد من الآية الشريفة ان ذكر اللّه تعالى له الأثر الكبير و المنزلة العظيمة لذوي الألباب» و اطلاق الذكر فيها يشمل جميع اقسامه (الخامس): يستفاد من الآية الشريفة ان التفكر بعد تهذيب الروح و تزكية النفس.

(السادس): المراد من القيام مطلق القيام لا خصوص الصلاة.

188 (السابع): يستفاد من الآية الشريفة ان الرب الموصوف بتلك الصفات الكمالية منزه عن الباطل و لا يصدر منه الا الحق.

(الثامن): يستفاد من الآية الشريفة العلية و المعلولية.

(التاسع): تدل الآية الكريمة على ان ايمانهم مبني على أمرين.

189 (العاشر): تدل الآية الشريفة على عظمة مقام الأبرار.

190 (الحادي عشر): يستفاد من الآية الشريفة ان اولى الألباب بمنزلة المادة و غيرهم من قبيل الصورة، (الثاني عشر): تدل الآية الكريمة على ان اولي الألباب لم يبلغوا تلك المقامات الا بتحمل الأذى في سبيله تعالى.

191 بحث روائي و فيه ما ورد في فضل الآيات و تفسير مفرد كلماتها:

196 بحث قرآني يتعلق بالدعاء و التضرع.

198 بحث فقهي يتعلق بالقدرة في التكاليف 199 بحوث عرفانية في السير و السلوك.

202 بحث فلسفي و فيه ان الفلسفة الاسلامية تتميز بأمور:

[سورة آل عمران 196-199] الآيات المباركة تتضمن جزاء من يتضاد مع الأبرار و ينافيهم و فيها الموعظة الكبيرة و النهي عن الاغترار بحال الكفار.

مادة غرر و معناها و المراد من الكفر.

209 بيان لعلة النهي عن الغرور و مصير المغرورين.

ص: 421

207 بيان لمصير الأبرار.

208 النزل و معناه.

الوجه في التفنن بالنعم:

209 بيان لمشاركة بعض اهل الكتاب مع المؤمنين في خمس صفات.

(الاولى): الايمان باللّه تعالى.

(الثانية): الايمان بما انزل الى المسلمين و هو القرآن.

(الثالثة): الايمان بما انزل على أنبيائهم بغير تحريف.

210 (الرابعة): الخشوع للّه تعالى.

(الخامسة): عدم كتمان الحق في بيان أجر من اتصف بتلك الصفات الخمس.

بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

211 (الاول): تدل الآية الشريفة على ان ما عند الكافرين من الحظوظ الدنيوية مهما بلغت في العظمة لا تقابل ما للمؤمنين.

(الثاني): تستفاد من الآية المباركة دناءة المتاع الذي يتمتع به الكافر.

(الثالث): يستفاد من الآية الشريفة ان المناط في كل خير و نفع هو التقوى.

(الرابع): يستفاد من الآية الشريفة ان للأبرار منزلة عظيمة متفوقة.

(الخامس): تدل الآية الشريفة على ان الوحدة الجامعة لجميع الأديان هي الايمان باللّه تعالى.

213 بحث روائي يتعلق بالآيات الشريفة [سورة آل عمران - 200] 214 الآية الكريمة خاتمة لجميع الوصايا و الحقائق التي تضمنتها هذه السورة و بدأت السورة بالتوحيد و الاصطفاء و اختتمت السورة بالصبر و المصابرة و المرابطة و انها لا يمكن الا بالتوحيد الأمر بالصبر لأنه المعتمد في كل سعادة و فلاح و كمال و لا تتحقق الاّ به.

215 المصابرة و معناها.

المرابطة و ما يتعلق بها.

216 بحث روائي يتعلق بالآية الشريفة.

217 بحث قرآني و فيه ان المرابطة من أهم الموضوعات في الإسلام.

218 معنى المرابطة.

اهمية المرابطة.

ص: 422

219 متعلق المرابطة.

ما فيه المرابطة.

220 منهج المرابطة.

[سورة النساء - 1] و هي من جلائل السور و أسماها لأنها تضمنت اكثر الاحكام الإلهية التي نزلت لصالح الناس و بسط العدل و ناموس الفطرة و مراعاة الحقوق و ان الغاية القصوى منها النقوى.

225 في ان أسلوب السورة و مضامينها تشهد انها مدنية.

الوجه في ابتداء السورة بخلق الإنسان الآية الكريمة التي هي مفتتح هذه السورة تحتوي على رموز و بدائع.

الوجه في الخطاب ب (يا ايها الناس) و انه لا يختص اهل مكة.

227 الأمر بتحصيل التقوى في الآية الشريفة.

228 الآية المباركة تنضمن وجوها من الحكم.

229 المراد من النفس.

230 الزوج و المراد منه.

خلق الزوج من النفس الواحدة يحتمل وجوها.

البث و معناه و الوجه في تقدم الرجال على النساء.

الوجه في تكرار الأمر بالتقوى و المراد من التساؤل.

الآية الكريمة تدل على عظمة صلة الرحم.

234 الجملة في الآية المباركة في موضع التعليل.

بحث ادبي يتعلق بالآية الشريفة.

235 بحث دلالي و فيه ان الآية الشريفة تدل على امور:

(الاول): تدل الآية الكريمة على مطلوبية التقوى.

236 (الثاني): الوجه في التعبير بالرب في الآية المباركة.

(الثالث) في تقديم خلق الناس على الزوجة للدلالة على اظهار القدرة.

(الرابع): التقييد بالوحدة للدلالة على أمرين:

(الخامس): يستفاد من الآية المباركة ان الزوجة بمنزلة الجزء للزوج.

ص: 423

(السادس): يصح ان يراد من النساء و الرجال ذرية خاصة من نسل آدم (عليه السلام).

(السابع): الوجه في تكرار التقوى في الآية الشريفة.

(الثامن): الآية الشريفة تدل على ايقاظ الشعور.

(التاسع): تدل الآية الكريمة على ان تقوى الأرحام من تقوى اللّه تعالى.

238 بحث علمي يتعلق بخلق الإنسان.

239 بحث قرآني يتعلق بانحدار النسل من آدم (ع) و ان التناسل بواسطة روحاني متجسد.

242 بحث روائي و فيه ما وردت في خلق حواء و ما وردت في كيفية بث النسل من آدم و حواء و ما وردت في تعدد خلق آدم طولا و ما ورد في شأن صلة الرحم.

255 بحث فقهي يتعلق بصلة الرحم.

256 بحث عرفاني و فيه ما يتعلق بادوار خلق الإنسان و هي اربعة عشر دورا.

[سورة النساء: 2-6] الآيات الكريمة تبين القواعد النظامية التي تتعلق بنظام الاسرة و المجتمع و هي مرتبطة بما قبلها.

260 الاول: من الأصول النظامية ترتبط بحياة الاسرة و المجتمع ما يتعلق بأموال اليتامى.

261 الثاني: ما يتعلق بتبديل الخبيث بالطيب.

الثالث: في الخلط بين اموال اليتامى و اموال المتصدين لأموالهم.

262 الرابع: ما يتعلق بالقسط و المعاشرة.

و تحتمل في الآية المباركة صور:

263 في معنى «مثنى و ثلاث و رباع».

264 المراد من الخوف الوارد في الآية الشريفة.

265 العول و معناه.

الخامس: من الأصول النظامية ما يتعلق بمهور النساء.

266 معنى الهنيء و المري.

السادس: من تلك الأصول ما يتعلق بتحفظ اموال السفهاء.

السفيه و معناه.

267 الوجه في اضافة المال الى المخاطبين.

السابع من تلك الأصول ما يتعلق

ص: 424

بالعناية للسفهاء.

268 الثامن: من تلك الأصول ما يتعلق باختبار اليتامى.

في ان الاختبار متقوم بأمرين:

البلوغ و احراز الرشد.

269 التاسع: من تلك الأصول ما يتعلق بالتعدي في اموال اليتامى.

العاشر: من تلك الأصول ما يتعلق في تحديد تملك من يتصدى الأموال اليتامى.

الحادي عشر من تلك الأصول ما يتعلق بالاستيثاق.

270 الآية المباركة تعليل لجميع ما تقدم.

بحوث المقام:

بحث ادبي يتعلق بالآيات.

272 بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

(الاول): الوجه في التعبير بآتوا في الآية الكريمة.

(الثاني): شمول الآية الشريفة للمحرّم و غيره.

(الثالث): الوجه في اختلاف التعبير في الآية المباركة.

(الرابع): يستفاد من الآية المباركة الجمع بين تسع نساء طولا لا في زمان واحد.

273 (الخامس): تدل الآية الشريفة على مشروعية تعدد الزوجات و الوجه في التعبير ب مثنى و ثلاث و رباع.

(السادس): الوجه في تخصيص حرمة أكل مال اليتامى مع اموال الأولياء.

274 (السابع): تدل الآية الكريمة على ان النكاح ليس من المعاوضة.

(الثامن): تدل الآية المباركة على كثرة المعاشرة مع اليتامى.

(التاسع): تدل الآية الكريمة على كيفية المقاولة مع اليتامى.

(العاشر): تدل الآية الشريفة على التهويل و اهمية ما تقدم من الاحكام.

274 بحث روائي يتعلق بالآية المباركة.

288 بحث قرآني و فيه ان للآيات الشريفة القرآنية اثار وضعية و خواص معلومة.

290 بحث فقهي و فيه ما يستفاد من الآية

ص: 425

الشريفة احكام.

292 بحث فلسفي يتعلق بالتزاوج بين المادة الفاعلية و المادة المنفعلة.

بحث اجتماعي يتعلق بتعدد الزوجات 294 ما أشكل على تعدد الزوجات و الجواب عنه.

298 نظر الإسلام في تشريع تعدد الزوجات 299 تعدد ازواج النبي.

300 بحوث عرفانية تتعلق بالآيات الشريفة.

302 [سورة النساء 7-10] الآيات الشريفة تتضمن احكام الإرث التي هي من أهم الاحكام الاجتماعية.

303 النصيب و معناه.

304 الوجه في الإظهار في موقع الإضمار.

306 في ان الآية المباركة ليست منسوخة.

الخشية و معناها.

307 الآية الكريمة تبين غاية الرحمة و الرأفة 308 السديد و معناه.

الآية المباركة تدل على الإثم العظيم للذين يأكلون اموال اليتامى.

بحوث المقام:

311 بحث ادبي يتعلق بالآيات الشريفة.

312 بحث دلالي و فيه ان الآيات المباركة تدل على امور:

(الاول): تدل الآية الكريمة على اصل من اصول التوارث.

313 (الثاني): تدل الآية الشريفة على اشتراك النساء مع الرجال في الإرث.

(الثالث): عموم الآية المباركة يشمل جميع افراد الإنسان حتى النبي (صلى اللّه عليه و آله).

314 (الرابع): تدل الآية الشريفة على حكم ادبي.

(الخامس): تدل الآية الكريمة على ان النصيب يدخل في ملك الوارث (السادس): اطلاق الآية الكريمة يشمل جميع اقسام الأقرباء.

(السابع): تدل الآية المباركة ارتباط الحوادث الخارجية مع الأعمال 315 (الثامن): يمكن ان تكون الآية الشريفة اشارة الى كيفية المعاشرة مع اولياء اللّه تعالى.

(التاسع): تدل الآية الشريفة على تجسم الأعمال.

316 بحث روائي يتعلق بالآيات الشريفة.

ص: 426

319 بحث فقهي و فيه يستفاد من الآيات المباركة احكام شرعية.

[سورة النساء: 11-14] الآيات المباركة في كيفية تقسيم الإرث و قد أبطل فيها الاحكام التي كانت سائدة في المجتمع الجاهل.

323 الوصية و معناها و المراد منها.

324 الوجه في تفضيل الذكر على غيره في الإرث.

في بيان سهم البنات و سهم البنت الواحدة.

326 سهم الأبوين مع الولد و بدونه.

حجاب الاخوة الام من الثلث الى السدس.

328 قاعدة: «ان الإرث انما يكون من اصل المال الذي تركه الميت إذا لم يوص بوصية أو لم يكن عليه دين».

وجه تقديم الوصية على الدين.

329 في تقديم الأقرب على غيره.

330 ارث من تقرب الى الميت بالنسب.

331 ارث الزوجة و ما يتصور فيها من الصور.

332 في ارث الأخ و الاخت.

334 المضارة و معناها.

بحوث المقام:

337 بحث دلالي و فيه ان الآيات الشريفة تدل على امور:

(الاول): ما تضمنت الآيات المباركة من الرموز التي تدل على اهمية الفرائض و احكام المواريث.

328 (الثاني): تدل الآية الشريفة ان السهام تخص بالأولاد الصلبي.

(الثالث): تدل الآية الكريمة على جهة فضل الفاضل و لم تتطرق الى جهة النقص في المفضول.

(الرابع): تدل الآية الكريمة على موجبات الإرث من النسبة و السبب.

339 (الخامس): يستفاد من التفصيل في سهام البنات انه لا يستغرق فرضهن التركة.

(السادس): يستفاد من الآية لا نصيب لذوي السهام في التركة قبل إخراج الدين و الوصية و الوجه في تقديمها على الدين.

(السابع): يستفاد من نسبة السهام الى التركة ان كل سهم منها يتعلق

ص: 427

بأصل التركة في عرض واحد.

340 (الثامن): تدل الآية المباركة ان القسمة الإلهية تبتني على مصالح واقعية.

بحث روائي يتعلق بالآيات المباركة 345 بحث فقهي يستفاد من الآيات الشريفة احكام مهمة تعتبر كليات باب الفرائض.

341 قاعدة تفضيل الذكر على الأنثى.

348 قاعدة تقريب الأقرب و تقدمه.

349 قاعدة الحجب.

قاعدة العول و التعصيب.

350 ان الأولاد يقومون مقام آبائهم.

351 الزوج يشمل المعقود عليها و ان لم يحصل الدخول كما يشمل المطلقة الرجعية.

352 بحث فلسفي في ان الوراثة على اقسام.

354 بحث اجتماعي و فيه ان الإرث من من الأمور الاجتماعية.

بداية الإرث و تحوله.

355 تطور الإرث و تقسيمه.

356 مقارنة الإرث في الأمم المتمدنة.

358 الإرث في الإسلام.

360 الإرث في الأمم المعاصرة.

[سورة النساء 15-16] الآيات تتضمن حكما اجتماعيا يتعلق بالاجتماع و الإفراد.

363 الفاحشة و معناها.

المحتملات الواردة في المراد من الفاحشة المذكورة في الآيتين الكريمتين.

367 الاستشهاد لا يختص بالزنا.

368 في عقاب المقترفة للفاحشة.

369 في بيان حكم الرجال لو ارتكبوا الفاحشة.

بحوث المقام:

370 بحث ادبي يتعلق بالآية الكريمة.

بحث دلالي و فيه تدل الآيتان الشريفتان على امور:

(الاول): يستفاد من الآية المباركة حرمة جميع اقسام الفاحشة و لا وجه لاختصاصها ببعض اقسام الفاحشة.

(الثالث): تدل الآية الشريفة على الحيلولة بينهن و بين الفاحشة.

373 (الثالث): يمكن ان تكون الآية الشريفة اشارة الى عادة جاهلية.

ص: 428

(الرابع): تدل الآية الكريمة على ان الفعل الذي صدر عنهن كان بالاختيار.

(الخامس): تدل الآية المباركة على ان الحكم مغيى.

(السادس): تدل الآية الشريفة على ان التوبة و الإصلاح مسقطان للحد.

374 بحث روائي يتعلق بالآية الكريمة.

375 بحث عرفاني يتعلق بالآية الشريفة.

[سورة النساء 17-18] 377 تبين هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة التوبة و شرائطها و ترغب العاصين إليها.

378 مادة توب و معناها في ان توبة العبد محفوفة بتوبتين.

379 في بيان ان التوبة على اللّه تعالى ثابتة الآية الكريمة تشمل جميع اقسام التوبة.

380 المراد من الجهالة و هل هي احترازي أو توضيحي ؟.

381 في بيان أقسام الحالة التي بين الموت و عمل السيئة.

383 القريب و معناه.

ما يتعلق باسم الإشارة الواردة في الآية الكريمة.

384 في بيان الأشخاص الذين لا تقبل توبتهم.

بحوث المقام:

بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

386 (الاول): تدل الآية الكريمة ان التوبة من مظاهر ربوبيته العظمى و من شؤونه عز و جل.

387 (الثاني): تدل الآية المباركة على فضل التوبة و انها من مظاهر رحمته تعالى.

388 في بيان آثار التوبة:

(الثالث): تدل الآية الكريمة ان التوبة امر اختياري.

389 (الرابع): تدل الآية الشريفة ان كل ذنب يصدر من جهالة قابل للعفو و الغفران.

(الخامس): تدل الآية الكريمة على المبادرة الى التوبة.

390 (السادس): تدل الآية المباركة على قبول توبة المذنبين.

ص: 429

(السابع): ما يتعلق بالآية الشريفة «حَتّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ اَلْمَوْتُ » .

(الثامن): اطلاق الآية المباركة يشمل التوبة من الشرك.

(التاسع): يستفاد من الآية الكريمة ان التوبة تتحقق لو استغفر الأحياء للعاصين بعد مماتهم.

391 بحث روائي يتعلق بالآية المباركة.

393 بحث عرفاني و فيه ارتباط الإنسان مع خالقه.

[سورة النساء 19-21] الآيات المباركة تشمل على احكام اجتماعية تهم المجتمع الاسلامي.

396 الآية المباركة تردع عن العادة السائدة في الجاهلية.

397 الآية الشريفة تؤكد النهي عن منع المرأة حقوقها و عضلها عنها.

العضل و معناه و اقسامه.

398 استثناء عن ما تقدم في الآية المباركة.

بيان اصل من الأصول الحياة السعيدة، 399 الآية المباركة تبين حكم الاستمرار في الحياة الزوجية.

400 في ان للخير مظاهر كثيرة.

الوجه في اسناد الكراهة الى الزوجات.

401 معنى الاستبدال الوارد في الآية الشريفة.

402 البهتان و معناه في الآية الكريمة.

403 الميثاق و معناه.

بحث دلالي و فيه يستفاد من الآيات الشريفة امور:

404 (الاول): تدل الآية الشريفة ان الناس في عصر نزول القرآن كانوا يعتبرون النساء بمنزلة المتاع.

(الثاني): تدل الآية الكريمة على حرمة التضييق على النساء.

(الثالث): يستفاد من الآية المباركة ان الفاحشة التي توجب العضل لا بد و ان تكون معلومة و ثابتة.

405 (الرابع): تدل الآية الكريمة على ان ما يجهله الإنسان اكثر مما يعلمه.

(الخامس): يستفاد من الآية المباركة حرمة الأخذ من صداق النساء الا بطيب انفسهن.

(السادس): تدل الآية الشريفة على اهمية الاسرة و لا بد من تشكيلها بعد الانفصام.

ص: 430

(السابع): يستفاد من الآية الكريمة الأسلوب البليغ في إرجاع الإنسان الى ضميره و تحكيمه.

406 (الثامن): تدل الآية المباركة على ان لا تحديد للمهر.

(التاسع): تدل الآية الشريفة على ان المرأة هي التي تأخذ الميثاق و الوجه في ذلك.

407 بحث روائي يتعلق بالآية الكريمة.

وافقت وزارة الأعلام على طبعه رقم الإجازة 339 تاريخها 1989/2/21 رقم الايداع في المكتبة الوطنية بغداد 989 لسنة 1989 سعر النسخة 7 دنانير/عدد النسخ المطبوعة 2000 مطبعة الآداب - النجف الأشرف - حي عدن

ص: 431

المجلد 8

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً .......

اشارة

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) الآيات الشريفة تبيّن حكما آخر - من الأحكام الاجتماعيّة - الذي له الأهميّة العظمى في الأديان الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام، و تحدّد مسئولية الفرد تجاه التزاوج و النسل، و تبيّن النكاح المحلّل الصحيح عن النكاح المحرّم الفاسد؛ تهذيبا للشهوة العارمة و جعلها في المسار الصحيح، لئلاّ تتولّد الفاحشة - بعد ما أذن الشرع المبين في نكاح ما طاب من النساء، فكان لا بد من بيان جوانب موضوع هذا الحكم المهم.

و قد حدّدت الآيات المباركة ما يحرم من النكاح من النساء بعد بيان كيفيّة المعاشرة مع الأزواج في الآية السابقة.

ص: 5

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ .

مادة (نكح) تدلّ على الانضمام و الاختلاط، يقال: نكح المطر الأرض. إذا اختلط بثراها، و تناكحت الأشجار إذا انضمّ بعضها مع بعض، و تطلق على العقد باعتبار كونه سببا لاختلاط أحد الزوجين مع الآخر بالوجه الشرعي، كما تطلق على ما وراء العقد و ما يقصد به، باعتبار كونه من لوازم الانضمام و الاختلاط، الظاهري، أو على مسبّبه الواقعي و هو الوطء، فالحقيقة واحدة و الاختلاف بالاعتبار، و قد استعمل في كلّ منهما،

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ولدت من نكاح لا من سفاح»، أي: من وطء حلال لا حرام،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «يحلّ للرجل من امرأته الحائض كلّ شيء إلاّ النكاح»، و قال الأعشى:

فلا تقربن جارة إن سرها *** عليك حرام فانكحن أو تأبدا

أي: العقد. و بعد ذلك لا وجه للنزاع في كون هذا اللفظ حقيقة في العقد أو الوطء، فإنّه استعمل في المعنى الجامع، و هما من مظاهر ذلك. و النكاح في الشرع علقة الزواج، و سببها هو العقد المبيح للوطء.

و كيف كان، فالمراد من النكاح المنهي عنه في الآية الشريفة، ما ضمّه الأب إليه من النساء بالعقد أو الوطء، فيشمل المعقود عليها بالعقد الصحيح، و الموطوءة بالملك، و الموطوءة بالسفاح، و يدلّ على ذلك الإجماع و الأخبار المستفيضة.

و «ما» في قوله تعالى: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ موصولة واقعة على النوع أو القسم، أي: لا تنكحوا مصاديق هذا النوع أو القسم، نظير قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [سورة النساء، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [سورة النساء، الآية: 24]، و قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 3].

ص: 6

و «ما» في قوله تعالى: ما نَكَحَ آباؤُكُمْ موصولة واقعة على النوع أو القسم، أي: لا تنكحوا مصاديق هذا النوع أو القسم، نظير قوله تعالى: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [سورة النساء، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ [سورة النساء، الآية: 24]، و قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 3].

و قيل: إن «ما» مصدرية، أي: لا تنكحوا مثل نكاح آبائكم.

و لكنّه خلاف ظاهر الآية المباركة، إلاّ أن يراد منها المفعول به من المصدر، أي: منكوحات ءابائكم. و هو و إن كان صحيحا، لكنّه تطويل بلا طائل تحته.

و المراد بالآباء: كلّ من صدق عليه الأب من ناحية الأب أو الام، فيدخل فيه أجداد الأب و أجداد الام و إن علوا. و يدلّ عليه ظاهر اللفظ و بعض الأخبار.

قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ .

أي: إلاّ ما وقع من هذه العلقة في السلف - يعني: في الجاهلية - قبل ورود النهي، فانقضت بموت أو طلاق، فلا يتناول ما يتجدّد في المستقبل.

و قد قيل في هذا الاستثناء وجوه، و يمكن أن يكون (إلا) بمعنى (غير) صفة للموصول، أو لعلقة النكاح المدلول عليها بالنهي.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على المبالغة في النهي و الشدّة في التنزّه عن هذه الفاحشة، و سدّ باب إباحتها حدوثا و بقاء.

قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً .

تقدّم معنى الفاحشة. و المقت: البغض، أي: أن نكاح حلائل الآباء من الفاحشة التي حكمت الفطرة بقبحها، و أنّها مبغوضة عند أرباب العقول و ذوي المروءات.

قوله تعالى: وَ ساءَ سَبِيلاً .

أي: بئس السبيل و الطريق في النكاح الذي يقيم النسل و يجلب السعادة، و قد ذمّ تعالى هذا السبيل مبالغة في ذمّ سالكه، فلا بد من اتباع السبيل الذي حدّده عزّ و جلّ ، و البعد عمّا نهى عنه.

ص: 7

و قد تتابع الذمّ على هذا الفعل الشنيع؛ لبيان أنّه بلغ الغاية في القبح؛ و لذا أفرد عزّ و جلّ هذا النكاح بالذكر عن غيره من الأفراد التي سيذكرها.

قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ .

بيان لأنواع المحرّمات النسبيّة في النكاح، لحكمة متعالية و علّة ثابتة واقعيّة.

و قد ذكر عزّ و جلّ أنواعا ثلاثة، و هي: المحرّمات النسبيّة، و المحرّمات بالمصاهرة، و المحرّمات بالرضاع. و لكلّ نوع أصناف متعدّدة، و هذه الآية الشريفة جمعت تلك الأصناف بأسلوب لطيف و بيان واضح.

و الآية الكريمة تشتمل على المجاز العقلي، فإنها نسبت الحرمة إلى الذوات كالأمهات و البنات و غيرهن، و المراد بها حرمة نكاحهن، الأعمّ من إيجاد علقة النكاح بالعقد المقصود به ذلك، و الوطء لمناسبة الحكم و الموضوع، فإنّها من القرائن التي يعتمد عليها المتعارف في المحاورات.

و للمقام نظائر كثيرة في القرآن الكريم، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ [سورة المائدة، الآية: 3]، فإن المراد حرمة الأكل، و قال تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة، الآية: 26]، أي: سكنى الأرض و نحو ذلك.

و الخطاب و إن كان متوجّها إلى الرجال، لكنّه يشمل النساء، فيحرم عليهن آباؤهن و أبناؤهن و غير ذلك؛ للملازمة بينهما؛ و لأنّ الخطبة و الطلب إنّما يكون من الرجال عادة دون النساء.

و العموم في الموضعين في قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ انبساطي بالنسبة إلى الأفراد، أي: كلّ فرد يحرم عليه نكاح امه و بنته و أخته.

ص: 8

ثمّ إنّه ذكر سبحانه و تعالى في الآية الشريفة المحرّمات النسبيّة في أصناف:

الأول: الأمهات. و الام هي كلّ امرأة ولدتك بلا واسطة، أو بواسطة الأب أو الام، كالجدّات من طرف الأب أو من طرف الام.

الثاني: البنات، و البنت هي كلّ امرأة ترجع نسبها إليك بلا واسطة أو معها، ذكرا أو أنثى. و بعبارة أخرى، كلّ أنثى ولّدتها أو ولدت ممّن ولدتها.

و هاتان الطائفتان هما الأصول و الفروع بالنسبة إلى الرجل. و قد أثبت علماء الطبيعة و مهرة خواص الآثار أن اتصال الفروع بالأصول أو بالعكس، يوجب حدوث مفاسد و مضار، و لهم في ذلك أدلّة و شواهد في النباتات و الحيوانات، و نسبوا بعضها إلى فلاسفة اليونان و غيرهم، و تحريم الام على الابن.

و البنت على أبيها، أو الاخت على الأخ، داخل في ما ذكروه، و لعلّ العلوم الطبيعيّة الحديثة تكشف النقاب عن بعض الآثار في القرون الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و العموم يشمل البنت المولودة بالوجه الشرعيّ و البنت المولودة من الزنا؛ لصدق البنت عليها،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الولد للفراش و للعاهر الحجر» في مقام بيان نفي آثار النسب الشرعيّ و فوائده عند الشكّ و التردّد، لا نفي الحقيقة و جميع الآثار المترتّبة على النسب.

الثالث: الأخوات. و الاخت هي كلّ أنثى ولدها شخص ولدك بلا واسطة، و العموم يشمل الاخت من الأبوين - و هي الشقيقة - و من الأب فقط أو من الام كذلك.

الرابع: العمّات. و العمّة كلّ أنثى هي اخت لذكر تنسب إليه بالولادة منه بواسطة أو بلا واسطة، بلا فرق بين أن تكون من جهة الأب أو الام أو منهما.

الخامس: الخالات. و الخالة كلّ أنثى هي اخت لانثى تنسب إليها بالولادة منها، فهي تقابل العمّة، فتدخل فيها خالة الأب أو خالة الام و هكذا. و التحريم في العمّة و الخالة يختصّ بهما أنفسهما دون بناتهما.

ص: 9

السادس: بنات الأخ، أي: و يحرم على الرجل نكاح بنات أخيه، سواء كن شقيقات أم من الأب فقط أم لام، و كذلك فروعهن.

السابع: بنات الاخت، سواء أ كانت أختا شقيقة أم من الأب أم الام، و كذا فروعهن.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الأخ و الاخت مفردا إما لإرادة الجنس، أو لإضافة الجمع (بنات) إليهما.

و كيف كان، فهذه أصناف سبعة من النساء نسبية تحرم مؤبدا على الرجل، بعضهن اصول الرجل، و أخرى فرعه، و ثالثة من الحواشي القريبة، و رابعة من الحواشي البعيدة، و للفقهاء في ضبط المحرّمات النسبيّة عبارات متفاوتة، و في المقام فروع كثيرة من أراد الاطلاع عليها يراجع كتب الفقه، و قد ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام في بيان الحلال و الحرام).

قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ .

هذا هو النوع الثاني، و هي المحرّمات بالرضاعة، و إنّما ذكر سبحانه و تعالى صنفين، و هما الام و البنت، للدلالة على أن الحال في الرضاع كالحال في النسب، و يدلّ عليه

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، و هو يدلّ على أن الرضاعة من الروابط النسبيّة بحسب التشريع، فيحرم كلّ عنوان رضاعي إذا كان مثل العنوان النسبيّ كالام و البنت و الاخت و الخالة و غير ذلك.

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على ترتّب الحكم على مسمّى الرضاعة كيف اتفق، و لكن السنّة الشريفة ذكرت لها شروطا، فلا يمكن الأخذ بالإطلاق مع وجود القيد.

و الرضاعة: - بفتح الراء - مصدر رضع، و مثله الرضاعة بالكسر و الرضاع، و الرضع كالكتف، و المرضع هي المرأة التي يكون لها ولد ترضعه،

ص: 10

و المرضعة إذا وصفت بإرضاع الولد، و الرضاع مصّ الثدي بالشروط المعروفة في كتب الفقه، و قد ذكرناها في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

و جملة: وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ صفة مبيّنة لجهة التسمية بالأم، فيدور الإطلاق و شمول الحكم مدار هذه التسمية و تحقّق عنوان الام، و لا تتأتى هذه لو كانت العبارة على غير النحو المذكور في القرآن الكريم.

و المراد من قوله تعالى: وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ ، أي: الأخوات التي تتحقّق بسبب ارضاعهن من لبن هذه المرضع مع وحدة الفحل.

و كيف كان، فكلّ عنوان محرم في النسب إذا تحقّق مثله بعينه من الرضاع يكون محرما، سواء كان بسيطا، كعنوان الام و الاخت أم مركبا، كعنوان بنات الأخ و نحوها من العناوين النسبيّة المذكورة في الآية الشريفة، فلا فرق بين أن يكون كلا طرفي الإضافة من الرضاعة، كالبنت الرضاعيّة للأخ الرضاعيّ ، أو كان أحد العنوانين نسبيّا و الآخر رضاعيّا، و التفصيل يطلب من كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ .

بيان للنوع الثالث، و هو المحرّمات بالمصاهرة. و الأمهات جمع أمهة، يقال:

أم و امهة بمعنى واحد. و قد ورد كلاهما في القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ اَلْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ [سورة الزخرف، الآية: 4].

و قيل: إن الأصل أم أمهة على وزن فعّلة مثل قبّره، و قيل غير ذلك.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل ام المرأة التي يتزوّجها الرجل و جدّتها، سواء دخل بالمرأة أم لم يدخل، و يدلّ عليه أيضا التقييد الآتي في قوله تعالى:

مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

كما أنّه يستفاد من إطلاق (نسائكم) ما يشمل المرأة المعقود عليها بالعقد الدائم أو بالعقد المنقطع، أو من يدخل بها الرجل بملك اليمين.

ص: 11

قوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

الربائب: جمع ربيبة من التربية، فعيل بمعنى مفعول يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و لكن لما الحق بالأسماء الجامدة جاز لحوق التاء له، و هذا هو معنى قول النحاة و الصرفيين: إن التاء للنقل إلى الاسميّة.

و الربيب ابن الزوجة من غير الزوج، و الربيبة بنت امرأة الرجل من غيره، و سمّيت بذلك لأنّها في معرض تربية الزوج غالبا، و إن لم يكن كذلك دائما.

و الحجور: جمع حجر بالفتح أو بالكسر، و هو حضن الإنسان، و استعمل في مطلق الكنف و المنعة، يقال: فلان في حجر فلان، أي: كنفه و منعته و ستره، و هذا القيد لبيان الحكمة في تشريع الحكم لا العليّة، و قد اتفق الجميع على أن الحكمة في التشريعات لا كليّة فيها، و للإشارة إلى شدّة العلقة، و أنّ التربية في غاية القرب، فتكون مشاركة لسائر القريبات و بحكم الولد، فلا يكون القيد حقيقيا احترازيا، بل جرى مجرى الغالب، فالتحريم يشمل الربيبة - سواء كانت في حجر الرجل أم لا - إذا تزوّج الرجل بأمها و دخل بها، كما هو في الآية الشريفة نفيا و إثباتا.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ .

أي: و إن لم يتحقّق منكم الدخول بأم الربيبة فلا جناح عليكم في التزويج بها، و يستفاد من الآية المباركة أنّ الدخول شرط في تحريم الربيبة على الزوج، و إلا فلا بأس بالنكاح و لو تحقّق التربية في الحجور.

قوله تعالى: وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ .

الحلائل: جمع الحليلة، و هي الزوجة، قيل: إنّه مشتق من الحلال، فهي حليلة بمعنى محلّلة، و الزوج حليل و جمعه أحلة، كعزير و أعزّة، و قيل: هو من الحلول؛ لأنّها تحلّ مع الزوج حيث حلّ ، فتكون فعيلة بمعنى فاعلة.

ص: 12

و كيف كان، فالتاء فيها لاجرائها مجرى الواحد.

و المراد من الأبناء كلّ من انتسب بالإنسان بولادة، سواء كان مباشرة من دون واسطة، أم معها، كابن الابن و ابن البنت، و هم الذين يسمّون بأولاد الصلب مقابل ولد التبنّي الذي كان شائعا في عصر نزول القرآن الكريم، فكانوا يعاملون مع الولد الدعي معاملة ولدهم الحقيقي في كلّ ما يترتّب على النسب من الآثار، كالخلطة، و الخلوة، و عدم الحجاب و نحو ذلك، و قد أبطل الإسلام هذه العادة، و ما كان تزويج الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بزوجة زيد بن حارثة، إلا لأجل إبطال ما كان معروفا من التبني، قال تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً [سورة الأحزاب، الآية:

37].

و هذا القيد: مِنْ أَصْلابِكُمْ لا مفهوم له يثبت الحكم لحليلة الابن من الرضاع على الأب أيضا؛ لأنّه يلحق بالولد الرضاعيّ ؛ لما تقدّم من أنّه

«يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»، فتحرم حليلة الابن من الرضاع كما تحرم حليلة الابن للصلب على الأب.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ .

بيان لنوع آخر من الأنواع المحرّمة، و هو المحرّم بسبب عارض، و هو الجمع بين الأختين، سواء كان بالعقد أم بملك اليمين - على ما يأتي من التفصيل - أم بالاختلاف. فإن جمع بينهما بعقدين مترتّبين، يكون السابق صحيحا و اللاحق باطلا، و إن جمع بينهما في عقد واحد يبطلان معا.

و قيل: هو مخيّر في إمساك أيتهما شاء، و يدلّ على ذلك جملة من الروايات.

و المنساق من الآية الشريفة حرمة الجمع بينهما في النكاح في زمان واحد، فلو زال هذا الوصف فلا بأس به، كما إذا نكح الرجل إحدى الأختين ثم فارقها بالطلاق أو الموت، فتزوّج الاخت الاخرى.

و في المقام فروع كثيرة مذكورة في كتب الفقه، فراجع (مهذب الأحكام).

ص: 13

قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ .

أي: حرّم ذلك عليكم إلا ما وقع منكم في الجاهلية و زال موضوعه، فإنّه مغفور لكم و معفوّ عنكم، و نظير هذا ما تقدّم في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، و رفع الحكم لا يستلزم رفع الآثار المترتّبة عليه، فتثبت القرابة الشرعيّة و التوارث بين القرابة المتولّدين من الجمع بين الأختين في الجاهلية.

و قيل: إنّه يمكن إرجاع هذه الجملة إلى جميع ما ورد في الآية المباركة، من غير اختصاص بالفقرة الأخيرة، فيأتي فيها ما ذكرناه آنفا، و لكنّه بعيد من ظاهر الآية الشريفة. و إن كان يناسبه ذيل الآية الشريفة من سعة عفوه و غفرانه.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .

تعليل لما ذكر في المستثنى و المستثنى منه، أي: أنّ اللّه تعالى غفور لما وقع منكم في الجاهلية، و الإطلاق يشمل آثار الذنب و المعاصي.

أي: أنّ اللّه تعالى غفور لما وقع منكم في الجاهلية، رحيم بعباده، يشرّع الأحكام لأجل سعادتكم و تكميل نفوسكم، فهو رحيم بعباده؛ لأنّه أرشدهم إلى ما هو الأصلح لهم في معاشهم و معادهم.

و قد اتفق الفلاسفة المتألّهون و غيرهم على أن كلّما ينزل من السماء من الوحي المبين، له علل و مصالح واقعيّة، ربّما لا يدرك العقل تلك المصالح و العلل مهما بلغ شأنه، فجميع ما ذكره عزّ و جلّ في الآية المباركة في حرمة تلك الطوائف و الأفراد ذات مصلحة واقعيّة تكوينيّة، لا سيما في تنظيم الاسرة، و تهذيب السلوك و التخلّق بمكارم الأخلاق، و بعث روح الاحترام و التقدير في النفوس بالنسبة إلى الآخرين، و نزع روح الانتقام و البغضاء منها، إلى غير ذلك من المصالح التي قد لا يدركها العقل إلا بعد قرون عديدة.

ص: 14

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً ، على أنّ النكاح المحرّم ممّا يوجب الدخول في الفحشاء، و يزيد الجرأة على ارتكاب المآثم، و أنّه السبيل الذي لا يهدى إلى الكمال المنشود في تكوين الاسرة و الاجتماع، و يستلزم بعث روح الانتقام و البغضاء في النفوس.

و بالجملة: أنّ النكاح المحرّم يؤثّر في النفوس و الأعقاب، و يوجب استيلاء مادة الفساد و روح الانتقام و البغضاء، و الاستهانة بالحقائق و المقدّسات، و الدخول في مسالك و سبل لا توصل الإنسان إلى الكمال.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ ، رفع الحكم الوضعيّ و التكليفيّ معا بالنسبة إلى ما وقع قبل تشريع الحكم، أي: أنّ هذا النكاح الذي حرّمه اللّه تعالى جار من حين إنشاء الحكم، لا أن يعمّ ما قبله، فلا حرمة له في ما سبق و لا أثر له من ذنب و غيره، و لكن هذا لا يدلّ على أنّ النكاح الموجود حين التشريع مباح لهم، فإنّ التشريع قد حرّمه بقاء، فتجب المفارقة فورا.

و على هذا، فلا معنى للنزاع في ان الاستثناء في الآية الشريفة منقطع أو متصل.

الثالث: قال بعض العلماء: إنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ الحكمة في تشريع الأحكام في هذه الآية، و هي الاختلاط و شدّة المصاحبة و المعاشرة بين هذه الأصناف من النساء المذكورات في الآية المباركة و بين الرجل، بحيث يعدّ أحدهما من الآخر، و في هذه الحالة لا وجه للنكاح.

ص: 15

و هو و إن كان حسنا ثبوتا، و لكن لا كليّة فيه إثباتا، بل إن ذيل الآية الكريمة: فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ ينافي ما ذكره من التعليل.

بحث روائي

في تفسير العياشي في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ عن الباقر عليه السّلام: «لا يصلح للرجل أن ينكح امرأة جدّه».

أقول: التعبير ب (لا يصلح) لا ينافي الحرمة، لاستعماله كثيرا في الأعمّ .

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن عكرمة في قوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، قال: «نزلت في أبي قيس بن الاسلت خلف على ام عبيد بنت ضمرة كانت تحت الاسلت أبيه، و في الأسود بن خلف، و كان خلف على بنت أبي طلحة بن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار، و كانت عند أبيه خلف، و في فاختة ابنة الأسود بن المطلب بن أسد، كانت عند امية بن خلف، فخلف عليها صفوان بن امية، و في منظور بن رباب، و كان خلف على مليكة ابنة خارجة و كانت عند أبيه رباب بن سيار».

و فيه - أيضا -: أخرج ابن سعد عن محمد بن كعب القرظي قال: «كان الرجل إذا توفّى عن امرأة كان ابنه أحقّ بها أن ينكحها إن شاء، إن لم تكن أمّه، أو ينكحها من شاء، فلمّا مات أبو قيس بن الاسلت قام ابنه محصن فورث نكاح امرأته و لم ينفق عليها و لم يورثها من المال شيئا، فأتت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذكرت ذلك له، فقال: ارجعي لعلّ اللّه ينزل فيك شيئا، فنزلت: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، و نزلت: لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا اَلنِّساءَ كَرْهاً .

و فيه: أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن عباس قال: «كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما حرّم اللّه إلا امرأة الأب، و الجمع بين الأختين، فأنزل اللّه:

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ ، و قوله تعالى: وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ .

ص: 16

أقول: في مضمون ذلك أخبار اخرى، و لا منافاة بينها بعد إمكان تعدّد منشأ النزول.

و في كتب الأحاديث و الفقه

عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إن اللّه حرّم من الرضاعة ما حرّم من النسب»،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الرضاع لحمة كلحمة النسب».

أقول: الحديثان معروفان عند الإماميّة و الجمهور، و مذكوران في كتب الحديث و الفقه.

و في الدرّ المنثور: أخرج مالك و عبد الرزاق عن عائشة، قالت: «كان في ما انزل من القرآن عشر رضعات معلومات، فنسخن بخمس معلومات، فتوفّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هن في ما يقرأ من القرآن».

أقول: الرواية تدلّ على التحريف، فهي مطروحة. و أما نشر الحرمة بالرضاع فله شروط مذكورة في الفقه، و قد تعرّضنا لها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و في الفقيه و التهذيب: عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «إذا تزوّج الرجل المرأة حرمت عليه ابنتها إذا دخل بالأم، فإذا لم يدخل بالأم فلا بأس أن يتزوّج بالابنة، و إذا تزوّج الابنة فدخل بها أو لم يدخل بها فقد حرمت عليه الام،

و قال عليه السّلام: الربائب حرام، كن في الحجر أو لم يكن».

و في الاستبصار: عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن الرجل تكون له الجارية فيصيب منها، أله أن ينكح ابنتها؟ قال عليه السّلام: لا، هي كما قال اللّه تعالى: وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ .

أقول: الروايات في هذا المعنى متضافرة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام بل يعتبر ذلك من مذهبهم، و قد ذكرنا جملة منها في كتابنا (مهذب الأحكام)، و هي

ص: 17

صريحة في اشتراط الدخول بالأم في حرمة البنت و عدم اشتراط الحجور أيضا.

و لكن، في بعض الروايات التي رواها أهل السنّة و الجماعة عن علي عليه السّلام أنّه اشترط الحجور في حرمة البنت.

و لكنّه مردود بما علمت، و مخالف لما هو المستفاد من الآية الشريفة.

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد الرزاق، و عبد الحميد، و ابن جرير و ابن المنذر، و البيهقي في سننه من طريقين، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «إذا نكح الرجل المرأة فلا يحل له أن يتزوّج أمها، دخل بالابنة أو لم يدخل، و إذا تزوّج الام فلم يدخل بها ثم طلّقها، فإن شاء تزوّج الابنة».

أقول: في مضمون ذلك روايات متعدّدة.

و في الاستبصار: عن جعفر، عن أبيه: «أن عليّا عليه السّلام كان يقول: الربائب عليكم حرام مع الأمهات اللاتي دخلتم بهن، في الحجور و غير الحجور سواء، و الأمهات دخل بالبنات أم لم يدخل، فحرّموا و أبهموا ما أبهم اللّه».

أقول: صدر الحديث موافق لما هو المأثور عن الأئمة عليهم السّلام، و المعروف من مذهبهم كما تقدّم. و أما

ذيل الحديث: «و الأمهات مبهمات»، أي: أمهات نسائكم مطلقات غير مقيدة بالدخول بالبنت، فهن محرّمات سواء دخل بالبنات أم لا.

و في الكافي: عن منصور بن حازم قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فأتاه رجل فسأله عن رجل تزوّج امرأة فماتت قبل أن يدخل بها أ يتزوّج بأمها؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: قد فعله رجل منا فلم ير به بأسا، فقلت: جعلت فداك ما تفتخر الشيعة إلا بقضاء علي عليه السّلام في هذا الشمخية التي أفتاه ابن مسعود أنّه لا بأس بذلك، ثمّ أتى عليّا عليه السّلام فسأله.

فقال له علي عليه السّلام: من أين أخذ بها؟ فقال: من قول اللّه عزّ و جلّ :

وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ، فقال علي عليه السّلام: إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما تسمع ما يروى هذا عن علي عليه السّلام ؟ فلما قمت ندمت و قلت: أي شيء صنعت ؟ يقول: قد فعله رجل منّا و لم ير به بأسا و أقول أنا:

ص: 18

وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ ، فقال علي عليه السّلام: إن هذه مستثناة و هذه مرسلة، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أما تسمع ما يروى هذا عن علي عليه السّلام ؟ فلما قمت ندمت و قلت: أي شيء صنعت ؟ يقول: قد فعله رجل منّا و لم ير به بأسا و أقول أنا:

قضى عليّ فيها! فلقيته بعد ذلك و قلت: جعلت فداك، مسألة الرجل إنّما كان الذي قلت كان زلّة مني فما تقول فيها، فقال: يا شيخ، تخبرني أن عليّا عليه السّلام قضى فيها و تسألني ما تقول فيها؟!».

أقول: الظاهر من قوله عليه السّلام: «رجل منا»، أي: ابن مسعود كما يأتي في ما رواه الدرّ المنثور، و أما قضاء علي عليه السّلام كان في حرمة ام الزوجة مطلقا، فلا محالة لا بد من حمل الرواية على التقية، فلا يصحّ التمسّك بالرواية مقابل ظاهر الآية الشريفة و الروايات المستفيضة و إجماع الفقهاء الدالّة على حرمة ام الزوجة مطلقا.

و في الدرّ المنثور عن البيهقي في سننه: «أن رجلا من بني شمخ تزوّج امرأة و لم يدخل بها، ثمّ رأى أمها فأعجبته، فاستفتى ابن مسعود فأمره أن يفارقها ثم يتزوّج أمها ففعل و ولدت له أولادا، ثمّ أتى ابن مسعود المدينة فقيل له: لا تصلح، فلما رجع إلى الكوفة فقال للرجل: إنّها عليك حرام ففارقها».

أقول: حكم الجواز لم يصدر عن معصوم، فلا يمكن الاعتماد على هذه الرواية.

و فيه أيضا عن علي عليه السّلام: «إنّ ام الزوجة لا بأس بنكاحها قبل الدخول بالبنت، و إنّها بمنزلة الربيبة، إذا لم تكن في حجر زوج أمها لم تحرم عليه نكاحها».

أقول: هذه الرواية مخالفة المذهب أهل البيت و المأثور عنهم عليهم السّلام كما عرفت.

و في التهذيب: عن عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إذا كانت عند الإنسان الأختان المملوكتان، فنكح إحديهما ثمّ بدا له في الثانية، فليس ينبغي له أن ينكح الاخرى حتّى تخرج الاولى من ملكه، يهبها فإن وهبها لولده يجزيه».

ص: 19

أقول: الرواية تدلّ على حرمة الجمع بين الأختين في الوطء بالملك، و ما ورد في روايات اخرى من جواز الجمع بينهما في أصل الملكية، لا بد من طرحها أو حملها على عدم وطئهما أو إحداهما و غير ذلك.

و في تفسير العياشي: عن أبي عون قال: «سمعت أبا صالح الحنفي قال: قال علي عليه السّلام ذات يوم: سلوني، فقال ابن الكواء: أخبرني عن بنت الاخت من الرضاعة، و عن المملوكتين الأختين، فقال: إنّك لذاهب في التيه، سل عمّا يعنيك أو ينفعك، فقال ابن الكواء: إنّما نسألك عمّا لا نعلم، و أما ما نعلم فلا نسألك عنه، ثمّ قال: أما الأختان المملوكتان أحلّتهما آية و حرّمتهما آية، و لا أحلّه و لا أحرّمه، و لا افعله أنا و لا واحد من أهل بيتي».

أقول: هذا الحديث يفسّره ما ورد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في رواية عبد اللّه بن سنان المروية في التهذيب كما تقدّم، و يشهد لذلك

ما روى عن قبيصة بن ذؤيب:

«ان رجلا سأله عليه السّلام عن ذلك فقال: لو كان إليّ من الأمر شيء ثم وجدت أحدا فعل ذلك لجعلته نكالا»، فإنها ظاهرة في أن الجمع بين المملوكتين كان شائعا في عصر الأئمة عليهم السّلام، و لكنّه عليه السّلام لم يقدر على بيان الحكم الواقعي للتقية، و التفصيل مذكور في كتب الفقه فراجع.

و في التهذيب: عن معمر بن يحيى بن سالم قال: «سألنا أبا جعفر عليه السّلام عمّا يروي الناس عن أمير المؤمنين عليه السّلام عن أشياء لم يكن يأمر بها و لا ينهى إلا نفسه و ولده، فقلت: كيف يكون ذلك ؟ قال: قد أحلّتها آية و حرّمتها آية أخرى. فقلنا:

الأولى أن يكون إحديهما نسخت الاخرى، أم هما محكمتان ينبغي أن يعمل بهما؟ فقال: قد بيّن لهم إذ نهى نفسه و ولده، قلنا: ما منعه أن يبيّن ذلك للناس ؟ قال:

خشي أن لا يطاع، فلو أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام ثبت قدماه أقام كتاب اللّه و الحقّ كلّه».

أقول: ظهر وجه ما تقدّم من هذه الرواية.

ص: 20

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ .......

اشارة

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) بيان لمحرّم آخر ممّا حرّمه في النكاح التي شرّعها اللّه تعالى لتهذيب الشهوة العارمة، و تصحيح النسل و تحديده على ما ينبغي أن يكون عليه من الصلاح و الكمال، و قد فصّل عزّ و جلّ جملة منها في الآيات السابقة، و ذكر تعالى في هذه الآية الشريفة حرمة نكاح المحصنات المتزوّجات إلا الإماء المملوكات، فإنّ إحصانهن لا يمنع الزواج بهن بعد الاستبراء، ثم أحلّ اللّه تعالى ما رواء المذكورات حتّى التمتع بالنساء إذا كان المراد منه إحصان النفس و تهذيبها و ترويضها بعدم الوقوع في الفحشاء و ارتكاب الإثم، و لا بد من توفّر الشروط المطلوبة في المتعة، كالأجر و المدّة و غيرهما، و ذكر عزّ و جلّ أن جميع تلك الأحكام إنّما هي لمصالح الناس، و هو العليم بالمصالح الحكيم في أفعاله.

التفسير

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ .

عطف على ما سبق من المحرّمات. و المحصنات جمع المحصنة - بفتح الصاد و هي قراءة المشهور، بل قيل: إنّها على الكسر في غير هذا الموضع، و قال ابن الأعرابي: «كلّ أفعل اسم فاعله بالكسر إلا ثلاثة أحرف: أحصن، و ألفج إذا ذهب ماله، و أسهب إذا كثر كلامهم»، و هي اسم مفعول من أحصن، و قيل: يمكن أن تكون اسم فاعل باعتبار أنهنّ أحصنّ فروجهن عن غير أزواجهن، أو أحصنّ أزواجهن.

ص: 21

و كيف كان، فمادة (حصن) تدلّ على المنع و التمنّع، و منه الحصن و هو المكان المنيع الحمي، و حصّنت المرأة (بضم الصاد) حصانة و حصنا، بمعنى عفّت و منعت نفسها من الوقوع في الإثم و امتنعت من الفجور، قال تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ [سورة النساء، الآية: 25]، و منه الحصان لأنّه حصن بمائه فلم ينز إلا على كريمة.

و أحصنت المرأة إذا تزوّجت و منعت نفسها من غير الزوج، كما منعت الزوج من الوقوع في الحرام، فيقال لها: محصنة (بفتح الصاد)، و محصنة (بالكسر)، كما عرفت آنفا.

و قيل: إنّ كلّ امرأة عفيفة محصنة (بالفتح و الكسر)، و كلّ امرأة متزوّجة محصنة (بالفتح) لا غير.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثمانية عشر موضعا، و جميعها تدور حول ذلك المعنى الذي ذكرناه، اي: المنع و الامتناع، قال تعالى: وَ اَلَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها [سورة الأنبياء، الآية: 91] أي: عفت: و قال تعالى: قَلِيلاً مِمّا تُحْصِنُونَ [سورة يوسف، الآية: 48] أي: ممّا تحفظونه في الحصن و الأماكن المعدّة لحفظ الأغذية، و قال تعالى: مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ [سورة الحشر، الآية: 2]، و قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَرْمُونَ اَلْمُحْصَناتِ [ سورة النور، الآية: 23] أي: الحرائر، لأنّ الحرية تمنع الحرّة عن الفجور، بخلاف الإماء اللواتي كان الزنا فاشيا فيهن، و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ [سورة النساء، الآية 25] أي: الحرائر.

و المراد بالمحصنات في الآية الشريفة المتزوّجات من النساء مطلقا، من الحرائر و الإماء المسلمات و الكافرات.

و المعنى: و حرّمت عليكم النساء المزوّجات مطلقا، الحرائر و الإماء، و قيل:

في الآية المباركة وجوه اخرى لا يخفى بعدها.

ص: 22

قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ .

استثناء عن الحكم السابق في الإماء المندرجة تحت المحصنات. حرّمت عليكم المحصنات مطلقا إلا المحصنات اللاتي ملكتموهن، فإنّه يجوز لمولى الأمة المتزوّجة أن يحول بينها و بين زوجها ثم ينال منها بعد استبرائها، بلا فرق في هذه المملوكة بين المسبيّة و غيرها.

و قيل: إن هذه الآية الشريفة تختصّ بالإماء المسبيّات إذا كنّ ذوات ازواج من الكفّار، و استدلّوا عليه بما رواه مسلم في جامعه و أحمد عن أبي سعيد الخدري، و أخرجه في الدرّ المنثور أيضا من أن السبب في نزول الآية المباركة في سبي أوطاس حيث أصاب المسلمون نساء المشركين، و كانت لهن أزواج في دار الحرب، فلما نزلت نادى منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ألا لا توطأ الحبالى حتّى يضعن، و لا غير الحبالى حتّى يستبرئن».

و روي عن عليّ عليه السّلام في الآية أنّها نزلت: «في سبي من كان لها زوج».

و فيه: أن سبب النزول لا يصلح لتخصيص عموم الآية الشريفة، كما لا يخفى.

و قيل: إنّ المراد بالملك في قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ملك الاستمتاع، أي: و أحلّ لكم ما ملكتم نكاحها و ملكتم رقبتها من العفيفات.

و يرد عليه: أنّه مبني على أن يكون المراد من المحصنات العفائف دون المتزوّجات، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، مضافا إلى أنّ المنساق من جملة (ما ملكت ايمانكم) هو ملك الرقبة دون غيره.

قوله تعالى: كِتابَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

مصدر مؤكّد منصوب بفعل مقدر قريب من معنى فعله، أي: أن المحرّمات المذكورة هي فرض من اللّه تعالى، و قد كتبها عليكم فالزموها و ارعوا حدودها، فإنّها شرّعت لمصالحكم.

ص: 23

و قيل: إنّه منصوب ب «عليكم»، فإنّه اسم فعل.

و أورد عليه بأن اسم الفعل ضعيف لا يتقدّم معموله عليه.

و لكنّه ليس بشيء، فإنّه إذا جعلناه معمولا لاسم الفعل، فليكن المقام دليلا على جواز التقديم لأجل التأكيد.

و قيل: إنّه منصوب على الإغراء.

و أشكل عليه بأن الإغراء لا يجوز فيه تقديم المنصوب على حرف الإغراء.

قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ .

أحل مبني للمفعول، و هي القراءة المعروفة، و قرئ على البناء للفاعل. و (ما وراء) أي: ما عدا، و المراد بالموصول و اسم الإشارة ما هو المقدّر في قوله تعالى:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ ، فقد ذكرنا أن مناسبة الحكم و الموضوع تقتضي أن يكون المقدّر هو النكاح و غشيان النساء.

و المعنى: و أحلّ اللّه تعالى لكم نكاح ما سوى الأنواع المذكورة من المحرّمات في الآية المباركة السابقة، و الحليّة هذه شأنيّة معلّقة على حصول أسباب الفعل و شروطه.

و للمفسّرين في هذه الآية الشريفة أقوال و تفاسير لا يخفى فسادها، و الحقّ ما ذكرناه، و هو الظاهر من سياق الآية المباركة.

قوله تعالى: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ .

المصدر المؤول إليه - و هو (الابتغاء) - بدل من قوله تعالى: ما وَراءَ ذلِكُمْ ، أو عطف بيان منه. و قيل: إنّه مجرور باللام التي هي للتعليل، أي:

لابتغاء مباشرة النساء و غشيانهم صحيحا لا فاسدا، بإنفاق أموالكم مهرا أو ثمنا لشراء الأمة.

ص: 24

قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ .

بيان لقاعدة كلية في التمييز بين الطريق الصحيح و الباطل في النكاح، فإنّ النكاح الصحيح المشروع ما تحقّق فيه تحصين النفس عن الوقوع في ما يوجب سخط اللّه تعالى، و التعفّف عن ابتغاء الحرام باستغناء كلّ واحد من الزوجين بالآخرين الاستمتاع المحرم، و هذا القصد هو من أهمّ الطرق التي يوجب تهذيب داعية الفطرة و كبح جماحها، لئلاّ تذهب كلّ مذهب، فيكون قصد التعفّف من أهمّ مقومات تكوين الاسرة الصالحة و تأسيس مجتمع قويم يتقوّم من أفراد مهذّبين صالحين، فكلّ نكاح شرعي متحقّق في الخارج، سواء كان بالعقد الدائم أو بملك اليمين أو بعقد انقطاع، إنّما هو لأجل تحصين النفس و العفاف، و هو يغاير السفاح الذي لا يكون إلا استجابة وقتية لداعي الشهوة و استيلائها على داعية العقل و العفّة.

و هذه الآية الشريفة على إيجازها قد اشتملت على مقوّمات التشريع الإلهي في هذا الموضوع المهمّ ، الذي اعتبره بعض علماء النفس السبب الوحيد في ما يجري في الاجتماع الإنساني و ما يتخلّق به الأفراد من الصفات و العادات، و اعتبر أنّ للشهوة الفطريّة الأثر المهمّ في تكوين الإنسان نفسيّا و تربويّا و خلقيّا، و هذا الرأي فيه من الإغراء و المبالغة ما لا يخفى، و سوف ننقل هذا الرأي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى و نذكر ما فيه من المناقشات.

و كيف كان، فالآية المباركة من الآيات المعدودة التي تبيّن جميع مقوّمات التشريع، من الحكم و الحكمة و القصد و الغاية، فالنكاح المشروع هو ما قصد فيه تحصين النفس و بعث العفّة في النفوس التي أثارتها الشهوة العارمة، و سدّ أبواب الفحشاء و السفاح الذي هو وليد حاجة وقتيّة غير مهذّبة غلبت على القوة العاقلة، لأجل عدم تحصين النفس، فهذا المناط إذا تحقّق في كلّ نكاح كان مشروعا في كلّ دين - الإسلام و غيره على حدّ سواء.

ص: 25

و من هنا يظهر وجه التفريع في الآية اللاحقة على هذه الآية المباركة، باعتبار أن النكاح المؤقّت إنّما شرّع لأجل تحصين النفس و التعفّف، كما هو الحال في النكاح الدائم، فهو مغاير للسفاح البتة.

و ممّا ذكرنا يتبيّن فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أن المراد من المسافحة مطلق سفح الماء و صبّه، من غير أن يقصد به الغاية التي وضع اللّه تعالى لأجلها الداعيّة الشهويّة، و هي غرض تكوين البيت و إيجاد النسل و الولد، فيكون الإحصان المقابل للسفاح هو الزواج الدائم الذي يكون الغرض منه التوالد و التناسل.

و فساد ما ذكره واضح، فإنّ الآية الكريمة لم تشر فيها إلى أنّ غاية النكاح مجرّد التوالد فقط، و قد اختلط عليه البحث، فإنّ الأمر لو كان كذلك لكان النكاح الذي لا يتوفّر فيه غرض التوالد و التناسل باطلا، سواء كان من جهة عدم قابلية تكوين المرأة لذلك، كالكبيرة و الصغيرة، أو لأجل مرض أو مانع عابر، و هذا ممّا لم يقل به أحد، فالنكاح سنّة مشروعة بين الرجل و المرأة، به يستغنى أحدهما بالآخر، فيحصل تحصين النفس و تعففها و تكوين الاسرة التي تجتمع فيها أسباب السعادة و الكمال، بخلاف السفاح و الزنا.

و المسافحة: من السفاح و هو الزنا، و السفح هو صبّ الماء، فكأن الزاني بحكم غلبة الشهوة عليه لا غرض له إلا صبّ النطفة فقط، مع قطع النظر عن ما يلزمه من اللوازم السيئة، بخلاف الإحصان، فإنّه نكاح توفّر فيه قصد التحصين و العفاف، مع الالتزام بجميع ما يترتّب عليه من الآثار و اللوازم الحسنة.

و ممّا ذكرنا يظهر أن المراد بالإحصان في الآية الشريفة، إحصان عفّة و تحصين النفس عن الوقوع في الحرام، مقابل السفاح و الزنا.

قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً .

تفريع على الجملة السابقة في الآية المباركة المتقدّمة التي بيّنت الحدّ الفاصل بين النكاح الذي يبتغي منه الإحصان، و بين الزنا و السفاح، فيكون العقد

ص: 26

المنقطع من أفراد ما يوجب العفّة و تحصين النفس عن الوقوع في الحرام، فيكون التفريع من باب تطبيق الكبرى على الصغريات، و الكليّ على الجزئيات، و تقدّم آنفا ما يدلّ على ذلك.

و «ما» إمّا موصولة، و جملة: «استمتعتم به» صلة لها، و الموصول كناية عن القسم الذي يطلق بمفهومه العامّ على من لا يعقل، مثل: بعض، و لذا استعمل (ما) دون (من)، أو يكون (ما) للتوقيت، و الظرف في (منهن) متعلّق بقوله: (استمتعتم).

و كيف كان، فالآية المباركة في مقام تشريع قسم خاص من المنكوحات التي يقصد بهن الإحصان.

و الاستمتاع طلب المتعة و التلذّذ، و المراد به هو النكاح المؤقّت المحدود الذي يتوصّل به إلى التمتع بالنساء طلبا للإحصان، و يدلّ على أنّ المتعة تطلق على طلب الانتفاع مؤقّتا. و مشتقات هذه المادّة و استعمالاتها كلفظ المتاع و التمتع و نحو ذلك.

و منه يظهر بطلان ما قيل: من أن الاستمتاع يطلق على طول التمتع به، فإنّه خلاف استعمالات هذه المادّة، و قد سمّى اللّه تعالى الدنيا بالمتاع، باعتبار قلّتها و قصر مدّتها، قال تعالى: وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا وَ اِسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ اَلْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي اَلْأَرْضِ بِغَيْرِ اَلْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ [سورة الأحقاف، الآية: 20]، و قال تعالى: مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ [سورة النساء، الآية: 77]، و لأجل ذلك سمّي العقد المنقطع بنكاح المتعة؛ لانقطاع مدّتها و عدم دوامها.

و الأجور: جمع الأجر، و هو المال الذي يبذل مقابل العمل أو الانتفاع، و هو في الأصل يطلق على الثواب، و يطلق على المهر؛ لأنّه أجر الاستمتاع، و الفاء في «فآتوهن» للجواب لتضمّن الموصول معنى الشرط.

و «فريضة» حال من الأجور، و هي بمعنى مفروضة، أي محدودة. و يحتمل

ص: 27

أن تكون صفة لمصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا. يعني: ما فرضتموه من الأجرة في العقد.

و الآية المباركة تدلّ على مشروعية نكاح المتعة، و أنّه مثل النكاح الدائم و ملك اليمين من سبل الإحصان و التعفّف، و يدلّ على ذلك امور:

الأول: أنّ اللّه تعالى قد ذكر في الآيات السابقة حكم النكاح الدائم و ملك اليمين إما تصريحا أو إشارة، و أكّد على وجوب إيتاء المهر في النكاح الدائم بوجوه مختلفة، سواء في هذه السورة كقوله تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 20]، أو في سورة البقرة كقوله تعالى: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى اَلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى اَلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ [سورة البقرة، الآية 236]، فلا يبقى مجال للقول بأنّ آية المتعة مسوقة لبيان إعطاء المهر كاملا بالتمتع من المرأة، فإنّ الآية الكريمة أجنبيّة عن هذا الأمر كما لا يخفى، مضافا إلى أنّه لا بد من ارتكاب التجوّز في المقام، و هو القول بأنّ السين و التاء في «استمتعتم» للتأكيد، و أنّ المراد بالاستمتاع هو النكاح؛ لأنّ إيجاد علقة النكاح طلب للتمتع، و كلاهما خلاف ظاهر الآية الشريفة، و تصريح أهل اللغة في هذه المادّة كما عرفت.

و قيل: إنّ الآية الشريفة مسوقة للتأكيد. و قد عرفت آنفا أنّ الآيات السابقة قد استوفت بيان النكاح الدائم و المهر فيه و ملك اليمين و أقسام النكاح المحلّل و النكاح المحرّم، و قد تضمّنت وجوها من الدلالة التي لا تدع مجالا للتأكيد بعد ذلك.

الثاني: أنّ نكاح المتعة كان معروفا في عصر نزول القرآن، بل قيل: إنّ الإسلام لم يكن المشرّع الوحيد لذلك، و لكن الذي لا ينبغي الشكّ فيه أنّه كان معروفا في النصف الأول من عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بعد الهجرة، و كان دائرا بينهم قولا

ص: 28

و عملا، بحيث كلّما اطلق هذا اللفظ انصرف إلى هذا القسم من النكاح فقط، و مع ذلك لا نحتاج إلى التماس دليل آخر في تطبيق هذه الآية على النكاح المؤقّت، أو بالأحرى نكاح المتعة.

يضاف إلى ذلك أن الأصحاب و القدماء من المفسّرين - كابن عباس و ابن مسعود، و أبي بن كعب، و قتادة، و مجاهد و السدّي و ابن جبير و الحسن و غيرهم، و أهل البيت عليهم السّلام بأجمعهم - فسرّوا الآية الشريفة بنكاح المتعة.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد القول بأنّ الآية المباركة وردت في مطلق النكاح و التأكيد على وجوب إعطاء المهر كاملا.

الثالث: أنّ سياق آية المتعة يدلّ على مشروعيّة نكاح المتعة، و أنّه من أفراد ما يوجب الإحصان و التعفّف، كالنكاح الدائم و ملك اليمين. و أنّ ما سوى ذلك يدخل تحت قوله تعالى: فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 7].

و من ذلك يظهر بطلان ما قيل: إن قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، حيث قيّد حلّية النساء بالمهر و بالإحصان من غير سفاح، و لا إحصان في النكاح المنقطع - و لذلك لا يرجم الرجل المتمتع إذا زنا؛ لعدم كونه محصنا - يدفع كون المتعة هي المرادة من الآية المباركة.

و وجه البطلان أن ما ذكر يجرى في ملك اليمين أيضا، مع أن المراد بالإحصان إحصان العفّة دون إحصان التزويج، إلا أن تخصيص الرجم في زنا المحصن بزنا المتمتع، إنّما هو بحسب السنّة و الكتاب، فإنّه من الواضح أنّ حكم زنا المحصن لم يرد في الكتاب أصلا.

و من جميع ذلك يظهر أنّه لا ريب في ظهور الآية المباركة في حلّية نكاح المتعة، و لم يناقش في ذلك المتقدّمون من الأصحاب و المفسّرين، و أنّ ما ذكر من

ص: 29

الإشكالات من المتأخّرين إنّما هي مغالطات واضحة البطلان. هذا بالنسبة إلى ما يستفاد من نفس الآية الكريمة. و أمّا بالنسبة إلى السنّة الشريفة، فسيأتي في البحوث اللاحقة ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ .

الجناح: الإثم و المنع، أي: لا منع و لا إثم على الزوجين في المتعة إذا تراضيا على حطّ المهر كلا أو بعضا من بعد الفريضة و التقدير، و هذا الحكم لنفي التوهّم في أنّه بعد الفرض و التقدير للأجر لا يجوز لأحدهما التصرّف فيه، فيكون النهي في مقام دفع توهّم الحظر و المنع كما هو معروف، و لا يختصّ هذا الحكم بالمتعة، بل قد تقدّم في مهر عقد النكاح أيضا، قال تعالى: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [سورة النساء، الآية: 4].

نعم، يفترق النكاح الدائم عن المنقطع في أنّه يشترط في الأخير ذكر المهر و الأجل في العقد، و إلا يكون باطلا دون الأوّل، فإنّه لو لم يذكر فيه المهر كان العقد صحيحا، و يسمّى حينئذ تفويض البضع، كما أنّه لو ذكره إجمالا في عقد النكاح من دون تفصيل سمّي مفوضة المهر.

و يمكن أن تحمل الآية الشريفة على المعنى العامّ في كلّ شرط سائغ بعد الفريضة في العقد إذا تراضيا عليه، هذا في غير الأجل، فإنّ التراضي على زيادة الأجل بأجر آخر موضع خلاف بين الفقهاء.

و كيف كان، فإنّ هذا الاحتمال و إن كان صحيحا ثبوتا و يمكن الاستشهاد عليه ببعض الأخبار، إلا أن تطبيق الآية المباركة عليه يحتاج إلى تكلّف، لا سيما بعد ظهور قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ في الأجر، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ص: 30

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ على أنّ إحصان المرأة بالتزويج بشخص يمنعها من الفجور و من التزويج بشخص آخر.

و بعبارة أخرى: أنّ الآية المباركة تدلّ على حرمة تعدّد الأزواج بالنسبة إلى امرأة واحدة، الذي كان معروفا عند بعض المجتمعات في العصر القديم، و الإسلام حرّم ذلك، و حكم بأنّ الزوجة لا يجوز أن تتزوّج برجل آخر مع كونها محصنة بالزوج الأوّل، بخلاف العكس، فإنّه أباح لرجل واحد أن يتزوّج بأكثر من واحدة حتّى أربعة نساء، و قد تقدّم في أوّل هذه السورة ما يتعلّق بالأخير، فراجع.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ على أنّ الإحصان في الإماء بالتزويج لا يمنع المولى من التسرّي بهن، فله أن يحول بين مملوكته و زوجها ثمّ التسرّي بها بعد استبرائها بالعدّة، و الإطلاق يشمل جميع أنواع الإماء و الجواري، سواء كن مسبيّات أو غيرهن.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: كِتابَ اَللّهِ على أنّ الأحكام المذكورة في الآيات السابقة تحليلا و تحريما، ممّا كتبه اللّه تعالى على العباد وفقا لمصالح حقيقيّة واقعيّة، و لا يمكن التعدّي عنها بوجه من الوجوه.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، على أنّ المطلوب في كلّ نكاح هو تحصين النفس و التعفّف، دون الابتذال و الإباحة و سفح الماء من غير غاية، فهذه الآية الشريفة

ص: 31

تبيّن روح الشريعة في هذا الحكم و الجانب المعنوي منها، كما تشير إلى بعض الجوانب المادّية فيه أيضا، و هو المال و الزوج و الزوجة، فإنّ كلّ نكاح يتقوّم بهذه الأمور الثلاثة.

و أمّا الجانب المعنوي، فهو العفّة و تحصين النفس و التجنّب عن الإباحيّة و الزنا و المباشرة من دون غاية سوى قضاء الشهوة العارمة.

و يستفاد من مجموع الآية الشريفة أنّ الغرض من هذه الأحكام التوفيق بين الاستجابة التكوينيّة و داعي الفطرة و العقل؛ لتثبيتها على أساس محكم متين، و حفظ النفس و التحرّز عن الفحشاء التي تعتبر بحقّ مفسدة للحياة الزوجية، و قاطعة للنسل، و هادمة للسعادة، بخلاف ما إذا كانت الفطرة و الشهوة التكوينيّة تحت سيطرة العقل و إمارته، فإنّه يوجب تأسيس حياة سعيدة تبتني على الخير و المحبّة و بثّ النسل الطيب على ما يريده اللّه تعالى.

الخامس: ذكرنا أنّ ظاهر السياق من قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً هو نكاح المتعة، و أنّه مشروع كالقسمين اللذين ذكرهما عزّ و جلّ في الآية السابقة، و أنّه من سبل تحصين النفس من الوقوع في الحرام، و أنّ الثلاثة هي الطرق الشرعيّة في الاستمتاع و اللذّة الجنسيّة، و غير تلك الثلاثة يكون سفاحا محرّما، و هذا ممّا لا شبهة فيه، فلا يبقى مجال للنقاش في دلالة الآية الشريفة على المطلوب، و قد ذكرنا سابقا بعض ما قيل في وجه الاشكال فراجع.

و ذكر بعضهم أنّ الآية الكريمة منسوخة، و اختلفوا في الناسخ لها، فقيل:

إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ . إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ . فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 5-7].

ص: 32

و فيه أوّلا: أنّ آية المتعة متأخّرة عن آية المؤمنون في النزول، فإنّ الاولى مدنيّة و الأخيرة مكيّة، و لا يصلح أن تكون المكيّة تنسخ الآية المدنيّة.

و ثانيا: أنّ المتعة نكاح بمقتضى الآية الشريفة و ما ورد في السنّة المباركة، فتدخل في قوله تعالى: إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ ، و الإشكال بأنّه يلزم من ذلك ثبوت التوارث و الطلاق و غير ذلك من الأحكام المترتّبة على النكاح الدائم.

مردود بأنّ تلك منفيّة بدليلها الخاصّ الوارد في السنّة، و سيأتي ما يتعلّق بذلك.

و قيل: إنّ آية المتعة منسوخة بالآيات الشريفة الدالّة على لزوم العدّة، كقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [سورة الطلاق، الآية 1]، و قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [سورة البقرة، الآية 228]، فإن المتعة لا طلاق فيها و لا عدّة، و الزوجيّة لا تنقصم إلا بهما.

و يردّ عليه: أنّ النسبة بين الآيتين الكريمتين نسبة العامّ و الخاصّ أو المطلق و المقيّد، لا نسبة الناسخ و المنسوخ؛ لأنّ قوله تعالى: إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ عامّ أو مطلق يشمل كلّ النساء في النكاح الدائم و المؤقّت، و لكن خصّص في الزواج المؤقّت بدليل وارد في السنّة.

يضاف إلى ذلك أنّ العدّة لا تختصّ بالنكاح الدائم، بل هي موجودة في النكاح المنقطع أيضا.

نعم، تختلف العدّتان في المدّة، و لكنّه لا يرتبط بأصل الموضوع.

و قيل: إنّ المتعة منسوخة بآية الميراث، قال تعالى: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ اَلرُّبُعُ مِمّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ اَلثُّمُنُ مِمّا تَرَكْتُمْ [سورة النساء، الآية 12]، و لا إرث في نكاح المتعة.

و فيه: أنّه يرد عليه ما ذكرناه آنفا، فإنّ النسبة بين الآيتين نسبة العامّ

ص: 33

و الخاصّ ، لا نسبة النسخ، فإنّ آية الميراث تدلّ على عموم الحكم بالنسبة إلى الأزواج الدائم و المنقطع، و لكن السنّة خصّصت عموم آية الميراث بالزواج المنقطع، فلا إرث فيه حينئذ.

و قيل: إنّ آية المتعة منسوخة بالآية التي تدلّ على تعدّد الزوجة و انحصارها في أربع، قال تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاّ تَعُولُوا [سورة النساء، الآية 3].

و فيه: أنّه لا وجه للنسخ مع دلالة السنّة على عدم انحصار المتعة في الأربعة، فتكون النسبة من العامّ و الخاصّ كما عرفت.

و دعوى: نسخها بآية التحريم، قال تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ اَلْأَخِ وَ بَناتُ اَلْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اَللاّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ اَلرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اَللاّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اَللاّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ اَلَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ اَلْأُخْتَيْنِ إِلاّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 23].

فهي باطلة كما هو واضح، فإنّ المتعة نكاح تجري فيها جميع ما شرّع في النكاح الدائم إلا ما خصّصته السنّة الشريفة، مثل الإرث و نحوه، ممّا سيأتي في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

و قيل - و هو المعروف المشهور بين الجمهور -: إنّها منسوخة بالسنّة، فقد نقل أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نسخها عام خيبر، و قيل: عام الفتح، و قيل: في حجّة الوداع، و قيل غير ذلك.

و لكن ذلك لم يثبت بدليل معتبر، بل معارض بروايات معتبرة أخرى من الفريقين تدلّ على عدم النسخ، و على فرض القول به فيحتمل أن يكون النهي

ص: 34

من الخليفة الثاني حكما وقتيا لا نسخا دائميا، لمصلحة رآها تختصّ بزمانه، و على فرض التعارض، يكون الترجيح مع الروايات الدالّة على عدم النسخ؛ لما ورد من أنّه لا بد عند التعارض من عرض الأخبار المتعارضة على الكتاب، فما وافق الكتاب يؤخذ به، و ما خالفه يطرح، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

بحث علمي

نكاح المتعة من الموضوعات التي كثر الجدل فيها بعد عصر النزول، مع أنّه لم يخالف أحد في مشروعيتها، و قد فهم الأصحاب (رضي اللّه تعالى عنهم) من الآية المباركة هذا القسم من النكاح، و جرى عليه العمل عندهم برهة من الزمن، و فهمهم و العمل به من القرائن المعتمدة عند الجميع، و لم تظهر مناقشات القوم في دلالة الآية الكريمة إلا بعد زمن طويل، فإنّ من حكم بالمنع إنّما حكم به لأجل النسخ، لا من جهة عدم الدلالة. و لعمري إنّ الموضوع لا يحتاج إلى هذا الجدل العنيف و المناقشة العظيمة التي شغلت بال كثير من العلماء.

و قد الفت في ذلك كتب و رسائل في الحلّية و الحرمة، مع أنّه لم يقصر عن سائر المسائل الفقهيّة التي طالما اختلف الفقهاء فيها، و لم تصل إلى الحدّ الذي وصل إليه نكاح المتعة من التشكيك و المغالطة، مع اتفاق الجميع على حرمة الزنا و أنّ الذي يحلّله يريد الخروج من الفاحشة و السفاح إلى الإحصان و التعفّف، و أنّ الذي يحرّمه لا يريد اتخاذ الزنا بدلا عنه، و قضاء الوطر بالسفاح دون النكاح. مع أنّ جمعا من الفقهاء يحكمون بأنّه يجوز للمكلّف الرجوع إلى أي مذهب من المذاهب الإسلاميّة شاء في تعيين الوظيفة و كسب التكليف في الحكم الفرعي.

و بعد الإحاطة بما ذكرناه، لا موجب لهذا الاختلاف العظيم في هذا الموضوع الذي يمسّ المجتمع الإسلاميّ و يحتاج إليه المسلم في حياته اليومية أشدّ

ص: 35

الاحتياج، و هو يبتغي رضا اللّه تعالى و يريد العمل بالشرع المبين، و لو اهتمّ العلماء بهذا الموضوع و تشييد أركانه و إعلام الناس بحدوده و قيوده و تعليم فروعه و آدابه، لما حصلت هذه المفاسد العظيمة التي أخلّت بالنظام، مع علمهم بأنّ الإنسان لا يمكنه التغاضي عن حاجته الفطريّة، و لو لا ما تفاحش الزنا - العلن منه و الخفي - لرأيت وقوع الناس في الحرج و المشقّة و سمعت الضجّة في الخلاص من الورطة، و لو بقيت شرعية المتعة و لم يحصل منع و تحريم، لما كان وقع للزنا و اللواط و سائر الفواحش في المجتمع الإسلاميّ التي هددت كيانه و استنزفت أمواله و هتكت أعراضه، و فشت بها الأمراض الموبقة الرديّة - الجسمانيّة و الروحانيّة - في أفراده، و دبّ الضعف في جسمه و كيانه، و فسدت أخلاقه، و أفسدت النسل بالتعرّض للهلاك و الدمار، و لو وجد لهذه الشهوة المكنونة طريق يغنيهم من الدخول في خسّة الزنا و السفاح، لما استرسل أكثرهم في هذه الزذيلة، و لما استدرجوا في اتباع الهوى، و لما اجترؤوا على الزنا بالمحصنات و هتك الأعراض، و لما اختلطت الأنساب، و لما ظهرت المفاسد الأخلاقيّة، و هذا هو السرّ في

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «لما زنى إلا شقي»، أو «لما زنى إلا شفى»، أي: القليل.

ثم إنّه ذكر نكاح المتعة في علوم متعدّدة منها علم الكلام.

و منها: علم الفقه، فبحثوا فيه من حيث الجواز و الحرمة.

و منها: علم التفسير من حيث النظر في دلالة قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، فإنّهم اختلفوا في أنّه هل يدلّ على تشريع المتعة، و على فرضه فهل هو منسوخ بشيء كالآيات و السنّة كما عرفت آنفا، و على فرض التشريع فهل تشريعه ابتدائي أو إمضائي. كما ذكر أمر المتعة في علم السير و التراجم، و نحن نذكر بعض ما قيل في هذا الموضوع مطلقا، و التفصيل يطلب من محله.

ص: 36

قال بعض و هو يوجز ما ذكره الجمهور في دلالة الآية الشريفة: «و هذه الآية لا تدلّ على الحلّ ، و القول بأنّها نزلت في المتعة غلط؛ لأنّ نظم القرآن يأباه، حيث بيّن سبحانه أوّلا المحرّمات، ثم قال تعالى: وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ ، فإنّ فيه شرطا بحسب المعنى، فيبطل تحليل الفرج و إعارته، و قد قال بهما الشيعة، ثم قال جلّ و علا: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، و فيه إشارة إلى النهي عن كون القصد مجرّد قضاء الشهوة و صبّ الماء و استفراغ أوعية المني، فبطلت المتعة بهذا القيد؛ لأنّ مقصود المتمتع ليس الا ذاك دون التأهّل و الاستيلاد و حماية الذمار و العرض؛ و لذا نجد المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب، و في كلّ سنة بحجر ملاعب، و الإحصان غير حاصل في المرأة المتمتع بها غير النكاح إذا زنا لا رجم عليه، ثم فرّع سبحانه على النكاح قوله عزّ من قائل: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ ، و هو يدلّ على المراد بالاستمتاع هو الوطء و الدخول، لا الاستمتاع بمعنى المتعة التي يقول بها الشيعة، و القراءة التي ينقلونها عمّن تقدّم من الصحابة شاذة».

و مراده من القراءة التي ينقلونها هي القراءة المروية عن عائشة: (فما استمتعتم به منهن إلى اجل مسمى فآتوهن أجورهن فريضة من اللّه)، و هذه القراءة لم يروها الشيعة، بل نقلها بعض الجمهور في كتبهم و الشيعة في غنى عنها بعد تصريحهم بدلالة الآية الشريفة على المطلوب مع قطع النظر عن وجود جملة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ، و إنّما يذكرها بعضهم من المؤيدات.

و كيف كان، فالمناقشة في ما ذكره ظاهرة بعد الإحاطة بما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة، و قلنا إنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ النكاح المؤقّت الموسوم بالمتعة من طرق الإحصان، لمقام التفريع على قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ، فإنّه تعالى بعد أن بيّن المحرّمات ثم أحلّ ما وراءها، ذكر أنّ المناط في كلّ نكاح و استمتاع هو الإحصان، دون مجرّد قضاء الشهوة و صبّ الماء

ص: 37

و استفراغ أوعية المني، مع غضّ النظر عن ما يترتّب على ذلك و عدم الالتزام بآثاره، كما هو الحال في الزنا، و أما المتعة فإنّها و إن تضمّنت صبّ المني و استفراغ أوعيته، لكن مع الالتزام بآثار ذلك كما يلتزم المتمتع في النكاح الدائم، و أمّا التأهّل، و الاستيلاد، و حماية الذمار و العرض، فليست من العلل التامّة في النكاح و المتمتع مطلقا، فإنّ اللّه تعالى قد أذن بالتمتع بالإماء، و لا ينكر ذلك أحد من المسلمين و ليس فيه أي واحدة من تلك الأمور التي ذكرها في وجه حلّية النكاح، فهذه الأمور إنّما هي من وجوه الحكمة، لا العلّة في التشريع، و الفرق بين الأمرين، واضح لمن له أدنى تأمّل.

ثم إنّ الذي ذكره في المتعة من أنّ : «المتمتع بها في كلّ شهر تحت صاحب، و في كلّ سنة بحجر ملاعب»، فإنّه ينقض ذلك في الأمة، بل قد يتحقّق في المتزوّجة بالزواج الدائم، و لا ضير في أن يكون الأمر كذلك؛ بعد أن ذكر أنّ المتزوّج بالزواج المؤقّت يلتزم بآثار هذا العقد و ما يترتّب على هذا النكاح من لحوق الولد به، و وجوب الإنفاق عليه، و لزوم العدّة على المرأة بعد المفارقة، و نحو ذلك ممّا سيأتي في البحث الفقهيّ ، فالإحصان حاصل بالمتعة بعد الالتزام بلوازمها الشرعيّة، و لا يضر بها كون المراد بالاستمتاع في الآية الشريفة هو الوطء و الدخول، كما هو الحال في بعض أفراد النكاح الدائم و لا يمكن إنكاره.

و المرأة المتمتع بها لا يمكنها التزويج بعد المفارقة من الزوج الأوّل إلا بعد العدّة و استبراء رحمها، فكيف تكون: «صولجانة يلعب بها» كما قاله بعض المفسّرين، فدلالة الآية المباركة على أنّ المراد بها النكاح المؤقّت لا غبار عليها.

الإشكال الثاني قال بعضهم: إنّه قد استدلّ الجمهور بقوله تعالى: فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ ، على تحريم نكاح المتعة الذي هو النكاح المؤقّت بأجل بلفظ المتعة، و هو استدلال ظاهر، إذ انّ التي عقد عليها هذا لم تكن مملوكة ملك يمين، و هو ظاهر، و لم تكن زوجة؛ لأنّ لعقد الزوجيّة لوازم

ص: 38

تترتّب عليه من صحّة الطلاق و الإرث و العدّة و وجوب النفقة، و هي كلّها منتفية في نكاح المتعة، و هو لا يحمل شيئا من خواص النكاح إلا التسمية المقيّدة التي عرضت له من ناحية صورة العقد...

ثمّ قال: إنّ عقد النكاح هو الالفة و المحبّة و الشركة في الحياة. و أيّ ألفة و شركة تجيء من عقد لا يقصد منه إلا قضاء الشهوة على سبيل التوقيت، أ ليس الزنا يقع بالتراضي بين الزانيين على قضاء الوطر، و هل عقد نكاح المتعة إلا هذا؟!! و هل تقلّ المفاسد التي تترتّب على نكاح المتعة عن المفاسد التي تترتّب على الزنا؟!! أقول: إنّ ما ذكره من أقوى ما قيل في هذا الموضوع، حيث جعل ما أباحه اللّه تعالى و اعتبره عزّ و جلّ من إحدى الوسائل لتحصين النفس و سبيلا من سبل التعفّف، كالزنا و ما حرّمه اللّه تعالى، و ليس ذلك إلا من الجهل بأحكام اللّه تعالى و التعنّت و العناد، فما ذكره بعيد عن البحث الموضوعي النزيه و جرأة على اللّه تعالى.

و كيف كان، فالإشكال على ما ذكره واضح بعد الإحاطة بما ذكرناه في التفسير:

أوّلا: بأنّ النكاح المؤقّت هو من أفراد مطلق النكاح، و انتفاء بعض الأمور المعتبرة في النكاح الدائم كالطلاق و الإرث و وجوب النفقة من الزواج المؤقّت لأجل ذليل شرعي لا يجعله خارجا عن صدق النكاح و يدخله في المحرّمات.

و ثانيا: أنّ هذه الأمور قد تنتفي من النكاح الدائم في بعض الحالات أيضا، فلا بد أن يكون من الزنا كما يدعيه هذا الخصم، أمّا الطلاق فكما إذا وقع الزواج على امرأة فيها أحد العيوب المجوّزة للفسخ، فإنّه يجوز للزوج فسخ العقد من دون طلاق، و كذا بالنسبة إلى المرأة إذا وجدت في الرجل أحد العيوب التي

ص: 39

تجوّز الفسخ، فإنّه يجوز لها فسخ العقد من دون طلاق، فانتفاء الطلاق لا يوجب ردّ الزواج إلى الزنا المحرم.

و أما الإرث، فإنّه ربّما ينتفي في الزواج الدائم أيضا، كما إذا تحقّقت في الزوجة أحد موانع الإرث، كالقتل و الكفر، فإنّه إذا ارتدّت الزوجة و كفرت، فإنّها لا ترث من زوجها.

و أما انتفاء العدّة في الزواج الدائم فغير عزيز، فإنّه لا عدّة في الصغيرة غير البالغة، و الكبيرة التي يئست عن المحيض، و الزوجة التي لم يقاربها الزوج فطلّقها قبل الاستمتاع بالمقاربة بها، مضافا إلى أنّه لم يقل أحد بانتفاء العدّة في المتعة و الزواج المؤقّت.

و أمّا وجوب النفقة، فلأنّ النفقة حقّ من حقوق الزوجة، يجوز للزوج الشرط على الزوجة حين العقد إسقاط هذا الحقّ ، فلا تجب النفقة على الزوج حينئذ بمقتضى الشرط بينهما، كما تسقط النفقة عن الزوج أيضا في ما إذا نشزت الزوجة و امتنعت عن وظائف الزوجية.

فانتفاء هذه الأمور عن الزواج لا يصيرها من أفراد الزنا بالاتفاق من جميع الفقهاء، فليكن المقام كذلك، فإنّ الشارع الأقدس الذي شرّع الزواج المؤقّت قد حكم بانتفاء هذه الأمور عنه، مع حكمه بأنّه من أفراد تحصين النفس و العفّة و مطلق النكاح، فيكفينا عمومات النكاح و الزواج الواردة في الكتاب و السنّة، بعد تسالم العلماء و أهل المحاورة على أنّ تخصيص بعض العمومات لبعض الخصوصيّات، لا يوجب سقوط العمومات عن التمسّك بها.

و ثالثا: أنّ جعل الالفة و المحبّة من العلل الخاصّة في النكاح و الزواج بحيث أنّ الزواج لم يشرّع إلا لأجلها من مجرّد الدعوى، بل الدليل على خلافها، فإنّه بناء على ما ذكره إذا تحقّق في الحياة الزوجيّة الخصام و النزاع، فلا بد و أن تنفصم من دون طلاق؛ لانتفاء المعلول بانتفاء العلّة، فالزواج الدائم و الزواج المؤقّت

ص: 40

يشتركان في الإحصان و التعفّف، و إنّه لا يخلو فيهما من تحقّق الالفة و المحبّة، و هما من الحكمة التي لا كلّية فيها، كما هو واضح.

يضاف إلى ذلك أنّ عقد المتعة و الزواج المؤقّت قد يكون الأجل فيه طويلا، بحيث يتكوّن منه اسرة تبتني على الالفة و المحبّة و يلحق بهما الولد، فلا يقصر الزواج المؤقّت على أجل قصير، كساعة أو ساعتين مثلا، كما يتصوّره الخصم.

فما ذكره في الإشكال على المتعة باطل، و تشبيه المتعة المبنية على الإحصان بالزنا المبني على السفاح غير صحيح، كما هو واضح.

الإشكال الثالث: ادعى بعضهم الإجماع على الحرمة و نسخ المتعة، فقال:

إنّ جمهور العلماء من الصحابة و من بعدهم ذهبوا إلى أنّ نكاح المتعة حرام، و أنّ الآية الشريفة منسوخة إمّا بالسنّة عند من يرى نسخ الكتاب بها، و من لم يره - كالشافعيّ - قال: إنّها منسوخة بقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ اِبْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلعادُونَ [سورة المؤمنون، الآية: 5-7]، و المنكوحة في المتعة ليست بزوجة و لا ملك يمين.

و يردّ عليه: أمّا ما ذكره من نسخ الكتاب بالسنّة فسيأتي الكلام فيه. و أمّا الإشكال في ما ذكره أخيرا، فقد تقدّم فراجع.

و أمّا دعوى الإجماع في هذا الموضوع الذي كان مورد النزاع بين المسلمين من عصر التشريع حتّى الآن، ممنوعة جدا، فإنّ الصحابة كانوا على الخلاف فيه.

و المعروف بين المسلمين أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول بجواز المتعة و مشروعيتها و عدم نسخها،

و قد نقل عنه متواترا أنّه قال: «لو لا نهي عمر عنها لما زنى إلا شقي»، و تبعه في ذلك أهل بيته المعصومون عليهم السّلام و أولاده، حتّى عرفوا و اشتهروا به و سارت على هديهم شيعتهم، كما اعترف به الخصم، فقال العلاّمة

ص: 41

القسطلاني في شرحه لصحيح البخاري: «قد وقع الإجماع على تحريمها إلا الروافض»، و هذه كتب الإماميّة مشحونة بالروايات عن الأئمة عليهم السّلام التي تدلّ على مشروعيّة المتعة، و تبيّن جميع حدودها و شروطها.

و لكن، نقل الجمهور أحاديث عن أمير المؤمنين عليه السّلام عليّ أنّه قال: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن نكاح المتعة».

كما روى البيهقي عن جعفر بن محمد عليه السّلام أنّه سئل عن المتعة فقال: «هي الزنا بعينه»، و هذه الروايات آحاد لا يمكن الاعتماد عليها، لمعارضتها لأحاديث متواترة عنهم تدلّ على الحلّية و الإباحة، كما سيأتي نقل بعضها.

كما أنّ من الأصحاب ابن عباس فقد اشتهر عنه أيضا: «كنّا نتمتع على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و عهد أبي بكر و شطرا من خلافة عمر حتّى نهانا»، و قد عرف بهذا القول و سارت به الركبان.

و روى الجمهور عنه أنّه رجع عن فتياه، و ذكروا أنّه خصّ الحلّية في حال الاضطرار، ففي الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر، و الطبراني و البيهقي من طريق سعيد بن جبير قال: «قلت لابن عباس: ماذا صنعت ؟ ذهب الركبان بفتياك، و قالت فيه الشعراء، قال: و ما قالوا؟ قلت: قالوا:

أقول للشيخ لما طال مجلسه *** يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس ؟

هل لك رخصة الأطراف آنسة تكون مثواك حتّى مصدر الناس ؟

فقال: إِنّا لِلّهِ وَ إِنّا إِلَيْهِ راجِعُونَ . لا و اللّه ما بهذا أفتيت، و لا هذا أردت و لا أحللتها إلا للمضطر و لا أحللت منها ما أحلّ اللّه من الميتة و الدم و لحم الخنزير».

و يردّ عليه أنّ رجوع ابن عباس عن فتياه مشكوك فيه، إذ لم ينقله أصحاب المجامع و المعروفين من الجمهور، و الخبر السابق شاهد على ذلك. و أمّا تخصيصه الحلّية بحال الاضطرار، فهو يرجع إلى نفسه، فقد كانت عنده من

ص: 42

القرائن التي أوجبت عليه أن يحكم بذلك. مع أنّ الاضطرار يوجب الإباحة في جميع الأزمان و الأعصار، فلما ذا لم يحكم بالحلّية غيره من العلماء.

و من القائلين بالإباحة ابن مسعود،

ففي صحيح البخاري و مسلم عن ابن مسعود قال: «كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليست معنا نساؤنا، فقلنا:

أ نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ ».

و من القائلين بالإباحة من الصحابة جابر و عمرو بن حريث، و غيرهم، و من التابعين القائلين بالإباحة مجاهد، ففي تفسير الطبري عن مجاهد في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ قال: يعني نكاح المتعة.

و منهم السدّي و سعيد بن جبير و غيرهم، و مع وجود المخالف كيف يتم الإجماع المدّعى على التحريم. فالآية الشريفة محكمة غير منسوخة لا بالكتاب و لا بالسنّة، و سيأتي مزيد كلام في ذلك.

بحث روائي
اشارة

في الكافي: و تفسير العياشي عن محمد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ؟ قال: هو أن يأمر الرجل عبده و تحته أمته، فيقول: اعتزل امرأتك و لا تقربها، ثم يحبسها عنه حتّى تحيض ثمّ يمسّها، فإذا حاضت بعد مسّه إياها ردّها عليه بغير نكاح».

أقول: الحديث يبيّن الإحصان الأمة و ملك اليمين و الاباحة التمتع بها من المولى بالشرط المذكور في الحديث و هو موافق للقاعدة؛ لفرض أنّ المنافع ملك للمولى، فله أن ينتفع منها بأي وجه لكن مع ملاحظة الجهات الشرعيّة.

و في تفسير العياشيّ : عن ابن مسكان، عن أبي بصير، عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ قال عليه السّلام:

ص: 43

«هن ذوات الأزواج، إلا ما ملكت أيمانكم إن كنت زوجت أمتك غلامك نزعتها منه إذا شئت، فقلت: أ رأيت أن زوّج غير غلامه ؟ قال: ليس له أن ينزع حتّى تباع، فإن باعها صار بضعها في يد غيره، فإن شاء المشتري فرّق، و إن شاء أقرّ».

أقول: تقدّم ما يبيّن الحديث، و هو موافق للقاعدة أيضا.

و في الفقيه: عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، قال: «هنّ ذوات الأزواج، فقيل:

(و المحصنات من الذين أوتوا الكتب من قبلكم)؟ قال: هنّ العفائف».

أقول: المراد منها العفائف في حال كونهن مزوّجات، و لعلّ اختلاف التعبير لأجل الفرق بين نساء المسلمات و نساء أهل الكتاب، فإنّ الاولى لهن استحقاق الاتصاف بالإحصان من كلّ جهة بعد التزويج، و الثانية تتحقّق العفّة بالأزواج فقط.

و في الدرّ المنثور: أخرج الطيالسي و عبد الرزاق و الفريابي، و ابن أبي شيبة، و أحمد، و عبد بن حميد، و مسلم و أبو داود، و التزمذيّ و النسائيّ ، و أبو يعلى، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و الطحاوي و ابن حيان، و البيهقي في سننه عن أبي سعيد الخدري: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعث يوم حنين جيشا إلى أوطاس فلقوا عدوا فقاتلوهم فظهروا عليهم و أصابوا لهم سبايا، فكأن أناسا من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تحرّجوا من غشيانهن من أجل أزواجهن من المشركين، فأنزل اللّه في ذلك: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ إِلاّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، يقول: إلا ما أفاء اللّه عليكم، فاستحللنا بذلك فروجهن».

أقول: روي مثل ذلك عن الطبراني عن ابن عباس، و قد روي في سبب نزول هذه الآية الشريفة بعض الأخبار، و هو على فرض الاعتبار لا يخصّص عموم الحكم الوارد فيها، كما هو واضح.

ثمّ إنّه قد وقع النزاع في مشروعيّة المتعة و ادعي نسخها بالسنّة، و نحن

ص: 44

نذكر الروايات الدالّة على المشروعيّة، ثمّ نذكر الأحاديث التي يدّعى دلالتها على نسخها و المناقشة فيها.

الروايات الدالّة على المشروعية:

في الكافي: بإسناده عن أبي بصير قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المتعة فقال: «نزلت في القرآن: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ اَلْفَرِيضَةِ ».

و فيه بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «المتعة نزل بها القرآن و جرت بها السنّة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

و في تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال جابر بن عبد اللّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهم غزوا معه فأحلّ لهم المتعة و لم يحرّمها، و كان عليّ عليه السّلام يقول: لو لا ما سبقني به ابن الخطاب - يعني: عمر - ما زنى إلا شقي، و كان ابن عباس يقول: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، و هؤلاء يكفرون بها و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحلّها و لم يحرّمها».

أقول:

في رواية: «ما زنى إلا شفى»، و في رواية ثالثة: «إلا شقيّ ».

و في الكافي: بإسناده عن زرارة قال: «جاء عبد اللّه بن عمير الليثي إلى أبي جعفر عليه السّلام، فقال له: ما تقول في متعة النساء؟ فقال: أحلّها اللّه تعالى في كتابه و على لسان نبيّه، فهي إلى يوم القيامة، فقال: يا أبا جعفر، مثلك يقول هذا و قد حرّمها عمر و نهى عنها؟! فقال: إنّي أعيذك باللّه من ذلك، أن تحلّ شيئا حرّمه عمر، قال: فقال له: فأنت على قول صاحبك و أنا على قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهلم ألاعنك أنّ القول ما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنّ الباطل ما قال صاحبك، فأقبل عبد اللّه بن عمير، فقال: أ يسرّك أن نساءك و بناتك و أخواتك و بنات عمّك يفعلن ؟ قال: فأعرض عنه أبو جعفر عليه السّلام حين ذكر نساءه و بنات عمّه».

ص: 45

أقول: الروايات في هذا المعنى متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام.

و في صحيح الترمذي: عن محمد بن كعب عن ابن عباس قال: «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم، فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه حتّى إذا نزلت الآية:

إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، قال ابن عباس: فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول: قد تقدّم في البحث العلمي ما يتعلّق بهذا الحديث، و ذكرنا أنّ ابن عباس ممّن عرف عنه الجواز، و لازم هذا الخبر أن النسخ كان بعد فتح مكة؛ لأنّ الآية الشريفة مكيّة.

و في صحيح مسلم: عن عبد اللّه قال: «كنا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليس لنا نساء، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك، ثمّ رخصّ لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل».

و روي أيضا عن جابر بن عبد اللّه و سلمة بن الأكوع: «خرج علينا منادي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ رسول اللّه قد أذن لكم أن تستمتعوا، يعني: متعة النساء».

و روى أيضا عن جابر قال: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، حتّى نهى عنه عمر».

و في صحيح البخاري و رواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق و ابن أبي شيبة، عن ابن مسعود قال: «كنّا نغزو مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و ليس معنا نساؤنا، فقلنا: ألا نستخصي ؟ فنهانا عن ذلك و رخّص لنا أن نتزوّج المرأة بالثوب إلى أجل، ثم قرأ عبد اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اَللّهُ لَكُمْ .

و في الدرّ المنثور - أيضا -: من طريق مولى الثريد قال: «سألت ابن

ص: 46

عباس عن المتعة، أ سفاح هي أم نكاح ؟ فقال: لا سفاح و لا نكاح، قلت: فما هي ؟ قال: هي متعة كما قال اللّه تعالى، قلت: هل لها من عدّة ؟ قال: عدّتها حيضة، قلت: هل يتوارثان ؟ قال: لا».

أقول: يأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بهذا الحديث.

و فيه - أيضا -: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس قال: «يرحم اللّه عمر ما كانت المتعة إلا رحمة من اللّه رحم بها امة محمد و لو لا نهيه عنها ما احتاج إلى الزنا إلا شقي، و قال: و هي التي في سورة النساء: فما استمتعتم به منهن إلى كذا و كذا من الأجل على كذا و كذا، قال: و ليس بينهما وراثة، فإن بدا لهما أن يتراضيا بعد الأجل فنعم، و إن تفرّقا فنعم، و ليس بينهما نكاح، و أخبر أنّه يراها الآن حلالا».

أقول: يدلّ الحديث على أنّ ما نسب إلى ابن عباس من الحرمة ليس بثابت.

و في تفسير الطبري و رواه في الدرّ المنثور عن عبد الرزاق و أبي داود في ناسخه عن الحكم: «أنّه سئل عن هذه الآية الشريفة، أ منسوخة ؟ قال: لا، و قال عليّ : لو لا أن عمر نهى عن المتعة ما زنى إلا شقي».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و جميعها تدلّ على أصل التشريع.

قراءة الآية الشريفة:

القراءة المعروفة بين المسلمين في آية المتعة أنّها تقرأ بدون جملة: «الى أجل مسمّى»، و لكن وردت بعض الروايات التي هي على خلاف هذه القراءة المعروفة.

ففي الكافي بإسناده عن ابن أبي عمير، عمّن ذكره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّما نزلت: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى فآتوهن أجورهن فريضة».

ص: 47

أقول: القراءة المعروفة عند الإماميّة هي بدون هذه الجملة، و هي المتبعة، و لعلّ ما ورد في الحديث إنّما لبيان معنى المتعة و بعض شروطها، كما يظهر من قول ابن عباس في الحديث المتقدّم.

مع أنّ الإماميّة في غنى عن هذه القراءة، فإنّهم يصرّحون بكفاية الآية المباركة على أصل التشريع، و لعلّ ذكر الإمام لهذه القراءة إنّما هو لأجل موافقة بعض القراءات المنسوبة إلى الجمهور، كما يدلّ عليه الحديث الآتي.

و في مستدرك الحاكم بإسناده عن أبي نضرة، و رواه ابن جرير قال:

«قرأت على ابن عباس: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى، فقلت: ما نقرؤها كذلك، فقال ابن عباس: و اللّه لأنزلها اللّه كذلك».

و في الدرّ المنثور: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن قتادة، قال: «في قراءة أبيّ بن كعب: فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمّى».

أقول: روى هذه القراءة الجمهور بطرق عديدة عن أبيّ بن كعب و ابن عباس، و أصل هذه القراءة صادرة من الجمهور، و إنّما دخلت في روايات الإماميّة منهم.

الروايات الدالّة على النسخ و التحريم:

الروايات التي استدلّ بها على تحريم المتعة و نسخها متعدّدة، نقلها الجمهور في كتبهم، و هي مختلفة، فبعضها تدلّ على نسخها بالكتاب، و بعضها تدلّ على نسخها بالسنّة، و بعضها تدلّ على نهي الخليفة الثاني إياها، و نحن نذكر جملة من الأقسام الثلاثة:

القسم الأول:

روى الحاكم في المستدرك عن عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبي ملكية: «سألت عائشة عن متعة النساء؟ فقالت: بيني و بينكم كتاب اللّه تعالى، قال: قرأت هذه

ص: 48

الآية: وَ اَلَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فمن ابتغى وراء ما زوّجه اللّه أو ملكه فقد عدا».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذا الحديث في البحث السابق، و قلنا: إنّ المتعة الجامعة للشرائط الشرعيّة زواج.

و في الدرّ المنثور: أخرج أبو داود في ناسخه، و ابن المنذر و النحّاس من طريق عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ، قال نسختها: يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ اَلنِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ ، و قوله تعالى: وَ اَلْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ ، و قوله تعالى: وَ اَللاّئِي يَئِسْنَ مِنَ اَلْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ اِرْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ .

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق، و أنّه لا وجه للنسخ أصلا.

و فيه - أيضا -: خرّج أبو داود في ناسخه، و ابن المنذر، و النحّاس و البيهقي عن سعيد بن المسيب قال: «نسخت آية الميراث المتعة».

أقول: لا وجه للنسخ، بل هو تخصيص حكمي كما عرفت، و سيأتي في البحث الفقهي ما يتعلّق بذلك.

و فيه: أخرج عبد الرزاق، و ابن المنذر، و البيهقي عن ابن مسعود قال: «المتعة منسوخة، نسخها الطلاق، و الصدقة، و العدّة، و الميراث».

أقول: أمّا نسخ المتعة بالطلاق، فقد تقدّم، و أمّا الصدقة - أي: الصداق - فلا ريب في صدقه على المهر، كما يصدق عليه الاجرة أيضا، كما يدلّ عليه القرآن و السنّة، فلا منافاة في التسمية حينئذ، و أمّا الميراث فقد عرفت أنّه تخصيص حكمي.

و في الدرّ المنثور - أيضا -: أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن علي عليه السّلام قال: «نسخ رمضان كلّ صوم، و نسخت الزكاة كلّ صدقة، و نسخت المتعة الطلاق و العدّة و الميراث، و نسخت الضحيّة كلّ ذبيحة».

ص: 49

أقول: نسبة ذلك إلى علي عليه السّلام - الذي عرف منه القول بجواز المتعة - غير صحيحة، و أمّا النسخ فقد عرفت فيه الكلام.

و في صحيح الترمذي عن محمد بن كعب، عن ابن عباس قال: «إنّما كانت المتعة في أوّل الإسلام، كان الرجل يقدم البلدة ليس له بها معرفة فيتزوّج المرأة بقدر ما يرى أنّه يقيم، فيحفظ له متاعه و يصلح له شيئه، حتّى إذا نزلت الآية:

إِلاّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ ، قال: ابن عباس فكلّ فرج سوى هذين فهو حرام».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في البحث السابق.

القسم الثاني:

الروايات التي تدلّ على أنّ المتعة منسوخة، و هي محرّمة بالسنّة القاطعة، و قد نقلها الجمهور في كتبهم، و قد اختلفوا في زمان نسخها، و نحن ننقل جملة منها أيضا.

ففي صحيح مسلم: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن نكاح المتعة».

و فيه: أيضا عن الربيع بن سبرة الجهني عن أبيه: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

ألا أنّها - المتعة حرام - من يومكم هذا إلى يوم القيامة، و من كان أعطى شيئا فلا يأخذه».

أقول: هذه الأحاديث تدلّ على الحرمة من دون تقييد بوقت معين، و يأتي ما يتعلّق بها.

و في صحيح مسلم: عن أياس بن سلمة، عن أبيه قال: «رخّص رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عام أوطاس في المتعة ثلاثا - أي: ثلاثة أيام - ثم نهى عنها».

أقول: يستفاد أنّه كان النسخ بعد فتح مكة؛ لأنّ أوطاس واد في ديار هوازن اجتمع فيه المشركون بعد انهزامهم يوم حنين، و ذلك بعد فتح مكّة.

ص: 50

و روى عن سبرة الجهني أيضا قال: «أمرنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمتعة عام الفتح حين دخلنا مكة، ثمّ لم يخرج حتّى نهانا عنها».

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و مسلم عن سلمة بن الأكوع قال: «رخّص لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في متعة النساء عام أوطاس ثلاثة أيام، ثمّ نهى عنها بعدها».

و روى مسلم عن عليّ عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن متعة النساء يوم خيبر و عن أكل لحوم الحمر الإنسية».

أقول: روي مثله عدّة روايات.

و في شرح ابن العربي لصحيح الترمذي عن إسماعيل، عن أبيه الزهري:

«أنّ سبرة روى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عنها في حجّة الوداع».

و فيه - أيضا -: عن الزهريّ : «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نهى عن المتعة في غزوة تبوك».

و فيه: قال الحسن: «إنّها في عمرة القضاء».

أقول: اختلاف هذه الروايات يدلّ على سقوطها، إلا أنّ بعضهم حملها على تكرار النهي، و لكنّه موهون بذهاب جمع من الأصحاب إلى الحليّة، كعليّ عليه السّلام و ابن عباس و ابن مسعود و جابر و أبو سعيد و عمرو بن حريث و غيرهم - كما قال ابن حزم - و لا يمكن خفاؤها عليهم مع جلالة شأن أكثرهم، فهي موهونة بالاختلاف و المعارضة بالقول و الفعل، كما عرفت.

القسم الثالث:

الروايات التي تدلّ على نهي الخليفة الثاني عنها و هي كثيرة، ننقل بعضا منها: ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد اللّه قال: «كنا نستمتع بالقبضة من التمر و الدقيق الأيام على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر، حتّى نهى عنه عمر في شأن عمرو بن حريث».

ص: 51

أقول: نقله جمع من العلماء كابن الأثير في جامع الأصول، و ابن القيم في زاد المعاد، و ابن حجر في فتح الباري، و المتقي الهندي في كنز العمال.

و في الدرّ المنثور: أخرج مالك و عبد الرزاق عن عروة بن الزبير: «أنّ خولة بنت حكيم دخلت على عمر بن الخطاب فقالت: إنّ ربيعة ابن امية استمتع بامرأة مولدة، فحملت منه، فخرج عمر بن الخطاب يجرّ رداءه فزعا، فقال: هذه المتعة و لو كنت تقدّم فيها لرجمت».

أقول: نقل ذلك الشافعيّ في الام، و البيهقي في السنن الكبرى.

و في صحيح مسلم عن أبي نضره قال: «كنت عند جابر بن عبد اللّه فأتاه آت فقال: إنّ ابن عباس و ابن الزبير اختلفا في المتعتين، فقال جابر: فعلناهما مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ نهانا عنهما عمر فلم نعد لهما».

أقول: رواه مسلم في مواضع ثلاثة، و روى مثله البيهقي في السنن الكبرى و المتقي الهندي في كنز العمال، و السيوطي في الدرّ المنثور، و الرازي في تفسيره، و الطيالسي في مسنده، و الجصاص في أحكام القرآن.

و في تفسير القرطبي عن عمر أنّه قال في خطبته: «متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنا أنهى عنهما و أعاقب عليهما، متعة الحج و متعة النساء».

أقول: قد تسالم الجميع على هذه الخطبة، و ذكروها في كتب التفسير و التأريخ و الفقه و الكلام.

و في بداية المجتهد لابن رشد عن جابر بن عبد اللّه: «تمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أبي بكر و نصفا من خلافة عمر، ثمّ نهى عنها عمر الناس».

أقول: الأحاديث في مضامين ذلك كثيرة، من شاء فليراجع كتب الحديث و الفقه. و هذه الروايات تدلّ على أنّ الناسخ ليس هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، بل هو الخليفة الثاني، فتكون معارضة مع تلك الروايات التي دلّت على نهي الرسول صلّى اللّه عليه و آله لها و لا مرجّح فتتساقطان، فيرجع إلى أصل التشريع التي دلّت عليه الأخبار الكثيرة التي تقدّم ذكر شطر منها.

ص: 52

مع أنّ نهي الخليفة يحتمل فيه وجوه ثلاثة:

الأوّل: أن يكون النسخ و النهي دائميا أبديا.

الثاني: أن يكون حكما وقتيا لأجل مصالح كثيرة، كما يستفاد من بعض الروايات المتقدّمة، منها حديث خولة بنت حكيم.

الثالث: أن يكون ترغيبا إلى التقليل من هذا العمل و التحريض على الزواج الدائم.

و مع وجود هذه الاحتمالات لا يمكن الجزم بالاحتمال الأوّل، فيبقى أصل التشريع سالما عن جميع ما يصلح للمعارضة، و لا موجب لرفع اليد عنه.

بحث فقهي

تقدم أن قوله تعالى: فَمَا اِسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ يدلّ على حلّية نكاح المتعة بشرائطها المقرّرة الآتية.

و الآية الشريفة هي الآية الوحيدة الواردة في القرآن الكريم التي وردت في هذا الموضوع بالخصوص، و إن قلنا بشمول العمومات الواردة في مطلق النكاح للنكاح المؤقّت أيضا، و قد عرفت أنّه اتفق المسلمون و استفاضت رواياتهم على أنّ المتعة نكاح شرّع في دين الإسلام، و عليه كان عمل المسلمين برهة من الزمن، و يعتبر في صحّة النكاح المؤقّت شروط لا بد من ذكرها في المقام، كما دلّت عليها السنّة الشريفة:

الأوّل: يعتبر في الزوجين الكمال بالبلوغ و العقل، أو إذن وليهما إن كانا قاصرين، كما يعتبر في النكاح الدائم، و هو معلوم لا ريب فيه.

الثاني: أن لا تكون المرأة ممّا يحرم نكاحها بالنسب أو السبب أو في العدّة، و هذا ممّا لا شكّ فيه كما ذكر مفصّلا في الفقه، و من شاء فليراجع كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

ص: 53

الثالث: ذكر الاجرة، و يدلّ عليه الكتاب و السنّة الشريفة، فلو لم يذكر بطل العقد، و لا تحديد في الاجرة، بل يكفي فيها كلّ ما تراضيا عليه، و قد تقدّم في حديث جابر: «كنا نتمتع بالثوب و قبضة من التمر».

الرابع: ذكر المدّة، و تدلّ عليه السنّة الشريفة و الإجماع، فلو لم تذكر يكون العقد دائما، كما ذكرنا في كتاب النكاح في الفقه، و لا فرق في ذلك بين المدّة القليلة و الكثيرة، نصّا و إجماعا.

الخامس: إجراء صيغة العقد بأن تقول المرأة: «متعتك نفسي - أو - أنكحتك نفسي في مدّة كذا بأجرة كذا»، و يقول الرجل: «قبلت النكاح كذلك»، هذا كلّه إذا لم تكن مفسدة أو شين في البين، و إلا فلا وجه للصحّة.

و إذا تحقّقت جميع الشروط يتمّ العقد بين الزوجين، فيجوز لكلّ واحد منهما التمتع بالآخر، كما في العقد الدائم، و ينفسخ العقد بانقضاء المدّة أو فسخ العقد، و هبة المدّة، و هذا بمنزلة الطلاق في العقد الدائم، و حينئذ تصير المرأة أجنبيّة عن الرجل و الولد ملحق بهما، و يجب على الوالد الإنفاق عليه، و تجب على المرأة العدّة إذا تمتع الرجل بالغشيان و الدخول، فلا يجوز لها التزويج بالغير بعد انقضاء العقد الأوّل مباشرة إلا بعد انقضاء العدّة، و هي في المتعة حيضتان، فإذا انقضى الحيض الثاني يجوز لها التزويج بآخر، سواء بالعقد الدائم أم بالعقد المنقطع.

و من أحكام النكاح المؤقّت أنّه لا توارث بين الزوجين؛ لأنّ الإرث حكم شرعيّ ثبت في كلّ مورد يدلّ عليه الدليل، و ينتفي إذا دلّ الدليل على عدمه كما في الزوجة الكتابيّة و المسلمة القاتلة لزوجها، و في المقام دلّ الدليل على انتفائه، و قد عرفت في البحث السابق أنّه لا ملازمة شرعيّة و لا عقليّة بين الزوجيّة و الإرث، بل يتبع الدليل في ثبوته، و فصّلنا القول في أحكام العقد المنقطع في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

و لا ريب أنّ المتعة من سبل المنع عن الفحشاء و المنكر، كما ورد في

ص: 54

الأحاديث السابقة بعض الأسباب التي دعت إلى مشروعيّة المتعة و النكاح المؤقّت، و كلّ ما كان كذلك، فالعقل يحكم بحسنه بل قد يرى قبح تركه، كما في أصل النكاح.

و قد ذكرنا أنّ نسخ التشريع على فرض وقوعه و صحّته إنّما كان لمصالح وقتيّة رآها الحاكم، و حينئذ لا يمكن استفادة الحرمة الأبديّة.

و على فقهاء المسلمين (رفع اللّه تعالى شأنهم) إعادة النظر في هذا الموضوع المهمّ في هذا العصر، الذي كثر الفحشاء و المنكر فيه، و انقلب المعروف منكرا و المنكر معروفا، و زاد جرأة الناس على ارتكاب المآثم و الموبقات، و امتازت المجالس بالمخالطة بين الجنسين من دون رادع ديني، و اشتدّت المخالطة بينهما بلا حجاب، و كادت الإباحيّة أن تستولي على المجتمع الإسلامي كما تراها في المجتمع الغربي الكافر، و المسؤولية إنّما تقع على العلماء و غيرهم، و لا أقل من سدّ باب الذرائع من الوقوع في الفحشاء، حيث يحكم به جميع علماء الجمهور، بل علماء الإسلام بأجمعهم، و النكاح المؤقّت مع الشروط المطلوبة من أحسن الطرق، مع أنّ فرقة كبيرة من المسلمين يقولون بشرعيته و إباحته، و يجوز لغيرهم الرجوع إلى القائلين به، فعلى المسلمين أن يسدوا باب الفحشاء باحياء سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حتّى يسدّ اللّه تعالى عليهم أبواب البلاء و المحن، التي عجزت عقول البشر عن معالجتها و رفعها، و اللّه الموفق للصواب.

ص: 55

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَي.......

اشارة

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى ما يتعلّق بنكاح الحرائر و بيّن القاعدة الكليّة في ما يحرم من النكاح و ما يجوز، و تعرّض لنكاح الإماء، ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة شروط نكاح الإماء، و هي الإيمان و انتفاء الطول من نكاح الحرائر و خوف العنت.

و بيّن عزّ و جلّ أصلا من الأصول المهمّة التي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي و بضمنه الاسرة، و هو كون المؤمنين بعضهم من بعض، يشعر كلّ واحد بالمسئولية تجاه الآخر، و أنّه لا بد من الوفاء بالعهد الذي يطلبه منه الفرد و المجتمع، ثمّ أمر عزّ و جلّ بالصبر عن نكاح الإماء، و أنّه خير لمن يريد نكاحهن، و اللّه غفور رحيم.

التفسير

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ .

مادة «طول» تدلّ على الفضل و الزيادة، و منه الغنى و السعة و الاعتلاء، و النبيل، و قد وردت هذه المادّة في ما يقرب من عشرة مواضع، قال تعالى:

اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ [سورة التوبة، الآية: 86]، و قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ [سورة القصص، الآية 45]، إلى غير ذلك ممّا وردت في الآيات المباركة.

ص: 56

اِسْتَأْذَنَكَ أُولُوا اَلطَّوْلِ [سورة التوبة، الآية: 86]، و قال تعالى: فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الحديد، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لكِنّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ اَلْعُمُرُ [سورة القصص، الآية 45]، إلى غير ذلك ممّا وردت في الآيات المباركة.

و من أسمائه الحسنى (ذو الطول)، قال تعالى: غافِرِ اَلذَّنْبِ وَ قابِلِ اَلتَّوْبِ شَدِيدِ اَلْعِقابِ ذِي اَلطَّوْلِ [سورة غافر، الآية 3]، أي: واسع العطاء و المغفرة و الرحمة.

و المراد به في المقام الزيادة و السعة في المال و الحال و القدرة، فإنّ في التزويج بالحرائر حقوقا و شروطا و أحكاما معينة، و في كلّ ذلك آداب متعارفة بين الناس في نكاح الحرائر، و هي غير معتبرة عرفا في نكاح الإماء، و كذا التزويج بالحرائر يتطلّب المهر و الصداق، بخلاف نكاح الإماء.

فإذا لم يكن له سعة معنويّة و ماديّة في تزويج الحرائر المؤمنات، فله أن ينكح الإماء المؤمنات، و لم يبيّن سبحانه و تعالى خصوصيات الطول؛ لأنّ المرجع حينئذ العرف، و هو يختلف بحسب حالات الشخص و جهات معيشته، و بحسب الأعصار و الأمصار.

و المحصنات بفتح الصاد و هن الحرائر، بقرينة المقابلة بقوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ، فإنّ الحرية تدعو إلى الإحصان و العفّة، بخلاف الملكية في الإماء.

قوله تعالى: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ .

جواب الشرط، و المراد بالفتيات الإماء، و إن كانت مسنّة؛ لأنّها كالصغيرة في أنّها لا توقر توقير الحرّة. و إنّما جيء بهذه الكلمة لرفع الحزازة و النقيصة من التزويج بالإماء، أي: ينتقل إلى ما ملكت أيمان المؤمنين من الإماء المؤمنات، فيتزوّج بهن أو يتسرّى.

و إنّما نسب ملك اليمين إلى اليمين؛ لرفع جهة النقصان فيهنّ ؛ و لبيان أنّ

ص: 57

الجميع في هذا الأمر واحد لاتحادهم في الدين، و إن كان فيهم من لا يريد إلا التزويج و النكاح بالحرائر.

كما أنّ التقييد بالمؤمنات في المحصنات؛ لبيان عدم جواز نكاح غير المؤمنات من المشركات، و لبيان أفضل الأفراد. و أمّا التقييد في الفتيات لبيان أنّ الإيمان يمنعهنّ من بعض الرذائل الخلقيّة، و أنّ اتباع الدين يحفظهنّ عن ارتكاب منافيات العفّة، و الإيمان الصحيح ما كان رادعا عن السوء و الفحشاء، و لبيان جهة الاتحاد بين جميع الأفراد.

و معنى الآية الشريفة أنّ من لم يقدر على نكاح الحرائر المؤمنات و التزويج بهن لعدم قدرته على تحمّل المهر و النفقة، و ما يتطلّبه نكاح الحرّة، فله أن ينكح من الإماء المؤمنات اللواتي اتصفن بالصفات الحميدة و أعرضن عن الفحشاء و المنكر بسبب إيمانهن، فلا يتحرّج من ذلك، فإنّ النكاح بهن حينئذ يمنع من الوقوع في الفحشاء و ارتكاب المآثم. و نكاحهنّ يكون إمّا بالعقد، أو بالتسرّي.

و سوق الآية الشريفة يدلّ على أنّها في مقام التنزيل، فإنّ من لم يقدر على الأوّل ينتقل إلى الثاني، و هما متفاوتان في الدرجة، فتكون الآية الكريمة مبيّنة للصورة النازلة من نكاحي الدوام و المتعة، إتماما لأحكام النكاح و بعض شؤونه و خصوصياته و آدابه.

و قد ذكرنا أنّ إطلاق النكاح في المنزل عنه يشمل الدوام و المتعة، فإنّ لكلّ إنسان رغبة في أحدهما، و إن كانا يختلفان في بعض المراتب، لكنّه غير ضائر، فإنّ حالات الشخص تختلف بالنسبة إليهما، فإذا لم يتمكّن من أحدهما انتقل إلى الفرد الآخر الذي هو أقلّ مرتبة من النكاح الدائم و النكاح المؤقّت؛ لوجود العذر، و هو عدم القدرة على المهر أو الاجرة، و ما يتطلّبه كلّ واحد من الفردين من الأحكام.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا وجه لتخصيص النكاح بالدائم في المنزل عنه الذي

ص: 58

هو أحد أفراد النكاح بالمعنى العامّ ؛ لكونه هو الفرد المتعارف و الموافق للطبع في نظر الإنسان، فإنّ ذلك لا يوجب تخصيص الآية.

كما أنّه لا وجه للقول بأنّ هذه الآية تكون مؤيّدة بأنّ المراد من الاستمتاع في الآية السابقة هو النكاح الثابت، فإنّه لا تأييد فيها بوجه من الوجوه، بل الآية الشريفة في مقام التنزيل و ذكر أفراد المنزل عنه و المنزل إليه، مع أنّ الآية السابقة ظاهرة في نكاح المتعة - كما عرفت - و أنّ عدم الطول بالنسبة إليها يختلف بالنسبة إلى النكاح الدائم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ .

جملة معترضة لبيان الوجه في اعتبار الإيمان في الفتيات المؤمنات؛ لأنّ الإيمان قد رفع شأنهن و ساوى بينهن و بين الحرائر، و أنّ الإيمان يرفع المتّصف به إلى أعلى الدرجات، و هو مناط التفاخر، لا الأحساب و الأنساب و الأوهام الباطلة، فرب أمة مؤمنة أفضل من حرّة عند اللّه تعالى لكمالها بالإيمان.

و لكن الإيمان أمر قلبيّ يتفاوت فيه الأفراد، و اللّه تعالى أعلم بدرجات إيمانكم قوة و ضعفا و كمالا و نقصا، و المناط هو الجري على الأسباب الظاهريّة، و الإيمان الظاهريّ هو المبنيّ على الشهادتين و إتيان الوظائف الدينيّة و الدخول في جماعة المسلمين، و هو كاف في التكاليف، و منها المقام، أي: نكاح الأمة. و الآية المباركة في مقام نفي إزالة النفرة عن نكاح الإماء و تأنيس القلوب بهنّ .

قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ .

بيان لحقيقة من الحقائق القرآنيّة في مطلق الإنسان، فإنّ جميع الأفراد متساوون في الإنسانيّة، فالرقيق إنسان و الحرّ إنسان، لا امتياز بينهما من هذه الجهة و إن اختلفا في بعض الخصوصيات التي يبتني عليها النظام العامّ ، و لكن تلك لا توجب القرب و الامتياز عند اللّه تعالى إلا ما بيّنه عزّ و جلّ آنفا، و هو الإيمان و التقرّب إليه سبحانه بالطاعة.

ص: 59

و الآية المباركة ردّ على تلك العادات و التقاليد التي ميّزت أفراد الإنسان على حسب الطبقات، و جعلوا طبقة العبيد و الإماء من أخسّ الطبقات و أرذلها، ممّا أوجب الابتعاد عنهم و الانقباض عن مخالطتهم، لا سيما الازدواج بهم، فكان لهذا التعليم الإلهي و التربية الربانيّة أعمق الأثر في نفوس المؤمنين في ترك ما خلّفته الجاهلية البغيضة من سوء الأخلاق و سفاسف الأمور.

و الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي وردت في تهذيب الإنسان و تربيته تربية صالحة، بردّه إلى فطرته، و بيّنت أن أساس الكمال و الرفعة هو الإيمان و اتباع الشريعة بعد تساوي الجميع في شؤون الإنسانيّة، و أن الإيمان يشدّ بعضهم ببعض، و يربطهم بخالقهم و يسعدهم في حياتهم، بعد كونهم متساوين من جهة الإنسانيّة، فلا موجب بعد ذلك للنفرة من الإماء و الابتعاد عنهن، و لا ينبغي للمؤمن أن يصغي إلى الأوهام الباطلة و العادات السيئة، فتبعده عن الحقائق التي تجلب السعادة و الفوز بالفلاح. و الآية الكريمة في مقام التأليف بين الناس و عطف بعضهم مع بعض.

قوله تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ .

شرط آخر من شروط نكاح الإماء، و هو أن يكون نكاحهن بطيب نفس أهلهن، و ذكر الإذن إنّما هو من باب الطريقيّة لإحراز طيب النفس.

و المراد بالأهل الموالي، و إنّما عبّر عزّ و جلّ به لبيان أنّ الفتاة واحدة من أهل بيت مولاها، فيكون مثل قوله تعالى: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ؛ لرفع الحزازة و المنقصة من نكاحهن؛ و لبّث التأليف بين القلوب.

و الآية المباركة تدلّ بمفهومها على حرمة نكاح المملوكة بدون إذن أهلها، و تدلّ عليه السنّة الشريفة أيضا،

ففي الحديث الشريف عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه».

و عن الصادق عليه السّلام: «لو تزوّج الرجل بالأمة بغير علم أهلها، فهو زنا»، و الإطلاق في المنطوق و المفهوم يشمل النكاح الدائم و المنقطع.

ص: 60

قوله تعالى: وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ .

المراد بالاجور في المقام المهور؛ لأنّ المهر عوض البضع، و إضافة الأجور اليهنّ مع كونهنّ مملوكات؛ لبيان أنّ المهر قد استحقّته بميثاق الزواج، و هو يقابل بضعها، و لا ينافي هذا كون الأجر للمالك؛ لأنّه مالك لها و لمنافعها.

و إنّما قيّد عزّ و جلّ الإعطاء بالمعروف؛ للدلالة على أنّه لا حدّ لهذا المهر كما و كيفا شرعا، بل يحدّده العرف و العادة في مثل هذا الزواج، و لكن لا بد أن يكون من غير بخس و لا أذى و لا مماطلة، و هذا هو المعروف في كلّ نفقة أيضا، كما تقدّم في آية النفقة في سورة البقرة.

قوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ .

المحصنات: العفائف، و غير مسافحات لبيان نفي جميع أنواع الزنا، العلن منها و الخفي.

و المعنى: أنّهن قد أقدمن على الزواج للإحصان و التعفّف عن الحرام، فلا يأتين بما ينافي العفّة، كالزنا و اتباع الشهوات. و إنّما اختلف التعبير في المقام عن ما ورد في نكاح الحرائر، قال تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ ؛ لأنّ الحرائر أبعد عن الفحشاء من الرجال، فإنّهم أسرع انقيادا لزمام الشهوة، فجعل هذا القيد للرجال الطالبين للزواج، و أمّا الإماء فإنّ الغالب عليهن الزنا، فجعل قيد الإحصان لهنّ ، فكأن القيد في كلّ موضع يرجع إلى ما يوافق الطبع و العادة.

قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ .

الأخدان: جمع الخدن - بكسر الخاء و سكون الدال - و الخدين: الصديق و الخليل، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث و المفرد و الجمع.

و عن بعض أن الأخدان هم الأصدقاء في السرّ للزنا، لا مطلق الصديق و الخليل. و لكن ذلك من باب ذكر أحد المصاديق لا التقييد؛ لأنّ الخدن هو الصاحب و الخليل في كلّ أمر ظاهر و باطن، يقال: رجل خدنة، إذا اتخذ أخدانا و أصحابا، و ذات الخدن هي التي تزني سرّا.

ص: 61

و المراد بها في المقام هي المرأة التي تختصّ بخلّة الرجل و مصاحبته للزنا و الفجور، و نفي هذا الفرد مع أنّه منفي بالآية السابقة للتأكيد على تركه، لأنّه كان شائعا في الجاهلية، فقد كانت العرب تعيب الإعلان بالزنا بأن تأخذ الأجر من الراغبين فيها و لا تعيب على ذات الخدن، أي: الزنا سرّا مع صديق لها على الخصوص؛ و لذا أفرد سبحانه و تعالى كلّ واحد من هذين القسمين بالذكر، و نصّ على حرمتهما معا، و حرّم جميع مظاهر الزنا، قال تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ [سورة الانعام، الآية 151].

و إنّما أتى بصيغة الجمع؛ للدلالة على الكثرة، فإنّ النفس لا تقنع بالخدن الواحد إذا اطلق زمامها و اطيعت في ما تهواه.

قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ .

بضمّ الهمزة و كسر الصاد بالبناء للمفعول، و هي القراءة المعروفة، أي: فإذا أحصن بالتزويج، و قرئ بالبناء للفاعل، أي: أحصن فروجهن و أزواجهن.

و كيف كان، فالمراد من الإحصان التزويج، و هو المناسب للسياق و التفريع، و يدلّ عليه بعض الأحاديث.

و قيل: المراد بالإحصان الإسلام، و استدلّ عليه

بما رواه في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إحصانها إسلامها».

و لكنه مردود:

أولا: أنّه مخالف لسياق الآية الشريفة.

و ثانيا: أنّ الإحصان حينئذ من فعلهنّ ، لا من غيرهن عليهن، الذي هو مفاد القراءة بالبناء للمفعول.

و ثالثا: الحديث معارض بغيره.

نعم، لو كان المراد من الإسلام الحقيقيّ منه، كان له وجه.

ص: 62

قوله تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى اَلْمُحْصَناتِ مِنَ اَلْعَذابِ .

المراد من الفاحشة هي التي توجب الحدّ، و هي الزنا و المساحقة، و العذاب:

الحدّ، و هو هنا الجلد دون الرجم؛ لأنّه لا يقبل التنصيف، و المحصنات هنا الحرائر، و قد ورد الإحصان في القرآن بمعان أربعة، الأوّل: التزوّج، و الثاني: العفّة، و الثالث: الحرّية، و الرابع: الإسلام، كما قيل في تفسير قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ .

و اللام في «العذاب» للعهد، و هو ما ورد في قوله تعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [سورة النور، الآية: 2]، فالذي ينصف من حدّ الزنا هو المائة جلدة، و تقدّم أنّ الرجم ليس له نصف، بل هو مقدّمة لإزهاق الروح.

و المعنى: فإذا فعلن الفتيات المؤمنات الزنا بعد إحصانهن بالزواج، فعليهن نصف حدّ الحرائر غير المزوّجات، و هو جلد خمسين جلدة، و يدلّ على ذلك أحاديث متعدّدة مرويّة من الفريقين، سيأتي ذكرها في البحث الروائي.

و ممّا ذكرنا يعرف أنّه لا مفهوم للشرطيّة في قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ ؛ لقيام الدليل عليه. و إنّما ذكر إحصان الزواج في الشرط المجرّد عن المفهوم لأنّه كان مفروض الكلام، و قد ذكر في ما تقدّم، فلا يؤثّر الإحصان فيها شيئا زائدا، فهي متّحدة في كلتا الحالتين، و نظير الآية الشريفة في انتفاء المفهوم قوله تعالى:

وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى اَلْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً [سورة النور، الآية: 33]، و لعلّ فائدة مفهوم الشرط في المقام لبيان اختلاف حكم الأمة مع حكم الحرّة في هذه الحال، و أنّه يجب عليها الجلد خمسين خاصّة في الحالتين.

و ذهب بعض المفسّرين من الجمهور إلى العمل بمقتضى مفهوم الشرط و الحكم بعدم وجوب الحدّ عليها إذا لم تكن محصنة، و قال: إنّ تفسير المحصنات في هذه الآية الكريمة بالحرائر مقابلة للإماء، ليس بسديد، و أيّده بحصول الشبهة لهن بتجويز الزنا لهن في هذه الحال.

ص: 63

و يردّ عليه مضافا إلى أنّه بعيد عن سياق الآية المباركة - كما عرفت - أنّه مخالف لجملة كثيرة من الروايات أيضا. هذا كلّه إن كان المراد بالإحصان إحصان الزواج و العفّة.

و أمّا إذا كان المراد إحصان الإسلام - كما ذكره جمع - فالآية المباركة تدلّ على المطلوب - و هو نصف عذاب الحرائر، سواء كنّ ذوات بعولة أو لا - بوضوح من غير مؤونة.

قوله تعالى: ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ اَلْعَنَتَ مِنْكُمْ .

مادة «عنت» تدلّ على المشقّة و الشدّة، و منه: أكمة عنوت، أي: صعبة المرتقى،

و في الحديث: «أيما طبيب تطبّب و لم يعرف بالطبّ فأعنت، فهو ضامن»، أي: أفسد و أوقع المريض في المشقّة و الشدّة.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع خمسة، كلّها تدلّ على المشقّة و الجهد، و قد فسّر جمع من المفسّرين العنت في المقام بالزنا؛ لأنّه نتيجة وقوع الإنسان في مشقّة الشبق و جهد شهوة النكاح.

و قيل: إنّه الإثم؛ لأنّه لا ضرر أعظم من مواقعة المآثم بارتكاب أفحش القبائح، و لكن لا دليل على كون المراد هو الزنا أو الإثم، فالصحيح هو الأخذ بالمعنى العامّ ، و هو الشدّة و المشقّة الحاصلة بسبب العزوبة و ترك التزويج بالإماء.

و المعنى: جواز نكاح الفتيات المؤمنات لمن يجد الطول في نكاح الحرائر المؤمنات، إنّما هو لمن يخاف أن يقع في المشقّة و الجهد الحاصل من العزوبة و ترك التزويج بالإماء.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ .

أن بفتح الهمزة مخفّفة، و الجملة في تأويل المصدر، أي: و صبركم خير لكم، و اختلف المفسّرون في متعلّق الصبر، فالمشهور أنّه نكاح الإماء، فالمعنى:

و صبركم عن نكاح الإماء مع عدم الطول و خوف المشقّة خير لكم لما في

ص: 64

نكاحهن نوع من الحزازات، و يترتّب عليه من العواقب التي يرغب عنها الأحرار، ككون أمر الأمة بيد المولى في غير ما يعارض النكاح و الاستمتاع، فإنّهما للزوج، و أنّ النكاح في معرض الفسخ بالبيع و انتقال الملكيّة إلى مولى آخر، أو أنّ المهر الذي بذله الزوج يذهب هدرا لو أعتقها المولى، و غير ذلك ممّا ذكرناه في طي كلامنا،

و نسب إلى نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الحرائر صلاح البيت، و الإماء هلاك البيت».

و أمّا ما ذكره بعضهم من صيرورة الولد المتولّد منها رقّا، فهو غير تامّ عند الإماميّة و بعض فقهاء الجمهور، فإنّ الولد يتبع أشرف أبويه في الحرّية و الإسلام حتّى جعل الإماميّة ذلك قاعدة فقهيّة، و دلّت عليها الأخبار و الإجماع.

و كيف كان، فالآية المباركة في مقام الإرشاد إلى ترك نكاح الإماء، أي:

استحباب تركه، لا التحريم، و يدلّ عليه جملة من الأخبار.

و قيل: إنّ المتعلّق هو الزنا، أي: صبركم عن الزنا خير لكم لما فيه من تهذيب النفس و تحصيل ملكة العفّة و التلبّس بلباس التقوى و تحكيم العقل، و ترك اتباع الشهوات، و أيّد ذلك بأن ترك نكاح الإماء لا يجتمع مع خوف العنت و المشقّة، فلا بد أن يكون المراد الصبر عن الزنا، و تركه بالازدواج معهن.

و يمكن الجواب عنه بأن خشية العنت لها مراتب متفاوتة، فبعضها يجامع الصبر، و هو ما إذا علم من نفسه العصمة من الزنا و ارتكاب الفحشاء إذا ترك التزويج بهن، لكن مع المشقّة الشديدة. و لكنّ بعض المراتب لا تجتمع مع الصبر، كما إذا غلب على ظنّه أو علم بأنّه يقع في الفحشاء، فحينئذ يكون النكاح واجبا أو مستحبّا.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أي: و اللّه غفور يغفر لمن خالف إرشاداته و أوامره، و يمحو آثار سيئاته، و لا يؤاخذه بما يختلج في نفوس المؤمنين، رحيم بعباده يرشدهم إلى ما يصلحهم، و لا يكلّفهم إلا ما يطيقونه.

ص: 65

بحوث المقام
بحث أدبي

الطول: في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً مصدر، و هو مفعول به ليستطيع، و ردّ: بأنه بناء عليه يكون المعنى: و من لم يقدر على القدرة.

و أجيب بأنّ طول في المقام هو السعة و الغنى، أي: و لم يكن له القدرة على الغنى و السعة في الحال و المال.

و قيل: إنّه مفعول لأجله، لبيان جهة الاستطاعة المذكورة.

و قيل: إنّه منصوب بنزع الخافض، أي يقدر على الطول.

و مَنْ في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ إمّا شرطيّة و ما بعدها الشرط، أو موصولة و ما بعدها صلة.

و أَنْ يَنْكِحَ في تأويل للمصدر مفعول لكلمة (يستطع)، أو منصوب بفعل مقدّر صفة «طولا»، أي: يبلغ به نكاح المحصنات.

و الفتاة: اسم للمملوكة، كما أنّ الفتى اسم للمملوك،

و في الحديث: «لا يقولن أحدكم: عبدي و أمتي، و لكن ليقل: فتاي و فتاتي»، و هو يطلق على المماليك في الشباب و الكبر، بخلاف الأحرار، فإنّه يطلق عليهم في ابتداء الشباب فقط.

و قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ عطف على مسافحات، و «لا» لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي أو من عطف الخاصّ على العامّ ، كما عرفت في التفسير.

ص: 66

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: تدلّ مجموع الآية الشريفة: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ ... على مرجوحية نكاح الإماء، حيث اشترط عزّ و جلّ في جواز نكاحهن أمرين: عدم الطول، و خوف العنت، و ما تضمّنته الآية المباركة من الترغيب في نكاحهن عند توفّر الشرطين ثمّ الأمر بالصبر أخيرا و الإرشاد إلى ترك ذلك بل استحبابه، كلّ ذلك يدلّ على مرجوحيّة النكاح بهن و كراهته، و لكن لا يستفاد من جميع ذلك حرمة نكاحهن، و هو المشهور بين العلماء.

و ذهب جمع إلى الحرمة إذا فقد أحد الشرطين المزبورين لمفهوم الآية الكريمة، فإن الأوّل مفهوم الشرط، و الثاني و إن كان مفهوم الصفة، إلا أنّه لا يقصر عن المنطوق في الدلالة، و استدلّوا على ذلك بجملة من الروايات التي حملها على الكراهة أولى من الحرمة، بقرينة جملة اخرى من الأحاديث.

و أمّا المفهوم، فلا حجّة فيه مع سياق الآية الشريفة الدالّ على التنزّه كما عرفت، و لدخول نكاح الإماء بالعقد في الفرض المزبور تحت العمومات الدالّة على الإباحة، و التفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ ، رجحان النكاح بالحرائر المؤمنات مع التمكّن من المهر.

الثالث: ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لا بد لكلّ نكاح من مهر، و إن لم يكن ذكره لازما في متن العقد.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الردّ على العادات و التقاليد التي كانت سائدة في هذا النوع من أفراد المجتمع

ص: 67

الإنساني، و هم العبيد و الإماء الذين كانوا في أشدّ معاناة و أعظم محنة، فاعتبر الإسلام أنّهم من أفراد المجتمع الإنساني، فهم يحسّون ما تحسّونه و يعانون ما أنتم تعانون منه، فإنّ بعضكم من بعض، و إذا انضمّ إلى ذلك الإيمان كان الارتباط أوثق و الوشيجة بين الأفراد أمتن، فإنّ في المجتمع الإسلامي من الروابط بين الأفراد ما لم تكن في أي مجتمع آخر، و لعلّ

ما ورد عن علي عليه السّلام: «الناس صنفان، إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق»، مقتبس من مثل هذه الآية الشريفة، كما تدلّ هذه الآية أيضا على أنّ الأحكام الإلهيّة لا يمكن أن تقبل التغيير تبعا للعادات و التقاليد الباطلة، فإنّها أحكام واقعيّة تشتمل على مصالح.

فلا يصحّ أن يعتبر نكاح الإماء عارا عند الحاجة إليه بعد الإيمان، و أنّه أكبر رادع عن ارتكاب السوء و الفحشاء نوعا.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ، على وجه الحكمة في التشريع في هذا الأمر التكويني، فإنّ اللّه تعالى إنّما شرّع الأحكام المرتبطة بالنكاح مطلقا، لأجل تهذيب هذا الأمر الفطريّ و تحديده، بحيث يحتفظ فيه داعي العقل و الفطرة، فلا يسرح فيه كالبهائم ليس همّه إلا اتباع الشهوة و إرضاء داعي الفطرة، فكان النكاح أمرا تربويّا في نظر الإسلام، و ليس مجرّد كونه أمرا تكوينيّا و اتباعا للشهوة العارمة، و لا بد في النكاح من ملاحظة كونه رادعا عن الفحشاء و صارفا عن السفاح، فالنكاح الشرعي من أهمّ سبل ترويض النفس و تهذيبها، و الصبر عن الحرام.

أمّا التوالد و التناسل، فهما أمران تكوينيّان يترتّبان على المقاربة و غشيان النساء، و يصلحان بصلاح المنشأ و السبب؛ و لذا اهتمّ الإسلام في تحديد العلاقة الزوجيّة بأن حدّد لها شروطا و آدابا؛ لأنّها السبب في صلاح النسل و فساده، فما ذكره جمع من أنّ الحكمة في نظر الإسلام إنّما هو تكوين الاسرة و النسل، فهو خلاف ظاهر الآيات الشريفة، مع أنّ ما ذكروه مترتّب على نوع تلك العلاقة، لا

ص: 68

مجرّد تكوين الاسرة و النسل بأي وجه حصل، فربّ اسرة تشكّلت من الحرام و حصل منها النسل الكثير، و لكنّه في نظر الإسلام مذموم و قبيح.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: فَإِذا أُحْصِنَّ أنّ الغاية من النكاح هو الإحصان، كما ذكره عزّ و جلّ آنفا، و أنّه لا ينبغي لمن أحصن نفسه فعل الفاحشة و ارتكاب السوء و الآثام، فإنّهما جهتان لا يجتمعان، فإذا صدر منهنّ ذلك فعليهنّ نصف ما على الحرائر من العذاب، و هذا مختصّ بما يقبل التنصيف، و هو الجلد دون الرجم، كما عرفت.

بحث روائي

في الكافي: عن الصادق عليه السّلام قال: «لا ينبغي أن يتزوّج الحرّ المملوكة اليوم، إنّما كان ذلك حيث قال اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً ، و الطول المهر، و مهر الحرّة اليوم مهر الأمة أو أقلّ ».

أقول: هذه الرواية تدلّ على كراهة التزويج مع فقد الشرط، و التفصيل مذكور في الفقه.

و في المجمع: عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً : «أي: من لم يجد منكم غنى».

أقول: المستفاد من الرواية أنّ ذكر الغنى و المهر في الحديثين من باب بيان ذكر مصاديق الطول، و المراد منهما القدرة العرفيّة.

و في التهذيب: عن أبي العباس البقباق، قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

يتزوّج الرجل الأمة بغير علم أهلها؟ قال: هو زنا، إنّ اللّه تعالى يقول:

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ».

أقول: الحديث موافق للقواعد العامّة، فإنّ التصرّف في ملك الغير غير جائز إلا بإذنه، و في النكاح يكون زنا قهرا.

ص: 69

و في تفسير العياشي: قال: «سألته عن المتعة، أ ليس هي بمنزلة الإماء؟ قال عليه السّلام: نعم، أما تقرأ قول اللّه تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ - إلى قوله تعالى - وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ ؟! فكما لا يسع الرجل أن يتزوّج الأمة و هو يستطيع أن يتزوّج الحرّة، فكذلك لا يسع الرجل أن يتمتّع بالأمة، و هو يستطيع أن يتزوّج بالحرّة».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ نكاح المنقطع كالنكاح الدائم في هذه الجهة، و تقدّم في التفسير أنّه مستفاد من إطلاق الآية الشريفة، و الحديث ردّ على من زعم أنّ المتعة لا تجوز مع التمكّن من نكاح الأمة.

و في التهذيب: عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: «سألت الرضا عليه السّلام يتمتع بالأمة بإذن أهلها؟ قال: نعم، إنّ اللّه تعالى يقول: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ».

أقول: الحديث نصّ في أنّ المتعة نكاح يجري فيها ما يجري في النكاح الدائم، إلا ما خرج بالدليل.

و في الكافي و تفسير العياشي: عن محمد بن مسلم، عن أحدهما عليهما السّلام قال:

«سألته عن قول اللّه تعالى في الإماء: فَإِذا أُحْصِنَّ ، ما إحصانهن ؟ قال:

يدخل بهنّ ، قلت: فإن لم يدخل بهن ما عليهن حدّ؟ قال عليه السّلام: بلى».

أقول: الحديث يدلّ على أنّه لا مفهوم للآية الشريفة بالنسبة إلى إقامة الحدّ عليهن.

و في التهذيب: عن بريد العجلي، عن أبي جعفر عليه السّلام: «في الأمة تزني، قال:

تجلد نصف الحدّ، كان لها زوج أو لم يكن».

أقول: تقدّم ما يرتبط بهذا الحديث، و هو في مقام شرح الآية الشريفة.

و في تفسير العياشي: عن حريز قال: «سألته عن المحصن ؟ قال عليه السّلام: الذي عنده ما يغنيه».

ص: 70

أقول: الحديث و إن ورد في الرجل المحصن، لكن مقتضى قاعدة الاشتراك و الأخبار الواردة في هذا السياق، تساوي المرأة المحصنة مع الرجل في هذه الجهة.

و في تفسير القمّي في الآية الشريفة: فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ - الآية قال: «يعني به العبيد و الإماء إذا زنيا ضربا نصف الحدّ، فمن عاد فمثل ذلك حتّى يفعلوا ذلك ثماني مرّات، ففي الثامنة يقتلون، قال الصادق عليه السّلام: و إنّما صار يقتل في الثامنة؛ لأنّ اللّه رحمه أن يجمع عليه ربق الرق و حدّ الحرّ».

أقول: قد ورد أن أصحاب الكبائر يقتلون في الرابعة و الثالثة، و هذا الحديث يشرح ذلك بالنسبة إلى العبيد و الإماء.

و في الكافي: عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في عبد مملوك قذف حرّا، قال عليه السّلام: يجلد ثمانين، هذا من حقوق الناس، فأمّا ما كان من حقوق اللّه عزّ و جلّ فإنّه يضرب نصف الحدّ، قلت: الذي من حقوق اللّه عزّ و جلّ ما هو؟ قال عليه السّلام: إذا زنى أو شرب خمرا فهذا من الحقوق التي يضرب عليه نصف الحدّ».

أقول: الحديث شارح لجملة كثيرة من ما ورد في المقام.

و هناك فروع فقهيّة مرتبطة بنكاح العبيد و الإماء، ذكرنا شطرا منها في كتابنا (مهذب الأحكام)، و من شاء فليرجع إليه.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: «المسافحات المعلنات بالزنا، المتخذات أخدان ذات الخليل الواحد، قال: كان أهل الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا و يستحلّون ما خفي، يقولون: أمّا ما ظهر منه فهو لؤم، و أمّا ما خفي فلا بأس بذلك، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ».

أقول: تقدّم في التفسير ما يتعلّق بالآية الشريفة.

ص: 71

بحث عرفاني

الآية المباركة وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ على اختصارها و اسلوبها الرائع الذي يجذب القلوب و تطمئن إليها النفوس، تشمل على أمور مهمّة.

الأوّل: تتضمن النشأة الاخرويّة و إيكال الإيمان إلى عالم الغيب و الشهادة، الذي فيه فوائد جمّة، منها: سوق العباد إلى ذلك العالم.

و منها: جهدهم لدرك هذا المقام.

و منها: انقطاعهم من الدنيا إلى عالم الغيب.

و منها: عدم الاعتماد على النفس، و عدم الاغترار بما يصدر من الإنسان، فإنّ الدرجات متفاوتة لا يعلمها إلا اللّه تعالى.

الثاني: سريان التوحيد في المعبود و العبادة، و بضميمة قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات، الآية: 13]، الذي هو بمنزلة الشارح لهذه الآية، ينتج المطلوب، إذ المراد أنّ اللّه أعلم بتقواكم، فهو أعلم بإيمانكم، و المراد بالإيمان هو التوحيد في العبادة و المعبود.

الثالث: تتضمّن الآية المباركة أيضا على النشأة الدنيويّة في قوله تعالى:

بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، فإنّه يبيّن حقيقة واقعيّة، و هي أنّ أفراد النوع الواحد لا تفاوت بينها من حيث النوعيّة و لا تفاضل بحسب الحقيقة، فالحرّ و العبد، و الأمة و الحرّة متساوون في الحقيقة، ففي الآية المباركة الحثّ على ملاحظة الوحدة الاجتماعيّة و نبذ جهات التفرقة و التنافر، و هذا ما أكد عليه الإسلام في مواضع متفرّقة في القرآن، و دلّت عليه السنّة الشريفة.

فالآية الشريفة تبيّن ارتباط العبد مع خالقه، و تحدّد ارتباطه مع بني نوعه أيضا، و تحثّهم بأسلوب لطيف على التعاون و التآلف و التعاضد، بلا فرق بين

ص: 72

الأصناف المتفاوتة و الأفراد المختلفة؛ و لذا نرى أنّ أهل اللّه تعالى - و في رأسهم عليّ عليه السّلام - يرون جميع أفراد الإنسان واحدا في حيثيّة كشفهم عن الخالق و تجلّيه فيهم، فتكون الآية المباركة ترغيبا إلى الوحدة و الاتحاد بين أفراد الإنسان، حيث جعل عزّ و جلّ الإنسان نوعا واحدا مركبا من بعض مع بعض، بحيث لو انفصل البعض من الكلّ لا بد و أن يتأثّر الكلّ بذلك، و قد نظم الشعراء في هذا المضمون قصائد ممتعة كثيرة بألسنة مختلفة.

ص: 73

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ ح.......

اشارة

يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) الآيات المباركة من جلائل الآيات القرآنيّة التي تبيّن وجوها من الحكم في تشريع الأحكام الإلهيّة، لا سيما تلك الأحكام التي شرّعت في النكاح، و تبيّن أنّها من نعم اللّه تعالى على عباده المؤمنين، التي تهديهم إلى الصلاح و الرشاد و تجلب لهم السعادة في الدنيا و الآخرة، و أنّ اتباعها يوجب التخفيف على الإنسان الذي هو في صراع مرير بين النفس الأمّارة و القوى الشريرة التي تريد الهلاك و الشقاء، و بين القوى الخيّرة التي تريد له الخير و السعادة، و اللّه تعالى بتشريعه الأحكام لا يريد إلا الخير و الصلاح و الرقي للمجتمع الإنساني.

التفسير

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ .

جملة استئنافيّة لبيان الغاية في تشريع ما سبق من الأحكام الإلهيّة و وجوه الحكمة فيه. و الإرادة: معروفة، و هي من صفات اللّه تعالى العليا الفعليّة، و قد تقدّم في أحد مباحثنا الفرق بين صفات الذات و صفات الفعل، و قلنا: إنّ كلّ صفة إذا صحّ إثبات نقيضها له عزّ و جلّ أو أمكن نفيها عنه تعالى، فهي من النوع الثاني، و إلا كان من النوع الأوّل، فمن صفات الفعل الإرادة، فإنها أطلقت و نقيضها عليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و كذا الحبّ :

ص: 74

إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة التوبة، الآية: 4]، و قال عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ اَلْمُعْتَدِينَ [سورة البقرة، الآية: 190] إلى غير ذلك من الصفات.

و من صفات الذات الحياة و العلم و القدرة، و غير ذلك، فإنّه لا يصحّ إطلاق نقيضها عليه عزّ و جلّ ، و قد تقدّم التفصيل في آية الكرسي من سورة البقرة فراجع.

كما أنّ الإرادة من أسباب الفعل، و هي المشيئة، و الإرادة، و القدر و القضاء، و سيأتي البحث عنها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و المعروف بين المفسّرين أنّ اللام في لِيُبَيِّنَ زائدة، و الأصل (يبيّن)، و إنّما أورد في المقام ليجعل المصدر مفعولا.

و قد ذكرنا مرارا في هذا التفسير أنّ دعوى الزيادة في القرآن الكريم باطلة، و أنّه لا شيء فيه بزائد، و إنّ لكلّ حرف و كلمة معنى خاصّ ، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و إنّما حذف مفعول (يبيّن) ليذهب ذهن السامع فيه كلّ مذهب و تستخرجه العقول السليمة و ذوي الفطرة المستقيمة، أي: يبيّن لكم امور دينكم و ما يصلح شأنكم و يحقق سعادتكم و فوزكم.

و قد ذكر بعض المفسّرين بعض الحكم في تشريع الأحكام المتقدّمة، و لكنّه من مجرّد آراء خاصّة، لم تثبت بدليل شرعي و لا بدليل عقلي مقبول.

قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

السنن جمع سنّة، و هي المنهاج و الطريقة المتبعة عملا، و المراد من قبلكم هم الأنبياء و الصالحين من عباد اللّه تعالى، و الجملة عطف على لِيُبَيِّنَ .

يعني: يريد اللّه أن يبيّن لكم ما هو سبب لسعادتكم و صلاحكم في الدنيا و الآخرة، و أن يهديكم سنن الماضين.

و المراد من السنن هي الشرائع التي شرّعها اللّه عزّ و جلّ لصالح الأمم الماضين، و قد جعلوها سنّة متّبعة لا يحيدون عنها.

ص: 75

و الدواعي لمعرفة سنن الماضين التي شرّعها اللّه تعالى كثيرة، و المصالح لاتباعها متعدّدة؛ لأنّ دين اللّه واحد موافق للفطرة المستقيمة و لا اختلاف فيه؛ و لأنّ متابعة نهج السلف الصالح ما تدعو إليه فطرة العقول، و للاستفادة من تجارب الماضين الذين لم يقصدوا إلا ابتغاء مرضاة اللّه، ففازوا بسعادة الدارين، فاقتضت المصلحة أن يسنّ عزّ و جلّ لكم شريعة تكون لكم منهاجا.

و قال بعض المفسّرين: المراد من الآية الشريفة الهداية إلى سنن جميع السابقين، سواء كانت سنّة باطلة أم على حقّ ؛ لتكونوا على بصيرة منها فتعملوا بما هو الحقّ منها، و تعرضوا عن الباطل منها، و على هذا تكون الجملة: سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قد تنازع فيها الفعلين «يبين» و «يهديكم»، و هذا لا بأس به.

و أورد عليه: بأنّ الهداية في المصطلح القرآنيّ إنّما تستعمل في الإيصال إلى الحقّ ، أو إرادة الحقّ ، فتكون هذه الكلمة قرينة على أنّ المراد هو المعنى الأوّل الذي ذكرناه، و هو بيان سنن الأنبياء و الصالحين التي شرّعها اللّه تعالى، و كانت سبب سعادتهم، و أمّا السنن الباطلة فلا معنى لدعوة اللّه تعالى إلى معرفتها.

و يمكن أن يجاب عن ذلك: أنّ معرفة السنن الباطلة إنّما هي داعية لتركها، فتكون من الهداية إلى الحق؛ لأنّ ترك الباطل حقّ كما أنّ فعل الحقّ حقّ ، بخلاف تركه.

و الآية المباركة توطئة للأخبار عن أنّ من يتّبع الشهوات يريد أن يضلّ المؤمنين بإحياء السنن الباطلة، و لبيان أنّ إرادة اللّه غالبة على إرادة المبطلين؛ و لإرشاد المؤمنين إلى مكائدهم، فإنّهم قد يظهرون عملا على اعتبار أنّه من هدى الماضين، و هو على خلاف الواقع.

قوله تعالى: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ .

التوبة: هي الرجوع، فمن اللّه تعالى الرجوع بالمغفرة و الرحمة، و من العبد الرجوع عن الذنب و الندم مع العزم على عدم العود. أي: أنّ اللّه تعالى يتوب

ص: 76

عليكم بغفران ذنوبكم و ما صدر منكم من السيئات، قولا و عملا إذا رجعتم إليه بترك ذلك.

و يمكن أن يراد بالتوبة في المقام المعنى العامّ ، و هي الرجوع على العباد بالنعمة و الرحمة في تشريعه للأحكام التي يكون العمل بها موجبا لغفران ذنوبهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه عليم بما أنتم عليه من خطرات قلوبكم و أعمال جوارحكم، و ما يترتّب عليها من المصالح و المفاسد.

و حكيم بمصالحكم و جميع مجعولاته التكوينيّة و التشريعيّة، فيشرّع لكم ما يهديكم و يكون سبب سعادتكم.

ثم إنّ إرادته تعالى في قوله جلّ شأنه: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ هي الإرادة التكوينيّة الأزليّة، التي لها دخل في التكوين و نظامه، و الهداية التكوينيّة لمعرفة الحسن و القبح بإفاضة العقل إليهم.

و في قوله تعالى: سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، التسلية للمؤمنين ممّا لا قوه من المشركين من المتاعب، و لبيان أنّ ما كانوا فيه من البأساء و الضراء، لقصور عقولهم عن درك مصالحهم و مفاسدهم و تماديهم في ذلك.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ .

تأكيد لما سبق و بيان بأن الصلاح و اتباع شريعة الحقّ إنّما يكونان بلطفه و عنايته عزّ و جلّ بالمؤمنين، فكانت هذه التوبة لأجل هدايتهم إلى العمل بالشريعة، و التوبة الاولى لأجل ما صدر عنهم من سيئات الأعمال، و هذه الإرادة التشريعيّة التي هي أيضا جزء من نظام التكوين، بل يعتبر من أهمّ أجزائه و الإرادة الاولى هي الإرادة التكوينيّة كما عرفت، فجعل تبارك و تعالى نفس الإسلام توبة لما صدر منهم قبله، كما في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله»، كما تشمل ما بعد الإسلام أيضا، فيستعدّ المؤمن لتلقّي المعارف و قبول الهداية الربانيّة

ص: 77

للعمل بالشريعة، فالإرادتان مختلفتان في المتعلّق، و إن كان لهما الدخل في النظام الربوبيّ .

و إرادته عزّ و جلّ الذاتية منزّهة عن الزمان و الزمانيّات، و إنّما هي أفعاله المقدّسة في الممكنات.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً .

اتباع الشهوات هو الرضوخ إلى دواعي الشهوة و عدم الاعتناء إلى ما يحكم به العقل، و الاسترسال في الانقياد إلى الشهوات و اتباع الهوى و التورّط في قبائح الأعمال و رذائل الأخلاق و الموبقات و سفاسف الأمور، و هذا هو الميل العظيم المستلزم لهتك الحدود الإلهيّة و الشريعة المقدّسة و ارتكاب المحارم، بل استباحتها، و يترتّب عليه الخروج عن صراط الفطرة التي تدعو إليها جميع الشرائع الإلهيّة و العقل القويم، فالشريعة الحقّة و الحدود الإلهيّة إنّما هي لكبح جماع الشهوة و الاستجابة إلى دواعي الفطرة المستقيمة، و جعل الإنسان في الصراط المستقيم.

و لكن الذين اتبعوا الشهوات و استجابوا لدواعي الباطل و الفساد، يريدون أن يكون المؤمنون أمثالهم في الغواية و الضلال و ترك جادة الصواب، رغبة منهم في الغي و تكثيرا لأمثالهم من الفساق و المبطلين، فلا يكون من ينكر عليهم أو لتقليل النكير عليهم، و عنادا للحقّ .

و الآية المباركة تبيّن الصراع المرير بين الحقّ و الباطل بكلّ مظاهره و يميّز الحقّ عن غيره، و يدعو إلى الحقّ حتّى يصلوا إلى أرقى مراتب الكمال، و يتفوّقوا على غيرهم ممّن يتبع السبل الباطلة و الأهواء المضلّة.

و المستفاد من كلمة (الميل) أنّ هناك صراطا مستقيما، و هو الذي يدعو إليه العقل و شريعة الحقّ و سبلا باطلة تحفّها الشهوات و الأهواء المضلّة القبيحة، و اتباع الشهوات يوجب الميل عن الأوّل و الدخول في سبل الباطل و الغواية،

ص: 78

و بالأحرى هو الميل من الرشد إلى الغي و الضلالة، و هو عبء ثقيل و حامله في تعب دائم، بخلاف شريعة الحقّ التي بنيت على السماحة و التسهيل، و قد جمعت بين الفضيلة و التهذيب و النظم المبني على الحكمة؛ و لذا يكون العمل بها موجبا للتخفيف من أوزار اتباع الشهوات و ثقل الذنوب و المعاصي.

و هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تشتمل على حكمة التشريع، و تدعو إلى تهذيب النفس الأمّارة و التربية، للتحلّي بالفضائل و مكارم الأخلاق.

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ .

ترتّب هذه الآية الكريمة على السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ اتباع الشهوات يوجب ثقلا كبيرا و قيودا باهظة، و شريعة الحقّ ترفع تلك الأوزار، فتعلّقت الإرادة الأزليّة لطفا بعباده و رحمة بهم أن يخفف عن العباد أوزارهم، بارجاعهم إلى الفطرة و داعية العقل و ترك ما يكون سببا في تعبهم و مشقّتهم.

و هذه الآية المباركة تبيّن وجه الحكمة في تشريع الأحكام كلّها، فإنّها موجبة لتخفيف الأوزار التي يتحمّلها الإنسان لأجل ارتكابه الآثام التي هي مراد من يتبع الشهوات، فقد خفّف عزّ و جلّ عن هذه الامة بما لم يخفف عن غيرها من الأمم، قال جلّ شأنه: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و قال تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78]، فشرّع لهم في النكاح و تكوين الاسرة و تهذيب النسل ما لم يشرّع في سائر الأديان، فحرّم ما يؤتى منه الفساد، مثل البغي و الزنا و نكاح المحارم، و أحلّ ما يجلب الصلاح، و سنّ ما يوجب تهذيب الشهوة العارمة و كبح جماحها، و لم يدع مجالا و جانبا إلا و بيّن الحكم فيه، فحلّل نكاح الإماء في حالة الاضطرار الذي يعتبر أيضا ممّا خفّفه اللّه تعالى عن المؤمنين، فكأنّ هذا الحكم مثل سائر الأحكام الإلهيّة في المقام، التي اجتمعت فيها غايات متعدّدة، مثل التربية و التهذيب.

ص: 79

فالقول بأنّ نكاح الإماء عند الضرورة لم يكن تخفيفا، لأنّه كان معمولا قبل الإسلام على كراهة و ذمّ ، و الإسلام حلّل ذلك لنفي الكراهة و النفرة، ببيان أنّ الأمة كالحرّة إنسان لا تفاوت بينهما.

مردود بأنّ ذلك لا يوجب رفع التخفيف عن هذا الحكم التربوي التهذيبي، فإنّه لو لم يكن للإنسان الطول في نكاح الحرائر، و خاف الوقوع في المشقّة، فأي حالة لو حرّم الشارع نكاح الإماء، فالتحليل كان تخفيفا عليه بأوسع ما بين السماء و الأرض، و لا ضير في أن يجتمع فيه عنوان التربية، فيتربّى على تهذيب النفس و اعتبار جميع أفراد الإنسان على حدّ سواء و ذو لياقة للمصاحبة و المعاشرة.

قوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً .

بيان لحقيقة من الحقائق التكوينيّة؛ لأنّ الإنسان بفقر إمكانه محتاج إلى من يفيض عليه ما يوجب سعادته، و قد خلقه اللّه تعالى مركبا من قوى متخالفة، تشوّقه إلى المشتهيات و تبعثه إلى ارتكابها، فمنّ اللّه تعالى عليه أن شرّع له أحكاما لتهذيب تلك القوى، و جعل زمامها بإرادة حكيمة تهديه إلى السعادة.

هذا إذا كان المراد بالإنسان ما هو المتعارف بين عامّة الناس، و هذا أمر وجداني لهم؛ لأنّه محاط بحوادث تؤرّقه و تسلب راحته، و كيف لا يكون ضعيفا مع أن الذباب يؤذيه، و البعوض يدميه، و الحرارة تضعفه، و البرودة تسلب قواه و لا يمكن تحصيل مقاصده إلا بصعوبة و مشقّة كبيرتين، و في طريق الوصول إلى مراده من العقبات.

و أمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك و غاية حركات الأفلاك، و ما خلقت الدنيا و الآخرة إلا لأجلها، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال و الجمال المطلقين عليه، و قد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و من فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه، و قد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه السّلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين، و ما قاله عليه السّلام لكميل.

ص: 80

و أمّا إذا كان المراد به تلك اللطيفة الربانيّة التي هي مسجد الأملاك و غاية حركات الأفلاك، و ما خلقت الدنيا و الآخرة إلا لأجلها، فإنّ ضعفه إنّما هو لأجل هيمنة الجلال و الجمال المطلقين عليه، و قد استغرق في دهشة الكبرياء التي تخطر كلّ آن في قلبه فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 143]، و من فرط شوقه أنّه في كلّ لحظة يحرق انيّته في شوق لقياه، و قد شرح بعض ذلك سيد العارفين علي عليه السّلام في خطبته المعروفة في وصف المتّقين، و ما قاله عليه السّلام لكميل.

و أمّا قوله (تعالى): خُلِقَ اَلْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [سورة الأنبياء، الآية: 37]، و قوله تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً [سورة المعارج، الآية: 19]، فسيأتي تفسيرهما في موضعهما إن شاء اللّه تعالى.

بحوث المقام
بحث أدبي:

اختلف الأدباء في إعراب قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، فقيل: إنّ مفعول يُرِيدُ محذوف، أي: يريد اللّه تشريع ما تقدّم ذكره لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ، فتكون اللام للتعليل و العاقبة.

و بناء على هذا، يكون متعلّق الإرادة غير متعلّق التبيين، حذرا من تعدّي الفعل من مفعوله المتأخّر عنه باللام الذي هو ممتنع، و لكن قال بعضهم: إنّه إذا قصد التأكيد جاز من غير ضعف.

و قيل: إنّ الفعل مؤول بالمصدر من غير سابك، كما قيل في: (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه)، فيكون المؤول مبتدأ و الجار و المجرور خبره، أي:

أراده اللّه ليبيّن لكم. و لا يخفى تكلّف هذا الوجه.

و قيل: مفعول يُرِيدُ هو لِيُبَيِّنَ ، و ذهب بعضهم إلى أنّ اللام هي الناصبة للفعل من غير إضمار إن، و هي و ما بعدها مفعول للفعل المتقدّم، و نظير

ص: 81

ذلك وقوعها بعد (أمر) كقوله تعالى: وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الانعام، الآية: 71].

و لكن منعه آخرون؛ لأنّ وظيفة اللام الجرّ و النصب بأنّ مضمرة بعدها و وقوع (ل) و (أن) المصدريتين بعدها، فلا يمكن أن تكون ناصبة.

و قال آخرون: إن اللام زائدة جيء بها مؤكّدة لإرادة (التبين)، كما زيدت في: لا أبا لك، لتأكيد إضافة الأب، و ليجعل المصدر مفعولا، فتكون اللام زائدة.

و لكن، يرد عليه أنّ دعوى الزيادة باطلة، كما ذكرنا مرارا، يضاف إلى ذلك أنّهم لم يقولوا بالزيادة في نظائر هذا التركيب، كقوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ [سورة المائدة، الآية: 6].

و الصحيح أن يقال: إنّ اللام للتعليل، و مفعول يُرِيدُ محذوف كما عرفت في التفسير، و مفعول (يبيّن) غير مفعول (يهديكم)، و حذف مفعول الأوّل لتفخيمه و تعظيم أمره.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: إنّما عقّب سبحانه و تعالى الآيات التي تضمنّت تشريع الأحكام في أهمّ موضوع في الإسلام، و هو النكاح و تكوين الاسرة، و تهذيب النسل بالإرادة، و كرّرها عزّ و جلّ لتثبيت تلك الأحكام؛ و للدلالة على أنّها مرادة بالإرادة الأزليّة التي تعلّقت بتكميل النفوس المستعدّة و تهذيبها و إرشادها إلى ما يسعدها في حياتها الدنيويّة و الاخرويّة، فلا يمكن الإغماض عنها و التعدّي عمّا حدّدته تلك الإرادة المتعالية.

الثاني: يستفاد من سياق قوله تعالى: وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

- حيث ورد في مقام الامتنان و الرحمة - أنّ هذه السنن هي تلك السنن المطابقة

ص: 82

للفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، و التي تكون مطابقة للملّة الإبراهيميّة التي أمر الأنبياء باتباعها، لا سيما سيدهم نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فلا بد أن تكون تلك السنن مطابقة للعقل و الفطرة و الملّة الحنيفيّة.

و من ذلك يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد بسننهم على هذا المعنى سننهم في الجملة، لا سننهم بتفاصيلها و جميع خصوصياتها، فلا يرد عليه أنّ أحكامهم ما تنسخه هذه الآيات بعينها، كازدواج الإخوة و الأخوات في سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين في سنّة يعقوب عليه السّلام.

فإنّ سننهم هي المطابقة للفطرة، و لا نسخ في هذه بشيء منها، فإنّ هذه الآيات عقيب تلك الأحكام يدلّ على أنّها من سنن الذين من قبلكم التي هدانا اللّه تعالى إليها، فازدواج الإخوة بالأخوات محرّم في جميع السنن، في سنّة آدم عليه السّلام و سنّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و كذا الازدواج بالبنات و العمّات و الخالات و بنات الأخ، و الاخت.

و يمكن أن تجعل هذه الآية المباركة من الأدلّة على بطلان القول بالازدواج بين الإخوة و الأخوات: لأنّه من غير السنّة التي هدانا اللّه تعالى إليها. و يشهد له ذيل الآية الشريفة: وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، الدالّ على توبة اللّه تعالى على عباده الذين طمسوا نور الفطرة بارتكاب الذنوب و الآثام، فمنّ اللّه تعالى عليهم أن أرشدهم إليها و هداهم إلى سنن الأنبياء الصالحين من قبلهم.

و يدلّ عليه تذييله بقوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، أي: عليم بتلك السنن التي طمستها يد التحريف. و ميّز سبحانه و تعالى بين السنّة الصحيحة و الباطلة، فأمرنا باتباع الاولى و ترك الثانية، فهو حكيم في أفعاله يضع الأمور في مواضعها.

و بالجملة: هذه الآيات الشريفة صريحة في أنّ ما سنّه اللّه تعالى في خصوص النكاح أو الأعمّ ، هي من سنن الصالحين الذين من قبلكم فنسبة

ص: 83

الجمع بين الأختين و الازدواج بين الإخوة و الأخوات، و غير ذلك ممّا هي محرّمة في سنّة الإسلام هي مخالفة لسنن الماضين، إذ لا فرق بين السنتين إلا ما تناولته يد التحريف و التبديل.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ، على أنّ إرادة اللّه تعالى تعلّقت بالإرجاع إلى الفطرة المستقيمة، و في ذلك تأكيد لما سبق، و لبيان أنّ ما هو الموجود في عصر نزول القرآن غير سنن الماضين، وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ ، الرجوع عن الفطرة و اتباع الشهوات التي توجب البعد عن الصراط المستقيم و سنن الأنبياء الصالحين، و هو الميل العظيم.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً ، أنّ اتباع الشهوات يوجب البعد عن الصراط المستقيم و الاستهانة بالحدود الإلهيّة و الإعراض عن الحقّ .

و تبيّن الآية المباركة أنّ همّ المتبعين للشهوات الأكبر هو صدّ المؤمنين عن متابعة الحقّ ، و هذا مظهر آخر من مظاهر غوايتهم و ميلهم عن الحقّ .

الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً ، على تمام النعمة الإلهيّة على هذه الامة، فإنّ الضعف الذي هو المقتضي للتخفيف، و إن كان موجودا في غير هذه الامة، لكن لوجود المانع فيهم و هو الكفر، و اتباع الشهوات و الاستهانة بحدود اللّه تعالى، أوجب ذلك سلب هذه النعمة عنهم، و لكن هذه الامة المرحومة، قد أتمّ اللّه تعالى عليهم هذه النعمة، فلم يجعل لهم في دينهم أي حرج و مشقّة و وضع عنهم أسباب الضيق.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً على أنّ الإنسان ضعيف من جهات شتى، فلا بد أن يتدارك ضعفه بفيض إلهي و مدد ربوبيّ في تقوية العزائم الضعيفة في الخروج عن سلطان الشهوات العارمة، و الإعراض عن

ص: 84

العادات السيئة التي أفسدت الاجتماع الإنساني و جلبت الدمار و الاستهتار الأخلاقي و أوقعته في الجهد الشديد و المشقّة الكبيرة، فالآية الكريمة بمنزلة العلّة في احتياج الإنسان إلى من يرشده إلى الصراط المستقيم المحفوف بالشريعة الحقّة و العقل الحكيم.

بحث روائي

أخرج البيهقي في الشعب عن ابن عباس أنّه قال: «ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الامة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، و عدّ هذه الآيات الثلاث: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ - إلى قوله تعالى - وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً . و الرابعة: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، و الخامسة: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، و الآية السادسة: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ، و الآية السابعة: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً ، و الآية الثامنة:

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً .

أقول: مضمون الرواية موافق لروايات أخرى وردت في مواضع متفرّقة، و هي مرويّة في كتبنا أيضا.

بحث فلسفي
اشارة

من المباحث المهمّة في الفلسفة الإلهيّة و الحكمة المتعالية مبحث الإرادة، التي لها ارتباط و ثيق بمواضيع متعدّدة في جملة من العلوم، و قد شغلت قسطا وافرا من الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة و غيرهما، فإنّ بحث الجبر و الاختيار في

ص: 85

الإنسان يرتبط بالإرادة، كما يرتبط بالإرادة الإلهيّة مباحث حدوث العالم و قدمه و اختياره تبارك و تعالى و غير ذلك، و نحن نذكر في هذا البحث تعريف الإرادة، و ما يتعلّق بإرادة الإنسان، و إرادته جلّت عظمته، و بيان حقيقتها، و أقسامها، و أسباب فعله عزّ و جلّ ، و الفرق بين المشيئة و الإرادة، و ارتباطها بعلمه عزّ و جلّ ، ثم مبحث اتحاد الطلب مع الإرادة.

تعريف الإرادة:

الإرادة: من الأمور الوجدانيّة لكلّ ذي ادراك و شعور - إنسانا كان أو حيوانا - حتّى لقد عرّف الحيوان المطلق بأنّه جسم نام متحرّك بالإرادة، فهي من لوازمه التي لا تنفكّ عنه، بل قد أثبت بعض قدماء الفلاسفة الإرادة في النبات، و لا يبعد ذلك على نحو الجملة و الإجمال كما ستعرف.

و كيف كان، فقد فسّروا الإرادة بوجوه: فمنهم من فسّرها بالقصد، و استدلّ بالتبادر.

و منهم من فسّرها بالطلب.

و أشكل عليه بأنّه مبرز للإرادة نفسها.

و منهم من فسّرها بالميل الذي يعقب اعتقاد النفع.

و قال بعض المحدّثين: إنّها تصميم واع على أداء فعل معين، باعتبار أنّ التصميم هي الإرادة النافذة، و الإرادة بلا تصميم نيّة مؤجّلة.

و قال بعضهم: إنّ الإرادة هي الرغبة التي ترافق الفعل إلى أن تبلغ به إلى الغاية.

و الحقّ أنّ هذه التعاريف لا تخلو من مناقشة واضحة، فإنّ الإرادة غير الميل، بل هو من مقدّماتها، و التصميم إرادة مؤكّدة، و لكن ممّا يسهل الخطب أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي تتداخل مقدّمات حصولها بعضها مع بعض، بحيث يصعب التمييز بينها، و لأجل ذلك اختلفوا في تعريف الإرادة، فإنّه قد يختلط

ص: 86

بينها و بين المقدّمات التي هي الإدراك و توجّه النفس و العزم، أي: التصميم، و تصوّر الغاية الذي به يتميّز الإنسان عن الحيوان، فإنّهما ذوا شهوة كشهوة الطعام و الشهوة التناسليّة، و هي تدفع الحيوان و الإنسان إلى الفعل، و لكن الحيوان لا يفعل ذلك متعقّلا كالإنسان.

إرادة الإنسان:

لا شكّ أنّ المخلوقات بالنسبة إلى الإرادة على أقسام:

الأوّل: تلك المخلوقات التي تخلو عن الرغبة و الشهوة كالحيوانات الدنية - كالديدان و الهوام و النباتات - فإنّ هذه تفعل و تسعى إلى الفعل لأجل الحاجة، لا الرغبة و الشهوة، فإنّ تغلغل جذور النبات و تفرّع فروعها في الهواء و اتجاه أوراقها إلى الشمس و نمو أصلها، كلّ ذلك صادر عن حكم الحاجة إلى الغذاء، بل يفعل بمقتضى الطبيعة فيها، نظير صدور الأفعال الحتميّة الصادرة في الحيوانات العليا، كالتنفّس و النبض و التثاؤب و النوم و نحو ذلك، فهذه كلّها تصدر عن الحاجة و الطبيعة دون الإرادة.

نعم، قد يشتبه الأمر، ففي بعض الحيوانات و النباتات تصدر الأفعال عن رغبة و شهوة ملحّة، و لعلّ من قال من الفلاسفة: إنّ بعض النباتات فيها الإرادة، كان نظره إلى خصوص هذا الأخير فقط، و إلا ليس كلّ حيوان فضلا عن النبات ذا رغبة أو شهوة تتقوّم بها الإرادة.

الثاني: المخلوقات التي لها الاحساس و الشهوة - كالحيوانات - فإنّها تفعل الأفعال بإرشاد الغريزة و الشهوة المجرّدة عن الرغبة و إرشاد العقل و التعقّل، فهي أيضا لا تكون ذات إرادة إلا إذا صحّ إطلاق الإرادة على المقدّمات، فتكون الحيوانات حينئذ كلّها ذوات إرادة.

الثالث: المخلوقات التي لها الإحساس و الشهوة و الرغبة و الإدراك كالإنسان، فإنّه يفعل فعله بحثّ من الشهوة و الرغبة و إرشاد من الإدراك، فهو

ص: 87

يفعل و يفهم أنّه يطلبه، بخلاف الحيوان فإنّه يسعى حين تلحّ عليه الحاجة و متى زالت هدأ و سكن، و لا يدرك تلك الحاجة.

و أمّا الإنسان، فهو يفهم و يرغب في السعي و لو كانت الحاجة في حين الفعل منتفية.

و لكن يمكن أن يقال: إنّ من ذهب إلى وجود الإرادة في الحيوان، أراد بها بعض مقدّماتها. و من نفى عنها الإرادة إنّما نفى الإرادة الثابتة في الإنسان، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآراء و الكلمات.

الرابع: المخلوقات التي لها التعقّل و الإدراك الكامل، فإنّها تفعل عن تعقّل كامل من دون شهوة وقتيّة كالملائكة، فإنّ فيهم الإرادة الكاملة لما يريدون أن يفعلوه في عالمهم.

و من ذلك كلّه يعلم أنّ الإنسان هو الفرد الكامل الذي اجتمعت فيه مقدّمات الإرادة، فهو الحيوان الحسّاس المتحرّك بالإرادة، و لكنّه قد يغفل عن الإرادة، فلا يلتفت إليها حين توجّه نفسه إلى المراد، بل يكون تمام توجّهها إلى نفس المراد فقط.

و إرادة الإنسان مسخّرة تحت إرادة اللّه تعالى القهّارة، و لا استقلال لها بوجه من الوجوه،

ففي بعض القدسيات: «يا ابن آدم تريد و أريد، و أتعبك في ما تريد ثم لا يكون إلا ما أريد»،

و عن سيد العارفين عليّ عليه السّلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم و نقض الهمم»، و هذا غير مورد الجبر الباطل؛ لأنّ مورده نفي الإرادة، و المقام من تخلّف المراد عن الإرادة.

حقيقة الإرادة:

عرفنا أنّ الإرادة من الأمور الوجدانيّة التي يعرفها كلّ فاعل مختار، و من له إدراك و شعور، و لها مقدّمات، و تسمّى مقدّمات الفعل أيضا، و هي: الإدراك، و توجّه النفس، و العزم، و تصوّر الغاية، و القدر و القضاء، و الإرادة هي الجزء الأخير من تلك المقدّمات.

ص: 88

و في الفلسفة الحديثة: أنّ الإرادة خاصيّة مستقلّة عن المؤثّرات و الظروف الخارجيّة، و لكن للفطنة و الحكمة سلطة عليها، التي تصدر الحكم الذي تبلّغه الإرادة إلى القوى الفاعلة، فتكون الإرادة هي الأمر بالعمل أو النهي عنه.

و هذه هي المسألة المعروفة التي ذكروها في علم الأصول، و هي اتحاد الطلب و الإرادة، و سيأتي موجز الكلام فيها.

فالإرادة: جهد نفسي و عملية ذهنيّة يقوم عليها الصمود و رباطة الجأش، بل قال بعض الفلاسفة: إنّه لا إرادة حيث لا استطاعة. و قد ذهب بعض المادّيين إلى أنّ الإرادة ثمرة المعرفة و التجربة و التربية.

و بعبارة اخرى: أنّ الإرادة الإنسانيّة ليست غير ما تمليه قوانين الطبيعة و المجتمع، و هذه طريقتهم في تفسيرهم لكلّ الأمور في هذا العالم.

و ما أبعد مقالة هؤلاء عمّا يقوله بعض الفلاسفة الرواقيين من أنّها أساس المعرفة و السلوك، و لكن لا يمكن إنكار تأثّر الإرادة الإنسانيّة بما يحيط بها من البيئة و المجتمع.

و الإرادة هي الدافع الرئيسي و العامل النفساني الأوّل في الفعل الإنساني و ما يصاحبه من الانفعالات. و في الإسلام تعتبر الإرادة من أهمّ مقومات الجزاء، و هي محور الأخلاق و السلوك، و سيأتي في بحث إرادة اللّه تعالى أنّ نظام الكون يتقوّم بإرادته عزّ و جلّ ، و حينئذ يحقّ لنا أن نقول إنّ أساس الكون هي الإرادة، سواء إرادته عزّ و جلّ ، أم إرادة المخلوق في تنظيم النظام و صدور الأفعال.

و لا بد لكل إرادة من متعلّق و هو المراد، و بها يفترق العمل الإرادي عن اللاإرادي، و تختلف الإرادة حسب اختلاف المتعلّقات، فلا يمكن حصر أقسامها.

و لكن ذهب بعض الفلاسفة إلى تقسيم الإرادة إلى أربعة أقسام، التي هي اصول كلّ إرادة، و هي:

إرادة الحياة، و هي الجهد الذي يبذله كلّ فرد للحفاظ على صورة الحياة،

ص: 89

و بها يحقّق كلّ كائن نموذج نوعه، و هي غريزة من الغرائز التي لا ترتبط بالشعور و الرأي.

إرادة القوة: و هي الصراع لأجل الوجود، الذي يكون الدافع الحقيقي للتطوّر.

إرادة الخير: و هي استعداد الفرد لبذل أفضل ما يطيقه من جهد لفعل الخير، و هذه الإرادة هي التي يقاس بها الإنسان الخيّر عن غيره.

إرادة الاعتقاد: و هي التي تميّز الاعتقاد الصحيح عن الفاسد، و التسليم بمعتقدات و اختيارها لما يترتّب عليها من منافع عمليّة.

هذه هي أقسام الإرادة كما ارتآه بعض الفلاسفة.

و لكن المناقشة في هذا التقسيم واضحة، فإنّ بعضا منه - كالقسم الأوّل - يرجع إلى الغريزة و الفطرة، و الإرادة بمعزل عنها. و البعض الآخر هو من مجرّد الأمثلة، فلو كان المناط على ذلك لوجب ذكر كلّ ما يتعلّق به الإرادة. و ممّا يهون الخطب أنّه مجرّد اصطلاح منهم، و لا ضير في ذلك.

نعم، الأمر الذي لا يسع لأحد إنكاره هو أن الإرادة قد تضعف و قد تشتدّ حتّى تصل إلى حدّ التصميم و العزيمة، و قد ورد في القرآن الكريم بعض الموارد التي عبّر عنها بأنّها من عزائم الأمور، و هي التي لا بد فيها من إرادة قويّة و حزم و جزم، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَوَكِّلِينَ [سورة آل عمران، الآية: 159]، و قال تعالى:

وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ اَلْأُمُورِ [سورة آل عمران، الآية: 186].

إرادة اللّه تعالى:

لا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له عزّ و جلّ ، و قد دلّت الأدلّة الأربعة عليه، فمن القرآن الكريم آيات كثيرة، منها الآيات التي تقدّم تفسيرها، و منها

ص: 90

قوله تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ بِكُمُ اَلْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ اَلْعُسْرَ [سورة البقرة، الآية: 185]، و منها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ [سورة الحج، الآية:

14]، و منها قوله تعالى: إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل، الآية: 40]، و غير ذلك ممّا هو كثير.

و أمّا السنّة فسيأتي نقل بعضها.

و أمّا الإجماع، فقد أطبق أرباب الملل و النحل بل جميع العقلاء على ثبوتها له عزّ و جلّ .

و من العقل حكمه البتّي بأنّ اللّه تعالى عالم حكيم في أفعاله، و هما يقتضيان الفاعليّة بالإرادة و الاختيار، فليس جلّ شأنه من قبيل الفاعل الموجب، و كلّ من كان كذلك لا بد و أن تكون له إرادة؛ و لذا نرى وجود بعض الممكنات، و حدوثها في وقت دون آخر، بل نرى آثار إرادته في جميع الممكنات، و هذا الدليل يتمّ أيضا حتّى بناء على القول بأن إرادته تعالى إنّما هي الإيجاد و الإحداث، لأنّ العلم و الحكمة من مقتضيات الفاعليّة على وجه الاختيار، و هي الإرادة.

فما ذكره بعض العلماء من أنّ إثبات الإرادة للّه عزّ و جلّ من جهة النقل دون العقل.

مردود، كما عرفت.

و أمّا السنّة، فقد وردت أخبار كثيرة في شرح كلتا الإرادتين - إرادة الخالق تعالى و إرادة المخلوق - و نحن نورد جملة منها، و نذكر ما يستفاد منها.

ففي الكافي: عن صفوان قال: «قلت لأبي الحسن عليه السّلام: أخبرني عن الإرادة من اللّه و من الخلق ؟ قال عليه السّلام: الإرادة من الخلق الضمير، و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك؛ لأنّه لا يروي، و لا يهم، و لا يتفكّر، و هذه الصفات منفية عنه، و هي صفات الخلق، فإرادة اللّه الفعل

ص: 91

لا غير ذلك، يقول له: كن فيكون، بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همّة، و لا تفكّر، و لا كيف لذلك، كما أنّه لا كيف له».

أقول: ليس عليه السّلام في مقام بيان حقيقة الإرادة من حيث هي على نحو الحدّ المنطقي حتّى تكون إرادة الخالق مباينة مع إرادة الخلق من كلّ جهة، و إنّما هو عليه السّلام في مقام التمييز بينهما في الجملة؛ لأنّ الإرادة من الخلق كما نراها متقوّمة بالتفكّر و الروية في المبدأ و في الغاية. فالضمير في الخلق عبارة عن مقدّمات الإرادة التي تحصل في القلب، و

قوله عليه السّلام: «و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل»، يمكن أن يستظهر منه أن الإرادة في الخلق هي فعلهم أيضا، فالفرق بين الإرادتين إنّما هو في المقدّمات لا في نفس الإرادة من حيث هي، و

قوله عليه السّلام: «فإرادته إحداثه»، أي: أنّ إرادته تعالى إنّما هي نفس الفعل، و هي ما قلناه في إرادة المخلوق، و لكن التفرقة في المقدّمات. و يظهر ذلك بوضوح من نفي هذه المقدّمات عنه عزّ و جلّ ، و لكن ذلك لا يستلزم نفي الحكمة و العلم بالنسبة إلى المراد.

و منها:

صحيحة سليمان بن جعفر الجعفري، قال: «قال الرضا عليه السّلام: المشيئة و الإرادة من صفات الأفعال، فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا، فليس بموحّد».

أقول: هذا الحديث يدلّ على أنّ الإرادة و المشيئة هي الفعل، و إنّما يفرّق بينهما بالجزئيّة و الكلّيّة، فالإرادة تتعلّق بالجزئيات و المشيئة تتعلّق بالكلّيات.

و أمّا

قوله عليه السّلام: «فمن زعم أنّ اللّه لم يزل مريدا شائيا فليس بموحّد»، فلأنّه لو كانت المشيئة و الإرادة في مرتبة الذات و هما يقتضيان المراد - لاستحالة تخلّف الإرادة عن المراد - فحينئذ لا بد من القول بالقدم الذاتي للأشياء فينتفي التوحيد مع أنّهما متجدّدان بالنسبة إلى الخلق في كلّ عصر و زمان، فيلزم التجدّد في الذات و التغيّر و الحدوث فيها، و كلّها باطل بالضرورة.

و منها:

صحيحة ابن أذينة عن الصادق عليه السّلام قال: «خلق اللّه المشيئة بنفسها، ثم خلق الأشياء بالمشيئة».

ص: 92

أقول: ذكرنا أنّ المشيئة و الإرادة حقيقة واحدة، و إنّما تختلفان بالكليّة و الجزئيّة، و الحديث يبيّن أنّ المشيئة حادثة، و ليس المراد من خلقها بنفسها كونها موجودا جوهريّا خارجيّا، بل المراد بذلك تقديرها في نظام العالم يدبّر بها المخلوقات.

و منها:

رواية أبي سعيد القمّاط عنه عليه السّلام أيضا: «خلق اللّه المشيئة قبل الأشياء ثمّ خلق الأشياء بالمشيئة».

أقول: المراد بالقبليّة هي الرتبة الواقعيّة لا الزمانيّة، و هكذا في «ثمّ ».

و منها:

رواية بكير بن أعين قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: علم اللّه و مشيئته مختلفان أو متفقان ؟ فقال عليه السّلام: العلم ليس هو المشيئة، أ لا ترى إنّك تقول: سأفعل كذا إن شاء اللّه، و لا تقول: سأفعل كذا إن علم اللّه، فقولك: إن شاء اللّه دليل على أنّه لم يشأ، فإذا شاء كان الذي شاء كما شاء، و علم اللّه السابق المشيئة».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ المشيئة منبعثة عن العلم الربوبيّ ، فلا يعقل كونهما في مرتبة واحدة، كما هو الأمر في علمنا و مشيئتنا.

و منها:

صحيحة محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: «المشيئة محدثة».

أقول: لأنّ كلّ ما كان منبعثا عن مرتبة الذات محدث لا محالة، و المراد به هو الحدوث الذاتي منه، لا الزماني، و إن تحقّق الثاني في سلسلة المتدرّجات.

و منها:

صحيحة عاصم بن حميد عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «قلت: لم يزل اللّه مريدا؟ قال عليه السّلام: إنّ المريد لا يكون إلا المراد معه، لم يزل اللّه عالما قادرا ثم أراد».

أقول: الحديث يفسّر حقيقة إرادته تبارك و تعالى بمقدّماتها، و بيّن أيضا أنّ من مقدّمات الإرادة العلم و القدرة، فتكون الإرادة منبعثة عنهما، فتكون حادثة و لم يبيّن عليه السّلام أنّها الفعل، لأنّه عليه السّلام ليس في مقام بيان ذلك.

ص: 93

و منها:

حديث الاهليلجة المعروف عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال في جواب الطبيب: «إنّ الإرادة من العباد الضمير و ما يبدو بعد ذلك من الفعل، و أمّا من اللّه عزّ و جلّ ، فالإرادة للفعل إحداثه إنّما يقول: كن فيكون، بلا تعب و كيف».

أقول: مرّ بيان هذا الحديث الشريف في حديث صفوان عن أبي الحسن موسى بن جعفر عليهما السّلام.

و منها:

رواية الهاشمي المشتملة على مباحثة الإمام الرضا عليه السّلام مع أهل الملل و النحل، قال عليه السّلام: «مشيئته و اسمه و صفته، و ما أشبه ذلك، كلّ ذلك محدث مخلوق مدبّر - إلى أن قال عليه السّلام -: و اعلم أنّ الإبداع و المشيئة و الإرادة معناها واحد و أسماؤها ثلاثة».

أقول: الحديث يدلّ على ما ذكرناه آنفا من أنّه لا فرق بين المشيئة و الإرادة، و إنّما جعل عليه السّلام الإبداع هي الإرادة و المشيئة؛ لأنّها عبارة عن الفعل و الإحداث، فتكون محدثة. و لكن الفلاسفة فرّقوا بين الإبداع و الخلق، فجعلوا مورد الإبداع خلق الروحانيين، و الخلق أعمّ من ذلك، و هذا لا يرتبط بالمقام.

و منها:

رواية عبد الرحيم القصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كان (عزّ و جلّ ) و لا متكلّم، و لا مريد، و لا متحرّك، و لا فاعل جلّ و عزّ ربنا، فجيمع هذه الصفات محدثة عند حدوث الفعل منه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الإرادة هي الفعل، و هي حادثة، و أنّ كلّ ذلك ليس في مرتبة الذات.

و منها:

صحيحة يونس عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «قلت: فما معنى شاء؟ قال عليه السّلام: ابتدا الفعل، قلت: فما معنى أراد؟ قال عليه السّلام: الثبوت عليه».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ الفرق بين المشيئة و الإرادة هو الفرق بين التقدير و الإيجاد، و يمكن ارجاعه إلى ما قلناه من أنّ الفرق بينهما بالكليّة و الجزئيّة؛ لأنّ الكلي مقدّم على الجزئي بالإضافة، و يفسّره الحديث الآتي.

ص: 94

و منها:

صحيحة ابن إسحاق عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «أ تدري ما المشيئة ؟ فقال: لا، فقال: همّه بالشيء أو تدري ما أراد؟ قال: إتمامه على المشيئة».

أقول: الحديث ليس في مقام الفرق بين مشيئة اللّه عزّ و جلّ و إرادته تعالى، بل إنّما هو في مقام بيان طبيعة المشيئة و الإرادة بالنسبة إلى الخلق، و إلا فليس له تعالى «همّ » و لا رويّة، كما تقدّم في الحديث، و يمكن أن يستفاد من لفظ «الهمّ » الكليّة، فيكون في مقام بيان الفرق بين مشيئته تعالى و إرادته عزّ و جلّ .

هذه جملة من الأخبار الواردة في هذا الموضوع المهمّ ، و الذي اتّفقت عليه جميع هذه الأحاديث أنّها لم تشر إلى أنّ الإرادة من الصفات الذاتيّة أو أنّها عينها، كما هو الأمر في سائر الصفات العليا، فإنّهم عليهم السّلام بيّنوا ذلك فيها. فلا ريب و لا إشكال في ثبوت الإرادة له جلّ شأنه عقلا و نقلا، بل يعدّ ذلك من الضروريات، كما عرفت.

معنى الإرادة فيه عزّ و جلّ :

ذكرنا في أحد مباحثنا المتقدّمة أنّ العقول تحيّرت في ذاته جلّت عظمته، و في صفاته تعالى مطلقا، سواء كانت صفات الذات أم صفات الفعل؛ لأنّ التحيّر في الذات تحيّر في ما هو عين ذاته تبارك و تعالى أيضا.

و أمّا صفات الفعل، فلأنّها منبعثة عمّا لا يدرك ذاته و صفاته، فلا بد من التحيّر فيها أيضا.

و الإرادة من الصفات التي هي من أتمّ مظاهر الجلال و الجمال و تجليات الذات قولا و فعلا، و لا ريب أنّ الإرادة بالمعنى الذي ذكرناه في إرادة الإنسان لا يمكن اتّصافه عزّ و جلّ بها؛ للزوم كونه محلا للحوادث، و هو منزّه عنها، إلا إذا قلنا بأنّ الإرادة في الإنسان أيضا هي فعله - كما هو الحقّ - فيتّحد معنى الإرادتين حينئذ.

و لكن قد اختلفت تعبيرات العلماء في إرادة اللّه تعالى، و عمدة الأقوال فيها ثلاثة:

ص: 95

الأوّل: أنّها ابتهاج الذات بالذات، و قد اختاره جمع من محقّقي العلماء، و قال بعض الفلاسفة:

فحيث ذاته أجلّ مدرك *** أتم إدراك لأبهى مدرك

مبتهج بذاته بنهجه أقوى و من له بشيء بهجة

مبتهج بما يصير مصدره من حيث إنّه يكون أثره

و عن شيخنا المتألّه المحقّق الشيخ محمد حسين الغروي الاصفهاني، قال قدس سرّه في بيان هذا القول: «و من البيّن أنّ مفهوم الإرادة - كما هو مختار الأكابر من المحقّقين - هو الابتهاج و الرضا و ما يقاربها مفهوما، و يعبّر عنه بالشوق الأكيد فينا، و السرّ في التعبير عنها بالشوق فينا، و بصرف الابتهاج و الرضا فيه تعالى إنّما لمكان أننا ناقصون غير تامّين في الفاعليّة، و فاعليّتنا لكلّ شيء بالقوّة، فلذا نحتاج في الخروج من القوّة إلى الفعل إلى امور زائدة على ذواتنا، من تصوّر الفعل و التصديق بفائدته و الشوق الأكيد، المملية جميعا للقوّة الفاعلة المحرّكة للعضلات، بخلاف الواجب تعالى، فإنّه لتقدّسه عن شوائب الإمكان و جهات القوّة و النقصان، فاعل و جاعل بنفس ذاته العليمة المريدة، و حيث إنّه صرف الوجود، و صرف الوجود صرف الخير، فهو مبتهج بذاته أتمّ ابتهاج و ذاته مرضية لذاته أتمّ الرضا، و ينبعث من هذا الابتهاج الذاتي - و هي الإرادة الذاتية - ابتهاج في مرحلة الفعل، و هي التي وردت الأخبار عن الأئمة الطاهرين (سلام اللّه تعالى عليهم) بحدوثها»، و بناء على هذا القول تكون الإرادة صفة تقابل سائر الصفات العليا، فلا ترجع إلى العلم حينئذ، فتكون في مرحلة الذات عين ذاته عزّ و جلّ ، و في مرتبة الفعل لصدور الإيجاد، فتكون حادثة.

و أشكل عليه: بأنّ الإرادة غير الشوق و الابتهاج عندنا، لما نراه في تناول الأدوية و الأفعال العادية و الجزافيّة و العبثيّة، و أمّا الابتهاج في حقّه تعالى، فهو بريء عنه؛ لأنّه منزّه عن الجسم و الجسمانيّات، إلا أن يراد فيه عزّ و جلّ معنى آخر غير ما نجده في أنفسنا.

ص: 96

و فيه: أنّ الابتهاج حاصل في كلّ فاعل لا محالة، و لكن ابتهاجه عزّ و جلّ مباين مع ابتهاج الخلق، كما في سائر صفاته تعالى، كالسميع و البصير و نحوهما، و لا يضرّ ذلك بأصل ثبوت هذه الصفة.

الثاني: أنّ إرادته عزّ و جلّ علمه بالنظام الأحسن و الأصلح.

و قد ذهب إليه جمع آخر من الحكماء، و على هذا القول ترجع الإرادة إلى العلم، فتكون عين ذاته.

و قال بعض مشايخنا في توجيه هذا القول بما يرجع إلى القول الأوّل:

«و الوجه في تعبير الحكماء عن الإرادة الذاتيّة بالعلم بنظام الخير و بالصلاح، أنّهم بصدد ما به يكون الفعل اختياريا، و هو ليس العلم بلا رضا، و إلا كانت الرطوبة بمجرّد تصوّر الحموضة اختياريّة، و كذلك ليس الرضا بلا علم، و إلا كانت جميع الآثار و المعاليل الموافقة لطبائع مؤثّراتها و عللها اختيارية، بل الاختياري هو الفعل عن شعور و رضا، فمجرّد الملائمة و الرضا المستفادين من نظام الخير و الصلاح التامّ ، لا يوجبان الاختياريّة، بل يجب إضافة العلم إليهما، فما يكون به الفعل اختياريا منه تعالى هو العلم بنظام الخير، لا أنّ الإرادة فيه تعالى بمعنى العلم بنظام الخير».

أقول: و هو توجيه حسن.

الثالث: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و به يمكن الجمع بين الأقوال؛ لأنّ كلّ من تأمّل في تعبيرات العلماء على اختلافها، يرى أنّها ترجع إلى شيء واحد، لعدم إمكان قطع النظر عن العلم و الحكمة المتعالية في إرادة اللّه عزّ و جلّ ، فمن نظر إلى أساس المقدّمات أدخل العلم في حدّها، و من نظر إلى النتيجة مجرّدة عن المقدّمات حدّها بغير ذلك، فيصحّ أن يقال: إنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة متعالية، فالمراد من حيث الإضافة إلى الجاعل يسمّى إيجادا و إرادة، و من حيث لحاظه في نفسه يسمّى فعلا.

ص: 97

و هذا المعنى لا يختصّ به عزّ و جلّ ، بل يجري في إرادة الإنسان أيضا، و ممّا يؤكّد ذلك أنّ الأئمة عليهم السّلام جعلوا الإرادة من صفات الفعل.

و من ذلك يظهر أنّ جعل الإرادة العلم بالنظام الأحسن ليس المراد به أنّ العلم بنفسه هو المؤثّر التامّ لصدور الأشياء و وجودها، حتّى يلزم المحاذير التي ذكروها في الكتب الفلسفيّة و الكلاميّة، و إن كان القول بذلك صحيحا في الجملة، بمعنى المنشئيّة و المصدريّة، كما ذكرنا.

و قد ظهر ممّا تقدّم بطلان ما قيل: من أنّ الإرادة لا ترجع إلى العلم؛ لأنّه يستلزم إمّا إلى إرادة الشرّ و الظلم و الكفر و القبائح؛ لأنّه تعالى يعلمها، أو يلزم أن يكون منشأ التأثير في الممكن الأصلح اعتباريّا محضا، و لا يرجع إلى نفس العلم لتعلّقه بالمعلومات على حدّ سواء، أو يرجع إلى نفس الأصلح، و هو يرجع إلى كون شيء واحد مؤثّرا و متأثّرا.

و الكلّ باطل؛ لأنّ علمه تعالى إن كان علّة تامّة لحصول المعلوم مطلقا يلزم ما ذكر، و لكنّه ليس كذلك، بل علمه الأزلي بالأشياء من مجرّد المقتضي، فالعليّة التامّة تتوقّف على امور كثيرة اخرى، فمن يقول إن الإرادة هي العلم بالممكن الأصلح، لا يريد أنّ العلم لوحده هو السبب لوجوده، بل العلم مع اختياره عزّ و جلّ ، و يدلّ على ذلك

ما رواه الكليني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «علم اللّه سابق للمشيئة»، حيث يستفاد أنّ العلم بوحده لم يكن المؤثّر من دون المشيئة و الإرادة.

و الحاصل: أنّ الإرادة هي الإيجاد عن علم و حكمة، و هي فعله، فتكون من صفات الأفعال، و لا بد من انبعاث صفات الأفعال عن العلم و الحكمة.

و يمكن رفع الاختلاف من أصله لما تسالموا عليه من أنّ العلل التوليديّة يصحّ انتساب الأثر فيها إلى نفس المعلول و إلى العلّة، كما في قولك: أحرقته النّار فمات، أو مات بالنّار، كما لا فرق بين

قولهم عليهم السّلام: «الطهور نور»، أو: «الوضوء

ص: 98

نور» و أمثال ذلك كثير، و في المقام أنّ الإرادة هي العلّة التي يترتّب عليها المراد، بلا فرق بين إرادة الخالق و إرادة المخلوق، فالإرادة بما هي من شؤون المريد باعثة لصدور المراد و الفعل.

فمن نظر إلى المراد جعل الإرادة الفعل، و من نظر إلى أنّها لا تحصل إلا بالعلم و الحكمة جعلها منهما، و من نظر إلى توسّط الإرادة بين العلم و المراد، جعلها ابتهاجا و شوقا، فيرجع الجميع إلى شيء واحد في هذا الموضوع الذي له شؤون مختلفة.

و لعلّ من قال من الفلاسفة الأقدمين: إنّ الإرادة في الإنسان هي الفعل.

فإن كان نظره إلى ذلك، و هذا هو المرتكز في النفوس، فإنّ الإنسان لا يرى حين ارادته شيئا إلا المراد فقط، غافلا عن نفس الإرادة و مقدّماتها، و إن كانت هي منطوية في النفس انطواء الجزء في الكلّ .

أقسام الإرادة:

قسّم الحكماء و الفلاسفة الإرادة إلى إرادة تكوينيّة و إرادة تشريعيّة، و عرّفوا الاولى بأنّها ما تعلّقت بفعل نفس المريد، و الثانية ما تعلّقت بفعل الغير مع سبق إرادته، و هما تتصوّران بالنسبة إلى إرادة اللّه تعالى و إرادة الإنسان معا.

أمّا بالنسبة إلى إرادته عزّ و جلّ ، فقد تقدّم، و قد وردت في القرآن الكريم كلتاهما.

قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اَللّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [سورة الحجرات، الآية: 13]. فإنّها إرادة تكوينيّة. و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة الأنفال، الآية: 1] و هي إرادة تشريعيّة.

و أمّا في المخلوق، فمثل قولك: «ذهبت إلى المسجد»، فإنّها إرادة تكوينيّة، و قولك لولدك: «اذهب إلى المسجد»، و هي إرادة تشريعيّة، و في القرآن الكريم

ص: 99

القسمان من الإرادة التكوينيّة و التشريعيّة معا، و السنّة الشريفة حوت الإرادة التشريعيّة و بيّنت خصوصياتها.

و هذا التقسيم إنّما هو من باب الوصف بحال المتعلّق، و إلا فلا فرق بين ذات الإرادة في الموردين.

ثم إنّ التشريعيّة إن كانت بالنسبة إلى الفعل و لم يستظهر من القرائن الداخليّة أو الخارجيّة الترخيص في الترك، يعبّر عنها بالوجوب، و إلا فهي الندب و الاستحباب، و إن كانت بالنسبة إلى الترك و لم يستظهر من القرائن الترخيص في الفعل، يعبّر عنها بالحرام، و إلا فهي الكراهة، و بذلك تنتظم الأحكام التكليفيّة، و قد أثبتوا أنّ الأصل في الأشياء الإباحة إلا مع الدليل على الخلاف.

و إرادة اللّه التشريعيّة ليست إلا لتكميل الإنسان، فلو قلنا: بأنّ الإرادة التشريعيّة منه عزّ و جلّ غاية الإرادة التكوينيّة بل أصلها و أساسها، لم يكن به بأس، و عليه الشواهد الكثيرة، و يصحّ العكس أيضا لشدّة ارتباطهما،

فقد ورد في العقل المجرّد سيد الأنبياء أحمد صلّى اللّه عليه و آله: «خلقت الأشياء لأجلك، و خلقتك لأجلي»، و قال اللّه تعالى بالنسبة إلى موسى بن عمران: وَ اِصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [سورة طه، الآية: 41].

و لذا جعل بعض مشايخنا قدس سرّهم الإرادة التشريعيّة من التكوينيّة؛ لأنّ التشريع من مراتب النظام الأحسن، و هو متين جدا.

و قيل: إنّه لا وجه للإرادة التشريعيّة؛ لأنّ إرادته تعالى إن تعلّقت بفعل الغير يتحقّق لا محالة، فيتحقّق الجبر، و حينئذ يكون فعله تعالى لا فعل الغير، فالإرادة التشريعيّة باطلة.

و فساده واضح؛ لأنّ الإرادة التشريعيّة تتعلّق بما يصدر من العبد مع إرادته و اختياره، فالإرادة تتعلّق بفعله مع تخلل القصد و الاختيار، و أنّه فاعل مختار، و لعلّ تقسيم الإرادة إلى هذين القسمين لبيان الفرق بين متعلّقي الإرادتين،

ص: 100

فإنّ الإرادة التكوينيّة تتعلّق بالفعل من دون تخلل اختيار آخر، و في التشريعيّة تتعلّق بالفعل مع اختيار آخر.

مضافا إلى ذلك أنّ إرادة اللّه التشريعيّة عين جعله التشريعي، كما أنّ إرادته المقدّسة التكوينيّة عين فعله الخارجي، فتتفق الإرادتان في عدم تخلّف المراد عن الإرادة، فإرادته التشريعيّة عين التشريع و جعل القوانين الإلهية المبتنية على المصالح الواقعيّة، و قد تحقّق فلا يمكن تخلّف المراد فيها أيضا، كإرادته التكوينيّة ضرورة امتناع تخلّف المعلول عن علّته التامّة.

فما ذهب إليه جمع من إمكان تخلّف المراد في التشريعيّة و وقوعه في الآثام و الفسوق و العصيان، يمكن الخدشة فيه بأنّ وقوع المعصية من الغير لا يرتبط بتخلّف المراد، و هو التشريع عن الإرادة التشريعيّة، فإنّه مستحيل كما عرفت، و لكن تعلّقت إرادته - عزّ و جلّ - التشريعيّة بفعل الغير مع اختياره، لتصحيح قانون الجزاء و الثواب و العقاب، فتكون الإرادة مطلقا هي الفعل، سواء كان تكوينيّا أو جعلا للقوانين التي هي لتكميل الإنسان و إيصاله إلى السعادة الدائمة.

و قد نسب ذلك إلى بعض قدماء الفلاسفة اليونانيين مثل فرفوريوس و أصحابه، الذين قالوا باتحاد العاقل و المعقول، و التفصيل يطلب من محلّه.

و من ذلك يظهر بطلان القول باختلاف الطلب و الإرادة في إيمان العباد، و أنّ تخلّف المطلوب عن الطلب ممكن و واقع، بخلاف تخلّف المراد عن الإرادة، فإنّه مستحيل كما عرفت؛ لأنّ تخلّف المراد عن الإرادة في كلتا الإرادتين مستحيل، و إرادته عزّ و جلّ للإيمان و الطاعة لا يستلزم أن لا يتحقّق كافر و لا فاسق، فإنّه تبارك و تعالى أرادهما من العبد باختياره، فيكون اختيار العبد فاصلا بين الإرادة و المراد، و قد ذكرنا ما يرتبط بهذا البحث في كتابنا (تهذيب الأصول) أيضا.

ص: 101

بحث عرفاني

للإرادة و المراد شأن عجيب في الدلالة على المريد و ما له من الشؤون، فتدلاّن عليه دلالة المعلول على العلّة التامّة، و يكشفان عنه كشف الأثر عن المؤثّر، سواء كان المراد قولا أو فعلا أو كتابة أو غيرها.

و من هذا الباب كشف جميع الآيات الكونيّة و الآيات القرآنيّة، عن وجود اللّه تعالى و صفاته العليا و أسمائه الحسنى، و هي بمجموعها تدلّ على عظمة هذا الموجود الذي تاهت العقول في معرفته، قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي اَلْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ اَلْحَقُّ [سورة فصلت، الآية: 53].

و كذلك تكشف تأليفات المؤلّفين و شعر الشعراء، و اختراعات العلماء عن مراتب كمال من تصدّى لها،

و قد ورد في الحديث: «يعرف قدر الرجل من رسوله و عبده». و العقلاء يدركون ذلك أيضا، بل يمكن أن تصل النفس الإنسانيّة إلى مرتبة الخلاقية للمراد، فتصل إلى غاية المال و تصير محلّ خوارق العادات و صدور الكرامات،

و ذلك شيء يسير في مرتبة العبوديّة، التي كنهها الربوبيّة، كما في الحديث عن الصادق عليه السّلام.

بحث قرآني

ذكرنا أنّ الآيات الثلاث المتقدّمة - التي تكرّر فيها كلمة «يريد»، إنّما هو لكثرة أهمية الإرادة - من أهمّ الآيات التي اشتملت على الجوانب المادّية و المعنويّة للأحكام الشرعيّة التي شرّعها اللّه تعالى لتكميل الإنسان.

و ذكر هذه الآيات الشريفة بعد سرد جملة كثيرة من الأحكام الاجتماعيّة، و منها محرّمات النكاح و ما أحلّ من نكاح النساء، لبيان أنّ جميع ما ذكر من

ص: 102

سنن الذين من قبلنا، و أنّ هذه الأحكام سنّة الهيّة في شرع من قبلنا، و هي غير قابلة للنسخ أصلا لما عرفت من أنّها امور فطريّة قرّرتها الشرائع السماويّة.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع من قبلنا من الأنبياء و المرسلين من لدن آدم عليه السّلام حتّى عصر نزول القرآن، فنكاح الام حرام في جميع الشرائع الإلهيّة و كذا نكاح الاخت و الجمع بين الأختين، بلا فرق بين شريعة آدم عليه السّلام و سنّة يعقوب و شريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها تشتمل على مصالح واقعيّة و حكم حقيقيّة، لا تختصّ بشريعة دون اخرى، و أنّ غير ذلك ممّا يريده من يتبع الشهوات، الذين يسعون في صدّ المؤمنين عن الوصول إلى الكمال و إخراجهم عن الصراط المستقيم.

و لكن هذه السنّة الإلهيّة قد تناولتها يد التحريف و زيغ المبطلين و شبهات الكاذبين المفترين، شأنها شأن الفطرة المستقيمة التي لحقتها كثير من الشبهات و التأويلات، حيث طمست نور الفطرة و بقيت هكذا، حتّى ظهرت شريعة الحقّ و بيّنت الصحيح من تلك السنن و أمرت المؤمنين باتباعها، و لكن بقي الصراع بينهم و بين من يريد اتباع الشهوات، و أمرتنا تلك الآيات الشريفة بالابتعاد عن مكائدهم و خدعهم، فإنّهم يتوسّلون بأشدّ الأشياء تأثيرا على الإنسان، و هي الشهوات، و قد منّ اللّه على المؤمنين أن وفقهم للتوبة و الرجوع عن الباطل إلى الحقّ ، و لعلّ تذييل تلك الآيات الشريفة بقوله تعالى: وَ خُلِقَ اَلْإِنْسانُ ضَعِيفاً إشارة إلى ما ذكرناه.

و كيف كان، فهذه الآيات المباركة ظاهرة في أن تلك الأحكام الاجتماعيّة كانت سنن الأنبياء و المرسلين، و لا تختصّ بهذه الشريعة، و لا نظر لها إلى سائر الأمور التي كانت في الشرائع الإلهيّة السابقة التي نسختها شريعة الإسلام.

فما قيل: إنّ ازدواج الإخوة بالأخوات كان سنّة آدم عليه السّلام، و الجمع بين الأختين كان سنّة يعقوب عليه السّلام.

باطل؛ لأنّه ليس من السنن التي من قبلنا، التي هدانا اللّه تعالى إليها.

ص: 103

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (30) بيان لحكم آخر من الأحكام الاجتماعيّة التي لها ارتباط وثيق في حفظ النظام و سعادة الإنسان، فقد ذكر سبحانه و تعالى اصول الأحكام النظاميّة، و هي ثلاثة: العرض، و قد ذكر أحكامه في الآيات السابقة، و الأموال و قد نهى عن التصرّف فيه بالباطل، و النفوس و بيّن أنّه لا يجوز قتل النفس المحترمة ظلما، فالآيات الشريفة السابقة منضمّة إلى هذه الآية الكريمة، قد جمعت الأصول النظاميّة الاجتماعيّة، كما في

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «المسلم على المسلم حرام، ماله و دمه و عرضه»، و مجمل أحكامها التي لها دخل في سعادة الإنسان، كما ذكر عزّ و جلّ أنّ التعدّي عنها يوجب الشقاء و دخول النّار و العذاب الأبدي.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ .

الخطاب عامّ يشمل جميع الناس - المؤمن و غيره - فإنّ أحكام الآية الكريمة امور يحكم بصلاحها فطرة العقول، و إنّما خصّ المؤمنين بالخطاب تشريفا لهم؛ و لأنّهم أولى بالتنفيذ لأحكام اللّه تعالى.

و الأكل معروف، و المراد به في المقام مطلق التصرّف الحاصل من الاستيلاء و السلطنة، و إنّما عبّر تعالى به لأنّه أعظم المنافع و أعمّها، فإنّ العمدة من تصرّفات الإنسان في الأشياء هي التغذّي و الأكل؛ لأنّه يحتاج إليه في بقائه.

و بَيْنَكُمْ منصوب على الظرفيّة أو الحاليةّ من أَمْوالَكُمْ ، و في تقييد الأكل به للدلالة على أنّ المراد التصرّفات الدائرة على التداول و التعامل،

ص: 104

فتختصّ الآية الشريفة بالتصرّفات المعامليّة، أي: لا يتصرّف بعضكم في أموال بعض بالمعاملات الباطلة.

و المال: من الميل، و المراد به كلّ ما تميل إليه النفس، سواء كان ملكا أم لا، و سواء كان عينا خارجيّة أو منفعة أو انتفاعا، و إنّما أضاف الأموال إلى الجميع لبيان أنّ كلّ ما يصدق عليه المال عند العرف هو مورد الحكم، و أنّ ماليّة المال إنّما تكون بملاحظة رغبة الجميع، فإنّه ممّا يقوم به نظام هذا العالم.

و الباطل هو الذي لا واقع له و لا حقيقة، و إن تخيّل الناس له واقعا يزعمهم، فيكون المراد به في المقام هو كلّ ما لم يقرّره الشارع الذي هو رأس العقلاء و رئيسهم، فينطبق على كلّ ما لم يكن فيه غرض عقلائي صحيح.

ص: 105

و التجارة إمّا على النصب على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه، و التقدير إلا أن تكون الأموال تجارة.

و أشكل عليه بأنّه زيادة حذف و تقدير؛ و أنّ الأموال ليست بتجارة، بل هي ما يتاجر به. و لكن عرفت أنّ التجارة تطلق على الأموال التي تملك بعقود المعاوضات مع قصد الاكتساب.

أو التقدير إلا أن تكون التجارة تجارة، فتكون الصفة عَنْ تَراضٍ توضيحيّة.

و إمّا أن تقرأ على الرفع على أن (كان) تامّة.

و الرضا: هو طيب النفس، كما يدلّ عليه

قوله صلّى اللّه عليه و آله: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه».

و إطلاقه يشمل ما إذا كان الرضا مقارنا مع العقد، أو بعده كما في بيع المكره و الفضولي.

و اختلف العلماء في الاستثناء الواقع في الآية الشريفة.

فقيل: إنّه متصل، و معنى الآية الكريمة: لا تأكلوا أموالكم إلا أن يكون الأكل تجارة عن تراض منكم، فإذا كان من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل، فيكون الباطل قيدا توضيحيا جيء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلّق النهي، نظير قولهم: لا تضرب اليتيم إلا تأديبا.

و قيل: الآية الشريفة تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و لقد كان الرجل يتحرّج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية المباركة، حتّى نسخ ذلك بقوله تعالى: وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ - الآية [سورة النور، الآية: 61]. و لكن الآية الكريمة أجنبيّة عمّا ذكروه.

و قيل: المراد من الآية الشريفة النهي عن صرف المال في ما لا يرضاه اللّه تعالى، و بالتجارة صرفه في ما يرضاه عزّ و جلّ .

و يردّ عليه ما تقدّم.

ص: 106

و قيل: إن الاستثناء منقطع جيء به لدفع الدخل، فإنّه لما نهى عن أكل المال بالباطل. و هو نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الجاهلي التي بها يتحقّق النقل و الانتقال، كالمعاملات الربويّة و المبنيّة على الغرر و الجهالة، و القمار و أضرابها فإنّها باطلة في الشرع، فإنّه من الجائز أن يتوهّم متوهّم أنّ ذلك يوجب انهدام النظام و فيه هلاك الناس، فالآية الكريمة في مقام رفع هذا التوهّم بأنّ المعاملة التي يحتفظ بها النظام، هي المعاملة التي تكون تجارة عن تراض، نظير قوله تعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 88-89]، فإنّه تبارك و تعالى لما نفى النفع عن المال و البنين يوم القيامة، يمكن أن يتوهّم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح، فإنّ معظم ما ينتفع به الإنسان إنّما هو المال و البنون، فأجيب أنّ هناك أمرا آخر يكون فيه النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين، و هو القلب السليم.

و الحقّ أن يقال: إنّه يصحّ أن يكون الاستثناء متّصلا إذا كان الاستثناء عن عنوان الأكل، و قد قلنا إنّ المراد منه مطلق التصرّف، فيصير المعنى: لا تتصرّفوا في أموالكم إلا بالتجارة عن تراض بينكم، فيجعل عنوان التجارة من طرق إحراز الرضا، لا أن يكون فيها خصوصية بالخصوص، فلا يصحّ التصرّف في الأموال مطلقا إلا بما احرز الرضا المقرّر شرعا.

كما يصحّ أن يكون الاستثناء منقطعا إذا لوحظ الأكل بعنوان القيد، أي:

القيد و المقيّد، فيكون لا محالة التجارة عن تراض خارجا عن ذلك، فيصير منقطعا.

و يمكن الجمع بين الأقوال بما ذكرنا فإنّه يصحّ باعتبار كلّ ذلك، فالنتيجة واحدة حقيقة و إن كانت مختلفة سياقا، و يصحّ تقطيع الكلام بما يناسب الافهام باعتبار القيد أو مع قطع النظر عن المقيّد.

ص: 107

قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ .

الأصل الثالث من الأصول الكلّية النظاميّة الثلاثة التي يقوم بها نظام الاجتماع الإنساني، و هي: حفظ الأعراض، و حفظ الأموال، و حفظ الأنفس.

و ظاهر الجملة أنّها تدلّ على النهي عن قتل النفس المحترمة، سواء كان قتل نفسه أم قتل غيره، كما نهى عن أكل الأموال بالباطل مطلقا، سواء أ كان مال نفسه كالإسراف و صرفه في المحرّمات، أم مال غيره.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بذلك للدلالة على وحدة المجتمع، و أن أنفسهم كنفس واحدة، و زيادة في الزجر، فإن من قتل غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية يشمل قتل الإنسان نفسه، أي: الانتحار أيضا.

يضاف إلى ذلك أنّ النواهي و المحرّمات في نظام الإسلام قد لوحظ فيها ارتداع مجموع الامة و حفظ الأصول الثلاثة، التي يجب حفظها بتكافلهم و تعاضدهم في ترك ما يوجب الإخلال بها.

و من ذلك يعلم أنّه لا وجه لارتكاب الجمع بين الحقيقة و المجاز في كلام واحد، كما قاله بعض.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً .

تعليل لما ورد في الآية الشريفة من الأحكام أي: أنّ اللّه تعالى إنّما شرّع لكم من الأحكام ما يصون به عرضكم و يحفظ به أموالكم و أنفسكم، فنهاكم عن السفاح و أكل الأموال بالباطل و قتل الأنفس ظلما، لأنّه رحيم بكم، فأمركم بما يصلحكم و نهاكم عمّا يضرّكم.

و من ذلك يظهر أنّه لا وجه لإرجاع هذا التعليل العامّ إلى خصوص بعض صغريات الحكم الأخير، و هو الانتحار، باعتبار أنّ قتل النفس بإلقائها في مخاطرة القتل و التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدّي إلى قتلها، فإنّ الآية الكريمة أوسع و أعمّ .

ص: 108

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً .

العدوان: هو التجاوز عن الحدّ، سواء أ كان بالقصد أم بالقول أم بالفعل، و سواء أ كان جائزا ممدوحا كالقصاص، أم محظورا مذموما كقتل النفس المحترمة ابتداء، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثمانية مواضع قال تعالى:

تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة البقرة، الآية: 85]، و قال تعالى:

أَيَّمَا اَلْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ [سورة القصص، الآية: 28]، و قال تعالى: فَلا عُدْوانَ إِلاّ عَلَى اَلظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 193]، و قال تعالى:

وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2].

و المراد به في المقام بقرينة مقارنته للظلم هو التعدّي على حدود اللّه تعالى، فيكون الظلم هو الفعل المتعدّى به عن الحقّ .

و الآية الشريفة تسدّ جميع أبواب التعدّي، سواء في القصد أم في القول أم في الفعل.

و ذلِكَ إشارة إلى مجموع ما تقدّم من الأحكام في الآيات السابقة، كأكل الأموال بالباطل، و قتل النفس المحرّمة، و التزويج بالمحرّمات، و تحليل ما حرّمه اللّه تعالى و تحريم ما أحلّه عزّ و جلّ .

و في الآية المباركة التفات عن خطاب المؤمنين إيماء إلى أنّ من فعل ذلك منهم فليس من المؤمنين، فلا يخاطب المؤمنون بفعله، و هم كنفس واحدة، و إنّما يخاطب الرسول الذي هو وليّ المؤمنين و المأمور فيهم بإجراء أحكام اللّه تعالى، و على ذلك ينزل عموم الخطاب.

قوله تعالى: فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً .

الاصلاء بالنار: الإحراق بها، و تقدّم ما يرتبط بهذه المادّة في قوله تعالى:

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً [سورة النساء، الآية: 10]. و الجملة جواب الشرط،

ص: 109

و ترتّبها على السابق ترتّب المعلول على العلّة التامّة، و الصلي بالنار إنّما يكون في الآخرة، لأنّها دار جزاء الأعمال.

قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أي: جزاء مخالفة ما ذكر من الأحكام - في الآيات سواء كانت بالنسبة إلى النفوس أم الأموال أم الأعراض - يسير على اللّه تعالى، فإنّه قادر على كلّ شيء.

و أمّا قول من قال بأنّ التعليل و التهديد راجع إلى خصوص القتل فلا تعميم فيه، فهو مخالف لسياق الآية الشريفة و دأب القرآن الكريم في سائر الموارد التي يذكر فيها عزّ و جلّ أمورا كثيرة ثم يأتي بتعليل واحد يعمّ الجميع و يشمله.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ على حرمة أكل الأموال بالباطل و التصرّف فيها بما نهى عنه الشارع، و يستتبع هذا الحكم التكليفي حكما وضعيّا آخر، و هو بطلان المعاملات المشتملة على الباطل و فسادها و اشتغال الذمة بما تصرّف فيها.

الثاني: إطلاق الباطل في الآية الشريفة يشمل الباطل الشرعيّ بلا إشكال، و كذا الباطل العرفي، أي: ما ليس فيه غرض صحيح عقلائيّ ، فكلّ مورد إذا حكم العرف بأنّه باطل تشمله الآية المباركة و لا يجوز التعامل فيه، كما تشمل الآية جميع المناهي الشرعيّة و الأفعال المحرّمة إذا وقعت موردا للمعاوضة.

الثالث: الآية الكريمة: إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ، تدلّ على إباحة التجارة و مشروعيتها، و عمومها يشمل جميع أنواع التجارات كالبيع و الإجارة

ص: 110

و المزارعة و المساقاة و المضاربة و القراض، و غيرها و لا بد أن تكون التجارة مستجمعة لجميع شرائط الصحّة.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: عَنْ تَراضٍ على كفاية الرضا مطلقا، سواء كان حين العقد و العطاء أم بعد كلّ منهما، فيصحّ بيع الفضولي و بيع المكره إذا لحقهما الرضا و الإجازة.

كما يدلّ الإطلاق على كفايته في التملّك من غير توقّف على العقد، إلا إذا دلّ دليل على اعتباره، و من هنا اتّفق الكلّ على صحّة المعاطاة في التجارات.

الخامس: تدلّ الآية المباركة على لزوم المعاملات المشتملة على الرضا إلا إذا دلّ دليل على الجواز. و من هنا قال الفقهاء: الأصل في كلّ معاملة اللزوم إلا ما خرج بالدليل.

السادس: ذكر بعض المفسّرين أنّ الوجه في الاستثناء المنقطع في الآية الشريفة الإشارة إلى أنّ جميع ما في الدنيا من التجارة و نحوها من قبيل الباطل؛ لأنّه لا ثبات له و لا بقاء، فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للآخرة التي هي خير و أبقى.

أقول: إنّ ما ذكره و إن كان حقّا كما تدلّ عليه آيات كثيرة، و لكن الآية المباركة لا ظهور لها فيه، مضافا إلى أنّه لا يرتبط بكون الاستثناء متصلا أو منقطعا.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً على النهي عن كلّ ما يوجب هتك حرمات اللّه تعالى، سواء كان بالتشريع أم بالقصد أم بالقول أم بالفعل. و الآية الكريمة تدلّ على بعد من يفعل ذلك عن رحمة اللّه تعالى.

الثامن: يدلّ التعليل الوارد في الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أنّ الأحكام الإلهيّة و التشريعات السماويّة من مظاهر رحمته تبارك و تعالى بعباده، و أنّها غاية النظام التكويني.

ص: 111

بحث روائي

في المجمع: في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ في الباطل قولان: «أحدهما أنّه الربا و القمار و البخس و الظلم، قال: و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام».

أقول: ذكر ذلك من باب المثال و المصداق لكلّ محرّم، لا التخصيص بما ذكر.

و ممّا ذكرنا يظهر

ما رواه في نهج البيان عن الصادقين عليهما السّلام من أنّه: القمار و السحت و الربا و الأيمان،

و في رواية اخرى عن الصادق عليه السّلام التخصيص بالقمار فقط.

و في التهذيب: عن ابن محبوب عن سلمة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

الرجل منّا يكون عنده الشيء يتبلّغ به و عليه دين، أ يطعمه عياله حتّى يأتيه اللّه عزّ و جلّ بميسرة فيقضي دينه، أو يستقرض على ظهره في خبث الزمان و شدّة المكاسب، أو يقبل الصدقة ؟ قال: يقضي بما عنده دينه، و لا يأكل من أموال الناس إلاّ و عنده ما يؤدّي إليهم حقوقهم، إن اللّه يقول: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ ، و لا يستقرض على ظهره إلا و عنده وفاء، و لو طاف على أبواب الناس فردّوه باللقمة أو اللقمتين و التمرة و التمرتين، إلا أن يكون له وليّ يقضي دينه من بعده، ليس منا من ميت يموت إلا و جعل اللّه عزّ و جلّ له وليّا حتّى يقوم في عدّته و دينه، فيقضي عدّته و دينه».

أقول: الرواية موافقة للقواعد الفقهيّة، فإنّ من ليس عنده شيء و ليس له استعداد طلب المال و لا قوة الاكتساب، و ليس له من يعينه على ذلك، و ليس له رجاء الصلاحية، لا يعتبر الناس له ذمّة حتّى يستدين على الذمّة.

ص: 112

و في تفسير العياشي عن أسباط بن سالم قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فجاءه رجل فقال له: اخبرني عن قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ ، قال: عنى بذلك القمار، و أمّا قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ عنى بذلك الرجل من المسلمين يشدّ عن المشركين وحده، يجيء في منازلهم فيقتل، فنهاهم اللّه عن ذلك».

أقول: تقدّم ما يرتبط بصدر الحديث، و هو يدلّ على العموم.

و أمّا ذيل الحديث، فيدلّ عليه قوله تعالى أيضا: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى اَلتَّهْلُكَةِ ، و كلّ قتال مع المشركين لا بد و أن يكون بشرائط مذكورة في كتاب الجهاد.

و في الدرّ المنثور: أخرج ابن ماجة و غيره عن ابن سعيد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما البيع عن تراض».

أقول: ذكر البيع في كلامه صلّى اللّه عليه و آله من باب ذكر أهمّ الأفراد و أغلبها، و إلا فكلّ تجارة و عقد لا بد أن تكون عن تراض.

و في تفسير العياشي عنه عليه السّلام قال: «كان الرجل يحمل على المشركين وحده حتّى يقتل أو يقتل، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ».

أقول: لعلّ ذلك من أحد مناشئ النزول و أسبابه.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن إسحاق بن عبد اللّه بن محمد بن علي بن الحسين، قال: حدّثنى الحسن بن زيد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال:

«سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن الجبائر يكون على الكسير، كيف يتوضّى صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا أجنب ؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده، فقرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ».

ص: 113

أقول: ذكرنا في التفسير أنّ الآية الشريفة تشمل قتل الغير و قتل النفس، أي: الانتحار، و لهذا مصاديق كثيرة، و الحديث يدلّ على نفي كلّ حرج.

و عن ابن المغازلي في كتابه عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، قال: لا تقتلوا أهل بيت نبيّكم، إنّ اللّه يقول في كتابه: فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ، قال: كان أبناء هذه الامة الحسن و الحسين عليهما السّلام، و كان نساؤهم فاطمة عليها السّلام، و أنفسهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و عليّ عليه السّلام.

أقول: يمكن أن يقال: إن المنصرف من الأنفس هي الأنفس التي لها موقعيّة عند اللّه تبارك و تعالى، و هي منحصرة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أهل بيته عليهم السّلام، الذين هم حملة القرآن و شرّاحه، و يمكن أن يستشهد لذلك ببعض الآيات و الأخبار. و أمّا إضافتها إليهم، فلبيان أنّهم منهم ظاهرا، و إن لم يكن منهم واقعا، فلا ينبغي أن يقتل الإنسان مثله و من كان هو نظيره في الظاهر.

في الفقيه: قال الصادق عليه السّلام: «من قتل نفسه متعمّدا فهو في نار جهنّم خالدا فيها، قال اللّه تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أقول: تقدّم أنّ الآية المباركة عامّة تشمل قتل النفس و قتل الغير، و الرواية تدلّ على ذلك أيضا.

و في الدرّ المنثور: عن ابن عباس: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله باع رجلا ثم قال له:

اختر، فقال: قد اخترت، فقال: هكذا البيع».

و فيه أيضا أخرج البخاريّ ، و الترمذيّ و النسائيّ عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: البيّعان بالخيار ما لم يتفرّقا، أو يقول أحدهما للآخر: اختر».

أقول: ذكرنا ما يتعلّق بهذه الأحاديث في أحكام الخيارات من كتابنا (مهذب الأحكام)، و جميع هذه الروايات تدلّ على اعتبار التراضي في المعاوضات.

ص: 114

بحث عرفاني

المراد من قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ هو القتل بغير الحقّ ، و أمّا إذا كان بحقّ فهو محبوب، و هو يتحقّق في موارد:

منها: القتل قصاصا، قال تعالى: وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً [سورة الاسراء، الآية: 33].

و يمكن إدخال هذا الموارد في منطوق الآية الشريفة أيضا بأن يقال: لا تقتلوا الغير فتعرّضوا أنفسكم إلى القتل و لو كان قصاصا، فتدلّ الآية المباركة على النهي عن تعريض النفس للقتل و الهلاك.

و منها: القتل في سبيل اللّه و جهاد الحقّ مع الباطل، قال تعالى: وَ لا تَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة آل عمران، الآية: 169-170]، و قال تعالى:

فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5].

و منها: القتل الذي هو قرّة عين الأولياء المتّقين و العرفاء الشامخين، و هو قتل النفس الأمّارة بالسوء و الشهوات الحيوانيّة، و هو الذي أشار إليه

سيد الأنبياء بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «موتوا قبل أن تموتوا»، و قد حثّت عليه السنّة الشريفة بألسنة شتى،

ففي الحديث: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا»، لكن يجب أن يكون بالشروط المعتبرة المذكورة في علم الأخلاق، بل لم يوضع هذا العلم إلا لأجل ذلك، و له طرق متعدّدة، و من أهمّها حقيقة الإيمان باللّه تعالى و رسوله، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ [سورة النساء، الآية 136]، و قال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 28]،

ص: 115

و ليس المراد بهذا النور الأنوار الظاهريّة الجسمانيّة، بل هي أنوار معنويّة لا حدّ لها و لا نهاية لعظمتها.

و من تلك الطرق جملة العبادات الشرعيّة المبنيّة على الخلوص و الإخلاص، و الخضوع و الخشوع و التضرّع عند ربّ الأرباب، و لعلّ ذيل الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً ، إشارة إلى بعض ما تضمّنه الصدر.

و يمكن أن يراد بالقتل في قوله تعالى: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، مطلق الأذيّة بغير حقّ ، و هو شائع في العرف يقال: «قتلني بلسانه و من اذيته»، فتختصّ حينئذ بأولياء اللّه الذين هم العلّة الغائيّة لخلق العالم بروحانيّاته و جسمانيّاته،

و قد ورد في الحديث: «من آذى لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة»، و «من آذاهم فقد آذى اللّه»، فلا بد من الاحتفاظ على العلّة الغائيّة، فإنّها العلّة واقعا.

و أمّا قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً ، فقد ورد في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و لا ريب في أن الممكن من حيث هو ممكن إذا لوحظ بالنسبة إلى الواجب بالذات، تكون النسبة نسبة العدم إلى الوجود، لما ثبت في الحكمة المتعالية حتّى جعله العلماء من القواعد الفلسفية: «ان الممكن من ذاته ليس، و من علّته أيس».

هذا إذا لوحظ بالنسبة إلى ذات الواجب من حيث هو.

و أمّا إذا لوحظ بالنسبة إلى القيوميّة المطلقة، و القدرة غير المتناهيّة، و الإحاطة العلميّة فوق ما نتعقّله من معنى الإحاطة، فجميع العوالم الإمكانية كالذرّة تحت يدي جبّار قهّار، و حينئذ يكون التعبير ب: (يسيرا) تعبيرا مجازيا، إذ ليس شيء في مقابل ذلك الجبروت المهيمن حتّى يكون يسيرا، هذا كلّه بالنسبة إلى عذابه.

و أمّا بالنسبة إلى رحمته، فالأمر أيسر، لأنّ رحمته سبقت غضبه، و أنّ رحمته وسعت كلّ شيء.

ص: 116

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الآية .......

اشارة

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) الآية الشريفة على إيجازها البليغ و اسلوبها البديع تشتمل على الترغيب و الترهيب و الوعد و الوعيد و الأمل و الرجاء بالسعادة، فهي تدلّ على وجوب الاجتناب عن المناهي، التي يوجب ارتكابها الشقاوة و العذاب العظيم.

كما أنّها تدلّ على أنّ الارتداع عن الكبائر المنهيّة يوجب الدخول في النعيم الأبدي، و يستلزم السعادة الحقيقيّة، و لا يخفى ارتباطها بما قبلها من الآيات التي تضمّنت جملة من الأحكام الشرعيّة و المناهي الإلهيّة التي شرّعها اللّه تعالى لأجل مصالح الإنسان.

التفسير

قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ .

الاجتناب أبلغ من الترك؛ لأنّه ملحوظ فيه النفور و الاشمئزاز، و هو مأخوذ من الجنب الذي هو الجارحة. و إنّما بني عنه الفعل على سبيل الاستعارة، فإنّ الإنسان إذا أعرض عن شيء تركه جانبا، و الاجتناب هو الابتعاد عن الشيء و ملازمة تركه، و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في أربعة عشر موضعا كلّها تدلّ على أهمية المنهي عنه كالطاغوت، قال تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اَللّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ اَلضَّلالَةُ [سورة النحل، الآية: 36].

و الرجس، قال تعالى: فَاجْتَنِبُوا اَلرِّجْسَ [سورة الحج، الآية 30].

و قول الزور، قال تعالى: وَ اِجْتَنِبُوا قَوْلَ اَلزُّورِ [سورة الحجر، الآية: 30].

ص: 117

و عبادة الأصنام، قال تعالى: وَ اُجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ اَلْأَصْنامَ [سورة إبراهيم، الآية: 35].

و النّار، قال تعالى: وَ سَيُجَنَّبُهَا اَلْأَتْقَى [سورة الليل، الآية: 17].

و سوء الظنّ ، قال تعالى: اِجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ اَلظَّنِّ [سورة الحجرات، الآية: 12].

و التجنّب تارة يحصل بالنسبة إلى الشيء قصدا و فعلا دائما من أوّل التمييز إلى حين الموت.

و اخرى: بالنسبة إلى القصد فقط دون العمل، بأن يقصد الاجتناب عن الكبائر مطلقا، و لكن يتفق صدور بعضها عنه غفلة.

و ثالثة: يكون اجتنابا عرفيّا، بحيث يصدق على الشخص أنّه مجتنب عرفا، فيكون له و للارتكاب مراتب متفاوتة.

و مقتضى القواعد الشرعيّة - و هو الموافق لسعة رحمته تبارك و تعالى - اعتبار الأخير، و لكن مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الثاني.

و الكبائر: جمع كبيرة، و هي و الصغيرة من الأمور الإضافيّة. و الآية الشريفة تدلّ على أنّ المعاصي قسمان كبيرة و صغيرة، و الاولى هي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعا، العظيم أمرها كالقتل، و الزنا، و الفرار من الزحف و نظائرها.

و إن كانت المعاصي كلّها تشترك في أصل المخالفة و العصيان على اللّه تعالى فهي كبيرة من هذه الجهة، فإنّ ذلك مقياس الذنب بين الإنسان المربوب المخلوق الضعيف، و بين اللّه تعالى الذي لا منتهى لعظمته و سلطانه، فلا فرق في أفراد المعاصي حينئذ.

و هنا لا ينافي كونها تتصف بالكبيرة و الصغيرة إذا لوحظت فيما بينها كما

ص: 118

هو الشأن في الأمور الإضافيّة، فإنّ كبر المعصية يدلّ على أهميّة النهي عنها و عظم المخالفة، إذا قيس بالنسبة إلى النهي عن الآخر.

فهما وصفان للمعاصي و الآثام و الذنوب، و في المقام حذف الموصوف و أقيم الوصف مقامه، و إن الصغر و الكبر من المبينات العرفيّة، و بهذا المعنى العرفي وقع في الكتاب و السنّة و اصطلاح العلماء في علمي الفقه و الأخلاق، فالنظر إلى الأجنبيّة مثلا صغيرة إذا قيس إلى سائر الاستمتاعات بها، و المخالفة في الثاني أعظم و أكبر من المخالفة في الأوّل، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، فإنّ المستفاد منه اختلاف المناهي في العظمة و الأهميّة، و لا بد من استفادة الأهميّة من الشرع أيضا.

و قد ذكر العلماء (قدس اللّه اسرارهم) طرقا كثيرة، و أهمّها ما ذكر في الفقه و هو: أنّ كلّ ذنب أوعد عليه بالنّار، أو تعدّد الخطاب فيه، و النهي عن الإصرار و التكرار.

و هذا هو المقياس في تحديد الكبائر في الإسلام، و ربّما تكشف النصوص بعض الكبائر و تنصّ عليها بأنّها كبيرة، فتكون غيرها بالنسبة إليها صغيرة. و قد ذكر العلماء في تعريف الكبائر و الصغائر و تمييز كلّ واحدة منها عن الاخرى وجوها، سيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بذلك.

و ربّما يتوهّم أنّ الإضافة في قوله تعالى: كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ بيانيّة، فتدلّ الآية الكريمة على اجتناب جميع المعاصي، و تكون معنى الآية المباركة حينئذ: إن تجتنبوا المعاصي جميعا نكفّر عنكم سيئاتكم، و لا سيئة مع اجتناب المعاصي، فتكون من قبيل السالبة المنتفية بانتفاء الموضوع.

و يردّ عليه أنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة، إلا أن يقال: إنّه يرجع إلى تكفير سيئات المؤمنين قبل نزول الآية المباركة.

ص: 119

و فيه: أنّه يلزم تخصيص الآية الشريفة بمن حضر عند النزول، و هو خلاف ظاهر الآية الكريمة أيضا.

قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

مادة (كفر) تدلّ على الستر، و كفّر الشيء إذا غطاه، و يقال للفلاح: كافر، لأنّه يكفر البذر، أي: يستره، قال تعالى: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ اَلْكُفّارَ نَباتُهُ [سورة الحديد، الآية: 20]، و منه كفر النعمة و الإحسان إذا غطّاها بترك الحمد و الشكر عليها أو جحدها،

و في الحديث: «رأيت أكثر أهل النّار النساء لكفرهن، قيل: أ يكفرن باللّه ؟ قال: لا، و لكن يكفرن الإحسان و يكفرن العشير»، أي: يجحدن إحسان أزواجهن و يسترنه، و منه سمّي الكافر أيضا؛ لأنّه كفر بالصانع و المبدأ، و كفّر اللّه عنه الذنب، إذا ستره و محاه عن العبد.

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يزيد عن خمسمائة مورد، أغلبها استعملت في مورد الكفر باللّه و الأنبياء و اليوم الآخر.

و لكن ذكر التكفير عن السيئات في القرآن الكريم ورد في نحو ثلاثة عشر موردا متعديا بكلمة (عن).

و المستفاد من موارد استعماله في القرآن الكريم أنّ المراد منه العفو عن السيئات و حطّ وزرها عن المسيء، و الإحباط نقيضه التكفير، و إنّما يتحقّق بفعل الطاعات و ترك الكبائر، فيكون تكفير السيئات حينئذ من اللّه جلّت عظمته محو الذنب و إسقاطه بالمرّة، فلا يضرّ فعله بالعدالة إلا بالإصرار على الصغائر، فيكون من الكبائر، فلا يتحقّق حينئذ شرط التكفير و هو الاجتناب عن الكبائر، و هذا من أحسن التدبيرات الإلهيّة في عباده، حيث لا يبعدهم عن رحمته الواسعة بمجرّد ارتكاب المخالفة.

نعم، الإصرار إنّما يتحقّق بعدم تخلّل التوبة بين ارتكاب صغيرة و صغيرة اخرى، و إما مع تخللها، فلا موضوع حينئذ للإصرار.

ص: 120

ثمّ إنّ السيئات جمع السيئة، و قد أطلقت في القرآن الكريم على معان، منها كلّ ما يكرهه الإنسان و يسؤه، قال تعالى: وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ [سورة النساء، الآية: 79]، و قال تعالى: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ [سورة الرعد، الآية: 6].

و منها: نتائج المعاصي و الآثام، سواء كانت دنيويّة أم اخرويّة، قال تعالى:

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا [سورة النحل، الآية: 34]، و قال تعالى:

سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا [سورة الزمر، الآية: 51].

و يمكن إرجاع هذا المعنى إلى الأوّل أيضا، فإنّ تلك الآثار قد جلبها الإنسان على نفسه بسبب ارتكابه المحرّمات و المعاصي، و هي تسؤه في الدنيا أو الآخرة.

و منها: مطلق المعصية، قال تعالى: أَمْ حَسِبَ اَلَّذِينَ اِجْتَرَحُوا اَلسَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [سورة الجاثية، الآية: 21]، و الإطلاق فيه يشمل الكبائر و الصغائر.

و أمّا السيئات في الآية الشريفة: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، فإن لوحظت مقابلتها للكبائر، تنحصر لا محالة في الصغائر، و إن لوحظت سعة رحمته جلّ شأنه و سعة تكفيره و غفرانه، تعمّ الكبائر أيضا، فيراد حينئذ بقوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ ، صرف وجود الكبيرة، و إنّما أتى عزّ و جلّ بالجمع باعتبار جميع أفراد الناس، و مقتضى الجمود على ظاهر اللفظ هو الأوّل، و لكن مقتضى ما ورد في سعة رحمته عزّ و جلّ غير المتناهية هو الثاني، و يقتضيه ظاهر الامتنان في الآية المباركة، خصوصا مع ما ذكره الفقهاء و علماء الأخلاق من إنهاء الكبائر إلى سبع و سبعين، التي لا يخلو عنها غالب الناس،

و ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من الجمعة كفّارة من الذنوب»،

و ما ورد في غفران شهر رمضان، و ما ورد في الغفران في يوم عرفة، قال عليه السّلام: «ما وقف بهذه الجبال

ص: 121

أحد إلا غفر اللّه تعالى له، من مؤمن الناس و فاسقهم»، و غير ذلك ممّا ذكرناه في مبحث التوبة.

و كيف كان، فالآية الكريمة تدلّ على انقسام المعاصي إلى الكبائر و الصغائر، سواء أ كان الانقسام بحسب ملاحظة نفس المعاصي بعضها مع بعض، أم بحسب ملاحظة صدورها من الفاعل، فربّما يكون بعض الصغائر بالنسبة إلى شخص كبيرة و بالنسبة إلى شخص آخر صغيرة،

كما ورد: «حسنات الأبرار سيئات المقرّبين».

قوله تعالى: وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً .

المدخل - بضم الميم و فتح الخاء - و المعروف أنّه اسم مكان، و المراد به في الآية الشريفة الجنّة، فيكون منصوبا على الظرفيّة، و قيل: إنّه مصدر منصوب، فيكون مفعول نُدْخِلْكُمْ الجنّة إدخالا.

و قيل: إنّه منصوب بفعل مقدّر، و الأصحّ هو الوجه الأوّل.

و كيف كان، فالمراد به الجنّة التي وعدها اللّه تعالى للصالحين.

و الكريم: هو الحسن الطيب، و من أسمائه جلّ شأنه «الكريم» أي: الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه، فهو الكريم المطلق، و الكريم الجامع لأنواع الخير و الشرف و الفضائل، فلا حدّ لكرمه و لا يمكن عدّ نعمائه.

و قد وصف عزّ و جلّ ذلك المكان به أيضا، قال تعالى: وَ مَقامٍ كَرِيمٍ [سورة الدخان، الآية: 26]، و المقام الكريم ذلك المقام الذي يسعد الداخل فيه بحسن الثناء و عظيم النعمة، و يتّصف به الرزق أيضا، قال تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الحج، الآية: 50]، كما يتّصف به الرسول أيضا، قال تعالى:

إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [سورة الحاقة، الآية: 40]، و يتّصف به غير ما ذكر كما ورد في الآيات الشريفة.

و المعنى: و ندخلكم الجنّة في الآخرة التي يكرم بها من يدخلها فيسعد فيها،

ص: 122

فإنّ الجنّة لا يدخلها أحد إلا بعد التطهير من الدنس و رذائل الصفات، قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [سورة الأعراف، الآية: 43].

و في إضافة الإدخال إلى ذاته المقدّسة فيها غاية اللطف و نهاية العناية و كمال المحبّة، حيث إنّه تعالى بعد المخالفة و كفران السيئات باجتناب الكبائر يدخل العبد مدخلا كريما.

بحوث المقام
بحث دلالي

تدلّ الآية الشريفة على امور:

الأوّل: أنّ الآية المباركة باسلوبها الجذّاب الدال على اللطف و الحنان و المحبّة، و سياقها الظاهر في الزجر عن ارتكاب المعاصي و المتضمّن للوعد للتائبين بعظيم الجزاء - تدلّ على أنّ المنهي في الشريعة منه ما هو كبير و منه ما هو صغير، و المستفاد منها أنّ المقياس في الكبائر و الصغائر هو نسبة بعضها إلى بعض حيث جعل عزّ و جلّ الكبائر مقابل السيئات، و لم يبيّن سبحانه و تعالى الوجه في تشخيص كون المعصية كبيرة أو صغيرة، و قد تعرّضت السنّة الشريفة إلى بيان المقياس في ذلك، و سيأتي في البحث الأخلاقي تفصيل ذلك.

و الآية المباركة ردّ على من زعم أنّ المعاصي كلّها كبائر، حتّى قال بعضهم:

إنّه لا يمكن أن يقال في معصية إنّها صغيرة إلا على معنى أنّها تصغر عند اجتناب الكبائر، فالمعاصي كلّها كبائر، و هذا اجتهاد منهم في مقابل النصّ ، إلا أن يراد أنّها كبيرة بالنسبة إلى أصل المخالفة و عصيان اللّه تعالى و عظمته عزّ و جلّ ، كما عرفت آنفا، و أشار إلى ذلك بعضهم فقال: إنّهم كرهوا تسمية المعصية صغيرة، نظرا إلى جلال اللّه تعالى و عظمته و شدّة عقابه، فإنّ المعاصي إذا لوحظت بالنسبة إليه تعالى كبيرة.

ص: 123

و ما ذكره مسلّم لا إشكال فيه و لم ينكره أحد، إلا أنّ الكلام في مفاد الآية الشريفة بعد تقسيمها للمعاصي إلى الكبيرة و الصغيرة.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ شروط التكفير للسيئات و الوصول إلى الرضوان و ما وعد به الرحمن.

فمنها: أن يكون ترك الكبائر عن قدرة و إرادة، و هي متوقّفة على معرفة الكبائر و الصغائر و التمييز بينهما، فإنّ المكلّف إذا عرف أنّها حرمات اللّه تعالى عزم همّه على تركها، بل قيل بوجوب معرفتها مقدّمة للاجتناب عنها، بل التهاون فيها كبيرة أيضا يجب الاجتناب عنه، و إن لم يكن يجب اتقاء جميع المعاصي مخافة الوقوع في الكبائر و الابتلاء بارتكابها، على ما هو مفصّل في الفقه.

و منها: أن يكون النهي الشرعيّ منجزا، و إلا فلا يجب الاجتناب كما في مورد الجهل بالموضوع و عدم بلوغ الحكم و نحو ذلك ممّا هو مفصّل في اصول الفقه، راجع كتابنا (تهذيب الأصول).

و منها: أن يكون الاجتناب عن المعاصي الكبيرة عن إعراض النفس و عزوفها عن ارتكابها.

و بعبارة اخرى: أن يكون الاجتناب عن أثر في النفس، لما تدلّ عليه كلمة الاجتناب الواردة في الآية المباركة. و قال تعالى: وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى * فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى [سورة النازعات، الآية: 40-41].

الثالث: الآية الشريفة في مقام الامتنان على المؤمنين بأنّهم إذا اجتنبوا بعض المعاصي، كفّر عنهم البعض الآخر.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً على الذنب، و أنّ التخلية مقدّمة على التحلية، و أنّها لا تتحقّق إلا بعد التكفير و التزكية.

ص: 124

الخامس: إطلاق التكفير يشمل جميع الآثار الدنيويّة و الاخرويّة، و نسبة التكفير إلى نفسه الأقدس، يدلّ على أهمية الموضوع و عظمته و كمال الاعتناء بشأن المؤمنين.

و قال بعضهم: إنّ ظاهر الآية الشريفة وجوب تكفير السيئات و الصغائر عند اجتناب الكبائر، و هذه من صغريات كبرى غفران الذنوب بعد التوبة، و قد ذكرنا في مبحث التوبة في سورة البقرة، قلنا: إنّه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة مع تحقّق جميع الشرائط.

بحث روائي
اشارة

الروايات الواردة عن الفريقين في تفسير هذه الآية الشريفة مع كثرتها هي على طوائف متعدّدة، تبيّن كلّ منها جانبا من الجوانب التي تضمّنتها الآية المباركة، و نذكر المهمّ منها:

ما ورد في تحديد الكبيرة:

في الكافي: بسنده عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، قال: «الكبائر التي أوجب اللّه عليها النّار».

أقول: و مثله ما عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر عليه السّلام.

و في الفقيه: عن عباد بن كثير النوا قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الكبائر، فقال: كلّ ما أوعد اللّه عليه النّار».

أقول: و مثله ما عن تفسير العياشيّ ، و يستفاد من هذه الروايات تحديد شرعيّ للكبائر التي وردت في الكتاب و السنّة، و إيجاب النّار أعمّ من أن يكون بالمطابقة أو بالملازمة، سواء أ كان في كتاب اللّه تعالى أم في حديث المعصوم، و سواء رتّب الشارع عليها الحدّ في هذه الدنيا - كالزنا و شرب الخمر - أم لا. فما

ص: 125

عن بعض من حصر الكبيرة في كلّ ذنب رتّب عليه الشارع الحدّ في هذه الدنيا - كما يأتي في البحث الأخلاقي - مناف لما تقدّم من الروايات.

و في معاني الأخبار بإسناده عن الحسن بن زياد العطّار، عن الصادق عليه السّلام قال: «قد سمّى اللّه المؤمنين بالعمل الصالح مؤمنين، و لم يسمّ من ركب الكبائر و ما وعد اللّه عزّ و جلّ عليه النّار مؤمنين في القرآن، و لا نسمّيهم بالإيمان بعد ذلك الفعل».

أقول: تقدّم أنّ للإيمان مراتب، و من ارتكب الكبيرة و لم يخرج عن الإسلام لم يكن من الكمل إلا إذا تاب. و إنّها كالروايات المتقدّمة في تحديد الكبيرة بالوعيد، و سيأتي في البحث الأخلاقي ما يتعلّق بالمقام.

و في ثواب الأعمال عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ قال: «من اجتنب الكبائر، و هي ما أوعد اللّه عليه النّار، إذا كان مؤمنا كفّر اللّه عنه سيئاته».

أقول: و مثله ما في الكافي عن ابن محبوب. و يستفاد منها أنّ التكفير مشروط بالإيمان، كما هو المنساق من الآية المباركة، و أنّ الكافر لو اجتنب لا يوجب التكفير عنه.

نعم، يمكن أن يكون له أثر في الدنيا أو في عالم البرزخ، و لا تنافي بينها و بين

ما ورد في الفقيه عن الصادق عليه السّلام: «من اجتنب الكبائر كفّر اللّه جميع ذنوبه، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ »، أي: مع الإيمان باللّه تعالى.

و كيف كان، فالمستفاد من هذه الروايات و غيرها ممّا ورد من طرق الجمهور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سائر المعصومين عليهم السّلام، أنّ الكبيرة ما أوعد بالنّار، و الصغيرة هي الذنب الذي لم يوعد بالنار، أو لم يماثل في الروايات بذنب أوعد فيه.

ص: 126

ما ورد في أعداد الكبائر:

الروايات في أعداد الكبائر مختلفة، ففي جملة منها أنّها سبع، و إن اختلفت هذه في المعدود منها و أبدال كبيرة بأخرى في الذكر، كما يأتي.

و في بعضها تسع، و في آخر ثمان. و في بعضها ثلاث.

و عن ابن عباس في الدرّ المنثور عدّها ثمان عشرة، و في الكافي عن عبد العظيم الحسنيّ عن أبي جعفر الثاني عن الصادق عليهما السّلام أنّها عشرون - كما يأتي - و عن ابن عباس انها اقرب إلى التسعين.

و لعلّ السرّ في اختلاف هذه الروايات أنّها في مقام بيان المهمّ من الكبائر بل أكبرها، أو باعتبار اقتضاء المقام، و نحن نذكر جملة منها على سبيل الاختصار و هي:

في التهذيب: بسنده عن معلى بن خنيس عن أبي الصامت عن الصادق عليه السّلام: «أكبر الكبائر سبع: الشرك باللّه العظيم، و قتل النفس التي حرّم اللّه عزّ و جلّ إلا بالحقّ ، و أكل مال اليتيم، و عقوق الوالدين، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف، و إنكار ما أنزل اللّه تعالى».

أقول: هذا الحصر إما بالنسبة إلى أكبر الكبائر، كما قال عليه السّلام في صدر الحديث، أو إنّه إضافي؛ لأنّها أكثر من السبع، كما يأتي.

و في الكافي: عن ابن محبوب قال: «كتب معي بعض أصحابنا إلى أبي الحسن عليه السّلام يسأل عن الكبائر كم هي و ما هي ؟ فكتب: الكبائر من اجتنب ما وعد اللّه عليه النّار كفر عنه سيئآته إذا كان مؤمنا، و السبع الموجبات: قتل النفس الحرام، و عقوق الوالدين، و أكل الربا، و التعرّب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و قذف المحصنات، و الفرار من الزحف».

أقول: و مثله ما عن الصدوق في ثواب الأعمال. و هذا الحصر إضافي، فلم يردّ فيها الشرك باللّه تعالى، و قد عدّ في الرواية السابقة من أكبرها، و لكن

قوله عليه السّلام: «إذا كان مؤمنا»، يدلّ على أنّه منها.

ص: 127

و فيه - أيضا -: عن عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الكبائر؟ فقال: هنّ في كتاب علي عليه السّلام سبع: الكفر باللّه، و قتل النفس، و عقوق الوالدين، و أكل الربا بعد البيّنة، و أكل مال اليتيم ظلما، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة. فقلت: هذا أكبر المعاصي ؟! فقال: نعم. قلت: فأكل الدرهم من مال اليتيم ظلما أكبر أم ترك الصلاة ؟ قال: ترك الصلاة. قلت: فما عدّدت ترك الصلاة في الكبائر؟ قال: أي شيء أوّل ما قلت لك ؟ قلت: الكفر. قال: فإنّ تارك الصلاة كافر، يعني: من غير علّة».

أقول: الحصر فيه إضافي أيضا، و أما كون تارك الصلاة عن عمد و اختيار كافرا؛ لأنّه يرجع إلى إنكارها، و تقدّم في الرواية السابقة أن إنكار ما أنزل اللّه تعالى من الكبائر.

و في صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام قال: «الكبائر سبع: قتل المؤمن متعمّدا، و قذف المحصنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البيّنة، و كل ما أوجب اللّه النّار».

أقول: عدّ الشرك منها إما لأجل المفروغيّة، كما تقدّم في الروايات السابقة، أو أنّه داخل في القاعدة الكليّة المذكورة في ذيل الرواية.

فهي تنطبق على كثير من المعاصي أيضا، كالكذب و الغيبة، و الرشوة، و شرب الخمر، و السرقة، و الزنا و غيرها.

و في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

إنّ من الكبائر عقوق الوالدين، و اليأس من روح اللّه، و الأمن من مكر اللّه».

أقول: لأنّ جميع ذلك ممّا أوعد اللّه عليه النّار، أو من الخسران، أو بمنزلة الكافر الذي أوعده اللّه النّار كما يأتي.

و في تفسير العياشي: عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كنت أنا و علقمة الحضرمي و أبو حسان العجلي و عبد اللّه بن عجلان ننتظر أبا جعفر عليه السّلام، فخرج علينا فقال:

ص: 128

مرحبا و أهلا، و للّه إنّي أحبّ ريحكم و أرواحكم، و إنّكم لعلى دين اللّه، فقال:

علقمة فمن كان على دين اللّه نشهد أنّه من أهل الجنّة ؟ قال: فمكث هنيئة. قال:

نوّروا أنفسكم، فإن لم تكونوا اقترفتم الكبائر، فأنا أشهد. قلنا: و ما الكبائر؟ قال:

هي في كتاب علي عليه السّلام سبع. قلنا: فعدّها علينا جعلنا اللّه فداك. قال: الشرك باللّه العظيم، و أكل مال اليتيم، و أكل الربا بعد البيّنة، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و قتل المؤمن، و قذف المحصنة. قلنا: ما منا أحد أصاب من هذه شيئا، قال: فأنتم إذا».

أقول: تدلّ هذه الرواية على أن من اجتنب الكبائر يكون من أهل الجنّة بشهادة أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و في تفسير العياشي - أيضا -: عن معاذ بن كثير عن الصادق عليه السّلام قال:

«يا معاذ، الكبائر سبع، فينا أنزلت و منا استحقّت، و أكبر الكبائر الشرك باللّه، و قتل النفس التي حرّم اللّه، و عقوق الوالدين و قذف المحصنات، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف، و إنكار حقّنا أهل البيت - الحديث -».

أقول: ما تضمّنته الرواية إضافي، و يكون من باب ذكر بعض المصاديق.

و فيه - أيضا -: عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء من الكبائر».

أقول: الرواية ليست في مقام الحصر حتّى الإضافي منه، و إنّما هي في بيان ذكر بعض المصاديق، و أمثال هذه الرواية كثيرة.

و في الكافي: عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: «حدثني أبو جعفر الثاني عليه السّلام قال: سمعت أبي موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول: دخل عمرو بن عبيد على أبي عبد اللّه عليه السّلام فلما سلّم و جلس تلا هذه الآية: وَ اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ ثمّ أمسك. فقال له الصادق عليه السّلام: ما أسكتك ؟ قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ و جلّ ، فقال: نعم يا عمرو، أكبر الكبائر: الإشراك

ص: 129

باللّه، يقول اللّه: مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اَللّهُ عَلَيْهِ اَلْجَنَّةَ ، و بعده اليأس من روح اللّه؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْكافِرُونَ . ثم الأمن من مكر اللّه؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اَللّهِ إِلاَّ اَلْقَوْمُ اَلْخاسِرُونَ . و منها: عقوق الوالدين؛ لأنّ اللّه سبحانه و تعالى جعل العاق جبّارا شقيّا. و قتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ ؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها . و قذف المحصنة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لُعِنُوا فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ . و أكل مال اليتيم؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً . و الفرار من الزحف؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمَصِيرُ . و أكل الربا؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ . و السحر؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اِشْتَراهُ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ . و الزنا؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً * يُضاعَفْ لَهُ اَلْعَذابُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً . و اليمين الغموس الفاجرة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: اَلَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اَللّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ . و الغلول؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ . و منع الزكاة المفروضة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ . و شهادة الزور و كتمان الشهادة؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ . و شرب الخمر؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ نهى عنها كما نهى عن عبادة الأوثان، و ترك الصلاة متعمّدا أو شيئا ممّا فرض اللّه عزّ و جلّ ؛ لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من ترك الصلاة متعمّدا فقد برئ من ذمّة اللّه و ذمّة رسوله. و نقض العهد و قطيعة الرحم؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

ص: 130

لَهُمُ اَللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ اَلدّارِ . قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه، و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم».

أقول: هذه الرواية لا تنافي ما تقدّم من الروايات، لما عرفت من أنّ الحصر فيها ليس حقيقيا، و إنما كان إضافيا. و هذه الرواية تعدّ الكبائر المأخوذة من كتاب اللّه تعالى، كما عرفت.

و في الخصال: بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «وجدنا في كتاب علي عليه السّلام الكبائر خمسة: الشرك، و عقوق الوالدين و أكل الربا بعد البيّنة، و الفرار من الزحف، و التعرّب بعد الهجرة».

أقول: لا تنافي بينه و بين ما تقدّم، لما عرفت من أنّ الحصر في هذه الروايات إضافي و ليس حقيقيّا.

و في العلل بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

أخبرني عن الكبائر. فقال: هنّ خمس، و هنّ ممّا أوجب اللّه عليهنّ النّار، قال اللّه تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ اَلْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ، و قال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ اَلْأَدْبارَ... إلى آخر الآية.

و قال عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ اَلرِّبا . و رمي المحصنات المؤمنات، و قتل مؤمن متعمّدا على دينه».

أقول: يستفاد من التعليل التعميم؛ لأنّ العلّة قد تعمّم و قد تخصّص.

و في رواية أبي خديجة عن الصادق عليه السّلام: الكذب على اللّه و على رسوله و على الأوصياء من الكبائر.

و في كنز الفوائد: عن الصادق عليه السّلام: «الكبائر تسع، أعظمهن: الإشراك باللّه عزّ و جلّ ، و قتل النفس المؤمنة، و أكل الربا و أكل مال اليتيم، و قذف المحصنات،

ص: 131

و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين و استحلال البيت الحرام، و السحر، فمن لقى اللّه عزّ و جلّ و هو بريء منهن، كان معي في جنّة مصاريعها الجنّة».

أقول: جميع هذه الروايات تدلّ على ما ذكرنا من أنّ الحصر إضافي و ليس حقيقيّا.

و في الخصال بإسناده عن الأعمش، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في حديث شرائع الدين قال: «و الكبائر محرّمة، و هي: الشرك باللّه، و قتل النفس التي حرّم اللّه، و عقوق الوالدين، و الفرار من الزحف، و أكل مال اليتيم ظلما، و أكل الربا بعد البيّنة، و قذف المحصنات».

و بعد ذلك الزنا و اللواط و السرقة، و أكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهلّ لغير اللّه به من غير ضرورة، و أكل السحت، و البخس في الميزان و المكيال، و الميسر، و شهادة الزور، و اليأس من روح اللّه، و الأمن من مكر اللّه، و القنوط من رحمة اللّه، و ترك معاونة المظلومين، و الركون إلى الظالمين، و اليمين الغموس، و حبس الحقوق من غير عسر، و استعمال التكبّر و التجبّر و الكذب، و الإسراف، و التبذير، و الخيانة، و الاستخفاف بالحجّ ، و المحاربة لأولياء اللّه، و الملاهي التي تصدّ عن ذكر اللّه عزّ و جلّ مكروهة، كالغناء و ضرب الأوتار، و الإصرار على صغائر الذنوب».

أقول: عدّ عليه السّلام في هذه الرواية الغناء من الكبائر، و لكن عبّر عنها في الحكم بالكراهة، و المراد منها الحرمة كما في قوله تعالى: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً [سورة الإسراء، الآية: 38].

و في الدرّ المنثور: أخرج جماعة عن ابن عباس أنّه سئل عن الكبائر:

«أ سبع هي ؟ قال: هي إلى السبعين أقرب».

و فيه - أيضا -: عن ابن جبير عن ابن عباس: «هي إلى السبعمائة أقرب إلى سبع، غير أنّه لا كبيرة مع الاستغفار و لا صغيرة مع الإصرار».

أقول: لا شكّ أنّ أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم حتّى و لو كان خفيا، و ما

ص: 132

سواه كبير باختلاف المراتب، فلا تنافي بين الروايات الدالّة على السبع أو الخمس أو التسع أو السبعين أو أقلّ أو أكثر كما عرفت.

ما ورد في شمول الشفاعة لأهل الكبائر:

كما أنّ التوبة تمحو الكبيرة و آثارها، كذلك الشفاعة تمحو الكبيرة و آثارها، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة.

منها

ما في التوحيد عن ابن أبي عمير، قال: «سمعت موسى بن جعفر عليهما السّلام يقول: من اجتنب الكبائر من المؤمنين لم يسأل عن الصغائر، قال اللّه تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، قلت: فالشفاعة لمن تجب ؟ فقال: حدثني أبي، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّما شفاعتي لأهل الكبائر من امتي، فأمّا المحسنون فما عليهم من سبيل. قال ابن أبي عمير فقلت له: يا ابن رسول اللّه، فكيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر و اللّه تعالى يقول: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى ، و من يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى، فقال: يا أبا أحمد، ما من مؤمن يذنب ذنبا إلا ساءه ذلك و ندم عليه، و قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كفى بالندم توبة. و قال: من سرّته حسنته و سائته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن، و لم تجب له الشفاعة - إلى أن قال النبي صلّى اللّه عليه و آله صلّى اللّه عليه و آله -: لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ شفاعته صلّى اللّه عليه و آله مدّخرة لأهل الكبائر من أمته مستفيضة بين الفريقين، و أنّها تغفر بالشفاعة، و أنّ المؤمن لا يخلّد في النّار، فإنّ التخليد فيه مختصّ بأهل الكفر و الجحود، و أهل الضلال و أهل الشرك، كما في الرواية.

و منها

في الدرّ المنثور: أخرج عبد اللّه بن أحمد في زوائد الزهد عن أنس قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يقول: ألا إنّ شفاعتي لأهل الكبائر من امتي، ثم تلا هذه

ص: 133

الآية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ - الآية».

أقول: و مثلهما غيرهما من الروايات و مقتضاها أنّ الشفاعة تختصّ بأهل الكبائر التي لا يخرج مرتكبيها عن الإيمان، كالشرك باللّه العظيم، كما تقدّم في الروايات السابقة، فالمؤمن على قسمين:

الأوّل: ما إذا اجتنب الكبائر، فيدخل الجنّة إن شاء اللّه تعالى بمقتضى الآية الشريفة و الرواية المتقدّمة.

الثاني: ما إذا ارتكب الكبائر و كان مؤمنا، فهو أيضا من أهل الجنّة بالشفاعة.

ما ورد في تحريم الإصرار على الصغيرة:

الإصرار على الذنب هو: أن لا يتخلّل الاستغفار، و لا يحدّث نفسه بالتوبة، كما يأتي في الرواية عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام، و أنّ الإصرار على الصغيرة كبيرة من الكبائر، كما تقدّم في الروايات السابقة،

ففي الكافي: بسنده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من علامات الشقاء جمود العين، و قسوة القلب، و شدّة الحرص في طلب الدنيا، و الإصرار على الذنب».

أقول: المراد من الشقاء هو الشقاء في الآخرة، و المراد من جمود العين هو قسوة القلب، فيكون العطف بيانيّا، فللقسوة مظهر خارجي، و هو جمود العين، و منشأ واقعي و هو قسوة القلب.

و في الكافي - أيضا -: بسنده عن أبي بصير قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: لا و اللّه، لا يقبل اللّه شيئا من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه».

أقول: للقبول مراتب متفاوتة جدا، فلا ينافي أن يكون الإصرار على الذنب حراما، و معه لا يحصل المرتبة الكاملة من القبول، و سيأتي في البحث الأخلاقي ما يرتبط بالمقام.

ص: 134

و في الروضة بإسناده عن الصادق عليه السّلام في رسالته إلى أصحابه قال:

«و إياكم أن تشره أنفسكم إلى شيء حرّم اللّه عليكم، فإنّ من انتهك ما حرّم اللّه عليه هاهنا في الدنيا، حال اللّه بينه و بين الجنّة و نعيمها و لذتها و كرامتها القائمة الدائمة لأهل الجنّة أبد الآبدين - الى أن قال -: و إيّاكم و الإصرار على شيء ممّا حرّم اللّه في القرآن ظهره و بطنه، و قد قال: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ ».

أقول: شره كفرح، و هو الطلب مع الحرص أو بدونه، و المراد من الرواية ما حرّمه القرآن بظاهره - كما تقدّم - أو بباطنه، أي: بواسطة السنّة الشريفة.

بحث أخلاقي
اشارة

ذكرنا أنّ الآية الشريفة تدلّ على تقسيم المعاصي إلى كبائر و صغائر، و يدلّ عليه قوله تعالى أيضا في آية اخرى: اَلَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ اَلْإِثْمِ وَ اَلْفَواحِشَ إِلاَّ اَللَّمَمَ [سورة النجم، الآية: 32]، و تدلّ عليه السنّة الشريفة، كما تقدّم في البحث الروائي.

و الكبيرة و الصغيرة من الأمور الإضافيّة النسبيّة، و هما يختلفان شدّة و ضعفا، فما من ذنب إلا و هو كبير بالإضافة إلى ما دونه، و صغير بالنسبة إلى ما فوقه، و الجميع كبائر بالنسبة إلى مخالفة مولى الموالي، و هتك حجاب العبودية و التعدّي في سلطانه عزّ و جلّ . و قد اختلف العلماء في تعريف الكبيرة اختلافا عظيما.

فقيل: إنّ كلّ ما نهى عنه عزّ و جلّ فهو كبيرة، و ينسب هذا القول إلى ابن عباس، و لكن ذكرنا آنفا أن كون الذنوب كلّها كبائر بما هو القياس إلى حال الإنسان مع خالقه و مولاه الذي يجب إطاعته في جميع الحالات، لا بلحاظ بعضها الى بعض.

ص: 135

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما يشعر بالاستهانة بالدين و عدم الاكتراث به.

و يردّ عليه: أنّه أخصّ من المدّعى، فإنّ بعض الذنوب ينطبق عليها الكبيرة و إن لم تكن بهذا العنوان، مضافا إلى أن كلّ اقتراف للذنب و الآثام مع التعمّد ينطبق عليه عنوان الطغيان و الاعتداء، الذي هو من إحدى الكبائر أيضا.

و قيل: إنّ الكبيرة ما حرمت لنفسها، لا لعارض.

و فيه: أنّ بعض الذنوب يطرأ عليها عنوان الطغيان، فتصير كبيرة.

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه تعالى عليه بالنّار في القرآن الكريم أو السنّة الشريفة، أو ما مثله بالذنب الذي أوعد عليه النّار، و هذا هو المشهور.

و فيه: أنّه و إن كان صحيحا في الجملة، لكن لا كلّية له في انعكاسه، فليس كلّ ما لم يعد عليه اللّه تعالى بالنّار صغيرة.

و قيل: إنّ الكبائر ما ورد في سورة النساء من أوّلها إلى الآية التي تقدّم تفسيرها.

و فيه: أنّه تقييد لإطلاق الآية الشريفة، فكأنّ القائل يريد أنّ قوله تعالى:

كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إشارة إلى تلك المحرّمات التي ذكرها اللّه تعالى في الآيات السابقة، و هو تخصيص بلا دليل.

و قيل: إنّ الكبيرة ما يكبر عقابه عن ثوابه و الصغيرة ما نقص عقابه عن ثواب صاحبه. و نسب هذا القول إلى بعض المعتزلة.

و فيه: أنّه لا دليل عليه من عقل أو نقل.

و قيل: إنّ الكبيرة كلّ ما أوعد اللّه عليه في الآخرة عقابا و وضع له في الدنيا حدّا.

و فيه: أنّ الأمر ليس كذلك، فإنّ بعض الكبائر لم يوضع لها حدّ، مثل الغيبة و الإصرار على الصغائر، و أكل مال اليتيم، و الفرار من الزحف، و أكل الربا و غيرها.

ص: 136

و نسب إلى الغزالي في كتاب الاحياء جامعا بين الأقوال و خلاصته: أنّ مقياس الكبائر و الصغائر على نحوين، إما بقياس بعضها إلى بعض، أو بملاحظة الأثر المترتّب على المعصية، فقال: «أما الأوّل، فإنّها بملاحظة بعضها إلى بعض تكون كبيرة و صغيرة، و إن كانت بعض المعاصي تكبر بانطباق العناوين المهلكة الموبقة عليه، كالإصرار على الصغائر، فتصير المعصية كبيرة بعد ما لم تكن منها.

ثمّ هي مع ذلك تنقسم إلى قسمين بالنظر إلى أثر الذنب و وباله و أثر الطاعة، فتكون لهما حالات ثلاثة، فأمّا أن يحبط أثر الذنب الثواب بغلبته عليه أو نقصه عنه إذا لم يغلبه، فيزول بزوال مقدار ما يعادله من الثواب، فإنّ لكلّ طاعة تأثيرا حسنا في النفس، يوجب رفعة مقامها و تخلّصها من قذارة البعد و ظلمة الجهل، كما أنّ لكلّ معصية تأثيرا سيئا فيها - على خلاف أثر الطاعة - فيوجب انحطاط محلّها و سقوطها في هاوية البعد و ظلمة الجهل. و أما أن يتصادم الأثران و يتحقّق التحابط في ما إذا فعل الطاعة و المعصية، فيتصادم أثر الاولى مع أثر الثانية، فإن غلبت ظلمة المعصية نور الطاعة و ظهرت عليه أحبطته، و هذه هي المعصية الكبيرة، و إن غلبت الطاعة بما لها من النور و الصفاء، أزالت ظلمة الجهل، و بوار الذنب ببطلان مقدار منها يعادل نور الطاعة، فيبقى منه شيء تصفوا به النفس، و هذا هو التحابط بمعنى غفران الذنوب الصغيرة و تكفير السيئات. و هذا النوع من المعاصي هي المعاصي الصغيرة. و إما أن تتكافأ السيئة و الحسنة بما لهما من العقاب و الثواب، فهو و إن كان ممّا يحتمّله العقل بدوا و لازمه صحّة فرض إنسان أعزل لا طاعة له و لا معصية، و لا نور لنفسه و لا ظلمة، لكن يبطله قوله تعالى:

فَرِيقٌ فِي اَلْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي اَلسَّعِيرِ .

و ردّ الفخر الرازي في تفسيره بأنّه يبتني على اصول المعتزلة الباطلة عندنا.

و شدّد النكير على الرازيّ بعض المفسّرين و قال: إنّ إنكار الأشاعرة لانقسام المعاصي إلى الصغيرة و الكبيرة، أرادوا به مخالفة المعتزلة و لو بتأويل، كما

ص: 137

يعلم من كلام ابن فورك، فإنّه صحّح كلام الأشعرية و قال: معاصي اللّه كلّها كبائر. و إنّما يقال لبعضها صغيرة و كبيرة لا بإضافة، بل بحسب القصود، و قالت المعتزلة: الذنوب على ضربين، صغائر و كبائر، و هذا ليس بصحيح.

أقول: هذا الموضوع واحد من تلك الموضوعات التي كثر الجدال فيها بين المعتزلة و الأشاعرة، و تعصّب كلّ فريق لمذهبه، و استدلّ عليه بأمور عقليّة و نقليّة حتّى حدى ببعضهم إلى تأويل الآيات الكريمة و الروايات لنصرة رأيه، و لو كان لأجل مخالفة المذهب الآخر، و قد شغل هذا النحو من الجدال مصنّفات الأعلام، و غلب على أفكارهم، فصرفوا جلّ اهتمامهم إلى ذلك، فحرموا غيرهم، بل حتّى أنفسهم من قريحتهم الفذة، فصاروا و كتبهم فتنة افتتن بهما من بعدهم، و أصبحت وسيلة لطمس الحقّ و أهله.

أما مقالة الغزالي، فهي و إن كانت حسنة ثبوتا، و لكن لا دليل عليها في مقام الإثبات، بل هي تطويل - للمعاصي الكبيرة و الصغيرة بما بيّنها اللّه تعالى في كتابه الكريم و السنّة المقدّسة - بلا طائل تحته، كما فصّله الفيض قدس سرّه في إحياء الأحياء، و النراقي قدس سرّه في جامع السعادات، و كلمات الغزالي مشحونة من مثل هذه التشقيقات، كما لا يخفى على من راجعها، و سيأتي الكلام في الإحباط و التحابط بالنسبة إلى الثواب و العقاب، و لا ربط لهما بالكبيرة و الصغيرة، مع أنّ ظواهر الآيات الشريفة و الروايات تقسّم الذنب إلى الكبيرة و الصغيرة بالنسبة إلى حيثيّة الصدور، لا حيثيّة الأثر، فخلط بين الحيثيتين، و كم له من هذه المغالطات.

و هناك وجوه اخرى لا يخفى فسادها على من راجعها.

و الحقّ أن يقال: إن اختلاف العلماء في تعريف الكبائر و تعيينها لا يرجى زواله، و لعلّ الحكمة في عدم تعيين الشرع لها، هي الإبقاء على إبهامها و إجمالها، ليكون العباد على و جل منها، فلا تهتك حرمات اللّه تعالى فيها، فلا يتجرّؤوا على ارتكابها اعتمادا على التكفير، بل يعزموا على ترك المعاصي كلّها، لاحتمال وجود

ص: 138

الكبار فيها، كما أبهم عزّ و جلّ بعض الأمور أيضا، مثل الاسم الأعظم، ليواظبوا على جميع الأسماء الحسنى، و ليلة القدر ليعظم جدّ الناس و اجتهادهم في المواظبة على الطاعة في جملة من الليالي. و وليّ اللّه تعالى بين الناس ليحترموا جميع الأفراد، فلا يسيئوا الظنّ بأحد منهم، و ساعة الاستجابة في الأيام و غير ذلك.

مع أنّ لنا نقول: إنّ الكبائر قد بيّنها القرآن الكريم و السنّة المقدّسة في الجملة، فإنّ من المعاصي ما قد جعل لها الإسلام حدّا معلوما في الدنيا، كالزنا و اللواط و السرقة و القذف و نحو ذلك من موجبات الحدود المعروفة في الفقه، و هذه لا إشكال عند أحد في كونها كبيرة، و كذا تكون المعصية كبيرة إذا كانت العقوبة عليها النّار، بنصّ من الشرع المبين كتابا و سنّة، فتكون كبيرة لكون العقاب عظيما.

و أما غير ذلك، فإنّه يحتمل أن تكون كبيرة و قد أبهم الأمر فيها عزّ و جلّ ، ليكون الناس على حذر منها.

ثم إن الذنوب و المعاصي لها إضافات متعدّدة:

الاولى: الإضافة إلى اللّه عزّ و جلّ ، و بحسب هذه الإضافة تكون كبيرة، فإن ارتكابها جرأة على اللّه تعالى، و على هذا يحمل ما ورد في بعض الأخبار من أنّ الذنوب كلّها كبيرة، كما عرفت آنفا.

الثانية: الإضافة إلى الفاعل العاصي.

الثالثة: إضافة بعضها إلى بعض، و بحسب هاتين الإضافتين تتحقّق الكبيرة و الصغيرة في الذنوب، و حينئذ فإمّا أن تكون كبيرة مطلقا و لا صغيرة فيها، كالكذب و الغيبة و البهتان و إيذاء المؤمن، و أكل مال الناس و نحو ذلك. و إمّا أن تكون صغيرة و لا كبيرة فيها إلا مع الإصرار، كوضع اليد على مال الغير بدون إذنه، و النظر إلى الأجنبيّة. و إمّا أن تكون فيه الكبيرة و الصغيرة، كالظلم و الشتم بغير حقّ ، و الضرب و القتل كذلك، فبعض مراتب الأوّل صغيرة و الاخرى كبيرة.

ص: 139

موجبات الكبائر:

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ إتيان المعاصي - صغيرة كانت أو كبيرة - و صدورها، يكون باختيار العبد و جرأته، و لكن ذكر علماء الأخلاق أنّ أسباب الكبائر مندرجة في امور ثلاثة:

الأوّل: اتباع الهوى، و الهوى: ميلان النفس إلى ما يستلذّ به، فيقع الإنسان في جملة من الكبائر، كالزنا و اللواط و قطع الرحم و قذف المحصنات أو كترك الصلاة و ترك الطاعات و غيرها.

الثاني: حبّ الدنيا، فإنّه السبب للوقوع في كثير من الكبائر، كالقتل و الظلم و الغصب، و أكل مال اليتيم، و شهادة الزور و الحيف في الوصية و غيرها،

قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أتاني جبرئيل و قال: إنّ اللّه تعالى قال و عزّتي و جلالي، إنّه ليس من الكبائر كبيرة هي أعظم عندي من حبّ الدنيا»،

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة».

الثالث: رؤية الغير، فإنّها منشأ للرياء (الشرك الخفي)، و النفاق و العجب بالنفس و الشرك باللّه العظيم، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ،

و قال صلّى اللّه عليه و آله: «اليسير من الرياء شرك».

طرق تمييز الكبيرة:

ذكرنا أنّه لم يرد في القرآن الكريم تحديد الكبيرة و بيان خصوصياتها، و إنّما أبهم عزّ و جلّ الأمر فيها لطفا بعباده، و لأنّه من إحدى طرق التهذيب و الإصلاح، لئلاّ يجترئ الإنسان المغرور على ارتكاب غيرها اتكالا على التكفير، غفلة منه كما عرفت و لكن ذكر العلماء لتمييز الكبيرة عن الصغيرة أمورا:

الأوّل: التوعيد بالنار، و قد دلّت عليه نصوص كثير متواترة بين الفريقين، و تقدّم في البحث الروائي نقل جملة منها، و هو مورد إجماع المسلمين أيضا.

ص: 140

و يمكن الاستدلال عليه بالدليل العقلي، فإنّه ليس بأعظم من النّار شيئا، فإذا كانت المعصية هي الموجبة لورودها، فلا بد أن تكون كبيرة و عظيمة لعظم الغاية، و تختصّ معرفة ذلك بما ورد في الكتاب و السنّة.

الثاني: الإصرار على الصغيرة، إجماعا و نصوصا، كما تقدمت جملة منها، و قد ورد في تفسير قوله تعالى: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ

عن الإمام الباقر عليه السّلام: «الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر و لا يحدّث نفسه بتوبة، فذلك الإصرار، و قد تقدّم في تفسير الآية الشريفة: وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ [سورة آل عمران، الآية: 135] بعض الكلام فراجع.

الثالث: ثبوت الحدّ الشرعي في الدنيا على المعصية، ذكره جمع من العلماء، و هو صحيح في الجملة، فإنّ ثبوت الحدّ يدلّ على كبر المنهي عنه في الشرع، كالزنا و السرقة و نحوهما.

الرابع: استصغار الذنب،

فعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «تصغروا ما ينفع يوم القيامة، و لا تصغروا ما يضرّ يوم القيامة، فكونوا في ما أخبركم اللّه كمن عاين»، و هذا لا إشكال فيه ظاهرا و استصغار الذنب إما لأجل جعل التمكّن من ذلك نعمة منه عزّ و جلّ ، أو لأجل السرور بفعل المعصية الصغيرة، و إما بالاغترار بستر اللّه تعالى و عدم المبالاة بفعل المعصية و غير ذلك، و يجمعها غرور النفس و الغفلة.

الخامس: أن يكون الفاعل ذا منزلة كبيرة اجتماعيّة، بحيث يقتدي الناس بفعله، فإنّ المعصية الصغيرة حينئذ تكون كبيرة إذا فعله بحضرة من الناس أو بحيث إذا اطلعوا عليه منه فعلوها اقتداء به.

السادس: أن يكون الأثر المترتّب عليه كبيرا جدا.

السابع: شدّة النهي عنها، فإنّها تدلّ على كون المنهي عنه كبيرة.

ثم لا يخفى أنّ الكبائر في حدّ أنفسها تكون مختلفة، فبعضها تكون أفظع

ص: 141

و أعظم من الاخرى،

و في بعض الأخبار كما مرّ: «أكبر الكبائر الشرك باللّه العظيم».

موجبات محو الذنوب:

و هي كثيرة كما هي المستفادة من الكتاب و السنّة، و قد ذكرنا جملة منها في بحث التوبة في سورة البقرة، و نذكر المهمّ منها في المقام، و هي:

الأوّل: التوبة على ما عرفت التفصيل فيها، و يدلّ عليه الكتاب الكريم، و السنّة الشريفة، و الإجماع المحقّق بين المسلمين، فمن الكتاب آيات كثيرة، قال تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [سورة النساء، الآية: 17]، و قال تعالى: وَ إِنِّي لَغَفّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى [سورة طه، الآية: 82]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي يَقْبَلُ اَلتَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ اَلسَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ [سورة الشورى، الآية: 25]، و قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 48]، و غير ذلك من الآيات المباركة، و إطلاقها يشمل التوبة عن الذنوب الصغيرة و الكبيرة.

و من السنّة الشريفة ما تقدّم في بحث التوبة فراجع، و يمكن إقامة الدليل العقليّ عليه على ما عرفت التفصيل.

الثاني: الطاعات، فإنّها مكفّرة للسيئات، بل تمحوا آثارها، قال تعالى:

إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و إطلاقه يشمل جميع السيئات، الصغائر و الكبائر،

و قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الصلوات الخمس مكفّرة لما بينها، ما اجتنب الكبائر»،

و في حديث آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله: «الصلوات الخمس، و الجمعة الى الجمعة، و رمضان الى رمضان، مكفّرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر»، و يقيّد إطلاق الآية الشريفة بمثل هذه الأخبار.

ص: 142

الثالث: اجتناب الكبائر كما تدلّ عليه الآية الشريفة المتقدّمة، و المستفاد منها أنّ الاجتناب بنفسه مكفّر للسيئات كالتوبة و الطاعة، لا أنّ الاجتناب عن الكبائر يوجب التخلية بين الصغائر و الطاعات الحسنة و هذه الأخيرة تكفّر السيئات، فيدخل تحت قوله تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ ، بل للاجتناب دخل في التكفير، و له خصوصية خاصّة.

بل يمكن إقامة الدليل العقليّ على المطلوب، و هو: أنّ الأخذ بالصغائر بعد الاجتناب عن الكبائر، مداقة منه عزّ و جلّ في الحساب، و لا ينبغي ذلك بالنسبة إليه تعالى، لأنّه الجواد المطلق و الغفور الرحيم.

ثمّ إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الكبائر، و هي تكفّر عن السيئات جميعا، ما تقدّم منها و ما تأخّر، إلا أن تكون من حقوق الناس، فإنّها لا تكفّر إلا بأدائها إلى أصحابها، و قد ذكرنا شروط التكفير فيما تقدّم.

و المستفاد من هذه الآية الشريفة ترتيب الثواب على اجتناب الكبائر و الابتعاد عنها؛ لقوله تعالى: وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً ، مضافا إلى ما ورد في بعض الأخبار الوعد بالثواب.

بحث فقهي

تختصّ السيئات المكفّرة باجتناب الكبائر بحقوق اللّه تعالى، و أمّا حقوق الناس فلا تشملها الآية الشريفة، و تدلّ على ذلك الأخبار الكثيرة، مثل

قوله عليه السّلام: «من ترك من أخيه حقّا يطلبه به يوم القيامة»، مع أنّ جملة منها داخلة في الكبائر التي يكون اجتنابها شرطا للتكفير، و يشهد لما ذكرناه ما دلّ على أنّ

«أوّل قطرة من دم الشهيد في سبيل اللّه تعالى توجب غفران ذنوبه إلا ما كان من حقّ الناس».

ص: 143

بحث عرفاني

الآية الشريفة من الآيات الداعية إلى الاستكمال، و هي تتضمّن دعوة من الكمال المطلق الحقيقي لتوجيه النفس إلى التربية و التهذيب و الإصلاح بترك كلّ ما يوجب البعد عن معدن الرحمة و العظمة و الجلال و الكبرياء، و توجب القسوة و كدورة النفس، و قد فتح اللّه تعالى على عباده بابا سماّه التوبة و دعاهم إلى السلوك فيه و الدخول منه، و هو حرم اللّه الأكبر الذي من دخله كان من الآمنين، و جعل الطريق إليه اجتناب الكبائر و التكفير بالنسبة إلى علم اللّه تعالى الأزلي المحيط بحقائق الممكنات - كلّياتها و جزئياتها - فالبحث عن السبق و اللحوق لا وجه له حينئذ.

و أما إذا لوحظ ذلك بالنسبة إلى المتدرجات الزمانيّة، فهل يقتصر بالنسبة إلى الماضي أو المستقبل أيضا؟ مقتضى كمال رأفته و عنايته الأزلية بعباده هو الأخير، و يمكن أن يستشهد له بما ورد في بعض الروايات من تأخير غفران الذنوب من عرفة إلى عرفة اخرى، أو من شهر رمضان إلى شهر رمضان قابل.

ص: 144

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ .......

اشارة

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32) وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33) اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) الآيات الشريفة تتضمّن أحكاما اجتماعيّة تتعلّق بأحكام المواريث و الزواج، تصلح أمر الاجتماع العامّ و العائلة، و ترشد الناس إلى الحياة السعيدة، و تبيّن أنّ المناط في السعادة كسب الفضل و الفضيلة و السؤال من اللّه تعالى التوفيق، لا التمنّي فقط، فإنّه لا يكون كافيا إذا لم يكن داعيا إلى العمل، ثم يبيّن عزّ و جلّ بعض أحكام إرث الأرحام.

و ذكر سبحانه و تعالى العلّة في تفضيل الرجال على النساء في بعض الأمور، كما اهتمّ جلّ شأنه في إظهار فضل النساء أيضا.

و أخيرا ذكر حكما تربويا لإصلاح الخلل الذي يقع في الحياة الزوجيّة، فالآيات الشريفة تشتمل على أحكام اجتماعيّة مهمّة، و غير خفي ارتباطها بما سبق من الآيات المباركة التي اشتملت على جملة من الأحكام و المناهي.

ص: 145

التفسير

قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ التمنّي: هو تعلّق النفس بأمر متعذّر أو كالمتعذّر، أو تشهي حصول الأمر المرغوب فيه، و الأغلب تحقّقه في قول الإنسان: ليت كذا كان كذا، أي: حديث النفس بما يكون و ما لا يكون، قال تعالى: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ [سورة القصص، الآية: 79]، و قال تعالى: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40].

و قال بعضهم: إنّ التمنّي نوع من الإرادة تتعلّق بالمستقبل ضد التلهّف الذي نوع منها تتعلّق بالماضي.

و هو مردود؛ لأنّ التمنّي أعمّ من ذلك.

و كيف كان، فالمعروف أنّه من الإنشائيات.

و التمنّي مذموم شرعا؛ لأنّ فيه تعلّق البال و انشغاله عن إصلاح الإنسان نفسه، و أنّه يوجب نسيان الأجل، و هو مبدأ الحسد الذي هو من أهمّ الصفات الذميمة، قال كعب:

فلا يغرّنك ما منّت و ما وعدت *** إن الأماني و الأحلام تضليل

بخلاف الغبطة، التي هي عبارة عن إرادة ما لصاحبه مع عدم التمنّي؛ لزواله عنه، و هي داعية إلى العمل و الاستكمال، بخلاف التمنّي، و تقدّم في قوله تعالى:

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 94]، بعض الكلام في أقسام التمنّي، فراجع.

و الآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا - قال تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى، الآية: 27] - و الآخرة لها دخل في نظام الأسباب و المسبّبات و ظهور الاستعدادات و بروزها، و لا يمكن التخلّف عنه.

ص: 146

و الآية الشريفة تبيّن قاعدة تكوينيّة لها ارتباط بالدنيا - قال تعالى: وَ لَوْ بَسَطَ اَللّهُ اَلرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى، الآية: 27] - و الآخرة لها دخل في نظام الأسباب و المسبّبات و ظهور الاستعدادات و بروزها، و لا يمكن التخلّف عنه.

و النهي عن التمنّي إنّما لأجل عدم إمكان تحقّق المسبّب بدون سببه، فيكون النهي إرشاديا تكوينيّا لا نهيا مولويّا، و هو يرشد الناس إلى حفظ القانون العامّ و النظام الشرعي و التكويني.

و الآية المباركة تدلّ على بطلان مذهب البخت و الاتّفاق، لعدم إمكان تحقّق المسبّب بدون السبب، فلا بد من العمل و السعي لنيل الفضل، كما تدلّ عليه الأدلّة الكثيرة، منها قوله تعالى: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاّ ما سَعى [سورة النجم، الآية: 39].

و منها:

قول علي عليه السّلام: «و لا تكن ممّن ترجو الآخرة بلا عمل، و ترجو الحصاد بلا زرع»،

و قال عليه السّلام أيضا: «الأماني بضائع النوكى» و غير ذلك، فالفضل و الأجر ليستا وقفا على طائفة معيّنة و نوع معيّن، و الأجر إنّما يكون على العمل و الوفاء بالتكاليف، فتكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8]، و قوله تعالى: وَ قُلِ اِعْمَلُوا فَسَيَرَى اَللّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة التوبة، الآية: 105].

و لكن الآية الشريفة تدلّ على أنّ لكلّ جنس مهمّة معيّنة خلقه اللّه تعالى لها ليؤدّيها في الأرض، و هيّأه لها و وهب له ما يمكن أن يقوم بالمهمة، فكلّفه عزّ و جلّ بتكاليف توافقها، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أن الرجل خلقه اللّه تعالى لأجل وظائف معيّنة في المجتمع، كالجهاد و السعي للكسب و العيش، كما خلق النساء لأداء وظائف اخرى، كالحمل و رعاية البيت و تربية النشئ تربية صالحة شرعيّة، و قد أعطى عزّ و جلّ لكلّ واحد منهما أجرا معيّنا لا يمكن نيله إلا بالعمل و أداء الوظيفة و الوفاء بالتكاليف الإلهيّة، فلا بد من المحافظة على ذلك

ص: 147

التنويع في الاختصاصات و عدم الإخلال بتلك المهمّات الأصليّة، و خلاف ذلك إفساد للفطرة و ابطال للنظام، و بدون ذلك لا يستقيم المجتمع البشري و يضطرب أشدّ الاضطراب، كما نراه في الجاهليّة المعاصرة عند ما خرج الناس عن الفطرة و طلبوا المساواة بين الجنسين، و لهذا نرى أنّ النهي عن التمنّي إنّما هو لأجل إبطال الفوضى الذي يكون عند تحقّق ذلك التمنّي في الخارج، فيكون النهي لقطع منابت الشرّ و الفساد، و ما يوجب هلاك الحرث و النسل، كلّ ذلك يظهر من قوله تعالى:

ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ و هو على إيجازه البليغ و أسلوبه البديع تبيّن جهة الفضل و المزيّة التي اختصّ بها كلّ طائفة من الرجال و النساء، و يدلّ على أنّ تلك الخصوصية فضل و زيادة في كلّ واحد من الجنسين على الآخر، و لا معنى لتمنّي ذلك الفضل الذي يوافق خلقته.

ثمّ إنّ التمنّي تنقسم إلى أقسام أربعة ذكرناها في قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ عِنْدَ اَللّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ اَلنّاسِ فَتَمَنَّوُا اَلْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ * وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اَللّهُ عَلِيمٌ بِالظّالِمِينَ [سورة البقرة، الآية: 94-95]، و أنّ أصولها تكون في الغاية التي تكون فيها التنافس، سواء أ كان في امور الدنيا أم الآخرة، و تقدّم أنّ نفس التمنّي مذموم؛ لأنّه مخالف للحكمة المقدّرة و المصالح التي لم يطلع على سرّها إلا ربّ العالمين، إلا إذا كان التمنّي متعلّقا بعالم الآخرة و نعيمها مع تهيئة الأسباب و تقديم الأعمال له، فهو غاية دعوة الأنبياء و من أهمّ مقاصد الكتب السماويّة، فهو ممدوح عقلا و شرعا.

و أما الفضل الذي ميّز اللّه تعالى به كلّ فريق عن الآخر، إما أن لا يتعلّق به الكسب و العمل و لا يمدح الفاضل فيه بالجدّ و التشمير، كما لا يذمّ المفضول بالتقصير، و في مثل ذلك يذمّ التمنّي فيه كما عرفت آنفا.

و إما أن يكون ممّا ينال بالسعي و الجهد و التشمير، و في مثل ذلك يمكن أن يتحقّق التمنّي فيه.

ص: 148

و هو تارة يكون من مجرّد أمنية شاغلة لباله موهنة لقواه، و لا إشكال في حرمة هذا التمنّي؛ لمنافاته للتوحيد و التوكّل على اللّه تعالى، و اشتماله على ذمائم الأخلاق، كالحسد و البغضاء و نحوهما.

و اخرى: يكون اغتباطا بالفضل الذي منحه اللّه تعالى لصاحبه، و السؤال منه عزّ و جلّ ، و هذا ممدوح و موجب للإقدام على العمل أيضا.

و ثالثة: يكون من مجرّد التصوّر الخيالي، كأن يتوهّم بأنّه لو كان في مقام صاحب الفضل الكذائي مثلا كان له كذا و كذا، لتسكين هيجان الهمّ و الغمّ ، و لا إشكال فيه أيضا أن لم يستلزم البطالة و الكسل، و إلى ذلك يشير قول الشاعر:

أماني إن تحصل تكن غاية المنى *** و إلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ .

النصيب، الحظ ممّا أعطاه اللّه تعالى من الخير و النعمة و الفضل. و من في مِمَّا بيانيّة للنصيب.

و مادة (كسب) تدلّ على العمل أو السعي الذي يجلب به النفع أو يدفع به الضرر، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من سبعين موردا، و يستعمل في الخير و الشرّ، قال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: 286]، و قال تعالى: وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [سورة البقرة، الآية: 225]، و قال تعالى: ظَهَرَ اَلْفَسادُ فِي اَلْبَرِّ وَ اَلْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي اَلنّاسِ [سورة الروم، الآية: 41]،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أطيب ما يأكل الرجل من كسبه و ولده من كسبه»، و جعل الولد من كسبه لأنّ الأب سعى و طلب في تحصيله، و أراد بالطيب هنا الحلال.

و الاكتساب هو الكسب مع المبالغة و التكلّف، و قيل: إنّ الاكتساب هو ما يستفيده الإنسان لنفسه، و الكسب أعمّ من أن يكون لنفسه أو لغيره.

ص: 149

فكلّ اكتساب كسب، و لا عكس. و أكثر استعمال الاكتساب في القرآن الكريم في الإثم و ما يكون ضررا على الإنسان، قال تعالى: لِكُلِّ اِمْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اِكْتَسَبَ مِنَ اَلْإِثْمِ [سورة النور، الآية: 11]، و قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُؤْذُونَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ اَلْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اِكْتَسَبُوا فَقَدِ اِحْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 58]. و لعلّ وجه تخصيص الاكتساب في الشّر و الكسب في الخير؛ لأنّ الاكتساب فيه أعمال و مشقّة حاصلة من تحمّل الجزاء العظيم الشديد، أو لأنّ النفس تعمل بجميع قواها في تحصيل الشرّ.

و كيف كان، فقد استعمل الاكتساب في الخير أيضا، كما في الآية الشريفة، إذ التمنّي فيها لا يكون إلا في الخير و الفضل.

و ذكر بعض المفسّرين تبعا لبعض أهل اللغة أنّ الكسب و الاكتساب يختصّان بما يحصل للإنسان بعمل اختياري، كالطلب و نحوه، و هو صحيح بحسب الغالب، و إلا فقد يطلق الكسب على ما ليس كذلك، كما يقال في كسب الأخلاق بالمعاشرة و الصفات، و ذكر الفقهاء أنّ الكسب ما يحصل للإنسان بالملك و الجدّة و الاختصاص و لو بالإرث الذي هو غير اختياري، فلا يختصّان بالعمل الاختياري فقط، بل يشمل ما إذا لم يكن كذلك، كما إذا كان صاحب الفضل ذا مزية تكوينيّة كالجمال، و حسن الصوت و الذكوريّة و الانوثيّة التي تخصّص لأصحابها سهما معينا و نصيبا مفروضا.

فالآية الشريفة بمنزلة التعليل للنهي عن التمنّي في صدرها، أي: لا تتمنّوا ذلك، فإنّ الفضل قد اكتسبه صاحبه إما تكوينا أو اختيارا، فالنصيب الذي أعطاهم اللّه تعالى هو ممّا اكتسبوه، و قد خصّه اللّه تعالى لكلّ واحد من الجنسين و فضّل به بعضهم على بعض؛ لأنّه ممّا أحرزه خلقا و تكوينا أو بتجارة و عمل، و إنّما ينال ذلك بالاكتساب فقط لا بالتمنّي الذي يدعو إلى الشرّ و اختلال النظام، كما عرفت.

ص: 150

قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

تعليم إلهي و تربية ربانيّة لأفراد الإنسان بالاعتناء و الاهتمام بما ينفعهم، و إرشاد إلى ما هو الإصلاح لهم في ترك ما يكون سببا في شقائهم و ضررهم، فإنّه لما نهاهم عزّ و جلّ عن تمنّي ما لا يمكن تحقّقه، بل يأبى اللّه سبحانه و تعالى أن يحقّقه، لاستلزامه الفوضى و اختلال النظام، أرشدهم الى ما ينبغي توجيه داعية الفطرة إلى ما هو الصحيح، فأمرهم بصرف التمنّي الذي هو فطري للإنسان إلى وجهه الكريم، و وجّههم إلى السؤال عن فضله العظيم، فإنّ الفضل بيد اللّه تعالى، و يقضي حوائجهم حين يسألونه من الوجه الصحيح، و يفيض عليهم بحسب ما يشاء.

و مورد الفضل إما أن يكون مورد رحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء، و بهذا المعنى جميع ما سواه فضل منه جلّ جلاله، و لا استحقاق في البين، فإنّ الممكن محتاج بذاته إلى فضله العظيم، و إما أن يكون بالإنعام زائدا على أصل الخلقة، و هو يختلف بحسب العوالم، فإنّ منها ما يكفي في إحداثه صرف الأمر فقط، كعالم المجرّدات بمراتبها و أنواعها، و يعبّر عنه بعالم أشعة الجمال و الجلال، و لا وجه للتعبير بالفضل بالنسبة إلى هذا العالم. و إما أن يكون من عوالم المادّة التي لا بد من تخللها في جميع نشئاتها، و يصحّ التعبير عنها بالفضل حينئذ.

و الدنيا بأهلها المسجونين فيها دار فضل اللّه تعالى، فاسالوه من فضله، فإنّه يستجيب دعائكم حسب الاستعدادات و المقتضيات.

و قد أبهم عزّ و جلّ الفضل في الآية الشريفة لتعليم الإنسان أن يسأل ربّه من فضله الكريم بحسب الواقع، لا بحسب ما يتخيّله، فإنّه جاهل بحقائق الأمور، فقد يسأل ما يضرّه في الواقع و ما يكون سببا في هلاكه، و هو لا يعلم بذلك، أو يسأل ما يكون خلاف الحكمة الإلهيّة - كما في تمنّيهم - و هو يلحّ في الدعاء و المسألة.

ص: 151

كما يرشدهم إلى أن لا يسأل أحد ما في أيدي الناس و لا يكون همّه مجرّد الحيازة على ما تشتهيه النفس، بل لا بد من إيكال الأمر إليه عزّ و جلّ ليرفع حاجته بما يعلمه خيرا عنده، فيرجع الأمر إليه و إلى فضله العظيم، بحسب حكمته المتعالية، و ايكاله الى علمه بحقائق الأمور.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً .

تعليل للنهي عن التمنّي بما لا يستقيم الحياة به، و بيان لصدر الآية الكريمة أيضا، فاللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و هو يعلم أيضا حال الاجتماع و استقامته - عند ما يقوم كلّ جنس بوظيفته التكوينيّة - و اضطرابه حين ما يختلّ و يأخذ كلّ جنس بوظيفة الجنس الآخر، فلا تتمنّوا ما خصّ اللّه تعالى به كلّ فرد، فإنّ اللّه تعالى يعلم مصلحة الكلّ ، و يعلم حال المجتمع و حقيقة الأمر، و لا يخطأ في حكمه، فاطلبوا ما يوجب سعادتكم.

قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ .

بيان لفرد من أفراد الحكمة الإلهيّة التي لها اتصال وثيق بالمجتمع الإنساني، و هو رعاية الأطراف في الميراث، إذ من المعلوم أنّ لكلّ فرد من أفراد الإنسان من الأقارب و الأرحام و ما يحيطون به كإحاطة الأكليل بالرأس، كالآباء و الأجداد، و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأعمام و الأخوال، و أولادهم.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى إعطاء كلّ ذي نصيب نصيبه، فقد جعل اللّه تعالى لكلّ موالي الإنسان حقّا و نصيا ممّا تركه القريب، فهذه الآية المباركة إجمال بعد تفصيل أحكام الميراث، و وصية لتنفيذ تلك الشرائع التي شرّعها في الآيات السابقة حسب ما شرّعه و أبداه.

و الموالي جمع مولى على وزن (مفعل)، و هو إما أن يكون صفة فيكون مصدرا ميميا، أو اسم مكان أريد به الشخص المتلبّس بالصفة، لتمكّنها و قرارها في موصوفها، و مثل ذلك شائع، و يراد به الولي من ولي بالشيء يليه ولاية. و هو

ص: 152

الاتصال بالشيء من غير فاصل، و بهذه العناية تستعمل في مصاديق متعدّدة - فلا يكون - من المشترك كما ادعاه جمع - كالسيد و المعتق، و المعتق لقرب أحدهما من الآخر و اتصاله به و ولايته عليه، و الناصر لولايته على المنصور و اتصاله به، و ابن العمّ لقربه و اتصاله ببنت العمّ و غير ذلك، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أكثر من مائة و خمسين موضعا.

و المراد به في المقام: الأولى بالميراث، و هم الذين وردت أسماؤهم في ما بعد؛ لأنّهم اولوا الأرحام الذين بعضهم أولى ببعض.

و التنوين في (الكلّ ) عوض عن المضاف إليه، و المعروف أنّ (كلّ ) هي بمعنى الإحاطة و العموم، و لا تأتي مفردة، فإذا كانت كذلك فلا بد من التقدير، و هو في المقام الصنفان المذكوران في صدر الآية المباركة، و هما صنف الرجال و صنف النساء.

و المعنى: و لكلّ صنفي الرجال و النساء أولياء يرثونهم بمقتضى قانون الأقربيّة، و أنّ أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض، أو الولاء إن لم يكن هناك رحم، فهم يرثونه ممّا تركه من الأموال.

و (من) في مِمّا تَرَكَ للابتداء - أي من أجل ما ترك - متعلّق بالموالي؛ لأنّه الوارث، أو متعلّق بمحذوف، أي: يرثون ممّا ترك، و هم الوالدان و الأقربون و الذين عقدت أيمانكم.

فالآية الشريفة إجمال بعد تفصيل ذكره عزّ و جلّ في الآيات الكريمة السابقة، و هم الآباء و الأولاد و الإخوة و الأخوات و الأزواج و غيرهم، فيكون المراد بالموالي جميع من ذكره عزّ و جلّ في آيات الإرث السابقة.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ .

المشهور: «عقدت» مخففة القاف بغير الف، و قرئ: (عاقدت) بالألف، و قرأ بعضهم: (عقدت) بتشديد القاف على التكثير. و المفعول في جميع القراءات

ص: 153

محذوف، و تقديره: عهودهم أو مولويتهم و نحو ذلك، و العقد مقابل الحل، و الأيمان جمع اليمين، و هي مقابل اليسار، و تطلق على الحلف و القسم؛ لأنّها هي التي تعطى عادة عند العهد، فأطلق المحلّ على الحال.

و الفاء في: فَآتُوهُمْ للتفريع أو لتضمّن المبتدأ معنى الشرط، و النصيب هو الإرث من التركة.

و قد اختلفت المفسّرون و العلماء في المراد بهم، فقيل: إنّهم الحلفاء، فقد كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية، ليس بينهما نسب، فيقول: «دمك دمي، و هدمي هدمك، و سلمك سلمي، و ترثني و أرثك، و تطلب بي و اطلب بك»، فيكون للحليف السدس من مال الحليف، فيكون معنى الآية الشريفة: و الحلفاء آتوهم سدسهم، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: وَ أُولُوا اَلْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [سورة الأحزاب، الآية: 6]، فتكون الجملة حينئذ مقطوعة عمّا قبلها.

و قيل: إنّ المراد بهم الذين آخى بينهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في المدينة، فكانوا يتوارثون بينهم من دون رحميّة، ثمّ نسختها آية المواريث، ثم أمرهم بإيتاء نصيبهم من النصرة و النصيحة و الرفادة و الوصية.

و قيل: إنّ المراد بهم الأدعياء الذين كانوا يتبنّونهم في الجاهلية، فأمروا بإيتاء نصيبهم في الإسلام من الوصية.

و قيل غير ذلك.

و قد استدلّوا بجملة من الروايات التي دلّت عليها، و لكنّها متعارضة فيما بينها.

فالصحيح أن يقال: إنّ الحكم في الجملة مطلق يشمل إرث الزوجين و ضمان الجريرة، و الإمام عليه السّلام الذي يبتني إرثهم على المعاقدة و المعاهدة، و إن كان توريث كلّ واحد منهم يحتاج إلى شروط و مخصّصات، لكنّها يعلم من موضع آخر في الكتاب أو السنّة أو إجماع الأصحاب.

ص: 154

و على ذلك لا تكون الآية الكريمة منسوخة، إلا أنّ الأمر الذي يستفاد من هذه الجملة أنّ ميراث الذين عقدت أيمانهم و ولاؤهم متأخّر رتبة عن ولاء اولي الأرحام و الأقربين.

و أما إرث الإمام عليه السّلام، فهو متأخّر عن الجميع بمقتضى الآية الكريمة و الروايات الواردة في السنّة.

و يدلّ على ما ذكرنا من شمول الآية الشريفة للزوج و الزوجة و ضمان الجريرة، و ولاء الإمام، فإن الثلاثة مسبّبة عن المعاقدة و المعاهدة التي تقع بين الأطراف، و قد أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، قال عزّ و جلّ : أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [سورة المائدة، الآية: 1]، لا سيما بعد تفسيره بالعهود و أطلق عقدة النكاح على الزواج الذي هو مسبّب عن عقد النكاح، قال تعالى: وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ اَلنِّكاحِ حَتّى يَبْلُغَ اَلْكِتابُ أَجَلَهُ [سورة البقرة، الآية: 235]،

و ما ورد في تفسير الآية الشريفة عن الرضا عليه السّلام: «إنّما عنى بذلك الأئمة عليهم السّلام بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم». فإنّ يمين الولاء بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة عليهم السّلام قد أخذها اللّه تعالى على عباده، و أمر عزّ و جلّ بالوفاء بعهدها الذي من مصاديقه إعطاء الإرث لمستحقّه، و سيأتي نقل بعض الروايات في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً .

الشهيد: الرقيب الذي يعلم خفايا الأمور، و المطّلع على جميع الخصوصيات، أي: أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء، حاضر لا يغيب عنه شيء، فهو مطّلع على الإيتاء و الخيانة، فاحذروا منه عزّ و جلّ ، فلا تخونوهم نصيبهم الذي كتبه اللّه عزّ و جلّ لهم.

و الآية المباركة تأكيد لحكمه السابق، و فيها وعد و وعيد.

قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بيان لأهمّ حكم نظامي، و قد صار مثلا قرآنيّا يتضمّن حكما تربويّا

ص: 155

إرشاديا إلى النظام الأحسن - و منه نظام العائلة و الاسرة - الذي نظّم في الإسلام تنظيما دقيقا، و هذّبت علاقاتها حتّى تؤدّي وظيفتها بأكمل وجه في المجتمع الإنساني، و قد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة قوامة الاسرة و العائلة، التي هي عمودها المقوّم لها، و بدونها تنهدم و ينفرط عقدها و تسيء أحوالها و تتخلّى عن وظيفتها التي قرّرت لها، و ذكر عزّ و جلّ أنّ هذه القوامة تتضمّن من الأحكام و التبعات التي لا بد من أن يكلف بها الأصلح من أفراد المجتمع، و ليست هي قضية منافسة بين الرجل و المرأة و جدال و صراع بينهما، كما تراه الجاهلية المعاصرة، فإنّ الإسلام إنّما بنى العلاقات الاجتماعيّة على المودّة و الرحمة لا على الشقاق و الجدال.

و الآية الشريفة الكريمة تبيّن أنّ الأصلح لهذه المهمّة هو الرجل، لمّا فضّله اللّه تعالى بأمور تجعله صالحا لهذه المهمّة، و هي على ما يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة و من هذه الآية المباركة، القوّة و شدّة البأس، و زيادة التعقّل، بخلاف المرأة التي لم يهمل الإسلام شأنها في المجتمع، فإنّ حياتها تبتني على حياة إحساسيّة عاطفيّة، و هذه الجهة تستدعي حياة الدعة و الرفق، و لا يمكنها النهوض لتحصيل الرزق الذي يستدعي القوة و رباطة الجأش، و هذا هو مقتضى قانون الفطرة، و الإسلام لم يخرج عنه، فإنّه دين الفطرة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ اَلنّاسِ لا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآية: 30].

و القوامة - هذه التي جعلها اللّه تعالى للرجل أو يتطلبها ناموس الفطرة - لم تختصّ بجهة معينة، فإنّها مطلقة بما فضّل اللّه تعالى الرجل على المرأة، فالرجال قوامون على النساء في الحياة المعيشيّة، كطلب الرزق و حفظ شؤون المجتمع، كالقضاء و الحرب و نحو ذلك، و ليس معنى ذلك أنّ المرأة تحرم من الملك و الشؤون الاجتماعيّة لكي تخضع للرجل، كما كانت عليه في غابر العصور، فليس الإسلام

ص: 156

دين سلب - للحقوق - و ابتزاز، و هو لم يحرم أحدا ممّا خلقه اللّه تعالى، لأجله بل الإسلام لم يكلّفها بأمور هي من شأن الرجل بمقتضى خلقته. و لذا نرى أنّ المرأة حينما تحرّرت - على ما تدّعيه الجاهلية المعاصرة - و صارت تنفق و تشارك الرجل في جميع ما خصّه اللّه تعالى به و رفضت قوامة الرجل عليها، حلّ بالمجتمع أنحاء الشقاء و جلب التعب للإنسان و حرمه من السعادة المرجوة.

و لقد حفظ الإسلام حقوق المرأة بما تتطلبها خلقتها الأصليّة، فذكرها عزّ و جلّ بأبلغ وجه و أحسن مدح، قال تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ، الذي يتضمّن الجانب الآخر من الحياة الاسريّة، و هو حفظ العهود و القيام بشؤون الاسرة و تربية الأولاد بأمانة و صلاح.

ثم إنّ (قوامون) جمع قوّام فعّال مبالغة من القيام على الشيء، أي: تدبيره و النظر فيه و إصلاح شؤونه و حفظه بالاجتهاد، و منه القيّم على الأيتام، و المراد من المبالغة في المقام، دوام قيام الرجال على النساء في إصلاح شؤونهن و تثقيفهن و تأديبهن، و ذكرنا أنّ هذه القواميّة من شؤون الفطرة، و قرّرتها الشريعة، فيثبت لهم ذلك بالاستحقاق بما اقتضته الحكمة الإلهيّة في الخلق و حسن النظام. و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع أنحاء القيام الشرعي، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الباء للسببيّة متعلّقة ب: (قوامون)، و عموم العلّة يقتضي عدم اختصاص الحكم بالأزواج و إن كانت الاسرة و الزوجية من أظهر أفراد ظهور الحكم فيها، و يدلّ عليه أخذ كلمتي (الرجال و النساء) في الحكم دون الأزواج، فهو مجعول لجنس الرجال الذين فضّلهم اللّه تعالى في خلقتهم على النساء اللواتي خلقهن اللّه عزّ و جلّ لأمور اخرى، و كلّ ذلك حسب ما اقتضته الحكمة الإلهيّة من خلق الصنفين من الإنسان بما زوّده من الفضل؛ ليستقيم أمر الاجتماع و تستحكم الروابط و يشتدّ الارتباط و تنتظم الاسرة و يحسن النسل، و قد كان فضل ذي فضل نعمة على المفضول.

ص: 157

قوله تعالى: وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ .

بيان لأحد مصاديق الحكم السابق، و قد كلّف اللّه تعالى الرجال بالإنفاق على النساء، لما خلقهم اللّه تعالى من القدرة فيهم على طلب الرزق، و أعفى المرأة عن البحث عن الرزق، و لم يضع عليها شيئا من التكاليف الماليّة على الرجال؛ لأنّ اللّه تعالى خلقهنّ لأمر يخصّهن، و هو تربية الأولاد و القيام بشؤون الاسرة، و لم يسلب الإسلام الملكية عنهن كما يدّعيه بعض المعاندين، فلم يحرمهن من التملّك و لا التصرّف في ما تملك، بل لم يكلّفهن بالإنفاق من أموالهن إلا في موارد خاصّة.

و إنّما خصّ الإنفاق بالذكر؛ لأنّه من أهمّ مصاديق القواميّة، و تمهيدا لذكر أحكام الاسرة و الزوجيّة.

قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ .

بيان لحالة الاسرة الصالحة و العائلة السعيدة ضمن المجتمع الإنساني الكبير، تطبيقا لذلك الحكم الكلّي المبتني على الفطرة المستقيمة.

و قد صوّر عزّ و جلّ لنا الحياة داخل الاسرة التي تكون المرأة تحت رئاسة الرجل و قيمومته، فذكر أمورا ثلاثة لسعادة هذه الحياة، و هي: الصلاح و القنوت و حفظ الغيب.

و يراد من الأوّل الاستقامة و لياقة النفس و رضاها بما تمليه الفطرة السويّة.

و القنوت: هو دوام الطاعة و الخضوع للّه تعالى و امتثال أحكامه المقدّسة،

و في الحديث «تفكّر ساعة خير من قنوت ليلة».

و الغيب - و الغياب و الغيبة مصدر غاب - خلاف الشهود، و لما كان للغيب حرمه، فلا بد من حفظه، و ما في بِما حَفِظَ اَللّهُ مصدريّة و الباء للآلة، أي:

بحفظ اللّه لهنّ ، أو تكون الباء للمقابلة، اي: يحفظن الحقوق مقابل حفظ اللّه تعالى لحقوقهن و حرمتهن. و يصحّ أن يكون (ما) موصولة، و العائد في (حفظ) ضمير

ص: 158

نصب محذوف. و الحفظ هذا يشمل حفظ العرض و المال و أسرار الزوجيّة، و حفظ العهود التي عاهدت الزوجة مع الزوج بأن لا تخونه في غيبته.

و الآية المباركة تبرز الصفات الحسنة التي ينبغي للنساء أن يتّخذنها لأنفسهن و تتحلّى بها الزوجة الصالحة، فإنّ عليها تقوم الاسرة المؤمنة التي أراد الإسلام لها السعادة في الدارين، فبالصلاح تطمئن النفس و تقبل ما فرض اللّه تعالى عليها و تستريح إلى وضع الفطرة، و ترفض العصيان و الفجور.

و القنوت هو الباب الذي تدخل فيه السكينة و الرحمة، و النفس القانتة هي المستقيمة المسألة التي تحبّ الهدوء و الدعة، و تكره المشاكل و المتاعب، و إنّ المرأة القانتة تعمل و تجدّ و هي مطيعة للّه تعالى خاضعة له عزّ و جلّ .

و الحفظ للغيب هو الجزء المكمّل للإيمان، و به يدخل السلام و الاطمئنان في البيت، و به يتمّ الهدوء في الحياة الزوجيّة، و هذه الأوصاف تصوّر لنا الاسرة السعيدة الهنيئة، التي هي بنية المجتمع كلّه، الذي يتكوّن من أسر مترابطة متكافلة.

و المستفاد من الآية الكريمة أنّ صلاح المرأة إنّما يكون في القنوت و حفظ الغيب، فيكون القيدان تفسيرا للصلاح في المقام، و لا صلاح لها في غيرهما، فالآية الشريفة ردّ لمزاعم من يقول بأنّ الصلاح في المرأة غير ذلك، كما عليه الجاهلية المعاصرة.

قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ .

بيان لصورة اخرى من الحياة الزوجيّة، التي قد تخلّف فيها بعض تلك القيود الموجبة لصلاحها، فتكون للزوجة حالتان، حالة الصلاح التي بيّنها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة، و حالة النشوز التي تخرج المرأة عن الصلاح، فتصير غير مستقيمة في أخلاقها و معاشرتها مع زوجها، فلها وضع آخر غير ما كانت عليه عند الطاعة و القنوت، فالآية الكريمة تبيّن حكمين مختلفين لحالتي المرأة، و لا ثالث لهما.

ص: 159

و مادة نشز تدلّ على الارتفاع، و منه قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ اُنْشُزُوا فَانْشُزُوا [سورة المجادلة، الآية 11]، أي: ارتفعوا و انهضوا إلى الجهاد و الحرب، أو أمر من أمور الدين، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في أربعة موارد، و في وصف خاتم النبوّة: «بضعة ناشزة»، أي: قطعة لحم مرتفعة عن الجسم،

و في حديث نشر الحرمة بالرضاع: «لا رضاع إلا ما نشز العظم»، أي: رفعه و أعلاه.

و المراد به في المقام ارتفاع الزوجة بخروجها عن طاعة زوجها طغيانا، و عصيانها عليه و تباعدها عنه تمرّدا. و لا إشكال في أنّ ذلك لا يتحقّق دفعة واحدة، بل بالتدرج ابتداء من القول و الفعل و الأخلاق حتّى تصل إلى مرتبة شديدة منذرة بالنشوز الوخيم و الطغيان في الخروج عن الاستقامة و الموافقة، فيكون ابتداء ذلك هو مقام الخوف الذي هو ظهور علامات النشوز، و قد شرّع اللّه تعالى في الاستصلاح أحكاما خاصّة تتناسب مع تلك الدرجات، فابتدأ بالموعظة، و هي اولى درجات الإصلاح، و هي واضحة لا تحتاج إلى بيان، فتشمل كلّ ما يرجى تأثيره فيها، و لذا أطلق عزّ و جلّ كلّ ما له قابلية التأثير من أنحاء المواعظ، كالترغيب في الثواب و الترهيب عمّا يترتّب على المخالفة، و بيان و بال النشوز و سوء عاقبة المخالفة، و لا يختصّ الوعظ بلفظ معين، و ما ورد في بعض الروايات إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق.

قوله تعالى: وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ ضرب آخر من ضروب التأديب، بعد تحقّق مرتبة اخرى، من مراتب النشوز غير المرتبة الاولى التي لم تؤثّر فيها الموعظة، فلا بد من إجراء فعل آخر أبلغ في التأثير من الأول، و هو الهجران في المضاجع مع حفظ المضاجعة بما يؤثّر في دلالها و تعلم بأنّ الأمر جدّ، فلا فاعليّة لما تفعله من أسباب النشوز، و للهجران في المضاجع مراتب أيضا، و لا يتحقّق الهجران كذلك في ترك الكلام مع إقباله عليها بمقاديم بدنه، فإنّ ترك الكلام قد يتحقّق لأجل الكسل و الفكر

ص: 160

و النعاس و نحو ذلك، مع أن الهجران كذلك لا يكون عملية تربويّة إصلاحية، فإنّ نظر الإسلام في هذا الحكم هو الإصلاح و التربية، و ليس مجرّد إظهار الرجل سلطنته و استعلاءه على المرأة.

ثمّ إنّ الهجر من الهجران، و هو البعد ضدّ الوصل، يقال: هجره، أي: تباعد و نأى عنه،

و في الحديث: «و من الناس من لا يذكر اللّه إلا مهاجرا»، أي: بعيدا عن الإخلاص، كأنّ قلبه مهاجر للسانه، و بينهما بعد و غير مواصل له.

و المضاجع جمع المضجع، و هو محلّ المبيت و السكن و الراحة، و الاضطجاع أي: النوم،

و في الحديث: «كانت ضجعة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أدما حشوها ليف»، أي:

كانت مخدته التي ينام عليها من جلد حشوها من ليف.

و إنّما جعل المضاجع محل الهجران ليعلم أنّه لا بد من حفظ المضاجعة، فلا يتحقّق بهجر المضجع، فإنّ الاجتماع فيه يثير الشعور، و الهجران فيه له الأثر البليغ.

و إتيان الجمع إما لأجل ملاحظة مجموع المضاجع التي يتّخذها الرجل للمبيت مع المرأة، أو لأجل بيان حفظ المضاجعة في الهجران دون تركها، كما ذكره جمع من المفسّرين و اعتمدوا على ما ورد من ابن عباس، قال: «لا تضاجعها في فراشك»، فإنّه موهون بمعارضته مع غيره، مع كونه خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّة على كون المضاجع ظرفا للهجران، إلا أن يتكلّف في تأويل الآية المباركة.

قوله تعالى: وَ اِضْرِبُوهُنَّ .

عقاب بدني لمن لم تصلحها الموعظة و لا الهجر في المضاجع، و إنّما تصل النوبة إليه عند بلوغ النشوز مرتبة لا يؤثّر فيها إلا تأديب يناسبها، فإنّ من الناس من لا يفيده إلا هذا النوع من التأديب، فلا بد فيه من إظهار أنّ الرجل له سلطة التأديب، و لكن لم يطلق الإسلام العنان له، فقيّده بأن لا يكون مبرّحا كما ورد في السنّة الشريفة.

ص: 161

و المبرّح هو ما يوجب المشقّة و الشدّة، و السرّ واضح، فإنّ الضرب و الهجران في المضاجع و الموعظة وسائل للزجر و التأديب، و إنّما جعلها سبحانه و تعالى لأجل التوصّل إلى إصلاح المرأة و إرجاعها إلى الطاعة، فلا بد من أن لا يؤتى منها خلاف المقصود، فهي ليست وسيلة لإرضاء غرور الرجل و لا سببا لإذلال المرأة و مهانتها، بل هي عملية إصلاحيّة تربويّة لا بد من ملاحظة التقوى فيها، و قد اهتمّ سبحانه و تعالى بذلك؛ لأنّ الاسرة بنية صغيرة من بنيان المجتمع الكبير، الذي يتركّب منها و من غيرها و يصلح بصلاحها و يسعد بسعادتها.

قوله تعالى: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً بيان لغاية تلك الأحكام الإلهيّة المتقدّمة، أي: أنّ الوسائل التي شرّعها عزّ و جلّ لإصلاح الزوجة بعد نشوزها، إنّما هي لأجل رجوعها إلى الطاعة بترك النشوز، فإذا تحقّق فلا يجوز التعدّي عليهن باتخاذ العلل في إيذائهن.

و من ذلك يظهر أنّه إذا اكتفى بالأدنى من تلك المراتب الثلاثة في إرجاع المرأة إلى الطاعة و الصلاح، لا يجوز التعدّي إلى المرتبة العليا، فإنّه من البغي عليهن، فليس المقام مقام إظهار قوة الرجل و غروره و استكباره عليهن، كما عرفت آنفا، بل إنّما شرّعها عزّ و جلّ لأجل الإصلاح و الإرجاع إلى الطاعة، فالتعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى يكون بغيا و عدوانا و خروجا عن طاعة اللّه تعالى.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ البغي دون غيره، لبيان أنّ الخروج عمّا شرّعه سبحانه و تعالى، هو بغي و تجاوز عن الحدّ و ظلم عليهن.

و المستفاد من الآية الشريفة الاكتفاء بالظاهر من الإطاعة و لم يكلّف الرجل بما وراء ذلك، فلا يجوز البحث عن السرائر، فإنّ علمها عند اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً تهديد لمن يريد الخروج عن طاعة اللّه بالبغي على النساء و التعدّي عمّا شرّعه اللّه تعالى فيهن، فإنّ اللّه جلّ شأنه عليّ في أحكامه و قدرته، و سلطانه

ص: 162

فوق كلّ سلطان، حكيم في أفعاله لم يشرّع من الأحكام إلا بما يرشد الناس إلى سعادتهم، و هو كبير في جلاله و كبريائه، فإذا دعتكم قدرتكم على ظلمهن فتذكروا قدرة اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما الخطاب لمن تعنيه شؤون الزوجيّة بحكم الروابط العائليّة، أو لأجل الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و الإصلاح بين الناس، فإنّهم المكلّفون بتنفيذ الأحكام الإلهيّة عند ظهور المنافرة بين الزوجين و إخافتهم عاقبة ذلك.

و الشقاق الخلاف و البينونة مأخوذ من الشقّ الذي هو نصف الشيء،

و في الحديث «اتقوا النار و لو بشقّ تمرة» أي: نصف تمرة. و المراد منه لا تستقلوا من الصدقة شيئا و لو يسيرا مثل نصف التمرة، و قال تعالى: لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاّ بِشِقِّ اَلْأَنْفُسِ [سورة النحل، الآية: 7]، كأنه ذهب نصف أنفسكم حتّى بلغتموه، فالمراد منه كمال المشقّة، فكأن استمرار الخلاف بين الزوجين أوجب انشقاق الائتلاف بينهما إلى شقّين متباينين في العداوة و البغضاء، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ [سورة البقرة، الآية: 137] اشتقاق الكلمة فراجع.

و إضافة الشقاق إلى (بين) إما لإجراء الظرف مجرى المفعول أو الفاعل.

و قيل: إن (بين) اجري مجرى الأسماء و ازيل عنه الظرفيّة.

قوله تعالى: فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها الحكم - بالتحريك - هو من ينصّب للتحكيم، و المراد بالبعث في المقام هو توجيه الحكمين إلى الزوجين لإصلاح ذات البين. و إنّما أمر عزّ و جلّ بنصب الحكمين - حكم من أهل الزوجة و حكم من أهل الزوج - ليكونا أبعد من الجور و التعسّف.

و إنّما ذكر الأهل لأنّهم أقرب إلى الاطلاع على الخفايا و مناهج الصلاح،

ص: 163

و لا بد أن يكون الحكم صالحا للتحكيم و قادرا على حلّ النزاع و رفع الخلاف بحسن التدبير في حلّ جميع المنازعات، و يعتبر الاطمئنان بأمانتهما، فإن بها تتمّ الفائدة المرجوة من بعثهما.

و إطلاق الآية الشريفة ينفي كلّ قيد في المقام، كما أنّ مقتضاه هو ثبوت حقّ التفريق لهما، إلا أنّه استفاضت الروايات أنّ حكمها بالفراق موقوف على إذن الزوجين، أو الشرط الضمني، و بها يقيّد إطلاق الآية الشريفة، و سيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما ظاهر السياق أنّ الضمير يرجع إلى الحكمين، أي: إن أراد الحكمان إصلاح شأن الزوجين، و كان من نيتهما الصلاح و الإصلاح فقط، دون ترجيح أحد الجانبين على الآخر عنادا و لجاجا أو رغبة لأحدهما دون الآخر، فإن اللّه تعالى يوفّقهما للحقّ و يجمع رأيهما على الصواب، لرجوع الأمور كلّها إليه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً أي: أنّ اللّه عليم بحقائق الأمور و أحوال العباد و مصالحهم، خبير بنيّاتهم و ما تطويه ضمائرهم.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يرشد قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ إلى أهمّ حقيقة من الحقائق التي كشف عنها القرآن الكريم بأسلوب لطيف يجذب القلوب و تطمئن إليه النفوس، يشعر المخاطب بأنّ ما قسمه اللّه تعالى

ص: 164

لعباده من فضله تعالى، و أن ما يكسبه كلّ فرد من أفراد الإنسان إنّما هو نتيجة اختلاف القرائح و الاستعدادات و التفاوت في سبل العيش و مزايا الحياة، و هذه الآية الشريفة هي الحدّ الفاصل بين الخيال و الحقيقة، و أنّ الحياة لا تقوم على الأول منهما و أنّ التشكيك في تلك الحقيقة لا يزيد الإنسان إلا بعدا عن الواقع، و لا يجتني منه إلا الفساد، و لذا نهى عزّ و جلّ عن تمنّي ما هو خلاف ما فضّل اللّه تعالى؛ لأنّه من موجبات الفوضى، و اللّه تعالى يأبى ذلك، فأرشد عزّ و جلّ الإنسان إلى ما هو الأصلح له، و هو التطلع إلى فضل اللّه تعالى و تمنّي ما يكون سببا في سعادته.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الحياة لا تقوم إلا بالجهد و العمل، لكن مع طلب التأييد و التوفيق من اللّه عزّ و جلّ ، و لذا عقّب سبحانه و تعالى هذه الآية الشريفة بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ ، تأكيدا لذلك، و لدفع كلّ وهم، فإنّها تدلّ على أنّ الطريق الصحيح هو العمل دون مجرّد التمنّي.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ على أنّ الحقيقة التي تبتني عليها الحياة هي العمل و الجد و الاجتهاد، لا مجرّد التمنّي و الوهم و الخيال، و أن التفاوت بين كلّ واحد من الصنفين إنّما يكون بالعمل، و الحياة ليست مجرّد صراع بينهما، بل اللّه تعالى خلق الرجال لمهمة كما خلق النساء لمهمة اخرى، و أنّ بهما تستقيم الحياة، و قد خلق عزّ و جلّ الجنسين ليوجد بهما السكن و الراحة و المودّة، كما تقتضيه قانون الفطرة، و كلّ ما هو خلاف ذلك لا يجدي إلا حسرة و ندامة و فسادا.

و يمكن أن تشير الآية المباركة على العلّتين اللتين يقوم بهما النظام، هما العلّة الفاعلة و العلّة المنفعلة، و بهما ينتظم النظام الأحسن و تستقيم الأمور، فلا بد من قيام كلّ واحدة من العلّتين إلى جانب الاخرى و العمل بوظيفتها فردا

ص: 165

و اجتماعا، و يشهد لما ذكرنا ذيل الآية الشريفة: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ، فإنّ من شأن العلّة المنفعلة أن تحفظ ما عليها من العلّة الفاعلة، و ما أودعت فيها من الأسرار.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ أنّ المفضّل عليه من المفضّل، لا أن يكون مباينا له، و تشير الآية الكريمة أيضا إلى أنّه لا بد من التحلّي بصفة الخضوع و الطاعة و الإيمان بأمر اللّه تعالى، و ما قسمه عزّ و جلّ بين عباده.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ على لزوم رعاية العدل و الحقوق، بعد النهي عن سوء التمنّي الذي يجلب الفوضى، فأمر عزّ و جلّ بإعطاء حقوق الأطراف من الأقارب في الميراث، و هم الأجداد و الأعمام و الأخوال و أولادهم و الإخوة و الأخوات و أولادهم، على ما فصّله عزّ و جلّ في الآيات السابقة.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ على أنّ الرجولة من مقتضيات قوامية الرجال على النساء، و أنّها من شؤون خلقهم و فطرتهم، و المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ القواميّة هذه الثابتة للرجال ليست قوامية سلطة و ابتزاز و جبروت، بل هي قواميّة حفظ و عناية و رحمة لقيام الاسرة و حفظها عن الانهيار و عدم اضطراب أحوالها، فهي ليست ثابتة للرجال نتيجة منافسة و تسابق بين الطرفين، فاستحقّها الرجال لغلبتهم على النساء، بل هي تكاليف خصّ اللّه تعالى بها الرجال لتعيش المرأة في كنفهم بمودّة و رحمة، كما دلّت عليه آيات مباركة اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و من هذه الآيات الشريفة نستفيد عناية الإسلام بالاسرة و تنظيمها تنظيما دقيقا في كلّ علاقاتها، و ملاحظة جميع جوانبها النفسيّة و التربويّة و الأخلاقيّة، و مراعاة تلك تؤدي الاسرة وظيفتها الحيويّة في المجتمع الكبير، خلافا للجاهلية

ص: 166

المعاصرة، فإنّها نزّلت الاسرة - و لا سيما المرأة - إلى أدنى مراتبها، فحصل الشقاء و الدمار.

السادس: يستفاد من تكرار قوله تعالى: بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أنّ التفضيل لطائفة على طائفة اخرى إنّما يكون من اللّه تعالى لمصالح واقعيّة، حفظا للنظام العامّ ، و إيصالا لكلّ مخلوق إلى ما يستحقّه من الكمال، وردّا للمزاعم التي تثبت التفضيل لطائفة على اخرى لاستحقاقها، و لئلا يتّخذه أحدهم وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين و الظلم عليهم، و لعلّ السرّ في التكرار أيضا لا لاعلام المفضّل بأنّ التفضيل من اللّه تعالى و انّه لا بد له من ملاحظة ذلك فهو منحة ربوبيّة.

السابع: يدلّ قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ على أنّ القواميّة الثابتة للرجال لا توجب الحطّ من قدر النساء اللواتي خلقهن اللّه تعالى لمهمة اخرى، فإنّ كرامتهن و منزلتهن عند اللّه تعالى لا تقلّ درجة عن درجة الرجال، فقد أودع عزّ و جلّ فيهن الأمانة التي يجب عليهن القيام بها و حفظها، و شرّع لهنّ أحكاما خاصّة لتسهيل مهمّتهن، و قد ذكر عزّ و جلّ في المقام صفات جليلة تدلّ على سمو منزلتهن، كما عرفت في التفسير.

الثامن: يستفاد من تفريع قوله تعالى: فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ على قوله تعالى: بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، أن المطلوب من المرأة بعد أمر اللّه تعالى للرجل بالإنفاق عليها، هو الصلاح و الاستقامة في أخلاقها و أمورها داخل الاسرة، ثم يبيّن عزّ و جلّ أنّ الصلاح منها في المقام هو القنوت و الطاعة للّه تعالى و للزوج، و حفظ الغيب، و هما صفتان تظهران المرأة بأحسن حال، و تبرزان الزوجة الصالحة في خير الصفات، فإنّ القنوت للّه تعالى يوجب دخول السكينة في البيت و الطمأنينة على قلوب أفرادها.

و بالقنوت تكون النفس راضية بما قسمه اللّه تعالى لها، و معرضة عمّا

ص: 167

يوجب النفرة و النزاع، و بالحفظ تكتمل أركان السّلام في البيت، فتكون الاسرة الجامعة لهذه الصفات كاملة سعيدة.

التاسع: يبيّن قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ ، صورتين من الصور التي تعترض على الاسرة حينما يختلّ فيها بعض مقومات سكنها و هدوئها، فقد ذكر عزّ و جلّ صورة نشوز المرأة و صورة الشقاق بينها و بين الرجل، و سيذكر سبحانه و تعالى صورة نشوز الرجل في آخر هذه السورة أيضا، و في جميع هذه الصور لا تؤدّي الاسرة وظيفتها الحيويّة، و لا تتّصف بالسكن و الطمأنينة، و لا يتهيأ لها الظروف الطبيعيّة لتربية النشء السليم، ثم بيّن عزّ و جلّ أمورا لا بد من إجرائها لإصلاح الخلل الواقع فيهما، كما عرفت في التفسير.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ على أنّ للرجال قيام الولاية على النساء، و علّل ذلك بأمرين:

أحدهما: أمر طبيعي موهوب من اللّه تعالى، و هو ما ذكرناه في خلقة الرجال، مثل كمال العقل و حسن التدبير، و مزيد القوة في الأعمال و الطاعات، بما يهيئهم للتصدّي بأمور خاصّة لا يمكن للنساء التصدّي لها، كالنبوّة و الإمامة و الولاية، و إقامة الشعائر، و الجهاد و نحو ذلك، و يشير إلى هذه العلّة قوله تعالى:

بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ .

الثاني: كسبي، و هو الإنفاق على النساء، و قد أشار إليه بقوله تعالى: وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ كما عرفت في التفسير.

و إنّما أتى بضمير الجمع في الآية المباركة للدلالة على أنّ مجموع الرجال من حيث المجموع لهم التفضيل على مجموع النساء كذلك، لا أنّ كلّ واحد من الرجال له التفضيل على كلّ واحدة من النساء، فإنّه ربّ امرأة أفضل و أفقه من رجل، بل من كثير من الرجال.

ص: 168

و بعبارة اخرى: أنّ المراد إثبات تفضيل الصنف على الصنف، لا تفضيل الشخص على الشخص.

الحادي عشر: يمكن أن يراد من الرجال في قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، الذين صدقوا ما عاهد اللّه عليه، الذين وهبهم اللّه تعالى كمال الانقطاع إليه عزّ و جلّ و أفاض عليهم العقول الكاملة، و أن يكون المراد بالنساء مطلق من لم يصل إلى تلك المرتبة من الرجال، فتكون القوامية هي قوام التنظيم، و هو من أهمّ إفاضات الباري عزّ و جلّ على أوليائه؛ لأنّهم جعلوا الدنيا تحت أقدامهم، فجعل اللّه تعالى جزاء ذلك أمر العالم تحت اختيارهم، و يدلّ على ما ذكرناه جملة من الأخبار.

الثاني عشر: تصوّر الآية الشريفة: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ الزوجة التي هي ربّة البيت و سيدة المجتمع التي تربّت بالتربية الإلهيّة الكاملة.

و ترشد الآية المباركة إلى أنّ التحفّظ على الغيب لا بد أن يكون على نحو ما علّمها اللّه تعالى، و لعلّ

ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «جهاد المرأة حسن التبعّل»، و كذا ما ورد عن أوصيائه الكرام التي جمعها الفقهاء و المحدّثون و علماء الأخلاق، مأخوذ من الآية الكريمة، فتصحّ المعاشرة و يصلح الأولاد و تترتّب عليها الآثار المطلوبة، فإنّ صلاح البيت بصلاح ربّتها، كما أنّ صلاح المملكة بصلاح رئيسها، و لأجل أهميّة الموضوع فقد تصدّى سبحانه و تعالى لرعاية هذا الإصلاح و الصلاح، فقال تعالى: بِما حَفِظَ اَللّهُ ، فالرجال قوّامون خارج البيت، و المرأة الصالحة ربّة البيت و القيمة عليها، و ليس المراد من القواميّة للرجال قوام الجبروت و الاستيلاء، بل المراد القواميّة في الحوائج الشرعيّة المتعارفة و تنظيم الاسرة الكاملة، كما عرفت.

ص: 169

بحث روائي

في الكافي: بإسناده عن إبراهيم بن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ليس من نفس إلا و قد فرض اللّه له رزقها، حلالها يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام من وجه آخر، فإن هي تناولت شيئا من الحرام فأصابها به من الحلال الذي فرض لها و عند اللّه سواهما فضل كثير، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ .

أقول: يظهر من هذه الرواية ما ذهب إليه جمع من المتكلّمين من أن الرزق يكون من الحلال لا من الحرام، فلا بد من أن يحمل على ما يرزقه اللّه تعالى لعباده، لا على ما يختاره العباد بأنفسهم لأنفسهم.

و يمكن الجمع بذلك بين القولين، فإنّه من عمّ الرزق إلى الحرام، أي: الأعمّ ممّا يختاره الإنسان لنفسه، و من خصّه بالحلال، أي: خصوص ما يرزق اللّه به عباده.

و أما فضله، فهو لا يختصّ بالرزق، بل هو زائد على الرزق المقسوم، و هو غير متناه.

و في تفسير العياشي: عن عبد الرحمن بن أبي نجران: قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ؟ قال: لا يتمنّى الرجل امرأة الرجل و لا ابنته، و لكن يتمنّى مثلهما».

أقول: هذا تفسير لبعض المصاديق، و قد تقدّم الفرق بين التمنّي و الغبطة.

و عن إسماعيل بن كثير رفع الحديث إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «لما نزلت هذه الآية: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، فقال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله: ما هذا الفضل ؟ أيكم يسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟ فقال علي بن أبي طالب: أنا أسأله عن ذلك، فسأله عن ذلك الفضل ما هو؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه خلق خلقه و قسّم لهم أرزاقهم من حلّها بالحرام، فمن انتهك حراما نقص له من الحلال بقدر ما انتهك من الحرام و حوسب به».

ص: 170

أقول: تقدّم ما يتعلّق بمثل هذه الرواية.

و عن أبي الهذيل عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه قسّم الأرزاق بين عباده و أفضل فضلا كثيرا لم يقسمه بين أحد، قال اللّه: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ».

أقول: هذه الرواية ظاهرة في الفرق بين رزق اللّه تعالى و فضله، فإنّ رزقه مقسوم محدود، بخلاف فضله فإنّه لا حدّ له.

و عن علي بن إبراهيم في تفسيره بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام، أنّه قال:

«ليس من نفس إلا و قد فرض اللّه لها رزقها حلالا يأتيها في عافية، و عرض لها بالحرام في وجه آخر، فإن وجه آخر، فإن هي تناولت من الحرام شيئا قاصها به من الحلال الذي فرض اللّه لها، و عند اللّه سواهما فضل كثير».

أقول: المراد من العرض بالحرام ليس أنّ اللّه تعالى عرض له بالحرام، بل جعل فيه قدرة و اختيارا، هو يختار الحرام بعمده و اختياره.

و فيه - أيضا -: عن الحسين بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له:

جعلت فداك، إنّهم يقولون إنّ النوم بعد الفجر مكروه؛ لأنّ الأرزاق تقسّم في ذلك الوقت، فقال: الأرزاق موظوفة مقسومة، و للّه فضل يقسّمه ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، و ذلك قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ ، ثم قال: و ذكر اللّه بعد طلوع الفجر أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض».

أقول: الروايات في سياق ذلك كثيرة، و للفضل و الرزق أسباب عديدة، منها ذكر اللّه تعالى بعد صلاة الفجر، و هو أفضلها و أبلغها في الوصول إليه.

و عن الطبرسي في مجمع البيان في قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، أي: لا يقل أحدكم: ليت ما اعطي فلان من النعمة و المرأة الحسناء كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا، و لكن يجوز أن يقول: اللهم اعطني مثله، و هو المروي عن الصادق عليه السّلام.

أقول: الرواية تبيّن الفرق بين التمنّي و الغبطة، و الأوّل مذموم دون الثاني، كما مرّ في التفسير.

ص: 171

و في أسباب النزول بإسناده عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، قالت أم سلمة:

«يا رسول اللّه، يغزو الرجال و لا نغزو، و إنّما لنا نصف الميراث، فأنزل اللّه تعالى:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ .

و في الدرّ المنثور بإسناده عن عكرمة: «أنّ النساء سألن الجهاد فقلن وددنا أنّ اللّه جعل لنا الغزو، فنصيب من الأجر ما يصيب الرجال، فأنزل اللّه تعالى:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ».

أقول: أمثال هذه الروايات كثيرة، و لا تختصّ الآية الكريمة بما ورد فيها، و إنّما يكون من أسباب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، كما تقدّم مكرّرا.

و في أسباب النزول عن السدّي قال: «لما نزل قوله تعالى: لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ، قال الرجال: إنا لنرجو أن نفضّل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضّلنا عليهن في الميراث، فيكون أجرنا على الضعف من أجر النساء، و قالت النساء: إنا لنرجو أن يكون الوزر علينا نصف ما على الرجال في الآخرة، كما لنا الميراث على النصف من نصيبهم في الدنيا، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ».

أقول: إنّ الثواب و الأجر في الآخرة يدوران مدار العمل و السعي مع الإخلاص، سواء كان العامل رجلا أو امرأة، فالتفضيل في الثواب يدور مدار التقرّب و الإخلاص، و تطبيق الآية الشريفة في المقام من باب التطبيق على الفرد.

علي بن إبراهيم في تفسيره قال: «لا يجوز للرجل أن يتمنّى امرأة مسلم أو ماله، و لكن يسأله من فضله إِنَّ اَللّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً ».

أقول: تطبيق الآية الشريفة على المورد من باب أنّه جلّت عظمته عالم بالمصالح و المفاسد، يفيض على عباده من فضله حسب المصلحة و القابلية، و لذا لا يجوز التمنّي و يجوز السؤال من فضله، بل أنّه عبادة لو كان فيه الإخلاص.

و في الدرّ المنثور: عن حكيم بن جبير قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «سلوا

ص: 172

اللّه من فضله، فإنّ اللّه يحبّ أن يسأل، و إنّ من فضل العبادة انتظار الفرج».

أقول: و مثله ما عن صحيح الترمذي، و في سياقه روايات كثيرة وردت عن أئمتنا عليهم السّلام، و المراد من الانتظار هو التهيؤ لقبول الحقّ إذا ظهر، و أن يعمل بظاهر الشريعة ما لم يظهر الحقّ .

و المراد بالفرج هو الحقّ الذي سيظهر بين الناس جميعهم و يدعوهم إلى الوحدة و نبذ التفرقة، و يبسط العدل بينهم.

ابن شهر آشوب عن الباقر و الصادق عليهما السّلام في قوله تعالى: ذلِكَ فَضْلُ اَللّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ، و في قوله تعالى: وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اَللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ ، أنّهما نزلتا في عليّ عليه السّلام.

أقول: ذكر بعض المصاديق لا يدلّ على الاختصاص، فيؤخذ بعموم اللفظ، و لكن أجلّه و أفضله هو الولاية.

في الكافي: بسنده عن الحسن بن محبوب قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ؟ قال: إنّما عنى اللّه بذلك الأئمة عليهم السّلام، بهم عقد اللّه عزّ و جلّ أيمانكم».

أقول: و مثله ما عن الرضا عليه السّلام، و العقد يشمل كلّ عقد، خالقيا كان أو خلقيا، و أكمله و أجلّه عقد الموالاة مع أولياء اللّه تعالى و العمل بطريقتهم.

في التهذيب بسنده عن الحسن بن محبوب قال: أخبرني ابن بكير عن زرارة قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ ، قال: عنى بذلك أولي الأرحام في المواريث، و لم يعن أولياء النعمة، فأولاهم بالميت أقربهم إليه، التي تجرّه إليها».

أقول: هذه الرواية تدلّ على قاعدة ذكرناها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام)، و هي قاعدة: «الأقرب يمنع الأبعد»، و لا تنافي بينها و بين ما تقدّم من الروايات؛ لعموم اللفظ الشامل لجميع المصاديق.

ص: 173

و في أسباب النزول للواحدي بإسناده عن سعيد بن المسيب قال: «نزلت هذه الآية: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ في الذين كانوا يتبنّون رجالا غير أبنائهم و يورّثونهم، فأنزل اللّه تعالى فيهم أن يجعل لهم نصيب في الوصية، و ردّ اللّه تعالى الميراث إلى الموالي من ذوي الرحم و العصبة، و أبى أن يجعل للمدّعين ميراثا ممّن ادّعاهم و تبنّاهم، و لكن جعل لهم نصيبا في الوصية».

أقول: لا بد و أن تكون الوصية لا تزيد على الثلث، و إلا يتوقّف على رضاء الورثة كما ذكرنا في كتاب الوصية من (مهذب الأحكام)، و أنّ الإرث على حسب المراتب، فما دام من المرتبة الاولى موجودا، لا تصل النوبة إلى غيرها، عصبة كانت أو غيرها، و الآية الشريفة لا تختصّ بالمورد، و إنّما هو من باب التطبيق.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن إبراهيم بن محرز قال: «سأل أبا جعفر عليه السّلام رجل و أنا عنده، قال: قال رجل لامرأته: أمرك بيدك ؟ فقال: أنّى يكون هذا و اللّه يقول: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، ليس هذا بشيء».

أقول: ذكرنا في كتاب الطلاق من (مهذب الأحكام) أنّ الطلاق بيد من أخذ بالساق، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و الإمام عليه السّلام في هذه الرواية استدلّ بالآية الشريفة على أنّ الطلاق بيد الزوج لا بيدها.

و عن ابن بابويه بإسناده عن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهما السّلام قال:

«جاء نفر من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله أعلمهم من مسائل، فكان فيما سأله قال له: ما فضل الرجال على النساء؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: كفضل السماء على الأرض، فالماء يحيي الأرض، لو لا الرجال ما خلق اللّه النساء، يقول اللّه عزّ و جلّ : اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ ، قال اليهودي: لأي شيء كان هكذا؟ فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: خلق اللّه عزّ و جلّ آدم من طين، و من فضلته و بقيته خلقت حواء، و أوّل من أطاع

ص: 174

النساء آدم، فأنزله اللّه عزّ و جلّ من الجنّة، و قد بيّن فضل الرجال على النساء في الدنيا، أ لا ترى أنّ النساء كيف يحضن و لا يمكنهن العبادة من القذارة، و الرجال لا يصيبهم شيء من الطمث، قال اليهودي: صدقت يا محمد».

أقول: في سياق ذلك روايات كثيرة، و إنّ الشيطان لما حصل له اليأس من ارتكاب آدم عليه السّلام من أكل تلك الشجرة جاء إلى حواء فأغواها و هي أوقعت آدم في الخطيئة، فصار سبب خروج آدم من الجنّة حواء، كما في الروايات.

و عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن سنان قال: «إنّ أبا الحسن الرضا كتب فيما كتب إليه في جواب مسائله إليه علّة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث؛ لأنّ المرأة إذا تزوّجت أخذت، و الرجل يعطي، فلذلك و فّر على الرجال، و علّة اخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطي الأنثى؛ لأنّ الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها، و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج، فوفّر على الرجال لذلك، و ذلك قول اللّه عزّ و جلّ : اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ بِما فَضَّلَ اَللّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اَللّهُ ».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في التفسير و في النفقة من كتاب النكاح، فراجع (مهذب الأحكام).

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ ، يعني:

«تحفظ نفسها إذا غاب زوجها عنها».

أقول: هذا تفسير بالمصداق، و الآية الشريفة عامّة.

في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: قانِتاتٌ مطيعات.

أقول: تقدّم معنى القنوت في التفسير.

و في الدرّ المنثور: أخرج البيهقي عن أسماء بنت يزيد الأنصاريّة أنّها أتت

ص: 175

النبي صلّى اللّه عليه و آله و هو بين أصحابه فقالت: «بأبي أنت و امي، إنّي وافدة النساء و اعلم - نفسي لك الفداء - أنّه ما من امرأة كائنة في شرق و لا غرب سمعت بمخرجي هذا إلا و هي على مثل رأيي. إن اللّه بعثك بالحقّ إلى الرجال و النساء، فآمنا بك و بإلهك الذي أرسلك، و إنّا معشر النساء محصورات مقسورات، قواعد بيوتكم و مقضيّ شهواتكم، و حاملات أولادكم، و أنّكم معاشر الرجال فضّلتم علينا بالجمعة و الجماعات، و عيادة المرضى، و شهود الجنائز، و الحجّ بعد الحجّ ، و أفضل من ذلك الجهاد في سبيل اللّه، و أنّ الرجل منكم إذا خرج حاجّا أو معتمرا أو مرابطا حفظنا لكم أموالكم، و نزلنا لكم أثوابكم و ربّينا لكم أولادكم، فما نشارككم في الأجر يا رسول اللّه ؟ فالتفت النبي صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه بوجهه كلّه ثمّ قال: هل سمعتم مقالة امرأة قط أحسن من مساءلتها في أمر دينها من هذه ؟ فقالوا: يا رسول اللّه، ما ظننّا أنّ امرأة تتهدى إلى مثل هذا، فالتفت النبي إليها ثمّ قال لها: انصرفي أيتها المرأة و اعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعّل إحداكن لزوجها و طلبها مرضاته و اتباعها موافقته يعدل ذلك كلّه، فأدبرت المرأة و هي تهلل و تكبّر استبشارا».

أقول: وردت روايات كثيرة من طرق الجمهور و الخاصّة في مضمون هذه الرواية.

و كيف كان، يستفاد منها امور:

الأوّل: رفع شأن المرأة الصالحة، و أنّها عند اللّه كالمؤمن الصالح الذي يكون أعماله و أفعاله موافقة لنظام الشريعة؛ لأنّها الموجبة لسكون النفس و ارتياح البال، فهي تدبّر و تربّي و تصلح شؤون الرجل و تستقيمه و تهيء له ما يقوم به الرجل من الواجبات و الوظائف، فيكون أجرها عند اللّه كأجر الرجل، و لم يهمل اللّه أجرها كما صرّح به صلّى اللّه عليه و آله.

الثاني: يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تبدي رأيها و تكشف ما في

ص: 176

ضميرها عند ولي أمر المسلمين، سواء كان في أمر الدين أو غيره، ما لم يستلزم التنافي للشرع، و لولي الأمر الاعتناء برأيها و حلّ ما عندها من الشبهات.

الثالث: يستفاد منها أنّه يجوز للمرأة أن تنوب و تمثل عن مثلها أو عن الرجال، ما لم يكن منافيا للشرع.

الرابع: يستفاد منها جواز دخول النساء على الرجال و تكلّمهن معهم في امور دينهن، بل و معاشهن، ما لم يكن منافيا للشرع.

و في الكافي بإسناده عن موسى بن جعفر عليهما السّلام قال: «جهاد المرأة حسن التبعّل».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و يستفاد منها امور:

الأوّل: التنزيل في الثواب و الأجر، كما مرّ.

الثاني: تحمل الأذى، فإنّ الجهاد متقوّم بتحمّل الأذى، و المرأة لا بد لها من الصبر، و تحمّل الأذى إن حصل من زوجها أو من غيره، كما في بعض الروايات.

الثالث: جواز المدافعة في غير ما يجب عليها؛ لأنّ الجهاد متقوّم بالمدافعة، كما أنّه لو أساء الأدب الزوج قولا أو فعلا في غير الاستمتاعات، يجوز لها المدافعة عن ذلك؛ لأنّ الزوج تعدّى كما هو مقرّر له شرعا.

و في أسباب النزول للواقدي عن مقاتل: «نزلت هذه الآية: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ في سعد بن الربيع، و كان من النقباء و امرأته حبيبة بنت زيد ابن أبي زهير، و هما من الأنصار، و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: فرشته كريمتي فلطمها! فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لتقتصّ من زوجها. و انصرفت مع أبيها لتقتصّ منه، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: ارجعوا هذا جبريل عليه السّلام أتاني و أنزل اللّه تعالى هذه الآية، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص».

و فيه - أيضا - بإسناده عن الحسن: «أنّ رجلا لطم امرأته فخاصمته الى

ص: 177

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فجاء معها أهلها فقالوا: يا رسول اللّه، إنّ فلانا لطم صاحبتنا، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: القصاص القصاص، و لا يقضى قضاء، فنزلت هذه الآية:

اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، فقال النّبي صلّى اللّه عليه و آله: أردنا أمرا و أراد اللّه غيره»، و مثلها غيرها.

أقول: على فرض صحّة هذه الروايات، لا بد من حملها على أنّ ضرب المرأة لم يكن لوجه شرعي من تأديب و غيره، أو كان الضرب للنشوز، و لكن حصل تعدّ في الضرب عن الحدّ المقرّر شرعا، فحكم صلّى اللّه عليه و آله بالقصاص، ثمّ نزلت الآية المباركة فأصلح صلّى اللّه عليه و آله بينهما بترك القصاص برضائهما به، فصارت الآية الشريفة منشأ لطلب النبي صلّى اللّه عليه و آله من المرأة الرضا بما فعله الزوج، فرضيت هي بذلك إلا أنّ الآية المباركة: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ ، لا تدلّ على ترك القصاص الثابت شرعا، أو الحدود كذلك.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً ، ذلك إن نشزت المرأة عن فراش زوجها، قال زوجها: اتقي اللّه و ارجعي إلى فراشك، فهذه الموعظة، فإن أطاعته فسبيل له ذلك، و إلا سبّها و هو الهجرة، فإن رجعت إلى فراشها فذلك، و إلا ضربها ضربا غير مبرح، فإن أطاعته و ضاجعته يقول اللّه: فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً يقول: لا تكلفوهن من الحبّ ، فإنّما جعل الموعظة و السبّ و الضرب لهن في المضجع إنّ اللّه كان عليّا كبيرا».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية في التفسير، و في كتاب النكاح في أحكام النفقة من (مهذب الأحكام).

و في تفسير العياشي: عن ابن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قضى أمير المؤمنين عليه السّلام في امرأة تزوّجها رجل شرط عليها و على أهلها إن تزوّج عليها

ص: 178

امرأة و هجرها، أو أتى عليها سرية، فإنّها طالق، فقال: شرط اللّه قبل شرطكم، إن شاء و فى بشرطه، و إن شاء أمسك امرأته و نكح عليها و تسرّى عليها و هجرها ان أنت سبيل ذلك، قال اللّه في كتابه: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ، و قال: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ، و قال: وَ اَللاّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اُهْجُرُوهُنَّ فِي اَلْمَضاجِعِ وَ اِضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً ».

أقول: تقدّم في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بالشروط المذكورة في عقد النكاح، و قلنا إنّه لو شرط ما يخالف الشرع بطل الشرط و صحّ العقد و المهر، حتّى لو قلنا إنّ الشرط الفاسد يفسد العقد في سائر العقود - و إن لم نقل بذلك - و لكن في خصوص عقد النكاح إن الشرط الفاسد لا يفسده.

الطبرسي في مجمع البيان عن أبي جعفر عليه السّلام قال في معنى الهجر عنها:

«يحول ظهره إليها».

و روى عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا في معنى الضرب: «إنّه الضرب بالسواك».

أقول: يختلف ذلك باختلاف الخصوصيات و الأزمنة و الأمكنة و العادات و الشؤون، بل الأشخاص أيضا.

في الكافي: عن محمد بن يعقوب بإسناده عن علي بن أبي حمزة، قال:

«سألت العبد الصالح عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ؟ قال: يشترط الحكمان إن شاءا فرّقا و إن شاءا جمعا، ففرّقا أو جمعا جاز».

أقول: المراد من الجواز النفوذ و لا بد لهما في الفراق و الصلاح من الاستيمار و التوكيل من الزوج أو الزوجة، كما يدلّ عليه الروايات الآتية و القواعد الفقهيّة.

و في الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها قال: ليس للحكمين أن

ص: 179

يفرّقا حتّى يستأمرا من الرجل و المرأة، و يشترطا عليهما إن شئنا جمعنا، و إن شئنا فرّقنا فجائز، و إن جمعنا فجائز».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بأمثال هذه الرواية في قسم النشوز من كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

و في الكافي أيضا بإسناده عن سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها ، أ رأيت إن استأذن الحكمان فقالا للرجل و المرأة: أ ليس قد جعلتما أمركما إلينا في الإصلاح و التفريق ؟ فقال الرجل و المرأه: نعم، و أشهدا بذلك شهودا عليهما، أ يجوز تفريقهما؟ قال: نعم، و لكن لا يكون إلا على طهر من المرأة من غير جماع من الزوج، قيل له: أ رأيت إن قال أحد الحكمين: قد فرّقت بينهما، و قال الآخر: لم افرّق بينهما، فقال: لا يكون تفريق حتّى يجتمعا جميعا على التفريق، فإذا جمعا على التفريق جاز تفريقهما».

أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ رأيهما معا له أثر في التفريق، كما يستفاد ذلك من الآية الشريفة أيضا، فلا يكون لكلّ رأي أثر، و أنّ الحكم من باب التوكيل و الاستنابة في الرأي و فصل الخصومة، فليس لها الاختيار إلا بعد الإذن.

و فيه أيضا بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا نشزت المرأة على الرجل فهي الخلعة، فليأخذ منها ما قدر عليه، و إذا نشز الرجل مع نشوز المرأة فهي الشقاق».

أقول: الرواية محمولة على أنّه لو أرادت المرأة الطلاق الخلعي.

و فيه - أيضا - عن الصادق عليه السّلام في رواية فضالة: «فإن رضيا و قلّداهما الفرقة ففرّقا، فهو جائز».

أقول: الرواية مثل ما مضت من الروايات، تدلّ على أنّ الفرقة لا يكون إلا برضاهما.

ص: 180

و في رواية عبيدة قال: «أتى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام رجل و امرأة، مع كلّ واحد منهما فئام من الناس، فقال علي عليه السّلام: فابعثوا حكما من أهله و حكما من أهلها، ثم قال للحكمين: هل تدريان ما عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، و إن رأيتما أن تفرّقا فرّقتما، فقالت المرأة: رضيت بكتاب اللّه، و عليّ ولي اللّه. فقال الرجل: أما في الفرقة فلا. فقال علي عليه السّلام: ما تبرح حتّى تقرّ بما أقرّت به».

أقول: الرواية تدلّ على ما تقدّم كما تدلّ على رجوع الحكمين إلى من و كلّ الزوج أو الزوجة في رفع الخصومة. و تقدّم التفصيل في كتاب النكاح من المهذب فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من قوله تعالى: وَ سْئَلُوا اَللّهَ مِنْ فَضْلِهِ أنّ السؤال من الغني المطلق الذي لا حدّ لعظمته و غناه، بل هو غير متناه أزلا و أبدا من جميع الجهات من الأسباب التي لها دخل في تفضيل بعض على بعض، فإذا رغب الغني المطلق في السؤال عنه يكون في نفس ذلك الترغيب الرأفة و الحنان، ثم إذا لاحظ السائل أنّه من فضله غير المتناهي و أنّه ذو فضل عظيم و لا حدّ لفضله، يصير ذلك أشدّ رأفة و حنانا، إلا ما يرجع إلى قصور الاستعدادات في المفاض عليه.

ص: 181

ثم إنّ الآية المباركة: إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اَللّهُ بَيْنَهُما ، تدلّ على أنّ لإرادة الخير و الصلاح و الإصلاح تأثيرا كبيرا في النظام الأحسن، سواء أ كانت الإرادة نوعيّة كإرادة السلطان بالنسبة إلى الرعيّة، و العالم العامل بعلمه، و لعلّ

قولهم عليهم السّلام: «الناس على دين ملوكهم»،

و قولهم عليهم السّلام: «إذا فسد العالم فسد العالم»، يشير إلى ذلك، أو كانت الإرادات الشخصيّة بالنسبة إلى الأمور الجزئية.

و من المعلوم أنّ الإرادة الكليّة الإلهيّة تجري على ذلك أيضا، فإنّ الخير يعمّ الجميع، و لا يمكن أن يتحقّق خير إلا بإرادة الخير و نيّته.

كما أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ حسن المراد و فضله يرجع إلى حسن الإرادة و فضلها؛ للملازمة بينهما، كالملازمة بين المقتضي (بالكسر) و المقتضى (بالفتح)، و تدلّ على ذلك بعض النصوص المنقولة عن المعصومين عليهم السّلام، و لا بد أن يكون كذلك؛ لأنّ المقتضيات (بالفتح) تابع لخصوصيات المقتضي (بالكسر)، و الجميع تحت قهّاريته المطلقة بحسب التقدير و القضاء، لا بد و أن ترجع إليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً [سورة النساء، الآية: 78].

بحث فقهي

يستفاد من الآيات الشريفة المتقدّمة أحكام شرعيّة متعدّدة، نذكر المهمّ منها في المقام.

منها: ذكر بعضهم أنّه يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اِكْتَسَبْنَ ، أنّ لكلّ منهما نصيبا من الميراث على ما قسّمه اللّه تعالى، و قد ذكرنا أنّ الآية الشريفة أعمّ من ذلك، كما عرفت.

و منها: أنّه يدلّ قوله تعالى: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمّا تَرَكَ اَلْوالِدانِ وَ اَلْأَقْرَبُونَ ، على أنّ لكلّ ميت وارثا معيّنا من الآباء و الأقرباء، يرثونه ممّا

ص: 182

ترك، و أمر عزّ و جلّ بإعطاء كلّ منهم نصيبه بالكيفيّة المقرّرة في الآيات السابقة.

كما أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ الأقرب أولى بالميراث من الأبعد، فأولاهم بالميت أقربهم إليه في الرحم، كما في آية اولوا الأرحام، و منها تستفاد قاعدة كليّة مذكورة في الإرث، و هي: «إنّ الأقرب يمنع الأبعد»، و تقتضيها كثير من الروايات، و تعرّضنا لها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

و أما قول تعالى: وَ اَلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ ، فإنّه يدلّ على أنّ من يدخل في المولى بسبب المعاقدة و المعاهدة أيضا له نصيبه، و قد اختلف المفسّرون و العلماء في المراد من هؤلاء، حتّى قال بعضهم: إنّ الآية منسوخة.

و لكن ذكرنا أنّ الآية المباركة مطلقة تدلّ على ثبوت التوارث بالمعاهدة و المعاقدة، فتشمل إرث الزوجين و ضمان الجريرة و الإمام، كما دلّت عليه السنّة الشريفة،

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أنا وارث من لا وارث له»،

و في بعض الروايات عن الأئمّة المعصومين عليهم السّلام: أن إرث من لا وارث له من الأنفال المختصّة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام. و عليه إجماع الإماميّة، و بإزاء ذلك روايات اخرى أنّه لبيت المال، و لكن لا منافاة بينهما؛ لأنّهم عليهم السّلام تنازلوا عن حقّهم لمصالح عامّة.

إلا أنّ لإرث هؤلاء شرائط و قيودا مذكورة في الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام). و الآية الكريمة تدلّ على أنّ إرث الذين عقدت أيمانكم متأخّر في الرتبة على إرث اولي الأرحام و الأقربين.

و منها: أنّه يدلّ قوله تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ على أنّ القواميّة الثابتة للرجال و تسلّطهم على النساء، هي قواميّة سياسة و تدبير، كتسلّط الوالي على الرعيّة، فلا بد أن يعطى زمام الأمور الكلّية و الجهات العامّة الاجتماعيّة - كالقضاء و الحرب و نحو ذلك - ممّا يمتاز بالتعقّل و القوّة إلى الرجال، و قد دلّت على ذلك السنّة الشريفة، و ذكرها الفقهاء في مواضع متعدّدة من الفقه،

ص: 183

و أما غير ذلك من شؤون الحياة، كالتعليم و الكسب و نحو ذلك، فإنّ الرجال و النساء فيها؛ سواء للقاعدة المعروفة عند الفقهاء، و هي قاعدة: «اشتراك النساء مع الرجال في الشؤون و الأحكام إلا ما خرج بالدليل».

و يستفاد من الآية المباركة أنّ على المرأة إطاعة الزوج، فإنّ له عليها قيمومة الطاعة في الحضور، و الحفظ في الغيبة،

ففي الحديث عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال: جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالت: يا رسول اللّه، ما حقّ الزوج على المرأة ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله: أن تطيعه و لا تعصيه، و لا تتصدّق من بيته إلا بإذنه، و لا تصوم تطوّعا إلا بإذنه، و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب، و لا تخرج من بيتها إلا بإذنه، و إن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة حتّى ترجع إلى بيتها - الحديث».

و منها: أنّه إذا ظهرت أمارات النزاع و النشوز على المرأة و خرجت عن طاعة الزوج إما ظنا أو علما، فلا بد من الوعظ بتذكيرها بما ورد من الثواب على الطاعة و العقاب على المعصية، و ما ورد عن الأئمة الطاهرين المتضمّنة لحقوق الزوج.

ثم الهجر في المضجع بما يفيد إعراض الزوج عنها، و منه تحويل ظهره إليها في الفراش أو الاعتزال عنها فيه لو اقتضى الأمر كذلك.

ثم الضرب، فليكن ضرب تأديب، لا ضرب عصيان، فيقتصر على ما تؤلم و يضمن ما يوجب الجناية.

و هذه الأمور الثلاثة - الوعظ و الهجران ثم الضرب - مترتّبة من الأخف إلى الأشدّ، و المعروف بين الفقهاء أنّ ترتّب الوعظ إنّما يكون على مجرّد ظهور أمارات النشوز و العصيان، فإذا لم يفد الوعظ كان النشوز متحقّقا بالفعل، فينتقل إلى الهجر، و إن تحقّق الإصرار منهنّ فينتقل إلى الضرب، كلّ ذلك مغيى بحصول الطاعة و رجوعها عن النشوز، فإذا حصل فلا يتعرّض لهن بشيء. و الأمر في المقام للإباحة، و يمكن أن يكون للندب؛ لأنّه من المعروف.

ص: 184

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساك.......

اشارة

وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينِ وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) الآيات الشريفة تتضمّن معارف الإلهيّة و أحكاما اجتماعيّة هي من معالي الأمور و عواليها، و صدّرها بالعبادة التي هي أساس النجاة و روح الصلاح و جامعة الخيرات و الهدى و أصل كلّ كمال معنوي و أساس الصراط المستقيم و الدين القويم، فأمر عباده بالتوحيد الخالص و نبذ الشرك، ثم أمر بالإحسان، و بدأ بالوالدين اهتماما بهما و تعظيما لشأنهما.

كما أمر بالإنفاق في سبيل اللّه تعالى، و أهتمّ بمكارم الأخلاق و صالح الأعمال و حسن السلوك و القيام بحقوق النوع، و كلّها من سبل سعادة الإنسان، و وعد عليها وعدا جميلا، و أرشد الناس إلى الإنفاق ممّا آتاهم اللّه تعالى من الفضل، و على الوجه الصحيح الذي يرضاه عزّ و جلّ .

و ذمّ البخل و الإنفاق رئاء الناس، و حذّرهم عمّا يوجب القرب إلى الشيطان، و بيّن الجزاء الذي يترتّب على الإعراض عمّا أنزله اللّه تعالى و أوعدهم سوء العاقبة.

ص: 185

التفسير

قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً تلخيص لطيف للآيات السابقة و نتيجة هامّة لجميعها تجذب القلوب، و هذا الأسلوب من الأساليب البديعيّة المعروفة في علم الفصاحة و البلاغة، فيذكر في ابتداء الكلام جملة من الأمور حتّى تقع النتيجة المتصوّرة في محلّها، و على ذلك شواهد كثيرة.

و كيف كان، فقد أجمل عزّ و جلّ المعارف الإلهيّة في هذه الجملة المباركة، التي هي أساس الصلاح و النجاح و أهمّ سبيل من سبل النجاة، بل هي روح الشرائع الإلهيّة.

و بدأ بوحدة العبادة و المعبود؛ لكونها أعظم الغايات المستكملة للنفوس الإنسانيّة؛ لأنّ وحدة الذات و الصفات و الأفعال تتحقّق في وحدة العبادة لا محالة، فأمر تعالى بعبادة اللّه الواحد الأحد إله العالمين و نهى عن الشرك في عبادته؛ ليشمل جميع أنحاء الوحدة في الذات و الصفات و الفعل، لما ثبت في العلوم الأدبيّة أنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، ففي المقام وردت لنفي الشرك في الاعتقاد و العمل و العبادة و القول، فتكون هذه الآية الشريفة شارحة لقوله تعالى:

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106].

و عبادة اللّه تعالى إنّما تحصل بالإذعان له و طاعته في تنفيذ أحكامه، و الايتمار بأوامره عزّ و جلّ و الانتهاء عن نواهيه، و العمل بالإخلاص له، و ابتغاء وجهه الكريم و طلب مرضاته، فيكون النهي عن الشرك يعمّ مخالفة اللّه تعالى باتباع الهوى و الانقياد للشيطان، فإنّ ذلك يوجب نسيان يوم الجزاء و الخلل في حقّ الخضوع للّه عزّ و جلّ ، كما قال تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61].

ص: 186

و من ذلك يعلم أنّ ذكر هذه الآية الشريفة بعد سرد تلك الأحكام من أوّل السورة للتحريض على العمل بها، فإنّه من عبادة اللّه تعالى، و أنّ الاستهانة بها و الإعراض عنها يوجب الكفر و الشرك به عزّ و جلّ ، و قد تقدّم في سورة الفاتحة معنى العبادة فراجع.

و الآية الشريفة تبيّن أمرا مهمّا في الإسلام؛ لأنّها نزلت بعد الأمر بالتقوى في أوّل هذه السورة، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء، الآية، 1]، و بعد ذكر جملة من الأحكام التي تعالج امور المجتمع كما عرفت، فتكون هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات التي تعالج أمر العقيدة و تبيّن أنّها هي الأساس الذي لا بد أن يقوم عليه المجتمع الإسلامي و حياة كلّ فرد مسلم، و أنّ تلك الأحكام بدون هذه العقيدة لا يرجى منها الأثر المطلوب، بل يؤدي إلى الاضطراب و الخلل، فإنّ الإسلام هو عقيدة و عمل، و أنّه شريعة مركّبة منهما، و ليس كالنظريات الوضعيّة التي تهمل أحد الجانبين، فتكون إما عقيدة بلا عمل أو عملا بلا عقيدة؛ و لذا ترى عقمها و إن حقّقت بعض النفع في بعض الأحوال، فمن مزايا الإسلام أنّه جميع بينهما، و اعتبر أنّ أحدهما بدون الآخر لغو، و لأجل ذلك كان الإسلام خير دليل للإنسان نابعا من الضمير، و أنّه آكد في حياة الإنسان من سائر النظم الوضعيّة، فأمر عزّ و جلّ في صدر هذه الآية بعبادة اللّه وحده من دون شريك، ثم رتّب عليها الأمر بالإحسان للوالدين و لذي القربى و اليتامى، لبيان ما ذكرناه و الاهتمام بالجانبين النظري العقائدي و تطبيقه في العمل.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الإحسان إلى من ذكرهم في الآية المباركة، للإشارة إلى الرابطة التي تربط المسلمين في المجتمع الإسلامي، و هي رابطة العقيدة التي تتضمّن جميع الوشائج، و الروابط الاخرى من رابطة المحبّة و المودّة و الاخوة، فتكون رابطة العقيدة من أقوى الروابط و أجمعها و أشملها.

ص: 187

قوله تعالى: وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً الجار متعلّق بفعل مقدّر، و (إحسانا) نائب عنه في الدلالة على الأمر و التأكيد في الإغراء بالإحسان، أي: أحسنوا إحسانا، و يتعدّى الإحسان بالباء و اللام و إلى، يقال: أحسن إليه و أحسن به و له.

و قيل: إنّه إذا تعدّى بالباء تضمّن معنى العطف، و قد تكرّر الأمر بالإحسان للوالدين في القرآن الكريم بهذه الجملة، اهتماما بشأنهما و تعظيما لهما، و لبيان عظيم حقّهما، و لأنّهما أولى الناس بالإحسان.

و هذه الجملة تفيد دوام الإحسان و ترك الإساءة، و أنّ كلّ فعل يصدر من الإنسان بالنسبة إلى والديه، لا بد أن يكون فعلا حسنا.

و لم يبيّن عزّ و جلّ وجه الإحسان و كيفيته، إيكالا لوضوحه، و لمعلوميّته لكلّ أحد و لاختلافه باختلاف الأعصار و الأمصار و أحوال الناس و طبقاتهم.

قوله تعالى: وَ بِذِي اَلْقُرْبى .

أي: صاحب القرابة، و هو يشمل كلّ رحم من الولد و الأخ و العمّ و الخال و غيرهم و أولادهم، و إنّما أعاد الباء هنا للتوصية و الاعتناء بشأنهم. و ذكرهم بعد الإحسان بالوالدين؛ لأنّ الاسرة تتكوّن منهم، فإذا صلحت عقيدة الرجل و قام بحقوق الوالدين و الأقارب، صلح حاله و صلحت أسرته.

قوله تعالى: وَ اَلْيَتامى .

لأنّهم أكثر احتياجا إلى الرحمة و الرأفة و الإحسان بهم.

قوله تعالى: وَ اَلْمَساكِينِ .

و هم الفقراء الذين اشتدّ بهم الفقر و الضعف، بحيث يرثى لحالهم. و إنّما خصّ عزّ و جلّ هؤلاء و سابقهم بالذكر، لما في الإحسان بهم من الأهميّة؛ و لأنّه يتحلّى فيه مكارم الأخلاق و الرحمة، و بالإحسان إلى هذين الصنفين يتحقّق التكافل الاجتماعي الذي أمر به الإسلام.

ص: 188

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى .

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى .

الجار من الجوار بالمكان و المسكن، و هو ضرب من ضروب القرابة، فإن الإنسان قد يمت بالجوار بوثائق وشيجة ما لا تكون في غيره من القرابة. و المراد بذي القربى - بقرينة المقابلة لما يأتي من الوصف - هو الجار القريب دارا، و إنّما قدّمه تعالى على ما يأتي؛ لأنّ فيه الجوار و القرب.

و قيل: المراد به القريب نسبا، على ما سيأتي.

قوله تعالى: وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ .

الجنب بضم الجيم و النون من الجنابة، ضدّ القرابة، أي: الأجنبي، و هو الجار البعيد دارا، و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالأولى الجار ذي القربى، يعني:

الذي بينك و بينه قرابة، و الجار الجنب، يعني: الذي ليس بينك و بينه قرابة، و يكون التكرار لذي القربى باعتبار امتيازه بحقّ الجوار أيضا.

و لكن ظاهر الآية المباركة يدفع ذلك كما عرفت، و يشهد لما ذكرناه ما روي عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في تحديد الجوار بأربعين ذراعا أو أربعين دارا، و يمكن أن يكون الاختلاف للإشارة إلى الجار القريب و الجار الجنب، و إن كان تحديدا للجوار، إلا أنّه يرجع فيه إلى العرف.

و الآية الشريفة تؤكّد رعاية حقّ الجوار في جميع حالاته،

و قد ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتّى ظننت أنّه سيورّثه».

قوله تعالى: وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ .

بفتح الجيم و سكون النون، و هو شقّ الإنسان و غيره، و المراد به المصاحب الملازم لجنبك، و عمومه يشمل الصاحب في السفر و الصاحب في الحضر و المنزل و غيرهم، و ذكر بعض المفسّرين أنّه مختصّ بالمصاحب في السفر و الرفيق فيه.

ص: 189

و قيل: إنّه المنقطع إليك، يرجو نفعك و رفدك،

و روي عن علي عليه السّلام: «أنّه مرآة الرجل التي تكون بجنبه»، و ظاهر الآية المباركة شمولها للجميع.

قوله تعالى: وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ و هو المسافر المنقطع عن أهله و بيته، فليس له مدد و قوة إلا السبيل الذي صار ابنا له، و قد ذكر الفقهاء أنّه يشمل ابن الطريق الذي يستعين بك في طريقه، و الذي لا يعرف حاله، و الغني في وطنه الذي انقطع في السفر عن الوصول إلى أمواله و الاستعانة بالدين.

قوله تعالى: وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ و هم العبيد و الإماء الذين ورد ذكرهم في مواضع اخرى، و الإحسان إليهم يشمل جميع أنحائه و وجوهه.

و في التعبير بما ملكت الأيمان ما لا يخفى من التحريض بالرفق بهم و عدم الاستعلاء عليهم، فإن الإنسان إنّما ملكهم بأيمان و عهود لا بد من مراعاتها و الوفاء بها، و هو يستدعى الإحسان إليهم.

و قد جمع سبحانه و تعالى في هؤلاء الأصناف جميع الحقوق التي يجب مراعاتها، و هي حقّ اللّه تعالى، و حقّ الوالدين، و حقّ القرابة، و حقّ الأيمان الذي يستتبع حقوقا كثيرة.

و عظّم سبحانه و تعالى شأن الإحسان بهؤلاء المذكورين، إذ قرن وصيته به بالوصية بعبادته و نبذ الشرك. و أحكام هذه الآية الشريفة ممّا تنادى بها الفطرة و تبعث عليها الأخلاق الفاضلة و العاطفة النبيلة، و يشهد بها الوجدان، و تدلّ عليها الحجّة القاطعة، فلا يحقّ لأحد التمادي عنها و تركها، إلا من أعجبته نفسه الأمّارة بالسوء، و المستكبر على الحقّ ، فيكون مختالا بغروره فخورا بنفسه و باعجابه بها، قد ركبت عليه الغفلة، فأنساه الشيطان ذكر ربّه و أغمض عن الحقّ ؛ و لذا عقّب سبحانه بعد هذه الآيات المباركة ذكر المختال الفخور، مشعرا بأنّ من لم يراع حقوق هذه الموارد، يكون من المختال الفخور.

ص: 190

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً تعليل لما ورد من الوصايا و الأحكام في ما سبق من الآيات، فإنّ الإعراض عنها مع العلم بأنّها ممّا تنادي بها الفطرة، و يحكم بحسنها العقول، لا يكون إلا ممّن أعجبته نفسه، فيكون مختالا مغرورا فخورا، محبّا لذاته، قد غفل عمّا أعد اللّه تعالى له من السعادة و الكمال، و غفل عن أنّه عبد مربوب ليس له من عند نفسه شيء إلا ما يمنحه الربّ العظيم من النعم، و ما يفيض عليه ما يوجب خروجه من حضيض النفس إلى أوج الكمال و السعادة.

و المختال: ذو الخيلاء، و هو التائه المتبختر المسخر لخياله، و هو أخسّ من المستكبر، لأنّ المختال من تمكنت فى نفسه ملكة التكبّر، و سببه الإعجاب بالنفس و الجهل المركب، و منه الخيل لاختيالها و إعجابها بنفسها مرحا. و الفخور كثير الفخر.

و هما - أي صفتا الاختيال و كثرة الفخر - ترجعان إلى أمر واحد و هو الكبر و الاعجاب بالنفس، الذي يكون منشأه الجهل المركّب، و زعمه كماله و هما من رذائل الأخلاق، بل يعدان أصلان من اصول المساوئ و الرذائل، لتعلّق قلب صاحبهما إلى غير اللّه تعالى، و احتقار جميع الحقوق، و الغفلة عن عظمة اللّه عزّ و جلّ و كبريائه، فلا يقوم بوظائف العبوديّة، لأنّ الاختيال و المفاخرة يرجعان إلى حبّ الذات و صفاتها و عوارضها، من المال و الجاه و تعلّق القلب بهما، و يستتبع ذلك جملة من الصفات الذميمة، أهمّها البخل؛ و لذا عقّب عزّ و جلّ هذه الآية الشريفة بالنهي عن البخل، و ذمّ الذين يبخلون، و لا يختصّ البخل بالمال و الجاه، بل يعمّ كتمان الحقّ و كلّ جهة كماليّة كما ستعرف.

و قد ذمّ اللّه تعالى المختال الفخور، و كفى بهما مقتا أن اللّه تعالى لا يحبّهما، و معنى عدم محبّته لهما، تركه لهما و عدم تعرّضهما لتوفيقاته الخاصّة و بركاته، و هو العذاب الأليم بالنسبة إلى أهله.

ص: 191

و إنّما خصّ عزّ و جلّ هاتين الصفتين بالذكر؛ لأنّه تعالى قد أوصى بالإحسان إلى من ذكرهم في الآية الشريفة، و ختمها بابن السبيل و ما ملكت أيمانكم. و وجود هؤلاء عرضة لإثارة الخيلاء و الكبر و إثارة الاستعلاء في نفوس ذوي المال و الجاه، فيسيئون بالنسبة إلى من أمر اللّه تعالى بالإحسان إليهم، و يحجبون عن تنفيذ وصايا ربّهم، فأتى التوجيه الربوبيّ بالتنفير من هذا الخلق الذميم و النهي عن الاتصاف به، و شدّد النكير عليه و أظهر عظيم الجزاء بأن أخبرهم أنّ اللّه لا يحبّ من كان مختالا فخورا، و المؤمن الذي يعبد اللّه و لا يشرك به لا بد أن يبتعد عن الأمر الذي لا يرضى اللّه تعالى به، فيحسن إلى الناس و يقوم بوظائف العبودية بغير كبر و خيلاء، فلا بد من الابتعاد عنهما ليجلب رضاء اللّه تعالى، فإنّه من أعظم الكمالات، بل هو السعادة الحقيقيّة.

و قد وردت هذه الجملة: «إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ » في القرآن الكريم في أكثر من عشرين موضعا، و جميعها تدلّ على بعد متعلّقها عن مرضاة اللّه تعالى، و أنّه من رذائل الصفات و ذمائم الأخلاق و خبث الباطن، و إنّما خصّ هذا بالذكر لأهميته، فإنّ كتمان ما آتاهم من الفضل في العلم بنبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و دينه الحقّ ، أمر عظيم لا يدانيه أمر آخر.

و يحتمل أن يكون اللفظ عامّا: فيشمل جميع أفراد الفضل، من المال و الغنى و الجاه و العلم. و منه العلم بنبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتمان ذلك إنّما يكون بتظاهرهم بمظهر الفاقد المعدم، و الجاهل الذي ليس له علم، لئلا يرجع إليهم سائر الناس للسؤال عن أموالهم، و للحفاظ على مقامهم و جاههم، فإنّه لو أظهروا الحقّ و بيّنوا للناس لفقدوا ذلك.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ بيان لبعض مظاهر الاختيال و الفخر، فإنّه بعد ما تحدّث سبحانه و تعالى عن الوصايا التي توجّه النفوس إلى الكمال، و تحرّضهم على البذل و العطاء

ص: 192

و الإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية المباركة السابقة، و كان ذلك من طاعة اللّه عزّ و جلّ و عبادته، و أنّ الإعراض عنها يكون من الإشراك به.

ثم تحدّث عن الفئتين اللتين امتنعتا عن تنفيذ أحكام اللّه تعالى و العمل بوصاياه، عتوّا و استكبارا، و هما المختالون الفخورون اللذين احتقروا خلق اللّه تعالى و اتخذوا البخل شعارا لهم، فضيّعوا تلك الحقوق المؤكّدة.

و في هذه الآية الشريفة يبيّن عزّ و جلّ حال تلك الطائفة المختالة المتكبّرة، و قد ذكر لهم ستّة أوصاف تدلّ على بعدهم عن الكمال و الأوصاف الحميدة، و شدّة غيهم و ضلالهم، و استكبارهم على اللّه تعالى و جرأتهم عليه، و إعراضهم عنه عزّ و جلّ ، و قربهم من الشيطان، و استحقاقهم الجزاء الذي يوافق اعتقادهم و ملكاتهم الرذيلة.

و البخل: هو الامتناع عن أداء ما فرضه اللّه تعالى على الإنسان، و هو يرجع إلى لؤم النفس و شقائها، و السبب في ذلك هو الاستكبار و العجب بالنفس، فكانت النتيجة أنّهم بخلوا بما آتاهم اللّه من الفضل و لم يبذلوه في الموارد التي قرّرها اللّه عزّ و جلّ و أوصى العباد بالإنفاق فيها و اكتساب الفضل منها، و قد ذكر العلماء في إعراب هذه الجملة وجوها كما سيأتي.

و أما أمرهم بالبخل، فلسوء سريرتهم و خبث باطنهم و شدّة طمعهم و حبّهم للدنيا، و لقطع آمال الناس فيهم، و الأمر منهم يتحقّق بالقول و بالفعل أيضا؛ لأنّهم أصحاب ثروة و مال و جاه، يقصدهم الناس و يطمعون في أموالهم، فيؤثّر فيهم فعلهم كقولهم.

قوله تعالى: وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ مظهر آخر من مظاهر البخل و سوء السريرة.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى هذه الطائفة و ذمّهم؛ لأنّهم مع الطائفة الاولى على طرفي الإفراط و التفريط، فإنّ البخل و السرف - الذي هو الإنفاق لا على ما

ص: 193

ينبغي - سواء في الذمّ و الشناعة. و الإسلام دين الوسط و الفطرة السويّة.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً الاعتداد: الجزاء بما يناسب الذنب من العقاب. و إنّما وضع الظاهر (الكافرين) موضع المضمر، اشعارا بأنّ من كتم فضل اللّه تعالى و بخل منه، فهو كافر به و بنعمه سبحانه و تعالى؛ و لذا سمّى الكافر كافرا؛ لأنّه ستر الحقّ و نعم الربّ بإنكاره، و من كان كافرا فله عذاب يهينه، و إنّما كان العذاب كذلك لأنّه أهان النعم بالبخل، و الكتمان لقانون توافق الجزاء مع الذنب.

و إنّما أضاف الاعتداد لضمير التعظيم (نا) للتهويل، و للإشعار بأنّ عذاب العظيم عظيم، و قد ذكرنا أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يكون من مظاهر عظمة اللّه تعالى و كبريائه عزّ و جلّ يؤتى بضمير العظمة، و كلّ مورد يكون من موارد فضله و رحمته، يؤتى بضمير المفرد.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ بيان لأعمال الطائفة الثانية، و هم الفخورون الذين لا يعملون إلا لأجل الفخر و المباهاة و الأغراض الوهميّة، و لا يكترثون باللّه تعالى و دينه الحقّ و الفضل و الفضيلة.

و رئاء إما مصدر منصوب على الحال من ضمير (ينفقون) و إضافته إلى الناس من قبيل إضافة المصدر لمفعوله، أو منصوب على أنّه مفعول للغلبة.

و الرئاء و الرياء و المراءاة مأخوذة من الرؤية، و هو أن يعمل الإنسان عملا لا لحسنه و لا لوجه اللّه تعالى، بل لأجل أغراض وهمية دنيويّة و أن يراه الناس، و تقدّم في سورة البقرة (الآية 264)، بعض الكلام.

قوله تعالى: وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ بيان لكون المرائي كافرا، لأنّ الرياء يكشف عن عدم الإيمان باللّه تعالى، القادر على الجزاء ثوابا و عقابا، و عدم الإيمان بيوم المعاد الذي هو يوم الجزاء

ص: 194

على الطاعات و المعاصي؛ لأنّه يريد نتاج إنفاقه في الدنيا، و هو مدح الناس و استحسانهم، و إنّما بذل للفخار لا لوجهه الكريم المتعال، فيكون الرياء شركا في العمل أيضا.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكُنِ اَلشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً القرين الصاحب و الخليل، و المراد بالشيطان إبليس و أعوانه الداخلية، كالنفس الأمّارة و هو النفس، و الخارجيّة و هم شياطين الإنس و الجنّ .

و إنّما كان الشيطان للمرائي مصاحبا و خليلا، لأنّه أسلس قياده لهواه و اتبع الشيطان الذي لا ينفكّ عن الغواية، و من كان الشيطان له قرينا فقد ضل و غوى، لأنّه بئس القرين المشؤوم المهلك.

و في الآية المباركة دلالة واضحة على أنّ الرياء شرك باللّه تعالى، و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة وردت عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و عن الأئمة الهداة عليهم السّلام أيضا.

قوله تعالى: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ الاستفهام للتحسّر و التأسّف أو للتعجّب. أي: و ما الذي عليهم من الوبال و الخسران و الضرر و سوء العاقبة، فإنّهم لو آمنوا باللّه و اليوم الآخر لآمنوا من سوء العاقبة و تخلّصوا من الهلكة، فإنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر جنّة واقية، تدفع المؤمن عن المهالك، و أنّ الإيمان باللّه و اليوم الآخر يدعوان إلى الإنفاق ابتغاء وجه اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَنْفَقُوا مِمّا رَزَقَهُمُ اَللّهُ يعني: فلو أنّهم أنفقوا ممّا رزقهم اللّه من النعم و الأموال في سبيله عزّ و جلّ كما أمرهم سبحانه، لوجدوا الجزاء العظيم المعدّ لهم.

و إنّما نسب الرزق إلى اللّه تعالى، اشعارا بأنّ ما يملكونه إنّما هو من رزق اللّه تعالى و من خزائن رحمته، فلا تنقص بالإنفاق، مع أنّه قادر على قطعه عنهم، فإنّه القادر على كلّ شيء.

ص: 195

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِهِمْ عَلِيماً تهديد لمن أعرض عن أوامر اللّه تعالى و أحجم عن الإنفاق في سبيله، فإنّ اللّه تعالى عليم بنياتهم و بإنفاقهم، لا تخفى عليه خافية، فهو يجزيهم جزاءهم، فيجزى المطيع على طاعته، و يعاقب المسيء و من أنفق على غير وجهه أو استنكف عن الإنفاق في ما أمره عزّ و جلّ . و الآية الشريفة تمهيد لما سيأتي من نفي الظلم عنه عزّ و جلّ .

بحوث المقام
بحث أدبي

التنوين في قوله تعالى: وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً للتعميم، أي: لا تشركوا به شيئا من الأشياء - صنما كان أم غيره - و قيل: للتحقير، أي: أنّ كلّ شيء تشركون به فهو حقير في جنب كبريائه و عظمته، بل لا نسبة بينهما أصلا، فيتضمّن التوبيخ العظيم.

و في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ ، أوجه من الإعراب، فقيل: إنّ (الذين) بدل من (من) في قوله تعالى: مَنْ كانَ مُخْتالاً ، بدل الكلّ من الكلّ .

و قيل: إنّه صفة لها، و هذا يصحّ عند من يقول بجواز وقوع الموصول موصوفا.

و قيل: إنّه منصوب على الذمّ . و عن بعض أنّه مرفوع على الذمّ .

و قيل: إنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. و عن بعض أنّه مبتدأ خبره محذوف، أي: مبغوضون، و نحو ذلك ممّا يقتضيه السياق، و إنّما حذف ليذهب نفس المخاطب كلّ مذهب.

ص: 196

و قيل: إنّه مبتدأ، و (الذين) الآتي في قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ معطوف عليه، و الخبر قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ ، و هذا أبعد الوجوه، و أصحّها الوجه الأوّل، و البقية تحتاج إلى شواهد و هي مفقودة.

و في البخل في الآية الشريفة أربع لغات، فتح الباء و الخاء، و ضمّهما، و فتح الباء و سكون الخاء، و ضمّ الباء و سكون الخاء، و كلّ واحدة قرئ، و لكن الأخيرة هي قراءة الجمهور.

و (ساء) في قوله تعالى: فَساءَ قَرِيناً منقولة إلى باب نعم و بئس، فهي ملحقة بالجامدة، و لذا اقترنت بالفاء. و يحتمل أن يكون الاقتران لأجل تقدير (قد) و هو كثير، كقوله تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي اَلنّارِ [سورة النمل، الآية: 90].

و (لو) في قوله تعالى: لَوْ آمَنُوا ، إما هي على بابها، و حينئذ فالكلام محمول على المعنى، أي: لو أنّهم آمنوا لم يضرّهم. أم تكون بمعنى (أن) المصدريّة، و على الوجهين فلا استيناف.

و قيل: إنّ الجملة على الاستيناف، و جوابها أي: حصلت لهم السعادة و نحو ذلك.

بحث دلالي

تذلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً على أنّ عبادة اللّه تعالى لا تتحقّق إلا بعبادة الواحد الأحد و نبذ الأنداد و الشرك به عزّ و جلّ ، و سياق الآية الشريفة يدلّ على لزوم نفي جميع أنحاء الشرك باللّه عزّ و جلّ ، سواء في الذات و الفعل و العبادة، و لأجل ذلك تكرّرت هذه الجملة المباركة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، الذي من أهمّ مقاصده الدعوة إلى عبادة الواحد الأحد و نبذ الشرك و الأنداد.

ص: 197

الثاني: يستفاد من اقتران الإحسان بمن ورد ذكرهم في الآية الشريفة بالعبادة أنّ الأوّل من طرق عبادة اللّه تعالى، و أهمّ سبل التقرّب إليه عزّ و جلّ إذا استجمع الإحسان الشروط المطلوبة التي ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و بيّنته السنّة الشريفة، و أهمّها الخلوص بالاجتناب عن الشرك و الرياء و ما يوجب مقته عزّ و جلّ .

الثالث: إنّما ذكر عزّ و جلّ المختال الفخور في ذيل الآية الشريفة؛ لأنّ الإحسان من مظان الخيلاء و الفخر، لا سيما إذا اجتمع الناس إليه طالبين منه الإحسان و الإنفاق من ما أنعم اللّه عليه من الأموال و الجاه و الرفعة، فدفعا لما قد يتصوّره المنفق في هذه الحالة، و لئلاّ يقع في هذه الرذيلة ذكر عزّ و جلّ إن اللّه لا يحب من كان مختالا فخورا و كفى خزيا و مقتا عدم محبّة اللّه جلّت عظمته له.

الرابع: الآية الشريفة بايجازها قد اشتملت على أقسام الحقوق المعروفة في الإسلام، و هي حقّ اللّه تعالى، و حقّ الناس، و هو على أنواع حقّ القرابة، و حقّ الجار، و حقّ الإسلام، و ربّما تجتمع في مورد واحد.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ ، على أنّ الملكات النفسانيّة إنّما تظهر في الأقوال و الأفعال، فإن كانت تلك الملكات من الصفات الحسنة و مكارم الأخلاق، كانت الأفعال و الأقوال حسنة، و أنّها تصدر عن طبع متخلّق بخلق كريم، و إن كانت من الرذائل تكون الأفعال و الأقوال قبيحة، فمن اتخذ البخل شعارا له و صار من صفاته و ملكاته، كانت أقواله و أفعاله داعية إلى البخل، فهو يأمر به لسيرته الفاسدة.

و من هنا أمر الإسلام بتخلية النفس عن تلك الرذائل، حتّى تستعد لقبول الفضائل، فإنّها لا يمكن أن تحلّ في موضع هو متلبّس بالضدّ.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ اَلنّاسِ ، على أنّ الرياء إثم عظيم و شرك باللّه العزيز، كاشف عن عدم الإيمان به عزّ و جلّ ،

ص: 198

لاعتماد المرائي على الناس دون الخالق، و أنّ الشرك الحاصل من الرياء قد يكون في العمل، و هو الشائع و قد يكون في الذات و العمل كليهما.

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا ، على أنّ الاحجام عن الإنفاق في سبيل اللّه تعالى، إنّما يكون عن عدم الإيمان باللّه تعالى و اليوم الآخر و عدم الاعتقاد بهما، و إن تلبّس بهما ظاهرا، و علاج ذلك إنّما يكون بالرجوع إلى الطاعة و الإيمان باللّه تعالى و باليوم الآخر، فهذه الآية المباركة تضمّنت الداء و العلاج، و لذا قدّم الإيمان باللّه تعالى و اليوم الآخر فيها و أخّره في الآية السابقة؛ لأنّ السابقة تضمّنت الإنفاق على غير وجه اللّه تعالى، فبيّن عزّ و جلّ أنّه إسراف و بذله إنّما يكون شركا باللّه تعالى لأنّه بذله رياء، و أما في هذه الآية المباركة قد امتنع عن الإنفاق لعدم الاعتقاد باللّه و اليوم الآخر، فهو لم يؤمن بالجزاء فبخل عن أمواله، فحكم بالإيمان أوّلا لرفع الداء و علاجه.

بحث روائي

في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحد الوالدين و عليّ عليه السّلام الآخر. فقلت: أين موضع ذلك في كتاب اللّه ؟ قال: قرأ أبو عبد اللّه عليه السّلام: وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً »،

و روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أنا و علي أبوا هذه الامة»، و قريب منهما غيرهما من الروايات الكثيرة.

أقول: يستفاد من هذه الروايات امور:

الأوّل: إطلاق الأب أو الوالد على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و على من يتلو تلوه من النفوس المقدّسة، التي هي العلّة الغائيّة لخلق هذا العالم، فكما أنّ الأب الجسماني هو مبدأ تكوين الولد و لا شأن له إلا ذلك، كذلك النفوس المقدّسة المرتبطة بعالم الغيب مبادئ نشو تربية الامة و تزكيتها و رقيها و هدايتها إلى السعادة و الكمال

ص: 199

و تنوير النفوس بالمعاد و الإلهة، بل أنّ الأب الواقعي للامة هي تلك النفوس المقدّسة، و أشرفها نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سيد العرفاء عليّ عليه السّلام.

و الآيات الشريفة التي توصي الأولاد بإحسان الوالدين، تشمل الأب الروحي و الجسماني، بل الإحسان للأب الروحي آكد، لأنّه الجامع للكمالات و الصفات الحميدة.

الثاني: يستفاد من الروايات أنّه لا يليق لهذا المقام إلا من كان له أهليّة ذلك بأن يكون أكمل أفراد الامة و أشرفها، و جامعا للصفات الحميدة التي يمكن بها هداية الامة إلى السعادة الأبدية، و أن يكون من نفس الامة و أنّ ذلك منحصر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام و الأئمة الطاهرين.

الثالث: أنّ المراد من الوالدين فيها تثنية الوالد من لا الأب و الام، كما هو المصطلح. و يمكن أن يكون بمعناهما المصطلح، أي: العلّة الفاعليّة لهذه الامة و العلّة المنفعلة لها.

و في المناقب لابن شهر آشوب عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً قال: «الوالدان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و علي عليه السّلام».

أقول: الرواية من باب التطبيق لأكمل الأفراد و أشرفهما لا التخصيص، كما تقدّم.

و في كتاب المناقب عن جرير أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال لعليّ عليه السّلام: «اخرج فناد:

ألا من ظلم أجيرا أجرته فعليه لعنة اللّه، ألا من تولّى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه، ألا من سبّ أبويه، فعليه لعنة اللّه - الحديث».

أقول: الرواية طويلة و إنّ المراد من الأبوين الأعمّ من الجسماني و الروحاني، لما مرّ.

و في تفسير العياشي في قوله عزّ و جلّ : وَ اَلْجارِ ذِي اَلْقُرْبى وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ ، قال: «الذي ليس بينك و بينه قرابة. و الصاحب بالجنب، قال: الصاحب في السفر».

ص: 200

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، كما تقدّم في التفسير.

و عن الصادق عليه السّلام في عقاب الأعمال قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من مشى في الأرض اختيالا، لعنته الأرض و من تحتها و من فوقها».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ الاختيال صفة ذميمة، و أنّ المختال أبعد الناس من اللّه عزّ و جلّ .

و عن الصادق عليه السّلام في المحاسن: «ثلاث إذا كن في المرأة فلا تتحرّج أن تقول إنّها في جهنّم: البذاء و الخيلاء و الفخر».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، تدلّ على أنّها من الصفات السيئة التي توجب انهيار معالم الأخلاق الكريمة و الفضائل السامية، و الاختصاص بالمرأة لأنّها الأكثر ابتلاء بتلك الصفات، و إلا لا فرق بين الرجل و المرأة.

و قد وردت روايات في تفسير قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ اَلنّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً ، تدلّ على أنّ الآية الكريمة نزلت في اليهود، كانوا يأتون رجالا من الأنصار ينصحونهم و يقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، و لا تدرون ما يكون. فنزلت الآية الشريفة و وبّختهم بكتمان نعم اللّه و ما آتاهم من فضل الغنى، و تقدّم مكرّرا أنّ شأن النزول لا يوجب التخصيص، و أنّ الآية الشريفة عامّة تنطبق على جميع مواردها مدى العصور و الأزمان.

بحث عرفاني

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ وَ اَلصّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ اِبْنِ اَلسَّبِيلِ ، مراتب العلماء باللّه العاملين بعلمهم، الذين يكونون حجّة على الخلق بأقوالهم و أفعالهم، و تتبرّك الأرض بوجودهم، فإنّ حسن المعاشرة معهم من حسن المعاشرة مع اللّه تعالى، و هم الذين يدعون ربّهم في ليلهم و نهارهم

ص: 201

بقولهم:

«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، و أنر أبصار قلوبنا بضياء النظر إليك حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى معدن العظمة، و تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك»، و هذا غاية كمال العارفين التي دعا إليها الأنبياء و المرسلون.

و ما سوى ذلك ممّا دعا إليه بعض العرفاء كابن الفارض و محي الدين و الحلاج و نحوهم، و ما نسب إلى بعض الشيخيّة على ما صرّح به في شرح زيارة الجامعة، فإنّ كلّ ذلك خروج عن الحقّ القويم و ابتعاد عن الصراط المستقيم.

كما أنّ ترتّب الإحسان إلى الوالدين على عبادة اللّه الواحد، يدلّ على فضل الوالدين، و أنّ لهما المنزلة العظمى في الهداية و التشريع، و أنّهما من طرق عبادة اللّه تعالى، فيختصّان بالوالدين الحقيقيين، و هما الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام، كما مرّ في الروايات.

و الآية الشريفة ترشد أهل العرفان إلى أهمّ الفضائل التي لا بد من التحلّي بها، و أهمّ الرذائل التي ينبغي أن يجتنب عنها، و هي الرياء و الكبر و الفخر، فإنّها من المهلكات و المبعدات عن ساحة الحبيب.

كما أنّ الاقتراب منه تعالى إنّما يكون بالإحسان إلى خلق اللّه تعالى، و قد استوفت الآية المباركة جميع أصناف الخلق، فإنّ الإحسان إليهم يوجب محبّته عزّ و جلّ إن لم يشب بما يوجب الإحباط و عدم محبّته للّه تعالى، و هو الفخر و الكبر و الرياء.

ص: 202

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَي.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً (42) الآيات الشريفة تحثّ المؤمنين على الاعتقاد بحقيقة واقعيّة لها الأثر في هداية الإنسان و اطمئنانه، و إنّها: لا إله إلا اللّه، و تحرّضهم لعبادة الواحد الأحد و العمل بما تؤدّيه تلك الحقيقة، التي هي الهدف الرئيسي في الأديان الإلهيّة.

كما تدلّ الآيات المباركة على أن أجر العاملين محفوظ لا ينقص منه شيء، و لا تصل إليه يد الظلم و الجور، بل يعطيهم سبحانه و تعالى الحسنات المضاعفة و الأجر العظيم إن هم استقاموا على تلك العقيدة.

و تندّد هذه الآيات المباركة بالذين لا يعملون بمقتضاها و يحجمون عن تنفيذ أحكامها و يعصون الرسول صلّى اللّه عليه و آله في تعاليمه و شريعته.

و قد بيّن عزّ و جلّ فيها أهمّ موضوع، و هو نفي الظلم عنه تعالى عن ذلك علوّا كبيرا، فهو عدل في حكمه و أفعاله، و ضمّ إلى ذلك شهادة الشاهدين من صفوة الخلق لتثبيت مضمونها، و لا يخفى ارتباط هذه الآيات بالسابقة منها.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ مثقال منصوب إما على أنّه مفعول ثان ليظلم، و هو الحقّ ، و إما على أنّه صفة مصدر محذوف مفعول، أي: ظلما قدر مثقال ذرّة، فحذف المصدر و أقيم المضاف مقامه.

و الظلم معروف، و قد ذكر في معناه امور جميعها ترجع إلى ما هو المعلوم

ص: 203

المعروف و المرتكز في النفوس، و هو الجور و مجاوزة الحدّ. و أنّه يتعدّى إلى مفعولين، يقال: ظلمه حقّه، و ظلمه ماله، و نحو ذلك لتضمّنه معنى الغصب و النقصان، فعدّي إلى اثنين.

و المثقال: مفعال من الثقل، و هو في الأصل مقدار من الوزن - أي شيء كان من قليل أو كثير -

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا يدخل النّار من في قلبه مثقال ذرّة من إيمان».

و الذرّة قيل: إنّها الصغير من النمل، و سئل ثعلب عنها فقال: «إنّ مائة نملة وزن حبّة، و الذرّة واحدة منها».

و قيل: الذرة ليس لها وزن؛ لأنّها الهباء المبثوث في الهواء، و يرى في شعاع الشمس الداخل من النافذة.

و الصحيح أنّها مثال للشيء المتناهي في الصغر، و إنّما ضرب المثال بالذرّة لأنّها أقلّ شيء ممّا يدخل في وهم البشر في عصر النزول، و إلا فإنّ العلوم الطبيعيّة المعاصرة قد أثبتت أشياء أصغر منها بكثير لا ترى بالعين المجرّدة.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالمثقال للإشارة إلى أنّه و إن كان شيئا حقيرا و وزنا قليلا لكنّه عظيم عند اللّه عزّ و جلّ و الظلم فيه كبير.

و الآية الشريفة تدلّ على نفي الظلم عنه عزّ و جلّ ؛ لمنافاته لحكمته المتعالية، و هذا هو المشهور بين العدليّة و الحكماء المتألّهين، أو لأنّ الظلم يستلزم الجهل، و هو منزّه عنه جلّت عظمته، فإنّه عالم بجميع الأشياء، لا يعزب عن علمه شيء، فيرجع نفي الظلم عنه إلى نفي الجهل، و هو من صفات الذات، أي: أنّ ذاته تبارك و تعالى التي تكون جامعة لجميع صفات الكمال، لا يتصوّر في حقّها النقص الذي هو الظلم، و ذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه، فإنّ مضاعفة الحسنة لا بد أن تكون عن علم بجميع خصوصيات المنعم عليه و النعمة و الفضل و الزيادة.

ص: 204

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها .

تعليل لما سبق من الاستفهام في الآية المباركة السابقة: وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ، و بيان لنفي الظلم، فإنّ الذي يضاعف الحسنات لا يتصوّر في حقّه الظلم؛ لأنّه لا فائدة فيه ترجع إليه.

و الحسنة: هي الأفعال التي يقبلها العقل و يحثّ عليها الشرع. و المضاعفة:

هي الزيادة على الشيء بمثله في المقدار أو أمثاله، و قد أهمل سبحانه و تعالى المضاعفة في العدد و المدّة و لم يحددها في المقام - و إن ذكر في موضع آخر:

أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245]؛ لأنّها من مظاهر رحمته الواسعة غير المتناهيّة، فهو عزّ و جلّ في مقام الجزاء يضاعف الحسنات بما شاء من المضاعفة لرحمته الواسعة.

و المعنى: أنّهم لو آمنوا و أنفقوا لم يكن اللّه ليظلمهم، و لأعطى جزاء أعمالهم و إنفاقهم، بل ضاعف لهم الأجر بما يشاء في العدد أو المدّة أو كليهما.

قوله تعالى: وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً .

بيان للحسنة المضاعفة و تعليل لها، أي: أنّ اللّه يضاعف الحسنات لأنّه يعطي الأجر العظيم، و لا يقتصر على مضاعفة حسنات المحسنين، بل يزيد عليهم و أنّه يعطيهم الأجر العظيم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ تكريما للمطيع و إكمالا لابتهاجه، و قد اختلفوا في الأجر العظيم، فذكر بعضهم أنّه الجنّة.

و قال آخرون: إنّه اللذّة الحاصلة عند اللقاء و الاستغراق في المحبّة و المعرفة، و الحقّ هو الأوّل؛ لأنّها مقابل الحسنات، و هذه أعظم و أكثر، فإنّه يشمل اللذائذ المعنويّة الروحانيّة و درجاتها أيضا.

ص: 205

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً .

تثبيت لمضمون ما ورد في الآيات السابقة و تعظيم الأمر على المخالفين و المعاندين و الكافرين، و تهويل حالهم في يوم لا سبيل لهم إلا الإقرار و الاعتراف، فيستحقّون جزاء إنكارهم و أعمالهم الفاسدة، و قد دأب القرآن الكريم أنّه إذا ذكر أحكاما معيّنة و أمورا ترتبط بالعقيدة و التوحيد و شؤون الخالق و الربّ العظيم أن يذكر بعد ذلك ما يثبتها بأمور حسنة لا يمكن إنكارها، لئلا يكون للناس على اللّه حجّة، و لدفع شبه المعاندين، و من تلك الأمور الحسنة الشهادة التي يقبلها جميع أفراد الإنسان و تقوم عليها نظام معاشهم، فيأتي اللّه تعالى يوم القيامة بالشهداء المحمودين المقبولين عند جميع الأمم، و هم الأنبياء و الأوصياء، فإذا شهدوا على أحوال أممهم ثم قرّر تلك الشهادات بشهادة خاتم الأنبياء، لأنّه أشرفهم و هو غاية بعث الرسالات السماويّة، فهو الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل و المهيمن على ذلك كلّه، فإنّ هؤلاء الشهداء يشهدون على أحوال أممهم من إطاعتهم و عصيانهم و بغيهم و عنادهم و استقامتهم و خروجهم عن الطاعة و إعراضهم عن ما جاءوا به من المشهود، إذ لا سبيل لهم للإنكار و لا خلاص لهم من أهوال ذلك اليوم العصيب بعد أن يتبرّأ منهم الأنبياء و الشهداء، فلا تفيدهم ادعاء الاتباع لهم. و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ [سورة البقرة، الآية: 143] معنى الشهادة و ما يتعلّق بكيفيّة الشهادة، فراجع.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد ب هؤُلاءِ هم الذين كانوا موجودين حين النزول، فهو صلّى اللّه عليه و آله يشهد أنّه جاء لهم بالدين القويم و بلّغ ذلك أحسن تبليغ و أقام الحجج على الدعوة، و ما قاساه من العتاة و المشركين من العناد و الضلال و شدّة الأذى، و تألبهم عليه مجاهرة و نفاقا، فيكون حجّة على المفرطين و المعاندين.

ص: 206

و لكن ظاهر الآية الشريفة يعطي معنى أبعد من ذلك، فإن شهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمته يوم الشهادة أمر يدلّ عليه قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ ، فإنّ عمومه يشمل امة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أيضا، فيكون ذيل الآية المباركة لبيان أنّ شهادة الأنبياء، جميعهم أيضا ممّا يقرّر بشهادة سيدهم و خاتمهم، فإنّ له المقام المحمود يوم القيامة، و يدلّ على ذلك بعض الروايات، كما سيأتي في البحث الروائي.

يضاف إلى ذلك أنّه لا وجه لاختصاص الآية المباركة بالذين كانوا موجودين حين النزول، فهو صلّى اللّه عليه و آله حجّة على أمته من حين النزول إلى يوم القيامة، فيشهد صلّى اللّه عليه و آله على كلّ انحراف و تغيير و تبديل و إعراض عن تعاليمه المقدّسة، كما تدلّ عليه آيات متعدّدة.

و يمكن رفع الاختلاف بأنّ شهادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على أمته شهادة على جميع الأمم باعتبار أنّ تعاليمه مكمّلة لتعاليم الأنبياء، و أنّ أمته امتداد لسائر الأمم.

قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ .

بيان لحالهم بعد شهادة الأنبياء و تمامية الحجّة عليهم. أي: أنّ الذين كفروا باللّه و عصوا الرسول في تعاليمه و أحكام الشريعة و ما جاء به من اللّه تعالى عند تماميّة الحجّة عليهم بشهادة الأنبياء، يتمنّون أن ينعدموا و لا يبقى لهم أثر في ذلك اليوم العصيب.

قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ أي: الدفن فيستوون مع الأرض، و هو كناية عن بطلان الوجود و انعدامهم، فلا يؤخذوا بما فعلوا. و قد فسّرت هذه الجملة في موضع آخر من القرآن الكريم بالتراب، قال تعالى: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40].

ص: 207

قوله تعالى: وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً أي: يودّون أن ينعدموا و لا يبقي لهم أثر، لعدم قدرتهم على كتمان أحوالهم و أعمالهم و صفاتهم بعد ما ظهرت بشهادة الأنبياء و أعضاء أبدانهم و حضور أعمالهم، فهم بارزون للّه تعالى لا يخفى عليه منهم شيء، فيودّون لو لم يكونوا بعد ما لم يقدروا على كتمان أمر من أمورهم، كما كانوا يفعلون في دار الدنيا فقد تمّت الحجّة عليهم و استحقّوا جزاء أعمالهم.

و إنّما ذكر تعالى هذه الجملة بعد تمنّيهم الانعدام و التسوية مع الأرض لبيان يأسهم و شدّة حالهم في تلك اللحظة.

بحوث المقام
بحث أدبي:

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، (تك) أصلها (تكن) حذفت النون للتخفيف، و يكثر حذفها في مثل هذه، و علّله بعضهم بأنّ النون تشبه حروف العلّة من حيث الغنة و السكون.

و القراءة المعروفة في حَسَنَةً على النصب خبر كان، فيكون اسمها مستترا عائدا على الذرة.

و قيل: يعود إلى المثقال، و إنّما أنث لأنّ المثقال مضاف إلى ذرّة. و نوقش بأنّ تأنيث المضاف باعتبار المضاف إليه شاذّ، خصوصا إذا كان المضاف إليه محذوفا، و الحقّ أنّ التأنيث راجع إلى الخبر، قال تعالى: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ [سورة النساء، الآية: 176]، و قال تعالى: فَإِنْ كُنَّ نِساءً [سورة النساء، الآية: 11 ]، و نحو ذلك ممّا هو كثير، هذا إذا جعلنا كان ناقصة، و قرئ برفع (حسنة) على أنّ (تك) تامّة.

ص: 208

و (لدن) بمعنى عند، قال بعضهم: إنّه أقوى في الدلالة على القريب من عند.

و فيه اربع لغات بفتح اللام، و ضمّ الدال، و (لدن) بضم اللام و سكون الثاني، و لدن بفتح الأوّل و ضمّ الثاني و حذف النون، و (لدن) بفتح الأوّل و الثاني مع الياء، و إذا أضافوه إلى أنفسهم شدّدوا النون.

و إنّما دخلت «من» عليه لابتداء الغاية، و لدن كذلك، فلما تشاكلا حسن دخول (من) عليه.

و (كيف) في قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا محلّها إما الرفع على أنّها خبر لمبتدأ محذوف، أو النصب بفعل محذوف، و التنوين في «يومئذ» تنوين عوض، حذفت الجملة و عوض عنها التنوين.

و (لو) في قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى مصدريّة.

و قد اختلفوا في جملة: وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً ، فقيل: إنّها عطف على جملة: (لو تسوى)، و قيل: إنّها معطوفة على جملة (يود)، و قيل: إنّها مستأنفة، و لا يضرّ هذا الاختلاف بأصل المعنى.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ على نفي وقوع الظلم منه تعالى مطلقا، و يستفاد من ذيل الآية المباركة: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، أنّ عدم وقوع الظلم عنه يستند إلى أمرين:

الأوّل: الاستغناء المطلق، فإنّه عزّ و جلّ مستغن عن كلّ شيء، و لاستغنائه تعالى عن الخلق يضاعف الحسنات، فلا وجه للظلم الذي هو لازم الحاجة و الفقر، و هو تعالى منزل عنهما.

الثاني: الحكمة الإلهيّة، فإنّها تقتضي نفي الظلم عنه، لا من حيث القدرة

ص: 209

التي تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الظلم - المنزّه عنه ذاته الأقدس - فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات و إيتاء الأجر العظيم، لقادر على تنقيص ذلك، و منع الأجر عن صاحبه، لكنه لا يفعل ذلك لحكمته المتعالية، و هذا هو معنى العبارة المعروفة: «إنّ اللّه تعالى لا يظلم لحكمة، لا لقدرة»، أي: أنّ حكمته المتعالية تقتضي نفي وقوع الظلم عنه، لا لعدم قدرته، فإنّها تعلّقت بجميع الأشياء، فهو قادر على الظلم لكنه لا يفعله لمنافاته الحكمة، و سيأتي تتمة الكلام في البحث الكلامي إن شاء اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: مِثْقالَ ذَرَّةٍ على أنّ جميع الأشياء لها وزن معين معلوم، فإنّ الذرّة التي هي متناهية في الصغر لها وزن معين معلوم عند اللّه تعالى، و هو عزّ و جلّ لا يظلم زنة ذلك المقدار، و قد أثبتت العلوم الطبيعيّة المعاصرة الوزن لجميع الأشياء حتّى الهواء، و قد أشار القرآن الكريم إلى هذه النظرية قبل هذا بقرون كثيرة.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، على أنّ الأجر لا بد أن يكون عن استحقاق و على موضوع قابل مستعد، فإن ترتّب هذه الجملة على قوله تعالى: وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، يدلّ على أنّ موضوع استحقاق الأجر هو الحسنة التي يفعلها الإنسان، فاللّه تعالى يضاعفها، فتكون الحسنات المضاعفة هي موضوع الأجر العظيم، و من ذلك يستفاد أنّ هذا الترتّب من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ على المقام العظيم للشهداء في يوم القيامة، و كمال هؤلاء الشهداء و علو مقامهم و تنزيههم عن المآثم، فإنّ الشهادة لا تكون إلا ممّن اجتمعت فيه شروط الشهادة، التي منها الإحاطة العلميّة لجميع أفراد أممهم و خصوصيات أعمالهم، و منها عصمتهم، و عدم صدور الذنب منهم، فإنّ المذنب لا يكون شاهدا على مذنب

ص: 210

آخر، و منها غير ذلك، و قد تقدّم أنّ الشهادة لا تكون إلا لمن اصطفاه اللّه تعالى لهذا المقام، و هم الأنبياء و الأوصياء.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً المنزلة المحمودة و المقام الكريم لسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ خاتم الأنبياء مضافا إلى كونه شاهدا على أمته، فهو شاهد على جميع الأنبياء و أممهم؛ لأنّ شريعته غاية التشريعات السماويّة، و مكمل الأديان الإلهيّة، فلا يليق هذا المقام إلا له و هو منحصر به.

السادس: يدلّ قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ على أنّ الإنسان إذا انقطعت عنه الحجّة و توصدت عليه الأبواب، يتمنّى أن يكون ترابا تطأه الأقدام فيغفل عنه الناس و يستولي عليه كلّ أحد، و لا يكون مثارا للسؤال و الجزاء المهين.

السابع: المراد من التسوية تسوية الكفّار الذين عصوا الرسول مع الأرض، بقرينة الآية الشريفة: وَ يَقُولُ اَلْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ، الآية: 40]، لا تسوية الأرض معهم، فإنّ ذلك لا يناسب المعنى و بعيد عن الآية الشريفة بالمرّة.

الثامن: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ ، أنّهم إنّما تمنّوا ذلك بأن تطمس نفوسهم و لا نقش فيها من العقائد الزائفة و الرذائل الموبقة، لتكون مستعدّة لفيض ذلك اليوم الذي يعمّ المؤمنين.

بحث روائي

في الدرّ المنثور عن ابن انس: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: إنّ اللّه لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا، و يجزي بها في الآخرة، و أمّا الكافر فيطعم بها في الدنيا، فإذا كان يوم القيامة لم تكن له حسنة».

ص: 211

أقول: أمثال هذه الرواية التي تدلّ على شرف المؤمن على غيره كثيرة، فإنّ آثار حسنات المؤمن تظهر في جميع العوالم - الدنيا و عالم البرزخ و يوم الجزاء - بل قد تؤثّر في الأعقاب أيضا لمكان إيمانه، بخلاف الكافر، فإنّ آثار حسناته إما تظهر في الدنيا فقط، أو في عالم البرزخ - كما في بعض الروايات - و أما في عالم الآخرة فإنّ حسناته لا تمنعه عن الدخول في النّار، لاختياره الكفر في هذه الدنيا، و المراد من النفي الوارد فيها ذلك. و قد توجب التخفيف عن العذاب، و هو في النّار و لا يخرج منه أبدا.

و في الدرّ المنثور أيضا في تفسير الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها عن ابن مسعود قال: «يؤتى بالعبد يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأوّلين و الآخرين: هذا فلان بن فلان، من كان له حقّ فليأت إلى حقّه، فيفرح و اللّه المرء أن يدور له الحقّ على والده أو ولده أو زوجته، فيأخذه منه و إن كان صغيرا، و مصداق ذلك في كتاب اللّه: فَإِذا نُفِخَ فِي اَلصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ ، فيقال له: ائت هؤلاء حقوقهم، فيقول: أي ربّ و من أين و قد ذهبت الدنيا؟ فيقول اللّه لملائكته: انظروا أعماله الصالحة و أعطوهم منها.

فإن بقي مثقال ذرّة من حسنة قالت الملائكة: يا ربّنا أعطينا كلّ ذي حقّ حقّه و بقي له مثقال ذرّة من حسنة، فيقول للملائكة: ضعفوها لعبدي و أدخلوه بفضل رحمتي الجنّة، و مصداق ذلك في كتاب اللّه: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً ، أي: الجنّة يعطيها. و إن فنيت حسناته و بقيت سيئاته قالت الملائكة: إلهنا فنيت حسناته و بقي طالبون كثيرون، فيقول اللّه: ضعفوا عليه من أوزارهم و اكتبوا له كتابا إلى النّار».

أقول: أمثال هذه الرواية كثيرة بين الفريقين، و أنّها تدلّ على امور:

الأوّل: أنّ الحقّ المذكور فيها من الحقوق الخلقيّة، سواء كان من قسم

ص: 212

المجاملي أو من غيره، و أما الحقوق الإلهيّة، فهي بينه سبحانه و تعالى و بين عبده، و يكون العبد مسئولا عنه حسب القوانين و الشرائع الإلهيّة المفصّلة في الفقه.

الثاني: لا بد و أن يكون الحقّ باقيا؛ لأنّ الحقوق مطلقا - خصوصا الخلقيّة منها - لا تسقط إلا بالتهاتر أو بالإسقاط، و الأداء و التهاتر إما في هذه الدنيا أو في يوم الجزاء بأخذ الحسنة ممّن عليه الحقّ ، كما في هذه الرواية و غيرها.

الثالث: مناسبة الحقّ مع الحسنة، فإنّ للحسنة مراتب كثيرة متفاوتة، و الحقّ أيضا له مراتب كذلك، فلا بد و أن تكون الحسنة تناسب الحقّ ، و تكون مثله.

الرابع: يستفاد منها أنّ تخفيف الوزر و حطّه عن من له الحقّ و وضعه على من عليه الحقّ ، جزاء لعمله نحو حسنة تعود إلى من له الحقّ .

في الكافي بإسناده، عن سماعة، عن الصادق عليه السّلام: في قول اللّه عزّ و جلّ :

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، نزلت في امة محمد خاصّة في كلّ قرن منهم إمام منا شاهد عليهم، و محمد صلّى اللّه عليه و آله في كلّ قرن شاهد علينا».

أقول: اختصاص الآية المباركة بامة محمد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها أشرف الأمم و أنّ الشهادة عليهم تستلزم الشهادة على غيرهم من الأمم السابقة.

و أما شهادته صلّى اللّه عليه و آله على الشهداء من الأئمة عليهم السّلام في كلّ قرن و زمان إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق، و إنّ ذلك لا ينافي كونه صلّى اللّه عليه و آله شاهدا على الأنبياء السابقين أيضا.

و في الاحتجاج: عن علي عليه السّلام في حديث يذكر فيه أحوال أهل الموقف:

«فيقام الرسل فيسألون عن تأدية الرسالات التي حملوها إلى أممهم، فأخبروا أنّهم قد أدّوا ذلك إلى أممهم، و تسأل الأمم فيجحدون، كما قال اللّه: فَلَنَسْئَلَنَّ اَلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ اَلْمُرْسَلِينَ ، فيقولون: ما جاءنا بشير و لا نذير،

ص: 213

فيستشهد الرسل رسول اللّه، فيشهد بصدق الرسل و يكذب من جحدهم من الأمم، فيقول لكلّ امة منهم: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، أي: مقتدر على شهادة جوارحكم عليكم بتبليغ الرسل إليكم رسالاتهم، و لذلك قال اللّه تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، فلا يستطيعون ردّ شهادته، خوفا من أن يختم اللّه على أفواههم و أن يشهد عليهم جوارحهم بما كانوا يعملون، و يشهد على منافقي قومه و أمته و كفّارهم، بالحادهم و عنادهم و نقضهم عهده و تغييرهم سنته و اعتدائهم على أهل بيته و انقلابهم على أعقابهم و ارتدادهم على أدبارهم و احتذائهم في ذلك سنّة من تقدمهم من الأمم الظالمة الخائنة لأنبيائها، فيقولون بأجمعهم: رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنّا قَوْماً ضالِّينَ ».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء قبل نطق جوارحهم، كما يدلّ عليه الآية الشريفة: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: 24]، و قبل شهادة الأنبياء، لأنّ ليوم الجزاء مواقف متعدّدة و مراحل كثيرة.

الثاني: أنّ جحود الأمم للأنبياء في يوم الجزاء إنّما يكون منشأه كفرهم باللّه العظيم في هذه الدنيا و رسوخ الملكات السيئة في نفوسهم الحاصلة من عنادهم و لجاجهم مع الأنبياء في الدنيا، و يدلّ على ذلك آيات شريفة و آيات كثيرة، يأتي التعرّض لها في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: استشهاد الأنبياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه أشرفهم و مكمّل رسالاتهم، و هو صلّى اللّه عليه و آله يعلم بما جرى في الأمم السالفة بوحي من اللّه عزّ و جلّ ، فيشهد بصدق الرسل و تأدية الرسالات، و يكذب من جحدها.

الرابع: يستفاد منها مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه تعالى، فإنّه له عند اللّه

ص: 214

المنزلة الرفيعة و المقام المحمود و الشأن الكبير، و لا يستطيع أحد ردّ شهادته خوفا من الفضيحة و العذاب، فيعترفون بالضلالة بعد شهادته صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدرّ المنثور عن البخاري و غيره، و عن البيهقي في الدلائل عن ابن مسعود قال: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقرأ عليّ ، قلت: يا رسول اللّه، أقرأ عليك و عليك انزل ؟! قال نعم، إنّي أحبّ أن أسمعه من غيري، فقرأت سورة النساء حتّى أتيت على هذه الآية: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، فقال: حسبك الآن، فإذا عينان تذرفان».

أقول: و قريب منه غيره، و لعلّ بكائه صلّى اللّه عليه و آله لأنّه شاهد على جميع الخلق، متّصف بمقام الشهادة، فهو المسؤول عنهم، فمقام مثل هذه الشهادة مقام خطير جدا و عظيم.

في تفسير العياشي عن أبي بصير: قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ؟ قال: يأتي النبي صلّى اللّه عليه و آله يوم القيامة من كلّ امة بشهيد يوصي نبيّها، و اوتي بك يا عليّ شهيدا على امتي يوم القيامة».

أقول: لا تنافي بين هذه الرواية و بين ما تقدّمت من الروايات، لما عرفت من أنّ الرسل و أوصيائهم يستشهدون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهو شهيد على جميع الخلائق بواسطة الرسل و الأوصياء.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام في صفة يوم القيامة: «تجمعون في موطن يستنطق فيه جميع الخلق، فلا يتكلم أحد إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ اَلرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً ، فيقام الرسل فيسأله، فذلك قوله لمحمد صلّى اللّه عليه و آله: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، و هو الشهيد على الشهداء، و الشهداء هم الرسل».

ص: 215

أقول: يستفاد من هذه الرواية تعدّد المنازل و المواطن في يوم القيامة، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شهيد على جميع الرسل و الشهداء، كما تقدّم.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا اَلرَّسُولَ لَوْ تُسَوّى بِهِمُ اَلْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اَللّهَ حَدِيثاً ، قال: «يتمنّى الذين غصبوا أمير المؤمنين عليه السّلام أن تكون الأرض ابتلعتهم في اليوم الذي اجتمعوا فيه على غصبه، و أن لم يكتموا ما قاله رسول اللّه فيه».

أقول: هذا من باب التطبيق، فإنّ غصبه عليه السّلام و عصيانه يكون من عصيان الرسول و الخروج عن طاعته.

و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام عن جدّه أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة يصف فيها هول يوم القيامة: «ختم على الأفواه فلا تكلّم، و تكلّمت الأيدي و شهدت الأرجل و أنطقت الجلود بما عملوا، فلا يكتمون اللّه حديثا».

أقول: معنى الرواية أنّ الخلائق يوم القيامة لا يكتمون اللّه حديثا تكوينا، أي: بجوارحهم، فإنّها تشهد عليهم، كما يأتي في الآيات الدالّة على ذلك.

و أخرج ابن أبي حاتم و الحاكم عن حذيفة قال: «أتي بعبد آتاه اللّه مالا فقال له: ماذا عملت في الدنيا - و لا يكتمون اللّه حديثا - فقال: ما عملت من شيء يا رب إلا أنّك آتيتني مالا فكنت أبايع الناس، و كان من خلقي أن أنظر المعسر، قال اللّه: أنا أحقّ بذلك منك، تجاوزوا عن عبدي، فقال أبو مسعود الأنصاري: هكذا سمعت من في رسول اللّه».

أقول: هذا من باب ذكر أحد المصاديق للآية الشريفة، و أنّ الروايات في فضل و ثواب إنظار المعسر كثيرة، و أنّ الجوارح كما تشهد بما صدر عنها من الأفعال السيئة، كذلك تشهد بالأفعال الحسنة الصادرة عنها، فإنّ شهادتها تعمّ .

ص: 216

بحث كلامي

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ صفات اللّه جلّ شأنه تنقسم إلى أقسام عديدة حسب اختلاف الوجوه و الاعتبارات:

فتارة: تنقسم إلى صفات الذات و صفات الفعل.

و اخرى: إلى الصفات العامّة كالخالقيّة، و الخاصّة كالفيوضات الخاصّة على أنواعها و أقسامها.

و ثالثة: تنقسم إلى الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و في هذا البحث يقع الكلام في القسم الأخير، أي الصفات الثبوتيّة و الصفات السلبيّة، و المراد بالأولى تلك الصفات التي تكون كمالا للمتّصف بها، و لا يستلزم من نسبتها إليه عزّ و جلّ نقص، فيجب حينئذ الاتّصاف بها، و هي كثيرة، كالعلم و الحياة و القدرة و نحو ذلك، و تسمّى بالصفات الجماليّة أو الكماليّة.

و المراد بالثانية هي تلك الأمور التي يمتنع ثبوتها لذاته المقدّسة، و تسمّى بالصفات الجلاليّة، أي: يجلّ و ينزّه تعالى عنها، و هي النواقص و لواحق الإمكان و كلّ صفة إذا استلزمت النسبة إليه عزّ و جلّ نقصا، و هي كثيرة و قد ورد جملة منها في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، مثل أنّه تعالى ليس بجسم، و لا بمكاني و لا زماني، و لا كيف له، و أنّه ليس بمتحرّك، و لا سكون له، و لا يرى، أي: لا تدركه الأبصار و غير ذلك، كما سيأتي في الموضع المناسب شرح ذلك كلّه. إلا أنّ البحث في المقام يقع في نفي الظلم عنه عزّ و جلّ ، كما دلّت عليه الآية التي تقدّم تفسيرها.

و قبل أن نتعرّض لذلك لا بد أن نشير إلى الصفات التنزيهيّة التي تجلّ ذاته الأقدس عن الاتصاف بها؛ للزوم النقص، هي غير البحث الذي أشار إليه الأئمة المعصومون عليهم السّلام، و هو أنّ الصفات الكماليّة التي يتّصف بها عزّ و جلّ لا يمكن

ص: 217

دركها بحقيقتها و كنهها، و لا يمكن أن يصل إليها عقول البشر، فاللّه تعالى عالم، أي: ليس بجاهل، لأنّ حقيقة علمه عزّ و جلّ لا يمكن دركها و لا تصل إليها فهم الإنسان، فإنّ ذلك في الصفات الكماليّة التي يجب أن يتصف بها الذات المقدّسة، و إلا استلزم النقص بالنسبة إليها، لا الصفات السلبيّة التي يجلّ أن يتصف بها.

ثم إنّه جلّت عظمته منزّه عن الظلم، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة، فمن الكتاب آيات عديدة، منها قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ اَلنّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ اَلنّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة يونس، الآية: 44]، و قوله تعالى: وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف، الآية: 49].

و منها: الآية التي تقدّم تفسيرها: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، و المستفاد من هذه الآية الشريفة امور:

الأوّل: أنّ عدم وقوع الظلم منه لا عن نقص في القدرة الأزليّة، بل لأجل أن حكمته اقتضت أن لا يظلم أحدا، و هذا هو معنى العبارة المعروفة: «إنّ اللّه لا يظلم لحكمة، لا لقدرة» كما تقدّم، فإنّ قدرته تامّة كاملة قد تعلّقت بجميع الأشياء حتّى الممتنعات، و لكن الحكمة الإلهيّة اقتضيت أن لا يفعل ذلك، و هو لا يفعل شيئا خلاف الحكمة، فإنّ الذي يقدر على مضاعفة الحسنات لقادر على سلبها عن صاحبها، و لكنّه لا يظلم أحدا.

الثاني: أنّ وقوع الظلم منه يستلزم الجهل، و هو منزّه عنه تعالى، فيرجع نفي الظلم عنه إلى علمه الأتم بحقائق الأشياء، و الظالم يجهلها فيظلم.

الثالث: استغناؤه عن الظلم، فلا غرض له يتعلّق به، و هو منزّه عنه؛ لأنّ اللّه تعالى يضاعف الحسنات و يعطي الأجر العظيم لمن استحقّه، فهو أجلّ من أن يسلبه عنه.

ثم إنّ نفي الظالم عنه تعالى لا يثبت العدل له جلّت عظمته، بخلاف العكس كما هو واضح.

ص: 218

بحث عرفاني

تقدّم في احد مباحثنا السابقة أنّ مقام الشهادة من أجلّ المقامات و أرفعها، و لذا اختصّ به الأنبياء العظام و أوصياؤهم، و هي تختلف حسب اختلاف الأمم، و حسب المشهود عليهم، و أفضلها شهادة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فهو الشهيد على جميع الخلق في أعمالهم و معتقداتهم، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً ، و إنّما يكون شهيدا إذا حضر عنده الخلق؛ لأنّ الشهود من الحضور فلا بد و أن تكون الحقائق حاضرة عند الشاهد و يكون مطلعا عليها مراقبا لأوضاعها و حالاتها، و لا يصل الشاهد إلى هذه المرتبة إلا إذا كان مراقبا لنفسه و مطّلعا على أحوالها يجاهد على إصلاحها، و يطلب بذلك مرضاة اللّه تعالى و محبّته، و لا يرى شيئا إلا و يرى اللّه حاضرا عنده، كما عن سيد العارفين أمير المؤمنين عليه السّلام، فيصل الشاهد إلى مرتبة يحضر لديه كلّ أحد و يظهر له معتقده و يكشف عن حاله، و لا ينال هذه المرتبة إلا المخلصون من عباده تعالى، الذين استثناهم إبليس من غوايته، فتختصّ بالأنبياء و الأولياء عليهم السّلام و من حذى حذوهم من الأبرار و الصلحاء.

و أما شهود الحضرة المحمديّة على الخلق جميعا، فلأنّه خاتم الأنبياء الشاهدين على أممهم، بل هو العلّة الغائيّة للعالم، و أنّه الواصل إلى مرتبة حبيب اللّه و الفناء فيه عزّ و جلّ ، فلا بد أن يحضر الخلق لديه و تظهر معتقداتهم عنده.

و الظاهر أنّ الاستفهام في الآية الشريفة لأجل استبعادهم أن يكون صلّى اللّه عليه و آله شهيدا يشهد على أعمالهم و سرائرهم، و هو من أفراد الإنسان، و يكون مطّلعا على جميع حالاتهم، و قد تفانوا في طلب الدنيا و جبلت قلوبهم على حبّها و استحكمت الملكات الرذيلة في قلوبهم، و الآية المباركة تخبرهم على تحقّق الشهادة، و أنّها واقعة لا محيص عنها و لا شكّ فيها.

ص: 219

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ ع.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43) الآية الشريفة تذكر أهمّ شعيرة من شعائر الإسلام، و هي الصلاة و ما يتعلّق بها من الغسل و التيمم، و تتجلّى أهميّة هذه الشعيرة ذكرها في المقام بين جملة من الآيات التي أمرت بعبادة الإله الواحد الأحد، و الإنفاق في سبيله، و التنديد بأعداء لا إله إلا اللّه من اليهود و النصارى و المشركين و المنافقين، حيث صوّرت حالهم في الدنيا و خسرانهم في الآخرة، ثم يذكر عزّ و جلّ في الآيات اللاحقة أحوال اليهود و طباعهم، فتتجلّى أهمية هذه الآية المباركة من بين هذه الآيات المترابطة المتّحدة في السياق.

و من دأب القرآن الكريم أنّه إذا كان أمر بمكان من أهمية أن يذكره في ضمن آيات مترابطة المضمون و متّحدة في السياق، و يدسّه فيه ليتوجّه ذهن السامع إليه و يجلب مشاعره، و مثل ذلك كثير.

على أنّ القرآن إنّما نزل لتكميل الإنسان و هدايته إلى الطريق المستقيم، و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الأمور التي لها ارتباط بذلك.

و في هذه الآية الشريفة ذكر أمرا آخرا منها، و عقّب بالأمر بعبادة اللّه الواحد و نبذ الشرك بهذه الآية، لبيان أنّ هذه العبادة إنّما تتحقّق في هذه الشعيرة و ما يشرّعه عزّ و جلّ ، لا ما يصنعه الإنسان من عند نفسه.

و قد تضمّنت الآية المباركة أحكام الجنابة و الغسل و رخصة التيمم للمريض و في السفر، و في حالة عدم وجدان الماء، و هي بجملتها لها ارتباط

ص: 220

بشعيرة الصلاة و التوجّه إلى عبادة اللّه تعالى بالتطهير من الخبائث و ما يوجب البعد عن مقام الأحديّة عند الوقوف بين يديه عزّ و جلّ ، ليكون وسيلة للابتعاد عن أهوال يوم القيامة - ذلك اليوم الذي يتمنّى الكافر أن يسوى مع الأرض - و التقرّب إليه سبحانه و تعالى.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ذكرنا مرارا أنّ الخطابات القرآنيّة عامّة تشمل جميع أفراد الناس الموجودين حال الخطاب و غيرهم، كما أنّها تعمّ المؤمنين و غيرهم، إلا إذا دلّ على التخصيص، و هو مفقود في المقام.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ المؤمنين تشريفا لهم بالأهليّة للخطاب الربوبيّ ، و هم الفائزون بشرف العمل به. و للإرشاد بأنّ العمل بهذه التكاليف يوجب الاتصاف بصفة الإيمان.

و ذكر بعضهم: أنّ الخطاب في المقام إنّما هو للمؤمنين السكارى، و هم لا يعون الخطاب، فيكون مثل هذا دليلا على جواز التكليف المحال، و لكن فساد ذلك واضح، فإنّ الخطاب لا يستلزم وجود السكارى حاله، لما ثبت في الأصول أنّ صحّة الخطاب لا تدور مدار وجود المخاطبين، و لذا صحّ خطاب المعدومين و فاقدي الأهليّة و الشروط، فراجع (تهذيب الأصول).

و كيف كان، فهذا الخطاب المبدوء بحرف النداء و التنبيه يدلّ على أهميّة الحكم.

قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى .

القرب معروف، و هو الدنو من الشيء مقابل البعد، فهما يستعملان في الزمان و المكان، و في النسبة و القدرة و الرعاية و غيرها، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ [سورة الأنبياء، الآية: 1]، و قال تعالى: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [سورة الأحزاب، الآية: 63]، و قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و قال تعالى: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى [سورة النساء، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 56].

ص: 221

القرب معروف، و هو الدنو من الشيء مقابل البعد، فهما يستعملان في الزمان و المكان، و في النسبة و القدرة و الرعاية و غيرها، قال تعالى: اِقْتَرَبَ لِلنّاسِ حِسابُهُمْ [سورة الأنبياء، الآية: 1]، و قال تعالى: لَعَلَّ اَلسّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً [سورة الأحزاب، الآية: 63]، و قال تعالى: فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و قال تعالى: وَ إِذا حَضَرَ اَلْقِسْمَةَ أُولُوا اَلْقُرْبى [سورة النساء، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ اَلْوَرِيدِ [سورة ق، الآية: 16]، و قال تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اَللّهِ قَرِيبٌ مِنَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة الأعراف، الآية: 56].

و قرب العبد من اللّه تعالى قرب روحانيّ ، لا قرب جسمانيّ و لا مكانيّ ؛ لأنّ ذلك من صفات الأجسام و اللّه جلّ شأنه يتعالى عن ذلك و يتقدّس، كما أنّ قرب اللّه إلى العبد هو بالإفضال و الفيض عليه من مواهبه و ألطافه و الإحسان إليه و ترادف مننه عليه،

و في الحديث: «أن موسى عليه السّلام قال: إلهي أ قريب أنت فأناجيك ؟ أم بعيد أنت فأناديك ؟ فقال: لو قدرت لك البعد لما انتهيت إليه، و لو قدرت لك القرب لما اقتدرت عليه»،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله فيما ذكر عن اللّه تعالى في القدسيات: «من تقرّب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا»،

و قوله تعالى: «ما تقرّب إليّ عبد بمثل أداء ما افترضت عليه، و أنّه ليتقرّب إليّ بعد ذلك بالنوافل حتّى احبّه»، و معنى حبّه إزالة الأوساخ عنه و تحلّية بأكمل الصفات و أجلّها،

و في الحديث: «صفة هذه الامة في التوراة قربانهم دمائهم»، أي: يتقرّبون إلى اللّه تعالى بإراقة دمائهم في الجهاد، و في مرضاته جلّت عظمته.

و لا تقربوا (بفتح الراء) بمعنى لا تلبسوا بالصلاة، و (بضم الراء) بمعنى لا تدنوا، و الظاهر أنّهما متلازمان، و مثل هذا التعبير معروف في القرآن الكريم، و إنّما أتي به للتأكيد على احترام الصلاة و الاجتناب عنها في حال السكر بعدم القرب منها.

و النهي عن الصلاة في تلك الحال مستلزم للنهي عن مقدّماتها و مواضع الصلاة؛ لأنّه من أنحاء القرب منها، فإنّ القرب من الرحمن إنّما يكون بها. و حالة السكر دنوّ إلى الشيطان، فلا يمكن الجمع بينهما.

ص: 222

و الصلاة: هي الشعيرة المعروفة في الإسلام و من العبادات التي لم تنفكّ شريعة منها، و إن اختلفت صورها و شرائطها حسب شرع دون آخر، و قد اهتمّ بها الإسلام اهتماما بليغا و حثّ على إقامتها.

و سكارى: (بضم السين) جمع السكران، مثل كسالى و كسلان، و السكر خلاف الصحو، و هو حالة تعتري على الإنسان تفصل بين المرء و عقله، فتعبث بشعوره و يخرجه عن الاستقامة الطبيعيّة، فلا يعلم ما يقول، كما ورد في قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

و قد يكون السكر من الهوى و العشق، و الأكثر ما يعتري على الإنسان من الشراب المخصوص المعتصر من العنب و غيره، قال الشاعر:

سكران سكر هوى و سكر مدام كما يعترى على الإنسان من شدّة النعاس و هو سكر النوم، و للسكر مراتب مختلفة شدّة و ضعفا، و كذا في سكرات الموت، قال تعالى: وَ جاءَتْ سَكْرَةُ اَلْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ [سورة ق، الآية: 19].

و المراد به في المقام هو المعنى العامّ ، و هي الحالة التي تستولي على الحواس الموجبة لعدم معرفة ما يقول - كما يدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي - فإنّ المصلّي لا بد له من حفظ صورة الصلاة و الالتفات إليها ليصونها عن الاختلاط في أفعالها و أقوالها و الذهول عنها، و هذا يستلزم أن يكون صحوا ذو التفات و شعور، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة، و يؤيّد ذلك

ما ورد عن الصادق عليه السّلام:

«من صلّى ركعتين يعلم ما يقول فيهما، انصرف و ليس بينه و بين اللّه عزّ و جلّ ذنب له إلا غفر له».

و على هذا، يشمل سكر النوم و السكر الحاصل من شرب الخمر بطريق أولى، فيكون نهيا عن الصلاة كسالى و في حالة الغفلة و الذهول. و قال بعضهم:

إنّه يختصّ بالسكر الحاصل من الخمر؛ لكثرة الاستعمال فيه.

ص: 223

و فيه: أنّ كثرة الاستعمال لا تمنع من إرادة المعنى العامّ ، خصوصا بملاحظة عموم التعليل حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

و على هذا، يظهر فساد القول بأنّ الآية الكريمة نزلت لتحريم الخمر في حالة خاصّة و هي الصلاة؛ لأنّ الخمر كانت من الأمور المتفشّية في المجتمع الجاهلي و في عصر نزول القرآن، و كانت ما تزال عالقة بقلوب بعض المؤمنين، و في مثل ذلك يحتاج إلى تدرّج طويل حتّى تمحى من النفوس.

و لكن ذلك تطويل بلا طائل تحته، إذ كم كانت من العادات السيئة العالقة في النفوس المستحكمة فيها قد ورد النهي الصريح عنها بلا إمهال و تدرّج، منها قضية الألوهيّة و الأخلاق الفاسدة و نكاح الأمهات و الربا، إلى غير ذلك من العادات السيئة و الصفات الذميمة، و الخمر أيضا كذلك، إلا أن يكون الخمر مختلفا عن غيرها، كما قاله بعضهم (من أنّ الخمر عادة نفسيّة و جسديّة و اجتماعيّة)، و لكن ذلك لا يكون سببا للفرق، فإنّ الكذب و سائر الفواحش أيضا كذلك إذا شاعت في المجتمع، و إنّما ورد النهي المكرّر عن الخمر بالخصوص؛ لأنّها ام الخبائث و السبب في إشاعة الفحشاء، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى:

يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما [سورة البقرة، الآية: 219] فراجع. و قد تكلّف بعض المفسّرين في تنظيم الآيات المباركة الواردة في الخمر و ربط بعضها ببعض.

و من ذلك يظهر بطلان ما ورد في شأن نزول هذه الآية الشريفة، خصوصا الروايات المدسوسة المزيّفة، و قد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه في تفسيره (آلاء الرحمن)، فراجع.

ثم إنّ بعض المفسّرين ذهب إلى أنّ المراد بالصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، مواضع الصلاة. أما بحذف المضاف، أو بارتكاب المجاز تسمية المحلّ باسم الحال، لكثرة وقوعها في المساجد، أو سمّي المسجد بذلك

ص: 224

تقريبا، كتسمية اليهود موضع عباداتهم «صلاة»، كما في قوله تعالى: وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ [سورة الحج، الآية: 40]، بقرينة قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ، و المقتضي لهذا التجوّز قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، فإنّه لو قال: (لا تقربوا المسجد و أنتم سكارى)، لم يستقم التعليل، أو أفاد فائدة اخرى غير مقصودة، و لخلوه عن شائبة التكرار.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر اللفظ، مع أنّه يستلزم أن يكون الأحكام الآتية للمسجد، و هو مضافا إلى كونه بعيدا في نفسه، يلزم النهي عن دخول الذي يجيء من الغائط إلى المساجد حتّى يطهّر بالماء، أو التراب إن لم يجد الماء، و هو خلاف الإجماع، فالمراد بالصلاة هي الشعيرة كما عرفت، فيكون النهي عن اجتنابها باجتناب القرب إليها، و من أنحاء القرب دخول المساجد.

و قوّى بعض العلماء من أصحابنا أن تكون الصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ على معناها الحقيقي، و في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ على معناه المجازي، أي: مواضعها، و عدّ ذلك من باب الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة، فإنّه عزّ و جلّ استخدم لفظ الصلاة لمعنيين، أحدهما إقامة الصلاة، بقرينة قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، و الآخر مواضع الصلاة بقرينه قوله: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ .

و هذا الاحتمال و إن كان لا بأس به إلا أنّه خلاف الاستخدام المعروف في العلوم الأدبيّة، فإنّ الاستخدام هو أن يؤتى بلفظ له معنيان حقيقيان أو مجازيان أو مختلفان يراد به أحدهما، و من الضمير العائد إليه المعنى الآخر، أو يعاد إليه ضميران، يراد من الثاني غير المعنى الذي أريد من الأوّل، و ما ذكره من الاستخدام غيره كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّه خلاف ظاهر الآية المباركة، فالحقّ ما ذكرناه.

و الآية الشريفة بإيجازها البليغ تضمّنت النهي عن الصلاة حال السكر

ص: 225

و تأثير النوم أو الخمر في الإنسان، بحيث أوجب إذهاب الحالة الاعتياديّة عنه كما تضمّنت حكم الدخول في المساجد حال السكر و حال الجنابة؛ لأنّ النهي عن قربان الصلاة يستلزم النهي عن دخول المسجد؛ لأنّه من أنحاء القرب.

قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ .

تعليل للنهي و غايته، و بيان لمعنى السكر أيضا. أي: إنّما نهيتهم عن الصلاة في هذه الحالة؛ لأنّ السكران لا يعلم ما يقول، فإنّكم في حال الصلاة تواجهون مقام الكبرياء و العظمة، و تخاطبون الربّ الرؤف و الصلاة إنّما يطلب بها التقرّب و الطاعة، فلا بد من حفظ حدودها و التدبّر في أفعالها و أقوالها و أذكارها، و الإقبال بها مع الخضوع و الخشوع و التوسّل بها، لرفع الدرجات و قضاء الحوائج، فكيف يؤتى بها مع السكر و الطيش و الذهول و الغفلة و ما يوجب بطلان القول، فلا تعلمون ما تقولون في حالة السكر، فلا يصلح لكم أن تقربوا بشيء من الصلاة أو مطلق العبادات في حالة السكر، و النهي عن قرب الصلاة يلازم النهي عن مواضعها، فإنّه من أنحاء القرب كما عرفت، و أنّ ذلك من تعظيم شعائر اللّه تعالى.

و الآية الشريفة تعليل للنهي عن مقاربة ما يوجب السكر، سواء كان نوما أم خمرا، بحيث يبقى أثره حين دخول الصلاة، فلا يعي ما يقول، و النهي مغيى ب: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، و إنّما ذكر عزّ و جلّ : ما تَقُولُونَ ليشمل أقوال الصلاة من القراءة و الذكر و غيرها.

قوله تعالى: وَ لا جُنُباً .

عطف على محلّ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، أي: سكرانين، على ما سيأتي في البحث الأدبي، و الجنب من أصابته الجنابة. و الاسم الجنابة، و هي في الأصل البعد، و يستوي فيها المذكّر و المؤنّث و المفرد و التثنية و الجمع؛ لجريانه مجرى المصدر، كالبعد و القرب. و قد ذكر بعض أهل اللغة أنّه يثنى و يجمع، فيقال: جنبان

ص: 226

و أجناب و جنوب. و هو من المجانبة، أي: المباعدة، كما عرفت في قوله تعالى:

وَ اَلْجارِ اَلْجُنُبِ . و الجنابة في الشرع تحصل بالجماع، سواء خرج مني أم لا، و بخروج المني سواء كان بالدخول أم بغيره، و لها أحكام كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة، فراجع (مهذب الأحكام)،

و في الحديث: «إنّا معاشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه جنب»، و لعلّ المراد منه: من يترك الغسل و يكون أكثر أوقاته جنبا، و هذا يدلّ على قلّة دينه، و المراد من الملائكة غير الحفظة، أي: ملائكة الرحمة و الخير.

و تكرار النهي وَ لا جُنُباً لبيان أنّ المنهي كلّ واحد من الحالين لا مجموعهما، و النهي عن الصلاة في حال الجنابة مغيّى إلى الغسل، أي: لا تقربوا الصلاة حتّى تغتسلوا، إلا أن تكونوا مسافرين و لم تجدوا ماء في السفر فتيمّموا.

قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ .

مادة (عبر) تدلّ على المرور و التجاوز من حال إلى حال، يقال: عبرت الطريق إذا جاوزته و قطعته من جانب إلى جانب، و المعبر ما يعبر به أو عليه من سفينة أو قنطرة و نحوها.

و السبيل: الطريق، و عابر السبيل مار الطريق، و قد يراد به المسافر، و الاستثناء من عموم أحوال المصلّين و انتصابه على الحال.

و قد اختلفوا في المراد من الآية الشريفة على أقوال:

الأول: أنّ المراد منها المسافر، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال حتّى تغتسلوا، إلا إذا كنتم مسافرين و أصابتكم الجنابة، فإن لم تجدوا ماء فتيمّموا، و نسب هذا القول في المجمع إلى عليّ عليه السّلام و ابن عباس، و هذه النسبة لم نجدها في أحاديث الإماميّة إلا ما رواه في الدرّ المنثور عن علي عليه السّلام. و يضعف هذا القول - مضافا إلى أنّه يستلزم التكرار، فإنّه تعالى بيّن حكم الجنب العادم للماء في آخر الآية المباركة - أنّ تخصيص الاستثناء بالسفر يحتاج إلى دليل و هو

ص: 227

مفقود، فإنّ ظاهر عبور السبيل هو الأعمّ من السفر، بل و حمله عليه بعيد عن سياق الآية الشريفة.

الثاني: المراد من الاستثناء هو المرور في المسجد، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا في المساجد و غيرها، و لا يجوز دخول الجنب المساجد إلا عابر السبيل، أي: مارّا بها، فيستفاد منه جواز عبور الجنب في المساجد و حرمة لبثه فيها، و ذهب إلى هذا القول جمع كثير، و يدلّ عليه جملة من الروايات - كما سيأتي نقلها في البحث الروائي - و إنّ المتبادر من ظاهر الآية الشريفة النهي عن قرب الصلاة، و من مناهي القرب هو الدخول في المسجد لشدّة ارتباط الصلاة به، فالنهي عنها نهي عن الدخول في المساجد، فيدلّ الاستثناء على النهي عن الصلاة في حالة الجنابة بالمطابقة، و على النهي في الدخول في المساجد بالالتزام، و هذا الأسلوب شائع في القرآن الكريم.

و قد تقدّم أنّ بعض الأعلام حمل لفظ «الصلاة» في الآية الشريفة على ضرب من الاستخدام، فجعل لفظ الصلاة في قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ على المعنى الحقيقي، و في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ على المعنى المجازي، أي: مواضع الصلاة.

الثالث: ذكر بعضهم أنّ «إلا» في الآية المباركة تحمل على الوصفيّة، لتكون بمعنى (غير) صفة لجنبا، أي: جنبا غير عابري سبيل، بأن يكونوا لابثين، فيكون المنهي عنه - و هو قرب الصلاة في حالة الجنابة - مقيّدا بالإقامة، فيستفاد منه أنّ قربانها حال الجنابة مع عدم الاقامة غير منهي عنه.

و يردّ عليه أنّ الحمل على الوصفيّة إنّما يصحّ إذا تعذّر الحمل على الاستثناء، و لا تعذّر هنا، لعموم النكرة في سياق النهي.

قوله تعالى: حَتَّى تَغْتَسِلُوا .

غاية للنهي عن قربان الصلاة حال الجنابة. و المراد بالاغتسال هو غسل

ص: 228

الجنابة بالشروط المعروفة المذكورة في كتب الفقه، أي: لا تقربوا الصلاة جنبا حتّى تغتسلوا، إلا أن تكونوا عابري سبيل.

و إنّما قدم لبيان أنّ الحكم حال الجنابة ليس على الإطلاق، كما في صورة السكر، و للإعلام بكفاية الاغتسال في الدخول في الصلاة و في المساجد.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى .

تفصيل بعد إجمال في الاستثناء، و بيان الحكم لأصحاب الأعذار بعد ذكر حكم الواجدين للشرائط، فشرّع اللّه تبارك و تعالى الطهارة الترابية (التيمم) في الحدث الأكبر و الأصغر لإباحة الدخول في الصلاة بدلا عن الطهارة المائيّة.

و المرض: معروف، و هو خروج الجسم أو المزاج عن الاعتدال، و هو على قسمين:

الأول: المرض الجسمي، أي: العارض على الجسم أو المزاج، كما في قوله تعالى: فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة، الآية: 184]، و قوله تعالى: وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ [سورة النور، الآية: 61].

الثاني: ما يخصّ القلب و يستقر فيه، كالجهل و الجبن و البخل و النفاق و غيرها من الرذائل الخلقية و الصفات السيئة المانعة عن ادراك الفضائل و تحصيل السعادة الدنيويّة و الاخرويّة، كالمرض الجسمي المانع عن التصرّفات و الأعمال التي تستقر الحياة عليها، قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة، الآية: 10]، و قيّد هذا القسم في القرآن الكريم بالقلب دائما، لاستقراره فيه كما مرّ، و أما قوله تعالى: وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [سورة الشعراء، الآية: 80]، فهو في غير المعصومين أعمّ من المرض الجسمي و القلبي، و فيهم يختصّ بالجسمي فقط.

و المنساق من الآية الكريمة هو القسم الأوّل منه، و إطلاقها يشمل كلّ مرض، إلا أنّه مقيّد بالمرض الذي يمنع من استعمال الماء معه، إما لأنّه يوجب

ص: 229

شدّة المرض أو زيادته أو بطء البرء منه، أو ما يكون سببا للعجز عن تحصيل الماء.

و بعبارة اخرى: ما يكون موجبا للمنع من استعمال الماء، إما بتعذّر استعماله، أو بتعذّر الوصول إليه.

و أما المرض اليسير الذي ليس فيه كلفة و لا مشقّة، و لا يكون سببا للحرج كالصداع و وجع السنّ و نحوهما، فلا يكون عذرا، و التفصيل مذكور في كتب الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

أي: و إن كنتم على سفر، و المراد به المعنى اللغوي، و إطلاقه أيضا يشمل كلّ سفر قصير أو طويل، سفر معصية كان أم طاعة، و لكن التنكير فيه يوجب تقييده بالسفر الذي لا يحصل لكم فيه الماء، فإنّ الغالب عدم وجدان الماء في السفر، و يدلّ عليه أيضا هذا التعبير: (على سفر) بدلا عن مسافرين و نحوه، فإنّ الأول أوضح في المقصود.

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ .

عذر آخر من الأعذار المبيحة للطهارة الترابيّة، و حالة اخرى مقتضية لها، و هي حصول الحدث الأصغر.

و الغائط: الموضع المنخفض و المطمئن من الأرض، و يقصد عند قضاء الحاجة و التخلّي، لأنّه استر له، و صار اللفظ كناية عن الحدث الأصغر الخارج عن أحد السبيلين، و المجيء من الغائط، كناية عن حصول الحدث.

و في التعبير ب: أَحَدٌ على التنكير و الإبهام، إيماء بأن الإنسان يتفرّد عند قضاء الحاجة، و هذا من أدب القرآن الكريم حفظا للحشمة.

و لا يختصّ هذا العذر أو الحالة بالسفر أو بالحضر، بل يشمل كلا الحالين، و لذا قال بعضهم إن أَوْ هنا بمعنى الواو، و لكن الظاهر أنّه بمعنى التقسيم و التنويع لبيان مطلق الأعذار و الأحداث.

ص: 230

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ .

المسّ في القرآن الكريم يكنّى به عن الجماع مطلقا، أو ما يستهجن التصريح به، و لذا قال بعضهم: إنّه كناية عن الحدث الأكبر.

و المسّ و اللمس بمعنى واحد إلا أنّ الثاني أقرب في الكناية عن الجماع، لأنّ الملامسة مفاعلة من اللمس بقصد الإحساس و التلذّذ في مباشرة الرجل و المرأة.

و ذكر هذا بعد الجنابة من باب النصّ بالخاصّ بعد العموم، لبيان أنّ الجنابة الاختياريّة الحاصلة من مقاربة النساء، كالجنابة غير الاختياريّة، توجب الرخصة للتيمم، فلا يتوهّم أحد بعدم الدخول فيه.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً .

عطف على وَ إِنْ كُنْتُمْ ، لبيان أنّ السبب في الجميع هو عدم التمكّن من الطهارة بالماء، سواء عدم أو وجد و لم يتمكّن من استعماله، فإنّ الممنوع عنه كفاقده، فهو غير موجود بالنسبة إليه.

و المعنى: إن لم تجدوا ماء لتستعملوه في رفع الحدث الأصغر أو الحدث الأكبر فتيمّموا. و احتمل بعضهم أن يكون المراد من عدم الوجدان فقده، لا ما يشمل عدم التمكّن من استعماله للتبادر، و يدخل فيه بعض أفراد المريض الذي يكون ممنوعا عن استعمال الماء.

و لعلّ التعبير بالفاء للإشعار بالتعميم و إيماء إلى أنّ المعتبر في عدم الوجدان إنّما هو بعد حصول هذه الأسباب.

قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .

جواب الشرط في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى ، و مادة (ي م م) تدلّ على القصد، يقال: تيمّمت الشيء قصدته، و تيمّمته برمحي و سهمي، أي: قصدته دون من سواه، قال الأعمش:

تيممت قيسا و كم دونه *** من الأرض من مهمة ذي شزن

ص: 231

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ثلاثة موارد، أحدها المقام، و مثله في آية (6) من سورة المائدة، و الثالثة في سورة البقرة، قال تعالى: وَ لا تَيَمَّمُوا اَلْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ [سورة البقرة، الآية: 267]، و في الشرع هو اسم للطهارة الترابيّة المعروفة - أي: ضرب الكفّين على الأرض و مسح الوجه بها و اليدين - لاستباحة الدخول في ما هو مشروط بالطهارة، تقرّبا إليه تعالى.

و مادة (ص ع د) تدلّ على الارتفاع و العلو، و منه وجه الأرض، لأنّه نهاية ما يصعد إليه من باطن الأرض، أو لصعوده و ارتفاعه فوق الأرض، فيشمل التراب و الحجر، قال تعالى: فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً [سورة الكهف، الآية: 40]، أي: أرضا ملساء، و قال تعالى: وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 8]، أي: أرضا غليظة لا نبت عليهان

و في الحديث: «يحشر الناس في صعيد واحد»، أي: في أرض واحدة ملساء لا نبت فيها.

و نقل عن الزجاج أنّه قال: «لا اعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض، سواء كان عليه تراب أو لم يكن»، و نقل المحقّق في المعتبر عن الخليل عن ابن الأعرابي ذلك أيضا، و يدلّ عليه أيضا

الحديث المعروف بين المسلمين عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا»، و المراد به هو وجه الأرض، فلا يشمل المعادن و غيرها، و المسألة محرّرة في كتب الفقه، فراجع (مهذب الأحكام).

و جمع الصعيد صعدات، كطريق و طرقات، و قيل: صعد، كطريق و طرق،

و في الحديث: «إياكم و القعود بالصعدات»، و هي فناء باب الدار و ممرّ الناس.

و الطيب معروف، و هو الخالص عمّا يستخبث و يكره، أي: ما تستلذّه النفس أو الحواس، و قد وردت هذه الكلمة في ما يزيد على خمسين موردا في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، و قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ [سورة آل عمران، الآية: 179]، و غير ذلك من الآيات الشريفة،

ص: 232

و الطيب معروف، و هو الخالص عمّا يستخبث و يكره، أي: ما تستلذّه النفس أو الحواس، و قد وردت هذه الكلمة في ما يزيد على خمسين موردا في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ اَلْبَلَدُ اَلطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [سورة الأعراف، الآية: 58]، و قال تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ اَلْكَلِمُ اَلطَّيِّبُ وَ اَلْعَمَلُ اَلصّالِحُ يَرْفَعُهُ [سورة فاطر، الآية: 10]، و قال تعالى: ما كانَ اَللّهُ لِيَذَرَ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتّى يَمِيزَ اَلْخَبِيثَ مِنَ اَلطَّيِّبِ [سورة آل عمران، الآية: 179]، و غير ذلك من الآيات الشريفة،

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في شأن عمّار ابن ياسر: «مرحبا بالطيب المطيب»، أي: الخالص من ظلمات الجهل و الفسق و قبائح الأعمال و المتحلّي بالعلم و الإيمان و محاسن الأعمال، كما قال تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [سورة الزمر، الآية: 73].

و المراد به في المقام الطاهر و الحلال، كما فصّل في الكتب الفقهيّة.

و المعنى: فاقصدوا شيئا من الصعيد طاهرا حلالا، خاليا عمّا يستخبث و يستقذر.

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ .

بيان للتميم الشرعي، و المسح عبارة اخرى عن جرّ اليد على الممسوح، و الأيدي جمع يد، و تطلق على جميعها و على بعضها كما في المقام.

و يستفاد من هذه الآية المباركة امور:

الأول: النيّة لما يستفاد من لفظ التيمم الدالّ على القصد، و يدلّ عليه

قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثاني: وضع اليدين معا على ما يصحّ التيمم عليه، لإطلاق الآية الشريفة، و تدلّ عليه بعض الروايات.

و قيل: إنّه يعتبر الوضع المشتمل على الاعتماد؛ لأنّ المستفاد من الضرب الوارد في الروايات ذلك، و يدلّ عليه بعض الروايات أيضا، و يمكن تقييد إطلاق الآية الكريمة بها.

و لا يشترط العلوق لإطلاق الآية الشريفة و خلوها عن التقييد، و أما قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ [سورة

ص: 233

المائدة، الآية: 6]، فهو و إن وردت فيه لفظة (من)، لكنّها ابتدائيّة لا تبعيضيّة، و يمكن إرجاع الضمير في (منه) إلى التيمم المستفاد من سوق الكلام.

الثالث: أنّ الماسح هما اليدان؛ لأنّ المستفاد من المسح أن يكون ماسح و ممسوح، و لما ورد الممسوح في الآية المباركة، فالماسح هو باطن الكفّين.

الرابع: أنّ الممسوح هما الوجه و اليدان؛ لأنّ التيمم قائم مقام الوضوء، فإذا وضع الشارع الوضوء عن صاحب الأعذار المعروفة المتقدّمة، أثبت بعض الغسل مسحا.

الخامس: أن يكون المسح ببعض الوجوه و الأيدي لمكان الباء.

السادس: أن يكون مسح اليدين على ظاهر الكفّين وحدّهما الزندين، لدلالة ظاهر الآية الشريفة، و تدلّ عليه بعض الروايات.

السابع: الترتيب بين الضرب على الأرض ثم مسح الوجه ثم اليمنى و بعده اليسرى، و يدلّ عليه سياق الآية الشريفة الدالّ على الترتيب، كما تدلّ عليه ظواهر النصوص أيضا.

الثامن: الموالاة، و هي المتابعة بين الأفعال الظاهر الآية الشريفة.

التاسع: كفاية التيمم عن الوضوء و جميع الأغسال، و أنّه يستباح به كلّما يستباح بالطهارة المائيّة، لمكان البدليّة بينهما، و في الحديث: «ربّ الصعيد ربّ الماء».

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً .

تعليل لما ورد من التكاليف و تقرير للترخيص و التسهيل فيها، أي: أنّ اللّه تعالى كثير الصفح و التجاوز، كثير المغفرة و الستر على ذنوب عباده، فهو الرحيم ذو الفضل عليكم الميسّر لكم حين أجاز لكم التراب مكان الماء، فلم يشدّد عليكم كما شدّد على غيركم من الأمم السابقة.

ص: 234

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ ، أبلغ من أن تقول: «لا تصلّوا» و غيره، لأنّه يشمل الغشيان و التلبّس بالفعل و جميع أنحاء القرب و الدنو منه، و منها الدخول في مواضع الصلاة و مقدّماتها كما عرفت في التفسير، و قد ورد مثل هذه العبارة في غير المقام، مثل قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ [سورة الاسراء، الآية: 24]، و قوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا اَلْفَواحِشَ [سورة الأنعام، الآية: 151]، لبيان شدّة النكير و عظمة الأمر.

و قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ سُكارى ، جملة اسميّة مركّبة من المبتدأ و الخبر حاليّة، و الواو فيها لبيان الحال، و إنّما أتي بالجملة الاسميّة في ضمن النهي حالا، استلفاتا إلى المنافاة للفعل المنهي عنه مع مضمون الكلام، و احتجاجا لحكمة النهي، فكأنّه قيل: إنّ الصلاة المطلوب فيها الطاعة و الإقبال بها على اللّه تعالى في الخضوع له عزّ و جلّ و التدبّر في أقوالها و أذكارها و التوسّل بدعائها، ينافي إتيانها مع السكر و ذهوله و غفلته، و نظير المقام قوله تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 22]، و قوله تعالى: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي اَلْمَساجِدِ [سورة البقرة، الآية: 187]، فإنّ المطلوب من الاعتكاف هو الانقطاع إلى اللّه تعالى في المساجد و الابتعاد عن التلذّذ، فينافي التلذّذ مباشرة النساء، و كذا قوله تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 95]، فإنّ الإحرام حبس النفس على الطاعة و ترويضها على الاجتناب عن المحرّمات، بل عن كثير من المباحات، فهو ينافي طلب الصيد و قتله؛ و لذا نرى أنّ هذه المنافاة لما كانت غير ظاهرة في الجنابة، و إنّما فرض

ص: 235

الشارع الطهارة في الصلاة تعبّدا، فاختلف التعبير في الموردين، فكان الحال مفردا في قوله تعالى: وَ لا جُنُباً ، فالواو فيه عاطفة، و «لا» نافية، و إنّما أتى بها لبيان دخول الثاني في حيز النهي للإفادة بأن المنفي كلّ واحد من الحالين، لا مجموعهما.

و (عابري) في قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ منصوب على الحاليّة قد حذف النون لأجل الإضافة، أي: لا يجوز لكم الدخول في المساجد إلا حال كونكم عابري سبيل و مجتازين فيها.

و تدلّ الجملة على مضمونها بالمطابقة، و على المستثنى منه بالالتزام.

و (لامستم) في قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فعل ماضي، يلامس و لمس فعل ماضي يلمس.

و الالتفات من الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ مبالغة في الحشمة - و هو من أبدع الأساليب - كراهيّة إسناد ذلك إلى المخاطبين، يضاف إلى ذلك لفظ التغليب بقوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ ، و هو من أحسن الكلام و أطيبه.

و الغائط مفرد، و جمعه غيطان أو أغواط،

و في الحديث في قصة نوح عليه السّلام:

«و انسدت ينابيع الغوط الأكبر و أبواب السماء»، و منه غوطة دمشق، و قرأ بعضهم (من الغيط) بفتح الغين و سكون الياء، و هو مصدر يغوط، و القياس أن يكون غوطا قلبت الواو ياء و سكنت و انفتح ما قبلها لخفتها.

و قيل: إنّه تخفيف غيط، كهين و هيّن.

و (صعيدا) في قوله تعالى: صَعِيداً طَيِّباً إما منصوب بنزع الخافض، أي: فتيمّموا بصعيد، أو على أنّه مفعول به.

ص: 236

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى على أنّ السبب في النهي عن قربان الصلاة جهتان، حدث النوم و سكره، و أنّكم لا تعلمون ما تقولون. و لا تقربوا المساجد التي هي مواضع الصلاة جنبا إلا مرورا.

و أما إذا كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لامستم النساء، فإن وجدتم الماء فتطهّروا بالطهارة المائيّة، و إن لم تجدوا فتيمّموا صعيدا طيبا، و قد شرحت السنّة الشريفة كيفيّة التيمم شرحا وافيا.

الثاني: يستفاد من الآية الشريفة مانعيّة حدث النوم و البول و الغائط و الجماع و الجنابة عن الصلاة، بأبلغ بيان و أخصره.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ أنّ المراد بالكسر مطلق ما يوجب عدم الالتفات إلى الصلاة و الغفلة عنها، و لا اختصاص له بالسكر الاصطلاحي.

كما أنّ المراد من الصلاة مطلقها، واجبة كانت أو مندوبة.

الرابع: إنّما خصّ سبحانه و تعالى القول: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ؛ لأنّ أوّل ما يظهر عليه من آثار السكر هو القول، و أما الفعل فقد يحدث عن عادة مستمرة.

الخامس: يمكن أن يكون قوله تعالى: حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ إرشادا إلى لزوم التطهير ظاهرا و باطنا، أي: تتطهّروا فتلتفتوا إلى ما تقولون.

ص: 237

بحث عرفاني

الصلاة عبادة روحانيّة و تزكية نفسانيّة، و من أهمّ طرق المناجاة مع اللّه سبحانه و تعالى، و قد ورد في القرآن الكريم في فضلها الآيات الكثيرة، قال تعالى:

إِنَّ اَلصَّلاةَ تَنْهى عَنِ اَلْفَحْشاءِ وَ اَلْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت، الآية: 45]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه الأعظم: قُلْ لِعِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناهُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 31]، فلا بد لمن يريد التقرّب إلى مقام الحضور و المناجاة مع الحضرة الأحديّة أن يتنزّه عن كلّ ما يوجب البعد عنه عزّ و جلّ .

و الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها تشمل على الأجزاء الجامعة لها و الأسباب المانعة عنها، و بهما تتمّ الجهات و تتحقّق المقاصد، و لما كانت الصلاة معراج المؤمن، فلا بد أن تكون جامعة على جهات القرب و المحبوبيّة و منزّهة عن الجهات المانعة.

و من تلك الجهات المانعة هو السكر و الغفلة و التفكّر في الدنيا و حبّها، و كلّ ما يشغل القلب بسوى الربّ ، فإنّ ذلك كلّها من الجهات المانعة و المبعدة عن ساحة الربّ الرؤوف الرحيم العالم بالأسرار و الخفايا. فالآية الكريمة تدلّ على كمال الاهتمام بالصلاة، حيث نهى عن قربانها مع أهمّ الجهات المانعة، و هي السكر و الغفلة.

ثم بيّن عزّ و جلّ أنّه لا بد من التنزّه عن القذارات الظاهريّة و المعنويّة و التطهير عنهما، و لا تجدون لذّة التقرّب و نعيم الحضور الا بالتطهير عنهما، إما بالغسل عن الأوساخ مع خلوص النيّة، أو الوضوء بما يوجب الصفاء و صدق الإرادة، أو بالتيمم من الأرض الطيبة البعيدة عن مساوئ الأخلاق و النزعات النفسانيّة، و إن كنتم مرضى بالانحراف عن الحقّ ، أو على سفر في طلب الدنيا، أو جاء أحد منكم من غائط تتبع الهوى و النزعات النفسانيّة، أو لامستم النساء

ص: 238

بملامستكم الأشغال الدنيويّة، و تباعدتم عن حظائر القدس بتوجيه قلبكم بالانس إلى غيره تعالى، فلم تجدوا ماء الحقيقة و صدق الإنابة، فتيمّموا بالانقطاع إليه و نبذ الصفات الدنيئة، فامسحوا بوجوهكم بالتوجّه إليه جلّ شأنه، و تمسّكوا بأيديكم بذيل كرمه، منقطعين إليه بعد نفض غبار الشهوة عن النفس و ترك الخصال السيئة، فإنّه يعفو عنكم بعد ما علم صدق إرادتكم بالرجوع إليه، و يغفر لكم بمحو آثار الشقوة عنكم، فإنّه رؤوف يريد سعادتكم، و لا تكونوا غافلين بسكر الدنيا عن الوصول إلى حضرته و الدنو من معرفته، فإنّه يتجلّى لعباده كما تجلّى لأنبيائه،

و في الحديث الشريف: «إن اللّه تعالى يتجلّى لعباده في صورة معتقدهم، فيعرفه كلّ واحد من أهل الملل و المذهب، ثم يتحوّل عن تلك الصورة فيتجلّى في صورة اخرى، فلا يعرفه إلا الموحدون الواصلون إلى حضرة الأحديّة من كلّ باب»، و للحديث شرح لطيف لو ظفرت على أهله لذكرته له، و الحمد للّه على كلّ حال، و اشكره على ما ألمّ بي، و لا حول و لا قوة إلا باللّه العليّ العظيم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن اسامة بن زيد الشحّام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

قول اللّه عزّ و جلّ : لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، فقال: سكر النوم».

أقول: و مثلها روايات كثيرة متواترة عن أئمة أهل البيت عليهم السّلام،

و في صحيح البخاري عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أنعس أحدكم و هو يصلّي فلينصرف؛ فليتمّ حتّى يعلم ما يقول، و عن ابن عباس في قوله تعالى:

وَ أَنْتُمْ سُكارى قال: «النعاس»، لأنّ ذلك مانع عن حضور القلب الذي هو روح العبادة و التوجّه إلى المعبود، و تشمل سكر الخمر بطريق أولى.

العياشي في تفسيره عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لا تقم إلى الصلاة

ص: 239

متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّها من خلل النفاق، فإنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا إلى الصلاة و هم سكارى، يعني: من النوم».

أقول: المراد من النفاق اختلاف القلب مع الجوارح، و عدم ميله و رغبته إلى العمل، فما ذكره عليه السّلام من الحالات تمنع عن توجّه القلب إليه تعالى.

نعم، للتوجّه مراتب كثيرة شدّة و ضعفا، يختلف عند الأشخاص حسب اختلاف معرفتهم و انقطاعهم إليه تعالى.

و في تفسير العياشي: عن الحلبي، عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ؟ يعني: سكر النوم، يقول: و بكم نعاس يمنعكم أن تعلموا ما تقولون في ركوعكم و سجودكم و تكبيركم، و ليس كما يصف كثير من الناس يزعمون أنّ المؤمن يسكر من الشراب، و المؤمن لا يشرب مسكرا و لا يسكر».

أقول: ما ذكره عليه السّلام محمول إما على الكلّ من المؤمنين، أو على الغالب الأكثر.

و في تفسير العياشي: عن محمد بن الفضل، عن أبي الحسن عليه السّلام في قول اللّه تعالى: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ ، قال: «هذا قبل أن تحرّم الخمر».

أقول: المراد من الحرمة فيه الحرمة الظاهريّة، و إلا فإنّ الخمر كانت محرّمة في جميع الشرائع الإلهيّة،

و في بعض الروايات: «ما بعث اللّه نبيّا إلا و قد حرّم الخمر»، مضافا إلى آية تحريم الخمر نزلت في مكّة؛ لأنّ سورة الأعراف مكيّة، و هذه الآية الكريمة: لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى مدنيّة.

و كيف كان، فتطبيق السكر على السكر الحاصل من الخمر من باب ذكر أحد المصاديق، كما مرّ.

و هناك روايات مزيّفة غير قابلة للاعتماد عليها ذكرها السيوطي في الدرّ

ص: 240

المنثور و تبعه بعض آخر، تنسب ما لا يليق بساحة سيد العرفاء و الأوصياء أمير المؤمنين عليه السّلام و لا ينبغي ذكرها و قد تكلّف مؤنة الردّ عليها شيخنا البلاغي قدس سرّه، و من شاء فليرجع إلى تفسيره الشريف.

و في الكافي بإسناده عن جميل قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الجنب يجلس في المساجد؟ قال: لا، و لكن يمرّ بها كلّها إلا المسجد الحرام و مسجد الرسول».

أقول: الرواية مطابقة للآية الكريمة، و عدم الاجتياز في المسجدين لشرفهما على غيرهما من المساجد و بيوت اللّه تعالى.

و عن الزمخشريّ في تفسيره: «روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يأذن أن يجلس في المسجد أو يمرّ به جنب إلا لعليّ ».

أقول: أمثال هذه الرواية كثير تدلّ على فضل أمير المؤمنين عليه السّلام و قدسيته و لعلّ جنابته عليه السّلام ليست كجنابة سائر الناس.

و في تفسير العياشي: عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «اللمس هو الجماع، و لكن اللّه ستّار يحبّ الستر، فلم يسم كما تسمّون».

أقول: تقدّم في التفسير ما يدلّ على ذلك.

و عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عمّار بن ياسر فقال: يا رسول اللّه، أجنبت الليلة و لم يكن معي ماء. قال: كيف صنعت ؟ قال:

طرحت ثيابي فتمعكّت. قال صلّى اللّه عليه و آله: صنعت كما يصنع الحمار، إنّما قال اللّه:

فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، قال: فضرب بيده الأرض ثم مسح إحداهما على الاخرى، ثم مسح يديه بجبينه ثم كفّيه، كلّ واحد منهما على الاخرى».

أقول: رواه البخاري و مسلم و النسائي و أبو داود على اختلاف يسير، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله علّم عمّار التيمّم عملا.

ص: 241

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة أحكام خاصّة تتعلّق بالجنابة و التيمم، و سائر الأعذار.

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى ، على بطلان الصلاة لو أتى بها في حال السكر من الخمر، و يجب عليه الإعادة في الوقت و القضاء في خارجه بعد شعوره. و لو كان المراد من السكر النعاس فالنهي إرشاد إلى عدم الكمال لو تحقّق سائر شرائط صحّتها، إلا إذا فقد الاختيار بسبب النعاس، بحيث لا يصلح ما يقول و لا يدرك ما يتلفّظ به، فتبطل الصلاة حينئذ.

كما تدلّ الآية المباركة على بطلان الصلاة حال الجنابة، و لا ترتفع الجنابة إلا بالغسل عند التمكّن من استعمال الماء أو التيممّ بدلا عنه، إلا إذا كان هناك عذر من مرض أو سفر أو نحو ذلك.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ ، على عدم جواز مكث الجنب في المساجد إلا إذا كان مجتازا فيها، فيجوز ما عدا المسجدين، كما دلّت عليه السنّة.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا ، أنّ التيمم بدل عن الماء في كلّ ما يشترط فيه الطهارة، فيستباح به كلّ ما يستباح بالطهارة المائيّة، و تدلّ على ذلك

جملة من الروايات، ففي بعضها: «انّ التراب أحد الطهورين».

و من ذلك يعلم أن ما ذكره فخر المحقّقين في الآية الكريمة من عدم جواز الطواف بالبيت للجنب المتيمم، بل و لا مكثه في شيء من المساجد و إن تيممّ تيمما مبيحا للصلاة؛ لأنّه عزّ و جلّ علّق دخول الجنب إلى المساجد على الإتيان

ص: 242

بالغسل مع وجود الماء و على التيمم مع العدم، فحمل الطواف و المكث على الصلاة في ذلك قياس لا نقول به.

غير صحيح؛ لأنّ الآية المباركة تبيّن حكم الصحيح غير المعذور مطلقا، فعيّن له الطهارة المائيّة، ثم بيّنت حكم المعذور فعيّن له التيمّم بدلا عنه، فيقوم البدل مقام المبدل عنه في جميع الأحكام، إلا ما خرج بالدليل، مع أنّ الشارع أباح للمتيمّم الدخول في الصلاة، فيدلّ على إباحته للدخول إلى المساجد بطريق أولى، و المسألة محرّرة في الكتب الفقهيّة، فراجع.

الرابع: قد ذكر سبحانه الجنابة و بيّن سببا واحدا لها في ذيل الآية المباركة، و هو ملامسة النساء، أي الجماع معهن مطلقا، و لها سبب ثان أيضا و هو نزول المني مطلقا في نوم و يقظة، سواء كان مع شهوة أم بدونها.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أنّ المناط في الرجوع إلى التيمم هو عدم وجدان الماء مطلقا، سواء كان من جهة العجز و عدم التمكّن من استعماله، أم كان من جهة فقده، أم كان من جهة حصول الضرر باستعماله، فيستفاد جميع موارد العذر المذكورة منه.

و يحتمل أن يكون المراد من عدم الوجود فقده و لا يشمل عدم التمكّن من استعماله، فحينئذ يستفاد بعض أفراد المعذورين من دليل آخر.

السادس: إطلاق الآية الكريمة يدلّ على كفاية الضربة الواحدة في التيمم، سواء كان بدلا عن الوضوء أم كان بدلا عن الغسل إلا أنّ بعض الروايات تدلّ على التعدّد في البدل عن الغسل.

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يدلّ على كفاية مطلق الضرب، سواء كان تعلّق باليد شيء من التراب أم لا، بل في بعض الروايات جواز النفض.

السابع: يستفاد من الآية الشريفة عدم احتياج غسل الجنابة إلى الوضوء؛ لأنّه جعل النهي عن قربان الصلاة مغيا بالغسل، فلو كان مفتقرا إلى الوضوء لوجب بيانه، و إلا كان بعض الغاية غاية، و هو باطل.

ص: 243

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيل.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ (44) وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً (45) مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (46) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً (47) تتضمّن الآيات الشريفة بعض أحوال أهل الكتاب و لا سيما اليهود، و تبيّن سوء أخلاقهم و مظالمهم و خيانتهم بالنسبة إلى دين اللّه تعالى و المؤمنين به، و التأليب عليهم.

و قد كان من دأب القرآن الكريم ذكر أحوال أعداء الدين و أقاصيصهم، لتنبيه المؤمنين من دخائل أنفسهم و دوافعهم الخبيثة الشريرة لحرب الدين و المؤمنين به.

و قد تعرّض عزّ و جلّ سابقا لجملة من أحوالهم لهذا الغرض، ثم ذكر أحكاما شرعيّة لبيان الدين الحقّ و تثبيت عزيمة المؤمنين به و تنشيط قواهم في مقاومة زيغ المبطلين و مكرهم و خيانتهم، و هذا من الأسلوب البديع الذي طالما يستعمله القرآن الكريم في تنشيط النفوس و إصلاحها، فإنّ الدين القويم يحتاج إلى معرفة السبل لدفع كيد المبطلين و خيانة أعدائه، كما يحتاج إلى معرفة حقائقه و معالمه، فهما أمران لا بد لهما في كلّ دين.

ص: 244

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ .

جملة مستأنفة لبيان سوء حال من اوتي نصيبا من الكتاب - و خاصّة اليهود الذين يدعون لأنفسهم الكمال - من حسدهم و حقدهم، فقد قال عزّ و جلّ في حقّهم: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النساء، الآية: 54]، و سيأتي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً [سورة النساء، الآية: 49]، بعض الكلام، فإنّ الحسد الذي نبت في قلوبهم لأجل أنّهم يحسبون أنفسهم أفضل أهل الأرض و يدّعون الكمال و يرون أنّهم جديرون بالخير.

و الخطاب و إن كان متوجّها لسيد الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و فخر الموجودات، لكنّه متوجّه إلى التابعين له أيضا باعتبار أنّه سيدهم.

و التعبير بالنصيب للدلالة على أنّهم لم يحفظوا ذلك و لم يتعهّدوا بالعمل به، فقد احتفظوا بالاسم دون العمل به، و أنّهم أهملوا الشيء الكثير ممّا أوتوا و لم يبق إلا النزر القليل الذي لا بد من الاحتفاظ به.

و التنوين في قوله تعالى: نَصِيباً للتفخيم أو للتكثير، و كلاهما يثبت التشنيع.

و المراد بالكتاب جنسه، ليشمل كلّ من أوتي علما ينتهي إلى الوحي، فيشمل اليهود و النصارى و المجوس و المنافقين، و إن كان ظاهر السياق يختصّ باليهود، فإنّ هذا الخطاب يستعمل في حقّهم في القرآن الكريم، و هم الذين عرفوا بالعداء و الحقد لكلمة اللّه تعالى و دينه و المؤمنين به.

و الخطاب لا يختصّ بعصر النزول، فإنّ ما ورد في هذه الآية الشريفة لبيان أحوال أعداء الدين و كيدهم للإسلام و المسلمين، و هو ليس من شأن

ص: 245

المضي، فلا يختصّ بوقت معين، بل هو حديث الماضي و الحاضر و المستقبل، أي الزمن كلّه إلى أن تظهر دولة الحقّ و يمحق الأعداء و كيدهم و خيانتهم، فإنّ الصراع بين الحقّ و الباطل مستمر من أوّل الخليقة حتّى تقوم دولة الحقّ و يمحق الباطل كلّه، و لهذا كان التوكيد الشديد في القرآن الكريم على الأعداء و كيدهم.

و الآية المباركة في مقام التشنيع عليهم و التشهير بشنائع أعمالهم و مفاسد أخلاقهم و إظهارها في سلك الأمور المشاهدة، و هذا الأسلوب له الوقع الكبير في النفوس و تنشيطها و استلفاتها إلى ما يجري حولها من الحوادث، و لهذا أتى الخطاب في صورة التعجّب و الاستفهام الإنكاري.

قوله تعالى: يَشْتَرُونَ اَلضَّلالَةَ .

تعليل للتشنيع السابق عليهم، و بيان لمناط التعجّب منهم؛ لأنّهم يشترون الضلالة و يختارونها على الهدى، و يبذلون بإزاء ذلك أغلى الأمور و هو التوحيد و أسباب السعادة و الكمال و الصلاح و الهدي.

و الضلال هو الخروج عن الطريق المستقيم أو المنهج القويم، عمدا كان أو سهوا، كثيرا كان أو قليلا، و سيأتي توضيح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى و يضاده الهداية.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا اَلسَّبِيلَ .

ترتّب هذا على السابق ترتّب المعلول على العلّة، فإنّ من اشترى الضلالة و باع أعلى الأشياء و أغلاها و أعظمها بأخسّ الأشياء و هو الضلالة، لأجل أنّهم على الضلالة، و قد تمكّنت في نفوسهم و انهمكوا في الضلال و الغي، فهم يطلبونه للمؤمنين الذين هداهم اللّه تعالى للصراط المستقيم، الذي أوضح اللّه اعلامه و أحكم حججه، فقد جنّدوا أنفسهم لذلك و كتموا الحقّ الذي آتاهم اللّه تعالى و أظهروا النفاق و خدعوكم بإظهار النصيحة و المودة، و لقوكم ببشر الوجه و زي الصلاح، و لكن لا يريدون لكم إلا الفساد و الخديعة و الإضلال عن السبيل المستقيم الموصل إلى الحقّ .

ص: 246

و ذكر الفعل المضارع في الموضعين، لبيان استمرارهم على ذلك و تجدّدهم عليهما.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ .

تأكيد لمضمون ما ورد في الآية السابقة و بيان للتحذير منهم، فإنّ العدو قد أظهر نفسه بمظاهر الصلاح و المودّة، فالتبس الأمر على المؤمنين، و اللّه يعلم العدو من الصديق الناصح، و قد أخبركم بعداوة هؤلاء، و بيّن لكم حقيقتهم، فإيّاكم أن تطيعوا لهم أمرا و تأخذوا منهم النصيحة.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا .

فإنّه القادر على نصرة أوليائه و هو يكفيهم أعداءهم.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً .

يدفع شرّهم و مكائدهم، و التكرار مع إظهار الاسم الجليل للتأكيد على كفايته عزّ و جلّ ، و فيه إيماء بالعلّية، فإنّه اللّه الخالق القادر.

قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ بيان لأهمّ أفراد الذين اتّصفوا بالضلالة و الغواية، و قد ذكر سبحانه و تعالى جملة من أحوالهم، بين البيان و المبين، لمزيد الاعتناء بذكر محلّ التشنيع، و الاهتمام بحثّ المؤمنين على الابتعاد عنهم و الاكتفاء بولاية اللّه تعالى و نصرته، و مثل هذا الأسلوب كثير في القرآن الكريم، فإنّه قد يعترض بجمل بين أطراف الكلام مع اتساق الكلام و تناسب أطرافه، و قد ذكر المفسّرون وجوها في إعراب هذه الجملة.

و المراد من اَلَّذِينَ هادُوا اليهود، لأنّهم ينتسبون إلى مملكة يهودا بعد أن تشتت سائر الأسباط من بني إسرائيل و اضمحل و باد ملكهم الوثني باستيلاء الآشوريين عليهم و قتلهم لهم.

و قد وصفهم تعالى بتحريف الكلام عن مواضعه، و التحريف إمالة الكلام

ص: 247

عن مواضعه. و قد ذكرنا في احدى مباحثنا السابقة أنّ تحريف الكلام له وجوه متعدّدة فقد يكون بتلبيس الحقيقة بالكذب، و قد يكون بستر الواقع و الحقيقة و حجبها عن الناس، و قد يكون بالتبديل إما بالزيادة و إدخال بعض الكلام فيه، أو بالنقصان، أو بتغيير مواضع الألفاظ، و قد يكون بالتأويل المخالف للواقع و التفسير الباطل و غير ذلك، و قد بيّن القرآن الكريم جملة من موارد تحريفهم، و الإطلاق يشمل جميع أقسام التحريف و وجوهه، من التحريف الظاهري اللفظي و التحريف المعنوي.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا .

بيان لبعض وجوه التحريف، و هو استعمال القول بوضعه في غير المحلّ الذي ينبغي أن يوضع فيه، و إنّما خصّ هذا القسم لأنّه يكشف عن شدّة غيهم و ضلالهم و تماديهم في العناد، فإنّهم يحرّفون الكلام بمحضر النبي صلّى اللّه عليه و آله، أي:

يقولون له صلّى اللّه عليه و آله و هم يعلمون أنّه على الحقّ بما عرفوا من أوصافه الواردة في التوراة: سمعنا قولك و عصينا أمرك عنادا، مع أنّ السمع لا يكون إلا في موضع الطاعة، فلا بد و أن يقولوا: سمعنا و اطعنا، و يمكن أن يكون قولهم ذلك تهكّما و استهزاء بالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ .

المسمع بفتح الميم الثانية، و هذا الكلام يستعمل على وجهين للخير و الشرّ، و الأوّل اسمع غير مسمع مكروها، فكانوا يخاطبون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك، و هم يضمرون المعنى.

الثاني: أي الشرّ و هو: اسمع حال كونك غير مسمع كلاما أصلا بصمم أو موت أو آفة، فأرادت اليهود من هذا القول الدعاء على المخاطب، أي: معنى الشرّ، و المعنى الخير الظاهر فيه هو (اسمع لا سمعت مكروها)، و لكنّهم يضمرون السوء منه.

ص: 248

قوله تعالى: وَ راعِنا .

كلمة ذات وجهين أيضا، و هي عطف على ما قبلها، فقد كشف سبحانه و تعالى مظهرا آخر من مظاهر تحريفهم للكلام، و سوء سرائرهم و نفاقهم، و تقدّم تفسير هذه الكلمة في سورة البقرة آية (104)، و قلنا: إنّ اليهود كانوا يناسبون بكلمة (راعينا)، و قد ورد في توراة كلمة (راع) مشالة إلى الألف، و تسمّى عندهم (قامص)، و هو بمعنى الشرّ أو القبيح، فتكون بمعنى شريرنا و نحو ذلك من الصفات، أما المؤمنون فكانوا يستعملون هذه الكلمة بمعنى الحفظ و المراعاة أو المراقبة أو غيرها من الصفات الحسنة، و قد سمعها اليهود و أرادوا منها غير المعنى المقصود الصحيح.

و قد نهى اللّه سبحانه و تعالى في آية البقرة أن يستعملها المسلمون؛ لئلا يستغلّها اليهود في ذمّ الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ تعليل لما تقدّم، و انتصاب لَيًّا على العليّة، أي: يقولون ذلك ليّا. و اللي:

الانحراف و الفتل، يقال: ليّ الحبل، أي: فتل.

و المعنى: يظهرون الكلام بصورة الحقّ و يريدون خلافه و يميلون به إلى المعنى الباطل، سواء في القلب أو باللسان، و يقولون ذلك طعنا في الدين و قدحا فيه، و قد عرفوا بذلك في مرّ الزمن.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ أي: و لو أنّهم اختاروا الهدى على الضلال، و قالوا: سمعنا قولك و أطعنا أمرك، و اسمع منا ما نقول في مقام الاهتداء و انظرنا باللطف، لكان خيرا لهم من القول الباطل المموه و أعدل في نفسه و أضرب؛ لأنّ الكلام قد اشتمل على أدب الدين و طلب الهداية و الخضوع للحقّ ، و هو خير لهم و أقوم ممّا قالوه، و قد بدّل

ص: 249

اللّه سبحانه سماع الردّ منهم بسماع القبول، و قد جعل الإطاعة مكان العصيان و طلب السماع من الرسول صلّى اللّه عليه و آله لهم بدلا من قولهم: «و اسمع غير مسمع»، و جعل وَ اُنْظُرْنا بهمزة الوصل و ضم الطاء المعجّمة، بدل قولهم: (راعنا)، و هو المعنى الذي كانوا يغالطون فيه، فإنّ جميع ذلك خير لهم؛ لأنّهم جعلوا قيادهم إلى الرسول و الطاعة له و يلقون بسعادتهم عنده، و هو الهادي إلى الصلاح و السعادة، و كان ذلك أقوم لهم و أعدل لما فيه من الأدب و الفائدة العظيمة و حسن العاقبة.

ص: 250

و قيل: إنّ قَلِيلاً صفة لموصوف محذوف، أي: لا يؤمنون إلا إيمانا قليلا، و لكن اتصاف الإيمان بالقلّة إنّما هو بلحاظ المتعلّق، فيرجع إلى ما ذكرناه.

و القول: بأنّ المراد حينئذ قليل الإيمان مقابل كامله، أي: لا يؤمنون إلا قليلا من الإيمان الذي لا يعتدّ به لجحودهم و عنادهم و غيّهم؛ لأنّ اللعن إنّما كان على الأفراد، و لعنة اللّه تعالى إيّاهم لا يجوز أن يتخلّف عن التأثير بإيمان بعضهم، فاستوجب أن يكون المراد قليل الإيمان الذي لا يعتدّ به، و هو لا يوجب رفع اللعنة عنهم.

فاسد: أما أوّلا، فلان الإيمان يتّصف بالكامل و الناقص و المستقرّ و المستودع، كما ورد في القرآن الكريم، و لم يرد فيه اتصاف الإيمان بالقلّة و الكثرة.

و ثانيا: فلأنّ الإيمان القليل - سواء كان صوريّا أم قلبيّا - ممّا يعتني به الإسلام، قال تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [سورة النساء، الآية: 94]، و هو يوجب رفع اللعنة عنهم.

و ثالثا: لا فائدة في هذا الاستثناء بعد استحقاقهم اللعنة مطلقا.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا خطاب عامّ لجميع أهل الكتاب بالإيمان بما أنزل اللّه تعالى على عبده و رسوله محمد صلّى اللّه عليه و آله من القرآن و الشريعة و صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، التي عرفوها بأوصافه في كتبهم.

و إنّما نسبهم إلى إيتاء الكتاب باعتبار أسلافهم الذين أوتوا الكتاب مصونا من التحريف و عرفوا حقائقه و أحكامه، و هو يكفي في الداعويّة إلى الإيمان بالرسول الكريم.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ممّا ورد في الكتاب من التوحيد و البشارة برسوله صلّى اللّه عليه و آله و بعض الحقائق التي لم تصل إليها يد التحريف و النقصان، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى لِما مَعَكُمْ دون أن يذكر اسم التوراة، مع كون الخطاب معهم، إيذانا بكمال وقوفهم على حقيقة

ص: 251

الحال، فإنّ التوراة قد بشّرت برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ القرآن الكريم المنزل عليه مصدّق لها.

قوله تعالى: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها مادة (طمس) تدلّ على محو أثر الشيء و استئصاله، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في خمسة مواضع. و الدائر و الدارس متقاربة المعنى، و نطمس - بكسر الميم و بالضم لغة - مضارع طمس بفتحها يستعمل قاصرا، و متعدّيا كما في الآية الشريفة، و في قوله تعالى: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 37]، و يعدّى ب (على) كما في قوله تعالى: رَبَّنَا اِطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اُشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة يونس، الآية: 88]، و قوله تعالى: وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا اَلصِّراطَ [سورة يس، الآية: 66] و طمس البصر هو محو أثره، أي: أعميناهم، قال الشاعر:

من يطمس اللّه عينيه فليس له *** نور يبين به شمسا و لا قمرا

و الوجوه: جمع الوجه، و هو ما يستقبل من الشيء و يظهر منه، و في الإنسان الجانب الظاهر المقدّم من الرأس الذي يستقبلك منه، و يستعمل في الأمور الحسيّة، كما يستعمل في الأمور المعنويّة، فيقال: وجه الشيء، أي: حقيقته.

و التنوين في الوجوه لتهويل الأمر مع لطف، حيث إنّ العذاب لا يلحق إلا ببعضهم، و يحتمل الانطباق على كلّ فرد من القوم، فلا يأمن أحدهم من هذا العذاب.

و الأدبار جمع دبر - بضمتين - و هو القفا، و جملة: فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها عطف تفسيري للطمس و بيان له، فيكون الطمس محمولا على ظاهره، أي:

نمحي أثر الوجه و نجعله كالادبار، بتغيير الخلقة الأصليّة، و هو يوجب عدم قيام الإنسان بوظائفه الحيويّة و عدم تحقّق المقاصد التي فطر عليها الإنسان لو كان على غير الصورة التي خلقها اللّه تعالى، فإنّ الإنسان على خلقته الأصليّة يسعى

ص: 252

للكمال و تحقيق مقاصده الدنيويّة و الاخرويّة، و إصلاح شؤون نفسه و نيل سعادته و كلّ ما يراه خيرا، و لا يتحقّق ذلك في طمس الوجه و الردّ على الأدبار، فيستلزم الضلال و عدم الفلاح حينئذ.

و قد ذكر المفسّرون في معنى الآية الكريمة وجوها اخرى، فقيل: إنّ المراد بالطمس تحويل وجوه قوم إلى الأقفية في آخر الزمان أو في يوم القيامة، فتصير عيونهم مثلا في قفاهم.

و قيل: إنّ المراد بالطمس هو الخذلان الدنيويّ ، فلا يزالون على الذلّة و المسكنة، قال تعالى: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ اَلذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا [سورة آل عمران، الآية: 112].

و قيل: يردّهم عن الهداية إلى الضلالة، قال تعالى: وَ أَضَلَّهُ اَللّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ [سورة الجاثية، الآية: 23].

و قيل: إنّ المراد من الطمس إجلاؤهم من الحجاز و ردّهم إلى الشام.

و قيل: إنّ المراد من الوجه هو الوجهاء و الأعيان، و من الطمس مطلق التغيير، أي: نجعل رؤوسهم أذنابا، و ذلك أعظم سبب البوار و الدمار.

و هذه الوجوه خلاف ظاهر الآية الشريفة التي تدلّ على أنّ الطمس تصرّف إلهي في الإنسان يوجب تغيير طبعه عن قبول ما يوافق الفطرة و الارتداع عن مطاوعة الحقّ ، الذي كان حاصلا من تغيير البيئة الأصليّة للإنسان، و عدم وصوله إلى الكمال اللائق بحاله، و هو يستلزم عدم تحقّق السعادة الدنيويّة و الاخرويّة.

و الآية المباركة صريحة في عدم تحقّق هذا النوع من التصرّف الإلهي، و إنّما هو وعيد يكشف عن شدّة سخطه بأبلغ وجه، حيث لم يعلّق وقوع المتوعّد به بالمخالفة، و لم يصرّح بوقوعه عندها، تنبيها على أنّ ذلك أمر واقع لا محالة غني عن الإخبار به الحقّ ، فإنّه تعالى بعد أن دعاهم إلى الإيمان بالكتاب الذي نزل

ص: 253

مصدّقا لما معهم فوعدهم بأحسن وجه، و لكنّهم خالفوا اللّه تعالى و رسوله و امتنعوا عن المطاوعة للحقّ ، و كان جزاء ذلك أن حرموا من العناية الربوبيّة إلا قليلا منهم ممّن وفّق للإيمان، و هنا أوعدهم بالسخط و العذاب.

قوله تعالى: أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنّا أَصْحابَ اَلسَّبْتِ .

توعيد آخر مترتّب على الوعيد الأوّل، أي: إن لم يتحقّق الأمر الأوّل، يتحقّق هذا لا محالة. و اللعن هو الطرد عن الرحمة.

و التشبيه بأصحاب السبت لبيان تهويل الأمر و الإغراق في الوصف، و قد ذكر سبحانه و تعالى أصحاب السبت في آية اخرى، قال تعالى: وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ اَلَّذِينَ اِعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي اَلسَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ * فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة، الآية: 65-66]، و أصحاب السبت الذين ذكرهم اللّه عزّ و جلّ في قوله: وَ سْئَلْهُمْ عَنِ اَلْقَرْيَةِ اَلَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ اَلْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي اَلسَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ [سورة الأعراف، الآية: 163]، و سيأتي ذكر أخبارهم إن شاء اللّه تعالى.

و (أو) في الآية الكريمة على ظاهرها من التنويع و الترديد، و الاختلاف بين الوعيدين ظاهر، فإنّ الأول يوجب تغيير الخلقة الأصليّة بأن ينصرف عن فطرته التي فطر اللّه عليها الإنسان في كفاحه و جهاده في الدنيا، نظير ما ورد في آكل الربا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ [سورة البقرة، الآية: 275]، فراجع ما ذكرناه هناك، و أمّا هذا الوعيد - و هو اللعن كلعن أصحاب السبت - فهو يوجب البعد عن الرحمة و سلب التوفيق و الرجوع إلى الخلقة الحيوانيّة، التي ليس لها غرض إلا الأكل و النوم و السفاد، فقد سلب عنه الكمالات المعنويّة المعدّة للإنسان، مضافا إلى أنّ الوعيد الأول لا يعمّ الجميع، و إنّما يختصّ ببعض القوم، بخلاف الثاني فإنّه سيعمهم إن تمرّدوا عن الامتثال، كما هو المستفاد من إرجاع ضمير الجماعة «نلعنهم» الى جميع الأفراد.

ص: 254

قوله تعالى: وَ كانَ أَمْرُ اَللّهِ مَفْعُولاً جملة مستأنفة تقرير لما سبق و إخبار بجريان عادة اللّه تعالى بوقوع الأمر لا محالة، و أنّه سينفذ فيهم ما توعّد به، و قد وقع ما توعد به بالنسبة إليهم من نزول اللعنة و السخط عليهم و وقوع العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة، كما أخبر به عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

و المراد بالمفعول النفوذ، و حكم الآية المباركة عامّ لا يختصّ بقوم دون قوم، و إن كان أظهر مصاديقه ما تقدّم في صدر الآية المباركة.

بحوث المقام
بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ على أنّ الذين أوتوا الكتاب كانوا يستميلون المؤمنين إلى الضلال بوجوه كثيرة، و هذا هو من شعب نفاقهم، و قد بيّن عزّ و جلّ حقيقة الأمر للمؤمنين، و أعلمهم بأنّ الذين أوتوا الكتاب على عداوة و بغضاء لهم، فلا يغترّوا بمظاهرهم، و قد أكّد عزّ و جلّ ذلك بالأمر بالنظر إليهم، فلا يركنوا إلى ما يظهرونه لهم من العطف و حسن الكلام، فإنّهم يبالغون في تحريف الكلام، كما بيّن عزّ و جلّ شطرا منهما في الآية الشريفة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللّهِ نَصِيراً على عدم الاكتفاء بالمظاهر، و لا بد من الرجوع إلى ما بيّنه عزّ و جلّ من حالات الذين أوتوا الكتاب، فإنّه تعالى أعلم بما في الضمائر و ما تحمله قلوبهم من العداوة و البغضاء، فلا ينبغي التخطّي عن تعاليم القرآن في دفع كيد الأعداء و مكرهم و التصدّي لنفاقهم و ضلالهم.

ص: 255

الثالث: يدلّ قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، أنّ اهتمام اليهود هو تحريف الكلام، و هو من أهمّ ما اتّصفوا به في العصور، و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم وجوها مختلفة لذلك، و في المقام ذكر سبحانه و تعالى وجها آخر، و هو تغيير الكلام و إظهاره بصورة الدعاء و الخير، و هم يقصدون وراء ذلك شيئا آخر، كالطعن في الدين و الحطّ من منزلة سيد المرسلين أمام أتباعه من المؤمنين، و قد بيّن عزّ و جلّ للمؤمنين هذه الخديعة، و أمرهم بالحيطة منهم و أرشدهم إلى ما يصحّ أن يقال في مقام التخاطب، ليفوزوا بالخير و السعادة.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، على أنّهم غيّروا مواضع الآيات المباركة، و به تغيّر المعنى و اختلف، و نظير ذلك قوله تعالى:

يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ [سورة المائدة، الآية: 41]، و لعلّ الأخير يدلّ على أنّ التحريف كان بحذف الكلام أصلا، بخلاف الأوّل، فإنّه يدلّ على أنّ التحريف بتبديل مواضع الكلمات.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ أنّ في القرآن الكريم الشيء الكثير ممّا ورد في كتبهم التي لم تنله يد التحريف، فهذا الدين يتفق مع سائر الأديان الإلهيّة في الأصول و كثير من الفروع، فهي تدعو إلى التوحيد و العدل بين الناس و النهي عن المعاصي و الفواحش، و تأمر بالتحلّي بمكارم الأخلاق، كما يدعو القرآن إلى ذلك، فلا يجوز الإعراض عن مطاولة الحقّ و الإيمان بالإسلام و إلا فإنّ الجزاء المعدّ لهم يكون عظيما، و قد ذكر عزّ و جلّ نوعين من الوعيد، الطمس و اللعنة، و هما يوافقان العمل العظيم الذي هم كانوا عليه، فكان الجزاء موافقا للعمل، و هو أنّ القوانين الإلهيّة المعروفة هي مشاكلة العقوبة مع الجناية.

السادس: تدلّ نوعية الجزاء - و هي الطمس و اللعنة - على نوع العمل

ص: 256

الذي يعملونه، فإنّ الجناية عظيمة، و هي التحريف و التغيير و عدم الإيمان بما يعملونه أنّه حقّ ، فاستوجب طمس فطرتهم و بعدهم عن الرحمة الإلهيّة و اختلاف الجزاء باختلاف الأشخاص و نوع العمل.

السابع: انّما وصف الذين كفروا بأهل الكتاب؛ لإعلامهم بأنّ من تلبّس بالكتاب لا ينبغي أن يعرض عمّا في الكتاب الذي أتوه، و أنّ العلماء باللّه و آياته لا بد أن يتلبّسوا بما أنزله اللّه تعالى، فالإصرار على الإعراض يوجب الانسلاخ عن الكتاب و علمه.

بحث روائي

في تفسير العسكري: عن الكاظم عليه السّلام: كانت هذه اللفظة: «راعنا» من ألفاظ المسلمين الذين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، يقولون: «راعنا»، أي: ارع أحوالنا و اسمع منا كما نسمع منك، و كان في لغة اليهود معناه: اسمع لا سمعت، فلما سمع اليهود المسلمين يخاطبون بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا» و يخاطبون بها، قالوا: كنا نشتم محمدا إلى الآن سرّا، فتعالوا الآن نشتمه جهرا، و كانوا يخاطبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يقولون: «راعنا»، يريدون شتمه، ففطن لهم سعد بن معاذ الأنصاري، فقال: يا أعداء اللّه عليكم لعنة اللّه، أراكم تريدون سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جهرا، توهمونا أنّكم تجرون في مخاطبته مجرانا، و اللّه لا أسمعها من أحد منكم إلا ضربت عنقه، و لو لا أنّي أكره أن أقدم عليكم قبل التقدّم و الاستيذان له و لأخيه و لوصيه عليّ بن أبي طالب القيم بأمور الامة نائبا عنه فيها، لضربت عنق من قد سمعته منكم يقول هذا. فأنزل اللّه: يا محمد مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اِسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي اَلدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِسْمَعْ وَ اُنْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً ، و أنزل:

ص: 257

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا ، فإنّها لفظة يتوصّل بها أعداؤكم من اليهود إلى سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سبّكم و شتمكم، وَ قُولُوا اُنْظُرْنا ، أي: قولوا سمعنا و اطعنا، لا بلفظة راعنا، و اسمعوا ما قال لكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قولا و أطيعوه، و للكافرين - يعني اليهود الشاتمين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله - عَذابٌ أَلِيمٌ وجيع في الدنيا إن عادوا لشتمهم، و في الآخرة بالخلود في النّار.

أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ اليهود كانت تستعمل النفاق و بالإهانة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكشف اللّه خبث سرائرهم بما تفطّن به معاذ فهدّدهم، و لعلّ الرواية من باب ذكر أحد الموارد أو التطبيق.

و في الدلائل للبيهقي: عن ابن عباس قال: «كان رفاعة بن زيد التابوت من عظماء اليهود إذا كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لوى لسانه و قال: ارعنا سمعك يا محمد حتّى نفهمك، ثم طعن في الإسلام و عابه، فأنزل اللّه فيه الآيات الكريمة».

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، فلا تنافي بينها و بين ما تقدّم.

و في الدلائل للبيهقي - أيضا -: عن ابن عباس قال: «كلّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رؤساء من أحبار يهود، منهم كعب بن أسد و عبد اللّه بن صوريا، فقال لهم:

يا معشر اليهود، اتقوا اللّه و أسلموا، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّ الذي جئتكم به الحقّ ، فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد، فأنزل اللّه فيهم: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا .

أقول: الرواية من باب ذكر أحد الموارد، و إنّ إنكارهم لكلام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان عن خبث سرائرهم و لجاجهم، فكشف اللّه تعالى ما حوت به قلوبهم من الصفات الذميمة.

و هناك روايات تدلّ على أنّ الآيات الكريمة نزلت في حقّ علي عليه السّلام، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا في علي نورا مبينا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ ، و لكنّها من باب التطبيق و التفسير.

ص: 258

بحث كلامي

لا شكّ أنّ الجزاء المترتّب على الأعمال - قبيحة كانت أو صالحة أو الملكات النفسانيّة التي لها أثر في الخارج، أو ما لا تكون كذلك إلا أنّها قابلة للزوال و لم يعالجها آنها، فرسخت في النفس بالاختيار - لا بد و أن يكون مطابقا لها و يناسبها، و يدلّ على ذلك كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة، بل قد يكون الاختلاف حسب العامل بما عنده من الدرجات، أو حسب الأزمنة المعيّنة أو حسب الصفات النفسيّة، بلا فرق في ذلك بين العذاب الدنيويّ و الاخرويّ ، و أما مسألة الخلود في النّار، فقد أجبنا عنه في أحد مباحثنا السابقة، و يأتي التعرّض لها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و الطمس الذي هو نوع من أنواع العذاب الذي يستحقّه المتمرّد أخف من المسخ في الجملة، فإنّ المسخ قلب الشيء أو تبديله إلى أسوء منه، و هو تارة: في العين، أي: مسخ الخلق، كما يمسخ اللّه الإنسان المتمرّد المنهمك في المعصية إلى القرد.

و اخرى: مسخ الخلق، و هو يحصل في كلّ زمان و مكان، و ذلك أن يصير الإنسان - نستجير باللّه - متخلّفا بخلق ذميمة فاسدة من أخلاق بعض الحيوانات، نحو أن يصير في شدّة الحرص كالكلب، و في الشره كالخنزير أو غيرهما من الحيوانات التي لها خلق ذميمة و صفات سيئة.

بخلاف الطمس الذي هو تغيير في الصورة و الوجه، بمحو محاسنها و زوال تخطيطها من العين و الأنف و الحاجب، و جعل الوجه على هيئة الأدبار، و في المقام لما كانت جماعة من اليهود قد أعرضوا عن الحقّ و متابعته بعد إقامة الحجّة عليهم، فقد طمس اللّه تعالى على وجوههم و غيّرهم عن تلك الخلقة الأصليّة،

ص: 259

جزاء لأعمالهم الفاسدة و لإعراضهم عن الواقع الذي علمت به ضمائرهم و نفوسهم، و سيأتي في الآيات الآتية ما يرتبط بالبحث إن شاء اللّه تعالى.

ثم إنّ الطمس أو المسخ لو وقع على قوم - أو على فرد - لا يمكن رفعهما؛ و ذلك لا لأجل القصور في القدرة، فإنّه تعالى قادر على كلّ شيء و إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، بل لأنّهما من مظاهر غضبه و الطرد من رحمته و ساحته، و من حلّ به غضبه فقد هوى، فالموضوع غير قابل، و لا يكون لائقا للعود إلى رحمته.

ص: 260

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) الآية الشريفة تشتمل على الوعد و الوعيد معا، و تتضمّن ما تؤكّد عليه الآية السابقة، فإنّه بعد ما أمر سبحانه و تعالى الذين أوتوا الكتاب بالإيمان و دعاهم إلى الحقّ و أوعدهم السخط و اللعنة إن هم أعرضوا عنه، ذكر في هذه الآية المباركة السبب في الحكم المزبور، و بيّن جلّ شأنه أنّ طريق النجاة منحصر في الإيمان و الانصياع إلى الحقّ ، فإنّه لا غفران بدونه، لا ما يتمنّاه أهل الكتاب.

و قد وعد عزّ و جلّ المؤمنين بالغفران و رفع الآثار المترتّبة على الماضي، و أرشدهم إلى أنّ الكبائر السابقة لا تكون مانعة عن قبول إيمانهم. و في الآية المباركة كمال الرأفة بهم و الامتنان عليهم، فكانت من أرجى الآيات في القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ جملة مستأنفة مؤكّدة لمضمون ما ورد في الآية السابقة، و هي في مقام التعليل للحكم المذكور فيها، أي: إن لم تؤمنوا فإنّكم مشركون، و اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به و يحلّ عليكم سخطه و غضبه، و أما الإيمان ففيه الفوز بالمغفرة و النجاة؛ و لهذا كانت الآية المباركة متضمّنة للوعد و الوعيد معا.

و قد وردت مثل هذه الآية الشريفة في موضع آخر من هذه السورة أيضا، قال تعالى إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 116].

و لعلّ الاختلاف بينهما - بعد الاتفاق على أنّهما تدلان على جميع الآثار المترتّبة على الشرك الدنيويّة و الاخرويّة إذا آمنوا و رجعوا إلى الحقّ - أنّ الآية

ص: 261

الكريمة في المقام تبيّن أنّ الطريق في الإيمان دون التمنّي و الترجّي و الافتراء على اللّه تعالى بأنّه سيغفر لنا، كما تزعمه اليهود و النصارى، كما حكاه عزّ و جلّ في غير موضع من القرآن الكريم، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا [سورة الأعراف، الآية:

169]، و يدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة: فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً ، فإنّه يدلّ على نفي جميع إشكال التظنّي و التمنّي. و أمّا الآية الثانية، فإنّها تنفي جميع سبل الشرك و أنحائه التي ذكر جملة منها في الآيات السابقة و التالية لها، و يؤكّد ذلك ذيل الآية الشريفة، قال تعالى: فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية:

116]، فإنّه يدلّ على أنّ الشرك بجميع أنحائه ضلال لا تفاوت بينها.

كما أنّه يمكن الفرق بينهما بأنّ الآية الشريفة في المقام تبيّن رفع الآثار التي ذكرها عزّ و جلّ في الآية السابقة من الطمس و اللعنة إن هم آمنوا. و أما الآية الثانية فإنّها سيقت لرفع الآثار المترتّبة على الشرك إذا آمنوا و انصاعوا للحقّ .

ثم إنّ عموم الشرك يشمل كلّ ما يشرك باللّه تعالى في مقام الالوهيّة و جميع شؤونها. كما أنّ للشرك مظاهر مختلفة في مرّ العصور، فمنها يكون عن الوثنيّة، فإنّهم جعلوا كلّ نوع من أنواع المخلوقات إلها و ربّا يدبّر أمره، فجعلوا للماء ربّا، و للنار إلها و للتراب إلها و للهواء إلها و غير ذلك، و فيهم نزلت الآية الكريمة أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اَللّهُ اَلْواحِدُ اَلْقَهّارُ [سورة يوسف، الآية: 39].

و من الشرك تأليه بعض القوى و النجوم السيارة ممّا جعلوا المجسّمات و الأصنام تمثالا و رمزا لعبادتها، فكان ذلك هو الأصل في عبادة الأصنام و الأوثان و إن خفي ذلك على الذين يعبدونها.

و من الشرك ما يزعمه جمع في بعض البشر من أنّه متولّد من اللّه تعالى و من العذراء الإنسيّة، فكان ابن اللّه تعالى تولّد منهما، فجعلوا جلّ شأنه الواحد ذا

ص: 262

أقانيم ثلاثة: الأب و الابن و الروح القدس، و أثبتوا لكلّ واحد من هذه الثلاثة آثارا خاصّة في مقام الالوهيّة، و من القائلين بهذا البراهمة و البوذيين و النصارى و غيرهم.

و من الشرك تأليه بعض أفراد البشر، و القول بأنّه خلق العالم و هو رازق أهله.

و من الشرك بعض آراء الفلاسفة في العالم و خلقه و تدبيره، و غير ذلك من الآراء و المذاهب المعروفة التي نقلها العلماء في كتبهم العلميّة.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل الشرك في الذات و الفعل و العبادة، بل يشمل الكفر أيضا باعتبار الحكم الوارد في الآية المباركة، أي: أنّ الكافر لا يغفر له حتّى يرجع عنه و يدخل في الإيمان، و إن لم يصدق عليه المشرك بالعنوان الأولي لكن يمكن أن يقال إنّ كلّ كافر مشرك؛ لأنّ الذي يشاقق الحقّ و الرسول و ما أنزله اللّه تعالى عليه مشرك؛ لأنّه جعل ما في يده أو ما عنده شريكا مع اللّه، تعالى و هو عزّ و جلّ لا يريده، و لعلّه لذلك ورد التعبير: أَنْ يُشْرَكَ بِهِ دون المشرك أو المشركين، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً * إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً [سورة النساء، الآية: 115-116]، فجعل الشقاق مع الرسول و اتباع غير السبيل المؤمنين من مصاديق الشرك.

و التعبير بالفعل المضارع: «أن يشرك»، للدلالة على أنّه لا يغفر للإنسان إشراكه الذي يداوم عليه إلى الموت، فإذا انقطع عنه الشرك، فاللّه يغفر له الذنوب السابقة و يرفع عنه آثارها، و تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، و تقدّم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

ص: 263

و التعبير بالفعل المضارع: «أن يشرك»، للدلالة على أنّه لا يغفر للإنسان إشراكه الذي يداوم عليه إلى الموت، فإذا انقطع عنه الشرك، فاللّه يغفر له الذنوب السابقة و يرفع عنه آثارها، و تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ اَلزُّرّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ اَلْكُفّارَ وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، و تقدّم في الآيات السابقة ما يرتبط بالمقام.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى لا يغفر الشرك بجميع مظاهره؛ لأنّ الحكمة اقتضت خلق الإنسان على أساس الرحمة و العبوديّة، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، و اللّه تعالى شرّع الدين الحقّ لتزكية النفوس و تطهير الأرواح عمّا ينافي تلك الحكمة، و إنّ الشرك على خلاف ذلك، فإنّه آخر درجات الهبوط لعقول البشر، و إنّه يفسد أخلاق الإنسان و يوجب السقوط في الشقاء و الأخلاق الفاسدة.

قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ أي: يغفر ما دون الشرك من المعاصي و إن عظمت، فإنّها مهما عظمت فلا تصل إلى حدّ عظمة الشرك، فإنّ له درجة بعيدة في القبح، و ما سواه دونه في الدرجة، و لعلّه لهذا أشار إليه ب: ذلِكَ ، و تدلّ عليه كلمة دُونَ .

و الآية الشريفة تدلّ على غفرانه لمن يشاء ممّن له أهليّة لقبول الفيض الإلهي و الغفران بسبب الأعمال الصالحة التي تؤهّل الإنسان للصلاح و السعادة، فإنّ اللّه تعالى يغفر له برحمته الواسعة و حكمته المتعاليّة، فكانت المشيئة مطابقة للحكمة المتعاليّة، فإنّها تقتضي أن يكون الغفران للمذنب الذي له الأهليّة و الاستعداد المكتسب بالأعمال الصالحة و غيرها، و عدم الغفران للمشرك.

و يستفاد من وقوع المشيئة بعد الغفران امور:

الأول: أنّها وردت لدفع ما يتوهّم أنّ ذلك خرج عن قدرته المتعاليّة، أو أنّ لأحد التأثير عليه عزّ و جلّ فيقهره على المغفرة قاهر، و لعلّه لأجل ذلك وقعت المشيئة في كثير من الموارد من القرآن الكريم، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود، الآية: 108]، فإنّ الخلود أمر ثابت، و تعليقه على المشيئة لبيان أنّ ذلك غير خارج عن قدرته، و لا يكون لأجل قهر قاهر عليه.

ص: 264

الأول: أنّها وردت لدفع ما يتوهّم أنّ ذلك خرج عن قدرته المتعاليّة، أو أنّ لأحد التأثير عليه عزّ و جلّ فيقهره على المغفرة قاهر، و لعلّه لأجل ذلك وقعت المشيئة في كثير من الموارد من القرآن الكريم، قال تعالى: خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ اَلسَّماواتُ وَ اَلْأَرْضُ إِلاّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [سورة هود، الآية: 108]، فإنّ الخلود أمر ثابت، و تعليقه على المشيئة لبيان أنّ ذلك غير خارج عن قدرته، و لا يكون لأجل قهر قاهر عليه.

الثاني: أنّها تدلّ على أنّ المغفرة و عدمها لا تكونان جزافيّتين، بل تكونان وفق حكمة متعالية و هو العزيز الحكيم، فإنّها اقتضت أن لا يغفر للشرك الذي يوجب فساد الفطرة و صرف الإنسان عمّا اقتضته خلقته الأصليّة، و هي العبوديّة للواحد القهّار، كما بيّنه عزّ و جلّ في قوله: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56].

الثالث: إنّما ذكر المشيئة لئلاّ يغترّ الناس برحمته تعالى، فيتركوا العمل اتكالا عليها، و إلا لغى التشريع و بطل الأمر و النهي.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من الآية الشريفة، حتّى جعلها بعضهم من المتشابهات التي لا يمكن فهم معناها، و الحقّ ما ذكرناه.

و إطلاق الآية المباركة يدلّ على غفران الذنوب غير الشرك مطلقا، و لكن لا ينافي هذا أن يكون غفرانه لسائر المعاصي و الذنوب دون الشرك بالطرق التي ذكرها عزّ و جلّ في غير موضع في القرآن الكريم، مثل شفاعة من جعلت له الشفاعة، كالأنبياء و الملائكة و الأولياء، و مثل الأعمال الصالحة التي تكفّر الذنوب.

كما أنّ إطلاق الآية المباركة يدلّ على غفران الذنوب و المعاصي غير الشرك بحسب الحكمة المتعالية، و إن لم يبادرها بالتوبة، و أما مع التوبة فإنّه يغفر جميع الذنوب حتّى الشرك بحسب وعده العظيم، قال تعالى: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ * وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ [سورة الزمر، الآية: 53 و 54].

ص: 265

قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ اِفْتَرى إِثْماً عَظِيماً تعليل لعدم غفران الشرك، و إظهار اسم الجلالة لزيادة الرهبة و إدخال الروع في النفوس، و لإظهار تقبيح الشرك و تفضيح عمل المشرك.

و مادة (فري) تدلّ على القطع، و الافتراء افتعال، قال الراغب: الفري قطع الجلد للخز و الإصلاح و الإفراء القطع للإفساد، و الافتراء فيهما و في الإفساد أكثر، و لذلك استعمل في الكذب و الشرك و الظلم. و في المجمع: فريت الأديم إذا قطّعته على وجه الإصلاح، و أفريته إذا قطّعته على وجه الفساد.

و كيف كان، فهو يطلق على الكذب المختلق؛ لأنّه يوجب فساد الأقوال و الأعمال، و قد ذكر المصدر الذي هو الافتراء مع صفته اللازمة و هو الإثم و عَظِيماً صفة للمصدر و هو الافتراء أو الإثم.

و المعنى: و من يشرك باللّه تعالى الجامع لجميع صفات الكمال و المنزّه عن جميع صفات الجلال، فقد ارتكب الإثم العظيم الذي يستحقر دونه الآثام، فلا تتعلّق به المغفرة، و الوجه في ذلك أنّه يجعل الشريك الذي اجتمع فيه صفات المخلوقين من الحدوث و نقص الإمكان و الاحتياج و نحو ذلك بمنزلة الآله و يختلق له الصفات الإلهيّة، و ما ذلك إلا افتراء و إثم و القائل به مرتكب لإثم عظيم لا يستحقّ معه المغفرة المعدّة لسائر الذنوب و المعاصي.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآية الشريفة على عظم أمر الشرك و قبحه الشديد، و يكفي في ذلك أنّه تعالى لا يغفر أن يشرك به، و لعلّ ما ورد في قوله تعالى حكاية عن لقمان:

إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 13]، إشارة إلى هذه الجهة، أيضا، فإنّ الظلم الذي لا يغفر لصاحبه هو عظيم.

ص: 266

و عموم الآية الشريفة يشمل جميع أنحاء الشرك الجلّي منه و الخفيّ ، و جميع أقسامه إن كان الشرك عن عقيدة و اختيار، فلا يشمل ما لو كان الشرك بالقسوة كالإكراه و الاضطرار، و لعلّ التعبير بالمبنيّ للمجهول أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ؛ للإشارة إلى ذلك، و فيه إيماء أيضا إلى أنّ الشرك قد يتحقّق و إن لم يعلم صاحبه به، فلا بد من الرجوع إلى الإسلام و تعاليمه و دين الحقّ لدفع ذلك.

و قد بيّن عزّ و جلّ السبب في عدم غفرانه للشرك في هذه الآية الكريمة بأنّ فيه الافتراء و ارتكاب الإثم العظيم، كما بيّن سببا آخر في الآية المباركة التي هي نظير هذه الآية، و هو أنّ الشرك يوجب الضلال و الغواية؛ لأنّ كلّ ما يتوهّمه المشركون هو افتراء و كذب، فإنّ فطرتهم تنادي بالوهيّة اللّه الواجب الوجود.

و أما قوله تعالى: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ ، فهو يدلّ على أنّ غير الشرك من المعاصي و الآثام هي دون الشرك و إن اختلفت في الدرجات، لكنّها لا تمنع من تعلّق غفرانه عزّ و جلّ بها، فإنّها مهما بلغت في العظمة لا تصل إلى درجة الشرك الذي هو ظلم عظيم لا يغفره ربّ العالمين؛ لأنّه تصرّف في سلطانه، بخلاف غير الشرك من الكبائر، فإنّ سعة رحمته عزّ و جلّ تشمل جميع الذنوب، و هي تتضمّن السبب في غفرانها؛ لأنّها دون الشرك، هذا إذا لم تصدر توبة من فاعلها، و إلا فإنّ الذنوب جميعها - الشرك و غيره - مغفورة مع تحقّق التوبة بمقتضى وعده عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية:

53]، و قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ [سورة الانعام، الآية: 12].

و تقدّم في بعض الآيات المباركة معنى غفران الذنوب، و ذكرنا أنّ الغفران هو ستر الذنوب و محو آثارهم، و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع من المفسّرين في تفسير هذه الآية الكريمة مع أنّها بعيدة عن سياقها، بل بعضها ينافي قداسة القرآن.

و قد ذكرنا ما يتعلّق بقوله تعالى: لِمَنْ يَشاءُ ، فإنّ لهذه الكلمة وقعا

ص: 267

كبيرا في هذا الموضع، فإنّها تدلّ على أنّ للّه تعالى القدرة في غفران جميع الذنوب حتّى الشرك، لكنّه لا يفعل إلا ما يوافق حكمته المتعالية، و أنّ الغفران لا يكون تصرّفا في سلطانه التامّ ، و تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

بحث روائي

في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن ابن أبي عمير، عن هشام، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: دخلت الكبائر في الاستثناء؟ قال: نعم».

أقول: الغفران عن الكبائر مشروط بالموت مع الإيمان، و تقدّم أنّ الاجتناب عن الكبائر سبب لغفران الصغائر، كما تدلّ عليه الآية الشريفة السابقة، و لا إشكال في أن يتعلّق المشيئة بفعل مشروط بالاختيار، فالكبائر داخلة في الاستثناء، فإنّها قابلة للغفران بشرط بقاء الإيمان.

و في الفقيه: عن الصدوق قال: «سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ :

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، هل تدخل الكبائر في المشيئة ؟ قال: نعم ذاك إليه عزّ و جلّ ، إن شاء عاقب عليها و إن شاء عفى».

أقول: تقدّم ما يتعلّق به و أنّ مشيئته تعالى قد يتعلّق بالغفران و العفو عن الكبائر إن تحقّقت الأهليّة في العبد، و إلا عاقب عليها، فلا قصور في المشيئة أصلا، فإنّه تعالى يصنع ما يشاء و يفعل ما يريد.

و في الدرّ المنثور: عن أبي أيوب الأنصاري قال: «جاء رجل إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ لي ابن أخ لا ينتهي عن الحرام، قال: و ما دينه ؟ قال: يصلّي و يوّحد اللّه تعالى، قال: استوهب منه دينه فإن أبى فابتعه منه، فطلب الرجل ذلك منه فأبى عليه فأتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فأخبره فقال: وجدته شحيحا على دينه، فنزلت:

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .

ص: 268

أقول: الرواية على فرض صحّتها تدلّ على أنّ الكبائر قابلة للعفو و الغفران، بخلاف الشرك فإنّه غير قابل لذلك إلا بالتوبة، و قد ذكر صلّى اللّه عليه و آله بعض علامات الشرك و عدم استقرار التوحيد في القلب بالامتحان، و الآية المباركة من باب التطبيق، أو من باب تعدّد منشأ النزول.

و فيه - أيضا - أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن ابن عمر، قال: «لما نزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فقام رجل فقال: و الشرك يا نبيّ اللّه ؟ فكره ذلك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ».

أقول: قريب منها غيرها، و الرواية تبيّن عظمة قبح الشرك، و أنّه لظلم عظيم و غير قابل للعفو و الغفران، فلو مات الشخص على الشرك بلا توبة دخل النّار كما تدلّ عليه الآية المباركة إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ، و لو تاب فتشمله الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً ، فلا تنافي بين الآيتين المباركتين.

و أما الشفاعة فلا تشمل الشرك أصلا؛ لأنّ من شرائطها الإيمان، و بين الموحّد و المشرك بون بعيد لا تناسب بينهما أصلا، و بذلك يمكن أن يجمع بين الآيتين الشريفتين أيضا.

و عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا إلا حلّت له المغفرة، إن شاء غفر له و إن شاء عذّبه، إن اللّه استثنى فقال: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بهذه الرواية و أمثالها سابقا.

و أخرج الطبراني عن سليمان قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ذنب لا يغفر،

ص: 269

و ذنب لا يترك، و ذنب يغفر، فأما الذي لا يغفر فالشرك باللّه، و أما الذي يغفر فذنب بينه و بين اللّه عزّ و جلّ ، و أما الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضا».

أقول: قريب منه ما عن البيهقي في شعب الإيمان و ما عن أهل البيت عليهم السّلام في كتب الأحاديث، و من مات على الشرك فقد حرّم اللّه عليه الجنّة، فلا يغفر له و أما الذي بينه و بين ربّه - كترك بعض الواجبات - فإن شاء غفر له و إن شاء عذّبه، و تشمله الشفاعة أيضا، و أما ظلم العباد بعضهم بعضا فإنّه لا يترك لما يترتّب عليه من الحقوق التي لا بد من استرضاء صاحب الحقّ كما فصّلناه في الفقه.

و عن الصدوق في الفقه: عن ثوير، عن أبيه، عن علي عليه السّلام قال: «ما في القرآن آية أحبّ إليّ من قوله عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ».

أقول: لأنّ غفرانه تعالى المذنبين من أجلى مظاهر رحمته التي سبقت كلّ شيء.

و عن ابن مسعود قال: «أربع آيات في كتاب اللّه عزّ و جلّ أحبّ إليّ من حمر النعم و سودها، في سورة النساء قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها ، و قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، و قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، و قوله تعالى:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

أقول: هذه الآيات كلّها تشير إلى أمر واحد، و هو العفو عن السيئات الصادرة عن المذنبين و رفع درجات المحسنين، و تقدّم أنّ ذلك من أجلى مظاهر رحمته.

و في الفقيه بإسناده عن زيد بن علي، عن أبيه علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أبيه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليهم السّلام، قال: «المؤمن

ص: 270

على أي حال مات، و في أي يوم مات و ساعة قبض، فهو صدّيق شهيد، لقد سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: لو أنّ المؤمن خرج من الدنيا و عليه مثل ذنوب أهل الأرض، لكان الموت كفّارة لتلك الذنوب، ثم قال: من قال: لا إله إلا اللّه بإخلاص، فهو بريء من الشرك، و من خرج من الدنيا لا يشرك باللّه شيئا دخل الجنّة، ثم تلا هذه الآية: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ - الحديث».

أقول: إنّ أسباب التكفير مع حفظ الإيمان حين الخروج من هذه الدنيا إلى عالم الآخرة كثيرة، منها سكرات الموت، و منها دعاء المؤمنين و الصلحاء له، و منها الصدقة الجارية و ذكر الخير، و منها الشفاعة، و تقدّم قوله تعالى كما

عن نبيّنا الأعظم: «اغفر و لا ابالي»، و يبيّن ذلك ذيل الآية المباركة.

و في المجمع: عن الكلبي في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، نزلت في المشركين وحشي و أصحابه، و ذلك أنّه لما قتل حمزة، و كان قد جعل له على قتله أن يعتق فلم يوف له بذلك، فلما قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه، فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّا قد ندمنا على الذي صنعناه، و ليس يمنعنا عن الإسلام إلا إنّا سمعناك تقول و أنت بمكة:

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ، و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وحشي و أصحابه، فلما قرءوهما كتبوا إليه: هذا الشرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فبعث بها إليهم فقرؤها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فبعث بها إليهم، فلما قرؤها دخل هو و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى رسول اللّه، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: اخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال: و يحك غيّب شخصك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات».

ص: 271

وَ اَلَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اَللّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ اَلنَّفْسَ اَلَّتِي حَرَّمَ اَللّهُ إِلاّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ ، و قد دعونا مع اللّه إلها آخر و قتلنا النفس التي حرّم اللّه إلا بالحقّ و زنينا، فلو لا هذه لاتبعناك، فنزلت الآية: إِلاّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً ، فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى وحشي و أصحابه، فلما قرءوهما كتبوا إليه: هذا الشرط شديد نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فلا نكون من أهل هذه الآية، فنزلت: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فبعث بها إليهم فقرؤها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته، فنزلت: قُلْ يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ ، فبعث بها إليهم، فلما قرؤها دخل هو و أصحابه في الإسلام و رجعوا إلى رسول اللّه، فقبل منهم، ثم قال لوحشي: اخبرني كيف قتلت حمزة ؟ فلما أخبره قال: و يحك غيّب شخصك عني، فلحق وحشي بعد ذلك بالشام و كان بها إلى أن مات».

أقول: على فرض صحّة الرواية أنّها تدلّ على شقاء الوحشي و أصحابه و أنّهم كانوا بعيدين كلّ البعد عن الفطرة الإنسانيّة و المعارف الإلهيّة، و أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الذي هو رحمة للعالمين أراد أن يستنقذهم من المهالك و يقرّبهم إلى الفطرة المستقيمة و ما فيه نجاتهم، فأبوا ذلك، فأضمروا شقاءهم و أسلموا إسلاما ظاهريا لحقن دمائهم، و إنّ الآيات المباركة لم تنزل في حقّ وحشي و أصحابه، و إنّما هو من باب التطبيق و سرد الحجّة، و قد ذكر في بعض التواريخ أنّه سكن حمص إحدى مدن الشام و مات فيها، و كان مدمن الخمر.

و في المجمع: روى مطرف بن شخير عن عمر بن الخطاب قال: «كنّا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا مات الرجل منّا على كبيرة، شهدنا بأنّه من أهل النّار حتّى نزلت الآية: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فأمسكنا عن الشهادات.

أقول: أمثال هذه الرواية كثيرة، و تقدّم في بحث الشفاعة أنّ من مات على كبيرة لا يكون من أهل النّار؛ لأنّ أسباب التكفير كثيرة حتّى بعد الموت، و أما لو مات على الشرك، فإنّه لا يغفر له بمقتضى هذه الآيات المباركة و غيرها من الآيات الشريفة.

و في تفسير العياشي: عن أبي العباس قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن أدنى ما يكون به الإنسان مشركا؟ قال: من ابتدع وليّا (رأيا) فأحبّ عليه و أبغض».

أقول: يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أنّ للشرك مراتب متفاوتة جدّا، كالإيمان، و أن أدناها ما ذكر فيها من الحبّ و البغض باعتبار الولاية.

ص: 272

بحث قرآني

ليس بين الآيات المباركة التي تدلّ على شيء واحد أو تهدف أمرا معنويّا خاصّا أو تثبت حكما أو ما يتعلّق بعالم الدنيا أو الآخرة، أيّ تناف و تضاد، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة.

و ربّما يتوهّم التنافي بين هذه الآية الشريفة: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، و بين قوله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، باعتبار أنّه عزّ و جلّ جعل السبب في التكفير عن السيئات الاجتناب عن الكبائر، و أما الآية الكريمة التي تقدّم تفسيرها فإنّها تجعل الإعراض عن الشرك موجبا لغفران ما دون ذلك، سواء كان كبيرة أم غيرها.

إلا أنّ التعمّق في الآيتين المباركتين يكشف أنّ آية اجتناب الكبائر تجعل من أسباب التكفير عن الخطايا و الذنوب الصغائر، اجتناب الكبائر، و آية نفي الغفران عن الشرك تدلّ على أنّ اللّه تعالى يغفر ما دون الشرك، و لم يبيّن عزّ و جلّ طرق الغفران و أسبابه، فهي من هذه الجهة مجملة ترفع إجمالها الآيات الاخرى التي تبيّن أسباب الغفران، كآية اجتناب الكبائر، و الآية التي تثبت الشفاعة لأهل الشفاعة، و الآية التي تدلّ على استغفار الملائكة لأهل الإيمان و أنّ الأعمال الصالحة تكفّر السيئات، و غير ذلك ممّا ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة، فاللّه جلّ شأنه يغفر ما دون الشرك بأسبابه الخاصّة المعروفة، و أما الشرك فلا تؤثّر تلك الأسباب فيه مطلقا. مضافا إلى أنّ الشرك من أكبر الكبائر، و أنّ اجتنابه يوجب التكفير عن مطلق السيئات أيضا، فعلى أي حال لا تنافي بين الآيات الشريفة.

ص: 273

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) اُنْظُر.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) الآيات الشريفة تتعرّض لحال الكفّار و اليهود منهم بالخصوص، و تعرّفنا بعض صفاتهم و طباعهم، و تكشف عن بعض ما تطويه نفوسهم من النوايا السيئة و الصفات الذميمة، و تهددهم حينا و تشهر بهم حينا آخر.

فقد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات أهمّ تلك الصفات، و هي الكبر و الغرور و تزكيتهم و مدحهم لأنفسهم و حسبانهم أنّهم أفضل أهل الأرض و حقدهم بالنسبة إلى الإيمان و أهله و الافتراء و الكذب عليهم، مع إعراضهم عن الحقّ الذي هو الإيمان باللّه و دينه القيم؛ لأنّهم يؤمنون بالجبت و الطاغوت، ممّا أوجب لعنهم و بعدهم عن رحمته عزّ و جلّ ، فلا يوفّقون لتكميل أنفسهم بالكمالات، فهم

ص: 274

على دناءة من الأخلاق و اتصاف بالرذائل - كالحسد و البخل - و قد أوعدهم عزّ و جلّ العذاب الأليم الأبدي الذي لا ينفكّ عنهم. و أما المؤمنون فقد أوعدهم الأجر الجزيل ليكونوا على بيّنة من أمرهم.

و ليعلم أنّ اللّه تعالى يوصل كلّ عامل إلى نتيجة عمله، فلا يضيع أجر العاملين، و الآيات المباركة لا تخلو من الارتباط بما قبلها.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ التزكية: التطهير و التنمية، و الزكاة، النمو الحاصل عن بركة اللّه تعالى، سواء كان ذلك في الأمور الدنيويّة أو الاخرويّة. بالتطهير عن الأوساخ.

و تزكية النفس تطهيرها عن ما يوجب البعد عنه تعالى، بحيث يستحقّ الإنسان في الدنيا الأوصاف المحمودة لطهارة خلقه، و في الآخرة المثوبة و علوّ الدرجات، و لا تحصل إلا بالعمل على وفق الشريعة و ترويضها على التقوى و العمل الصالح.

و هي قد تنسب إلى العبد إذا كان مكتسبا و متحرّيا لما فيه تطهير نفسه، كقوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 9].

و اخرى: تنسب إلى اللّه تعالى لكونه الباعث و الخالق و المهدي لذلك في الحقيقة، كقوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ .

و ثالثة: تنسب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه واسطة الفيض، و به يصل العبد إلى المقامات العالية، كقوله تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها [سورة التوبة، الآية: 103].

ص: 275

و رابعة: إلى العبادة التي هي وسيلة لتطهير النفس و تزكيتها، نحو قوله تعالى: وَ حَناناً مِنْ لَدُنّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا [سورة مريم، الآية: 13].

و قد تكون التزكية بالخلقة، بأن يجعل بعض عباده طاهر الخلق عالما لا بالتعلم و الممارسة، كما في المعصومين من الأنبياء و الأئمة عليهم السّلام.

و تزكية الإنسان نفسه على قسمين:

الأول: التزكية بالفعل، و هذه هي التزكية الحقيقيّة المحمودة في القرآن الكريم، و قد حثّ عليها في مواضع كثيرة منه، مثل قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكّى [سورة الأعلى، الآية: 14]، و تقدّم أنّها لا تحصل إلا بإتيان الواجبات و اجتناب المحرّمات و الشرور و الآثام و التوجّه إليه سبحانه و تعالى.

الثاني: التزكية بالقول و الادعاء، كتزكية العادل غيره إن كان مطابقا للواقع. و قد يكون تزكية الإنسان نفسه لنفسه، و هذا قبيح عقلا و شرعا، كما نهى اللّه تعالى عنه: فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ ، و لذا قيل: «مدح الإنسان نفسه من أقبح القبائح؛ لأنّه يرجع إلى الغرور و الجهل و الاستكبار.

و عبارة: «لم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار مع الغير و التنبيه إلى شناعة الفعل و ردائته، و قد وردت في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، لا سيما أحوال أهل الكتاب.

و المراد (بالذين) هم أهل الكتاب ممّن تقدّم ذكرهم، خصوصا اليهود، و لم يصفهم عزّ و جلّ بأهل الكتاب، لأنّ من كان عالما باللّه تعالى و بالكتاب، لا ينبغي له أن يتّصف بالرذائل، فإنّه بعيد عن الكتاب و تعاليمه.

و أما تزكيتهم لأنفسهم فقد حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، منها قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قولهم: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 111]، و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و غير ذلك ممّا هو من مظاهر تزكيتهم لأنفسهم، فإنّ لها مصاديق كثيرة.

ص: 276

و أما تزكيتهم لأنفسهم فقد حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، منها قولهم: نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قولهم: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 111]، و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، و غير ذلك ممّا هو من مظاهر تزكيتهم لأنفسهم، فإنّ لها مصاديق كثيرة.

قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إبطال لتزكية أنفسهم، و الآية الشريفة باسلوبها الجميل و لحنها الجذاب ردّ لهم، و تبيّن أنّها عادة سيئة، و ترشد الناس إلى أنّ التزكية من شؤون الربوبيّة يختصّ بها من يكون عليما خبيرا و غنيّا، فالإنسان الفقير المحتاج الذي لا يملك لنفسه شيئا مهما بلغ من الفضائل و الكمال و الشرف غير قابل لتزكية نفسه، فهي كلّها نعم ربوبيّة فيضها على من يشاء من عباده، فهو يزكي من عباده، لعلمه بأحوالهم و أفعالهم و أخلاقهم و سرائرهم، و قد تعارض تزكيتهم لأنفسهم مع ما فيهم من الصفات و هم يعلمون ذلك، و المزكي لنفسه لا بد من أن تطابق سريرته مع علانيته، فاللّه تعالى يزكي من يشاء من عباده المؤمنين الصالحين الذين تأهّلوا لذلك؛ لأنّه عزّ و جلّ العليم الخبير بالحقائق و خفايا الأمور قد زكى جلّ شأنه في القرآن الكريم أنبياءه العظام و رسله الكرام و بعض أوليائه بالصلاح و التقوى، و من أعظمها ما ورد في شأن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4].

قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً الفتيل الخيط الذي في شقّ النواة، و يضرب به المثل في الشيء الحقير، كما أنّ النقير هو الذي في ظهر النواة، و القطمير هو قشرتها الرقيقة، و قد وردت جميعها في القرآن الكريم أمثلة للقلّة و الحقارة.

و قيل: الفتيل هو ما يفتل بين الأصابع من خيط أو وسخ فتدلكه بها.

و الآية المباركة في موضع التعليل للآية السابقة، أي: أنّ اللّه تعالى يزكي من يشاء لأنّه لا يضيع الحقوق، بل يضعها في موضعها، و لا يظلم أحدا فلا يسلبه

ص: 277

حقّه، فإن كان زكيّا يصله إلى جزاء عمله، و إن لم يكن كذلك فلا يستفاد من تزكيته لنفسه شيئا.

و يستفاد من ذلك أنّ التزكية الحاصلة من الإنسان لنفسه إنّما هي من الظلم للنفس؛ لأنّه إن لم يهذبها عن الرذائل و لم يزيّنها بالكمالات، رجع ذلك إلى الغرور و التكبّر و الاستعلاء على الغير.

قوله تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ بيان لبعض ما يتصف به من يزكي نفسه، و قد ذكر عزّ و جلّ ثلاثة أوصاف له: الكذب، و البخل، و الحسد، و يظهر من ذلك أنّ التزكية للنفس أمر مستنكر تستتبع أهمّ الصفات الرذيلة و أشنع الأخلاق الفاسدة، و لمزيد التشنيع عليهم أنّ اللّه تعالى أمر نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بالنظر تأكيدا للتعجّب المستفاد من سياق الآية الشريفة، و أنّهم مع تزكيتهم لأنفسهم و ادعائهم الفضل لها باطلا، يفترون على اللّه الكذب بتلك الافتراءات التي حكاها عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة، كادعائهم النبوّة، و أنّ اللّه تعالى خصّهم بحبّه و ولايته، و غير ذلك ممّا افتروه عليه سبحانه و تعالى.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ التزكية بنفسها كذب؛ لأنّه تصرّف في سلطان اللّه تعالى. و في التصريح بالكذب مع أنّ الافتراء أيضا - كذلك كما عرفت - للتأكيد و المبالغة على شناعة الفعل، فإنّ الكذب على اللّه تعالى يختصّ بمزيّة، و هي أنّه افتراء محض.

قوله تعالى: وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً أي: كفى بالكذب على اللّه تعالى أنّه إثم ظاهر واضح؛ لأنّ في التزكية جرأة على اللّه تعالى و محادّة له عزّ و جلّ و شرك و تصرّف في سلطانه، و وصف الذنب بالمبين لتعظيمه و ذمّه، و هو كاف في استحقاقهم العذاب و الجزاء، و تقدّم أنّ من يشرك باللّه تعالى فقد افترى إثما عظيما (الآية - 48)، و هنا كان إثما مبينا للإرشاد

ص: 278

إلى كون فاعله آثما بالإثم الظاهر، و معه كيف تتحقّق التزكية لأنفسهم منه، و لا يمكن أن يكون زكيا عند اللّه تعالى.

و يستفاد منه أنّ التزكية للنفس من الإثم الواضح الذي يمنع الإنسان من نيل الخيرات و الوصول إلى الكمالات، فهي مع الشرك متساويان في منع نزول الرحمة و المغفرة، كما عرفت في الآية الكريمة السابقة.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ تقدّم أنّ مثل هذا الخطاب ذو الأسلوب الرفيع يدلّ على التقريع و التوبيخ بأنّهم مع إتيانهم النصيب من الكتاب لا بد أن يكون كافيا في ردعهم عن القبائح و الآثام، و للتعريض بأحوالهم بأنّهم على خلاف الحقيقة، فإنّهم مع ادعائهم إيتاء الكتاب لا يكونون كذلك، إلا أنّهم أوتوا نصيبا باعتبار ما بقي من الكتاب الإلهي الذي أنزله عزّ و جلّ لتكميل النفوس و تهذيبها، و لكنهم ضيعوه بالتحريف و التبديل، و في الآية الشريفة التأكيد للتعجيب السابق.

قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ مادة «جبت»، تدلّ على كلّ ما لا خير فيه، و قد استعملها القرآن الكريم في كلّ ما يعبد من دون اللّه سبحانه و تعالى لرجوعه إلى الضلال،

و في حديث الدعاء: «اللهم العن الجوابيت و الطواغيت، و كلّ ندّ يدعى من دون اللّه»، و سمّي بالجبت كلّ ضال مضلّ . و الطاغوت مبالغة في الطغيان، يطلق على كلّ متجاوز عن الحدّ في الطغيان و الضلال، مثل الأصنام و الشيطان، و رؤساء الشرك و العناد، و الجبت و الطاغوت يشتركان في إطلاقهما على كلّ ما يكون سببا للخروج عن الحقّ و الصراط المستقيم، سواء كان صنما أو شيطانا أو إنسانا أو العصبية و الأهواء الباطلة، فلها وجود نوعيّ يشمل جميع الأفراد و المصاديق التي تكون ضالّة و مضلّة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لهاتين الكلمتين معان متعدّدة، و الحقّ أنّها مصاديق لهما، و إنّما تعرف من القرائن المحفوفة بالكلام.

ص: 279

و الآية الشريفة تدلّ على خبث باطنهم في أنّهم يتركون الهداية و الإيمان بالحقّ ، و يؤمنون بكلّ ضالّ مضلّ ، و أنّهم نصروا المشركين و قضوا للجبت و الطاغوت كما حكى عنهم عزّ و جلّ بعد ذلك، فحرموا أنفسهم من كلّ خير و هداية.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بيان لإيمانهم بالجبت و الطاغوت، أي: يحكمون لقومهم الذين كفروا، فاستحقوا بذلك أن يكونوا مؤمنين بهما، فإنّ الحكم للباطل إنّما يكون لأجل أنّه من مصاديق الجبت و الطاغوت.

قوله تعالى: هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً بيان لقولهم و اظهار لعقائدهم، و الآية المباركة إشارة إلى أهل مكة و مشركيها، أي: أنّهم حكموا لهم بأنّهم أهدى من أهل الإيمان و أقوم سبيلا.

و إنّما أوردوا أفعل التفضيل في كلامهم على سبيل الاستهزاء، و إلا فإنّهم لم يلحظوا معنى التشريك فيه. و قد وصف سبحانه و تعالى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتباعه بالوصف الجميل، فإنّهم الذين آمنوا تخطئة لمزاعم الكافرين و ردّا لما وصفوا أهل الإيمان بأشنع القبائح.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ أي: أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب لعنهم اللّه و أبعدهم من رحمته، و إنّما أشار إليهم بالبعد لأجل بعدهم عن الحقّ و غورهم في الضلالة و كفرهم بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و خبث باطنهم.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً بيان لجريان سنّته جلّ شأنه في الذين لعنهم اللّه تعالى و طردهم عن رحمته بأنّه لا ناصر لهم، و من ذا ينصر على اللّه من لعنه، فلا ينصرهم أحد فيمنع عنهم العذاب.

ص: 280

قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ بيان لصفة اخرى من الصفات الذميمة التي اتّصف بها من زكّى نفسه بعد أن وصفهم بالإيمان بالجبت و الطاغوت و العداوة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين و تفضيل المشركين عليهم.

و هذه الصفة هي البخل الذي يكون مصدرا لجملة من الرذائل الأخلاقيّة، و كان سبب ذلك أن سبل الهداية بعد ما خفقت في تهذيب النفوس المريضة التي تدعي لنفسها الكمال و تزكّيها بالفضائل و هم بعداء عنها.

و (أم) منقطعة، أي التي لا تقع في اللفظ معادلة لهمزة استفهام قبلها، و إن تضمّنت معنى الاستفهام و الإنكار مع ترق و اضراب عن ما قبلها، كما يستفاد من سياق الكلام.

و المراد إنكار أن يكون لهم نصيب من الملك و ابطال لما يدعونه في ذلك، أي ليس لهم ذلك. و احتمل بعضهم أن تكون (أم) متصلة، و قد حذفت الهمزة، و التقدير: أهم أولى بالنبوّة أم لهم نصيب من الملك.

و نوقش فيه بأن حذف الهمزة إنّما يجوز في ضرورة الشعر، و لا ضرورة في القرآن الكلام.

و كيف كان، فالآية الشريفة في مقام تعداد رذائل ما يتصفون به بعد ادعائهم الكمال في التزكية لأنفسهم، و هكذا شأن التزكيّة الباطلة، فيكون المنساق من الآية المباركة هو الاضراب بالترقي في توبيخ اليهود، و الإنكار على المزكي لأنفسهم.

و المراد بالملك هو السلطنة على الأمور المعنويّة و الماديّة، كالنبوّة و الولاية و الهداية و الثروة، كما هو المستفاد من سياق الآية الكريمة، فإنّها تحكي عن أحوال اليهود و أهل الكتاب الذين يدّعون لأنفسهم الولاية و القضاء و الانتصار على المؤمنين و رجوع الملك الظاهري إليهم، و غير ذلك ممّا حكي عنهم القرآن الكريم

ص: 281

في مواضع مختلفة. و قد ذكر المفسّرون في تفسير الملك وجوها مختلفة لا دليل عليها.

قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً النقير اسم للنقطة التي في ظهر النواة - كما عرفت آنفا - و قيل: إنّه فعيل بمعنى المفعول - كالقتيل أو الفتيل - و هو المقدار اليسير الذي يأخذه الطير من الأرض بنقر منقاره. و قيل: غير ذلك، و الظاهر أنّ الأوّل تشبيه بما نقر بمنقار الطائر أو منقار الحديد الذي تحفر به الأرض الصلبة.

و كيف كان، فهو مثال للشيء الحقير.

و «اذن» تكون جوابا و جزاء لشرط محذوف، و هي ملغاة عن العمل، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بها، و الفاء للسببيّة، أي: إن حصل لهم نصيب لمنعوا الناس من القليل الحقير.

و الآية المباركة تدلّ على زيادة التوبيخ و الإنكار عليهم، حيث يجعلون ما هو سبب الإعطاء - و هو النصيب - سببا للمنع.

و هذه الآية الشريفة مع سابقتها متّحدتان في الإنكار و التوبيخ عليهم و على الكافرين، إلا أنّ الاولى إنكار للوقوع، و الثانية إنكار للواقع، فإنّهم مع ما أنعم عليهم اللّه تعالى من النعم الدنيويّة الظاهريّة من الثروة و الزراعة و العقار و غير ذلك، و لكنّهم عرفوا بالشحّ و البخل و الحرص على المنع من أدنى الأشياء و أحقرها؛ و لهذا اختصّت هذه الآية الكريمة بالملك الدنيويّ لبيان ما هو الواقع.

و أما الاولى، فكانت عامّة تشمل الملك المعنوي و الظاهري المادي، فلا تكون الثانية مخصّصة للأولى كما زعمه بعض المفسّرين.

قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ انتقال من توبيخ إلى توبيخ آخر، و من إنكار صفة ذميمة إلى إنكار صفة اخرى أشدّ قبحا، و هي الحسد الذي هو من أقبح الرذائل المهلكة، و سوق الكلام مع اليهود كالسابق.

ص: 282

و المراد من الناس هو سيدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، الدال على أنّ ما أطلق عليه الناس من آل إبرهيم هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و يمكن شمول الآية المباركة للمؤمنين أيضا، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان واسطة الفيض عليهم بما آتاه اللّه تعالى من الفضل العظيم، و هو الكتاب و المعارف الربوبيّة و الكمالات المعنويّة، و حسدهم عليهم لمنعهم من ذلك الفضل و حصره فيهم غرورا و بخلا به.

قوله تعالى: عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيان لعلّة حسدهم على الرسول الكريم لما آتاه اللّه تعالى من النبوّة و الرسالة، و المؤمنين بما آتاهم من الكرامة و المعارف الربوبيّة التي كانت السبب في حقدهم الأكبر ضدّ الدين الحقّ و الإسلام؛ و لذا كان صراعهم معهم مستمرا إلى أن تقوم الساعة، كما تدلّ عليه آيات كثيرة، قال تعالى: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ اَلْيَهُودُ وَ لاَ اَلنَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [سورة البقرة، الآية: 120]، و قال تعالى:

وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اِسْتَطاعُوا [سورة البقرة، الآية: 217].

و إطلاق الآية الكريمة كما يشمل الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتبار ما اوتي من الرسالة و الوحي و الكمالات، كذلك يشمل أمناء اللّه و أمناء رسوله على وحيه و دينه، باعتبار ما أتوا من المقام الرفيع و المنزلة السامية و وجوب الطاعة و ما حباهم من الفضل العظيم، و يدلّ على ذلك

ما ورد عن الإمام الباقر عليه السّلام في تفسير الآية الشريفة: «نحن المحسدون»، و روي مثله عن الإمام الصادق عليه السّلام.

و يمكن أن يكون قوله تعالى: ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ بيانا للملك في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ ، و القرآن يبيّن بعضه بعضا.

ص: 283

قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ إبطال لمزاعمهم و تعليل للاستقباح و سوق الكلام يفيد كمال الاعتناء بالأمر، كما يستفاد من الفاء - التي قيل فيها إنّها فصيحة - و للالتفات، و إجراء الكلام على سنن الكبرياء.

و المعنى: أن يحسدوا الناس على ما أوتوا من الفضل، فإنّه ليس ببدع، فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب الشامل للتوراة و الإنجيل و القرآن الكريم و الحكمة، و هي المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة فهم على خطاء و وهم عظيم.

و في الآية المباركة إيناس لهم في نيل مقصدهم و قطع لرجائهم في زوال النعمة عن المؤمنين، فلن ينفعهم إلا حقدا و غيظا و همّا.

و يستفاد من الآية الشريفة تعظيم آل إبراهيم، الذين آتاهم اللّه تعالى الفضل العظيم، فيختصّ بإبراهيم و ذرّيته الأنبياء و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لا يشمل بني إسرائيل الذين يدّعون أنّهم من نسل إبراهيم، فإنّ الآية الشريفة تكون في شأن غير الظاهر المراد.

و الجملة: تدلّ على أنّ المراد من الناس بعضهم دون الجميع - كما عرفت آنفا - فإنّ آل إبراهيم لا يشمل المؤمنين إلا إذا أدرجناهم في الآية بالعناية كما عرفت آنفا، بل يمكن أن يقال: إنّ ايتائهم الكتاب و الحكمة قرينة اخرى على أنّ المراد منه إبراهيم، و هذا النبي و آله صلّى اللّه عليه و آله، باعتبار أنّهم حفظة الكتاب و مستودع علم الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً تأكيد لاستقباح حسدهم و تقريع لهم بذلك، فإنّهم مهما حسدوا الأنبياء و المؤمنين، فإنّ اللّه تعالى آتاهم ما لم يؤت أحدا من العالمين، فقد آتاهم ملكا عظيما من النبوّة و الرسالة و الولاية، و ليس المراد بالملك هنا الملك الدنيويّ الماديّ ، فإنّ اللّه تعالى لم يعهد منه أن استعظمه في القرآن الكريم إلا إذا استتبع فضيلة

ص: 284

معنويّة و كان سبيلا في نيل المقامات الرفيعة، فالمراد بالملك العظيم هنا سلطان الرسالة و عظمة الدين و الشريعة و زعامة الإمامة التي منحها لإبراهيم عليه السّلام بعد الابتلاء العظيم، فتشمل الآية الشريفة النبوّة و الإمامة، فإنّهما الملك العظيم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الكتاب و الحكمة؛ لأنّهما من مظاهر النبوّة و الإمامة و المبينين لسلطتهما.

قوله تعالى: فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ الضمير في (منهم) يرجع إلى أولئك الكافرين الذين وصفهم في الآيات السابقة بأوصاف مختلفة، و قيل: يرجع إلى آل إبراهيم، و الضمير في «به» الى الملك العظيم، أو ما اوتي آل إبراهيم، و قيل: يرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه.

و الظاهر أنّه لا نزاع في البين، فإنّ المرجع شيء واحد، و هو الحقّ المتمثّل تارة في إبراهيم و آله، و الملك العظيم أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، كما ذكره عزّ و جلّ في الآية التالية.

قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ الصدّ الصرف، و تستعمل قاصرة بمعنى أعرض، يقال: صرف نظره أو وجهه عن الشيء إذا أعرض عنه، فيكون المعنى: و من هؤلاء الكافرين الذين وصفهم اللّه تعالى بتلك الأوصاف المتعدّدة في الآية السابقة طائفة أعرضوا عن الإيمان أو الملك العظيم، فيتمّ التقابل بين الطائفتين من غير عناية زائدة.

كما تستعمل بمعنى الصرف، يقال: صدّ غيره إذا صرفه عنه و نفّره منه، فيكون المعنى أنّهم لم يؤمنوا به و بذلوا جهدهم في صدّ الناس عن سبيل اللّه تعالى و الإيمان بالملك العظيم، و هذا هو شأن اليهود، كما حكي عزّ و جلّ عن أحوالهم في القرآن الكريم، فتكون المقابلة بين الطائفتين مع عناية زائدة.

و تقسيمه عزّ و جلّ أولئك إلى هاتين الطائفتين تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و لبيان أحوالهم في يوم القيامة، فتكون الآية التالية بمنزلة الشرح و التعليل لها، و لبيان

ص: 285

الفرق العظيم بينهما، فإنّهما على طرفي النقيض، و على قطبين متخالفين من السعادة و الشقاوة، فأما دخول الجنّات و التنعّم بأنواع النعم، و أما دخول جهنم و الصلي بالنار و العذاب الأبدي، الذي صوّره عزّ و جلّ في الآية التالية بأعظم صورة و أبدع أسلوب.

قوله تعالى: وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً توعيد لمن صدّ عن الحقّ و تهديد لهم بعذاب جهنّم التي لا ينقطع سعيرها، فإنّهم عذاب الدنيا، و لكنّه كفاهم سعير جهنم، و السعير بمعنى المسعور، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، يقال: سعر النّار أو أسعرها، إذا أوقدها إيقادا شديدا.

و إنّما كان جزاؤهم ذلك لأنّهم سعّروا نار الفتنة على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و على الذين آمنوا، و صدّوا الناس عن الإيمان به.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تقرير لما سبق و تفصيل بعد إجمال، و تعقيب يملك مشاعر النفس و يؤثّر فيها أشدّ التأثير، و عموم الآية المباركة يشمل كلّ من كفر بآيات اللّه تعالى و دينه الحقّ ، و إن ذكرت بعد الكفر بما انزل على آل إبراهيم، فإنّهم سوف يصلون نار جهنّم و يدخلونها يوم القيامة.

و إنّما دخلت «سوف» لإمهالهم حتّى يرجعوا إلى دين الحقّ ، كما هو دأب القرآن الكريم في بيان العذاب، و ذكر بعضهم أنّ (سوف) للتهديد، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها أعظم آية تثير الرهبة و الفزع في النفس، و هي تملك الحّس و يقشعرّ منها الجلد، فلا تدع مجالا للتفكّر في غير الإيمان و رفع هذا العذاب الأبدي، الذي لا يعرف مداه، فإنّ أعظم ما يصيب الإنسان من العذاب في الدنيا هو الحرق بالنار و الألم الذي يحسّه منه هو شديد، و لكنّه مع ما فيه من القوّة و الشدّة هو هين

ص: 286

بالنسبة لعذاب لا أمد فيه و لا ينقطع ألمه و لا يقف عند حدّ، و أوّل ما يتصوّره الإنسان من ملاحظة هذه الآية الشريفة أنّ الاحتراق يصيب الجلد كلّه بما فيه من الإحساس، و أنّ صاحبه لا يجد الراحة، فلا يشفى و لا يموت، فإذا احترق منه الجلد و نضج كما ينضج اللحم بالنّار، فلا بد أن يقلّ إحساسه إن لم نقل بزواله، فإذا له في نفس اللحظة جلد جديد بكامل إحساسه ينقل إليه الحسّ بالعذاب ليذوقه، فهو في احتراق دائم لا يتوقّف و لا يكفّ و لا يقلّ ، فنفس تصوّر مثل هذا العذاب و تخيّله أمر فوق الطاقة يثير الخوف و الدهشة، و لا يمكن تحمّله فكيف بالعذاب الحقيقي ؟! فما بال الإنسان لا يتذكّر في عواقبه و ما يرد عليه، و ما أعظم غفلته و ما أكثر إعراضه! و الآية الشريفة المباركة تبيّن الحقيقة و الواقع الذي يؤول إليه الكافر، و ليست هي مجرّد تمثيل أو كناية، كما يدّعيه بعض المفسّرين.

و مسألة نضج الجلود أثّرت في النفوس و غلبت على مشاعر المؤمنين، فآمنوا بما أنزله تعالى و استرهبوا قدرته و استوهبوا مغفرته و رضوانه، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في مسألة تبدّل الجلود إلى جلود اخرى، فأثاروا مسألة اخرى، و هي كيفية استحقاق الجلود الجديدة للعذاب، و ذكروا وجوها في دفع هذه المشكلة، جميعها لا تجدي شيئا، و هذه المسألة من فروع المعاد الجسماني الذي دلّت عليه آيات كثيرة، قال تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ اَلْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً * وَ قالُوا أَ إِذا كُنّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً * قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِمّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ اَلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً [سورة الاسراء، الآية: 48-51]، و قد غفلوا عن أمر القيامة و بقاء الأجسام في النّار العظيمة المهولة، مع أنّها لا تقلّ عن تبديل الجلود إلى جلود اخرى، فهي جلود جديدة مكوّنة من نفس البدن المستحقّ للعذاب،

ص: 287

و قد أوضح ذلك

الإمام الصادق عليه السّلام فقال عليه السّلام: «هي هي، و هي غيرها»، و شبّهها عليه السّلام باللّبنة إذا كسرت و دقت فصارت ترابا ثم صبّ عليها الماء فصارت لبنة اخرى، فهي هي في المادّة، و إنّما حدثت المغايرة في الصورة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ أي: إنّما كان ذلك ليدوم ذوقهم للعذاب فلا ينقطع، و التعبير بالذوق لبيان الإحساس المرير.

و قيل: لبيان أنّه لا يدخله نقصان بدوام الملابسة، أو للاشعار بمرارة العذاب، و للإعلام على حدّة تأثيره.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً تعليل لما سبق، أي: إنّما عذّبهم اللّه تعالى بذلك العذاب المرير؛ لأنّ اللّه تعالى عزيز لا يمنعه مانع إذا أراد العذاب، و هو قادر عليه حكيم في أفعاله، لا يعذّب أحدا من دون سبب و لا علّة، كما لا يجزى المحسنين إلا كذلك، و أما العفو و مضاعفة الحسنات، فهو فضل منه جلّت عظمته.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ بيان لحسن حال المؤمنين، و تنبيه لمعرفة التفاوت العظيم بين الطائفتين - المؤمنين و الكافرين - في الجزاء. و في تعقيب تلك الطائفة بالمؤمنين لتتميم الرهبة بالرغبة، و لتكميل المساءة بالمسرة.

و المراد بالموصول هم الذين آمنوا بالرسول الكريم و ما انزل عليه من المعارف الإلهيّة و الأحكام، التي هي لصالح البشرية و صلاحها.

و عقّب سبحانه و تعالى الإيمان بالعمل الصالح، للدلالة على أنّ الجزاء العظيم الذي يناله المؤمنون إنّما يكون بالأمرين، الإيمان و العمل الصالح، فلا جدوى في أحدهما مع انتفاء الآخر، فإنّ الإيمان بغير عمل صالح لا يكفي لتزكية

ص: 288

النفس و إعدادها لذلك الجزاء العظيم، كما أكّد على ذلك القرآن الكريم في مواضع متفرّقة.

نعم، في الإيمان المجرّد قد يكون بعض الآثار - كما هو معروف - فهو يكفي في تخفيف العذاب أو لنيل الشفاعة و غير ذلك.

قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

السين و سوف يدلان على التنفيس وسعة الاستقبال و اختلفوا فيهما، فقيل:

إنّ (سوف) أبلغ في الاستقبال و التنفيس من السين، و قيل: هما متساويان.

و كيف كان، ففي دخول السين في جزاء أهل الجنّة، و سوف في جزاء أهل النّار من البلاغة ما لا يخفى، فإنّ رحمته الواسعة اقتضت أن يعجّل لأهل النعيم نعيمهم، و لا يعجّل لأهل العذاب عذابهم، بل يمهل لهم حتّى يتوبوا، فكان ذلك سببا في دخول (سوف) الدال على التراخي و التنفيس و السعة في جزائهم.

و توصيف الجنات بجريان الأنهار من تحتها، لبيان روعة تلك الجنّات و صفائها.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً الخلود: دخول المكث، و تأكيده ب: «أبدا» لزيادة المنّة، و لبيان أنّ نعيم الجنّة لا ينقطع، فتطمئن إليها نفوس المؤمنين، و يذهب عنها الخوف و الحزن، كما دلّت عليه آيات اخرى.

قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ بيان لترادف نعمه و آلائه على المؤمنين في أنّ لهم حياة هنيئة في تلك الجنّات، منها أنّهم يعيشون مع أزواج متعدّدة مطهّرة من كلّ عيب و دنس، خلقا و خلقا، كما يدلّ عليه إطلاق التطهير، فلا ينافي ذلك

ما ورد في بعض الأخبار عن الصادق عليه السّلام: «اللاتي لا يحضن و لا يحدثن»، فإنّه في مقام بيان أكبر القذارات الملازمة لنوع النساء.

ص: 289

قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً قال الراغب: «الظل أعمّ من الفيء، فإنّه يقال: ظل الليل و ظل الجنّة، و يقال لكلّ موضع لم تصل إليه الشمس: ظل، و لا يقال الفيء إلا لما زالت عنه الشمس، و يعبّر بالظل عن العزّة و المنعة و عن الرفاهة».

و الظليل: صفة اشتقّت من الظل تؤكّد معناه، أي: ظل الجنّة دائم لا حرّ فيه، و لا تنسخه شمس كظلّ ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس في هذه الدنيا، قال تعالى: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ * وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة، الآية: 30-33].

و يمكن أن يكون المراد من الظلّ قرب الوصول إليه تعالى في الجنّة، فإنّ المؤمن في هذه الدنيا و إن كان قريب الوصول إليه تعالى، و لكنّه في عالم الجنّة أقرب، فادخله في ظلاله و إن ظلّه جلّ شأنه عليه دائما لا ينفع.

كما يمكن أن يكون المراد من الظلّ خلع المؤمن الكثافات الجسمانيّة عن نفسه و تنزّهه عنها في ذلك العالم، فكما أنّ الظلّ شيء، و لكنّه مجرّد عن الكثافة كذلك المؤمن لتناسب المكين مع المكان، و إنّ شرف المكان بالمكين، فيدخل اللّه تعالى المؤمن الجنّة بعد تطهيره عن الكثافات الجسمانيّة، كما دلّت عليه آيات شريفة و روايات كثيرة في وصف أهل الجنة يأتي التعرّض لهما إن شاء اللّه تعالى.

و قد عبّر عن المجرّدات بالظلّ في لسان الأئمة عليهم السّلام كثيرا؛ للإشارة إلى أنّ المجرّدات قد يكون من الجواهر، فإنّها شيء لا كالأشياء، فعبّر عن عالم الذرّ بعالم الظلّ ،

ففي حديث مفضل: «كيف كنتم حيث كنتم في الأظلّة، قال: يا مفضل كنّا عند ربنّا في ظلّ خضراء»، فهو كناية عن قدسية أرواحهم الشريفة، و أنّها كانت من القرب المعنوي الى المبدأ الأعلى،

و في حديث صفات الباري جلّ شأنه:

«أزليّا صمديّا لا ظلّ يمسكه، و هو يمسك الأشياء بأظلّتها».

و كيف كان، فإنّ الآية المباركة تبيّن عظيم جزاء أهل الجنّة، و تصوّره

ص: 290

بأعظم صورة في أحسن أسلوب و أبدع عبارة، تنشرح النفوس عند سماعها، و يشتاق الإنسان الى تلك النعمة العظيمة، رزقنا اللّه تعالى التفيؤ في تلك الظلال الوارفة برحمته الواسعة، فإنّه أرحم الراحمين.

بحوث المقام
بحث أدبي

تقدّم مكرّرا أنّ جملة: «الم تر» تستعمل في مقام التعجّب و الإنكار على الغير، و التنبيه على رداءة الفعل، و إنّما عدّيت بكلمة (الى) لتضمّنها معنى ألم يصل الى علمك.

و (فتيلا) في قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً منصوب على أنّه مفعول ثان ليظلمون.

و قيل: منصوب على التمييز، كقولك: «تصبّبت عرقا».

و انتصاب «إثما» في قوله تعالى: إِثْماً مُبِيناً على التمييز.

و «أم» في قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ منقطعة، و هي التي لا تكون معادلة كهمزة الاستفهام في اللفظ و إن تضمّنت في الأكثر الاستفهام الإنكاري مع ترق و اضراب عن ما قبلها، فتدلّ على إبطال مدخولها.

و «إذا» في قوله تعالى: فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً ملغاة عن العمل، كما هو المعروف، و اختلفوا في أنّه على سبيل الجواز أو غير ذلك، فقيل بالأوّل إذا وقعت بعد الواو و الفاء، مع اتفاقهم على أنّ عملها - و هو نصبها المضارع - مشروط بتصديرها، أي: يكون ما بعدها جزاء للشرط الذي قبلها المذكور في الكلام.

ص: 291

و كيف كان، ف (إذا) تكون جزاء و جوابا في الأكثر كما يقال لك: أحبّك، فتقول: إذا أظنّك صادقا، و التفصيل يطلب من كتب النحو.

و (سوف) في قوله تعالى: سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً تسويف و تنفيس وسعة الاستقبال كالسين، و قيل: تأتي سوف للتهديد و تنوب عنها السين، و استشهدوا بهذه الآية الكريمة، و لكنّه بعيد، و استفادة التهديد إنّما تكون بقرائن خارجيّة.

و كيف كان، فالمعروف أنّ (سوف) أبلغ من السين في التنفيس وسعة الاستقبال في المضارع الذي تدخله؛ نظرا الى القاعدة المعروفة: «إن زيادة المباني تدلّ على زيادة المعاني»، و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك، فراجع.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية للنفس بغير حقّ مذموم لا تصدر من عاقل، و قد وصف اللّه تعالى المزكّين لأنفسهم في الآيات الكريمة بأمور تدلّ على بعدهم عن الكمال و سفاهة أحلامهم و اتصافهم برذائل الأخلاق، منها الكذب على اللّه تعالى، و منها الإيمان بالجبت و الطاغوت، و الإعراض عن الحقّ ، و الازدراء بالذين آمنوا و ترجيح الكافرين و الباطل عليهم. و منها: البخل ممّا آتاهم اللّه تعالى الذي أخذ العهد منهم بالبذل، و منها: الحسد لأهل الفضل و من حباهم اللّه بالفضل العظيم، و لعلّه لأجل اتصافهم بهذه الصفات الذميمة أوجبت استحقاقهم بأشدّ العذاب، و أرشدهم عزّ و جلّ الى نبذهم هذه العادة السيئة، فإنّ اللّه تعالى يعلم حقيقة الأمر و واقع الحال، و كلّ يرجع الى عمله و ما استحقّه من الجزاء، و لا يظلمون في أقلّ ما يمكن أن يتصوّر، و لا عبرة بتزكيتهم لأنفسهم.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: بَلِ اَللّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ أنّ التزكية حقّ من حقوق اللّه تعالى، و لا يحقّ لأحد التدخّل في شؤون الخالق و ما يخصّه عزّ و جلّ ،

ص: 292

و قد بيّن عزّ و جلّ في القرآن الكريم شروط التزكية الحقّة الحقيقيّة، و خصّ بها أولياءه الكرام و أنبياءه العظام و المؤمنين المخلصين.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً أنّ التزكية للنفس بغير حقّ ظلم للنفس و تضييع لحقوق الآخرين، فإنّ كلّ تزكية إنّما تكون في سلب حقّ و تضييعه، و اللّه تعالى يعلم حقائق الأمور، و أنّه لا يظلم حقّ أحد و يصله الى جزاء عمله.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: اُنْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اَللّهِ اَلْكَذِبَ ، على أنّ التزكية التي كانت من حقوقه سبحانه و تعالى إذا انتحلها أحد غيره كان كاذبا على اللّه تعالى، و يختصّ الكذب على اللّه تعالى أنّه افتراء محض يقطع الرابطة الموجودة بين الإله و عبده، و يوجب البعد عنه عزّ و جلّ ، و يوجب استحقاق صاحبه العذاب العظيم و أشدّ العقوبات، كما ذكره عزّ و جلّ في الآيات التالية، و لهذا ترى أنّه عزّ و جلّ يصف الكذب عليه بأنّه افتراء.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ على أنّ الإيمان بالجبت و الطاغوت يوجب طمس الفطرة التي تقضي باتباع الحقّ و الحبّ لأهله، و أما اتباعهما، فهو يقضي تعظيم غير اللّه تعالى و الإذعان له بالطاعة، و القول بأنّ الكافرين أهدى من الذين آمنوا سبيلا، و لا يكون قولهم هذا إلا لأجل أنّهم أحبّوا طمس الحقّ و أيّدوا ستره، فاتبعوا من اتّصف بذلك و عظّموه، و ليس ذلك إلا لسبب إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فابتعدوا عن الحقّ و طمسوا نور فطرتهم، فيكون قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً مبيّنا لبعض مظاهر إيمانهم بالجبت و الطاغوت، فاستحقّوا اللعنة و الطرد عن مظاهر الرحمة الإلهيّة.

السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً على أنّ من استحقّ اللعنة بسبب سوء اعتقاده و أعماله لا تشمله الرحمة الإلهيّة، فهو في عذاب

ص: 293

الخذلان و البعد عن ساحة الرحمن دائما، و كيف تشمل الرحمة من أبعده اللّه عن ساحته و طرده عن قربه إليه، فلا ناصر له من الشفاعة و غيرها حتّى ينجيه من العذاب الذي استحقّه باختياره و يهديه الى الرشاد.

و إطلاق الآية المباركة يشمل عدم النصرة و الخذلان في الدنيا و الآخرة، و إن كانت الاولى أهون بالنسبة الى الثانية، و سواء كان الناصر هو تعالى بالأسباب أم غيره.

السابع: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ على الذمّ و التشنيع عليهم بأنّ كونه ذوي نصيب من الكتاب لا بد أن يكون مانعا عن الإيمان بالجبت و الطاغوت، فيكون إيمانهم بهما مع الكتاب لهم أشنع و أفظع.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً غاية بخلهم و شدّة حرصهم على منع الناس من أدنى النفع و أحقره، فالآية الشريفة تبيّن ما تقتضيه طباعهم لو حصل لهم ملك ن فهم بعيدون عن الملك المعنوي و ليس لهم أي نصيب منه، و إنّ الذي هو موجود في أيديهم إنّما هو الملك المادّي من المال و التجارة، و لا ضير في ذلك بعد ما تكفّل عزّ و جلّ أرزاق عباده و ما هو موجود في أيديهم، ضرره عليهم أكثر من انتفاعهم منه، فقد امتحنهم اللّه تعالى به و ظهر سوء سرائرهم و أوجب ابتعاد الناس عنهم.

التاسع: ترتّب قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإن اتّصف بالبخل و شدّة الحرص و تزكية النفس بالادعاء الباطل و كتمان الحقّ و عدم الايمان به و عدم الإذعان للفضل و الفضيلة، يستتبع الحسد العظيم و تمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة، الآية: 109]، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه، و هو البخل و كتمان الحقّ و تزكية النفس بالادعاء الباطل و الإيمان بالجبت و الطاغوت، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض، و كيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب و إزالتها و تخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض، و إذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

ص: 294

التاسع: ترتّب قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ على الآيات السابقة من قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإن اتّصف بالبخل و شدّة الحرص و تزكية النفس بالادعاء الباطل و كتمان الحقّ و عدم الايمان به و عدم الإذعان للفضل و الفضيلة، يستتبع الحسد العظيم و تمنّي زوال كلّ فضل عن صاحبه، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ [سورة البقرة، الآية: 109]، فإنّ الحسد لا ينبت في قلب إلا إذا ما وجد ما يقتضيه، و هو البخل و كتمان الحقّ و تزكية النفس بالادعاء الباطل و الإيمان بالجبت و الطاغوت، فإنّ كلّ ذلك ممّا يمهد القلب للاتصاف بالحسد الذي هو من الأمراض المهلكة، فحينئذ يستفاد من الآية المباركة أسباب هذا المرض، و كيفية علاجه إنّما تكون بالانقلاع عن الأسباب و إزالتها و تخلية النفس عن الرذائل الموجبة للحسد، فهذه الآيات الشريفة تبيّن أسباب هذا المرض، و إذا عرف السبب أمكن علاجه بسهولة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

العاشر: يستفاد من قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ شدّة الألم، لأنّ النضج هو المرتبة الدانية من الطبخ، الذي يوجب زوال الحسّ ، بخلاف النضج، فإذا تعدّى عن مرتبة النضج تبدّلت جلودهم الى جلود اخرى.

الحادي عشر: لا تنافي بين قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها و بين قوله تعالى: إِنّا أَعْتَدْنا لِلظّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي اَلْوُجُوهَ بِئْسَ اَلشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف، الآية: 29]؛ لاختلاف طبقات السعير حسب الجرائم، و يمكن الاختلاف حسب اختلاف الأزمنة أو الحالات التي تمر عليهم.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ ، أنّ السبب في تبديل الجلود التي نضجت و احترقت الى جلود اخرى هو ذوق العذاب و مقاساته؛ لأنّهم انغمسوا في الرذائل و اتصفوا بصفات مهلكة.

و التعبير بالذوق لبيان شدّة إحساسهم بالعذاب و دوامه، و يدلّ ذلك على بقاء أبدانهم على حالها مصونة، و لا بد أن يكون كذلك حتّى يدوم مقاساة أهوال النّار و يدوم ذوقهم للعذاب، و هو يدلّ على إياسهم عن النجاة.

ص: 295

و تبيّن الآية المباركة تمام قدرته عزّ و جلّ على بقاء الأبدان و تبديل الجلود المحترقة، مع أنّ احتراق الجلود يستلزم احتراق الأبدان، لكنّ لجهنّم حياة خاصّة كما هي ثابتة بالأدلة الكثيرة.

الثالث عشر: يستفاد من الآية المباركة أنّ التبديل بما هو تبديل أيضا نحو عذاب و مشقّة لهم، و إن لم يكن باختيارهم.

الرابع عشر: يستفاد من قوله تعالى: بَدَّلْناهُمْ حيث أضاف التبديل الى نفسه الأقدس كمال القدرة و القهّارية، و أنّ ذلك لا يمكن لغيره جلّ شأنه.

الخامس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً أنّ الخلود إنّما يكون للبقاء في الجنّة، و الأبديّة إنّما هو لدوام النعمة المتنعّم بها المؤمن فيها، أي: يخلد في الجنّة و يدوم في النعمة، و هذا الاحتمال أولى، حملا للكلام على التأسيس الذي هو خير من التأكيد.

السادس عشر: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ التطهير عن كلّ ما يشوب المادّة، فتكون مطهّرة عن الأنجاس و الأرجاس و ملابسات المادّة و غيرها، و يقتضي الإطلاق ذلك كما مرّ في التفسير.

السابع عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً على كمال العناية بالمؤمنين، حيث شرّفهم اللّه عزّ و جلّ أن أدخلهم في ذلك الظلّ الوارف.

و يمكن أن يستفاد من الآية الشريفة أنّ كلّ شيء في الجنّة ظلّ لا مادّة له للطافته، بخلاف ما في الدنيا.

و التكرار في كلمة (ندخل) في قوله تعالى: سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي ، و في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ، إنّما هو للتأكيد و التشريف لرفع شأن المؤمن حين دخوله الى الجنّة.

ص: 296

بحث روائي

في الكافي بسنده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «كلّ راية ترفع قبل قيام القائم، فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: و قريب منه غيره، و الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، و لعلّ الوجه في ذلك عدم إمكان إجراء صاحبها الحقّ المحض و العدالة الاجتماعيّة الكاملة، فتكون الدعوة حينئذ إلى خلاف الواقع بزيّ الواقع، و تلبيس غير الحقّ بلباس الحقّ مع العلم و الاختيار، فيكون ذلك عبادة من دون اللّه عزّ و جلّ ، بخلاف ما لو ظهرت دولة الحقّ و ورث الأرض و من عليها من أراده اللّه تعالى، و هو الإمام المعصوم المؤيّد منه جلّ شأنه، فلا يبقى حينئذ للباطل مجال و لا للجور مكان بعد ظهوره إما لتكميل نفوسهم و عقولهم بالسير الاستكمالي، أو بشروق ربانيّ كما في بعض الروايات، و ما ذكرنا لا ينافي وجوب القيام لتبليغ الأحكام و تطبيقها قبل قيام الحجّة الثابت بالأدلّة الأربعة، إن لم يناف المقرّرات الشرعيّة من جهة اخرى.

و في الدرّ المنثور: عن ابن عباس قال: كانت اليهود يقدمون صبيانهم يصلّون بهم و يقرّبون قربانهم و يزعمون أنّهم لا خطايا لهم و لا ذنوب، و كذبوا قال اللّه تعالى: «إني لا أطهّر ذا ذنب بآخر لا ذنب له»، ثم أنزل اللّه: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ .

أقول: الرواية أيضا من باب التطبيق و مطابقة للآية المباركة: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة الأنعام، الآية: 164].

و عن السدّي في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ ، قال:

نزلت في اليهود، قالوا: إنّا نعلّم أبناءنا التوراة صغارا، فلا يكون لهم ذنوب، و ذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كفّر عنا بالليل».

ص: 297

أقول: لا ينافي ذلك التطبيق و الجري على غيرهم؛ لأنّ منشأ النزول تلك الصفات السيئة و العادات الذميمة و الأخلاق الفاسدة التي كانت عند اليهود، فلو كان السبب أو العلّة موجودة في غير اليهود تجري الآية عليه و تنطبق.

و في الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فكان جوابه:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ اَلطّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ، يقولون الأئمة الضلال و الدعاة الى النّار: هؤلاء أهدى من آل محمد سبيلا: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَعَنَهُمُ اَللّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ اَلْمُلْكِ ، يعني: الإمامة و الخلافة، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ اَلنّاسَ نَقِيراً ، نحن الناس و النقير النقطة التي في وسط النواة، أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ نحن الناس المحسودون على ما آتانا اللّه من الإمامة دون خلق اللّه أجمعين، فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، يقول: جعلنا منهم الرسل و الأنبياء و الأئمة، فكيف يقرّون به في آل إبراهيم و ينكرونه في آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أجلى المصاديق، و إلا فالآيات الشريفة عامّة تنطبق على كلّ شخص يدعو الى الحقّ و الواقع، و أفاض اللّه تعالى عليه من فضله و إن كان ذلك منحصرا في محمد و آله.

و في الأمالي للشيخ، بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ قال: «نحن الناس»،

و عنه عليه السّلام في رواية بريد: «نحن الناس المحسودون».

ص: 298

أقول: الروايات في هذا المضمون متواترة في جوامع الشيعة، بل ورد من طرق أهل السنّة أيضا، ففي الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ ، قال: «نحن الناس دون الناس».

و عن ابن المغازلي في مناقبه بسنده عن جابر، عن أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: أَمْ يَحْسُدُونَ اَلنّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ فقال: «نحن الناس»،

و في المقام قال ابن الأعرابي في كتاب معجم الشيوخ: «انبأنا الغلابي، انبأنا ابن عائشة، انبأنا إسماعيل بن عمرو البجلي، عن عمرو بن موسى، عن زيد بن علي، عن آبائه عن علي قال: «شكوت الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حسد الناس إياي، فقال: يا عليّ أما ترضى أنّ أوّل أربعة يدخلون الجنّة أنّا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا و ذرارينا خلف أزواجنا و أشياعنا من ورائنا»، و رواه أحمد بن حنبل و ابن الجوزي في تذكرة الخواص باختلاف يسير.

و في تفسير العياشي: عن حمران، عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ اَلْكِتابَ ، قال: «النبوّة» و «الحكمة»، قال: الفهم و القضاء، «و ملكا عظيما» قال: «الطاعة».

أقول: الروايات في ذلك متواترة، و المراد من الطاعة الطاعة المفترضة في الأئمة عليهم السّلام، كما في بعضها.

و عن ابن المغازلي في مناقبه و ابن حجر في الصواعق في الآية الشريفة عن هشام بن الحكم عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في قوله تعالى: وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً ، قال: جعل فيهم أئمة، من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه».

و في الاحتجاج للشيخ: عن حفص بن غياث، قال: «شهدت المسجد الحرام و ابن أبي العوجاء يسأل أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله تعالى:

ص: 299

كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا اَلْعَذابَ ، ما ذنب الغير؟ قال عليه السّلام: و يحك هي هي، و هي غيرها، قال: فمثّل لي ذلك شيئا من أمر الدنيا، قال: نعم، أ رأيت لو أنّ رجلا أخذ لبنة فكسرها ثم ردّها في ملبنها و هي هي و هي غيرها».

أقول: و في هذا المعنى روايات اخرى مرويّة عنه عليه السّلام، و يستفاد منها امور:

الأول: أنّ المادّة الأوّلية موجودة في هذه التبدلات، و أنّها تذوق العذاب جزاء لما كسبت و إن تبدّلت بهيئات مختلفة و صور متعدّدة، و بهذا يرتفع كثير من الشبهات الواردة على المعاد الجسمانيّ ، كشبهة الآكل و المأكول و غيرها.

الثاني: يستفاد منها أنّ تغيير الهيئة يوجب الاختلاف في ألم العذاب و طعمه الشدّة أو الضعف أو النوع؛ لأنّ للحادث أثرا خاصّا غير ما هو السابق، كما ثبت في محلّه.

الثالث: أنّ التبديل إنّما يكون من نفس الجسم، لا من جلد خارجي.

الرابع: أنّ التبديل استمراري و تدريجي، لا أن يكون دفعيا كخلع الثوب و تبديله بثوب آخر؛ لأنّه تابع للنضج و هو يختلف حسب اختلاف الجلد، و لعلّ ذلك أشدّ عذابا من غيره، أعاذنا اللّه تعالى منه.

الخامس: يختلف زمان التبديل حسب اختلاف نضج الجلد، و ذلك حسب شدّة النّار و اختلاف الطبقات المعدّة للمجرمين،

ففي بعض الروايات كما في الدرّ المنثور: «في ساعة مائة مرّة»، و في الاخرى: «مائة و عشرين»، و هذا الاختلاف لا يضرّ بما ذكرنا، و لا فصل في العذاب عند التبديل لأنّه بنفسه عذاب.

السادس: يستفاد منها التقريب الذهني بتمثيل ما في الآخرة بما في الدنيا، سواء كان في الجنّة كما في كثير من الروايات، أم في النّار كما في المقام.

السابع: يستفاد منها أنّ تبديل الجلد بالآخر إنّما يكون مثل الجلد السابق و بأوصافه، لا أن يكون أسمك مثلا أو بلون آخر غير الأوّل.

نعم، في الدرّ المنثور أنّه يكون بيضاء، و لعلّ ذلك بملاحظة لون الجلد

ص: 300

السابق بعد النضج، فالمراد من الغير الوارد فيهما الغير في نفس الجلد و ذاته، لا في ما يتعلّق به من الصفات؛ لأنّ في ذلك نوعا من الإعجاز، فلا مجال لدعوى الإطلاق.

و في الفقيه: قال: «سئل الصادق عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ؟ قال: الأزواج المطهّرة لا يحضن و لا يحدثن».

أقول: هذا من باب ذكر بعض الصفات، كما تقدّم في التفسير.

و هناك روايات ذكرها الواحدي في أسباب النزول، تدلّ على أنّ الآيات المباركة نزلت في شأن جماعة من اليهود و غيرها من الأشخاص، و تقدّم منّا مكرّرا أنّ ذلك من باب التطبيق لا التخصيص.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً ، هو ظلّ العرش الذي لا يزول.

أقول: هذا تفسير بأجلى المصاديق، كما مرّ في التفسير.

ص: 301

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَ.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الآيتان الشريفتان من أهمّ الآيات القرآنيّة التي تبيّن دستور الحياة للمؤمنين على النهج الربانيّ الحكيم، و ترشدهم الى بعض الأمهات من الأعمال الصالحة التي يقوم بها نظام معاشهم و معادهم، كما أنّهما تتضمّنان أعظم الأحكام التي تقرّر مصير المجتمع الإسلامي و تهديهم الى نظام وثيق تتفق فيه العقيدة مع العمل، و تنتظم به علاقات أفراد المجتمع بعضهم مع بعض، و علاقاتهم مع خالقهم مثل الأمر بحفظ الأمانة و الحكم بالعدل، اللذين هما أساس كلّ نظام قويم صالح.

و الآية المباركة مع ايجازها البليغ تشتمل على التوجيه العقائدي للمؤمنين في تنظيم العقيدة مع اللّه تعالى، و تهديهم الى إصلاح علاقات المجتمع الإسلامي وفق دستور متين، يحفظ فيه كلّ العهود و المواثيق. كما تقرّر جانبا من المعاملات التي تستقيم بها الحياة الاجتماعيّة.

فهي توجيهات ترتبط فيها العقيدة مع العمل ارتباطا وثيقا، فلم تهمل جانبا، فكانت الإطاعة التي أمر اللّه تعالى المؤمنين بها هي مجمع تلك التوجيهات القويمة و العقيدة الصحيحة التي لها الأثر الكبير في إصلاح الفرد و المجتمع، فإنّ إطاعة اللّه تعالى و الرسول و أولي الأمر برزت في حفظ الأمانة، بل هي الطريق الأمثل لتأديتها الى أهلها، و سيأتي في الآيات التالية نماذج متعدّدة من التوجيهات التي تشرح هذه التعاليم و تطهّر النفوس من الخيانة و الخبث و النفاق، و تجلب لها السعادة و تصلح بها النظام.

ص: 302

و في هذه الآيات المباركة تبرز بوضوح نظرية الإسلام التربويّة التي تشتمل على العقيدة و العمل، و تتضمّن دستور الإسلام الخالد في النظام الدنيويّ و الاخروي، و إنّما أدرج سبحانه و تعالى هاتين الآيتين على أهميتهما في ضمن الآيات؛ لأنّها تضمّنت الحديث عن الكافرين و لا سيما اليهود، ليقرّر مضمونها تقريرا متينا بأحسن وجه و يبيّن حقيقة الإيمان الصحيح عن الإيمان الادعائي الكاذب الذي يدّعيه أهل الكتاب، و يرشد المؤمنين الى نبذ ما عليه الكافرون من رذائل الأخلاق، و الرجوع الى تعاليم القرآن الكريم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها بيان الهي يتضمّن دستورا ربانيّا لجميع أفراد الإنسان به، ينتظم نظامهم الدنيويّ و الاخرويّ . و الخطاب عامّ يشمل جميع المؤمنين و غيرهم؛ لأنّ مضمونه ممّا تحكم فطرة العقول بحسنه.

و الأمانات: جمع الأمانة، اسم مصدر سمّي به المفعول، و أداء الأمانة:

إرجاعها الى صاحبها.

و الآية المباركة عامّة تشمل كلّ أمانة على الإطلاق، سواء كانت خالقية أم خلقية، و لكن المهمّ منها التي تتعلّق بها سائر الأمانات و تتنظم هي الأمانة المتعلّقة بحقوق اللّه تعالى، و أهمّها عبادته عزّ و جلّ وحده بلا شريك، و الإيمان به و برسله و التحاكم الى شريعته، و اتخاذ دينه منهجا في الحياة، فإذا تمّ ذلك و أديت تلك الأمانة بحذافيرها، انتظمت سائر الأمانات و أديت الى أهلها تلقائيا؛ لأنّ بأداء الأمانة الكبرى يستشعر الإنسان بتقوى اللّه تعالى و تتحدّد مسئوليته اتجاه سائر الأمانات، فيكون مسئولا عن أدائها، و يكون مراعيا لحقوق الآخرين الذين أمرنا اللّه تعالى بمراعاة حقوقهم في الآيات السابقة، و إلا خرج عن أداء الأمانة الكبرى.

ص: 303

بل يمكن أن يقال: إنّ كلمة «أهلها» تدلّ على أنّه لا بد أن يكون المؤدّى إليه الأمانة له أهليّة الأمانة، فتختصّ الآية الشريفة بأداء الأمانة للّه تعالى و رسله و أنبيائه العظام و الأوصياء الأكرمين، فإنّ لهم أهليّة أداء الأمانة، و أما غيرهم فيكون ردّ أمانتهم لردّ أمانة أولئك المتقدّمين، و يشهد لذلك تعقيب هذه الآية الكريمة بالحكم بالحقّ ، الذي هو حقّ إلهي و إطاعة اللّه و الرسول و اولي الأمر منكم، فإنّه من باب التطبيق لتلك الأمانة التي أمرنا بأدائها الى أهلها.

و الآية المباركة على ايجازها البليغ تشتمل على معان كثيرة دقيقة، لا بد من الالتفات إليها، فإنّها أوّلا نصّ عقائدي توجيهيّ بأداء الأمانة الكبرى، و هي عبادة اللّه الواحد المتفرّد بالالوهيّة و الحاكميّة المطلقة التي قرّرتها الآية الكريمة اللاحقة.

ثم هي تتضمّن دستورا عمليّا مرتبطا بالعقيدة، و هو تنظيم علاقات أفراد المجتمع الإسلامي على طبق الأمانة الكبرى، و تنظيم علاقات الفرد مع خالقه.

و ثانيا: أنّ الآية الشريفة تدلّ على أداء الأمانة الى من له أهليّة الأداء إليه، و هو تارة: يكون من له الأهليّة الحقيقيّة الذاتيّة، و هي تختصّ بالأمانة الكبرى و اولى الأمانات التي يتعلّق بها سائر الأمانات و يجب أن تؤدى الى اللّه تعالى، و هي تنحل الى الإيمان بأنّه إله واحد لا شريك له المتفرّد بالالوهيّة و له الحاكميّة المطلقة و الربوبيّة العظمى، و تنحصر الطاعة الحقيقية له عزّ و جلّ ، و هذا هو الذي تحدّث عنه تعالى في الآيات السابقة، نظير قوله تعالى: وَ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 36]، و قوله تعالى الذي بدأت هذه السورة به: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ اِتَّقُوا رَبَّكُمُ اَلَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً [سورة النساء، الآية: 1]، و سيأتي موارد في الآيات التالية بيان ذلك.

ص: 304

و اخرى: تكون له أهليّة الإفاضة من اللّه تعالى، و هم الأنبياء و المرسلون و الأولياء، الذين أفاض اللّه سبحانه و تعالى عليهم الولاية و جعلهم أنبياء و رسلا و أوصياء لتأدية الأمانة الملقاة على عاتقهم، و هي الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و تأدية الأمانة الى هؤلاء إنّما تكون بالإيمان بهم و العمل بما انزل عليهم، و سيأتي في الآية التالية بيان بعض المصاديق لهذا القسم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً [سورة النساء، الآية: 59].

و ثالثة: الأهليّة المكتسبة، و في الدائرة بين الناس التي يقوم عليها نظام المعاش و يدور عليها صلاح الاجتماع و المدنيّة الكاملة الهادئة.

و في الآيات التالية في هذه السورة مجموعة من التوجيهات و الأحكام و التشريعات التي تبيّن مصاديق لهذه الأقسام الثلاثة، و قد اجتمعت في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [سورة النساء، الآية: 135]، و غيرها من الآيات الشريفة التي تبيّن هذه الآية المباركة و توضيحها توضيحا كاملا في ضمن أمثلة في ثنايا هذه السورة و غيرها، التي تكون معينة لفهم هذه التكاليف، فيسهل عليه حمل التكاليف الاخرى، كما تمدّه بزاد ليتلقّى به حمل تكاليف جديدة، و التي تبيّن من يكون أهلا لأداء الأمانة إليهم.

و ثالثا: أنّ هذه الآية الكريمة تنتظم علاقات الإنسان مع خالقه العظيم، كما تنظم علاقات أفراد المجتمع الإنسانى، و لا سيما الإسلامي.

و رابعا: أنّ هذه الآية تؤدّي أكثر من مهمّة بالنسبة الى الإنسان، فهي

ص: 305

المنهج الذي تستقيم به الحياة، و تطهّر القلب من الخيانة و تصلح النفس، و هي التي توازن بين جذب الشهوات و دفع النفس الأمّارة و هدوء العقل و إمساكه عن الوقوع في الموبقات و المهلكات.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ ما ذكروه في شأن نزول هذه الآية الشريفة على فرض صحّته، لا يمكن أن يكون مقيّدا لعمومها الشامل لكلّ أمانة - معنويّة و ماديّة و أخلاقيّة و غيرها - على حدّ سواء، و منها الأمانة الملقاة على عاتق العلماء الأمناء لتأدية تلك الأمانة و تبليغها الى الناس من دون تحريف و خيانة و كتمان، و سيأتي في البحث الروائي ما يتعلّق بذلك.

ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا إيمان لمن لا أمانة له»، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ بيان لبعض مصاديق الأمانة الكبرى، بل يمكن أن يقال: إنّ أداء الأمانة الكبرى نحو اللّه جلّ جلاله، لا يتمّ إلا بالتحكيم الى ما أنزل اللّه تعالى، فإنّ أداء الأمانة الحقيقيّة الكبرى، ليس مجرّد إيمان قلبي، بل لا بد من إبرازه و إظهاره في مجال التطبيق، و هو العمل بما أنزله اللّه تعالى، الذي أعطى لكلّ ذي حقّ حقّه، فالتحاكم الى اللّه و الإقرار له بالحاكميّة المطلقة، تطبيق عملي للعبوديّة، و إبراز العدل الإلهي، فإنّ الحكم بين الناس من المناصب الإلهيّة التي وضعها عزّ و جلّ

ص: 306

على الناس و حثّهم عليها، فلا بد أن يكون الحكم بالعدل هو الذي أراده عزّ و جلّ و أمر به في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و قد بيّن هنا الأهل الذي لا بد من أداء الأمانة إليه و هم الناس جميعا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ هذه الأمانة لأهميتها البالغة في حياة الناس، و هي التي تتكلّف تطبيق النظام الأحسن المشتمل على العدل الربانيّ بمستوى جميع أفراد الإنسان كلّهم، لا في محيط ضيق، و الحكم بالعدل هو الحكم لشريعة اللّه تعالى التي أنزلها على أنبيائه العظام، و لقد جمعت هذه الأمانة جميع الأمانات الثلاث المتقدّمة، الأمانة الكبرى و هي الحكم بالعدل الذي هو منصب إلهي، و التطبيق العملي للإيمان باللّه تعالى و عبادته، و الطاعة له عزّ و جلّ .

و في هذه الأمانة يتحقّق تصديق الأنبياء في ما بلّغوه من الأحكام الإلهيّة، كما أنّ فيها يعمّ العدل على مستوى البشرية ليسود النظام و يصل كلّ ذي حقّ الى حقّه.

ثم إنّ إطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ أنواع الحكم، سواء كان عن ولاية عامّة أم خاصّة و التحكيم الذي يرجع إليه المتخاصمين و غير ذلك، لكن يجب أن يكون الحكم بالعدل، و هو المأمور به في عدّة آيات اخرى قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسانِ [سورة النحل، الآية: 90]، و قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة المائدة، الآية: 8]، و قال تعالى: فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ [سورة الحجرات، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا [سورة الانعام، الآية: 152]، و هو يدلّ على عظم شأنه.

و العدل معروف يطلبه كلّ ذي شعور، و لعلّه لوضوحه لم يذكر سبحانه و تعالى في القرآن الكريم الا ما يكون تطبيقا عمليّا له، و أما المفهوم فقد أوكله الى الفطرة لوضوحه، و يرشد الى ذلك أنّ الأمر بالعدل مطلقا ورد في آيات السور المكية قبل بيان الأحكام الشرعيّة.

ص: 307

و كيف كان، فهو لا يتحقّق إلا بإجراء أحكام الشرع المبين لقصور العقول عن درك كثير من المصالح، و قد ذكر جلّ شأنه في القرآن الكريم موارد كثيرة من تطبيقات العدل، و في السنّة الشريفة ما بيّنه بيانا واضحا شافيا، و لا بد و أن يكون العدل ظاهرا في جميع خصوصيات الحكم من القول و الفعل و الخلق و الحكم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الحكم بالعدل بعد الأمر بأداء الأمانة لما ذكرناه آنفا، و لأنّ الاحتياج الى الحكم بالعدل إنّما يكون بعد تخلّف أداء الأمانة و ثبوت الخيانة في الناس، فيستلزم الرجوع الى الحاكم الذي لا بد أن يكون أمينا في إجراء الحكم و بسط العدل بين الناس، و لنا أن نقول: إنّ الرجوع الى الحكم بالعدل لا يكون في الامة التي يراعي أفرادها حقوق الآخرين، و إنّما العدل هو مراعاة الأمانة و أداءها الى أهلها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ جملة مستأنفة مقرّرة لمضمون ما قبلها، و إنّما تصدّرت باسم الجلالة للترغيب و الترهيب، و (نعمّا) أصله (نعم ما)، و الجملة مركبة من المبتدأ، و هو اسم (ان)، و الخبر و هو جملة نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ .

و هذه الجملة باسلوبها البديع و سياقها الجذّاب تدلّ على الأهميّة العظيمة البالغة التي أعطاها عزّ و جلّ لأداء الأمانة الى أهلها و الحكم بين الناس بالعدل، فإنّهما الخير العظيم، و لذا كانت لائقة أن تجعل خبرا للفظ الجلالة، كما تدلّ الجملة على مزيد اللطف بالمخاطبين و حسن استدعائهم الى الامتثال، بعد ما نبّههم على أنّ ما ورد في الآية المباركة هو من الموعظة الحسنة و الخير العظيم في الدارين.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي: أنّ اللّه تعالى لا يخفى عليه جميع أقوالكم و أفعالكم و نيّاتكم، و فيه وعد للمطيعين و وعيد للعاصين الذين خالفوا الأحكام الإلهيّة و خانوا الأمانة الربانيّة.

ص: 308

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ بيان لأساس الشرائع الإلهيّة و الأحكام الربوبيّة؛ لأنّ الطاعة محور كلّ تكليف إلهي و قانون وضعي، فلا فائدة في تشريع لا تطبيق فيه.

و الآية المباركة تفصيل لما أجمله عزّ و جلّ في الآية الكريمة السابقة، فإنّه بعد ما أمر الناس بأداء الأمانة و الحكومة بالعدل، بيّن سبحانه و تعالى في هذه الآية الشريفة أنّ الطريق لذلك إنّما يتمّ بطاعة اللّه و طاعة الرسول و اولي الأمر منكم، ثمّ ردّ المتنازع فيه الى اللّه تعالى و الرسول، فالجملة كما أنّها بيان لما ورد في الآية السابقة، تمهيد و توطئة للأمر بردّ المتنازع فيه الى اللّه عزّ و جلّ و رسوله.

و الطاعة هي الالتزام مع العمل، و طاعة اللّه هي الإيمان به و بدينه الحقّ و العمل بأحكامه و شريعته التي أنزلها على رسوله الأمين.

و أما طاعة رسوله، فلأنّه المبعوث لتبليغ أحكام اللّه تعالى و المأمور لبيان كتابه الحقّ ، فلأنّه لا ينطق عن الهوى.

فكانت طاعة اللّه تعالى واجبة بالذات؛ لأنّ له الطاعة المطلقة و الحاكميّة التامّة. و أما طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فهي و إن كانت واجبة بالذات أيضا؛ لأنّ اللّه تعالى أمره بتبليغ الأحكام و بيان الكتاب، قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [سورة النحل، الآية: 44]، و جعل له الولاية العامّة و الحكومة بين الناس و القضاء و الفصل بينهم بما يراه من المصلحة و ما ألهمه اللّه تعالى من صواب الرأي، قال تعالى: لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ [سورة النساء، الآية: 105]، إلا أنّها إضافية من قبله جلّ شأنه.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ طاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله واجبتان بالذات، فيجب إطاعتهم في كلّ ما يأمرون به و ينهون عنه، بوصفهم أنّ لهم سلطة تطاع لذاتها، إلا أنّه تفترق الثانية عن الاولى بأنّها مستندة إلى اللّه تعالى، و أنّها إفاضيّة من قبل اللّه قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ [سورة

ص: 309

النساء، الآية: 64]، و يكون إطاعته إطاعة للّه تعالى، قال سبحانه: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ [سورة النساء، الآية: 80]، فتختلف الطاعتان من هذه الجهة، و لعله لذلك كرّر سبحانه و تعالى الفعل في الآية الشريفة لبيان الاختلاف بينهما من هذه الجهة، لا لما ذكره بعض المفسّرين من أنّ التكرار إنّما هو للتأكيد، فإنّ ذلك خلاف الظاهر؛ و لأنّ التأكيد قد يتأتّى من دون تكرار و بحذف الفعل، فيقال وَ أَطِيعُوا اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ ، فيفهم منه أنّ طاعة الرسول من طاعة اللّه تعالى و أنّهما واحدة و لهما الطاعة المطلقة غير المشروطة بشيء.

و من ذلك يستفاد عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، لأنّ الأمر بطاعته المطلقة يقتضي أن لا يكون حكمه مخالفا لما أراده اللّه تعالى، و إلا كان فرض طاعته تناقضا واضحا، و هذا لا يتمّ إلا بعصمتهم.

قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ عطف على ما قبلها، و الظاهر من سياق الآية المباركة - حيث قرن طاعتهم بطاعة اللّه و طاعة الرسول - أنّ طاعتهم ملحقة بطاعتهما، فلا بد أن تكون طاعتهم في حدود ما أمر اللّه تعالى و رسوله، فليس لهم نصيب من الوحي و التشريع، و إنّما شأنهم تفسير ما أنزله اللّه تعالى، و يدلّ على ما ذكرناه أنّه لا بد من الردّ على اللّه و الرسول عند التنازع و المشاجرة، فهما وحدهما المرجع الذي يرجع إليه في كلّ الأمور، و الخطاب للمؤمنين الذين يقع بينهم التنازع، فيجب عليهم الردّ لا التنازع بين اولي الأمر و المؤمنين، كما ذكره بعض المفسّرين، فإنّه لا معنى له مع افتراض طاعة ولي الأمر.

و كيف كان، فليس لأولي الأمر من التشريع، و لا وضع حكم جديد، و لا نسخ حكم ثابت في الكتاب و السنّة، فإنّ اللّه تعالى نفى عنهم هذا التصرّف بالرجوع الى اللّه و الرسول عند التنازع، فيكون أولو الأمر شرّاحا للكتاب و السنّة و مبيّنين لما ورد فيهما، بمقتضى ثبوت الولاية لهم و ما ألهمهم اللّه تعالى من

ص: 310

الذهن الثاقب، فلهم أن يكشفوا عن حكم اللّه و رسوله في القضايا و الموضوعات العامّة.

و اولوا الأمر اسم جمع يدلّ على كثرة التلبّس بهذا العنوان، و هو يتصوّر على وجهين:

الأول: أن يكونوا آحادا يتلبّس كلّ واحد بهذا العنوان، لكون مفترض الطاعة واحدا منهم بعد واحد، فينسب افتراض الطاعة الى جميعهم بحسب اللفظ و الأخذ بجامع المعنى، و نظير ذلك مثل قولنا: صل قربائك و أطع ساداتك، و نحو ذلك.

و اعترض بعض المفسّرين على هذا بأنّه يوجب حمل الجمع على المفرد، و هو خلاف الظاهر.

و يردّ عليه أنّ ما هو خلاف الظاهر في حمل الجمع على المفرد أن يطلق لفظ الجمع و يراد به واحد من آحاد، فإنّه يحتاج الى عناية زائدة، و أما حمل الجمع على الأفراد على سبيل انحلال الحكم الى أحكام متعدّدة حسب تعدّد الآحاد، فهو صحيح، بل واقع في القرآن الكريم و السنّة الشريفة و كلام الفصحاء، قال تعالى: وَ اِخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة الحجر، الآية: 238]، و قال تعالى:

حافِظُوا عَلَى اَلصَّلَواتِ [سورة البقرة، الآية: 238]، و قال تعالى:

فَلا تُطِعِ اَلْمُكَذِّبِينَ [سورة القلم، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ اَلْمُسْرِفِينَ [سورة الشعراء، الآية: 151]، و غير ذلك ممّا هو كثير لا سيما في تشريع الأحكام.

الثاني: أن يكون الجمع من حيث هو جمع، أي الهيئة الحاصلة من عدّة معدودة، كلّ واحد من اولي الأمر و صاحب نفوذ في الناس و ذو تأثير في أمورهم، مثل رؤساء الجنود و أمراء السرايا و أولياء الدولة و العلماء و سراة القوم و أهل الحلّ و العقد، و هم الهيئة الاجتماعيّة كما عن بعض المفسّرين.

ص: 311

و هذا الاحتمال لا شاهد له، بل هو بعيد عن ظاهر الآية الشريفة، فلا وجه للأخذ به بعد ما استظهرناه من لزوم عصمتهم بحكم إطلاق الطاعة كما مر.

يضاف الى ذلك أنّ افراض طاعة اولي الأمر لأجل أنّهم يمتازون عن سائر أفراد الامة بمميزات خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب الخطير - كما ستعرف - لا ما جعلوه هم لأنفسهم.

ثم إنّ الأمر في أُولِي اَلْأَمْرِ يراد به الشأن الراجع الى دين المؤمنين و دنياهم، كما هو المستفاد من آيات اخرى؛ لأنّ الإسلام لم يهمل جانبا من جوانب حياتهم، و قد وردت هذه الكلمة في مواطن اخرى ممّا يؤيّد ذلك، قال تعالى: وَ شاوِرْهُمْ فِي اَلْأَمْرِ [سورة آل عمران، الآية: 159]، أي: ما يتعلّق بالموضوعات الخارجيّة، و قال تعالى في مدح المتقين: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ [سورة الشورى، الآية: 38]، أي: ما يرتبط بالأمور الدنيويّة التي فيها أغراض صحيحة عقلائية، و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً [سورة الأحزاب، الآية: 36].

و احتمل بعضهم أن يكون المراد بالأمر ما يقابل النهي.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر اللفظ.

و مِنْكُمْ يدلّ على أنّ اولي الأمر ليسوا هم، أيّ ناس يقومون بالحكم و يتسلّطون على الأمر، أو ينصب نفسه على المسلمين، بل لا بد أن يكونوا مؤمنين و بالذات أن يكونوا منكم في الأمانة و التقوى، و إلا لا وجه لطاعتهم، فإنّ اللّه تعالى لا يأمر بطاعة من لم يكن من أهل الإيمان و لو تسلّط على المؤمنين جبرا و غصبا، حتّى يكون مِنْكُمْ ظرفا مستقرا، أي: اولي الأمر الكائنين منكم، بل أنّ لهذه الكلمة مزيّة خاصّة في المقام، و هي أنّ اولي الأمر لا يكون بالضرورة فردا خارجا عن أفراد الإنسان، بل أنّهم منكم، نظير ما ورد في الرسل، قال

ص: 312

تعالى: هُوَ اَلَّذِي بَعَثَ فِي اَلْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ [سورة الجمعة، الآية: 2]، و قال تعالى: رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي [سورة الأعراف، الآية: 35]، فهم منكم لكن لهم مزيّة خاصّة أهّلتهم لتصدّي هذا المنصب - كما ستعرف - فلهذه الكلمة في المقام تأثير كبير في نفوس المؤمنين، بأنّ من يتصدّى لهذا الأمر هو منهم يطمئنون إليه و يرتضون به حاكما عليهم.

و قال بعضهم: إنّ تقييد اولي الأمر بقوله: مِنْكُمْ يدلّ على أنّ اولي الأمر منهم إنسان عادي، و هو من المؤمنين من غير مزيّة و عصمة إلهية.

و فساده واضح ظهر ممّا ذكرناه، و سيأتي مزيد بيان لذلك.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر و لم تقيّدها بقيد و لا شرط، فتكون إطاعتهم كإطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى التشريك و ذكر الطاعة لهما معا، و من المعلوم أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يأمر بمعصية و لم يكن بوسعه أن يشتبه في حكم أو يغلط فيه، و هذا ممّا لا ريب فيه، فلا بد أن يكون اولوا الأمر كذلك، فلو جاز عليهم ذلك لكان لا بد من تقييد ذلك، و لو في غير هذه الآية المباركة بأن يقال: أطيعوا اولي الأمر منكم في ما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطاهم، و إلا فلا طاعة لهم عليكم في المعصية، أو أنّه يجب عليكم أن تعلّموهم بخطئهم فقوّموهم بالردّ الى الكتاب و السنّة، كما قيّد سبحانه و تعالى في إطاعة الوالدين في قوله تعالى: وَ وَصَّيْنَا اَلْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما [سورة العنكبوت، الآية: 8]، فإذا لم يكن مثل هذا القيد في المقام، فتكون طاعتهم مطلقة غير مشروطة بشيء، و يلزم من ذلك اعتبار العصمة في اولي الأمر كما اعتبر في الرسول صلّى اللّه عليه و آله، من غير فرق من هذه الجهة بينه و بينهم، و إن أمكن الفرق من جهة اخرى، و هي أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله له سلطة التشريع، بخلاف اولي الأمر، فإنّ لهم سلطة بيان الشرع و التطبيق و حفظ الشريعة. هذا ما يستفاد من ظاهر الآية الكريمة بانضمام ما ورد في تفسيرها من السنّة الشريفة.

ص: 313

و ذكر العلماء و المفسّرون في تفسيرها وجوها اخرى:

الأول: أنّ ظاهر الآية المباركة يدلّ على أنّ الحكم المجعول فيها إنّما هو لمصلحة الامة، تحفظ به الاجتماع الإسلامي من الخلاف و التشتت و الانهيار، فيعطي لواحد افتراض الطاعة و نفوذ الكلمة، مثل أنواع الولايات المجعولة بين الأمم، و لا يتوهّم أحد لزوم عصمتهم في مثل ذلك، و ربّما يعصي الوالي المنصوب و ربّما يغلط، فإذا اتفق ذلك فلا بد من التنبيه فيما أخطأ و عدم الإطاعة في المخالفة للقانون في حكمه، بل يمكن أن يقال: إنّه ينفذ حكمه و إن كان مخطئا في الواقع و لا يعتنى بخطئه، فإنّ حفظ وحدة المجتمع و التحرّز من تشتت الكلمة من مصلحة تدارك أغلاطه و اشتباهاته، فطاعة اولي الأمر كطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى الاشتراك، إلا أنّ وجود العصمة في الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا دلّت عليه الحجج و البراهين، فاقتضت أن لا يصدر منه الخطأ و الغلط و النسيان في الحكم، دون اولي الأمر، فلا يجب فيهم العصمة و لا يستلزمها دلالة الآية الشريفة، فتكون طاعة اولي الأمر واجبة و إن كانوا غير معصومين يجوز عليهم الفسق و العصيان و الخطأ، فإن فسقوا فلا طاعة لهم، و إن اخطأوا ردّوا الى الكتاب و السنّة إن علم منهم الخطأ، و إلا فينفذ حكمه، و لا بأس بالوقوع في المخالفة أحيانا لوجود مصلحة أقوى، و هي مصلحة حفظ وحدة المجتمع، نظير ذلك ما ذكره علماء اصول الفقه في حجّية الطرق الظاهريّة، فإنّها إن خالف مؤدّاها للواقع تتدارك تلك المفسدة بمصلحة السلوك و الطريق، يطرأ عليها تغيير و تبديل تبعا لاختلاف الطريق، كما يراه من يذهب الى التصويب في الرأي أو السببيّة في الطريق، و التفصيل يطلب من كتب اصول الفقه، فراجع كتابنا (تهذيب الأصول).

و يردّ عليه: أنّ ذلك و إن كان صحيحا، بل هو واقع في الشرع المبين نظير الحجج الظاهرية و حجّية قول المجتهد على مقلّديه، و جعل أمراء الجيوش و السرايا و فرض طاعتهم، كما كان ينصبهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جعل الحكّام و الولاة

ص: 314

للذين كان يولّيهم على البلاد، حيث يتمشّى منهم الخطأن و مع ذلك فرض متابعتهم،

و ورد: أنّه: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، فإنّه يمكن تقييد إطلاق الآية الشريفة بالنسبة الى الفسق، فإن كان ذلك صحيح و قد دلّت عليه أدلّة كثيرة إلا أنّ ذلك لا يوجب صرف ظهور الآية المباركة، الذي يدلّ على افتراض طاعة اولي الأمر من دون تقييد و اشتراط، كما دلّت على افتراض طاعة الرسول، و لا شيء من الأدلّة ما يوجب تقييدها، بحيث يصير معنى الآية الكريمة:

(أطيعوا اللّه و أطيعوا الرسول و أطيعوا اولي الأمر فيما لم يأمروا بمعصية أو لم تعلموا خطأهم، و إلا فلا طاعة لهم عليكم في الصورة الاولى و يجب عليكم تقويمهم و إعلامهم بالخطإ في الصورة الثانية)، فإنّ ذلك بعيد عن ظاهر الآية الشريفة التي هي في مقام البيان، فتكون طاعتهم كطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله بمقتضى التشريك و ذكر طاعة واحدة لهما، فلو كان كذلك لوجب بيانه كما بيّن في موارد اخرى أقلّ خطرا و أهمية من المقام، كما في طاعة الوالدين على ما تقدّم.

الثاني: أن يكون المراد من اولي الأمر هم أهل الحلّ و العقد، و هم الهيئة الحاصلة من وجوه الامة الذين يديرون أمرها، كالأمراء و الحكّام و رؤساء الجنود و غيرهم و الزعماء الذين يرجع إليهم الناس في الحاجات و المصالح العامّة، فهؤلاء إذا اتفقوا على أمر و حكم يرجع الى صالح الامة وجب عليهم الطاعة لهم بشرط أن يكونوا أمناء، و أن لا يخالفوا أمر اللّه و لا سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أن يكونوا مختارين في بحثهم في الأمر و اتفاقهم عليه، بل يمكن أن يقال: إنّ هذه الهيئة معصومون في هذا الإجماع؛ و لذلك اطلق الأمر بطاعتهم لا شرط.

و يردّ عليه: أنّ دلالة الآية الشريفة على عصمة اولي الأمر صحيح، و قد اعترف به جمع كثير من العلماء و المفسّرين من الجمهور، بل كلّ من فسّر الآية المباركة بهذا المعنى لا بد له من القول بالعصمة، و تقدّم ما يرتبط بذلك، و سيأتي مزيد بيان في مورده إن شاء اللّه تعالى.

ص: 315

و كيف كان، فإنّه يمكن المناقشة في هذا المعنى.

أما أولا: فإنّ عصمة اولي الأمر بهذا المعنى تتصوّر على وجوه:

الأول: أن يكون المتصف بالعصمة جميع أفراد أهل الحلّ و العقد و آحادهم، أي: أنّ الحكم مترتّب على كلّ فرد فرد، نظير العامّ الإفرادي المعروف في علم اصول الفقه، فيكون المجموع معصومين؛ لأنّه ليس المجموع إلا الآحاد و الأفراد.

و فيه: أنّ هذا مجرّد فرض لا مصداق له في الخارج، فإنّه لم يتحقّق مورد في هذه الامة أن اجتمع فيه أهل الحلّ و العقد و كان جميع الأفراد فيه معصومون، و هذا ممّا لا ريب فيه، و إذا كان كذلك فمن المحال أن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له في الخارج.

الثاني: أن يكون المتّصف للمجموع ما هو مجموع، أي: أنّ العصمة صفة حقيقيّة قائمة بالهيئة، نظير العامّ المجموعي في علم الأصول، فلا تكون الآحاد و الأفراد معصومين، فيجوز عليهم المعصية و إذا صدر حكم منهم مع هذه الحالة فيمكن أن يكون داعيا الى الضلال و المعصية، بخلاف ما إذا رأته الهيئة، فإنّ عصمتها تمنع من ذلك.

و فيه: أنّ الهيئة و المجموع أمر اعتباري لا يمكن أن يكون موضوعا لصفة حقيقيّة، فإنّ الهيئة الاجتماعيّة لأهل الحلّ و العقد لا وجود لها في الخارج إلا الأفراد و الآحاد.

الثالث: أن تكون العصمة منحة إلهيّة لهذه الامة تصون هذه الهيئة أن تأمر بالمعصية، أو أن تقع في الخطأ، فليست العصمة وصفا لأفراد هذه الهيئة و لا لنفس الهيئة كما عرفت في الوجهين المتقدمين، بل اللّه تعالى يصونها عناية منه عزّ و جلّ على الامة، و يدلّ على هذا

الحديث المعروف عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لا تجتمع امّتي على خطأ»، نظير ذلك الخير المتواتر المصون عن الكذب، فإنّ العصمة فيه ليست

ص: 316

وصفا لكلّ واحد من المخبرين، و لا للهيئة الاجتماعيّة بل أنّ العادة جرت على امتناع الكذب فيه.

و يرد عليه: أنّ كون العصمة التي هي عناية إلهيّة لهذه الهيئة أمر مشكوك فيه، فإنّ لكل امة من الأمم - صغيرة كانت أو كبيرة - أهلا للحلّ و العقد يديرون شؤونها من دون اختلاف بين الأمم في هذه الهيئة، و لا دليل على اختصاص هذه الامة بمزية العصمة، بل الروايات على خلاف ذلك،

فقد ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله المروي بطرق متعدّدة عند الفريقين: «إنّ اليهود افترقت على إحدى و سبعين فرقة، و النصارى على اثنين و سبعين فرقة، و المسلمين على ثلاث و سبعين فرقة، كلّهم هالكون إلا واحدة»، فما بال هذا الاختلاف و الهلاك مع العصمة ؟! يضاف إلى ذلك أنّ امتياز هذه الامة بالعصمة لا بد أن يكون بمعجزة خارقة و ليست بالعوامل العادية، و إلا فلا فرق بين هذه و غيرها في إجراء أهل الحلّ و العقد أمورها كما عرفت، فلو كان كذلك فلا بد أن تحفظ هذه المزيّة بجميع حدودها و خصوصياتها، و يرشد الرسول صلّى اللّه عليه و آله أمته إليها، فإنّها كرامة باهرة لهذه الامة، بها منّ عليهم كما منّ عليهم بالقرآن الكريم و رسوله الأمين، و يجب أن يهتمّ بها المسلمون كما اهتّموا بكثير من الأمور التي ليست على هذه الأهميّة و سألوا الرسول عنها و أنزلت فيها الآيات القرآنيّة، و لكان اللازم أن يحتجّ بها المسلمون في خلافاتهم و في الفتن الواقعة التي استجدت بعد ارتحال الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله.

و أما الحديث الذي استدلّ به على هذا الوجه، فهو على فرض صحّة سنده يدلّ على أن الخطأ لا يستوعب جميع الامة، بل يكون فيهم دائما من يكون على الحقّ و الصواب، و لو كان واحدا. يضاف الى ذلك أنّه يدلّ على أنّ الامة لا تجتمع على الخط، لا على أنّ أهل الحلّ و العقد لا يجتمعون على الخطأ، فهذا القول لا

ص: 317

دليل عليه، و قد ردّه جمع من المفسّرين، منهم الرازي فقال: «بأن هذا القول خرق للإجماع المركّب، فإنّ الأقوال في أهل الحلّ و العقد أربعة، و هي الخلفاء الراشدون، و أمراء السرايا، و العلماء، و الأئمة المعصومون، و ليس فيهم هذا القول، مضافا إلى أنّه لم يقم دليل على عصمتهم»، إلا أنّه ارجع هذا القول الى القول الثالث، و لكنّه باطل أيضا، فهذا الوجه باطل أيضا، و القول بأنّ عصمة أهل الحلّ و العقد أمر خارق للعادة لا دليل عليه.

الا أن يقال: إنّ العصمة فيهم ترجع الى تعاليم الإسلام و تربيته، فإنّه استند ذلك على قواعد متينة و اصول دقيقة، فهي أمر طبيعي مترتّب على تلك التعاليم الإلهيّة، فأهل الحلّ و العقد إنّما عملوا بتعاليم الإسلام، و تهذّبوا بأخلاقهم، فهم لا يغلطون في ما اجتمعوا عليه، و لا يتعرّضون الى خطأ في رأيهم.

و لكن هذا القول أيضا باطل بالوجدان، فكم من أهل الحلّ و العقد على زعمهم صدر منه المعصية و أوقع نفسه و أمته في الضلال، فلو كان الأمر كما ذكره لظهر أثره على من يراهم من أهل الحلّ و العقد و لم يتغلّب الفساد و الباطل.

فلا مناص من القول بأنّ أهل الحلّ و العقد كسائر أفراد الناس يجوز عليهم الخطأ و الغلط، مهما بلغت بهم الخبرة و التدريب و التجربة.

اللهم إلا أن تقول بأنّ هذا الخطأ و الغلط لا بأس به إذا كان المناط هو تقديم مصلحة الامة و سعادتها و رقي أفرادها، نظير القوانين الوضعية التي تتصدّى بها جمعية منتخبة تحكم على المجتمع، فتصدر قوانين حسب ما تراه من مقتضيات الأحوال و متطلبات الوضع، و في الإسلام أيضا كذلك، فإنّ أهل الحلّ و العقد قد يفسّرون حكما من أحكام الدين بغير ما كانوا يفسّرون سابقا بما يوافق مصلحة الامة، و قد صرّح بعض الكتاب المحدّثين: «أنّ الخليفة يعمل بما يخالف صريح الدين؛ حفظا لصلاح الامة».

و هذا الرأي أيضا باطل، فإنّه يبتني على أصل التطور، و أنّ الدين ليس إلا

ص: 318

سنّة اجتماعيّة يتطرّق إليها التطور كما يتطرّق في كلّ سنن الحياة، و هما أصلان باطلان، و كيف يمكن أن يجعل ذلك أصلا يبتني عليه الدين بجميع معارفه و أحكامه و أصوله و فروعه، و أن يكون ما يصدر من الخلفاء من بعد عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الى العصر الحاضر مثل ما يصدر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فهذا أمر لا تتقبّله الفطرة المستقيمة.

الثالث: أنّ المراد باولي الأمر هم الخلفاء الراشدون، أو أمراء السرايا، أو العلماء الذين يقتدى بأفعالهم و أقوالهم و آرائهم.

و يرد عليه أولا: أنّه لا دليل على ذلك.

و ثانيا: أنّ الآية الشريفة تدلّ على عصمة اولي الأمر - كما عرفت - و لا عصمة في هؤلاء المذكورين باعتراف الجميع.

الرابع: أنّ الآية الكريمة لا تدلّ على شيء ممّا ذكره المفسّرون و العلماء على اختلاف أقوالهم؛ لأنّ فرض طاعة اولي الأمر - كائنين من كانوا - لا يدلّ على أنّ لهم ميزة فضلا ليس لغيرهم أصلا، بل أنّ طاعتهم في هذا الأمر مثل طاعة الجبابرة و الظلمة عند الاضطرار اتقاء شرّهم، فإنّه لن يكونوا أفضل ممّن يطيعهم عند اللّه تعالى. مع أنّ الحكم في هذه الآية المباركة كسائر الأحكام الشرعيّة تتوقّف فعليتها على تحقّق موضوعاتها، فإذا تحقّقت وجب تنفيذها، و إلا فلا يكون أحد مكلّفا بإيجاد الموضوع حتّى يتحقّق الحكم و يصل الى المرتبة الفعلية، و هذا واضح، فلا يجب علينا إيجاد اولي الأمر حتّى يجب علينا طاعتهم، و لكن إذا وجد وجبت طاعتهم.

و يرد عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون المراد باولي الأمر هم السلاطين و الأمراء و غيرهم، و قد عرفت فساده، يضاف الى ذلك أنّ اللّه تعالى لم يأمر بطاعة الظالمين فضلا عن أن يقرن طاعتهم بطاعته و طاعة رسوله، بل قد ورد النهي الأكيد عن ذلك في عدّة موارد من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ [سورة هود، الآية: 113]، و في مورد التقية يتبّدل الموضوع، فيتبدّل الحكم قهرا، كما هو مذكور في الفقه و الأصول، و إذا ثبت أنّ الآية الشريفة تدلّ على فرض طاعتهم في مورد، فلا بد أن يكون له مصداق خارجي؛ إذ لا معنى لأن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له خارجا، فإذا كان كذلك لا بد و أن يكونوا معصومين كما عرفت.

ص: 319

و يرد عليه: أنّ ما ذكره مبنيّ على أن يكون المراد باولي الأمر هم السلاطين و الأمراء و غيرهم، و قد عرفت فساده، يضاف الى ذلك أنّ اللّه تعالى لم يأمر بطاعة الظالمين فضلا عن أن يقرن طاعتهم بطاعته و طاعة رسوله، بل قد ورد النهي الأكيد عن ذلك في عدّة موارد من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنّارُ [سورة هود، الآية: 113]، و في مورد التقية يتبّدل الموضوع، فيتبدّل الحكم قهرا، كما هو مذكور في الفقه و الأصول، و إذا ثبت أنّ الآية الشريفة تدلّ على فرض طاعتهم في مورد، فلا بد أن يكون له مصداق خارجي؛ إذ لا معنى لأن يأمر اللّه تعالى بشيء لا مصداق له خارجا، فإذا كان كذلك لا بد و أن يكونوا معصومين كما عرفت.

الخامس: أن يكون المراد من الآية المباركة هم أفراد من هذه الامة عصمهم اللّه تعالى من الزلل و الخطأ، و افترض علينا طاعتهم فصاروا حجّة على سائر أفراد الامة في أقوالهم و أفعالهم، و لكن لما لم يسع لكلّ أحد معرفتهم فيحتاج الى تنصيص من اللّه تعالى، إما في كتابه، أو على لسان نبيّه الكريم، و لا مصداق لهؤلاء إلا أئمة أهل البيت عليهم السّلام، كما دلّت عليه الأدلّة الكثيرة العقليّة و النقليّة المذكورة في الكتب الكلاميّة، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

و أورد على هذا الوجه بأمور نذكر المهمّ منها:

الأول: أنّ طاعة من فرض طاعتهم في هذه الآية الشريفة مشروطة بمعرفتهم، كما في كلّ تكليف إلهي، فإنّه مشروط بالمعرفة و إلا كان تكليفا بما لا يطاق، و إطلاق الآية المباركة يدفع الشرط فيلزم التناقض.

و فيه: أنّه لا يفرق بناء على اشتراط المعرفة في الطاعة بين أن يكون من فرض طاعتهم هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام، أو أهل الحلّ و العقد أو غيرهم. إلا أن يقال: إنّ الأخير يعرف من عند أنفسنا من غير حاجة الى بيان من اللّه تعالى و رسوله، و لكن ذلك لا يوجب فرقا بعد أن كان الإمام المعصوم عليه السّلام يحتاج إلى من يعرفه، فالشرط على كلّ حال مناف لإطلاق الآية الكريمة.

يضاف الى ذلك أنّه ثبت في اصول الفقه أنّ المعرفة و العلم بالتكليف و إن كان شرطا فيه، إلا أنّه يختلف عن سائر الشروط الراجعة الى التكليف أو

ص: 320

المكلّف به، فإنّ الأول يرجع إلى بلوغ التكليف و تنجّزه و يجب عقلا على المكلّفين تعلّم التكاليف و معرفتها، و لا يكون الجهل عذرا كما هو واضح، و إلا كان كلّ تكليف إلهي تكليفا بما لا يطاق و لا معنى له.

الثاني: أنّه يحتاج إلى تعريف من اللّه تعالى و رسوله و يكون صريحا فيه، و لو كان كذلك لم يختلف فيه أحد بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه: أنّ التعريف الصريح موجود و النصّ وارد في الكتاب و السنّة، يعرّفنا بهم تعريفا تامّا، فمن الكتاب آية الولاية، و آية التطهير، و آية المباهلة و نحو ذلك، و من السنّة أحاديث يمكن دعوى تواترها، كحديث الثقلين،

و حديث: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركبها نجا، و من تخلّف عنها غرق»،

و قوله صلّى اللّه عليه و آله:

«إنّي تارك فيكم الثقلين، كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدا»، و غير ذلك من الأحاديث التي نقلها أرباب الحديث من الفريقين في كتبهم، و سيأتي في البحث الروائي نقل الأحاديث في اولي الأمر إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: إننا و إن عرفنا الإمام المعصوم، و لكن عاجزون عن الوصول إليه لنستقي من نمير علمه و نتعلّم منه الأحكام و المعارف الربوبيّة، فلا سبيل إليه و لا خير في تكليف لا طريق إلى أخذه.

و فيه: أنّ اللّه تعالى عرّف الإمام المعصوم على لسان نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و لكن الامة هي التي امتنعت من الاستفادة منه بسوء اختيارها، فالإشكال متوجّه إليهم، لا إلى اللّه تعالى و رسوله، نظير ذلك ما لو قتلت امة نبيّها، فاعتذرت أنّها لا تقدر على طاعته و الاستفادة منه.

ثم إنّ الإشكال يتوجّه أيضا على من يقول إنّ المراد باولي الأمر أهل الحلّ و العقد لو تجتمع امة الإسلام على وحدة تنفذ فيهم رأيها.

الرابع: أنّ فائدة اتباع الإمام المعصوم انقاذ الامة من الخلاف و التنازع

ص: 321

و تشتت الكلمة و التفرّق؛ و لذا أمر اللّه تعالى في هذه الآية المباركة بالرجوع الى اللّه تعالى و الرسول عند ظهور التنازع، فإذا اختلف اولوا الأمر في بعض المستجدات التي تعرض على الامة مع وجود الإمام المعصوم، فهو غير جائز عند القائلين به؛ لأنّه عندهم بمنزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، مع أنّه لا وجود لذلك، فلا فائدة فيه.

و فيه: أنّ التنازع في الآية تنازع المؤمنين دون اولي الأمر، كما هو ظاهر الآية الشريفة، فإنّه لا نزاع في الأحكام الصادرة من الإمام المعصوم، كالحكم الصادر من اللّه و الرسول، فإنّه لا خيرة لهم في ما إذا قضى اللّه و رسوله أمرا، فإذا فهموا الحكم من الكتاب و السنّة و أمكنهم تطبيق ذلك، فهو و إلا فلا بد من الرجوع إلى الإمام عليه السّلام و السؤال عنه، نظير ما كان المسلمون عليه في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فكان عصر الإمام امتدادا لعصر الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فإذا حصل تنازع بين المؤمنين فلا بد من الرجوع إلى الرسول في عصره و إلى الإمام بعده.

الخامس: أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على عدم إرادة الإمام المعصوم، فإنّه عزّ و جلّ قال: «فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ » ، فلو كان المراد باولي الأمر الإمام المعصوم لوجب الردّ عليه أيضا، فيقول: «فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى اللّه و الرسول و الإمام»، و المفروض ليس كذلك، فليس المراد بولي الأمر الإمام المعصوم.

و فيه: أنّه تقدّم الجواب عن هذا، و حاصل ما ذكرنا أنّ الملاك هو العصمة و أنّها موجودة في اولي الأمر بوحي من السماء، و لقد عرفوا من قبل الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي مزيد بيان في تفسير ذيل الآية المباركة إن شاء اللّه تعالى.

و الذي يتحصّل من مجموع ما ذكرناه أنّ المراد من اولي الأمر هم أفراد معينّون من هذه الامة، امتازوا عن سائر الناس بالعصمة و العلم و المعرفة، و قد كرّمهم اللّه تعالى بأنّ فرض طاعتهم على الناس و جعلهم قرناء الرسول صلّى اللّه عليه و آله في

ص: 322

الطاعة و العصمة، و إن اختلفوا عنه من جهات اخرى، و سيأتي مزيد بيان لذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ .

بيان لأهمّ مظاهر الطاعة المفترضة، فإنّ في التنازع و الخصام يمتحن كثير من العباد، فيتبيّن صدق إيمانهم و حسن سريرتهم و انقيادهم لأحكام اللّه تعالى و أوامره.

و الآية المباركة تفريع على الحصر المستفاد ممّا ورد في صدر الآية حيث أوجب طاعة اللّه و رسوله و بيان لها بأنّ هذه الطاعة لا بد أن تكون في كلّ شيء يمسّ صلاح المؤمنين و سعادتهم في الدارين، و هي الموارد الدينيّة التي تكون موارد لتطبيق الطاعة المفترضة، و أنّها هي التي تتكفّل رفع كلّ تنازع و اختلاف يفترض.

فلفظ الشيء و إن كان عامّا يشمل الأحكام الشرعيّة و غيرها، و لكن قوله تعالى: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ يدلّ على أنّه مختصّ بتلك الأشياء التي ليس لأولي الأمر الاستقلال و الاستبداد فيها، لما يراه من المصالح كالجهاد و الصلح و نحو ذلك، و إلا لا معنى لإيجاب الردّ إلى اللّه و الرسول مع فرض طاعة اولي الأمر في هذه الموارد.

و كيف كان، فالآية الشريفة تدلّ على أنّ تشريع الأحكام ممّا يختصّ به اللّه تعالى و من أفاض عليه عزّ و جلّ و هو الرسول الكريم. و أما اولوا الأمر، فإنّ عليهم شرح الأحكام و تفسيرها و تطبيقها و رفع التنازع بين أفراد الامة بارجاعهم إلى طاعة اللّه و الرسول، فليس لأحد - سواء أ كان من اولي الأمر أم من دونهم - التصرّف في حكم ديني شرّعه اللّه و رسوله، فهما وحدهما المرجع الديني الذي يرجع إليه في كلّ الأمور، و يستفاد من ذلك أنّ ولي الأمر لا بد أن يكون عالما بجميع الخصوصيات، و ذا معرفة تامّة بالأحكام الشرعيّة ليردّ المتنازعين إلى طاعة اللّه و الرسول.

ص: 323

قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ تثبيت لما ورد من الأوامر في الآية الشريفة و تشديد في الحكم، و بيان الى أن حقيقة الإيمان لا تتحقّق إلا بذلك، و مثل هذا التعبير قد ورد كثيرا في القرآن الكريم، و يراد به بيان حقيقة الإيمان، و أنّ مخالفة هذا الأمر يوجب الخروج عن دائرة الإيمان، فلا يعود المؤمنون حينئذ مؤمنين حقيقيين، ففي الآية الشريفة تهديد خفي و توعيد للمؤمنين إن هم خالفوا ما ورد فيها من الأوامر و الأحكام، لا سيما الحكم الأخير، و هو الردّ إلى اللّه تعالى و الرسول عند التنازع، أنّهم يخرجون عن حقيقة الإيمان و سيجزون جزاء أعمالهم في اليوم الآخر.

قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً بيان لبعض الفوائد المترتّبة على هذه الأحكام، و اسم الإشارة يرجع الى ما ورد في الآية الشريفة من الأوامر، أي: أنّ طاعة اللّه و طاعة الرسول و اولي الأمر و ردّ المتنازع فيه إلى اللّه و الرسول خير لكم و أنفع، و فيها صلاح أمركم و سعادتكم، و أحسن ما يوجب تحقيق مصالحكم و أغراضكم في الدارين، دون ما تتوهّمون.

و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ اِبْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اَللّهُ [سورة آل عمران، الآية: 7]، المراد من التأويل و ذكرنا أنّه هي المصالح الواقعيّة التي ينشأ منها الحكم، فيترتّب عليها العمل، و هي التي يسعى الإنسان في جهده للوصول إليها، و يرى أنّ بها تتمّ أغراضه و سعادته، و في قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [سورة النساء، الآية: 69]، بيان بعض مصاديق حسن التأويل.

ص: 324

بحوث المقام
بحث أدبي:

قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ، الواو حرف عطف، و الظرف «بين الناس» متعلّق بحكمتم و أَنْ تَحْكُمُوا معطوف على أَنْ تُؤَدُّوا ، و الجار متعلّق به، و لا يضرّ الفصل بين العطف و المعطوف بإذا و الظرف و هما منصوبان بأن تحكموا، و ذهب جمع من النحويين إلى عدم جواز الفصل بينهما بالظرف و جعل الظرف منصوبا بفعل مقدّر، و يكون «أن تحكموا» مفسّرا لتلك المقدرة.

و جملة: نِعِمّا يَعِظُكُمْ بِهِ خبر (إنّ ) و اسمها اسم الجلالة، و «ما» إما أن يكون بمعنى الشيء، و «يعظكم» صفة لموصوف محذوف، و هو المخصوص بالمدح، أي: نعم الشيء شيئا يعضكم به. و يجوز نعم هو الشيء شيئا يعظكم به. و إما أن يكون بمعنى (الذي) و ما بعدها صلتها، و هو فاعل «نعم»، و المخصوص محذوف، أي: نعم الذي يعظكم به تأدية الأمانة و الحكم بالعدل.

و أشكل عليه بأنّ فاعل «نعم» إذا كان ظاهرا يجب أن يكون معرّفا بلام الجنس أو مضافا إلى المحلّى به.

و أجيب عنه بأنّ بعض العلماء جوّز قيام (ما) إذا كانت معرفة تامّة مقامة، بل بعضهم جوّز قيام الموصولة؛ لأنّها في معنى المعرّف باللام.

و أشكل أيضا بأنّ (ما) لا تقع تمييزا؛ لأنّها مساوية للمضمر في الإبهام، فلا تميّزه؛ لأنّ التمييز لبيان جنس المميز.

و أجيب عنه بمنع المساواة؛ لأنّ المراد بها شيء عظيم.

و التفصيل في قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً لبيان الكمال

ص: 325

و بطلان ما سواه، إذ لا حسن و لا خير في الرجوع إلى غير طاعة اللّه و الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، على أهمية الحكم و عظمة الموضوع، حيث قدّم عزّ و جلّ الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل، و أظهر اسم الجلالة و نسب الأمر إلى نفسه الدال على شدّة الاهتمام به، و تعلّق الأمر بالجميع، لبيان أنّ الحكم إنّما يظهر أثره إذا كان الجميع يشعرون بالمسؤولية و اتفقوا على تنفيذ الحكم و أداء الأمانات إلى أهلها، و قد ورد التأكيد على هذا الحكم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و في السنّة الشريفة الشيء الكثير،

ففي الحديث عن مولانا الباقر عليه السّلام: «انظر إلى ما بلغ علي عليه السّلام عند النبي صلّى اللّه عليه و آله، و ما بلغ إلا بصدق الحديث و أداء الأمانة»، و إطلاق الآية الشريفة يشمل جميع الأمانات، لكن القرائن تدلّ على أنّ المراد أمانة خاصّة، و هي ما تكون من سنخ النبوّة و الإمامة و الأحكام الإلهيّة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِلى أَهْلِها على أنّ ردّ الأمانة لا بد أن يكون إلى من له أهليّة الأمانة، و هذه نكتة لطيفة، فيدلّ على الانحصار في الأمانة الكبرى، و هي الأحكام الإلهيّة و الإيمان باللّه و الرسول و طاعة اولي الأمر، فتكون الآية التالية مفسّره لهذه الأمانة.

الثالث: يبيّن قوله تعالى: وَ إِذا حَكَمْتُمْ أنّ المراد من الأمانة ما هو من سنخ الحكم و العلم.

الرابع: يمكن أن يكون تعقيب الآيات الشريفة السابقة التي وردت في أحوال اليهود من حكمهم للمشركين، بأنّهم أَهْدى مِنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ،

ص: 326

و قد وصفهم عزّ و جلّ بكتمان الحقّ و عدم تبيين آيات اللّه تعالى و معارفه، و في هذه الآيات إشارة إلى أنّ تلك الأمانات مأخوذ عليها الميثاق أن تبيّن للناس، فلا بد أن لا تكتم عن أهله، و لكن اليهود خانوا الأمانة فكتموا الحقّ عن أهله، و قد حكى عزّ و جلّ جملة كثيرة من خياناتهم، منها: حكمهم للمشركين بأنّهم أهدى سبيلا من المؤمنين.

و منها: بخلهم بالحقّ و عدم بيانه.

و منها: تحريفهم لكلام اللّه تعالى، و لأجل ذلك استحقّوا اللعنة و عذاب السعير.

الخامس: إنّما قدّم عزّ و جلّ الأمر بأداء الأمانة على الأمر بالعدل في الحكم؛ لأنّ الأخير إنّما يكون عند التنازع و المشاجرة و الخصام و الخيانة بالأمانة، و تنفيذ الأمر الأول يرفع موضوع الثاني، فإذا راعى الناس أماناتهم و أدّوها إلى أهلها لا يبقى مجال للاحتياج إلى الحكم بالعدل؛ و لأنّ قوام النوع الإنساني إنّما يكون بأداء الأمانة، و بدونه يختلّ النظام، فهو أساس كلّ حكومة و مصدر كلّ نظام، و عزّ كلّ سلطان، و هو روح العدالة، و بحفظ الأمانة تصل الامة إلى كمالها و سعادتها.

السادس: يدلّ قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ ، على أنّ كلّ طاعة سوى هاتين الطاعتين باطلة، لا سيما إذا لا حظنا ورود هذه الآية بعد تقريع اليهود و المشركين و ذمّهم بالإيمان بالجبت و الطاغوت.

و المستفاد من الآية الشريفة أنّ هناك طاعتين مفروضتين، هما طاعة اللّه تعالى المتمثّلة في العمل بكتاب اللّه تعالى و ما أنزله على نبيّه الكريم في الأحكام و المعارف، و طاعة اخرى هي طاعة الرسول و اولي الأمر، و هذه الإطاعة مطلقة غير مشروطة بشيء، فالمستفاد منه أنّ كلّ ما ينطق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و يحكم به هو من اللّه تعالى و يجب طاعتهما، و لا يتمّ ذلك إلا بعصمته، و إلا كان فرض طاعته تناقضا.

ص: 327

السابع: يستفاد من قوله تعالى: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ أنّ اولي الأمر أفراد من هذه الامة لهم فرض الطاعة نظير ما للرسول، و لا بد أن يكونوا معصومين، و إلا كان فرض طاعتهم تناقضا، و لكن لما لم تكن عصمتهم معلومة لكلّ أحد؛ و لذا توهموا عدمها فيهم، إلا أن الإطلاق استلزم كون المتعيّن أنّ عصمتهم إنّما يعرف من اللّه تعالى أو بتعليم من الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و يختلف طاعتهم عن الرسول بعد كون طاعتهم طاعة اللّه تعالى. و إنّ اولي الأمر ليس لهم نصيب من الوحي، و إنّما شأنهم هو بيان الكتاب و السنّة و شرحهما و تطبيق الأحكام و كشفها، لمكان صواب رأيهم في ذلك، فلهم افتراض الطاعة، و الجميع راجع إلى الكتاب و السنّة.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على أنّ لكلّ واقعة حكما محفوظا عند اللّه تعالى و عند الرسول، باعتبار أنّ لهما وحدهما حقّ التشريع و سلطة جعل الحكم فقط، و هذا هو رأي الإماميّة، فإذا كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله موجودا فهو المرجع في ردّ المتنازع فيه إليه و أخذ الحكم منه، و بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله لا بد أن يكون بيان الأحكام ممّن له أهليّة أداء الأمانة إليه ممّن اتصف بالعلم و الحكمة، و من يكون حجّة في رأيه و لهم الذوق الثاقب في استنباط الحكم من الكتاب الكريم و السنّة الشريفة، حتّى يكون شاغلا للفراغ الذي حصل من فقد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هؤلاء ينحصرون في الأئمة الهداة عليهم السّلام الذين هم عدل القرآن و أحد الثقلين، فلا محالة تكون السنّة الشريفة تشمل أقوالهم التي لا مدرك لها إلا الكتاب و السنّة المحفوظة عندهم بوجوه متعدّدة، و حينئذ فإن أمكن الرجوع إليهم فهو المتعين، و إلا فالطريق منحصر بالاجتهاد في الأدلّة الواصلة إلينا منهم، و استنباط الأحكام منها بالطرق المعتبرة، و لا تدلّ الآية المباركة بشيء من الدلالات على اعتبار القياس و الاجتماع و العقل، كما يدّعيه جمع من المفسّرين.

ص: 328

التاسع: يشمل قوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ على الوعد و الوعيد، فهو يدلّ على أنّ العمل بمضمون الآية له الأثر في تنظيم نظامي الدنيا و الآخرة. كما يدلّ على أنّ التخلّف عنه يوجب سلب حقيقة الإيمان.

العاشر: يدلّ قوله تعالى: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً على أنّ ما ورد في الآية الشريفة ممّا يوجب سعادة الإنسان، و أنّه أحسن نظام تعيش الامة تحت ظلاله في أحسن أحوال، و يصل كلّ فرد إلى ما يبتغيه في سعيه من الراحة و الكمال. و بذلك تبطل جميع النظريات الوضعيّة التي وضعها الإنسان في تنظيم النظام، فإنّها و إن نجحت في بعض الجهات، لكنّها فشلت في كثير منها.

و الآية المباركة تبيّن أنّ النظام الإسلامي - المبتني على الإيمان باللّه تعالى و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و ردّ الأمانات إلى أهلها و الحكم بالعدل و الإطاعة للّه و الرسول و إطاعة اولي الأمر في تنظيم النظام و تطبيق الأحكام - هو السبب في الوصول إلى أوج الكمال و السعادة، و أنّ بقية النظم لا تكفل ذلك إلا إذا أخذت منه.

بحث روائي:

الروايات التي تدلّ على أنّ المراد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها هم الأئمة الطاهرون عليهم السّلام متواترة، و في بعضها أن يؤدّي الإمام عليه السّلام الأمانة إلى الإمام الذي بعده و لا يزولها عنه. و جميعها من باب التطبيق لأجلى المصاديق و أكملها، و إلا فالآية المباركة عامة تشمل كلّ أمانة،

ففي الكافي بسنده عن بريد العجلي قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ؟ فقال: هم الأئمة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله، أن يؤدّي الأمانة إلى من بعده، و لا يخصّ بها غيره و لا يزويها عنه».

أقول: و قريب منه ما عن الصادقين عليهما السّلام بأسانيد متعدّدة، و يستفاد من هذه الرواية و أمثالها امور:

ص: 329

الأول: أنّ الأمر الوارد في الآية الكريمة إرشاد إلى ما يحكم به العقل؛ لأنّ معرفة الإمام عليه السّلام و إبلاغ الإمام - الذي ثبت إمامته بالنصّ من الرسول صلّى اللّه عليه و آله - للناس بالإمام الذي بعده، ممّا تحكم به الفطرة السليمة، لما فيه من المصالح العامّة، كحفظ الناس من الضلال و إخراجهم عن الغواية، و في عدمه مفاسد كثيرة.

الثاني: أنّ الإمامة لا تكون اعتباطيّة و ممّا تميل النفس في جعلها لأحد، بل لا بد فيها من الأهليّة التي هي العصمة كما تقدّم، فإنّها منحة إلهيّة تخصّ أفرادا معيّنين من آل محمد، امتحنهم اللّه تعالى لذلك فجعلها لهم، كما ذكرهم النبيّ على ما سبق.

الثالث: يستفاد منها أنّ الأمانات التي هي عند الإمام المعصوم لا بد و أن تصل إلى إمام مثله في الصفات، و أنّ لها الأهميّة العظمى، فكلّ إمام معصوم عنده أمانات إلهيّة يعطيها عند ارتحاله إلى الملأ الأعلى لمن له الأهليّة لحفظها، من الأشخاص الذين عيّنهم النبي صلّى اللّه عليه و آله بالوحي المنزل عليه، و ليس له أن يعطيها لأي أحد كما مرّ، بل لا بد من امتياز إلهي أفاضه اللّه عليه لما فيه من المصالح.

الرابع: يستفاد منها أنّ الأئمة عليهم السّلام - مضافا إلى أن لهم العبوديّة الخاصّة المحضة للّه - أمانات اللّه تعالى في أرضه، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن معلى بن خنيس عن الصادق عليه السّلام قال: قلت له: «قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ قال: على الإمام أن يدفع ما عنده إلى الإمام الذي بعده، و أمرت الأئمة بالعدل، و أمر الناس أن يتبعوهم».

أقول: في بعض الروايات فسّر الأمانة بالوصية يدفعها الرجل منا إلى الرجل، فيمكن أن تكون الوصية مطلقة تشمل كلّ وصية، كما يمكن أن تكون الوصية خاصّة كما يأتي في الرواية الآتية.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.

ص: 330

و في تفسير العياشي: عن يزيد بن معاوية قال: «كنت عند أبي جعفر عليه السّلام و سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، قال: إيانا عنى أن يؤدي الإمام منا إلى الإمام الذي بعده الكتب و العلم و السلاح وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ الذي في أيديكم».

أقول: في مضمونها روايات اخرى كثيرة، و لعلّ المراد من الكتب مصحف فاطمة عليها السّلام، الذي فيه كثير من الأحكام بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و كتاب علي عليه السّلام، و غيرهما من الكتب الموروثة فيهم، و المراد من العلم ما أفاض اللّه تعالى عليهم من العلم بالغيب بما يجرى على هذه الامة، و المراد من السلاح إما السلاح المعنويّ الذي هو التقوى و الانقطاع إليه عزّ و جلّ بمراتبه التي تطمئن النفس، أو السلاح الخارجي، أي: سلاح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما تدلّ عليه الرواية الآتية، و هو موجود عند ولي العصر عليه السّلام، كما في كثير من الروايات، و المراد من العدل الذي في الأيدي هو الكتاب و السنّة.

في تفسير العياشي: عن زرارة و عمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: «الإمام يعرف بثلاث خصال، انّه أولى الناس بالذي كان قبله، و انّه عنده سلاح النبي صلّى اللّه عليه و آله، و عنده الوصية، و هي التي قال اللّه في كتابه إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها ، و قال: إن السلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل يدور الملك حيث دار السلاح، كما كان يدور حيث دار التابوت».

أقول: ذكر هذه الخصال لتعيين الإمام المعصوم عن غيره و تعريفه للناس و لا يمكن الاتصاف بها لغيره، كما كان في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صفات خاصة يعرف بها، و المراد من سلاح النبي صلّى اللّه عليه و آله ما ورثه الأئمة عليهم السّلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هو من المفاخر لقداسته، و فيه آثار وضعية كالتابوت في بني إسرائيل. و المراد من الوصية هي التي صدرت عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و يدفعها كلّ إمام إلى من بعده، و المراد من الملك الملك المعنوي.

ص: 331

و هناك روايات ذكرها الجمهور تدلّ على أنّ الآية المباركة: إِنَّ اَللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا اَلْأَماناتِ إِلى أَهْلِها نزلت في عثمان بن طلحة، الذي كان سادن الكعبة المشرّفة و بيده مفتاحها، و أخذه علي عليه السّلام منه قسرا و فتح الكعبة و دخل فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و صلّى ركعتين، فلمّا خرج منها سأله العباس أن يعطيه المفتاح و أبى علي عليه السّلام حتّى أنزل اللّه تعالى هذه الآية فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يعطى المفتاح إلى عثمان، ففعل ذلك علي، فأسلم عثمان بن طلحة إثر ذلك.

أقول: الرواية إن صحّت، فإنّها يمكن أن يكون من باب التطبيق بعد العلاج و التأويل.

و في كنز العمال للمتقيّ الهنديّ قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الشفعاء خمسة:

القرآن، و الرحم، و الأمانة و نبيّكم و أهل بيته».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: تحقّق الشفاعة في يوم القيامة - و أنّه لا سبيل لإنكارها - كما تدلّ عليها آيات كثيرة تقدّمت في بحث الشفاعة، و أنّ الشفيع لا بد أن يكون له شأن و منزلة عند اللّه تعالى حتّى يصحّ التقرّب به إليه جلّت عظمته، فإنّ لهذه الخمسة شأن معنوي و منزلة رفيعة عند اللّه تعالى.

الثاني: تلازم كلّ واحد من هذه الخمسة مع الآخر؛ لأنّ العمل بكلّ واحد منها يستلزم العمل بالآخر، و تقدّم أنّ الرحم أعمّ من الرحم التكوينيّ و غيره الذي فسّر بمحمد و آل محمد؛ و لذلك قرنه اللّه عزّ و جلّ معه في قوله تعالى:

وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ [سورة النساء، الآية: 1].

الثالث: المراد من الأمانة معناها العامّ الشامل للأحكام الشرعيّة و الدستورات الإلهيّة التي جاء بها القرآن أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لا خصوص المعصومين، بقرينة ذيل الرواية.

الرابع: أنّ الحصر في الخمسة إضافي لا حقيقيّ ،

ففي بعض الروايات:

ص: 332

«المؤمن يشفع لأخيه عند اللّه تعالى»، و كذا الملائكة، قال تعالى: وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي اَلسَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اَللّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى [سورة النجم، الآية: 26]، و غيرهما كما تقدّم في بحث الشفاعة، فراجع سورة البقرة الآية: 254.

و أخرج البيهقيّ في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «إنّ القتل في سبيل اللّه يكفّر الذنوب كلّها إلا الأمانة، يجاء بالرجل يوم القيامة و إن كان قتل في سبيل اللّه فيقال له: أدّ أمانتك، فيقول: من أين و قد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فينطلق فتمثل له أمانته كهيئتها يوم دفعت إليه في قعر جهنم، فيحملها فيصعد بها حتّى إذا ظنّ أنّه خارج بها، فهزلت من عاتقه فهوت و هوى معها أبد الآبدين».

أقول: المراد من الأمانة الأعمّ - ممّا كانت في الودائع أو ما أخذت غصبا بالحيلة أو القوّة - أو ما خالف الأحكام الشرعيّة.

و عن ابن بابويه بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: «الأئمة من ولد علي و فاطمة (صلوات اللّه عليهما) الى أن تقوم الساعة».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ المراد من اولي الأمر الأئمة المعصومون متواترة، و قد ورد بعضها عن الجمهور، و تقدّم في التفسير أنّ ذلك منحصر بهم و لا يمكن التعدّي عنه، فالرواية من باب ذكر المصداق الحقيقي، و قد ورد في رواية جابر بن يزيد الجعفي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ذكر أسمائهم الشريفة.

و في الكافي بإسناده عن أبي مسروق، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: إنّا نكلّم أهل الكلام فنحتجّ عليهم بقول اللّه عزّ و جلّ : أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فيقولون: نزلت في المؤمنين، و نحتجّ عليهم بقول اللّه عزّ و جلّ : قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ اَلْمَوَدَّةَ فِي اَلْقُرْبى ، فيقولون: نزلت في قربى المسلمين، قال:

ص: 333

فلم ادع شيئا ممّا حضرني ذكره من هذا و شبهه إلا ذكرته، فقال لي: إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة، قلت: و كيف أصنع ؟ فقال: أصلح نفسك ثلاثا و أظنّه قال:

و صم و اغتسل و ابرز أنت و هو إلى الجبال، فتشبك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ثم أنصفه، و ابدأ بنفسك و قل: اللهم ربّ السموات و ربّ الأرضين السبع، عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقّا و ادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم ردّ الدعوة عليه فقل:

و إن جحد حقّا و ادّعى باطلا فانزل عليه حسبانا من السماء و عذابا أليما، ثم قال لي: فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه، فو اللّه ما وجدت خلقا يجيبني إليه».

أقول: يستفاد من الرواية أنّ تفسير اولي الأمر بالأئمة المعصومين عليهم السّلام إنّما هو من التفسير بالمصداق الواقعيّ الحقيقيّ المنحصر فيهم، و كذا في آية المودّة، و لذلك أنّ الإمام عليه السّلام دعاهم إلى المباهلة.. و إنّما لم يجب أحد منهم.

و في كتاب الغيبة للنعماني بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، عن علي عليه السّلام قال: «كنت أنا ادخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّ يوم دخلة و كلّ ليلة دخلة، يخليني فيها، و قد علم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه لم يكن يصنع ذلك بأحد غيري، و كنت إذا سألت أجابني و إذا سكتّ ابتدأني، و دعا اللّه أن يحفظني و يفهمني فما نسيت شيئا أبدا منذ دعاني، و إنّي قلت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا نبي اللّه، إنّك منذ دعوت لي بما دعوت لم انس شيئا ممّا تعلّمني، فلم تمليه عليّ؟ و لم تأمرني بكتبه ؟ أ تتخوف عليّ النسيان ؟! فقال: يا أخي، لست أتخوف عليك النسيان و لا الجهل، و قد أخبرني اللّه عزّ و جلّ أنّه قد استجاب لي فيك و في شركائك الذين يكونون من بعد ذلك، فإنّما تكتبه لهم، قلت: يا رسول اللّه، و من شركائي ؟ فقال:

الذين قرنهم اللّه بنفسه و بي فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قلت: يا نبيّ اللّه، و من هم ؟ قال: الأوصياء إلى أن يردوا عليّ حوضي، كلّهم هاد مهتد لا يضرّهم خذلان من خذلهم، هم مع القرآن

ص: 334

و القرآن معهم لا يفارقونه و لا يفارقهم، بهم تنصر امتي و يمطرون و يرفع عنهم مستجابات دعواتهم، قلت: يا رسول اللّه، سمهم لي، فقال: ابني هذا، و وضع يده على رأس الحسن عليه السّلام، ثم ابني هذا، و وضع يده على رأس الحسين عليه السّلام، ثم ابن له اسمه اسمك يا علي، ثم ابن علي اسمه محمد بن علي، ثم أقبل على الحسين فقال:

سيولد محمد بن علي في حياتك، فأقرأه مني السّلام، ثم تكمله اثني عشر إماما، قلت: يا نبيّ اللّه، سمّهم لي: فسماّهم رجلا رجلا منهم، و اللّه يا أخا بني هلال، مهدي أمة محمد يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأول: منزلة عليّ عليه السّلام عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و محبّته صلّى اللّه عليه و آله له.

الثاني: استجابة دعاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في حقّ عليّ عليه السّلام بعدم النسيان في الأمور الخارجيّة التي لا تنافي العصمة.

الثالث: تعليم الرسول صلّى اللّه عليه و آله له ما أفاض اللّه عليه، و في الحديث: «علّمني رسول اللّه ألف باب يفتح من كلّ باب ألف باب».

الرابع: يستفاد منها أنّه تعرف الإمامة بالوصية التي كتبها عليّ بإملاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنّها موجودة عندهم، يعطيها كلّ إمام لمن بعده، كما تقدّم في الروايات السابقة.

الخامس: مقارنة طاعة الأئمة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما تقدّم في التفسير.

السادس: أنّ الأوصياء يمتازون عن سائر الخلق بصفات خاصّة، كانقطاعهم إلى اللّه عزّ و جلّ و هداية الناس إليه تعالى، و ملازمتهم مع القرآن، و أهليّتهم لإفاضة منه سبحانه و تعالى عليهم، و غيرها من الصفات الكثيرة.

السابع: يستفاد منها أنّه لا بد من تحقيق الغاية المنشودة و الهدف الذي من أجله بعثت الأنبياء و تحمّلوا المتاعب و المشاق، و هو العدل الحقيقيّ و التجلّي الأعظم على هذه البسيطة بظهور مهدي هذه الامة (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف).

ص: 335

و في تفسير العياشي: عن عبد اللّه بن عجلان، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: «هي في عليّ و في الأئمة، جعلهم اللّه في مواضع الأنبياء، غير أنّهم لا يحلّون شيئا و لا يحرّمونه».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير، و ذكرنا أنّ التشريع مختصّ باللّه و رسوله، و أنّ الأئمة عليهم السّلام مهمتهم تبليغ الأحكام و هداية الناس إلى الرشاد و الصلاح.

و عن مجاهد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا يعني: الذين صدقوا بالتوحيد، أَطِيعُوا اَللّهَ يعني: في فرائضه، وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ يعني: في سنّته، وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال: نزلت في أمير المؤمنين عليه السّلام حين خلّفه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة، فقال: تخلّفني على النساء و الصبيان ؟ فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين قال له: اخلفني في قومي و أصلح. فقال اللّه: وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: ولاه اللّه الأمر بعد محمد في حياته حين خلّفه رسول اللّه بالمدينة، فأمر اللّه العباد بطاعته و ترك خلافه».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و تقدّم في التفسير أنّ ولي الأمر منحصر في الأئمة عليهم السّلام.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه سأله عن قول اللّه تعالى: أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ قال: نزلت في عليّ بن أبي طالب قلت: إنّ الناس يقولون: فما منعه أن يسمّي عليّا و أهل بيته في كتابه ؟ فقال أبو جعفر: قولوا لهم إنّ اللّه أنزل على رسوله الصلاة و لم يسمّ ثلاثا و لا أربعا حتّى كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو الذي يفسّر ذلك، و أنزل الحجّ فلم ينزل: طوفوا سبعا، حتّى فسّر لهم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و أنزل: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، فنزلت في عليّ و الحسن و الحسين، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أوصيكم بكتاب اللّه و أهل بيتي، إنّي سألت اللّه أن لا يفرّق بينهما حتّى يوردهما عليّ الحوض، فأعطاني ذلك».

ص: 336

أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ تفسير النبي صلّى اللّه عليه و آله بما أوحاه إليه سبحانه و تعالى له أهمية خاصّة، و نحو تأكيد على المسلمين، و تقدّم أنّ الحكمة الإلهيّة اقتضت أن تكون الآية المباركة كذلك، و أنّ المصلحة العامّة تثبت ذلك.

و قد نقل الجمهور في تفاسيرهم روايات كثيرة و قصصا متنوّعة، و لكن جميعها من باب التطبيق من الرواة في ظروف خاصّة، و لذا رأينا أنّ الأجدر ترك التعرّض لها و المناقشة فيها، و من شاء فليرجع إلى الدرّ المنثور و غيره.

و في أسباب النزول في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ عن ابن عباس في رواية باذان: «بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خالد بن الوليد في سرية إلى حي من أحياء العرب، و كان معه عمّار بن ياسر، فسار خالد حتّى إذا دنا من القوم عرس لكي يصبحهم، فأتاهم النذير فهربوا غير رجل قد كان أسلم فأمر أهله أن يتأهّبوا للمسير، ثم انطلق حتّى أتى عسكر خالد و دخل على عمّار، فقال: يا أبا اليقظان إنّي منكم، و إنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، و أقمت لإسلامي، أ فنافعي ذلك، أم اهرب كما هرب قومي ؟ فقال: أقم، فإنّ ذلك نافعك، و انصرف الرجل إلى أهله و أمرهم بالمقام و أصبح خالد فأغار على القوم فلم يجد غير ذلك الرجل، فأخذه و أخذ ماله فأتاه عمّار فقال له: خلّ سبيل الرجل فإنّه مسلم و قد كنت أمنته و أمرته بالمقام، فقال خالد: أنت تجير عليّ و أنا الأمير؟! فقال: نعم، أنا أجير عليك و أنت الأمير، فكان في ذلك بينهما كلام، فانصرفوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فأخبروه خبر الرجل فأمّنه النبيّ و أجاز أمان عمّار، و نهاه أن يجير بعد ذلك على أمير بغير إذنه، قال: و استب عمّار و خالد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأغلظ عمار لخالد، فغضب خالد و قال:

يا رسول اللّه، أ تدع هذا العبد يشتمني ؟! فو اللّه لو لا أنت ما شتمني، و كان عمّار مولى لهشام بن المغيرة - فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: يا خالد، كف عن عمار، فإنّه من يسبّ عمارا يسبّه اللّه، و من يبغض عمّارا يبغضه اللّه. فقام عمار فتبعه خالد فأخذ

ص: 337

بثوبه و سأله أن يرضى عنه فرضي عنه، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية و أمر بطاعة اولي الأمر».

أقول: على فرض صحّة الرواية، تقدّم في التفسير أنّ طاعة اولي الأمر في معصية الخالق لا يجوز عقلا و شرعا،

فعن النبي صلّى اللّه عليه و آله كما في الدرّ المنثور: «لا طاعة لبشر في معصية الخالق»، أو: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، و غيرهما من الروايات المتواترة بين المسلمين، فلا وقع لعتاب خالد أصلا؛ و لذا أمضى النبي صلّى اللّه عليه و آله فعل عمار، و أما نهي النبي صلّى اللّه عليه و آله لعمّار، فهو إرشادي في غير معصية الخالق لبعض المصالح، و تقدّم في التفسير أنّ المراد من اولي الأمر من له أهليّة الإطاعة بإفاضة من اللّه تعالى، أي: المعصوم عن الخطأ، فلا ينطبق على أمراء السرايا و غيرهم، و يستفاد من الرواية شأن عمار عند اللّه تعالى و عند رسوله صلّى اللّه عليه و آله، و أما نزول الآية الشريفة، فلا يدلّ على تعيين مصداق اولي الأمر في المورد إلا بعد تعيين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له، و يحتمل أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عيّن عمارا أميرا للسرية في الواقع و لم يظهره لأجل مصلحة يراها.

و كيف كان، فالرواية لا تدلّ على وجوب طاعة غير الأئمة المعصومين عليهم السّلام، أي غير اولي الأمر من آل محمد، كما عن جابر و مرّ في التفسير.

بحث عرفاني:

لا شكّ في أنّ تقرّب الإنسان إلى خالقه و مبدئه هو من أسمى الكمالات و أجلّها، بل هو نتيجة جهد الأنبياء و الأولياء، به تطمئن النفوس و تستقرّ و تحصل السعادة في عالم الشهادة و سائر العوالم، و به يذوق الإنسان لذّة الحضور في ساحة المعشوق، و إنّما خلقت الدنيا لأجل ذلك، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، و يدلّ على ذلك الأدلّة العقليّة و النقليّة.

ص: 338

و لكن للتقرّب إليه جلّت عظمته درجات متفاوتة و عرض عريض، و أنواع كثيرة تختلف حسب المقامات و الاستعدادات بل الاعتقادات؛ لأنّ الذات غير متناهيّة و كذلك الصفات، فالتقرّب إليه يكون كذلك، فلا يمكن تحديده.

و إنّ التقرّب إليه سبحانه و تعالى لا يختصّ بالإنسان، فكلّ موجود ما سواه يسعى للتقرّب إليه جلّت عظمته، قال تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ اَلسَّماواتُ اَلسَّبْعُ وَ اَلْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً [سورة الاسراء، الآية: 44]، و قد أثبت الفلاسفة الإلهيّون أنّ قوام العالم - بكلّياته و جزئياته العلويّ منه أو السفلي - و سيره الاستكمالي يدور مدار العشق لمظهر الأحديّة، و هذا العشق قد يكون تكوينيّا، و قد يحصل بالاختيار من الإشراق منه في الإنسان؛ لأنّ النفس الناطقة في الإنسان ليست من المادّيات المحضة، بل لها نحو تجرّد قابل للارتباط بعالم الغيب باختياره؛ و لهذا الارتباط مراتب كثيرة شدّة و ضعفا، و لذا قد يحصل للإنسان بعض مراتب التقرّب إليه تعالى باختياره ثم تزول عنه كذلك، فيكشف ذلك عن أنّ التقرّب إليه جلّ شأنه لم يكن عن إيمان عميق، قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23].

و سبل التقرّب إليه تعالى و الارتباط بعالم الغيب لا بد و أن تفاض منه جلّت عظمته إلينا بالإلهام على العقول البريئة عن المستلذّات و الشهوات و تقرير الأنبياء و الأولياء، و إلا لم تحصل تلك الغاية المنشودة و الهدف الأسمى من خلق الإنسان، و يكون الإنسان في حيرة من التقرّب إليه دائما، و قد ثبت في محلّه أنّ بعث الأنبياء واجب عقلي له دخل في نظامي التكوين و التشريع، و ليس ذلك إلا لأجل بيان سبل التقرّب إليه تعالى، إما بالتقرير، أو الكشف.

و تلك السبل هي الأحكام الشرعيّة بأقسامها التابعة للمصالح العائدة إلينا و المفاسد التي تضرّنا، المجعولة ممّن وجب حقّه علينا؛ و لذا تكون الأحكام

ص: 339

أمانات منه تعالى عندنا، لا بد من مراعاتها و ردّها إلى أهلها و إنّما جعلت لأجل ارتباط الإنسان معه جلّ شأنه، و لا يحصل هذا الارتباط لو تخلّف أحد عن تلك الأحكام و لم يؤد حقّها، و يدور التقرّب مدار الانقياد الذي يحصل من العمل بها و حفظها عن الضياع و ردّها إلى أهلها من غير شكوك و لا عتاب، و الآية الشريفة: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ تؤكّد سبل التقرّب إليه جلّ شأنه و تبيّن للعبد مصاديقها، و ذيل الآية المباركة: ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً يدلّ على أنّ غير ذلك من السبل الباطل له التي لا يحصل بها التقرّب إليه تعالى.

بحث كلامي:

استدلّ الإماميّة بقوله تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ على الامامة الأئمة عليهم السّلام و خلافتهم بعد الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فقالوا: إنّ الآية المباركة تدلّ على امور مهمّة:

الأول: عصمة اولي الأمر، حيث قرن طاعتهم بطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله المطلقة غير المشروطة بشيء و قد اعترف جمع غفير من الجماعة على هذا الأمر لظاهر الآية الشريفة، لكنّهم اختلفوا في تعيين مصداق اولي الأمر كما عرفت في التفسير، و ذكرنا أنّ المراد من اولي الأمر هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام.

الثاني: ان اولي الأمر أعلم الامة بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ من فرض طاعته لا بد أن يكون عالما بجميع الأحكام و جهات التشريع.

الثالث: أنّ اولي الأمر هم أفراد من هذه الامة معلومون، إلا أنّ معرفتهم لا بد أن تكون بنصّ جليّ من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله يبيّن أسماءهم و خصائصهم.

الرابع: أصالة منصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نيابة منصب الإمام عليه السّلام و ولي الأمر و خلافته عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 340

الخامس: أصالة منصب الرسول صلّى اللّه عليه و آله في وصول الوحي إليه، بخلاف الإمام عليه السّلام، فإنّه يعرف الأمور بإلهام ربّاني أو بفهم ثاقب أو بغيرهما، كمصحف فاطمة عليهما السّلام، أو بكتاب علي عليه السّلام.

السادس: أنّ الحاجة التي تدعو إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله عين الحاجة التي تدعو إلى اولي الأمر، فإنّها تتضمّن مصالح مهمّة لا تستقيم حال الامة بدونها.

ص: 341

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) الآيات الشريفة تكملة للحديث عن ما نزل في شأن اليهود و المنافقين الذين يتظاهرون بالإسلام، فإنّه تعالى بعد ما ذكر في الآيات السابقة أنّ اليهود يؤمنون بالجبت و الطاغوت و يحكمون للمشركين بأنّهم أهدى من الذين آمنوا سبيلا، ذكر عزّ و جلّ سوء أحوالهم في الحال و العقبى، و بعد ذلك بيّن تعالى الطريق المستقيم و المنهج، و وضع القاعدة الاولى النظام الحكم و رقي المجتمع و دفع المشاكل التي تصيبه، فأمر المؤمنين بأداء الأمانات إلى أهلها - و هي أمانة الإيمان، ليشمل أساس الاعتقاد و اصول العبادة و قواعد التعامل و سبل العلاقات كلّها بين الناس و الأفراد - و الحكم بالعدل ليطهّر المجتمع من العقاب، فالعدل إحدى الأمانات الكبرى التي يجب أن ينشر بين الناس جميعا بلا استثناء؛ ليعرفوا لذّة الحياة التي أنعم اللّه تعالى بها عليهم، و هو أساس الحكم في الإسلام، و أنّ الأمانة المطلقة و العدل المطلق هما أساس الحكم و أساس الحياة، و طاعة الرسول و اولي الأمر هي الدستور الأساسي لبناء المجتمع الذي فشا فيهم العدل، و ذلك هو الخير و التفسير الأحسن لتحقيق نظام أفضل، و بعد الانتهاء عن بيان هذه القواعد و النظم التي تعطي الحياة للفطرة البشرية الخامدة و تعرّفها، تلتفت الآيات المباركة

ص: 342

إلى الذين ينجرفون عنهما، و هم اليهود الذين آمنوا بالجبت و الطاغوت و حكموا بشريعة غير شريعة اللّه تعالى و اصول لم ينزلها اللّه عزّ و جلّ ، فاتبعوا الهوى في حكمهم و الضلال في حياتهم، و بيّن عزّ و جلّ فيها أحوال المنافقين و سجّل عليهم بعض الصفات الذميمة التي تكشف عن حقيقتهم، ثم أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم و وعظهم و القول لهم قولا بليغا.

التفسير

قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ جملة «الم تر» تدلّ على الإنكار و التعجيب من أحوال من يزعم الإيمان في قلبه، و قد تقدّم في قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ [سورة النساء، الآية: 51].

و الزعم هو الاعتقاد و الادعاء، سواء طابق الواقع أم لا، و إن غلب استعماله في الثاني حتّى ظنّ بعضهم أنّ عدم مطابقة الواقع مأخوذ في مفهومه، قال الراغب: الزعم حكاية قول يكون مظنّة للكذب، و لهذا جاء في القرآن في كلّ موضع ذمّ القائلين به، قال تعالى: زَعَمَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي [سورة التغابن، الآية: 7]، و قال تعالى: بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً [سورة الكهف، الآية: 48] إلى غير ذلك من الآيات المباركة، و قد و ردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في مواضع كلّها تدلّ على الباطل و الردّ على الزاعمين.

و الآية الشريفة في مقام بيان كذب ادعائهم و زعمهم بأنّهم مؤمنون، و تعقيب الأمر بالطاعة للّه و طاعة الرسول و الحكم بالعدل بهذه الآية؛ للإعلام بأنّ هؤلاء هم الذين تخلّفوا عن الطاعة و أحجموا عن تنفيذ ما أمرهم اللّه به

ص: 343

و رغبوا عن التحاكم إلى اللّه و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و أرادوا التحاكم إلى الطاغوت، فإنّه من المؤسف أن يكونوا كذلك مع زعمهم الإيمان بما انزل إليك و ما انزل من قبلك على سائر الأنبياء التي ما أنزلت إلا لبسط الحقّ و الحكم بين الناس بالعدل و رفع التنازع بينهم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ الإيمان بما انزل من قبله؛ لتشديد التوبيخ و التقريع، و لتأكيد التعجيب.

قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ الطاغوت مصدر بمعنى كثير الطغيان و التجاوز عن حدّ العبوديّة للّه تعالى و استعلاء عليه، و اطلق على كلّ معبود من دون اللّه تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللّهِ [سورة البقرة، الآية: 256].

و الآية المباركة ردّ لزعمهم، فإنّهم لو كانوا مؤمنين لما أرادوا التحاكم إلى الطاغوت و لم يسعوا في التحاكم إلى الطاغوت، و لم تنزع نفسهم إليه، فإنّه إلغاء لشريعته و ابطال لكتبه المقدّسة.

قوله تعالى: وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ أي: و الحال أنّهم أمروا أن يكفروا بالطاغوت، كما صرّح عزّ و جلّ به في قوله تعالى: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ وَ اِجْتَنِبُوا اَلطّاغُوتَ [سورة النحل، الآية: 36]، و في الآية المباركة تأكيد التعجيب السابق.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُ اَلشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً بيان لأمر واقعي و كشف عن حقيقة مستورة، و هي أنّ إرادتهم التحاكم إلى الطاغوت إنّما هي من إرادة الشيطان الذي لا يريد إلا الشرّ و الباطل، و لا يكون قصده و توجيهاته إلا الضلال البعيد.

و ضلالا مصدر مؤكّد إما للفعل المذكور، أو لفعله المدلول عليه بالمذكور،

ص: 344

أي: فيضلّون ضلالا. و إنّما وصفه بالبعد إما لأجل أنّه بعيد عن الحقّ بعدا كبيرا لا التقاء معه بوجه من الوجوه، أو لأجل المبالغة في التنزّه عنه و عن سبل غوايته.

و الآية الشريفة سجّلت عليهم أمورا أربعة تحدّد وصفهم تحديدا دقيقا، و بها يحكم عليهم بوضوح بأنّهم ليسوا مؤمنين، و هي: ادعاء الإيمان بما انزل اللّه تعالى، و إرادة التحاكم إلى الطاغوت، و أنّهم مأمورون أن يكفروا به، و أنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا، فحقّ أن يكونوا غير مؤمنين، إلا أن يتحاكموا إلى شريعة اللّه كما أمر اللّه المؤمنين به في الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ إِلَى اَلرَّسُولِ رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً الآية الشريفة تبيّن بعض علاماتهم، و هي أنّهم في حال السلم و الأمن يظهرون الإعراض و الصدود إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل اللّه تعالى من القرآن و ما أنزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الحقّ ، و إذا أصابتهم المصيبة تلمّسوا المعاذير و ادعوا أنّهم أرادوا الإحسان.

و تعالوا: طلب الإقبال إلى مكان عال ثم عمّم. و الصدّ: هو الإعراض، و صدودا مصدر مؤكّد لفعله المذكور، و يبيّن أنّ الإعراض كان صريحا و عن عمد منهم، و قد تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.

و إنّما ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله مع أنّ الذي انزل إليه هو حكم اللّه تعالى، للتأكيد على أنّ الإيمان باللّه تعالى إنّما يتم بالإيمان بالرسول و ما انزل إليه. و الآية تثبت مضمون إطاعة اللّه و إطاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

كما أنّ تخصيص الرسول بالإعراض مع أنّ الذي دعوا إليه هو الكتاب و الرسول معا، لأنّ الخطاب مع المنافقين الذين يدّعون الإيمان بالكتاب و لم يتجاهروا بالإعراض عن كتاب اللّه تعالى و لكنّهم يخالفون رسوله، و يصدون عنه صدودا متعمّدا.

ص: 345

و إنّما أظهر «المنافقين» في مقام الإضمار للتسجيل عليهم بالنفاق، و لبيان العلّة في ذمّهم.

قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً بيان لسخافتهم و أنّ هذا الإعراض عن حكم اللّه و رسوله و الإقبال إلى غيرهما - الذي هو الطاغوت - إنّما سيعقب السوء الذي هو نتيجة تصرّفهم، أي:

فكيف يكون حالهم إذا نالتهم مصيبة و نكبة نتيجة تصرّفهم و نفاقهم، و بسبب الإعراض عن حكم اللّه تعالى و الرسول، و بسبب ما عملوا من الجنايات كالتحاكم إلى الطاغوت، و الآية الشريفة تبيّن أنّ تلك المصائب ليس لها سبب إلا الإعراض عن حكم اللّه و الرسول و التحاكم إلى الطاغوت، قوله تعالى: ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً .

و حكاية الاعتذار منهم مخادعة بأنّهم أرادوا من الإعراض و التحاكم إلى الطاغوت، الإحسان و التوفيق، و بيان أنّهم لم يطيقوا الثبات على ذلك الإعراض و الصدود. أي: لما رأوا المصائب تحدق بهم جاؤك مخادعة حالفين لك باللّه العظيم نفاقا قائلين: إنّهم إنّما أرادوا من التحاكم إلى الطاغوت و الإعراض عن حكم اللّه و الرسول الإحسان لكم و التوفيق بينكم و بين الخصوم و قطع المشاجرة، لا الإعراض عن حكمك.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ تكذيب لقولهم، فإنّ اللّه تعالى الذي يعلم ما في الأرض و السماء، و ما في قلوب الناس جميعا، يعلم ما في قلوب أولئك المنافقين، و إنّما حذف المتعلّق لبيان خبث ضمائرهم، و أنّها فاسدة لا يتأتّى منها إلا الشرّ.

كما أنّ تخصيص قلوب أولئك بالذكر مع أنّ اللّه تعالى عالم بجميع الأشياء،

ص: 346

لبيان أنّهم مهما حاولوا استخفاء حقيقتهم عن الناس، و مهما تظاهروا بالإيمان، فإنّ اللّه تعالى يعلم ما في قلوبهم و لا تخفى عليه خافية و ستظهر حقيقتهم.

و الآية المباركة تدلّ باسلوبها البليغ على تعظيم الأمر و تهويله و فظاعته.

قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ بيان لفساد ضمائرهم، إذ لو لم يكن كذلك لما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عمّن يقول الحقّ : في قوله، و إنّما كان توجيه الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم مطلقا، سواء في قبول عذرهم أم غير ذلك، و أمره صلّى اللّه عليه و آله بوعظهم ليرجعوا عن غيّهم و عنادهم و يكفّوا عن النفاق و يستقيموا على أمر اللّه تعالى، و يقبلوا حكم اللّه و حكم الرسول.

قوله تعالى: وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً توعيد لهم، فإنّ الأسلوب يحمل النذير، أي: قل لهم قولا يبلغ من نفوسهم الأثر الذي ترجوه منه، و هو الرجوع عن غيّهم و فسادهم، و ترك النفاق و الرجوع إلى الحقّ .

و الظاهر أنّ الأمر بالإعراض و الموعظة إنّما كان قبل نزول الأمر بقتالهم، فإنّ بهما تجلب النفوس اللائقة و المتأهّلة للحقّ إلى الصراط المستقيم، فإذا لم تنفعها تصل النوبة إلى القتل لأجل الرضوخ إلى الحقّ .

و قد اختلف المفسّرون في المراد من الآية الشريفة، فقيل: قل لهم منفردا بهم لا يكون معهم أحد؛ لأنّه ادعى إلى قبول النصيحة، فإنّ النصح بين الملأ تقريع.

و قيل: قل لهم في شأن أنفسهم قولا مؤثّرا.

و على كلا القولين يكون الظرف فِي أَنْفُسِهِمْ متعلّقا بالأمر «قل».

و قيل: إنّه متعلّق ب «بليغا»، أي: قل لهم قولا بليغا في أنفسهم، و لا يضرّ تقديم معمول الصفة على الموصوف الذي هو جائز عند جمع كثير من النحويين.

و قيل: المراد أنّه أمر بالقول البليغ.

ص: 347

و كيف كان، فإنّ الآية الكريمة تأمر بالموعظة سواء بالقول أم بالفعل، ثم الأمر بالقول الذي يؤثّر في النفس تأثيرا بليغا، و قد فوّض الوعظ إلى الرسول الكريم و النصح لهم بكل ما يراه مؤثّرا في نفوسهم التي خبثت و فسدت، فلا بد من إصلاحها لتصلح سائر القوى و الأعضاء.

و في الآية الشريفة شهادة من اللّه تعالى على قدرة رسوله صلّى اللّه عليه و آله في الكلام البليغ، كيف و هو القائل:

«أنا أفصح من نطق بالضاد»، و هو سيد الفصحاء و إمام البلغاء، و هو الرسول الكريم الذي علّمه اللّه تعالى ما لم يعلم، و من نزل في شأنه:

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4]، فيكون لكلامه الأثر البليغ في النفوس و لم يكن في كلام غيره مطلقا هذا الأثر العظيم، و إنّ على كلامه مسحة ربانيّة يقع في القلب و يصلح ما أفسده صاحبه، و هو الترياق الأكبر و الأكسير الأعظم، و قد كان العرفاء و الصلحاء المتألّهون يرجعون إلى كلامه صلّى اللّه عليه و آله و يحفظونه عند ما تتكّدر نفوسهم.

بحث دلالي:

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا على أنّ السبب في بطلان إيمانهم هو إرادة التحاكم إلى الطاغوت، فيؤخذ بعموم السبب، و هو أنّ كلّ من يرغب في حكم الطاغوت فهو ليس مؤمنا و لو زعم ذلك، و أنّ التحوّل من حكم اللّه تعالى و رسوله إلى حكم الطاغوت يوجب خروج الناس عن الإيمان.

ص: 348

إيمانا مزعوما، و هذا من المواضع القليلة التي يترتّب الأثر على الإرادة. و إنّها تكشف الإيمان الباطل و تميّزه عن الإيمان الصحيح الثابت، و تبيّن علامات الإيمان الباطل، و هي: إرادة التحاكم إلى الطاغوت الذي أمروا أن يكفروا به، و مخالفة حكم اللّه تعالى، و إنّ الشيطان يريد أن يضلّهم ضلالا بعيدا لا التقاء فيه مع الحقّ و الإيمان الصحيح.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: رَأَيْتَ اَلْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً على أنّ التسليم لحكم اللّه تعالى و التوقّف في حكم الرسول صلّى اللّه عليه و آله نفاق.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ على أنّ المصائب تكون كسبية، يكتسبها الإنسان من فعل الذنوب و الآثام، و تدلّ عليه آيات اخرى، إلا أنّ ذلك هل يكون جزاء و عقوبة (كفّارة) و يكون لطفا و رفع درجة ؟ و الظاهر أنّه يختلف باختلاف الأفراد أو باختلاف العمل.

و الأمر الذي لا بد من الإذعان به أنّ ذلك نتيجة للأعمال و الذنوب، و تكون موافقة لنوع الذنب، لقانون توافق الجزاء مع الذنوب، و أنّ التوبة ترفع تلك الآثار و تمحوها، كما تقدّم في مبحث التوبة و غيره.

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً أدب الاحتجاج و مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فأوّل ما يبدأ به هو الإعراض عمّا صدر منهم من مخالفات و سوء في القول و الفعل، ثم الوعظ و الإرشاد و إصلاح النفوس بهما، ثم القول البليغ، و لم يرد في تحديده من قبل الإسلام شيء، فالأمر موكول إلى المرشد و المصلح بما يراه من المصلحة و ما يوجب الوصول إلى بغيته، و هي الصلاح و الرشاد و تأثّر النفوس بالمواعظ و النصائح، و قد يصل إلى التهديد و التوعيد، و لكن لا بد أن يكون كلّ ذلك موافقا لظاهر الشرع، و أن لا يخرج عن أدب الإسلام في هذا المضمار.

ص: 349

بحث روائي

على بن إبراهيم في تفسيره لقوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ إنّه نزل في الزبير بن العوام، فإنّه نازع رجلا من اليهود في حديقة. فقال الزبير:

ترضى بابن شيبة اليهودي ؟ و قال اليهودي: ترضى بمحمد صلّى اللّه عليه و آله، فأنزل اللّه تعالى الآية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، إذ لا خصوصية للمورد؛ لأنّ فعل ابن العوام كان ممّا يوجب تأييد المنكر و تقوية الطاغوت، و قد نهى سبحانه و تعالى عن ذلك، و كلّ من يكون كذلك تشمله الآية الشريفة.

و في أسباب النزول للواقدي: عن المروزي في كتابه قال: «أخبرنا محمد بن الحسين بإسناده عن الشعبي، قال: كان بين رجل من المنافقين و رجل من اليهود خصومة، فدعا اليهوديّ المنافق إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، و دعا المنافق اليهوديّ إلى حكامهم؛ لأنّه علم أنّهم يأخذون الرشوة في أحكامهم، فلما اختلفا اجتمعا على أن يحكما كاهنا في جهينة، فأنزل اللّه تعالى في ذلك: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ - يعني المنافق - وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - يعني اليهودي - يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ - الى قوله تعالى - وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد يكون للنزول مناشئ متعدّدة، كما تقدّم وجه ذلك، و هي تدلّ على أنّ أمانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بوجهها العامّ في كلّ شيء كانت محرزة و متيقّنة حتّى عند اليهود و المنافقين، و كان يعرف صلّى اللّه عليه و آله بالأمين.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي بصير، عن الصادق عليه السّلام قال:

«أيما رجل كان بينه و بين أخيه منازعة فدعاه إلى رجل من أصحابه يحكم

ص: 350

بينهما، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء، كان بمنزلة التي قال اللّه تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى اَلطّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ .

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة دالّة على حرمة الرجوع في القضاء إلى حكام الجور.

و في الكافي بإسناده عن أبي جنادة الحصين بن المخارق بن عبد الرحمن بن و رقاء بن حبشي بن جنادة السلولي صاحب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن أبي الحسن الأوّل عليه السّلام، عن أبيه عليه السّلام في قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قال: «فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب و وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ».

أقول: المراد من السبق بالاختيار، أي: أنّهم باختيارهم اختاروا العذاب و الشقاء، و لذا عقّبه بالقول البليغ لعلّه يؤثّر في نفوسهم و يرجعوا عن غيّهم.

بحث فقهي

الترافع إلى قضاة الجور و من لم يوجد فيه شرائط القضاء حرام بالأدلّة الأربعة، فمن الكتاب آيات شريفة، منها ما تقدّم، و منها قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ [سورة البقرة، الآية: 188]، بتقريب أنّ حكام الجور لا اعتبار لحكمهم؛ لأنّهم يتعاطون الرشوة، و هذا الملاك لو وجد في حكّام العدل تسقط ولايتهم، و غيرهما من الآيات المباركة.

و من السنّة: روايات كثيرة تبلغ حدّ التواتر، تدلّ على الحرمة وضعا و تكليفا، و تقدّم بعضها.

و من الإجماع: ما هو مسلّم بين جميع الفقهاء على حسب اختلاف آرائهم، بل مذاهبهم.

و من العقل: أنّه تأييد و تقرير للباطل، و هو قبيح، فإذا ترافع إليهم كان

ص: 351

عاصيا، سواء كان معه الحقّ في الواقع ام لا، بل لا يحلّ ما أخذ بحكمهم إن كان دينا، و كذا في العين على إشكال فيها تعرّضنا له في الفقه، و من شاء فليرجع إلى كتاب القضاء من (مهذب الأحكام).

إلا أنّه استثني من ذلك ما لو توقّف استيفاء الحقّ و عدم ضياعه على الترافع إليهم على سبيل الانحصار، و لم تكن مفسدة اخرى في البين؛ لانصراف ما تقدّم من الأدلّة عن مثل ذلك و شمول ذلك، و شمول أدلّة نفي الضرر له، و لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ خصوصا في صورة الحرج بشمول أدلّته لذلك.

و لا فرق فيما تقدّم بين المسلم و غيره؛ لإطلاق الأدلّة، و لأنّ الكفّار مكلّفون بالفروع، كما أنّهم مكلّفون بالأصول و أنّ الواقع حجّة على جميع الناس، و قد تعرّضنا في الفقه لما يتعلّق بتكليف الكفّار بالفروع، و من شاء فليرجع إلى (مهذب الأحكام).

بحث أخلاقي

النفاق من الصفات الذميمة، بل هو أمها؛ لأنّه يوجب تأنيب النفس في هذه الدنيا، و الجحيم الابدي في الآخرة، كما قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ [سورة النساء، الآية: 145]، و أنّه يوجب تغيّر الفطرة المستقيمة الخالصة عن الشوائب، كما خلقها اللّه تعالى إلى فطرة غير مستقيمة متلوّنة لا يمكن الاعتماد عليها، كما أنّه يوجب هدم النظام الاجتماعي؛ و لذا لم يذمّ سبحانه و تعالى صفة خبيثة أشدّ من هذه الصفة، فجعل المنافقين شرّا من الكافرين، كما في الآية المتقدّمة.

و هو التلبّس بالشرع ظاهرا و الخروج عنه واقعا، أو التظاهر بالواقع و الحقيقة، و البعد عنهما في النفس و الضمير. و للنفاق مصاديق كثيرة - كالكذب، و المكر، و الحيلة و غيرها - متفاوتة لا يخلو إنسان - ما عدا المعصومين - عن

ص: 352

الابتلاء و لو بأدنى مرتبته و إن لم يترتّب عليها ذنب، لعدم إظهارها و عدم ترتّب أثر شرعيّ عليها.

و له أسباب كثيرة، لعلّ أهمّها حبّ النفس، و الحرص على الدنيا و طول الأمل، و حبّ الرياسة، و البغض و العداوة مع أولياء اللّه تعالى، و غيرها من الأسباب، لعلّنا نتعرض لبعضها إن شاء اللّه تعالى في الروايات المناسبة.

و قد أكّد سبحانه و تعالى في كثير من الآيات الشريفة بالإعراض عن المنافقين في المرحلة الاولى؛ لما فيهم من الصفات الذميمة التي قد توجب السراية إلى غيرهم بإغواء الشيطان، ثم إصلاحهم إما بالوعظ و الإرشاد حتّى يرجعوا إلى أنفسهم و يصلحوا ما رسبت في نفوسهم من الصفات الذميمة و الأخلاق الفاسدة، و هذه هي المرحلة الثانية، و إما بالقتل و القتال معهم، و هذه هي المرحلة الأخيرة، و لكلّ من المرحلتين الاوليتين مراتب متفاوتة، و الآيات الكريمة المتقدّمة تبيّن المراحل المتقدّمة بوضوح، و سيأتي في المباحث الآتية ما يرتبط بهذا البحث.

ص: 353

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُ.......

اشارة

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) الآيتان الشريفتان متممتان للآيات السابقة التي وردت في وجوب إطاعة اللّه و الرسول، و تمهيد لبيان خطئهم في الاشتغال بما يوجب الدخول في نار جهنمّ و مقاساة أهوالها و هما تبيّنان أهمّ مقصد من مقاصد الرسل و هو إطاعتهم، و تشيران إلى أنّ المحكّ الرئيس في الإيمان هو أخذ الأحكام منهم، مع التسليم لهم و الرضا بحكم اللّه تعالى.

و الآية المباركة تأمر الناس الذين ظلموا أنفسهم بالرجوع إلى الرسول و طلب الاستغفار منه؛ لأنّه واسطة الفيض، و لأنّ الإعراض عنه صلّى اللّه عليه و آله كان سببا للنفاق و التشنيع عليهم، فاستوجب الدخول في الإيمان الصحيح غير المزعوم، التوجّه إليه و التسليم لأمره و طلب الغفران منه.

التفسير

قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ بعد ما بيّن عزّ و جلّ حال المنافقين و ضلالهم و فساد ضمائرهم و إعراضهم عن الرسول و الحقّ و نبذ حكمه و حكم اللّه تعالى و تحاكمهم إلى الطاغوت و حلفهم كذبا، ثم الاعتذار بالإحسان و التوفيق، فإن كلّ تلك كانت صدّ عن الحقّ و مخالفة للرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أنّ الغاية من بعث الرسل هي طاعتهم مطلقا من غير قيد و لا شرط، و أنّ طاعتهم من طاعة اللّه تعالى، فأمرهم

ص: 354

امره عزّ و جلّ ، و ليست الطاعة فقط هي طاعته عزّ و جلّ كما زعمه هؤلاء المنافقون، و أنّ شأن الرسل لم يكن الوعظ و الإرشاد فقط فيأخذ به من يأخذ و يتركه من يترك، أو أنّ اتباع الرسل إنّما هو لأجل الصلاح، فإذا أحرز أحد في نفسه ذلك ليس له مع الرسول شأن و له أن يتركه في جانب، بل إذا أطاعه حينئذ كان إشراكا باللّه تعالى و عبادة للرسول معه، و هذه الآية الكريمة تدفع هذا التوهّم و تبيّن خطأ معتقدهم، و تثبت طاعة الرسول و أنّها من طاعة اللّه تعالى، و سيأتي في موضع آخر من هذه السورة تأكيد ذلك، قال تعالى: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ [سورة النساء، الآية: 80].

و الآية الشريفة لا تثبت سلطة ظاهريّة للرسل، بل أنّ الطاعة هي غاية إرسال الرسل، و إلا فإنّ كثيرا من الرسل لم تكن لهم سلطة ظاهريّة و لم يكونوا حكّاما - و سواء كانوا أم لم يكونوا - فإنّ ذلك لا يغيّر من الواقع شيئا، فهم رسل من اللّه تعالى، أثبت لهم عزّ و جلّ الطاعة و أوجب تعالى على الناس أن يطيعوهم في أوامره تعالى و أحكامه، و أنّ تهذيب النفوس إنّما يكون بطاعتهم و إصلاحها بالعمل، لا بمجرّد سماع نصائحهم و ترك أوامرهم.

و يستفاد من قوله تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ أنّ طاعة الرسل لم تكن ذاتيّة، بل إفاضية من قبل اللّه تعالى، فطاعتهم واجبة بإذنه، كما ذكرنا في قوله تعالى:

أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ ، و أنّها لم تكن على الناس بنحو الجبر و الإلجاء، بل الطاعة كسائر الأشياء إنّما تكون بمشيئة اللّه عزّ و جلّ و إذنه.

ثم إن قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أبلغ في استغراق النفي من غيره، فكلّ رسول تجب طاعته.

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ تبيت لمضمون الآية السابقة، و بيان بأنّ السبيل الموصل إلى اللّه تعالى إنّما يكون عن طريق الأنبياء و الرسل، فهو عزّ و جلّ لم يغلق بابه أحد مهما بلغت

ص: 355

جريمته، و لكن لا بد من سلوك الطريق الموصل إليه جلّت عظمته، و هو ينحصر بالاستغفار و التوبة و طلب المغفرة من الرسول الكريم لهم، دون مجرّد الاعتذار الباطل و الاشتغال بما يوجب الدخول في سخط اللّه تعالى، فهم حين ما ظلموا أنفسهم بالنفاق و التحاكم إلى الطاغوت و الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، إن رجعوا إلى الصواب و ندموا على ما فعلوا و آمنوا بالرسول و طلبوا الغفران من اللّه تعالى و استغفر لهم الرسول، غفر اللّه تعالى لهم.

قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ أي: جاءوك بعد الإعراض و طلبوا الغفران من اللّه تعالى، و سأل الرسول لهم من اللّه تعالى الغفران و قبول توبتهم و غفران ذنوبهم، و في التعبير ب اِسْتَغْفَرَ دون غيره، تعظيم لشأن الرسول الكريم، حيث عدل عن خطابه إلى أعظم صفاته صلّى اللّه عليه و آله، حيث أسنده إلى لفظ ينبئ عن علو مرتبته.

قوله تعالى: لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً أي: لعلموا أنّه قبل توبتهم، و قد تفضّل عليهم بالغفران؛ لأنّه رحيم واسع الرحمة لا يضرّه ذنوب عباده، بل يفرح من توبتهم.

و في التعبير بالوجدان كمال العناية، فإنّه يملأ المشاعر، كما أنّ وضع الظاهر (اسم الجلالة) موضع المضمر، إيذان بفخامة القبول و كمال الرأفة.

و الآية الشريفة إرشاد لقوله تعالى: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ [سورة النساء، الآية: 59]، فإنّ اللّه تعالى أمرهم بالمجيء إلى الرسول و طلب الدعاء منه بالمغفرة؛ لأنّه عزّ و جلّ أمرهم بالتحاكم إليه، و قد خيّره في الحكم لما وهبه عزّ و جلّ من الفطنة و الذهن الثاقب و كمال العرفان.

قوله تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ بيان للإيمان الصحيح الحقيقيّ بعد ذكر الإيمان الكاذب الذي يزعمه المنافقون، و لأهمية الموضوع وقع القسم باسم الرّب مؤكّدا بأمور في المقام يأتي بيانها.

ص: 356

و ظاهر السياق و إن كان ردّا للمنافقين إلا أنّ عموم الحكم في الغاية و القرائن المحفوفة بالكلام، يشمل غيرهم أيضا، فتكون الآية الشريفة محكّا حقيقيّا للإيمان الصحيح، فإنّه لا إيمان بدون تحكيم شريعة اللّه تعالى و الرضا بحكمه و حكم رسوله و التسليم لهما عملا و اعتقادا، و إلا فليس الإيمان مجرّد النطق بالشهادتين من دون الطاعة له عزّ و جلّ و لرسوله، فتكون هذه الآية تطبيقا آخر للأمر بطاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول، و تثبت مضمونه و تؤكّده، و قد أكّد عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم أنّ الإيمان الحقيقيّ هو الاعتقاد المقرون بالعمل.

قال تعالى: وَ يَقُولُونَ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ اَلْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ اِرْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ * إِنَّما كانَ قَوْلَ اَلْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة النور، الآية: 47-51].

فهذه الآية الشريفة مفسّرة لقوله تعالى في هذه السورة، و تبيّن بوضوح أنّ الإيمان الصحيح هو ما كان الاعتقاد مطابقا للعمل، و إلا فمجرّد النطق بالشهادتين مع قطع النظر عن الاعتقاد الجازم، لا يوجب الاتصاف بالإيمان الذي يريده عزّ و جلّ الداعي إلى العمل و التسليم بحكم اللّه تعالى و رسوله و الطاعة لهما، بل نفى عزّ و جلّ في موضع آخر من كتابه المجيد أن يكون القيام ببعض الشعائر التعبديّة من مظاهر الإيمان إذا لم تكن عن صدق و ثبات و تسليم، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 142].

و قد ذكر عزّ و جلّ في المقام ثلاث علامات صريحة و حاسمة، كلّ واحدة

ص: 357

منها تدلّ على مرتبة معينة للإيمان الصحيح الحقيقيّ الواقعيّ ، مقابل الإيمان الكاذب المزعوم. و هي:

العلامة الاولى: تحكيم الرسول في ما شجر بينهم. و التحكيم جعل فرد حاكما أو حكما و تفويض الأمر إليه و قبول حكمه. و مادة [شجر] تدلّ على الاختلاط و التداخل، فمنها الشجار - ككتاب - و هو خشب الهودج لاشتباك بعضه مع بعض، و الشجر لاشتجار أغصانه و تداخلها، و التشاجر و المشاجرة في الدعاوي و الأقوال لاختلاط بعضها مع بعض.

و شجر في الآية الشريفة مأخوذ من الشجر - بسكون الجيم - و الشجور و هو الاختلاف و التنازع.

و المعنى: أنّهم لا يؤمنون أبدا و إن زعموا الإيمان حتّى يحكّموك في القضايا التي يختصمون فيها و يتشاجرون و يتنازعون، فتحكم فيهم بشريعة اللّه تعالى، فهذه اولى درجات الإيمان الحقيقيّ ، و هي العلامة الظاهرة، فإنّ تلك القضايا التنازعيّة يكشف عن مخالفة هوى النفس.

قوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ هذه هي العلامة الثانية، و هي عدم تحرّج المؤمنون حقّا عن تنفيذ حكم الرسول، لا سيما إذا خالف هوى النفس و إذعان نفوسهم بقضائه و حكمه؛ لأنّهم يؤمنون بأنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله يحكم بشريعة اللّه تعالى، لرسوله صلّى اللّه عليه و آله: لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ [سورة النساء، الآية 105].

و هذه العلامة تكشف عن إيمان القلب الذي لا يعلم حقيقته إلا اللّه تعالى، و من هنا جاء العطف بين العلامتين ب (ثم)، و المراد بقوله تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ، هو انشراح صدورهم لحكم الرسول، الذي هو حكم اللّه تعالى، و هو أبلغ من نفي الحرج كما لا يخفى.

ص: 358

قوله تعالى: وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً هذه هي العلامة الثالثة التي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب رسوخا تامّا، فينبثّ على الجوارح و يكون داعيا إلى العمل طوعا، فيكون إذعانا تامّا ظاهرا و باطنا لأمر اللّه تعالى، سواء في التشريع أم التكوين، و هذا هو آخر موقف من مواقف الإيمان الحقيقيّ الذي لا حرج و لا اعتراض من المؤمن على أي حكم من أحكام اللّه تعالى و الرسول لا ظاهرا و لا باطنا، فتكون هذه العلامة عامّة تشمل التشريع و التكوين و حكم اللّه و حكم الرسول و أفعاله و سيرته، فإنّ جميع ذلك من طاعة اللّه تعالى.

و حكم الآية الشريفة عامّ يشمل عصر النزول و غيره، و المنافقين و غيرهم، فإنّها في مقام إعطاء الضابطة للإيمان الصحيح، و القاعدة التي لا بد أن يرتكز عليها المؤمن في اعتقاده و أعماله و سيرته.

بحوث المقام
بحث دلالي:

تدلّ الآيتان الشريفتان على امور:

الأول: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ - باسلوبه الدالّ على الحصر و على الاهتمام البليغ بالموضوع - على أنّ الغاية من إرسال الأنبياء طاعتهم و العمل بشريعتهم و تنفيذ أوامرهم و ليس الإيمان مجرّد التلفّظ بالشهادتين من دون الطاعة، و سيأتي في الآية التالية بيان الطاعة التي فرضها اللّه عزّ و جلّ على الناس، و لعلّ تعقيب الطاعة بكونها من إذن اللّه تعالى فيه الإشارة إلى أنّ الطاعة هذه لا بد أن يأتي بيانها من قبل اللّه تعالى، و ليس لكلّ أحد أن يفسّرها بما يريده و يتوهّمه، و قد فسّرها عزّ و جلّ في المقام بأحسن

ص: 359

وجه، لا لبس و لا إجمال فيه، فكانت الطاعة في نظر القرآن الكريم هي الرجوع إلى الرسول و تحكيمه في موارد التنازع و التشاجر، و قبول حكمه برضاء و اطمينان لا اعتراض فيه، و التسليم للّه تعالى و لرسوله في جميع الأمور، فكانت هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي نزلت في بيان هذا الأمر المهمّ ، الذي لم يرسل الرسل إلا لأجله، و بها ينتظم نظاما التشريع و التكوين؛ لأنّ التشريع له الدخل الكبير في التكوين، كما تقدّم.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: بِإِذْنِ اَللّهِ على أنّ طاعة الرسل إنّما تكون إفاضية من قبل اللّه تعالى و بإيجاب منه عزّ و جلّ ، فتكون طاعتهم في الحقيقة طاعة اللّه عزّ و جلّ ، فمن خرج عن طاعتهم و رغب عن حكمهم كان خارجا عن حكم اللّه تعالى و طاعته عزّ و جلّ ، فلهذه الكلمة الشريفة الوقع الكبير في هذا الموضع، فإنّها ترشد الناس إلى أمر مهمّ و هو طاعة الرسل و الأنبياء، و أنّها ليست من الأمور الدنيويّة الدائرة في الاجتماع الإنسانيّ ، يمنحها المجتمع أو شخص معين - سواء أ كان رئيسا أم غيره - لأحد جهلا بالمقادير، فمتى أراد سلبها عنه و نزعها منه، بل الطاعة المفترضة على الناس للأنبياء من الأمور التشريعيّة المهمّة التي تكون تحت سلطانه و إرادته و إذنه تعالى، و لم يمنحها لأحد إلا مع العلم و الحكمة المتعالية.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ على عصمة الرسل؛ لأنّ اللّه تعالى فرض طاعتهم على جميع الناس مطلقا من غير شرط، فلو جاز أن يأتوا بمعصية لوجب علينا طاعتهم، فتكون واجبة علينا، و المفروض أنّها محرّمة يجب تركها، فيلزم تخصيص الآية الشريفة، و المفروض خلاف ذلك، فتدلّ على أنّهم معصومون لم يرتكبوا محرّما إليها، فتكون أفعالهم و أقوالهم و سيرتهم حجّة علينا، و تجب علينا طاعتهم فيها.

فهذه الآية المباركة من الأدلّة الدالّة على عصمة الأنبياء عليهم السّلام، التي كثر

ص: 360

فيها الخلاف بين الناس، فصارت من أمهات المسائل الكلاميّة، و قد الفت فيها رسائل و كتب. و مذهب أهل البيت عليهم السّلام أنّهم معصومون من الصغائر و الكبائر قبل البعثة و بعدها، و قد تعرّضنا لهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة، فراجع.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، على أنّ الإعراض عن طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله ظلم للنفس، فإنّ حكمته اقتضت أن تكون الطاعة لصالح الامة، و الرسول إنّما يهدي لصالح الناس، ليصلوا إلى سعادتهم و ينالوا كمالهم اللائق بهم، فإذا كان الظلم - الشامل بإطلاقه لجميع أنحائه - ظلما للنفس، فلا بد أن تكون التوبة تطهيرا للنفس، فحينئذ يجب أن يكون الاستغفار عن إقبال على اللّه تعالى، و عزم على ترك الذنب، و عدم العود إليه مع الإخلاص و الصدق، فمجرّد الاستغفار اللسانيّ لا أثر له في تطهير النفس عن الكدورات التي جلبها ارتكاب الظلم؛ لأنّه لا بد أن يكون نابعا عن شعور النفس بالذنب و الحاجة إلى التطهير، و يكون عن توجّه قلبيّ إلى اللّه تعالى، كما يدلّ قوله عزّ و جلّ جاؤُكَ فإنّ المجيء إلى الشيء لا يكون إلا بعد العزم و الثبات و التفكّر في العواقب.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ على وجوب التوبة من المعاصي و الاستغفار من الذنوب.

و يستفاد من الآية الشريفة بعض شرائط التوبة.

منها: الفوريّة فيها كما يدلّ عليها الشرط و العطف بالفاء، و هو المستفاد من قوله تعالى: ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ، و قد تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بالمقام فراجع.

و منها: أنّ الذنوب التي تتعدّى إلى الغير و تكون من المتعلّقة بحقوق الناس لا بد من استرضائه، و طلب الغفران منه، و يدلّ عليه قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، فإنّ الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ظلما للنفس فقط، بل كان فيه إيذاء له و غصب لحقّه صلّى اللّه عليه و آله، فاستوجب الرجوع إليه و إظهار التوبة لديه، و طلب المغفرة منه.

ص: 361

و منها: أنّ الذنوب التي تتعدّى إلى الغير و تكون من المتعلّقة بحقوق الناس لا بد من استرضائه، و طلب الغفران منه، و يدلّ عليه قوله تعالى: جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ ، فإنّ الإعراض عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم يكن ظلما للنفس فقط، بل كان فيه إيذاء له و غصب لحقّه صلّى اللّه عليه و آله، فاستوجب الرجوع إليه و إظهار التوبة لديه، و طلب المغفرة منه.

و في نفس الوقت كانت الآية الشريفة من موارد تطبيق التحاكم إليه، و يدلّ على ذلك الإظهار في موضع المضمر، و لم يقل: (استغفرت لهم) و نحو ذلك.

و يستفاد من الآية المباركة أدب الدعاء، و هو أنّ دعاء الجمع أقرب إلى الاستجابة، بل أنّ ظاهر الآية الكريمة يدلّ على لزوم الرجوع إلى واسطة الفيض و أولياء اللّه تعالى و التوسّل بهم في نجح طلباتهم و مقاصدهم عند اللّه تعالى، فإنّ مقام قربهم عنده عزّ و جلّ و حظوتهم لديه جلّ شأنه ممّا يساعد على استجابة الدعاء، و ليس ذلك من الشرك كما يدّعيه بعض الجاهلين، فأين الشرك من التوسّل بمن أذن له اللّه تعالى في الشفاعة، و جعله شفيعا عنده في نجح المقصود و الوصول إلى المطلوب ؟!! و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، على أنّ التوسّل بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و جعله شفيعا عند اللّه تعالى و دعائه صلّى اللّه عليه و آله، سبب تامّ لاستجابة الدعاء و عدم ردّ شفاعته و وجدان المقصود، و لكن لا بد أن يكون التوسّل بإخلاص و معرفة، و تكون الحاجة التي يطلب فيها الشفاعة من الأمور الراجحة شرعا، و إلا فليس كلّ توسّل يؤثّر الأثر المطلوب، كما نراه بالوجدان.

السابع: يدلّ قوله تعالى: حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، على أنّ الحدّ الفاصل بين الإيمان و الكفر و النفاق، هو الرجوع إلى طاعة الرسول لتحكيمه و قبول حكمه و قضائه، و تسليم الأمر إلى اللّه تعالى تسليما تامّا و الانقياد له و لرسوله، فتكون الآية الشريفة ردّا لمزاعم المنافقين و اليهود و غيرهم في الإيمان، و حكمها عامّ يشمل جميع الأعصار، و تدلّ الآية المباركة على عصمة الرسول من

ص: 362

الخطأ و النسيان و السهو، فإنّ اللّه تعالى أوجب قبول حكمه و قضائه من غير شرط، فلو احتمل فيه ذلك لوجب بيانه.

الثامن: يدلّ قوله تعالى: وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، أنّ التسليم من أعلى المراتب في الإيمان، و أنّه لا يصل الإنسان إلى هذه المرتبة الا بعد طيّ مراحل عديدة، ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآية المباركة، و هي الإيمان و الطاعة للّه و للرسول، و قبول حكمه من دون حرج و حزازة قلبيّة و تردد، ثم يصل إلى المرتبة الأخيرة و هي تسليم الأمر إلى اللّه و الرسول و الانقياد لهما انقيادا تامّا بالقول و الفعل.

و هذه هي المرتبة التي أوصى بها الأنبياء عليهم السّلام أممهم، و أكّد سبحانه و تعالى عليها في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم، قال تعالى حكاية عن إبراهيم:

وَ وَصّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اَللّهَ اِصْطَفى لَكُمُ اَلدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 132].

بحث روائي:

في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لقد خاطب اللّه أمير المؤمنين عليه السّلام في كتابه، قلت: في أيّ موضع ؟ قال عليه السّلام: في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً * فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ، فيما تعاقدوا عليه: لئن أمات اللّه محمدا ألاّ يردّوا هذا الأمر في بني هاشم، ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ عليهم من القتل أو العفو وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد استفيضت روايات في أنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن علي عليه السّلام، و لا محذور في ذلك أصلا، و المراد من الخطاب توجيه الكلام إليه عليه السّلام، كما يوجّهه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين.

روى الحافظ ابن عساكر: «أنّ أعرابيا جاء إلى قبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و حثا من

ص: 363

ترابه على رأسه و خاطبه، و قال: و كان فيما انزل عليك: وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً ، و قد ظلمت و جئتك تستغفر لي، فنودي من القبر: قد غفر لك، و كان هذا بمحضر من عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: أمثال هذه الرواية التي تدلّ على خروج النداء من قبور أولياء اللّه تعالى و أصفيائه كثيرة، لارتباط الأرواح الطيبة مع عالم الشهادة و عدم انقطاعها عنه بالمرّة، تقول فاطمة الخزاعيّة: «غابت الشمس بقبور الشهداء و معي اخت لي فقلت لها: تعالي نسلّم على قبر حمزة و ننصرف، قالت: نعم، فوقفنا على قبره فقلنا: السّلام عليك يا عمّ رسول اللّه، فسمعنا كلاما ردّ علينا: و عليكما السّلام و رحمة اللّه و بركاته، قالتا: و ما قربنا أحد من الناس».

و عن ام سلمة: «و اللّه لا يسلم عليهم أحد إلا ردّوا إلى يوم القيامة». و قد ورد مثل ذلك عن قبر الحسين عليه السّلام، و عن قبر مولانا أبي الحسن الرضا و غيرهم من الأولياء، فكيف بقبر خاتم الأنبياء الذي هو أشرف ولد آدم و فخر الكائنات و صاحب اللواء!! لكن الحجب الظلمانيّة حالت بيننا و بين سماع كلامهم، بل أنّها حالت بيننا و بين جميع الروحانيات و المعنويات، و لم يمنع حاجب عن وصول كلام الأعرابي إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فسمعه نبيّ الرحمة و استغفر له و ردّ جوابه.

فقد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله: «ابعثوا إليّ السلام، فإنّه يبلغني».

و كيف كان، يستفاد من الرواية امور:

الأول: أنّ استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للعاصين و المذنبين من أمته لم يختصّ بزمان حياته صلّى اللّه عليه و آله، بل يعمّ حتّى بعد ارتحاله إلى الملأ الأعلى؛ لعدم انقطاع فيضه عن أمته.

و ما أبعد ما بين مفاد هذه الرواية و بين ما يقوله بعض المفسّرين من أنّ الآية المباركة تختصّ بالإعراض عن الطاعة فقط، و بعصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فلا يشمل بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 364

و لكنّه باطل، إذ الآية الشريفة في مقام الامتنان على الامة، و تدلّ على عظيم منزلة الرسول صلّى اللّه عليه و آله عند اللّه تعالى، و لا فرق بين حياته و موته، فهو حيّ عند ربّه.

الثاني: يستفاد منها أنّ استغفار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن إلا بعد طلب العاصي العفو و الغفران، أي: بعد تحقّق الأهليّة لاستغفاره صلّى اللّه عليه و آله.

الثالث: يستفاد منها أنّ خطاب الأعرابي كان من صميم القلب و لم تمنعه الحجب و الظلمانيّة الدنيويّة.

علي بن إبراهيم في تفسيره في قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اَللّهِ ، أي: بأمر اللّه تعالى.

أقول: الأمر و الإذن بالنسبة إليه في الإرادة التشريعيّة بمعنى واحد، فيكون بمعنى الإيجاب.

في الكافي بإسناده عن عبد اللّه الكاهلي عن الصادق عليه السّلام قال: «لو أنّ قوما عبدوا اللّه وحده لا شريك له، و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة، و حجّوا البيت، و صاموا شهر رمضان، ثم قالوا الشيء صنعه اللّه أو صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لم صنع كذا و كذا؟ و لو صنع خلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين، ثم تلا هذه الآية فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، ثم قال الصادق:

عليكم بالتسليم».

أقول: يستفاد من الرواية أهمية مقام التسليم الذي يختصّ بالأخيار من عباده و أوليائه، و له مراتب يأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى، و الرواية وردت على طبق القاعدة؛ لأنّ المناط في الإيمان الاستقرار في القلب و الإذعان بأنّ أفعاله تعالى تابعة للمصالح و المفاسد، فالاعتراض يكشف عن عدم الإيمان به تعالى، و كذا بالنسبة إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّه يرجع إلى اللّه تعالى، و لذاك عدّ من المشركين، و تقدّم أنّ الشرك له مراتب متفاوتة.

ص: 365

عن البرقي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً قال: «التسليم الرضا و القنوع بقضائه».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و إنّ الحكم أعمّ من التشريعيّ و التكوينيّ ، و إنّ الصفات الثلاثة من مختصّات المؤمن، و لكلّ منها درجات مختلفة حسب درجات الإيمان، و إنّها لا ينافي العمل بالأسباب الظاهريّة بعد استقرار الإيمان به تعالى، كما تقدّم مكرّرا.

نعم، لا بد من ظهور الأثر الخارجي لتلك الصفات.

و في الدرّ المنثور: «انّ عروة بن الزبير حدّث عن الزبير بن العوام أنّه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في شراج من الحرّة، كانا يسقيان به كلاهما النخل، فقال الأنصاري: سرح الماء يمرّ، فأبى عليه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الأنصاري، و قال: يا رسول اللّه، إن كان ابن عمّتك ؟! فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتّى يرجع إلى الجدر، ثم أرسل الماء إلى جارك، و استرعى رسول اللّه للزبير حقّه، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك أشار إلى الزبير، أي: أراد فيه السعة له و للأنصاري، فلما أحفظ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأنصاري استرعى للزبير حقّه في صريح الحكم، فقال الزبير: ما احسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ».

أقول: الشراج مجاري الماء من الحرار إلى السهل، و أحدها شرج، و ام الزبير صفيّة بنت عبد المطلب، فيكون الزبير ابن عمّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّ الرواية من باب التطبيق، و ذكر بعض المصاديق و جرأة الأنصاري على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جرأة على اللّه تعالى.

العياشي في تفسيره بإسناده عن أبي أيوب الخزاز قال: «سمعت

ص: 366

أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في قوله: فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ، فحلف ثلاثة أيمان متتابعات لا يكون تلك النكتة السوداء في القلب و ان صام و صلى».

أقول: لعلّ حلفه عليه السّلام ثلاث أيمان متتابعات للتأكيد على وجود تلك النكتة السوداء في القلب، و هي تحصل من ممارسة الذنوب و الإصرار عليها، و إنّها المصدر للشقاء الكامل، و الرواية لا تدلّ على أنّ الشقاء ذاتي أصلا.

في الكافي بإسناده عن محمد بن أبي العباس عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً . قال:

«هو التسليم له في الأمور».

أقول: أي في التكوين و التشريع، و تقدّم ما يرتبط بها.

بحث فلسفي

أثبت الفلاسفة المتألّهون أنّ السبل و ما يوجب التقرّب إلى للّه تعالى و يوصل إلى الحقيقة و الكمال و يستلزم البعد عن الأوهام و الجهالات، كثيرة جدا - بل و هي غالبة على طرق الضلال و الإغواء، لما أثبتوه في محلّه من أنّ الحقيقة فائقة على غيرها، و أنّ الواقع غالب على الأوهام و الخيالات مهما بلغ أو طال الزمان - و قد ذكر القرآن تلك السبل الموصلة إلى الحقّ و الحقيقة، و أكّد عليها بأمثلة كثيرة و بعبارات مختلفة، و أهمّها مخالفة النفس عن الهوى، و الصبر في جنب اللّه تعالى، و التفكّر في عظمته جلّ شأنه، بل أنّ العبادات كلّها ليست إلا طرقا شرعية لتزكية النفس و ترقيتها حتّى يتأهّل العبد للإفاضة عليه منه تعالى، و تحصل اللياقة له للتقرّب بساحته جلّ شأنه، بنبذ الجهات الإمكانية، فإنّ الفطرة قابلة للترقي في عالم الشهادة أو في غيره، إن لم تمنعه الموانع فلا بد في

ص: 367

الإفاضة من الأهليّة، و إن اختلفت شدة و ضعفا لقاعدة التناسب التي أثبتها المتألّهون من الفلاسفة، و تدلّ عليها آيات شريفة يأتي التعرّض لها إن شاء اللّه تعالى و روايات كثيرة.

و للإفاضة مراتب غير متناهية لا يمكن تحديدها؛ لأنّ الذات المفاض منها غير متناهية، و كذا صفاتها التي منها الإفاضة، قال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ اَلْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ اَلْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً [سورة الكهف، الآية: 109]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ ما فِي اَلْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ اَلْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 27]، و كذا تختلف لياقة المفاض عليه حسب إيمانه أو دركه، أنّ الذوات تختلف - لا على سبيل سلب الاختيار عنه - و غير ذلك.

و لا تختصّ الإفاضة بعالم دون آخر، فهي تكون في جميع العوالم، عالم الشهادة، و عالم البرزخ، و عالم القيامة. و إن ناقش بعضهم في الإفاضة في عالم البرزخ، و لكنّها غير صحيحة، لما يأتي في محلّه.

بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة؛ لأنّ التنعّم في الجنّة عناية و لطف و إفاضة منه تعالى، فلا يمكن تحديده لا كما و لا كيفا و لا زمانا لما تقدّم، فيتحقّق الخلود لا محالة، كما أنّ بعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل، و الفاصل بينهم و بين المتّقين و التباعد بين المؤمنين و الكافرين، نعمة و لطف و عناية للمؤمنين، فلا بد و أن تكون غير محدودة أيضا، فيتحقّق الخلود في النّار و إن كان دخول أصل النّار من باب الجزاء، قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [سورة الأعراف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 50].

ص: 368

بل يمكن ابتناء مسألة الخلود على الإفاضة؛ لأنّ التنعّم في الجنّة عناية و لطف و إفاضة منه تعالى، فلا يمكن تحديده لا كما و لا كيفا و لا زمانا لما تقدّم، فيتحقّق الخلود لا محالة، كما أنّ بعد النفوس الشريرة عن النفوس المقدّسة بالتقابل، و الفاصل بينهم و بين المتّقين و التباعد بين المؤمنين و الكافرين، نعمة و لطف و عناية للمؤمنين، فلا بد و أن تكون غير محدودة أيضا، فيتحقّق الخلود في النّار و إن كان دخول أصل النّار من باب الجزاء، قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلْجَنَّةِ أَصْحابَ اَلنّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ [سورة الأعراف، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نادى أَصْحابُ اَلنّارِ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ اَلْماءِ أَوْ مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ قالُوا إِنَّ اَللّهَ حَرَّمَهُما عَلَى اَلْكافِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 50].

و الإفاضة تارة عامّة، كالرزق و الخلق و غيرهما.

و اخرى: خاصّة، و هي ما يفاض على الإنسان لأجل إيمانه و أعماله الصالحة حسب الشرع، و لكلّ منهما مراتب، كما مرّ.

و ثالثة: أخصّ ، و هي تخصّ الأولياء و الأنبياء حسب درجاتهم،

فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «أبيت عند ربيّ فيطمعني ربيّ و يسقني».

و من أهمّ أسباب الإفاضة و التقرّب إلى اللّه تعالى الأذكار الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، المنتهية إلى الوحي من السماء، و هي كثيرة مذكورة في محلّها، و أهمّها الاستغفار الموجب لمحو الذنوب و رفع الدرجات، بل

قال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: إنّه من خير العبادة،

ففي الكافي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: الاستغفار و قول لا إله إلاّ اللّه، خير العبادة، و قال اللّه العزيز الجبّار: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللّهُ وَ اِسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ »؛ و لذا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يواظب عليه،

فعن الصادق عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لا يقوم من مجلس و إن خفّ حتّى يستغفر اللّه خمسا و عشرين مرّة».

و له آثار معنويّة، منها صفاء النفس،

فعن مولانا الصادق عليه السّلام: «انّ للقلوب صدأ كصدأ النحاس، فاجلوها بالاستغفار»،

و عنه عليه السّلام أيضا: «إذا أكثر العبد من الاستغفار، رفعت صحيفته و هي تتلألأ».

و آثار خارجيّة، كما عن بعض مشايخنا في العرفان، و تدلّ عليه روايات كثيرة،

فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كثرت همومه فعليه بالاستغفار»،

و عن الصادق عليه السّلام: «من أكثر من الاستغفار جعل اللّه له من كلّ همّ فرجا، و من كلّ ضيق مخرجا، و رزقه من حيث لا يحتسب».

و الاستغفار كسائر الأذكار الشريفة على أقسام فتارة: باللسان فقط.

ص: 369

و اخرى: بالقلب.

و ثالثة: بهما.

و الأخير من أجلّ المقامات، و به يحصل بعض المكاشفات حسب مراتب التوجّه و التأهّل.

و لعلّ تأكيد الآية المباركة باستغفار الرسول لهم إنّما لأجل حصول الاستعداد و الأهليّة بسبب الاستغفار و الرجوع إليه تعالى بنبذ النفاق حتّى يفيض عليهم ما يوجب كمالهم و سعادتهم في الدنيا و الآخرة.

ص: 370

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْه.......

اشارة

وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) بعد ما بيّن عزّ و جلّ الإيمان الصحيح و عرّف المؤمنين المحكّ الحقيقيّ له، ذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة بعض الأمور التطبيقيّة لذلك، اختبارا للمؤمنين لإعلامهم مقدار تأثّرهم بتلك التوجيهات الكريمة، فاستنهضهم بقبول حكم اللّه تعالى، فأمرهم بالقتال و الهجرة من الديار، أو فعل ما يوعظون به، و أخبرهم بأنّ تلك الأحكام إنّما نزلت لصلاحهم و سعادتهم و هدايتهم إلى الصراط المستقيم الذي يوصلهم إلى الكمال المنشود، و يبيّن عزّ و جلّ أنّ من يدخل في طاعة اللّه عزّ و جلّ و يقبل أحكامه و ينفذها قليل، فلا بد من الجهاد و الصبر و المثابرة و قبول مواعظه عزّ و جلّ التي لها الأثر الكبير في ترويض النفوس و تهذيبها للدخول في طاعته.

التفسير

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ سياق الكلام و إن كان مع المنافقين، و لكن يمكن تعميمه لجميع المكلّفين اختبارا لإيمانهم، و الكتابة هي الفرض و الوجوب، أي: و لو أنّا فرضنا عليهم قتل أنفسهم بتعريضها للجهاد و القتال مع أعداء اللّه تعالى أو الخروج من أوطانهم و ديارهم المألوفة و الهجرة في سبيل اللّه تعالى، و الغرض من فرض هذين الحكمين اختبارهم لإظهار طاعتهم و انقيادهم لحكم اللّه تعالى و رضائهم به و التسليم لأمره عزّ و جلّ في جميع الأحوال، و لعلّه لأجل ذلك تصدّرت الآية الشريفة

ص: 371

بكلمة «لو» الدالّة على الامتناع، فلم يكتب عليهم ذلك، فتكون هذه الآية من موارد تطبيق الآية السابقة.

و إنّما خصّ هذين الحكمين بالذكر لما فيهما من المشقّة و الحرج الشديدين بالنسبة إلى الإنسان، فإنّ الإنسان لشديد الحبّ للنفس و الديار، و يكره فراق الأحبّة و هجران الأخلّة.

قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ قرئ «قليلا» على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا قليلا.

أي: لم يطع منهم إلا القليل؛ لأنّ فرض الحكمين إنّما كان لإظهاره قوة إيمانهم و ثبات عزيمتهم و مقدار تقبّلهم لأحكام اللّه تعالى و الطاعة له عزّ و جلّ ، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، و هم أصحاب العزائم القويّة الذين آثروا رضا اللّه تعالى على رضى النفس و حبّها.

و الآية المباركة تخبر عن امتناعهم عن امتثال الأحكام و التكاليف الحرجيّة و التوبيخ لهم.

و الاستثناء - بناء على التعميم لجميع المكلّفين واضح لا لبس فيه، و هو استثناء متصل. و أما بناء على اختصاص الخطاب بالمنافقين فالاستثناء غير متصوّر، إذ المنافق لا تطيب نفسه لما دون القتل، فكيف به و بالخروج من الديار.

لكن يمكن أن يقال إنّ الاستثناء إنّما هو لدفع توهّم استغراق الحكم و استيعابه للجميع، فإنّ منهم المؤمنين حقّا، المخلصين الذين سلّموا أمرهم إلى اللّه تعالى، فلا يشملهم الحكم المزبور و إنّما دخلوا فيهم تبعا.

بل يمكن أن يقال إنّ الأمر و التكليف اختباري، و إنّه في مقام امتحان المؤمنين و اختبارهم عن إيمانهم و طاعتهم و ثباتهم، فلا فرق حينئذ بين أن يكون الاستثناء متصلا أو منفصلا، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اَللّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً [سورة النساء، الآية: 46] ما يتعلّق بالمقام.

ص: 372

قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي: و لو أنّهم فعلوا تلك التكاليف لكان خيرا لهم في جميع شؤونهم و أحوالهم في الدنيا و الآخرة.

و في تبديل الكتابة ما يُوعَظُونَ بِهِ لبيان أنّ تلك الأحكام إنّما هي إرشاد لصلاحهم و سعادتهم، فإنّ التكاليف الإلهيّة مواعظ و نصائح يراد لهم منها الخير و الصلاح، فتدلّ على أنّ الحكمين المذكورين في الآية السابقة اختبارهم.

قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً التثبيت: التقوية، و ذلك بجعل الشيء ثابتا و راسخا، أي: و أشدّ تثبيتا لإيمانهم و قلوبهم على طاعة اللّه، و الآية المباركة تدلّ على أنّ تنفيذ الأحكام الإلهيّة و تطبيقها لهما الأثر الكبير في تقوية الإيمان، بل هي العلّة التامّة في رسوخه في النفس، فإنّ العمل بالأحكام يزيد العامل قوة و إحكاما على ترسيخ الملكات الفاضلة و الأخلاق الحسنة في النفس، فتقوم بالتكليف بأحسن وجه لا تخاف الضلال و الغواية.

قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنّا أَجْراً عَظِيماً إذن حرف جواب و جزاء، أي: حين ما ثبتوا على الإيمان و قويت فيهم عرى الحقّ و الصواب لاعطيناهم أجرا عظيما لا يعرف أحد مداه و لا يبلغ منتهاه، و سيأتي في الآيات التالية بيان بعض ذلك الأجر العظيم.

قوله تعالى: وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: لهديناهم لسلوك الطريق المستقيم الذي يوصلهم إلى المراتب العالية في القرب، و قد تقدّم في سورة الفاتحة معنى الصراط المستقيم.

و هذه الهداية أجلّ و أعظم من الأجر المتقدّم، كما قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ اِهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً [سورة محمد، الآية: 17]، و الاختلاف في الأجر و الجزاء لاختلاف درجات الإيمان، فبعضهم ينعم عليهم الخير، و آخرون الثبات و العزيمة، و ثالثهم الهداية إلى الصراط المستقيم.

ص: 373

بحوث المقام
بحث أدبي:

«قليل» في قوله تعالى: ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ بدل من الضمير المرفوع في «فعلوه»؛ لأنّ الكلام غير موجب. و أمّا الضمير المنصوب في «فعلوه» راجع إلى أحد الأمرين من القتل و الخروج؛ لأنّ العطف ب (او) يستلزم ذلك، أو يرجع إلى المكتوب الشامل لهما.

و قرئ بالنصب «الا قليلا» إما على أصل الاستثناء، و إما على أنّه صفة لمصدر محذوف، أي: ما فعلوه إلا فعلا قليلا.

و أشكل على هذا الوجه بأمور مذكورة في كتب النحو، من شاء فليرجع إليها.

و إذا في قوله تعالى: وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مقحمة و جواب لسؤال مقدّر، و قد اختلف العلماء في أنّها لمعنيين في حال واحدة، أي: الجواب و الجزاء في كلّ حال، أو أنّها قد تأتي لمعنى واحد كالجواب، و قد تأتي لمعنيين الجواب و الجزاء، و هي مسألة يبحث عنها في علم النحو.

و اختلف القرّاء في (ان) و (او) في قوله تعالى: أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا فقرئ بكسر نون (ان) و ضمّ واو (أو)، و قرأ بعضهم بكسرهما و آخرون بضمّهما، فأما الكسر فللتخلص من التقاء الساكنين، و أما الضمّ فاجراؤهما مجرى الهمزة المتصلة بالفعل التي تنتقل حركة ما بعدها إليها.

ص: 374

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأول: إنّما جمع عزّ و جلّ بين القتل و الخروج من الدار و الجلاء عن الوطن في ما فرضه تعالى عليهم؛ لأنّهما أشدّ شيء على الإنسان، و لأهمية الوطن عنده، و لأنّ الجسم مستقرّ الروح كما أنّ الوطن دار الجسم و البدن.

و كيف كان، فتدلّ الآية الشريفة على أهمية الهجرة في سبيل اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أنّ الأحكام الإلهيّة و التكاليف الربانيّة إنّما هي مواعظ تصلح النفوس المريضة، و تهدي المكلّفين إلى ما فيه الصلاح و السعادة، و لعلّ هذه الآية الشريفة تبيّن المراد من قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً ، فالإعراض عنهم كان حكما أدبيا و خلقا رفيعا اتصف به نبيّ الرحمة، ثم الوعظ بإنزال التكاليف و الأحكام لتهذيب النفوس و هدايتها إلى الصلاح و السعادة، و القول البليغ هو الوعد و الوعيد اللذين وردا في هذه الآية الكريمة و الآية التالية.

الثالث: لعلّ ما ورد من تعدّد الجزاء و اختلافه، و هو الخير و الثبات و الأجر العظيم و الهداية، إنّما هو لأجل اختلاف درجات الإيمان التي وردت في الآية السابقة من التحكيم، و الرضا بالحكم، و التسليم الكامل و لما كان التسليم من أعلى تلك الدرجات، كان الجزاء أيضا عظيما، و هو الأجر العظيم و الهداية إلى الصراط المستقيم.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً على أنّ الأحكام الشرعيّة الإلهيّة لها الأثر الكبير في تثبيت النفوس على الإيمان و رفع الشكوك و الأوهام و تزكية القلوب و ترويضها على مكارم الأخلاق، و رفع كلّ ما يوجب البعد عن اللّه تعالى.

ص: 375

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً أنّ الأحكام الإلهيّة هي الثابتة، و أما غيرها من القوانين الوضعيّة فليست لها ثبات، و إنّما هي تختصّ بزمان معين لا دوام لها.

بحث روائي

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: «عبد اللّه بن مسعود و عمّار بن ياسر، يعني من أولئك القليل».

أقول: الرواية من باب التطبيق.

و في الكافي بإسناده عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَوْ أَنّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اُقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ و سلّموا للإمام تسليما، أَوِ اُخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ رضا له، ما فَعَلُوهُ إِلاّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ و لو أنّ أهل الخلاف فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ممّا قضيت و يسلّموا للّه الطاعة تسليما».

أقول: المراد من الإمام المعصوم الذي وجب طاعته، سواء كان نبيّا أو إماما، و الرواية من باب التطبيق، و هناك روايات اخرى واردة عن أئمة الهدى عليهم السّلام، تدلّ على أنّ الآية المباركة نزلت في حقّ علي عليه السّلام هكذا:

«و لو أنّهم فعلوا ما يوعظون به في علي عليه السّلام لكان خيرا لهم»، و لكنّها من باب التفسير و التطبيق لأجلى المصاديق.

و الحمد للّه ربّ العالمين، و له الشكر على ما أنعم.

ص: 376

المجلد 9

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة تفسير سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيق.......

اشارة

وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً (70) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى وجوب طاعة اللّه و الرّسول، و أحكم عزّ و جلّ هذا الحكم الإلهي المهمّ بعدّة أمور، و وعد عليه الوعد الحسن من الأجر العظيم، و الهداية إلى الصّراط المستقيم، يبيّن جلّ شأنه في هاتين الآيتين الشريفتين حقيقة الهداية، و نوع ذلك الجزاء، و أن ذلك الصّراط المستقيم هو الّذي سار عليه أخلص عباد اللّه المصطفين الأخيار، الّذين أنعم اللّه عليهم الهداية و عرفان الحقّ و العمل به و فعل الخيرات، و هم الّذين يأمل كلّ إنسان و يتمنّى أن يرافقهم في جميع العوالم، و قد بيّن عزّ و جلّ أن هذا هو الفضل الّذي لا يمنحه جلّ شأنه لأحد، إلاّ مع الحكمة البالغة و العلم الأتمّ .

ص: 5

التفسير
قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ

وعد حسن لمن أطاع اللّه تعالى و الرّسول، و هو بأسلوبه البديع و مضمونه الرفيع، يقابل الصورة الّتي ذكرها القرآن الكريم للمنافقين، الّذين يزعمون الإيمان و يتحاكمون إلى الطاغوت، فتضمّنت صورة طاعة اللّه و الرّسول على أمور مهمّة تكشف عن أهميّة الموضوع في حياة الإنسان في جميع المراحل و العوالم، كنوع الجزاء، و الأصناف الّتي يجب أن ترافق الفرد، و الصّراط الّذي لا بدّ أن يتّخذه المطيع سبيلا يسير عليه، و الغاية الّتي يجب أن يتوخّاها، و ما يجب أن يفعله حتّى يتهيّأ لفضل اللّه تعالى و الفيض الربوبيّ العظيم.

و ظاهر الآية الشريفة أنّها في مقام بيان الصراط المستقيم، الّذي ورد ذكره في الآية السابقة، أي أنّ الصراط المستقيم هو الصراط الّذي سار عليه النبيّون و الصديقون و الشهداء و الصالحون، و هم الّذين أنعم اللّه عليهم بالهداية.

و إنّما جمع سبحانه و تعالى بين طاعة اللّه و طاعة الرسول؛ لبيان أنّ طاعته طاعة اللّه تعالى، و أنّهما أصلان يكمّل أحدهما الآخر، و لا سبيل للتفكيك بينهما، و لتأكيد مضمون قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، فرجع الختام إلى ما بدأ به الكلام، و هو من الأساليب الحسنة في الكلام.

و أنّ الآية السابقة قد تعرّضت لحال المنافقين الّذين أعرضوا عن طاعة الرسول فقط؛ لأنّهم لم يتجاهروا بالإعراض عن طاعة اللّه تعالى، فنزل فيهم الحكم الصريح بأنّه لا فائدة في تلك الطاعة الموهومة الكاذبة، و لكن هذه الآية الشريفة تبيّن الشرط الّذي لا بدّ منه في اكتساب تلك السعادة الّتي يتوخّاها المؤمن المطيع في صحبة من أنعم اللّه عليهم الجزاء الحسن.

ص: 6

قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ .

بيان لأمر حقيقي، و هو أنّ الطاعة للّه و الرسول تستلزم الدخول في مسلك من أنعم اللّه عليهم. و سياق العبارة يدلّ على أنّ المطيعين ملحقون بهم و هم معهم في جميع العوالم، و هم منهم دون الصيرورة، و الإشارة ب: (أولئك)؛ لبيان علو درجة المطيعين و بعد منزلتهم فضلا و شرفا.

و المراد من النعمة - الّتي ظاهر العبارة الدالّ على عظمتها و قصور اللفظ عن بيانها و تفصيلها - هي تلك النعمة الّتي تفضّل عزّ و جلّ بها على أفراد معينين، و هم المخلصون الّذين آثروا حكم اللّه تعالى و رسوله على حكم الطاغوت، و سلّموا أمرهم الى اللّه تعالى، و هي الّتي نوّه عزّ و جلّ بها في قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ * صِراطَ اَلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ اَلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لاَ اَلضّالِّينَ [سورة الحمد، الآية: 7]. و هي النعمة الّتي تؤهّل الفرد في سلوك هذا الصراط و قبول الفيض الربوبيّ ، و قد أشار إليها عزّ و جلّ في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم، و هي تنحصر في نعمة الولاية.

قوله تعالى: مِنَ اَلنَّبِيِّينَ .

بيان للمنعم عليهم، و هو حال إما من «الّذين»، أي: أنّهم أنعم اللّه عليهم حال كونهم من النبيّين. أو من ضميره. و أجاز بعضهم أن يتعلّق الظرف بقوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ ، أي: من النبيّين و من بعدهم، فيكون قوله «أولئك» إشارة إلى الملأ الأعلى، و لكن هذا الوجه خلاف الظاهر كما هو واضح.

و قد ذكر عزّ و جلّ أربعة طوائف ممّن أنعم عليهم بالهداية و التوفيق، و قد اتّصفوا بمكارم الأخلاق إلاّ أنّ كلّ طائفة تختلف عن الاخرى ببعض الأمور الموجبة لاختلافها في المنزلة و الدرجة، فلا وجه للقول بأنّ الصدّيقين و الشهداء و الصالحين أوصاف متداخلة لموصوف واحد، فهم في الحقيقة فريقان، الأنبياء،

ص: 7

و المتّصفون بالصفات الثلاثة، فإنّ هذا القول خلاف ظاهر الآية الشريفة، و لعلّ ذكرهم للإعلام باختلاف درجات المطيعين، كما عرفت سابقا.

و النبيّون هم أصحاب الوحي، الّذين وصفهم اللّه تعالى في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة تدلّ على عظم شأنهم و جلالة قدرهم و علوّ منزلتهم، بل هم في أعلى عليّين؛ لما لهم من النفس القدسية الّتي استمدت قدسيتها من القوّة الإلهيّة، فهم قد رأوا الأشياء عيانا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ النبيّين دون نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله - مع أنّ الكلام في بيان طاعة الرسول - للإعلام بأنّ طاعته متضمّنة لطاعتهم عليهم السّلام.

قوله تعالى: وَ اَلصِّدِّيقِينَ .

و هم الطائفة الثانية. و الصدّيقين جمع الصدّيق، مبالغة في الصدق، أي: الّذين طابق قولهم فعلهم، و ظاهرهم باطنهم، فلا يصدر منهم إلاّ الحقّ اعتقادا و قولا و فعلا؛ لصفاء سريرتهم و عدم صدور الكذب عنهم و ممارستهم الصدق، فالهموا الصواب، فميّزوا الحقّ عن الباطل و الخير عن الشرّ، فهم شهدوا الحقائق، فكانوا صادقين بالحقّ ، فصاروا صدّيقين شهداء الحقائق و الأعمال.

و قد فسّر بعض العلماء الصدّيق بمن كثر صدقه، أو من لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده على الصدق، و لكن ما ذكرناه أولى، فإنّه قد يكون الفرد كذلك، لكن لا يصل الى درجة الصدّيق الّذي له مرتبة الشهادة على الأعمال و الحقائق. و الّذي تكون منزلته دون منزلة الأنبياء و رتبته دون مرتبتهم، كما هو ظاهر الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ اَلشُّهَداءِ .

و هم الطائفة الثالثة، أي الّذين تولاّهم اللّه تعالى بالشهادة، و جعلهم من المقرّبين، فشهدوا الحقّ و أريقت دماؤهم في سبيله، لنيل رضاءه و حبّه جلّت عظمته.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ المراد بالشهداء هم شهداء الأعمال، و لكن ذكرنا في

ص: 8

أحد مباحثنا السابقة أنّ الشهيد في سبيل الحقّ و إعلاء كلمة اللّه تعالى، يكون شهيدا على الأعمال أيضا، فبينهما تلازم في الجملة.

قوله تعالى: وَ اَلصّالِحِينَ .

و هم الّذين صلحت نفوسهم و استقامت أحوالهم و طريقتهم باتباعهم شريعة اللّه جلّ شأنه و الدوام على طاعته، فصاروا حججه على خلقه، يحتجّ بهم على من يخرج عن الصراط المستقيم، و بتزكية نفوسهم بصالح الأعمال، فتأهّلوا لفيضه عزّ و جلّ و تهيّؤوا لنعمه و كرامته. و هذه الطائفة هي آخر الطوائف الّتي هي صفوة اللّه تعالى من عباده.

و الصالحين: جمع الصالح، و هو الّذي صلحت حاله و استقامت طريقته. و أمّا المصلح، فهو الفاعل لما فيه الصلاح.

قوله تعالى: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً .

الرفيق كالصديق و الخليط، بمعنى الصاحب، سمّي بذلك للارتفاق به، و هو منصوب على التمييز، و فعيل يستوي فيه الواحد و غيره، و في التمييز أيضا يكتفى بالواحد عن الجمع، و قيل: إنّه منصوب على الحال، أي حال كونهم رفقاء أولئك الطوائف الّذين تقدّم ذكرهم.

و الرفيق جماعة الأنبياء الّذين يسكنون أعلى عليّين، و في حديث الدعاء:

«و الحقني بالرفيق الأعلى»، و قيل في معنى ذلك: ألحقني باللّه تعالى، يقال: اللّه رفيق بعباده، من الرفق و الرأفة، فهو فعيل بمعنى الفاعل، و منه حديث عائشة:

«سمعته صلّى اللّه عليه و آله يقول عند موته: بل الرفيق الأعلى». و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله خيّر بين البقاء في الدنيا و بين ما عند اللّه، فاختار ما عند اللّه تعالى.

و لكنّ الرفيق في الآية المباركة اسم جاء على فعيل، بمعنى الخليط و الصديق، يطلق على الجماعة المذكورة فيها لا بمعنى الرفق.

ص: 9

و في الآية الشريفة من التشويق و الترغيب و الوعد الكبير ما لا يخفى، و قيل:

إنّ فيه معنى التعجيب، أي: و ما أحسن أولئك رفيقا.

و المعنى: حسن مرافقة أولئك الطوائف الّتي يرتفق بهم لرفع كلّ ما يوجب الخوف و الحزن.

و إنّما وصف رفقتهم بالحسن؛ لاحتياج الإنسان بالرفقة في السفر الطويل الّذي يستقبله، فتفيض تلك الطوائف على من يرافقهم ممّا أنعم اللّه تعالى عليهم؛ و لأنّ في رفقة هؤلاء الخير الكثير؛ و لتأثير الرفيق في صاحبه أثرا كبيرا، فإذا كان ممّن أنعم اللّه عليه، كان أثره في صاحبه حسنا؛ و لارتفاق الأصحاب بعضهم بعضا.

و لا تختصّ الآية الكريمة بعالم دون عالم، فتشمل عالم الدنيا و البرزخ و الآخرة، فإنّ في جميعها يحتاج الإنسان إلى رفيق يرافقه في مسيره الاستكمالي، ليدله على الطريق الصحيح و يرشده إلى ما هو خير له، و يجنّبه عن المخاطر. و في الآية المباركة التفات من الغيبة الى الخطاب. كما أنّ في الآيات السابقة موارد مختلفة من الالتفات الدالّ على عظمة الخطاب و أهميّة الموضوع.

قوله تعالى: ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ .

الاسم (ذلك) إشارة إلى الجزاء الّذي ثبت للمطيعين، و منه مرافقة من أنعم اللّه عليه، و الفضل الّذي تفضّل اللّه تعالى عليهم. أي: أنّ ذلك الجزاء هو الفضل الّذي لا يكون غيره فضلا، و لا يعلوه فضل آخر، و ليس له حدّ، فإنّ فيه غاية السعادة و منتهى الكمال الّذي يتفاضل به الناس، و هذا الفضل هو من اللّه تعالى تفضّل به على عباده المطيعين؛ ثوابا لهم على إطاعتهم و أعمالهم الصالحة.

و في إتيان اسم الإشارة الدالّ على البعيد، و دخول اللاّم في الصفة (الفضل) أو الخبر، يدلّ على تفخيم هذا الفضل و تعظيمه، كأنّه هو الفضل دون غيره.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ عَلِيماً .

لأنّ درجات الإيمان و ثواب المطيعين و استحقاقهم و مقاديره و مراتب

ص: 10

خلوصهم و إخلاصهم لا يمكن لأحد العلم بها إلاّ اللّه تعالى، و كفى به عزّ و جلّ عليما.

و في الآية الشريفة تحريض المؤمنين المطيعين إلى الثواب العظيم و الفضل الكبير لا يعلمه إلاّ اللّه تعالى؛ و لتطمين نفوسهم فتنشط و تقبل على اللّه تعالى بالعمل بمواعظه، و فيها توعيد للمنافقين، فإنّ اللّه تعالى يعلم ما في قلوبهم.

ص: 11

بحوث المقام
بحث دلالي
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ على أهميّة الطاعة للّه و الرسول، ببيان عظيم الأجر و الثواب و حسن العاقبة، فيدلّ على أنّ لها الأثر الكبير في حياة الإنسان في جميع العوالم الّتي يرد عليها.

و الآية المباركة تثبت مضمون جميع ما ورد في الآيات السابقة و تؤكّده، و تبيّن الأثر الكبير للطاعة في شؤون الإنسان.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مطلق المعيّة المعنويّة و الظاهريّة، فإنّ المطيع للّه و الرسول مع الّذين أنعم اللّه عليهم في الدنيا و عالم البرزخ و عالم الآخرة، يستفيد من فيض علومهم و يستضيء من أنوارهم القدسيّة في تكميل نفسه و تزيينها بالكمالات و تحليتها بالأخلاق الفاضلة.

الثالث:

يبيّن قوله تعالى: مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ مصاديق المطيعين و درجاتهم، فإنّ من يطيع اللّه تعالى و الرسول لا يخلو أن يكون أحد هؤلاء الأربعة، فإنّ النبيّين هم في أعلى درجات الطاعة و الإخلاص، و هم السادة، ثمّ الصدّيقين و هم شهداء الحقائق، ثمّ الشهداء و هم شهداء الأعمال، ثمّ الصالحين و هم المتهيئون للفيض و الكرامة الإلهيّة.

الرابع:

إنّما أطلق عزّ و جلّ النعمة الّتي أنعمها اللّه تعالى على تلك الطوائف الأربعة؛ ليشمل النعم الظاهريّة و المعنويّة، و هي النعم الّتي تجلب السعادة و تؤدّي إلى الكمال و الطمأنينة، و يستفاد منه أنّ المطيع للّه تعالى و الرسول يحظى بتلك النعم لطاعته.

ص: 12

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً على لزوم الارتفاق للإنسان في حياته الظاهريّة الدنيويّة و الأخرويّة، و أنّ للرفقة الأثر الكبير فيه، و أنّ أحسن رفقة يرتفق بهم هم الّذين ذكرهم اللّه تعالى في هذه الآية الشريفة، و أنّ ما يوجب الإعداد للارتفاق بهم هو الطاعة للّه و الرسول، و إطلاق الحسن يشمل جميع أنحائه و كلّ ما يمكن تصويره فيه.

السادس:

يبيّن قوله تعالى: ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ أنّ ما ذكر في الآية من شمول النعم للمطيع للّه و الرسول و رفقة من ذكر في الآية الكريمة، هو الفضل الّذي لا بد للإنسان أن يسعى إليه و يعدّ نفسه لنيله و الدخول في هذه الكرامة الإلهيّة.

السابع:

مقتضى التعبير الكلامي في صفات المدح الارتقاء من الأدنى إلى الأعلى، و الآية المباركة على عكس ذلك، فإنّها من الأعلى إلى الأدنى، و لكن يستفاد من سياقها أنّها في مقام الإخبار عن كون المطيعين للّه تعالى و الرسول يكونون مع الأشراف و الخواص، فالمقصود الإخبار في الجملة، و ليست في مقام تعداد الصفات الأشراف فالأشرف.

بحث روائي

في الكافي بسنده عن أبي الصباح الكناني عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أعينونا بالورع، فإنّه من لقى اللّه عزّ و جلّ منكم بالورع، كان له عند اللّه فرحا، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ، فمنّا النبيّ ، و منّا الصدّيق، و منّا الشّهداء و منّا الصالحون».

أقول: ترتّب الفرح في الآخرة على الورع، من باب ترتّب المسبّب على السبب؛ لأنّ الورع ملاك الدين و قوامه، و به يحصل الكفّ عن محارم اللّه تعالى

ص: 13

و الاجتناب عنها، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «صونوا دينكم بالورع»، أي: احفظوه، و الورع عن محارمه تعالى هو طاعته.

ثمّ إنّ الورع على أقسام:

الأوّل: ورع التائبين، و هو ما يخرج المكلّف به عن الفسق و يوجب قبول شهادته.

الثاني: ورع الصالحين، و هو ما يخرج المكلّف به عن الشبهات.

الثالث: ورع المتّقين، و هو ترك الحلال الّذي يتخوّف انجراره إلى الحرام، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا يكون الرجل من المتّقين حتّى يدع ما لا بأس به مخافة أن يكون فيه بأس»، مثل أن يترك الكلام مع الغير مخافة الوقوع في شبهة الحرام.

الرابع: ورع الصدّيقين، و هو الإعراض عن غير اللّه تعالى خوفا من ضياع ساعة من العمر فيما لا فائدة فيه. رزقنا اللّه تعالى رشحة من رشحاته.

و لكلّ من هذه الأقسام مراتب و درجات. كما أنّ الفرح كذلك، خصوصا عنده جلّت عظمته، و لكن رحمته سبقت كلّ شيء و فضله عمّ .

و ذيل الرواية من باب ذكر أكمل الأفراد و أجلّ المصاديق، و بهذا المعنى وردت روايات اخرى، ففي بعضها أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من النبيّين و عليّ عليه السّلام من الصدّيقين، و الشهداء الحسن و الحسين عليهما السّلام، و الصالحون حمزة، و حسن أولئك رفيقا سائر الأئمة عليهم السّلام. و في بعضها: و الصالحون هم الكمّل من المؤمنين. و في بعضها: الصالحون ابنتي فاطمة عليها السّلام و أولادها، فلا منافاة بينها لما تقدّم.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «المؤمن مؤمنان، مؤمن و في اللّه بشروطه الّتي اشترطها عليه، فذلك مع النبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا، و ذلك ممّن يشفع و لا يشفع له؛ و ذلك ممّن لا تصيبه أهوال الدنيا و لا أهوال

ص: 14

الآخرة. و مؤمن زلّت به قدم، فذلك كخامة الزرع كيف ما كفأته الريح انكفأ، و ذلك ممّن يصيبه أهوال الدنيا و أهوال الآخرة، و يشفع له، و هو على خير».

أقول: لعلّ المراد من أهوال الدنيا أهوال البرزخ، و إلاّ فقد ورد: «أنّه كلما زيد في إيمان المؤمن، زيد في بلائه»، و قد ورد: «أنّه هل كتب البلاء إلاّ على المؤمن». أو أنّ المراد بأهوال الدنيا ما يوجب ضعف عقيدته و التشكيك في دينه.

و كيف كان، فإنّ التقسيم الوارد فيها حسب مراتب الإيمان، فإنّ أجلّ مراتبه و أكمله ما ورد في المؤمن الّذي و في اللّه تعالى بشروطه، كما في الرواية، و في هذا المعنى ورد قوله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ * اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ [سورة يونس، الآية: 63]. و قد وردت روايات كثيرة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام: «المؤمن يشفع يوم القيامة»؛ لأنّ للإيمان الحقيقي الواقعي آثارا، منها أنّه تعالى يخوّل إلى المؤمن صحائف الخلق في يوم المعاد، فيشفع فيهم حسب إرادته عزّ و جلّ .

و الخامة: ألفها منقلبة عن واو و هي الغصنة اللينة من الزرع، و في الحديث:

«مثل المؤمن مثل الخامة يفيئها الرياح».

و في أمالي الشيخ بإسناده إلى عليّ عليه السّلام قال: «جاء رجل من الأنصار الى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، ما أستطيع فراقك، و إنّي لأدخل منزلي فأذكرك فأترك ضيعتي و أقبل حتّى أنظر إليك حبّا لك، فذكرت إذا كان يوم القيامة و أدخلت الجنّة فرفعت في أعلى عليين، فكيف لي بك يا نبي اللّه ؟! فنزل قوله تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ اَلرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ اَلَّذِينَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ اَلنَّبِيِّينَ وَ اَلصِّدِّيقِينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ اَلصّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ، فدعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الرجل فقرأها عليه و بشّره بذاك».

أقول: و قريب منه ما في الدرّ المنثور و أسباب النزول للواحدي و غيرهما باختلاف يسير لا يضرّ بأصل المعنى، فإنّ الحبّ الواقعي الّذي يوجب اتّباع

ص: 15

المحبوب في كلّ ما يريده، يستلزم عدم الفراق بينهما في العوالم كلّها، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المرء مع من أحبّ ». و عن سيد العرفاء عليّ عليه السّلام في دعائه الملكوتي:

«فهبني يا إلهي.. صبرت على عذابك، فكيف أصبر على فراقك»، فتكون الآية المباركة من باب التطبيق.

و في صحيح مسلم و سنن النسائي و غيرهما، عن ربيعة بن كعب الأسلمي قال: «كنت أبيت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فآتيه بوضوئه و حاجته. فقال صلّى اللّه عليه و آله: سل، فقلت:

يا رسول اللّه أسألك مرافقتك في الجنّة. قال: أو غير ذلك ؟ قلت: هو ذاك، قال:

فأعنّي على نفسك بكثرة السجود».

أقول: السجود للّه تعالى مع شرائطه له آثار وضعيّة و ثواب عظيم، منها ما ذكره النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فالرواية من باب التطبيق.

أخرج ابن جرير عن الربيع قال: «إنّ أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قالوا: قد علمنا أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله له فضل على من آمن به في درجات الجنّة ممّن تبعه و صدّقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنّة أن يرى بعضهم بعضا؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية في ذلك، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ العليين ينحدرون إلى من هو أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم اللّه عليهم و يثنون عليه».

أقول: على فرض صحّة الرواية، انحدار العليّين لأجل ذكر نعم اللّه تعالى عليهم و بيانهم لغيرهم و الثناء عليه تعالى، أو لأجل اشتهائهم فتحصل المعاشرة و المصاحبة قهرا، و الرواية من باب التطبيق، و أمّا صعود من هو أسفل إلى العليّين في الجنّة فلا يتحقّق؛ لأنّ لكلّ مؤمن درجة و شأنا و لياقة، و ذلك لا ينافي قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ [سورة فصلت، الآية: 31]، فإنّ ذلك لا يتجاوز حدود اللياقة و الأهليّة إلاّ إذا شاء تعالى.

العياشي عن عبد اللّه بن جندب، عن الرضا عليه السّلام، قال: «حقّ على اللّه أن يجعل وليّنا رفيقا للنبيّين و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا».

ص: 16

أقول: المراد من صدر الرواية أنّه تعالى ألزم على نفسه حسب إرادته أن يجعل المؤمن الواقعي رفيقا لتلك الطوائف في الجنّة، و ذلك من باب ترتّب المسبّب على السبب، و الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها.

بحث عرفاني

المراد من الطاعة - الّتي هي الوسيلة للوصول إلى الدرجات الرفيعة السامية و الأفق القريب منه جلّ شأنه، و هي الّتي أكّدت عليها الآيات الشريفة و دعى إليها الأنبياء و الأولياء بألسنة مختلفة و اهتمّوا بها؛ لأنّها المبعث لتكريم الإنسان و نيله أشرف المراتب و أجلّ المقامات، و هي الانقياد الكامل و الامتثال مع الإخلاص لجلب رضا الحقّ و ترك ما سواه.

و لها مراتب كثيرة - بل متفاوتة - حسب إخلاص العبد و مقام العبوديّة، بل حسب درجات الحبّ و المحبّة له جلّت عظمته، ففي الأثر: «إنّ اللّه تعالى أودع أنوار الملكوت في أصناف الطاعات». فأعلى مراتبها قتل النفس في الحقيقة و قمع هواها الّتي هي حياتها، قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها * وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [سورة الشمس، الآية: 9-10]، و بالخروج عن عالم المادّة. و من مراتبها تسليم النفس إليه تعالى و دوام المراقبة لها، كما ورد ذلك في روايات مستفيضة عن المعصومين عليهم السّلام و في الدعوات المأثورة عنهم، و في الأثر: «كنّا في طريق مكّة، فإذا بشاب قائم في ليله يناجي ربّه و يقول: يا من شوقي إليه، و قلبي محبّ له، و نفسي له خادم، و كلّي فناء في إراداتك و مشيئتك، فأنت و لا غيرك، متى تنجيني - إلى آخره - قلت له: رحمك اللّه، ما علامة حبّه ؟ قال: اشتهاء لقائه. قلت: فما علامة المشتاق ؟ قال: ليس له قرار و لا سكون في ليل و لا نهار من شوقه إلى ربّه. قلت: فما علامة الفاني ؟ قال: لا يعرف الصديق من العدو، و لا الحلو من المرّ من فنائه عن رسمه و جسمه. قلت: فما علامة الخادم ؟ قال: إنّه يرفع قلبه و جوارحه و طعمه من ثواب

ص: 17

اللّه - إلى آخره»، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا يكون أحدكم كالعبد السوء إن خاف عمل، و لا كالأجير السوء إن لم يعط لم يعمل». و عن سيد العرفاء عليّ عليه السّلام:

«إلهي عبدتك لا خوفا من نارك و لا طمعا في جنّتك، بل وجدتك أهلا لذلك فعبدتك».

و بالطاعة الحقيقيّة ينال الإنسان الدرجات الرفيعة و المراتب الشريفة، و يتجاوز عن حدّ الكمال و يصل إلى درجة التكميل، فتكون له المعيّة في الدرجة لا في الاتّحاد - كما في بعض الروايات - لأنّ التساوي في كلّ جهة معه محال، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة.

كما أنّ العصيان و التجرّي بالإعراض عن طاعة الرحمن و الإقبال على طاعة الشيطان، يصل الإنسان إلى أسفل الهاوية و منتهى الهلاك، و إنّ له أيضا مراتب، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «كلّ أمتي يدخلون الجنّة إلاّ من أبى. قيل: يا رسول اللّه، و من أبى ؟ قال: من أطاعني دخل الجنّة، و من عصاني فقد أبى»، فإنّ إطاعته إطاعة اللّه تعالى، كما أنّ عصيانه كذلك، كما تقدّم.

و إنّما جعل سبحانه و تعالى في هذه الآية المباركة جزاء الطائعين للّه و الرسول مرافقة الأنبياء و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين، و لم يجعل - كما في غير الطاعة - الجنّات الّتي تهفوا إليها القلوب و تخلد فيها النفوس؛ لأنّ الطاعة ليست تكليفا محضا حتّى يجعل في مقابلها جزاء، و إنّما هي وسيلة لرقي النفس و سبيل للوصول إلى المرتبة الكاملة و النيل إلى المرتقى.

و معنى رقي النفس و رفعها بالوصول إلى الشاهق الأعلى، هو معاشرتها و مصاحبتها مع سنخها من النفوس القدسيّة، كالأنبياء و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين، لما ثبت في الفلسفة الإلهيّة و غيرها من أنّ السنخيّة في جميع الأشياء و في جميع العوالم لازمة و موجودة، فمقتضى قانون السنخيّة في عالم المصاحبة و المعاشرة - الّذي يكون في عالم الشهادة و عالم البرزخ و عالم الآخرة - هو أن

ص: 18

تكون النفوس الخيرة مع أمثالها و النفوس الشريرة كذلك؛ لما بينهما من التباعد و التباين، فلا تلائم بين الصنفين أيضا، فإنّ أرواح المطيعين و نفوس المؤمنين لا تميل و لا تستقرّ إلاّ مع النفوس الّتي تماثلها و تكون قريبة بينهم و في أفقهم، أي من سنخهم، و هي النفوس الرفيعة القدسيّة.

على أنّ ذلك يلازم دخول الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها. و لعلّ التعبير بقوله تعالى: أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمْ ، و قوله تعالى في ذيل الآية المباركة: ذلِكَ اَلْفَضْلُ مِنَ اَللّهِ ، يدلان على ما ذكرناه، و اللّه العالم بالحقائق.

و في الآية الشريفة إشارة إلى أنّه ينبغي للمؤمن أن يسعى في تكميل نفسه بالصلاح، و يترقّى إلى مرتبة الشهادة، ثمّ إلى مرتبة الصديقيّة، الّتي ليست بينها و بين مرتبة النبيّين أية واسطة إلاّ الوحي.

و الحسن الوارد في قوله تعالي: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً من الصفات الّتي لها مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا و كمالا. و أنّ المراد من الحسن الحسن في الرفاقة في عالم الدنيا، و يستلزم الحسن في عالم الآخرة، بل لا يتمّ حسن إلاّ به.

ص: 19

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أصول الحكومة الإسلاميّة، و أمر المسلمين بوصايا ينتظم بها شؤونهم و تصلح أمورهم، و وعد الأجر الجزيل و الثناء الجميل للمطيعين للّه تعالى و الرسول، و شدّد النكير على من يرغب عن حكم اللّه تعالى و حكم الرسول إلى حكم غيره من أهل الطغيان.

ص: 20

الإيمان، و المنافقين المثبطين العزائم، فأرشدهم إلى مكائدهم و سوء سريرتهم و خبث باطنهم، و أمرهم بما يوجب تنشيط عزائم المؤمنين و تعبئتهم، بأمرهم بالقتال في سبيل اللّه تعالى و مدافعة أعداء اللّه الّذين يقاتلون في سبيل الطاغوت، و وعدهم الأجر الجزيل.

و هذه الآيات المباركة تبيّن القواعد الّتي يبتني عليها الجهاد في الإسلام، و الغاية المتوخّاة منه، و هي من الآيات المعدودة الّتي تتكفّل قواعد التعبئة العامّة في الإسلام، و هي تعبئة عقائديّة و روحيّة و جسمانيّة حربيّة. و لا يخلو وجه ارتباط هذه الآيات بالسابقة، فإنّها كارتباط ذي المقدّمة بالمقدّمة.

التفسير
قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ .

خطاب توجيهي إلى الّذين آمنوا، أي هم الّذين أحبّوا الإيمان و آثروه على الكفر و الطغيان، فأسلموا أمرهم إلى اللّه تعالى و أطاعوه في تنفيذ أوامره و أحكامه، فأمرهم عزّ و جلّ أن يأخذوا حذرهم من الأعداء بما تقتضيه طبيعة كلّ جهاد و معركة في سبيل اللّه تعالى، و قد صدّر عزّ و جلّ الخطاب بالإيمان؛ لإرشادهم إلى كلّ ما يتعلّق بالإيمان من التوجيهات الأخلاقيّة و التشريعيّة، الّتي لا يلتزم بها إلاّ أهل الإيمان.

و مادّة (حذر) تدلّ على الترهيب بالاحتراز عن كلّ ما يخاف منه، و يختلف ذلك باختلاف المقامات و الحالات، و يلازم الحذر الاحتراز و الاستعداد.

و الحذر (بالتحريك) و الحذر بمعنى واحد، و هما مصدران، كالأثر و الإثر، و قيل: إنّ الأوّل مصدر و الثاني ما يحذر به، و هو آلة الحذر، و رجل حذر، أي محترز و مستعد.

ص: 21

و قد اختلف المفسّرون في معنى ذلك، فقيل: إنّه السلاح، بحذف المضاف، أي:

آلة حذركم، و المروي عن أبي جعفر عليه السّلام: «خذوا عدّتكم من السلاح». و لكن عطف السلاح على الحذر في غير هذه الآية الكريمة يقتضي المغايرة، قال تعالى:

وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ [سورة النساء، الآية: 102].

و عن بعض: خُذُوا حِذْرَكُمْ أي: ما فيه الحذر من السلاح، و قيل غير ذلك.

و كيف كان، لا اختلاف بين الأقوال، فإنّ الحذر من العدو يستلزم الاحتراس و الاستعداد، و يختلف ذلك فقد يكون بالقول كالكناية و نحوها، أو بالفعل، كمعرفة حال العدو و معرفة وسائل كيده و معرفة أماكنه. و قد يكون بالاستعداد كجمع السلاح و تهيأة العدّة، و هو المراد في المقام بقرينة الآيات التالية، و ما ورد في تفسير الآية المباركة من الأئمة المعصومين عليهم السلام، فيكون المعنى: خذوا حذركم من العدو و احترزوا منهم و استعدوا لهم و احترسوا منهم، و من المعلوم أنّ أخذ الحذر منهم يستلزم معرفة أحوالهم و سبل كيدهم، كما يستلزم معرفة ما يحترس به و ما يتحذّر به من أنواع السلاح و كيفية استعمالها، و غير ذلك ممّا هو داخل في تثبيت الحذر منهم.

قوله تعالى: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً .

بيان لما أمره عزّ و جلّ باتّخاذ الحذر من العدو بالتهيّؤ التامّ للخروج إلى الجهاد و الحرب مع أعداء اللّه تعالى، فيكون المراد من الحذر التهيّؤ و الاستعداد للحرب و القتال، و منه أخذ السلاح و حمله، كما عرفت.

و مادّة (ن ف ر) تدلّ على الانزعاج عن الشيء كالفزع، قال تعالى: وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا اَلْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاّ نُفُوراً [سورة الإسراء، الآية:

41]، أي: ينفرون على القرآن الى غيره، و في الحديث: «بشّروا و لا تنفّروا»، أي: لا تلقوهم بما يحملهم على النفور. و النفر في الجهاد إنّما يكون إلى الحرب لا عنها، و قد

ص: 22

يستعمل النفر في الخيرات كلّها، و المعروف أنّهم كانوا إذا استنفروا الناس للحرب ينادون: النفير النفير، و في الحديث: «و إذا استنفرتم فانفروا»، أي: إذا طلب منكم النصرة فأجيبوا خارجين إلى الإعانة.

و الثبات: جمع ثبة، على وزن فعلة كحطمة، حذفت لامها و عوض عنها تاء التأنيث، و لامها إمّا واو، من ثبا يثبو، كحلا يحلو، أو ياء مشتقّة من ثبيت على الرجل إذا أثنيت عليه، فإنّك جمعت محاسنه، و هي الجماعة على تفرقة أو منفردة، قال الشاعر:

//و قد أغدوا على ثبة كرام// ***

و ثبات و جميعا منصوبان على الحال، أي: انفروا جماعة بأن يكونوا فصائل و فرقا، أو انفروا مجتمعين.

و اختلاف النفر كذلك إنّما يكون حسب مقتضيات الحال و الظروف الحربيّة، كما أنّه قد يقتضي الحال أن يكون النفير عامّا أو يكون محدودا على قدر الحاجة، بأن تكون سرية أو طائفة و نحو ذلك، و منه يظهر الترديد في الآية الشريفة.

و الآية الكريمة و إن كانت في الحرب، و لكن تدلّ على المبادرة إلى الخيرات كلّها أيضا؛ لأنّ الحرب و الجهاد في سبيل اللّه تعالى من أكمل الخيرات و أجلاها، فلا ينافي المبادرة إلى مطلق الخيرات أيضا.

قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ .

بيان لحال بعض الأفراد، و وصف دقيق لنفسيّتهم الّتي تكون مصدرا لحركات خاصّة و تصرّفات مخصوصة في حالة الحرب الّتي تتطلّب الثبات في العزيمة.

و الآية الشريفة تصوّر تلك الحالة النفسيّة بأحسن صورة و أكملها، بحيث لا تتأدّى تلك في عبارة اخرى مهما بلغت من الوجهة البلاغيّة، فإنّها تدلّ على أنّ

ص: 23

عملية الإبطاء الّتي تصدر من ضعفاء النفوس الّتي سيطر الخوف عليهم، و الخور و الفشل قد تمكّنا في نفوسهم.

و تمثل الآية المباركة في الذهن صورة ذلك الشخص المتردّد المتثاقل الخائف، الّذي يبطأ عن الحركة و يزيده بعدا عن الصفوف المتراصة الّتي تحارب في سبيل اللّه تعالى، فهو يبطئ عن القتال و يبطئ غيره عنه أيضا، فإذا خلص من الحرب تنفّس الصعداء و رجع فرحا مسرورا و حمد نفسه إذا سمع بوقوع القتل في صفوف المسلمين، فيقول: «قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا»، و أمّا إذا سمع بنصرهم و رجوعهم مظفّرين يحملون النصر و الغنيمة، فعندئذ يتحسّر على ما فاته من الغنيمة و الرجوع عن ساحة الحرب من دون أن يصيبه أذى، و يتمنّى و يقول:

«يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما». صورة رائعة تصوّرها الآية المباركة عن الحالة النفسيّة و الشعور المتباطي و حالة الخوف لهؤلاء المبطئين، فهو لا يفكر إلاّ في نفسه لعدم تعمّق الإيمان في قلبه.

و الخطاب في وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ عامّ متوجّه إلى الجميع من دون إشارة إلى طائفة معيّنة منهم، و لم يقل: (فيهم)، و هو توجيه تربويّ متين؛ ليعرف المؤمنين الأقوياء الصادقين أنّ فيهم من تكون فيه هذه الحالة، و يصفهم بذلك الوصف الدقيق؛ ليعلم أنّ الحديث موجّه إليهم، و أنّه هو المقصود، و هذا أسلوب من الأساليب التربويّة الإصلاحيّة؛ ليعدل من فيه هذه الصفة موقفه و يستقيم و يرجع الى صفوف المؤمنين و يسلك السلوك القويم، و لا يستفاد من الآية الشريفة ما يدلّ على أنّ هؤلاء المبطئين هم المنافقون فقط، كما زعمه بعض المفسّرين، بل هو عامّ يشمل المنافقين و غيرهم من ضعاف الإيمان، فإنّ في كلّ مجتمع يوجد الصالح و الطالح، و يختلف الأفراد من حيث الصفات الروحيّة و النفسيّة و الأخلاق و الملكات.

ص: 24

و (يبطئن) من بطأ و هو التأخر عن الانبعاث في السير، و التبطّي يطلق على البطء و الإبطاء معا، و الإتيان بصيغة التشديد لما عرفت آنفا من تمكّن عملية الإبطاء في نفوسهم و استحكام هذه الصفة فيها.

قوله تعالى: فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ .

بيان لسوء سرائرهم و ضعف نفوسهم، فإنّه في حالة الخوف يجهد نفسه عند ما يهرب و لم يصبه ما أصاب المؤمنين من قتل أو جرح.

قوله تعالى: قالَ قَدْ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً .

أي: حاضرا معهم فابتلي بمثل ما ابتلى به المؤمنون، و هذا القول منهم يكشف عن عدم ثبات الإيمان في قلوبهم. و مثل هذا القول يصدر عن كلّ من ضعف الإيمان فيه.

قوله تعالى: وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اَللّهِ .

من النصر و الغنيمة و نحوهما، و في نسبة الفضل إلى اللّه تعالى دون المصيبة، مراعاة لحسن الأدب مع اللّه جلّ شأنه.

قوله تعالى: لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ .

جملة معترضة بين القول و مقوله من كلامه عزّ و جلّ ، و فيها التفاتة تدلّ على زيادة قبح فعلهم، و ضمير الخطاب للمؤمنين، و ضمير الغيبة للقائل، أي: ليقولن قول من لا تجمع بينه و بينكم أيّة مودّة و لو كانت ضعيفة، فإنّها لو كانت و لو على هذه الدرجة لكانت مانعة عن هذا التمنّي، فإنّ الإيمان من أقوى الروابط و أحكمها، و لضعف هذه الرابطة فيهم لا يرون لأنفسهم أيّة رابطة اخرى تربطهم بالمؤمنين، فيتمنّى الأجنبي ما لأجنبي آخر من الفضل.

و إنّما أدرج عزّ و جلّ هذه الجملة بين القول و المقول؛ لئلاّ يتوهّم أحد أنّ تمنّيهم المعيّة مع المؤمنين ليس لأجل النصرة و المظاهرة على ما تقتضيه العادات و التقاليد في تلك العصور، بل كان لأجل الحرص على حطام الدنيا.

ص: 25

قوله تعالى: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً .

المراد من الفوز العظيم هو حطام الدنيا على طريق التهكم و تعظيم هذا الأمر منهم، و جعل المصيبة الّتي أصابت المؤمنين نعمة يدلّ على ضعف إيمانهم.

قوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ .

بعد ما بيّن خطأ سلوك المبطئين الّذين يريدون من عملية الإبطاء التخلّف عن القتال، و ذمّهم و شنّع عليهم بأبلغ أسلوب، و أرشد المؤمنين إلى أنّ العقدة الحقيقة في تخلّفهم عن الطريق الصحيح هو الحرص على متاع الحياة الدنيا.

يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية المباركة الحقيقة المطلوبة، و هي أنّ المؤمنين يبيعون متاع الحياة الدنيا ليشتروا به النعيم الأبدي الحقيقي، و في الآية الكريمة الحثّ على الجهاد في سبيل اللّه تعالى، بتذكيرهم أنّ المؤمنين قد شروا بالإيمان الحياة الدنيا بالآخرة، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111].

و في الآية الشريفة توجيه تربويّ متين، فإنّ اللّه تعالى لما خاطب الجميع بما فيهم الضعفاء و الأقوياء، ثمّ وصف أفعال الضعفاء و تمنّياتهم و حكى أقوالهم، دون أن يشير إلى أعيانهم؛ لما في ذلك من أثر نفسي كبير - كما عرفت - ثمّ أهملهم في هذه الآيات ليرجعوا إلى أنفسهم فيشعروا بالإثم و يطهّروا نفوسهم من الذنب العظيم، ذنب التبطّي عن القتال و القعود عنه، ثمّ وجّه الخطاب إلى المؤمنين و وصفهم بصفات المسلم الحقيقي و المؤمن باللّه العظيم إيمانا حقيقيّا، و هي القتال في سبيل اللّه و بيع الحياة الدنيا بالآخرة. و هذا التحوّل في الخطاب من أهمّ السبل التربويّة؛ لتحوّل المذنب عن موقفه إلى الموقف المطلوب.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ .

حثّ على الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و بيان للغرض من القتال في الإسلام،

ص: 26

و أنّه ليس لحميّة و لا عصبيّة و لا للحظوظ الدنيويّة، و أنّ الفائدة المتوخّاة منه هي الأجر العظيم في الآخرة، لا يعلم أحد كميّته و لا كيفيّته إلاّ اللّه تعالى، و قد ذكر عزّ و جلّ أنّ العاقبة المحمودة من الجهاد إمّا القتل أو النصر، و على كلتا الحالين فللمجاهد الأجر العظيم.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ القتل مع أنّ المقام مقام الحثّ و التشجيع، و هو يقتضي ذكر النصر أوّلا، و تأخير ذكر القتل الّذي تنفر منه النفوس؛ للإرشاد إلى أنّ المؤمن ينبغي أن يكون همّه أحد الأمرين، إمّا إكرام نفسه بالقتل و الشهادة، أو إعزاز الدين بالنصر، و لا يحدّث نفسه بالهرب كما كان عليه المبطئون، و أنّه لا بد له من الثبات و العزيمة و التجرّد عن المادّة و الخلوص للّه تعالى، فلا يغري نفسه بالنصر فقط، بل يوطّنها على القتل.

و من ذلك يعلم أنّه لم يذكر عزّ و جلّ الاحتمال الثالث - و هو الانهزام - لأنّ المؤمن قوي العزيمة ثابت على الإيمان، لا ينهزم و لا يحدّث نفسه بالهزيمة؛ لأنّها خيانة، و المؤمن بريء منها.

و من هذه الآية الشريفة نستفيد أمرا تربويّا دقيقا، فإنّ اللّه تعالى إنّما وضع الجهاد و كتب القتال على المؤمنين؛ لأجل التجرّد الكامل للّه تعالى، و بيع الحياة الدنيا بما فيها من رغبة النصر و الاستيلاء على أعداء اللّه تعالى، حتّى يحظى برضوان اللّه تعالى و يشتري بها الحياة الآخرة، فكأنّ ذكر القتل ابتداء وقع من ذكر النصر، و له الأثر الكبير في النفوس و تشجيع الهمم و حثّ المتثاقلين، فإنّ الّذي يذهب للجهاد ليموت، لن يتغيّر موقفه حتّى يرزق النصر، بخلاف من يذهب للنصر و الغنيمة، فإنّه يتغيّر موقفه حين يقابل الموت، فيحدّث نفسه بالهزيمة.

قوله تعالى: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً .

أي نعطيه الأجر العظيم و لا يفوته ذلك، و في الالتفات مزيد حثّ و ترغيب، و إنّما وصف الأجر بكونه عظيما؛ لأنّه لا يعرف حدوده في الكم و الكيف أحد إلاّ

ص: 27

اللّه تعالى، و هذا الوعد منه عزّ و جلّ مترتّب على كلا الاحتمالين القتل و النصر.

نعم، الّذي غلب في سبيل اللّه تعالى فأمره مراعى في استيفاء ذلك الأجر.

قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

زيادة في الحثّ و التحريض المستفاد من الالتفات إلى الخطاب، بعد توضيح القاعدة في الجهاد في الإسلام. و قد ذكر في هذه الآية المباركة فائدة اخرى شريفة تصبوا إليها النفوس العالية، و هي نصرة المستضعفين و المظلومين.

و معنى الآية الكريمة أن لا عذر لكم في ترك القتال في سبيل اللّه تعالى.

و يستفاد من هذه الآية الشريفة انحصار القتال في سبيل اللّه، و هذا ما يؤكّده القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، و إذا عطف عليه شيء آخر في بعض الآيات - و منها المقام، أي: نصرة المستضعفين و المظلومين - فإنّما هو لأجل أنّ ذلك من مصاديق سبيل اللّه تعالى، و من طرق إقامته، فإنّ سبيل اللّه لا يمكن أن ينال حتّى يستنقذ المستضعفون من الظلم.

قوله تعالى: وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ .

طريق آخر في إقامة كلمة الحقّ و تثبيت لسبيل اللّه تعالى، و هو يعمّ كلّ خير، و منه إنقاذ المظلومين، كما أنه لا يؤمّن سبيل اللّه إلاّ باستنقاذ المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان من ظلم العتاة و الجبابرة.

و في الآية المباركة استنهاض للمؤمنين و تهييج لهممهم، و إغراء لهم بأنّ أهليكم و إخوانكم يعانون الأمرّين من ظلم الظالمين ليفتنوهم عن دينهم، فيجب استنقاذهم لأنّهم منكم، و قد جمعتكم رابطة الدين الّتي هي من أقوى الروابط، فإنّ الإسلام قد أهمل كلّ نسب و سبب غير الإيمان باللّه تعالى.

و إنّما ذكر تعالى الولدان - جمع ولد - و هم الصبيان بالخصوص، لأجل بيان فرط ظلم الكفّار، و أن ظلمهم و أذاهم وقع على النساء و الصبيان غير المكلّفين

ص: 28

أيضا، و الّذين هم يحتاجون إلى الرعاية و الترحّم و الانعطاف أكثر من غيرهم، و لعلّ في ذلك ارغام لآبائهم و أمهاتهم و بغضا لمكانتهم.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها .

استنهاض آخر لهم في تقديم المعونة للذين تربطهم معهم رابطة الإيمان مضافا إلى أنّهم منهم، و هم أبعاضهم و أفلاذهم، و مؤمنون باللّه العظيم يدعونه خوفا و طمعا بعد ما انقطعت بهم الأسباب؛ لأنّهم فقدوا من قومهم كلّ عون و حرموا كلّ مغيث، فكانوا مذللين معذبين لأجل دينهم، يستغيثون اللّه تعالى بقولهم: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها.

و الآية المباركة بأسلوبها الرفيع و فصيح عبارتها، بيّنت كمال انقطاعهم إلى ربّهم و قوّة إيمانهم، حيث لم يستغيثوا إلاّ بمولاهم الحقّ ليفرّج عنهم كربهم و يخرجهم من تلك القرية الّتي هي وطنهم الظالم أهلها لهم، و لم يذكروا شيئا آخر ممّا كان دائرا في العصر الجاهلي من العصبيّة و نحوها، فلم يقولوا: يا قوماه، أو يا للرجال و نحو ذلك.

و المراد من القرية مكّة المكرّمة الّتي ظلم أهلها المشركون المؤمنين أشدّ أذية ليردّوهم عن دينهم. و إنّما وصف أهلها بالظلم دون القرية، كما في غير هذا الموضع قال تعالى: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ [سورة الحج، الآية: 45]، و قال تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ [سورة الحج، الآية: 48]، لأنّ مكّة مكرّمة فلا يقال لها قرية ظالمة، و إنّما اختصّ أهلها بالظلم.

قوله تعالى: وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا .

دعاء آخر منهم يطلبون منه جلّت عظمته أن يجعل منهم وليا يلي أمرهم ليرشدهم إلى أمور دينهم و دنياهم، فإنّه أعلم بمصالحهم من غيره.

ص: 29

قوله تعالى: وَ اِجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً .

دعاء ثالث يطلبون منه أن يجعل لهم نصيرا ينصرهم على من أذاهم فاستجاب لهم ربّهم دعاءهم، فجعل لهم خير ولي و خير نصير، فحماهم و نصرهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله حتّى صاروا أعزّ أهلها بعد ما كانوا أذلة ضعفاء.

و في تكرار الفعل و متعلّقيه مبالغة في التضرّع و الابتهال، و حصر الطلب فيه عزّ و جلّ ، فإنّهم يتمنّون الوليّ و النصير لكنّهم لا يرضون إلاّ أن يسألوا ربّهم.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الإيمانيّة، و هي في نفس الوقت توجيه للمؤمنين بأنّ قتالهم لا بدّ أن لا يكون لغرض دنيويّ ، بل يكون دائما في سبيل اللّه تعالى و التقرّب إليه عزّ و جلّ ، و قياس بين الطائفتين المؤمنة الّتي لا تقاتل إلاّ في سبيل اللّه، و الكافرة الّتي ليس لهم أي غرض سوى الأغراض الدنيويّة الوهميّة، فيعلم شرف الطائفة الأولى على الثانية؛ لأنّ سبيل اللّه يوصل لا محالة إلى اللّه تعالى، بخلاف سبيل الكفّار الّتي لا توصلهم إلاّ إلى الهلاك و البوار. و لا ضير في اختلاف الدوافع عند المؤمنين في القتال، فتارة: يريدون من القتال الدفاع عن الحقّ ، و اخرى: دفع عدوان الكافرين، و ثالثة: لاستنقاذ المستضعفين، و رابعة: لإزالة القوى الّتي تقف في سبيل الدعوة و الحقّ و غير ذلك ممّا هو كثير، فإنّها جميعا من وجوه سبيل اللّه و مصاديقه، بل لا تحقّق له إلاّ بذلك.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَلطّاغُوتِ .

بيان لحقيقة اخرى بالنسبة إلى الفئة الكافرة الّتي لا تقاتل إلاّ في سبيل الطاغوت الّذي هو سبيل الشيطان و لا يوصلهم إلاّ إلى الهلاك، و لا فرق في قتالهم بين أن يكون مع الإسلام و المسلمين و دين الحقّ أو كانوا يقاتلون بعضهم بعضا، فلا يكون قتالهم إلاّ في سبيل الطاغوت و إنّ كلّ قتال لهم لا يكون إلاّ كذلك ما داموا معرضين عن الإيمان باللّه تعالى و رسوله، و مهما كانت شعاراتهم و أقوالهم،

ص: 30

و هذا ما نراه في الجاهليّة المعاصرة الّتي استمدت شعارات برّاقة ليقاتل تحتها المؤمنين المستضعفين، و هي شعارات زائفة من سبل الطاغوت، فالآية المباركة تبيّن حقيقة كلّ واحد من الفريقين و أهدافهم ليعلم غيرهم ذلك، و يثبت المؤمنين على طريقتهم و يعرضوا عن طريق أعدائهم، و يرجع المخدوعون إلى الحقّ و يسيروا على نهج المؤمنين و هديهم.

قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ .

تحريض آخر للمؤمنين بالقتال ببيان ضعف سبيل الكافرين و تأكيد للحكم المزبور - و هو القتال في سبيل اللّه تعالى - و بيان للقاعدة الّتي يستند إليها المؤمنون الّذين هم أولياء اللّه تعالى، و صلابتها أمام تلك الّتي يقف عليها أعداؤهم الّذين هم في ضلال، لأنّهم أولياء الشيطان خارجون عن ولاية اللّه تعالى، فيجب قتالهم حتّى لا تكون فتنة و يكون الدين كلّه للّه تعالى، فهؤلاء يقاتلون في سبيل اللّه، و الكفّار يقاتلون في سبيل الطاغوت.

قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً .

لأنّ الشيطان مهما تجبّر و تكبّر فهو ضعيف في حدّ نفسه؛ لأنّه باطل و لا قوّة له، فضلا عن القياس إلى قدرة اللّه تعالى و عظمته الّذي يقاتل أولياؤه في سبيله و هو وليّهم، و الشيطان وليّ الكافرين.

و في الآية الكريمة كمال العناية بالمؤمنين؛ لأنّ اللّه تعالى القوي القدير هو وليّهم يرعى شؤونهم. و تحريض لهم بأنّ الشيطان مهما تجبّر و تطاول، فإنّه ضعيف، فلا يرهبكم مكائده و حيله مهما بلغ في العدّة و العدوان، فإنّ اللّه على نصركم لقدير.

و لمثل هذه الجملة أثر نفسيّ كبير في نفوس المؤمنين الّذين يريدون القتال في سبيل الحقّ ، و هم يذعنون بأنّهم أقوياء لا يغلبهم الباطل، فتطمئن نفوسهم بالغلبة و النصر مهما كان في جانب الباطل من القوّة في العدد و العدّة.

ص: 31

بحوث المقام
بحث أدبي:

ذكرنا ما يتعلّق باشتقاق كلمة الثبات و النفر، و القراءة المعروفة في الأخيرة هي كسر الفاء في (انفروا) في الموضعين، و قرأ بعضهم بالضمّ فيهما.

و أما ثبات، فالمعروف بكسر التاء، و هي بحسب القاعدة في جمع المؤنّث، و حكى بعضهم الفتح.

و قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ ، فإنّ اللام الأولى لام التأكيد الّتي تدخل على خبر إن أو اسمها إذا تأخّر، و الثانية جواب قسم. و قيل: زائدة، و جملة القسم و جوابه صلة الموصول.

و في قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ من الدقّة في تصوير المعنى ما لا يخفى، و تعتبر من الوجهة البلاغيّة في أعلى درجات الفصاحة، فإنّ في هذه الصياغة تستفاد الصورة الكاملة من اللفظ و المعنى لعملية الإبطاء المتتابعة، كما عرفت في التفسير.

و أمّا قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ ، فإنّه اعتراض بين القول و المقول، جيء به لزيادة قبح فعلهم و التشنيع عليهم، و فيه وجوه بلاغيّة، مثل الالتفات، و تنكير المودّة، و التشبيه الفصيح، و نفي الكون، و غير ذلك من الوجوه الّتي جعلت الجملة في أعلى درجات البلاغة، فإنّ فيها من التقريع و التوبيخ بألطف القول و أحسن عبارة و أرقّها، ممّا تؤثّر في النفس ما لا يؤثّر النبز بالألقاب و الطعن بالقول السيء.

و كَأَنْ حرف تشبيه تأتي ثقيلة و مخففة، فإن وليها ما كان يليها و هي ثقيلة، فإنّها ترفع الجملة على الابتداء و الخبر، و يكون اسم كأن ضمير الشأن

ص: 32

محذوفا، و تكون الجملة في موضع خبر كأن، و إذا لم ينو ضمير الشأن جاز لها أن تنصب الاسم إذا كان مظهرا و ترفع الخبر، فنقول: كأن زيدا قائم، و التفصيل مذكور في كتب النحو.

و (يشرون) في قوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ مضارع شري، و هو من الأضداد يأتي بمعنى باع - كما في قوله تعالى: وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ [سورة يوسف، الآية: 20]، و بمعنى اشترى، و المراد من الموصول المنافقون حيث أمروا بترك النفاق و المجاهدة في سبيل اللّه تعالى.

و أمّا قوله تعالى: وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ ، فهو إمّا عطف على اسم الجلالة، أي في سبيل اللّه، و في سبيل المستضعفين و هو تخليصهم من الظلم و الأسر، أو عطف على (سبيل) بحذف مضاف، أي في خلاص المستضعفين، و يجوز نصبه بتقدير فعل - كأعني و أخصّ و نحوهما - و قوله تعالى:

مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ بيان للمستضعفين.

و الوصف في قوله تعالى: مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها صفة قرية، و تذكيره لتذكير ما أسند إليه، فإنّ اسم الفاعل و المفعول إذا أجري على غير من هو له، فتذكيره و تأنيثه على حسب الاسم الظاهر الّذي عمل فيه، و لم ينسب إليها الظلم تشريفا و تكريما، فإنّ مكّة مكرّمة.

بحث دلالي
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً على القاعدة الّتي يعتمد عليها الجهاد في الإسلام، و هي الدفاع عن كيد الأعداء و ظلم الظالمين، و ربط هذه القاعدة بالإيمان بحيث لا تخرج عن

ص: 33

التوجيهات الإيمانيّة، فإنّ الإيمان يرتبط بتوجيهات أخلاقيّة و أحكام تشريعيّة لا يلتزم بها إلاّ المؤمنون.

و في الآية المباركة التذكير الدائم للمؤمنين و تحديد مهمّتهم. و لم يذكر سبحانه و تعالى كيفيّة الحذر و لا خصوصياته؛ إيكالا لما تتطلبه الظروف الحربيّة في كلّ مكان و زمان. فالآية الشريفة على إيجازها البليغ تحدّد المسؤوليّة في الجهاد بأن لا يخرج عن الحدود الإيمانيّة، و الغرض من الجهاد و هو الدفاع و الحيطة من الأعداء.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ - بضميمة صدر الآية الشريفة - على وجوب الاستعداد للجهاد و بذل كلّ جهد في سبيله، لئلاّ تموت العزائم في إقامة الحقّ و تخور القوى في تطهير الأرض من الظلم.

الثالث:

تدلّ الآية الكريمة: وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ على أنّ في صفوف المؤمنين من لا يفكّر إلاّ في نفسه؛ لأنّ الإيمان لم يتعمّق في قلبه، متذبذب في تفكيره و متردّد في أفعاله، يتبع المصلحة الوقتيّة المادّية، فتارة يتمنّى الدخول في سلك المؤمنين إن اصابوا المغانم مع كمال البعد بينه و بين المؤمنين، و اخرى يفتخر و يتشدّق بعدم الانخراط فيهم، فلم يصبه من القتل و الجراح في سبيل اللّه تعالى، فالآية المباركة تصوّر واقع هؤلاء بأحسن تصوير و تبيّن حالتهم النفسيّة بأوجز عبارة و أبلغ أسلوب، و لا تختصّ بعصر النزول، فإنّ مضمون الآية المباركة عامّ يشمل جميع الأعصار، كما لا تختصّ بالمنافقين و إن كانوا أجلى الأفراد؛ لأنّ الآية الشريفة تخبر عن تلك الجماعة الّتي لم يتعمّق الإيمان في قلوبهم، و هو أعمّ من النفاق؛ لأنّ في كلّ قوم صالحا و طالحا.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً على كمال البعد بينهم و بين المؤمنين، و أنّ تفكيرهم المادّي هو الّذي أوجب هذا البعد، فإنّ اللّه تعالى جعل رابطة الإيمان من أقوى الوشائج الّتي تجمع بين أفراد المؤمنين؛ لأنّها تنبع من القلب و تكون خالصة من كلّ الظواهر

ص: 34

المادّية الّتي تؤول إلى التفكّك و البعد بينهم و بين المؤمنين، فلا يتمنّون ما لا ينبغي لهم أن يتمنّوه، فإنّ قصدهم كان لأجل حطام الدنيا الّتي تؤول إلى الزوال.

الخامس:

يدلّ قوله: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ اَلَّذِينَ يَشْرُونَ اَلْحَياةَ اَلدُّنْيا بِالْآخِرَةِ على أنّ القتال في الإسلام إنّما يكون في سبيل اللّه، و لا يقوم بهذه المهمّة إلاّ من باع الحياة الدنيا الفانية الزائلة بالآخرة الباقية الدائمة، فالآية الكريمة على إيجازها البليغ تتضمّن جميع جوانب الجهاد و القتال في الإسلام من العلّة الفاعليّة، و هي المؤمنون الّذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة، و العلّة الغائيّة و هي طلب رضاء اللّه تعالى و السعي في سبيله، و قد عدّ عزّ و جلّ في المقام من وجوه سبيل اللّه تعالى القتل و الغلبة، و إنقاذ المستضعفين من المؤمنين. و العلّة الصوريّة و هي النفر ثباتا أو النفر جميعا وفق الظروف الحربيّة، و العلّة المادّية و هي الحذر و الاستنهاض في الاستعداد بجميع صوره، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في الجهاد في الإسلام إن شاء اللّه تعالى.

و الآيات الشريفة تتضمّن الأسس التربويّة في هذا المضمار، و كلّ ما يتطلبه الوضع الحربي من إعداد النفوس و تقويتها و استنهاضها للقتال، و طلب العون و النصرة من اللّه العلي القدير، و أدب الدعاء من الخضوع و الخشوع لدى جنابه، فهي من الآيات المعدودة الّتي تشتمل على جميع ما يتطلبه الحرب و الجهاد، كما هو المعروف.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً على وجود الضعف في كيده دائما بل هو لازم ذاته، و تتضمّن الآية الكريمة نكتة لطيفة قرآنيّة، و هي أنّه سبحانه و تعالى وصف كيد النساء بالعظمة، قال تعالى محكيّا عن عزيز مصر: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ [سورة يوسف، الآية: 28]. و وصف كيد الشيطان في هذه الآية المباركة بالضعف.

و لكن الضعف إنّما يكون في جنب نصرة اللّه تعالى لأوليائه و حفظه لهم، كما

ص: 35

قال تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ * [سورة الحجر، الآية: 42]، و عظمة كيد النساء بالنسبة إلى الأمور المادّية و الشهوانيّة، فيكون كيدهن عظيم بالإضافة.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ اَلشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أنّ كلّ قتال مع المؤمنين إنّما يكون من كيد الشيطان، الّذي يوحي إلى أوليائه سبل المكر و الخداع و يزيّن لهم الباطل و يبثّ بينهم طرق البغي و الطغيان، فيوهمهم بوسوسته في الحرب مع المؤمنين و يخدعهم بأنّ فيه الصلاح لهم، كما يوهن قوى المؤمنين بإلغاء الشبه عليهم.

و الآية المباركة في مقام إبطال جميع وساوس الشيطان و مكره و خداعه، و تثبيت للمؤمنين و تقوية لهم بأنّ كيد الشيطان مهما بلغ من القوّة و العظمة، فإنّه ضعيف في مقابل نصرة اللّه؛ لأنّ كيده من الباطل الّذي لا قوّة فيه و لا بقاء له، فالمؤمنون يطلبون شيئا ثابتا فيه القوّة و البقاء؛ لأنّهم على حقّ . و قد جرت سنّة اللّه تعالى في مصارعة الحقّ و الباطل أن يغلب الحقّ على الباطل لا محالة، كما أنّ سنن الوجود تؤيّد ذلك.

و هذه الآية الشريفة لها من التأثير النفسي في ميدان القتل و الجهاد و الحرب ما لا يكون في غيرها، و قد أتعب علماء التربية أنفسهم و غيرهم ممّن لهم الصلة في هذا الميدان على صياغة عبارات تؤدّي مثل هذا الأثر، و لم يكن بوسعهم ذلك، فسبحان اللّه الّذي أحكمت آياته و جلّت عظمته.

الثامن:

تدلّ الآيات المباركة المتقدّمة على الأسس الّتي يقوم عليها القتال في الإسلام و القاعدة العريقة الّتي لا يتخطّاها، و هي كونه في سبيل اللّه تعالى، و لإشاعة العدل، و تثبيت الحقّ ، و أنّ القتال في الإسلام لا يقوم إلاّ عند فشل جميع السبل في تثبيت كلمة اللّه تعالى و نشر العدل، و هذا المقصد أمر ثابت لا يتغيّر، و القتال الخارج عن هذه الطريقة لا يكون إلاّ قتالا باطلا ليس فيه قصد إلا طلب

ص: 36

الدنيا، و لأجل الاستعلاء و الغلبة بغير حقّ ، و إهلاك الحرث و النسل. و هذا ليس له أساس ثابت يقتضيه التكوين و الطبيعة و سنن الوجود، و بالآخرة يحكم عليه بالفشل و الزوال.

التاسع:

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أنّ المراد من اتّخاذ الحذر و الاستعداد أعمّ من المادّي، كتهيئة الجيوش و إعداد السلاح و نحو ذلك. و المعنوي و هو ترويض النفس على الأخلاق الفاضلة، و إعدادها لقبول الكمالات، فإنّ لهذا القسم أثرا كبيرا على الأعداء و ارغامهم على قبول الإيمان و الحقّ .

بحث روائي:

في مجمع البيان قال: «سمّى الأسلحة حذرا؛ لأنّها الآلة الّتي بها يتقي الحذر، و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام.

أقول: هذا من باب التفسير بالمصداق، و إلاّ فإنّ الحذر أعمّ من الأسلحة و ما يحصل في النفس من الخوف، أي أنّه أعمّ من النفسيّ - و المعنويّ - و المادّي، و تقدّم في التفسير ما يتعلّق به.

و فيه عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ المراد بالثبات السرايا، و بالجميع العسكر.

أقول: هذا من باب ذكر أحد المصاديق كما تقدّم. و مثله ما في الدّر المنثور من أنّ المراد من الجميع «إذا نفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله معهم».

و في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد عن الصادق عليه السّلام: «في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ ، فسمّاهم بمؤمنين و ليس هم بمؤمنين، و لا كرامة، و قال تعالى: فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً - إلى قوله تعالى - يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً ، و لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم

ص: 37

أكن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لكانوا بذلك مشركين، و إذا أصابهم فضل من اللّه قال:

يا ليتني كنت معهم فأقاتل في سبيل اللّه».

أقول: المراد بتسميتهم بالمؤمن لأنّهم تلبّسوا بأدنى مرتبة الإيمان في الظاهر، و ليسوا هم بمؤمنين، أي واقعا و حقيقة، و تقدّم في التفسير أيضا، و المراد من الشرك المرتبة الأولى منه، الّتي لا تنافي إجراء أحكام الإسلام عليه؛ لأنّ للشرك مراتب متفاوتة، و في كلّ مرتبة درجات، و في كلّ درجة فيها شدّة و ضعفا.

و عن أبي علي الطبرسي قال: «قال الصادق عليه السّلام: و لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، لكانوا بذلك مشركين».

أقول: لأنّ ذلك خلاف التوحيد الكامل و العبوديّة المحضة، فإنّهم أظهروا الفرح على عدم إصابتهم المصيبة معه صلّى اللّه عليه و آله، و شأن المؤمن أن يشارك معه، و تقدّم أنّ للشرك مراتب تختلف حسب من يتلبّس به، و حسب العقيدة و غيرهما.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال الصادق عليه السّلام: «و اللّه، لو قال هذه الكلمة أهل المشرق و المغرب لكانوا بها خارجين عن الإيمان، و لكن قد سماّهم مؤمنين بإقرارهم».

أقول: المراد من الخروج عن الإيمان الخروج عن طاعة اللّه و رسوله، أو الخروج عن حدّ الكمال و المرتبة الأعلى منه - كما مرّ - فإنّ للإيمان مراتب متفاوتة جدّا.

البيهقي في سننه بطريقه عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً عصبا و فرقا. قال: نسخها وَ ما كانَ اَلْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً [سورة التوبة، الآية: 122].

أقول: ليس بينهما شرائط النسخ، إذ آية الحذر في الحرب و القتال، و آية النفر

ص: 38

في التفقّه في الدين و تعلّم الأحكام، و على فرض وحدة الموضوع بينهما، فهما من باب التقييد و التخصيص، لا النسخ، إلاّ أن يراد به هما.

العياشي بسنده عن علي بن الحسين عليهما السّلام قال: «كانت خديجة ماتت قبل الهجرة بسنة و مات أبو طالب بعد موت خديجة بسنة، فلما فقدهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئم المقام بمكّة و دخل في حزن شديد و أشفق على نفسه من كفّار قريش، فشكى إلى جبرئيل عليه السّلام ذلك، فأوحى اللّه تعالى إليه: يا محمد، أخرج من القرية الظالم أهلها و هاجر إلى المدينة، فليس لك اليوم بمكّة ناصر، و انصب للمشركين حربا، فعند ذلك توجّه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و إلاّ فالآية الكريمة عامّة، و توصيف أهل مكّة بالظلم تشريفا للبلد الأمين الّذي هو مكّة المكرّمة، كما مرّ.

و عن أبي جعفر عليه السّلام في رواية حمران قال: «وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها فأولئك نحن».

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق، أي المستضعفين ظاهرا في هذه الدينا، و قد ورد عن ابن عباس في الدرّ المنثور أنّه قال: «أنا و أمي من المستضعفين»، و كانا كذلك أيضا؛ لأنّهما كانا من المسلمين الّذين كانوا بمكّة لا يستطيعون الخروج منها، و كانوا في ضيق من العيش».

و عن سماعة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن المستضعفين، قال: هم الولاية، قلت: أي ولاية تعني ؟ قال: ليست ولاية و لكنها في المناكحة و المواريث و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا الكفّار، و منهم المرجون لأمر اللّه. فأمّا قوله تعالى: وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ اَلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ اَلْقَرْيَةِ اَلظّالِمِ أَهْلُها فأولئك نحن».

ص: 39

أقول: صدر الرواية يبيّن المستضعفين في الإيمان، أي من له أدنى مرتبة الإيمان، فإنّ له مراتب كثيرة كما تقدّم، و أمّا ذيلها فإنّه من باب التطبيق و ذكر أجلى المصاديق و بيان ما طرأ عليهم من غصب حقوقهم عليهم السّلام.

و في الدرّ المنثور عن سعيد بن جبير: «في قوله تعالى: فَلْيُقاتِلْ ، يعني يقاتل المشركين فِي سَبِيلِ اَللّهِ ، قال: في طاعة اللّه، وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ ، يعني يقتله العدو، أَوْ يَغْلِبْ يعني يغلب العدو من المشركين، فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً يعني جزاء وافرا في الجنّة، فجعل القاتل و المقتول من المسلمين في جهاد المشركين شريكين في الأجر».

أقول: الرواية من باب التفسير للآية المباركة، و تقدّم أنّ القتل في سبيله تعالى يكون من إحدى الحسنيين، و كذا من يقتل من العدو أو من وقع في الأسر في يد العدو، فكلّ مشقّة يتحمّلها المجاهد في سبيل اللّه تعالى فله أجره عند ربّه، كما تقدّم في الآيات السابقة.

و عن ابن عباس قال: «إذا رأيتم الشيطان فلا تخافوه و احملوا عليه إِنَّ كَيْدَ اَلشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً .

أقول: كيد الشيطان بالنسبة إلى نصرة الرحمن و هدايته كان ضعيفا، و أمّا بالنسبة إلى المؤمن فهو تابع لإيمانه، فكلّما اشتدّ إيمان المؤمن باللّه تعالى و كثر إخلاصه له سبحانه و وفى بعهد الربوبيّة و زاد في توكّله عليه، علا شأنه و ضعف كيد الشيطان و أمن من مكره، و إذا قلّ إيمانه باللّه تعالى و لم يف بعهد الربوبيّة، قوي كيد الشيطان بالنسبة له، و هذا ما يستفاد من الآيات الكثيرة و الروايات المتواترة عن المعصومين عليه السّلام، و لدفع الشيطان و بعده عن الإنسان طرق كثيرة معروفة عند أهل العرفان.

ص: 40

بحث كلامي:

الآية المباركة تدلّ على وجوب اتخاذ الحذر، و هو حكم عقلي - بل أمر فطري - كشف عنه الشرع، و الحذر: هو طريق الاحتياط يعمّ في جميع الأشياء و يختلف حسب متعلّقه، أي المخوف.

و الفرق بينه و بين الكيد، هو أنّ الكيد يحتال الإنسان ليوقع غيره في مكروه، و الحذر هو احتيال الشخص لخروج نفسه عن مكروه، فالتنافي بينهما واضح. فما قيل من أنّه نوع من الكيد، غير صحيح.

و التقديرات من اللّه سبحانه و تعالى لا يرفعها الحذر أصلا؛ لأنّها كائنة حتّى في ظرف الحذر، بل المقدّرات الإلهيّة غير مربوطة بالظروف الّتي حصلت باختيار الإنسان بنفسه، كما عن نبيّنا الأعظم: «المقدور كائن و الهم فضل» - و ما قيل:

«الحذر لا يغني القدر»، فالتقديرات الإلهيّة كائنة مهما كانت الظروف و الحالات.

إن قلت: لو كان التقدير في الحرب مثلا الغلبة، فلا فائدة في الحذر، و إن كان مقتضاه المغلوبيّة فلا نفع فيه، فلا فائدة في الحذر على التقديرين.

قلت: الأمر بالحذر لا ينافي التقدير كما مرّ. و إنّ الأوامر التشريعيّة الّتي هي في مقام تكميل العبد، غير مرتبطة بالأمور التكوينيّة الّتي منها التقديرات، و قد يكون الحذر من مقدّمات الفعل الّذي تعلّق القدر به، و قد يكون نفس الحذر أيضا مقدّرا.

و بالجملة: أنّ القدر هو جريان الأمور وفق نظام معين متين فيه الأسباب و المسبّبات، و اللّه تعالى قدّر أن يكون الفعل واقعا إذا لم يتّخذ الإنسان الحذر و لم يتهيّأ في دفع الضرر عن نفسه، فيكون الحذر من جملة الأسباب و يكون العمل بالحذر عملا بنفس القدر، لا أن يكون منافيا له أو لا نفع فيه، هذا موجز الكلام في المقام، و يأتي التفصيل في مسألة القضاء و القدر الّتي تأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 41

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَ.......

اشارة

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ كَخَشْيَةِ اَللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (79) مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) بعد ما حثّ المؤمنين على الجهاد و أمرهم باتّخاذ الحذر من الأعداء، و ذكر حال المبطئين لضعف إيمانهم، و بيّن عزّ و جلّ نواياهم و فساد عقيدتهم، ثمّ أمر المؤمنين بالقتال في سبيله و إنقاذ المستضعفين.

تعقيبا لتلك الأوامر و التوجيهات الربوبيّة ذكر جلّ شأنه في هذه الآيات حال طائفة اخرى من ضعاف الإيمان الّتي بقيت من رواسب الجاهليّة في نفوسهم، فكانت تطفو و تظهر في بعض الأحيان، فلما دخلوا في الإيمان خمدت نفوسهم و استثقلوا القتال، و لم يكن عندهم حماسة له لخوفهم على ما كان عندهم من متاع الحياة الدنيا. و هذه الآيات المباركة تبيّن سبب ذلك، و هو حبّهم للدنيا و المتاع القليل المستحوذ على جميع مشاعرهم.

ص: 42

و في هذه الآيات توجيهات قيّمة لهؤلاء، و قد أمرهم عزّ و جلّ بجملة من الأمور الّتي تهذّب نفوسهم، و بيّن لهم بعض الحقائق الواقعيّة الّتي تصلح نفوسهم.

و لا يخفى ارتباط هذه الآيات بسابقتها.

التفسير
قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ .

الخطاب يقصد به الّذين لم يستقر الإيمان في قلوبهم، و هم فئة ضعيفة الإيمان، قد كانت تدفعها إلى القتال دوافع كانت معروفة في الجاهلية، من نزعة العصبيّة، و الحميّة، و الكبرياء و نحو ذلك، و هي نزعات سيئة جاهليّة بقيت عالقة في نفوسهم، لم يمحها الإيمان لعدم رسوخه في قلوبهم، فكانوا يطلبون القتال جريا على ما تعوّدوا عليه، فعند ما استقرّ بهم المقام في مدينة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و طاب لهم العيش و ركنوا إلى الحياة الدنيا، فلم يعد لهم ذلك الحماس و كرهوا الجهاد، خوفا على ما حصلوه من المتاع، لئلاّ يضيّعه القتال، فرضوا ما كتب عليهم من الجهاد.

و المراد بكفّ الأيدي الإمساك عن القتال و الاعتداء، و ربما يكون ذلك كناية عن ترك مطلق ما لا يكون مرضيّا للّه تعالى، و لعلّه لأجل ذلك ورد في تفسيره عن الصادق عليه السّلام: «كفّوا السنتكم»؛ لأنّ كفّ اللسان موجب لكفّ الأيدي، بل هو السبب التامّ في كفّ الأيدي.

و كيف كان، فالآية المباركة في مقام التعجيب من حالهم ابتداء؛ لأنّهم كانوا يستعجلون قتال الكفّار و يرفضون الإمساك. و ترشدهم الى ما هو الأصلح لهم و ما يوجب تمكين الإيمان في قلوبهم.

قوله تعالى: وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ .

إرشاد لهم بالاشتغال بما يوجب زيادة الإيمان و استقراره في قلوبهم، و قد

ص: 43

ذكر عزّ و جلّ أمرين هما من أهمّ الأمور في هذا الدين، أحدهما يهتمّ بما يرتبط بين العبد و خالقه - و هي الصلاة الّتي فيها الخشوع، و الخضوع، و العبادة للّه الواحد الأحد.

و الثاني يعتني بما بين أفراد المؤمنين، و هي الزكاة الّتي تزيد في تماسكهم، و تحتوي روح التعاون و التراحم بينهم. و هما من شعائر هذا الدين القويم تزيدان في إيمان المؤمنين و تمكّنه في قلوبهم، و بهما يشتدّ أمر الدين و يقوم صلبه، و تتهيّأ نفوسهم للقتال و مصارعة الباطل في ميدان الجهاد، و بدون ذلك ليس لهم أي استعداد للقتال، كما أنّه لولا ذلك لآل أمر الدين إلى الزوال و انفصمت عراه و انهدمت أركانه.

قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ اَلنّاسَ .

تصوير لحالهم من داخل نفوسهم و إظهارها بأنّها لم تكن على استعداد للقتال.

و المراد من الناس هم الكفّار، أي أنّهم يخافون الكفّار لئلاّ يقتلوهم، و هذا يكشف عن اشتغال نفوسهم و تعلّق قلوبهم بما أوجب تكاسلهم و تقاعسهم عن القتال، و هذا ما يبيّنه عزّ و جلّ في الآية التالية، و هو متاع الدنيا الفانية الزائلة.

قوله تعالى: كَخَشْيَةِ اَللّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً .

أي يخشون الكفّار كما يخشون اللّه تعالى بأن ينزل عليهم عذابه بتركهم أوامره و إعراضهم عن طاعته، و لما كان التساوي بين أمرين يقتضي الميل إلى أحدهما تارة والى الآخر اخرى، إلاّ أنّهم رجّحوا خشية الناس، فكانت خشيتهم أشدّ من خشية اللّه تعالى؛ لأنّ الجبن قد تمكن في قلوبهم.

و (خشية) منصوب على الحاليّة أو على التمييز، كما سيأتي.

ص: 44

قوله تعالى: وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتالَ .

عطف على جواب (لمّا)، أي: فلما كتب عليهم القتال قالوا: ربنا لم كتبت علينا القتال، و يحتمل أن يكون عطفا على قوله: إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ .

و كيف كان، فالآية الشريفة تحكي مقالتهم في تعبير دقيق ينبئ عن تقاعسهم و تكاسلهم الشديدين، حيث صدر عنهم هذا الاعتراض على حكمه تعالى، و الإنكار على إيجابه القتال، و هو دليل على ضعف إيمانهم، فإن من خلص إيمانه لا يعترض على حكمه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ .

بيان لموقفهم المتثاقل المتلهّف على تأجيل القتال و لو كان الأجل قريبا، فهم إنّما يتمنّون التخفيف برفع القتال عنهم لمحض الهرب، حبّا منهم في البقاء.

فالآية الكريمة ببلاغتها و أسلوبها البديع فيها تصوير عجيب لنفسياتهم الضعيفة، و شدّة تكاسلهم. و ظاهرها أنّهم يطلبون الهرب و الاستزادة في كفّهم عن القتال و التخلّص عنه، و ليس المراد منها تأخيرهم إلى بلوغ أجلهم و موتهم حتف أنفهم، و لو كان أجلا قريبا - كما ذكره جمع من المفسّرين - لأنّهم إنّما يتمنّون رفع القتال لأجل البقاء و التمتع بالحياة الدنيا، فكيف يطلبون الموت العاجل.

قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ .

بيان للعلّة الحقيقيّة لهذا الموقف المتقاعس المتثاقل فيه إلى تأجيل القتال، لأنّ نفوسهم تعلّقت بالحياة الدنيا و أحبّوها حبّا استحوذ على أحاسيسهم، فتمنّوا الاستزادة في حياتهم إلى أقصى ما يمكن، فطلبوا منه عزّ و جلّ إمهالهم إلى وقت آخر.

و إنّما وصف عزّ و جلّ الحياة الدنيا بالمتاع القليل - و هو تعبير قرآني دقيق - لأنّه مهما طال بهم العمر و تمتّعوا بها فإنّها زائلة سريعة الانقضاء بالنسبة إلى الحياة الآخرة الّتي هي الباقية.

ص: 45

و إنّما أمر عزّ و جلّ نبيّه الكريم بالردّ عليهم؛ تزهيدا لهم عمّا يؤملونه؛ و تبيينا لهم خطأ رأيهم فيه، فإنّ المتاع الّذي يتمنّونه و يتطلعوا إليه إنّما هو قليل و متاع مشوب بالضياع، و هو في القلق الدائم من الحرمان منه، فلا يكون في هذه الحياة متاع خالص من المنغّصات و المكدّرات، ففي هذا التعبير أثر نفسي كبير لمن تعلّق حسّه بهذا العيش الدنيوي، فإنّه مهما طلب المزيد فإنّ هناك عيشا آخر أكبر ممّا بين يديه و أوسع و أشهى و أبعد من المنغّصات، و لا يكون مشوبا بالحرمان، و لمثل ذلك يزهد الإنسان عن هذه الحياة، و يرغب الأجر الدائم في الآخرة.

قوله تعالى: وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى .

بيان للعلّة في نيل تلك الحياة الحقيقيّة و العيش الهنيء، و هي التقوى بالعمل بالتكاليف الإلهيّة، و ترك ما يوجب سخطه، و الابتعاد عن ما لا يرضاه.

و إنّما أطلق سبحانه و تعالى (خير) و لم يقيّده بشيء؛ للبيان بأنّ التقوى خير من جميع الجهات و كلّ ما يخطر على البال، فهي خير في النوع، و خير في بعده عن المنغّصات و الكدورات، و خير في دوامه و بقائه، و خير بأنّه المستقرّ بعد التعب الشديد، و خير بأنّ فيه القرب إلى اللّه تعالى و التمتع برضوانه عزّ و جلّ ، فلا ينبغي لهم ترك القتال و القعود عن الجهاد و التأخير إلى الأجل القريب لأجل التمتّع بالحياة الدنيا؛ إعراضا عن ذلك النعيم الأبدي الّذي هو خير من جميع الجهات.

و في الآية الشريفة كمال الترغيب إلى التقوى، فإنّها الوسيلة الوحيدة للوصول إلى رضوان اللّه تعالى و التمتّع بالحياة الحقيقيّة. و فيها التعريض بأنّهم ركنوا الى الداني و أعرضوا عن الخير الحقيقيّ .

قوله تعالى: وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً .

حقيقة من الحقائق الواقعيّة، فإنّ الّذي يحرم عن متاع من أمتعة الدنيا لأجل سبيل اللّه تعالى، لا يضيع جزاءه عند اللّه عزّ و جلّ ، و أنّ الأجر محفوظ عنده بأضعاف مضاعفة، فلما ذا التحسّر؟! إذ لا خسران و لا ظلم هناك.

ص: 46

و الآية المباركة ترغيب إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و ردّ على من يحجم عنه خوفا على ما حصل من متاع الدنيا.

و الفتيل ما يكون في شقّ نواة التمر، أو ما يفتل بالأصابع من الوسخ على ما عرفت سابقا، و يكنّى به عن القلّة و الحقارة، يقال: «ما أغني عنك فتيلا»، أي شيئا بقدر الفتيل.

قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ .

بيان لحقيقة اخرى من الحقائق الّتي يدركها جميع أفراد الإنسان، و هي أنّ الموت حتم لا مفرّ منه و لا مهرب عنه، و لو اتّخذ لنفسه ما يتّقي به كلّ مكروه فإنه واقع حسب سير التكوين، و أنّه مهما غفل عنه الإنسان أو تغافل عنه حسبانا منه أنّه بعيد، فإنّه ستجيء اللحظة الّتي يتنبه فيها و يدرك تلك الحقيقة، و تكون فيها نهايته.

و الآية الشريفة بأسلوبها البديع توقظ الناس و ترشدهم إلى تلك الحقيقة و تجسّمها لهم، بحيث لا تدع أيّ مجال للشكّ و الارتياب، فتستقرّ في أنفسهم أنّ متاع الدنيا قليل.

و البروج: جمع البرج، و أصله التبرّج بمعنى الظهور، و منه تبرّجت المرأة إذا أظهرت محاسنها. و منه بروج النجوم لمنازلها المختصّة بها، قال تعالى: وَ اَلسَّماءِ ذاتِ اَلْبُرُوجِ [سورة البروج، الآية: 1]، أي: الكواكب العظام سمّيت بها لظهورها، و قال تعالى: وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي اَلسَّماءِ بُرُوجاً [سورة الحجر، الآية: 16]، أي منازل للشمس و القمر.

و المراد منه هنا البناء المعمول، و هو الحصن، و البروج المشيّدة هي القصور المرتفعة الحصينة الّتي أحكمت و رفع بناؤها؛ ليأوي إليها الإنسان لدفع المكروه عنه من عدو و نحوه.

ص: 47

و يمكن أن يراد منها بروج النجوم، فيكون استعمال لفظ (المشيّدة) فيها على سبيل الاستعارة، فتكون الآية للمبالغة، و قد أشار إلى ذلك الشاعر:

و من هاب أسباب المنايا ينلنه *** و لو نال أسباب السماء بسلّم

و لكن سياق الآية المباركة يأبى ذلك.

و معنى الآية الكريمة: أنّ الموت أمر لا مفرّ منه، يأتيكم و لو كنتم متحصّنين في القصور المشيّدة و الملاجي المحكمة المتينة، فلا تعرضوا عن القتال في سبيل اللّه تعالى، و لا تتوهّموا أنّكم إن لم تشتركوا فيه و لم تشهدوه تكونوا في مأمن من الموت، فإنّ أجل اللّه آت و لا سبيل للهرب منه، فيلحقكم الموت و يحلّ بكم.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

بيان لحال طائفة أخرى أهمّتهم أنفسهم، لا يرضون بحكم اللّه فيهم، و الّتي حكي عنها عزّ و جلّ في آية أخرى، فقال تعالى: وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ اَلْحَقِّ ظَنَّ اَلْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ اَلْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ اَلْأَمْرَ كُلَّهُ لِلّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ [سورة آل عمران، الآية: 154].

و في المقام يحكي عزّ و جلّ عنهم بعض نواياهم الفاسدة، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله أن يجيبهم و يرشدهم إلى الحقيقة و الواقع. و إنّما أمر رسوله الكريم بالجواب؛ لأنّه واسطة الفيض، و لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ السيئة الّتي تصيبهم إنّما هي من ناحية وجود الرسول صلّى اللّه عليه و آله فيهم.

و هذه الآية المباركة و إن كانت مع الآية الشريفة السابقة في سياق واحد تدلان على كراهيّة الطائفتين للقتال، إلاّ أنّ الطائفة الأولى كرهت القتال و طلبت التأجيل، و هذه الطائفة تزعم أنّ السيئة الّتي تصيبهم إنّما لأجل وجود الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو من ناحية أوامره و أحكامه. و ذكر جمع من المفسّرين أنّ الآية الكريمة تدلّ على أنّ هذه الطائفة هي الأولى، و لكن يمكن أن يستفاد من القرائن التعدّد كما عرفت.

ص: 48

و كيف كان، فإنّ مثل هذا الوهم قد تخيّله جمع من أقوام الأنبياء السابقين، قال تعالى حكاية عن قوم موسى: فَإِذا جاءَتْهُمُ اَلْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اَللّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف، الآية: 131].

و الحسنة ما يحسن عند صاحبه من الصحّة و الغنى و الرخاء و الخصب و نحوها، سواء كانت مادّية ظاهريّة أو باطنيّة، و السيئة ما يصيب الإنسان من مكروه و سوء، كالمرض و الفقر و الجدب و نحوها.

و هذا الكلام إنّما يصدر عمّن لم يستقرّ الإيمان في قلبه، قد أهمّته نفسه يدفع عنها كلّ مكروه و يجلب لها كلّ حسنة و رخاء، و يهتمّ لذلك كلّ اهتمام، فإذا أصابه المكروه و لم يجد لذلك حلاّ لدفعه و استنفذ قواه، التمس لذلك سببا و لم يجد، و لضعف إيمانه يجعله على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، أو المؤمن الّذي يريد له الصلاح و الكمال، و هو يغفل أو يتغافل أنّ السبب من عنده الّذي لم يؤمن باللّه القادر على كلّ شيء.

و إنّما نسبوا الحسنة الّتي أصابتهم إلى اللّه تعالى غرورا و زعما منهم بأنّ اللّه أكرمهم بها عناية بهم، فلم ينسبوها إليه تعالى بشعور التوحيد و الإيمان الخالص.

أو لئلاّ تنسب إلى الرسول الّذي هو واسطة الفيض، و قد أحاطهم برعايته فحباهم اللّه تعالى ببعض الحسنات، كما يراه المؤمنون.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ .

السيئة ما يسوء الإنسان من شدّة أو بلاء أو فقر أو مرض أو قتل أو جدب و نحو ذلك من الضرر الدنيوي، الّذي كان يستقبلهم بعد ما أتاهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و شيد أركان هذا الدين و أمرهم بالأوامر الّتي ترشدهم إلى ما هو الأصلح لهم، فكانوا ينسبونها إلى وجود الرسول فيهم أو بسبب تعليماته و أوامره، و كانوا يعتقدون أنّه لو لا ذلك لما أصابتهم السيئات و أراحهم اللّه تعالى منها.

و هذه المقالة تصدر عن كلّ من ضعف الإيمان في قلبه، و لا تختصّ بهذه

ص: 49

الأمّة، فقد صدرت من اليهود و غيرهم، قال تعالى: كَذلِكَ قالَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [سورة البقرة، الآية: 118].

و المعنى: و إن تصبهم بلية كالمرض و القحط و غيرهما يتشاءمون بك يا رسول اللّه؛ لجهلهم و ضعف عقيدتهم بك.

قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي أمر عزّ و جلّ رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله بتبليغها إلى أولئك، و هي أنّ كلّ ما يحدث في هذا العالم لا يحدث إلاّ بقدر اللّه تعالى و قضائه، و يدخل في نظام كوني دقيق متقن، و كلّ ما يصيب الإنسان من حسنة أو سيئة هو من عنده جلّت عظمته، لا من غيره، فهو عزّ و جلّ يقبض و يبسط ما يشاء.

و هذه الحقيقة تملأ مشاعر المخلصين المؤمنين، و لا بدّ أن تستقرّ في أفكار غيرهم حتّى يكمل إيمانهم و يستقرّ في قلوبهم و ترتاح خواطرهم و تطمئن نفوسهم، و لكن ليعلم أنّ هذه الحقيقة لا تنافي قانون الأسباب و المسبّبات، و لا تمنع الإنسان من اتخاذ الأسباب، كما ذكرنا ذلك في أحد مباحثنا السابقة.

قوله تعالى: فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً .

تنديد لهؤلاء الّذين يظنّون ظنّ الجاهلية بأسلوب يقرع سمعهم و يوبخهم باستفهام ينكر عليهم مقالتهم، و يصفهم بأنّهم لا يفقهون حديثا على الإطلاق؛ لأنّه غابت عنهم تلك الحقيقة الكبرى الّتي يدركها كلّ من رجع إلى نفسه و الى ما يحيط به من الحوادث، فماذا أصاب عقولهم من فهمها، و لما ذا خمدت فطنتهم و تاهت فطرتهم ؟! و قد نبّههم الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بتلك الحقيقة، و الّتي بها يزيل عنهم كلّ شكّ و ريب، و لكنّهم أعرضوا عن ذلك و شغلوا فكرهم بمتاع الحياة الدنيا، حتّى عدّوا كالبهائم الّتي لا فهم لها بما يحيط بها من صروف الدهر.

ص: 50

قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ .

شرح لتلك الحقيقة و بيان لها ببيان واضح جلي. و ردّ على مقالة تلك الطائفة الّتي ينسب الشرّ إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله تطيّرا منهم به، أو لأغراض اخرى خبيثة مثل تنفير الناس عنه، أو التجريح في قيادته و نحو ذلك.

و قد أعرض عزّ و جلّ في هذه الآية الكريمة عن خطابهم لسقوط فهمهم، كما أنّها تصحّح و توضّح لهم معالم تفكيرهم، فإذا ضممنا هذه الآية الشريفة إلى سابقتها، تبيّن القاعدة العريضة في الإسلام في نسبة الحوادث الكونيّة مطلقا إلى اللّه تعالى والى الإنسان، فإنّ الآية الأولى تبيّن أنّ كلّ ما يقع من الحوادث الحسنة و السيئة إنّما هي بتقدير اللّه تعالى و قضائه، و هذه الآية الكريمة تبيّن أنّ كلّ حسنة و خير يصيب الإنسان من عافية أو نعمة أو أمن أو رفاهية و غيرها، فإنّما هي من اللّه تعالى و بفضل منه جلّ شأنه، الّذي سخّر لنا الأرض و ما عليها، و هيّأ لنا أسباب الانتفاع منها، و منح لنا القدرة على ذلك. و أما السيئات فإنّما هي آثار الأعمال الّتي يعملها الإنسان، و قد وضع قانونا متينا يوضح لنا المنهج، فهو تعالى يعلم الخير و خصوصياته كما يعلم الشرّ و أسبابه، و يعلم أين يكمن كلّ واحد منهما، و بمقتضى علمه الأتم وضع لنا منهجا ربانيّا يوضح لنا طريقا يحقّق لنا خير الدنيا و الآخرة، فمن اتبع هذا المنهج فقد جلب الخير لنفسه و تحقّق مقصده، و أمّا من خالف و أعرض عن ذلك فقد جلب الشرّ لنفسه، و يكون من عند نفسه لعدم اتباعه شريعة اللّه تعالى و منهجه القويم، و من ذلك يتّضح ما في هذه الآية الشريفة من دلالة حكيمة، فهي تبيّن أنّ الحسنة من اللّه جلّ شأنه، و السيئة من عند الإنسان، فلا تعارض بين هذه الآية و سابقتها، فإنّ الجميع إنّما يكون بمشيئة اللّه تعالى، و يبيّن ذلك قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [سورة الشورى، الآية: 30]، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

ص: 51

و قد أعرض عزّ و جلّ في هذه الآية الكريمة عن خطابهم لسقوط فهمهم، كما أنّها تصحّح و توضّح لهم معالم تفكيرهم، فإذا ضممنا هذه الآية الشريفة إلى سابقتها، تبيّن القاعدة العريضة في الإسلام في نسبة الحوادث الكونيّة مطلقا إلى اللّه تعالى والى الإنسان، فإنّ الآية الأولى تبيّن أنّ كلّ ما يقع من الحوادث الحسنة و السيئة إنّما هي بتقدير اللّه تعالى و قضائه، و هذه الآية الكريمة تبيّن أنّ كلّ حسنة و خير يصيب الإنسان من عافية أو نعمة أو أمن أو رفاهية و غيرها، فإنّما هي من اللّه تعالى و بفضل منه جلّ شأنه، الّذي سخّر لنا الأرض و ما عليها، و هيّأ لنا أسباب الانتفاع منها، و منح لنا القدرة على ذلك. و أما السيئات فإنّما هي آثار الأعمال الّتي يعملها الإنسان، و قد وضع قانونا متينا يوضح لنا المنهج، فهو تعالى يعلم الخير و خصوصياته كما يعلم الشرّ و أسبابه، و يعلم أين يكمن كلّ واحد منهما، و بمقتضى علمه الأتم وضع لنا منهجا ربانيّا يوضح لنا طريقا يحقّق لنا خير الدنيا و الآخرة، فمن اتبع هذا المنهج فقد جلب الخير لنفسه و تحقّق مقصده، و أمّا من خالف و أعرض عن ذلك فقد جلب الشرّ لنفسه، و يكون من عند نفسه لعدم اتباعه شريعة اللّه تعالى و منهجه القويم، و من ذلك يتّضح ما في هذه الآية الشريفة من دلالة حكيمة، فهي تبيّن أنّ الحسنة من اللّه جلّ شأنه، و السيئة من عند الإنسان، فلا تعارض بين هذه الآية و سابقتها، فإنّ الجميع إنّما يكون بمشيئة اللّه تعالى، و يبيّن ذلك قوله تعالى: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [سورة الشورى، الآية: 30]، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً .

خطاب للرسول الكريم، و لكن المقصود بيان الأمر للناس كافّة، و تنزيه لمقام الرسول صلّى اللّه عليه و آله عن ما وصمه المنافقون و ضعاف الإيمان، فلا يتّصف الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلاّ بما وصفه اللّه تعالى به، و هو أنّه رسول للناس كافّة، يبلغ عن اللّه تعالى الشريعة، فليس له من الأمر شيء حتّى يوصم بالشؤم و نحوه، كما يزعمه هؤلاء، و إنّما أراد عزّ و جلّ من إرسال الرسول الخير للناس، و أمر بتبليغ منهج ربانيّ قويم، فمن اتبعه فقد جلب الخير لنفسه، و من أعرض عنه فقد جلب الشرّ لنفسه، و هو تعالى شهيد على ذلك، و هذه الآية المباركة تأكيد لما ورد في سابقتها.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً .

تعليل لما سبق و تأييد منه عزّ و جلّ على ثبوت تلك الحقائق المتقدّمة، فإنّه تعالى شهيد على إرساله صلّى اللّه عليه و آله نبيّا و رسولا للناس كافّة. و كفى باللّه تعالى شهيدا، لأنّه عالم بجميع الحقائق، قيوم عليها، فلا ينبغي بعد ذلك أن يخرج أحد عن طاعة الرسول.

قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ .

بعد أن أثبت عزّ و جلّ رسالته و أيّدها بالشهادة، كان وجه الخطاب في هذه الآية الكريمة مع الناس لإعلامهم بلزوم طاعة الرسول، و أنّه لا عذر لهم في تركها، و أنّ طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله طاعة اللّه تعالى؛ لأنّه يبلغ عن ربّه و لا يأمر و لا ينهى من عند نفسه، و اللّه تعالى هو الآمر و الناهي، فهو الّذي يطاع في الحقيقة؛ لأنّه ربّ العالمين، و إلههم عالم بصالحهم، فالآية المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية المتقدّمة و تثبيت لمضمونها.

ص: 52

و في الآية الكريمة إيحاء شديد في النفس بتوقير الرسول؛ لإنّ طاعته هي الطريق الموصل إلى رضاء اللّه تعالى، و يظهر ذلك بوضوح بعد ما وصمه أعداؤه من المنافقين و غيرهم بما حكاه عزّ و جلّ منهم في الآية السابقة.

قوله تعالى: وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً .

تأكيد لوجوب طاعة الرسول، فإنّ لزوم طاعته يستلزم عدم جواز التولّي عنها، فمن أعرض عن طاعته الّتي هي من طاعة اللّه تعالى، فإنّه لا يضرّ إلاّ نفسه؛ لأنّ مهمّة الرسول هي التبليغ عن اللّه تعالى، و ليس له سلطان على الناس يقهرهم على ترك المعاصي و الآثام، بل الإيمان و الطاعة من الأمور الاختياريّة الّتي تتبع قناعة النفس و ميلها، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة القصص، الآية: 56] فالهداية من اختصاص اللّه تعالى و توفيقه الّذي يتفضّل بها على من يختاره لها؛ لأنّه العالم بمصالح عباده.

و إنّما قال عزّ و جلّ : حَفِيظاً ، أي: مبالغا في الحفظ دون حافظ؛ لأنّ الرسالة لا تنفكّ عن الحفظ؛ لأنّ الأحكام الإلهيّة تحفظ الإنسان المؤمن بها عن ارتكاب المعاصي و الآثام.

ص: 53

بحوث المقام
بحث أدبي:

(لمّا) في قوله تعالى: فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقِتالُ حرف وجوب، لوجوب لا ظرف بمعنى حين، فإنّه لو كانت كذلك لكان لها عامل، و إذا الفجائية لا يعمل ما بعدها في ما قبلها، كما هو معروف في علم النحو.

و (أشد) في قوله تعالى: أَوْ أَشَدَّ على الحاليّة من قوله تعالى: كَخَشْيَةِ الّتي هي منصوبة على التمييز، أي: يخشون الناس خشية مثل خشية اللّه أو خشية أشدّ خشية من خشية اللّه، فأشدّ أفعل التفضيل، و المفضل عليه محذوف و تقديره من خشية اللّه.

و جوّز بعضهم أن يكون هذا العطف من عطف الجمل، أي: يخشون الناس كخشية اللّه أو يخشون أشدّ خشية، على أن يكون الأوّل مصدر و الثاني حالا.

و أورد عليه بأنّ حذف الجمل بعيد، و أنّ حذف المضاف أهون منه.

و قيل: إنّ التمييز بعد اسم التفضيل قد يكون ما انتصب عنه، نحو: فَاللّهُ خَيْرٌ حافِظاً ، فإنّ الحافظ هو اللّه تعالى، كما لو قلت: اللّه خير حافظ بالجر، فلا مانع على هذا أن تكون الخشية نفس الموصوف من أن يكون للخشية خشية أخرى، كأن يقال: أشدّ خشية بالجرّ، و المسألة مفصّلة في علم النحو.

و «أو» في قوله تعالى أَوْ أَشَدَّ بمعنى بدل، و قيل: للتفريع، و قيل: للتخيير.

و جملة: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ ، قيل: إنّها لا محلّ لها من الإعراب، و قيل: إنّها داخلة في حيز القول المأمور به، فمحلّها النصب، و ذكر جمع من العلماء أنّ ما تقدّم على هذه الجملة جواب لقولهم: «لم كتبت علينا القتال»، فالجواب: «قل متاع الدنيا»، و هذه الجملة جواب لقولهم: «لو لا أخرتنا».

ص: 54

و اختلف في تخريج الرفع في «يدرككم»، فقيل: إنّها على حذف الفاء، و قيل:

إنّه على تقدير مبتدأ معها، أي: «فأنتم يدرككم»، و قيل: هو مؤخّر من تقديم و جواب الشرط محذوف، أي: يدرككم الموت أينما تكونوا يدرككم.

و أشكل عليه بوجوه، و المسألة محرّرة في كتب النحو، فمن شاء فليراجعها.

و المعروف قراءة: «مشيدة» بالتشديد، و قرأ بعضهم بالتخفيف و فتح الميم، كما في قوله تعالى: وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ [سورة الحج، الآية: 45]، و قرأ آخر بكسر الياء على التجوّز، كقوله تعالى: عِيشَةٍ راضِيَةٍ * [سورة القارعة، الآية: 7].

و «أين» في قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا ظرف مكان، و تأتي شرطا فيزاد «ما» بعدها، و قد تخلو عن «ما» و تكون استفهاما، و لم يسمع زيادة «ما» بعدها، و «لو» وصليّة، لا أن تكون شرطية.

و قوله تعالى: لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ بليغ جدا؛ لأنّ نفي المقاربة أبلغ من نفي الفعل، كما هو واضح.

و نصب «رسولا» في قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً على الحال المؤكّدة للجملة الّتي هي: «و أرسلناك».

بحث دلالي:
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ الحالة النفسانيّة لبعض المؤمنين الّذين يندفعون في ابتداء الأمر إلى الإيمان اندفاعا لم يكن على استقرار و ثبات، و إنّما كان لأجل أمور وقتيّة، فلما يأتي الاختبار الإلهي إذا هم يحجمون عن العمل بالتكاليف، و القرآن إنّما يريد من المؤمن أن يكون على ثبات و استقرار، يتبع أوامر اللّه تعالى بدقّة و إتقان،

ص: 55

و إنّما يكون كذلك إذا كان مستسلما للّه تعالى عاملا بشريعته، فإنّ للعمل و الطاعة الأثر الكبير في استقرار الإيمان في القلب و الثبات عليه؛ و لذا كانت الأحكام الإلهيّة اختبارات واقعيّة لبيان درجات الإيمان عند المؤمنين، تبعا لشدّة إخلاصهم و ضعفه.

و هذا لا يختصّ بالإسلام، بل هو أمر طبيعي في كلّ دين و ملّة، خالقيّة كانت أم خلقيّة، فإنّه لا بدّ من الاختبار ليعرف مدى استقامة الشخص و ثباته عليه.

و تعدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تشرح تلك النفوس الضعيفة الّتي آمنت بالإسلام و لم يكن بعد قد استقرّ في القلوب؛ و لذا كانت على خوف من اللّه تعالى لعلمهم بأنّه سيؤاخذهم على كلّ صغيرة و كبيرة. و على خوف من الناس؛ لأنّ الجبن قد تمكّن في نفوسهم، فهي لا تقدر أن تقابلهم في ميدان القتال، و هم على خوف من القتل، فكانوا يطلبون التأخير ليضمنوا لأنفسهم الأمرين، أي عدم وقوعهم في مخالفة اللّه تعالى، و النجاة من القتل. و الآية المباركة تبيّن أنّ المطلوب منهم غير ذلك، و هو الثبات و الاستقامة لا الترويغ و المناورة، فالدين ليس اندفاعا شخصيّا أو جماعيّا لأجل أمر قد يتوهّم أنّه الصالح لهم، و ليس هو من مقاييس البشر النفعيّة، بل الدين تابع لمقاييس ربّانيّة حكيمة موضوعة لصالح الناس، و لا بد أن يكون الدين مأخوذا من صاحب الشرع؛ لأنّه أعلم بمصالحهم، و قد نبّه عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أنّ الأصلح لهم في ابتداء الأمر بترويض نفوسهم بالطاعة و العمل بالصلاة و أداء الزكاة، فإنّ لهما الأثر الكبير في ذلك، ثمّ انتظار ما يقضي به اللّه تعالى من الأحكام، فإنّ الدين هو الطاعة للّه و لرسوله.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى إنّ العلّة في الإعراض عن الطاعة هي التوجّه إلى الدنيا و التطلّع على متاعها و حبّها، فإنّ ذلك هي العلّة التامّة للوقوع في المخالفة.

ص: 56

و ربّما يكون التوصيف بالقليل؛ لأنّه مقابل الآخرة الّتي لها الدوام و التأبيد، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «مثلي و مثل الدنيا كراكب قال قيلولة تحت شجرة ثمّ راح و تركها».

و الآية الكريمة بأسلوبها البليغ لها الإيحاء النفسيّ بأن الانهماك في طلب هذا المتاع و الانقطاع إلى الحياة الدنيا و عدم الإحساس بالاستكفاء، بل لطلب المزيد أيضا، لا بدّ أن يكون له حدّ، و أنّه يتوقّف في زمن ما، و أنّ الّذي استحوذ عليه قليل، و أنّ هناك ما هو أكبر و أشهى و ألذ و أمتع و أدوم، فيحسّ بالنقصان و الضياع و القلق الدائم من الحرمان منه، و لذا نرى أنّه لا يصفو للإنسان في الأرض متاع خالص من المنغّصات، و أنّ ذلك قد ارتكز في قرار النفس الإنسانيّ ، فتكون لهذه الآية المباركة الأثر التربويّ و النفسيّ على الإنسان؛ ليحسّ بما وراء هذه الحياة الفانية الزائلة و يعمل له، و ينحصر الطريق إليه بالتقوى الّتي تجلب للإنسان الطمأنينة من جميع الجهات، و هي الّتي ترفع نكد العيش في هذه الحياة، فتكون حياة آمنة مطمئنة لا ظلم فيها و لا بخس، و إنّ كلّ متاع حرم منه هذا الشخص في الدنيا لا يضيع عند اللّه عزّ و جلّ ، فلا تكون هناك خسارة حتّى يتحسّر الإنسان عليها، هذه هي التوجيهات الإلهيّة في هذا الميدان الّذي يتطلّب ثبات النفس و استقرارها و علمها بعدم الحرمان و الخسارة.

و لعمري، إنّه لو اجتمع جميع العلماء لإرساء قاعدة واحدة من تلك القواعد في ميدان الجهاد و القتال، من دون الاعتماد على الوحي الإلهيّ ، لعجزوا عن ذلك، قال تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88].

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ نظرية الإسلام في هذه الحياة، فإنّها لا تدعو إلى الانصراف عنها و تركها و الرضا بكلّ عيش نكد و شديد، بل حتّى الرضا بالظلم و العذاب في الدنيا لأجل التنعّم في الآخرة، فإنّ ذلك

ص: 57

ليس من الإسلام، بل هو يدعو إلى التمتّع بالدنيا في حدود الأسس الّتي يضعها الإسلام، و هي أن لا تكون موجبة للصدّ عن اللّه تعالى و آياته، أو تكون محرّمة، و إلاّ أورد صاحبها الهلاك.

و القرآن لا يذمّ الدنيا إلاّ في هذين الموردين، الأوّل: ما إذا كانت موجبة للصدّ عن ذكر اللّه تعالى.

و الثاني: ما إذا كانت محرّمة على صاحبها، أو بالتعبير القرآني الّذي ينهي عن الفتنة بمتاع الدنيا، قال تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اَللّهِ اَلَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ اَلطَّيِّباتِ مِنَ اَلرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ اَلْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ [سورة الأعراف، الآية: 32]. و هذه الآية المباركة لم تذمّهم على تمتعهم بما في الدنيا، بل لأنّها صارفة عن الطاعة و العمل بأحكام اللّه تعالى، و سيأتي تفصيل الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ على أنّ الموت واقع على الإنسان على كراهيّة منه، و أنّه يطارده حتّى يدركه في أي مكان كان، كمطاردة الأسد فريسته حتّى يدركه. كما يستفاد من قوله تعالى: يُدْرِكْكُمُ أنّ الموت يتربّص بالإنسان، يحوك حوله الدوائر حتّى يوقعه في شباكه فيدركه، و أنّه إذا لم يدركه فلا موت و إن طلب الإنسان لنفسه جميع أسبابه، فلا اختيار له في دفعه، فإذا انقضت الآجال فلا بدّ من الموت و مفارقة الروح الجسد بأيّ سبب كان، كالقتل أو شرب سم أو مرض و كلّ ما جرى عادته عزّ و جلّ يزهقها به.

و هذه الآية الكريمة ردّ على كثير من مزاعم بعض الفلاسفة و المتكلّمين في الموت و الآجال، منهم القدريّة في الآجال، و المعتزلة في قولهم: إنّ المقتول لو لم يقتله القاتل لعاش، و يردّه قوله تعالى: قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ اَلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ اَلْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ .

ص: 58

و لا يخفى أنّ في تعقيب هذه الآية الشريفة بقوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ من اللطف، فإنّه يستفاد منه أنّ الحسنة و السيئة اللتين تصيبان الإنسان لا دخل للاختيار فيهما أيضا، فإنّ ذلك خاضع لإرادة البارئ عزّ و جلّ و مشيئته، و إن كانت لأعمال الإنسان المدخليّة في تحقيق موضوعهما، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل ذلك إن شاء اللّه تعالى.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ جواز اتّخاذ الحصون و القلاع و البلاد و نحو ذلك، ليتمتع بها و يحفظ فيها الأموال و النفوس، و هي من سنن اللّه تعالى في عباده، هذا لا ينافي التوكّل على اللّه تعالى كما عرفت في بحث التوكّل، فإنّ من حقيقته اتّخاذ الأسباب ثمّ ترك النتيجة إلى إرادة الباري عزّ و جلّ ، و هذه الآية المباركة ردّ لمن زعم أنّ التوكّل يكون بترك الأسباب.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً أنّ لبعض الاعتقادات و الأقوال الأثر في سلب فهم الإنسان و تكون سببا في منع وصوله إلى الحقيقة و الواقع، فلا بد حينئذ من الرجوع إلى من يرشده إليها، و هم الأنبياء و المرسلون. و يدلّ على ذلك ذيل الآية الكريمة، قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناكَ لِلنّاسِ رَسُولاً ، فإنّ الرسول يرفع الجهل بما يبلغه عن الباري عزّ و جلّ و يزيل الغشاء عن الفهم.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ منظما مع قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ ، أنّ هنا حقيقتين لا بدّ من الالتفات إليهما و الاهتمام بهما، و إلاّ اتّصفنا بسوء الفهم و شملنا قوله تعالى: فَما لِهؤُلاءِ اَلْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً ، و الحقيقتان هما:

الأولى: أنّ كلّ شيء من اللّه تعالى؛ لأنّه خالق الأشياء و ربّ العالمين، يعلم خصوصيات الأشياء و آثارها، و قد وضع نظاما دقيقا متقنا للوصول إليها، و لا بدّ للإنسان أن يسعى لمعرفتها، و بدون ذلك لا فائدة في سعيه و يلحقه الضرر و الأذى،

ص: 59

و قد كانت الحسنة من اللّه تعالى لأنّه عزّ و جلّ تفضّل علينا بجميع الوسائل و الأسباب للوصول إلى ما نبتغيه من الحسنات.

الثانية: أنّ الإنسان لا يقع في السوء و الضرّاء إلاّ بفعل نفسه و تقصير منه؛ لأنّه أهمل طريق الوصول إلى الأشياء و أعرض عن استخدام الأسباب، و جهل استعمال السنن، فالسوء إنّما يعرض للأشياء بفعل الإنسان نفسه و تصرّفه.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ السيئة لا تكون وصفا ذاتيا للأشياء، و إنّما تأتي من ناحية الإنسان و يستند إليه، و لا ينافي هذا ما ذكرناه آنفا من أنّ جميع الأشياء تنسب إليه عزّ و جلّ ؛ لأنّ اللّه تعالى خلقها و وضع لها أسبابا و قواعد و نظاما معيّنا للأسباب و المسبّبات، و لكن السيئة تستند إلى الإنسان لأنّه أهمل ذلك النظام، فحصل السوء من فعله، و للتوضيح نذكر مثالا نأخذه من القرآن الكريم، و هو ما أصاب المسلمين في غزوة أحد من السوء و الضرر نتيجة تقصيرهم في تنفيذ أوامر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، حيث ترك الرماة موقعهم عند الجبل، و إلاّ كان الفوز و الظفر حليفهم، فتركوا هذا الأمر الإلهي الّذي كان يرشدهم إلى الحسنة و الفوز بالظفر و الغلبة.

و بالجملة: أنّ كلّ ما يجده الإنسان من لذّة و فرح و سرور و حسنة، سواء كانت حسيّة أم عقليّة روحيّة، فهو من الفضل الّذي ساقه اللّه تعالى إليه و اختاره له عزّ و جلّ للتخلّق بالخلق الأفضل؛ ليكونوا سعداء بما وهب اللّه تعالى لهم من أنواع النعم، و أمّا ما يجده من السوء و الضرر فمن نفس الإنسان، و لو أمعن النظر في ما أصابه من الحزن لكان فرحه به مثل فرحه بالسار. و هذا بحث دقيق سوف نتعرّض له إن شاء اللّه تعالى.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ أنّ من أسباب النعم و الفوز بالحسنة الطاعة للّه و الرسول، و أنّ عصيانهما يجلب السيئة و النقمة، و أنّ الإنسان لا يعرف مواطن الخير و لا يميّز الخير من الشرّ؛ لأنّه يقصر

ص: 60

نظره، فقد يختار ما هو خير لنفسه و هو في الواقع شرّ لها، قال تعالى: وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 216]، و لا يقدر الإنسان أن يميّز الخير من الشرّ إلاّ بإطاعة اللّه و طاعة رسوله، و من تولّى عن ذلك يقع في السوء و السيئات، و لا يكون إلاّ من سوء اختياره؛ لأنّه أعرض عن نظام الأسباب و المسبّبات الّذي جعله اللّه عزّ و جلّ وسيلة لنيل الخير و الحسنات. و الرسول صلّى اللّه عليه و آله ليس له سلطان على ردعه عن ذلك و إكراهه على الوصول في الطاعة، فإنّ ذلك ليس من سنّة اللّه تعالى في النظام التشريعيّ ، فكانت هذه الآية المباركة بمنزلة الشرح للآية الكريمة السابقة، فسبحان من أحكم آياته.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ شأن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و منزلته عند اللّه تبارك و تعالى، حيث لم يفصل بين طاعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و طاعة نفسه جلّت عظمته، فجعل طاعته إطاعة لنفسه عزّ و جلّ ، و لم يرد مثل هذا الشأن و المنزلة في سائر الأنبياء.

العاشر:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً على نظرية الإسلام في الطاعة و الإيمان، فإنّها تنفي الطاعة عن القهر و الإكراه، و لا تؤمن إلاّ بالإيمان الصادر عن الاختيار و رضاء النفس، و يستفاد من قوله تعالى:

حَفِيظاً ، أن إحساس الشخص بكونه مراقبا و حفيظا عليه - يجبره على الإيمان و الطاعة - يجعله ذليل النفس و يخمد وجدانه عن الإحساس بالمسؤوليّة و التكليف عنده، ففي الإسلام لا يكون الرسول صلّى اللّه عليه و آله حفيظا حتّى لا يشعر الفرد بذلك، و هذا ما أثبته علماء التربية في العصر الحديث، و قد سبقهم الإسلام بقرون كثيرة، فقالوا إنّ الطاعة الصادرة عن الحرية و الاختيار ترفع طبع الإنسان، و أمّا الإذعان الناشئ عن القهر يحطّه و يستلزم إخماد الوجدان في نفسه، لا سيما إذا طال أمد القهر، فإنّه

ص: 61

يشعر بأنّه لا يحتاج إلى الرجوع إلى وجدانه و استفتاء قلبه و ميل فكره مادام هناك جبر و إلزام بالامتثال.

و على أية حال، فنظرية الإسلام في هذا المجال تدلّ على أنّه لا جبر على الإيمان و الطاعة من الأنبياء و المرسلين، و لم يبعث اللّه الرسول حفيظا و مراقبا على الناس ليراقب أفعالهم فيشعروا بالذلّ و الهوان و فقدان الإحساس.

نعم، لا بدّ من إعلامه بأنّ المخالفة تستتبع العقاب حتّى ينبع الوازع الديني من وجدان الشخص و نفسه، لا من الخارج.

بحث روائي:

في الكافي بإسناده عن الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «يا فضيل، أما ترضون أن تقيموا الصلاة و تؤتوا الزكاة و تكفّوا ألسنتكم و تدخلوا الجنّة، ثمّ قرأ هذه الآية: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ أنتم و اللّه أهل هذه الآية».

أقول: الأسباب الّتي ذكرها عليه السّلام لدخول الجنّة لا بدّ من توفّر الشروط فيها من الإيمان و الولاية و الصحّة و غيرها، كما ذكرت في روايات أخرى مفصّلة، و إنّما خصّ عليه السّلام الأسباب المذكورة لأهمّيّتها.

و أما تفسير الأيدي بالألسن كما ورد في رواية الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام أيضا في قول اللّه عزّ و جلّ : أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، قال: يعني كفّوا ألسنتكم»، لأنّ كفّ الألسن أو الحرب باللسان مقدّمة لكفّ الأيدي، كما مرّ في التفسير، فإنّ كفّت الألسن عن الحقّ أو الدين أخذ كلّ منهما مكانه و اشتدّ قوامه و كثر أعوانه.

و عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «و اللّه الّذي صنعه الحسن بن

ص: 62

عليّ عليه السّلام كان خيرا لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس، و اللّه لفيه نزلت هذه الآية:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ إنّما هي طاعة الإمام عليه السّلام، فطلبوا القتال فلما كتب عليهم القتال مع الحسين عليه السّلام قالوا: ربّنا لم كتبت علينا القتال ؟! لولا أخّرتنا إلى أجل قريب، و قوله: رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ اَلرُّسُلَ أرادوا تأخير ذلك إلى القائم».

أقول: الروايات في ذلك متضافرة متقاربة في المعنى، و أنّها من باب التطبيق و ذكر المصداق، لما تقدّم من أنّ الآيات المباركة تنطبق على جميع العصور و الأزمان، و لا تختصّ بعصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ طاعة الإمام عليه السّلام هي طاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و عن علي بن إبراهيم: «أنّها - الآية المباركة - نزلت بمكّة قبل الهجرة، فلما هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى المدينة و كتب عليهم القتال فنسخ هذا، ففزع أصحابه من هذا، فأنزل اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ بمكّة كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ، لأنّهم سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أن يأذن لهم في محاربتهم، فأنزل اللّه: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ ، فلما كتب عليهم القتال بالمدينة: وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا اَلْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ ، فقال اللّه: قُلْ لهم يا محمد:

مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً الفتيل القشر الّذي في النواة، ثمّ قال تعالى: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ يعني: الظلمات الثلاث الّتي ذكرها اللّه، و هي المشيمة و الرحم و البطن».

أقول: لا تختصّ الآيات المباركة بمورد النزول فقط، بل تعمّ غيره كما تقدّم، و تفسير البروج بالمشيمة و الرحم و البطن تفسير بأحد المصاديق و الأفراد؛ لأنّ الموت يصيب الإنسان حتّى لو حفظته الطبيعة في محلّ مأمون عن الكوارث و الحوادث.

البيهقي في سننه عن ابن عباس: «انّ عبد الرحمن بن عوف و أصحابا له أتوا

ص: 63

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبي اللّه، كنّا في عزّ و نحن مشركون، فلما آمنّا صرنا أذلّة، فقال:

إنّي أمرت بالعفو، فلا تقاتلوا القوم، فلما حوّله اللّه إلى المدينة أمره اللّه بالقتال فكفّوا، فأنزل اللّه تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ وَ آتُوا اَلزَّكاةَ ».

أقول: المراد من العزّة - في حال الشرك و حالة البعد عن الصفات الحسنة كما قاله ابن عوف - هي العزّة الوهميّة، لا العزّة الواقعيّة الدائميّة؛ لأنّ العزّة كذلك لا تكون إلاّ بالإسلام، و الذلّة في حال الإسلام، أي: الذلّة في الشعور و الخيال، و لعلّ عفو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان لمقالة ابن عوف.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق لا التخصيص.

و في الدرّ المنثور عن قتادة قال: «كان أناس من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و هم يومئذ بمكّة قبل الهجرة يسارعون إلى القتال، فقالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله: ذرنا نتّخذ معاول فنقاتل بها المشركين - و ذكر لنا عبد الرحمن بن عوف - كان فيمن قال ذلك - فنهاهم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك قال: لم أومر بذلك، فلما كانت الهجرة و أمروا بالقتال، كره القوم ذلك و صنعوا فيه ما تسمعون، قال اللّه تعالى: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ وَ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اِتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً ».

أقول: يستفاد منها أنّ إصرارهم على القتال في مكّة كان لأجل الغنيمة الدنيويّة، و لم يكن لوجه اللّه عزّ و جلّ .

و فيه - أيضا -: عن هشام قال: «قرأ الحسن: قُلْ مَتاعُ اَلدُّنْيا قَلِيلٌ قال:

رحم اللّه عبدا صحبها على ذلك، ما الدنيا كلّها من أوّلها إلى آخرها إلاّ كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحبّ ، ثمّ انتبه فلم ير شيئا».

أقول: هو مأخوذ من قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا».

و أخرج ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران، قال: «الدنيا قليل، و قد مضى أكثر القليل و بقي قليل من قليل».

ص: 64

أقول: المراد من القليل في مقابل الآخرة.

العياشي عن صفوان بن يحيى، عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «قال اللّه تبارك و تعالى: يا ابن آدم، بمشيئتي كنت أنت الّذي تشاء و تقول، و بقوتي أدّيت إليّ فريضتي، و بنعمتي قويت على معصيتي، ما أصابك من حسنة فمن اللّه، و ما أصابك من سيئة فمن نفسك، و ذاك أنّي أولى بحسناتك منك، و أنت أولى بسيئاتك مني، و ذاك أنّي لا اسئل عمّا افعل و هم يسألون».

أقول: ما ورد في الرواية من القدسيات و تقدّم في المباحث السابقة مكرّرا أنّ كلّ شيء من اللّه تبارك و تعالى؛ لأنّه الربّ و الخالق و العالم و المدبّر. و قد جعل للإنسان الاختيار ليميّز الخبيث من الطيب بعقله، فإذا سلك الإنسان الطريق الفاسد كان باختياره و هو المسؤول، و إذا سلك الطريق الصحيح فمنه تعالى؛ لأنّه تفضّل علينا بخلقه و إرائته، بل أنّه تعالى أنعم علينا بالاختيار لما نختار، فهو تعالى لا يسأل عمّا يفعل، لأنّ أفعاله لا تصدر إلاّ عن مصلحة و حكمة، و لكن العباد يسألون لما اختاروا.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن أبي حاتم من طريق علي عليه السّلام عن ابن عباس في قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ يقول: «الحسنة من عند اللّه، أمّا الحسنة فأنعم اللّه بها عليك، و أمّا السيئة فابتلاك اللّه بها». و في قوله تعالى: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اَللّهِ قال: «ما فتح اللّه عليه يوم بدر، و ما أصاب من الغنيمة و الفتح».

وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ قال: «ما أصابه يوم أحد أن شجّ في وجهه و كسرت رباعيته».

أقول: المراد من الابتلاء الامتحان، و الرواية موافقة للروايات الصادرة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام كما تقدّم.

و عن قتادة في قوله تعالى: وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ قال:

عقوبتك بذنبك يا ابن آدم، قال: و ذكر لنا أنّ نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: «لا يصيب

ص: 65

رجلا خدش عود، و لا عثرة قدم، و لا اختلاج عرق إلاّ بذنب، و ما يعفو اللّه عنه أكثر».

أقول: المراد من قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إنّ ما يعرض على الإنسان من المكاره في هذه الدنيا إنّما هو جزاء ما اختاره من الأعمال السيئة، فيكون نحو كفّارة، و تقدّم تفصيل ذلك.

عن الحسن بن علي الوشا، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قوله تعالى: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اَللّهِ قال تعالى: «و أنت أولى بسيئاتك منّي عملت المعاصي بقوتي الّتي جعلت فيك».

و هناك روايات كثيرة جدا تدلّ على أنّ البلاء يختصّ المؤمن حسب مراتب إيمانه حتّى ورد في بعضها: «أن اللّه إذا أحبّ عبدا غثّه (غمسه) بالبلاء غثّا»، و في بعضها الآخر يتعاهده بالبلاء كما يتعاهد الرجل أهله بالهدية من الغيبة، فكلّ ذلك إمّا أن تكون هذه البلايا حسنات له مثل زيادة الأجر، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«لو كان المؤمن على جبل لقيّض اللّه عزّ و جلّ له من يؤذيه ليأجره على ذلك».

أو كفّارة لما صدر عنه من المعاصي، فتكون البلية من نفسه.

أو لأجل الاختبار و الامتحان حتّى يعرف مدى حبّه للّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أوليائه و رسوخ قدمه في الإيمان.

أو لأجل التذكية و تخفيف الشدائد في عالم البرزخ أو الآخرة.

أو لأجل رفع الدرجة؛ و لذا قد يكون البلاء مستمرا. و لا بدّ في البلاء ما يكون مجانسا للمؤمن و حسب شأنه، و إلاّ أوجب انخرام قاعدة التناسب الّتي تقدّم الكلام فيها.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضى الرحمن، طاعة الإمام و معرفته، إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ وَ مَنْ تَوَلّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ،

ص: 66

أما لو أنّ رجلا قام ليله و صام نهاره و تصدّق بجميع ماله و حجّ جميع دهره، و لم يعرف وليّ اللّه فيواليه و يكون جميع أعماله بدلالته، ما كان له على اللّه حقّ في ثوابه و لا كان من أهل الإيمان، ثمّ قال: المحسن منهم يدخله الجنّة بفضل منه».

أقول: المراد من معرفة وليّ اللّه هو معرفة الرسول و العمل بأوامره مع العقيدة الكاملة، و أن معرفة أوليائه يستلزم معرفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كذا العكس، و لو لم يعرف وليّ اللّه فيواليه لا يكون أعماله وفق النظام الصحيح الكامل و المنهج الربّاني المنزّل على رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فلا يستحق الثواب كما في الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: «كلّ من دان اللّه عزّ و جلّ بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّه، فسعيه غير مقبول و هو ضالّ متحيّر».

و ذيل الرواية متعلّق بصدرها، أي: الّذين عرفوا الإمام عليه السّلام، المحسن منهم يدخل الجنّة، و في تفسير الصافي: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أطاعني فقد أطاع اللّه، فقال المنافقون: لقد قارف الشرك و هو ينهى عنه، ما يريد إلاّ أن نتخذه ربّا كما اتّخذت النصارى عيسى، فنزلت الآية».

أقول: إنّ إطاعة الرسول من إطاعة اللّه تعالى؛ للتلازم العقليّ بينهما، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله في الحقيقة و الواقع مبلّغ له، فالآمر و الناهي هو اللّه جلّ شأنه، فإطاعة أوامره و عصيانها هو إطاعة اللّه و عصيانه، و لا يمكن التفكيك بينهما، و لا يرضى سبحانه و تعالى العمل إلاّ عن طريق رسوله صلّى اللّه عليه و آله و بما بيّنه، و إنّ شأن الأنبياء كلّهم ذلك.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر و الخطيب عن ابن عمر قال: «كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه، فقال: يا هؤلاء، ألستم تعلمون أنّي رسول اللّه إليكم ؟ قالوا: بلى. قال: ألستم تعلمون أنّ اللّه أنزل في كتابه أنّه من أطاعني فقد أطاع اللّه ؟ قالوا: بلى نشهد أنّه من أطاعك فقد أطاع اللّه، و أن من طاعته طاعتك،

ص: 67

قال: فإنّ من طاعة اللّه أن تطيعوني، و أنّ من طاعتي أن تطيعوا أئمتكم و إن صلّوا قعودا فصلّوا قعودا أجمعين».

أقول: الرواية في مقام وجوب اتّباع الأئمة الهداة المنصوص عليهم في لسان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و عدم جواز التخطّي عن نهجهم، و الروايات من الفريقين في ذلك كثيرة جدا، فعن أبي إسحاق النحوي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: إنّ اللّه أدّب نبيّه على محبّته، فقال: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ . قال: ثمّ فوّض الأمر إليه فقال: ما آتاكُمُ اَلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ، و قال: مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ . و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فوّض إلى عليّ عليه السّلام و الأئمة، فسلمتم و جحد الناس، فو اللّه لنحبّكم أن تقولوا إذا قلنا و أن تصمتوا إذا صمتنا، و نحن فيما بينكم و بين اللّه. و اللّه ما جعل لأحد من خير في خلاف أمره».

أقول: المراد من التفويض الوارد فيها هو ما كان في إبلاغ المشروع لا في أصل الشرع و الجعل؛ لأنّه الرسول فيتبع ما يوحى إليه، و ذكرنا ذلك مفصّلا في محلّه، كما أنّ المراد من التفويض إلى الأئمة عليهم السّلام التفويض في بيان الأحكام و إقامة الحقّ و تمييزه عن الباطل؛ لأنّهم الأدلاء إلى اللّه تعالى.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على أنّ اتّباعهم تقرّب إلى اللّه جلّ شأنه، و أنّه اتّباع للرسول الكريم.

و في الدرّ المنثور عن ابن زيد أنّه سئل عن قوله تعالى: فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ، قال: «هذا أوّل ما بعثه، قال: إنّ عليك إلاّ البلاغ، ثمّ جاء بعد هذا يأمره بجهادهم و الغلظة عليهم حتّى يسلموا».

أقول: للغلظة مراتب متفاوتة، و لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ اَلرُّشْدُ مِنَ اَلْغَيِّ .

و فيه - أيضا -: عن ربيع بن خثيم قال: حرف و أيما حرف مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ ، فوّض إليه فلا يأمر إلاّ بخير.

ص: 68

و فيه - أيضا -: عن ربيع بن خثيم قال: حرف و أيما حرف مَنْ يُطِعِ اَلرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اَللّهَ ، فوّض إليه فلا يأمر إلاّ بخير.

أقول: هذا يؤيّد ما قدّمناه.

بحث فلسفي:
اشارة

كانت مسألة الموت و الحياة على بساط الجدل بين الفلاسفة من زمان بعيد، فذهب كلّ جيل إلى مذهب، بل كلّ فيلسوف إلى رأي، حتّى أن ظهرت الأديان السماويّة و حلتها بما جاء عن خالق الموت و الحياة، و بيّنت حقيقة الموت بأنّه ليس فناء و أمرا عدميا فحسب، و إنّما هو انتقال الروح من عالم الشهادة، إلى عالم البرزخ و الآخرة في الإنسان، و في غيره كما تقدّم في البحث الفلسفي في آية 185-189 من سورة آل عمران. و اتّفقت في ذلك، و قد اتّجهت الأجيال و الفلاسفة إلى ما قرّرته الأديان السماويّة، و ليس هنا موضع لتفصيل آراء الفلاسفة السابقين بعد ما اتّفقت الأديان كلّها و أجمعت على أنّه انتقال الروح من هذا العالم إلى عالم آخر بعد أن تتجرّد من هذا الثقل الجسمي.

حقيقة الموت و مظهره:

الموت هو مفارقة الحياة و نهاية كلّ حي - ما سواه تعالى - في هذا الوجود حتّى أنّ المجرّدات الّتي لها الحياة كالملائكة مصيرهم إلى الموت في وقت معين.

و أنّ المتّفق عليه في حقيقته هو انتقال الروح من الهيكل البدني - عند ما يصبح غير مؤهّل لبقاء الروح فيه - إلى عالم وراء هذا العالم، و ينقطع عن هذا العالم بالمرّة و إن بقي له نوع علاقة بهذا العالم، حسب الروايات الواردة كما يأتي في البحث الروائي في الآيات الآتية.

ص: 69

و مظهره: خمود الشعور و دخول الجسد الحيوانيّ إلى حالة التحلّل و الاستحالة إلى الأصول الّتي تكوّن منها، و إن كان في نظرية الإسلام بل الأديان الإلهيّة كلّها، أنّ هذه الاستحالة و التحلّل لم يكن دائما و إنّما يكون دورا خاصّا و محدّدا بزمن معين، ثمّ يرجع الهيكل الّذي كان يعيش به في عالم الشهادة و يتشخّص في يوم الجزاء به، و يسأل منه ما صدر عنه من الأفعال، على ما أثبته الفلاسفة في البحث عن المعاد الجسمانيّ في آية 8-9 من سورة آل عمران.

الحذر من الموت:

يدرك كلّ حيّ - مهما كان شعوره و درجته الحيوانيّة - بثقل الموت و شناعته و جزعه منه، قال تعالى: قُلْ إِنَّ اَلْمَوْتَ اَلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ [سورة الجمعة، الآية: 8]، فتراه يهرب منه بتمام جهده و يدافعه بكلّ ما عنده من الوسائل إلاّ أولياء اللّه تعالى و من كان مرتبطا بصلة خاصّة مع مبدئ الحياة و خالقه حتّى أنّه يحنّ أيضا، و لكن من ألم فراق التقرّب إليه جلّ شأنه بالموت و إن كان هو آنس بالموت من الطفل بثدي أمّه. و الآية الشريفة: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ اَلْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ . تبيّن السبب من الحذر و الخوف من الموت و هو حبّ البقاء الموجود في نفس كلّ كائن حيّ ، و يكشف هذا الحبّ عن خلود الروح، كما أثبته كثير من الفلاسفة، إذ لو لم يكن الخلود مقدّرا للروح لما شعر الإنسان - أو الكائن الحي - به و مالت النفس إليه، فإنّ الشعور مهما كان جزافا - و الجزاف مستحيل في صنع اللّه تبارك و تعالى، بل مستحيل في صنع النواميس الكونيّة الّتي تقود هذا الوجود و تربط بعضها مع بعض - لا يستطيع أن يصنع هذا الميل الشديد و ذعرها العظيم من الفناء.

فلا معنى للقول بأنّ الخلود هوى من أهواء النفس، كما ذهب إلى ذلك بعض

ص: 70

الفلاسفة المادّيين، لما عرفت من أنّ حبّ الخلود لا يكون عبثا، بل مستندا إلى خلق، و أنّ هوى النفس لا تستطيع أن تكون منشأ لذلك الذعر العظيم و الحبّ الواقعي.

و هذا الحبّ و الذعر من الموت لا يتغيّر و لا يختلف في أدوار العمر الّذي يمرّ على الإنسان - الّذي هو أوسع فكرا و إحساسا من بقية الكائنات الحيّة - فإنّه مهما بلغ من الشيخوخة يخاف الموت و يحبّ البقاء، و إن كانت الدواعي مختلفة.

نعم، قد يكون في الموت جانب من الراحة، فيتمنّى الإنسان الموت كما يتمنّى التعبان الراحة، و لكن ذلك لأجل عامل خارجي، كفقد الإحساس و سيطرة المرض أو غير ذلك، قال الشاعر:

و إذا الشيخ قال أف فما ملّ *** حياة و إنّما الضعف ملاّ

آلة العيش صحّة و شباب فإذا وليا عن المرء ولى

و لكن أولياء اللّه تعالى الّذين تقرّبوا إلى الملأ الأعلى و ذاقوا طعم الحياة الأبديّة و العيش السرمديّ ، و وصلوا إلى الروح و الراحة يستوحشون من هذا العالم و لا يهابون الموت، فإنّهم علموا أنّ ما عِنْدَ اَللّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ [سورة آل عمران، الآية: 198]، و إن كانوا يحزنون من الاستكمال المعنويّ في هذه الدنيا.

و قد كتب ابن مسكويه رسالة في علاج الخوف من الموت لغير أولياء اللّه تعالى و من شاء فليرجع إليها، و تقدّم في البحث العرفاني في آية - 175 من سورة آل عمران ما يرتبط بالمقام.

أنواع الموت:

الموت يقع حسب أنواع الحياة: فمنها إرادي و هو إماتة الشهوات و ترك التعرّض لها، كما أنّ الحياة الإراديّة ما يسعى لها الإنسان في الحياة الدنيا من المآكل و المشارب و غيرهما للعيش.

ص: 71

و منها: الموت الطبيعي، و هو ما تقدّم من استرجاع الروح الكائن في الحي، كما أنّ الحياة الطبيعيّة هي بقاء النفس السرمديّة باستكمالها من العلوم و التبرّؤ من الجهل؛ و لذا أوصى أفلاطون طلاب الحكمة: «مت بالإرادة تحيى بالطبيعة».

و منها: زوال القوّة العاقلة، كقوله تعالى: أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ [سورة الانعام، الآية: 122] أي: رفعنا عنه الجهالة بحياة العلم.

و منها: الحزن و الخوف المنغص من الحياة و المكدرات للعيش، كقوله تعالى:

وَ يَأْتِيهِ اَلْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ [سورة إبراهيم، الآية: 17].

و قد يستعار الموت للأحوال الشاقّة و المتعبة، كالفقر و السؤال و الذلّ و الهرم و غير ذلك.

و لعروض الموت و انتقال الروح المأنوسة بالجسد إلى عالم الآخرة، تمرّ حالات شاقّة على الإنسان إلاّ أنّها تخفّ و تسهل حسب اطمينان النفس باللّه تعالى و الإيمان به، قال الصادق عليه السّلام: «الموت للمؤمن كأطيب ريح يشمّه فيغص لطيبه فينقطع التعب و الألم كلّه عنه، و للكافر كلسع الأفاعي و لدغ العقارب و أشدّ»، و تستمر الحالات في عالم البرزخ على ما فصّل في محلّه، بل لعروض الموت على الحيوان فيه نوع مشقّة له؛ لأنّ الروح كان مأنوسا بالجسد، و للبحث تتمّة تأتي في محلّها المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 72

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُب.......

اشارة

وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (81) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً (82) وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً (83) فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) الآيات المباركة تحدّث عن تلك الطائفة الّتي تكون داخلة في صفوف المؤمنين، و الّتي تكلّم عنها عزّ و جلّ في ما سبق من الآيات الكريمة. و هي فرقة منافقة تظهر الطاعة و الولاء بمحضر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و لكنّها تنوي المخالفة و تتآمر ضدّ الإسلام و رسوله.

و الآيات الشريفة تطمئن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بعدم إصابته آذاهم، و تأمره بالإعراض عنهم و التوكّل عليه، و سوف يحاسبهم على كلّ ما يصدر عنهم، و قد ألزمهم عزّ و جلّ الحجّة بالرجوع إلى القرآن و تعاليمه و آدابه و أحكامه، فإنّه لا اختلاف فيها من جهة من الجهات. و تأمر بالتفكّر في ما أنزله اللّه تعالى على رسوله ليملأ مشاعرهم و تتهذّب نفوسهم، فيتركوا النفاق و يخلص إيمانهم ثمّ يأمرهم بالرجوع إلى اللّه تعالى و الى الرسول في ما لم يعلموه من القرآن، و سوف يرشدهم الّذين يستنبطون الدقائق و الرموز من القرآن الكريم بما منحهم اللّه تعالى من الفهم

ص: 73

الثاقب و صفاء النفس، و هذا هو الفضل الكبير الّذي تفضّل اللّه تعالى علينا، و هو ذو الفضل العظيم.

التفسير
قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ .

بيان لصفة اخرى من صفاتهم الذميمة، و هي النفاق و التظاهر أمام الرسول صلّى اللّه عليه و آله بالطاعة و تبطين المخالفة، فهم يدرجون أنفسهم في المسلمين، و يقولون للرسول صلّى اللّه عليه و آله: إنّ شأننا الطاعة لأوامرك.

و إنّما جعل المصدر مكان اسم المفعول، أي: أمرك مطاع للمبالغة، فهم يدعون في حضرة الرسول الكريم كمال الطاعة و منتهى الانقياد، و التعبير ب «طاعة» لشدّة تظاهرهم بكمال الانقياد.

و «طاعة» على الرفع، و هي القراءة المعروفة خبر لمبتدأ محذوف، و قرأ بعضهم على النصب، أي نطيع طاعة.

قوله تعالى: فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ .

مادة (ب ر ز) تدلّ على الظهور، و منها البراز بفتح الباء، و هو الفضاء من الأرض، و المراد به في المقام الخروج من مجلس الرسول صلّى اللّه عليه و آله منصرفين.

و مادة (بيت) تدلّ على التدبير و التقدير و الإبرام في الليل، يقال: أمر بيّت بليل، إذا أحكمه و دبّره في الليل، قال تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً [سورة النساء، الآية: 108]، و إنّما خصّ الليل بذلك؛ لأنّه وقت يصفو فيه الذهن و يتفرّغ فيه، و منه التبييت و البيات، و هو إتيان العدو ليلا، كما أنّ منه تبييت الصائم، أي: القصد إلى الصوم ليلا.

ص: 74

و المراد به في المقام هو عقدهم على مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله في الخفية، كالّذي يدبّر في الليل و الظلام، و بينما هم في تبييتهم و ظلامهم إذ القرآن يفاجئهم و يكشف عن نواياهم السيئة.

و المعنى: أنّهم إذا خرجوا من عندك عقدوا العزم على مخالفة ما قلته لهم من الأحكام و الأوامر، و يستلزم ذلك أنّهم خالفوا أنفسهم أيضا في ما أظهروه من الطاعة. و يحتمل إرجاع الضمير في «تقول» إلى الطائفة.

و إنّما اقتصر على ذكر مخالفة ما قاله الرسول صلّى اللّه عليه و آله للأهميّة و لبيان قبح ظلمهم، و إنّما عدل عزّ و جلّ عن الماضي في قوله تعالى: غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ ؛ لبيان أنّ قصدهم الاستمرار على ذلك.

كما أنّ في إسناد ذلك إلى طائفة منهم دون الجميع؛ لأجل أنّ هؤلاء هم الرؤساء الّذين كانوا يتصدّون ذلك و الباقون أتباع لهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ .

توعيد لهم على قبح أفعالهم، الّتي هي ثابتة في علم اللّه تعالى، و أنّه يعلم مكرهم و يكتب في صحائفهم ما يضمرون من النوايا الفاسدة، و سيحاسبهم عليها في الدنيا أو الآخرة، أو فيهما معا. و الكلام كناية عن التوعيد و المجازاة.

قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ .

إرشاد إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بالإعراض عنهم و عدم الاكتراث بهم، و التوكّل عليه عزّ و جلّ و تفويض الأمر إليه.

و إنّما أظهر اسم الجلالة للإشارة إلى علّة الحكم، فإنّه المستجمع لجميع صفات الكمال، و هو القادر على كفاية أمر رسوله الكريم منهم، و إنّه جلّ شأنه يكفيك شرّهم و يبعد عنك كيدهم.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً .

لأنّه عالم بجميع الحقائق محيط بعباده و قادر على كلّ شيء، فهو يحمي

ص: 75

رسوله من كلّ سوء و ضرر، و يكف أذى الأعداء عنه. و الآية المباركة تطمئن الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّه لن يصيبه أذاهم.

قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ .

تحريض لهم بالتدبّر في القرآن الكريم و التأمّل في معانيه، لاستيعاب ما ورد فيه من الإرشادات و التوجيهات و الأحكام المستندة على المصالح و المفاسد و الدستورات المتكفّلة لسعادة الدارين، و أنّ العمل بها يوجب الفلاح و يثبت الإيمان في قلوبهم، فتخلص من شوائب الكفر و النفاق.

و إنّما أمروا بالتدبّر في القرآن لفساد زعمهم؛ لأنّهم كانوا يظنون أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله كان يشرّع لهم من نفسه، و أنّ القرآن، إنّما هو من عنده، و من صنعه صلّى اللّه عليه و آله؛ و لذا أمرهم بالتدبّر في القران، الّذي هو مفتاح اليقين و الإخلاص، و الفائق في جميع تعبيراته و تنسيقاته على مستوى واحد غير متفاوت و في غاية الكمال، لا يمكن أن يكون من صنع البشر أو عمل مخلوق مهما بلغا من الشأن في عالم التفكّر و التنسيق اللفظي أو الأدبي أو المعنوي: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء، الآية: 88]؛ لأنّ الطبيعة مهما بلغت من الكمال فهي مختلفة في المستويات و متفاوتة، فتكون نتاجها كذلك، كما أثبته علماء الفلسفة، فيستحيل أن يكون القرآن من عند غير اللّه تعالى، إلاّ أنّه يحتاج إلى تدبّر و تفهّم، فإنّهم لو تدبّروا القرآن و تأمّلوا معانيه، لعلموا أنّه منه جلّت عظمته، و أنّه يهدي إلى الحقّ و لا يمكن أن يكون من عند غير اللّه تعالى - لما عرفت - و لكنّهم لم يتدبّروه، فعابهم عزّ و جلّ عليه، و السبب في ذلك ما ذكره سبحانه و تعالى في آية أخرى، قال تعالى:

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [سورة محمد، الآية: 24]، فهم قد أقفلوا قلوبهم عن فهم معاني القرآن و نصائحه و إرشاداته، لتبطينهم النفاق و الكفر، و لإصرارهم على ارتكاب الآثام.

ص: 76

قوله تعالى: وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً .
اشارة

خصيصة من خصائص القرآن الكريم و مزيّة له امتاز بها على سائر الكتب، فإنّ بشرا على وجه هذه البسيطة لا يمكنه أن يخرج كتابا يسلم فيه من الاختلاف كهذا الكتاب العزيز، فهو معجز بجميع جهاته بأسلوبه و كلماته، و بفصاحته و بلاغته؛ و بأحكامه و آدابه، و بقصصه و إرشاداته و بأصوله و فروعه، و بحقائقه و واقعياته، و غير ذلك ممّا لا يبلغ حدّ الإحصاء، و يكفي في صدق ذلك أنّ الآية الكريمة تقرّر أنّه لو كان من عند غير اللّه لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.

و المراد من الاختلاف الأعمّ من التناقض في المعنى، و نفي بعضه بعضا و التفاوت في النظم و الأسلوب، بخروج بعضه عن الفصاحة و البلاغة و نحو ذلك، و ليس المراد بالاختلاف خصوص التناقض كما يبدو لأوّل وهلة، فإنّ القرآن هدفه واضح، و هو إثبات الألوهية و عبادة اللّه الواحد الأحد المتّصف بجميع صفات الكمال، فهو لم يخرج عن وجهته هذه، و لكن الاختلاف أعمّ من ذلك، فهو يشمل جميع المستويات من غير استثناء، فإنّه يحوي من الإتقان و الإحكام في تعاليمه و نصائحه و إرشاداته ما لم يحوه كتاب آخر، و لو تدبّرت في أيّة ناحية من نواحي الحياة الّتي تمّت بصلة للإنسان، من التربويّة و النفسيّة - بجميع ميادينهما - و الاجتماعيّة و الطبيعيّة و ما وراءها، لوجدته يحوي تلك باتّفاق و لا اختلاف لجانب على جانب آخر، فهو معجزة من حيث كونه كتابا واحدا يحتاج إليه الإنسان في عصر نزوله، كما يحتاج إليه الإنسان في العصر الحاضر الّذي يرى نفسه أعقل و أكمل من أمس، فهو امتداد واحد في الوجود، و هذا ما لا يتّصف به كتاب آخر، فإنّ كلّ كتاب يخرج إنّما يفيد في برهة معيّنة من الزمن، ثمّ يأتي كتاب أفضل آخر، فتقلّ أهميّة الكتاب الأوّل، و هذا هو الناموس في السير التكاملي الّذي يسير عليه الإنسان.

ص: 77

ثمّ إنّ المنفي من القرآن الاختلاف بجميع وجوهه، و إنّما وصفه بالكثرة لأنّ الكلام مشتمل على جوانب متعدّدة، فلا بدّ أن يكون الاختلاف كثيرا، كما في كلّ كلام آدمي إذا كان مشتملا على وجوه متعدّدة، فليس المراد نفي الاختلاف الكثير دون الاختلاف القليل اليسير، و هذا واضح بأدنى تأمّل.

و المستفاد من الآية الشريفة أمور:
الأوّل:

أنّ القرآن ممّا يناله الفهم العادي، فلو لم يكن كذلك لما أمر سبحانه و تعالى الناس بالتدبّر و التأمّل فيه لمعرفة الحقّ ، و أن التأمّل فيه يهدي صاحبه إلى كون القرآن من عند اللّه تعالى العليم بمصالح عباده الّذي يهديهم بما يصلح أمرهم.

الثاني:

أنّ ما اشتمل عليه القرآن الكريم ممّا تنادي به الفطرة و ملائمة للمصلحة؛ و لذا أوجب الكمال و الهداية.

الثالث:

أنّ القرآن الكريم كامل مكمّل من جميع الجهات، لا يقبل الاختلاف و لا التغيير و لا التحوّل و النسخ و لا الابطال و لا التهذيب و لا التكميل، فلا حاكم عليه أبدا؛ لأنّ ذلك كلّه من شؤون الاختلاف، فإذا كان منفيا عنه بالكلّية، فلا يقبل القرآن أيّا منها، و يستلزم ذلك أنّ ما فيه من الشريعة و الأحكام باقية و مستمرة إلى يوم القيامة، و هذا ما تؤكّده جملة من الآيات المباركة و السنّة الشريفة.

الرابع:

أنّ القرآن لما كان كاملا لا بدّ أن يكون نازلا من عند الكامل المستجمع لجميع صفات الكمال، الّذي لا يتصوّر النقص فيه أبدا؛ لأنّ ما نزل من عنده كامل، كما أنّه لا بدّ أن يكون من نزل عليه كاملا؛ لأنّه يتحمّل أعباء التفسير و التوضيح و الإبلاغ إلى الناس، و إلاّ استلزم الخلف، و تدلّ عليه آيات كثيرة منها قوله تعالى: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم، الآية: 4].

الخامس:

أنّ المنفي عن القرآن الكريم جميع وجوه الاختلاف، كالاختلاف في الوصف و اللفظ أو المعنى، بتناقض الأخبار أو الوقوع على خلاف المخبر به و عدم

ص: 78

المطابقة للواقع أو اشتماله على ما لا يلائم و لا يلتئم مع الفطرة و العقل السليم، كما أنّه لا يقبل المعارضة، كما تحدّى به الرسول الكريم بالإتيان بمثله أو بعشر سور من مثله.

السادس:

أنّ القرآن الكريم كتاب هداية و تربية و توجيه، و قد أنزله اللّه تعالى لتربية هذه الأمّة و إنشائها و إعدادها إعدادا كاملا؛ لتكون أمّة صالحة، فلا بد أن يكون جامعا و حاويا لجميع ميادين التربية في حياة الإنسان، فهو كتاب توحيد خالص من شوائب الشرك و الإلحاد، و كتاب حكمة و معارف حقّة، و كتاب تربية الروح و العقل، و تزكية النفس و تربية الجسد، و كتاب تربية الفرد و الاجتماع، و سوق كلّ منهما إلى منتهى الكمال، و كتاب أخلاق يحتوي على جميع الفضائل العامّة الإنسانيّة.

كما أنّه كتاب يوازن بين مطالب الجسد و مطالب الروح، و بين الدنيا و الآخرة، بلا اختلاف يتداخل فيه جميع الشؤون المرتبطة بالإنسانيّة على نحو الاعجاز في كلّ جانب، فهو كتاب كما وصفه عليّ عليه السّلام: «ظاهره أنيق، و باطنه عميق، لا تفنى عجائبه و لا تنقضي غرائبه، لا تكشف الظلمات إلاّ به» فهدفه اعداد الإنسان الصالح و ترقيه من حضيض الرذيلة إلى أوج الشرف و الكمال.

السابع:

ان مثل هذا الكتاب لا يمكن ان يصدر من عند غير اللّه تعالى، سواء كان إنسانا أو ملكا أو مخلوقا آخر، لأنّ غيره قرين النقص و الاختلاف، فلا يمكن أن يصدر منه ما ليس فيه الاختلاف، و أنّ الكمال مهما بلغ من الشأن في المخلوق محدود، و القرآن بعجائبه و غرائبه غير محدود، فهو المعجزة الخالدة، يخضع له العلماء و جهابذة الفكر و المرتبطون باللاهوت السرمدي الأبدي، و المتّصلون بالمبدأ الحيّ القيوم في جميع العصور غاية الخضوع، و يستنيرون عقولهم منه، و يعجبون به أشدّ الإعجاب.

ص: 79

قوله تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ .

سجيّة اخرى لتلك الطائفة الّتي اتّصفت بالنفاق، و يمكن أن تكون الآية المباركة في مقام بيان طائفة اخرى من طوائف المجتمع الإسلامي، الّتي تكون ضعيفة في التنظيم تقبل كلّ أمر يرد عليها، سهلة الانقياد للإشاعة، تبثّ كلّ ما تسمعه دون تحفّظ و تدبّر، فلا انتظام لها في شؤونها، فكانت تذيع كلّ ما يرتبط بالأمن أو الخوف و نحوهما، ممّا يرتبط بشئون الأمّة و المجتمع المسلم.

و إنّما اقتصر على الأمن أو الخوف لأهمّيّتهما، فيشيعون بالأخبار الكاذبة ما يوجب تزلزل الأمن في موضع الاستعداد و الأهبة، فتزول عنهم هذه الحالة، أو يشيعون ما يوجب الخوف فيستعدون لمنازلة العدو و هم في غنى عنه، فكم من إشاعة تلحق الضرر بالأمة.

و الآية الكريمة في مقام التعيير و الذمّ لهذه الطائفة في فعلتهم هذه، و إن كانت حسنة النيّة فيما تفعل و لم تقصد إلى هذه النتيجة السيئة الّتي تترتّب على الإشاعة، و هي الاضطراب و الخلخلة في الصفوف.

و يستفاد من الآية الكريمة أنّ ما أشيع به لا حقيقة له، بل هو من الأراجيف الّتي كان يبثّها أعداء الإسلام في صفوف الأمة المتراصّة؛ لا يجاد الوهن في عزائمها، و لعلّ هذه الحالة كانت موجودة في أكثر من واقعة، فتنطبق على واقعة بدر الصغرى الّتي تقدّم الكلام فيها في سورة آل عمران، كما ذكرها المفسّرون.

قوله تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ .

الضمير في (ردّوه) راجع إلى الأمر الشائع من الأمن أو الخوف، و ردّ الشيء ارجاعه و إعادته، و يتضمّن معنى التفويض أيضا.

و أما أولو الأمر، فقد اختلفوا فيهم كاختلافهم في المراد بهم في قوله تعالى:

أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، فقيل: هم أهل الرأي و المعرفة بالأمور العامّة و القدرة على الفصل فيها، و قيل: هم

ص: 80

أهل الحلّ و العقد، الّذين تثق بهم الأمّة في سياستها و إدارة أمورها. و قيل: هم أمراء السرايا و الولاة. و قيل: هم العلماء و حملة الفقه و الحكمة، و قيل: هم كبار الصحابة، و قيل: هم الخلفاء الراشدون، و قيل غير ذلك.

و الحقّ أنّه لا دليل على كلّ واحد من تلك الأقوال، و يكفي في وهنها تعارضها في ما بينها و عدم مناسبتها للآية الشريفة، يضاف الى ذلك أنّ بعضها حدث بعد عصر نزول القرآن بزمان كثير، فكيف يصحّ سلخ الآية الشريفة عن معناها و تطبيقها على مورد يتحقّق بعد نزولها.

فالصحيح هو القول بأنّ أولي الأمر في المقام هم أنفسهم في قوله تعالى:

أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، و هم الأئمة المعصومون الّذين يستنبطون من القرآن و يعرفون الحلال و الحرام بما وهبهم اللّه تعالى من الذهن الثاقب و الذوق الرفيع و اختارهم لهداية الناس، فراجع تلك الآية الشريفة.

و لم يذكر سبحانه و تعالى في المقام الردّ إلى اللّه تعالى كما ذكره في الآية السابقة: فَرُدُّوهُ إِلَى اَللّهِ وَ اَلرَّسُولِ ؛ لأنّ الردّ في المقام لا يتضمّن حكما مولويا شرعيّا، بخلاف الردّ في الآية السابقة، فإنّه ردّ الحكم الشرعي، و لا سلطة لأحد فيه إلاّ اللّه تعالى و الرسول.

قوله تعالى: لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ .

المراد من العلم هو معرفة الحقّ و الصدق ممّا أشيع، و تمييزهما من الباطل و الكذب. و الاستنباط هو الاستخراج، مأخوذ من استنبطت الماء إذا استخرجته، و النبط هو الماء المستنبط و أوّل ما يخرج من ماء البئر، و سمّي النبط نبطا؛ لأنّهم كانوا يستخرجون ما في الأرض من الماء، و استنباط الحكم هو بذل الجهد في الحصول على الحكم من الأدلّة الشرعيّة.

و الاستنباط في الآية الكريمة إمّا وصف للرسول صلّى اللّه عليه و آله و أولي الأمر، أو يكون

ص: 81

وصفا للرادّين، أي: أنّ الّذين أشاعوا الأخبار الكاذبة - حداث البلبلة و الفوضى في صفوف المؤمنين - لو ردّوا تلك الأخبار إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الى أولي الأمر من المؤمنين بدلا من إشاعته لعرفوا حقيقته من دون الوقوع في الإشاعة و الآثار السيئة المترتّبة عليها، لأنّ قيادتهم يعرفون الحقّ و الصدق فيها بحكم ما اكتسبوه من التجارب، و ما أفاضه البارئ عليهم، أو يكون المعنى لعرف الرادّون الأخبار الصحيحة و استخرجوها من الأخبار الكاذبة.

قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً .

بيان لرعايته عزّ و جلّ لهذه الأمة، فإنّها هي الّتي تبعث الأمل فيهم و تحفظهم من الانهيار و الضياع و تصونهم من الآثار المترتّبة على كيد المنافقين و زيغهم و أباطيلهم.

و فضل اللّه تعالى إن كان المراد منه الرسول الكريم و القرآن المجيد، فالمراد من الشيطان أولياء الضلال، كأبي سفيان و نحوه، و إن كان المراد به ظاهر الإسلام فالمراد بمتابعة الشيطان العود إلى الكفر و الجاهلية الأولى.

و على أي تقدير، فالمقصود بالمتابعة المنفية هي المتابعة في ظاهر الإسلام، لا المتابعة في الأحكام العمليّة و فروع الدين، فإنّ أكثر الناس متابعون الشيطان إلاّ النادر كما هو المعلوم، و منه يظهر وجه الاستثناء من غير حاجة إلى تكلّف.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في الاستثناء، فيكون المعنى: لو لا فضل اللّه عليكم في الهداية و التوفيق للمتابعة، لا تبعتم الشيطان و خرجتم عن الصراط المستقيم إلاّ قليلا منكم، و هم الّذين أخلصوا في إيمانهم و سلّموا أمرهم للّه تعالى و الرسول صلّى اللّه عليه و آله.

و مضمون الآية الكريمة عامّ يمكن أن يشمل جميع الموارد، و لها مظاهر مختلفة، فلا تختصّ بمورد خاصّ و إن كان نزولها في أمر خاص، و تشير إلى قصة بدر الصغرى و بعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف

ص: 82

و الوحشة بين الناس و تحريضهم إلى عدم الخروج إلى بدر، لما أخبرهم بأنّ أبا سفيان قد جمع الجموع و جهّز الجيوش، كما أخبر عزّ و جلّ في القرآن الكريم.

و قد ذكر المفسّرون للاستثناء وجوها، فقيل: إنّ ظاهر الآية الشريفة أنّه امتنان خاص في أمر قد انقضى.

و فيه: أنّه لا ينافي الأخذ بالعموم لتشمل الجميع، فتكون للّه تعالى توفيقات خاصّة على المؤمنين، و أنّ له فضلا كبيرا عليهم.

و قيل: إنّ الآية الكريمة على ظاهرها، فإنّ المؤمنين سواء المخلصون منهم أم غير المخلصين، يحتاجون إلى فضله و رحمته، و إن كان غير المخلصين يحتاجون إلى عناية زائدة.

و فيه: أنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة.

و قيل: إنّ المراد بالفضل و الرحمة القرآن و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّ المراد بهما الفتح و الظفر، فيكون وجه الاستثناء بناء عليهما واضحا.

و قيل: إنّ الاستثناء إنّما هو في اللفظ دون الواقع، نظير الاستثناء في قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى * إِلاّ ما شاءَ اَللّهُ [سورة الأعلى، الآية: 6-7]، فإنّ الاستثناء يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، و في المقام الاستثناء يفيد الجمع و الإحاطة.

و جميع هذه الوجوه بعيدة عن سياق الآية المباركة.

قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ .

توجيه تربويّ آخر يهمّ الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله أكثر من غيره، فيوجّه سبحانه و تعالى الأمر له ليعطي درسا للقدوة الواقعيّة، و يبيّن تلك الطائفة المؤمنة الّتي خلصت لربّها في إيمانها، و سلمت من الأوصاف الّتي وصف بها جلّ شأنه تلك الطوائف المنافقة الضعيفة في الإيمان، فقد أمره عزّ و جلّ بالتحريض للقتال.

ص: 83

و الفاء في «فقاتل» للتفريع، و الأمر بالقتال متفرع على المتحصّل من الآيات السابقة. و يحتمل أن يكون تفريعا على قوله تعالى: وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ، أى: من أجل ذلك فقاتل في سبيل اللّه تعالى.

و يحتمل أن يكون تفريعا على قوله تعالى: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ ، أي: فقاتل إعلاء لكلمة اللّه و استنصر اللّه تعالى عليهم للمستضعفين، و لا بأس بذلك.

و لكن الأولى هو الأوّل، فإنّه بعد أن أمر المؤمنين بالقتال و بيّن مواقفهم المتقاعسة و المتخاذلة، و بيّن أنّما بعث لا بلاغ الرسالة، و ليس شأنه الرقابة و الجاءهم الى الطاعة. ففي هذه الآية الكريمة يأمره سبحانه و تعالى بتنفيذ التكليف و القتال في سبيل اللّه تعالى - لأنّه القدوة في كلّ مجال - و أنّك الرقيب على نفسك، و لا يضرّك تثاقلهم في القتال و إحجامهم عن تنفيذ أوامر اللّه تعالى، و إنّما عليك التوجيه و التحريض لغيرك.

و قوله تعالى: لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ ، إمّا بمعنى لا تكلّف بشيء إلاّ أنّ تكلّف نفسك، فالأوّل مجهول و الثاني معلوم. و «تكلّف» مرفوع؛ لأنّه مستقبل، و لم يجزم؛ لأنّه ليس علّة للأوّل. و قرئ بالجزم على أن (لا) ناهية و الفعل مجزوم بها، أي: لا تكلّف أحدا إلاّ نفسك، و «نفسك» منصوب على أنّه مفعول لفعل معلوم مقدّر يفسّره الفعل المجهول الظاهر.

قوله تعالى: وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

التحريض الحثّ على الشيء، أي: حثّهم على القتال بالترغيب و الوعظ و الوعد في الطاعة و التوعيد على المخالفة.

و المراد بالمؤمنين هم تلك الطائفة المخلصة الصادقة في إيمانها، و الخالصة عن تلك الأوصاف الّتي وصف بها سبحانه و تعالى الطوائف الزائفة.

ص: 84

قوله تعالى: عَسَى اَللّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

المعروف أنّ (عسى) من الإنسان للترجّي، و من اللّه تعالى الحتم؛ لأنّ الترجّي الحقيقي محال عليه عزّ و جلّ المحيط بكلّ شيء، و لكن ذكرنا غير مرّة أنّ (عسى) و غيرها من أدوات الترجّي و التمنّي تستعمل في معانيها الحقيقيّة الإنشائيّة، فهي إبراز المقصود و المطلوب بدواع مختلفة، كالترجّي و التمنّي و نحو ذلك، بلا فرق بين أن تكون تلك المعاني قائمة بنفس المتكلّم أو المخاطب أو بمقام التخاطب، فيكون مفهوم (عسى) في الخالق و المخلوق على حدّ سواء، بلا ارتكاب مجاز في الأوّل.

و المراد ب اَلَّذِينَ كَفَرُوا هم مشركو قريش و طواغيت الباطل، و البأس القوّة و النجدة.

و الآية الشريفة تزيد في تحريض المؤمنين على القتال و استعدادهم له، فإنّ العامل النفسي له الأثر المهم في الحروب، فإذا اطمئن العدو أنّ المؤمنين على أتمّ استعداد، و قد وطّنوا أنفسهم على القتال في سبيل اللّه تعالى، و كان الباعث على ذلك هو الإيمان و الاعتقاد الجازم بالنصرة الإلهيّة لهم، من دون أن يكون إلزام و سيطرة خارجيّة عليهم، صاروا أشدّ بأسا و أتمّ استعدادا للقاء العدو، و لذلك التأثير الكبير في وهن العدو و خوفه.

و من ذلك يعلم أنّ هذه الآية المباركة من الآيات المعدودة الّتي نزلت في القتال و راعت الجانب المعنويّ و النفسيّ في هذا المجال.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً .

التنكيل من النكال و هو العذاب و العقاب بما يكون عبرة لغيره. و أصله من التعذيب بالنكل، و هو القيد، فعمّم لكلّ عذاب مع هذه الخصوصية.

و في الآية الكريمة كمال التشجيع ببعث الرأفة و الاطمينان في نفوس المؤمنين، بأنّ اللّه تعالى القادر على كلّ شيء هو أشدّ قوّة من الأعداء و أشدّ تعذيبا لهم، هو

ص: 85

الّذي ينصرهم على أعدائهم، فهو عزّ و جلّ يمنعهم من أعدائهم.

كما أنّ فيها كمال التهديد للأعداء و بعث الرعب فيهم و التقريع لهم، و يستفاد ذلك من إظهار اسم الجلالة، و تعليل الحكم، و استقلال الجملة، و تذكير الخبر.

ص: 86

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة أمور:

الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ منزلة من منازل الإيمان، و هي ما إذا لم يستقر الإيمان في القلب، و لم يستوعب المشاعر، و هي المنزلة الضعيفة الّتي يكون فيها الفرد المؤمن قد اكتفى من الإيمان بالاسم، و في اللسان فقط يتظاهر بالطاعة، و أما حالته النفسيّة فهي على تذبذب و نفاق، يعطى الموافقة اللسانيّة و يضمر المخالفة، و سرعان ما يظهر عدم موافقته على ما أبداه أمام الرسول القائد صلّى اللّه عليه و آله، و يدلّ قوله تعالى:

فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ على سرعة المخالفة و إضمار الشرّ ضدّ الإيمان و المؤمنين.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ على أنّ تلك الطائفة المنافقة و غيرها من ضعفاء الإيمان و أصحاب الشرّ و الفساد لا تأثير لهم في الإسلام، و لن يصيبوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين أذى و مكروها؛ و لذا أمر عزّ و جلّ رسوله الكريم بالإعراض عنهم و التوجّه إليه تعالى، فإنّه جلّ شأنه يتولّى جزائهم و يكفي المؤمنين أذاهم، قادر على حماية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين باللّه تعالى.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً ، أنّ للقرآن الكريم الأثر الكبير في إصلاح النفوس المريضة، و أنّ الكتاب التكوينيّ كالكتاب التشريعيّ لا اختلاف فيهما، فإذا كان التدبّر في القرآن العظيم موجبا لرفع الشكّ و التردّد، كذلك له الأثر في رفع شكوك النفوس و تثبيتها على الإيمان. و يستفاد من الآية السابقة الدالّة على اختلاف الجنان مع اللسان، و من تعقيبها بهذه الآية الدالّة على أنّ التدبّر في القرآن

ص: 87

الموجب لرفع الشكّ و جلب اليقين في عدم اختلافه، أنّ الرجوع إلى القرآن و التدبّر فيه و التفكير في معانيه و العمل بما ورد فيه، توجب رفع الشكّ و اختلاف النفوس و ضعف الإيمان، و تورث ثبات القلوب و استقامتها، و الطاعة التامّة للّه و الرسول.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً على لزوم النظر في الجملة في الحجج و الأمارات و بطلان التقليد في أصول المعارف الإلهيّة، كما أثبتوه في علم الكلام.

الخامس:

ذكرنا أنّ الآية الكريمة المتقدّمة تدلّ على أنّ القرآن ممّا يناله الفهم، و هذا لا ينافي ما ورد أنّ للقرآن بطنا لا يمكن الوصول إليه إلاّ بتفسير المعصوم عليه السّلام، فإن للقرآن ظاهرا يناله الفهم العادي و عليه تدور المحاورات و استفادة الأحكام الشرعيّة.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً على معجزة القرآن، فإنّه مضافا إلى كونه لا اختلاف فيه من جانب واحد، كذلك لا اختلاف فيه من حيث اجتماعه على جميع الجوانب المتّصلة بالإنسان في الحياة الدنيا و الحياة الآخرة، و لا اختلاف في توجيهه لجانب مع توجيهه لجانب آخر، و تحتاج معرفة ذلك إلى التدبّر دون القراءة المسترسلة أو بقلوب مطموسة، فلا يتبيّن له ما فيه الحقّ الّذي لا اختلاف فيه، فيكون القرآن معجزة خالدة فيها الدلالة الواضحة على صدق من جاء به، و هو الرسول الكريم خاتم الأنبياء سيد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ على ذمّ إذاعة الأنباء و نشر الأخبار الّتي لم يتأكّد الإنسان من حقيقتها، أو تكون موجبة لإشاعة البلبلة في صفوف المؤمنين، و قد ورد في الحديث: «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمعه»، بل يستفاد منه أنّ ذلك من سبل الشيطان الّذي يريد إيقاع المؤمنين في التعب و المشقّة، و قد بيّن عزّ و جلّ أنّ المنهج القويم في مثل تلك الحالات هو الإرجاع إلى الرسول القائد، و من يكون على معرفة من

ص: 88

الأمور بحقائقها، و هم الصفوة من الأمّة الّذين وهبهم اللّه تعالى الذهن الثاقب و ألهمهم فهم الكتاب المبين، و هم الأئمة المعصومون عليهم السّلام قرناء القرآن العزيز، الّذين ما أن تمسّك بهم أحد لن يضل أبدا.

الثامن:

إنّما ذكر سبحانه و تعالى الأمن و الخوف لأهمّيّتهما بالنسبة إلى حفظ الأمّة و كيانها و استقلالها و استعدادها للقاء العدو، و لأنّ الآية الشريفة تشير إلى قضية بدر الصغرى و تذكّر المؤمنين بما جرى عليهم من المحن في غزوة احد إثر إشاعة الخوف و تخاذل الناس عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قد تقدّم في سورة آل عمران عند قوله تعالى: اَلَّذِينَ اِسْتَجابُوا لِلّهِ وَ اَلرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ اَلْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اِتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ [الآية: 172].

و يمكن أن يتعدّى من مورد الآية المباركة إلى كلّ ما يوجب انهيار كيان الأمّة، و ما يوجب البلبلة في الصفوف و الرعب و التخاذل عن الحقّ و التخويف و نحو ذلك.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ إِلاّ قَلِيلاً ، أنّ المؤمن لا بد أن يكون على استعداد لتلقّي الفيض الإلهي و الفضل الربوبيّ بالعمل بالشريعة و اتّباع الرسول، و ترك الاعتماد على النفس الأمّارة و ما يوجب البعد عن اللّه تعالى.

و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من ذلك في الآيات السابقة، منها إذاعة الخوف أو الأمن و ترك الايتمار بأوامر اللّه عزّ و جلّ و الرسول و التثاقل في تنفيذها.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ شدّة التعبير من اللّه سبحانه للمتثاقلين الّذين أعرضوا عن القتال و احتالوا في تركه، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في الآيات السابقة، فقد أمر جلّ شأنه الرسول الكريم بتنفيذ هذا الحكم الإلهي بنفسه و القيام بالقتال لوحده و الإعراض عن المتثاقلين،

ص: 89

فإنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس له إلاّ التبليغ و التحريض، فمن أطاع فقد أطاع و من عصى فقد عصى، و لا يضيق صدره من ذلك فليس له إلاّ تكلّف الجهاد بنفسه.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ أنّ اللّه تعالى إنّما كلّف نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بمباشرة القتال وحده مع الكافرين لما أعطاه من القوّة و الشجاعة ما لم يعط أحدا من العالمين، و سيرته صلّى اللّه عليه و آله تدلّ على ذلك، قال علي عليه السّلام: «كنّا إذا اشتدّ البأس اتقينا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

كما يستفاد من الآية الشريفة أهميّة التحريض العملي، أي: فقاتل أنت امتثالا لأمر اللّه تعالى، و حرّض بعملك المؤمنين على ذلك و حثّهم على الجهاد و قتال الأعداء.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ، أي: يبدلون».

أقول: المراد من التبديل التغيير، و أنّ ذلك من شعب النفاق.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ وَ اَللّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ ، قال: «هم أناس كانوا يقولون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: آمنا باللّه و رسوله، ليأمنوا على دمائهم و أموالهم، فإذا برزوا من عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ خالفوهم إلى غير ما قالوا عنك، فعابهم اللّه فقال: بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ اَلَّذِي تَقُولُ ، قال:

يغيّرون ما قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: إنّهم كانوا يغيّرون ما يقوله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يبدّلون ما عهدوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله؛ لأجل النفاق الكائن في نفوسهم القابل للإزالة.

ص: 90

و في الكافي بسنده عن سليمان الجعفري قال: «سمعت أبا الحسن عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ قال: يعني فلانا و فلانا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً ».

أقول: مراد الإمام عليه السّلام من كان من أهل النفاق في أي عصر كان و في أي مكان، و ذكر المصداق لا يوجب التخصيص.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً ، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن الضحّاك و عن قتادة أيضا: «إنّ قول اللّه لا يختلف، و هو حقّ ليس فيه باطل، و إنّ قول الناس يختلف».

أقول: لا يمكن الاختلاف في القرآن بجميع أقسامه؛ لأنّه الميزان لتمييز الحقّ عن الباطل، و أنّه من الحقّ و الى الحقّ و في الحقّ ، و ما هو كذلك لا يتصوّر فيه الاختلاف، و إنّما ينشأ الاختلاف من ناحية اختلاف العقول و تفاوت الاستعدادات، و تقدّم كلام عليّ عليه السّلام في وصف القرآن.

و في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن عجلان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«إنّ اللّه عيّر أقواما بالإذاعة في قوله عزّ و جلّ : وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ ، فإيّاكم و الإذاعة».

أقول: المراد من الإذاعة الإشاعة الّتي توجب الخوف و الرعب أو الترهيب في النفوس و إفشاء الباطل و الفساد، سواء كانت في حالة الحرب أو في حالة السلم؛ لأنّ ذلك من شعب النفاق أو من ضعف الإيمان.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ قال: «هذا في الإخبار، إذا غزت سرية من المسلمين خبّر الناس عنها، فقالوا: أصاب المسلمين من عدوهم كذا و كذا، و أصاب العدو من المسلمين كذا و كذا، فأفشوه بينهم من غير أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله هو يخبرهم به».

ص: 91

أقول: هذا من باب ذكر أحد المصاديق، لا من باب الحصر و التخصيص.

و في الكافي بسنده عن عبد الحميد بن أبي الديلم، عن الصادق عليه السّلام قال: قال اللّه تعالى: أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ، و قال عزّ و جلّ :

وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ، فردّ أمر الناس إلى أولي الأمر منهم، الّذين أمر بطاعتهم و الردّ إليهم».

أقول: إنّها تفسّر الآية بآية اخرى، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ :

«أولي الفقه في الدين و العقل».

أقول: ينحصر ذلك في من له ارتباط كامل معه سبحانه و تعالى، و أفاض عليه العصمة.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن عجلان عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ قال: هم الأئمة.

أقول: الرواية من باب التفسير بالمصداق الحقيقيّ للآية الشريفة و الحصر فيهم واقعي؛ لأنّهم يعرفون الحلال و الحرام، و هم حجّة اللّه على خلقه، و هم الصفوة. و قد روي هذا التفسير في روايات اخرى، و تقدّم في الآية الشريفة:

وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ ما يتعلّق بذلك.

و عن عبد اللّه بن جندب عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفيّة: «إنّ اللّه يقول في محكم كتابه: وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى اَلرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ اَلَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يعني آل محمد، و هم الّذين يستنبطون من القرآن و يعرفون الحلال و الحرام، و هم الحجّة للّه على خلقه».

أقول: قريب منه ما رواه المفيد في الاختصاص عن إسحاق بن عمار عن الصادق عليه السّلام في حديث مفصّل، و جميعها تدلّ على ما تقدّم؛ لأنّهم يعرفون الحقيقة و الحقيقة تعرفهم، و هم الّذين يفهمون الكتاب و الكتاب يعنيهم.

ص: 92

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ اَلشَّيْطانَ قال: فانقطع الكلام، و قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً ، فهو أوّل الآية يخبر عن المنافقين. قال: وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ اَلْأَمْنِ أَوِ اَلْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ قليلا، يعني بالقليل المؤمنين».

أقول: يستفاد منه أنّ في الآية الكريمة تقديما و تأخيرا، و هو بعيد عن سياق الآية المباركة كما مرّ في التفسير. إلاّ أن يراد منه المعنى، أي: لو لا فضل اللّه عليكم و رحمته لأغواكم الشيطان إلاّ قليلا، كالّذين أخلصوا دينهم للّه تعالى و توجّهوا إليه سبحانه، و هم الصفوة من الخلق كالأنبياء و المعصومين عليهم السّلام، و هذا له وجه، و تدلّ على ذلك آيات كثيرة كما يأتي التعرّض لها.

و في تفسير العياشي عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ قال: فضل اللّه رسوله، و رحمته ولاية الأئمة».

و فيه أيضا عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ قال: «الفضل رسول اللّه، و رحمته أمير المؤمنين».

أقول: في مضمون ذلك روايات كثيرة، و جميعها من باب ذكر المصداق الحقيقيّ ؛ لأنّ بهما تتحقّق العدالة الاجتماعيّة و تظهر آثارها، و تتنعّم البشرية بنعم الدنيا و نعيم الآخرة و تطمئن نفوسها، و أمّا أنّه صلّى اللّه عليه و آله فضل؛ لأنّه واسطة في الفيض و المبلّغ لما فيه التهذيب و الرقي، فهو السبب للكمال. و أمّا عليّ عليه السّلام رحمته، فلأنّه واسطة في الإفاضة و سبب الدوام و البقاء و النهج العمليّ للوصول إلى الكمال. و قد يطلق الرحمة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الفضل على أمير المؤمنين عليه السّلام كما عن العبد الصالح عليه السّلام في رواية محمد بن الفضيل قال: «الرحمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الفضل علي بن أبي طالب»، و المراد من الرحمة فيها هي الرحمة الرحيميّة، و قد سماّه اللّه تعالى في كتابه الكريم بالرحمة فقال: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 107]، و قد يطلق الفضل على القرآن أيضا.

ص: 93

في الكافي بإسناده عن مرازم قال الصادق عليه السّلام: «إنّ اللّه كلّف رسول اللّه ما لم يكلّف به أحدا من خلقه، ثمّ كلّفه أن يخرج على الناس كلّهم وحده بنفسه و إن لم يجد فئة تقاتل معه، و لم يكلّف هذا أحدا من خلقه قبله و لا بعده، ثمّ تلا هذه الآية:

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ ، ثمّ قال: و جعل اللّه له أن يأخذ ما أخذ لنفسه، فقال عزّ و جلّ : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، و جعل الصلاة على الرسول بعشر حسنات».

أقول: في مضمونها روايات اخرى، و هي تدلّ على كمال قربه صلّى اللّه عليه و آله إليه تعالى و شرفه على سائر الأنبياء، حيث لم تكن لهم هذه المزيّة و سائر المزايا الّتي له صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن سعد عن خالد بن معدان: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: بعثت إلى الناس كافّة، فإن لم يستجيبوا لي فإلى العرب، فإن لم يستجيبوا لي فإلى قريش، فإن لم يستجيبوا لي فإلى بني هاشم، فإن لم يستجيبوا فإليّ وحدي».

أقول: الرواية نصّ في أنّه صلّى اللّه عليه و آله حجّة على أهل الدنيا كافّة، و أنّ رسالته لم تختصّ بقوم دون قوم و بعصر دون آخر؛ لأنّ دينه و رسالته السابقة توافق الفطرة الخالصة المستقيمة، فإذا ظهر اعوجاج فيها و انحرفت عن استقامتها، بعدت عن الإيمان به، و قد تختصّ رسالته لنفسه؛ لأنّ عنده الفطرة المستقيمة و اللبّ الكامل، و تدلّ على ذلك كثير من الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً [سورة سبأ، الآية: 28].

و في تفسير العياشي عن سليمان بن خالد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قول الناس لعليّ عليه السّلام إن كان له حقّ فما منعه أن يقوم به ؟ قال: فقال: إنّ اللّه لا يكلّف هذا الإنسان وحده إلاّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ فليس هذا إلاّ للرسول، و قال لغيره: إِلاّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ ، فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره».

أقول: يستفاد منه أنّ إقامة الحقّ و تثبيت قوائمه في المجتمع النائي عنه لا يتمّ

ص: 94

إلاّ بالإعانة و الاستعانة مع الآخرين، و هذا لا ينافي التوكّل عليه تعالى و التفويض إليه جلّ شأنه، كما ثبت في محلّه، و إن لم يظهر له أعوان ينبغي حفظ صاحب الحقّ حقّه بما يراه من الطرق حتّى يفيقوا من غيّهم و يستعدوا للانقياد للحقّ و يتقرّبوا إليه.

و أخرج ابن منذر عن أسامة بن زيد أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه ذات يوم: «ألا هل مشمر للجنّة، فإنّ الجنّة لا خطر لها، هي و ربّ الكعبة نور تتلألأ و ريحانة تهتز، و قصر مشيد، و نهر مطرد، و فاكهة كثيرة نضيجة، و زوجة حسناء جميلة و حلل كثيرة في مقام أبدا، في خير و نضرة و نعمة، في دار عالية سليمة بهيّة.

قالوا: يا رسول اللّه، نحن المشمرون لها. قال: قولوا: إن شاء اللّه، ثمّ ذكر الجهاد و حضّ عليه».

أقول: ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله جملة من صفات الجنّة إمّا لأجل الترغيب و التحريض للجهاد أو للموعظة، و إمّا أنّ المخاطب ليس له استعداد للتلقي بأكثر منه، فيكون من باب: «إنّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم الناس على قدر عقولهم»، و إلاّ فصفات الجنّة لا تعدّ و لا تحصى، كما يأتي شرح ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و في تفسير العياشي عن أبان عن الصادق عليه السّلام: «لما نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ قال: كان أشجع الناس من لاذ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: و من تلك يعرف مقدار تضحيته للإسلام و تفديه للّه تعالى بعد إعراض الناس عنه صلّى اللّه عليه و آله.

و فيه - أيضا -: عن أبي حمزة الثمالي عن عيص، عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كلّف ما لم يكلّف أحد أن يقاتل في سبيل اللّه وحده، و قال:

ص: 95

حَرِّضِ اَلْمُؤْمِنِينَ عَلَى اَلْقِتالِ ، و قال: إنّما كلّفتم اليسير من الأمر، أن تذكروا اللّه».

أقول: الرواية في مقام الامتنان؛ لأنّه تعالى كلّفه بالتحريض.

و في تفسير العياشي عن جعفر بن محمد عليه السّلام قال: «ما سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله شيئا قط؟ فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، و إن لم يكن عنده قال:

يكون إن شاء اللّه، و لا كافئ بالسيئة قط، و ما لقي سرية مذ نزلت عليه: فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاّ نَفْسَكَ إلاّ وليّ بنفسه».

أقول: ما ورد في هذه الرواية من كمال الأدب الّذي خصّه اللّه تعالى به، حيث قال صلّى اللّه عليه و آله: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي»، و قد سار على هذا النهج آله الطاهرون و العلماء العاملون و العرفاء الشامخون، بل المؤمنون المتوجّهون.

بحث فلسفي

ص: 96

و قد مثّلوا للقاعدة في العلل المادّية بقولهم: «كلّ اناء بما فيه ينضح»، و تجري هذه القاعدة: «قاعدة التناسب» في جميع أقسام المسبّبات و المعلولات، بلا فرق فيها.

نعم، إنّ الكمال متفاوت و له مراتب شدّة و ضعفا، حقيقة و مجازا، مادّيا و معنويّا، أو قد يكون خفيّا مستورا، و قد يكون ظاهرا.

و تجري هذه القاعدة في المجرّدات أوّليّة كانت أو ثانويّة - و عليها بنوا أنّ الصادر الأوّل من المبدأ الفياض الأزلي لا بدّ و أن يكون فيه الكمال المطلق - بل عن بعضهم هو عين الكمال المطلق - و هو العقل الأوّل الّذي هو جامع لجميع ما يليق به من الكمال، و منه ينحدر بقية العقول العشرة حتّى يصل إلى العقل المادّي الفعال.

حتّى أنّ بعضهم بنوا على هذه القاعدة اختلاف رتب الملائكة، و إن كان في ذلك بحث عندنا، كما سيأتي في محلّه.

و على هذه القاعدة لا يمكن نقص - من الاختلاف في البيان أو الموضوع أو غيرهما - في القرآن الكريم؛ لأنّه الصادر من الحيّ القيوم الأزلي، و كذا سائر الكتب السماويّة إن لم تمسّه يد التحريف، و القرآن مصون منه بالأدلّة الكثيرة، كما يأتي بيانها في المورد المناسب لها.

و لذا يكون كمال القرآن بذاته و لذاته صادر عن الحقّ بلا واسطة، و إنّ إعجازه فيه و به و منه جلّ شأنه بلا فصل، فيمكن أن تكون الآية المباركة: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً إرشادا إلى ذلك.

ص: 97

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كان.......

اشارة

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85) وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86) اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً (87) بعد ما بيّن عزّ و جلّ بعض أحوال الطائفتين المؤمنة المستقيمة الثابتة في إيمانها و المطيعة لمولاها، و الطائفة العاصية الزائغة في أقوالها و أفعالها.

يذكر جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة وضع كلّ واحدة من الطائفتين من حيث العمل و الجزاء، فإنّ الشفاعة الحسنة تؤدّي إلى الغاية الحميدة، و هي الشوق الى الطاعة و تحريض المؤمنين على قتال الأعداء، فيترتّب عليها الجزاء الحسن.

و أمّا الشفاعة السيئة فتكون نتيجتها الحرمان و تخذيل الناس عن القتال - بحكم المناسبة مع الآيات السابقة - و يترتّب عليها الجزاء السيء.

ثمّ يذكر سبحانه و تعالى في ضمن هذه الآيات المباركة التحيّة، فإنّ فيها الحياة و نبذ الفرقة و الاختلاف. و ذكر هذه الآية الشريفة في هذا المقام لبيان القاعدة الأساسيّة في الإسلام، و هي السعي إلى السلام، إلاّ إذا اضطرّ إلى الحرب و القتال، فهو إنّما يكون وسيلة لإقرار السلام، لا لأجل القتال.

و يذكر عزّ و جلّ القاعدة العريقة في القتل و الجهاد و السلم و الأمان، و هي إقرار توحيد اللّه تعالى، فهو التوجيه العقائدي الصارم في جميع ميادين هذا الدين، و لا يخلو ارتباط هذه الآيات الكريمة بسابقتها، كما عرفت.

ص: 98

التفسير
قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها .

مادة (شفع) تدلّ على ضمّ شيء إلى شيء، و منه الشفع، أي: ضمّ واحد إلى واحد، و هو الزوج في العدد. و الشفعة، لأنّها ضمّ الشريك نصيبه إلى نصيب شريكه.

و أمّا الشفاعة، فهي الانضمام إلى آخر ليكون ناصرا له أو دافعا عنه، فهو نوع توسّط لترميم نقص أو حيازة مزيّة، و تقدّم في مبحث الشفاعة أنّ لها السببيّة في الجملة لإصلاح شأن من شؤون المشفوع له، و هذا هو مقصد الشفيع، فتكون الغاية من الشفاعة إيصال المنفعة إلى المشفوع له، فلا بدّ و أن يكون للشفيع منزلة عند المشفوع، و يكون له نصيب من الخير أو الشرّ المترتّبين على الشفاعة.

و الشفاعة إمّا تكوينيّة كما في قانون العلل و المعلولات، أو تشريعيّة، و هي الّتي تكون بإذن اللّه تعالى، كما في قوله عزّ و جلّ : وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28]، فراجع بحث الشفاعة عند قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ اَلْكافِرُونَ هُمُ اَلظّالِمُونَ [سورة البقرة، الآية: 254].

و النصيب و الكفل بمعنى واحد، و هو الحظ. و قيل: إنّ النصيب هو الحظّ المنصوب، أي: المعيّن فيشمل الزيادة، و الكفل هو المثل المساوي أو الحظ الّذي فيه الكفاية.

و إنّما ذكر النصيب في الحسنة لأنّ جزاء الحسنة يضاعف، و ذكر الكفل في السيئة لأنّ من جاء بالسيئة لا يجزى إلاّ مثلها، فتكون الآية المباركة إشارة إلى لطفه عزّ و جلّ بعباده.

و عموم الحسنة يشمل كلّ ما يطلق عليه الحسنة، و منها الدعاء للمؤمنين.

ص: 99

و المعنى: من يجعل نفسه شفيعا لآخر في حسنة، يكون له حظ وافر ممّا يترتّب على شفاعته من الخير في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة؛ لأنّ الشفيع ذو نصيب من الخير و الشرّ المترتبتين على شفاعته لما كان فيها نوع من السببيّة، كما عرفت.

و اختلف العلماء في المراد من هذه الآية الكريمة، و المستفاد منها أنّها تدلّ على تحريض المؤمنين على مراعاة الحقوق إمّا بدفع الشرّ، أو جلب المنفعة ابتغاء وجه اللّه تعالى، و تنبههم لأن يكونوا على يقظة من شفاعتهم، فلا يشفعوا حتّى يعرفوا الأثر المترتّب عليها، فإذا كانت في خير و حسنة فلا بأس بالشفاعة فيها، و إن كانت في شرّ و فساد فلا بدّ من الاجتناب عنها، فإنّ فيها إشاعة للشرّ و ترويجا للباطل و تأييدا لأهل الظلم و الطغيان و النفاق، و في ذلك الفساد العظيم.

و بمناسبة ذكر هذه الآية الشريفة بعد الآيات السابقة الّتي أمر فيها نبيّه الأعظم بالقتال منفردا لأجل حفظ كيان هذه الامة، تأتي هذه الآية الكريمة و تأمر المؤمنين بنصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الانضمام إليه في هذا الخير العظيم، فإنّ فيه نصرة الحقّ و إقامة شريعة اللّه تعالى، فيكون لهم الشرف و النجاة في الدنيا و الثواب الجزيل في الآخرة، ففي الآية الشريفة تحريض للمؤمنين على قتال أعداء اللّه تعالى، و أنّه يكون لهم الجزاء الحسن عنده تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها .

بيان للشفاعة المخالفة للشفاعة الحسنة، و تشمل كلّ ما كان سيّئة، كالانضمام إلى العدو و تخذيل المؤمنين، و الإعانة على السيئات، و الدعاء على المؤمن، و منها الشفاعة في إسقاط حدّ من حدود اللّه تعالى، ففي الحديث: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى، فقد ضادّ اللّه تعالى في ملكه، و من أعان على خصومة بغير حقّ ، كان في سخط اللّه تعالى حتّى ينزع»، فمن يشفع الشفاعة السيئة يكن له مثل الوزر المترتّب على تلك السيئة، فإنّ الكفل و النصيب و المثل واحد.

ص: 100

و في اختلاف التعبير في المقامين لبيان أنّ من يجري الشرّ في أفعاله، فله من فعله كفيل يسأله و يحاسبه، فلا يمكن التخلّص من عقوبته.

و كيف كان، فالآية المباركة بعمومها تشمل جميع أنواع الشفاعات الدائرة بين الناس، و هي قسمان الحسنة و السيئة، فيدخل فيها الدعاء للأخ أو عليه، و لعلّ أبرزها التبطئة عن القتال و إظهار الأعذار عن الدخول في الجهاد، فإنّها من الشفاعة السيئة. و لم يبيّن سبحانه و تعالى الحسنة و السيئة في المقام؛ اعتمادا على معروفيّتهما عند الناس.

كما أنّ الآية المباركة تحرّض المؤمنين على الشفاعة الحسنة، و تنهى عن الشفاعة السيئة، الّتي هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و المفسدين في الأرض.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً .

تقرير لما سبق، و تأكيد له، و المقيت: المقتدر الحافظ، و من أسمائه جلّت عظمته (المقيت)، أي: الحفيظ، و في الحديث: «كفى بالمرء إثما أن يضيّع من يقيت»، أي: من تلزمه نفقته من أهله و عياله و عبيده، ممّن هو تحت قدرته، و قال الزبير بن عبد المطلب:

و ذي ضغن كففت النفس عنه *** و كنت على مساءته مقيتا

أي قديرا. و قيل: إنّ مقيتا من أقته أقاته، فأنا قائت و مقيت.

و كيف كان، فإنّ فيه معنى الحساب، أي: قادر على كلّ شيء على حساب دقيق يعطى على قدر الحاجة، قال الشاعر:

إليّ الفضل أم عليّ إذا *** حوسبت أبي على الحساب مقيت

و الآية الكريمة تقرّر مضمون ما قبلها و تؤكّده كما ذكرنا، أي: أنّ اللّه تعالى قادر و شهيد على الشفعاء، يعلم محسنهم عن مسيئهم و يجازيهم على فعلهم.

و الآية الشريفة بمجموعها تقرّر حكما اجتماعيّا و سنّة طبيعيّة، و فيها تلخيص موقف المؤمنين المحسنين المقاتلين في سبيل اللّه تعالى، و موقف المنافقين المسيئين

ص: 101

المتخاذلين عن القتال، الّذين حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة و بيّن نهاية كلّ واحد من الفريقين.

قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ .

حكم اجتماعي به تشتدّ أواصر الثقة بين الأفراد، و يظهر حسن الأدب بينهم، و في هذا الحكم تظهر نعمة السلام بعد انتهاء القتال، كما أنّ منه يستفاد القاعدة الأساسيّة في الإسلام، الّذي يسعى إلى السلام الّذي يرضاه اللّه تعالى، و فيه تشيد أركان الدين القويم، و يزال منه كلّ شرك و فتنة. و من ذلك يعرف الوجه في تذييل آيات القتال بهذه الآية الآمرة بردّ التحيّة بمثلها أو بأحسن منها، و هي من سنخ الشفاعة الحسنة أيضا الّتي أرشد اللّه تعالى المؤمنين باتّخاذها وسيلة لتثبيت النظام و تشييد الأركان و ترويض النفس على التخلّق بأخلاق الكرام.

و التحيّة: تفعلة مصدر حيى يحيى تحية، كتزكية و تسمية، فادغموا الياء في الياء، و هي في الأصل الدعاء بالحياة و طولها، و صارت اسما لكلّ دعاء و ثناء، و لها مظاهر مختلفة، و فيها عادات متفاوتة، فلكلّ قوم تحيّة معيّنة، و لكن تحيّة المسلمين السلام، قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ [سورة النور، الآية: 61] و قال تعالى: وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [سورة يونس، الآية: 10]. و قيل: إنّ فيه مزيد على كلّ تحيّة؛ لأنّه اسم من أسمائه المقدّسة و دعاء بالسلامة عن الآفات و العاهات و يستلزم طول الحياة، و لأنّه ينبئ عن أنّ دين الإسلام دين الأمان و السلام، و أنّ المؤمنين به هم أصول السلم و محبّوا السلامة.

و ظاهر الآية الشريفة أنّها تشمل كلّ أنواع التحيّة من السلام المعهود و تسميت العاطس، و أنواع البرّ و الصلات القوليّة منها و الفعليّة، و منها تحيّة السلم و الصلح الّتي تلقى إلى المسلمين، فإنّ جميع ذلك من التحيّة، و قد وردت في ذلك عدّة روايات، كما سيأتي نقلها في البحث الروائي.

ص: 102

قوله تعالى: فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها .

يستفاد منه أنّ للجواب مرتبتين، أدناهما ردّها بعينها، و أعلاهما الجواب بأحسن منها. و لم يعيّن سبحانه و تعالى الجواب؛ لأنّه يتبع العادات و التقاليد المعروفة، و إن ورد في بعض الآثار أنّ الأحسن هو أن يقول: «السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته»، و الردّ بالمثل هو أن يقول: «عليك السلام».

و ظاهر الآية المباركة أنّ الجواب فرض و إن كان أصل التحيّة تطوعا و نفلا، و قد ورد في آداب التحيّة و كيفيتها و أحكامها الشيء الكثير، و سنذكر جملة منها في البحوث المناسبة الآتية.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً .

تأكيد لمضمون الآية المباركة. و الحسيب بمعنى الحفيظ المراقب، و هو من أسمائه تعالى، و قيل: هو فعيل من الحساب. و قيل: إنّه بمعنى الكافي، فعيل بمعنى مفعل، من قولهم: أحسبني كذا، أي كفاني.

و قيل: إنّه بمعنى الكافئ، و الظاهر التلازم بين تلك المعاني، فإنّ المحاسب المراقب لأفعال العباد يكون كافيا في إيصال ما يكافئه.

و كيف كان، فالمعنى: أنّ اللّه تعالى على كلّ شيء رقيب و حافظ، يرقب أفعالكم - و منها الصلة بالتحيّة - فيحاسبكم عليها و على غيرها، فيدلّ على شدّة الاعتناء بهذا الحكم الاجتماعي الّذي يحفظ الترابط و يرفع التنافر بين الأفراد.

قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ .

توجيه عقائدي يهدي الإيمان في قلوب المؤمنين و يثبته، و هو يشتمل على ركنين من أهمّ أركان الإيمان. و هما التوحيد، و الإيمان بالبعث و الجزاء في الدار الآخرة، و هما الركنان اللّذان أمر اللّه تعالى أنبياءه العظام بتبليغهما الناس و إقامتهما، و هما من أهمّ الروابط بين آيات الكتاب المبين، و يكونان وقفة بين الآيات

ص: 103

الشريفة، يتوقّف فيها المؤمن بعد السير الطويل في جملة من الأحكام الإلهيّة؛ لبيان أنّها هي الّتي تدعم هذين الركنين.

و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لجميع تلك الأحكام الّتي شرّعها عزّ و جلّ و الإرشادات الربوبيّة و التوجيهات الإلهيّة، فتكون الباعث القوي على العمل بتلك الأحكام، لا سيما أحكام القتال مع أعداء اللّه تعالى، و تكون تثبيتا للمشاعر الإيمانيّة، و تقوية للنفس على احتمال تبعات تلك التكاليف و ثقلها مادامت تؤدّي إلى عبادة اللّه الواحد الأحد، و مادام الجزاء محفوظا عنده عزّ و جلّ ، يجازي العباد على ما عملوا في يوم القيامة الّذي سيجمع الناس فيه.

و الآية المباركة بمنزلة القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها جميع التكاليف الإلهيّة، و إنّ كلّ قتال و جهاد لا بدّ و أن يكون على هذا الأساس، فمضمونها قانون عامّ تظهر فيه جميع الأحكام.

و المعنى واضح، فهو اللّه لا إله إلاّ هو، لا يعبد غيره، و لا يجوز التقصير في عبادته و يجب الخضوع لأمره، فإنّه شرّع لكم من الأحكام ما يوجب سعادتكم في الدارين.

قوله تعالى: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

تهديد لمن أعرض عن الأحكام الإلهيّة و عبادة اللّه الواحد الأحد، و توكيد لما ورد في الآيات السابقة، فإنّ من يطع اللّه و يعمل و يجاهد في سبيله يؤمن من فزع يوم الحشر.

الجمع: في المقام بمعنى الحشر؛ و لذا عدّي ب: (إلى)، كما عدّي الحشر بها، قال تعالى: لَإِلَى اَللّهِ تُحْشَرُونَ [سورة آل عمران، الآية: 158]، و قيل: إنّ (الى) بمعنى (في)، أي: ليجمعنكم في يوم القيامة.

و قيل: إنّ (الى) صلة في الكلام، و المعنى ليجمعنكم يوم القيامة.

ص: 104

و اللام في (ليجمعنكم) لام القسم، و كلّ لام بعدها نون مشدّدة فهي لام القسم.

و القيامة من القيام و التاء فيه مصدرية كزيادة، و كرامة. و سمّيت القيامة قيامة لأنّ الناس يقومون فيه لربّ العالمين، قال تعالى: أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ اَلنّاسُ لِرَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة المطففين، الآية:

4 - 6]، و قيل: سمّي يوم القيامة لأنّ الناس يقومون من قبورهم، و على هذا يصحّ أن يقال بأنّ الجمع إنّما عدّي بإلى لتضمينه معنى الإفضاء المتعدّى بها، أي:

ليحشرنكم من قبوركم إلى حساب يوم القيامة، أو مفضى إليه.

قوله تعالى: لا رَيْبَ فِيهِ .

تأكيد آخر بعد تأكيده بالقسم الّذي هو من أقوى المؤكّدات؛ لدفع كلّ شكّ و ارتياب في وقوع ذلك الحشر و الحساب و الجزاء على الأعمال، فلا ريب في ذلك كلّه.

و إنّما أتى عزّ و جلّ بالوقت - و هو يوم القيامة - للتحريض على العمل، و الجدّ فيه، و يرغبوا إليه و يرهبوا عن تركه.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ حَدِيثاً .

استفهام إنكاري، و المقصود تثبيت كونه صادقا، و بيان أنّه يجب أن يكون تعالى صادقا، و أنّ الكذب قبيح بالنسبة إليه، فهو محال عليه.

و التفضيل لبيان شدّة تنزّهه عن الكذب و عدم الخلف لوعده، فليس المقصود منه الكميّة و لا الكيفيّة. و الصدق معلوم، و الحديث أعمّ من القول و الخبر و الوعد، فهو عالم بجميع الحقائق، غني عن العالمين، يستحيل على مثله الكذب و الخيانة، و المعنى: لا أحد أصدق من اللّه تعالى.

ص: 105

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها على أنّ الآثار المترتّبة على المشفوع لأجله - سواء كانت خيرا و صلاحا، أم كانت شرّا و فسادا - إنّما تلحق بالشفيع؛ لأنّ الشفاعة نوع توسّط و لها السببيّة في إصلاح شأن أو ترميم نقيصة أو حيازة مزيّة، الّتي هي من مقاصد الشفيع و المشفوع له.

فلا بدّ أن يلاحظ الآثار المترتّبة على الشفاعة قبل وقوعها.

كما أنّ الآية المباركة تدلّ على قبول كلّ شيء للشفاعة، إلاّ ما خرج بالدليل، ممّا لا تقبل الشفاعة و لا يسقط إلاّ بفعل الإنسان نفسه، مثل ما ورد في أنّه لا شفاعة في حدّ، و نحو ذلك.

كما أنّ الآية الشريفة تثبت الشفاعة التكوينيّة، و تقرّر قانون الأسباب و المسبّبات الّذي يبتني عليه النظام الكياني لهذا العالم، و تثبت الشفاعة التشريعيّة، و تزيد درجات الشافعين في الشفاعة الحسنة، و من ذلك يعلم درجة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله في يوم القيامة، لما منحه اللّه تعالى من الشفاعة العظمى، فتكون له حسنات تلك الشفاعة ممّا تزيد بها درجته.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً على أنّ الشفاعة كسائر الأمور، لا تؤثّر أثرها إلاّ بإذن من اللّه تعالى المقتدر و الحافظ للحدود و الجزاء، و تفسّر هذه الآية الكريمة الآيات الثلاث الشريفة الّتي تدلّ على أنّ الشفاعة لا بدّ أن تكون بإذن اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ : وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28]، و قال تعالى: قُلْ لِلّهِ اَلشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [سورة الزمر، الآية: 44].

ص: 106

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها وجوب ردّ كلّ تحيّة، سواء كان بالكلام أم بالفعل، ممّا هو المتعارف عند كلّ قوم، أم بالإشارة، بل عمومها يشمل كلّ برّ، إلاّ أنّ تحيّة الإسلام هو إلقاء السلام الّذي هو علامة السلم و المسالمة، و قد أمر اللّه تعالى نبيّه الكريم بإلقائه على المؤمنين، فقال عزّ و جلّ : وَ إِذا جاءَكَ اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ [سورة الانعام، الآية: 54]، و هو من بقايا الدين الحنيف قال جلّ شأنه حكاية عن إبراهيم عليه السّلام فيما يحاور أباه: قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا [سورة مريم، الآية: 47]، و قال تعالى حكاية عن الملائكة الّتي جاءت إبراهيم: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [سورة هود، الآية: 69].

و يستفاد من الآيات الواردة في مقامات مختلفة أنّ السلام كان قبل ذلك، و أنّه ممّا جعله اللّه تعالى تحيّة لنفسه، و أنّه من تحيّة الأنبياء، قال تعالى: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي اَلْعالَمِينَ [سورة الصافات، الآية: 79]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ [سورة الصافات، الآية: 109]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ [سورة الصافات، الآية: 120]، و قال تعالى: سَلامٌ عَلى إِلْياسِينَ [سورة الصافات، الآية: 130]، و قال تعالى: وَ سَلامٌ عَلَى اَلْمُرْسَلِينَ [سورة الصافات، الآية: 181].

و أنّه من تحيّة الملائكة، قال تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة النحل، الآية: 32]، و أنّه من تحيّتهم للمؤمنين في الجنان، قال تعالى: وَ اَلْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ [سورة الرعد، الآية: 23-24]، و هو من تحيّة المؤمنين بعضهم على بعض في الجنان، قال تعالى:

وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [سورة يونس، الآية: 10]، و قال تعالى: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً * إِلاّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً [سورة الواقعة، الآية: 25-26].

ص: 107

و عموم الآية الشريفة يشمل وجوب الردّ على كلّ تحيّة، إلاّ إذا أسقط الشارع الأقدس احترامه، مثل تارك الصلاة، و ظاهرها أنّ السلام تطوع و الردّ فريضة، و أنّ الردّ الأولى هو أن يكون بالأفضل، و الثانوي أن يكون بالمثل.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: اَللّهُ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ أنّ الأصل في كلّ تشريع إلهي - بل المقصود من فروع الدين - هو إقامة أصوله من الإيمان باللّه تعالى و توحيده و الاستعداد ليوم الجزاء، فبهما تتمّ تحقيق الشريعة و إقامة الحقّ و تثبت الإيمان.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها ، قال: «يكون كفل ذلك الظلم الّذي يظلم صاحب الشفاعة».

أقول: الكفل (بالكسر) الحظّ الّذي فيه الكفاية أو النصيب، كما في قوله تعالى: يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ [سورة الحديد، الآية: 28]، أي: كفلين من نعمته في الدنيا و الآخرة، و المراد من الرواية التنبيه على أنّ من ينضمّ إلى غيره معيّنا له في فعل سيئة، يناله منها حظّ من الشدّة و الظلم؛ لأنّ ذلك من التسبيب للوقوع في السيئة، و هو منهي عنه.

و في الخصال عن الصادق عن آبائه عليهم السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو دلّ على خير أو أشار به، فهو شريك، و من أمر بسوء أو دلّ عليه أو أشار به، فهو شريك».

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على التسبيب للوقوع في الحرام، و إلاّ فمجرّد الإشارة إلى السيئة أو الأمر بها لا يترتب عليه إثم.

و في الجوامع عن الصادق عليه السّلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب، استجيب له، و قال له الملك: و لك مثلاه، فذاك النصيب».

ص: 108

أقول: الروايات في ذلك كثيرة، و هي نوع من الشفاعة الحسنة الّتي تقدّم البحث عنها.

و في الكافي عن علي بن الحسين عليهما السّلام: «انّ الملائكة إذا سمعوا المؤمن يدعو لأخيه بظهر الغيب و يذكره بخير، قالوا: نعم الأخ أنت لأخيك، تدعو له بالخير و هو غائب عنك و تذكره بخير، قد أعطاك اللّه تعالى مثلي ما سألت له، و أثنى عليك مثلي ما أثنيت عليه و لك الفضل عليه، و إذا سمعوه يذكر أخاه المؤمن بسوء و يدعو عليه، قالوا: بئس الأخ أنت لأخيك، كف أيها المستر على ذنوبه و أربع على نفسك و احمد اللّه الّذي ستر عليك، و اعلم أنّ اللّه أعلم بعبده منك».

أقول: هذه الرواية لا تنافي قوله تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الانعام، الآية:

160]، لأنّها في مقام بيان استجابة دعاء المؤمن لأخيه المؤمن بظهر الغيب، و إنّ للداعي مثلي ذلك، منحا منه جلّت عظمته له؛ للترغيب أو للجزاء، أو يكون من قبيل الأمر الوضعي للدعاء له.

و ربع كمنع بمعنى وقف و اقتصر، و منه المثل المشهور: «حدّث امرأة حديثين فإن أبت فأربع»، أي: حدّثها حديثين فإن أبت فامسك و لا تتعب نفسك، و قيل:

كرّر القول عليها أربع مرات، فهو مثل يضرب للبليد الّذي لا يفهم إلاّ بالتكرار.

و في تفسير علي بن إبراهيم: «في قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً ، أي: مقتدرا».

أقول: و الروايات في تفسير الآية المباركة بذلك كثيرة، فعن نافع أنّه سأل ابن عباس عن قوله تعالى: مُقِيتاً ، قال: «قادرا مقتدرا».

و في الدرّ المنثور عن مجاهد في قوله تعالى: مُقِيتاً ، قال: «شهيدا حسيبا حفيظا».

أقول: الرواية لا تنافي ما تقدّم؛ لأنّها من باب ذكر المصاديق للقدرة.

ص: 109

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اَللّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً ، قال: «السلام و غيره من البرّ».

و عن الصادقين عليهما السّلام: «إنّ المراد بالتحيّة في الآية السلام».

أقول: الرواية من باب ذكر أحد المصاديق لما تقدّم في الرواية الأولى، و في الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السلام تطوّع، و الردّ فريضة».

أقول: أمّا كون السلام تطوّعا؛ لأنّه تحيّة و أنّ المجتمع البشري - مهما كان حضارته أو تخلّفه - لا يخلو من تحيّة يتعارفون بها عند ملاقاة بعضهم مع بعض، و هي على أقسام و أنواع، من رفع اليد و ضرب الرجل على الأرض أو الإشارة بالرأس أو رفع القلنسوة من الرأس، أو غيرها من الأمور الّتي تختلف حسب العرف و العادة السائدة في ذلك المجتمع الإنساني، و جميعها تكشف عن نوع من الخضوع و الاحترام للطرف المسلّم عليه. و قرّر الإسلام هذه الطريقة و حبّبها و جعل التحيّة إلقاء السلام الّذي ينبأ عن الأمن بين المتلاقيين، فإنّ الأمن هو الأساس و الركيزة الأولى للمجتمع مهما كان شأنه و رقيّه، فيأمن بعضهم بعضا في عرضه و نفسه و ماله عند التلاقي، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النور، الآية: 27]، و قد فسّر الاستيناس في الروايات بوقع النعل، و هو تفسير بأحد المصاديق، و قال تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [سورة النور، الآية: 61].

و أمّا كون الردّ فريضة، لعلّ الحكمة فيها أنّ العقل و الفطرة يحكمان بأنّه لا بدّ من إبراز قبول التحيّة الملقاة على الإنسان و هو يردّها، و لا تكون إلاّ بتحيّة قوليّة مثلها، و الأدلّة الشرعيّة منزلة عليهما.

و في كشف الغمّة بسنده عن إسحاق بن عمّار قال: «دخلت على

ص: 110

أبي عبد اللّه عليه السّلام و كنت تركت التسليم على أصحابنا في مسجد الكوفة، و ذلك لتقيّة علينا فيها شديدة، فقال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا إسحاق متى أحدثت هذا الجفاء لإخوانك تمرّ بهم فلا تسلم عليهم ؟ فقلت له: ذلك لتقيّة كنت فيها، فقال: ليس عليك في التقيّة ترك السلام، و إنّما عليك في الإذاعة، إنّ المؤمن ليمرّ بالمؤمنين فيسلّم عليهم فتردّ الملائكة: سلام عليك و رحمة اللّه و بركاته».

أقول: تستفاد من هذه الرواية أمور:

الأوّل: استحباب التسليم على المؤمن و لو كان في حال التقيّة، و أنّ استحبابه ثابت في الجملة في ظرفها إن لم يطرأ عليه عنوان آخر من الإيذاء و الوقوع في الضرر و غيرهما؛ لأنّه نوع من الموادّة و الخضوع للمسلّم عليه كما تقدّم، و يستفاد ذلك من قوله تعالى: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ [سورة الزخرف، الآية: 89]، و قال تعالى: وَ إِذا خاطَبَهُمُ اَلْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [سورة الفرقان، الآية: 63].

الثاني: أنّ ترك التحيّة و السلام نوع من الجفاء، و هو لا يكون بين المؤمنين؛ لأنّه تعالى يبغضه، و للجفاء مراتب، و لكلّ مرتبة درجات.

الثالث: أنّ الروحانيّين يردّون تحيّة المؤمنين، و إن كانت الحجب ساترة و تمنع عن السماع، و قد ترتفع لبعض أوليائه كما ثبت في محلّه.

الرابع: أنّ الأفضل في جواب التحيّة و ردّها أن يكون بالأحسن، و إلاّ فبالمثل، كما دلّت عليه الآية المباركة أيضا.

في الكافي بإسناده عن علي بن رئاب عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ من تمام التحيّة للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة».

أقول: يستفاد منه أنّ التحيّة و السلام من الأمور الإضافيّة الّتي تتّصف بالكمال و النقصان و الأكمل و الأتمّ ، و أنّ المستحبّ فيها مجرّد وجودها، و أنّ الكمال و الأكمل فضل.

و في تفسير القمّي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا دخل الرجل منكم بيته، فإن

ص: 111

كان فيه أحد يسلّم عليهم، و إن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربّنا، يقول اللّه تعالى: مِنْ عِنْدِ اَللّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً [سورة النور، الآية: 61]».

أقول: يستفاد منه أنّ استحباب التحيّة و السلام لا يدور مدار وجود الطرف المقابل أو المسلّم عليه، بل السلام أو التحيّة مستحبّ سواء كان المسلّم عليه موجودا أو لم يمكن، أي: يسلّم على نفسه كما في الحديث، و يمكن أن يكون السلام المذكور فيها دعاء خاصّ للدخول في البيت الّذي لم يكن فيه احد لا التحيّة الخاصة.

و في الحديث: «ما من عبد يمرّ بقبر رجل كان يعرفه في الدنيا فيسلّم عليه إلاّ عرفه و ردّ عليه السلام».

أقول: يستفاد من هذا الحديث - مع قطع النظر عن السند - أمور:

الأوّل أنّه متى جاء الزائر علم به المزور و سمع كلامه و ردّ عليه، و هذا بالنسبة إلى الشهداء في طريق الحقّ و نصب العدل و الأولياء من المؤمنين، لا إشكال فيه؛ لاستيناس أرواحهم الشريفة مع عالم الشهادة و إن كان مقرّها في العليّين و عند الرفيق الأعلى كما تقدّم سابقا، و أمّا بالنسبة إلى غيرهم من الكفّار و المنافقين و العصاة، فلا يكون كذلك؛ لأنّ أرواحهم معذّبة إلى يوم القيامة، فيلحق بها أجسامهم، و إنّ انقطاعهم عن عالم الشهادة نحو تعذيب لأرواحهم.

الثاني: أنّ الجواب إنّما يكون بلسان الحال لا بالتلفّظ و المقال، و في بعض الأخبار أنّهم يتأسّفون على انقطاع الأعمال عنهم حتّى يتحسّرون على ردّ السلام و ثوابه، فكما أنّ تأسّفهم حالي لا مقالي كذلك سائر حالاتهم.

الثالث: أنّ الكمالات لا تنسلخ بالموت، و أنّ العلوم و المشاعر الروحيّة تكون مع الإنسان في جميع العوالم.

الرابع: أنّهم يسمعون السلام و يستأنسون به، و في بعض الآثار يسمعون صوت نعلكم و حكاياتكم، و لذا ورد في زيارة أهل القبور من السلام عليهم و أنّهم

ص: 112

يردّون الجواب و الحجب مانع عن سمع جوابهم، و تقدّم في شهداء أحد و غيرهم أنّهم كانوا يردّون السلام.

الخامس: وصول السلام إلى صاحب القبر إن مرّ على قبره، فإذا لم يمر عليه و سلّم، فإنّ وصوله يدور مدار إحاطة الروح و علو شأنها، فقد يصل إليه كما ورد في السلام على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو بعض الشهداء، و قد لا يصل؛ لأنّ أرواحهم مستأنسة بمحلّ قبورهم و لم تحط، فإنّ عالم الشهادة هو عالم تربية الروح و تزكيته.

و في الكافي بإسناده عن جراح المدائني عن الصادق عليه السّلام قال: «يسلّم الصغير على الكبير، و المارّ على القاعد، و القليل على الكثير».

أقول: و مثله ما أخرجه البيهقي عن زيد بن أسلم عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كما في الدرّ المنثور، و لعلّ ذلك من باب تأكد الاستحباب و تعدّد المطلوب؛ لأنّ توقير الكبير و إجلال الكثير أو القاعد و احترامهم، مطلوب في الجملة عند الشارع في حدّ نفسه إن لم يطرأ عناوين اخرى، فلو وقع العكس لم يخرج السلام عن استحبابه، و يستفاد من الحديث أدب الإسلام.

و في الدرّ المنثور عن عبد اللّه بن مسعود قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «أفشوا السلام بينكم، فإنّها تحيّة أهل الجنّة، فإذا مرّ رجل على ملأ فسلّم عليهم، كان له عليهم درجة و إن ردّوا عليه، فإن لم يردّوا عليه ردّ عليه من هو خير منهم، الملائكة».

أقول: ورد في كثير من الروايات أنّ أهل الجنّة يتزاورون و لهم تحية، و هي السلام كما في الدنيا، قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً ، و أمّا إفشاء السلام فهو من الوقار و الأدب الكامل للمسلم، و يوجب رفع التشاح و التباغض كما هو المعروف.

و في الفقيه بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه عليهما السّلام قال: «لا تسلّموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شرب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنث، و لا على الشاعر الّذي يقذف المحصنات، و لا على المصلّي لأنّ

ص: 113

المصلّي لا يستطيع أن يردّ السلام؛ لأنّ التسليم من المسلّم تطوّع و الردّ فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط، و لا على الّذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه».

أقول: لعلّ الحكمة في النهي عن السلام على هؤلاء الأقوام إمّا لأجل النهي عن تولّيهم، كما قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، و قال تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 51]، و قال تعالى: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا [سورة هود، الآية:

113]، و إمّا لأجل أنّ ترك السلام يوجب ردعهم عن المعاصي، فهو أفضل من تطوّع السلام عليه، و إمّا أنّه لا يحبّ أن يراه أحد على ما عليه من الحالة، فالسلام عليه يوجب إيذائه، و إمّا لأجل أنّ السلام يوجب التقرّب له و الشارع لا يحبّ التقرّب إليه، كالتقرّب إلى الظالمين، إلاّ إذا كان لإلقاء الحجّة عليهم و اسماعهم كلمة الحقّ ، كما أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بذلك.

في الكافي بإسناده عن السكوني عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

من بدء بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه، و قال: ابدءوا بالسلام قبل الكلام، فمن بدأ بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه».

أقول: المراد من السلام مطلق التحيّة، و أنّ النهي تنزيهي يختصّ بصورة العمد و الاختيار، فيكون ذلك من النهي عن المنكر عملا؛ لأنّ تركه خلاف الأدب الّذي يهتم به الإسلام. و قد ورد في بعض الأخبار أنّ ذلك نوع من البخل.

في الكافي بإسناده عن ابن درّاج عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا سلّم أحدكم فليجهر بسلامه و لا يقول سلمت فلم يردّوا عليّ ، ثمّ قال: كان عليّ عليه السّلام يقول: لا تغضبوا و لا تغضبوا و أفشوا السلام و أطيبوا الكلام و صلّوا الليل و الناس نيام، تدخلوا الجنّة بسلام، ثمّ تلا عليهم قول اللّه عزّ و جلّ : اَلسَّلامُ اَلْمُؤْمِنُ اَلْمُهَيْمِنُ ».

ص: 114

أقول: يستفاد منه أنّ الجهر في كلّ من السلام و الردّ مستحبّ ، كما في البسملة، و الحمل على الإرشاد بعيد عن السياق، و أمّا النهي عن الغضب، فلما تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الغضب مفتاح كلّ شرّ، و أنّه يوجب البعد عن الرحمن و اتّباع الشيطان، و ما ذكر فيها من الأسباب لدخول الجنّة توجب أيضا تزكية النفس في هذه الدنيا و رقيّها كما مرّ.

في الكافي بإسناده عن أبي عبيدة الحذاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «مرّ أمير المؤمنين عليه السّلام بقوم فسلّم عليهم، فقالوا: عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة اللّه و بركاته عليكم أهل البيت».

أقول: لعلّ الحكمة في النهي عن ذلك و التحديد بالسنّة المأخوذة من حنيفيّة إبراهيم عليه السّلام كما قالت الملائكة؛ لبيان أنّ الردّ - كالتحيّة في الإسلام - ورد فيها كيفيّة من الشرع، فاتباعها أولى و أفضل، أو لأجل دفع شبهة الغلو لو صدر عن بعض العوام.

و في الكافي بإسناده عن الحسن بن المنذر قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول:

«من قال: السلام عليكم، فهي عشر حسنات، و من قال: السلام عليك و رحمة اللّه، فهي عشرون حسنة، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته، فهي ثلاثون حسنة».

أقول: و مثله ما رواه البخاري في الأدب المفرد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و البيهقي في شعب الإيمان، و لعلّ زيادة الحسنات إمّا لأجل زيادة الصفات الّتي يلقيها المسلّم على المسلّم عليه الّذي يستحق تلك الصفات لإيمانه كما هو الظاهر، أو لأجل كثرة الإخلاص و التقرّب إليه تعالى؛ لأنّ احترام المؤمن بذلك يكون أكثر فيحصل به التقرّب أزيد.

ص: 115

و في الكافي بإسناده عن منصور بن حازم عن الصادق عليه السّلام قال: «ثلاثة تردّ عليهم ردّ الجماعة و إن كان واحدا، عند العطاس يقول: يرحمكم اللّه و إن لم يكن معه غيره، و الرجل يسلّم على الرجل فيقول: السلام عليكم، و الرجل يدعو للرجل فيقول: عافاكم اللّه و إن كان واحدا، فإن معه غيره».

أقول: التعبير بصيغة الجماعة في الموارد المذكورة إمّا نحو احترام للطرف المقابل، و إمّا لأجل أنّ المؤمن دائما معه الملائكة إمّا الحفظة - كما في بعض الروايات و الدعوات المأثورة - أو الملائكة، الكرام الكاتبون، و يدلّ على ذلك ذيل الرواية، و المراد بالردّ الأعمّ ، فيشمل الابتداء أيضا.

و في الكافي بإسناده عن جميل عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا كان قوم في مجلس ثمّ سبق قوم فدخلوا، فعلى الداخل أخيرا (الأخير - كما في الوافي) إذا دخل أن يسلّم عليهم».

أقول: الرواية من باب الإرشاد إلى الآداب الإسلاميّة.

و في الخصال عن الصادق قال: حدّثني أبي عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السّلام: «إذا عطس أحدكم فسمّتوه، قولوا: رحمكم اللّه، و هو يقول:

يغفر لكم و يرحمكم، قال اللّه عزّ و جلّ وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها ».

أقول: يستفاد منه أنّ التحيّة الواردة في الآية المباركة أعمّ من السلام و التسميت و غيرهما كما تقدّم في التفسير، و تدلّ عليه الرواية الآتية.

و في المناقب: «جاءت جارية للحسن عليه السّلام بطاق ريحان، فقال لها: أنت حرّة لوجه اللّه تعالى، فقيل له في ذلك، فقال عليه السّلام: أدّبنا اللّه تعالى فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها ، و كان أحسن منها إعتاقها».

أقول: هكذا تكون الفضائل، و الطاق: الفرد الواحد من الشيء.

ص: 116

و يستفاد منه أنّ التحيّة أعمّ من التحيّة القوليّة و الفعليّة و من السلام و غيره، و يأتي ما يدلّ على ذلك.

و في عيون أخبار الرضا بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «من لقي فقيرا مسلما فسلّم عليه خلاف سلامه على الغني، لقى اللّه عزّ و جلّ يوم القيامة و هو عليه غضبان».

أقول: و قريب منه غيره، و الوجه في ذلك أنّه نوع من النفاق و الإهانة و التحقير للمؤمن، و أنّها مبغوض عند اللّه تعالى.

و في تفسير الصافي: «انّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: السلام عليك، فقال صلّى اللّه عليه و آله: و عليك السلام و رحمة اللّه، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه، فقال:

و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني، فأين ما قال اللّه، و تلا الآية: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّك تترك لي فضلا و رددت عليك مثله».

أقول: روي قريب منه في الدرّ المنثور عن سلمان الفارسي، و يستفاد منه أنّ الردّ إذا كان بالأحسن، لا بدّ و أن يكون من سنخ التحيّة الحنيفيّة الإبراهيميّة كما تقدّم، و إلاّ كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يردّ بالمغفرة و الرضوان و العافية و غيرها للأخير.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على عظيم خلقه.

و في الكافي بإسناده عن عبد اللّه بن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «ردّ جواب الكتاب واجب، كوجوب ردّ السلام».

أقول: و أخرج البيهقي عن ابن عباس قال: «إنّي لأرى جواب الكتاب حقّا كما أرى حق السلام»، و قد تقدّم أنّ التحيّة الممدوحة أعمّ من اللفظيّة و الفعليّة أو الكتابيّة، و المراد من الحقّ المجاملي و الأخلاقي.

ص: 117

بحث فقهي

يستفاد من سياق الآية الشريفة: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها جملة من الأحكام الشرعيّة:

الأوّل: أنّ التحيّة هي نوع من العبادة، فيثاب عليها إن لم يتحقّق مانع من ذلك، و يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «المراد من التحيّة في الآية السلام و غيره من البرّ»، و تقدّم ما يدلّ على تحديد الثواب على اختلاف التحيّة بالسلام.

الثاني: أنّ السلام من المستحبّات الكفائيّة لظاهر سياق الآية المباركة؛ و لقول الصادق عليه السّلام: «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم»، فلو كان الداخلون جماعة فسلّم أحدهم، يسقط استحبابه عن الباقين.

و لكن مقتضى إطلاق بعض الروايات بقاء استحباب السلام بالنسبة إلى الباقين، مثل قول أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ اللّه عزّ و جلّ يحبّ إفشاء السلام»، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «السلام اسم من أسماء اللّه تعالى، وضعه اللّه في الأرض فأفشوه بينكم»، مع أنّه من الآداب المجامليّة الممدوحة عقلا و شرعا.

الثالث: وجوب ردّ التحيّة لظاهر الآية الشريفة، و لجملة من الروايات أيضا كما مرّ بعضها، و عمومها يشمل كلّ أنواع التحيّة و في جميع الحالات، إلاّ أنّ في الصلاة تختصّ الرد ب (سلام عليكم) فقط كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام)، فلا تشمل غيره من أنواع البرّ و الإحسان، و إن كان الأفضل و الأولى الردّ؛ لما مرّ من قول الصادقين عليهما السّلام: «المراد من التحيّة في الآية السلام و غيره من البر»، و تقدّم التسميت في التعطيس، و ذكرنا في (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.

الرابع: يجب أن يكون الردّ في أثناء الصلاة بمثل ما سلّم، فلو قال «سلام عليكم»، يجب في الجواب و الردّ أن يكون كذلك، ففي صحيح ابن مسلم قال:

«دخلت على أبي جعفر عليه السّلام و هو في الصلاة، فقلت: السلام عليك، فقال عليه السّلام:

ص: 118

السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت ؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أ يردّ السلام و هو في الصلاة ؟ قال عليه السّلام: نعم، مثل ما قيل له»، و المسألة محرّرة في كتب الفقه بشقوقها.

الخامس: يجب الردّ فورا؛ لأنّه المنساق من الأدلّة عرفا، كما أنّه مقتضى المتركزات في ردّ التحيّات القوليّة، مضافا إلى الإجماع.

السادس: ردّ السلام واجب كفائي، فيسقط بردّ واحد عن البقية، و يدلّ عليه الإجماع، و النصوص الكثير، منها ما رواه غياث بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام: «إذا سلّم من القوم واحد أجزأ عنهم، و إذا ردّ واحد أجزأ عنهم»، هذا بالنسبة إلى الوجوب.

و أمّا بالنسبة إلى استحباب الردّ، فالظاهر بقاؤه و عدم سقوطه عن الباقين؛ لأنّه نحو مجاملة و تودّد و تحبّب، و لا ريب في رجحان ذلك كلّه.

السابع: مقتضى عموم الآية الكريمة جواز سلام الأجنبي على الأجنبيّة و بالعكس إذا لم يكن هناك ريبة أو خوف فتنة، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة.

و ما دلّ على الخلاف مثل خبر غياث: «لا تسلم على المرأة»، أو «لا تبدؤوا النساء بالسلام»، فمحمول على ما إذا تحقّق عنوان الريبة أو الخوف أو الفتنة، جمعا و إجماعا.

الثامن: يجوز السلام على الكافر، خصوصا إذا استلزم ترغيبه للإسلام، فإنّه من مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام أشدّ الاهتمام و دعى إليها الناس، و ما ورد في بعض الأخبار من النهي عن السلام عليهم ابتداء، كما في خبر غياث، قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا تبدؤا أهل الكتاب بالتسليم، و إذا سلّموا عليكم فقولوا:

و عليكم»، و نحوه غيره، يمكن حملها على الكراهة بقرينة ما ورد في بعض الأخبار:

«قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: أ رأيت إن احتجت إلى الطبيب و هو نصراني، أسلّم عليه و ادعوا له ؟ قال عليه السّلام: نعم، إنّه لا ينفعه دعاؤك»، فإذا لم ينفعه السلام و لا الدعاء، لا وجه للحرمة. نعم هو مرجوح؛ لأنّه نحو اعتناء بالمسلّم عليه، فلا يليق

ص: 119

بمن يعادي اللّه و رسوله ذلك لو لم يكن جهة راجحة في البين، كالدعوة إلى الإسلام و الضرورة و نحوهما، و أمّا جواب سلام الكافر فواجب لما مرّ.

التاسع: استحباب الردّ بالأحسن في غير حال الصلاة، بأن يقول في (سلام عليكم): «سلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته»، كما مرّ في البحث الروائي، و يجوز الردّ بالمثل و لو كانت التحيّة بالشرّ، فالردّ الأحسن بالحلم و العفو أو المكافأة بالخير، و لو أراد المثليّة تكون جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها ، و لكن في وجوب ردّ مثل هذه التحيّة منع؛ لأنّ المنساق من أدلّة التحيّة و وجوب ردّها أن تكون التحيّة من الخير و البر كما مرّ، و أمّا لو كان غير ذلك كما لو سلّم تحقيرا للمؤمن أو تهديدا للقتل أو قصد بسلامه إيذاء الطرف المقابل، لا تشمله الأدلّة المتقدّمة، و إنّ التمسّك بالعموم تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح.

و هناك فروع كثيرة متعلّقة بالسلام و التحيّة مذكورة في الكتب الفقهيّة و الأخلاقيّة، و من شاء فليرجع إليهما.

ص: 120

فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّ.......

اشارة

فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89) إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) الآيات الشريفة ترتبط بالآيات الكريمة السابقة و كأنّها متفرّعة عليها بعد تعيين الحكم الحقّ و تشريع القتال و بيان الطوائف الّتي كانت في المجتمع الإسلامي، ثمّ التعرّض للشفاعة الحسنة و الشفاعة السيئة و أنّ كلتا الشفاعتين تعطي لصاحبها النصيب و الكفل من حسناتها و مساءتها.

و يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآيات الشريفة الفئات المختلفة داخل المجتمع الإسلامي، و دعا المؤمنين إلى الاتحاد و عدم الاختلاف في أمر المنافقين و التحزّب الى حزبين، فئة ترى قتالهم و فئة تشفع لهم و تحرض على ترك قتالهم و إهمالهم.

ص: 121

كما أنّ الآيات المباركة تحدّد موقف المسلمين إزاء الفئات خارج المجتمع الإسلامي، من الكفّار المخالفين لقوم بينهم و بين المسلمين ميثاق، و هم محايدون لا يريدون الكيد بالمسلمين و الدخول في حرب معهم و لا الحرب مع قومهم الّذين على دينهم، و فئة ثالثة يتلاعبون، يظهرون الإسلام مع المسلمين، و يبطنون النفاق و الكفر ليأمنوا الطائفتين، ثمّ يأمرهم بقطع مادّة الفساد بعد أن ردّهم عزّ و جلّ إلى الضلال؛ جزاء بما كسبوا من السيئات، و من يضلل اللّه فما له من سبيل إلى الهدي، فلا يرجى منهم الخير.

التفسير
قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ .

إنكار على ما حصل من المؤمنين من التفرقة في أمر المنافقين إلى فرقتين مختلفتين، فرقة تتبرّأ من المنافقين و ترى قتالهم، و فرقة اخرى تتولاّهم و تشفع لهم و ترى ترك قتالهم، فلم يتّفقوا على كفرهم و قتالهم، و اختلفت الروايات في شأن نزول الآية الشريفة، و لا بأس بحملها على تعدّد النزول و بيان بعض المصاديق إن صحّت تلك الروايات.

و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على توبيخ المؤمنين على تفرّقهم و عدم اجتماعهم في قطع مادّة الفساد، و الإغماض عن شجرة الضلال بتركها حتّى تنمو و تقف عائقة في سبيل الدين الحقّ و نشر العدل.

كما أنّ الآية الشريفة ترشد المؤمنين إلى كيفيّة التعامل مع الفئات في داخل المجتمع، و تأمرهم بالاتّفاق و الاتّحاد و التعاون بينهم مقابل الفئة، فإمّا الحكم عليهم بالكفر و القتال معهم، أو نبذهم و الإعراض عنهم و عدم التعامل معهم.

ص: 122

قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا .

تأكيد للإنكار السابق و بيان السبب له، و الجملة حال من المنافقين، أي:

كيف تتفرّقون في شأنهم و الحال أنّ اللّه أركسهم و قد ارتدّوا إلى الكفر.

و مادّة (ركس) تدلّ على التحوّل و الانقلاب، أي: قلب الشيء على رأسه و ردّ أوّله إلى آخره، و هو تارة: ظاهري، كالردّ و القلب، كما في النكس الّذي يكون الركس أبلغ منه؛ لأنّ من يرمي منكسا في هوّة، قلّما يتخلّص منها.

و اخرى: معنوي، كالتحوّل من الحالة العاديّة و الفطرة المستقيمة إلى الحالة الرديئة، كما حكى عنها عزّ و جلّ في قوله تعالى: أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الملك، الآية: 22]، و هذا هو الانقلاب من الفطرة المستقيمة إلى غيرها و هو الركس، أي: التحوّل المعنوي و الانقلاب من الهدي و الصراط المستقيم الى الكفر و الضلالة، كما يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى رماهم منكّسين إلى الضلالة، و حوّلهم من الإيمان إلى الكفر؛ جزاء بما كسبوا من الخطايا و السيئات الّتي أفسدت فطرتهم، فارتدّوا إلى الكفر و أوغلوا في الضلال و بعدوا عن الحقّ ، فلا يرجى منهم الخير و الهداية، و مثل هذا التعبير لم يرد في غير المنافقين، و هو يكشف عن شدّة غيّهم و ضلالهم و غورهم في الكفر، و قد اهتمّ سبحانه و تعالى بالمنافقين و ذكرهم في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و أفرد لهم سورة خاصة، و بيّن جميع ما يتعلّق بهم و كشف عن نواياهم و سوء سرائرهم.

و إنّما نسب عزّ و جلّ الركس إلى نفسه اهتماما بهم، و لبيان أنّ الأعمال الاختياريّة الّتي ارتكبوها ما كانت لتؤثّر في نفوسهم إلاّ بإرادة منه عزّ و جلّ و لسلب التوفيق منهم.

ص: 123

قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ .

توبيخ آخر لهم و بيان للركس الوارد في صدر الآية المباركة و تعجيز لهم، أي: أنّ ذلك محال، فإنّ الّذي ردّ إلى الضلالة و الكفر ليس في استطاعتكم هدايته و تغيير سنة اللّه تعالى فيه، فلا تفيد شفاعتكم في هداية هؤلاء الّذين أضلّهم اللّه تعالى.

و توجيه الإنكار إلى الإرادة لبيان شدّته و المبالغة فيه، ببيان أنّ إرادة الهداية ممّا لا يمكن، فضلا عن إمكان نفسها.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً .

التفات من خطاب المؤمنين إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و فيه إشارة إلى أنّ من تشفّع من المؤمنين في حقّهم لا يدرك هذه الحقيقة، و إلاّ فلم يشفع لهم.

و هذه الآية الكريمة تبيّن حقيقة من الحقائق الواقعيّة الجارية في خلقه تعالى، و هي أنّ الّذي أخزاه اللّه تعالى بسبب سوء أعماله الاختياريّة فصار ضالا عن الحقّ ، لم يكن له سبيل إلى الهداية.

و إنّما نفى عزّ و جلّ وجود السبيل فضلا عن نفس الهداية مبالغة، و لانسداد الطرق بالنسبة إليه؛ لأنّه خرج عن الفطرة المستقيمة، فلا تؤثّر فيه أيّة حجّة و دليل، فليس له من سبيل آخر يؤثّر فيه و يرجعه إلى رشده ليهتدي إلى الصراط المستقيم.

قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً .

وصف لنفسياتهم الضالّة المضلّة، و بيان لتماديهم في الكفر و تصدّيهم لإضلال غيرهم بعد ما ضلّوا و كفروا كما حكى عنهم عزّ و جلّ في ما سبق، فتكون الآية المباركة بيانا لقوله تعالى: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ ، فهم يتمنّون أن يكون المؤمنون مثلهم في الكفر و النفاق على سواء، فلا أثر للهداية فيه؛ لأنّهم ليسوا من الكفّار الّذين يقتنعون بكفر أنفسهم فقط، بل ردّهم اللّه

ص: 124

تعالى و حوّلهم من الصراط المستقيم و الفطرة المستقيمة الّتي تدعو إلى تكميل النفوس و الثبات على الحقّ .

و هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ اللّه تعالى صرف الهداية عنهم؛ لأجل اختيارهم الكفر و اقترافهم السيئات.

قوله تعالى: فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ .

إرشاد إلى المؤمنين بالبراءة منهم، و عدم اتّخاذهم أولياء في الخلّة و الصداقة و إلقاء المودّة، بعد ما عرفتم نفسياتهم من الوداد للكفر و النفاق حتّى يؤمنوا إيمانا صحيحا بالهجرة في سبيل اللّه تعالى.

و المراد من الهجرة الأعمّ من ترك المعاصي و النفاق و نبذ الأهل و الأوطان؛ لأنّها على أقسام، أهمّها الهجرة عمّا يوجب سخط اللّه تعالى و الدخول في ما يرضيه، و هي هجرة الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام و الصالحين، ففي الحديث: «المهاجر من هجر ما نهى اللّه عنه»، و هي على مراتب متفاوتة و درجات مختلفة. و مثل هذه الهجرة واجبة بظاهر الآية الشريفة، و إن كانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان متوقّفة على تحقّق شروطها المذكورة في كتب الفقه.

و قد تضمّنت الآية المباركة أهمّ حكم تربوي إصلاحي يعالج به الفئات الضالّة في داخل المجتمع، فإنّ البراءة منهم و ترك اتّخاذهم أولياء، أو بالأحرى هجرة أهل الإيمان عن أهل النفاق، لها الأثر النفسي الكبير في إصلاح نفوسهم المريضة المضلّة، و ترويضها على قبول الحقّ ؛ و لذا كانت البراءة منهم مقدّمة على هجرة أهل النفاق، فإنّها بدون البراءة لا يكون لها ذلك الأثر الكبير في إصلاح النفوس، فلا بد و أن يكون الإرشاد و التوجيه على طبق ما ورد في الآية الشريفة؛ ليرجى منه الخير و الصلاح و الرشاد.

ص: 125

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

أمر بالقتال حيث تحقّق شروطه، و هي الإعراض عن الإيمان المصاحب بالهجرة المستقيمة الّتي تكشف عن رسوخ الإيمان في القلب، و نبذ النفاق و العداء للحقّ و أهله، و قد أمر اللّه تبارك و تعالى المؤمنين بقتلهم حيث ما وجدوهم في الحلّ و الحرم، كسائر الكفّار بعد نقض العهد منهم.

و الآية الكريمة تأمر المؤمنين أن يطلبوا منهم الهجرة و مراقبة أعمالهم، و تبيّن العلّة في قتالهم و العذر في جهادهم، و قد ذكر عزّ و جلّ بعض أحكام جهادهم في سورة التوبة كما سيأتي.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً .

حكم اجتماعي تربوي لإصلاح النفوس و تهذيبها بالأمر بمقاطعتهم مقاطعة كلّية، و المجانبة عنهم أبدا بعدم قبول الولاية و لا النصرة منهم، و بدأ بالنهي بلفظ المضارع الدالّ على الاستمرار، و تكرار أداة النفي الدالّ على التأكيد على أهميّة الحكم، و تشجيع الهمم عليهم.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ .

استثناء من الضمير في قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ ؛ لبيان أنّ القتال مع المنافقين إنّما كان لضرورة، فلا بد و أن تتقدّر بقدرها، و قد استثنى عزّ و جلّ طائفتين.

إحداهما: من ترك المحاربين و لحق بالمعاهدين مع المؤمنين. أي: إلاّ أولئك المنافقين الّذين ينتهون إلى قوم معاهدين مع المسلمين و يدخلون فيهم، و قد عاهدوكم على مفارقة المحاربة معكم.

و الصلة أعمّ من الجوار و الحلف و الالتجاء و العهد، ممّا كان متعارفا في ذلك العصر ممّا يستجار و يؤمن به.

ص: 126

الثانية: الّذين لحقوا بالمؤمنين و هم يتحرّجون عن مقاتلة قومهم و مقاتلة المؤمنين، كما سيأتي.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ الاستثناء يرجع إلى المؤمنين الّذين لم يهاجروا، فإنّ اللّه تعالى قد أوجب الهجرة على كلّ من أسلم، فاستثنى من كان له عذر، و هم الّذين قصدوا الرسول للهجرة و النصرة إلاّ أنّه منعهم الكفّار الّذين يخافونهم، فصاروا إلى قوم بينهم و بين المسلمين عهد و ميثاق، و أقاموا عندهم ينتهزون الفرصة لإمكان الهجرة.

و استثنى أيضا من صاروا إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين و لكن لا يقاتلون المسلمين و لا يقاتلون الكفّار معهم؛ لأنّهم أقاربهم أو تركوا عندهم الأهل و المال، فيخافون الفتك بهم إذا هم قاتلوا مع المسلمين.

و هذا الوجه بعيد عن ظاهر الآية المباركة كما هو معلوم؛ لأنّ الكلام مع المنافقين الّذين أركسهم اللّه تعالى، سواء كانوا في دار الكفر أو في دار الهجرة.

قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ .

هذه الفئة الثانية من المنافقين الّذين استثناهم عزّ و جلّ من القتل.

و الحصر (بفتحتين) هو الضيق و الانقباض، و حصرت الصدور أي: ضاقت، و الحصر في القول هو الضيق في الكلام - و منه الحصر بالفتح فالكسر - أي:

الكتوم للسرّ، و الجملة حال من الضمير المرفوع في «جاءوكم»، فلا بد من إضمار «قد»، أي جاءوكم و قد حصرت صدورهم، و قيل غير ذلك كما يأتي في البحث الأدبي.

و المعنى: إلاّ الّذين جاءوكم و لحقوا بكم كافّين عن القتال و قد ضاقت صدورهم عن قتالكم و قتال قومهم، و يمكن أن يراد بهؤلاء هم المتحرّجون عن القتال لا مع المؤمنين و لا عليهم، فنفاقهم إنّما يكون بالولاء.

ص: 127

و كيف كان، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور في صدر الآية الشريفة.

و المستفاد منها اهتمام الإسلام بالعهود و مراعاة المواثيق و مجانبة القتال مهما أمكن، إلاّ إذا دعت الضرورة إليه، فحينئذ تتقدّر الضرورات بقدرها، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ .

منّة على المؤمنين، أي: من رحمته بكم أنّه تبارك و تعالى صرف تلك الفئتين عنكم لأسباب عديدة، و لو شاء عزّ و جلّ لسلّطهم عليكم بوجوه، منها إزالة الرعب عنهم و تقوية عزيمتهم و بسط صدورهم لقتالكم فلم يكفّوا عنكم و لم ينصرفوا عن قتالكم، فإنّه على كلّ شيء قدير، فهو قادر على أن يسلّط من يشاء على من يشاء إذا اقتضت حكمته المتعالية ذلك.

قوله تعالى: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ .

أي: فإن لم يتعرّضوا لكم و لم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم و الصلح، بأن استسلموا و نبذوا العداء لكم.

قوله تعالى: فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً .

أي فما أذن اللّه لكم في الاعتداء عليهم و قتالهم، فإنّ اللّه تعالى لم يشرّع القتال إلاّ إذا اعتدي على المؤمنين. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا و قد تنحّى عنه و اعتزله حتّى نزلت سورة التوبة و أمر بقتل المشركين، اعتزلوه أو لم يعتزلوه، إلاّ من قد كان على عهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5].

قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ .

إخبار عن قوم لم يهتدوا بهدى الإسلام و لم يستقر الإيمان في قلوبهم، فقد

ص: 128

أسلموا رياء ليأمنوا بطش المؤمنين، و كفروا بالحقّ ليأمنوا قومهم، فهم مذبذبون لا يهمّهم إلاّ حفظ أنفسهم و سلامة أبدانهم، و قد أخبر عزّ و جلّ بأنّهم منافقون؛ ليحذر المؤمنون منهم فلا يوادعونهم كما لا يواعدونهم.

و مضمون الآية المباركة لا يختصّ بعصر النزول، فإنّ أهل الحقّ على ابتلاء بمثل هؤلاء الطائفة في كلّ عصر، و أنّهم يعانون من نفاقهم و عدم خضوعهم أمام الواقع و عدم إذعانهم بالحقّ و اتباعه.

قوله تعالى: كُلَّما رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها .

أي: كلّما سنحت لهم الفرصة إلى الفتنة - و هي الكفر و مساعدة الكفّار على المؤمنين - تحوّلوا إليها بسهولة شرّ تحوّل، و انتكسوا من العهد و الإيمان و عادوا إلى الكفر أقبح عود.

و الارتكاس هو: الانتكاس و القلب أقبح قلب و أشنعه. و هذا الوصف يكشف عن شدّة غيظهم و بعدهم عن الحقّ ، كما يكشف عنه الآية التالية أيضا.

قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ .

بيان لشروط قتال هذه الطائفة، و تبديل الكلام فيها من الإثبات إلى النفي، و اختلافه عمّا ذكره تعالى في الطائفة السابقة، قال تعالى: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ ؛ لإرشاد المؤمنين إلى خبث هذه الطائفة و أخذ الحيطة عن هؤلاء و تشديد الحذر منهم.

و الشروط الّتي ذكرها عزّ و جلّ لترك قتالهم، هي اعتزالهم عن المسلمين، و عدم التحريض على قتلهم، و استسلامهم بالمصالحة و الموادعة مع المسلمين، و الانقياد لهم و كفّ أيديهم عن قتال المسلمين، فإنّ بهذه الشروط يؤمن جانبهم فلا يخاف غدرهم و شرّهم، و إن لم يتحقّق شرط من هذه الشروط فقد تمّت الحجّة عليهم، فيحلّ عليكم قتالهم، كما أخبر عزّ و جلّ .

ص: 129

قوله تعالى: فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ .

جواب للشروط المزبورة، أي: فإن لم تتحقّق تلك الشروط و لم يفعلوا ذلك، فأسروهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم و تمكنتم منهم؛ لتمامية الحجّة عليهم.

قوله تعالى: وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً .

أي: جعلنا لكم على هذه الطائفة حجّة واضحة في التعرّض لهم بالسبي و القتل، لظهور عدوانهم و كفرهم و خبث سرائرهم و إصرارهم على الغدر و الإضرار بالإسلام و أهله، و يمكن أن يراد بالسلطان المبين هو التسلّط الظاهر عليهم، حيث أذن عزّ و جلّ في أخذهم و قتلهم، و يؤيّده تقابل هذه الآية الكريمة بقوله تعالى في الآية السابقة: فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً .

ص: 130

بحوث المقام
بحث أدبي

«ما» في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ استفهام إنكار و هو مبتدأ، و «لكم» خبره، و «فئتين» منصوب إمّا على أنّه حال من ضمير «لكم» المجرور، و العامل فيه إمّا الاستقرار أو الظرف. و إمّا منصوب على أنّه خبر (كان) مقدّرة، أي: ما لكم في شأنهم كنتم فئتين.

و أشكل على الوجهين بأمور ذكروها في كتب النحو فراجع.

و جملة: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا حال من المنافقين تفيد تأكيد الإنكار السابق، و الباء للسببيّة، و (ما) إمّا موصولة أو مصدريّة.

و «لو» في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا مصدريّة لا جواب لها، و الفاء في قوله تعالى: فَتَكُونُونَ سَواءً للعطف لا للجواب، كقوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [سورة القلم، الآية: 9]، فيكون من عطف المصدر المقدّر على الملفوظ.

و قوله تعالى: أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ عطف على صلة اَلَّذِينَ يَصِلُونَ ، و التقدير: (أو الّذين جاؤكم). و حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار (قد)، أو صفة لموصوف محذوف هو حال من فاعل «جاؤكم»، أي: جاؤكم قوم حصرت، أو في موضع خفض على النعت لقوم.

و اللام في فَلَقاتَلُوكُمْ لام المجازاة و الازدواج كما ذكره جمع، أو لام الجواب لعطفه على الجواب؛ و لا حاجة لتقدير (لو).

و «يكفوا» في قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ عطف على المنفي لا النفي، بقرينة سياق الآية المباركة، و سقوط النون

ص: 131

الّذي هو علامة الجزم لا يدلّ على كون العطف على النفي؛ لأنّ الجملة مبدوءة ب أن الشرطية، و هي جازمة مطلقا سواء كان العطف على النفي أو المنفي.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يستفاد من الآيات الكريمة حكم الإسلام مع الفرق المخالفة للمؤمنين، و تثبيت أركان القانون العامّ . و يؤكّد على الوفاء بالمواثيق، و يربّي المؤمنين على احترام العهود، و يأمرهم بالاتّحاد أمام الفرق المخالفة، و ينهاهم عن الاختلاف في شأنهم بعد اشتراكهم في الكفر، و يأمرهم بالرجوع إلى الحقّ و الدخول في صفوف المؤمنين و إلاّ كان القتل، كما يأمرهم بعدم اتّخاذهم أولياء و أنصارا إلاّ من كان بينكم و بينهم عهد و ميثاق فلا بدّ من احترامه و عدم نقضه، فإنّه يؤمن جانبهم ما داموا على العهد، أو من كان منهم من لا يريد القتل و يشمئز منه، فإنّه يؤمن أيضا ما دام معتزلا عنه.

ثمّ يبيّن عزّ و جلّ حكم الطائفة الاخرى الّتي تريد الغدر بالإسلام و أهله، و اختلف الحكم فيهم عن الحكم في الطائفة الأولى، فاعتبر في قتلهم أمور عدميّة بخلاف السابق، و هي عدم الاعتزال، و عدم إلقاء السلام، و عدم كفّ الأيدي؛ لاختلاف الموردين، فإنّ الأولى كانت عازمة على قتال المسلمين، و أمّا الثانية فقد كانت على غدر و خيانة و تريد القضاء على الإسلام. و من هنا جاء اختلاف السياق في الموردين.

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ أنّ اختلاف المؤمنين في شأن المنافقين إنّما كان لأجل حبّهم لهدايتهم و رجوعهم إلى الحقّ و التجنّب عن سفك الدماء لا خوفا و لا جبنا، أو الإعراض عن حكم اللّه

ص: 132

تعالى، بدليل قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ ، و مع ذلك فقد وقعوا موقع التوبيخ؛ لأنّه يرجع إلى تولّي أعداء اللّه تعالى.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا ، على أنّ الأعمال لها الشأن الكبير في النكوص عن الحقّ و الإعراض عن طاعة اللّه تعالى و الدخول في سلك أعدائه عزّ و جلّ و انسلاكه في زمرة المنافقين.

الرابع:

يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً أنّ جميع ما يعدّه الإنسان في هداية شخص و ما يبذله من جهد في إراءة الطريق، لا يجدي نفعا إذا لم تسبقه هداية من اللّه تعالى و توفيق منه عزّ و جلّ ، فهي كالعلّة المادّية لقبول الصور الواقعة عليها، الّتي تحصل من إيمان الفرد و جهده و عمله.

الخامس:

يستفاد من مجموع الآيات الشريفة في المقام أنّ المنافقين الّذين ورد ذكرهم فيها على فريقين: فريق دخلوا في الإسلام خوفا من الحسام، و قد أبطنوا الكفر، يتربّصون بالمسلمين الدوائر، يظهرون المودّة لهم إذا ظهر لهم قوّة، و إذا تبيّن ضعفهم انقلبوا عليهم و أظهروا العداوة و البغضاء، و فريق آخر يظهرون الولاء للمسلمين طمعا للمال أو المادّة، فهم يتبعونه أينما وجد، مذبذبون بين ذلك، لا إلى المسلمين و لا إلى الكفّار فيأمنوا الجانبين، تراهم يردّون إلى الفتنة شرّ تحوّل مرة بعد أخرى، و هناك فريق ثالث دخلوا في الإسلام و لم يهتدوا بهديه، تراهم ينكصون عن الطاعة و يتمرّدون على الشريعة، و لم يستسلموا لأحكام اللّه تعالى و رسوله، و فريق رابع لاحظوا الجوانب المادّية و البعد المادّي في الإسلام، و لكنّهم يعرضون عن الجانب المعنوي الروحاني فيه، فتراهم يعملون و يطيعون لأجل البعد المادّي، قد فقد فيهم الخلوص، و هم منافقون في الأعمال، بخلاف القسم الأوّل الّذي كان النفاق في الإيمان و الأعمال، و هذان الفريقان و إن لم يذكرا في هذه الآيات المباركة و لكن سبقت الإشارة إليهما في الآيات الكريمة السابقة، و سيأتي أقسام

ص: 133

أخرى نشير إليها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى، و يستفاد من مجموعها اختلاف أغراض المنافقين و تعدّد سبل كيدهم و غدرهم.

السادس:

تدلّ الآيات المباركة على شروط ترك القتال مع المنافقين، و هي مضافا إلى كونها شروطا لاعتزال القتال، هي في نفس الوقت أسس تربويّة لإصلاح النفوس المريضة، فلم تكن مجرّد شروط يفرضها الحاكم على المحكوم للنيل منه أو دحره و احتقاره، بل هي أحكام تربويّة إصلاحيّة، فتكون من موارد تطبيق نظرية الإسلام في تشريع الأحكام.

و هذه الشروط هي: الاعتزال عن القتال و تركه، و الصلح و الانقياد، و كفّ الأذى عن المؤمنين، و كلّ ما يوجب الإهانة بالإسلام و المسلمين، و هذه الشروط الثلاثة من أهمّ الطرق لإصلاح النفوس و ترويضها على الطاعة و الانقياد.

السابع:

يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ كناية عن ترك جميع ما يمسّ بكرامة الإسلام و المسلمين من الأذى و النبز و الإهانة و التعريض و جميع الدسائس، و بذلك يؤمن شرّهم و يترك القتال معهم بالصلح و الانقياد معهم تصلح نفوسهم.

بحث روائي:

في المجمع في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اَللّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً قال:

«اختلفوا فيمن نزلت هذه الآية، نزلت في قوم قدموا المدينة من مكّة فأظهروا للمسلمين الإسلام ثمّ رجعوا إلى مكّة؛ لأنّهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك ثمّ سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أنّ يغزوهم فاختلفوا، فقال بعضهم: لا نفعل فإنّهم مؤمنون، و قال آخرون: إنّهم مشركون، فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية، و هو المروي عن أبي جعفر عليه السّلام.

ص: 134

أقول: قريب منه ما رواه في الدرّ المنثور، و معنى: «استوخموا المدينة» استثقلوها و لم يوافق هواؤها أبدانهم لمرض، كالوباء أو غيره، و في الحديث: «من أضلّه اللّه و أعمى قلبه، استوخم الحقّ »، أي: استثقله و لم يقبله و صار الشيطان وليّه و قرينه.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و ذكر المصداق للآية المباركة.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: فَما لَكُمْ فِي اَلْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اَللّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا قال: «خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الناس فقال: من لي بمن يؤذيني و يجمع في بيته من يؤذيني ؟ فقام سعد بن معاذ فقال: إن كان منّا يا رسول اللّه قتلناه، و إن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا فأطعناك، فقام سعد بن عبادة فقال: ما بك يا ابن معاذ طاعة رسول اللّه، و لكن عرفت ما هو منك، فقام أسيد بن حضير فقال: إنّك يا ابن عبادة منافق تحبّ المنافقين، فقام محمد بن مسلمة فقال: اسكتوا أيّها الناس، فإنّ فينا رسول اللّه و هو يأمرنا فننفذ لأمره، فانزل اللّه تعالى الآية».

أقول: لعلّ وجه استنصاره صلّى اللّه عليه و آله بهم لامتحانهم بعد إتمام الحجّة عليهم، فبيّن اللّه تعالى ما كان في ضمائرهم و كشف عن حقيقتهم. و الرواية من باب التطبيق و الجري لا التخصيص و الحصر.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ - الآية -، أنّها نزلت في أشجع و بنى ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنّه لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى غزاة الحديبية أتى بدرا لموعد مرّ قريبا من بلادهم، و قد كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هادن بني ضمرة و وادعهم قبل ذلك، فقال أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

يا رسول اللّه، هذه بنو ضمرة قريبا منّا و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة، أو يعينوا علينا قريشا، فلو بدأنا بهم ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلا، إنّهم أبرّ العرب بالوالدين و أوصلهم للرحم و أوفاهم بالعهد.

ص: 135

و كانت أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة من بطن كنانة، و كان أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة، فصارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة، فلما بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مسيرهم إلى بني ضمرة تهيّأ للمسير إلى أشجع ليغروهم للموادعة الّتي بينه و بين بني ضمرة، فأنزل اللّه تعالى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اُقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً ، ثمّ استثنى بأشجع فقال: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ، و كانت أشجع محالها البيضاء و الحال و المستباح، و قد كانوا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فهابوا لقربهم من رسول اللّه أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهمّ بالمسير إليهم، فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع سنة ست من الهجرة، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتّى تنظر ما أقدم أشجع، فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم ؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلّم على أسيد و على أصحابه، فقالوا: جئنا لنوادع محمدا صلّى اللّه عليه و آله، فرجع أسيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم، ثمّ بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدّمها أمامه، ثمّ قال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة ثمّ أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم ؟ قالوا: قريب دارنا منك و ليس في قومنا أقل عددا منّا، فضقنا لحربك لقرب دارنا منك و ضقنا لحرب قومنا لقلّتنا فيهم، فجئنا لنوادعهم، فقبل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله منهم و وادعهم، فأقاموا يومهم ثمّ

ص: 136

رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ - إلى قوله تعالى - فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً .

أقول: الرواية من باب التطبيق لا التخصيص، و يستفاد منها أمور:

الأوّل: إنّما وداع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبيلة بني ضمرة و عاهدهم لما فيهم من الصفات الحسنة الّتي تقرّبهم إلى الفطرة السليمة و الإسلام، و لعلّ صلحه صلّى اللّه عليه و آله معهم صار سببا لإسلامهم فيما بعد.

الثاني: يستفاد من تقريره صلّى اللّه عليه و آله للموادعة و المعاهدة الّتي كانت بين بني ضمرة و أشجع، أن كلّ معاهدة تكون بين الرهطين و القبيلتين تجوز إن لم تناف مع الأحكام الشرعيّة. و المراد من «ليغروهم» في الرواية، أي: ليظهر صلّى اللّه عليه و آله عجبه و رضاه للموادعة الّتي بين أشجع و بين بني ضمرة.

الثالث: يستفاد منها أنّ إهداء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أحمال التمر لهم لأجل تأليف قلوبهم و ترغيبهم لمناصرة الحقّ ، أو لأجل أنّه صلّى اللّه عليه و آله علم أنّ القوم بحاجة إلى ذلك، فأرسل إليهم ليسدّ حاجتهم حتّى يعرفوا بذلك خلقه الكريم و معالم دينه الحنيف.

و في المجمع: المروي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «المراد بقوله تعالى: قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ هو هلال بن عويمر السلمي و أوثق عن قومه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قال في موادعته: على أن لا نحيف يا محمد من أتانا، و لا تحيف من أتاك. فنهى اللّه تعالى أن يتعرّض لأحد عهد إليهم».

أقول: المراد من الحيف الظلم و الجور، و في الحديث: «إنّا معاشر الأنبياء لا نشهد على الحيف»، أي: على الظلم و الجور، و الرواية من باب ذكر أحد المصاديق أو التطبيق.

و في الكافي بإسناده عن الفضل أبي العباس عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ قال:

«نزلت في بني مدلج؛ لأنّهم جاءوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّا قد حصرت

ص: 137

صدورنا أن نشهد أنّك لرسول اللّه، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت:

كيف صنع بهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ؟! قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب ثمّ يدعوهم فإن أجابوا و إلاّ قاتلهم».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و إن المعاهدة الّتي قرّرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كانت ماداميّة لمصلحة هي أهمّ من مقاتلتهم، كما مرّ في التفسير.

العياشي عن سيف بن عميرة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السلام عن قوله تعالى:

يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ قال: كان أبي عليه السّلام يقول: نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و لم يكونوا مع قومهم، قلت: فما صنع بهم ؟ قال: لم يقاتلهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله حتّى فرغ من عدوه ثمّ نبذ إليهم على سواء، قال: و حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ و هو الضيق».

أقول: الرواية من باب التطبيق كما مرّ، و المراد من قوله عليه السّلام: «ثمّ نبذ إليهم على سواء»، خالفهم و جاهر معهم الحرب.

البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ قال: نسختها براءة فَإِذَا اِنْسَلَخَ اَلْأَشْهُرُ اَلْحُرُمُ فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

أقول: إنّ الأمر بقتل المشركين بعد إتمام الحجّة عليهم، و إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لم يبتدأ بقتال أحد من المشركين إلاّ إذا اعتدى المشركون على المؤمنين و تمّت الحجّة عليهم، فليس المراد من النسخ معناه المصطلح، بل هو نوع من التخصيص كما مرّ.

و في تفسير القمّي عن الصادق عليه السّلام: «كانت السيرة من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل نزول سورة البراءة ألاّ يقاتل إلاّ من قاتله، و لا يحارب إلاّ من حاربه، و قد كان نزل في ذلك من اللّه سبحانه: فَإِنِ اِعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ اَلسَّلَمَ فَما جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ، و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لا يقاتل أحدا قد تنحّى عنه

ص: 138

و اعتزله حتّى نزلت عليه سورة براءة و أمر بقتل المشركين، من اعتزله و من لم يعتزله، إلاّ الّذين قد كان عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يوم فتح مكّة إلى مدّة».

أقول: الحديث طويل و يأتي بيانه في سورة براءة إن شاء اللّه تعالى، و المراد من قتل المشركين المعاندون الّذين تمت الحجّة عليهم، كما مرّ.

و في المجمع عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى اَلْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها قال: «نزلت في عيينة بن حصين الفزاري، أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الّذي سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الأحمق المطاع في قومه».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و المراد من بطن نخل، موضع بين مكّة و طائف.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ - الآية عن مجاهد قال: «ناس من أهل مكّة كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فيسلمون رياء ثمّ يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا و هاهنا، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا و يصالحوا».

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق.

ص: 139

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ د.......

اشارة

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) الآيات الشريفة تشتمل على أمهات الأحكام و تتضمّن أصلا مهمّا من أصول الشريعة الإسلاميّة، و هو احترام الدماء المصونة و حفظها، و به تتم الأصول الثلاثة الّتي عليها دين خاتم الأنبياء، و قد ذكر سبحانه و تعالى الأصلين الآخرين في الآيات السابقة، و هما احترام المال، و احترام العرض.

كما ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة حال المؤمنين بعد بيان حال الكفّار و المنافقين كذلك بين أحكام قتالهم، و بهذه المناسبة بيّن عزّ و جلّ حكم القتل خطأ و القتل عمدا في ما يقع بين المسلمين بعضهم مع بعض، كما ذكر حكم قتلهم لغيرهم، و شدّد جلّ شأنه في الدم و حرّم قتل المؤمن مطلقا و جعل عليه الكفّارة و الديّة، و لعن تعالى القاتل الّذي قتل أخاه المؤمن عمدا و عدوانا، و أعدّ له العذاب العظيم بعد ما غضب عليه.

ص: 140

التفسير
قوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً .

بيان لأهم حكم من الأحكام الإلهيّة في أبلغ أسلوب و أفصح عبارة، فإنّها تدلّ على نفي الشأن الّذي هو أبلغ من نفي الفعل، أي: لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان اقتضاء لقتل مؤمن أبدا، بل لا يليق بحاله، و لا ينبغي له قتل من تشرّف بالإيمان باللّه و رسوله مطلقا، أي قتل كان، و لو صدر منه في حالات خاصّة، كحالة الحرب و في ساحة القتال.

و مثل هذا النهي الدالّ على نفي الشأن و الاقتضاء كثير في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اَللّهِ [سورة الأحزاب، الآية: 53]، و قال تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اَللّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ اَلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 36]، و إنّما ذكر عزّ و جلّ المؤمن لبيان أنّ الإيمان جنّة واقية من كلّ ظلم و جريمة، و هو يمنع صاحبه من قتل أخيه المؤمن بعد أن دخل في حريم الإيمان و حماه.

و الآية الشريفة و إن كانت لنفي الشأن و الاقتضاء، لكنّها متضمّنة للحكم التكليفي، فتنهى عن القتل، فيكون النفي بمعنى النهي للمبالغة و شدّة التنزيه عن ارتكاب القتل، أي: يحرم على المؤمن قتل المؤمن إلاّ إذا كان القتل خطأ غير مقصود له بعنوانه، فلا حرمة هنا، فلا يستفاد من الآية الكريمة عدم استحقاق الحرمة في هذا النوع من القتل، فلا حاجة لجعل الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ خَطَأً منقطعا لدفع الاحتمال المزبور، بل الاستثناء على حقيقته، أي: الاستثناء المتّصل - كما عرفت - فتكون الآية المباركة دالّة على عدم وضع الحرمة في الفعل غير المقصود.

و يحتمل أن يكون الاستثناء بمعنى النفي، أي: و لا خطأ، كما استعمل فيه في

ص: 141

غير موضع، و يدلّ عليه بعض الأخبار، كما يؤيّده تشديد الأمر في القتل و شدّة الاحتياط في الدماء في الإسلام.

و الخطأ اسم من خطأ يخطأ خطأ، و هو الفعل الخالي عن القصد بعنوانه الفعلي، و يلحق به ما إذا كان فيه القصد إلى شيء زعما، و هو على خلاف الواقع، كما إذا زعم أنّ المقتول كافر جائز القتل، و هو في الواقع مؤمن محقون الدم، و غير ذلك كما ذكرنا في كتاب القصاص و الديّات من (مهذب الأحكام).

و الخطأ حسب التقسيم العقلي على أقسام:

الأوّل: أن يريد غير ما يحسن فعله و إرادته فيفعله، و هذا هو الخطأ التامّ .

الثاني: أن يريد ما يحسن فعله، و لكن يقع منه خلاف ما يريد، فأصاب في الإرادة و أخطأ في الفعل.

الثالث: أن يريد ما لا يحسن فعله و يتّفق منه خلافه، فهذا الخطأ في الإرادة و لمصيب في الفعل، و هذا هو معنى (أراد) في قوله:

أردت مساءتي فأجرت مسرّتي *** و قد يحسن الإنسان من حيث لا يدري

فهذه اللفظة مشتركة كما ترى، و الجامع أنّ من أراد شيئا فاتّفق منه غيره يقال: اخطأ. و إن وقع منه كما أراده يقال: أصاب.

قوله تعالى: وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .

التحرير الإعتاق، و هو جعل المملوك حرّا، و الرقبة و إن كانت بمعنى العنق، و لكن شاع استعمالها في النسمة و النفس، كما يعبّر بالرأس و الظهر عن المركوب، تعبيرا عن الكلّ باسم الجزء المقوّم له. و إنّما عبّر كذلك؛ لأنّ الرقيق يحني رقبته دائما لمولاه.

و المعنى: و من قتل مؤمنا على الخطأ، وجب عليه تحرير رقبة مؤمنة، و يأتي تفصيل الكلام في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

ص: 142

قوله تعالى: وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ .

واجب آخر مضافا إلى عتق الرقبة المؤمنة، أي: تسليم الديّة إلى أهل المقتول. و الديّة ما يعطى عوضا عن دم المجنيّ عليه، نفسا كان أو عضوا، و هي مصدر ودي القتيل يديه وديا و دية، كعدة وزنة من الوعد و الوزن.

و من إطلاق الديّة و عدم تقييدها بشيء يستفاد حكاية كلّ ما يرضى به أهل المقتول، و لكن السنّة الشريفة حدّدتها بأمور خاصّة، فهي من الذهب ألف، دينار و من الفضة عشرة آلاف درهم، و من الإبل مائة، و من البقر مائتان، و من الشاة ألف، و من الحلّة اليمانيّة مائتا حلة، و يعتبر في الإبل أن تكمل السنة الخامسة و تدخل في السادسة، و كذا في البقر. و أمّا الشاة، فلا يعتبر فيها شيء و يكفي المسمّى، كما فصّل في كتب الفقه.

و المسلّمة، أي: المدفوعة المؤدّاة إلى أهل المقتول، و هم أولياؤه و ورثته الجامعون للشرائط المقرّرة في الشرع.

قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا .

أي: إلاّ أن يتصدّق أولياء القتيل عليه بالديّة، و إنّما سمى العفو عن الديّة بالصدقة حثّا عليه، فلا تجب على القاتل الديّة حينئذ، و لما في الصدقة من الفضل و الأجر، فيكون في العفو كذلك، فإذا عفى يكون له الفضل على القاتل.

كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الديّة ممّا يقبل العفو، و أمّا الكفّارة فلا تسقط بحال إلاّ إذا عجز عنها، كما ذكر في الفقه.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .

أي: فإن كان المقتول خطأ مؤمنا و أهله من الكفّار المحاربين لكم، بأن قتله و هو بين قومه و لم يعلم القاتل بكونه مؤمنا، فلا دية فيه، تخصيصا لأدلّة الديّة، كما

ص: 143

ذكرنا في (مهذب الأحكام)، و لكن عليه الكفّارة، و هي تحرير رقبة و عتق نسمة مؤمنة كفّارة لقتله إيّاه.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَة.......

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ .

أي: و إن كان المؤمن المقتول من الكفّار الّذين بينكم و بينهم عهد، فعلى القاتل الديّة و الكفّارة. أمّا الديّة فتسلّم إلى أهله؛ لأنّهم أحقّ بها، و أمّا الكفّارة فهي عتق رقبة مؤمنة، فيكون حكم المعاهد حكم المؤمن، و إنّما أفرده بالذكر تأكيدا لمراعاة العهود و المواثيق، و أنّ كفرهم لا يمنع الديّة بخلاف غير المعاهد.

و إطلاق العهد يدلّ على كونه أعمّ من المؤقّت و المؤبّد، و سواء كان العهد عهد ذمّة أم غيره فيشمل كلّ عهد قرّره الشارع الأقدس.

و إنّما قدّم تعالى هنا الديّة على الكفّارة عكس السابقة، مراعاة لحقوق الذمّة و الميثاق.

قوله تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ .

الضمير يرجع إلى الرقبة؛ لأنّها أقرب، أي: فمن لم يستطع التحرير بأن لم يوجد الرقبة أو لا يملك ما يتوصّل به إليها، فعليه صيام شهرين متتابعين بدلا عنه، و إطلاق الشهر ينصرف إلى القمري منه.

و التتابع: معروف، و هو عدم الفصل بين الأيام بالفطر، و لكن فسّرت السنّة التتابع بأن يصوم الشهر الأوّل من غير فطر، و يصوم شيئا من الشهر الثاني و لو يوما واحدا، فإن تحقّق بعد ذلك ما يخلّ به التتابع فلا يضرّ به، و يأتي نقل بعض الروايات الدالّة على ذلك.

قوله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ .

أي: أنّ ما شرّعه اللّه تعالى من الكفّارة و الديّة في هذا الأمر الفظيع إنّما هو رحمة

ص: 144

من اللّه تعالى عليكم و رأفة بكم، فتطهر نفوسكم و تتزكى، فتأخذوا الحيطة لئلاّ تعودوا إلى القتل و لو كان خطأ.

و يحتمل أن يرجع هذا القيد إلى خصوص الأخير، أي: أن إيجاب الصوم بدلا عن عتق الرقبة إنّما هو توبة و عطف منه عزّ و جلّ عليكم، فكان تخفيفا من اللّه تعالى عليكم.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

أي: أنّ اللّه تعالى عليم بمصالح العباد و أحوال النفوس و حكيم في تشريع الأحكام، فهو جلّ شأنه يشرّع فيها ما يهديكم إلى الرشاد و ما تصلح به النفوس و ما يوجب سعادتكم في الدارين.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها .

بيان للقتل العمديّ المستفاد من الآية المباركة السابقة صدرا و مفهوما، من كونه ليس من شأن المؤمن أن يصدر منه هذا النوع من القتل.

و التعمد: هو القصد إلى الفعل بالعنوان الّذي له عن علم به، يقال: «فعله عمدا»، أي: قصدا لا خطاء و لا عن طريق الاشتباه، بل كان عن التفات و يقين.

و القتل: هو إزهاق الروح، و هو على قسمين - كما تقدّم - مقصود و هو العمد، و غير مقصود و هو القتل خطاء.

و إنّما كان جزاء القتل العمد عظيما لفظاعته، و لأنّه ينافي الإيمان.

قوله تعالى: وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ .

أي: أنّه مضافا إلى أن جزاءه جهنّم خالدا فيها، أنّه غضب عليه انتقاما منه للقاتل لشناعة فعله، و لعنه تعالى فأبعده عن رحمته.

قوله تعالى: وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً .

لا يعلم قدره و لا كنهه أحد إلاّ اللّه تعالى، و العذاب: هو كلّ ما شقّ على الإنسان و اشتدّ عليه، و هو تارة نفسي، كالمنع عن المراد مثلا، و ذلك على أنواع

ص: 145

كثيرة. و أخرى: خارجي، كالتعذيب بالأشياء الخارجيّة، و كلّ منهما دنيوي و أخروي.

و قد أغلظ سبحانه و تعالى في وعيد هذا الذنب العظيم بما لا يكون في غيره، و يستفاد منه تناسب الجزاء مع الفعل، فإنّه إزهاق لروح مؤمنة بريئة و تعطيل لها عن الكمال و الوصول إلى ما تبتغيه، فكان الجزاء عذاب جهنّم و قطعا للرحمة عنه، و غضبا منه عزّ و جلّ عليه.

و يستفاد من الآية المباركة عدم قبول توبته، و لكن ذكرنا في الآيات الشريفة السابقة لا سيما قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ * [سورة النساء، الآية: 48] و أمثالها بما تصلح أن تكون قيدا لهذه الآية، فيكون الوعيد حتما إن لم تكن توبة نصوح في البين من القاتل، و إلاّ فالتوبة مقبولة بمقتضى تلك الآيات الشريفة، أو يكون قتل المؤمن لأجل إيمانه، و سيأتي في البحث الروائي بعض الروايات الدالّة على ذلك.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا .

إرشاد إلى حكم فطري، و هو أخذ الحيطة في الأمور و التجنّب عمّا يوجب الندم، و بيان إلهي يهدي المؤمنين إلى التوقّف في من يريدون قتله إذا ظهرت عليه علامات الإيمان، من الشهادة و السلام الّذي هو علامة الاستيمان و تحيّة الإسلام، حتّى يتبيّن الأمر و يتّضح عدم إيمانه فيجب التحفّظ و عدم قتله، و لا يحملوا ما صدر منه على المخادعة، فإنّ الإسلام دين الأمان.

و الضرب: هنا بمعنى السير في الأرض و السفر، و سمّي الضرب سفرا؛ لأنّه يحصل بضرب الأرض بالأرجل، و عن عليّ عليه السّلام في غريب كلامه: «فإذا كان كذلك ضرب يعسوب الدين بذنبه، فيجتمعون إليه كما يجتمع فزع الخريف»، و تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادّة.

ص: 146

و التقييد بكونه في سبيل اللّه تعالى يفيد أنّه السفر إلى الجهاد و الخروج إلى الغزو في سبيل اللّه تعالى، أو مطلق العبادة و التقرّب إليه عزّ شأنه.

و التبيين: التأنّي و ترك العجلة، و هو التفعّل بمعنى الاستفعال الدالّ على الطلب، أي: التدبّر للتمييز بين المؤمن و غيره.

و حكم الآية الشريفة يوافق الفطرة الّتي تدعو إلى التأنّي و الروية و ترك العجله في مواطن الضرر، حتّى يتبيّن و يتّضح الأمر.

و المعنى: يا أيّها الّذين آمنوا إذا سافرتم إلى الجهاد و منازلة أعداء اللّه و قتالهم في سبيل اللّه تعالى، فتوقّفوا و تأنّوا حتّى تعلموا من يستحق القتل و من لا يستحقّه، فلا تقدموا على قتل أحد إلاّ إذا علمتم كونه حربا للّه و رسوله.

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً .

بيان لعلامة من علامات الإيمان، و هي التحيّة بإلقاء السلام و السلم (بكسر السين و فتح اللام) و السلم (بفتح السين) و السلام واحد، و قرئ بها كلّها، و معناها الاستسلام و الانقياد.

و كيف كان، فالمعنى: و لا تقولوا لمن أظهر لكم ما يدلّ على إسلامه: لست مؤمنا، و إنّما كان عن خوف من القتل و طمعا للبقاء.

قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

المراد بعرض الحياة الدنيا في المقام الغنيمة و المال، أي: تقتلونه و تطلبون من قتله الغنيمة و المال.

و التعبير بالعرض لبيان كونه سريع الزوال، و يستفاد منه أنّ تلك هي العلّة في التعجيل في قتله، فلم يكن الغرض من القتال سبيل اللّه تعالى و إقامة دينه.

قوله تعالى: فَعِنْدَ اَللّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ .

تعليل للنهي، و يتضمّن الوعد أيضا بما هو أكثر و أبقى و أدوم.

و المغانم: جمع المغنم، و المراد من الكثيرة الدائمة و الباقية، فهي أفضل من

ص: 147

مغانم الدنيا الزائلة، فلا بد أن يكون مورد اختياركم، بل هي الّتي تستحقّ الإيثار دون غنيمة الدنيا الزائلة.

قوله تعالى: كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اَللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا .

أي: على هذا الوصف كنتم من ضعف الإيمان و ابتغاء عرض الحياة الدنيا قبل الإسلام و دخلتم فيه من غير أن تعلم مواطاة قلوبكم مع ألسنتكم، و قبل أن يثبت الإيمان في قلوبكم، فقد منّ اللّه عليكم بإعلان الإيمان و ثباته الصارف عن ابتغاء عرض الحياة الدنيا حتّى طلبتم ما عند اللّه من المغانم الكثيرة، فيجب عليكم أن تتبيّنوا و لا تتعجّلوا في الحكم، و افعلوا مع الداخلين في الإسلام ما فعله اللّه بكم.

و في تكرار الأمر بالتبيين لما فيه من الأهميّة و للتأكيد في الحكم.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

توعيد على المخالفة، أي: أنّ اللّه لا يخفى عليه شيء، فيعلم جميع نواياكم و كلّ ما تعملونه فيجازيكم عليها.

ص: 148

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور: -

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً على أنّ الإيمان جنّة واقية يحفظ بها دماء المؤمنين، و يستفاد من نفي الاقتضاء المستفاد من (ما) النافية المتضمّن للنهي التكليفي أيضا، أنّه لا يوجد في المؤمن بعد دخوله في حريم الإيمان و بعد أن حماه الإيمان اقتضاء للقتل أبدا، و أنّ المؤمن لا يقصد قتل مؤمن أصلا، فإذا تحقّق منه شيء من ذلك لكان قتلا خطأ؛ لعدم وجود قصد إليه، و يستفاد هذا من تكرار لفظ المؤمن أيضا.

الثاني:

يستفاد من تفصيل الحكم في قتل الخطأ - بين قتل المؤمن و هو من المؤمنين، فتكون فيه الديّة و الكفّارة، و قتله و هو بين الأعداء، فإنّ فيه الكفّارة فقط، و قتله و هو بين العاهدين ففيه الديّة و الكفّارة معا - أهميّة هذا الحكم، فإنّه لم يذكر في مورد الخطأ في الشريعة المقدّسة تفصيل بهذا المضمون، مع أنّ الحكم موضوع عن الفعل الخطأ، كما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «رفع عن أمّتي تسع - و عدّ منها - الخطأ و النسيان»، فيستفاد من ثبوت الحكم في مورد الخطأ في المقام و تفصيل الحكم فيه أهميّة الدماء في الإسلام، و أنّه لا يجوز إراقة الدماء المحترمة إلاّ إذا ورد من قبل الشارع الأقدس الإذن فيها صريحا.

الثالث:

يستفاد من ثبوت الديّة و الكفّارة في قتل المؤمن خطأ و هو بين قومه من الكفّار المعاهدين، أهميّة العهد و الميثاق، فلا بد أن يحفظ و لا يجوز نقضه.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ على أنّه لا بدّ من رفع ما يوجب التنازع و الخصام في هذا الموضوع القابل للجدال، بأن تكون الديّة حاضرة

ص: 149

مسلّمة إلى أهل المقتول بلا تأخير فيها؛ قطعا للنزاع و الخصام، إلاّ إذا اتّفق الطرفان على التأخير.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: إِلاّ أَنْ يَصَّدَّقُوا أنّ العفو من الديّة في هذه الحالة الّتي تثور فيها الضغائن و يشتدّ فيها الغضب، من الصدقة الّتي أمر اللّه تعالى بها في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و أنّ فيها الفضل الكبير عند اللّه تعالى.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً شدّة الحكم في القتل العمدي بما لم يكن في أي حرام آخر، فقد أوعد عزّ و جلّ على القاتل كذلك أربعة أنواع من العذاب، الخلود في جهنّم، و غضب اللّه تعالى عليه، و اللعن، و العذاب العظيم، كلّ ذلك لأهمّيّة الدماء في الإسلام و احترامها عند اللّه تعالى، و أنّ إزهاق الروح المحترمة في الشريعة كبيرة موبقة لا يعادلها شيء أبدا، و أنّ كلّ نفس في مقابل الدم المحترم قليل بالنسبة إليه، و لعلّ ما ورد عن الأئمة الهداة المعصومين عليهم السلام: «التقيّة في كلّ شيء فإذا بلغت الدم فلا تقيّة»، ناظر إلى ذلك.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً أهميّة السلام في الإسلام، فإنّه تحيّة تحقن الدم و تحفظ الذمام.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا أنّه ينبغي للمؤمن أن يكون غرضه من جهاده و كفاحه سبيل اللّه تعالى لا الدنيا الفانية الزائلة، فإنّ عند اللّه تعالى المغانم الكثيرة الدائمة الباقية.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ بعد سرد جملة من الأحكام الشرعيّة و الكفّارة و بدل الكفّارة - و هو صيام شهرين متتابعين - أنّ تلك الأحكام توبة من اللّه تعالى للمجتمع و عناية بهم و رحمة لهم، فإنّ جعل الكفّارة في القتل الخطأ توبة و عناية من اللّه تعالى للقاتل فيما لحقه من آثار القتل و درنه؛ ليكون سببا

ص: 150

في تحفّظه، فلا يعود إليه ثانيا، كما أن تحرير الرقبة الّتي هي عبء ثقيل على المجتمع، فإنّ المملوك عضو ميّت و إن كان بصورة الأحياء؛ لأنّه ليس له كمال الاختيار بالتصرّف بما شاء، فيكون تحريره بمنزلة إحيائه بدل ما فقدوا منهم واحد، كما أنّ صيام شهرين متتابعين بدل عتق الرقبة؛ لأنّ له الأهميّة الكبيرة في ترويض النفس و إرغامها على قبول الفضائل و ترك الرذائل، فهو من الأمور التربويّة الإصلاحيّة.

العاشر:

يشتمل قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً على العظة و التوبيخ، و لا يدلّ على كون القتل في هذه الآية المباركة من القتل العمد، فإنّ الظاهر أنّ القاتل زعم كون المقتول كافرا و أراد خلاص نفسه بإلقاء السلام، فلم يثق بكونه مؤمنا، فتكون الآية الشريفة ردّا عليه، و توبّخه بأنّ المدار في الإسلام على الظاهر. و أمّا الباطن و الحقيقة، فلا يعلمهما إلاّ اللّه تعالى.

و بناء على هذا، يكون قوله تعالى: تَبْتَغُونَ عَرَضَ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا نازلا على مقتضى الحال، أي: حالكم في قتل من يظهر الإسلام من دون اعتناء بشأنه حال المؤمن الّذي يجاهد في سبيل الغنيمة و جمع المال، فلا يكون قصده سبيل اللّه تعالى، فإنّ من سبيل اللّه هو الاعتناء بأحوال المؤمنين و الأخذ بظاهر الإسلام، لا ما كان عليه حال المؤمنين قبل الإسلام، فإنّه لم يكن قصدهم إلاّ ابتغاء عرض الحياة الدنيا إلى أن من اللّه تعالى عليهم بالإيمان و هداهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

ثمّ إنّ المراد من سبيل اللّه الأعمّ من السير في الأرض - كما هو الظاهر من الآية المباركة - أو السير و السلوك إلى اللّه تعالى في طلب المعرفة و الهداية إلى الحقّ و الإيمان به، فيكون للسير و الضرب حينئذ الدرجات بالارتقاء بأن يصير الإيمان به إيقانا، و الإيقان عيانا، و العيان غيبا، و صار الغيب شهادة و الشهادة شهودا و الشهود شاهدا و الشاهد مشهودا، و بهما أقسم اللّه تعالى: وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ [سورة البروج، الآية: 3]، و هذا مقام لا يناله إلاّ الأولياء و الأخصّ من الخواص،

ص: 151

فيكون المراد من التبيّن التثبيت و المراد من السلام الاستسلام و العطف، أي: و لا تنفّروا أحدا منكم و قولوا له كما أمر اللّه تعالى موسى و هارون: فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً [سورة طه، الآية: 44]، و هذا المقام يستحقّ المنّ منه تعالى، كما دلّت الآية المباركة.

الحادي عشر:

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ أنّ إلقاء السلام و اعتزال القتال يكون إيذانا بعدم الحرب، و هو كاف في عدم قتله، كما علم من الآيات الكريمة السابقة من النهي عن قتل الّذين يعتزلون القتال و يكفّون أيديهم عنه.

و بعبارة اخرى: أنّ ذلك يكون كافيا في عدم انطباق عنوان الحربي عليه، فلا موجب لقتله، و يدلّ على ما ذكرنا عموم قوله تعالى: وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اَللّهِ إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْعَلِيمُ [سورة الأنفال، الآية: 61].

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً : «لا عمدا و لا خطأ، و إلاّ في معنى لا، و ليست باستثناء».

أقول: تكون الآية الشريفة نظير قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة البقرة، الآية: 150]، أي: و لا الّذين ظلموا منهم، فيكون التشريك في اللفظ و المعنى.

و في المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «نزلت في عياش ابن أبي ربيعة المخزومي أخي أبي جهل لأمّه، كان أسلم و قتل بعد إسلامه رجلا مسلما و هو يعلم بإسلامه، و كان المقتول الحارث بن يزيد أبو بنيشة العامري، قتله بالحرّة».

أقول: ذكروا في سبب نزول الآية المباركة أسبابا متعدّدة و جميع ذلك من

ص: 152

التطبيق و الجري، لا التعدد الواقعي؛ لأنّ الآية الكريمة بمنزلة قاعدة عامّة لا تختصّ بمورد خاصّ و لا بعصر معين.

و في الدرّ المنثور عن ابن جرير عن ابن زيد قال: «نزلت في رجل قتله أبو الدرداء، كانوا في سرية فعدل أبو الدرداء إلى شعب يريد حاجة له فوجد رجلا من القوم في غنم له فحمل عليه السيف، فقال: لا إله إلاّ اللّه، فضربه ثمّ جاء بغنمه إلى القوم، ثمّ وجد في نفسه شيئا فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فذكر ذلك له، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ألا شققت عن قلبه ؟! فقال: ما عسيت أجد، هل هو يا رسول اللّه إلاّ دم و ماء؟! فقال: قد أخبرك بلسانه فلم تصدّقه ؟! قال: كيف بي يا رسول اللّه ؟ قال: كيف بلا إله إلاّ اللّه! قال: فكيف بي يا رسول اللّه ؟ قال: كيف بلا إله إلا اللّه ؟! حتّى تمنّيت أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: و نزل القرآن: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً .

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على وجه ينطبق مع الخطأ، و إلاّ فظاهرها أنّ الرجل قصد القتل بعد إعلان الشهادة.

و كيف كان، فعلى فرض صحّة الرواية فهي من باب التطبيق.

و في أسباب النزول للواحدي نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة، فقال:

«إنّه أسلم و خاف أن يظهر إسلامه فخرج هاربا إلى المدينة، فقدمها ثمّ أتى أطما من آطامها، فتحصّن فيه، فجزعت أمّه جزعا شديدا، و قالت: لا بنيها أبي جهل و الحارث بن هشام - و هما أخواه لأمّه -: و اللّه لا يظلّني سقف بيت، و لا أذوق طعاما و لا شرابا، حتّى تأتوني به، فخرجا في طلبه و خرج معهم الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتّى أتوا المدينة، فأتوا عياشا في الاطم فقالا له: أنزل فإنّ أمّك لم يؤوها سقف بيت بعدك، و قد حلفت أن لا تأكل طعاما و لا شرابا حتّى ترجع إليها، و لك اللّه علينا أن لا نكرهك على شيء و لا نحول بينك و بين دينك، فلما ذكرا له جزع أمّه و أوثقا له نزل إليهم، فأخرجوه من المدينة و أوثقوه بنسع، و جلده كلّ

ص: 153

واحد منهم مائة جلدة، ثمّ قدموا به على أمّه. فقالت: و اللّه، لا أحلك من وثاقك حتّى تكفر بالذي آمنت به، ثمّ تركوه موثقا في النفس و أعطاهم بعض الّذي أرادوا، فأتاه الحارث بن زيد و قال: يا عياش، و اللّه إن كان الّذي كنت عليه هدى لقد تركت الهدى، و إن كان ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته و قال:

و اللّه، لا ألقاك خاليا إلاّ قتلتك، ثمّ إنّ عياشا أسلم بعد ذلك و هاجر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالمدينة، ثمّ إنّ الحارث بن زيد أسلم و هاجر بعد ذلك إلى رسول اللّه بالمدينة و ليس عياش يومئذ حاضرا و لم يشعر بإسلامه، فبينا هو يسير بظهر قباء إذ لقى الحارث بن زيد، فلما رآه حمل عليه فقتله، فقال الناس: أي شيء صنعت ؟! إنّه قد أسلم، فرجع عياش الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه كان من أمري و أمر الحارث ما قد علمت، و إنّي لم أشعر بإسلامه حين قتلته، فنزل عليه جبرئيل عليه السّلام بقوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً .

أقول: الاطم (بالضم) بناء مرتفع، و في الحديث: «إنّ بلال كان يؤذّن على أطم»، و آطام المدينة أبنيتها المرتفعة كالحصون و الجبال. و الظاهر أنّ عياشا لم يسلم مرّتين، و ما أعطاهم من كفره لم يكن عن عقيدة و إنّما كان لدفع الظلم عن نفسه، و ذلك لا يضرّ بإسلامه الّذي كان عن عقيدة.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق كما مرّ.

و في التهذيب بإسناده عن الحسين بن سعيد عن رجاله عن الصادق عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: كلّ العتق يجوز له المولود إلاّ في كفّارة القتل، فإنّ اللّه تعالى يقول: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ، يعني بذلك مقرة قد بلغت الحنث».

أقول: المراد من الرواية الرقبة الّتي ولدت من غير مسلم، فلا بد فيها من البلوغ و الإيمان حتّى يطلق عليها «مؤمنة»، فلا يجزى الصبي، و أمّا الرقبة المولودة بين المؤمنين أو بين مؤمن و كافر، فلا خلاف أنّه يحكم بالإيمان و إن كان صبيا، و على ذلك يحمل قول العبد الصالح عليه السّلام: «تعرف المؤمنة على الفطرة»، فلا تنافي بين

ص: 154

الروايتين. و يدلّ على ما ذكرناه ما عن ابن عباس: «يعني بالمؤمنة من قد عقل الإيمان و صام و صلّى، و كلّ رقبة في القرآن لم تسم مؤمنة، فإنّه يجوز المولود فما فوقه ممّن ليس به زمانه».

و في سنن البيهقي: «أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بجارية سوداء. فقال: يا رسول اللّه، إنّ عليّ عتق رقبة مؤمنة. فقال لها: أين اللّه ؟ فأشارت إلى السماء بإصبعها. فقال لها:

من أنا؟ فأشارت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الى السماء، أي: أنت رسول اللّه. فقال: أعتقها، فإنّها مؤمنة».

أقول: هذا القدر يكفي في الحكم بالإسلام، فإنّ المناط إظهار الشهادتين بما هو مقدور، بل أنّ الكافر إذا عرض عليه الإسلام و اقتصر على قوله: «اني مسلم» و كان جامعا للشرائط، يؤخذ بإقراره ما لم تكن قرينة مانعة، أو يدلّ دليل على الخلاف.

و في الكافي بإسناده عن الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام: «العمد كلّ ما اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو بحجر أو بعصى أو بوكزة، فهذا كلّه عمد. و الخطأ من اعتمد شيئا و أصاب غيره».

أقول: ذكرنا في (مهذب الأحكام) الفرق بين العمد و الخطأ و شبه العمد، و أنّ الرواية موافقة للقاعدة. كما تقدّم فيه مقدار الديّة و أصنافها، فلا وجه لسرد الروايات الواردة في المقام هنا.

و في التهذيب بإسناده عن الصادق عليه السّلام: «في رجل مسلم كان في أرض الشرك فقتله المسلمون، ثمّ علم به الإمام بعده، فقال: يعتق مكانه رقبة مؤمنة، فذلك قول اللّه عزّ و جلّ : فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ ».

أقول: لا بدّ من تقييد الرواية بأنّ قاتله لم يعلم بكونه مسلما، و هي تعطي

ص: 155

للإنسان أهميّة و تغلّب جانب الحرية بإعطاء الإنسان قيمته و حياته بدلا عن الضرر الواقع في حياة الأفراد.

في الكافي بإسناده عن محمد بن سليمان عن أبيه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

ما تقول في الرجل يصوم شعبان و شهر رمضان ؟ قال: هما الشهران اللذان قال اللّه تبارك و تعالى: شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اَللّهِ ، قلت: فلا يفصل بينهما؟ قال: إذا أفطر من الليل فهو فصل، و إنّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لا وصال في صيام، يعني لا يصوم الرجل يومين متواليين من غير إفطار، و قد يستحبّ للعبد السحور».

أقول: تمسّك الإمام عليه السّلام بالآية الشريفة؛ لبيان أنّ شهري شعبان و رمضان متتابعان، و هما من أفضل الشهور و فضّل الصيام فيهما، و ليس في مقام تحديد كفّارة القتل.

و في الكافي بإسناده عن الصادق عليه السّلام: «إن كان على رجل صيام شهرين متتابعين فأفطر أو مرض في الشهر الأوّل، فإنّ عليه أنّ يعيد الصيام، و إن صام الشهر الأوّل و صام من الشهر الثاني شيئا ثمّ عرض له ما له عذر، فعليه أن يقضي».

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على الإفطار العمدي و المرض الّذي لا يضرّه الصوم، فحينئذ لا بدّ من الاستيناف، و أمّا لو كان الإفطار - في الصوم الّذي يشترط فيه التتابع - لعذر من الأعذار - كالحيض و النفاس و المرض الّذي لا يضرّه الصوم و السفر الاضطراري دون الاختياري - لم يجب استينافه، بل يبني على ما مضى؛ لقاعدة فقهيّة، و هي: «ليس على ما غلب اللّه عزّ و جلّ على العبد شيء»؛ و لنصوص كثيرة ذكرناها في المجلد العاشر من (مهذب الأحكام).

نعم، لو أفطر في أثنائه لا لعذر وجب الاستيناف. و يكفي في حصول التتابع فيهما صوم الشهر الأوّل و يوم من الشهر الثاني، كما ذكرنا في كتاب الصوم.

ص: 156

و في الكافي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا يزال المؤمن في فسحة من دينه ما لم يصب دما حراما، و قال: لا يوفق قاتل المؤمن متعمّدا التوبة».

أقول: الفسحة بالضمّ بمعنى السعة أو عدم الضيق، و المراد من الحديث: لا يزال المؤمن في سعة من دينه يرجى له الرحمة و يوفّق للخيرات و لو باشر الكبائر ما لم يتعمّد قتل مؤمن، فإذا قتل بعد عن رحمته و لم يوفّق للخيرات، و هو في مقام التغليظ الشديد للقتل، و ذيل الحديث محمول على الغالب و الأكثر.

و في الكافي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام قال: «قاتل المؤمن متعمّدا له توبة ؟ قال: إن كان قتله لإيمانه فلا توبة له، و إن كان قتله لغضب أو لسبب شيء من أمر الدنيا، فإنّ توبته أن يقاد منه. و إن لم يكن علم به أحد انطلق الى أولياء المقتول فأقرّ عندهم بقتل صاحبهم، فإن عفوا عنه فلم يقتلوه أعطاهم الديّة و أعتق نسمة و صام شهرين متتابعين و أطعم ستين مسكينا، توبة إلى اللّه».

أقول: صدر الرواية محمول على ما إذا قتل المؤمن لأجل دينه و إيمانه و لم يندم و لم يؤد الديّة لأولياء المقتول مع رضائهم بها، و إلاّ فتقبل توبته بعد تحقّق شرائطها، كما تقدّم في بحث التوبة فراجع.

و عن علي بن جعفر عن أخيه عليهما السّلام قال: «سألته عن رجل قتل مملوكه ؟ قال: عليه عتق رقبة و صوم شهرين متتابعين و إطعام ستين مسكينا، ثمّ يكون التوبة بعد ذلك».

أقول: لا فرق في الكفّارة في القتل بين كون المقتول حرّا أو عبدا، صغيرا أو كبيرا، كما ذكر في كتابنا (مهذب الأحكام).

و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ قال: «جزاؤه جهنّم إن جازاه».

أقول: معنى ذيل الحديث إن شاء عذّبه، و إن شاء عفى عنه.

و أخرج البيهقي عن شهر بن حوشب: «انّ أعرابيا أتى أبا ذر فقال: إنّه قتل

ص: 157

حاج بيت اللّه ظلما، فهل له من مخرج ؟ فقال له أبو ذر: و يحك! أحي والدك ؟ قال:

لا، قال: فأحدهما، قال: لا، قال: لو كان حيين أو أحدهما لرجوت ذلك لك، و ما أجد لك مخرجا إلاّ في إحدى ثلاث، قال: ما هن ؟ قال: هل تستطيع أن تحييه كما قتلته ؟ قال: لا و اللّه! قال: فهل تستطيع أن لا تموت ؟ قال: لا و اللّه ما من الموت بد، فما الثالثة ؟ قال: هل تستطيع أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء؟ فقام الرجل و له صراخ، فلقيه أبو هريرة فسأله فقال: ويحك حيّان والداك ؟ قال: لا، قال: لو كانا حيين أو أحدهما لرجوت لك، و لكن اغز في سبيل اللّه و تعرّض للشهادة فعسى».

أقول: يستفاد من هذه القضية مقدار شأن الوالدين عنده تعالى - كما ذكره أبو ذر - و تشديد القتل بغير الحقّ ، و لا بد من حملها على عدم تحقّق التوبة مع شرائطها و أداء الديّة، و إلاّ فيسقط عنه الذنب إذا ندم و أدّى ما عليه من الحقوق، كما تقدّم.

و في المجمع في قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اَللّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً . قال: «نزلت في مقيس بن صبابة الكناني وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجار فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأرسل معه قيس بن هلال الفهري، و قال له: قل لبني النجار: إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته، فبلّغ الفهري الرسالة فأعطوه الديّة، فلما انصرف و معه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا، أخذت دية أخيك فيكون سبّة (عار) عليك، اقتل الّذي معك لتكون نفس بنفس، و الديّة فضل، فرماه بصخرة فقتله و ركب بعيرا و رجع إلى مكّة كافرا، و انشد يقول:

قتلت به فهرا و حمّلت عقله *** سراة بني النجار أرباب قارع

فأدركت ثأري و اضطجعت موسد و كنت إلى الأوثان أوّل راجع

ص: 158

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: لا اؤمنه في حلّ و لا حرم، فقتل يوم الفتح».

أقول: رواه في الدرّ المنثور و غيره من المفسّرين عن ابن عباس و سعيد بن جبير و غيرهما. و العقل الديّة. و السراة جمع السرى الأشراف و الأكابر من القوم، و قارع علم لحصن. و الرواية و إن لم تستند إلى معصوم و لكنّها من باب التطبيق.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ اَلسَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً أنّها: «نزلت لما رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من غزوة خيبر و بعث أسامة بن زيد في خيل إلى بعض قرى اليهود في ناحية فدك ليدعوهم إلى الإسلام، كان رجل يقال له مرداس بن نهبك الفدكي في بعض القرى، فلما أحسّ بخيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع أهله و ماله في ناحية الجبل فأقبل يقول: أشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، فمرّ به أسامة بن زيد فطعنه فقتله، فلما رجع إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أخبره بذلك، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

قتلت رجلا شهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي رسول اللّه ؟! فقال: يا رسول اللّه إنّما قالها تعوّذا من القتل. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: هلا كشفت الغطاء عن قلبه، و لا ما قال بلسانه قبلت، و لا ما كان في نفسه علمت، فحلف أسامة بعد ذلك أن لا يقتل أحدا شهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، فتخلّف عن أمير المؤمنين عليه السّلام في حروبه، فأنزل في ذلك الآية».

أقول: روي قريبا من هذا المعنى المحدّثون من المفسّرين، و إن اختلفوا في استناد القصة، فأسندوها تارة لمقداد بن سويد كما ذكره السيوطي في الدرّ المنثور.

و أخرى لمحلم بن جثامة كما عن البيهقي. و ثالثة لمرداس و غيرهم.

و كيف كان، فإنّ جميعها من باب التطبيق لا التخصيص؛ لما تقدّم في التفسير من أنّ الحكم المذكور فيها أمر عقلي، و أنّ للدماء صيانة عقليّة فطريّة، إلاّ ما أهدرها الشارع الّذي هو خالق العقل و جاعل الفطرة.

ثمّ إنّ هناك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور: «انّ القاتل المذكور

ص: 159

مات فدفنوه فلم تقبله الأرض و أصبح على وجهها ثلاث مرّات، فلما رأوا ذلك استحيوا و خزوا ممّا لقي، فحملوه و اتقوه في شعب من تلك الشعاب».

أقول: تلقي أمثال هذه الروايات بالقبول مشكل جدا، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه للعبرة و العظة، و إلاّ فإنّ الأرض تستر من هو شرّ منه و أخبث، و اللّه العالم بحقائق الأشياء.

بحث فقهي:

يستفاد من الآيات المباركة الأحكام التالية:

الأوّل: أنّ القتل ينقسم إلى أقسام: فتارة القتل العمدي، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ ، و حكمه القود كما يستفاد من سياق الآية المباركة و من قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 179]. و يتحقّق العمد بقصد القتل بما يقتل غالبا، كما تدلّ عليه جملة من الأخبار.

و اخرى: القتل الخطائي، و هو الخالي عن القصد إلى القتل، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً ، و حكمه ثبوت الديّة على العاقلة و الكفّارة، ففي صحيح الحلبي عن الصادق عليه السّلام: «انّ العمد كلّ من اعتمد شيئا فأصابه بحديدة أو حجر أو بعصا أو بوكزة، فهذا كلّه عمد. و الخطأ من اعتمد شيئا فأصاب غيره»، و غيره من الروايات، كما ذكرنا في الفقه.

و ثالثة: الخطأ الشبيه بالعمد، و هو أن يقصد الفعل دون القتل، و تدلّ عليه جملة من الأخبار، منها رواية العلاء بن الفضيل عن الصادق عليه السّلام قال: «الخطأ الّذي يشبه العمد الّذي يضرب بالحجر أو بالعصا الضربة أو الضربتين، لا يريد قتله»، و حكمه الديّة، و يدخل في هذا القسم علاج الأطباء المرضى فيتّفق الموت.

ص: 160

ثمّ إنّه يلحق بالخطإ المحض من ألقى الشارع قصده كفعل الصبي أو المجنون، و كذا يكون منه ما يصدر من النائم كالضرّة إذا انقلبت على غيرها فمات، على تفصيل مذكور في كتب الفقه.

الثاني: مقتضى الآيات الشريفة أنّه لا يجوز في الموارد الّتي ثبتت الديّة القصاص، و كذا العكس إلاّ إذا رضي الطرفان بذلك، فيشمله الأصل و الإطلاق و العموم.

نعم، لو لم يمكن القصاص في مورد، تثبت الديّة لا محالة؛ لقاعدة: «عدم ذهاب الجناية هدرا في الشرع».

الثالث: صريح قوله تعالى: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ اعتبار الإيمان في الرقبة، و المراد بالإيمان مطلق الإسلام، أي الإقرار بالشهادتين، فلا يشترط الإيمان بالمعنى الخاص و يكفي الطفل المتولّد من المسلم؛ للإطلاق، كما تقدّم في الفقه.

الرابع: لزوم الكفّارة و الديّة في قتل الخطأ، و أنّ الكفّارة مترتّبة، و هي تحرير رقبة مؤمنة، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، كما هو مقتضى (ما) و الشرط الدالان على التعقيب، و الشهر أعمّ من الهلالي و العددي، كما أنّ التتابع هو اتّصال أحدهما بالآخر، و هو يحصل بصيام الشهر الأوّل و اتّصاله بالثاني و لو بيوم واحد؛ لأنّ المأمور به التابع بين الشهرين، لا بين جميع أيّامهما، و مع عدم القدرة على الصيام فإطعام ستين مسكينا.

الخامس: الديّة في القتل العمدي من مال القاتل نفسه، و كذا دية القتل في شبه العمد، و أمّا دية القتل في الخطأ المحض فهي على العاقلة، و يدلّ على هذا التفصيل الأخبار الكثيرة الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام).

السادس: المقتول خطأ إن كان من قوم أهل الحرب و هو مؤمن، فإنّه تجب الكفّارة فقط لأجل إيمانه، و لا دية على قتله، و إن كان من قوم معاهدين - سواء كانوا من أهل الكتاب أم غيرهم - لهم عهد فتجب الكفّارة و الديّة، كما لو قتل في

ص: 161

دار الإسلام، و تكون ديته لورثته المسلمين خاصّة إن وجدوا، و إلاّ فهي للإمام عليه السّلام، و على ذلك دلّت جملة من الروايات و قام الإجماع، فتكون هذه الآية المباركة تخصيصا لأدلّة الديّة.

السابع: يستفاد من الآية المباركة أنّ الديّة لا بدّ و أن تؤدّى إلى ورثة المقتول، يقتسمونها كسائر تركة الميت بعد قضاء الدين و تنفيذ الوصية منها، كما فصّل في الفقه، و لو لم يكن للميت وارث تكون الديّة للإمام عليه السّلام؛ لأنّه وارث من لا وراث له.

الثامن: يستفاد من الآيات الكريمة أنّ الديّة حقّ الورثة، فيملكون إسقاطها بالعفو؛ و لذا حثّ سبحانه و تعالى على العفو عنها، و سمّي العفو صدقة؛ تنبيها على فضله، و أنّه «كلّ معروف صدقة»، بخلاف الكفّارة في التحرير و الصوم، فإنّها حقّ اللّه تعالى، فلا تسقط بعفو الأولياء بالصدقة و إسقاطهم لها.

بحث عرفاني:

من أجلّ الصفات الإنسانيّة و أسماها الإيمان باللّه جلّت عظمته، و هو انقياد النفس و خضوعها له تعالى بالالتزام بالشريعة و العمل بتكاليفه، و للإيمان آثار أهمّها الزجر و الجذب.

أمّا الزجر: فهو الانتهاء عمّا يدعو إليه الشيطان من الأعمال القبيحة و العقائد الفاسدة و الأخلاق الرذيلة، الّتي تصدّ الإيمان و تعوق عن رقي المؤمن بالتقرّب إليه تعالى، كالرياء و العجب و البخل و غيرها، و كذا الأعمال الّتي فيها الفساد - اجتماعيّا كان أو شخصيّا - كهتك الأعراض و سلب الأموال و إراقة الدماء من غير مبرر شرعي، و كذا الأخلاق الرذيلة كالكبر، و الأنانيّة و غيرهما. فإنّ المرحلة الأولى من توجّه النفس و تربيتها تتوقّف على ترك تلك الأعمال القبيحة، و طرد تلك العقائد الفاسدة و البعد عن الأخلاق الرذيلة.

ص: 162

و لذلك عبّر القرآن الكريم في القتل: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاّ خَطَأً ؛ لأنّ الإيمان به تعالى بنفسه زاجر عن القتل العمدي، فلا يليق بحال المؤمن أن يقتل مؤمنا، و إذا عرض له قتل المؤمن من باب الاتّفاق - أي الخطأ - لأنّ الإنسان مجبول على أن يكون محلا لأن يعرض له الخطأ يتداركه بالكفّارة الّتي هي نوع من العقوبة لما حصل له من التقصير بترك الاحتياط الّذي صار سببا لفقد حياة فرد من أفراد المجتمع، فيكون بذل المال بالتحرير نوعا من تربية النفس و توجّهها إليه تعالى، فإن لم يجد ذلك و لا يمكنه نيل هذه المرتبة من التزكية، فلا أقل من ترك الدنيا و التوجّه إليه جلّ شأنه بالصوم ليذوق وبال خطيئته، قال تعالى:

فَلاَ اِقْتَحَمَ اَلْعَقَبَةَ * وَ ما أَدْراكَ مَا اَلْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ [سورة البلد، الآية: 14]، و لذا قال علماء السير و السلوك: إنّ أوّل قدم السالك أن يخرج من الدنيا ما فيها، و ثانية أن يخرج من النفس و صفاتها.

و أمّا الجذب: فهو القابلية للنيل إلى المقامات الّتي تحصل بها العبوديّة المحضة و منتهى التقرّب إليه جلّت عظمته، بل الفناء في سبيله الّذي يتحقّق بالخلع عمّا سواه تعالى. و لهما مراتب كثيرة جدا، و لكلّ مرتبة منها درجات حتّى تحصل المثليّة، كما في بعض الروايات الواردة في النوافل، و الغور في البحث مستلزم الخروج عن الموضوع، و لم أر من يليق بذلك في زماننا هذا.

و بهما يتمّ الإيمان، و في إحداهما - أي الزجر - دون الآخر لا يتحقّق الإيمان و إن اتّصف ذلك بالحسن، فإن ترك القتل حياء أو لأجل القوانين الوضعيّة في حدّ نفسه حسن، و لكن لا يترتّب عليه الأثر المترتّب على الإيمان، و كذا البعد عن الصفات الذميمة أو التخلّق بالأخلاق الحسنة لو حصلا من الكافر، فإنّه في حدّ نفسه متّصف بالحسن، و قد يترتّب عليه الأثر الوضعيّة المترتّبة على ذلك، و لكن الأثر الخاص المنبعث من الإيمان باللّه تعالى لا يترتّب عليه، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة.

ص: 163

لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ .......

اشارة

لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الآيات الشريفة بأسلوبها البليغ و مضمونها الرفيع ترغّب المؤمنين إلى الجهاد و تحثّهم عليه، و تأمرهم بالهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام.

كما تبيّن علو درجات المجاهدين على القاعدين عن الجهاد، و الراضين بالقرار في أرض الشرك دون الهجرة إلى دار الإسلام مع القدرة عليها. و سمّاهم القرآن الكريم ب «الظالمين» لأنّهم رضوا بالظلم، و استثنى المستضعفين الّذين لا حيلة لهم واقعا فعجزوا عن الهجرة.

و يستمر سياق الآيات المباركة في التشجيع على الهجرة من دار الكفر إلى

ص: 164

دار الإسلام، و عدم الرضا بالظلم و ببعث الطمأنينة في قلوبهم إذا خافوا الفقر، فإنّ اللّه تبارك و تعالى يبسط الرزق عليهم و يجزل العطاء لهم و يغفر لهم خطاياهم، فكانت الآيات الكريمة تتحدّث في موضوع واحد، و هو موضوع القتال و الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و إنّما أضاف عزّ و جلّ على ذلك الهجرة من دار الكفر الى دار الإسلام؛ لأنّ ذلك نوع خاص من الجهاد أيضا.

التفسير
قوله تعالى: لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ .

حثّ على الجهاد بأسلوب بليغ، و تحريض عليه بعبارات فصيحة ليأنف المؤمنون عن تركه و يرغبوا في ما يترتب عليه من الأجر الكبير و الهدف السامي العظيم، فإنّ في الجهاد في سبيل اللّه تعالى إقامة الدين و نشر العدل، و بسط الحقّ ، و تطهير الأرض من الظلم و الفساد، و لأجل ذلك لا يستوي القاعدون من المؤمنين - الّذين ليس فيهم عذر و مانع عن القتال و الجهاد - و المجاهدون في سبيل اللّه تعالى؛ لعلو درجة الجهاد في سبيل اللّه عزّ و جلّ و شرفه و بعد منزلته، فإنّ فيه الهداية إلى اللّه الّتي هي أشرف الغايات و أنبل الأهداف، فلا يحدّه شيء و لا يصل إلى درجته أمر.

و هذه القضية فطريّة كشف عنها القرآن الكريم بعد أن طمستها الذنوب و الآثام و دياجير الظلم و المادّة، كما هو الشأن في كثير من القضايا الفطريّة. و قد كان من شأن الأنبياء عليهم السّلام تذكير الإنسان المادّي بمنسي الفطرة لينهض عن سباته و نومه و يرجع إلى رشده.

ص: 165

و المراد بالضرر في المقام الموانع الّتي تمنع المؤمن من القتال، كالعمى و العرج و المرض و غير ذلك ممّا ورد في قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى اَلْمَرِيضِ حَرَجٌ * [سورة الفتح، الآية: 17]، و قد شرحتها لسنّة الشريفة أيضا.

قوله تعالى: وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ .

أي: لا يكون القاعدون مساوين للمجاهدين في سبيل اللّه تعالى، الّذين يبذلون أموالهم و ينفقونها في سبيله تعالى للاستعداد بالجهاد و ما يوهن كيد الأعداء و الظفر بهم، و يبذلون أنفسهم للقتال و حملاتها للكفاح عند لقاء اللّه عزّ و جلّ .

و إنّما أخّر سبحانه و تعالى المجاهدين في الذكر؛ إيذانا بأنّ القصور في عدم الاستواء إنّما هو من جهة القاعدين، لا من جهة المجاهدين؛ و للتصريح بتفضيلهم على القاعدين.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ ذكر الأموال على الأنفس و عكس في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111] و غيره كما مرّ؛ لأنّ النفس أشرف من المال، فقدّم المشتري النفس للتنبيه على أنّ الرغبة فيها أشدّ و أكثر. و أخّر في المقام؛ لأنّ في البيع تكون المماكسة فيها أشدّ، فلا يرضى ببيعها إلاّ مع فائدة جليلة.

قوله تعالى: فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً .

بيان لجهة عدم الاستواء بين المجاهدين و القاعدين غير أولي الضرر، و هي أنّ اللّه تعالى رفع المجاهدين درجة لا يعرف كنهها و لا قدرها، فالمجاهدون لهم الفضل على القاعدين.

و تنوين الدرجة للتفخيم، و نصبها على المصدرية لتضمّنها معنى التفضيل و وقوعها موقع المرّة، مثل أن يقال: فضّلهم تفضيلا.

ص: 166

قوله تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى .

أي: أنّ كلا الفريقين وعدهم اللّه تعالى المثوبة الحسنى و هي الجنّة؛ لإيمانهم و حسن عقيدتهم و خلوص نيّتهم، و إن اختلفا في الفضيلة و الدرجة، فإنّه لا يساوي القاعدون المجاهدين أبدا، كما تدلّ عليه الآية الشريفة التالية.

و من ذلك يعرف أنّه لا وجه لحمل القاعدين في هذه الآية الكريمة على التاركين للخروج إلى القتال عند ما لا حاجة الى الخروج، لخروج غيرهم على حدّ الكفاية، فإنّه خلاف ظاهر الآية الشريفة، بل تدلّ على الوعد الجميل للمؤمنين جميعهم، القاعدين و المجاهدين؛ لئلاّ تحصل لهم حالة الإحباط و الكسل، و المقام يستدعي إيقاظ الهمم و التحريض على القيام بأمر الجهاد و المسارعة إليه و التسابق فيه، و لا ينافي تقديم إحدى الطائفتين على الاخرى.

قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً .

تحريض آخر، و فيه التأكيد و بيان لقوله تعالى: دَرَجَةً ، و إنّما ترك عزّ و جلّ القيود الّتي ذكرها في ما تقدّم لإغناء حرف التعريف في «المجاهدين» عنها.

أي: فضّل اللّه تعالى المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر أجرا عظيما.

و في الآية الشريفة تأكيد آخر إلى الجهاد في سبيل اللّه تعالى، بعد وعد اللّه عزّ و جلّ الكلّ المثوبة و الجزاء الحسن. و فيها الإشارة إلى عدم الاكتفاء بالوعد الحسن الّذي وعد اللّه المؤمنين به، فإنّ للوعد منازل و درجات، و يتفاوت المؤمنون فيها، و لا يمكن أن ينال تلك المنازل و الدرجات العالية المتفاوتة إلاّ بالجهاد الّذي به تقام أركان الدين و الشريعة و يزهق الباطل، فللمجاهدين الفضل العظيم، و التقرّب الخاص، و المنزلة الرفيعة، فلا يستهان بهم لبذلهم أموالهم و أنفسهم في سبيله و إعلاء كلمة اللّه تعالى، فلا ينبغي التكاسل في نيل تلك المقامات السامية، و لا التهاون بالبعد عن الوصول إلى تلك الدرجات العظيمة، فإنّ الإيمان الكامل لا

ص: 167

يتحقّق إلاّ بالجهاد - الأكبر منه أو الأصغر - لأنّ شرف النيل إلى جنّة المعارف أو جنّة الزخارف، لا يحصل إلاّ به.

قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً .

تفصيل بعد إجمال، و بيان للأجر العظيم الّذي فضّل اللّه تعالى المجاهدين به على القاعدين، أي: أعطى اللّه تعالى المجاهدين أجرا عظيما، و مفضّلا إيّاهم على القاعدين بدرجة عظيمة. و هذه الدرجة متفاوتة لها مراتب، فليست هي منزلة واحدة و درجة فريدة، بل منازل و درجات كثيرة، هي مركبة من المغفرة و الرحمة، فإنّ كلّ ما يفاض على العبد في الدنيا و الآخرة هو من مظاهر رحمته الواسعة، و لا يمكن النيل به أبدا إلاّ بإزالة الموانع و الحجب، و هي لا تحصل إلاّ بالمغفرة، كما أنّ تلك المنازل المتفاوتة هي رحمة إلهيّة، و هذا هو السبب في اقتران المغفرة مع الرحمة في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، قال تعالى: مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ * [سورة المائدة، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ اِغْفِرْ لَنا وَ اِرْحَمْنا [سورة البقرة، الآية: 286]، و قال تعالى: وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال، الآية: 4]، و قال تعالى:

وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اَللّهِ وَ رِضْوانٌ [سورة الحديد، الآية: 20].

و اختلاف هذه الآيات الشريفة في الإبهام و التفسير، و الإجمال و البيان فيه من اللطف ما لا يخفى، و هو من أحد وجوه البلاغة، فإنّه عزّ و جلّ قيّد المجاهدين في الآية الأولى بقوله تعالى: فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ، كما قيّد عزّ و جلّ في الآية التالية بها أيضا، بينما أطلق عزّ و جلّ المجاهدين في الموضع الثالث و لم يقيّده بشيء، و مع ذلك فقد ذكر عزّ و جلّ عدم استواء القاعدين مع المجاهدين، و ذكر أنّ التفضيل إنّما هو درجة، ثمّ ذكر أخيرا أنّها درجات منه و مغفرة و رحمة.

و الوجه في ذلك أنّ الكلام في الآية الأولى مسوق لبيان فضل الجهاد على القعود، و بيّن عزّ و جلّ أنّ الفضل للجهاد إذا كان في سبيل اللّه تعالى و بذل أعزّ الأشياء عند الإنسان و هو المال، و ببذل ما هو أشرف و أعزّ من الأوّل و هو النفس

ص: 168

و الروح؛ و لأجل ذلك ذكر عزّ و جلّ بما يرفع اللبس و الإبهام، فقال تعالى:

وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ، ثمّ ذكر عزّ و جلّ : وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى ؛ لمسيس الحاجة إلى ذكره، و لما انتفت لم يذكر القيود في قوله تعالى:

وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ، و اكتفى بالتعريف في المجاهدين، و إنّه بمنزلة ذكر تلك القيود.

و أمّا ما ذكره عزّ و جلّ في الآية الأولى من إطلاق الدرجة، فهو يدلّ على أنّ التفضيل من حيث الدرجة و المنزلة و هي مبهمة، و هي على إبهامها فيه تفخيم تلك الدرجة و تعظيمها، و قد رفع هذا الإبهام قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ ، و هو يبيّن قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً ، فالمستفاد من المجموع أنّ التفضيل كان في درجة عظيمة، و أنّ فيها منازل و لها درجات من المغفرة و الرحمة، و هي الأجر العظيم الّذي يثاب به المجاهدون.

و من ذلك يعرف أنّه لا تناقض و لا إبهام في الآية الشريفة، و إنّما هي في أعلى درجات الفصاحة، و قد ذكر المفسّرون في بيان هذه الآيات وجوها لا تخلو من المناقشة.

منها: أنّ المراد بالدرجة في صدر الآية المباركة، المنزلة عند اللّه تعالى الّتي هي أمر معنوي، و المراد بالدرجات، المنازل في الجنّة و هي حسيّة.

و منها: أنّ المراد بالدرجة في الآية الأولى المنزلة الدنيويّة، كالغنيمة و حسن الذكر و نحوهما، و بالدرجات المنازل الأخرويّة، و هي أكبر بالنسبة إلى الدنيا، فكانت درجات.

و منها: أنّ المراد بالتفضيل في صدر الآية الكريمة تفضيل المجاهدين على القاعدين أولي الضرر، و في ذيل الآية الشريفة تفضيل المجاهدين على القاعدين غير أولي الضرر بدرجات.

ص: 169

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً .

تأكيد لما وعد به آنفا من المغفرة و الرحمة للمجاهدين، فهو تعالى غفور لمن يستحق المغفرة، و رحيم بمن يتعرّض لنفحات رحمته بإعطاء الثواب و مزيد الفضائل و العطايا و رفع الدرجات. و لا يخفى مناسبة الاسمين الشريفين لمضمون الآية الكريمة السابقة.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ .

بيان حال القاعدين عن الجهاد و المعرضين عن الهجرة.

و الوفاة أخذ الشيء وافيا تامّا، و المراد بها قبض الروح عند الموت، و تقدّم الكلام في اشتقاق الكلمة في قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ [سورة آل عمران، الآية: 55]، و لفظ «توفّاهم» يحتمل أن يكون ماضيا، كما يحتمل أن يكون مضارعا فيكون أصله (تتوفاهم)، نظير قوله تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ [سورة النحل، الآية:

ص: 170

و الفاعل الحقيقي، و الملائكة و الرسل و الأعوان مباشرون قابضون للأرواح، لكن السبب الكامل و العلّة التامّة هو اللّه تعالى.

و المراد بالظلم في المقام ظلم النفس بترك الهجرة في سبيل اللّه تعالى لنصرة الدين، و ترك إقامة شعائره عزّ و جلّ باختيار مجاورة الكفّار الّذين يمنعون من تعلّم معارف الدين و القيام بوظائف العبوديّة لربّ العالمين، و به يفسّر الظلم، حيث يطلق كما في قوله تعالى: أَنْ لَعْنَةُ اَللّهِ عَلَى اَلظّالِمِينَ * اَلَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً [سورة الأعراف، الآية: 44-45]، و سورة هود - 19، فالمراد هو الإعراض عن دين اللّه تعالى و عدم نصرته و ترك إقامته.

و المعنى: أنّ الّذين تتوفّاهم الملائكة بقبض أرواحهم حين استيفاء آجالهم، حال كونهم ظالمين أنفسهم بترك الهجرة في نصرة الدين و تعلّم معارف سيد المرسلين و إقامة الشعائر، فاختاروا المقام عند الكافرين و المشركين و رضوا بالذلّ و الانظلام، فلم يقدروا على القيام بوظائف العبوديّة و نصرة الدين.

قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ .

أي: قالت الملائكة لهؤلاء الظالمين أنفسهم: في أي شيء كنتم من أمر دينكم، و لما ذا تركتم إقامته.

و في الآية المباركة من التوبيخ و الإهانة للظالمين ما لا يخفى، كما أنّها تدلّ على أنّهم لم يكونوا في شيء من الدين، فكان الاستفهام توبيخا على شيء معلوم، لا استعلاما عن شيء مجهول كما لا يخفى، بل يمكن أن تكون الاستفهام للتقرير.

قوله تعالى: قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ .

اعتذار منهم عن تقصيرهم في ترك الهجرة و نصرة الدين و إقامة شعائره، و إن لم يكونوا على شيء من الدين - كما عرفت - فأجابوا بما يخفى حالهم، فوضعوا السبب موضع المسبّب، فقالوا: «كنّا مستضعفين في الأرض» الّتي كنّا نعيش عليها

ص: 171

مقهورين من قبل الأعداء، فلم نتمكّن من نصرة الدين و تعلّم معارفه و إقامة شعائره، و عجزنا عن القيام بوظائف العبوديّة لسطوة الأعداء و شدّة فتكهم و قسوتهم و استضعافهم لنا. و لما كان الاستضعاف حاصلا من حيث إخلادهم إلى أرض الشرك و تسلّط المشركين على الأرض الّتي كانوا يعيشون فيها، و لم تكن لهم هذه السلطة في أرض أخرى، فلم يكونوا مستضعفين، و إنّما حلّ بهم ذلك لتركهم الخروج و الهجرة من أرض الشرك، فردّت عليهم الملائكة و لم يقبلوا عذرهم، فقالوا كما حكى عزّ و جلّ عنهم.

قوله تعالى: قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها .

أي: أنّ عذركم مردود عليكم بترك الهجرة، فلم تحرّروا أنفسكم من الذلّ و الظلم بالهجرة في أرض اللّه الواسعة، فترحلوا إلى أرض أخرى يمكنكم فيها إقامة الشعائر عليها، فالاستفهام للتوبيخ، فإنّ استضعاف القوم لكم لم يكن هو الموجب للإقامة معهم، بل كنتم قادرين على الخروج و الخلاص من نير المذلّة.

و إنّما أضافت الملائكة الأرض إلى اللّه تعالى؛ إيماء إلى أنّه عزّ و جلّ هيّأ لهم في أرضه سعة و مخرجا، كما يشير إليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً .

و قد وصف سبحانه الأرض بالسعة؛ للإعلام بأنّهم السبب في لزومها لأنفسهم، لا أنّ المشركين يسلبونها عنهم بالكلّية. كما أنّ في هذا التعبير توطئة للأمر بالهجرة من بعضها إلى بعضها، حيث قال تعالى: فَتُهاجِرُوا فِيها ، فلو لم يكن كذلك لكان الأولى أن يقال: فتهاجروا منها.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ .

بيان لجزاء القاعدين عن الهجرة و الرضا بالفتنة في دار الشرك و الكفر، و توعيد لهم بنار جهنّم، كما أوعد بها الكفّار. و ترتّب هذا الجزاء على فعلهم من

ص: 172

قبيل ترتّب المعلول على العلّة، فإنّهم أوردوا أنفسهم موارد الهلاك في الآخرة؛ لأنّهم رضوا بالظلم في الدنيا و ظلموا أنفسهم بترك الهجرة، و حرموا أنفسهم من خير الدنيا و خير الآخرة.

قوله تعالى: وَ ساءَتْ مَصِيراً .

أي: بئست نار جهنّم و قبحت أن تكون مأوى و مصيرا، فإنّ كلّ ما فيها سوء.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ .

استثناء عن حكم الآية الكريمة السابقة، و بيان للمعنى الحقيقي للمستضعفين، و ردّ لما اعتذر به القاعدون في مساءلة الملائكة لهم بأنّهم مستضعفون، فإنّهم غير صادقين فيه، فقد تركوا الهجرة مع القدرة عليها و ادّعوا الاستضعاف؛ حرصا على أموالهم و أهليهم، أو حرصا على أمنهم و سلامتهم، أو حرصا على مكانتهم و جاههم.

و الآية الشريفة تصوّر المستضعف تصوّرا دقيقا، و تعطي المعنى الحقيقي له، بحيث لا تدع مجالا لأيّ ادعاء آخر فيه.

و المستضعفون هم الّذين لا يقدرون على الهجرة لضعفهم، كالولدان و النساء و الشيوخ و سائر العجزة أو الضعفاء، أو لعدم وجود السبيل و الحيلة، فهم يبحثون عن ذلك، بل هم في وضع نفسي مضطرب و شعور مضطرم يختلف تماما عمّن يدّعي الاستضعاف، الّذي هو في حالة الدعة و الرضى و الاستكانة حرصا على الدنيا و شيء من متاع الأرض، كما عرفت.

قوله تعالى: لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً .

مادة (حيل) تدلّ على الحركة و الاضطراب و التخيّر للتخلّص من شيء أو تحصيله، أو ما يتوسّل به للحصول على شيء أو الاحتراز منه، و غلب استعماله على ما يكون في خفاء و في الأمور المذمومة.

ص: 173

و كيف كان، فإنّ الآية الشريفة تصوّر الحالة النفسيّة للمستضعفين بأنّهم قد ضاقت بهم الحيل و عميت عليهم الطرق، فلم يهتدوا إلى سبيل و حيلة يمكنهم التوسّل بها إلى الخروج من دار الشرك و أرض الكفر و الهجرة إلى دار السلام لإقامة الحقّ .

و لم يبيّن عزّ و جلّ تلك الحيل و السبل، فهي إمّا المرض، أو الزمانة، أو الفقر، أو الجهل بمسالك الأرض، أو لا يهتدي إلى حيلة يدفع بها الكفر، و لا يهتدي سبيلا الى الإيمان، فهو لا يستطيع أن يؤمن و لا يكفر كالصبيان، و لا يقدرون أن يحتالوا حيلة لدفع ما يتوجّه إليهم من استضعاف المشركين عن أنفسهم، و لا يهتدون سبيلا للتخلّص منهم و الفرار عنهم. و جميع هذه المعاني صحيحة؛ لعموم الآية المباركة الشامل لكلّ الحيل الظاهريّة و الباطنيّة.

و المستضعف على قسمين، ادعائي و واقعي، و الثاني هو مورد العفو دون الأوّل؛ لأنّه جلّ شأنه مطّلع على الواقعيّات، فله العذر عن الهجرة، و يجري حكم هذه الآية المباركة إلى يوم القيامة، فمن تمكّن في هذه الأعصار من المسلمين من الخروج من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام و تعلّم معالم دينه و العمل بها و لم يفعل، فهو من القسم الأوّل.

و السبيل الحسّي كالطرق و مسالك الأرض، و المعنوي هو: كلّ ما يخلّصهم من أيدي المشركين من أنواع الحجج و المعارف - و قد ورد في بعض الروايات في الثاني - أو المانع الخارجي كالمرض و الهرم و غيرهما، قال تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة التوبة، الآية: 91]، و النصيحة لهما هي الطاعة لهما سرّا و علانية.

و الآية الشريفة تدلّ على أنّ الجهل بدين اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة إذا كان عن قصور و ضعف، ليس للمكلف فيه صنع و لا اختيار، فهو عذر عند اللّه تعالى. أمّا غير ذلك فهو ظلم لا يقبله اللّه جلّ شأنه من أحد و لا يرضى به.

ص: 174

و قد شرّع اللّه تعالى الجهاد - الّذي هو من أفضل العبادات و أسماها - لردّ هذا الظلم، و هو يختلف، فتارة يكون مع أعداء اللّه تعالى في ساحة القتال، و اخرى يكون بالهجرة إلى دار الإسلام الّتي يقام فيها شريعة اللّه تعالى و لا يكون فيها ظلم، فعدم تطبيق شريعة اللّه تعالى يعتبر عند اللّه ظلما و لا يمكن أن يرضى به عزّ و جلّ ، و من يرضى به فهو ظالم لنفسه و له العذاب الأليم؛ لما حرّم نفسه من نعمة العمل بالشريعة في الدنيا فأورد نفسه مورد الهلاك في الآخرة، إلاّ من أعيت به المذاهب و تقطّعت به السبل و أحاط به أعداء اللّه تعالى أعداء الحقّ و استضعفوه بالعذاب و الفتنة، أو كان مستضعفا بسيطرة الغفلة عليه، فإنّها تسلب القدرة و تسدّ الأبواب عليه، و قد ورد عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «الّذي لا يستطيع حيلة و يدفع بها عنه الكفر، و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان، فلا يستطيع أن يؤمن أو يكفر»، و هو المستفاد من إطلاق الآية الشريفة الواردة مورد البيان للمستضعف، الشامل لما هو الممنوع عنه بسطوة الكفّار و الأعداء، أو المغفول عنه لاستيلاء الكفر على الأفكار و العقول.

و بالجملة: كلّ ما يكون الفعل مستندا إلى فعل المكلف نفسه و اكتسابه فهو غير معذور، و أمّا إذا لم يكن كذلك فهو معذور، و يدلّ عليه قوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اَللّهُ نَفْساً إِلاّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: 286]، فالجهل عذر إذا لم يكن عن تقصير من المكلّف، و إلاّ فليس الجاهل معذورا، و لا فرق في المعذوريّة بين أن تكون بسطوة جبّار كافر، أو باستيلاء الغفلة عليه.

و الحاصل: فإنّ المستضعف لا يطلق على من بلغته الحجّة و سمعتها أذنه و وعاها قلبه و فهمها و أمكنه إقامة دينه، فمن كان كذلك فهو ليس بمستضعف و إن ادّعاه و اعتبر نفسه منهم، و إلاّ فهو مستضعف.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ .

بيان أنّ المستضعفين الموصوفين بما تقدّم من صفات العجز، لا شيء عليهم؛

ص: 175

لعدم كسبهم أمرا، فهو تعالى يتفضّل عليهم بالعفو؛ لعلمه تعالى بحقيقة ضعفهم و عدم قدرتهم، و يعلم ما في ضمائرهم.

و ذكر كلمة الإطماع (عسى) منه تعالى حتم، لا سيما بعد تعقيبه بقوله عزّ و جلّ : وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً ، إلاّ أنّ استثناء المستضعفين من الظالمين الّذين أوعدوا بالنار و سوء المصير يكفي في بعدهم و شقائهم؛ لأنّهم حرموا أنفسهم من نيل السعادة، فلا غنى لهم عن العفو الإلهي الّذي يمحو به أثر الشقاء، كلّ ذلك كان سببا لذكر اللّه تعالى لهم و رجاء عفوه.

و يستفاد منه أنّ العفو مشروط بحسن النيّة و قصد الهجرة من أرض الشرك الى دار الإسلام، الّتي يمكنه إقامة شعائر اللّه تعالى عليها، فإنّ ترك الهجرة أمر خطير لا بدّ للمؤمن أن يعدّه ذنبا، و يلزمه أن يتركه، و يترصّد الفرصة في الهجرة و يعلّق قلبه بها أبدا.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَفُوًّا غَفُوراً .

تقرير لما سبق بأتمّ وجه و أحسن أسلوب، أي: أنّ اللّه تعالى عفو كثير الصفح عن ذنوب عباده غفور ساتر عليهم ذنوبهم، و هو يدلّ على أنّه تعالى يتفضّل على المستضعفين بالعفو و المغفرة، و قد سبقت رحمته غضبه، فله كامل العفو و تمام الغفران.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً .

تشجيع على الهجرة، و تحريض عليها بالاعتناء بها و تنشيط الهمم في استنباط الحيل لها بعد أن ندّد تعالى بالقاعدين و هم قادرون عليها، فإذا كان في البين مخاوف في النفس بشأن الهجرة و أخطارها و أهوالها، بأن لا يجد رزقا في المسير، أو أن يدركه الموت في الطريق أو غير ذلك، فإنّ اللّه تعالى يعطي الضمانات

ص: 176

الّتي تيسّرها في النفس و تجعل الإنسان مجدّا في عمله يقبل عليها بلا إبطاء، و يكون مخلصا للّه تعالى.

و قد وعد عزّ و جلّ في هذه الآية المباركة بأنّ المهاجر سوف يجد في الأرض سعة و بسطة، و اللّه هو الكفيل ما دامت الهجرة في سبيل اللّه تعالى، و إذا وقع عليه الموت فإنّ الأجر يقع عليه عزّ و جلّ .

و سبيل اللّه تعالى ما أمر بسلوكه مطلقا، سواء استلزمه تعظيم الشعائر و إبلاغ الأحكام، أو لم يستلزم ذلك، فقد أوجبت المهاجرة الخروج عن الضعف و الإذلال، و نيل رضاه جلّ شأنه.

و قد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية مخافة الضيق و الفقر و عدم الرزق في مسيره، كما ذكر المخافة الثانية: و هي الموت في الطريق في الآية التالية.

و المراغم من الرغام، و هو التراب الرقيق، و لم ترد هذه المادّة في الآيات الكريمة إلاّ في هذه الآية الشريفة، و أصله لصوق الأنف بالرغام مشعرا بالذلّ و الهوان، يقال: رغم أنف فلان رغما، أو يقال: أرغم اللّه أنف فلان؛ لأنّ الأنف من جملة الأعضاء في غاية العزّة، و التراب في غاية الذلّة، فجعل ذلك كناية عن الذلّة، و يعبّر عنه بالسخط، قال الشاعر:

إذا رغمت تلك الأنوف لم ارضها *** و لم أطلب العتبى و لكن أزيدها

و المراغمة: المنازعة و المساخطة، أي: ما يوجب سخطه، فيكون المعنى: يجد في الأرض مخلصا من الضلال و ممّا يوجب سخطه كثيرا و يصل إلى الخير و النعمة، فكلّما منعه مانع من إقامة دينه ينتقل إلى تربة أخرى.

و يمكن أن يكون المراد بالمراغم في المقام الرقيق في السفر، و إنّما عبّر تعالى بذلك لأنّ السفر خصوصا في الأزمنة القديمة كان ملازما للرغام و التعب و المشقّة، و في هذا التعبير تسلية للمهاجرين بأنّه لو أصابهم تعب و مشقّة و رغام فلا يتأثّروا كثيرا بذلك، فإنّها نوعي «و البلية إذا عمّت طابت».

ص: 177

و قد اختلف المفسّرون في معنى هذه الآية الشريفة، و الحقّ أنّها ترجع إلى شيء واحد و إن اختلفت في اللفظ، فقيل: المراغم المتزحزح، أي: ينتقل من أرض إلى أخرى، و قيل: إنّه المتحوّل، و قيل: المهاجر و قيل غير ذلك، و هي كما ترى متّفقة في المعنى.

و في الآية المباركة كمال اللطف بالمهاجرين و تطييب نفوسهم و بثّ الطمأنينة فيها بأنّ اللّه تعالى كفيل لرزقهم، فإنّهم سيجدون في الأرض سعة و بسطة إذا كانت الهجرة في سبيله تعالى و خالصة لوجهه الكريم، و يقصد منها رضاء اللّه تعالى و إقامة دينه، و لعلّ في قوله تعالى: يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً إشارة إلى ما ذكره عزّ و جلّ سابقا من قوله تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها [سورة النساء، الآية: 97]، و فيها وعد منه. و في المقام بيان لوعده الكريم بمزيد السعة بالمهاجرة، و أنّه يجد مراغما كثيرا، أي: خلاصا من ورطته، و قدرته على الانتقال من مكان إلى آخر حيث وجد ضيق في الأوّل و شدّة.

و الحقّ أنّ قوله تعالى: مُراغَماً كَثِيراً من لوازم السعة في الأرض لمن يريد السلوك فيها و الهجرة في سبيل اللّه تعالى.

و المعنى: و من يهاجر في سبيل اللّه طلبا لمرضاته و إقامة دينه، يجد في الأرض مخلصا و نجاة من الضلال و الضيق، في التحوّل من أرض إلى اخرى كلّما منعه مانع من إقامة دينه، وسعة في الرزق إذا خاف الضيق في مسيره.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ .

بيان للمخافة الأخرى الّتي تدور في النفس بشأن الهجرة، و هي درك الموت في الطريق أو السلوك إلى الحقّ .

و درك الموت كناية عن وقوعه عليه و مفاجأته به قبل الوصول إلى المقصد،

ص: 178

و المهاجرة إلى اللّه تعالى و الرسول هي الهجرة إلى دار الإسلام لتقوية الحقّ و نصرة دين اللّه تعالى و رسوله الكريم و العمل بأركان الشريعة.

و الآية المباركة وعد من اللّه تعالى لمن يهاجر في سبيل اللّه تعالى ثمّ يحلّ به الموت و هو في الطريق قبل بلوغ دار الهجرة.

قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ .

كناية عن اللزوم و الثبوت أو الاستقامة، أي: وجب عليه الأجر و الثواب و لزم بمقتضى وعده الجميل و لطفه العميم، و في الآية الكريمة كمال اللطف و مزيد الرضا من اللّه تعالى له، حيث اعتبر عزّ و جلّ أنّ الموت كالهديّة منه سبحانه و تعالى؛ لأنّه السبب الموصول إلى الأجر الجزيل و النعيم المقيم.

كما أنّه جلّ شأنه اختار: مَنْ يَخْرُجْ دون «من يهاجر»؛ لكمال العناية بأنّ الموت إن وقع عليه قبل الوصول، فهو ينال هذه المرتبة و إن لم يصل إلى المقصد.

و في إبهام الأجر و اختيار اسم الجلالة للدلالة على عظم الأجر الّذي لا يقدّر بقدر و لا يعلم كنهه و لا حقيقته إلاّ هو؛ لأنّه من الذات المقدّسة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً .

فهو يغفر له جميع ذنوبه، و يجزل له في العطاء، و إنّما أتى بصيغة المبالغة للدلالة على أنّه يغفر له ما فرّط فيه من الذنوب الّتي منها القعود عن الهجرة، فيرحمه بإكمال ثواب هجرته.

و في الآية المباركة تأكيد للوعد الجميل بلزوم توفية الأجر و الثواب، فهو يغفر الذنوب الّتي ارتكبها قبل الخروج للهجرة، رحيم يجزل لهم العطاء و يغمرهم بإحسانه.

ص: 179

بحوث المقام
بحث أدبي:

(غير) في قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ بالرفع صفة لقوله تعالى:

اَلْقاعِدُونَ ، و هي و إن لم تكن معرفة و لا بد من التطابق بين الصفة و الموصوف في المعرفة، لكنّه غير مقصود في المقام؛ لأنّ المراد من القاعدين جنسهم، و يصحّ وصف الجنس بها. و ذكر الرضي أنّ المعرّف باللام المبهم و إن كان في حكم النكرة، لكنّه لا يوصف بما توصف به النكرة، بل يتعيّن أن تكون صفته جملة فعليّة و فعلها مضارع، كما في قوله:

و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني *** فأصدّ ثمّ أقول ما يعنيني

و لأجل تلك المناقشة جعل بعضهم «غير» في المقام بدلا من «القاعدون»؛ لأنّ (ال) فيه موصولة. و لكنّه ليس بشيء كما لا يخفى.

و قرأ بعضهم (غير) بالجرّ صفة لقوله تعالى: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ، و قرئ بالنصب على أنّه استثناء من قوله تعالى: مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ ، أو حال، و هو نكرة لا معرفة.

و (درجة) في قوله تعالى: فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى اَلْقاعِدِينَ دَرَجَةً ، منصوب على المصدر؛ لتضمّنها معنى التفضيل - كما عرفت سابقا - كأنّه قيل فضّلهم تفضيلة، كما في قولهم: ضربته سوطا، أي: ضربة.

و قيل: على الحال، أي: ذوي درجة، و قيل: على التمييز، و قيل: على حذف الجارّ، أي: بدرجة، و قيل: هو واقع موقع الظرف، أي: في درجة و منزلة.

و (كلا) في قوله تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى مفعول أوّل لما بعده، قدّم لإفادة القصر تأكيدا للوعد، و تنوينه عوض المضاف إليه، أي: كلّ واحد من

ص: 180

الفريقين. و قرئ (كلّ ) بالرفع على الابتداء، و المفعول الأوّل هو العائد في جملة الخبر محذوف، أي: وعده، و القراءة الأولى هي الأشهر، و على كلتا القرائتين (الحسنى) المفعول الثاني، و الجملة اعتراض جيء بها لدفع ما يتوهّم من تفضيل أحد الفريقين على الآخر، و حرمان المفضول البتة.

و إنّما لم يذكر عزّ و جلّ القيود في قوله تعالى: وَ فَضَّلَ اَللّهُ اَلْمُجاهِدِينَ عَلَى اَلْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً ؛ لاغناء «ال» في «المجاهدين» عن ذكرها، و إنّما لم يذكر القيد في القاعدين، أي: «غير أولي الضرر» في الموضعين و لم يفعل ما فعله بالقيود مع المجاهدين الّتي ذكرها على سبيل التدرج؛ لأنّ قيد «غير اولي الضرر» كان بعد السؤال، بخلاف القيود مع المجاهدين.

و (أجرا) في قوله تعالى: أَجْراً عَظِيماً مفعول ثان، لتضمّنه معنى الإعطاء، و قيل: هو منصوب بنزع الخافض، أي: فضّلهم بأجر.

و (درجات) في قوله تعالى: دَرَجاتٍ مِنْهُ ، إمّا أن يكون منصوبا على الحاليّة، أي: ذوي درجات، أو يكون بدلا من (أجرا)، بدل الكلّ مبيّنا لكميّة التفضيل، واقعا موقع الظرف، أي: في درجات. و (منه) متعلّق بمحذوف صفة لدرجات تدلّ على فخامتها و علو شأنها.

و (ظالمي) في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ منصوب على الحاليّة من ضمير المفعول في (توفاهم)، و الأصل (ظالمين أنفسهم)، و الإضافة لفظيّة لا تفيد تعريفا.

و الاستفهام في قوله تعالى: فِيمَ كُنْتُمْ للتوبيخ و التقريع، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ (ما) الاستفهاميّة المجرورة تحذف منها الألف حسب القاعدة؛ فرقا بين الاستفهام و الخبر؛ و تنزيلا لها مع ما قبلها منزلة الكلمة الواحدة؛ و لذا تكتب الألف في (الى) و (على) و (حتّى) في قولهم: إلام، و علام، و حتّى م، ما لم يوقف على - م - بالهاء.

ص: 181

و قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جملة مركّبة من مبتدأ أوّل، و هو اسم الإشارة، و (مأواهم) مبتدأ ثان، و (جهنّم) خبره الثاني، و الجملة خبر للمبتدأ الأوّل.

و الاستثناء في قوله تعالى: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ منقطع؛ لأنّ المستضعفين لم يندرج في الموصول و ضمائره، و المشار إليه بأولئك.

و (يدركه) في قوله تعالى: ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ مجزوم، لأنّه جواب الشرط، و قرئ برفع الكاف: «يدركه» على أنّه فعل مضارع مرفوع لتجرّده من الناصب و الجازم، و الموت فاعله، و الجملة خبر لمبتدأ محذوف، أي: (ثمّ هو يدركه الموت)، و الجملة الاسميّة معطوفة على الجملة الشرطيّة، و إنّما قدّروا المبتدأ ليصحّ رفعه مع العطف على الشرط المضارع، و قال بعضهم: يجب حينئذ جعل (من) موصولة؛ لأنّ الشرط لا يكون جملة اسميّة. و لكنّه تطويل لا حاجة إلى تقدير المبتدأ. و قرئ بنصب الكاف بإضمار (ان)، فتكون الآية الكريمة على الحثّ آكد، و ذكر بعضهم في وجه النصب أيضا أنّ الفعل الواقع بين الشرط و الجزاء يجوز فيه الرفع و النصب و الجزم لو وقع بعد الواو و الفاء.

و كيف كان، فالآيات الشريفة من أعلى درجات الفصاحة و البلاغة، و هي تحثّ على الجهاد و الهجرة في سبيل اللّه تعالى بأسلوب حسن، تشوّق النفس إلى الثواب الجزيل المعدّ لهم، و تحبط آمال المتقاعدين عن الجهاد و المستقرّين في دار الكفر و ترك الهجرة منها، و تبيّن سوء عاقبتهم.

و قد اشتمل قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً على وجوه من البلاغة:

منها: أنّ اختيار وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً على وَ مَنْ يُهاجِرْ ؛

ص: 182

للدلالة على أنّ من آثر الخروج و المهاجرة على الاستقرار، يكون له هذا الثواب و إن كان ذلك خارج بيته، و هو مزيد فضل لا يدانيه شيء.

و منها: وضع (يدركه الموت) على (يمت)؛ للدلالة على مزيد الرضا من اللّه تعالى، و أنّ الموت هديّة منه عزّ و جلّ ، و هو السبب للوصول إلى ذلك الأجر الجزيل، و يؤكّد ذلك مجيء (ثم) دون الواو، و لبيان أنّ مرتبة الخروج من البيت دون هذه المرتبة.

و منها: قيام قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ مقام (يثبه) و نحوه؛ للدلالة على أنّ هذا الثواب لازم و ثابت عليه؛ وفاء لما عهد على نفسه.

و منها: اظهار اسم الجلالة لبيان أنّ الأجر عظيم لا يدرك كنهه و لا حقيقته أحد، لأنّه وقع على الذات الأقدس.

و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على لطف اللّه تعالى بهؤلاء الّذين أدركهم الموت بعد انقطاعهم عن الوطن و الأهل، فإنّه تعالى هو الّذي يعطيهم الأجر و يتكفّل جزاءهم لطفا بهم و عطفا عليهم بسبب انقطاعهم إليه، و مثل هذا التعبير لم يرد إلاّ في بعض الطاعات كالصوم، فإنّه ورد فيه: «الصوم لي و أنا أجزئ به»؛ لأنّ في الصوم مزيد الانقطاع إلى اللّه تعالى و الإعراض عن الملذّات.

هذا بعض ما يمكن أن يقال في هذه الآية الشريفة الّتي هي في غاية الفصاحة، فسبحان من جلّت آياته.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات المباركة على أمور:

الأوّل:

تدلّ الآيات الكريمة على عظيم الفضل للجهاد و المنزلة الكبرى له؛ لأنّ به يقام دين اللّه تعالى و يبسط العدل و ينشر الحقّ و يبثّ الصلاح و الإصلاح.

ص: 183

و به يذلّ الكفر و الشرك، و يزال الظلم و العدوان، و تخذل كلمة الكفر، و تطهر الأرض من الفساد.

و الآيات الشريفة بأسلوبها اللطيف و مضمونها الرفيع و فصاحتها الكاملة قد اقترنت بأمور جعلتها من أهمّ الآيات الّتي ترغّب إلى الجهاد و تنشّط عليه و تحفز الهمم إليه و تنفّر النفوس من القعود عنه، و التكاسل و التواكل منه، فقد نفى عزّ و جلّ المساواة بين المجاهدين و القاعدين غير أولي الضرر، من غير أن يبيّن جلّ شأنه جهة التفاوت صريحا ليذهب ذهن السامع أي مذهب.

و قدّم تعالى القاعدين لبيان أنّ فيهم جهة القصور لا من جهة مقابليهم، ثمّ اردفه ببيان فضل المجاهدين و أنّه درجة، ثمّ بيّن عزّ و جلّ أنّه درجات و أنّ فيه فضلا زائدا، فكان المجاهدون هم المفضّلين ابتداء.

كما أنّه عزّ و جلّ قيّد المجاهدين بقوله: فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ، ثمّ بقوله: بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ ، ثمّ أطلقه عزّ و جلّ من غير تقييد، كلّ ذلك لأجل التفنّن في العبارة، و الحثّ و التحريض، و بيان هذا الأمر العظيم بأسلوب حسن يقبله الطبع؛ لأنّ بذل أعزّ الأشياء عند الإنسان أمر ليس بالهين اليسير.

و بالجملة: الآية المباركة صريحة الدلالة على أفضليّة الجهاد، و أنّ فيه الأجر العظيم، و للمجاهدين منازل و درجات في الآخرة، و أنّ لهم مقام القرب عند اللّه عزّ و جلّ .

الثاني:

يستفاد من قوله تعالى: لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ أنّ جهة التقصير إنّما كان من جهة القعود عن الجهاد، و لعلّه السبب في عدم الاستواء بينهم و بين المجاهدين. و يفهم من تقييد القاعدين بكونهم غير أولي الضرر أنّهم على قسمين: من لا ضرر به لكن قعد للإذن له في ذلك، أو لقيام من فيه الكفاية، و من به الضرر الّذي يمنعه من الخروج و لولاه لخرج، و الآية الكريمة مع كونها صريحة الدلالة في نفي المساواة بين القسم الأوّل و بين المجاهدين،

ص: 184

تتضمّن أيضا نفي المساواة في الثاني، و قيّدهم بكونهم من المؤمنين؛ لبيان أنّ قعودهم عن الجهاد لا يخرجهم عن الإيمان، و للإشعار بقلّة استحقاقهم للثواب و العاقبة الحسنى في ما سيأتي.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اَللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أنّ سبب استحقاقهم لهذا الفضل العظيم إنّما هو الجهاد، و أنّ القعود إنّما كان عنه، و قد ترك التصريح به في صدر الآية الشريفة رعاية للمجاهدين و اهتماما بشأنهم و فضلهم على القاعدين و علو رتبتهم، كما يستفاد ذلك من القيود الاخرى.

و إنّما قيّده بكونه في سبيل اللّه تعالى؛ لبيان أنّه السبب في فضلهم و رفع شأنهم، كما يستفاد من القيود الاخرى أنّ لها المدخليّة في ذلك كلّه.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ على أنّ كلّ من به ضرر في البدن أو المال يسقط عنه الجهاد، و يفسّره قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى اَلضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى اَلْمَرْضى وَ لا عَلَى اَلَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى اَلْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اَللّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، فيشمل كلّ عاجز عن الجهاد و ما يمنع عن الخروج إليه، فلا يكون الجهاد واجبا عليهم.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ على أنّ الجهاد فرض كفائي، و إلاّ لما كان القاعد لا لضرورة معذورا، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كُلاًّ وَعَدَ اَللّهُ اَلْحُسْنى ، فإنّ القاعد إذا وجب عليه الجهاد و يكون آثما، لا معنى لوعد اللّه تعالى له بالحسنى.

السادس:

يستفاد من تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة، و تحديده تارة بدرجة، و أخرى بدرجات مع اتّحاد المفضّل و المفضّل عليه - كما هو ظاهر الآية - أنّ درجة المجاهدين بمحلّ لا يمكن أن تدركه العقول؛ و لبيان الاختلاف الذاتي في الدرجات الّتي تشتمل على الرحمة و المغفرة و الثواب الجزيل؛ و للإعلام بأنّ المجاهدين يختلفون في نيل تلك الدرجات المتفاوتة.

ص: 185

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً على سؤال القبر و أنّ الملائكة تسأل عن دين الميت، و تدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة و النصوص الكثيرة، قال تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا اَلسَّلَمَ ، ما كُنّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل، الآية: 28]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ اُدْخُلُوا اَلْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [سورة النحل، الآية: 32]، و يستفاد منها أنّ ظلم الإنسان نفسه يوجب السؤال و الاستجواب و شدّة العتاب.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ على وجوب الهجرة من بلاد الكفر و الشرك إذا لم يمكن إظهار شرائع الله جلّ شأنه و إقامة أحكامه و فرائض دينه، فإنّ الّذي يقعد عن هذا القسم من الجهاد - أي: الهجرة إلى دار الإسلام من دار الكفر - و هو قادر عليه و يعرّض نفسه للافتتان عن دينه، و العجز عن إقامة شرايعه و إتيان فرائضه، فهو ظالم لنفسه، و أنّ التعلّل بأنّه كان مستضعفا لا يملك شيئا غير مفيد؛ لأنّ ظلمه لنفسه كان لأجل تركه العمل بالحقّ خوفا من الأذى و فقد عشيرته و إعراضهم عنه، فهو عذر باطل كما يتعذّر به كثير من الزيغ و المفسدين.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأرض أنّ استضعافهم هذا كان ادعائيّا، كما يدله عليه ذيل الآية الشريفة، و يستفاد منه لو لم يكن بهذه المثابة كما لو كان له عشيرة تحميه من المشركين و يمكنه إظهار دينه و يكون آمنا على نفسه، فإنّ المهاجرة غير واجبة عليه.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، بيان لشروط المستضعفين في

ص: 186

القرآن الكريم، و هي كون الإنسان ضعيفا في بدنه من جهة الكبر مثلا أو الصغر أو عدم القابلية كالنساء، ففي الحديث: «علم اللّه ضعفهن فرحمهن»، و عدم وجود حيلة يحتال بها للخروج، كالمال و العدّة و الصديق و نحو ذلك، و عدم الاهتداء للطريق و سبل الصحارى و الأرض، أو عدم اهتداء ذهنه إلى التفكّر في المعارف الحقّة، و لتزاحم المذاهب و الأفكار أوجبت خفاء الحقّ عليه فلم يهتد إليه سبيلا، فهو مستضعف لا يستطيع حيلة، قد سلبته المذاهب مذهب الحقّ بأفكارهم و حيلهم، فاستولى عليه الغفلة و وقع الجهل المركّب، و من المعلوم أنّه لا قدرة معه، و لعلّه إلى ذلك يشير قول علي عليه السّلام: «لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه».

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ تعظيم أمر ترك الهجرة و تغليظ جرمه، فإنّ المضطر من حقّه أن لا يأمن غضب اللّه تعالى و يسأله العفو عنه، و يترصّد الفرصة، فكيف بمن تركها من غير عذر.

الثاني عشر:

إطلاق قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ يشمل من خرج لمعرفة الإمام الحقّ و طلب الدين و التفقّه فيه و الحجّ و الزيارات أو ابتغاء الرزق الطيّب و طلب كلّ كمال لم ينه عنه الشرع المبين، و غير ذلك ممّا يقصد بالذهاب إليه طلب مرضاته و امتثال أمره، فإنّ المقصود مرضاته في أي مورد تحقّقت، و يدلّ عليه جملة من الروايات، منها ما رواه العياشي عن محمد بن أبي عمير قال: «وجه زرارة ابنه عبيدا إلى المدينة يستخبر له خبر أبي الحسن موسى عليه السّلام و عبد اللّه، فمات قبل أن يرجع إليه عبيدا ابنه، قال محمد بن أبي عمير:

«حدثني محمد بن حكيم قال: قلت لأبي الحسن عليه السّلام: فذكرت له زرارة و توجيه ابنه عبيدا إلى المدينة، فقال أبو الحسن: إنّي لأرجو أن يكون زرارة ممّن قال اللّه تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ ».

ص: 187

الثالث عشر:

يدلّ قوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ على أنّ العمل يوجب الثواب، فيكون مستحقّا على اللّه تعالى - كما يذهب إليه علماؤنا بخلاف الأشاعرة - فإنّ الأجر عبارة عن المنفعة المستحقّة، و أمّا الّذي لا يكون مستحقّا لا يسمّى أجرا، بل عطيّة وهبة.

الرابع عشر:

يستفاد من قوله تعالى: يَجِدْ فِي اَلْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً أنّ الخروج إلى البلاد و المهاجرة في الأرض يستلزم ملاقاة أفراد كثيرين و أشخاص متعدّدين مختلفين من حيث ضيق المعاش و السعة فيه، فيستدلّ بذلك على قدرة اللّه تعالى، فيعلم أنّ ما يعتمد عليه الإنسان لتحصيل رزقه باطل عاطل، و لا ينبغي الاعتماد إلاّ عليه تعالى.

بحث روائي:

عن البيهقي في سننه عن ابن عباس: «أنّ أناسا من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فيأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله، أو يضرب فيقتل، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ .

أقول: و في رواية أخرى: «كان قوم من أهل مكّة أسلموا و كانوا يستخفون بالإسلام».

و كيف كان، فإنّ ما أصابهم كان جزاء لنفاقهم و لإعانتهم للمشركين، و أنّ الروايات من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق و إن كانت التعبيرات فيها مختلفة، و كلّها من طرق أهل السنّة.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ إلى قوله: وَ ساءَتْ مَصِيراً : «كانوا قوما من المسلمين بمكّة

ص: 188

فخرجوا مع قومهم من المشركين في قتال، فقتلوا معهم، فنزلت: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ ، فعذر اللّه أهل العذر منهم، و هلك من لا عذر له، قال ابن عباس: و كنت أنا و أمّي ممّن كان له عذر».

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على أنّ العذر لم يكن عن تقصير، و أنّه ممّا يقبله اللّه و رسوله، كما تقدّم في التفسير.

و في تفسير علي بن إبراهيم في الآيات المباركة قال: «نزلت في من اعتزل أمير المؤمنين عليه السّلام و لم يقاتل معه، فقالت لهم الملائكة عند الموت: فيما كنتم، قالوا: كنّا مستضعفين في الأرض، أي: لم نعلم مع من الحقّ؟ فقال: ألم تكن أرض اللّه واسعة فتهاجروا فيها، أي: في دين اللّه و كتاب اللّه واسع فتنظروا فيه، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ، ثمّ استثنى فقال: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلرِّجالِ وَ اَلنِّساءِ وَ اَلْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً .

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر أحد المصاديق، و يستفاد منها أنّ المستضعف الممنوع عن الهجرة أعمّ من أن يكون في العقيدة أو في غيرها، و المراد من الأرض الأعمّ من التكوينيّة و غيرها.

و في الكافي بسنده عن هشام بن حمزة بن الطيار قال: «قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: الناس على ستّة أصناف، قلت له: أ تأذن لي أن أكتبها؟ قال: نعم، اكتب أهل الوعدين، أهل الجنّة، و أهل النار، قال: اكتب: و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا، قلت: من هؤلاء؟ قال: وحشي منهم، قال: و اكتب: و آخرون مرجون لأمر اللّه إمّا يعذّبهم، و إمّا يتوب عليهم، قال:

و اكتب: المستضعفين من الرجال و النساء و الولدان لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، لا يستطيعون حيلة إلى الكفر و لا يهتدون سبيلا إلى الإيمان، فَأُولئِكَ عَسَى اَللّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، قال: و اكتب: و أصحاب الأعراف، قلت: و ما أصحاب

ص: 189

الأعراف ؟ قال: قوم استوت حسناتهم و سيئاتهم، فإن أدخلهم النار فبذنوبهم، و إن أدخلهم الجنّة فبرحمته».

أقول: الحصر في ذلك عقلي، إذ لا يوجد صنف آخر غيرهم، و الاستدلال بالآيات المباركة من باب الجري و التطبيق كما تقدّم، و وحشي هو قاتل حمزة عليه السّلام و ذكره من باب المثال.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «و سألت أبا جعفر عليه السّلام عن المستضعف ؟ فقال: هو الّذي لا يستطيع حيلة إلى الكفر فيكفر و لا يهتدي سبيلا إلى الإيمان - لا يستطيع أن يؤمن و لا يستطيع أن يكفر - فمنهم الصبيان و من كان من الرجال و النساء على مثل عقول الصبيان مرفوع عنهم القلم».

أقول: اختلفت الروايات في تحديد المستضعف و تعيينه، فمنها ما حدّدته بضعفاء العقول، كغالب الصبيان، فإنّهم لا يميّزون الحقّ عن الباطل، و لا الضلالة عن الهداية، كما تقدّم في الرواية السابقة و غيرها من الروايات المستفيضة.

و منها: ما حدّد المستضعف ب من لا يعرف سورة من القرآن، كما في رواية ابن إسحاق قال: «سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام ما حدّ المستضعف الّذي ذكره اللّه عزّ و جلّ؟ قال: من لا يحسن سورة من سور القرآن، و قد خلقه اللّه عزّ و جلّ خلقه ما ينبغي لأحد أن لا يحسن»، و المراد من خلقه الفطرة، يعني نزل القرآن حسب الفطرة المستقيمة.

و منها: ما حدّدهم بالبلهاء، كما في رواية سليمان بن خالد عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن المستضعفين ؟ فقال: البلهاء في خدرها و الخادم في خدرها تقول لها: صلّي، فتصلّي لا تدري إلاّ بما قلت له، و الكبير الفاني و الصبي الصغير، يا سليمان هؤلاء المستضعفون، فأمّا رجل شديد العنق جدل خصم يتولّى الشراء و البيع لا تستطيع أن تعينه في شيء، تقول: هذا مستضعف ؟! لا و لا كرامة»، و المراد من البلهاء - الّتي هي جمع أبله - الغافل عن الشرّ و البعيد عنه، المطبوع على الخير،

ص: 190

يظنون بالناس حسنا، يجهلون حذق التصرّف في الدنيا، و قد أقبلوا على آخرتهم، عيشهم قليل الغموم، يتجبّرون عليهم في الدنيا لفقرهم و رثاثة حالهم، و لذلك استحقوا أن يكونوا أكثر أهل الجنّة، كما ورد في الخبر: «أكثر أهل الجنّة البلهة»، و ما ذكره عليه السّلام من بعض المصاديق، و ليس المراد الأبله الّذي لا عقل له، و في الحديث: «عليك بالبلهاء، قلت: و ما البلهاء؟ قال: ذوات الخدود و العفائف».

و الفرق بين السفه و البله واضح كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و منها: ما حدّده بمن لا يعرف اختلاف الناس، كما في رواية أبي بصير عن الصادق عليه السّلام قال: «من عرف اختلاف الناس فليس بمستضعف»، و المراد من اختلاف الناس معاشرتهم على طريق الشرع، أو اختلاف مذاهبهم.

و منها: ما حدّده بأهل الولاية على وجه العموم، كما في رواية حمران قال:

«سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: إِلاَّ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ ، قال: هم أهل الولاية. فقلت: أي ولاية ؟ فقال: أما إنّها ليست بولاية في الدين، و لكنّها الولاية في المناكحة و الموارثة و المخالطة، و هم ليسوا بالمؤمنين و لا بالكفّار، و هم المرجون لأمر اللّه».

و لكن ذكرنا في التفسير أنّ المراد من المستضعف مطلق من لا حول له و لا سبيل، سواء كان في النفس أو في البدن أو في الرأي أو في الحال، و لجميع ذلك مراتب، و بذلك يمكن الجمع بين الأخبار. فإنّ ما ورد فيها من باب ذكر المصاديق لا المعنى الحقيقي.

و في تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام قال: «المستضعفين من الرجال و النساء لا يستطيعون حيلة و لا يهتدون سبيلا، قال: لا يستطيعون سبيل أهل الحقّ فيدخلون فيه، و لا يستطيعون حيلة أهل النصب فينصبون، قال: هؤلاء يدخلون الجنّة بأعمال حسنة و باجتناب المحارم الّتي نهى اللّه عنها، و لا ينالون منازل الأبرار».

ص: 191

أقول: الرواية مطابقة للعقل و الفطرة؛ لأنّ اللّه تعالى لا يكلّف أحدا أكثر من قدرته و عرفانه ما لم يتحقّق تقصير منه فيهما، و أنّ للّه منازل حسب درجات الإيمان و مدارج الأعمال، و يدلّ على ما ذكرنا رواية ضريس الكناسي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت له: جعلت فداك ما حال الموحّدين المقرّين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله من المذنبين الّذين يموتون و ليس لهم إمام و لا يعرفون ولايتكم ؟ فقال:

أمّا هؤلاء فإنّهم في حفرهم لا يخرجون منها، فمن كان له عمل صالح و لم يظهر منه عداوة، فإنّه يخد له خدا إلى الجنّة الّتى خلقها اللّه بالمغرب، فيدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة حتّى يلقى اللّه فيحاسبه بحسناته، فإمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار، فهؤلاء الموقوفون لأمر اللّه، قال: و كذلك يفعل بالمستضعفين و البله و الأطفال و أولاد المسلمين الّذين لم يبلغوا الحلم»، و المراد من الخد: أنّه يشقّ له طريقا إلى الجنّة الّتي توارت في مغيبها عن الناظرين، أي خلقها اللّه تعالى بالمغرب.

كما أنّ المراد من قوله عليه السّلام: «يدخل عليه الروح في حفرته إلى يوم القيامة»، نحو من الإدراك و قسم من الشعور الّذي تحسّ النفس، يعني من بدء وضعه في حفرته تشعر الروح بالسعادة أو الشقاء. و تقدّم معنى البله، و أمّا الأطفال فهم الموقوفون لأمر اللّه تعالى، أي: يمتحنهم في يوم القيامة كما في كثير من الروايات.

و في الكافي عن أبي الحسن موسى عليه السّلام: «أنّه سئل عن الضعفاء؟ فكتب عليه السّلام:

الضعيف من لم ترفع له حجّة، و لم يعرف الاختلاف، فإذا عرف الاختلاف فليس بضعيف».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه سابقا.

و عن علي عليه السّلام في كلام له في الإيمان و وجوب الهجرة: «و الهجرة قائمة على حدّها الأوّل ما كان للّه في أهل الأرض حاجة من مستسرّ الأمّة و معلنها، لا يقع اسم الهجرة على أحد بمعرفة الحجّة في الأرض، فمن عرفها و أقرّ بها فهو مهاجر، و لا يقع اسم الاستضعاف على من بلغته الحجّة فسمعتها أذنه و وعاها قلبه».

ص: 192

أقول: يبيّن عليه السّلام غرض الهجرة و معناها، و أنّ من أراد الفوز بمعارج اليقين و النيل إلى أعلى مراتب الإيمان فليهاجر إلى أئمة الدين عليهم السّلام، فإنّ الهجرة باقية على أصولها الأوليّة و حدّها الّذي كان في أوّل البعثة؛ لأنّ الغاية من الهجرة ليست إلاّ الدنو إلى الحضور بالوصول إلى حضرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و هي بعد باقية، فإنّ الأئمة المعصومين قائمون مقامه و هم خلفائه. و ليس للّه في طلب الهجرة من عباده حاجة؛ لأنّه الغني المطلق و العزيز المقتدر، و إنّما طلب منهم ذلك لأجل إيصال النفع إليهم و نجاتهم عن المهالك و الشدائد بالإيمان به و الركون إليه جلّ شأنه، و لا يقع اسم المهاجر إلاّ بمعرفة حجّة اللّه في أرضه و الإيمان به - سواء كان نبيّا أو وصيّا - لتحقّق الغرض، و هو الوصول، و يؤكّد عليه السّلام ذلك من أنّ من بلغته الحجّة و عرفها لا يكون مستضعفا و إن لم يتجشم عناء السفر و كان في وطنه، كما يدلّ على ذلك ما تقدّم من الروايات، و ما عن الصادق عليه السّلام: «أنّه سئل ما تقول في المستضعفين ؟ فقال شبيها بالفزع: فتركتم أحدا يكون مستضعفا، و أين المستضعفون ؟! فو اللّه لقد مشى بأمركم هذا العوانق إلى العوانق في خدورهن، و تحدّثت به السقاآت في طريق المدينة»، يعني: لا يسوغ له التقصير في الإيمان بالحجّة بعد الظهور و السماع و المعرفة لكلّ أحد، فلا يقع عليه اسم الاستضعاف حينئذ. و العوانق جمع عنق الرقبة.

و في الكافي بإسناده عن إسماعيل الجعفي قال: «سألت أبا جعفر عن الدين الّذي لا يسع العباد جهله ؟ قال: الدين واسع و لكن الخوارج ضيّقوا على أنفسهم من جهلهم، قلت: جعلت فداك فأحدّثك بديني الّذي أنا عليه ؟ فقال: نعم، فقلت:

اشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّ محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند اللّه تعالى، و أتولاّكم و أبرأ من أعدائكم و من ركب رقابكم و تأمرّ عليكم و ظلمكم حقّكم، فقال: و اللّه ما جهلت شيئا هو و اللّه الّذي نحن عليه، فقلت: فهل يسلم أحد لا يعرف هذا الأمر؟ فقال: لا إلاّ المستضعفين، قلت: من هم ؟ قال: نساؤكم

ص: 193

و أولادكم. ثمّ قال: أ رأيت أم أيمن ؟ فإنّي اشهد أنّها من أهل الجنّة، و ما كانت تعرف ما أنتم عليه».

أقول: إنّها تدلّ على أنّ الدين يطيقه كلّ أحد و ليس فيه ما يوجب الشدّة و الحرج، إلاّ أنّ بعض الأقوام شدّدوا على أنفسهم بالضيق لجهلهم بواقع الدين، فإنّ أصوله موافقة للفطرة، و ما كان كذلك لا ضيق فيه، و لا يسلم أحد لا يعرف الدين إلاّ المستضعفون الّذين لا سبيل لهم إلى المعرفة إلاّ بمقدار إدراكهم، كما تقدّم.

و في معاني الأخبار بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ المستضعفين ضروب يخالف بعضهم بعضا، و من لم يكن من أهل القبلة ناصبا، فهو مستضعف».

أقول: و الروايات في ذلك مستفيضة، و إنّما لم يكن الناصب من المستضعف؛ لأنّ النصب لا يتحقّق إلاّ عن عناد و تقصير كما هو واضح، و هناك روايات أخرى متّفقة المضمون مختلفة التعبير، جار فيها ما ذكرناه.

و عن علي عليه السّلام: «من مات في سبيل اللّه فهو ضامن على اللّه أن يدخله الجنّة؛ لقوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ ».

أقول: المراد من سبيل اللّه مطلق مرضاته و ما يوجب التقرّب إليه، سواء كان في طلب العلم و الكمال أو الجهاد في سبيله أو في السفر إلى الحج أو الخروج لأجل صلة الرحم أو غير ذلك، فهو تعالى ضامن، أي: يتكفّل أن يدخله الجنّة و يعطيه الأجر الجزيل؛ لأنّ ذلك نوع من الهجرة إليه تعالى، الّتي تلازم السعادة الأبديّة و العاقبة الحميدة.

و في المجمع عن أبي حمزة الثمالي قال: «لما نزلت آية الهجرة سمعها رجل من المسلمين و هو جندب بن عمرة و كان بمكة، فقال: و اللّه ما أنا ممّن استثنى اللّه، إنّي لأجد قوة و إنّي لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض فقال لبنيه: و اللّه ما أبيت

ص: 194

بمكّة حتّى أخرج منها، فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير حتّى إذا بلغ التنعيم مات، فنزلت الآية».

أقول: ذكر الواقدي في أسباب النزول أنّ المهاجر كان حبيب بن حمزة، و السيوطي في الدرّ المنثور: جندع بن حمزة أو رجل من بني ليث أو أكثم.

و كيف كان، فالمورد إمّا من باب التعدّد في القضية، أو اختلاف الاسم، فمهما كان فما ورد في تلك الروايات إنّما هو من باب التطبيق و الجري، لا التخصيص.

و في الدرّ المنثور عن ابن زيد قال: «هاجر رجل من بني كنانة يريد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فمات في الطريق فسخر به قوم و استهزءوا به، و قالوا: لا هو بلغ الّذي يريد، و لا هو أقام في أهله يقومون عليه و يدفن، فنزل القرآن: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اَللّهِ ».

أقول: الرواية إمّا من باب التطبيق، أو من باب تعدّد النزول، و لا إشكال فيه كما تقدّم. و هناك روايات أخرى متّفقة المضامين و مختلفة التعابير، كلّها تدلّ على أنّ الهجرة هي الحجّة البالغة للإنسان، سواء وصل إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو لم يصل، و سواء خرج معه صلّى اللّه عليه و آله الى الجهاد أو لم يخرج، فقد روي عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أنّه لما رجع من غزوة تبوك و دنا من المدينة قال: إنّ في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير و لا قطعتم من واد إلاّ كانوا معكم، قالوا: يا رسول اللّه و هم بالمدينة! قال: نعم و هم بالمدينة حبسهم حابس العذر. و هم الّذين صحّت نياتهم و تعلّقت قلوبهم بالجهاد، و إنّما منعهم عنه الضرر».

و في تفسير العياشي عن أبي الصباح قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ما تقول في رجل دعي إلى هذا الأمر فعرفه و هو في أرض منقطعة، إذ جاءه موت الإمام عليه السّلام، فبينما هو ينظر إذ جاءه الموت، فقال: هو و اللّه بمنزلة من هاجر إلى اللّه و رسوله فمات، فقد وقع أجره على اللّه».

أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرناه كما مرّ، و هي مطابقة لما دلّ من أنّ الناس يحشرون حسب نياتهم.

ص: 195

بحث عرفاني:
اشارة

الهجرة و هي الانتقال و الرحيل سواء كان من الوطن إلى غيره أو من حال الى غيرها. و إنّها من أكمل الصفات الحسنة و أجلّها إن كانت ناشئة من الحبّ الحقيقي الواقعي للّه سبحانه و تعالى و الانقطاع إليه جلّ شأنه، و بها يحصل الودّ و الحبّ له عزّ و جلّ ، و منه تعالى لعبده.

بل أنّ الهجرة من الفناء في ذاته جلّت عظمته؛ لأنّ بها يخرج الإنسان عن ذلّ ما توطّن فيه من الصفات الذميمة و يبعد عن المعاصي - الّتي تحصل عن الأهواء الشيطانيّة - كالكبر و الحسد و البطر و الجهل و غيرها.

و بالهجرة يفوز الإنسان و ينال الكمالات بأنواعها و أقسامها الظاهريّة و المعنوية، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت هجرته إلى اللّه و رسوله فهجرته إلى اللّه و رسوله، و من كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوّجها فهجرته إلى ما هاجر إليه».

و بالهجرة يرتقي الإنسان عن حدود البشريّة في طلب حضرت الربوبيّة إلى منتهى السعادة بصفاء القلب و تزكيته و العروج إليه جلّت عظمته؛ لأنّ البقاء و السكون فيها الّذين لا يرضاهما تعالى من آثار الحجب و البعد عن ذاته المقدّسة و القرب من الشيطان.

و بها يستغني المهاجر عن ما سواه تعالى، و يذوق لذّة العبوديّة للّه جلّ شأنه، و ينال شرفها بالخضوع الحقيقي له عزّ و جلّ . فالهجرة الواقعيّة من أسمى الصفات الكريمة و أجلّ الكمالات الواقعيّة و أرفع المنازل العظيمة، و أشرف الحقائق بل هي غاية السير و السلوك إليه عزّ و جلّ ؛ لأنّها مبايعة اللّه تعالى مع عبده بالهجرة إليه عزّ و جلّ .

ص: 196

أقسام الهجرة:
اشارة

للهجرة أقسام مختلفة تنشأ من علو الهمّة الّتي هي تختلف باختلاف الأشخاص و مراتب الإيمان و منازل الأوطان:

الأوّل:

الهجرة من الوطن إلى غيره لنيل الدنيا، فإنّ هجرته إلى ما هاجر إليه، كما تقدّم عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و لا شرف فيها، بل في التعبير بها تسامح، و الآيات الشريفة و السنّة المباركة بمعزل عنها.

الثاني:

الهجرة بترك الأوطان و البعد عن الإخوان لنيل الكمال المنشود في رضائه تعالى بصحبة عالم عامل أو حكيم عارف أو معلّم مشفق. و لها مرتبة من الشرف، و قد يحصل بها الرقي إلى المنازل الرفيعة و الدرجات الساميّة، و تسمّى بهجرة الأخيار.

الثالث:

الهجرة من وطن الملك بالسعي في ترك جميع الحظوظ النفسانيّة للوصول إلى عالم الملكوت. أو من وطن المعصية إلى شرف الطاعة و السكون فيه بمعرفة الحقّ و تجليه له، و هي من أكملها و أعلاها و تسمّى بهجرة الخواص، و بها يبلغ المقصود و يخضع له ما في عالم المشهود لخضوعه الواقعي له عزّ و جلّ ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من انقطع إلى اللّه كفاه كلّ مؤنة و رزقه من حيث لا يحتسب»، و قد تقدّم في التفسير مكرّرا أنّ الرزق أعمّ من الإفاضات الظاهريّة و المعنويّة.

الرابع:

الهجرة من وطن الغفلة إلى شرف اليقظة، أي: من وطن الحسّ إلى وطن المعنى بمكاشفة الأفعال و مشاهدة الصفات في ترك إقبال الخلق و العزل عن طلب الكرامة فيهم، و لا ينال هذا القسم إلاّ من امتحن اللّه قلبه بالإيمان.

و بهذه الهجرة ينال العبد أسمى صفات العبوديّة و أجلّها، و هي كما عن الصادق عليه السّلام: «العبوديّة جوهرة كنهها الربوبيّة»، و بها يستغنى عن ما سواه تعالى و لا يعظم غيره عزّ و جلّ ، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من كانت الآخرة نيّته جمع اللّه

ص: 197

عليه أمره و جعل غناه في قلبه و أتته الدنيا، و هي صاغرة»، و قال تعالى: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ ، و تسمّى هذه الهجرة بهجرة الأبرار.

الخامس:

الهجرة من عالم الأشباح إلى عالم الأرواح، أي من الأكوان إلى المكوّن، و هي تختصّ بأخصّ الخواص، و تسمّى بهجرة المقرّبين و من أجلّها الإسراء و المعراج: وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ اَلْمُنْتَهى [سورة النجم، الآية: 42].

و الجامع بين الأقسام الرحيل من علم اليقين إلى عين اليقين، و منه إلى حقّ اليقين، أو من الشهود إلى المعرفة و منها إلى المعاينة. فمن هاجر من هذه المواطن قاصدا بهجرته الوصول إلى حضرة المحبوب بنيل رضاه، فقد بلغ أقصى مراتب السعادة و أشرف منازل الكرامة.

أسباب الهجرة:

تنشأ الهجرة النفسانيّة و عروج القلب إلى المشاهدة بتجاوز حدود البشرية من أسباب عديدة، أهمّها المحبّة للّه تعالى، و الغنى به جلّت عظمته، و الصدق في العبوديّة - بالاستسلام لما يورد عليه و الاستعانة منه جلّ شأنه - و اليقين في أحكام الربوبيّة، بتزكية النفس و مخالفة هواها؛ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 9]، و لكلّ من هذه الأمور مراتب و درجات و حدود، و لو لا قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المؤمن ملجم»، لكان لغور البحث فيها مجال.

آثار الهجرة:

لكلّ من أقسام الهجرة آثار تختلف حسب الهجرة الّتي هاجرها المهاجر، بهجران الصفات الرذيلة و تبديل الأخلاق الفاسدة بالحسنة و ترك الحظوظ النفسانيّة و قهر الهوى بالمقامات العالية، فقد ينقّى الأثر بالرقي إلى مكارم الأخلاق،

ص: 198

و الوصول إلى أقصى مراتب الكمال بسعادة الدارين، و نيل رضاه عزّ و جلّ ، و يبلغ القصد بالشهود بشرف العبوديّة في السير و السلوك حتّى لا يحتاج إلى دليل و برهان في إثبات صفات الجمال و الجلال، تبعا للهجرة الموصلة إلى المطلوب، بل قد ينال من الحياة الأبدية في هذه النشأة، كما ورد في شأن بعض الخواص من أصحاب الصادق عليه السّلام.

و لو مات المهاجر قبل أن يصل إلى مراده و مسعاه، فله نصيب من بلغ إلى ذلك المقام، ففي الأثر: «أنّ المؤمن إذا مات و لم يحفظ القرآن، أمر حفظته أن يعلموه في قبره حتّى يبعثه اللّه يوم القيامة مع أهله»، و قد ثبت في محلّه أنّ الرقي في عالم البرزخ موجود لأهله. و أمّا قوله تعالى: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي اَلْآخِرَةِ أَعْمى [سورة الإسراء، الآية: 72]، إنّما هو بالنسبة لمن لا معرفة له أصلا، لا من انكشف عنه الغطاء بالهجرة و ارتفع العمى و الحجاب بالسير و السلوك إلى حضرة الربوبيّة في رضاه تعالى برؤية آثاره و صفاته جلّت عظمته. و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله»، هذا بالنسبة إلى أعماله الخارجيّة و أمّا بحسب فضله تعالى فلا يتصوّر فيه حدّ حتّى ينقطع، و المهاجر الحقيقي كان من نيته دوام الهجرة و التوطّن في المقامات العالية؛ و لأجل ذلك أضاف جزاءه إلى نفسه الأقدس بقوله تعالى: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ ، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى في القدسيات: «لا يسعني أرضي و لا سمائي، و إنّما يسعني قلب عبدي المؤمن».

موانع الهجرة:

و هي العوائق الموجودة في النفس، المستندة إلى الأهواء الشريرة المتوطّنة في النفس البشرية الحاصلة من الوساوس الشيطانيّة، كالتخويف بالموت أو الفوت أو المحبّة لما سواه تعالى من الأهل و المال و الجاه، فهذه حجب شيطانيّة تمنع عن الهجرة

ص: 199

بالسير و السلوك، و تحجب عن مشاهدة التجلّيات و هو جمال الحقّ ، فحسن الأعمال نتائج حسن الأحوال من صلاح القلب و التوجّه إلى اللّه، و بذلك تصلح الهجرة و الرحيل، وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ ، أي: بيت بشريته بترك الدنيا و قمع الهوى مُهاجِراً الى التقرّب به جلّ شأنه بمبايعة رسوله، ثُمَّ يُدْرِكْهُ اَلْمَوْتُ قبل وصوله إلى مطلوبه و مسعاه، فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ ، أي: بذمّة كرمه و فضله و رحمته فيبلغه إلى أقصى مقاصده إن كان المانع أجله، «فإنّ نيّة المؤمن خير من عمله»، و «يحشر الناس على نيّاتهم»، هذا إذا لم يأت بما يوجب بطلان الهجرة و البعد عن تشرّف الوصلة بالتقرّب إليه، وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً للذنوب خصوصا ذنب أنانيّة الوجود، رَحِيماً بتجلّي صفة جوده حتّى يبلغ العبد إلى كمال مقصوده و مسعى غايته بمنّه وجوده و كرمه.

بحث فقهي:
اشارة

يستفاد من الآيات الشريفة الأحكام الفقهيّة التالية:

الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: لا يَسْتَوِي اَلْقاعِدُونَ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي اَلضَّرَرِ وَ اَلْمُجاهِدُونَ ، أنّ الجهاد واجب كفائي يسقط عن أولي الضرر، و عمّن تقوم به الكفاية، و إلاّ لما كان القاعد لا لضرورة غير آثم، و لما استحقّ الوعد الحسن، و تدلّ الآية الكريمة و غيرها على أفضليّة الجهاد في سبيل اللّه تعالى، و الأخبار في ذلك كثيرة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَوَفّاهُمُ اَلْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي اَلْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اَللّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً ، على وجوب المهاجرة من أرض لم يتمكّن فيها من إقامة الشريعة، بلا فرق بين أن تكون الإقامة فيها موجبه

ص: 200

لارتكاب محرّم أو ترك واجب، فإنّه محرّم أيضا، و يدلّ عليه بعض الأخبار، ففي صحيح محمد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام: «في رجل أجنب و لم يجد إلاّ الثلج أو ماء جامدا، قال عليه السّلام: يتيمم به و لا أرى أن يعود إلى هذه الأرض الّتي توبق دينه»، فإنّ عموم العلّة يشمل جميع ما ذكرناه. و يدلّ على العموم أيضا قوله عليه السّلام: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و إن كانت شبرا من الأرض استوجبت له الجنّة و كان رفيق أبيه إبراهيم و نبيّه محمد (صلوات عليهم عليهما)، فالمهاجرة واجبة على كلّ من لم يتمكّن من إقامة دينه، أو كانت الإقامة موبقة لدينه و يسقط الوجوب لو كان له ظهر يحميه من المشركين من عشيرة و نحوها، فيمكنه إظهار إيمانه و يكون آمنا على نفسه.

و يظهر ممّا ذكرنا أنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بعصر النزول، و أنّ وجوب الهجرة باق ما دام المقتضي موجودا، و هو الكفر و الشرك و عدم التمكّن من إقامة شعائر الإسلام. و أمّا الحديث المروي عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «لا هجرة بعد الفتح»، فإنّه محمول على نفي وجوب الهجرة عن مكّة المكرّمة بعد فتحها؛ لأنّها صارت من بلاد الإسلام، و لإمكان إقامة الشعائر فيها كما في كلّ بلاد الشرك إذا فتحت و دخل أهلها في الإسلام، فإنّه لا يجب الهجرة منها لعدم المقتضي.

و يستفاد من الآية الشريفة استحباب الخروج من أرض يعصى اللّه تعالى فيها، و يدلّ عليه قوله تعالى: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ [سورة العنكبوت، الآية: 56]، و في الحديث عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إذا عصي اللّه في أرض و أنت فيها فأخرج منها إلى غيرها»، المحمول على الاستحباب.

و هل تشمل الآية الكريمة الهجرة من الأرض الّتي لا يتمكّن فيها من إقامة شعائر الإيمان ؟ فيه بحث مذكور في الكتب المفصّلة.

الثالث:

يستفاد من إطلاق الآية المباركة أنّ الهجرة باقية مادام الكفر باقيا،

ص: 201

و أنّها غير مقيّدة بزمان خاص و لا بمكان معين، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «تنقطع الهجرة حتّى تنقطع التوبة حتّى تطلع الشمس من مغربها»، مضافا إلى الإجماع.

الرابع:

مقتضى أدلّة وجوب الهجرة أنّها تنقسم إلى الهجرة الواجبة و المستحبّة و المباحة، أمّا الأولى فكما تقدّم، و أمّا الثانية كما إذا كان في بلاد الشرك و يمكنه إظهار الشعائر الدينيّة و العمل بها، و مع ذلك تستحبّ الهجرة لئلاّ يكثر به عددهم أو يترتّب عليه عنوان يوجب رفع شأنهم، و أمّا الثالثة كما في موارد وجود العذر في الهجرة.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اَللّهِ وَ رَسُولِهِ على أنّ كلّ هجرة لغرض ديني من طلب علم أو حجّ أو جهاد أو الفرار من بلد الشرك إلى بلد الإسلام، أو الهجرة من الباطل إلى الحقّ ، ففي الحديث: «من دخل إلى الإسلام طوعا، فهو مهاجر»، و كذا الفرار إلى بلد يزداد فيه طاعة اللّه تعالى أو زهدا في الدنيا أو قناعة أو ابتغاء رزق طيب، فهي هجرة إلى اللّه تعالى و رسوله و إن أدركه الموت في طريقه فأجره يكون على اللّه تعالى؛ لأنّ المستفاد من الآية الشريفة هو طلب مرضاة اللّه و رسوله، فأين ما تحقّق المقتضي شملته الآية الكريمة.

ص: 202

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَ.......

اشارة

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى بعض ما يتعلّق بالجهاد و الهجرة إلى سبيله عزّ و جلّ و حثّ عليهما بأتمّ وجه و أكمل بيان أراد جلّ شأنه أن يبيّن حكم المجاهدين مع أعداء اللّه تعالى في العبادات إذا أحاطهم الخوف و مانع عن ذكره جلّت عظمته، و حكم صلاة الخوف و بيان الصورة الّتي يؤدى بها.

و بمناسبة الهجرة من دار الكفر و الشرك و الضلال إلى دار الإسلام بيّن سبحانه و تعالى حكم الصلاة في السفر من القصر فيها، بعد بيان الحكمة في تشريع القصر فيها.

ص: 203

و يأتي ذكر الصلاة بعد الحثّ الشديد إلى الجهاد و الترغيب الأكيد إلى الهجرة؛ للأهميّة العظمى بها في شريعة الإسلام، حتّى أنّ الخوف من الأعداء و فتنتهم و تحمّل أهوال السفر و مشاقّه و متاعبه، لا تحول كلّ ذلك عن أداء الصلاة في أوقاتها. و إنّما تكون على قصر في كلتا الحالتين، و بالكيفيّة الّتي ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآيات بالنسبة إلى صلاة الخوف و المطاردة.

و يبيّن عزّ و جلّ أنّ الصلاة الّتي هي الصلة بين الإنسان و خالقه لا يمكن أن يكون الخوف المحيط به و هول السفر و متاعبه مانعا عن أدائها مع شدّة احتياج الإنسان في لحظة الخوف إلى ذكر اللّه تعالى ليطمئن قلبه، ثمّ تنتهي الآيات المباركة بالترغيب إلى ملاحقة أعداء اللّه تعالى و تعقيب المشركين و مقاتلتهم، فكانت هذه الآية الكريمة ختام آيات الجهاد الّتي بدأت بالقتال و أخذ الحيطة و الحذر، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ اِنْفِرُوا جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 71]، فكان الختام بالآية المباركة الّتي لخّصت الموقف كلّه، و هو الدعوة إلى القتال و ملاحقة المشركين حتّى يكفّ بأس الكافرين و يدفع أذاهم عن الإسلام و المؤمنين.

و تتضمّن الآية الكريمة حقيقة من الحقائق الّتي يكون لها الأثر الكبير في حسم الموقف و تحريض المؤمنين و تهيئتهم.

التفسير
قوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ .

الضرب في الأرض: هو السفر و السير على ما تقدّم. و الجناح الإثم المائل بالإنسان عن الحقّ ، و هو مأخوذ من الجناح الّذي في الطير، و منه قوله تعالى:

ص: 204

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها [سورة الأنفال، الآية: 61]، أي: مالوا إلى الصلح.

ثمّ سمّى كلّ إثم جناحا. و نفي الجناح لا ينافي وجوب القصر لو تحقّقت شروطه المذكورة في السنّة، فإنّه تعالى جرى على طريقة المخاطبات العرفيّة، و من آداب الملوك نفي البأس و الحرج عن الشيء و إرادة الأمر به و طلب الإلزام، لو كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر كما يأتي.

و القصر - بالفتح - كعتب خلاف المد، يقال: قصرت الشيء إذا جعلته قصيرا بحذف بعض أجزائه أو أوصافه، و منه قوله تعالى: مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ [سورة الفتح، الآية: 27]، و قوله تعالى: وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ اَلطَّرْفِ عِينٌ [سورة الصافات، الآية: 48]، و هي الّتي لا تمدّ نظرها إلاّ إلى زوجها، فلم يطمحن النظر إلى غيرهم، و التعبير بنقص بعض ركعات الصلاة بالقصر من اللغة العالية الّتي جاء بها الكتاب العزيز.

و المفعول محذوف تقديره (شيئا)، و مِنَ اَلصَّلاةِ صفة و بيان له.

و المعنى: فإذا سافرتم فلا حرج و لا مانع من أن تنقصوا شيئا من الصلاة، و قيل: الصلاة مفعول تقصروا و (من) زائدة. و المراد من الصلاة جنسها، فيشمل كلّ صلاة إلاّ ما خرج بالدليل، كصلاة الصبح و صلاة المغرب، و يختصّ القصر بالصلاة الرباعيّة بتنصيفها. كما أنّ إطلاق الأرض يشمل كلّ أنحائها من البر أو البحر أو الجوّ، كما أن عموم الضرب يشمل كلّ سفر إلاّ ما خرج بالدليل كسفر المعصية، فتشمل سفر الطاعة و سفر المباح و غيرهما.

و تقدّم أنّ نفي الجناح الدالّ على الجواز بوحده لا ينافي الوجوب إذا كان في مقام التشريع أو دفع توهّم الحظر، كما في قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما [سورة البقرة، الآية: 158]، فإنّه كما عرفت أنّ الطواف واجب و التعبير بنفي الجناح - مع أنّ المقام مقام فرض و وجوب - لأجل أنّ الإتمام لما كان عادة عندهم و قد ألفوه و اعتادوا

ص: 205

عليه، كان مظنة لأنّ يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في السفر، فنفي عنه الجناح لتطيب به نفوسهم، و قد ذكرنا ما يتعلّق بهذا التعبير في آية الطواف أيضا فراجع.

و إرادة الوجوب بهذا التعبير من أسمى لغة الفصاحة و البلاغة الّتي يمتاز بها القرآن الكريم.

و يدلّ على ذلك صحيحة زرارة و محمد بن مسلم قالا: «قلنا لأبي جعفر عليه السّلام:

ما تقول في الصلاة في السفر، كيف هي ؟ و كم هي ؟ فقال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ، فصار التقصير في السفر واجبا كوجوب التمام في الحضر، قالا: قلنا إنّما قال اللّه تعالى:

فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ و لم يقل افعلوا، فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام في الحضر؟! فقال عليه السّلام: أو ليس قد قال: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ فَمَنْ حَجَّ اَلْبَيْتَ أَوِ اِعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما ألا ترون أنّ الطواف بهما واجب مفروض؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ ذكره في كتابه، و صنعه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و كذا التقصير في السفر صنعه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و ذكره اللّه في كتابه، قالا: قلنا: فمن صلّى من الصلاة أربعا، أ يعيد أم لا؟ قال عليه السّلام: إن كان قد قرأت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه، و الصلاة كلّها في السفر الفريضة ركعتان كلّ صلاة إلاّ المغرب، فإنّها ثلاث ليس فيها تقصير، تركها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في السفر و الحضر، ثلاث ركعات - الحديث -»، إلى غير ذلك من الأخبار الّتي وردت في هذا المضمون الدالّة على الوجوب، و مقتضاها كون التقصير في صلاة السفر لو تحقّقت شروطه عزيمة لا رخصة، فلا يجزيه الإتمام، و ممّا ذكرنا يعلم فساد جملة ممّا ذكروه في المقام، و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا .

الفتنة: هي الاختبار بالمكروه و الأذى، و في الحديث: «انّكم تفتنون في القبور»، أي: تمتحنون و تختبرون، و يراد بها مسألة المنكر و النكير، و عنه صلّى اللّه عليه و آله:

ص: 206

«فبي يفتنون و عني تسألون»، أي: تمتحنون بي في الدنيا و الآخرة، و يتعرّف على إيمانكم بتصديق نبوّتي، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة، و قد كثر استعمالها فيما أخرجه الاختبار للمكروه، ثمّ كثر حتّى استعمل بمعنى الإثم و الكفر و القتال و الصرف عن الشيء، و يراد بها في المقام الإيذاء بالقتل و الضرب و التعذيب و نحوها.

و الجملة شرط لنفي الجناح في قصر الصلاة، أي: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم الأذيّة و التعذيب من الّذين كفروا. و مفهوم الشرط و إن كان حجّة إلاّ أنّه يعتبر فيه أن يكون الشرط علّة تامّة منحصرة للجزاء، و إلاّ فلا مفهوم له كما في المقام، فإنّ الشرط إنّما هو لبيان الواقع، إذ أنّ في بدء التشريع الغالب كان على المسلمين الخوف في الأسفار، فتكون الآية الشريفة لبيان أحد مصاديق القصر، و أمّا السنّة الشريفة فقد بيّنت بقية المصاديق و دلّت على شمول القصر لجميع الأقسام و الصور.

بل يمكن أن يقال: إنّ المستفاد من الأدلّة الواردة في هذا المقام أنّ السفر مستقلّ في وجوب القصر من غير مدخليّة الخوف فيه، كما أنّ الخوف بنفسه مستقلّ في القصر أيضا، كما سيأتي. و بناء على ذلك لا وجه لما عن بعض من اشتراط القصر في السفر بالخوف؛ لظاهر الآية الشريفة الّذي عرفت أنّه لا حجّية فيه. على أنّه معارض بما هو أقوى حجّة على عدم الاشتراط، و سيأتي في البحث الروائي و الفقهي ما يتعلّق بذلك.

و الحاصل: أنّ الخوف من الفتنة و القتل من قبيل بيان إحدى حكم تشريع القصر في السفر، لا أن يكون شرطا فيه، و هو أيضا من باب الغالب في الأزمنة القديمة، لا سيما عصر نزول الآية الشريفة.

قوله تعالى: إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً .

العدو يستوي فيه الواحد و الجمع، و قيل: هو مصدر على وزن فعول

ص: 207

كالقبول. و الجملة في موضع التعليل لتوقّع الفتنة. أي: أنّ من شأن الكافرين يكونوا لكم أعداء لا يضيعون فرصة في إيذاء المسلمين.

و قد وصف سبحانه و تعالى عداوتهم بكونها واضحة لا خفاء فيها، كما وصف عداوة إبليس لبني آدم عليه السّلام بذلك أيضا، حيث قال عزّ و جلّ : إِنَّ اَلشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً [سورة الإسراء، الآية: 53]، فيعرف أنّ الكافرين من أولياء الشياطين.

قوله تعالى: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ .

بيان لكيفيّة صلاة الخوف. و الخطاب للرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله باعتباره إماما للمسلمين و رئيسهم، فيكون من قبيل إيراد المثال و إرادة الجميع بطريق التجريد، لكونه أوجز و أبلغ.

و إقامة الصلاة لهم أي: ايتانها جماعة و الايتمام به صلّى اللّه عليه و آله، و ذكر بعضهم أنّ المراد بها إقامة الصلاة المأتي بها بعد الأذان لتعدّيها باللام، و هو خلاف سياق الآية المباركة، بل المنساق ما ذكرناه، و هو الدعوة إلى أدائها جماعة، و كان هو الإمام لهم.

و المعنى: و إذا كنت فيهم يا رسول اللّه فصلّيت بهم جماعة و كنت أنت الإمام لهم، و الحال حال الخوف و الزمن زمن فتنة الكفّار الّذين هم عدو لكم.

و ذكر بعضهم أنّ ظاهر الآية الشريفة اختصاص الخطاب بالرسول صلّى اللّه عليه و آله فيكون شرط صلاة الخوف هو وجوده صلّى اللّه عليه و آله فيهم، فتكون من خواصه. و لكن هذا القول موهون لما عرفت؛ و لقيام الدليل على ثبوت صلاة الخوف بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أيضا.

قوله تعالى: فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ .

الطائفة الجماعة، و ربما تطلق على الواحد أيضا، أي: أقسمهم إلى طائفتين، فلتقم إحداهما معك يقتدون بك في الصلاة، و تبقى الأخرى تجاه العدو و تراقبه، و لم يذكر عزّ و جلّ هذه الطائفة غير المصلّين، لدلالة ظاهر الكلام عليه.

ص: 208

قوله تعالى: وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ .

السلاح: اسم لما يدفع الإنسان به عن نفسه، و يختلف ذلك باختلاف العصور. و الظاهر توجّه الخطاب إلى الطائفة القائمة معه صلّى اللّه عليه و آله في الصلاة، فليأخذوا أسلحتهم و لا يدعوها وقت الصلاة.

و قيل: بتوجه الخطاب إلى الطائفة الأخرى المراقبة للعدو المستفاد من سياق الكلام. و قيل: إنّ المأمور بأخذ السلاح هو الجميع، الطائفتين - المصلّين و المراقبين - معا. و لا يخفى ما في كلا القولين، فإنّ أخذ السلاح في مثل هذه الحالة أمر ضروري إلاّ في حال الصلاة الّتي لا قتال فيها و لا نزال، و قد ورد النهي عن حمل السلاح حال الصلاة، فاحتاج إلى الأمر بأخذه حالها، و لا يوجد مثل هذه القرينة في الاحتمالين الآخرين.

ثمّ إنّ ظاهر الأمر هو وجوب حمل السلاح حال الصلاة مع العذر و الخوف.

قوله تعالى: فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ .

أي: فإذا فرغ المصلّون من السجود، فيصبروا بعد فراغهم من الصلاة إلى وراء القوم يحرسونهم، و تأتي الطائفة المراقبة و تأخذ أمكنتها للصلاة.

قوله تعالى: وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ .

أي: و لتأت الطائفة الّذين لم يصلّوا لاشتغالهم بالحراسة و المراقبة، فليصلّوا معك كما صلّت الطائفة الأولى، و هذه الآية المباركة تحتمل وجهين.

الأوّل: أن يفرّق الإمام أصحابه فرقتين، يصلّي بإحداهما الصلاة ركعتين و يسلّم بهم، و الثانية تحرسهم ثمّ يصلّي بالثانية ركعتين يعيدها معهم، فتكون لهم فريضة و له نافلة، و هذه هي صلاة بطن النخل، صلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه هناك، و هذه الصلاة لا مخالفة لها مع صلاة المختار إلاّ بالكيفيّة المذكورة؛ و لذا ذكر بعض الأصحاب بجواز صلاتها في الأمن أيضا، و لكنّه مشكل كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة.

ص: 209

الثاني: أن يفرّق الإمام أصحابه فرقتين يصلّي بكلّ فرقة منهم ركعة إن كانت الصلاة ركعتين، فيصلّي بالأولى ركعة و ينتظر الإمام قائما في الركعة الثانية، حتّى يصلّوها انفرادا و يتشهّدون و يسلّمون و يذهبون إلى وجه العدو و مكان الفرقة الّتي لم تصلّ ، فتأتي الأخرى فيؤمّهم الإمام بهم للركعة الثانية و ينتظرهم قاعدا حتّى يتمّوا صلاتهم و يسلّم بهم، فتكون للطائفة الأولى تكبيرة الافتتاح، و للثانية التسليم، و هذه هي صلاة ذات الرقاع الّتي صلاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و يشترط لها شروط مذكورة في كتب الفقه فراجع (مهذب الأحكام)، و قد وردت هذه الصلاة في أخبار أهل العصمة (صلوات اللّه عليهم أجمعين).

قوله تعالى: وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ .

أي: و لتأخذ الطائفة الأخرى - الّتي تصلّي كالطائفة الأولى - حذرهم و أسلحتهم، و يمكن توجيه الأمر إلى الطائفتين معا، أي: و لتأخذ الطائفتان حذرهم و أسلحتهم سواء في الصلاة أو في الحراسة، و يؤيّده ذيل الآية الشريفة: وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ .

و زاد تعالى في المقام الحذر، و هو التيقّظ و جعل الحذر آلة الدفاع الّتي يتحصّن بها كالأسلحة، و هو من الاستعارة اللطيفة، حيث أثبت له الأخذ و هو أمر معنوي لا يتّصف به تخييلا، و زاده عزّ و جلّ في المقام لشدّة الحيطة و التحرّس؛ لأنّ العدو قد يميل إذا ما تنبّه أنّ المسلمين في الصلاة بعد غفلته في ابتداء الأمر عنهم، فينتهزون الفرصة و هم في حال الركوع و السجود فيهجمون عليهم.

قوله تعالى: وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً.......

قوله تعالى: وَدَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً .

تعليل للحكم المزبور، و الخطاب للفريقين، و الأمر إرشادي إلى ما تحكم به الفطرة من وجوب أخذ الحيطة و الحذر عمّا يخاف منه.

ص: 210

و الميلة الواحدة، أي: جملة واحدة مستأصلة لا يحتاج إلى حملة ثانية، و هي مبالغة في تمنّيهم إزالة المسلمين و محو آثارهم.

و المعنى: يتمنّى الّذين كفروا غفلتكم عن السلاح الّتي بها تدفعون عدوكم، و عن الأمتعة الّتي بها بلاغكم في أسفاركم و أنتم متشاغلون بالصلاة، فيحملون عليكم حملة واحدة مستأصلة.

قوله تعالى: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ .

تخفيف إلهي و ترخيص لهم في وضع السلاح و التأهّب للعدو إذا ثقل حمل السلاح عليهم إن كانوا يتأذّون من مطر ينزل عليهم، أو كان بعضهم مرضى، لكن يجب عليهم الحذر و التيقّظ و لا يغفلوا عن أعدائهم الّذين يودّون القضاء عليهم.

قوله تعالى: وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ .

أمر إرشادي كما عرفت، و هو وجوب اتّخاذ الحذر في جميع الأحوال حين وضع السلاح و حمله؛ لئلاّ يهجم عليهم العدو.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً .

وعد منه عزّ و جلّ للمؤمنين بالنصر على الّذين كفروا لتقوية قلوبهم و بعث الطمأنينة في نفوسهم بعد أمرهم بالحذر؛ لئلاّ يشعروا بالضعف و وعيد للكافرين الّذين يريدون إذلال المؤمنين و القضاء عليهم.

و يستفاد من الآية المباركة مناسبة العذاب للفعل، فإنّ الكافرين يريدون إذلال المؤمنين، فاللّه تعالى أوعدهم العذاب المهين الّذي يذلّ فيه كلّ كافر، سواء في الدنيا بالنصر عليهم، أو في الآخرة في نار جهنّم خالدين فيها.

قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ .

أي: فإذا فرغتم من الصلاة و اديتموها على ما قرّرها اللّه عزّ و جلّ ، فداوموا

ص: 211

على ذكره عزّ و جلّ في حال القيام و القعود و على جنوبكم، و المراد منها الذكر المستوعب لجميع الأحوال.

و تبيّن الآية المباركة مراتب القدرة و العجز في الصلاة، فيصلّي الأصحاء و القادرون على القيام قياما، و قعودا إذا كانوا مرضى لا يقدرون على القيام، و على جنوبهم إذا لم يقدروا على القعود، فيصلّون مضطجعين كما فسّر في بعض الأخبار، و هو الاضطجاع على الأيمن، و إلاّ فعلى الأيسر، و إلاّ فمستلقين، و قد وردت في هذا الاحتمال روايات متعدّدة.

و ذكر جمع أنّ الآية الكريمة في مقام بيان مراتب الخوف و شدّته. و قال آخر:

يعني اذكروه على كلّ حال تكونون عليها من قيام، و لكن إطلاقها يشمل جميع ذلك كما يشمل حال الحرب و حال السلم.

و كيف كان، فالآية الكريمة تدلّ على لزوم المراقبة و ذكر اللّه تعالى و عدم الغفلة عنه عزّ و جلّ في جميع الأحوال، كما يدلّ عليه قوله تعالى: إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اُذْكُرُوا اَللّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأنفال، الآية: 45]. و المداومة على ذكر اللّه من أقوى السبل على تربية النفس و ترويضها على الاستكمال و بعد الغفلة عنه؛ و لذا ورد التأكيد على كثرة الذكر في القرآن الكريم و السنّة الشريفة.

قوله تعالى: فَإِذَا اِطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا اَلصَّلاةَ .

المراد من الاطمئنان هو الاستقرار و سكون النفس، أي: إذا زال الخوف و قدرتم على إتيان الصلاة على ما يعتبر فيها من الشروط و الواجبات الاختياريّة، فيجب إتيان الصلاة تامّة على الوجه المأمور به مع الحفظ على أركانها و شرائطها و سائر واجباتها.

و يمكن إرجاع الآية الكريمة إلى ما قبلها، فتكون قرينة على إرادة شدّة الخوف منها، كما يمكن أن تجعل مقابلا لقوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ ، فيكون المراد هو الاستقرار في الأوطان. و يمكن الحمل على الأعمّ بحيث يشمل

ص: 212

الاستقرار في الأوطان الموجب لإتمام الصلاة، أو الاستقرار في النفس الناشئ من زوال الخوف، فيأتي بالصلاة على ما هي عليها من الأجزاء و الشرائط، فيوجب رفع القصر من الصلاة كمية و كيفيّة كلّ بحسب حاله.

قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً .

تعليل لما سبق و تأكيد للأحكام السابقة، و اعتناء بشأن الصلاة اعتناء بليغا، أي: إنّما شرّع حكم تلك الأقسام و الأطوار لأجل أنّ الصلاة كانت على المؤمنين واجبة مفروضة، و كانت من الواجبات الوقتيّة، كما حدّدها عزّ و جلّ في آيات كثيرة و بيّنتها السنّة الشريفة.

و الكتاب بمعنى المكتوب أي المفروض، و تقدّم اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ [سورة البقرة، الآية: 183].

و إنّما خصّ عزّ و جلّ المؤمنين دون سائر الناس مع أنّ الصلاة فرض على الجميع حتّى الكفّار - لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول - اهتماما بهم و لأنّهم المستعدّون لقبول الفيض و الاستكمال، و هم الّذين يعرفون أهميّة الصلاة في تهذيب النفس و القرب لدى جنابه عزّ و جلّ ، فيكون من باب ذكر أشرف الأفراد، لا التخصيص في التكليف، و سيأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ [سورة النساء، الآية: 135] بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ .

أمر بالعزيمة و الثبات في طلب أعداء اللّه تعالى و عدم التواني في دركهم بعد الأمر بأخذ الحذر و الاستعداد، فإنّ الأمر عظيم و الشوط طويل و يحتاج إلى بذل التضحيات كما يحتاج إلى الصبر و العزيمة، و من المعلوم أنّ الآلام و التضحيات ليست وقفا على المؤمنين وحدهم، فإنّ الناس كلّهم معرّضون لها، و يتألم منها الكافر كما يتألم المؤمن. و لا شك أنّ ممّا يزيد في عزيمة المؤمن المجاهد إذا علم أنّه أحدث في العدو جرحا و خسائر، فيشعر أنّه ليس الوحيد الّذي يتألم بل قد أحدث

ص: 213

في عدوه الألم في ذات الوقت، إلاّ أن الفارق الأعظم بين الألمين أنّ ألم المؤمن ذاهب به إلى الجنّة يغسل به خطاياه و ذنوبه و يزيل العذاب و يزيد له في الدرجات كلما زاد، و يعوّض له النعيم الأبدي الّذي لا ينغصه شيء ممّا في الدنيا، بخلاف ألم العدو الكافر الّذي يزيد في بلائه و شقائه و عذابه.

و الآية الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تعالج الجانب النفسي في الجهاد، حيث تبعث الطمأنينة في النفوس إذا أصابها الوهن و الضعف و تتكاسل إذا تألمت من الجراح و المرض، فتزيلها بأسلوب تربوي نفسي رصين، فتشرح لها أولا بأنّ المقام يستدعي التضحية و تلقّي الآلام و المصائب، ثمّ تزيد في الهمّة و التشجيع بأنّ الطرف الآخر المقابل أيضا أصابه بمثل ما أصاب المؤمنين، ثمّ تنشط العزيمة بإثبات الفرق بين الألمين، الألم الّذي يصيب المؤمنين فإنّ عاقبته الجنّة و يزيد الثواب و يرفع العذاب، بخلاف الألم الّذي يصيب الأعداء الكافرين فإنّه محيط لهم و منغص لعيشهم و يحرمهم من نعيم الدنيا و يوردهم البوار و الهلاك في الآخرة، فلا ينبغي الوهن و الضعف في طلب القوم الّذين ناصبوا لكم العداء و يريدون القضاء عليكم.

قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ .

تسكين النفس عند إصابتها بالجراح و المرض و التعب و تشجيع لها، فإنّها إذا علمت بأنّ الأعداء أصابهم مثل ما أصابها تتشجّع و تصبر على البلاء، فليس الجراح و الآلام مختصّة بهم، بل هي مشتركة بين الفريقين؛ لأنّهم بشر أيضا، و الألم لا بدّ أن لا يكون مانعا عن خوض اللجج و قتال أعداء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ .

بيان للفرق بين الفريقين الأشقياء الّذين ليس لهم أمل إلاّ العيش في هذه الحياة، فلا رجاء له في الآخرة فإذا أصابه الألم و الموت انقطعت آماله و خابت أمانيه و يئس عن الحياة، و فريق السعداء الّذين يرجون اللّه تعالى الظفر و الفتح و المغفرة و الثواب الجزيل؛ لأنّهم يعلمون من اللّه تعالى ما لا يعلمه غيرهم، و هذا هو

ص: 214

مبعث الأمل و منبت الصبر و منفاة لليأس و القنوط، و هو الّذي ينشّطهم على العمل و يسوقهم إلى الهدف، و الرجاء يبعث الهمّة و اليأس يميتها، فما أبعد ما بين الفريقين، و ما أكثر ما يدعى إلى الصبر و تحمّل المشقّة في المؤمن، بخلاف العدو الكافر.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

أي: أنّ اللّه تعالى عليم بالمصالح و بجميع أعمالكم و نواياكم، حكيم في تدبير خلقه و تشريع أحكامه، فجدّوا في الامتثال، فإنّ فيه عواقب حميدة، فإنّ في أوامره و نواهيه مصالح بالغة تامّة فاطلبوها، و الآية المباركة بمنزلة التعليل لما قبلها.

ص: 215

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ على ثبوت القصر في الصلاة، و القصر إمّا متعلّق بالكميّة، و هو مختصّ بالمسافر الجامع للشروط المقرّرة في السنّة، أو بالكيفيّة و هو الّذي في صلاة الخوف، و إمّا فيهما معا و يتحقّق في شدّة الخوف، و تسمّى بصلاة المطاردة حين الحرب و اشتداد الحال، على التفصيل المذكور في كتب الفقه، و قد ذكرنا في التفسير أنّ الآية المباركة مع القرائن المنضمة إليها تدلّ على كون القصر في السفر عزيمة، لا أن تكون رخصة، و نفي الجناح أعمّ من الرخصة. و سيأتي مزيد بيان في البحث الفقهي إن شاء اللّه تعالى.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ القصر في السفر مشروط بأمرين:

الأوّل: المسافة، و لم تبيّن الآية الكريمة مقدار المسافة و لكن حدّدتها السنّة الشريفة.

الثاني: الخوف، فلا قصر في الأمن، إلاّ أنّ استفادة ذلك إنّما يكون من ناحية المفهوم الشرطي، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق به فراجع.

و استدل بالآية الكريمة بعضهم على اشتراط الجماعة و السفر و الخوف في صلاة الخوف، فلا قصر فيها إذا انتفى أحد هذه الشروط، و لكنّه مردود كما هو مذكور في كتب الفقه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ على أنّه يشترط أن يكون الضرب مقرونا بالقصد و العزم إلى المسافة المبيّنة في الشرع، سواء كان

ص: 216

مجبورا على السير مع علمه بانتقاله إلى المسافة الشرعيّة أو لم يكن كذلك، فالذاهل و المتردّد و فاقد القصد و العزم لمنتظر الرفقة و نحوهما لا يترخّصون في القصر، و إطلاق الآية المباركة يدلّ على ثبوت الرخصة عند حصول الضرب و التلبّس بالسير، إلاّ أنّه مقيّد بخفاء الأذان أو الجدران بأدلّة خاصّة، كما هي مذكورة في الفقه.

الثالث:

يدلّ سياق قوله تعالى: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ على فضل الجماعة و الحثّ العظيم على إقامتها، كما استفاضت به الأخبار.

الرابع:

تدلّ الآية الكريمة على وجوب اتّخاذ الحذر من الكافرين الّذين هم أعداء اللّه تعالى و دين الحقّ ، و الآية المباركة ترشد إلى أمر فطري، و هو حكم الفطرة باتّخاذ الحذر ممّا يخاف منه.

الخامس:

يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً أنّ الصلاة من الأمور الثابتة الّتي لا تتغيّر و لا تقبل الفدية و البدل، و لا تقبل الإسقاط، و لعلّ ما ورد في بعض الآثار: «انّ الصلاة لا تسقط بحال»، مأخوذ من هذه الآية الشريفة.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ على وجوب اتخاذ الحيطة و الحذر و التهيؤ للقتال، حتّى يكفّ بأس الّذين كفروا و يدفع أذاهم عن الدين الحقّ و أهله، و تدلّ الآية الشريفة على الجهاد الطويل المرير و شدّة العزيمة.

و تتعرّض الآية الشريفة إلى أهمّ الأمور النفسيّة الّتي تؤثّر في هذا الميدان، و هو جانب الوهن في العزيمة و تأثّر النفس بما يرد عليها من الآلام و المحن و الأمراض، و تبيّن الفرق الكبير بين الفريقين و بعد الشقّة بينهما، كما عرفت.

السابع:

تدلّ الآية المباركة: وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ على وعد اللّه تعالى بالنصر للمؤمنين لمكان إيمانهم و ثباتهم عليه، و أنّ النصر حليفهم إن

ص: 217

تحقّق منهم العمل و الثبات و عدم الوهن في ابتغاء القوم، و إلاّ فلا نصرة. و رجاء المؤمنين منه تعالى أعمّ ممّا يفيض عليهم في الحياة الدنيا و الآخرة.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: فَإِذا قَضَيْتُمُ اَلصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اَللّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ على لزوم ذكره تعالى في جميع المواطن، و مراقبة النفس و الاعتماد عليه عزّ و جلّ و التوسّل به في نجح المقاصد و إنجاز المطالب، لا سيما في ميدان الجهاد و القتال مع أعداء اللّه تعالى.

التاسع:

يستفاد من تكرار الصلاة في الآيات الشريفة أهميّتها، و أنّها من السبل القربيّة الّتي يتوسّل إليه تعالى في إنجاح المقاصد، و قد ورد في بعض الأحاديث: «انّ الصلاة قربان كلّ تقي».

بحث روائي:

في التهذيب بإسناده عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن صلاة الخوف و صلاة السفر، تقصّران جميعا؟ قال: نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن تقصّر من صلاة السفر، فإنّ السفر ليس فيه خوف».

أقول: المراد من الأحقيّة أفعل التفضيل، فيقتضي اشتراك غيره معه، أي تشترك صلاة السفر و صلاة الخوف في القصر و إن كان القصر في الخوف آكد لذكره في الآية الكريمة من باب ذكر إحدى حكم التشريع، كما ذكرنا في التفسير، لا أن يكون من باب الاختصاص من غير مشاركة، نحو: زيد أحقّ بماله.

و في التهذيب بإسناده عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما و لا بعد هما شيء إلاّ المغرب».

أقول: متعلّق الاستثناء صدر الرواية كما هو واضح، و ليس قبل الركعتين المفروضتين شيء واجب، و كذا ليس بعدهما. نعم يستحبّ بعدهما التسبيحات

ص: 218

الأربع و ثلاثين مرّة، كما هو مذكور في الجوامع الفقهيّة، فراجع صلاة المسافر من (مهذب الأحكام).

و في الكافي بإسناده عن حريز عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ :

فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا قال: «في الركعتين تنقص منها واحدة».

أقول: قريب منها غيرها، و هذه الروايات إمّا تحمل على صلاة المطاردة، أو على التقيّة؛ لمخالفتها لما هو المشهور بين الإماميّة و موافقتها لغيرهم.

و في تفسير العياشي عن إبراهيم بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: «فرض اللّه على المقيم أربع صلوات، و فرض على المسافر ركعتين تمام، و فرض على الخائف ركعة، و هو قول اللّه: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا يقول من الركعيتن فتصير ركعة».

أقول: ما ذكرنا في الرواية السابقة يجري في هذه الرواية أيضا، و أنّ المراد من الخائف شدّة الخوف، أي: الخائف المطارد.

و في الدرّ المنثور عن عليّ عليه السّلام قال: «سأل قوم من التجار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه، إنّا نضرب في الأرض، فكيف نصلّي ؟ فأنزل اللّه: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ ، ثمّ انقطع الوحي فلما كان بعد ذلك بحول غزا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فصلّى الظهر، فقال المشركون: لقد أمكنكم محمد و أصحابه من ظهورهم، هلاّ شددتم عليهم ؟ فقال قائل منهم: إنّ لهم مثلها أخرى في أثرها، فأنزل اللّه تعالى بين الصلاتين: إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً * وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ فنزلت صلاة الخوف».

أقول: لا بدّ من حمل التاجر على الّذي لا يدور في تجارته، بقرينة ما تأتي من الرواية، و أنّ المراد بقطع الوحي في شأن المورد - كما هو الظاهر - لا مطلقا. و أنّ

ص: 219

ما نزل في الغزوة من تمام الآية الكريمة يكون من باب تعدّد النزول أو من باب التطبيق.

و في الكافي بإسناده عن إسماعيل بن أبي زياد عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال:

«سبعة لا يقصّرون الصلاة: الجابي الّذي يدور في جبايته، و الأمير الّذي يدور في إمارته، و التاجر الّذي يدور في تجارته من سوق إلى سوق، و الراعي، و البدوي الّذي يطلب مواطن القطر و منبت الشجر، و الرجل الّذي يطلب الصيد يريد به لهو الدنيا، و المحارب الّذي يقطع الطريق».

أقول: لا بدّ من تحقّق شرائط القصر من المسافة الشرعيّة، و استمرار القصد، و قطع المسافة و عدم قصد الإقامة، و مع ذلك لا يقصّر هؤلاء، فالرواية في مقام التخصيص لا التخصّص كما هو واضح، و قد ذكرنا التفصيل في صلاة المسافر من (مهذب الأحكام) فراجع.

و في تفسير القمّي نزلت - أي: آية صلاة الخوف - لما خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى الحديبيّة يريد مكّة، فلما رفع الخبر إلى قريش بعثوا خالد بن الوليد في مائة فارس ليستقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكان يعارض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على الجبال، فلما كان في بعض الطريق و حضرت صلاة الظهر أذّن بلال و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالناس، فقال خالد بن الوليد: لو كنّا حملنا عليهم و هم في الصلاة لأصبناهم، فإنّهم لا يقطعون الصلاة، و لكن تجيء لهم الآن صلاة أخرى هي أحبّ إليهم من ضياء أبصارهم، فإذا دخلوا فيها حملنا عليهم، فنزل جبرئيل بصلاة الخوف بهذه الآية، ففرّق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فرقتين و وقف بعضهم تجاه العدو و قد أخذوا سلاحهم، و فرقة صلّوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما و مروا فوقفوا موقف أصحابهم، و جاء أولئك الّذين لم يصلّوا فصلّى بهم رسول اللّه الركعة الثانية و لهم الأولى، و قعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قاموا أصحابه فصلّوا هم الركعة الثانية و سلّم عليهم».

أقول: الحديبية قرية بينها و بين مكّة مرحلة واحدة، و يقال: إنّ بعضها من

ص: 220

الحلّ و بعضها من الحرم، و سمّيت بذلك لبئر فيها تسمّى الحديبيّة. و يستفاد من هذه الرواية اهتمام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين بالصلاة، حتّى أنّ ذلك كان معروفا عند أعدائهم، كما يستفاد منها الكيفيّة الخاصّة في صلاة الخوف، كما تقدّم في التفسير.

و في الكافي بإسناده عن الصادق عليه السّلام: «صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بأصحابه في غزوة ذات الرقاع صلاة الخوف، ففرّق أصحابه فرقتين، أقام فرقة بإزاء العدو، و فرقة خلفه، فكبّر و كبّروا فقرأ و انصتوا فركع و ركعوا فسجد و سجدوا ثمّ استمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قائما و صلّوا لأنفسهم ركعة، ثمّ سلّم بعضهم على بعض ثمّ خرجوا الى أصحابهم فقاموا بإزاء العدو، و جاء أصحابهم فقاموا خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فصلّى بهم ركعة ثمّ تشهّد و سلّم عليهم، فقاموا و صلّوا لأنفسهم ركعة ثمّ سلّم بعضهم على بعض، و قد قال اللّه تعالى لنبيّه: إِنَّ اَلْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً * وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ - إلى قوله تعالى - إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ، فهذه صلاة الخوف الّتي أمر اللّه عزّ و جلّ بها نبيّه، و قال: من صلّى المغرب في خوف بالقوم صلّى بالطائفة الأولى ركعة و بالطائفة الثانية ركعتين - الحديث».

أقول: ذات الرقاع هي من إحدى غزواته الّتي حضرها بنفسه صلّى اللّه عليه و آله و كان بينها و بين الهجرة أربع سنين و أيام، و خاف الجمعان بعضهم بعضا، فصلّى رسول اللّه بالمسلمين صلاة الخوف، و ذات الرقاع موضع بنجد، و كانت قوّات أعدائهم من بني محارب و بني ثعلبة من غطفان، و كان قوات المسلمين اربعمائة راكب و راجل، و انهزم بنو ثعلبة و بنو محارب فيها، و كان هدف الأعداء فيها القضاء على المدينة و غزوها.

و سمّيت الغزوة بذات الرقاع لوجوه كثيرة، أهمّها أنّهم كانوا يشدّون على أرجلهم الخرق من شدّة الحرّ، أو يعصبونها حتّى يسهل عليهم المشي. و قيل: إنّها اسم جبل قريب من المدينة فيها رقع سود و حمر و بيض. و قيل: إنّ الأرض كانت

ص: 221

كذلك. و قيل: رقّعوا راياتهم كذلك. و قيل: هي اسم شجرة كانت في موضع الغزوة.

و كيف كان، تتضمّن الرواية الكيفيّة الخاصّة لصلاة الخوف، و هي المعروفة بين الإماميّة و الموافقة للقواعد العامّة، كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام).

و عن ابن عباس في تفسيره أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله غزا محاربا ببني أنمار فهزمهم اللّه تعالى و أحرزوا الذراري و المال، فنزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و المسلمون و لا يرون من العدو واحدا، فوضعوا أسلحتهم و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ليقضي حاجته و قد وضع سلاحه، فجعل بينه و بين أصحابه الوادي، فإلى أن يفرغ من حاجته و قد درأ الوادي و السماء ترش، فحال الوادي بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و بين أصحابه، و جلس في ظل شجرة فبصر به غورث بن الحارث المحاربي، فقال له أصحابه: يا غورث هذا محمد صلّى اللّه عليه و آله قد انقطع من أصحابه، فقال: قتلني اللّه إن لم اقتله، و انحدر من الجبل و معه السيف و لم يشعر به رسول اللّه إلاّ و هو قائم على رأسه و معه السيف قد سلّه من غمده، و قال: يا محمد من يعصمك منّي الآن، فقال رسول اللّه: اللّه، فانكب عدوّ اللّه لوجهه فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخذ سيفه، و قال: يا غورث من يمنعك منّي الآن ؟ قال: لا أحد، قال: أتشهد أن لا إله إلاّ اللّه و أنّي عبد اللّه و رسوله، قال: لا، و لكنّي أعهد أن لا أقاتلك أبدا و لا أعين عليك عدوا، فأعطاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سيفه فقال له غورث: و اللّه، لأنت خير منّي، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّي أحقّ بذلك، و خرج غورث إلى أصحابه فقالوا: يا غورث لقد رأيناك قائما على رأسه بالسيف فما منعك منه، قال:

اللّه، أهويت له بالسيف لأضربه فما أدري من زلّخني بين كتفي فخررت لوجهي و خرّ سيفي و سبقني إليه محمد و أخذه. و لم يلبث الوادي أن سكن فقطع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلى أصحابه فأخبرهم الخبر و قرأ عليهم: إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اَللّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً .

أقول: ذكر صاحب المجمع الرواية عن أبي حمزة الثمالي في تفسيره.

ص: 222

و كيف كان، انّ الزلخ وجع يأخذ في الظهر لا يتحرّك الإنسان من شدّته.

و ذكر الواقدي في المغازي أنّ المشركين في غزوة ذات الرقاع كانوا من بني أنمار و ثعلبة. إذا ما ورد فيها تكون نفس غزوة ذات الرقاع. و يمكن الجمع بين ما تقدّم و بين ما ذكره الواقدي بأنّ المشركين كانوا في غزوة ذات الرقاع من قبائل متعدّدة أكثرها ثعلبة و بنو محارب و منهم بنو أنمار أيضا، فلا تنافي حينئذ. و على أيّة حال لا يهمّنا ذلك.

و إنّها تدلّ على عنايته جلّت عظمته برسوله الكريم و دوام إمدادته الخاصّة به بحفظه عن المشركين الّذين هم كانوا أعداء له صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّ الوجه في عدم قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الرجل لإتمام الحجّة عليه، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله ليس في مقام الانتقام أو التشفّي، و أنّ الآية الشريفة المذكورة فيها إمّا من باب التطبيق، أو من باب تعدّد النزول.

و في الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس قال: «صلّينا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بين مكّة و المدينة و نحن آمنون لا نخاف شيئا، ركعتين».

أقول: تدلّ الرواية على أنّ القصر في الصلاة في السفر الشرعي لا يناط بالخوف، و ما ذكر في الآية المباركة من إحدى حكم التشريع لا العلّة المنحصرة بها الحكم، كما في مثل الإسكار على ما تقدّم في التفسير.

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في ما رواه البخاري و غيره عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: «صلّيت مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الظهر و العصر بمنى أكثر ما كان الناس و آمنه ركعتين»؛ فإنّ السفر الشرعي تحقّق سواء كان ذلك بمنى أو غيرها، و هو موجب لقصر الصلاة.

و في الكافي بإسناده عن داود بن فرقد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ؟ قال: كتابا ثابتا، و ليس إذ عجّلت قليلا أو أخّرت قليلا بالّذي يضرّك ما لم تضع تلك الإضاعة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: أَضاعُوا اَلصَّلاةَ وَ اِتَّبَعُوا اَلشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ».

ص: 223

أقول: يستفاد من هذه الرواية أمور:

الأوّل: أنّ الصلاة ثابتة فلا تسقط بحال، فتكون الرواية دليلا على القاعدة المتّفق عليها الفقهاء من أنّ «الصلاة لا تسقط بحال» إلاّ إذا دلّ الدليل على سقوطها، كما في الحائض و النفساء و المجنون و الصبي المميز و غيره.

الثاني: مشروعيّة القضاء فيها؛ لأنّ معنى الثبوت هو البقاء، ما لم تؤد بالكيفيّة الخاصّة الّتي قرّرها الشارع، كما ذكر ذلك في الكتب الفقهيّة.

الثالث: أنّ الصلاة يعمّ تكليفها الناس جميعا، و التخصيص بفرقة خاصة ينافي إطلاق قوله عليه السّلام: «كتابا ثابتا»، فلا بد من إقامة دليل خاصّ على التقييد، و أنّ ذكر المؤمنين في الآية المباركة من باب ذكر أشرف الناس و أحبّهم إليه جلّت عظمته، مع أنّ للإيمان مراتب.

الرابع: يستفاد منها أنّ وقت الصلاة موسّع؛ لأنّ في الضيق شدّة و حرجا، و هما ينافيان رحمته الّتي وسعت كلّ شيء، و يدلّ قوله تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78]، و تدلّ على ذلك أيضا روايات كثيرة.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أمّني جبرئيل عند البيت مرّتين، فصلّى بي الظهر حين زالت الشمس و كانت قدر الشراك، و صلّى بي العصر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله، و صلّى بي المغرب حين أفطر الصائم، و صلّى بي العشاء حين غلب الشفق، و صلّى بي الفجر حين حرم الطعام و الشراب على الصائم، و صلّى بي الغد الظهر حين كان ظلّ كلّ شيء مثله، و صلّى بي العصر حين كان ظلّ شيء مثليه، و صلّى بي المغرب حين أفطر الصائم، و صلّى بي العشاء ثلث الليل، و صلّى بي الفجر فأسفر ثمّ التفت إليّ فقال: يا محمد، هذا الوقت وقت النبيّين قبلك. الوقت ما بين هذين الوقتين».

أقول: الشراك أحد سيور النعل الّتي تكون على وجهها، و التقدير به ليس

ص: 224

على وجه التحديد، أي: إذا استبان الفيء في أصل الحائط من الجانب الشرقي عند الزوال، فصار في رؤية العين قدر الشراك، و هذا أقلّ ما يعلم به الزوال، و إنّما يتبيّن ذلك في مثل مكّة المكرّمة و البلاد الّتي حولها ممّا يقلّ فيها الظلّ ، فإذا كان أطول النهار و استوت الشمس فوق الكعبة لم ير شيء من جوانبها ظل، فكلّ بلد يكون أقرب إلى خط الاستواء و معدّل النهار، يكون الظلّ فيه أقصر، و كلّ ما بعد عنهما إلى جهة الشمال يكون الظلّ أطول.

و يمكن أن يستدلّ بالرواية على جمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله بين الصلاتين، و المراد من (مرّتين) يومين، بقرينة ذيل الرواية. و لم يؤم جبرئيل لسوى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله من الأنبياء العظام، و هذا من مختصاته صلّى اللّه عليه و آله، كما تدلّ على شرف البيت و كرامته أيضا.

و في تفسير العياشي عن محمد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: «في صلاة المغرب في السفر لا يضرّك إن تأخّرت ساعة ثمّ تصلّيها إن أحببت أن تصلّي العشاء الآخرة، و إن شئت مشية ساعة إلى أن تغيب الشفق، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله صلّى صلاة الهاجرة و العصر جميعا، و المغرب و العشاء الآخرة جميعا، و كان يؤخّر و يقدّم، إنّ اللّه تعالى قال: إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً ، إنّما عنّى وجوبها على المؤمنين، لم يعن غيره، إنّه لو كان كما يقولون لم يصل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هكذا و كان أعلم و أخبر، و كان كما يقولون، و لو كان خيرا لأمر به محمد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قد فات الناس مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم صفّين صلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء الآخرة، و أمرهم عليّ أمير المؤمنين عليه السّلام فكبّروا و هلّلوا و سبّحوا رجالا و ركبانا؛ لقول اللّه: فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً ، فأمر عليّ عليه السّلام فصنعوا ذلك».

أقول: الهاجرة نصف النهار عند اشتداد الحرّ أو من عند الزوال إلى العصر، و سمّي بها لأنّ غالب الناس يسكنون في بيوتهم، فكأنّهم قد تهاجروا، و صلاة الهجرة صلاة الظهر، و في الدعاء: «أتراك معذبيّ و قد أظمأت لك هواجري»، أي:

حصل لي شدّة العطش في هواجري لأجل عبادتك و الخضوع لك.

ص: 225

و كيف كان، فتدلّ الرواية على أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله جمع بين الصلاتين، و كان يقدّم و يؤخّر، و ذلك يدلّ على الاستمرار.

و المراد بقوله عليه السلام: «إنّما عنّى وجوبها على المؤمنين»، أي: الوجوب الخاصّ و هو إتيان الصلوات في الأوقات الخمسة المعينة؛ لأنّ فيه عناية خاصّة لا تشمل كلّ أحد، فلا ينافي ما ذكرناه في رواية داود بن فرقد من شمول الوجوب لجميع الناس حتّى الكافر.

و الرواية لا تدلّ على فوت الصلاة عن عليّ عليه السّلام، بل فوت الصلاة عن الناس الّذين كانوا معه، كما هو المنساق منها.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى:

إِنَّ اَلصَّلاةَ كانَتْ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً قال: يعني مفروضا، و ليس يعني وقت وقتها ان جاز ذلك الوقت ثمّ صلاّها لم تكن صلاته هذه مؤدّاة، و لو كانت كذلك لهلك ابن داود عليه السّلام حين صلاّها لغير وقتها، و لكنّه متى ذكرها صلاّها».

أقول: يستفاد منها أنّ الصلاة واجبة، و أنّ التوقيت الزمني في الصلاة المفروضة من باب تعدّد المطلوب. و أمّا صلاة ابن داود عليه السّلام الّتي صلاّها في غير وقتها يمكن أن يكون ذلك لمصلحة فيها، كتشريع القضاء عملا أو غير ذلك تحفّظا على العصمة في الأنبياء عليهم السّلام.

و في الدرّ المنثور بإسناد متّصل عن يعلى بن أمية قال: «سألت عمر بن الخطاب قلت: فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، و قد أمن الناس ؟ فقال لي عمر: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك فقال: صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته».

أقول: تقدّم أنّ الخوف من باب إحدى حكم التشريع، و كانت الأسفار القديمة - خصوصا في صدر الإسلام - مقرونة بالخوف من الكفّار الّذين كانوا أعداء المسلمين. و المراد بالصدقة هو أنّ تشريع القصر في الصلاة في السفر عطيّة

ص: 226

إلهيّة أعطاها اللّه لنا فنتشرّف بها بالتقرّب إليه، و ذلك شأن جميع الأحكام.

و يستفاد منها أنّ القصر فيها عزيمة لا رخصة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ ، أنّه معطوف على قوله تعالى في سورة آل عمران: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ اَلْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ ، و قد ذكرنا هناك سبب نزول الآية.

أقول: لعلّ المراد العطف من حيث وحدة المعنى و سياق الآيات الكريمة، لا العطف المصطلح، و يشهد لما ذكرنا ما روي عن ابي سفيان، قال عند انصرافه من أحد: يا محمد، موعدنا موسم بدر القابل إن شئت، فقال صلّى اللّه عليه و آله: إن شاء اللّه، فلما كان القابل ألقى اللّه الرعب في قلبه فندم على ما قال، فبعث نعيم بن مسعود ليخوّف المؤمنين من الخروج إلى بدر، فلما أتى نعيم المدينة وجد المؤمنين يتجهّزون للخروج فقال لهم: إنّ الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم، ففتر المؤمنين فقال صلّى اللّه عليه و آله: لأخرجنّ و لو لم يخرج معي أحد، فأنزل اللّه تعالى: وَ لا تَهِنُوا فِي اِبْتِغاءِ اَلْقَوْمِ .

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ قال:

«توجعون، وَ تَرْجُونَ مِنَ اَللّهِ ما لا يَرْجُونَ قال: ترجون الخير».

أقول: الوجع أعمّ من الوجع الجسدي و النفسي، كما أنّ الخير أعمّ من الخير الدنيوي و الأخروي، فيشمل الحياة و الرزق و العلم و الجاه و مآرب الدنيا الّتي فيها رضاؤه جلّ شأنه و منازل الآخرة الّتي تنال بالشهادة.

بحث فقهي:

استدلّ فقهاؤنا الأبرار (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) بقوله تعالى: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ على ثبوت قصر الصلاة في السفر، و كذا استدلّوا بها على قصر صلاة الخوف سفرا و حضرا، و كذا صلاة المطاردة.

ص: 227

و الآية المباركة و إن كانت مجملة من حيث بعض الشروط و بيان الكيفيّة، إلاّ أنّ السنّة الشريفة بيّنت خصوصيات الموضوع بيانا شافيا.

و تختصّ القصر بالصلاة الرباعيّة في السفر بالشروط المذكورة في الكتب الفقهيّة، و هي أمور:

الأوّل: أن لا يكون السفر سفر معصية، كالسفر لأجل شرب الخمر أو السرقة أو قطع الطريق و غيرها من الفواحش، و لا يجب أن يكون طاعة، كالسفر للجهاد أو الحجّ المفروض، و لو كان مباحا كسفر التجارة وجب القصر؛ و لذا لم يقيّد في الآية المباركة الضرب بكونه في سبيل اللّه تعالى كما في الآية السابقة.

الثاني: أن تتحقّق المسافة الشرعيّة، و هي ثمانية فراسخ - أو أربعة فراسخ إذا رجع في نفس يومه - أو (44) كيلو متر على التفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة.

و قد اختلفت المذاهب في هذا الشرط، فقال أبو حنيفة: مسيرة ثلاثة أيّام و لياليها بسير الإبل و مشي الأقدام بالاقتصاد في البرّ، و جري السفينة و الريح معتدلة في البحر. و قال الشافعي: التقدير بيوم و ليلة. و المشهور بينهم التقدير بالفراسخ، و اختلفوا، فقال بعضهم: إنّه أحد و عشرون فرسخا، و قال آخرون: ثمانية عشر و آخرون خمسة عشر.

الثالث: أن يكون المسافر قاصدا للسفر، فلا قصر على الذاهل و المتردّد، و يستفاد هذا الشرط من ظاهر الآية المباركة: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ اَلصَّلاةِ كما عرفت.

الرابع: استمرار القصد، فلو عدل عن قصده قبل بلوغ المسافة الشرعيّة، أو تردّد، أتمّ للأدلّة الّتي ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

الخامس: أن لا يكون ممّن بيته معه، كأهل البوادي الّذين ينزلون البراري في محلّ العشب و الكلأ و مواضع القطر و اجتماع الماء؛ لعدم صدق المسافر عليهم، و كذا لا يكون من الّذين اتّخذوا السفر عملا و شغلا لهم، كالمكاري و السائق و الساعي

ص: 228

و الراعي و نحوهم، فإنّ هؤلاء يتمّون في سفرهم الّذي هو عمل لهم؛ لعدم انقطاع سفرهم؛ و لنصوص كثيرة مذكورة في الكتب الفقهيّة.

السادس: الوصول إلى حدّ الترخص، و هو المكان الّذي يتوارى عنه جدران بيوت البلد و يخفى عنه آذانه؛ لصدق التلبّس بالسفر عرفا؛ و لأدلّة أخرى مذكورة في الكتب الفقهيّة. و هناك قواطع للسفر ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و اختلف علماء الجمهور في القصر في السفر، فقال الشافعي: عدم وجوب القصر و أفضلية التمام، و استدلّ بقول عائشة: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقصر في السفر و يتمّ »، و بما رواه النسائي و الدار قطني: «انّ عائشة لما اعتمرت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و قالت: يا رسول اللّه قصّرت و أتمت و صمت و أفطرت، فقال صلّى اللّه عليه و آله:

«أحسنت يا عائشة»، و قال مالك: إنّه يجب القصر وجوب عزيمة لا رخصة فيه، و استدلّ بما رواه النسائي و ابن ماجة عن عمر أنّه قال: «صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر على لسان نبيّكم عليه الصلاة و السلام»، و بما رواه الشيخان عن عائشة أنّها قالت: «أوّل ما فرض اللّه تعالى الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرّت في السفر و زيدت في الحضر»، و ذهب جمع إلى أنّ القصر في الآية الشريفة ليس هو قصر الرباعيّة في السفر المبيّن بشروطه في كتب الفقه، فذلك مأخوذ من السنّة المتواترة، و أمّا ما في المقام فهو في صلاة الخوف كما ورد عن بعض الصحابة، و الشروط فيها على ظاهرها.

و لكن، عرفت في التفسير بطلان ذلك. و أمّا ما ذهب إليه الشافعي فهو مخالف لسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و مذهب أهل البيت و عمل الصحابة، و أمّا رواية عائشة فهي مردودة من جهات كثيرة، قد ذكرها علماء الجمهور في كتبهم.

و أمّا صلاة الخوف، فهي مقصورة سفرا و حضرا، جماعة و فرادى، إلاّ في الصبح و المغرب؛ لما تقدّم من الآية المباركة و السنّة المعصوميّة. و المراد من الخوف:

الخوف الّذي يكون مقتضيا لتخفيف الصلاة، سواء كان ذلك من عدو أو لص أو

ص: 229

سبع أو ظالم، لا كلّ خوف و لو لم يقتض ذلك، و يستحبّ فيها الجماعة، و لها كيفيات ثلاثة، كما تقدّم في التفسير و ذكرناها في كتابنا (مهذب الأحكام).

و أمّا صلاة المطاردة - و تسمّى بشدّة الخوف و المراماة و المسايفة، أي:

التضارب بالسيف - فتصلّى بكلّ وجه أمكن، فهي تابعة للقدرة، و يبدل كلّ ما لا يقدر عليه بالأبدال الاضطرارية، كما ذكرناه مفصّلا في محلّه.

بحث عرفاني:

من أسباب تزكية النفس و رقيّها الصلاة، بل هي من أهمّها و أسماها - لما علم اللّه تعالى من وجود الشره المؤدّي إلى الهلاك و الخسران في الإنسان، جعل الطاعات و العبادات - خصوصا الصلاة صونا للنفس و حفظا لها عن الهلاك و الخسران، بل لرقيّها إلى مراتب الكمال، ففي الحديث: «ما افترض اللّه على خلقه بعد التوحيد شيئا أحبّ إليه من الصلاة، و لو كان شيء أحبّ إليه من الصلاة تعبّد به ملائكته، فمنهم راكع و ساجد و قائم و قاعد»، فبها يزول الدنس كما في بعض الروايات، و إنّها مطهرة للقلوب من المساوئ و العيوب، و بها تفتح أبواب الغيوب، و بها تطمئن القلوب، و بها ترفع الدرجات، و فيها المناجاة برفع الأستار، و تتسع فيها ميادين الأسرار، و بها تشرق شوارق الأنوار، و بها تزال الحجب و الأستار بالقرب إليه، و بها تصفو المحبّة من كدر الجفاء و يتّصل المحبّ مع حبيبه في محلّ الصفا.

و لقد علم اللّه تعالى ضعف الإنسان و وساوس الشيطان، فقلّل أعدادها و فرض في ليلة المعراج خمس صلوات في خمس أوقات بشفاعة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و هذا لعوام الخلق، و إلاّ فالعارفون من الخواص: اَلَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ [سورة المعارج، الآية: 23]، منحهم ديمومة الصلاة من الأزل إلى الأبد،

ص: 230

و هذا لا يدرك بالعقول القاصرة المشوبة بالمادّة الزائلة، فلا يعقلها إلاّ العالمون باللّه تعالى.

و إنّ المقصود و الأثر المطلوب من إقامة الصلاة معنويّتها، لا مجرّد وجودها و شبحها، فإنّ الإقامة هي الإكمال و الإتقان، يقال: (فلان أقام داره)، أي: أكملها و جعل فيها كلّ ما يحتاج إليه. و إنّ إقامة الصلاة تعديلها من جميع الجهات - بالتوجّه فيها إليه تعالى و التقرّب بها لديه جلّ شأنه و حفظ أركانها و شرائطها حتّى تترتّب آثارها - فليس كلّ مصلّ مقيم، و كم من مصلّ ليس له من صلاته إلاّ التعب، و في بعض الأحاديث: «من لم تنه صلاته من الفحشاء و المنكر، لم تزده من اللّه إلاّ بعدا»، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا صلّى العبد فلم يتم ركوعها و لا سجودها و لا خشوعها، لفت كما يلف الثوب الخلق ثمّ يضرب بها وجهه»، فالمصلّون كثيرون و المقيمون قليلون و أهل الأشباح كثير و أهل القلوب و أرباب المعرفة قليل.

و التعبيرات الواردة في القرآن الكريم في مدح المصلّين أكثرها و أغلبها جاء بلفظ الإقامة أو بمعنى يرجع إليها، قال تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ [سورة البقرة، الآية: 3]، و قال تعالى حكاية عن إبراهيم (عليه أفضل الصلاة و السلام): رَبِّ اِجْعَلْنِي مُقِيمَ اَلصَّلاةِ [سورة إبراهيم، الآية: 40]، و قال تعالى: وَ اَلْمُقِيمِي اَلصَّلاةِ [سورة الحج، الآية: 35]، و قال تعالى: وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ * [سورة التوبة، الآية: 18]، و لما ذكر المصلّين بالغفلة قال تعالى: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [سورة الماعون، الآية: 5]، و لم يقل سبحانه و تعالى: فويل للمقيمين الصلاة، و في الحديث: «انّ العبد إذا قام الى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه و قامت الملائكة من لدن منكبه إلى الهويّ يصلّون بصلاته»، إلى غير ذلك من الروايات و الأحاديث.

و التوجّه أو الخشوع فيها على مراتب:

ص: 231

الأولى: خشوع خوف و إذلال و انكسار لعظمته و قهّاريته، و هي للعبّاد الزهاد.

الثانية: خشوع تعظيم و هيبة و إجلال، و هي للمتّقين الأبرار.

الثالثة: خشوع فرح و سرور و إقبال، و هي للمقرّبين العارفين، و يسمّى هذا المقام بقرّة العين، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الم سجدة، الآية: 29].

الرابعة: الجمع في مقام الجمع، و هذه تختصّ بالأولياء و المقرّبين، فيها تتمّ التصفية و تظهر المحبّة و تفتح الأبواب و يرتفع الحجاب، فتخرج الروح من ضيق الأشباح إلى فضاء الكمال في عالم الأرواح، أو من ضيق الملك إلى سعة عالم الملكوت.

و لا شكّ أنّ إمداداته و إفاضاته جلّت عظمته غير محدودة بحدّ و لا بزمان معين؛ لصدورهما عن ذات غير المتناهي.

نعم، ترد على العبد حالات خاصّة و ظروفا معيّنة يكون التوجّه فيهما إليه أشدّ و أكثر، فلها آثار مخصوصة لنجح المقاصد و إنجاز المطالب، منها حالة الصلاة، خصوصا عند الانقطاع إليه تعالى كالسفر و الخوف و المرض و غيرها، و لأجل ذلك ورد الاستعانة بها و قالوا: إنّ الصلاة لا تسقط في أي حال؛ لأنّه لا بد للعبد من حفظ الصلة بينه و بين ربّه، و بها تتمّ المحبّة و تحصل المودّة.

ص: 232

إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِي.......

اشارة

إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112) وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115) الآيات الشريفة تبيّن بعض الحقائق الواقعيّة و الدينيّة، فهي تشير إلى أهمّ

ص: 233

حقيقة يبتني عليها نظام السموات و الأرض، و هي العدل في جميع الأمور، لا سيما في القضاء و عدم الجور فيه، و ترك الخيانة بتعريض البريء الى التهمة و العذاب و الإغفال عن المتهم و ترك الحكم عليه.

و توصي الآيات الشريفة المؤمنين بالحقّ في القضاء و عدم الميل و الجور فيه.

كما تشير إلى حقيقة اخرى، و هي عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حجيّة قضائه، ثمّ ترشد الناس إلى ترك الخيانة في جميع الأمور و بالنسبة إلى جميع الناس.

و تعتبر المجتمع الإنساني كنفس واحدة، فأي واحد منهم يتّهم برئيا و يخونه، فهو يخون نفسه. و تشير إلى حادثة واحدة كنموذج فذّ في التاريخ و ليست هي قصة عارضة ثمّ تنسى، بل هي درس تربوي تبقى للأجيال و على مرّ الزمن، و تطبيق عملي للعدل الرباني، و أحد مقوّمات الإسلام دين الحقّ و العدل، فكانت هذه الحادثة هي رمز العدالة في الإسلام؛ و لذا ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و أمر نبيّه العظيم بإظهار الحقّ و القضاء فيه، مع أنّ المنافقين أرادوا منها النيل من كرامته و اهتمّوا بإضلاله.

و تبتدأ القصة بأن نفرا من الأنصار غزا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في بعض الغزوات فسرقت لأحدهم درع، فحامت حول رجل من الأنصار الشبهة، فاتّهمه صاحب الدرع عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هو منافق يقول الشعر في ذمّ المؤمنين و ينسبه إلى غيره، فلما رأى السارق ذلك عمد إلى الدرع فألقاها في بيت رجل بريء، ثمّ وجّه قومه الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: إنّ صاحبنا بريء، و ألحّوا عليه بأن يقضي لهم و بالغوا في أن يغيروه صلّى اللّه عليه و آله على المتهم البريء و طلبوا منه صلّى اللّه عليه و آله أن يعذر صاحبهم على رؤوس الناس، فنزلت الآيات الشريفة و برّأه اللّه تعالى ممّا قالوا. و هي ليست قصة عابرة بل درس عملي تطبيقي كما عرفت.

و تتضمّن الآيات الشريفة بعض أخلاق الإسلام و تذمّ الخيانة في جميع الأمور، و ترتبط الآيات المباركة بما قبلها في تشريع الأحكام و إظهار صفات

ص: 234

المنافقين. و قد أمر عزّ و جلّ فيها برعاية الحقّ و حفظه و العناية به و تطبيقه بعد أمره عزّ و جلّ في الآيات الكريمة السابقة الجهاد في سبيل الحقّ ، فكانت هذه الآيات تطبيقا عمليا للآيات الشريفة السابقة.

التفسير
قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ .

ذكرنا في إحدى الآيات الشريفة السابقة أنّ كلّ مورد في القرآن الكريم يراد منه تثبيت قدرته عزّ و جلّ و عظمته و قهّاريته و إظهار الحقّ ، كانت النسبة إليه تعالى بضمير الجمع و العظمة، و كلّ مورد يراد منه إظهار عطفه و رحمته و حنانه و غفرانه كانت النسبة إليه بضمير المفرد، و في المقام إنّما أسند عزّ و جلّ الإنزال إلى ضمير العظمة تعظيما لأمر المسند؛ و لأنّ المقام يستدعي ذلك لتثبت الحكم.

و تأكيد الحكم ب (إنّا) إيذانا بالاعتناء بشأنه، كما أنّ تقديم المفعول غير الصريح للاهتمام و التشويق له.

و الناس: يشمل جميع الأفراد المؤمن و غيره، و البرّ و الفاجر، و إنّه أعمّ الإنس و الجنّ ، لكن غلب استعماله في الإنس، هو جمع إنس - لأنّهم يونسون - أصله أناس ادخل عليه اللام. و قيل: اسم وضع للجمع كالرهط و القوم، واحده إنسان من غير لفظه.

و الحكم بين الناس هو القضاء بينهم، سواء في المخاصمات و المنازعات - لرفع الاختلاف بينهم بالحكم - أم غيرها، و إنّه من أفضل الأعمال و أكملها لو كان الحاكم واجدا للصفات و الحكم جامعا للشرائط الشرعيّة، بل هو من شؤون الأنبياء و خلفائهم المعصومين.

ص: 235

و إيجاد الرأي إن كان ممّا أراه اللّه تعالى لصاحب الرأي، فهو صواب، كرأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و كذلك رأي خلفائه المعصومين كما ستعرف، و أمّا رأي غيرهم فلم يعلم أنّه ممّا أراه اللّه تعالى أو الشيطان أو النفس الأمّارة بالسوء، الّتي هي من جنود الشيطان، أو الخيالات الفاسدة الّتي هي من أهمّ جنوده أيضا.

و قد جعل عزّ و جلّ في المقام الحكم بين الناس الغاية لإنزال الكتاب، نظير قوله تعالى: كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ [سورة البقرة، الآية:

213]، إلاّ أنّ الفرق بين الآيتين أنّ المقام خاصّ ، و آية البقرة عامّ ، كما يزيد المقام أيضا أنّ اللّه تعالى جعل حقّ الحكم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الحجيّة لرأيه و نظره.

قوله تعالى: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً .

جملة مستأنفة و العطف فيها من عطف جملة إنشائيّة على جملة خبريّة هي في معنى الإنشاء، فيرجع المعنى إلى قوله: احكم بينهم و لا تكن للخائنين خصيما.

و الخصيم: من يدافع عن الدعوى و نحوها، سواء كان من أطراف النزاع و الخلاف، أم لم يكن، و في الدعاء: «اللهم بك خاصمت»، أي: بما ألهمتني من الدليل و البرهان خاصمت المعاندين و أظهرت لهم الحجّة، و في الحديث: «إذا خاصمكم الشيطان فخاصموه بما ظهر لكم من قدرة اللّه تعالى»، و الذكر و الأنثى فيه سواء.

و فعيل هنا بمعنى فاعل، و يدلّ عليه قوله تعالى في ما يأتي: وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ ، و جمع الخصيم خصماء. و هو يشمل جميع ما يوجب تأييد الخائنين و تقويتهم بالحجّة و الدفاع عنهم بالمجادلة و الميل إليهم.

و لا فرق بين القوي و الضعيف، فيشمل القوى في الدعوى أيضا، و الصديق و العدو، و المؤمن و الكافر، أو القريب و البعيد، و غير ذلك ممّا يوجب تقوية الخيانة؛ لإطلاق الآية المباركة، و أنّ الخيانة مبغوضة و الخائن لا كرامة له عند اللّه تعالى.

الآية المباركة تدلّ على نهيه صلّى اللّه عليه و آله عن أن يكون مدافعا للخائنين ذابا عنهم

ص: 236

على من يطالبهم بالحقّ ، فيبطل حقوق المحقّين و يدافع عن المبطلين، و هي تطبيق لقوله تعالى: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ [سورة المائدة، الآية: 49].

و إطلاق الآية الكريمة يشمل النهي عن جميع أنواع الخيانة و مطلق التعدّي، فيشمل الخيانة في أحكام اللّه تعالى و شريعته، كالكفر و الفسق، و الخيانة في حقوق الآخرين، و يشهد له الأمر في صدر الآية المباركة بالحكم مطلقا، لا خصوص نوع خاصّ منه.

و الخطاب و إن كان موجّها للرسول الكريم، إلاّ أنّ المراد منه غيره ممّن كان خصيما للخائنين، و تعليم منه عزّ و جلّ لمن يريد التصدّي لهم، و يشهد له قوله تعالى:

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

قوله تعالى: وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ .

الاستغفار هو طلب الستر و المغفرة، و الغفران مصدر، و هو منصوب غالبا بإضمار، و في الحديث: «كان إذا خرج من الخلاء قال: غفرانك»، أي: اطلب غفرانك، و في تخصيصه بذلك دائما أقوال:

الأوّل: أنّ ذلك عبادة أتى بها جزاء لما سلف من ما أنعم اللّه تعالى بها عليه من العافية و الرزق و إطعامه و هضمه و بقاء قوى الطعام في بدنه، فكان يلتجأ الى هذه العبادة جزاء للإحسان.

الثاني: استغفر لترك ذكره تعالى لسانا في مدّة لبثه في ذلك المحلّ ، فكأنه رأى في ذلك تقصيرا فتداركه بالاستغفار، و إن كان قلبه مشغولا بذكره تعالى و إنّه لا ينقطع عنه.

الثالث: أنّ ذلك من تواضع العبوديّة لعظمته جلّ شأنه؛ لأنّ الغفران يلازم ذلّ العبوديّة.

ص: 237

الرابع: أنّ ذلك اعتراف بعدم أداء نصيبه من الشكر الّذي خصّص له لما أنعم سبحانه و تعالى عليه من جميع الجهات.

و ظاهر الخطاب في الآية المباركة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فيكون المراد منه الطلب من اللّه تعالى الستر على ما في طبع الإنسان من الميل الى الهوى من هضم الحقوق، و الدليل عليه قوله تعالى في ذيل الآيات المباركة: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ، فإنّ الآية المباركة تدلّ على عصمة اللّه تعالى لنبيّه الكريم بعد بذل القوم غاية جهدهم في إضلاله و إيثار الباطل لديه و تحريضه على الحقّ ، و لكن اللّه تعالى جعله في أمنه و أخبرهم بأنّهم لا يضرّونه، فلا يجوز في الحكم و لا يميل الى الباطل.

و يمكن أن يكون المراد من الأمر الاستغفار لأجل أنّه عبادة تدلّ على ذلّ العبوديّة، بل هو من شؤونها، فلا يختصّ بما إذا كان عن ذنب؛ و لذا ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «و أنا استغفر اللّه في كلّ يوم سبعين استغفارة» و هو معصوم، فإن كان الاستغفار صادرا ممّن عصمه اللّه تعالى، يكون مزيدا للثواب و الدرجات، و إن كان الاستغفار صادرا ممّن حصل منه الذنب، فيوجب عفوه و ستره و غفرانه، فأمر اللّه تعالى له صلّى اللّه عليه و آله بالاستغفار ليس لأجل صدور ذنب عنه، أو همّه إلى الباطل و زيفه عن الحقّ ، بل لأنّ الاستغفار عبادة، و هو صلّى اللّه عليه و آله سيد العابدين و رئيسهم كما عرفت.

أو لأن يعصمه اللّه تعالى من الوقوع في ما يوجب بعده عنه تبارك و تعالى.

أو لأجل سؤاله أن يغلبه على هوى النفس و إن كان معصوما، و لكنّه يستلزم علوّ الدرجة له.

كما أنّه يمكن أن يكون الاستغفار لاشتغاله بالنظر في أهمّ مصالح الأمة، مثل محاربة الأعداء، فإنّها و أمثالها شاغلة عن عظيم مقامه.

أو عن عظيم ما مضى من أحواله، و الترقي منه إلى الأعظم لأنّ : «حسنات

ص: 238

الأبرار سيئات المقرّبين»، كما يحتمل أن يكون لتعليم الأمة من باب «إيّاك أعني و اسمعي يا جارة».

و ممّا ذكرنا يعلم فساد ما ذكره بعض المفسّرين من نسبة الذنب أو همّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، الّذي عصمه اللّه تعالى من الزلل و الخطأ و الذنوب كلّها، و قد نفى اللّه تعالى عنه كلّ ضرر و آمنه عن كلّ ميل إلى الباطل و اتّباع الهوى.

و ظهر ممّا تقدّم معنى الحديث الشريف: «انّه ليغان على قلبي حتّى استغفر اللّه في اليوم سبعين مرّة»، فإنّ قلبه الشريف أبدا مشغول باللّه تعالى، و لكن قد يعرض على قلبه المبارك عارض بشري من أمور الأمة و الملّة و مصالحهما، و عدّ ذلك في نفسه الأقدس تقصيرا، فيفزع إلى الاستغفار.

أو يتذكر رقيّ نفسه الشريفة من عظيم إلى أعظم فيتوجّه إليه بالاستغفار، و به يحصل الرقي. و منه يظهر شأن الاستغفار من بين الأذكار.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .

أي: أنّ اللّه تعالى يحبّ المغفرة و الرحمة، فمن استغفره و استرحمه يجد اللّه غفورا رحيما دائما في تمام الأحوال و جميع العوالم.

قوله تعالى: وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ .

المجادلة المخاصمة، قيل: من الجدل، و هو الفتل، و منه رجل مجدول الخلق، أي: محكم الفتل، و يقال للصقر: الأجدل، و في حديث عليّ عليه السّلام حين وقف على طلحة و هو قتيل: «عزيز عليّ أبا محمد أن أراك مجدّلا تحت نجوم السماء»، أي:

مرميا قتيلا ملقى على الأرض.

و قيل: إنّه مأخوذ من الجدالة، و هي وجه الأرض، و منه الحديث الشريف:

«أنا خاتم النبيّين في أم الكتاب، و إنّ آدم لمنجدل في طينته»، أي: ملقى على الجدالة و هي الأرض، فكأن كلّ واحد من الخصمين يريد أن يلقي صاحبه عليها، و منه:

تركته مجدلا، أي: مطروحا على الجدالة، كما مرّ في الحديث السابق أيضا.

ص: 239

و يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أي: يخونونها و يحملونها على ما يخالف الفطرة و الدين، فتشمل كلّ معصية، سواء كانت خيانة أم غيرها، إلى النفس أو إلى الغير، فإنّ و بالها راجع إليها بالآخرة؛ لأنّ كلّ معصية تعدّ خيانة للنفس كما يعدّ ظلما لها.

و ربما تكون الخيانة إلى الغير أخذ؛ لأنّه يجب احترامه و حفظه و مراعاة العهد معه، فيكون التعدّي عليه بالخيانة في ماله أو في عرضه أو في غيرهما خيانة له و للنفس، و لعلّ التعبير به لبيان هذه الجهة أيضا.

و سياق الآية المباركة يدلّ على حرصهم و استمرارهم عليها، و قد ورد مثله في قوله تعالى: كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 187]، و تقدّم ما يتعلّق به فراجع.

و لا يختصّ مضمون الآية المباركة بعصر النزول، فإنّ في كلّ عصر يوجد من يكون خائنا للنفس بارتكاب المعاصي و الآثام، كما أنّ النهي و إن كان موجّها إلى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، و لكنّه تشريع موجّه إلى جميع المكلّفين، فلا يجوز المدافعة عمّن يخون نفسه بارتكاب المعاصي و جعل نفسه عرضة للخيانة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً .

الخوّان فعّال من أبنية المبالغة، أي: كثير الخيانة، و هو يدلّ على استمرارهم عليها و تعظيم الأمر فيها.

و الأثيم صفة مشبهة، و هو المنهمك في الإثم، و إنّما قدّم عزّ و جلّ الخيانة على الإثم لأنّها السبب له.

و تعليق البغض و عدم المحبّة بهؤلاء؛ لبيان إفراطهم في الخيانة و الإثم و أمنهم من العقاب الإلهي؛ لأنهم اعتادوا الخيانة و ألفوا الإثم، فلم يعد ينفرون منه، لا لأجل أنّه تعالى يبغض كثير الخيانة، فهو عزّ و جلّ لا يحبّ قليلها كما لا يحبّ كثيرها. و قد عدّ عزّ و جلّ جملة من خياناتهم و مآثمهم و معاصيهم، بالنسبة إلى اللّه تعالى و الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و دين الحقّ و المؤمنين في جملة من الآيات الكريمة.

ص: 240

و يستفاد من سياق الآية الشريفة أنّها نزلت في قوم اعتادوا على الخيانة و ارتكاب الإثم و انهمكوا فيه، فنهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن أن يكون خصيما لهم، و أن يجادل عنهم لأجل خيانتهم، فهو تعالى يبغضهم لذلك و ينهى عن المدافعة عنهم، فلا فرق في الحكم بين قليل الخيانة و كثيرها، فإنّهما على حدّ سواء عنده عزّ و جلّ .

قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ .

بيان لأهمّ سجاياهم الّتي امتاز بها هؤلاء الخوانون الآثمون. منها: استتارهم عن الناس و استحياؤهم منهم عند ارتكاب الخيانة و الآثام، و عدم استتارهم عن اللّه تعالى لأنّهم أمنوا عقابه، فلا إيمان لهم؛ لأنّ الإيمان جنّة واقية يمنعهم عن ارتكاب و اقتراف الإثم، و هو أحقّ من أن يستخفى عنه و يستتر منه.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالاستخفاء منه تعالى و هو عليم بمنويات الصدور و لا تخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء؛ تنزيلا على زعمهم، فإنّهم كانوا على درجة ضعيفة من الإيمان، فلم يعتقدوا مراقبة اللّه تعالى لهم، فبيّن عزّ و جلّ لهم هذه الحقيقة.

و من ذلك يعرف أنّه لا وجه لارتكاب المجاز في المقام و القول بأنّ المراد من الاستخفاء منه تعالى الاستحياء، فإنّه و إن كان صحيحا، لكنّه خلاف السياق.

و ممّا ذكرناه يعلم الوجه في ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الاستخفاء من اللّه تعالى أمر غير مقدور، إذ لا يخفى على اللّه شيء في الأرض و لا في السماء، فطرفه المقابل له - اعني عدم الاستخفاء - أيضا أمر اضطراري غير مقدور، و إذا كان كذلك لم يتعلّق به لوم و لا تعيير، كما هو ظاهر الآية الشريفة، فالظاهر أنّ الاستخفاء كناية عن الاستحياء؛ و لذلك قيّد قوله: وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ بقوله: وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ ، الدالّ على أنّهم كانوا يدبّرون ما لا يرضى من القول، أي: التبرّي من هذه الخيانة المذمومة، كما قيّده عزّ و جلّ بقوله: وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً ، الّذي يدلّ على إحاطته تعالى بهم

ص: 241

في جميع الأحوال حتّى حال ارتكاب الجرم و صدور المعصية، فيكون التقييد بهذين القيدين من قبيل ذكر العامّ بعد الخاصّ ، و هو في الحقيقة تعليل لعدم استخفائهم من اللّه تعالى بعلّة خاصّة ثمّ بأخرى عامّة.

و ما ذكره قدّس سرّه تطويل بلا طائل تحته، فإنّ ما يذكره عزّ و جلّ من الآيات التالية كفيل في بيان المراد من عدم استخفائهم من اللّه، و هو التنزيل على ما كانوا يعتقدونه، و إنّه مذكور على ما كانوا يتخيّلونه من عدم حضوره عزّ و جلّ و أمنهم من عقابه، بخلاف استخفائهم من الناس، فإنّهم لم يكونوا في مأمن من عقابهم و توبيخهم، فكان الردّ عليهم حاسما، من أنّه معهم يعلم ما يبيّتون ما لا يرضى من القول، و أكّد ذلك بأنّه محيط بهم.

و ما ذكره أخيرا من الآيتين المباركتين الأخيرتين تعليل لعدم استخفائهم من اللّه تعالى صحيح، فهو عزّ و جلّ أحقّ من أن يستخفى منه - بأن لا يعصى لا جهرا و لا خفاء - فالاستخفاء منه تعالى أمر مقدور بترك المعصية و الإثم و مراقبته عزّ و جلّ في جميع الأحوال.

قوله تعالى: وَ هُوَ مَعَهُمْ .

تعليل لعدم استخفائهم منه جلّ شأنه، فهو معهم يعلم ما تكنّ به صدورهم و يرى أعمالهم و يسمع أقوالهم. و معيّته تعالى لخلقه معيّة قيوميّة إحاطيّة علميّة، لا معيّة زمانيّة و مكانيّة، فإنّه تعالى محيط بهما.

قوله تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ .

تقدّم الكلام في مادة (بيّت)، و المراد به التدبير ليلا و في الخفاء بما لا يرضاه عزّ و جلّ من القول و الفعل، كالتبريّ من الخيانة و رمي البريء بها و شهادتهم عليها زورا، فيكون المراد من القول الأعمّ منه و من الفعل المترتّب عليه، فكانوا يدبّرون ما لا يرضاه عزّ و جلّ في الخفاء و ينسبونه إلى البريء.

ص: 242

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً .

تعليل عامّ يبطل زعمهم في عدم استخفائهم من اللّه تعالى و تدبيرهم القول، فإنّه عزّ و جلّ محيط بهم في جميع الأحوال، فيعلم أفعالهم و أقوالهم و سرّهم و علنهم، عالم بجميع خصوصياتهم لا يعزب عن علمه شيء و لا يفوته أمر.

قوله تعالى: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا .

بيان لعدم انتفاعهم بالمجادلة عنهم، و هو دليل على أنّ المجادلة المنهيّة في صدر الآية الشريفة الّتي خوطب بها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ليس المراد منه نفس الرسول الكريم، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله معصوم لا يجادل عن الّذين يخونون أنفسهم، بل كان واقعا من بعض المؤمنين، إلاّ أنّ الخطاب كان موجّها لرسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله؛ تعظيما للأمر و تعليما لأمته، فإنّ الأمر بمكان من الأهميّة؛ لأنّ فيه تضييعا للحقوق و مسّا للعدالة الإسلاميّة و ترويجا للباطل و إزهاقا للحقّ ، فكان ذلك سببا في توجيه الخطاب له صلّى اللّه عليه و آله و مثل هذا الأسلوب يراد منه الاستفزاز و التنبيه بأنّ الجدال عنهم لا ينفعهم و لو بذلتم غاية الجهد في ذلك، فإنّ جناياتهم على حدّ من الكثرة و العظمة بحيث يوجب مشاقّتهم بالتوبيخ و التقريع، لا المخاصمة و الجدال عنهم.

قوله تعالى: فَمَنْ يُجادِلُ اَللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

أي: لو نفعهم الجدال في الحياة الدنيا، فلا ينفعهم في يوم القيامة، يوم حضور الأعمال و يوم الشهود. و الاستفهام بمعنى الإنكار و التوبيخ.

قوله تعالى: أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً .

أي: إذا حضرت الأعمال و تكشّفت السرائر و برزوا للّه الواحد القهّار، فمن يكون وكيلا يدافع عنهم، فإنّه في ذلك اليوم لا مدافع عن المجرمين و لا مجادل عنهم و لا كفيل يدبر أمرهم و يصلح شأنهم، فهناك لا ينفع الاستخفاء من اللّه تعالى، فإنّ الأعمال محفوظة لديه و هو محيط بهم.

ص: 243

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ .

ترغيب للتوبة و حثّ إلى ترك السوء و الخيانة. و بيان للمخرج من الذنب بعد وقوعه، و إرشاد إلى أنّ المعصية الّتي يقترفها الإنسان تؤثّر في نفسه و تخلّف تبعات و آثارا عليها، و تكتب في صحيفة أعماله، و لا يمكن إزالتها إلاّ بالرجوع إلى اللّه تعالى و استغفاره، فلو فعل ذلك وجد اللّه جلّت قدرته توّابا رحيما.

و السوء: ما يسوء الإنسان، و لعلّ التدريج من السوء إلى الظلم إمّا لأجل أنّ السوء يراد به التعدّي على الغير و بالظلم التعدّي على النفس، أو من التدريج من المعصية الصغيرة إلى المعصية الكبيرة. و قيل: السوء ما دون الشرك؛ لأنّه ظلم عظيم.

و كيف كان، فهما مشتركان في العصيان و التعدّي على حرماته عزّ و جلّ .

قوله تعالى: ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً .

أي: يطلب منه المغفرة بالتوبة الصادقة، فإنّه يجد اللّه غفورا لذنوبه رحيما به، و من رحمته عزّ و جلّ أن وفّقه التوبة و أنّه يقبلها و لو بعد حين. و لعلّ الإتيان ب (ثم) إشارة إلى ذلك.

و التعبير بالوجدان لبيان سرعة الاستجابة، و عن علي عليه السّلام: «من اعطي الاستغفار لم يحرم المغفرة»، و فيه الحثّ إلى التوبة و الاستغفار، و بيان إلى أنّ من لم يتب يحرم نفسه من رحمته تعالى.

و إطلاق الآية المباركة يشمل جميع الذنوب الصغائر و الكبائر، كما أنّ سياقها يدلّ على التفضّل و الامتنان.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي طالما غفل عنها الإنسان، و هي أنّ الإثم الّذي يكسبه إنّما يكسبه على نفسه و لن يتخطّاه و تلحقه آثاره و تبعاته،

ص: 244

و يكون وباله عليه مهما تنصّل عن ذلك و رمي به غيره زورا و افتراء، فلا بد أن يتذكّر ذلك و يجعله نصب عينيه، فإنّه لا يجديه رمي الغير به، أو أن يتعهّد له متعهّد، فإنّه وحده يتحمّل إثمه، و وزره و وباله إنّما يكون على من كسبه فليحترز عن الذنب و تعريض النفس للعقاب.

و المراد بالكسب هو الفعل بقصد الانتفاع به؛ و لذا لا يوصف فعل الربّ بالكسب لعدم تصوّر الانتفاع فيه عزّ و جلّ ، و الإثم هو الذنب.

و هذه الآية الشريفة كالمقدّمة للآية التالية المتعرّضة للرمي بالخطيئة و الإثم.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

أي: أنّ اللّه عليم يعلم أفعال عباده حكيم بأن جعل لكلّ فعل جزاء خاصّا، و من حكمته أنّه لا يؤاخذ أحدا إلاّ بسبب إثمه.

و قد فسّرت هذه الآية آيات اخرى في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة الانعام، الآية: 164].

و قال تعالى: وَ قالَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة العنكبوت، الآية: 12]، و قال تعالى: لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اِكْتَسَبَتْ [سورة البقرة، الآية: 286].

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً .

بيان إلى أنّ الخطيئة و الإثم الّذي يرتكبه أحد إذا رمى به بريئا كان إثما و خطيئة اخرى. و الخطيئة و الإثم و الذنب و السيئة في الشرع تطلق على المعصية، و لها مدلولات متفرّقة إلاّ أنّه يمكن الفرق بينها أنّ الخطيئة تستعمل في المعصية الّتي تكون من غير تعمّد، ثمّ توسّع فيها و استعملت في كلّ ما لا ينبغي أن يقصده الإنسان، فتكون كلّ معصية و أثرها من مصاديق الخطيئة. و بناء على ذلك تكون

ص: 245

الخطيئة على قسمين، فإمّا أن يكون عملا أو أثر عمل لم يقصده الإنسان، فلا تعدّ حينئذ معصية، و من نسبة الخطيئة إلى الكسب الدالّ على القصد يراد من الخطيئة المعصية.

و أمّا الإثم فهو في الأصل التقصير، أي: ما يوجب قصر صاحبه عن الكمال، أو ما يوجب الحرمان عن الخيرات كالخمر، فإنّها تقصر بشاربها لذهابها بعقله، و هي توجب حرمان شاربها من الخيرات، سواء كانت فرديّة أم اجتماعيّة أو تكون مبطلة للثواب.

و أمّا الذنب، فهو الفعل الشنيع الّذي يتبعه الذمّ و اللوم.

و ذكر بعضهم أنّ الإثم هو القبيح الّذي عليه تبعة، و أمّا الذنب فهو القبيح من الفعل و لا يفيد معنى التبعيّة؛ و لذا يقال: أذنب الصبي، و لا يقال: قد إثم.

و كيف كان، فاجتماع الخطيئة و الإثم في الآية الشريفة و نسبتهما إلى الكسب يدلّ على أنّ لكلّ واحد منهما مدلولا خاصّا. فالمعنى: و من يكسب معصية و يفعل فعلا لا ينبغي أن يقصده، كترك الواجبات و فعل المحرمات - كأكلّ الدم - أو يكسب إثما يوجب حرمان صاحبه عن الخيرات و يبقى وبالها - كالسرقة و قتل النفس - ثمّ يرمي بريئا بنسبتها إليه، فقد احتمل بهتانا و إثما مبينا.

و المراد من يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً نسبة الخطيئة و الإثم إليه، و زعم أنّه هو الّذي فعله افتراء.

قوله تعالى: فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً .

البهتان هو الكذب على شخص بما يبهت منه و يتحيّر عند سماعه لفظاعته، يقال: بهته بهتا و بهتانا فهو باهت، و المقول مبهوت.

و الإثم المبين، أي: المبين الّذي لا شكّ فيه و لا خفاء، و اكتفى في البهتان بتنكير التفخيم. و يمكن أن يرجع وصف الإثم إلى البهتان أيضا، و عبّر بهما تهويلا للأمر و تعظيما لحال البريء.

ص: 246

و في إطلاق الاحتمال بالنسبة إلى قبول وزر البهتان استعارة لطيفة، كأنّ المفترى يفتك بالمتهم البريء و يرميه بالإثم و الخطيئة، فيوجب أن يتحمّل حملا يشغله عن كلّ خير، لا يفارقه مدى حياته.

و الآية المباركة تتضمّن أدبا من آداب الإسلام و خلقا كريما من مكارم الأخلاق. و هو ترك رمي البريء و الافتراء عليه، فإنّه خطيئة أخرى و إثم عظيم؛ لأنّه يشتمل على الكذب و الافتراء و الظلم على الغير و ذهاب الثقة بين المجتمع و هدم الاعتماد في الأسرة و إشاعة الفحشاء بين الأفراد؛ و لذا كان معصية كبيرة توجب فساد الدنيا و عذاب الآخرة.

قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ .

الآية الشريفة تدلّ على أنّهم كانوا يهتمّون بإضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و يرضونه بالدفاع عن الخائنين و المجادلة عنهم، و هؤلاء هم الّذين خاطبهم عزّ و جلّ بقوله:

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا [سورة النساء، الآية: 109]، و تنطبق الآية الكريمة على القوم الّذين اتّهموا بريئا و أرادوا تعريض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجادلة عنهم، كما وردت في الروايات على ما سيأتي.

أي: و لو لا فضل اللّه عليك بالتأييد و العصمة، و رحمته بإخبارك و همهم و تنبيهك بالحقّ و الحقيقة، لهمّت طائفة من الّذين يختانون أنفسهم - و هم قوم أبي طعمة و غيرهم على ما ستعرف - الّذين انتصروا للخائن و طلبوا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المجادلة عنهم و الحكم على المتهم البريء، و هم يعلمون حقيقة الحال، و قد همّوا و بذلوا غاية جهدهم في إضلال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن الواقع و القضاء بالحقّ ، و الآية المباركة تدلّ على نفي تأثير همّهم فيه صلّى اللّه عليه و آله لا نفي الهمّ مطلقا.

قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ .

أي: أنّ إضلالهم لا يتعدّى إليك و لا يتجاوز عن أنفسهم، فإنّ وزره و وباله

ص: 247

راجع إليهم، فهم الضالّون و يعملون عملهم، و أنّهم أزالوا أنفسهم عن الحقّ و أوردوها مورد الهلاك.

قوله تعالى: وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ .

عطف تفسيري للآية الكريمة السابقة، أي: أنّهم بهمّهم لإضلالك لا يضرّونك بل يضرّون أنفسهم بتعريضها للهلاك و وبال عملهم عليهم، فلا يتعدّى عليك؛ لأنّك مؤيّد من عنده تعالى و معصوم، فلا يضرّك ما يخطر ببالك بادئ الأمر من همّهم و شدّة جهدهم في تلبيس الحقّ بالباطل.

و الآية المباركة تدلّ على نفي إضرارهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله مطلقا و في جميع الحالات و الخصوصيات، و هي تدلّ على عدم صدور المجادلة عنهم من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله مطلقا.

قوله تعالى: وَ أَنْزَلَ اَللّهُ عَلَيْكَ اَلْكِتابَ وَ اَلْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ .

بيان لفضله تعالى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و الرحمة له، و هو في مقام التعليل لقوله تعالى: وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ، أي: ما يضرّونك من شيء مع إنزال اللّه عليك القرآن و الحكمة، و هي الفصل في القضاء، أو الاطلاع على الحقائق و دقائق الكتاب و سائر المعارف الإلهيّة. و علّمك من الحقائق و كشف لك الأسرار المكنونة و العلوم المخزونة و خفيّات الرموز ما لم تعلم إلاّ بتعليمه.

و ذكر المفسّرون في تفسير الكتاب و الحكمة أمورا يمكن المناقشة فيها، فقيل:

المراد من الكتاب: هو الوحي النازل لرفع اختلافات الناس، كما في قوله تعالى:

كانَ اَلنّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اَللّهُ اَلنَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ فِيمَا اِخْتَلَفُوا فِيهِ [سورة البقرة، الآية: 213].

و فيه: أنّ الظاهر من الكتاب - في المقام - النازل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المقابل للحكمة، و تعليم ما لم يعلم هو القرآن الكريم، و هو و الحكمة تكفّلا لرفع اختلاف الناس و الفصل بالحقّ في القضاء.

ص: 248

و قيل: المراد بالحكمة ما فيه من الأحكام، و ما ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ الغيب و الأقدار المخفيّة على البشر.

و فيه: أنّه لم يقم دليل عليه، بل الحكمة متى ما أطلقت يراد بها تلك العلوم و المعارف الحقّة، الّتي لها مدخليّة في شؤون الإنسان العمليّة و المصيريّة.

و قيل: المراد بالكتاب القرآن، و بالحكمة السنّة، و ممّا لم تعلم الشرائع و أنباء الرسل الأوّلين؛ و هو بعيد جدا.

و هذا العلم النازل من اللّه تعالى على قلبه الشريف، هو الملاك في العصمة الّتي هي عبارة عن علم الشخص بأمور تمنعه عن ارتكاب المعصية و التلبّس بالخطإ، فإنّ أثر هذا العلم هو منع صاحبه عن الضلال، كما أنّ أثر الشجاعة و السخاء و نحو ذلك من السجايا الفاضلة و الملكات، مترتّب عليها تمنع صاحبها من التلبّس بما يضادها من الجبن و البخل و التبذير و نحو ذلك، و سيأتي في البحث الفلسفي في الآيات المناسبة له ما يتعلّق بالعصمة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ كانَ فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً .

امتنان على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، إذ لا فضل أعظم من النبوّة و الرحمة الإلهيّة و تعليم الكتاب و الحكمة و عصمته من الوقوع في الضلال، فذلك كلّه فضل لا يمكن أن تحويه عبارة و لا تحيط به إشارة.

قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ .

بيان للصراط المستقيم و المنهج القويم الّذي لا بد و أن يتّبعه الخائنون، دون ما حكى عنهم عزّ و جلّ - كما مرّ - من تبييت ما لا يرضى من القول و فساد النية و سوء الفعال.

و ما تضمّنته هذه الآية المباركة تعليم إلهي لسائر الناس، و إرشاد لهم بأنّهم إذا تناجوا فلا بد أن يكون نجواهم بالخير و المعروف و الإصلاح بين الناس و التأليف بينهم بالمودّة، و إلاّ فلا خير في نجواهم و يكون وزره و وباله عليهم.

ص: 249

و النجوى: السرّ بين الاثنين، و ناجيته، أي: ساررته، تقول: ناجيت فلانا مناجاة و نجاء، و هم ينتجون و يتناجون، و نجوت فلانا انجوه نجوا، أي: ناجيته، و هو من نجوت السرّ أنجوه، أي: خلصته و أفردته، و منه نجوّة الأرض، أي المرتفع منها لانفراده بارتفاعه عمّا حوله. فالنجوى المسارّة مصدر، و قد تسمّى به الجماعة، كما يقال: قوم عدل و رضا، قال تعالى: وَ إِذْ هُمْ نَجْوى [سورة الإسراء، الآية:

47]، أي: متناجون، و في الحديث: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و اللّه عليّا عليه السّلام يوم الطائف فانتجاه، فقال الناس: لقد طال نجواه، فقال: ما انتجيته و لكن اللّه انتجاه»، أي: أنّ اللّه تعالى أمرني أن أناجيه. و في الدعاء: «اللهمّ بمحمّد نبيّك و صفيّك، و بموسى نجيّك»، أي: المناجي و المخاطب معك.

و الضمير في نَجْواهُمْ يعود إلى القوم المختانين أنفسهم، الّذين يبيّتون ما لا يرضى من القول، و الّذين يستخفون من الناس و لا يستخفون من اللّه تعالى، و قد غلب الشرّ عليهم فلا خير فيهم، لا في أفعالهم و لا أقوالهم و لا في مناجاتهم فيما بينهم.

و إنّما عبرّ عزّ و جلّ ب لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ ؛ لأنّ ما تناجوا فيه من الأمور الّتي نفى عنها الخير، فلا يحتاج إلى النجوى فيها، أو لأنّ النجوى إن كان راجعا الى شؤونهم الخاصّة الّتي لا ربط لها بإبطال الحقّ و إحقاق الباطل، فليس داخلا في مضمون الآية الشريفة، و هي قليلة عندهم. أو أنّ نفي الخير عن الكثير راجع إلى نفي الخير كلّه، باعتبار أنّ الكثير إذا لم يكن فيه الخير فقليله لا ينفع؛ لأنّ النجوى مظنّة الإثم و العدوان، قال تعالى: إِنَّمَا اَلنَّجْوى مِنَ اَلشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة المجادلة، الآية: 10]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المجادلة، الآية: 9]، فإنّ الإثم و العدوان إنّما يتحدّث عنهما في السرّ، دون الخير فإنّه يتحدّث عنه في الملأ.

ص: 250

و إنّما عبرّ عزّ و جلّ ب لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ ؛ لأنّ ما تناجوا فيه من الأمور الّتي نفى عنها الخير، فلا يحتاج إلى النجوى فيها، أو لأنّ النجوى إن كان راجعا الى شؤونهم الخاصّة الّتي لا ربط لها بإبطال الحقّ و إحقاق الباطل، فليس داخلا في مضمون الآية الشريفة، و هي قليلة عندهم. أو أنّ نفي الخير عن الكثير راجع إلى نفي الخير كلّه، باعتبار أنّ الكثير إذا لم يكن فيه الخير فقليله لا ينفع؛ لأنّ النجوى مظنّة الإثم و العدوان، قال تعالى: إِنَّمَا اَلنَّجْوى مِنَ اَلشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاّ بِإِذْنِ اَللّهِ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة المجادلة، الآية: 10]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ اَلَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة المجادلة، الآية: 9]، فإنّ الإثم و العدوان إنّما يتحدّث عنهما في السرّ، دون الخير فإنّه يتحدّث عنه في الملأ.

قوله تعالى: إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ

إرشاد إلى أنّ الخير في كلّ نجوى واقع بين الطرفين أو أكثر لا بدّ أن يكون باعثا لهذه الأمور الثلاثة، و هي الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس، و على هذا فالاستثناء متّصل، أي: أنّه لا خير في النجوى، بل الخير فيه ما كان باعثا إلى هذه الأمور المذكورة في الآية الكريمة.

و قيل: إنّ الاستثناء منقطع على معنى لكن من أمر بصدقة أو معروف.

و كيف كان، فهذه الأمور الثلاثة هي مجامع الخير الّتي يحتاج إليها في تنظيم أمور معاشهم و معادهم، و إنّها هي الّتي يحتاج فيها إلى النجوى، و غيرها لا خير فيها.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ هذه الأمور الثلاثة؛ لأنّ كمالها إنّما يكون بكتمانها و التعاون عليها سرّا و جعلها نجوى.

و الصدقة هي العطيّة المتبرّع بها الغير بقصد القربة. و المعروف: ما يعمّ أعمال البرّ كلّها، و الإصلاح بين الناس: هو رفع الاختلاف و إلقاء المودّة بينهم، و تقدّم أنّ هذه الأمور الثلاثة هي الجامعة لجميع أبواب الخير، و هو إمّا أن يكون فيه إيصال نفع إلى الغير، و هذا على قسمين، فإمّا أن يكون النفع جسمانيّا و مادّيا، و هي الصدقة. و إمّا أن يكون معنويّا و روحانيّا، و هو المعروف. و إمّا أن يكون الخير دفع المضرّة عن الغير، و هو الإصلاح بين الناس.

و إنّما قدّم الصدقة على المعروف و الإصلاح؛ لأنّ الأمر فيها أشقّ ، فإنّ فيها بذل المال الّذي هو شفيق الروح، بل عن عليّ عليه السّلام: «ينام الإنسان على الثكل و لا ينام على حرب».

ص: 251

كما أنّ تخصيص المعروف و الإصلاح بالذكر مع إمكان دخولهما في الصدقة لأنّ «كلّ معروف صدقة»؛ إيذانا بالاعتناء بشأنهما و للترغيب بهما، فإنّ المعروف يحبّه جميع الناس، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «المعروف كاسمه و أوّل من يدخل الجنّة يوم القيامة المعروف و أهله»، و تقدّم في عدّة آيات شريفة الأمر بفعل المعروف، و المستفاد من مجموعها أنّ المعروف لا يتمّ إلاّ بثلاث خصال: بالتعجيل، و الستر، و التصغير.

و أمّا الإصلاح بين الناس ففيه إزالة الفساد من ذات البين، و فيه الفضل الكبير و الثواب الجزيل، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ألا أدلّك على صدقة يحبّها اللّه و رسوله، تصلح بين الناس إذا تفاسدوا، و تقرّب بينهم إذا تباعدوا»، و عموم الإصلاح بين الناس يشمل جميع أفراده، في الدماء و الأموال و الأعراض و في كلّ شيء يرفع الاختلاف بين الناس حتّى الكذب، بلا فرق بين المسلمين و غيرهم، فإنّه أمر محبوب إلاّ فيما ورد من الشارع نهي بالخصوص حتّى في مثل المقام، و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «و الكلام ثلاثة، صدق و كذب و إصلاح بين الناس»، و في الحديث عنه عليه السّلام أيضا: «إنّ اللّه فرض التمحّل في القرآن، فقيل: و ما التمحّل ؟ قال عليه السّلام: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتمحّل له»، و هو قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ .

و المراد من التمحّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان، و قد ضبط التجمّل بالجيم، و التحمل بالحاء أيضا.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ .

بيان لحال النجوى من حيث المثوبة و العقوبة ليتّضح وجه الخير في النجوى و عدمه. و ينقسم المتناجون إلى قسمين: قسم يبتغي في فعله مرضاة اللّه تعالى، فله الأجر العظيم، و قسم آخر يفعل لأجل مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتّباع سبيل آخر غير سبيل المؤمنين، فسيكون جزاؤه جهنّم، و الآيات التالية بين القسمين.

ص: 252

أي: من يأمر بالمذكورات من الصدقة، و المعروف، و الإصلاح بين الناس و يفعل ذلك لأجل طلب رضا اللّه تعالى و تقرّبا إليه عزّ و جلّ ، فقد نال الخير و سيثيبه سبحانه و تعالى الأجر العظيم.

و إنّما عدل عزّ و جلّ عن الأمر إلى الفعل؛ لبيان أنّ مجرّد الوعد غير كاف، بل لا بدّ أن يتلبّس بالفعل و يتحقّق في الخارج.

قوله تعالى: اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ .

بغي الشيء طلبه، و ابتغاه يدلّ على شدّة الطلب و الاجتهاد فيه، فهو أبلغ من الطلب، أي: من يفعل من الصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس لأجل طلب رضا اللّه تعالى و الانقطاع إليه - لأنّ الأعمال بالنيّات - فقد فاز بالأجر منه جلّت عظمته و يمنحه من عطاياه و يشرّفه من كرمه، فيدلّ على أنّ فعل الخير إنّما يكون مظهرا لرحمته عزّ و جلّ في ما إذا أراد مرضاة اللّه تعالى منه، فيكون الخير و العمل أنفع و أدوم و يكون مظهرا من مظاهر رحمته عزّ و جلّ ، و كلّ ما كان الفعل أخلص لوجه اللّه تعالى كان أكمل و أنفع و أبقى، و على درجات الإخلاص يثاب الفاعل.

و تدلّ هذه الآية الشريفة على نظرية الإسلام في الخير و الأخلاق الفاضلة، فإنّه يؤكّد عليه أشدّ تأكيد و يحثّ على التخلّق بها و التحلّي بالفضيلة و عمل الخير ابتغاء لمرضاة اللّه تعالى و خالصا لوجهه الكريم، فهو ينظر إلى الجانب الروحاني و المعنوي أكثر من البعد المادّي، فلا يعير للأخلاق الفاضلة إذا طلبت لأجل البعد المادّي من قضاء الحوائج و تمشية الأمور الدنيويّة و حصول النفع كما تراه عليه الجاهليّة المعاصرة و المذاهب النفعيّة في الأخلاق، فالخلق الكريم إنّما يكون صالحا و كاملا و موجبا لإصلاح النفس إذا كان ابتغاؤه لأجل مرضاة اللّه تعالى، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا الأخلاقيّة، فراجع.

قوله تعالى: فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً .

أي: نعطيه مثوبة عظيمة يقصر عنها الوصف في الكثرة و الصفة و المنزلة،

ص: 253

و يستحقر دونها ممّا فات من أعراض الدنيا، و أمّا كون الأجر كثيرا فلأنّه دائم، و أمّا كونه في منتهى كمال الصفات فلأنّه لا ينغصه شيء و لا يشوبه ما يعيبه، و أمّا المنزلة فلأنّها مقارنة للتعظيم، فإطلاق الآية المباركة يشمل جميع ما تقدّم لانتساب إعطاء الأجر إلى ذاته الأقدس و توصيفه بالعظمة المتجلّية عن مقامه الربوبي جلّ شأنه، و ظاهر الآية المباركة من قبيل ترتّب السبب على المسبّب، و يستفاد منها تثبيت قدرته و قهّاريته.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى .

بيان للقسم الثاني من المتناجين بعد بيان حال المتناجين بالخير و الأمر بالصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس، و ابتغاؤهم مرضاة اللّه تعالى، و وعدهم عزّ و جلّ الجزاء الأحسن.

و في هذه الآية الشريفة يبيّن تعالى حال المتناجين بالشرّ و مخالفة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و اتّباعهم طريقا غير طريق المؤمنين، و أوعدهم عزّ و جلّ الإملاء و الاستدراج ثمّ إصلائهم جهنّم و ساءت مصيرا.

و المشاقّة المخالفة و المعاداة، مشتق إمّا من شقّ العصا، أو من الشقّ ، و هو القطعة المبانة من الشيء، فكأنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر.

و قد ورد في القرآن الكريم هذه الكلمة تارة: بالإدغام الّتي هي لغة بني تميم، قال تعالى: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اَللّهَ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [سورة الحشر، الآية: 4].

و أخرى بالفكّ كما في المقام، و في سورة الأنفال - الآية 13 قال تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ و هي لغة الحجاز. و لعلّ الفكّ في المقام لبيان شدّة الانفكاك بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و مخالفه، كما في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ [سورة الأنفال، الآية: 13].

و التعرّض للرسالة في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ تعليلا لما

ص: 254

سيذكره عزّ و جلّ ، و لبيان كمال شناعة مخالفتهم و مشاقّتهم، و المراد من قوله عزّ و جلّ : مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى ، أي: من بعد ما ظهر الحقّ ، و فيه من التقبيح العظيم لهم ما لا يخفى.

و المعنى: و من يخالف الرسول من بعد ما ظهر له الحقّ بالدلائل و المعجزات و موافقة ما أتى به للفطرة و لم يطعه، و إنما ذكر عزّ و جلّ القيد: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى ؛ لبيان شدّة المعاندة، و أنّ المشاقة إنّما كانت عصبيّة و اتّباعا للشهوات و النفس الأمّارة، فكانت سببا لزوال الهداية و تفويتها عنهم.

قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

سبيل المؤمنين إنّما هو سبيل الهداية، و ما هم عليه من الحنفيّة الصافية الموافقة للفطرة الخالية عن كلّ شائبة، كما أنّ سبيلهم إنّما يكون سبيل التقوى، فكان سبيلهم طاعة اللّه، و اجتماعهم إنّما كان عليها، و قد ورد الحثّ على اتّباع سبيلهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [سورة الانعام، الآية: 153]، و قال تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [سورة آل عمران، الآية: 103].

قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلّى .

أي: من خالف الرسول و اتّبع غير سبيل المؤمنين في ما هم عليه من التقوى و الهداية و إطاعة اللّه من ما بعد ظهر له، نجعله على ما تولاّه من الضلالة و الغواية الّتي اختارها.

و الآية الشريفة تدلّ على اختيار الإنسان في أفعاله و سلوك عقائده، و أنّ لها الأثر الكبير في هداية الإنسان و سبلها، فإنّ الخروج عن ربقة المؤمنين و الإعراض عن تعاليم سيد المرسلين، موجب للخروج عن الفطرة المستقيمة و الدخول في سلك

ص: 255

الكافرين، و يكفي في سلب الهداية إيكال اللّه تعالى الإنسان إلى نفسه و عدم توفيقه له، و هذا هو الجزاء الدنيوي لهم حيث استدرجهم و أملاهم.

و هذه الآية المباركة تتضمّن من الحكمة القويمة و المنهج الصالح للإنسان ما لم تكن في غيرها، و يستفاد من سياقها أنّها في مقام الامتنان على الأمّة المرحومة.

قوله تعالى: وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً .

بيان للجزاء الأخروي بعد بيان الجزاء الدنيوي، أي: ندخله في جهنّم جزاء لما اختاره في الدنيا من الطغيان و الغواية؛ و لذلك يصلّى جهنّم و بئس المصير الّذي يصير إليه.

و الآيات الكريمة و إن نزلت في قوم معاندين للحقّ و لكن العبرة بعموم اللفظ، لا خصوص السبب و المورد.

ص: 256

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ أنّ الحكم الحقيقي بين الناس و القضاء فيهم من شؤون النبوّة، بل يستفاد منها أنّهما من مختصاتها و لا يمكن أن يتصدّى لهما إلاّ إذا كان مأذونا من قبله، و لعلّ ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السّلام في شأن القضاء من أنّه من مناصب الأنبياء و الأوصياء، مأخوذ من أمثال هذه الآية المباركة.

الثاني:

يستفاد من الآية الشريفة المتقدّمة أنّ القضاء و الحكم بين الناس لا بدّ أن يستند إلى كتاب اللّه تعالى أو السنّة المباركة من ما ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله من قوله و فعله، فإنّه ممّا أراه اللّه تعالى.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أنّ أهمّ ما يفسد القضاء هي الخيانة مطلقا، و يؤكّد ذلك تعقيب الأمر بالحكم بين الناس بالحقّ بهذه الآية الكريمة، و أنّ الخيانة في القضاء من الظلم الّذي لا بدّ من طلب المغفرة من اللّه تعالى، و التوبة من مثل هذا الظلم إنّما تتحقّق بترك الخيانة و الرجوع إلى الحقّ .

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ أنّ الدفاع عن الخائنين و مرتكبي الظلم و الآثام من أسباب إعراض اللّه تعالى عن العبد و عدم محبّته له، و أنّ الدفاع عنهم لا يرفعهم عنده جلّت عظمته، فإنّه لا يؤاخذهم إلاّ بذنوبهم.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ على أنّ الخيانة إنّما تتحقّق بالاستخفاء من الناس أو الحياء منهم لئلاّ يؤاخذوه بما

ص: 257

صدر منه من المعصية و الظلم، و عدم الحياء من اللّه تعالى الّذي هو معهم و لا تخفى عليه خافية.

و من ذلك يستفاد أن أساس كلّ معصية و ارتكاب كلّ ظلم و سوء إنّما هي الخيانة بهذا المعنى العريض الشامل لكلّ مخالفة، و أنّها تحصل بترك المراقبة للنفس، و سيأتي في الموضع المناسب التفصيل في ذلك إن شاء اللّه تعالى.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ انحصار الطريق في رفع أثر الظلم على النفس و المعصية و السوء، بالتوبة و الرجوع إلى اللّه تعالى و طلب المغفرة منه عزّ و جلّ ، أمّا الشفاعة للظالمين الخائنين لأنفسهم و الدفاع عنهم و اتّخاذ الدليل لهم، فلا فائدة في ذلك كلّه، فرحمته عزّ و جلّ إنّما تشمل العباد لو طلبوها من الطريق الصحيح.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ على معنى دقيق، و هو أنّ الإنسان إنّما خلقه عزّ و جلّ و أودع فيه غريزة خاصّة بها يطلب الكمال و يسعى له، و قد بيّن عزّ و جلّ الطريق الّذي يوصله إليه، و لا يمكن أن يطلبه من غير ذلك و ما يطلبه، فإنّه خيال و وهم و ليس هو الكمال الحقيقي المنشود، فمن ارتكب المعصية و يقترف الإثم و السوء، فإنّه خان نفسه الّتي تسعى إلى الكمال و أضلّها عن الطريق المستقيم و عن ما أودعه عزّ و جلّ في فطرة الإنسان عنها و تضييعها و تعطيلها، و لو أحرز شيئا لم يكن ذلك من الكمال المنشود.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ أنّ الأنبياء عليهم السّلام كسائر البشر يتأثّرون بكلّ ما يحيط بهم من قول الشرّ، إلاّ أنّ العصمة الّتي أودعها اللّه تعالى فيهم تحفظهم و تمنع من ظهور آثار الضلال عليهم، فلا يضرّونهم أهل الضلال.

ص: 258

و هذه الآية المباركة من الآيات الشريفة الّتي تدلّ على عصمة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، الّتي هي قوّة شعوريّة علميّة إراديّة غير مغلوبة لسبب من أسباب الضلال و الفساد.

و هي تدلّ على أنّ العصمة لا تخرج المعصوم عن كونه فردا من أفراد الإنسان، بل هي موهبة الهية عظيمة و فضل كبير عليهم، تعزف أنفسهم بها عن ارتكاب المعاصي و الآثام، كما تعزف نفوس سائر الناس و تأنف عن أ كلّ ما تشمئز منه النفوس.

و هذه العصمة تثبت على جميع جوارح المعصوم و جوانحه و تظهر أثرها في الأقوال و الأفعال، فيكون في أمن من اتّباع الهوى و الميل إلى الباطل، و أساس هذه العصمة - كما يستفاد من هذه الآية الكريمة - هو العلم الّذي يمنع صاحبه عن التلبّس بالخطإ و كلّ ضلال، كما قال عزّ و جلّ : وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ ، و هذا النوع من العلم يختلف عن إنزال الكتاب و الوحي بواسطة الملك، بل هو إلهام خاص و إلقاء في القلب، و هذا هو علم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله المعروف الّذي يختلف عن سائر علوم الناس، فإنّها لا تحصل إلاّ بالأسباب العاديّة المعروفة في طرق اكتساب العلوم.

كما يختلف عنها في أنّه لا يتأثّر بسائر القوى الشعوريّة الاخرى، من الوهم و الخيال و الضلال، بل هو غالب عليها، و أنّه يصون صاحبه من الضلال و الخطيئة.

و قد يعبّر عن هذا العلم بالعلم اللدنّي أو الملك الّذي يحفظ الإمام عليه السّلام. و قد ورد في بعض الروايات أنّ للنبي صلّى اللّه عليه و آله و الإمام عليه السّلام روحا تسمّى بروح القدس تسدده و تعصمه من المعصية، و يشير إليها قوله تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [سورة الشورى، الآية: 52]، و تقدّم في الجزء الأوّل بحث العصمة فراجع.

ص: 259

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ على مرجوحيّة كلّ نجوى و مسارّة، إلاّ إذا كانت تأمر بالإصلاح و الصدقة و المعروف، و لعلّ السرّ فيه أنّ النجوى من سبل غواية الشيطان و لا بدّ أن يكون الإنسان بعيدا عنها، قال تعالى: إِنَّمَا اَلنَّجْوى مِنَ اَلشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة المجادلة، الآية: 10] إلاّ إذا كان في مرضاة اللّه تعالى و سبل رضاه عزّ و جلّ ، و هي ما ورد في هذه الآية المباركة من الصدقة و المعروف و الإصلاح بين الناس، و إنّها هي الخير الّذي لا بدّ أن يبتغيه المتناجون.

و في ذكر الصدقة في المقام مع كونها من المعروف لعلّه لأجل مرغوبيّة المسارّة فيها، كما أنّ إثبات الأجر العظيم في النجوى الّذي يكون في مرضاة اللّه تعالى؛ لأنّه يتمحّض في الخير و يبتعد عن غواية الشيطان، فيكون مثل هذا النجوى خيرا محضا، و يكون الجزاء المترتّب عليه عظيما.

العاشر:

يستفاد من تعقيب قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى للآية المباركة السابقة الناهية عن النجوى، إذا لم يكن في مرضاة اللّه تعالى بما يبيّنه عزّ و جلّ إنّما تكون لمشاقّة الرسول و مخالفته و معصيته، و يفسّر هذه الآية المباركة قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ اَلرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى [سورة المجادلة، الآية: 9].

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى أنّ المشاقّة لا تتحقّق إلاّ بعد تبيّن الهدى و وضوح الحجّة و إقامة البرهان. و هنا بحث نفيس في أقسام الهداية و أصناف الناس في اتّباعها، لا يسع الحال لذكرها و نحن في هذه الظروف الشاقّة المحزنة - و الحمد للّه على كلّ حال - و سنذكرها في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

الثاني عشر:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّ سبيلهم بما

ص: 260

هم مجتمعون على الإيمان، من سبل اللّه تعالى و من مظاهر طاعته عزّ و جلّ و طاعة الرسول الّتي أمرنا اللّه تعالى بها في عدّة آيات شريفة.

و المناط في هذا السبيل هو الاجتماع على الإيمان، الّذي هو الحافظ لوحدة سبلهم، و الإيمان إنّما يتحقّق بطاعة اللّه تعالى و طاعة الرسول، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اَللّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101]، و قال تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً [سورة آل عمران، الآية:

103]، و قد وصف عزّ و جلّ سبيل المؤمنين بعدة أوصاف في القرآن الكريم، منها أنّه سبيل التعاون على البرّ و التقوى، قال تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2].

الثالث عشر:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ على النهي على شقّ عصا المؤمنين، و أنّ مخالفتهم من معصية اللّه و الرسول و مشاقّته.

الرابع عشر:

يدلّ قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلّى على حرية ما يختاره الإنسان، حيث إنّه عزّ و جلّ بعد ما يأمره بالطاعة له و للرسول، و بعد ما يبيّن له سبل الهداية و يتمّ له الحجّة، فإن أعرض عن ذلك فإنّه تولّى غير ما يريده اللّه تعالى، فيدعه إلى ما يريده و يتولاّه.

الخامس عشر:

يستفاد من سياق هذه الآيات المباركة أنّ وبال الشرّ يعود على صاحبه، كما أنّ منفعة الخير تعود على فاعله، و أنّ الأسباب الظاهريّة لا تكون منشأ للضرر لو عصم اللّه تعالى منه عبدا، فالآيات الكريمة جامعة لفضائل كثيرة و ناهية عن مساوئ عديدة.

ص: 261

بحث روائي:

في الكافي بسنده عن عبد اللّه بن سنان قال: «قال الصادق عليه السّلام: لا و اللّه ما فوّض اللّه إلى واحد من خلقه إلاّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إلى الأئمة عليهم السّلام، قال اللّه عزّ و جلّ : إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ ، و هي جارية في الأوصياء».

أقول: يستفاد من هذه الرواية أنّ الآية الشريفة في مقام الامتنان على هذه الأمّة، و معنى تفويض اللّه تعالى ذلك إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله ردّ أمر دينه إليه في التطبيق؛ لأنّه جلّ شأنه يعلم أنّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله يحفظ حدود دينه و يثبت قوائمه، و في الحديث: «فوّض اللّه إلى النبيّ أمر دينه و لم يفوّض إليه تعدّى حدوده»، و أنّ الأوصياء لم ينفذوا إلاّ ما أمرهم به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ممّا أودعه عندهم من الأحكام و المعارف.

و في الكافي بسنده عن موسى بن أشيم قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّي أريد أن تجعل لي مجلسا، فواعدني يوما فأتيته للميعاد فدخلت عليه، فسألته عمّا أريد أن أسأله عنه، فبينما نحن كذلك إذ قرع رجل الباب فقال: ما ترى هذا رجل بالباب ؟ فقلت: جعلت فداك، أمّا أنا قد فرغت من حاجتي فرأيك، فأذن له فدخل الرجل فجلس ثمّ سأله عن مسائلي بعينها لم يخرم منها شيئا، فأجابه بغير ما أجابني فدخلني من ذلك ما لا يعلمه إلاّ اللّه. ثمّ خرج فلم يلبث إلاّ يسيرا حتّى استأذن عليه آخر فأذن له فجلس ساعة فسأله عن تلك المسائل بعينها، فأجابه بغير ما أجابني و أجاب الأوّل قبله، فازددت غمّا حتّى كدت أن أكفر ثمّ خرج، فلم يلبث إلاّ يسيرا حتّى جاء ثالث فسأله عن تلك المسائل بعينها، فأجابه بخلاف ما أجابنا أجمعين، فأظلم عليّ البيت و دخلني غمّ شديد، فلما نظر إليّ و رأى ما قد دخلني ضرب بيده على منكبي، ثمّ قال: يا ابن أشيم، إنّ اللّه فوّض إلى ابن داود ملكه فقال: هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ ، و إنّ اللّه عزّ و جلّ فوّض إلى

ص: 262

محمد صلّى اللّه عليه و آله أمر دينه فقال: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ ، و إنّ اللّه فوّض إلينا من ذلك ما فوّض إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: لعلّ اتّحاد المسائل من الأشخاص لأنّها كانت من الأمور الشائعة في ذلك الوقت، و اختلاف الأجوبة من الإمام عليه السّلام إنّما كان لأجل قرائن حافّة بها لم يفهمها ابن أشيم و عرفها الإمام عليه السّلام، أو لأجل طرو عناوين أخرى يرى عليه السّلام المصلحة فيها.

و كيف كان، فقد ظهر ممّا تقدّم الوجه في الرواية.

و في تفسير علي بن إبراهيم أنّ سبب نزول قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً أنّ قوما من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين بشر و بشير و مبشر، فنقبوا على عمّ قتادة بن النعمان، و كان قتادة بدريا و أخرجوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، فشكى قتادة ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قوما نقّبوا على عمّي و أخذوا طعاما كان أعدّه لعياله و سيفا و درعا، و هم أهل بيت سوء و كان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له: لبيد بن سهل، فقالوا: بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهيل، فبلغ ذلك لبيدا فأخذ سيفه و خرج عليهم، فقال: يا بني أبيرق، أ ترموني بالسرقة ؟! و أنتم المنافقون تهجون رسول اللّه و تنسبون إلى قريش، لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه و قالوا له: ارجع يرحمك اللّه، فإنّك بريء من ذلك، فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة و كان منطيقا بليغا، فمشى إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول اللّه، إنّ قتادة بن النعمان عمد إلى أهل بيت منا أهل شرف و حسب و نسب فرماهم بالسرقة و اتّهمهم بما ليس فيهم، فاغتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لذلك و جاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال له: عمدت الى أهل بيت شرف و حسب و نسب فرميتهم بالسرقة، و عاتبه عتابا شديدا، فاغتمّ قتادة من ذلك و رجع إلى عمّه، و قال: يا ليتني متّ و لم أكلم

ص: 263

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقد كلّمني بما كرهته، فقال عمّه: اللّه المستعان، فأنزل اللّه تعالى في ذلك: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ - الآية».

أقول: و في رواية أبي الجارود في ذيل الآية المباركة عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه لم يصدر منه صلّى اللّه عليه و آله شيء، و هي قال: «إنّ إنسانا من رهط بشير الأدنين قالوا: انطلقوا بنا الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و نكلّمه في صاحبنا أو نعذره، إنّ صاحبنا بريء فلما أنزل اللّه تعالى: يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ - الآية، فأقبلت رهط بشير فقالوا: يا بشير استغفر اللّه و تب إليه من الذنوب، فقال: و الّذي أحلف به ما سرقها إلاّ لبيد، فنزلت: وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ، ثمّ إنّ بشيرا كفر و لحق بمكّة، و أنزل اللّه في النفر الّذين أعذروا بشيرا ليعذروه قوله تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ ».

و الرواية من باب التطبيق، و إنّ سبب النزول لا يخصّص الآية، و إنّما هو من باب ذكر أحد المصاديق، و قريب منها ما ذكره السيوطي في الدرّ المنثور، و أبيرق طائفة من اليهود.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «إنّ نفرا من الأنصار غزوا مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم، فأظنّ بها رجلا من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي، فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل بريء و قال لنفر من عشيرته:

إنّي غيبت الدرع و ألقيتها في بيت فلان و ستوجد عنده، فانطلقوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبي اللّه، إنّ صاحبنا بريء، و إنّ سارق الدرع فلان و قد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس و جادل عنه، فإنّه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبرّأه و عذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً * وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً ، ثمّ قال للذين أتوا رسول اللّه ليلا:

ص: 264

إنّي غيبت الدرع و ألقيتها في بيت فلان و ستوجد عنده، فانطلقوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا نبي اللّه، إنّ صاحبنا بريء، و إنّ سارق الدرع فلان و قد أحطنا بذلك علما فأعذر صاحبنا على رؤوس الناس و جادل عنه، فإنّه إن لم يعصمه اللّه بك يهلك، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبرّأه و عذره على رؤوس الناس، فأنزل اللّه: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ اَلنّاسِ بِما أَراكَ اَللّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً * وَ اِسْتَغْفِرِ اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً * وَ لا تُجادِلْ عَنِ اَلَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوّاناً أَثِيماً ، ثمّ قال للذين أتوا رسول اللّه ليلا:

يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَلنّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اَللّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ - إلى قوله تعالى - وَكِيلاً ، يعني الّذين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مستخفين يجادلون عن الخائنين، ثمّ قال:

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ، يعني السارق و الّذين جادلوا عن السارق».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قد ورد هذا المعنى بطرق كثيرة و باختلاف يسير، و أمّا المضمون فهو متّفق عليه، و كلّها من باب الجري لا التخصيص، و لا بدّ من تطبيقها على ما لا ينافي العصمة، كما يأتي و اللّه العالم.

و في أسباب النزول للواحدي: «أنزلت الآية المباركة كلّها في قصة واحدة و ذلك أنّ رجلا من الأنصار يقال له: طعمة بن أبيرق أحد بني ظفر بن الحارث، سرق درعا من جار له يقال له: قتادة بن النعمان و كانت الدرع في جراب فيه دقيق، فجعل الدقيق ينثر من خرق في الجراب حتّى انتهى إلى الدار و فيها أثر الدقيق، ثمّ خبّأها عند رجل من اليهود يقال له: زيد بن السمين، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد عنده و حلف لهم: و اللّه ما أخذها و ما له به من علم، فقال أصحاب الدرع: بلى و اللّه، قد أولج علينا فأخذها و طلبنا أثره حتّى دخل داره فرأينا أثر الدقيق، فلما أن حلف تركوه و اتّبعوا أثر الدقيق حتّى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوه، فقال: دفعها إليّ طعمة بن أبيرق، و شهد له أناس من اليهود على ذلك، فقالت بنو ظفر - و هم قوم طعمة -: انطلقوا بنا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فكلّموه في ذلك و سألوه أن يجادل عن صاحبهم و قالوا: إن لم تفعل هلك صاحبنا و افتضح و برئ اليهودي، فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يفعل - و كان هواه معهم - و أن يعاقب اليهودي حتّى أنزل اللّه تعالى: إِنّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ ».

ص: 265

أقول: تقدّم منّا مكرّرا أنّ منشأ النزول لا يكون سببا للتخصيص، بل المناط عموم الآية المباركة، فتنطبق على موردها في كلّ عصر و زمان، كما لا بدّ من حمل تلك الروايات و الآثار على وجه لا تنافي عصمته صلّى اللّه عليه و آله، و إلاّ فلا بدّ من ردّها إلى أهلها، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله همّ أن يفعل و كان الاهتمام لأجل مصلحة وقتيّة، و إلاّ كان صلّى اللّه عليه و آله يعلم الحقّ و الواقع. و قد وردت في قوله تعالى: إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ اَلْقَوْلِ روايات في الكافي و تفسير العياشي ذكرت فيها أسماء أشخاص، كلّها من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق.

و عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: «و كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنبا أصبح و قد كتب كفّارة ذلك الذنب على بابه، و إذا أصاب البول شيئا منه قرّضه بالمقراض، فقال رجل: لقد أتى اللّه بني إسرائيل خيرا، فقال ابن مسعود: ما آتاكم اللّه خيرا ممّا آتاهم، جعل لكم الماء طهورا و قال: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

أقول: ورد مضمون هذا الأثر في رواياتنا الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، و صدر الرواية كذيلها يدلّ على التشديد، و قد منّ اللّه تعالى على هذه الأمّة المرحومة برفعه، و ذكرنا في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بقرض أبدانهم إذا أصابها البول.

و كيف كان، فإنّه من باب التطبيق.

و في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد أذنب فقام فتوضّأ فأحسن وضوءه ثمّ قام فصلّى و استغفر من ذنبه، إلاّ كان حقّا على اللّه أن يغفر له؛ لأنّ اللّه يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

أقول: المراد من الحقّ في هذه الرواية و أمثالها أنّه ممّا حقّق عليه القضاء

ص: 266

و التقدير، أو أنّه ثبت أو كتب على نفسه، كما في قوله تعالى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ اَلرَّحْمَةَ ، أو بمعنى اليقين.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.

و في تفسير العياشي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد أذنب ذنبا و استغفر اللّه من ذنبه إلاّ كان حقيقا على اللّه أن يغفر له؛ لأنّه يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

و قال: «إن ليبتلي العبد و هو يحبّه ليسمع تضرّعه، و قال: ما كان اللّه ليفتح باب الدعاء و يغلق الإجابة؛ لأنّه يقول: اُدْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ »، و ما كان ليفتح باب التوبة و يغلق باب المغفرة و هو يقول: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اَللّهَ يَجِدِ اَللّهَ غَفُوراً رَحِيماً ».

أقول: تضرّع العبد لدى المولى نحو كمال و استكمال للعبد؛ لأنّه يكشف عن الانقطاع إليه جلّت عظمته و التوجّه إليه، و في تأخير إجابة دعاء المؤمن - مع قطع النظر عن المصالح - نحو استكمال للعبد و شرف له؛ لأنّ اللّه تعالى يحبّ أن يسمع تضرّعه، هذا هو منتهى الكمال و غاية الشرف له. و المراد من الحقيق الجدير، كما هو واضح.

و في تفسير العياشي عن عبد اللّه بن سنان: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: الغيبة أن تقول في أخيك ما هو فيه ممّا قد ستره اللّه عليه، فأمّا إذا قلت ما ليس فيه فذلك قول اللّه: فَقَدِ اِحْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً ».

أقول: لا بدّ من تقييدها من المغتاب (بالفتح) لا يكون من أهل البدع أو من الّذين أسقط الشارع احترامهم، كما ذكرنا في المكاسب المحرّمة من (مهذب الأحكام). و في الحديث: «انّ عائشة قالت لامرأة مرّت بها: ما أطول ذيلها، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: اغتبتيها، قومي إليها فتحلليها».

و في تفسير علي بن إبراهيم بسنده عن الحلبيّ عن الصادق عليه السّلام: «انّ اللّه

ص: 267

فرض التحمّل في القرآن، قلت: و ما التحمّل جعلت فداك ؟ قال: أن يكون وجهك اعرض عن وجه أخيك فتحمل له، و هو قول اللّه: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ ».

أقول: المراد من الوجه الرضا؛ لأنّ الشخص إذا أراد شيئا أقبل بوجهه عليه و إذا كرهه أعرض بوجهه عنه، و إنّ النجوى تنافي المجاملات الأخلاقيّة المفروضة في القرآن، إلاّ في ما استثناها الآية الشريفة.

و لعلّ المراد من التحمّل ارتكاب الحيل الشرعيّة في قضاء حوائج الإخوان، و قد ضبط بالجيم (التجمّل)، و ضبط بالحاء (التحمّل)، كما مرّ.

و في تفسير علي بن إبراهيم عن علي عليه السّلام قال: «إنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم كما فرض عليكم زكوه ما ملكت أيديكم».

أقول: إنّ بذل الجاه في سبيل قضاء حوائج الإخوان تقرّبا إلى اللّه تعالى من أجلّ المكارم و أسمى الفضائل، و من الأدب الرفيع الّذي حثّ عليه الإسلام، و به ينبسط العدل على وجه البسيطة و تحصل السعادة القصوى للمجتمع و شرف المنزلة لأفراده؛ و لذا قرنه عليه السّلام بأهمّ الفرائض الّتي بني عليها الإسلام و يدور عليها نظام اقتصاده.

و في الكافي بسنده عن أبي الجارود قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: إذا حدّثتكم بشيء فاسألوني عنه من كتاب اللّه، ثمّ قال في بعض حديثه: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله نهى عن القيل و القال و فساد المال و كثرة السؤال، فقيل له: يا ابن رسول اللّه، أين هذا من كتاب اللّه ؟ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ ، و قال: وَ لا تُؤْتُوا اَلسُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ اَلَّتِي جَعَلَ اَللّهُ لَكُمْ قِياماً ، و قال: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ».

أقول: هذا النهي تنزيهي و إرشادي تربوي، و قد أثبت العلم الحديث

ص: 268

مضمون هذه الرواية و أكّد على النظام و الهدوء و الصمت و عدم الإسراف على الإطلاق.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.

و في الدرّ المنثور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «و من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».

و عن البيهقي في وصية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله لأبي ذر: «أوصيك بتقوى اللّه، فإنّه أزين لأمرك كلّه، قلت: زدني، قال صلّى اللّه عليه و آله: عليك بتلاوة القرآن و ذكر اللّه، فإنّه ذكر لك في السماء و نور لك في الأرض. قلت: زدني، قال: عليك بطول الصمت، فإنّه مطردة للشيطان و عون لك على أمر دينك، قلت: زدني قال: و إيّاك و كثرة الضحك، فإنّه يميت القلب و يذهب بنور الوجه، قلت: زدني، قال: قل الحقّ و لو كان مرّا، قلت:

زدني، قال: لا تخف في اللّه لومة لائم، قلت: زدني، قال: ليحجزك عن الناس ما تعلم من نفسك».

أقول: هذه الوصية جامعة لخير الدنيا و نعيم الآخرة، و بها ينال الإنسان شرف العبوديّة و كمال الانقطاع إليه جلّ شأنه و يزيد عرفان العبد و فضله و تقواه و يصلح المجتمع عن كلّ عيب، و قد مدح الصمت في كثير من الروايات، فإنّ المؤمن العارف و المتوجّه يكون كلامه صمتا و صمته كلاما، و ببالي كان بعض مشايخنا من أهل العرفان و التوجّه كثير الصمت و كثير الذكر، و قد ظهرت على يديه كرامات كما شاهدناها.

و في تفسير العياشي بسنده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ اَلنّاسِ يعني بالمعروف القرض.

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة بين الفريقين، و هو من باب ذكر أحد المصاديق.

ص: 269

و في الدرّ المنثور عن سفيان بن عبد اللّه الثقفي، قال: «قلت: يا رسول اللّه مرني بأمر اعتصم به في الإسلام، قال: قل: آمنت باللّه، ثمّ استقم، قلت: يا رسول اللّه ما أخوف ما تخاف عليّ؟ قال: هذا، و أخذ رسول اللّه بطرف لسان نفسه».

أقول: الروايات في مدح الصمت كثيرة بين الفريقين، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من سرّه أن يسلم فليلزم الصمت».

و عن البيهقي بسنده عن أنس: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لقي أبا ذر فقال: ألا أدلك على خصلتين هما أخف على الظهر و أثقل في الميزان من غيرهما؟ فقال: بلى يا رسول اللّه، قال: عليك بحسن الخلق و طول الصمت، و الّذي نفسي بيده ما عمل الخلائق بمثلهما».

أقول: ورد مضمون هذه الرواية عن أئمتنا عليهم السّلام أيضا، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ أكثر خطايا ابن آدم في لسانه».

العياشي بسنده عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لما كان أمير المؤمنين عليه السّلام في الكوفة أتاه الناس فقالوا: اجعل لنا إماما يؤمنا في شهر رمضان، فقال: لا، و نهاهم أن يجتمعوا فيه، فلما أمسوا جعلوا يقولون: ابكوا في رمضان، و ارمضاناه، فأتاه الحارث الأعور في أناس فقال: يا أمير المؤمنين، ضجّ الناس و كرهوا قولك، فقال عند ذلك: دعوهم و ما يريدون، ليصلّي بهم من شاء و ائتم قال تعالى: وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ اَلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً ».

أقول: لعلّ نهيه عليه السّلام إمّا لأجل عدم مشروعيّة الجماعة في النوافل، كما ثبت عندنا، أو أنّ النهي كان موقتا لمصالح كان يراها و بعد ما رأى عدم الانقياد منهم خلّى سبيلهم.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق.

و هناك بعض الروايات يدلّ على أنّ من اتّخذ إماما و ولاّه في هذه الدنيا،

ص: 270

يكون إمامه في يوم الجزاء و استشهد فيها بالآية المباركة، و لكن ذلك كلّه من باب التطبيق كما هو معلوم.

و عن البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: وَ مَنْ يُشاقِقِ اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ اَلْهُدى : لا يجمع اللّه هذه الأمّة على الضلالة أبدا و يد اللّه على الجماعة، فمن شذّ شذّ في النار».

أقول: على فرض صحّة الحديث لا بدّ و أن يكون الاجتماع على أمر لم يكن مخالفا لكتاب اللّه العظيم و سنّة نبيّه الكريم، و إلاّ فلا عبرة به و أن يكون المجتمعين من أهل الخبرة و المتدينين، و في حجيّة الإجماع الّذي هو أحد الأدلّة الّتي يعتمد عليها المجتهد شرائط ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول)، من شاء فليرجع إليه.

بحث أخلاقي:
اشارة

المعروف: كلّ ما يستحسنه العقل و يقرّره الشرع من أصناف الجميل و أنواع البر و مكارم الأخلاق، فهو في مقابل ما تكرهه النفوس - سواء كان مشتملا على رجحان أم لا - فيعمّ الواجب و المندوب و غيرهما ممّا يدخل في الحسن.

و للمعروف مراتب أحسنها ما كان فيه الصلاح و الإصلاح - بلا فرق بين أن يتعلّق بالفرد أو الأسرة بأقسامها - و أسماها ما كان فيه صلاح المجتمع و إصلاحه، و قد عدّ من المعروف، كما في بعض الروايات ما لو كان فيه صلاح الحيوان، أو ما فيه نفع يعود له أو يحميه من الأذى.

و الجميل قد لا يختلف فيه أحد و اتّفق العقلاء على حسنه و بمدح فاعله، كإغاثة الملهوف، و إصلاح ذات البين، أو الخدمات الّتي فيها نفع المجتمع، و قد لا يكون كذلك فيتّصف بالإضافة لا محالة، و حينئذ لا بدّ و أن يرجع إلى القوانين الشرعيّة، فما وافقها و لم تنكره فهو من المعروف، و إلاّ فلا يكون منه لاحتوائه على

ص: 271

مفسدة أو ضرر و إن لم يدركا فعلا؛ لما ثبت في محلّه أنّ الأحكام الشرعيّة تابعة للمصالح و المفاسد و إن لم يكشف العقل المادي عنهما.

و الترغيب إلى فعل المعروف يعمّ جميع المجتمعات الإنسانيّة و الأديان السماويّة بل الملل المستحدثة المختلفة، فيمكن أن يقال: إن ذا إقامة المعروف نحو حقّ على أفراد المجتمع - تحكم به الفطرة الخالصة - لأجل سوق مجتمعهم إلى الكمال المنشود، و لإصلاحه عن الطوارئ الفاسدة، و هذا الحقّ ثابت على أفراده ما لم يتحقّق الهدف المقصود و لم تحصل الصلة المفقودة و لم تثبت السعادة المنشودة لذلك المجتمع.

أقسام المعروف:

يختلف المعروف حسب اختلاف الفقر و الحاجة إليه، فتارة: يكون الاحتياج شخصيّا و فرديّا، سواء كان ذلك من الكمالات المعنويّة أو المظاهر الخارجيّة.

و اخرى: يكون نوعيّا عامّا، و في كلّ منهما قد يكون المعروف خلقيّا و قوليّا أو غيرهما، و لجميع ذلك مراتب و آثار خاصّة.

و المعروف قد يصدر من الإنسان عن شعور و اختيار - سواء كان بباعث ديني أو إلهام سماوي - و قد لا يكون ذلك، فجميع أقسامه حسن إلاّ أنّ ما فيه الإخلاص للّه جلّ شأنه يكون أكثر نفعا و أطول زمانا و أشدّ تقرّبا له عزّ و جلّ .

آثار المعروف:

يستفاد من الأحاديث الواردة عن المعصومين عليه السّلام في شأن المعروف و مدحه و الترغيب إليه أنّ له آثارا وضعيّة تخصّ صاحبها و فاعلها لا تنالها يد الاختيار، و أنّها تترتّب على المعروف كترتّب الأثر على المقتضي التامّ .

بل يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك؛ لأنّ الأفعال الحسنة الّتي تصدر عن

ص: 272

الإنسان تخلّف في نفس عاملها آثارا خاصّة و حالات مخصوصة، توجب ارتياح النفس و بعدها عن القلق النفسي الموجب للأمراض المتنوّعة، على خلاف الأفعال السيئة الّتي تخلّف التأنيب الضميري و الصراع النفسي، كما أثبتها علماء النفس قديما و حديثا، فمن كان صادقا - مثلا - في كلامه دائما أو يغمض عن إساءة الغير له و يعفو عنه و لا يكون في مقام الانتقام، يشعر بالراحة النفسيّة و يكون بعيدا عن الضيق و الهمّ النفسي، و في الحديث عن الصادق عليه السّلام: «صنايع المعروف تدفع ميتة السوء»، و عنه عليه السّلام أيضا: «صنايع المعروف تقي مصارع الهوان»، أي: الذلّ ، و غيرهما من الأحاديث. و في المأثور عن بعض الصلحاء: «انّ امرأة وضعت لقمة في فم سائل ثمّ ذهبت إلى مزرعتها فوضعت ولدها في موضع فأخذه الذئب، فقالت: يا ربّ ولدي، فأخذ عنق الذئب رجل و استخرج ولدها من غير أذى، ثمّ قال: هذه اللقمة بتلك اللقمة الّتي وضعتها في فم السائل»، فآثار المعروف تظهر على صاحبه في هذه الدنيا قبل الآخرة.

نعم، للزمان فيها دخل قد يؤجّل لمصالح لا يعلمها إلاّ اللّه تعالى.

و أمّا آثار المنكر و القبيح قد تظهر على صاحبه و قد تؤجّل إلى عالم الآخرة، فإنّ مقتضى رحمته تعالى أنّه عزّ و جلّ يظهر الجميل و يستر القبيح، و أنّ أثره القبيح قبيح يستره اللّه و يؤجّله إلى دار الآخرة و الخلود.

عوائق المعروف:

لا شكّ أنّ الفطرة المستقيمة الإنسانيّة تميل إلى المعروف و إقامته و الى الجميل و صنعه، و إلى البر و فعله ما لم تعوقها السبل عن مسيرها الاستكمالي، فعن اللّه تبارك و تعالى في القدسيات: «خلقت عبادي حنفاء»، أي: مستعدين لقبول الحقّ و إقامة المعروف، فالفطرة بخلقتها الأوليّة قابلة للترقي بالتربية و الوصول إلى أعلى

ص: 273

مراتب الكمالات و أسماها بالإرادة و الاختيار، و يتحقّق ذلك بفعل المعروف و بثّه و ترك المنكر و إزالته.

كما أنّ الفطرة لها قابلية النزول عن خلقتها المستقيمة مع الإرادة و الاختيار بالانحراف الّذي يحصل من أمور أهمّها حبّ البقاء، و الجهل، و الخوف و حبّ المال، و يجمعها «حبّ الدنيا»، و هو السبب لتنزّل الفطرة تدريجيا و بلا شعور - كما في الروايات - عن استقامتها المنفطرة بقوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ .

و الأسباب كلّها - سواء كانت للرقي أو للنزول - إراديّة اختياريّة، و لو كان هناك أسباب غير اختياريّة، فإنّها ترجع بالاخرة إلى الاختيار و إن كان مع الواسطة أو الوسائط، كما ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة.

و من عوائق المعروف و المانع عن تحقّقه الذنوب الّتي توجب البعد عن ساحته تعالى و تطمس نور الفطرة و تكون صدّا في الطريق إلى الكمال و مانعا عن الاستكمال، و للبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى بعد رفع هذه الشدائد و كشف هذه الغمّة و زوال الظلم و أهله بحوله و عنايته، إنّه هو الرؤوف الرحيم.

بحث عرفاني:
اشارة

الأفعال الصادرة عن الإنسان في حقيقتها - تكون كالأشياء النامية - لها صورة خارجيّة و روح يمتاز بها عن أفعال سائر الحيوانات، فالإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات في عالم الإمكان مركّب في واقعه من جسم و روح، و كذا أفعاله لها صورة - و هي عبارة عن ما يتشخّص في الذهن من الكيفيّات، و هذا يعمّ جميع أفعال الحيوانات - و روح يتفرّد بها عن بقيّة الحيوانات، و هي أمر معنوي يحصل من التوجّه إلى الباري جلّ شأنه و السوق إلى الخالق جلّت عظمته - و لا ربط له

ص: 274

بالإرادة - و أثره إفراد القلب له تعالى بارتباطه إلى ساحة كبريائه و التبرّي عن كلّ ما دونه تعالى، و هو الباعث لتحقّق الإضافة إليه تعالى، الّتي هي السبب لتحقّق الفعل خارجا، و إذا وجد الفعل بدونها كان مجرّد صورة، كالأفعال التعليميّة.

و يعبّر عنه في الكتاب و السنّة بالإخلاص في الأفعال العباديّة أو المضافة إليه تعالى، المتفرّد بها الإنسان عن غيره، قال تعالى: فَاعْبُدِ اَللّهَ مُخْلِصاً لَهُ اَلدِّينَ [سورة الزمر، الآية: 2]، و قال تعالى: وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا اَللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ اَلدِّينَ [سورة البينة، الآية: 5]، فكما لا قيام للأشباح إلاّ بالأرواح و إلاّ كانت ميتة ساقطة، كذلك الأعمال العباديّة، فلو لا الإخلاص و الروح المعنوي فيها كانت مجرّد شبح و هيكل. و مراتب الإخلاص كدرجاتها تختلف حسب درجات الإيمان، كما يأتي.

حقيقة الإخلاص:

و هي من الحقائق المحجوبة و لا تعرف إلاّ بالأثر، و لا يمكن وصفها و إن أدركها العرفاء الشامخون، فإنّها تشرق على القلب و تنوّر النفس و يتشرّف المؤمن بالإخلاص إلى أعلى مراتب الكمال بلذّة ذلّ العبوديّة له تعالى، و به يخرق الحجب و يصل إلى معدن العظمة، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّه سئل عن الإخلاص فقال صلّى اللّه عليه و آله: حتّى اسأل جبرائيل، فلما سأله قال: اسأل ربّ العزّة، فلما سأله قال له:

هو سرّ من أسراري أودعه قلب من أحببت من عبادي، لا يطلع عليه ملك فيكتبه و لا شيطان فيفسده»، و عن سيد العرفاء أمير المؤمنين عليه السّلام: «هو أن تعبد اللّه كأنّك تراه»، فحقيقة الإخلاص يدركها الخلّص من عباده، و لكنّها لا توصف، و الإخلاص من أعلى مراتب التفويض.

ص: 275

درجات الإخلاص:

كما أنّ للعبوديّة درجات، و لكلّ منها مراتب، و لكلّ مرتبة منزلة حسب درجات الإيمان و مراتب المعرفة و منازلهما، و أنّ التقرّب لديه جلّ شأنه يحصل بجميعها، و أنّ أسمى المراتب و أعلى الدرجات قبوله عزّ اسمه بالعبوديّة - و إن كان للقبول مراتب أيضا - فإنّه هو الفوز العظيم، فعن بعض العرفاء: «قيل له بعد وفاته - في الرؤيا -: كيف حالك مع الملكين (النكير و المنكر)؟ فقال: لما قالا لي: من ربّك ؟ قلت لهما: اسألا ربّي، فإن قال: هو عبدي و أنا ربّه، يكفي، و إلاّ فلو قلت: هو ربّي و أنا عبده مرارا لا يفيد بلا قبوله»، كذلك للإخلاص له درجات، و في كلّ منها مراتب، و في كلّ مرتبه أنواع أهمّها و جامعها أقسام ثلاثة: إخلاص العوام، و إخلاص الخواص، و إخلاص أخصّ الخواص. و إن شئت قلت: مطلق الإخلاص، و إخلاص المحبّين، و إخلاص الموحّدين.

و الأوّل: هو الإخلاص في العبادة لأجل الحظوظ - سواء كانت دنيويّة أم أخرويّة - كحفظ البدن وسعة المال و القصور و الحور.

و الثاني: لأجل السعادة الأخرويّة و الدخول في الجنّة دون الحظوظ الدنيويّة.

و الثالث: هو إخراج الحظوظ بالكليّة، بل الإخلاص لأجل جنّة الشوق بالقرب له جلّت عظمته: «و فؤادي ليس فيه غيره».

و لكلّ من هذه الأقسام مراتب كما مرّ، و أنّ جميعها حسن إلاّ أن أسماها و أعلاها القسم الأخير، و في دعاء كميل: «هب لي صبرت على حرّ نارك، فكيف اصبر على فراقك»، و عن سيد العرفاء المتألّهين الشامخين أمير المؤمنين عليه السّلام: «الهي عبدتك لا خوفا من نارك و لا طمعا لجنّتك، بل رأيتك أهلا لذلك فعبدتك»، و عن بعض العرفاء المتألهين:

ليس سؤلي من الجنان نعيما *** غير أنّي أحبّها لأراكا

ص: 276

و لهذا القسم درجات و مراتب، نسأل اللّه العظيم الفوز بمرتبة منها، و لا تنال هذه النعمة الكبرى إلاّ لمن عصمة اللّه تعالى و أمدّه بحقّ اليقين بالتجلّي له، و كشف الأسرار له بإفاضة العلوم عليه، و قرّبه إلى ساحته بخلع الأنداد عنه، و كرّمه بتطهير النفس بمخالفة الهوى و نبذ الأغيار، و شرّفه بالرقي إلى مقام عرفانه بالتوجّه إليه و القرب لديه.

منافيات الإخلاص:

الصفات الحميدة تقابلها الحالات السيئة، و تفسدها الصفات المنافية لها، فالشجاعة مثلا يفسدها الخوف؛ لأنّه ينافيها و لا يمكن الجمع بين المتنافيين في النفس، و كذا القناعة ينافيها الحرص و الجشع، كما أنّ الزهد ينافيه طول الأمل، و كذا غيرها من الصفات.

و الإخلاص ينافيه أمور كثيرة؛ لأنّ سبب الإخلاص للّه تعالى المعرفة و الخوف، فإذا زال أحدهما لم يتحقّق الإخلاص. و أهمّ ما ينافي الإخلاص أمور:

منها: الريا - نستجير باللّه العظيم منه - فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن اللّه تعالى في القدسيات: «أنا أغنى الشركاء، من أشرك معي غيري تركته لغيري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أخوف ما أخاف على أمّتي الشرك الخفي، و هو الريا»، و غيرهما من الروايات، و أنّه دقيق جدا، «أدق من دبيب النمل في صخرة ملساء»، و سببه حبّ الدنيا بأقسامه، و للتخلّص منه طرق كثيرة لا يسع المجال للتعرّض لها.

و منها: العجب بالعمل، فإنّه مناف للإخلاص و قادح في كمال العمل، و قد ورد في ذمّه روايات كثيرة.

و منها: الاستهانة بالعمل - تحقيره - كما دلّت عليه روايات كثيرة.

و منها: الإيكال في الأمور على غيره تعالى، سواء كان على النفس أو غيرها.

ص: 277

و منها: التعمّق في حكمة الأشياء و البحث عن حكم الأحكام الشرعيّة، فإنّه مناف للإخلاص، كما دلّ عليه بعض الروايات، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إيّاكم و الغلو في الدين»، أي: البحث عن عللها و غوامض متعبّداتها، و عن بعض مشايخنا من أهل العرفان ادّعاء التجربة في ذلك.

و منها: عدم الثقة باللّه العظيم، فإنّ ذلك مناف للإيمان، فكيف بالإخلاص، و إنّه من المعاصي الكبيرة على ما فصّل في محلّه.

و هناك أمور أخرى منافية للإخلاص، ذكرها علماء الأخلاق و مشايخ العرفان في كتبهم و رسائلهم، و من شاء فليرجع إليها.

الفرق بين الرضا و الإخلاص:

تقدّم أنّ للإخلاص مراتب، أدناها مرتبة الرضا، بل هو كتمهيد له؛ و لذا أنّ الإخلاص يتضمّن الرضا و لا عكس، هذا كلّه في العبيد. و أمّا رضائه تعالى، فهو عين محبّته، و إنّ محبّته عين إخلاصه، فلا يمكن التفكيك بينهما.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ للرضا مراتب و درجات، و أنّ أسماها هو التفويض، و أنّ أعلى مراتب التفويض الإخلاص، الّذي هو مختصّ بالأولياء و الصالحين.

و انّ الصفات الحسنة المذكورة في الآية المباركة من الصدقة و المعروف، و الإصلاح بين الناس، إذا كانت صادرة لابتغاء مرضاته تعالى و خالصا لوجهه الكريم، كان ذلك مظهرا من مظاهر أسمائه، و يكون أدوم و أنفع للمجتمع - كما تقدّم - و إلاّ فالأمر إضافي.

ص: 278

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَ.......

اشارة

إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اَللّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ اَلْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً (122) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أمر مشاقّة الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و أنّها يوجب صدّ الإنسان عن الكمال و صرف رحمته عزّ و جلّ عنه، فيكله إلى نفسه و يخلّيه بينه و بين ما اختاره.

يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة العلّة في ذلك؛ لأنّ مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله يعدّ شركا باللّه العظيم، و اللّه لا يغفر لمن يشرك به، فهذه الآيات الشريفة ترشد إلى عظم أمر مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تعدّها من المعاصي الكبيرة العظيمة الّتي تؤدّي صاحبها إلى الهلاك و البوار، و أنّ صاحبها لا يغفر له أبدا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في موضع آخر: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ * يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ [سورة محمد، الآية: 32-34]، ثمّ تتعرّض إلى بعض أحوال المشركين، و يبين عزّ و جلّ فيها أنّ الشرك من وسائل كيد الشيطان و خدعه و أمانيه.

ص: 279

يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة العلّة في ذلك؛ لأنّ مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله يعدّ شركا باللّه العظيم، و اللّه لا يغفر لمن يشرك به، فهذه الآيات الشريفة ترشد إلى عظم أمر مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و تعدّها من المعاصي الكبيرة العظيمة الّتي تؤدّي صاحبها إلى الهلاك و البوار، و أنّ صاحبها لا يغفر له أبدا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في موضع آخر: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ وَ شَاقُّوا اَلرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اَللّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ * يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اَللّهُ لَهُمْ [سورة محمد، الآية: 32-34]، ثمّ تتعرّض إلى بعض أحوال المشركين، و يبين عزّ و جلّ فيها أنّ الشرك من وسائل كيد الشيطان و خدعه و أمانيه.

و تعدّ هذه الآيات الشريفة من أجلّ الآيات القرآنيّة الّتي تبيّن حقيقة الشيطان، ثمّ يبيّن عزّ و جلّ بعض أحوال المؤمنين الّذين عملوا الصالحات، و ما أعدّ اللّه لهم من عظيم الأجر تذكيرا لهم و ترغيبا للإيمان و العمل الصالح و تتميما للفائدة و تذكيرا للمشركين و تنويها لهم سوء أحوالهم، و لبيان الفرق بين الوعدين، وعد الشيطان الّذي هو الغرور، و وعد اللّه تعالى الّذي هو الحقّ الواقع الّذي لا يخلف.

و لا يخفى ارتباط هذه الآيات الشريفة بالآيات المباركة السابقة.

التفسير
قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ .

تعليل لما سبق، أي: أنّ اللّه تعالى يولّي من شاقّ الرسول ما تولّى و يصليه جهنّم؛ لأنّ المشاقّة شرك باللّه العظيم، و أنّ اللّه تعالى لا يغفر أن يشرك به إذا مات على الشرك؛ لأنّه السبب في صدّه عن الكمال و تخليته عزّ و جلّ بينه و بين ما تولاّه، و من المعلوم أنّ الإنسان قرين الفقر و الحاجة، و الشيطان يصدّه عن سبيل الحقّ و مسير الاستكمال، إلاّ من هداه عزّ و جلّ فاهتدى بهدايته و استكمل بما يريده تعالى، و أمّا إذا رفع جلّ شأنه توفيقه عن عبده بسبب الشرك فصدّه عن الهداية، فلا يوجد سبيل إلى الكمال، فيكون الشرك من أهمّ الموانع عنه، بل هو أصلها؛ و لذا كان سببا في عدم غفران اللّه تعالى له أبدا؛ لأنّه ضلال و خروج عن طاعة اللّه

ص: 280

و الانقياد لرسوله و ميل عن التوحيد الّذي هو أصل الدين و أساس كلّ كمال، و كفى بذلك صارفا عن الغفران و نيل كلّ توفيق و هداية.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً .

تعليل لعدم غفران اللّه تعالى للمشرك؛ لأنّ الشرك يوجب الضلال و البعد عن الصراط المستقيم، و فيه فساد للعقل و الفطرة و رجوع عن سبيل الرشد، فلا يجتمع معه خير أو خلق كريم، بل لا يمكنهما أن يضعا مفاسد الشرك و شروره، فلا يكون مؤهّلا لنيل رحمته و العروج إلى جواره عزّ و جلّ ؛ و لذا وصفه تعالى بالضلال البعيد لعظم أثره و شدّته.

و تقدّم مثل هذه الآية الشريفة في هذه السورة أيضا؛ و لعلّ الوجه في تكرارها - و اللّه العالم - إمّا لأجل بيان أهميّة الشرك و عظم أمره. أو للإعلام بأنّه الأصل في صدّ الإنسان عن الكمال، و عائق كبير عن تهذيب النفس و تحليتها بالمكارم و الفضائل.

و إمّا لبيان الآثار المترتّبة على الشرك باللّه العظيم، فقد ذكر عزّ و جلّ في الآية المباركة السابقة أنّ الشرك سبب للافتراء و الكذب؛ لأنّه يوجب الإعراض عن داعي الفطرة الّذي يدعو إلى التوحيد، الّذي هو أساس كلّ دين، و هذا هو الافتراء و الكذب؛ لأنّه تغرير للنفس و إبطال لجميع المعارف الإلهيّة و إعراض عن كلّ خلق كريم و مانع عن التخلّق بالأخلاق الإلهيّة. و في هذه الآية الشريفة يبيّن عزّ و جلّ أثرا آخر من آثار الشرك، و هو الضلال البعيد، أي: إبعاد للإنسان عن كلّ هداية تكوينيّة و تشريعيّة. و صرف له عن الفطرة المستقيمة الداعية إلى الاستكمال بالكمالات الواقعيّة.

و إمّا للإشارة إلى نبذ الشرك بجميع أقسامه، الشرك في الذات و الفعل و العبادة، و قد تكفّلت الآية السابقة لنفي الشرك في الذات و العبادة، و في المقام يبيّن نفي الشرك في الذات و الفعل.

ص: 281

و بأحد هذه الوجوه يمكن رفع التكرار، مع أنّه لا تكرار لاختلاف الموردين، فراجع تفسير الآية الكريمة المتقدّمة أيضا.

قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً .

بيان للآية المباركة السابقة؛ و لذا ترك العطف بينهما. و مادة (أ ن ث) في جميع اشتقاقاتها تدلّ على الانفعال و التأثّر، يقال: أنث الحديد أنثا، أي: انفعل و تأثّر فلان. و أنّث المكان إذا تأثّر و أسرع في الإنبات و جاد، و سمّى الأنثى من الحيوان أنثى لأنّها المنفعلة، كما أنّ الأصنام و الأوثان و كلّ معبود دون اللّه تعالى سمّيت إناثا لكونها منفعلات قابلات، ليس في وسعهن أن يفعلن أمرا، و عاجزات لا تدفع عن أنفسهن شيئا، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اِجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ اَلذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ اَلطّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ * ما قَدَرُوا اَللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اَللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ [سورة الحج، الآية: 73-74]، و قال تعالى في حقّهن: وَ اِتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً [سورة الفرقان، الآية: 3]، و يستفاد من هذه الآيات المباركة انفعال كلّ مخلوق ما سوى اللّه تعالى، فإنّ الله هو القوي العزيز و ما سواه ضعيف عاجز لا يملك لنفسه شيئا؛ لأنّ الموجودات بإضافة بعضها إلى بعض ثلاثة أقسام: فاعل غير منفعل أصلا، و هو اللّه سبحانه و تعالى فقط. و منفعل غير فاعل، و هو الجمادات. و فاعل من وجه و منفعل من وجه آخر، كالملائكة و الإنس و الجنّ ، فإنّهم بالإضافة إلى اللّه منفعلة لكونهم مخلوقين، و بالإضافة إلى مصنوعاتهم فاعلة.

و يؤيّد ما ذكرنا أنّ العرب كانت تصف كلّ ضعيف بالأنوثة، و لعلّ تسميتهم لمعبوداتهم بأسماء الأنثى لكونها جمادات منفعلة لا فعل لها، كما حكى سبحانه و تعالى عنها في القرآن الكريم، و هو جلّت عظمته يذكّرهم بانفعالها و ينبّههم على جهلهم و عدم قدرتها؛ ليظهر بطلان ألوهيتها.

ص: 282

و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في ما يقرب من ثلاثين موضعا، قال تعالى حكاية عن امرأة عمران عليها السّلام: فَلَمّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ اَلذَّكَرُ كَالْأُنْثى [سورة آل عمران، الآية: 36]، و قال تعالى: أَ لَكُمُ اَلذَّكَرُ وَ لَهُ اَلْأُنْثى [سورة النجم، الآية: 21]، و قال تعالى:

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ [سورة النحل، الآية:

58]، و غيرها من الآيات الكريمة.

و يستفاد من الحصر و العموم في قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً أولوية ما ذكرناه من غيره ممّا ذكره المفسّرون، فإنّه عزّ و جلّ يصف ما يعبدون من دونه بكونها إناثا، و إن كان ذكرا غير أنثى كعيسى المسيح عليه السّلام، أو بوذا، أو برهما، و غيرهم ممّن ادّعوا الألوهيّة فيهم، لكونهم ضعفاء عاجزين عن تحقيق أماني و مقاصد من يعبدونهم.

و ممّا ذكرنا يظهر ضعف ما ذكره المفسّرون في تفسير هذه الآية الشريفة، فقيل بأنّ المراد بالإناث اللات و العزى و منات الثالثة و غيرها من الأصنام الّتي كانت للعرب، فإنّهم كانوا يسمّون كلّ صنم تسمية الأنثى، و يقولون: أنثى بني فلان، و كانوا يجعلون عليه الحلي و أنواع الزينة كما يفعلون بالنسوان، و قيل: المراد بها الملائكة. و قيل غير ذلك ممّا لا دليل عليه، مضافا إلى كونه تخصيصا للآية الشريفة بغير وجه.

و كيف كان، فإنّ في هذا التعبير شدّة الإهانة و التكبيت لمعبوداتهم و الإعلام بضعفها و نفي خيرها، و انحطاط منزلتها، كما يدلّ على غاية الحماقة و تناهي جهلهم، حيث يعبدون ما هو منفعل لا يقدر على شيء و يدعون القوي العزيز الفعّال لما يريد، و يشمل أيضا كلّ معبود من دون اللّه تعالى و إن اختلفت المظاهر و الأشكال و الأفراد، فإنّه ممّا لا شكّ فيه أنّ مظاهر العبادة تتغيّر و تختلف، فلم يعد هناك تلك الأصنام الإناث الّتي كانت العرب يعبدونها، و قد حلّت محلّها عبادة الذات

ص: 283

و المذهب و الدولة و الجنس، و المجتمع، و العنصر، و الوطن، و القومية، و الحرية، و الإنسانيّة، و الحضارة، و نحوهما من عشرات الإناث الّتي تضاف إليها القداسة و النزاهة، فتعبد من دون اللّه تعالى و تطاع و تخالف فيها أحكام اللّه العظيم و شريعته المقدّسة و يتغيّر فيها خلق اللّه تعالى، كما نرى عليها في الجاهلية المعاصرة، فتتّحد الجاهليتان الأولى و الأخيرة في عبادة الشيطان الّتي لم تتغيّر و إن تغيّرت المظاهر و تطورت، و يدلّ على ذلك تعقيب هذه الآية الشريفة ببيان حقيقة الشيطان و بيان خطواته المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد اللّه تعالى؛ لأنّ جميع تلك المظاهر في مرّ العصور تحكي عن غواية الشيطان و إضلاله للعباد.

قوله تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً .

بيان للآية الشريفة السابقة، أي: أنّ طاعتهم للإناث ليست إلاّ هي عبادة للشيطان المريد و طاعته.

و التعبير عن العبادة و الطاعة بالدعاء، لبيان أنّ عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة و ليست هي واقعيّة، كما في عبادة الواحد الأحد، و قد عبّر سبحانه و تعالى عن طاعة الشيطان بأنّها عبادة في قوله تعالى: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا اَلشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَ أَنِ اُعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ [سورة يس، الآية: 61].

و الشيطان: يطلق على كلّ فاسد خبيث من الجنّ و الإنس، و يسمّى كلّ خلق ذميم للإنسان شيطانا، و في الحديث: «الغضب شيطان، و الحسد شيطان»، و قد يطلق على إبليس (لعنة اللّه تعالى عليه) كما في المقام. و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه المادّة و أنّها من شطن، أي: البعد عن الخير، إن قلنا: إنّ نون الشيطان أصليّة، و إن جعلتها زائدة كان من شاط إذا هلك أو استشاط غضبا إذا احتد فيه و التهب.

و الأوّل أصحّ كما تقدّم.

و مادة (مرد) تدلّ على التجرّد و الملامسة، يقال: شجر مرد، أي: الّذي تناثر

ص: 284

ورقه و تعرّى منه. و يقال: «رملة مرداء»، أي: لم تنبت شيئا فيها و تجرّدت عن الزرع، و منه قوله تعالى: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ [سورة النمل، الآية: 44]، أي: أملس كما أنّ منه: غلام أمرد، إذا عرى الشعر عن ذقنه و عارضيه، و منه قوله تعالى: وَ مِنْ أَهْلِ اَلْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى اَلنِّفاقِ [سورة التوبة، الآية: 101]، أي: تجرّدوا للنفاق و اعتادوا عليه، و في الحديث: «انّ أهل الجنّة جرد مرد»، و معنى الحديث: أنّ أهل الجنّة في غاية الكمال و الجمال، فعلى بعض أماكن بدنهم الشعر كالساعدين و الساقين و المسربة (ما دقّ من شعر الصدر إلى السرة)؛ لأنّ ضدّ الأجرد الأشعر، و هو الّذي على جميع بدنه الشعر، كما أنّهم «مرد» أي: مجرّدون و معرّون عن الشوائب و القبائح، ظاهريّة كانت أو معنويّة، قال تعالى: وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ * [سورة الحجر، الآية: 47].

و المريد: فعيل من مرد، و سمّي الشيطان مريدا؛ مبالغة في التجرّد عن كلّ خير، فصار عاتيا خارجا عن الطاعة، أو مبالغة في التلبّس بالشرّ.

قوله تعالى: لَعَنَهُ اَللّهُ .

وصف آخر، و هو البعد عن رحمته عزّ و جلّ ، و اللعن هو الإبعاد عن الرحمة مقترنا بسخط و غضب، و يحتمل أن تكون الجملة بمنزلة التعليل للوصف الأوّل، أي: أنّه عتى و خرج عن طاعة اللّه تعالى؛ لأنّه عزّ و جلّ طرده عن كلّ خير و أبعده عن رحمته، و يحتمل أن تكون مستأنفة على الدعاء؛ لأنّه فعل ما يستحق اللعن و الطرد، كما أنّ قولهم: «أبيت اللعن»، أي: ما فعلت ما تستحق اللعن به، فحينئذ لا موضع لها من الإعراب.

قوله تعالى: وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً .

الاتّخاذ: هو أخذ الشيء على وجه الاختصاص. و النصيب: السهم و الحصّة من الشيء، و هو مبهم لا يتبادر منه القلّة أو الكثرة، إلاّ مع القرائن الحافّة. و في المقام يراد منها الكثرة، قال تعالى حكاية عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 82-83]، و قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106]، و قد ذمّ تعالى الكثرة في كثير من المواضع كما مدح القلّة، قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ [سورة سبأ، الآية: 13].

ص: 285

الاتّخاذ: هو أخذ الشيء على وجه الاختصاص. و النصيب: السهم و الحصّة من الشيء، و هو مبهم لا يتبادر منه القلّة أو الكثرة، إلاّ مع القرائن الحافّة. و في المقام يراد منها الكثرة، قال تعالى حكاية عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة ص، الآية: 82-83]، و قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة يوسف، الآية: 106]، و قد ذمّ تعالى الكثرة في كثير من المواضع كما مدح القلّة، قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ اَلشَّكُورُ [سورة سبأ، الآية: 13].

و المفروض: من الفرض، و هو القطع من الشيء الصلب أو التأثير فيه، يقال:

فرض الحديد و فرض الزند، و لا يقال: فرض القرطاس و إنّما يقال: قطع، و لعلّ التعبير به لأنّ متابعة الشيطان خلاف الفطرة و الاستقامة.

و كيف كان، فالمعنى: و لأجعلن من عبادك حظّا مقدّرا، اختصّ به مقطوعا عمّن سواه، و هم الّذين يتّبعون خطوات الشيطان الّذين اقتطعهم الشيطان عن غيرهم من عباد اللّه تعالى.

و يستفاد من ذلك أنّ لهم جذورا عميقة في التوحيد، فإنّ لهم فطرة مستقيمة و عقلا داعيين إلى التوحيد و الصراط المستقيم، و هما ركيزتان يرتكز عليهما الإنسان في صراعه مع الشهوات و داعي الشرّ، فلا بد أن يكون فعل الشيطان قويا و ذا خطوات متتابعة لإضعاف هاتين الركيزتين و طمسهما، كما حكى عزّ و جلّ في الآيات المباركة اللاحقة. و لعمري، إنّه لا يمكن لأحد مهما بلغ من العلم و الحكمة أن يصف الشيطان و خطواته و صراعه مع الإنسان بمثل ما أخبره عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة.

و هذا القول منه (لعنه اللّه) من مظاهر عتوّه و طغيانه على اللّه تعالى، و قد صدر منه عند اللعن عليه؛ عداوة و بغضا لبني آدم كما حكى عنه عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و هذه المحاورة بينه و بين اللّه جلّ شأنه محاورة حقيقيّة وقعت مشافهة من اللعين و حصلت حين خلق آدم عليه السّلام كما في سورة البقرة، و ليست هي مجرّد محاورة تكوينيّة تخبر عن حال هذا اللعين و طبعه. كما ذكره بعض المفسّرين، و قال: إنّه مثل

ص: 286

قوله تعالى: ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ اِئْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت، الآية: 11]، أي: أنّ اللّه خلق الأرض كذلك كما خلق الشيطان هكذا، مخبرا عن طبعه و سجيّته بصيغة القسم، مصمما على إغواء البشر و إضلالهم.

و لا يخفى بعد ذلك، فإنّ الظاهر أنّ المحاورة كلاميّة و المخاطبة شفهيّة، حصلت بين اللّه تعالى و بين الشيطان، و تدلّ عليه روايات كثيرة. و أمّا في التكوينيّات و الحيوانات فإنّها إلهام و إبداع، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في ما تقدّم من هذا التفسير فراجع.

ثمّ أخبر عزّ و جلّ عن خطوات الشيطان المتتابعة في إضلال الإنسان و غوايته، و هي خطوات دقيقة متقنة و ليست اعتباطيّة.

قوله تعالى: وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ .

هذه هي المرحلة الأولى من المراحل المتتابعة الّتي يستحوذ بها على عباد اللّه تعالى و يستعبدهم، و يتمّ بها فساد الإنسان و البشرية بإغواء الشيطان. و حقيقة هذه المرحلة هي إضلال عباده عزّ و جلّ و إبعادهم عن الطريق المستقيم الموصل إلى الحقّ و صرفهم عن العقائد الصحيحة.

و تحصل هذه المرحلة بأمور كثيرة، منها تعمية الأمر عليهم، و تلبيس الواقع، و إظهار الباطل بمظهر الحقّ ، و طمسه بإشاعة الفساد و الشرّ و الشهوات، و تزيين الباطل بأبهى صورة حتّى تحصل الحيرة و الاضطراب في الإنسان. و قد حكي عزّ و جلّ عن هذه الأمور في كثير من المواضع في القرآن الكريم بصورة دقيقة شاملة و واضحة؛ لتستفيد منها البشرية على مرّ العصور؛ لأنّ هذه المرحلة من أدقّ المراحل الّتي يتّبعها الشيطان ليفسد فيها الإنسان، قلّما يسلم منها فرد، و كان الأنبياء يستعيذون باللّه منها و يطلبون الاستقامة منه تعالى.

ص: 287

قوله تعالى: وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ .

مرحلة ثانية تأتي بعد إبعاد عباد اللّه تعالى عن الحقّ ، فيجيء الإغراء بالأماني و التسويفات و الإيحاء لهم بأنّ هذا الطريق الجديد هو أنفع و أجمل و أروح و أحسن عاقبة من الطريق المستقيم طريق اللّه تعالى، ممّا يوجب صرفهم عن الاشتغال بما تقتضيه عبوديّتهم.

و للتمنّي الأثر الكبير في من ضعفت نفسه و ضاع الطريق لديه، و له مظاهر مختلفة - مثل حبّ الجاه و المال و التمنّي بطول البقاء - و الجامع لتلك المظاهر حبّ الدنيا، و هو السبيل الأهمّ من سبل الشيطان. و في الحديث: «حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة»، و يتحقّق بالتسويف في العمل و التمنّي بالأهواء الباطلة، و تزيين الشهوات بما يميل إليه طبع كلّ فرد، فيصدّه عن الطاعة. و التمنّي بالاستعجال باللذّات الحاضرة، و التمنّي بأنّه ليس هناك حساب و لا ثواب و لا عقاب و لا جنّة و لا نار، و غير ذلك من موجبات تغرير الشيطان و سبل كيده و خدعه.

و هذه المرحلة توافق طبع الإنسان المركب من النجدين، و بها يقع الصراع المرير بينهما، فإذا ضعفت دواعي الفطرة و العقل في فرد تغلّب الجانب الآخر، فينسى الإنسان نفسه، فتقوى عنده دواعي اقتراف المعاصي.

قوله تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ .

إنّه يملك أمرهم و يتمكّن من استعبادهم بعد طي المرحلتين، و حينئذ تأتي المرحلة الثالثة بعد تلك المتقدمتين بنجاح، فتحقّق طاعة الشيطان و عبادته، و يستشرى الفساد و الضلال، و لا يبقى للإنسان مكانته الّتي أرادها اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ : لَقَدْ خَلَقْنَا اَلْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلاَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ [سورة التين، الآية: 5].

ثمّ إنّ اللّه جلّ شأنه يبيّن مظهرين من مظاهر طاعة الشيطان و عبادته، أحدهما خاصّ و الآخر عامّ .

ص: 288

قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ اَلْأَنْعامِ .

مادة (ب ت ك) تدلّ على القطع و الفصل و الشقّ ، و يقاربها مادّة (البت) الّتي تأتي بمعنى الفصل و القطع أيضا، إلاّ أنّ البتك تستعمل في الأعضاء و الشعر و الريش، يقال: بتكت الشعر، أي: تناولت بتكة (بالكسر) منه، أي: القطعة المتّخذة منه، قال الشاعر:

//طارت و في يدها من ريشها بتك// جمعها بتك - بالكسر و الفتح - و منها سيف باتك، أي: قاطع، و لم ترد هذه المادّة في القرآن إلاّ في هذه الآية المباركة.

و المراد به قطع آذان من أصلها أو شقّها، و هو إشارة إلى ما كانت تفعله الجاهلية من شقّ أو قطع آذان الأنعام إذا ولدت خمسة أبطن و جاء الخامس ذكرا، و حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها.

و في ذكره بالخصوص لما يدلّ على سفاهة العقول و طيشها و سخافتها، و ممّا يدلّ على أنّ طاعة الشيطان و عبادته توجب طيش العقول و اضطرابها و خروجها عن استقامتها كما خلقها اللّه تعالى، و قد أخبر عزّ و جلّ - في عدّة مواضع من القرآن الكريم - أنّ لبعض المعاصي أثرا في اضطراب الإنسان و خروجه عن استقامته، كما بالنسبة إلى الربا، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَأْكُلُونَ اَلرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاّ كَما يَقُومُ اَلَّذِي يَتَخَبَّطُهُ اَلشَّيْطانُ مِنَ اَلْمَسِّ [سورة البقرة، الآية: 275]، و تقدّم ما ينفع المقام فراجع.

قوله تعالى: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ .

اللاّمات الثلاث كلّها للقسم، ممّا تدلّ على تصميمه (لعنه اللّه تعالى) على إضلال عباد اللّه تعالى، و ينبئ ذلك عن طبعه الخبيث و سجيّته الشريرة.

و تغيير خلق اللّه تعالى يشمل التغيير الحسّي - صفة و صورة - كالخصاء و أنواع المثلة و التشويهات و التبديلات الّتي يأمر بها المطيعين له على أصناف خلقه

ص: 289

عزّ و جلّ - و التغيير المعنوي المتمثل بالخروج عن الفطرة السويّة و الإعراض عن الدين الحنيف و التعاليم الإلهيّة و تبديلها و تحريفها و تغييرها، و إتيان أنواع الرذائل و المنكرات، أو ترويج الباطل و إشاعة الفحشاء، و تحويل النفس عمّا يدعو إليه داعي العقل و الفطرة، قال تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اَللّهِ اَلَّتِي فَطَرَ اَلنّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اَللّهِ ذلِكَ اَلدِّينُ اَلْقَيِّمُ [سورة الروم، الآية: 30]، فإنّ فطرة الناس هي أساس الكمالات و منبع الخيرات و أصل الفواضل و المكارم، و لها السلطة على جميع مشاعر الإنسان إذا لم يعتريها الضلال و الغواية و لم يتلبّس بما يفسد الفطرة من الرذائل و المنكرات و الجرائم.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّخِذِ اَلشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اَللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً .

بعد بيان حال الشيطان من التمرّد و الطغيان و الفساد و الإفساد، و لبعده عن رحمته تعالى، عرّف الإنسان حاله، فمن يطعه و يتبع أوامره و يؤثره على طاعة اللّه، فقد خسر خسرانا مبينا و ظاهرا؛ لأنّه لا حقيقة له و لن يدعو إلاّ إلى الحيرة و الضياع في الحال أو المآل.

و التعبير بالاتّخاذ لبيان أنّ ولاية الشيطان ليست إلاّ زائفة باطلة، و لا ولاية له على أحد، و أنّ الولي هو اللّه تعالى وحده، و غيره باطل و إن اتّخذ وليّا. كما أنّ التقييد بقوله تعالى: مِنْ دُونِ اَللّهِ ؛ لبيان أنّه ليس هناك واسطة، فإمّا اتّباع للشيطان و طاعته المنافية لولاية اللّه جلّت عظمته و أوامره، و إمّا اتّباع له عزّ و جلّ و إعراض عن الشيطان.

و يستفاد من الآية المباركة التأكيد على أنّ اتّباع الشيطان ينافي طاعة اللّه تعالى. و إنّما خسر متابعو الشيطان خسرانا مبينا؛ لأنّه من استبدال رضا اللّه تعالى برضا الشيطان، و لا صفقة أخسر من تلك، فكانت خسرانا واضحا و ظاهرا لكلّ فرد إن تأمّل و تفكّر في ما صار إليه.

ص: 290

قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ .

بيان للآية الشريفة السابقة و تعليل لذيلها، فإنّ ما أضلّ به الشيطان عباد اللّه تعالى ليس إلاّ مجرّد و عود زائفة، و أمانيّ باطلة حصلت من وعوده الّتي هي من وساوسه، فكانت مجرّد و هم و تخيّل، و هذه الوعود و الأماني هي من أقوى أسباب الضلال و أشدّ حبائل الاحتيال و أعظم كيده (لعنه اللّه) و وساوسه؛ و لذا اقتصر سبحانه و تعالى عليهما في هذه الآية الكريمة.

قوله تعالى: وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً .

الغرور: هو الباطل و إيقاع النفس في الهلاك و البوار، و عن عليّ عليه السّلام: «إذا استولى الفساد على أهل الزمان، فمن أحسن الظنّ بهم فقد غرّر نفسه»، أي: أوقعها في الهلاك و سمّي الشيطان غرورا؛ لأنّه يحمل الإنسان على محابّه، و وراء ذلك ما يسوءه.

و أمّا أنّ وعد الشيطان باطل؛ لأنّه لم تكن له حقيقة، و أمانيه ليس لها واقع، بل هي مجرّد و هم و تخييل. أليس هذا هو الخسران و إيقاع النفس في المهالك و صدّها عن المسير الاستكمالي الّذي خلق اللّه تعالى الإنسان لأجل ذلك ؟ ألم يكن ذلك هو الغرور الّذي به وقعت الإنسانيّة في العذاب و الجهالة في الدنيا قبل الآخرة ؟! أ ليست الآثار الّتي ترتّبت على الوعود الشيطانيّة و أمانيه مضلّة و مهلكة للإنسانيّة جمعاء؟! فهذا القلق و الاضطراب و التحيّر و الشكّ و الانحراف و الشذوذ، و الخروج عن الاستقامة، و إتيان الرذائل و ارتكاب الفحشاء و المنكر و غير ذلك من أباطيل الشيطان الّذي أوقع من أطاعه و عبده فيها، و اغترّ الإنسان بها فأوقع نفسه في الخسران و الهلاك، و أي خسران أعظم من تبديل السعادة الحقيقة و كمال الخلقة إلى الشقاء و الحرمان، فكان المبدأ مضلا و فاسدا، و الواسطة افتتانا و إيهاما و تخيّلا و كذبا و خديعة، و النهاية خسران و حرمان و شقاء، فهل يبقى لمن أطاع الشيطان و عبده و تبجّح بولايته و تحدّى به اللّه تعالى عذر؟ أفلا يكون ذلك كافيا في رجوع

ص: 291

الإنسان إلى نفسه و التفكّر في حقيقته و مصيره ردعا و عبرة له ؟! و في الحديث عن عليّ عليه السّلام: «رحم اللّه عبدا تفكّر من أين و في أين والى أين».

قوله تعالى: أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً .

بيان لسوء عاقبة من أطاع الشيطان و تولاّه من دون اللّه تعالى، أي: أولئك الّذين أضلّهم الشيطان و أغواهم مستقرّهم جميعا جهنّم مرغمون فيها، و لا يمكن الفرار منها لعدم وجود معدل و مهرب يفرّون إليه.

و المحيص: اسم مكان، أو مصدر ميمي من: حاص يحيص إذا عدل و ولي، يقال: «وقع في حيص و بيص» إذا وقع في أمر يعسر التخلّص منه.

و إنّما وصفهم عزّ و جلّ بذلك؛ لأنّه فسدت سريرتهم و خبثت بواطنهم باتّباعهم الشيطان، فهم يتهافتون يوم القيامة في جهنّم و ينجذبون إليها، يستفاد أنّه لا شفاعة تدركهم و تنجيهم من عذاب جهنّم.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

التفات من التكلّم إلى الغيبة؛ تعظيما للمطيعين و تنويها بجلالة مقامهم، ثمّ الرجوع إلى التكلّم مع الغير الّذي بني الكلام عليه في الآية الكريمة للإشارة إلى قرب حضورهم، و من عادته عزّ و جلّ أنّه إذا ذكر حال الكافرين يذكر أحوال المؤمنين، فيقرن بين الوعد و الوعيد؛ تتميما للفائدة و تذكيرا للطائفتين، و ترغيبا للكافرين إلى الإيمان و تخويفا للمؤمنين، و في المقام بيّن عزّ و جلّ حال المؤمنين و حسن حالهم و ما أوجب دخولهم الجنّة، و هو الإيمان باللّه تعالى و تركهم طاعة الشيطان و فعلهم الصالحات، فكان جزاؤهم دخول الجنّات الّتي تجري من تحتها الأنهار لتزيد روعتها و بهائها و بهجتها فتتم بها سرورهم، فكان هنا إيمان باللّه العظيم، و فعل الصالحات، و جنّات و خلود فيها، و هناك طاعة الشيطان و وعود منه و تخيّل من مطيعيه و جهنّم و خلودا فيها، فكان تقابلا كاملا بين الطائفتين، و يزيد

ص: 292

هنا خلود من اللّه تعالى و خطابا معهم: سَنُدْخِلُهُمْ تكريما للمؤمنين المطيعين، و إبعادا لهم عن كلّ ما ينغّص عيشهم، و فيه غاية القرب و عدم احتجابه عزّ و جلّ عنهم و هو وليّهم.

و أمّا هناك، فكان انجذاب بين النار و بين من تولّى الشيطان؛ ليذوقوا وبال أعمالهم الّتي أوجدت التناسب بينهم و بين النار، كما تقدّم.

و الجنّات الّتي وعدها اللّه تعالى للمؤمنين به تشمل جنّة الأفعال، و جنّة الصفات، و جنّة الذات؛ و الأوّل ما يمنحها اللّه تعالى لعامل الفعل الحسن و العمل الصالح، و الثانية هي الّتي تمنح للصفات الحميدة أو على الأفعال الناشئة منها.

و الثالثة هي مقام القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ ، و هي أعلى مراتب الجنان، و تقدّم التفصيل في ذلك.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً .

زيادة في سرورهم و بهجتهم و إبعادا لهم ممّا ينغّص عيشهم، و الخلود إنّما كان نتيجة إيمانهم و أعمالهم الصالحة الّتي استولت على مشاعرهم، فلو عمّروا طول الدهر لفعلوا الصالحات.

قوله تعالى: وَعْدَ اَللّهِ حَقًّا .

مقابلا لما ذكره عزّ و جلّ في وعد الشيطان الّذي لم يكن إلاّ غرورا، فهنا وعد حقّ و صدق، و هناك وعد الغرور، فما أشدّ الاختلاف بينهما؟!! و إنّما وضع اسم الجلالة موضع المضمر؛ مبالغة و تعظيما للمقام؛ و تنويها بشرف الوعد. و حَقًّا منصوب مؤكّدا، أي: وعدهم وعدا حقّا، و قيل: إنّه منصوب على أنّه حال من سَنُدْخِلُهُمْ .

قوله تعالى: وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اَللّهِ قِيلاً .

فإنّ ما أخبره عزّ و جلّ عن حال الشيطان و إضلاله و سوء حال من تولاّه و أطاعه، و وعده للمؤمنين كلّه صدق و عين الحقيقة و الواقع، و لا يتمكّن غيره

ص: 293

عزّ و جلّ أن يخبر كذلك، فكان قوله تعالى صدقا و صوابا، فعلى هذا تكون الجملة بيانيّة عمّا أخبره عزّ و جلّ عن وعده تعالى للمؤمنين و وعيده للكافرين، و ليست مجرّد تأكيد. و فيها الدلالة على كذب مواعيد الشيطان الّتي أغرّت من أطاعه.

و قِيلاً : مصدر قال يقول، و مثله القال، و عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالى عليه) أنّهما اسمان لا مصدران، و نصبه في المقام على التمييز.

ص: 294

بحوث المقام
بحث دلالي:
اشارة

يستفاد من الآيات المباركة أمور:

الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ أنّ الجزاء على الأعمال - سواء أ كان وعدا أم وعيدا - مترتّب على سلامة الأرواح و سعادتها أو شقائها و هلاكها، و هما ينشئان ممّا عليه الإنسان في دار الدنيا من سلامة الفطرة و صحّة العقيدة و صالح الأعمال، أو الانحراف عن الفطرة و فساد العقيدة و اكتساب الرذائل و التدنّس بها، فتكون درجات الجنّة و دركات النار على طبق المراتب، و إنّ أعلاها التوحيد الكامل، و أمّا أخسّ الدركات فهي الشرك باللّه تعالى، و لكلّ منهما صفات تناسبها. و على هذا يكون عدم غفران اللّه تعالى الشرك أمرا طبيعيّا موافقا للقاعدة الّتي تقتضي التناسب بين الجزاء و الفعل. فإنّه تعالى لو ادخل المشرك الجنّة للتمتع بنعيمها كما يتمتّع المؤمن الموحّد، فهذا نقض لسنّة اللّه الّتي لا تقبل التّغيير و التبديل، الّتي قضت أن ينال كلّ واحد جزاء عمله.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً على أنّ ما يعبد من دون اللّه تعالى، ضعيف عاجز لا يقدر على تحقيق مقاصد من يعبدونها، و يؤكّد ذلك سياق الآية الشريفة الّذي وصف اللّه تعالى نفسه بعدم الغفران للمشركين و غفرانه لغيرهم، فهو القادر على كلّ شيء.

و تدلّ أيضا على أنّ ما يعبد من دون اللّه تعالى يصيبه كلّ ما يصيب الإناث من سائر المخلوقين من الآفات و الأمراض، و اللّه هو القوي العزيز الّذي يمتنع عليه جميع ذلك و يستحيل أن يقع محلا للحوادث، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة. و أنّ كلّ معبود من دون اللّه تعالى مهما بلغ من العظمة و القوّة و القدسية لدى من يعبدونه، فإنّه ضعيف يحتاج إلى من يعينه و يساعده من كلّ مخلوق.

ص: 295

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً على أنّ عبادتهم لتلك الإناث إنّما هي عبادة صوريّة ظاهريّة، لا توافق ما عليه فطرتهم الداعية إلى عبادة الواحد الأحد، فتكون عبادتهم مجرّد دعاء صادر حين الحاجة.

الرابع:

يدلّ تقريره عزّ و جلّ لما حكاه عن الشيطان الرجيم في قوله: وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً على أنّ مطيعي الشيطان لا يخرجون بذلك عن كونهم عباد اللّه و لا ينسلخون عن هذا الشأن، و ربما يكون هذا الأمر مقتضيا لخروجهم عن طاعة الشيطان و رجوعهم إلى معبودهم الحقيقي الّذي هو خالقهم، و فيه كمال العناية بعباده، و أنّهم يقعون مورد لطفهم إن هم رجعوا عن غيهم و ضلالهم و هيّئوا أنفسهم لنيل رحمته جلّت عظمته.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاّ شَيْطاناً مَرِيداً على أنّ عبادة غير اللّه تعالى و طاعته توجب الطغيان و التمرّد على الحقّ و البعد عن الواقع، فيهون ارتكاب كلّ رذيلة و إتيان كلّ فحشاء و منكر، فلا تبقى إرادة للخير و لا طمع في الفضيلة، كما لا تبقى للفطرة سلامتها، و لكن تتفاوت درجات الطاعة للشيطان، و لعلّ هذا هو أحد المعاني في قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ .

السادس:

يدلّ قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ على أنّ التصرّف في الكائنات و السلطنة عليها إنّما تكون من شؤون بارئها و خالقها، و ليس لغيره عزّ و جلّ ذلك، فلا تشمل كلّ تصرّف و تغيير، فضلا عمّا ورد من الشارع المقدّس الإذن فيه كالختان و تقليم الأظافر، و الخضاب، و قطع العضو الزائد أو الفاسد في الإنسان و نحو ذلك.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ أنّ كلّ ما سواه عزّ و جلّ ممّا يعبده الإنسان أو يطيعه لا حقيقة له، و إنّما هو و هم و سراب، و مآله إنّما يكون الخسران و الدمار و الهلاك، و همّه خسران الإنسان حقيقته في الدنيا و الآخرة، كما هو معلوم.

ص: 296

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً أنّ الأعمال الفاسدة و الملكات الرذيلة و العقائد الباطلة تؤثّر في الإنسان أثرا بليغا، حتّى يصل الى قلب الحقيقة فتوجب التشابه بينه و بين ما يناسبه حينئذ، فكانت النار الّتي هي جزاء من تولّى الشيطان هي الأثر المناسب لأفعاله، فتحصل التجاذب بينهم و بين النار، فلا مفرّ لهم منها و لا مكان آخر يأويهم.

التاسع:

إنّما جمع سبحانه و تعالى الطاعة و الإيمان في الآيات المباركة:

وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ ؛ لبيان أنّ مجرّد الإيمان و العقيدة بلا عمل و طاعة لا يؤثّر في دخول الجنّة، بل لا بدّ من اقتران الإيمان بالعمل الصالح.

نعم، لكلّ منهما أثر وضعي خاصّ ، و لكن الجزاء يتوقّف على الإيمان و العمل معا، كما مرّ.

بحث روائي:

في الدرّ المنثور عن أبي مجاز قال: «لما نزلت هذه الآية: يا عِبادِيَ اَلَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ اَلْغَفُورُ اَلرَّحِيمُ [سورة الزمر، الآية: 53]، قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل قال: و الشرك باللّه ؟ فسكت مرّتين أو ثلاثا، فنزلت هذه الآية: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ، فأثبتت هذه في الزمر و أثبتت هذه في النساء».

أقول: تقدّم أنّ للشرك مراتب كثيرة، و أنّ عدم الغفران يختصّ بالمرتبة الأخيرة منه، و هي ما إذا مات على الشرك و لم يتب، فلا تنافي بين الآيتين الشريفتين، كما تقدّم في البحث الروائي في الآية المباركة 48 من سورة النساء، و التفكيك في الثبت إنّما كان من فعله صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 297

و في تفسير العياشي عن قتيبة الأعشى قال: «سألت الصادق عليه السّلام عن قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ ؟ قال: دخل في الاستثناء كلّ شيء»، و في رواية أخرى عنه عليه السّلام أيضا: «دخل الكبائر في الاستثناء».

أقول: يستفاد من مضامين الآيات الشريفة و السنن المعصوميّة أنّ المناط في الغفران - أو نيل الشفاعة في يوم القيامة - هو الموت مع الإيمان باللّه تعالى، فإذا انسلخ الإيمان و حلّ محلّه الشرك، فالغفران عنه بعيد و لا تشمله الشفاعة أيضا، و يدلّ على ما ذكرنا عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما من عبد يموت لا يشرك باللّه شيئا إلاّ حلّت له المغفرة، إن شاء غفر له، و إن شاء عذّبه»، و تقدّم أنّ للشرك مراتب متفاوتة جدا.

و في البخاري و مسلم و النسائي و الترمذي عن أبي ذر قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: ما من عبد قال: لا إله إلاّ اللّه، ثمّ مات على ذلك إلاّ دخل الجنّة، قلت: و إن زنى و إن سرق ؟! قال صلّى اللّه عليه و آله: و إن زنى و إن سرق، قلت: و إن زنى و إن سرق ؟! قال صلّى اللّه عليه و آله: و إن زنى و إن سرق، ثلاثا ثمّ قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر».

أقول: تقدّم أنّ المراد من قول: «لا إله إلاّ اللّه» مع الشرائط و الموت مع العقيدة به، لا مجرّد التلفّظ به، و لعلّ المراد من ذيل الحديث أنّ الغفران لا يكون تحت سلطة العباد، بل هو مختصّ به تعالى، و لا بدّ من تقييده بعدم وجود مظالم العباد عليه، و إلاّ يتوقّف الغفران على أدائها أو إسقاطها، كما مرّ في الروايات السابقة.

و عن البيهقي في الأسماء و الصفات عن ابن عباس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«قال اللّه عزّ و جلّ : من علم أنّي ذو قدرة على مغفرة الذنوب، غفرت له و لا أبالي ما لم يشرك بي شيئا».

ص: 298

أقول: إنّ مغفرته تعالى لذنوب عباده من مظاهر صفاته، فلا يكون له حدّا محدودا.

نعم، لو تعلّق بذنوب شخص يثبت له التحديد من ناحية المتعلّق. و أمّا عدم غفرانه تعالى للمشركين؛ لعدم لياقتهم و عدم أهليّتهم لشمول الرحمة لهم، كما عرفت في التفسير.

و في تفسير العياشي بسنده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى:

وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ قال: «أمر اللّه بما أمر به».

أقول: لأنّ أوامر اللّه تعالى هي دينه، و الدين هو الفطرة المستقيمة؛ و لذلك عبّر عنه في بعض الروايات بدين اللّه.

و عن الطبرسي في قوله تعالى: فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ اَلْأَنْعامِ قال: ليقطعوا الآذان من أصلها، و هو المروي عن الصادق عليه السّلام.

أقول: تقدّم ذلك أيضا من بعض المفسّرين، و أنّ المراد به قطع آذان البحائر و السوائب و الأنعام و يحرّمونها بذلك على أنفسهم و يجعلونها للأصنام، كما مرّ في التفسير.

و في تفسير العياشي بسنده عن جابر، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله قال: «كان إبليس أوّل من ناح و أول من تغنّى و أوّل من قال حدى، قال: لما أكل آدم من الشجرة تغنّى، فلما هبط حدى به، فلما استقرّ على الأرض ناح فاذكره ما في الجنّة، فقال آدم عليه السّلام:

ربّ هذا الّذي جعلت بيني و بينه العداوة، لم أقو عليه و أنا في الجنّة، و إن لم تغني عليه لم أقو عليه، فقال اللّه تعالى: السيئة بالسيئة و الحسنة بعشر أمثالها - إلى سبعمائة - قال: ربّ زدني، قال: لا يولد لك ولد إلاّ جعلت معه ملكين يحفظانه، قال: ربّ زدني، قال: التوبة معروضة في الجسد ما دام فيه الروح، قال: ربّ زدني، قال: اغفر الذنوب و لا أبالي، قال: حسبي، فقال إبليس: ربّ هذا الّذي كرّمته عليّ و فضّلته و إن لم تفضّل عليّ لم أقو عليه، قال: لا يولد له ولد إلاّ و لك ولدان، قال:

ص: 299

ربّ زدني، قال: تجري منه مجرى الدم في العروق، قال: رب زدني، قال: تتّخذ أنت و ذرّيتك في صدورهم مساكن، قال: ربّ زدني، قال: تعدهم و تمنّيهم، و ما يعدهم الشيطان إلاّ غرورا».

أقول: أمّا ما منحه اللّه تعالى لآدم؛ فلأنّه الكمال، و أنّ آدم في طريق الاستكمال. و أمّا ما منحه اللّه تعالى للشيطان فلأن به يتحقّق الاختيار في الخلق.

أخرج البيهقي في الدلائل عن عقبة بن عامر قال: «خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في غزوة تبوك، فأشرف رسول اللّه فلما كان منها على ليلة فلم يستيقظ حتّى كانت الشمس قيد رمح، قال: ألم أقل لك يا بلال أكلئنا الليلة ؟ فقال:

يا رسول اللّه ذهب بي النوم فذهب بي الّذي ذهب بك، فانتقل رسول اللّه من ذلك المنزل غير بعيد ثمّ صلّى، ثمّ هدر بقية يومه و ليلته فأصبح بتبوك فحمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله، ثمّ قال:

أما بعد: فإنّ أصدق الحديث كتاب اللّه، و أوثق العرى كلمة التقوى، و خير الملل ملّة إبراهيم، و خير السنن سنّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و أشرف الحديث ذكر اللّه، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور عوازمها، و شرّ الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف الموت قتل الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير العلم ما نفع، و خير الهدى ما اتّبع، و شرّ العمى عمى القلب، و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قلّ و كفى خير ممّا كثر و ألهى، و شرّ المعذرة حين يحضر الموت، و شرّ الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الصلاة إلاّ دبرا، و منهم من لا يذكر اللّه إلاّ هجرا، و أعظم الخطايا اللسان الكذوب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة اللّه عزّ و جلّ ، و خير ما وقر في القلوب اليقين و الارتياب من الكفر، و النياحة من عمل الجاهليّة، و الغلول من جثاء جهنّم، و الكنزكي من النار، و الشعر من مزامير إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبالة الشيطان، و الشباب شعبة من الجنون، و شرّ المكاسب كسب الربا، و شرّ المآكل مال

ص: 300

اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقي من شقي في بطن أمّه، و إنّما يصير أحدكم الى موضع أربع أذرع، و الآمر بآخره، و ملاك العمل خواتمه، و شرّ الروايا روايا الكذب، و كلّ ما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية اللّه، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من يتأوّل على اللّه يكذّبه، و من يغفر يغفر له، و من يغضب يغضب اللّه عنه، و من يكظم الغيظ يأجره اللّه به، و من يصبر على الرزية يعوّضه اللّه، و من يتبع السمعة يسمع اللّه به، و من يصبر يضعف اللّه له، و من يعص اللّه يعذبه اللّه. اللهم اغفر لي و لأمّتي - قالها ثلاثا - استغفر اللّه لي و لكم».

أقول: أمّا بالنسبة إلى صلاة الفجر و إكلائه على بلال، فإنّه لا ينافي العصمة؛ لأنّ ذلك لمصلحة يراها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله كالتشريع العملي و غيره. و أمّا بالنسبة بخطبته صلّى اللّه عليه و آله فإنّها من جوامع الكلم الّتي خصّ اللّه به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله، و إنّها تنبع عن لسان الوحي، و إنّها جامعة لخير الدنيا و الآخرة، و بها تحصل السعادة و شرف العبوديّة، و تحتاج هذه الخطبة الشريفة إلى تفصيل يخرج عن موضوع الكتاب.

بحث عقائدي:

المستفاد من الآيات المباركة - و منها هذه الآية الشريفة - أنّ عبادة غير اللّه تعالى ضلال و خسران و توجب الهلاك و الدمار في الدنيا و الآخرة، و الأدلّة العقليّة تثبت ذلك أيضا، و أنّ الفطرة المستقيمة تدلّ على أنّ العبادة لا تليق بما سواه جلّ شأنه؛ لأنّ العبادة هي منتهى التذلّل، و لا يستحقّها إلاّ من له غاية الأفضال.

و العبادة تارة: تسخيريّة، أي: تكوينيّة، و هي عامّة تلازم الخلق و عالم الإمكان، قال تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة النحل، الآية: 49]، و قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 48]، و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 18]، و لا يترتّب على هذا القسم سوى الكمال الذاتي النفسي.

ص: 301

و العبادة تارة: تسخيريّة، أي: تكوينيّة، و هي عامّة تلازم الخلق و عالم الإمكان، قال تعالى: وَ لِلّهِ يَسْجُدُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ [سورة النحل، الآية: 49]، و قوله تعالى: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ اَلْيَمِينِ وَ اَلشَّمائِلِ سُجَّداً لِلّهِ [سورة النحل، الآية: 48]، و قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة الحج، الآية: 18]، و لا يترتّب على هذا القسم سوى الكمال الذاتي النفسي.

و أخرى: اختياريّة، أي: لا جبر في البين، قال تعالى: إِنّا هَدَيْناهُ اَلسَّبِيلَ إِمّا شاكِراً وَ إِمّا كَفُوراً [سورة الإنسان، الآية: 3]، و لا بدّ في هذا القسم من التقرير الشرعي، و يترتّب عليها الكمالات المعنويّة - كالتقرّب إليه تعالى و الوصول إلى أعلى المقامات - و الآثار الوضعيّة.

و منشأ العبادة الشعور بالافتقار بأي مرتبة كان الشعور، كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة، فهو الدافع للعبودية له جلّ شأنه؛ و لذلك لا بدّ في المعبود من الصفات المتفرّد بها، و يكون هو في منتهى الكمال، و ذلك مختصّ باللّه جلّت عظمته، و غيره لا يستحق العبادة لافتقاره إليه جلّ شأنه، و أنّ الفاقد للشيء لا يعطي الشيء أبدا؛ و لذلك يكون اتّباعه غرورا و لا تكون عبادة حقيقيّة، بل العبادة تختصّ به تعالى؛ لافتقار الكلّ إليه و استغنائه عن الكلّ ، و أنّ الممكنات في جميع جهاتها محتاجة إليه تعالى، و أنّ ما سواه فيء و ظلال.

من لا وجود لذاته من ذاته *** فوجوده لولاه عين محال

و لذلك يكون الشرك في المعبود محال عقلا، كما أنّ الضدّ فيه تعالى كذلك، و في بعض الدعوات: «يا من لا ضدّ له»؛ لأنّ ما سواه تعالى خلقه و يرجع إليه، فلا يتصوّر الضدّية في ذلك، لما ثبت في محلّه أنّه يشترط في الضدّين التساوي في الذات و في الصفات، و بعد فرض التفرّد في الذات و الصفات تستحيل الضدّية؛ لأنّه ليس كمثله شيء، فاتّباع غيره تعالى مجرّد غرور و لا تكون عبادة حقيقة، كما مرّ.

و إنّ العبادة لا تليق إلاّ للغني بالذات، بحيث لولاه لم يكن هذا الوجود، و لو لا أسراره لتلاشت الكائنات، و لولا نعوته و صفاته لاضمحلت البدائع ممّا سواه، و لم تكن لعالم الشهادة عين و لا أثر.

ص: 302

و يمكن أن يقال: إنّ هذه العقيدة لا تختصّ بالمسلمين فقط، بل تعمّ جميع الأديان السماويّة غير المنحرفة لما عرفت أنّها فطري، و لعلّ المراد من الآية المباركة:

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى اَلْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اَللّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [سورة الشورى، الآية: 13] ذلك. هذا كلّه بالنسبة إلى ذاته.

و أمّا كيفيّة العبادة و نهجها، فلا بدّ و أن تكون بوحي منه تعالى بواسطة الأنبياء و المرسلين و تبلّغها الأولياء و الصالحون، فإنّهم سفراؤه تعالى لأجل بيان كيفيّة العبادة بتنوير الفطرة و استقامتها و تكبيت الأهواء الفاسدة و الشهوات المضلّة، فالأنبياء ليسوا هم إلاّ وسائل للتقرّب إليه جلّ شأنه و من مظاهر أسمائه، و الدالّين إليه تعالى، بهم عرفنا اللّه تعالى، و ما اخترناه من نهج الهدى، و هم المعاندون للشيطان، و لو لاهم لاختلف النظم و اختلّت كيفيّة العبادة و انطمست الفطرة و لم يتحقّق الكمال المنشود.

و لذلك يحكم العقل و الفطرة باحترامهم و توقيرهم باتباع سننهم و منهجهم، و لهم امتيازات خاصّة من اللّه تعالى في حياتهم و بعد ارتحالهم إلى اللّه تعالى، حتّى موضع قبورهم لأنّها حوت أجساما كانت مورد عنايته عزّ و جلّ و تضمّنت نفوسا قدسيّة كانت مرتبطة بجلاله، و أبدانا تقرّبت إلى وادي عزّه و قدسه، و سرت حتّى وصلت إلى قاب قوسين أو أدنى و جعل له النار بردا و سلاما، و أبصارا رفعت عنها الحجب حتّى رأت المشهود في الشاهد، و الشاهد في المشهود، و أسماعا خرقت الستائر و الموانع حتّى سمعت: «إنّي أنا اللّه» و «ادن من صاد فتوضأ»، و وجوها رأت نور الحبيب و جماله و كبريائه، فخرّت ساجدة مذعنة.

بل أنّ الأرض الّتي تضمّنت تلك الأبدان الطاهرة، و المفاخر البشريّة، و مظاهر التكبير و التهليل لها كرامة و منزلة عند اللّه تعالى، فلا بدّ أن تحترم كما

ص: 303

تحترم أرض المسجد، فإنّ ما ورد من الروايات في شأن تلك المحال القدسيّة المتضمّنة لأجسامهم الشريفة، ممّا لا ينكره العقل أصلا بل يقرّره.

و أمّا زيارات تلك المواطن و الأمكنة الّتي حوت تلك الأبدان الطاهرة، فإنّها عبادة نتقرّب بزيارة أحبّ خلقه إليه، و تلك لو تأمّلنا في الزيارات الواردة في حقّهم كلّها كانت مشحونة بذكر اللّه تعالى و التذكّر بكلماته و معارفه و التبرء من الشيطان و اتباعه، و ليست لزيارتهم موضوعيّة مقابل عبادة اللّه عزّ و جلّ - نستجير باللّه تعالى - بل أنّها طريق يرشدنا إليه جلّ شأنه، و أنّهم أحياء عند ربّهم يرزقون. و قد ثبت في محلّه أنّ الأرواح مطلقا لا تنقطع ارتباطها عن هذا العالم، بل لها نحو علاقة خاصة (برزخية) بموضع البدن، حتّى ورد في بعض الروايات أنّ أرواحهم تتطلّع و تعلم من زارهم و أنّهم يدعون له، و بالنسبة إلى الأولياء و المقرّبين تكون العلاقة و الارتباط أشدّ و أكثر خصوصية لزوارهم، إذا كان الزائر من أهل الإيمان و من الكمّل، فيتحقّق نحو ارتباط بين الروحين إن حصلت الأهليّة؛ و لذا أنّ أهل العرفان و المتوجّهين يرون ما لا يرون غيرهم.

نعم، من كان بعيدا عن حريم ذاته الأقدس، تكون علاقته و ارتباط روحه بعد الحياة ضعيفا؛ لأنّه مشغول بنفسه في عالم البرزخ، فكلّ ما كانت الإضافة إلى اللّه تعالى أقرب و التفاني أشدّ كانت الآثار الوضعيّة أكثر حتّى بعد الممات، و كلّ ما كانت الإضافة أبعد و أضعف كانت الآثار الوضعيّة أقلّ حتّى كادت تنعدم؛ لأنّه قد يصل إلى مرحلة الجماد، قال تعالى: ضَعُفَ اَلطّالِبُ وَ اَلْمَطْلُوبُ ، و قال تعالى:

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاّ إِناثاً .

و ما تقدّم يجري في الأولياء و عباد اللّه الصالحين الأبرار الّذين لهم عند اللّه مقام و شأن، فيشمله العموم في قوله تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ [سورة الحج، الآية: 32].

ص: 304

بحث فقهي:

ذكرنا في التفسير أنّ الخلق في قوله تعالى: فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اَللّهِ أعمّ من الخلق الصوري (أي الطبيعي)، أو الفطري الّذي هو الدين، فالآية المباركة تدلّ على حرمة تغيير ما خلقه اللّه تعالى ممّا نصّ الشارع على حرمته كالتمثيل بالناس، و الخصاء في الإنسان، و حلق اللحية في الرجل، و غيرها ممّا هو محرّم شرعا.

و هل تشمل الآية المباركة ما لم يرد فيه من الشارع نصّ على تحريمه ؟ كتغيير بعض الحيوانات الدائر في هذه الأعصار من الكبر إلى الصغر، كما في الفيل و الفرس، و إجراء بعض العمليات التجميليّة في الإنسان إن لم يكن فيها دفع ضرر أو حفظ صحّة، و غير ذلك من الأمور المستحدثة في هذه الأعصار و جهان ؟.

مقتضى العمومات و الإطلاقات غير القابلة للتقييد هو الحرمة، فتشمل كلّ تغيير للحيوان و تبديله إلى حيوان آخر مثلا.

و مقتضى قوله تعالى: خَلْقَ اَللّهِ أنّ المناط في الحرمة هو المعارضة مع خلق اللّه سبحانه و تعالى بإيجاد خلق جديد، فتقتصر الحرمة على ما كان كذلك، أي: ما يعارض فيه خلق اللّه عزّ و جلّ ، فلا تشمل ما لم يكن كذلك في الإنسان كان أو في الحيوان أو في النبات.

هذا كلّه إن لم يحصل إيذاء أو إسراف، و إلاّ فالحكم واضح.

بحث عرفاني:

كما أنّ للتقرّب إلى اللّه تعالى و الوصول إلى ساحة كبريائه مراتب كثيرة - شدّة و ضعفا كمية و كيفيّة - كذلك للبعد بالنزول عن ساحة قدسه و القرب للشيطان، و ذكرنا أنّ لكلّ من الهداية و الغواية أسبابا و عللا، و إن كانت الفطرة

ص: 305

المستقيمة تقتضي الهداية إلاّ أنّ سبل الشيطان تعيقها و تحرفها عن التوجّه إلى خالقها، المعبّر عنه بشرف العبوديّة.

و هذه الأسباب تؤثّر كثيرا في الإنسان على نحو يبعده عن الصراط المستقيم، و لا تؤثّر فيه الحجج و البراهين و ذلك باختياره، فيصل إلى مرتبة أسفل السافلين بالمراحل المذكورة في الآيات المباركة.

و قد لا يكون كذلك، و إنّما يكون للقلوب إقبال و إدبار، و تملّ كما تملّ الأبدان، و هذا حسب درجات الإيمان، كما هو المشهود في المؤمنين، و قد لا تؤثّر فيه أصلا كما في المعصومين من الأنبياء و الأولياء و كمّل الإيمان من العرفاء، و عن سيد العارفين و إمام الموحّدين عليّ عليه السّلام مخاطبا الدنيا: «غرّي غيري» عند ما تمثّلت عنده، و غيره من الروايات الواردة عنه عليه السّلام.

و أسباب الغواية و الضلالة الّتي هي من الشيطان محدودة، بخلاف سبل الهداية الى اللّه العظيم، فإنّها من مظاهر صفاته العليا، و هي غير محدودة فلا يكون التقابل بينهما واقعيّا. مع أنّ الفطرة الخالصة الّتي خلقها اللّه تعالى تقتضي الهداية أيضا، كما أنّه جلّ شأنه يحبّ خلقه و لا يرضى لهم العذاب، قال تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ [سورة النساء، الآية: 147]، و أنّه غني ذاتا و صفات، و أنّ الخير و أسبابه منه تعالى و إليه عزّ و جلّ ، فلا بدّ و أن تكون غير محدودة لأنّها من مظاهر صفاته.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في الآية الشريفة أهمّ أسباب الغواية من الوعد و الأمنيّة، و أنّ الأثر المترتّب على تلك الأسباب ليس إلاّ الخسران، سواء كان خسران الجنّة و نعيمها، أم خسران المعارف الإلهيّة و الحظوظ السعيدة، أم خسران شرف العبوديّة، أم خسران الآلاء و النعم، أو خسران اللقاء الّذي هو من أعظم الخسائر، كما عن علي عليه السّلام: «هبني صبرت على حرّ نارك، فكيف أصبر على فراقك»، و عن بعض العرفاء: «أعظم الخسائر من فاته اللقاء»، فقد خاب من أحبّ

ص: 306

شيئا دونك و يرضيه بدلا منك، و قد خسر من أوقفته ببابك ثمّ طلب باب غيرك و التجأ الى غير جنابك و تحوّل منك إلى غيرك»، و دعاء أبي حمزة الثمالي مشحون بهذه المعارف، و لا يتوجّه إلى هذا القسم من الخسران إلاّ من رفع عنه الحجاب برؤية الملكوت الأعلى و منح له قبول و سام العبوديّة.

فالكلّ يطلب نعمى حيث ضلّ و ما *** يحظى بنعمى سوى فرد بأفراد

و جميع هذه الخسائر ترجع إلى الاختيار لما ثبت في محلّه من أنّه لا جبر و لا تفويض في البين، فالعبد باختياره يسلك كلا من الطريقين النور أو الظلمة، و يصل الى مراتبها، كما أنّ كلا منهما لم يكن ذاتي الإنسان، و هما قابلان للزوال إلى آخر لحظات العمر، كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتّى ما يبقى بينه و بينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنّة فيدخلها، و أنّ الرجل ليعمل بعمل أهل الجنّة حتّى ما يكون بينه و بينها إلاّ ذراع، فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخل النار»، و الأوّل كثير بفضله و رحمته، و الثاني منوط برحمته، و المراد من سبق الكتاب التذكّر و التأمّل، فيرجع إلى الاختيار، و للبحث ذيل يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 307

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ .......

اشارة

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى حقيقة الإيمان و الجزاء المترتّب عليه و بعض أحوال المؤمنين، و بيّن عزّ و جلّ الكفر و الشرك و موجباتهما، و هي إطاعة الشيطان و عبادته و اتّباع أوامره، و الجزاء المترتّب على ذلك، ثمّ وعد المؤمنين و أكّد أنّ وعده صادق و قوله حقّ لا خلف فيه.

يبيّن جلّ شأنه في هذه الآيات المباركة أنّه في وعده الصادق لا يحابي أحدا من عباده، و أنّه سيجزي المؤمنين حقّا و يجازي الكافرين صدقا، كلا حسب عمله و أفعاله، فالإيمان ليس بالتمنّي و لا بالتحلّي و لا بالتفاضل، بل بما استقرّ في القلب و ظهر على الجوارح و صدّقه العمل، و ليس الدين أمنيات و أهواء و شعارات و تفاخر أو تباهي، بل الدين تطبيق عملي لكلّ ما حواه من مبادئ و تعاليم و قيم و تشريعات و توجيهات، فهذا هو واقع كلّ دين و حقيقته، فلن يقوم على التمنّي و لن يحصل أحد على الجزاء العظيم الّذي وعده عزّ و جلّ للمؤمنين بمجرّد التمنّي و التفاخر و التمدّح و التشدّق بالكلام. و هذا ما أكّد عليه عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

ص: 308

و لم تكن الآيات الشريفة الأخيرة في سورة آل عمران ببعيدة عن الأذهان، حيث يبيّن عزّ و جلّ فيها المنهاج الّذي لا بدّ أن نتبعه، فقال تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ، و في هذه الآيات الكريمة تأكيد جديد و درس عملي لنبذ كلّ تمن فارغ عن العمل و تفاخر و تفاضل يوجب البعد و البغضاء، فإنّ الجزاء حاصل لا محالة، و كلّ من عمل سوءا يجز به و لا يجد من دون اللّه وليّا و لا نصيرا ينصره من العذاب، و من يعمل الصالحات فسيجد الجزاء الأحسن، و هذا هو الدين، فلا بدّ من التسليم الكامل و الإحسان و العمل و اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام، الّتي حفظت في جميع الأديان الإلهيّة و عند مشركي العرب، و هي ملّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، فكانت صلة بين جميع من ذكر، و اللّه تعالى محيط لا تخفى عليه خافية و له ما في السموات و الأرض.

التفسير
قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ .

تأكيد لما ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، و بيان أنّه ليس لأحد كرامة على اللّه تعالى و لا حقّ له عليه جلّ شأنه، إلاّ باتّباع تعاليمه و تطبيق شريعته و تنفيذ أوامره، و هذا هو الدين الّذي أنزله اللّه تعالى على جميع أنبيائه و أمرهم بتبليغه لعباده، و ليس هو أهواء و أمنيات و تشدّق بالكلام بأن يتفاخر كلّ واحد بأنّ دينه أفضل أو أكمل و أحقّ بالاتّباع، فإنّ هذه كلّها أماني صوريّة لا حقيقة لها، و هي بعيدة عن واقع الدين؛ لأنّه تطبيق عملي لما وقر في القلب و استقرّ فيه، و تلتقي جميع الأديان في هذا الأمر، بلا فرق بين دين الإسلام و سائر الأديان الإلهيّة، و قد حكي عزّ و جلّ بعض صور التفاخر في مواضع اخرى من القرآن الكريم، قال تعالى محكيا عن أهل الكتاب: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قال تعالى أيضا: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [سورة البقرة، الآية: 135].

ص: 309

تأكيد لما ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، و بيان أنّه ليس لأحد كرامة على اللّه تعالى و لا حقّ له عليه جلّ شأنه، إلاّ باتّباع تعاليمه و تطبيق شريعته و تنفيذ أوامره، و هذا هو الدين الّذي أنزله اللّه تعالى على جميع أنبيائه و أمرهم بتبليغه لعباده، و ليس هو أهواء و أمنيات و تشدّق بالكلام بأن يتفاخر كلّ واحد بأنّ دينه أفضل أو أكمل و أحقّ بالاتّباع، فإنّ هذه كلّها أماني صوريّة لا حقيقة لها، و هي بعيدة عن واقع الدين؛ لأنّه تطبيق عملي لما وقر في القلب و استقرّ فيه، و تلتقي جميع الأديان في هذا الأمر، بلا فرق بين دين الإسلام و سائر الأديان الإلهيّة، و قد حكي عزّ و جلّ بعض صور التفاخر في مواضع اخرى من القرآن الكريم، قال تعالى محكيا عن أهل الكتاب: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ [سورة المائدة، الآية: 18]، و قال تعالى أيضا: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا [سورة البقرة، الآية: 135].

و هذه الآية الشريفة تشير إلى ما زعمه بعض المسلمين و أهل الكتاب على ما ورد في شأن نزولها - كما يأتي في البحث الروائي - و قد ردّ سبحانه و تعالى على جميع تلك المزاعم بأنّ الدين لا يقوم على الأماني، و أنّها لا تؤثّر شيئا على الإطلاق، بل الدين عقيدة و عمل، و أنّ الجزاء العظيم الّذي وعده اللّه عزّ و جلّ لهم لا يمكن تحصيله بالتمنّي و الغرور، و أنّ اللّه تعالى لا يضيع عمل عامل منكم، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

و هذه الآية الشريفة من الدروس التربويّة للمسلمين، و قد كانت نبراسا لهم حين ما اعتقدوا بالإسلام، بأنّه دين عقيدة و عمل، و أنّه منهاج تربوي عملي، جعلوه تطبيقا عمليا لكلّ ما تضمّنه من تعاليم و قيم و مبادئ و توجيهات، فكانوا على عزّ و شرف و ساد الوئام و التآلف و التعاون بينهم، و لم يكن لأحد فيهم مطمع إلاّ بتبليغ دينه بالقول و الفعل، ثمّ لما حوّلوا دينهم إلى مجرّد التمنّي و خرجوا بذلك عن الدين الحقيقي و دخلوا في الغثاء الّذي تحدث عنه الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، اشتدّ الخلاف بينهم و ضعفت مكانتهم و نزل قدرهم و طمع فيهم أعدائهم، و وصلوا إلى ما هم عليه الآن من التفرقة و التشتت و الخلاف، فلم يبق من الإسلام إلاّ اسمه و من الكتاب إلاّ رسمه، و لن يعودوا إلى مكانتهم و وضعهم الّذي أراده اللّه تعالى و رسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله إلاّ بالخروج عن هذا التمنّي و الدخول في الدين الحقيقي و الواقع العملي المحسوس.

و الأماني في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ تقرأ بالتشديد و التخفيف، و هي جمع أمنية على أفعولة، و هي الصور الخياليّة الّتي تحصل في النفس و تستلذّ بها كلّما ذكرتها، و إنّها قد تكون عن تخمين و ظنّ و قد تكون عن روية و أصل، و لكن لما كان أكثرها عن تخمين و ظنّ صار إطلاقها أكثر على ما لا حقيقة

ص: 310

له، فأكثر التمنّي تصوّر ما لا حقيقة و لا واقع له. و حديث النفس بما يكون أو لا يكون، و تشهّي حصول الأمر المرغوب فيه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا تمنّى أحدكم فليكثر، فإنّما يسأل ربّه»، يعني: إذا سأل اللّه تعالى حوائجه الشرعيّة فليكثر؛ لأنّ فضل اللّه كثير و خزائنه واسعة و رحمته عمّت كلّ شيء، و في المقام أطلقت على ما كان يذكره أهل الكتاب و ما تفاخر به بعض المسلمين مجازا؛ لبيان أنّها مجرّد صور خياليّة لا واقع لها، فردّ اللّه تعالى مزاعمهم و بيّن أنّ الواقع غير ذلك.

و يستفاد من اقتران أهل الكتاب مع بعض المسلمين أنّ هناك جهة اتّفاق بينهم، و هي أنّ الدين واقع عملي و الاختلاف في ذلك في سائر الأديان الإلهيّة، و أنّه لو رعوها لكانت الأديان كلّها تسير في جهة واحدة، و لما وجد الاختلاف بينها، و لما وقعت هذه المصائب.

قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ .

بيان للحقيقة و الواقع في هذا الأمر العظيم الّذي قلّ ما يخلو منه مجتمع أو مذهب، فإنّه بعد أن نفى جلّ شأنه كون التمنّي موجبا لكسب فضيلة أو جلب منفعة أو نيل جزاء، فضلا عن الجزاء العظيم الّذي أعدّه اللّه تعالى للمؤمنين، إلاّ أنّ هذا النفي القاطع الحاسم قد يجعل المؤمن الّذي يدخل في دين - سواء كان دين الإسلام أم النصرانيّة أم اليهوديّة - مورد السؤال؛ لأنّ الدخول في الدين إذا لم يكن نافعا و لم يجر له خيرا فماذا يفعل و هذه هي حاله، بل أنّ كلّ سامع لذلك يتشوّق إلى استبانة الحقّ و حكم اللّه تعالى في هذا الأمر؛ فيبيّن عزّ و جلّ الجواب في هذه الآية الكريمة عقيب تلك الآية الشريفة بغير فصل و بصيغة العموم، فقال تعالى: إنّ كلّ من يعمل سوءا يجد جزاءه و لم يكن له وليّ و لا نصير ينصره من جزاء أعماله، كما أنّ من يعمل من الصالحات يدخل الجنّة.

ثمّ إن إطلاق قوله تعالى: يُجْزَ بِهِ يشمل جزاء الدنيا ممّا قرّرته الشريعة -

ص: 311

كالقصاص، و الحدود، و نحو ذلك - و كذا الأمراض و أنواع الأسقام و الهموم أو الغموم و المصائب، ممّا لم يكن للإنسان فيه الاختيار، كما يدلّ عليه بعض الأحاديث على ما يأتي في البحث الروائي - و الجزاء الأخروي الّذي أوعده اللّه عزّ و جلّ في كتابه الكريم أو على لسان نبيّه العظيم صلّى اللّه عليه و آله.

كما أنّ إطلاق قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يشمل ما إذا كان السوء من المعاصي الكبيرة أم الصغيرة، أم غير المعاصي حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق و الأفعال السيئة العرفيّة.

قوله تعالى: وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً .

فإنّ ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها كترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ من يعمل السوء يجد جزائه و هو يتحمّل تبعاته، و لا يصرفه عنه صارف؛ لأنّه من الأثر الطبيعي لعمله، و لن يتخلّف الأثر عن مؤثّره، فلا يوجد ولي من الأولياء الّذين يواليهم يصرف عنه الجزاء و لا نصير ينصره و يدفع عنه العذاب، إلاّ أن يأذن اللّه تعالى لهم في الشفاعة.

و لا فرق في الولي بين من كان معصوما كالنبيّ أو الإمام، أو غير معصوم ممّن يعتقد ولايته.

و لعلّ ذكر الولي و النصير كليهما ليشمل صارف الدنيا و الآخرة، فالولي في الدنيا و النصير في الآخرة، أو ليشمل جميع أنحاء التقرّب من الإسلام و الدين و النسب و التقرّب إلى الأولياء و الأنبياء و غيرهم ممّا يعتقد نفعه.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ ........

قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي أنّ النجاة في الدنيا و الآخرة إنّما تكون بالإيمان و الأعمال، و هذا هو الدين الحقيقي، و قد اشترط عزّ و جلّ في النجاة من العذاب أمرين الإيمان قال تعالى: وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ، و تدلّ عليه آيات أخرى،

ص: 312

قال تعالى: وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الانعام، الآية:

88]، فلا فائدة في العمل بدونه. و الثاني العمل الصالح، فإنّ الجزاء الأحسن إنّما يكون بإزاء العمل الصالح، و يستفاد من ذلك أنّه لا جزاء حسنا على أعمال الكافر و إن كانت صالحة، فلا اعتداد بها إلاّ أنّه قد تفيده في تخفيف بعض أنواع العذاب، كما تدلّ عليه بعض الأخبار، كما أنّه لا ينال الجزاء العظيم الّذي خلا عن العمل الصالح.

و (من) في قوله تعالى: مِنَ اَلصّالِحاتِ تبعيضيّة تدلّ على أنّ الإتيان ببعض الأعمال الصالحة يكفى في نيل الجزاء الأحسن، و يتدارك به ما بقي من الأعمال الصالحة، كما يتدارك به و بالتوبة آثار المعاصي و السيئات الّتي يقترفها المؤمن، قال تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و قال تعالى: إِنَّمَا اَلتَّوْبَةُ عَلَى اَللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ اَلسُّوءَ [سورة النساء، الآية:

17]، و تقدّم في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ * [سورة النساء، الآية: 116] بعض الكلام، كما مرّ تفصيل المقال في بحثي التوبة و الشفاعة في سورة البقرة فراجع.

و ذكر بعضهم أنّ (من) في الآية الكريمة زائدة، و لكنّه بعيد عن سياق الآية المباركة الّتي هي في مقام البيان و الدقّة فيه، كما أنّ كونها تبعيضيّة تناسب الفضل الإلهي العميم.

و (من) في قوله تعالى: مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى للتأكيد على أنّ النساء لهن المثوبة كما تكون للرجال، و لا فرق بين الفريقين عند اللّه تعالى في الجزاء الحسن و الأجر العظيم، إلاّ أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم.

كما تدلّ الآية الكريمة على تساوي النساء و الرجال في أمور الدين، و أنّ الأعمال الصالحة تصلح النفوس مطلقا، سواء كان العامل ذكرا أم أنثى. و فيها ردّ على مزاعم بعض الناس في النساء، حيث اعتبروهن ذليلات في الخلقة و حرموهن

ص: 313

من كثير من أمور الدنيا، حتّى وصل الأمر إلى إهلاكهن عند بعض الأقوام، كما كانت العادة عند مشركي العرب، و قد تقدّم في قوله تعالى: أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ [سورة آل عمران، الآية: 194]، فراجع.

قوله تعالى: وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً .

تأكيد لما ذكره عزّ و جلّ آنفا من وصول كلّ من عمل الصالحات إلى الجزاء الحسن و الثواب الجزيل، من غير أن ينقص منه شيء و لو كان حقيرا تافها. كما يدلّ أيضا على أنّ النساء و الرجال متساوون في نيل الجزاء و درك الثواب، و لا فرق بينهما في ذلك من حيث الزيادة و النقيصة، إلاّ أن يكون التفاوت من ناحية أعمالهم، فلا يظلمون من أجور أعمالهم و لو كان بقدر النقير، و هو الثقبة الصغيرة في ظهر النواة، و منها تنبت النخلة، و صار علما للقلّة و الحقارة، و في حديث ابن عباس في الآية الشريفة: «وضع طرف إبهامه على باطن سبابته ثمّ نقرها و قال هذا النقير»، و تقدّم الكلام في آية 49 و 53 من هذه السورة في اشتقاق الكلمة. و نبّه عزّ و جلّ بعدم تنقيص الثواب، فبالأحرى أن لا يزاد عقاب العاصي أيضا، و إنّما لم يذكره عزّ و جلّ ؛ لأنّه أرحم الراحمين، و فضل منه جلّت عظمته للعبيد، و المقام مقام الترغيب الى العمل الصالح، و عن بعض أنّ الحكمة في ذلك - مضافا إلى ما تقدّم - لئلاّ يفلس العبد لو اجتمع الخصماء في يوم القيامة عنده، فيدفع إليهم واحدة و يبقى له البقية، و هذا من لطفه و عنايته لعباده؛ لأنّ مظالم العباد توفّى من التضعيفات لا من أصل الحسنات، فما ذكره يرجع بالآخرة إلى ما تقدّم.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ .

بعد أن بيّن عزّ و جلّ أمر الدين و أنّ حقيقته عند اللّه تعالى هو الاعتقاد السليم و العمل الصالح، و أنّ السعادة منوطة بهما معا، كما أنّ الجزاء مطلقا - حسنا كان أم سيئا - إنّما يكون على الأعمال ن فلا جزاء بدون عمل، و لا عمل بدون

ص: 314

جزاء، يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أنّ للإيمان مراتب متفاوتة أدناها مجرّد الدخول فيه؛ لأنّ للدين و الإيمان باللّه تعالى كرامة، و هو حسن على كلّ حال، بل الإنسان لا مناص له عن الدين، فإنّه أمر فطري، و هو لا محالة يرجع إليه في كثير من شؤونه الدنيويّة و الأخرويّة، و إن أنكره بلسانه، و أعلى تلك المراتب و أحسنها الّتي بها يجوز درجات الثواب، الإيمان الخالص، و هو التوحيد الكامل للّه تعالى و توجيه القلب إليه و التسليم و الإحسان في العمل، و هذا هو ملّة إبراهيم عليه السّلام الّتي أمرنا اللّه تعالى باتّباعها، و هي أيضا ملّة محمد صلّى اللّه عليه و آله، و تقدّم في قوله تعالى: بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ [سورة البقرة، الآية: 112]، أنّ المراد منه جعل وجهه خالصا للّه تعالى لا يتوجّه لغيره أبدا، منقادا و مستسلما له عزّ و جلّ يأتمر بأوامره و سائر تشريعاته، خاضعا له خضوع عبوديّة و مقهوريّة، و هذا هو الإيمان الخالص من شوائب الشرك، و هو التوحيد الكامل الّذي به وصل الأنبياء عليهم السّلام و الأولياء إلى المقامات العالية و حازوا شرف القرب لديه عزّ و جلّ ، و فيه تظهر عبودية المؤمن، فيكون ترتّب قوله تعالى: وَ هُوَ مُحْسِنٌ على صدر الآية المباركة ترتّبا عليّا، فإنّ من أسلم وجهه للّه يستلزم أن يظهر عليه أمارات العبوديّة - على أقواله و أفعاله و حركاته و سكناته - و يتخلّق بأخلاق اللّه تعالى، فيحسن في العمل بإتيان العبادات و ترك ما ينافي العبوديّة.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ الوجه بالذكر دون سائر أعضاء الإنسان مع أنّ الإسلام للّه تعالى، لا بدّ أن يظهر على جميع جوارحه؛ لأنّ الوجه أهمّ مظهر للإنسان، و منه يعرف حالاته و ما يكمنه في قلبه و يكنّه في نفسه من القرح و السرور و الإقبال و الإدبار و الخشوع و الخضوع و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً .

الحنيف: الميل عن الوثنيّة و الشرك، و الملّة الحنيفيّة هي الملّة المائلة عن الشرك و الوثنيّة و الزائغة عن الأديان الباطلة، و هي من صفات دين الإسلام، و قد

ص: 315

وصف بها خليل اللّه تعالى لتبرّئه عن الشرك و الأوثان، و دعوته إلى عبادة الواحد الأحد.

و الآية الشريفة بيان لما سبق، أي: أنّ تسليم الوجه للّه تعالى و الإحسان في العمل إنّما هو في اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام و الإعراض عن سائر الأديان الفاسدة و الأهواء الزائفة، و من تبعها فقد دخل في جميع الأديان الإلهيّة، لا سيما دين خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّها هي ملّته عليه السّلام أيضا.

و في الآية المباركة التأكيد على أنّ ملّة إبراهيم عليه السّلام هي صفوة الأديان؛ لأنّ فيها التوحيد الخالص و إحسان العمل، و قد تردّد في القرآن الكريم كثيرا ذكر الصلة بين دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و ملّة إبراهيم عليه السّلام؛ لأنّ إبراهيم عليه السّلام ما كان يدعو لا إلى التوحيد و نبذ الأنداد و الإحسان في العمل، و هذه هي دعوة أشرف الأنبياء و خاتمهم صلّى اللّه عليه و آله؛ و لأنّ العرب و مشركي قريش بالخصوص و أهل الكتاب من اليهود و النصارى كانوا يدّعون أنّهم على دين إبراهيم عليه السّلام، فالآية الكريمة تأخذهم بما أقرّوا به فتقول: أن من كان على ملّة إبراهيم عليه السّلام فلا بد أن يدخل في دين محمد صلّى اللّه عليه و آله؛ لأنّهما تلتقيان في التوحيد و نبذ الأنداد و الإحسان في العمل، و هذه حقيقة الدين الّتي لا اختلاف فيها، و الّتي أمرنا اللّه تعالى باتّباعها في ما سبق من الآيات الكريمة الّتي فيها ردّ على الضالّين المتّبعين للشيطان المشغولين بالأماني الخادعة.

قوله تعالى: وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً .

ترغيب إلى اتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام و الدخول في حقيقة الدين و بيان إلى أنّ من أسلم وجهه للّه و هو محسن يسلك مسلك إبراهيم، فيتّخذه اللّه تعالى خليلا، و إيماء إلى أنّ إبراهيم هو أوّل من أسلم وجهه للّه محسنا، و إيذان بأنّ إبراهيم في نهاية الحسن و منتهى الشرف و كمال العبوديّة، لتخصيص اسمه الشريف بالذكر. أي:

أنّ اللّه تعالى اصطفاه و خصّه بكرامة الخلّة، و هي من المقامات العالية و المنازل الرفيعة، و لن ينالها إلاّ الأوحدي الّذي ترك ما سواه عزّ و جلّ لوجهه الكريم،

ص: 316

فأورد في قلبه محبّة لمعبوده و توجّها لخالقه، و لم يصل الخليل إلى هذا المقام إلاّ بعد اجتياز مراحل و طي منازل كثيرة، و هي مرحلة الفتنة و الافتنان ثمّ الامتحان ثمّ التسليم، ثمّ العبوديّة، ثمّ النبوّة، ثمّ الرسالة، ثمّ الخلّة، ثمّ الإمامة، و قد اجتازها إبراهيم عليه السّلام كلّها بأمان، فخصّه اللّه تعالى بالخلّة و الإمامة، كما يظهر ذلك من الآيات الشريفة الّتي نزلت في حقّ إبراهيم عليه السّلام، و في الحديث عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «انّ اللّه تبارك و تعالى اتّخذ إبراهيم عبدا قبل أن يتّخذه نبيّا، و إنّ اللّه تعالى اتّخذه خليلا قبل أن يجعله إماما»، و لعلّ ذكره في صدر الآية المباركة و توصيفه بكونه حنيفا لأجل بيان استعداده لنيل مقام الخلّة. و أنّ ترك ما سوى اللّه تعالى و تسليم الأمر إليه عزّ و جلّ ممّا يوجب استعداد الفرد للوصول إلى هذه المنزلة.

ثمّ إنّ الخلّة الإلهيّة كالخلّة الّتي هي بين الناس تبتني على فرط الحبّ بين الحبيبين و تخلّلها في القلب و تمازجها مع النفس، إلاّ أنّ الخلّة الإلهيّة تخالف الخلّة الدائرة بين الناس المبتنية على الأمور المادّية الّتي تكون الأواصر الدنيويّة فيها أشدّ من الأواصر المعنويّة الروحانيّة. و أمّا الخلّة الإلهيّة، فهي ليس فيها خلل، فقد أحبّه اللّه تعالى محبّة تامّة و اصطفاه عند ما أظهر صدقه و إخلاصه للّه تعالى و محبّته له محبّة كاملة ملأت جميع مشاعره، فلم يتوجّه إلاّ إليه عزّ و جلّ و لم يتخلّلها و هن و لا ضعف و لا فترة و لا شائبة من شوائب المادّة، و بذلك صار إبراهيم عليه السّلام خليلا للّه تعالى و بها أصبح قدوة لكلّ خليل إلهي و إماما لجميع الأنبياء و المرسلين.

و مادّة (خلل) تدلّ على الحاجة و الفقر، و منه سمّي الخليل خليلا؛ لأنّ كلّ واحد من الخليلين محتاج إلى وصال الآخر و غير مستغن عنه، و إلى هذا المعنى يمكن إرجاع بقية المعاني الّتي ذكرت لهذه المادّة، فإنّ منها: الخلال (بكسر الخاء)، أي: المودّة الّتي تتخلّل النفس و تخالطها، بحيث تسلب منها الإرادة إلاّ ما كانت في جهة إرادة الحبيب، كما قال الشاعر:

قد تخلّلت مسلك الروح مني *** و لذا سمّي الخليل خليلا

فإذا ما نطقت كنت حديثي و إذا ما سكتّ كنت الغليلا

ص: 317

و منها الخلل (بفتح الخاء)، بمعنى أنّ كلا من الخليلين يصلح خلل الآخر، لشدّة الوصال بينهما.

و منها: الخلل (بالفتح)، و هو الطريق في الرمل؛ لأنّ الخليلين احتاج كلّ واحد الى الآخر فتوافقا من كلّ جهة.

و منها: الخلّة (بفتح الخاء) بمعنى الخصلة و الخلق؛ لأنّهما يتوافقان في الخصال و الأخلاق، فإنّ جميع هذه المعاني ترجع إلى ما ذكرناه من شدّة الارتباط بينهما و احتياج كلّ واحد منهما إلى الآخر، و هذا المعنى ينطبق على خليل اللّه عليه السّلام لوصل حبّه له جلّ شأنه إلى درجة لم يكن له إرادة إلاّ ما أراده اللّه تعالى، فتخلّق بأخلاق اللّه تعالى، و أمّا بالنسبة إليه عزّ و جلّ فقد أحبّ إبراهيم عليه السّلام حبّا كاملا خالصا من كلّ نقص. و على أي حال فإنّ الخلّة و الحبّ أمران وجدانيان لم يكد يظهر إلاّ للعارف المتألّه الّذي بذل نفسه و نفيسة للّه تعالى، و لم تكن إرادة له إلاّ ما يريده عزّ و جلّ ، كما عرف بذلك خليل اللّه تعالى، و للخليل منزلة عظيمة إلاّ أنّها لا تصل الى منزلة الحبيب، كما تقدّم في الآيات السابقة المناسبة للمقام و سيأتي مزيد بيان في البحث العرفاني.

و الخليل: فعيل بمعنى المفعول، كالحبيب الّذي هو بمعنى المحبوب.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

تعليل لما ذكره عزّ و جلّ في الآية الكريمة السابقة، أي: أنّ اللّه تعالى مالك لجميع ما في السموات و ما في الأرض، و أنّ جميع الموجودات له تعالى خلفا و أمرا و ملكا، فلا يخرج عن ملكه و ملكوته شيء، فلا بدّ أن تكون عمل الصالحات له و هو يختار من عباده من يشاء و يصطفيه بمحض مشيئته، كما اختار إبراهيم عليه السّلام و جعله خليلا، و أنّ اختياره لم يكن لأجل حاجة و افتقار كما في الخلّة بين الناس، فإنّها قائمة على الفقر و الحاجة بين الطرفين، و اللّه تعالى منزّه عنهما.

ص: 318

و الآية الشريفة تدلّ على أنّ جميع ما سواه محتاج إليه عزّ و جلّ ، و هو مستغن عنها، كما ثبت ذلك أيضا بالبراهين العقليّة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً .

أي: أنّ الأشياء كلّها مسخّرة تحت إرادته و قهّاريته، و هو محيط بها إحاطة علم و قدرة و تدبير و قهر و غلبة، فهو محيط بأفعال عباده و سيجازيهم بها جزاء تامّا.

و الآية الكريمة دليل على أنّه وحده المستحقّ للعبادة، و إسلام الوجه إليه على كلّ حال، و هذا هو الدين، لا ما يذكره أهل التمنّي و الأهواء الباطلة، و في الآية المباركة التذكير بقدرته تعالى على إنجاز وعده و وعيده.

ص: 319

بحوث المقام
بحث أدبي:

اسم (ليس) في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ مستتر فيها يعود على الوعد بالمعنى المصدري، أو الموعود المستفاد من سياق الآية الشريفة، فهو قسم من الاستخدام الّذي هو من الأساليب البديعيّة المعروفة و من المحسنات في الكلام.

و الباء في قوله تعالى: بِأَمانِيِّكُمْ قيل: إنّها زائدة، و الحقّ أنّها مثل الباء في قولهم: (زيد بالباب)، لم تكن زائدة.

و الأماني في الموضعين بتشديد الياء، و قرأ بعضهم بتخفيف الياء فيهما معا.

و قوله تعالى: وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اَللّهِ بالجزم عطفا على قوله تعالى:

يُجْزَ بِهِ ، و قرأ بعضهم بالرفع استئنافا.

و (من) الجارّة في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ تبعيضيّة، و هي الموافقة لكرمه وسعة رحمته عزّ و جلّ ، و قيل: إنّها زائدة، و لكنّه ليس بشيء لما عرفت غير مرّة أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم.

و قوله تعالى: فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ إشارة إلى من اتّصف بالعمل الصالح، و الجمع باعتبار معناها، و الإشارة بالبعيد لأجل علو مقامهم و بعد منزلتهم، و المعروف قراءة «يدخلون» مبنيا للمعلوم من دخل، و قرأ بعضهم مبنيا للمفعول من الإدخال.

و (دينا) في قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً منصوب على التمييز من (أحسن) منقول من المبتدأ، أي: و من دينه أحسن من دين من أسلم.

وَ هُوَ مُحْسِنٌ مبتدأ و خبر، و الجملة في موضع الحال، و حَنِيفاً حال من إبراهيم أو من فاعل اِتَّبَعَ .

ص: 320

و جملة وَ اِتَّخَذَ اَللّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً قيل: إنّها حاليّة بتقدير «قد»، و قيل:

إنّها عطف على حَنِيفاً ، و قيل: إنّها عطف على مَنْ أَحْسَنُ ، و الحقّ أنّها جملة بيانيّة مستقلّة متضمّنة لتعليل ما سبق.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات المباركة على أمور:

الأوّل:

يستفاد من ترتّب قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ على قوله تعالى: يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ اَلشَّيْطانُ إِلاّ غُرُوراً أنّ هذه الأماني من غرور الشيطان و أمانيه، الّتي تضرّ بحال الإنسان و تصدّه عن نيل الكمال و البلوغ إلى مقام القرب و تحصيل السعادة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ على أنّ الجزاء مترتّب على العمل كترتّب المعلول على العلّة التامّة بحسب سنّة اللّه تعالى: فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اَللّهِ تَبْدِيلاً [سورة فاطر، الآية: 43]، و عمومه يشمل كلّ جزاء، سواء كان في الدنيا أو في الآخرة، و سواء كان الجزاء حكما شرعيّا أو لم يكن كذلك، و هو يدلّ أيضا على أنّ ما يصيب الإنسان من السوء في الدارين إنّما يكون من سوء فعله، و تدلّ عليه جملة من الروايات الآتية في البحث الروائي. و ذكرنا أنّ إطلاق السوء يشمل حتّى السيئات العرفية و مساوئ الأخلاق، فضلا عن المحرّمات الإلهيّة و المعاصي و المنكرات.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: يُجْزَ بِهِ أنّ الجزاء يترتّب على فعله، بلا فرق بين أن يكون متوجّها إلى نفسه أو إلى من يتعلّق به، فما يصيب الأطفال و الأعقاب إنّما يكون نتيجة فعل الآباء و الأجداد، و تدلّ عليه جملة من الروايات ذكرنا بعضها في المباحث السابقة، و في ذلك حكم كثيرة لعلّنا نتعرّض لها في مستقبل الكلام بعد

ص: 321

فسحة الحال و رفع الشدائد الّتي توجّهت على المؤمنين من ظالم غاشم، نسأل اللّه تعالى الفرج بحوله و قوّته جلّ شأنه.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ على أنّ صرف العبد نفسه بكلّيتها للّه تعالى و تسليمها إليه، بحيث يعرض عن الأغيار حتّى صار مشاهدا للجمع في عين التفصيل - من أعلى المراتب الّتي يمكن أن يبلغها البشر، و بها يستعد أن يصل إلى مقام الخلّة، و لا يمكن الحصول عليه إلاّ باتّباع ملّة إبراهيم عليه السّلام الّذي حاز على هذا الوسام الإلهي لاجتيازه كلّ تلك المراحل الّتي يأتي بيانها.

بحث روائي:

عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ يعني: «ليس ما تتمنّون أنتم و لا أماني أهل الكتاب أن لا تعذّبوا بأفعالكم».

أقول: الروايات في ذلك كثيرة من الفريقين، و المستفاد منها أنّ العذاب و الثواب لا يكونان إلاّ على الكفر أو الإيمان و العمل الصالح كما مرّ، و ليس لأحد التحدّي في سلطانه تعالى، و أنّه ليس لأحد و لا لأمّة التقرّب عنده عزّ اسمه إلاّ بالتقوى، فما قالته قريش: لا نبعث و لا نحاسب، و ما قالته اليهود و النصارى: لَنْ يَدْخُلَ اَلْجَنَّةَ إِلاّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى [سورة البقرة، الآية: 111]، أو: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُودَةً [سورة البقرة، الآية: 80]، كلّها مجرّد أوهام لا واقع لها، بل هو يعذّبكم و يثيبكم بأفعالكم و أعمالكم، و أنّ الإيمان ليس بالتحلّي و لا بالتمنّي، و إنّما الإيمان ما وقر في القلب و صدقه العمل كما تقدّم، و أنّ التمنيات من سبل الشيطان فلا بدّ من نبذها.

ص: 322

و في الدرّ المنثور عن أبي صالح قال: «جلس أناس من أهل التوراة و أهل الإنجيل و أهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم، و قال هؤلاء: نحن أفضل، فقال اللّه: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ ، ثمّ خصّ اللّه أهل الإيمان فقال: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ ».

أقول: قريب منه ما في أسباب النزول للواحدي، و الروايات بهذا المضمون كثيرة، و كلّها من باب التفسير للآية الكريمة.

و في أسباب النزول للواحدي عن مسروق: «احتجّ المسلمون و أهل الكتاب، فقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم، نبيّنا قبل نبيّكم و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى باللّه منكم، و قال المسلمون: نحن أهدى منكم و أولى باللّه، نبيّنا خاتم الأنبياء و كتابنا يقضي على الكتب الّتي قبله، فأنزل اللّه تعالى: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ اَلْكِتابِ ، ثمّ أفلج اللّه حجّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان بقوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ ، و بقوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ الآيتين في سورة النساء».

أقول: أفلج: أي غلّب اللّه حجّة المسلمين على غيرهم، و عن معن بن يزيد:

«بايعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و خاصمت إليه فأفلجني»، أي: حكم لي و غلّبني على خصمي.

و كيف كان، فالروايات لا تدلّ على شيء زائد غير ما يستفاد من الآية الكريمة، و هي مع اختلافها من باب التطبيق.

ص: 323

و ذراريكم ؟ قالوا: بلى، قال: هذا ممّا يكتب اللّه لكم به الحسنات و يمحو به السيئات».

أقول: ابتلاء المؤمن في نفسه - بالآلام و الهموم و المحن - أو في أمواله الموجب للحطّ و التكفير ممّا لا إشكال فيه كما دلّت عليه الآية الكريمة، و إنّ ذلك مطابق لقاعدة أنّ الأجر على قدر المصاب - خصوصا لو كان المصاب في سبيل اللّه تعالى أو ما استلزم الانقطاع إليه عزّ اسمه - بلا فرق في الأجر بين المادّي أو المعنوي، كغفران الذنوب أو بلوغ مرتبة و نيل كرامة.

و أمّا الذراري، فإنّ محنهم و آلامهم و مصائبهم توجب الأجر للآباء، مع أنّهم لم يصيبوا منها بشيء؛ لأنّ هموم الأولاد و الذراري توجب هموم الآباء، و لكلّ همّ أجر، فيردّ الأجر عليهم كما يردّ على نفس الأولاد و الذراري أيضا.

أو لأنّ الآباء صاروا سببا لإيمان الذراري و الأولاد أو كفرهم، فكلّ ما طرأ على الذراري من الأجر يصل إلى الأسباب أيضا، كما دلّت عليه الأدلّة العقليّة و النقليّة، ففي العوالي عن الصادق عليه السّلام: «أوحى اللّه إلى موسى عليه السّلام: إنّي مجازي الأبناء بسعي الآباء، إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، لا تزنوا فتزني نساؤكم، من وطئ فراش مسلم و طئ فراشه. كما تدين تدان».

أو لأنّ فعل الأولاد يرجع بالآخرة إلى الآباء و الأجداد، فيرد عليهم الأجر كما يرد على نفس الأولاد و الذاري، و يدلّ عليه إطلاق الآية الكريمة: يُجْزَ بِهِ ، سواء كان الجزاء على الفاعل أو من يتعلّق به.

كما أنّ إطلاق السوء يشمل ما كان من المعاصي - كبيرة كانت أو صغيرة - أو من غيرها، حتّى لو كان من مساوئ الأخلاق و الأفعال السيئة العرفيّة الاجتماعيّة.

و الروايات - في أنّ البلايا و المحن و الهموم و ما يرد على المؤمن من الظلم

ص: 324

مكفّرة للمعاصي و الذنوب، أو يبلغ بها منزلة و كرامة عند اللّه تعالى فوق حدّ التواتر، و موافقة للقاعدة العقليّة كما يأتي.

و في صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما يصيب المؤمن من نصب، و لا همّ ، و لا حزن، و لا غمّ حقّ الشوكة يشاكها إلاّ كفّر اللّه تعالى من خطاياه».

أقول: لعلّ الوجه في ذلك أنّ تلك الحالات للمؤمن أقرب للانقطاع إليه جلّت عظمته، فيكافئه الربّ الرحيم إمّا بغفران الذنوب، أو ببلوغ منزلة.

و عن البيهقي في الأسماء و الصفات بسنده عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا سبقت للعبد منزلة لم يبلغها بعمله، ابتلاه اللّه في جسده أو في ماله، أو في ولده، ثمّ صبّره حتّى يبلغه المنزلة الّتي سبقت له من اللّه».

أقول: يستفاد منه أنّ البلوغ إلى المنزلة لا بدّ و أن يكون بالسعي، سواء كان اختيارا أو غير اختياري، كالمحن و البلايا، بل لا يستحقّ منزلة منه تعالى إلاّ بذلك، ففي الأثر: «مرّ موسى عليه السّلام على رجل في معبد له ثمّ مرّ به بعد ذلك و قد مزقت السباع لحمه، فرأس ملقى، و فخذ ملقى، فقال موسى: يا ربّ عبدك كان يطيعك فابتليته بهذا؟ فأوحى اللّه تعالى إليه: يا موسى إنّه سألني درجة لم يبلغها بعمله فابتليته بهذا لأبلغه بتلك الدرجة»، فتكون جميع هذه الروايات مطابقة للقاعدة من أن العبد لو لم يفتن في هذه الدنيا - أو في عالم البرزخ على ما تقدّم - و لم يبتل بالبلايا و المحن حتّى يتحقّق السعي، لم يبلغ تلك الدرجة الكاملة في الإيمان و لم يصل إلى تلك المقامات العالية، و هذه القاعدة في الأنبياء و الأولياء أشدّ من غيرهم؛ لأنّ معرفتهم أكثر من غيرهم، و قد سئل نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: أي الناس أشدّ بلاء؟ قال:

النبيّون ثمّ الأمثل فالأمثل من الناس، فما يزال العبد بالبلاء حتّى يلقى اللّه و ما عليه من خطيئة».

ص: 325

و عن البيهقي عن عامر أخي الخضر قال: «إنّي لبأرض محارب إذا رايات و ألوية فقلت: ما هذا؟ قالوا: رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فجلست إليه و هو في ظلّ شجرة قد بسط له كساء و حوله أصحابه، فذكروا الأسقام فقال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ العبد المؤمن إذا أصابه سقم ثمّ عافاه اللّه، كان كفّارة لما مضى من ذنوبه و موعظة له فيما يستقبل من عمره، و إنّ المنافق إذا مرض و عوفي كان كالبعير عقله أهله ثمّ أطلقوه، لا يدري فيم عقلوه و لا فيم أطلقوه ؟! فقال رجل: يا رسول اللّه ما الأسقام ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: أو ما سقمت قط؟! قال: لا، قال صلّى اللّه عليه و آله: فقم عنّا فلست منّا».

أقول: يستفاد من هذا الحديث أمور: الأوّل: أنّ التكفير يختصّ بالمؤمن، و أنّه امر وضعي.

الثاني: أنّ المؤمن لا بدّ و أن يصيب من البلايا و المحن، فإذا لم يصبه شيء منهما و لو كان قليلا لم يكن إيمانه كاملا.

الثالث: أنّ الحطّة أو التطهير يكونان بعد مقام التسليم و الرضا له تعالى، فلو صدر منه شكوى إلى الناس تنافي ذلك المقام، يكون التكفير منوطا بالشفاعة و غيرها.

الرابع: أنّ الحطّة أو التكفير إنّما يكون بعد أداء حقوق الناس؛ للروايات الدالّة على ذلك كما مرّ.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الجنّة محظور عليها بالدآليل»، أي:

الدواهي و المكاره.

أقول: لا فرق في ذلك بين أن يكون في هذه الدنيا أو في عالم البرزخ، و أنّها من أي الأنواع كانت كما مرّ.

و عن البيهقي في سننه عن طريق بشير بن عبد اللّه بن أبي أيوب الأنصاري عن أبيه عن جدّه، قال: «عاد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله رجلا من الأنصار فأكبّ الأنصاري عليه فسأله فقال: يا نبي اللّه، ما غمضت منذ سبع ليال و لا أحد يحضرني، فقال

ص: 326

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أي أخي اصبر، أي أخي اصبر تخرج من ذنوبك كما دخلت فيها، فقال صلّى اللّه عليه و آله: ساعات الأمراض (او البلايا) يذهبن ساعات الخطايا».

أقول: يستفاد منه أنّ التكفير أمر وضعي و إن كان مشروطا بشروط، كما تقدّم في المباحث السابقة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ اِتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً قال:

«هي الحنيفيّة العشرة الّتي جاء بها إبراهيم عليه السّلام الّتي لم تنسخ إلى يوم القيامة».

أقول: إنّ العشرة الحنيفيّة قد فسّرت في بعض الروايات: «إنّ الحنيفيّة هي الإسلام»، و إنّها مذكورة في الفقه، و يشمل غيرها من الأحكام بطريق أولى، و هي خمس في الرأس و خمس في البدن، فأمّا الّتي في الرأس، فأخذ الشارب، و إعفاء اللحي، و طم الشعر (أي جزه)، و السواك، و الخلال. و أمّا الّتي في البدن فحلق الشعر من البدن، و الختان، و قلم الأظفار، و الغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و هذه الحنيفيّة الظاهرة. و أمّا أنّها لم تنسخ لكونها هي الفطرة غير القابلة للنسخ و تقدّم في قوله تعالى: بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً [سورة البقرة، الآية: 135]، ما يتعلّق بالمقام.

و عن ابن بابويه في العيون بإسناده عن الحسين بن خالد عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سمعت أبي يحدّث عن أبيه عليه السّلام قال: إنّما اتّخذ اللّه خليلا؛ لأنّه لم يرد أحدا و لم يسأل أحدا قط غير اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: و قريب منه ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و تقدّم أنّ الخلّة من الخلال، فإنّه ود تتخلل في النفس و تخالطها و لم يكن معه غيره، و إلاّ خرج عن الخليليّة و الودّية.

و الروايات الواردة في سبب اتّخاذ إبراهيم خليلا كثيرة، و هي مختلفة كما سيأتي، و يمكن رفع الاختلاف بأنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما صار خليلا لتخلّقه بأخلاق اللّه تعالى و اتّصافه بسمو نعوته و الانقطاع إليه، و لم يتّصف بصفة منها دون الاخرى، فالروايات كلّها على اختلافها صحيحة من باب ذكر بعض الصفات، و لا يعقل أن ينقص من إبراهيم عليه السّلام الّذي هو من مظاهر رحمته و إنّه الوفي شيئا من المكارم و سمو

ص: 327

الصفات، و يمكن استفادة ذلك من قوله تعالى: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً [سورة النحل، الآية: 120]، أي: قائما مقام الأمّة في ذروة الصفات الحسنة و أسماها.

و قد تجلّت هذه الخلّة و المحبّة و المقام المحمود لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فنال شرف الوصول إلى قرب الذات و تكرّم بوسام الفخر بالتفوّق و الشرف على جميع الأنبياء كما مرّ.

و في العيون بسنده عن ابن أبي عمير عن الصادق عليه السّلام قلت له: لم اتّخذ اللّه عزّ و جلّ إبراهيم خليلا؟ قال: لكثرة سجوده على الأرض».

أقول: هذه الرواية تدلّ على أنّ السبب في اتّخاذه تعالى خليلا هو الانقطاع إليه عزّ اسمه بالعبادة، فإنّ السجود على الأرض من أجل العبادات و أسماها، و في بعض الروايات لكثرة صلاته على محمد و أهل بيته، فهي أيضا منها. و في حديث جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما اتّخذ اللّه إبراهيم خليلا إلاّ لإطعام الطعام و الصلاة بالليل و الناس نيام»، فإنّ إطعام الطعام من مظاهر صفاته تعالى، أي: الجود.

و في الدرّ المنثور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن جبرئيل عليه السّلام أنّه هبط على إبراهيم عليه السّلام و قال: «أيّها الخليل هل تدري بم استوجبت الخلّة ؟ فقال: لا أدري يا جبرئيل، قال:

لأنّك تعطي و لا تأخذ».

أقول: و في بعض الروايات: «لأنّك ترزأ و لا ترزأ»، أي: تعطي للناس و لا تأخذ منهم شيئا، و هذا من مظاهر الربوبيّة و منتهى الانقطاع منه عليه السّلام إليه تعالى.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «لما اتّخذ اللّه عزّ و جلّ إبراهيم خليلا أتاه بشراه بالخلّة، فجاء ملك الموت في صورة شاب أبيض عليه ثوبان أبيضان يقطر رأسه ماء أو دهنا، فدخل إبراهيم عليه السّلام الدار فاستقبله خارجا من الدار، و كان إبراهيم رجلا غيورا و كان إذا خرج في حاجة أغلق بابه و أخذ مفتاحه معه ثمّ رجع ففتح، فإذا هو برجل قائم أحسن ما يكون الرجال فأخذ

ص: 328

بيده و قال: يا عبد اللّه من أدخلك داري، فقال ربّها أدخلنيها، فقال: ربّها أحقّ بها مني فمن أنت ؟ فقال: أنا ملك الموت، ففزع إبراهيم عليه السّلام و قال: جئتني لتسلبني روحي، قال: لا، و لكن اتّخذ اللّه عبدا خليلا فجئت لبشارته، قال: فمن هو لعلي أخدمه حتّى أموت، قال: أنت، فدخل على سارة فقال: إنّ اللّه تعالى اتّخذني خليلا».

أقول: لعلّ السرّ في أنّ البشرى بالخلّة كانت بتوسّط ملك الموت؛ لأنّ الوصول بمقام الخلّة لا يكون إلاّ بإماتة القوى الحيوانيّة موتا اختياريا، فكان صورة فعل إبراهيم عليه السّلام تجسّد له بصورة ملك الموت، و الرواية مروية عن طريق العامّة أيضا باختلاف يسير كما في الدرّ المنثور.

و في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «انّ إبراهيم كان أبا أضياف، و كان إذا لم يكونوا عنده يخرج يطلبهم و أغلق بابه و أخذ المفاتيح يطلب الأضياف، و أنّه رجع إلى داره فإذا هو برجل أو شبه رجل في الدار، فقال: يا عبد اللّه بإذن من دخلت هذه الدار؟ فقال: دخلتها بإذن ربّها، يرد ذلك ثلاث مرات، فعرف إبراهيم عليه السّلام أنّه جبرئيل، فحمد ربّه ثمّ قال: ارسلني ربّك إلى عبد من عبيده يتّخذه خليلا، قال إبراهيم: فأعلمني من هو أخدمه حتّى أموت، قال: أنت، قال: و بم ؟ قال: لأنّك لم تسأل أحدا شيئا قط، و لم تسأل شيئا قط فقلت لا».

أقول: لا منافاة بين هذه الرواية و سابقتها من حيث أنّ المبشّر في هذه الرواية هو جبرئيل، و في الاولى ملك الموت؛ لما تقدّم أنّ المراد من ملك هو صورة فعل إبراهيم. كما لا منافاة بين ما في هذه الرواية في الدار، و في الرواية الأولى:

«خارجا من الدار»، لما فيه من النكتة و هي الإشارة إلى فراغ إبراهيم عليه السّلام من تكميل ذاته بالموت الاختياري.

و يمكن الجمع بين الروايتين بحسب الصناعة الظاهريّة بتعدّد الملك، فملك الموت بشّره خارج الدار، و جبرئيل في داخل الدار.

ص: 329

و في تفسير العياشي عن ابن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا سافر أحدكم فليأت أهله ممّا تيسّر و لو بحجر، فإنّ إبراهيم عليه السّلام كان إذا ضاق أتى قومه، و انّه ضاق ضيقة فأتى قومه فوافق منهم أزمة، فرجع كما ذهب فلما قرب من منزله نزل عن حماره فملأ خرجه رملا؛ إرادة أن يسكن به من روح سارة، فلما دخل منزله حطّ الخرج عن الحمار و افتتح الصلاة، فجاءت سارة ففتحت الخرج فوجدته مملوء دقيقا، فاعتجنت منه و اختبزت ثمّ قالت لإبراهيم: انفتل من صلاتك فكل، فقال لها: أنى لك هذا؟! قالت: من الدقيق الذي في الخرج، فرفع رأسه إلى السماء فقال: اشهد أنّك الخليل».

أقول: الروايات و إن اختلفت تعابيرها و أنّها وردت من الفريقين إلاّ أنّ مضامينها من حيث المعجزة و خرق العادة متّحدة، و يستفاد منها أنّ المحبّة منه عليه السّلام له تعالى كانت خالصة - كما فسّر الخلّة بها - و أنّه تعالى نصره و لم يخذله فيكون ذلك من مظاهر النصرة.

و في بعض الروايات: «انّ الملائكة قال بعضهم لبعض: اتّخذ ربّنا من نطفة خليلا، و قد أعطاه ملكا عظيما جزيلا، فأوحى اللّه تعالى إلى الملائكة اعمدوا على أزهدكم و رئيسكم، فوقع الاتّفاق على جبرئيل و ميكائيل فنزلا إلى إبراهيم في يوم جمع غنمه، و كان لإبراهيم أربعة آلاف راع و أربعة آلاف كلب، في عنق كلّ كلب طوق وزن من ذهب أحمر و أربعون ألف غنمة حلابة، و ما شاء اللّه من الخيل و الجمال، فوقف المكان في طرفي الجمع فقال أحدهما بلذاذة صوت: (سبوح قدوس)، فجاوبه الثاني: (ربّ الملائكة و الروح)، فقال عليه السّلام: عيداها و لكما ما لي و جسدي، فنادت ملائكة السموات: هذا هو الكرم، فسمعوا مناديا من العرش يقول: الخليل موافق لخليله».

أقول: صوت لذاذة، أي: ما تهيج بها النفس و تستلذّ، و يستفاد منها

ص: 330

الانقطاع الكامل منه عليه السّلام إليه تعالى و الاستغناء عن ما سواه؛ و لذا وافق خلّته معه كما مرّ.

و في الاحتجاج للطبرسي عن أبي محمد العسكري عليه السّلام قال: «قال الصادق عليه السّلام: لقد حدّثني أبي الباقر عن جدّي علي بن الحسين، عن أبيه الحسين بن علي، عن أمير المؤمنين (صلوات اللّه عليهم أجمعين)، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و قد قال رجل من النصارى: يا محمد، أو لستم تقولون: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول: عيسى ابن اللّه ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّهما لن يشتبها؛ لأنّ قولنا: إنّ إبراهيم خليل اللّه، فإنّما هو مشتقّ من الخلّة، و الخلّة فإنّما معناها الفقر و الفاقة، فقد كان خليلا و الى ربّه فقيرا و إليه منقطعا و من غيره متعففا معرضا مستغنيا؛ و ذلك لما أريد قذفه في النار فرمى به في المنجنيق، فبعث اللّه إليه جبرئيل فقال له: أدرك عبدي، فجاءه فلقيه في الهواء، فقال له: كلفني ما بدا لك فقد بعثني اللّه لنصرتك، فقال: بل حسبي اللّه و نعم الوكيل، إنّي لا أسأل غيره لا حاجة لي إلاّ إليه، فسمّاه خليله، أي: فقيره و محتاجه و المنقطع إليه عمّن سواه، و إذا جعل معنى ذلك من الخلّة، فهو أنّه قد تخلّل معانيه و وقف على أسراره و لم يقف عليها غيره، كان معناه العالم به و بأموره، فلا يوجب ذلك تشبيه اللّه بخلقه، إلاّ ترون أنّه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله، و إذا لم يعلمه أسراره لم يكن خليله، و أنّ من يلده الرجل و إن أهانه و أقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده؛ لأنّ معنى الولادة قائم».

أقول: معنى الرواية أنّ الأبنية تلازم الجنسيّة، و هي محال بالنسبة إليه تعالى بخلاف الخلّة، على ما ثبت في محلّه، و سيأتي في البحث العرفاني ما يتعلّق بالمقام.

بحث عرفاني:

العطايا الإلهيّة و الفيوضات الصادرة من المبدأ جلّ شأنه لعالم الإمكان ليست قابلة للتحديد؛ لأنّها مفاضة من المبدأ الّذي لا يمكن تحديده - لا ذاتا و لا

ص: 331

صفة - و إنّما التحديد في المتعلّق، و هو الاستعداد أو القابلية، كما تقدّم ذلك في المباحث السابقة.

و من تلك الفيوضات المعارف بجميع أنواعها، و الهداية بتمام أقسامها - كالهداية من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان، و من ظلمة الغفلة إلى نور اليقظة، و من ظلمة الحسّ إلى نور المعنى، و من ظلمة الكون إلى نور المكوّن.

و الإنسان الّذي هو أشرف مخلوقات اللّه تعالى له شرفيّة النيل لهذه الفيوضات و العطايا و الهبات أكثر من غيره، و لو اتّصف بالإيمان فله أسماها و أجلّها و إن كان إيمانه منبثقا عن الفطرة الكائنة فيه، قال تعالى: فَهَدَى اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة البقرة، الآية: 213]، و قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و قال تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ اَللّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [سورة الطلاق، الآية: 2-3]، و تقدّم مكرّرا أنّ التقوى لها مراتب، منها الإيمان باللّه العظيم، و أنّ الرزق أعمّ من المادّي و المعنوي الشامل للمعارف و الإشراقات و المكاشفات، الّتي هي أنوار التوجّه و أنوار المواجهة، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اَللّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً [سورة الأنفال، الآية: 29]، و الفرقان الّذي هو تنوير القلب و الإشراق عليه من الغيب للتمييز بين الحقّ و الباطل، يتوقّف على القابلية و الاستعداد، و هو الإيمان باللّه تعالى الملازم للتقوى، و له مبرز خارجي و هو العمل الصالح، و قال تعالى: وَ لَوْ لا فَضْلُ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً [سورة النور، الآية: 21]، أي: و لو لا فضل اللّه عليكم لما نمت نفس بالخيرات و البركات، بل أنّها ترسّبت و بقيت في حال السكون و النزول إلى الهاوية.

بل أنّ شراء الحقّ سبحانه و تعالى من المؤمنين أموالهم و أنفسهم بأنّ لهم الجنّة، كان بالعاجل لا بالآجل، فإنّه عزّ اسمه جلّ أن يعامل العبد نقدا و يجازيه

ص: 332

نسيئة، و ليس ذلك من شأن الكريم فكيف بأكرم الأكرمين، فإنّ المولى الغني جلّت عظمته لو اشترى شيئا من أحد نجزه نقدا و زاد في إحسانه و رفده، قال تعالى:

إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، فعوّض المؤمنين في هذه الدنيا جنّة المعارف بأقسامها و زادهم جنّة الزخارف و ادّخر لهم ما يليق بشأنهم و يمنحهم لهم في دار الآخرة.

و الجنّات الممنوحة في هذه الدنيا لمن تمّ عنده رسم العبوديّة و لو بأدنى مرتبتها و حسب لياقتها، في غاية البهجة و كمال اللذّة و منتهى السعادة و أسماها ما يلي:

منها: جنّة المعرفة، و هي من أعلى مراتب الجنان و أكملها، قال بعض العرفاء المتألّهين: «في الدنيا جنّة من دخلها لم يشتق إلى جنّة الآخرة و لا إلى شيء، و لم يستوحش أبدا. قيل: و ما هي ؟ قال: معرفة اللّه»، و لها مراتب و درجات تشرق بمقتضى اللياقة و الاستعداد، و بها تتمّ كلّ نقصان.

و كلّ قبيح إن نسبت لحسنه *** اتتك معاني الحسن فيه تسارع

يكمل نقصان القبيح جماله فما تم نقصان و لا ثم باشع

و منها جنّة المقامات الّتي نالها الأنبياء و الأولياء في هذه الدنيا، كمقام الحبيبيّة الّذي اختصّ به نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و هو فائق على جميع المقامات و الجنّات، و يحصل هذا المقام باصطفاء النفس و جعلها تحت اختيار المحبوب، بحيث لو لم يكن المحبوب لم يتحقّق الاصطفاء و لم يتشرّف بمقام الحبيبيّة، و يصل إلى منزلة:

وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ رَمى [سورة الأنفال، الآية: 17]، و قوله تعالى:

إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ يَدُ اَللّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح، الآية:

10]، و قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أبيت عند ربّي فيطعمني ربّي و يسقيني».

و ذكر بعضهم أنّ مقام الخلّة الّتي نالها إبراهيم عليه السّلام يساوي مقام الحبيبيّة من جميع الجوانب، و لكن التأمل التامّ و سياق الآيات المباركة يدلّ على أنّ مقام

ص: 333

الاصطفاء و الحبيبيّة فائق على مقام الخلّة بمراتب كثيرة؛ لأنّ مقام الحبيبيّة بعد مقام الاصطفاء و جعل النفس تحت اختيار المحبوب بالمرّة - كما مرّ - و مقام الخلّة لم يصل إلى هذه الدرجة ن فمقام الاصطفاء يشمل مقام الخلّة و زيادة ن بخلاف العكس فلخاتم الأنبياء - الّذي له مقام الحبيبيّة - منزلة عظيمة لم يصل لها أحد من الأنبياء.

و منها: مقام الخلّة الّتي اختصّت بإبراهيم عليه السّلام من بين سائر أنبياء اللّه تعالى، و هي منزلة عظمى لا ينالها أحد إلاّ بعد طي مراحل كثيرة منها مرحلة العبوديّة، و التسليم، و الخلوص، و فناء النفس فيه عزّ و جلّ - و في بعض الروايات كان جنّة إبراهيم عليه السّلام في هذه الدنيا هي النار بعد السلام -. و قد اجتاز إبراهيم عليه السّلام هذه المراحل بأحسن وجه حتّى نال جنّة الخلّة أيضا في هذه الدنيا، و خصّه اللّه تعالى بها دون غيره من الأنبياء عليهم السّلام، فعرف بأنّه خليل الرحمن، قال تعالى: وَ إِذِ اِبْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ [سورة البقرة، الآية: 123].

و بعد الإحاطة بما ذكرناه لا نحتاج إلى صرف لفظ الخليل عن ظاهره، لما ذكروه من أنّه تعالى منزّه عن المعنى الحقيقي، فإنّ الخلّة الحقيقيّة شيء لا يدركها إلاّ العارف باللّه تعالى و من وصل إلى هذه المرتبة، و سيأتي في الموضع المناسب بيان أنّ الصفات الّتي تطلق على المخلوقين إذا لم يستلزم من إطلاقها على اللّه محال، تطلق عليه عزّ و جلّ لكن بالمرتبة الكاملة و المعنى الأتمّ ، كالخلّة و الحبّ و نحوهما.

و كيف كان، فقد ظهر فساد ما ذكره بعض النصارى في المقام - كما تقدّم في البحث الروائي - بأنّه إذا جاز إطلاق الخليل على إنسان تشريفا، فلم لم يجز إطلاق الابن على آخر كذلك. فإنّ إطلاق الخلّة على إنسان لم يكن تشريفا بل كان حقيقيّا و لا يستلزم منه محال، بخلاف إطلاق الابن فإنّه يستلزم الجنسيّة و اللّه تعالى منزّه عنها؛ لما يترتّب عليها من الفساد فافهم.

و لمقام الخلّة آثار عظيمة، منها: استجابه الدعاء، فإنّه ليس معنى الخلّة

ص: 334

الحقيقيّة إلاّ استجابة دعاء الخليل من خليله، و قد كانت دعوات خليل الرحمن الّتي ذكرها عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلّها مستجابة.

و منها: أنّ الخليل لا يرى لنفسه شيئا في مقابل مخلوقات اللّه تعالى و عباده، بل يجعل نفسه مظهرا يرى فيها سائر مخلوقات اللّه تعالى؛ و لذا ترى أنّ إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام لا يدعو في دعواته الكريمة إلاّ لأهل الإيمان مطلقا، كما حكاها عزّ و جلّ في كتابه العزيز، قال تعالى: محكيا عنه: رَبَّنَا اِغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ اَلْحِسابُ [سورة إبراهيم، الآية: 41].

و منها: ما جعله اللّه أبا الأنبياء لما له عليه السّلام عند اللّه تعالى شأن عظيم و جاه رفيع.

و منها: أمر الناس باتّباع ملّته عليه السّلام، كما تقدّم في سورة البقرة.

و من الجنّات الممنوحة للمؤمنين في هذه الدنيا جنّة المؤانسة بأقسامها - مؤانسة ذكر، و مؤانسة قرب، و مؤانسة شهود - و تحصل هذه الجنّة بالتوجّه إليه بالإخلاص و الذكر بتمام أقسامها، كما مرّ في أحد مباحثنا العرفانيّة، قال تعالى:

أَلا بِذِكْرِ اَللّهِ تَطْمَئِنُّ اَلْقُلُوبُ [سورة الرعد، الآية: 28]، و لها مراتب و منازل.

و منها: جنّة الخشوع، و لا تحصل هذه الجنّة إلاّ من استكمل عنده نعمة الهيبة و المعرفة و فاز بجنّة اللقا، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً * وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً * وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [سورة الإسراء، الآية: 107-109]، و لها مراتب، فمنها الخضوع و الخشية و غيرها.

و منها: لذّة المناجاة و التملّق عند بابه، فهي من الجنّات الّتي أظهرها اللّه تعالى في هذه الدنيا و لا يعرفها إلاّ أهلها من الأولياء و الصالحين.

و منها: جنّة الرغبة و الرهبة - كما تقدّم البحث عنهما - إلى غير ذلك من الصفات الحسنة الّتي توجب رقي النفس و راحتها و تصل إلى مرتبة يستوحش

ص: 335

صاحبها من الدنيا و أهلها و يأنس باللّه تعالى و بأوليائه، كما حصل لهمام عند خطبة الإمام علي عليه السّلام؛ و لعلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ اَلصّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ اَلْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً [سورة النساء، الآية:

124] الأعم من الجنّة في الآخرة و الجنّة في الدنيا من الصفات الحسنة و الحالات الصالحة الّتي تختصّ بالأبرار و تكون مشابهة لحالات المؤمن في جنّة الآخرة، قال تعالى: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً [سورة البقرة، الآية: 25]، و للبحث مجال واسع، نسأل اللّه تعالى أن يوفقنا له بعد رفع هذه المصائب الّتي حلّت بهذه الأمّة بحقّ محمد و آله الطاهرين.

بحث فلسفي:

تكرّرت الآية الشريفة: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و هي تشير إلى برهان قويم، و هو: «انّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل»؛ لأنّ كلّ ما برز في الوجود إنّما هو شأن من شؤونه عزّ و جلّ ، و هو الّذي يحيط بها الإحاطة التامّة - الوجوديّة و العلميّة و الربوبيّة و القهّاريّة - و يستكشف من وحدة الفعل وحدة الفاعل و الخالق، و هذا من أحد الأدلّة الّتي استدلّ بها أكابر الفلاسفة على ثبوت الخالق و وحدته، و قد اعتمد عليه بعض الفلاسفة المحدّثين. و لعلّ التأكيد عليها في القرآن الكريم لأنّ مضمونها يوافق الفطرة المستقيمة، و القرآن الكريم يرجع الإنسان إلى فطرته و يذكّره منسيّها، فإنّ وحدة الفعل من حيث النظام و الترتيب و الأثر و الغاية، لدليل على ثبوت الخالق و وحدته و علمه الأتمّ ، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأسلوب القرآني في ثبوت الخالق و صفاته العليا، هو إرجاع الناس إلى الفطرة من جهة أمرهم بالتفكّر في خلقهم و خلق السموات و الأرض و ما يحيط بهم من الحوادث الكونيّة، و هذا ما أكّد عليه القرآن الكريم في مواضع كثيرة.

ص: 336

ثمّ إنّ هذا البرهان، أي: وحدة الفعل الدالّة على وحدة الفاعل و استجماعه للصفات العليا، لا ينافي القاعدة المعروفة في الفلسفة: «انّ الواحد لا يصدر منه إلاّ الواحد»، و «انّ الواحد لا يصدر إلاّ من الواحد»، فانّهما لا تنافيان البرهان القويم؛ لأنّه أيضا يدلّ على وحدة الفعل و إن كان متعدّدا من حيث الأفراد؛ لأنّها تشترك في وحدة النظام و الأثر و الغاية، كما لا ينافي القاعدة الأخرى: «الواحد لا يصدر إلاّ من واحد»، مضافا إلى أنّ القاعدتين المزبورتين إنّما هما في المفارقات و المجرّدات، و البرهان يجري في ما برز في الوجود من آثاره عزّ و جلّ .

و بعبارة أخرى: إذا لا حظنا المجموع من حيث اجتماعهما في وحدة جامعة، فالبرهان يؤيّد القاعدتين، و إن لا حظنا الأفراد من حيث كونها مظاهر عظمته و ربوبيّته، فهي تدلّ على وحدة الفاعل أيضا.

و القاعدة ذات مدلولين، مدلول مطابقي هو ما ذكرناه و ما ذكره الفلاسفة في مفادها، و مدلولها الالتزامي، و هو أنّ وحدة الفعل تدلّ على وحدة الفاعل، فاشتركت القاعدة مع البرهان، فيمكن أن تجعل الآيات الشريفة المتقدّمة دليلا على القاعدتين المزبورتين أيضا.

ص: 337

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّسا.......

اشارة

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً حَكِيماً (130) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) ذكر سبحانه و تعالى في الآيات الشريفة السابقة من التعاليم و الأحكام و التوجيهات ما يوصل الإنسان إلى السعادة، و ذكر من اصول الدين و من الحكمة ما يجعله حكيما مؤهّلا للوصول إلى المقامات العالية و الدرجات الرفيعة.

ص: 338

و في هذه الآيات المباركة يذكر عزّ و جلّ من الأحكام العمليّة لتنبيه الناس الى أنّ الكمال و السعادة لا يمكن الوصول إليهما إلاّ بتطبيق الأحكام العمليّة و التعاليم الإلهيّة فإنّ حقيقة الدين عند اللّه تعالى هي الإيمان و العمل الصالح، بل أنّ في إسلام الوجه للّه تعالى هو التسليم بما جاء في القرآن الكريم كما عرفت آنفا.

و قد ذكر في هذه الآيات الكريمة موضوعا من الموضوعات الرئيسيّة في هذه السورة، أي: موضوع النساء و علاقات الزوجيّة و الأسرة و بعض ما يتعلّق بشأن اليتامى بعد أن كانوا و المرأة من الضعيفين اللذين هضم المجتمع حقوقهما، فأمر عزّ و جلّ المؤمنين بوجوب مراعاة حقوقهما و حفظها. و قد ذكر سبحانه و تعالى جملة من حقوقهما في أوائل هذه السورة من الإرث، و المهر، و التصرّف في أموال اليتيم، و بعض أحكام الزوجيّة، و في المقام وجوب العدل بين النساء إن اقتضت الضرورة بتزويج أكثر من واحدة منهن، و أمر عزّ و جلّ بالقسط بينهن و حفظ أموال اليتامى و أمر بتوريثهن.

ثمّ ذكر جلّ شأنه بعض أحكام الاختلاف بين الزوجين، و بيّن بعض الأمور الدقيقة الّتي تمسّ الحياة الزوجيّة، و اعتبر تعالى أنّ التقوى هي الضمان لحفظها، و العدل و الإحسان هما الأساس لتلك العلاقة الّتي هي من أهمّ العلاقات عند الإنسان و عليها تبتني سعادته في الدارين، و يأمر تعالى بالتقوى مكرّرا؛ لأنّها الركيزة العظمى في الشرائع الإلهيّة، و لا سيما شريعة الإسلام؛ و لأنّها الضمان لتلك الأحكام، و يشدّد عليها بالتهديد على من يعرض عنها و بوصفه بالكفر، و يهددهم بالقدرة على إذهابهم و إتيان آخرين فيتّقون و يعملون.

ثمّ يبيّن عزّ و جلّ السبب في إعراض الناس عن التقوى، و هو حبّ الدنيا و الرغبة في متاعها. و يعالج سبحانه و تعالى أخيرا الموقف بأنّ الخير إنّما يكون في ثواب اللّه تعالى الّذي يمنحه لمن أطاعه و اتّقاه في الدنيا و الآخرة، و بذلك يرشد الناس إلى أنّ التقوى هي الّتي تضمن ثواب الدنيا و الآخرة، و أنّ اللّه تعالى هو الرقيب لهم يسمع أقوالهم و يرى أفعالهم فيجازيهم عليها.

ص: 339

و الآيات الكريمة تشتمل على أسلوب تربوي دقيق، لها وقع خاص في النفوس المستعدة و تتخلّلها من الحكم و المواعظ و الإرشادات و التوجيهات ممّا زاد في رصانتها و قوّتها و شدّة تأثيرها.

التفسير
قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ .

الاستفتاء: طلب الفتيا، و هي الجواب عمّا يشكل من الأحكام و ما دقّ من الأمور، و قد استعمل في كلّ تبيين للحكم، يقال: استفتيته فأفتاني و لا يختصّ بما يراه الإنسان باجتهاد منه كما هو المتداول في هذه الأعصار، بل يعمّ ما إذا كان حاصلا من الوحي و الإلهام، أو ما يتحقّق بالتشريع و الأمر، كما يظهر من نسبة الفتوى إلى اللّه تعالى في المقام.

و من حذف المتعلّق في الآية الشريفة و عدم ذكر أمر خاص من أمور النساء يتبيّن أنّ الاستفتاء إنّما كان في كلّ ما أحدثه الإسلام ممّا لم يكن معهودا قبله، و لا يختصّ بالحقوق الماليّة كالإرث و المهر و نحوهما، كما ذكره جمع من المفسّرين؛ لقوله تعالى: وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ ، فإنّ ذكر شأن خاصّ من شؤونهم أو ما يتعلّق بطائفة خاصّة منهن كاليتامى، لا يوجب تقييد العموم، لا سيما بعد أن كان ما أبدعه الإسلام أو ما شرّعه في النساء غريبا عليهم، لما اعتادوا عليه فيهن من استضعافهن و حرمانهن من كثير من الحقوق الاجتماعيّة و الماليّة، فكان التعميم مناسبا، و يدلّ على ذلك أيضا ذكر أحكام النشوز و الخلاف بين الزوجين و طرق الإصلاح بينهما، فتكون الآية الشريفة ناظرة إلى جميع ما بيّنه عزّ و جلّ في أمر النساء في أوّل هذه السورة و آخرها و في المقام.

ص: 340

قوله تعالى: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ .

الفتيا و الفتوى واحدة، يقال: أفتاه إفتاء، و أفتيت فلانا رؤياه إذا عبّرتها له.

و المعنى: يطلبون منك تبيين الأحكام الّتي أشكلت على أفهام في النساء ممّا يجب لهن و عليهن مطلقا. قل: يا محمد إنّ اللّه يفتي فيهن، فقد أنزل فيهن من الأحكام ما يعلو به شأنهن و قدرهن و ما يوجب سعادتهن و سعادة المجتمع، فإنهنّ من أحد عموديه، و لا يمكن أن يسعد مجتمع و يشقي أحد عموديه.

قوله تعالى: وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ .

التلاوة القراءة بعناية، و تقع وصفا للفظ، و قد يوصف المعنى بها أيضا كما في المقام، أي: الأحكام المتلوة.

و الآية المباركة بيان لعظمة شأن المتلو من الأحكام الّتي تتلى في القرآن الكريم في شأن النساء، و بالجملة: بيان لما سبق، أي: أنّ اللّه يفتيكم فيهن بما أنزله عزّ و جلّ من الآيات الّتي تضمّنت من الأحكام الّتي تستفتون عنها و عن غيرها.

و تبيّن الآية الكريمة أحد الأحكام المهمّة في النساء، فقد ذكر فيها حكم يتامى النساء و الازدواج بهن، و إنّما أفردهن عزّ و جلّ بالذكر لأنّهن يستحقن العطف أكثر من غيرهن ليتمهن، و لتوجّه الظلم إليهن أكثر، فإنّ أهل الجاهلية كانوا لا يرثون الصغير و لا المرأة، و كان الإرث عندهم منحصرا بمن قاتل و الحريم لا قتال عليهن.

و جملة: «اللاتي لا تؤتونهن» وصف ليتامى النساء اللواتي كن يعانين من الحرمان و الشقاء، فقد كان لأهل الجاهليّة عادات سيئة و أحكام جائرة فيهن، فكانوا يحتفظون بيتامى النساء و أموالهن، فإن كانت ذات جمال و حسب تزوّجوا بهن و استمتعوا بجمالهن و مالهن، و إن كانت دميمة شوهاء عضلوها عن الزواج

ص: 341

مطلقا طمعا في مالها، فأنزل اللّه تعالى فيهن من الأحكام الّتي وضعت عنهن القيود و أبطلت تلك السنّة الباطلة الّتي عليهن.

و الآية المباركة في مقام التوبيخ لهم في ترك ما سنّة اللّه تعالى و شرّعه من الأحكام، و لعلّ قوله تعالى: لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ إشارة إلى تلك الأحكام و الى ذلك الحرمان الّذي كانت النساء يكابدنه نتيجة تلك العادات السيئة الّتي استحكمت في نفوسهم، فلم يسهل عليهم قبول تغييرها.

و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: ما كُتِبَ الكتابة التكوينيّة، أي ذلك التقدير الّذي قدّره عزّ و جلّ على الإنسان في أنّه إذا بلغ حدّ الكمال و النضج كان له حقّ التزويج و التصرّف في ماله، و لا يحقّ لغيره أن يمنعه عن هذا الحقّ الإلهي، فإنّه خلاف ما كتب اللّه عزّ و جلّ عليه و الخلقة الّتي خلقها و قدّرها على الإنسان، و الكتابة التكوينيّة تتضمّن الكتابة التشريعيّة، فإنّها لم تكن على خلاف تلك الكتابة أبدا.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ الجار المحذوف في قوله تعالى: وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ هو (عن)، أي: الرغبة عن نكاحهن اتّباعا لتلك العادة الجائرة و السنّة الباطلة، و هو المناسب لسياق الآية الكريمة، و يحتمل أن يكون التقدير (في) و (عن) كليهما على سبيل البدل؛ ليشمل كلا طرفي تلك العادة الباطلة، فإنّهم كانوا يرغبون في النكاح إذا كانت ذات جمال و مال، و يرغبون عن نكاحهن إذا لم تكن كذلك و كان لها مال فلا يناكحوهن و لا ينكحوهن غيرهم.

قوله تعالى: وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ .

عطف على يتامى النساء، أي: و يفتيكم في المستضعفين في الولدان في تنفيذ ما يتلى عليكم من الأحكام و إعطاء حقوقهم و ترك تلك السنّة الجائرة فيهم، فإنّهم كانوا يحرمون يتامى الصبيان أيضا من الإرث و يستضعفونهم كما تقدّم آنفا، و توصيفهم بهذا الوصف لإثارة العطف في النفوس.

ص: 342

قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ .

عطف على ما سبق، أي: يفتيكم في أن تقوموا لليتامى مطلقا بالقسط في أنفسهم و أموالهم.

و الآية الشريفة في مقام بيان إعطاء قاعدة عامّة تشمل المقام و غيره؛ لأنّ المورد لا يكون موجبا لتخصيص الحكم العامّ ، فإنّ القسط و العدل محبوبان في كلّ حال و في جميع الموارد، و إنّما خصّ اليتامى بالذكر لما عرفت آنفا أنّ حالهم ادعى للرحمة و العطف، و لوقوعهم مورد الظلم و العدوان كثيرا لضعفهم، كما وصفهم عزّ و جلّ في الآية الكريمة السابقة.

و في الآية الشريفة التأكيد على مراعاة العدل، فإنّ القيام بالشيء مراعاته حالا بعد حال، و ذلك بتنفيذ كلّ ما أنزله اللّه تعالى من الأحكام و التشريعات و التوجيهات، و الخطاب عامّ يشمل الأولياء و غيرهم.

قوله تعالى: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً .

تأكيد لما سبق و تحريض إلى مراعاة تلك الأحكام بدقّة و عدم الهوادة فيها فإنّها خير، و الخير مرغوب فيه عند جميع الناس، و بيان بأنّ حال اليتامى و المستضعفين تحتاج إلى عطف أكثر، و أنّ الكمال فيهم هو المعاملة معهم بالفضل، لا مجرّد العدل و القسط، فإنّ كلّ خير يصدر منكم في شأن النساء و اليتامى من دون أن يعلمه أحد، فاللّه تعالى يعلمه و لا ينساه و يعد لمن آثر الخير بالوعد الجميل.

و الخير عامّ يشمل كلّ فضل و زيادة في القسط، و في الحديث: و إذا أحسن إليهم كافؤوه بمثله أو فضل منه، و قد ورد عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا «خيركم خيركم لأهله»، و لعلّه إشارة إلى صلة الرحم و الحثّ عليها و أنّ الفضل يعود إلى فاعل الخير مطلقا.

و قد ذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات المباركة ثلاث مراحل لإرجاع حقوق النساء و اليتامى مترتّبة متدرّجة في العمل و التنفيذ، و لا يمكن الوصول إلى الهدف بدون ذلك، فتكون هذه الآية الكريمة مضافا إلى اشتمالها على الأحكام

ص: 343

تتضمّن درسا تربويّا تهذيبيّا لإصلاح النفوس المعتادة على هضم الحقوق، و ارتكاب الظلم:

فالمرحلة الأولى: ترك الظلم عليهم و الإعراض عن العادة الجائرة و السنّة الباطلة الّتي كانت في الجاهليّة، و التحذير من اتّباعها.

الثانية: مراعاة القسط و العدل بدقّة فيهم، و على أتمّ الوجوه و أكملها.

الثالثة: الزيادة على ذلك بفعل الخير فيهم، و ذلك بإكرامهم و الفضل عليهم، و قد ذكر عزّ و جلّ الضمان على هذه المرحلة بقوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً ، فإنّه يتضمّن الترغيب للعمل بتلك الإرشادات و التوجيهات الربوبية، فإنّها خير لهم، بل و أنّ خيرهم فيه، كما يشتمل على التحذير على المخالفة فاللّه تعالى يعلم جميع أفعالكم و نواياكم و سيحاسبكم عليها.

قوله تعالى: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً .

حكم اجتماعي يعالج الخلاف الواقع بين الزوجين و ما يهدّد العلاقات الأسريّة بكاملها، و يبيّن تعالى طرق الإصلاح فيها.

و ممّا يلفت النظر في هذه الأحكام أنّه يتكرّر الأمر بالتقوى أكثر من مرّة، و لعلّه لأجل أنّ هذه الأحكام لا يمكن تطبيقها و لا يكمل معها الصلاح إلاّ مع التقوى، فإنّها الركيزة الأولى في جميع الأحكام، و القاعدة الأساسيّة الّتي تنطلق منها جميع التوجيهات؛ لأنّها الأصل في كلّ سعادة مرجوة، و الضمان للعدل و الإحسان المطلوبين في هذه الحياة الخاصّة الّتي تحفّها أمور كثيرة قد يوجب واحد منها سلب سعادتها و إيقاعها في شقاء مستمر، فتكون له عواقب مؤلمة تؤثّر في المجتمع و حياة الأفراد، و لأجل ذلك كان التشديد في الأمر بالتقوى حتّى وصل الحال إلى التهديد و التوعيد في عدم تنفيذها، ممّا يبيّن أهميّة هذه الأحكام، و لأنّ الموضوع له الأثر العظيم في سعادة المجتمع و شقائه.

و الآية المباركة لا تخلو عن ارتباط بالآيات الشريفة السابقة لاشتمالها على

ص: 344

أحكام النساء أيضا و العلاقات الأسريّة، سواء قلنا إنّها داخلة في ما استفتوا فيه - و هو الحقّ ؛ لأنّه المستفاد من سياق الآية الكريمة و عمومها - أم كانت خارجة عنه.

و الخوف: توقّع المكروه بظهور بعض أماراته و أسبابه، و إنّما اعتبر عزّ و جلّ خوف النشوز و الإعراض دون نفسهما؛ لأنّ موضوع الصلح يتحقّق من حين ظهور العلامات و الأمارات الّتي يتعقّبها الخوف.

و مادّة (نشز) تدلّ على الارتفاع يقال: أرض ناشزة، أي: مرتفعة، و في حديث خاتم النبوّة: «بضعة ناشزة»، أي: قطعة لحم مرتفعة عن الجسم، و النشاز هو الأمر المنقطع عن غيره لسبب من الأسباب، فيقال: زوج ناشز، إذا ترفّع و استعلى على زوجته و ترتّب عليه سوء المعاملة و التكبّر، و يتّصف به كلّ واحد من الزوجين.

و الإعراض هو الميل و الانحراف عن الشيء، و للنشوز و الإعراض مظاهر مختلفة متفاوتة، و لا يمكن الأخذ و الحكم شرعا بكلّ مظهر إلاّ إذا ورد من قبل الشارع أنّه نشوز أو إعراض. و لكن المتّفق عليه أنّ النشوز يتحقّق بترك المضاجعة و النفقة، و الإعراض بترك الكلام و الأنس و الانحراف بالوجه عن الزوجة و سوء المعاشرة، و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و البعل: الزوج، و أطلق على المأذون شرعا أيضا من باب الملازم الغالب، كما في حديث التشريق: «انّها أيام أكل و شرب و بعال» و جمعه بعولة، كالفحل و الفحولة، و بما أنّ الذكر من الزوجين - الّذي هو البعل - له استعلاء على المرأة كما قال تعالى: اَلرِّجالُ قَوّامُونَ عَلَى اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 34]، سمّى كلّ مستعل على غيره؛ و لذا سمّى العرب معبودهم الّذي يتقرّبون به إلى اللّه تعالى بعلا، قال تعالى: أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ اَلْخالِقِينَ [سورة الصافات، الآية: 125].

و المعنى: و إن خافت امرأة بأن ثبت لها من بعض الأمارات، و تحقّق لها ذلك

ص: 345

من بعلها نشوزا، كترك مضاجعتها و لا يرغب في مباعلتها، أو إعراضا بأن لا يتحدّث إليها و ينصرف بوجهه عنها في المضجع.

و من أسلوب الآية الشريفة و إيجازها البليغ حيث جعل الفعل المذكور فيها:

«خافت» مفسّرا لفعل محذوف مثله، و ذكر الزوج بالخصوص و تعليق الخوف عليه فقط دون غيره، و اختصاص لفظ البعل بالذكر دون غيره من الألفاظ المستعملة في هذا المقام لتذكيرها بأنّ الزوج إنّما يكون بعلها و رئيسها، فلا بدّ و إن تحسن المعاشرة معه، و على الزوج مضاجعتها و إدارة شؤونها بالعدل و الإحسان، كلّ ذلك لأجل تنبيه المرأة بأنّه لا بدّ لها أن لا تكتفي بالوهم و الوسوسة اللتين تكثران في النساء، فلا يعتمّدن عليهما في هدم كيانهن و تقويض صرح الأسرة الّتي أكّد الشرع على إقامتها بأفضل وجه، و قد أخذ من الزوجين العهود و المواثيق على إشادتها بالعدل و الإحسان، فيجب أخذ الحيطة و التثبت و التبيين في ما يظهر لها من أمارات النشوز و الإعراض، و تحقّق الخوف الفعلي عندها فإذا ظهر لها ذلك، فحينئذ يأتي الإصلاح.

قوله تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً .

أي: فلا حرج و لا إثم على المرأة و بعلها أن يصلحا على النحو الّذي يتّفقان عليه بينهما، فإذا أرادت أن تغض النظر عن بعض حقوقها في حياتها الزوجيّة، جلبا للأنس و الألفة أو استعطافا له أو احترازا عن شدّة التباغض و الشحناء و دفعا للمفارقة و الطلاق، جاز لها ذلك و لا حرج عليهما.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالجناح للتنبيه على أنّه لا يجب على الزوجة، بل ليس لأحدهما جبر الآخر و إلزامه، و إنّما هو أمر احترازي أدبي و أن المقصد هو المعاشرة بالمعروف و التراضي بالإحسان؛ أو لنفي ما يتوهّم أن ما تعطيه المرأة للزوج من المال - مهرا كان أم غير ذلك - إنّما هو محرّم و لا يحل له أخذه.

ص: 346

قوله تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ .

جملة معترضة تبيّن حكما اجتماعيّا عامّا ترشد إلى أنّ الصلح في جميع الأحوال خير و حسن، خصوصا في مورد الخصومة و التباغض و التباعد بالافتراق و غيره؛ لأنّ في الصلح سكون النفس و هدوء البال و راحة الضمير، و به تتحقّق السعادة و تزول النفرة و الاختلاف، و على هذا تكون كلمة «خير» لبيان خيريّة الصلح لا لبيان الأفضليّة، فإنّ الصلح و الوئام خير في حدّ نفسه، سواء كان هناك خلاف و تباغض فيرفعان بالصلح أم لم يكن.

و الإسلام يدعو إلى المصالحة و إنّ دينه دين الصلح و السلام، و قد شرّع عزّ و جلّ من الأحكام و السنن و الآداب و التوجيهات ما يتحقّق به العدل و المساواة في هذه الحياة المليئة بالاضطراب و هضم الحقوق و التباغض بين الأفراد.

قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ .

جملة اعتراضية أيضا يذكر فيها عزّ و جلّ واقع الإنسان و كمونه، و تتضمّن السبب الّذي يوقعه في البغضاء و الشحناء و الشقاق و السبب الّذي يحول من الصلح و العيش بسلام.

و تبيّن الآية المباركة أنّ الشحّ و البخل غريزة من الغرائز النفسانيّة لا يخلو منها إنسان؛ لأنّ به يحفظ منافعه و يصون نفسه من الضياع، فإذا أطلقت هذه الغريزة و خرجت عن صون العقل و الحكمة صارت رذيلة مهلكة، و إن هذّبت صارت سببا للضبط على المعتقدات و الإرادة، أو تكون سببا لحصن النفس في الوقوع في منزلق الرذائل و سفاسف الأمور، بل قد يصير موجبا لحفظ الأموال من التبذير و الإسراف، فالافراط في هذه الغريزة مذموم كالتفريط، قال تعالى: وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ * [سورة الحشر، الآية: 9]، فالشحّ موجود في كلّ نفس، و لكن الإنسان عرضة له و هو يحضر عند ظهور المقتضي له إلاّ إذا ملك زمام هذه الغريزة بما يريده اللّه تعالى لها من الصلاح و السعادة، فإن تبع كلّ

ص: 347

واحد من الزوجين الشحّ المكنون في نفسه، آل إلى التباغض و الشحناء أو المفارقة و الطلاق فحينئذ لا جناح عليهما أن يصلحا بينهما بكسر سورة هذه الغريزة و تهذيبها بالإرشادات الربوبيّة و التعليمات الإلهيّة، فيغمض كلّ واحد من الزوجين عن بعض حقوقهما. و لا بدّ أن يتذكّر كلّ واحد منهما - بل كلّ فرد - أنّ الشحّ و البخل يرجع إلى الحرص و هو ينشأ من ضعف النفس، و يجب علاجه بالبذل و التسامح و التفكّر في أنّ الشحّ من المهلكات و ممّا يضرّ النفس و يصدّها عن الكمال.

و من أقبح البخل و أمضه أن يبخل أحد الزوجين على الآخر بعد أن ارتبطا بالميثاق العظيم، فكانت رابطتها أحقّ بالحفظ و أجدر بالوفاء، بل لا بدّ أن يكون التسامح أوسع و أعظم، كما أمر عزّ و جلّ في الآية التالية.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

إرشاد إلى أنّ المقام لا بدّ من أن لا يقتصر فيه على مراعاة الميثاق و العهد الّذي أخذه كلّ واحد من الزوجين على الآخر، فإنّ مراعاته أمر مفروغ عنه، و إنّما تتطلّب هذه العلاقة إلى الإحسان زيادة على الوفاء بالعهد، فإنّه أجلب للقلوب و ادعى للتوفيق في العشرة و التقوى، فإنّها الضمان لتثبيت العدل و الإحسان المطلوبين في هذا الموقف و إرساء أسس السعادة و استمرار هذه العلاقة آمنة مطمئنة بعيدة عن ما يكدر صفوها و ما يوجب انفصام عراها، كالنشوز و الإعراض؛ و لأنّ في التقوى الموعظة للرجال و النساء بأن لا يتعدّوا حدود اللّه تعالى.

و في الآية الكريمة الذكرى للمؤمنين بأنّ اللّه تعالى خبير بما يعملون، لا يخفى عليه خافية، و سيحاسبهم عليه فيجزى الّذين اتّقوا و أحسنوا الحسنى و يثيبهم عليه و يعاقب المسيء الّذي ظلم في معاشرته مع النساء و أكرههن على إلغاء حقوقهن الّتي جعلها اللّه تعالى لهن.

ص: 348

قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ .

حكم آخر من أحكام النساء، و هو لزوم العدل بينهن بتطبيق ما شرّع اللّه تعالى لهن على الرجال في أوّل هذه السورة، قال تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [سورة النساء، الآية: 3].

و تبيّن الآية الكريمة حقيقة اجتماعيّة، و هي أنّ العدل بالمعنى الحقيقيّ ، و هو التساوي بين الطرفين في جميع الجهات بحيث لا يقع ميل إلى جانب في شأن من شؤون الحياة الزوجيّة كالقسمة أو النفقة، و التعهّد، و النظر، و الميل، و الإقبال، و المؤانسة، و غير ذلك ممّا لا يكاد الحصر، فإنّه ممّا يتعذّر إقامته و لا يتحقّق و إن حرص عليه الرجل كلّ الحرص؛ لو عورة مسلكه و دقة تطبيقه و اشتباه اعلامه، فمن الصعب جدا تشخيصه، خصوصا في إقبال النفس و الميل القلبي اللذين لا يملكهما المرء و لا يتطرّق إليهما الاختيار، فلا يقدر أن يملك الآثار الطبيعيّة المترتّبة عليهما، فيبيّن عزّ و جلّ أنّ العدل بحقيقة معناه الّذي أمر اللّه تعالى بإقامته في حياته الاجتماعيّة غير مستطاع و لا يتعلّق به التكليف، و إنّما الّذي يمكن أن يملكه هو أن لا يميل إلى أحد الأطراف، كما سيأتي في البحث الروائي.

و تفسّر هذه الآية الشريفة الآية الكريمة الّتي وردت في أوّل السورة، الّتي أمرت باتّخاذ العدل بين النساء، و يكون هذا حكما تخفيفيّا امتنانيّا منه عزّ و جلّ ، لرفع التحيّر الّذي أصاب الرجل المؤمن الورع نتيجة عدم إمكان تشخيص حقيقته و صعوبة مناله.

قوله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ .

بيان لما يمكن تطبيقه من معنى العدل، و هو التسوية بين النساء بإتيان حقوقهن من غير تطرّف و عدم التعاسر معهن و نبذ الإساءة إليهن، فلا يجور على المرغوب عنها منهن بأن يميل كلّ الميل إلى المحبوبة و يعرض عن الأخرى المرغوبة عنها، فيذرها كالمعلّقة لا هي متزوّجة و لا هي مطلّقة، و هذا هو العدل الّذي يمكن

ص: 349

تطبيقه، و هو الأقرب إلى العدل الحقيقي الّذي نفاه عزّ و جلّ عنهم، فيكون عدلا عمليّا. و أمّا الميل القلبي الّذي لا يدخل تحت الاختيار، فهو لا يتعلّق به التكليف.

و ممّا ذكرنا يظهر أنّ صدر هذه الآية الشريفة ليس في مقام نفي مطلق العدل، بحيث إذا انضمّ إليه قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً [سورة النساء، الآية: 3]، ينتج إلغاء تعدّد الأزواج في الإسلام، كما قاله بعض المفسّرين، فإنّ المنفي هو العدل الحقيقي، لا العدل العملي الّذي هو الأقرب إلى العدل المأمور به، و يستحيل أن يتحقّق تكليف منه عزّ و جلّ و لا يمكن تطبيقه.

و الحاصل: أنّ العدل المأمور به هو العدل التقريبي، و هو العدل العملي، مضافا الى ذلك أنّه عزّ و جلّ أباح التعدّد في قوله تعالى: فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ - الآية [سورة النساء، الآية: 3]، و حمله على مجرّد الفرض العقلي بعيد جدا يجلّ كلامه تعالى عنه، و سيرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و بعض المؤمنين الورعين خير دليل على إمكان تطبيقه، و هو يدفع توهّم الفرض العقلي أيضا.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً .

تأكيد و ترغيب للرجال في الإصلاح إذا ظهر منهم فساد و ظلم، و الضمان في ذلك كلّه هو التقوى الّتي هي الدعامة الأولى في تطبيق الأحكام الإلهيّة، و أنّها هي الّتي تستتبع المغفرة لكلّ ما صدر من حيف و ظلم، و الرحمة بالتفضّل عليهم. و تقدّم مكرّرا أنّ الأمر بالتقوى في هذه الآيات المباركة لدقّة تطبيق هذه الأحكام و التباس معالمها، فكان التقوى هي الضمان لها.

قوله تعالى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ .

حكم علاجي بعد أن لم ينفع الإصلاح و لم يتحقّق الوفاق بوجه من الوجوه، و حينئذ فإن أرادت المرأة و بعلها أن يتفرّقا بالطلاق خوفا من الوقوع في الحرام و حفظا للكرامة و صونا لأخلاقهما لئلاّ يقعا في السيء منها، فإنّ اللّه تعالى يغني كلا

ص: 350

منهما بأن يجعله مستغنيا عن الآخر بسعة فضله و كرمه إن تفرّقا، و يكفيه ما أهمّه من أمور الدنيا و الدين - أي: الآخرة - و ذلك لعموم الآية الشريفة، فيغني الزوج بامرأة أخرى خيرا من الأولى، تحصنه و تؤنسه و ترضيه فتستقيم أمور بيته، كما يغني المرأة بزوج آخر خيرا من الأوّل يقوم بأمرها، يدبّر شؤونها بالنفقة و الكسوة و سائر ما تتطلبه الحياة الزوجيّة، فإنّ اللّه تعالى واسع حكيم.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ واسِعاً حَكِيماً .

تعليل لما سبق أي: يغني كلا منهما؛ لأنّه واسع الفضل و الرحمة حكيم في أفعاله و أحكامه، يعلم أنّ ذلك أمر فاش في أفراد هذا النوع، فوضع حدودا و تعاليم لعلاج هذا الموقف، فلم يتركهم سدى من غير تكليف.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

تعليل آخر، أي: أنّ اللّه تعالى واسع لأنّ له ما في السموات و ما في الأرض خلقا و تدبيرا و ملكا، و هو الّذي يدبّر أمر الإنسان و ينظم شؤونه، فلا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة و لا الإيناس بعد الوحشة و لا الغنى بعد الفقر.

و الآية المباركة تدلّ على عظيم فضله و كمال لطفه وسعة رحمته و عموم فيضه.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد جديد إلى مراعاة التقوى في جميع المواقف و كلّ الأمور. و لم تكن هذه الدعوة مختصّة بهذه الأمّة بل الدعوة عامّة لجميع الأمم، و قد أبلغت إليهم بأبلغ وجه و أتمّ أسلوب، فكان توصية منه عزّ و جلّ لهم بمراعاة التقوى و شدّة التمسّك بها؛ لأنّ بها تتزكّى النفوس و تنتظم الشؤون و يعبد اللّه تعالى و يصلح أمر الدنيا و الآخرة، و منه الحياة الزوجيّة الّتي هي أحوج من غيرها إلى مراعاة التقوى، لدقّة الأمور الّتي تمسّ بهذه الحياة كما عرفت آنفا.

ص: 351

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

تشديد آخر لمراعاة التقوى، و تهديد على أنّ من أعرض عنها و تعدّى حدود اللّه تعالى كفرا بها، فإنّه لا يضرّ كفره بترك العمل بالأحكام الإلهيّة؛ لأنّه مالك الملك و الملكوت و له ما في السموات و ما في الأرض، و إنّما وصّاكم بما يرجع الى خيركم و مصلحتكم رحمة بكم لا حاجة إليكم، فلا يضرّه إعراضكم.

و من ذلك يعلم أنّ المراد بالكفر هو الكفر العملي و الإعراض عن طاعته عزّ و جلّ ، و أنّ بالتقوى تتحقّق الطاعة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ غَنِيًّا حَمِيداً .

الحميد أي: المحمود بذاته لذاته، و هو من الأسماء الحسنى، و هو يدلّ على أنّ كلّ ما في الوجود يصدر منه تعالى، و إليه يرجع الحمد كلّه و هو مصدره. و الآية الكريمة تقرير لما سبق و تأكيد لاستغنائه عمّن ما سواه، فإنّه الغني بالذات و ما سواه يحتاج إليه، و هو محمود بذاته لذاته، سواء حمده حامد أم لم يحمده.

كما أنّ الآية المباركة تتضمّن التهديد لمن ترك التقوى و العمل بالأحكام الإلهيّة و أصرّ على المخالفة و الشقاق، فإنّه تعالى قادر على العقوبة بما يشاء و لا نجاة عنها؛ لأنّه الغني الحميد.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً .

جملة استئنافية، توطئة لما يأتي من إظهار قدرته، فإنّ له التصرّف في خلقه كيفما يشاء إيجادا و إحياء و إماتة، و تأكيدا لما سبق و إيذانا بأنّ جميع ما سواه مخلوق له تعالى محتاج بذاته لذاته، و هو الوكيل عليهم يدبّر شؤونهم و يرعى مصالحهم.

و لعلّ الوجه في تكرار هذه الآية الشريفة ثلاث مرات لبيان تمام قدرته

ص: 352

و استجماعه لجميع صفات الكمال، و لإرشاد الناس إلى التفكّر لما في السموات و ما في الأرض ممّا فيها من آيات تدلّ على وحدانيّته و علمه الأتم و حكمته التامّة.

و الوكيل: من أسماء اللّه الحسنى، و المراد به القيّم على أمور خلقه و المهيمن عليهم، و استقلاله بشئون الموكل إليه، و ذكره في المقام إرشادا للناس جميعا أو لمن أراد التفرّق من الزوجين بالتوكّل عليه عزّ و جلّ و تفويض الأمر إليه، فإنّ من يتوكّل على اللّه تعالى فهو حسبه و يكفيه من كلّ ما أهمّه و يغنيه من سعته، و كفى به وكيلا فإنّه قادر على انجاز كلّ ما أوعده.

قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ .

تأكيد جديد على ملازمة التقوى و بيان لما استفيد من التهديد من سياق الآية الكريمة المتقدّمة، و تنبيه للناس إلى التأمّل في سنّته عزّ و جلّ في الأمم، و توجيه أفكارهم إلى عظيم قدرته تعالى، و تصديره بقوله: إِنْ يَشَأْ للدلالة على استغنائه و عدم الحاجة الى أحد من خلقه.

و سياق الآية الشريفة بضميمة ما ذكرناه يدلّ على أنّ المراد من إذهاب الناس و إتيان آخرين، هو إذهاب هؤلاء الّذين نكصوا عن الطاعة و أعرضوا عن التقوى بعد ما أوصاهم جميعا بملازمتها، و إتيان أناس آخرين يطيعون اللّه تعالى و يتّقون و يقومون بما يحبّه و يرتضيه عزّ و جلّ ، فإنّه المالك للملك و الملكوت و القادر على كلّ شيء، يتصرّف في ملكه كيفما يشاء بما يشاء و لما يشاء. و إطلاق الآية المباركة يشمل الإذهاب الدفعي و التدريجي، بأن يستبدل اللّه غير المتّقين المطيعين بإفناء الأوّلين و إهلاكهم بالمرّة و إيجاد آخرين، أو تبديلهم بآخرين متّقين على مرّ الزمن - كما يأتي في البحث الروائي - و هذا أولى من حمل الآية الشريفة على أحد الوجهين، كما ذهب إليه بعض المفسّرين؛ لعموم قدرته و سنّته في خلقه، فقد أذهب أقواما أفنى الأوّلين منهم لمّا كفروا بربّهم و استدرج آخرين حتّى أفناهم، ثمّ أقام آخرين مكانهم فآمنوا و أطاعوه و اتّقوه.

ص: 353

و أمّا ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ المراد من قوله تعلى: بِآخَرِينَ ، أي: جنسا غير جنس الناس، فهو بعيد عن سياق هذه الآية الكريمة و إن كان يناسب قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اَللّهَ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَ ما ذلِكَ عَلَى اَللّهِ بِعَزِيزٍ [سورة إبراهيم، الآية: 20]، و ردّه بعضهم بأنّه خطأ؛ لمخالفته لاستعمال العرب؛ أو لأنّه من قبيل المجاز و لا يتم به المراد، فهو غير صحيح، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق به إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً .

تعليل لما سبق، أي: أنّ اللّه تعالى إنّما يفعل ذلك و يذهبكم و يأت بآخرين مكانكم أطوع للّه تعالى و أتقى؛ لأنّه عزّ و جلّ قدير، أي: بليغ القدرة. و إنّما أبقاكم لإظهار غناه عنكم.

و القدرة من صفات الذات، و لا يعلم كنهها و لا حقيقتها - كسائر صفاته - إلاّ اللّه عزّ و جلّ ؛ و لذلك إذا أريد وصفها فلا بدّ أن يكون على سبيل النفي، أي: لا يعجره شيء.

و إتيان الفعل الماضي (الناقص) في المقام و أمثاله؛ لبيان الثبوت و التحقّق في مثل هذه الصفات؛ و لدفع ما قد يتوهّم أنّه يحدث في ذاته و صفاته، فهذه الأفعال منسلخة عن الزمان لتنزّهه جلّ شأنه عن الزمان و الزمانيّات، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك أيضا في ما مضى من هذا التفسير فراجع.

قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا .

بيان للعلّة الّتي توجب صرف الناس عن التقوى و إعراضهم عن الطاعة، و هي الإقبال على الدنيا و الرغبة في متاعها، أي: من ترك التقوى و ضيّع وصيته عزّ و جلّ الّتي أوصاها لجميع الأمم ابتغاء ثواب الدنيا و الرغبة في متاعها، فإنّ ذلك خطأ و سوء تقدير منه؛ لأنّ اللّه تبارك تعالى مالك الدنيا و الآخرة.

ص: 354

قوله تعالى: فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ .

علاج لما وقعوا فيه من الخطأ و سوء التقدير، أي: أنّ اللّه تعالى عنده ثواب الدنيا و الآخرة، و هو قادر على أن يعطيكم ثواب الدنيا و خيرا منه و أشرف و هو ثواب الآخرة، فلا بدّ من التقرّب إليه تعالى و طاعته و العمل بتكاليفه حتّى ينال ما عنده، فتكون سعادة الإنسان في التقوى، و لا يمكن أن ينال شيئا من الدارين إلاّ ما يفيضه تعالى، و هو منحصر بالطاعة و التقوى.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً بَصِيراً .

أي: أنّ اللّه سميع لأقوال عباده و ما يهجس في خواطرهم، بصير لأفعالهم، لا يخفى عليه خافية. و فيه من التوبيخ - بتركهم ما عنده تعالى، و إعراضهم عن الطاعة، و الاقتصار على ما يريدونه - ما لا يخفى، فلا بدّ من مراقبته عزّ و جلّ في جميع الأمور.

ص: 355

بحوث المقام
بحث أدبي:

ذكروا في (ما) في قوله تعالى: وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ احتمالات ثلاثة من وجوه الإعراب.

الأوّل: الرفع إمّا على أنّها مبتدأ و الخبر محذوف، أي: و ما يتلى عليكم في القرآن يفتيكم، و يكون (في الكتاب) متعلّقا ب (يتلى) أو بمحذوف وقع حالا من المستكن فيه، أي: كائنا في الكتاب.

و إمّا على أنّها مبتدأ و (في الكتاب) خبره، فتكون الجملة مستأنفة و الكلام مسوق لبيان عظم شأن المتلو.

و إمّا على أنّها معطوفة على الضمير المستتر في يُفْتِيكُمْ .

و أشكل عليه بوجهين، أحدهما: بأنّه لا يصحّ ذلك، كما هو المعروف في العطف.

و أجيب عنه بأنّه يصحّ للفصل.

ثانيهما: بأنّه يستلزم الجمع بين الحقيقة و المجاز؛ لأنّ اللّه تعالى فاعل حقيقي للفعل، و المتلو فاعل مجازي له.

و أجيب بأنّه يصحّ الجمع بينهما في المجاز العقلي، و أنّه شائع و الإسناد فيه من قبيل الإسناد إلى السبب، و لا يصحّ العطف.

و أمّا على أنّها معطوفة على الاسم الجليل قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ ، و العطف فيه من عطف المفرد على المفرد كما هو المتبادر، و لكنّه بعيد لإفراد الضمير.

الثاني: النصب على أن يكون مفعولا لفعل محذوف، أي: و يبيّن لكم ما يتلى، و حينئذ تكون الجملة إمّا معطوفة على جملة (يفتيكم)، و إمّا معترضة.

ص: 356

الثالث: الجرّ إمّا على أنّ الواو في قوله تعالى: وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ للقسم، فتكون (ما) في محلّ الخبر على القسم الّذي ينبئ عن تعظيم المقسم به و تفخيمه، و يكون قوله تعالى: فِي يَتامَى اَلنِّساءِ بدلا من قوله: فِيهِنَّ ، و المعنى: أقسم بما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

و إمّا أن تكون معطوفة على الضمير المجرور «فيهن»، بتأويل الإفتاء إلى التبيين، و المعنى: قل اللّه يبيّن لكم ما يتلى عليكم في الكتاب، و هذا هو الوجه المعروف بين البصريين، فقد ردّ بأنّ فيه اختلالا معنويّا.

و إمّا أن تكون (ما) معطوفة على النساء في قوله: فِي اَلنِّساءِ .

هذه الوجوه المعروفة بين النحويين و المفسّرين.

و الحقّ أنّ بعضها بعيد عن سياق الآية الشريفة و لا يخلو عن التعسّف، و على أغلب الاحتمالات يكون قوله تعالى: فِي يَتامَى اَلنِّساءِ متعلّقا ب (يتلى)، أي: ما يتلى عليكم في شأنهن.

و الأولى أنّها معطوفة على قوله تعالى: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ . و المعنى: قل اللّه يفتيكم في الأحكام الّتي تتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء.

و كيف كان، ففي إتيان صيغة المضارع: «و ما يتلى عليكم»؛ للدلالة على دوام التلاوة و استمرارها، و أنّ جملة: «اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن و ترغبون ان تنكحوهن» وصف ليتامى النساء. و أمّا قوله تعالى: وَ تَرْغَبُونَ إمّا عطف على صلة «اللاتي»، أو على المنفي وحده، و يحتمل أن يكون حالا من فاعل «تؤتونهن»، و حينئذ فإن جوّزنا دخول الواو على الجملة المضارعيّة الحاليّة فالأمر ظاهر، و إلاّ فلا بدّ من تقدير مبتدأ، أي: و أنتم ترغبون، و قد ذكرنا في التفسير ما يتعلّق بحرف الجرّ المقدّر في قوله تعالى: أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ .

و أمّا قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ ، فالمعروف أنّه عطف على

ص: 357

ما قبله، و جوّز بعضهم الرفع على أنّه مبتدأ و الخبر محذوف، أي: خير و نحوه.

و احتمل آخرون النصب من غير عطف بإضمار فعل، أي: و يأمركم أن تقوموا.

و أمّا قوله تعالى: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ ، فالمعروف أنّه من باب الاشتغال، أي: و إن خافت امرأة خافت، و احتمل بعضهم أنّ «امرأة» مبتدأ و ما بعده الخبر، و قدّر بعضهم (كانت) لاطراد حذف (كان) بعد (ان).

و الحقّ هو الأوّل لما فيه من التأكيد على تحقّق الخوف الفعلي، كما عرفت في التفسير فراجع.

و قوله تعالى: أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً فالقراءة المعروفة هي ضمّ الياء و تخفيف الصاد و كسر اللاّم، و قرأ بعضهم (يصّالحا) بفتح الياء و تشديد الصاد و ألف بعدها، و أصله: يتصالحا، فبدّلت التاء صادا و أدغمت و قرأ آخرون: (يصحا) بفتح الياء و تشديد الصاد من دون ألف بعدها، و أصله يصطلحا، فخفف بإبدال الطاء المبدّلة من تاء الأفعال صادا و أدغمت الأولى فيها. و قال بعضهم: إنّه أبدلت التاء صادا ابتداء. و قرئ بعضهم: (يصطلحا).

و كيف كان، فإنّ (صلحا) منصوب على أنّه مفعول به على القراءة المعروفة، أو يكون منصوبا بفعل مترتّب على المذكور، أي: فيصلح حالهما صلحا، أو منصوب على إسقاط الخافض، أي: بصلح، يعني: بشيء يقع بسببه المصالحة، أو التوسّع في الظرف لا على تقدير بينهما، و إمّا أن يكون مصدرا محذوف الزوائد.

و اللاّم في اَلصُّلْحُ خَيْرٌ للجنس، و يحتمل أن يكون للعهد.

و (أحضرت) في قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ ، متعدّ لاثنين، بخلاف حضر، فإنّه متعدّ لواحد، و الأوّل هو (الأنفس) القائم مقام الفاعل، و الثاني الشحّ ، أي: احضر اللّه تعالى الأنفس للشحّ . و يحتمل أن يكون القائم مقام الفاعل هو الثاني، أي: أنّ الشحّ حاضر لها لا يغيب عنها أبدا، و لا يضرّ تأنيث الفعل كما هو المعروف.

ص: 358

و (كلّ ) في قوله تعالى: فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ منصوب على المصدريّة، و المعروف أنّها بحسب ما يضاف إليه من مصدر أو ظرف أو غيره.

و حذف النون في فَتَذَرُوها إمّا لأجل (أن) الناصبة المضمرة في جواب النهي. و إمّا لأجل الجازم؛ لأنّه معطوف على الفعل قبله، و هو الأصحّ .

و (أن) في قوله تعالى: أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ إمّا على أنّها مصدريّة، بتقدير الجارّ، أي: بأن اِتَّقُوا اَللّهَ ، أو تكون مفسّرة للوصية؛ لأنّ فيها معنى القول، و هو يرجع إلى الأوّل أيضا.

و جملة: «و ان تكفروا فإن للّه ما في السموات و ما في الأرض»، إمّا جملة مستأنفة خوطب بها هذه الأمّة إكراما و تعظيما لهم. و إمّا عطف على وَصَّيْنَا بتقدير (قلنا)، أي: وصينا و قلنا: وَ إِنْ تَكْفُرُوا ، فالخطاب يكون للجميع - لهذه الأمّة و لغيرها من الأمم -. و قيل: إنّه عطف على اِتَّقُوا اَللّهَ .

و أمّا قوله تعالى: أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ فقد وقع الكلام في لفظ الآخر، في أنّه هل يشترط فيه الاتّحاد في الجنس أم لا يشترط ذلك، فذهب جمع من العلماء إلى الاشتراط. و قالوا بأنّ لفظ (آخر) و (أخرى) و جمعهما، لا يوصف به إلاّ ما يجانس المذكور قبله، و بذلك يشبه: سائر و بقية و بعض، قال تعالى: أَ فَرَأَيْتُمُ اَللاّتَ وَ اَلْعُزّى * وَ مَناةَ اَلثّالِثَةَ اَلْأُخْرى [سورة النجم، الآية: 18-19]، فوصف عزّ و جلّ مناة بالأخرى لمّا جانست العزى و اللات، و قال تعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ اَلشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيّامٍ أُخَرَ [سورة البقرة، الآية: 186]، فإنّه وصف الأيّام بالآخر؛ لكونها من جنس الشهر؛ و لذلك خطّأوا قولهم: (ابتعت عبدا و جارية اخرى)؛ لأنّ الجارية ليست من جنس العبد؛ لأنّه مذكر و هي مؤنّثة، كما لا يقال: جاءت هند و رجل آخر.

و ذكروا في وجه ذلك بأنّ (آخر) من قبيل (افعل) الّذي يصحبه (من)، و تحذف غالبا لدلالة الكلام عليها و كثرة استعمال (آخر) في النطق، و حينئذ لا بدّ

ص: 359

أن يجانس المذكور بعده ما قبله و إن حذف ما بعده، فإذا قيل: قال المتنبئ و آخر، أي: من الشعراء، و ذكر هؤلاء أنّه من هنا جاء الفرق بين (غير) و (آخر)، فإنّ (غيرا) تقع على المغائر في الجنس أو الوصف، و (آخر) لا يقع إلاّ على المغائرة بين أبعاض جنس واحد.

و تطرّف آخرون حيث ذكروا أنّ (آخر) إنّما يقابل ما كان من جنسه تثنية و جمعا و إفرادا.

و لكنّه مردود بورود خلاف ذلك في كلام العرب، قال ربيعة بن يكدم:

و لقد شفعتهما بآخر ثالث *** و أبي الفرار إلى الغداة تكرمي

و قال أبو دحية النميري:

و كنت أمشي على ثنتين معتللا *** فصرت أمشي على أخرى من الشجر

و كيف كان، فقد ذهب جمع آخرون منهم نجم الأئمة الرضي إلى عدم الاشتراط و احتجّوا بأنّ الاشتراط لم يكن متّفقا عليه، و أنّه يكفي الاشتراك بين المتقدّم و المتأخّر في عنوان واحد؛ و لذلك صحّ أن يقال: جاءني زيد و آخر، على تقدير: و رجل آخر، أو يقال: اشتريت فرسا و مركوبا آخر، لاشتراكهما في عنوان المركوبيّة و نحو ذلك، بلا فرق بين التثنية و الجمع و الإفراد، و لكن ذلك يختصّ بما إذا كان حقيقتهما واحدة و إلاّ فلا يجوز، فلا يصحّ أن يقال: رأيت المشتري و المشترى الآخر، تريد بأحدهما الكوكب و بالآخر مقابل البائع. و بناء عليه لا يشترط الاتّفاق في التذكير أو التأنيث، فيجوز: جاءني جاريتك و إنسان آخر، قال عنترة:

و الخيل تقتحم الغبار عوابسا *** من بين منظمة و آخر ينظم

و الحقّ أن يقال: إنّ (آخر) إنّما يؤتى به في مورد يتوهّم اتّحاد ما قبله لما بعده، فتظهر به المغائرة، و حينئذ لا تختصّ الاتّحاد في الجنس، بل يصحّ في غيره و لو على ضرب من التأويل، و بذلك يمكن الجمع بين الكلمات، فمن قال بالاختصاص - أي:

ص: 360

في ما لم يكن التأويل - و رفضه الذوق الأدبي، و من قال بعدمه - أي: في مورد صحّ فيه التأويل -.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على أمور:

الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ على أهميّة الأحكام المتعلّقة بالنساء و لزوم مراعاتها، فإنّ الإسلام اعتبر النساء كالرجال، فلهن من الحقوق كما للرجال، و أنّ عليهن من الحقوق للرجال مثل ما على الرجال بالنسبة إليهن، لأنّ بهما يقوم المجتمع لا يمكن نيل السعادة المنشودة إلاّ بهما معا، و يؤكّد ذلك افتاؤه عزّ و جلّ لهن بعدم الاستفتاء منهم، و هذا ممّا يدلّ على عظيم شأنهن، و قد تقدّم في سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

و الآية المباركة تدلّ على وجود عادات سيئة في النساء، و على الخصوص يتاماهن و المستضعفين من الولدان، و أنّ الإسلام ينكرها أشدّ إنكار و يضع الحلول المستقيمة و إن كانت على نحو التدريج، فقد ذكر عزّ و جلّ جملة منها في أوّل هذه السورة و بعضها الآخر في مواضع أخرى، و لم يذكرها جملة واحدة؛ لأنّ العادات كانت مستحكمة لا يمكن إزالتها و زعزعتها بسهولة. و من هنا نرى أنّ اللّه تعالى في هذه الآية الكريمة يؤكّد على مراعاة الخير في هذا الموضوع المهمّ ، لأنّ الخير ترغب إليه النفوس و هي مجبولة على حبّة، و لإرشاد الناس إلى أنّ تلك الأحكام و الحلول إنّما هي من الخير الّذي يعود نفعه إلى الأفراد و الى المجتمع.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ على أنّ الصلح مبارك، و هو جائز بين المسلمين في كلّ شيء إلاّ ما ورد من قبل الشارع ما يمنعه. و لعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الصلح جائز بين المسلمين إلاّ ما أحلّ حراما أو حرّم حلالا»،

ص: 361

مأخوذ من هذه الآية الشريفة، و لا غرو في ذلك لأنّ اللّه تبارك و تعالى أعطاه من الذوق الرفيع و الذهن الثاقب و أفاض عليه من العلوم ما جعله يعلم أسرار كلامه عزّ و جلّ ، و منحه الفصاحة حتّى جعله أفصح من نطق بالضاد، و يأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بالمقام.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ أنّ الشح كامن في كلّ نفس، و هو من الغرائز المودعة فيها، و يكون حاضرا إذا توفّرت المقتضيات، و يؤثّر أثره عند زوال المانع، و المقتضيات كثيرة منها الشقاق، و النزاع و الإعراض و نحو ذلك. و أمّا المانع من تأثيره فإنّما هي التقوى؛ و لذا ورد التأكيد على لزومها و مراعاتها.

و أمّا معالجة هذه الغريزة إنّما تكون بالإحسان بالمعنى الأعمّ الشامل لكلّ خير و إنفاق و نحوه. و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى في ذيل الآية الشريفة: وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ على وجوب القسمة بين الأزواج، و هي من المستطاع الّذي يجب مراعاته، و المنفي إنّما هو الميل القلبي، و بعض الأمور الخارجة عن الاختيار و الآية الكريمة لا تشملها. و أمّا الّذي يمكن أن يقع تحت الاختيار فهو واجب كما عرفت، و سيأتي في البحث الفقهي ما يرتبط بالمقام فراجع.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ على أنّ الفرقة و الطلاق لم يكن مأمورا به من قبل الشارع، و إنّما هو أمر اختاره الزوجان، بقرينة إسناد الفعل إليهما بعد أن لم ينفع الصلح و الاتّفاق و عدم الرغبة من الزوجين على دوام الزوجية، و عدم إبداء الحرص منهما أو من أحدهما على استرضاء الآخر، و هذا ممّا يؤكّد على أنّ الطلاق أمر مبغوض في الشرع الإسلامي - كما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أبغض الحلال إلى اللّه الطلاق» - و لم يؤمر به في حالة من الأحوال

ص: 362

في القرآن الكريم، و أنّه لم يكن علاجا ناجحا إلاّ إذا انسدت الأبواب في وجه الزوجين و لم يمكن الزوج العيش مع الزوجة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في سورة البقرة فراجع.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ على وحدة الفعل الّذي يدلّ على ثبوت الفاعل و وحدته لما عرفت سابقا، و لأجل أهميّة هذا الدليل لكونه أقرب إلى الفطرة و لموافقته للطبع، أكّد عليه القرآن. و قد تكرّرت هذه الآية الكريمة المباركة في المقام أربع مرات: إحداها في ما تقدّم و سبق الكلام فيها، و لأجل دلالتها على استجماع الخالق المالك لما في السموات و ما في الأرض جميع صفات الكمال، ذكر عزّ و جلّ في ذيل كلّ آية صفة من صفاته العليا، و هي تدلّ على علمه الأتمّ و حكمته المتعالية و ربوبيّته العظمى و استغنائه عن مخلوقاته و قدرته التامّة.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ على أهميّة التقوى و عظم أثرها في المخلوقات، بل لها المدخليّة في الأمور الكونيّة - بقاء و فناء سعادة و شقاء - فهي تجلب الخير و البركة و السعادة، و أنّ في تركها زوال ذلك، بل قد يستلزم منه الفناء، و هذا ما يؤكّد عليه القرآن الكريم في مواضع متعدّدة، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في هذه الآية الكريمة الدلالة على أنّ الإعراض عن التقوى قد يوجب قلب الحقيقة و اختلال النظام و فناء الإنسان، فلا بدّ من التفكّر في عواقب ترك التقوى و الإعراض عن طاعة اللّه عزّ و جلّ . و لا شكّ في أنّ ما أصاب الإنسان في هذا العصر من المصائب و المكاره ليس إلاّ لأجل تركه التقوى و إعراضه عنها، فإنّه مع التقدّم في جميع الوسائل الماديّة و بلوغ أعلى درجة المدنيّة و الحضارة، و لكنّه يعيش في أسوأ حالته من الشقاء و التعاسة و الحرمان، و ما أبعد الإنسانيّة عن الكمال المنشود لها. و لعمري إنّه

ص: 363

لو بذل الإنسان هذا الجهد - بل أقلّ منه - في طاعة اللّه تعالى و تقواه، لبلغ إلى ما وصل إليه الآن و نال الزيادة و وصل إلى الكمال المنشود، و هو في راحة و اطمئنان و استقرار و أمان، فالدين هو الوسيلة الوحيدة في جلب هذه الأمور و سعادة الدارين، و في غيره الشقاء و التعب و الحرمان و البعد عن الحقيقة و الواقع.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ اَلدُّنْيا فَعِنْدَ اَللّهِ ثَوابُ اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ على أنّ ثواب الدنيا و الآخرة و سعادتهما إنّما هو من عند اللّه تعالى، و أنّ الطريق منحصر في التقوى الحاصلة من طاعته و العمل بدينه عزّ و جلّ ، و التقوى هي الّتي تهيّأ العبد لإفاضة الباري عزّ و جلّ عليه بما هو خير الدنيا و الآخرة، و هي الوسيلة للوصول إلى مقام رضاه و جنّة اللقاء.

و هذه الآية المباركة ردّ على مزاعم من يذهب إلى أنّ الوصول إلى المقامات العالية و نيل الدرجات الرفيعة و التنعّم برضاه تعالى، يكون بالمجاهدة فقط من دون دين و عقيدة، أو بالذكر المجرّد، أو بأفعال خاصّة، و نحو ذلك ممّا يقوله أهل ذلك الفن، فإنّه لا يصحّ ذلك و لا يمكن أن ينال ثوابا أو إفاضة إلاّ من عنده تعالى، و إنّ اللّه هو السميع البصير العالم بجميع شؤون عباده و المهيمن على جميع خلائقه.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ، قال: نزلت مع قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ ... - فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ ، فنصف الآية في أوّل السورة و نصفها على رأس المائة و العشرين آية؛ و ذلك أنّهم كانوا لا يستحلّون أن

ص: 364

يتزوجوا يتيمة قد ربّوها فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، فأنزل اللّه: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ - الى قوله - مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ .

أقول: لعلّ المراد من التنزيل التشريع، أي: شرّع ما يتعلّق بالنساء من الأحكام دفعة واحدة؛ و لذلك لا يضرّ تفريق الآية الكريمة حينئذ، بعد ما كان ذلك بتقرير النبيّ صلّى اللّه عليه و آله أو المعصوم. و ليس هذا من التحريف؛ لأنّ الموضوع غير قابل له، و المراد من قوله عليه السّلام: «على رأس المائة و العشرين» تقريبي لا دقّي كما هو معلوم.

و في تفسير علي بن إبراهيم: «عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ ، فإنّ نبي اللّه سئل عن النساء ما لهن في الميراث ؟ فأنزل اللّه: الربع و الثمن».

أقول: ذكرنا في الفقه ما يتعلّق بأحكام إرثهن، فالربع إن لم يكن للزوج ولد، و الثمن إن كان له ولد، كما في الآية المباركة.

و في المجمع في قوله تعالى: فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ عن أبي جعفر عليه السّلام: «ما كتب لهن من الميراث».

أقول: الرواية من باب ذكر بعض ما كتب لهن في الإرث، و إنّ الآية الكريمة عامّة تشمل الإرث و غيره.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ قال: «كان أهل الجاهلية لا يورّثون المولود حتّى يكبر و لا يورّثون المرأة، فلما كان الإسلام قال: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ - الآية».

أقول: وردت روايات كثيرة عن الفريقين في أنّ المرأة كانت محرومة عن الإرث في الجاهليّة، و الإسلام أبطل هذه العادة و رفع شأنها.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ قال: «إنّ أهل الجاهلية كانوا لا يورّثون الصبي الصغير و لا الجارية من ميراث آبائهم شيئا، و كانوا لا يعطون الميراث إلاّ لمن يقاتل، و كانوا يرون ذلك في دينهم حسنا، فلما أنزل اللّه فرائض المواريث وجدوا من ذلك وجدا شديدا فقالوا:

ص: 365

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي اَلنِّساءِ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ فِي يَتامَى اَلنِّساءِ اَللاّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ اَلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ اَلْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ قال: «إنّ أهل الجاهلية كانوا لا يورّثون الصبي الصغير و لا الجارية من ميراث آبائهم شيئا، و كانوا لا يعطون الميراث إلاّ لمن يقاتل، و كانوا يرون ذلك في دينهم حسنا، فلما أنزل اللّه فرائض المواريث وجدوا من ذلك وجدا شديدا فقالوا:

انطلقوا الى رسول اللّه فنذكره ذلك لعلّه يدعه أو يغيّره، فأتوه فقالوا: يا رسول اللّه للجارية نصف ما ترك أبوها و أخوها، و يعطي الصبي الصغير الميراث، و ليس واحد منهما يركب الفرس و لا يحوز الغنيمة و لا يقاتل العدو؟! فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بذلك أمرت».

أقول: ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات أخرى قريبة لما تقدّم و إن كانت تعابيرها مختلفة، إلاّ أنّ معانيها متقاربة. و المراد من قوله عليه السّلام: «و كانوا يرون ذلك في دينهم حسنا»، أي: في عاداتهم السائدة في زمان الجاهليّة؛ و لذلك شدّد الأمر عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بقوله: «بذلك أمرت»، و خصّصت الرواية بموانع الإرث و الزواج المنقطع، كما ذكرنا في الإرث من (مهذب الأحكام).

و كيف كان، فإنّه يستفاد من الآية الشريفة بقرينة هذه الرواية أنّها في مقام ردع بعض العادات السيئة الّتي كانت سائدة قبل البعثة.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ : «انّ الرجل كان في حجره اليتيمة، فتكون دميمة و ساقطة - يعني: حمقا - فيرغب الرجل أن يتزوّجها و لا يعطيها مالها، فينكحها غيره من أجل مالها و يمنعها النكاح و يتربّص به الموت ليرثها فنهى اللّه عن ذلك».

أقول: ظهر ممّا ذكرنا من أنّ الآية الكريمة في مقام ردع بعض العادات السيئة الّتي كانت سائدة عند العرب قبل البعثة، بتشريع أحكام خاصّة لهن ترجع شأنهن بقرينة هذه الروايات.

ص: 366

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ :

«انّهم كانوا يفسدون مال اليتيم، فأمرهم أن يصلحوا أموالهم».

أقول: القسط بين أن يكون في الأموال أو في الأنفس، و ذكر الأموال من باب: لا فرق في الغالب، و ليس من باب التقييد.

و في الكافي بسنده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً ، فقال: هي المرأة تكون عند الرجل فيكرهها فيقول لها: إنّي أريد أن أطلّقك، فتقول له: لا تفعل، إنّي أكره أن تشمت بي، و لكن انظر في ليلتي فاصنع بها ما شئت، و ما كان سوى ذلك من شيء فهو لك، ودعني على حالتي، فهو قوله تبارك و تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً و هذا هو الصلح».

أقول: و في هذا المضمون روايات كثيرة تدلّ على جواز الصلح بظهور علامات الطلاق و الفراق و عزم الزوج بذلك، باختلاف الدواعي و الأسباب، و كلّها من باب التطبيق و الجري.

و في سنن البيهقي بسنده عن علي عليه السّلام: «انّه سئل عن قوله تعالى: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً ، فقال: هو الرجل عنده امرأتان فتكون إحداهما قد عجزت أو تكون دميمة، فيريد فراقها فتصالحه على أنّه يكون عندها ليلة و عند الأخرى ليالي و لا يفارقها، فما طابت به نفسها فلا بأس به، فإن رجعت سوى بينهما».

أقول: الدمامة (بالفتح) القبح، يقال: رجل دميم، أي: قصير و قبيح سواء كان في الجسم أو نقص في العقل - كالحمق كما مرّ في الرواية السابقة -.

و كيف كان، فهذه الرواية من باب الجري و التطبيق أيضا.

و في الكافي بسنده عن زرارة قال: «سئل أبو جعفر عليه السّلام عن النهارية يشترط عليها عند عقد النكاح أن يأتيها ما شاء نهارا أو من كلّ جمعة أو شهر يوما و من

ص: 367

النفقة كذا و كذا، قال: فليس ذلك الشرط بشيء، من تزوّج امرأة فلها ما للمرأة من النفقة و القسمة، و لكنّه إن تزوّج امرأة فخافت فيه نشوزا أو خافت أن يتزوّج عليها فصالحت من حقّها على شيء من قسمتها أو بعضها، فإن ذلك جائز لا بأس به».

أقول: إنّ كلا من النفقة و القسمة واجبتان على الزوج مطلقا، و إنّ كلا منهما محدّد في الشرع، فإذا كان الشرط على خلاف ذلك يكون فاسدا - كما ثبت في محلّه - لأنّه إمّا يوجب الضرر أو الحرج أو تغيير ما حدّده الشارع، بخلاف ما لو صالحت من حقّها باختيارها على شيء، كما في ذيل الرواية فلا بأس به.

و عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ إِنِ اِمْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً - الآية قال: «نزلت في بنت محمد بن مسلمة كانت امرأة رافع بن خديج، و كانت امرأة قد دخلت في السن و تزوّج عليها امرأة شابة كانت أعجب إليه من بنت محمد بن مسلمة، فقالت له بنت محمد بن مسلمة: ألا أراك معرضا عني مؤثّرا عليّ؟ فقال رافع: هي امرأة شابة و هي أعجب إليّ ، فإن شئت أقررت على أنّ لها يومين أو ثلاثا مني و لك يوم واحد، فأبت بنت محمد بن مسلمة أن ترضى فطلّقها تطليقة ثمّ طلّقها أخرى، فقالت: لا و اللّه لا أرضى أو تسوي بيني و بينها يقول اللّه: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ و ابنة محمد لم تطب نفسها بنصيبها و شحّت عليه، فأعرض عليها رافع: إمّا أن ترضى و أمّا أن يطلّقها الثالثة، فشحّت على زوجها و رضيت فصالحته على ما ذكرت، فقال اللّه تعالى: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ ، فلما رضيت و استقرّت لم يستطع أن يعدل بينهما فنزلت: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ، أن يأتي واحدة و يذر الأخرى لا أيم و لا ذات بعل، و هذه السنّة في ما كان كذلك إذا أقرّت

ص: 368

امرأة و رضيت على ما صالحها عليه زوجها فلا جناح على الزوج و لا على المرأة، و إن أبت هي طلّقها أو تساوي بينهما، لا يسعه إلاّ ذلك».

أقول: قريب منه ما عن الواحدي في أسباب النزول، و رواه السيوطي في الدرّ المنثور عن جمع، و عن الحاكم إلاّ أنّ فيه: «فتزوّج عليها شابة فآثر عليها، فأبت الأولى أن تقرّ فطلّقها تطليقة، حتّى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة، و إن شئت تركتك ؟ قالت: بل راجعني، فراجعها فلم تصبر على الأثرة فطلّقها أخرى و آثر عليها الشابة، فذلك الصلح الّذي بلغنا أنّ اللّه أنزل فيه».

و عن البيهقي عن سعيد بن المسيب: «انّ ابنة محمد بن مسلمة كانت عند رافع بن خديج فكره منها أمرا، إمّا كبرا أو غيره فأراد طلاقها، فقالت: لا تطلّقني و اقسم لي ما بدا لك، فاصطلحا على صلح، فجرت السنّة بذلك و نزلت الآية».

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و أنّ سبب النزول لا يصير مخصصا للآية الكريمة، و لا يضرّ الاختلاف في المضامين ما لم يناف القواعد الشرعيّة، و الظاهر وحدة القضية.

و عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ أُحْضِرَتِ اَلْأَنْفُسُ اَلشُّحَّ ، قال:

أحضرت الشحّ ، فمنها ما اختارته، و منها ما لم تختره».

أقول: الشحّ غريزة مطبوعة في الإنسان - فمنه الممدوح كما أنّ منه المذموم - و هو قابل للسيطرة عليه نوعا ما؛ و لذا قال عليه السّلام: منه اختياري و قابل للسيطرة عليه، و منه غير اختياري فلا يمكن السيطرة عليه.

و في تفسير العياشي عن هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ قال عليه السّلام: «في المودّة».

أقول: الحبّ أو المودّة أمر قلبي غير اختياري، و لا يتعلّق التكليف بأمر غير

ص: 369

اختياري؛ و لذلك قلنا مكرّرا إنّ الخواطر القلبيّة لا يتعلّق بها التكليف، كما دلّت عليه روايات كثيرة أيضا. و كذا في المقام، فإنّ التسوية في المودّة أو المحبّة غير ممكنة، بل لا بدّ من الرجحان في أحدهما.

و في المجمع عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: «انّه كان يقسم بين نسائه و يقول: اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك و لا أملك».

أقول: الرواية وردت عن طرق العامّة و الخاصّة، كما ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور، و المراد بقوله صلّى اللّه عليه و آله: «فيما تملك و لا أملك» المحبّة أو الميل إلى إحداهن، و يستفاد منها أنّ الميل و المحبّة القلبيّة أو المحبّة الّتي لا تظهر آثارها على الجوارح، خارجة عن تحت الاختيار، فلا يعاقب عليها المكلّف لعدم القدرة على ذلك كما قلنا، و أمّا سؤال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله فهو من أدب العبوديّة، نظير خطاب امرأة عمران مع اللّه سبحانه و تعالى: قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى [سورة آل عمران، الآية: 36]، أو يكون تشريفيّا، كما في قصة موسى عليه السّلام في سؤاله تعالى منه بقوله: وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى [سورة طه، الآية: 17].

و في الكافي بسنده عن نوح بن شعيب قال: «سأل ابن أبي العوجاء هشام بن الحكم قال له: أليس اللّه حكيما؟ قال: بلى هو أحكم الحاكمين، قال: فاخبرني عن قوله عزّ و جلّ : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً ، أليس هذا فرض ؟ قال: بلى، قال: فاخبرني عن قوله عزّ و جلّ : وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ ، أي حكيم يتكلّم بهذا؟ فلم يكن عنده جواب فرحل إلى المدينة إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال عليه السّلام: يا هشام في غير وقت حجّ و لا عمرة ؟ قال:

نعم، جعلت فداك لأمر أهمّني، أنّ ابن أبي العوجاء سألني عن مسألة لم يكن عندي فيها شيء، قال عليه السّلام: و ما هي ؟ قال: فأخبرته بالقصة، فقال له أبو عبد اللّه عليه السّلام: أمّا

ص: 370

قوله عزّ و جلّ : فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً يعني في النفقة، و أمّا قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ اَلْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ يعني في المودّة، قال: فلما قدم عليه هشام بهذا الجواب و أخبره، قال: و اللّه ما هذا من عندك».

أقول: في تفسير القمّي ذكر الرواية بعينها و قال: «سأل بعض الزنادقة أبا جعفر الأحول - إلى أن قال -: فرجع أبو جعفر إلى الرجل فأخبره، فقال: هذا حملته من الحجاز».

و كيف كان، فجمع الإمام عليه السّلام بين الآيتين المباركتين مطابق للواقع، فإنّهم أعرف برموز القرآن و دقائقه لأنّه نزل في بينهم.

و في المجمع للطبرسي في قوله تعالى: فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ أي: «تذرون الّتي لا تميلون إليها كالّتي هي لا ذات زوج و لا أيم، قال: و هو المروي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام».

أقول: و قريب منه ما عن ابن عباس كما في الدرّ المنثور، و تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك.

و عن علي عليه السّلام: «كان له امرأتان، و كان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّأ في بيت الأخرى».

أقول: لا بدّ من حمله على الفضل و الرجحان، و المواظبة على ذلك من مختصّات مقامه الشريف و قداسة منزلته، و في الدرّ المنثور عن مجاهد قال: «كانوا يستحبّون أن يسوّوا بين الضرائر حتّى في الطيب، يتطيّب لهذه كما يتطيّب لهذه».

و في الكافي بإسناده عن عاصم بن حميد قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فأتاه رجل فشكى إليه الحاجة فأمره بالتزويج، قال: فاشتدّت به الحاجة، فأتى أبا عبد اللّه عليه السّلام فسأله عن حاله، فقال: فاشتدّت بي الحاجة، قال عليه السّلام: فارق،

ص: 371

ففارق ثمّ أتاه فسأله عن حاله، فقال: أثريت و حسن حالي، فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

إنّي أمرتك بأمرين أمر اللّه بهما، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ اَللّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ ، و قال تعالى: وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اَللّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ ».

أقول: الآثار الوضعيّة في الآيات المباركة غير قابلة للإنكار، فإنّ وعوده تعالى حقائق فعليّة و لا نقص في قدرته عزّ و جلّ ، و إنّ التخلّف لو تحقّق إنّما يكون لنقص أو وجود مانع في الطرف، كما تقدّم.

و في مصباح الشريعة قال أبو عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيّاكُمْ أَنِ اِتَّقُوا اَللّهَ في هذه الآية: «قد جمع اللّه ما يتواصى به المتواصون من الأوّلين و الآخرين في خصلة واحدة و هي التقوى، و فيه جماع كلّ عبادة صالحة، و به وصل من وصل إلى الدرجات العلى و الرتبة القصوى، و به عاش من عاش بالحياة الطيبة و الانس الدمث، قال اللّه عزّ و جلّ :

إِنَّ اَلْمُتَّقِينَ فِي جَنّاتٍ وَ نَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ ».

أقول: تقدّم أنّ للتقوى مراتب متفاوتة و لكلّ منها درجة، فالإيمان هو التقوى و من لم يتق فكأنّه ليس بمؤمن، بل هو كافر - حسب اختلاف مراتبه - فالتقوى هي الركيزة الأولى في الانتساب العملي و القلبي (العقيدة) إلى اللّه سبحانه و تعالى، و هذا ما يستفاد من الآيات الشريفة لمن تدبّر فيها.

و عن البيضاوي في تفسير قوله تعالى: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا اَلنّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ قال: «و روي أنّ الآية لما نزلت ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على ظهر سلمان (رضوان اللّه تعالى عليه) و قال: إنّه قوم هذا».

أقول: يستفاد من الرواية أنّ قوم سلمان لهم الأهليّة بتبديل الناس بهم للصفة اللائقة لذلك فيهم، و هي التقوى كما مرّ في التفسير و الرواية من باب ذكر المصداق.

ص: 372

بحث فقهي:
اشارة

يستفاد من الآيات المباركة بضميمة الروايات الواردة في الأحكام المستفادة منها أمور:

الأوّل:

لا يجوز لأحد التصرّف في أموال اليتامى و لا في أنفسهن، إلاّ بعد مراجعة الولي على اليتيم أو اليتيمة كالجدّ - أب الأب - لو كان و إلاّ فالحاكم الشرعي، على تفصيل ذكرناه في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام)، و لا بدّ في التصرّف مطلقا من المصلحة تعود لليتامى للآية الشريفة، و لقوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ اَلْيَتِيمِ إِلاّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ * [سورة الانعام، الآية: 152]، و للروايات الواردة في هذا الباب، كما لا يجوز لليتامى التصرّف في أموالهم و أنفسهم للحجر عليهم شرعا كما ذكرنا في الفقه و يرفع الحجر بذهاب اليتم بالعلامات المقرّرة شرعا، كما ذكرناها في كتاب الحجر من (مهذب الأحكام).

الثاني:

النشوز في الزوجة يتحقّق بأمور: منها الخروج عن بيت الزوج بلا إذن منه إن لم يكن خروجها واجبا شرعيا، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة ذكرنا بعضها في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

و منها: عدم تمكين نفسها للزوج فيما يجب عليها التمكين، و يدلّ على ذلك الأدلّة الأربعة، كما قرّرناها في محلّه.

و منها: عدم إزالة المنفّرات المضادّة للتمتع بها و الالتذاذ منها؛ للروايات الدالّة على ذلك، مضافا إلى الإجماع.

و إذا تحقّق النشوز يسقط وجوب النفقة عن الزوج في النكاح، و يستمر السقوط ما دام النشوز باقيا، للأصل. و إذا رجعت عن النشوز و تابت رجع وجوب النفقة على الزوج و تستحقّها لتحقّق المقتضي و رفع المانع، فتشمله الإطلاقات و العمومات.

ص: 373

و أمّا نشوز الزوج فيتحقّق بإظهار الخشونة لها قولا و فعلا، و لا يوجب نشوزه سقوط النفقة الواجبة عليه.

ثمّ إنّ مقدار النفقة من الكميّة و الكيفيّة موكول إلى العرف المتداول حسب كلّ عصر و زمان، كما ذكرنا ذلك في كتاب النكاح من (مهذب الأحكام).

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ قاعدة فقهيّة فيها البركة لعمومها، و هي: «جريان الصلح في جميع العقود دالا ما خرج بالدليل»، كالنكاح مثلا على ما ذكرنا في كتاب الصلح، و تدلّ عليها كلمة «خير» الساري في جميع العقود بلا تقييد و لا تخصيص، و للروايات الكثيرة، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحا حرّم حلالا و أحلّ حراما، و المسلمون على شروطهم إلاّ شرطا حرّم حلالا»، و غيره من الروايات المستفيضة، مضافا الى الإجماع.

و لا يختصّ الصلح بالعقود التمليكيّة - كالبيع و الإجارة و غيرهما - بل يجري في غيرها أيضا - كما ذكرنا في كتاب الصلح من (مهذب الأحكام) و هو يفيد فائدة سائر العقود أيضا، فقد يفيد فائدة البيع أو الإجارة أو الهبة أو الإبراء و هكذا، و لا يشترط فيه أن يكون مسبوقا بالنزاع.

و الصلح: عقد لازم سواء كان مع العوض أو بدونه، لأصالة اللزوم في كلّ عقد إلاّ ما خرج بالدليل، و لم يدلّ دليل فيه على الخروج، و ذكرنا في كتاب البيع من (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بها.

و يغتفر في الصلح ما لم يغتفر في غيره من الشرائط و الأحكام المعتبرة في العقود؛ لأنّه خير، و لا قيد في الخير إن لم يقيّده الشرع.

الرابع:

وجوب التساوي في القسمة بالمبيت عند كلّ واحدة من الزوجات، و كذا في النفقة حسب لياقة الزوجة و شرفها.

ص: 374

نعم، لو كان الرجحان خارجا عن القدرة كالحبّ و المودّة فيسقط وجوب التعديل و التساوي، كما تقدّم في التفسير.

و عن ابن مسعود في قوله تعالى: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ اَلنِّساءِ قال: «في الجماع». و لكن ذلك مجرّد دعوى منه لم تستند إلى معصوم أو دليل عقلي معتبر، مع أنّ الجماع قد يكون باستطاعة الشخص - لاختلاف الأمزجة - و لا يكون كالحبّ و المودّة، فالمناقشة فيما ذكره واضحة و اللّه العالم.

و الحمد للّه أولا و آخرا

ص: 375

المجلد 10

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

بسم الله الرحمن الرحيم

ص: 4

تتمة سورة النساء

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ .......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) الآيتان الشريفتان من الآيات المباركة المعدودة في القرآن الكريم الّتي تعدّ هذه الامّة إعدادا عمليا صالحا لتحمّل المهمّة الكبرى الّتي أنيطت إليها، حيث جعلها خير أمة تأمر بالمعروف و تنهى عن المنكر، و أنّها أمة وسط شهداء على الناس، و قد ميّزها عزّ و جلّ بهاتين المهمتين، أي الشهادة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الّذين يكونان تطبيقا عمليا للعقيدة.

أما الآية الاولى، فهي آية تربويّة توجيهيّة لإقامة العدل الإلهي في هذه الأرض المليئة بالعدوان؛ ليتنعّم البشرية و تقوم بالقسط. و هذه المهمة لا يمكن أن يقوم لها أساس إلاّ بتربية من يقوم بها تربية خاصّة صالحة؛ ليتجرّد للحقّ و إقامة العدل، فإنّ الإنسان عرضة للميل إلى الأهواء، فأمر عزّ و جلّ أن يكونوا قوامين شديدي التمسّك بالقسط في كلّ شؤونهم و ما يتعلّق أو من يتعلّق بهم حتّى يكونوا شهداء للّه تعالى، لا إلى المصالح و المنافع و لا رئاء الناس، و هو يتطلّب التضحية، فلا يكون الغنى و الفقر و لا غيرهما هو الميزان في العدل، بعد أن كان إقامة القسط و العدل للّه تعالى و أنّ مرضاته عزّ و جلّ هي الهدف و الغاية، لا الأهواء الّتي تزيغ الإنسان و تحدّه عن إقامة العدل.

ص: 5

و الآية المباركة تؤكّد على أخذ الحيطة و الاجتناب عن اتّباع الهوى الّذي هو السبيل الوحيد للضلال، و يعتبر جانب الضعف في الإنسان الّذي به يستولي الشيطان على مشاعره، فهذه الآية الشريفة من الآيات التربويّة الّتي تعدّ الأمة إعدادا فكريا تربويا لتطبيق العدل الرباني ليكونوا شهداء على الخلق أجمعين.

و أمّا الآية الثانية، فهي تحدّد الإيمان تحديدا دقيقا، و تبيّن الأركان في الإيمان باللّه العظيم و قواعده الّتي بها يمكن أن تصل الأمة إلى المنزلة الّتي أعدّها اللّه تعالى لها، فأمر عزّ و جلّ بالتمسّك بالإيمان الّذي آمنوا به أوّلا، إذ مجرّد الإيمان من دون أن يكون راسخا في النفوس لا أثر مهم يرجى منه، فأمرهم بالإيمان ثانيا في أسلوب ملفت للنظر، ليثير الإحساس فيتهيّأ للعمل على تنميته و الاستقامة عليه، ثم شرح الإيمان باللّه تعالى شرحا وافيا؛ ليبيّن أنّ الإيمان به لا يمكن أن يكون مجهولا كما كان عليه أهل الجاهليّة، فإنهم أيضا كانوا يدّعون الإيمان قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اَللّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اَللّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اَللّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ اَلْمُتَوَكِّلُونَ [سورة الزمر، الآية: 38] إلاّ أنّ الإيمان المطلوب هو الإيمان باللّه العظيم مقرونا بالإيمان بالرسول و بالكتاب الّذي نزّل عليه و ما اشتمل عليه من الأحكام و التوجيهات و الإرشادات، ثم يؤكّد ذلك ببيان ضدّه - و هو الكفر باللّه تعالى و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر - للإعلام بأن الإيمان ليس أمرا ادعائيا يدخل فيه كل من اعتبر نفسه مؤمنا إلاّ إذا تحقّقت تلك القواعد و الأركان الّتي أعدّ اللّه تعالى لهذه الأمة.

و الآيات الشريفة ذات صلة بالآيات المباركة السابقة من حيث أنّها تشرح الإيمان و تبيّن التقوى بيانا كافيا.

ص: 6

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

سبق الكلام في هذا الخطاب الدالّ على كمال العناية بالمؤمنين، حيث جعلهم عزّ و جلّ مورد الإفاضة و اللطف و تشريع الأحكام دون غيرهم، إلاّ أنّه نزيد هنا أنّ هذا النداء الربوبي يشير إلى معنى دقيق لا يوجد في أي خطاب آخر، و هو أنّ المؤمنين لمّا تشرّفوا بالإيمان و أعرضوا عن جميع المميزات و نبذوا كلّ الحواجز الّتي ابتداعها أهل الزيغ و الضلال فصارت رابطة الإيمان أقوى الروابط الّتي تشدّ بعضهم مع بعض و أشدّها تأثيرا عليهم، فلم تبق رباطة اخرى تحرّكهم و تؤثّر عليهم من الروابط الّتي أقامتها الجاهليّة الغابرة و الحاضرة لاستيعاب الدين و العقيدة و الحدّ من تأثيرهما، كرابطة الجنس و اللغة و اللون و غيرها، و خمدت كلّ الصرخات الباطلة و الأهواء الزائفة و العادات السيئة، فأصبحوا بفضل الإيمان أمة واحدة بررة متحابّين يشدّ بعضهم بعضا كالبنيان المرصوص، لا تمييز فيها و لا فضل إلاّ بالتقوى لأنهم عبيد اللّه و المؤمنون به، فتشرّفوا بهذا النداء الربوبي، و ناداهم الجليل تعالى بأهل الإيمان و أمته لأنّهم أمة متميّزة، لا أمة الجنس، و لا اللون، و لا أمة اللغة و لا القوم و لا العصبية، و لا الأرض، لأنّهم آمنوا باللّه تعالى و تربّوا بتربيته عزّ و جلّ ، و تميّزوا بعقيدة خالصة و تحمّلوا أعظم مسؤوليته، و هي التبليغ و الشهادة؛ لأنّهم علموا بأنّ هذه العقيدة لا بدّ أن تطبق على واقع الأرض، فأصبحوا شهداء للّه تعالى على خلقه، فهذا النداء الربوبي يتضمّن العقيدة و التوجيه و التربية و الإعداد، فما أعظمه و أشدّ تأثيره على المؤمنين الّذين تميّزوا بخالص العقيدة، و لذا ورد في الحديث: أنّ جميع ما ورد في القرآن الكريم من هذا الخطاب فعلي عليه السّلام رأسه و أميره، و السرّ في ذلك معلوم لأنّه عليه السّلام تميّز بصدق الإيمان و خالص العقيدة و ثباتها و عرف ما يتضمّن هذا النداء من المسؤولية فآمن و عمل بمقتضاه، فصار بحقّ رأسه و أمير المؤمنين.

ص: 7

و ممّا ذكرنا يعرف السرّ في الابتداء بهذا النداء؛ لأنّه يعدّ المؤمن لتلقي حكما إلهيا عظيما و يهيّئوه للدخول في الأفق الأعلى.

قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ .

إرشاد إلى حقيقة واقعية، و هي: أنّ الإنسان لا يمكن له الوصول إلى ما خلقه اللّه تعالى لأجله الّذي فيه كماله و سعادته، و لا يصحّ له أداء الأمانة الكبرى الّتي عرضها سبحانه و تعالى على السموات و الأرض و الجبال و أشفقن منها و حملها الإنسان، أنه كان ظلوما جهولا. فإنّ هذه الأمانة لا تقوم إلاّ بإقامة القسط، و لا تصلح هذه الأمة المرحومة - الّتي جعلها اللّه تعالى قائدة و رائدة لسائر الأمم و حمّلها مقام الشهادة على سائر الخلق - لهذه المهمة الكريمة إلاّ بهذه الصفة و هي أن تكون قوامة للقسط و العدل فقط لا لهوى و مصلحة و غيرها، و لا يكون هدفها سوى إقامة القسط و بسط العدل و الشهادة للّه تعالى؛ لأنّ هذه الصفة من أتمّ الأسباب لاتّباع الحقّ و إقامته و ملازمة الصدق و الدنو إلى مقام الرضا.

و القوام: من القيام بالشيء، أي المواظبة عليه و ملازمته، و هي من صيغ المبالغة، و قد أوضحنا في أحد مباحثنا السابقة أنّه لا معنى للمبالغة في الاستعمالات الواردة في القرآن الكريم؛ لأنّها ضرب من الادعاء، و هو لا يصلح لمقام هذا الكتاب الإلهي العظيم، بل يمكن أن يقال إنّ أبنية المبالغة الملحقة بالكلام العادي الّذي يحاول صاحبه أن يجتنبه عن ما يبعده عن الواقع بعيد، فيراد من استعمال هذه الصيغ في أمر إلفات النظر و توجيه المخاطب إلى التمسّك به بشدّة و إتيانه بأتمّ الوجوه و أكملها و أدومها، ففي المقام يراد به شدّة القيام بالقسط و ملازمته على كلّ حال و إقامته على أحسن الوجوه و أكملها و الاحتراز عن الجور، ففي هذا الأسلوب دلالته الواضحة، و هو يلفت النظر دون سائر التعابير. هذا ما يستفاد من أسلوب المبالغة، و هو يرشد إلى أنّ القسط و العدل و سائر الأمور الدينيّة لا اعتبار بها ما لم تكن مستقرة دائمة، فلا تكفي المرّة أو المرّات، بل لا بدّ أن تكون ملكة راسخة، و في المقام لا بدّ من القيام بالقسط حتّى يصير عادة لهم داخلة في واقع إيمانهم و جزءا لا ينفكّ منه.

ص: 8

و القسط: هو العدل، و من أسمائه تعالى «المقسط» أي العادل، و سمّي الميزان القسط أيضا؛ لأنّ به يتحقّق العدل في الشيء، و في الحديث: «انّ اللّه لا ينام و لا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط و يرفعه»، و هو كناية عن ما يقدّره اللّه للعباد من رفع شؤونهم و تنزيلها. و في صفات المؤمنين: «إذا قسّموا أقسطوا»، أي: عدلوا.

و تقدّم ما يتعلّق بهذه الكلمة في قوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتامى [سورة النساء، الآية: 3] فراجع.

و القيام بالقسط من معدّات مقام الشهادة، فلا يمكن أدائها بصدق و أمانة إلاّ بإقامة القسط، على ما عرفت فراجع. و من هنا كان الابتداء بهذه الصفة له دلالته الخاصّة في أنّها من أهم مقوّمات الشهادة و لا يمكن أدائها إلاّ مع القيام بتلك الصفة، بل لا يتيسر للمؤمنين الشهادة إلاّ بعد أن يكونوا قوامين بالقسط، فتكون الشهادة في المقام ممّا اجتمع فيها الغاية و الهدف و المقتضي و الإعداد، فهي مقوّم من مقوّمات إقامة القسط، و هذا يدلّ على أهمية الحكم و عظمته.

و إطلاق الأمر يدلّ على لزوم القسط في جميع الشؤون في الحياة الاجتماعيّة و الحياة الزوجيّة، و في علاقة الفرد مع خالقه أو مع نفسه و مع الآخرين.

قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ .

الشهداء جمع الشهيد، و هذه الصيغة تدلّ على الصفات الراسخة، كعليم و حكيم و غيرهما، و تقدّم معنى الشهادة في قوله تعالى: وَ اِسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 282] و غيره من الآيات الكريمة.

و تدلّ الآية الشريفة على لزوم الشهادة و العناية بها، بأن تكونوا على استعداد و مراقبة تامّين، و هما يحصلان بالعقيدة الخالصة و العمل بالأحكام الإلهيّة، و اللام في اسم الجلالة (للّه) للغاية، أي تكون الشهادة خالصة للّه جلّت عظمته لا لغرض آخر، فلا تكون للهوى و لا للمصالح و المنافع و لا للسمعة و رئاء الناس، و لا محاباة لأحد، و لا حبّ الثناء و نحو ذلك، بل لا بدّ أن تتمّ الشهادة للّه تعالى.

و التأكيد على هذا الأمر لأجل أنّه التوجيه الصحيح الّذي يعدّ المؤمن إعدادا

ص: 9

عقائديّا و عمليّا و نفسيّا، فلا غرض له إلاّ بسط العدل و إقامة الحقّ ، و تثبيت كلمة اللّه تعالى و ابتغاء رضاه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ .

أي: كونوا شهداء لوجه اللّه تعالى و ابتغاء مرضاته، و لو كانت الشهادة فيها ضرر على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين، فلا يحملنكم حبّ هؤلاء كتمان الواقع و الشهادة على خلاف الحقّ ، فإنّه ليس من البرّ للوالدين و لا هو من صلة الأرحام إيقاعهم في الضرر و الهلاك بكتمان الحقّ عليهم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ المذكورين، لأنّهم أوثق الصلة بالنفس و من أهمّ ما يمكن أن يكون سببا لإعراض الإنسان عن حاسة العدل و الابتعاد عن الحقّ .

و إنّما عطف الوالدين ب (أو) لأنّه مقابل الأنفس، بخلاف الأقربين، فإنّه لا مقابلة بينهما فعطف بالواو.

و معنى الآية الكريمة واضح أي: أنّ الشهادة لا بدّ أن تكون بالقسط و في الحقّ و لو أدّت إلى ضرر بحاله أو بحال والديه و الأقربين، بلا فرق بين أن يكون المتضرّر هو الشاهد - أو المشهود عليه بلا واسطة أو معها - كما لو تخاصم اثنان و كان الشاهد متحملا لأحدهما، بحيث لو أدّى الشهادة لتضرّر به نفس الشاهد أيضا كالمتخاصم الآخر.

قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً .

تحذير آخر من وقوع الميل عن الحقّ و الزيغ في الشهادة، و تأكيد على عدم جعل المصالح هي الهدف في الشهادة، فإنّ العدل هو الميزان الثابت الّذي لا يتغيّر و لا يتبدّل، فلا الغنى و لا الفقر و لا شيء آخر من المصالح لها دخل في ميزانه، فلا بدّ أن تكون الشهادة للّه تعالى و أنّ رضاه عزّ و جلّ أحقّ أن يتّبع، فلا يحملنكم غنى الغني أن تميلوا عن الحقّ طمعا في برّه و طلبا لرضاه أو خوفا من شرّه.

و بعبارة أخرى: لا تكون ممالأة ذوي الجاه و السلطان و المال و النفوذ للحصول على مصلحة منهم داعية لترك الشهادة أو إقامتها على غير العدل،

ص: 10

و كذلك لا يكون فقر الفقير صارفا عن الحقّ و موجبا لترك الشهادة له، تهاونا به أو عليه رحمة به.

قوله تعالى: فَاللّهُ أَوْلى بِهِما .

أي: أنّ إقامة الشهادة بالحقّ هي الّتي خير للشاهد و المشهود له أو المشهود عليه، بلا فرق بين أن يكونا غنيين أو فقيرين أو مختلفين، و أنّ القسط هو المطلوب في الشهادة، و اللّه تعالى أولى بالاتباع من الغني و الفقير؛ لأنّه أعلم بمصلحتهما و أرحم بهما و انظر لهما، و قد شرّع سبحانه و تعالى من الأحكام ما يرجع نفعه و يعود خيره للجميع.

و ضمير التثنية يرجع إلى الغني و الفقير. و (أو) في الآية الكريمة يدلّ على الترديد و الإبهام و هو يرجع إلى ما يمكن أن يتحقّق أو يفرض من الأفراد، و الأقسام هي كثيرة، فإنّ الشهادة تعمّ الشهادة للمشهود له أو عليه، و كلّ واحد منهما قد يكون غنيا و الآخر فقيرا، و قد يكون بالعكس، و قد يكونان فقيرين، و قد يكونان غنيين، و عدم ذكر الأقسام أوجب مجيء (أو) ليرجع إلى المذكور المتعدّد.

و بعبارة اخرى أنّ ضمير التثنية يرجع إلى المشهود له أو عليه بأي وصف كان عليه.

و ذكر الرضي أنّ الضمير الراجع إلى المذكور المتعدّد الّذي عطف بعضه على بعض ب (أو)، يجوز أن يوحد و أن يطابق المتعدّد، و ذلك يدور على القصد، و يمكن ارجاعه إلى ما ذكرنا، فإنّ المقام يستدعي الإبهام و الترديد ليشمل جميع حالات الفقير و الغني.

و قيل في وجه تثنية الضمير امور اخرى، و الحقّ ما ذكرناه.

قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى .

بيان للسبب الّذي يوجب الميل عن الحقّ و الإعراض عن العدل و الزيغ في الشهادة، و هو اتّباع الهوى بجميع أنواعه و صوره، من مراعاة صداقة أو عداوة أو عصبية، أو انتهاز فرصة أو غنيمة أو ممالأة ذوي الجاه و السلطان و النفوذ و نحو

ص: 11

ذلك. و هو يرجع إلى حبّ النفس الّذي يكون منشأه حبّ الدنيا. و الهوى هو نقطة الضعف في الإنسان و مزلّة الأقدام و مبعث الضلال و الشقاء و الكفر و النفاق، و قد حذّرنا اللّه تبارك و تعالى من اتّباعه تحذيرا أكيدا في عدّة مواضع من كتابه الكريم، و عالج الموضوع بجميع صوره و جوانبه و خصوصياته بما لم تكن كذلك في أي موضوع آخر، لما له الأهميّة في حياة الإنسان الدنيويّة و الاخرويّة، و لما له دخل في شقائه و سعادته، فهو السبب الوحيد لوقوع الإنسان في حبائل الشيطان و خدعه و كيده، و إنّه الوسيلة الّتي بها يسطير إبليس على الفرد، و هو الّذي يحبط منزلته و يصدّه عن الكمال، و يصرفه عن طاعته عزّ و جلّ و يوقعه في شرك الشيطان، و بالآخرة يرجعه إلى أسفل السافلين، قال تعالى: يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي اَلْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ اَلنّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ اَلْحِسابِ [سورة ص، الآية: 26]، و لا يسلم منه أحد إلاّ بترويض النفس على التقوى و ارغامها على الصبر على طاعة اللّه و ترك المعاصي و الآثام و مراقبتها على الدوام، و لعلّ في تقديم الأمر بإقامة القسط إشارة إلى أنّها السبب في إعداد الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للتسلّط على الهوى و ترك اتّباعه، فيسهل عليه إقامة الشهادة بالعدل و بسط الحقّ .

و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضوع المهمّ من الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا .

و هو إمّا من العدول بمعنى الميل من الحقّ ، أو من العدل مقابل الجور، و منه (العدل) الّذي من أسمائه تعالى، أي الّذي لا يميل به الهوى فيجور في الحكم، فوضع موضع العادل و هو أبلغ؛ لأنّه جعل المسمّى نفسه عدلا.

و إمّا مفعول لأجله للنهي أو المنهي عنه، أو مجرور بتقدير اللام متعلّق بالاتّباع المنهي عنه، أي: لا أن تعدلوا، فالاحتمالات خمسة:

ص: 12

الأوّل: أن يكون بمعنى العدول، و يكون علّة للمنهي عنه، أي: فلا تتبعوا الهوى لئلا تميلوا من الحقّ ، و حينئذ فلا حاجة إلى التقدير.

الثاني: أن يكون كذلك و هو علّة للنهي، فيحتاج إلى التقدير، أي: أنهاكم عن اتباع الهوى مخافة العدول عن الحقّ و الابتعاد عن القسط.

الثالث: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي عنه، أي لا تتّبعوا الهوى في إقامة الشهادة كراهة أن تعدلوا، أو بتقدير اللام كما عرفت، أي: لأن تعدلوا و لا تجوروا فلا تتبعوا الهوى، فيحتاج إلى التقدير أيضا.

الرابع: أن يكون بمعنى العدل و هو علّة للنهي، فلا يحتاج إلى التقدير كالاحتمال الأوّل، أي أنهاكم عن اتّباع الهوى للعدول و عدم الجور.

الخامس: ما تقدّم بتقدير اللام.

قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا .

تحذير آخر ينبئ عن إنذار شديد إذا هم حرّفوا الشهادة أو أعرضوا عن إقامتها بعد تحملها، و تلووا - بسكون اللام و ضمّ الواو - من اللّي بالشيء و هو إتيانه على غير وجهه، أو في المقام سواء كان بالتحريف في الشهادة أو إتيانها على غير وجهه أو تبديلها و الحكم بالباطل، أو تعرضوا عنها و تكتموها فلا تؤدّوها رأسا.

و قرئ (تلوا) بضم اللام و اسكان الواو من الولاية، أي: إن وليتم إقامة الشهادة و آتيتم بها أو أعرضتم عنها، فإنّ اللّه تبارك و تعالى هو الخبير بجميع أعمالكم و نواياكم.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

إنذار، أي: أنّكم إذا تصدّيتم لأمر الشهادة بأي نحو كان بالأداء أو بالتحريف أو بالإعراض، فإنّ اللّه تعالى خبير يعلم دقائق الأمور، مطّلع على جميع مقاصدكم - من الغشّ و الخيانة و نحوهما - و على جميع أعمالكم - من التحريف و الكتمان - فيجازيكم عليها، و إنّما لم يبيّن سبحانه و تعالى نوع الجزاء لتهويل الأمر، و أنّه حسب ما يترتّب عليه من الفساد و الضرر من الشدّة و الضعف.

ص: 13

و هذه الآية الشريفة تضمّنت أحكاما دقيقة في الشهادة، و إقامة القسط لو عمل بها الأمة المؤمنة لأمكنها أداء الأمانة لنفسها و حملت ميزان العدل الرباني و طبّقته على الأرض بأحسن وجه و تخلّقت بالأخلاق الربوبيّة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تأكيد يلفت النظر و يسترعي الانتباه، يدلّ على أنّ الّذين اتصفوا بصفة الإيمان لم يكونوا على أهلية تامّة؛ لأنّه لم يرد من هذا النداء تحصيل الحاصل و ما هو متحقّق بالفعل، بل المطلوب أمر آخر مهم في نظر القرآن، و هو إمّا الأمر ببسط الإيمان على جميع الجوارح و الجوانح بعد أن كان مقتصرا على اللسان فقط، أو الأمر بالثبات و زيادة الطمأنينة و اليقين، أو الأمر بالاستزادة منه، أو التمسّك به و العمل على تنميته، أو الاستقامة عليه حتّى لا يصيبه ما يوجب زعزعته و نقصانه، فهو على كلّ حال يثير التساؤل في نفوس المؤمنين و يكشف لهم حقيقة خفية عليهم، لما يلاقونه من الهموم و الغموم و ما يصيبهم من الكدح و الملل في هذه الحياة.

ثم إنّ هذا النداء إجمالا يثير الهمم على كشف تفاصيله، فإنّ الأمر بالإيمان مرّة اخرى على هذا النحو من الإجمال بعد التلبّس به، يبعث المؤمن على طلب التفصيل و مزيد البيان، فكأنّ في الإيمان المتلبسّ به نقصا لا بدّ من تلافيه.

كما يبيّن سبحانه و تعالى تفصيلا لقواعد الإيمان و أركانه، قطعا لكلّ تساؤل و حسما لكلّ نزاع، و تفصيلا لإيمان هذه الامة على إيمان سائر الأمم و إيضاحا لكلّ من الإيمان و الكفر حتّى لا تبقى حجّة و عذر للمعرض المعاند.

قوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ .

تفصيل بعد إجمال و بيان لحقيقة الإيمان، و إرشاد للمؤمنين بأن المطلوب ليس إيمانا مبهما، فلا بدّ من بسط إجمال إيمانهم على ما يفصّله عزّ و جلّ من الحقائق، الّتي هي معارف ربوبيّة يرتبط بعضها مع بعض، و بينها من التلازم بحيث يكون الإيمان بواحدة منهما مستلزما للإيمان بالأخرى، كما أنّ إنكار واحدة منهما

ص: 14

موجب لإنكار جميعها، فيكون كفرا عند إظهار الإنكار و نفاقا مع الإخفاء، فالإيمان المطلوب الّذي حدّده عزّ و جلّ هو الإيمان باللّه الواحد الأحد الّذي له الأسماء الحسنى و الصفات العليا، و الإيمان بالمبدأ يستلزم الإيمان بالمعاد و الإيمان بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و بالكتاب - الّذي نزل عليه - المتضمّن على جميع شروط الإيمان و صفاته، و يبيّن المعارف الإلهيّة، و الكتاب الّذي نزل على الأنبياء السابقين الّذي يحتوي على اصول الأحكام و الشرائع. و مجموع ذلك يدعو إلى العمل و التخلّق بمكارم الأخلاق.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً .

شرح لما ورد في صدر الآية الشريفة في تفصيل دقيق و بيان وافي بأنّ الإيمان وحدة متكاملة، و أنّ الكفر بواحدة منها يوجب الكفر بالجميع بعد الدعوة إلى الإيمان بالجميع، و إرشاد بأنّ التفصيل الّذي ورد في صدر الآية يتضمّن أجزاء اخرى مترابطة و إن لم تذكره الآية المباركة، فليست هذه الآية الشريفة شيئا آخر مغايرا لما ورد في صدرها، فإنّ قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ يتضمّن جميع ما ورد في هذا الذيل، فالإيمان المطلوب على وجه الدقّة هو الإيمان باللّه تعالى و الملائكة - الّذين هم رسل اللّه سبحانه و تعالى - و الأنبياء - الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهداية خلقه إلى ما يرشدهم و يسعدهم و يحذّرهم عمّا يوجب شقائهم - و الإيمان باليوم الآخر - و هو يوم الجزاء - و الإيمان بالكتب الإلهيّة الّتي تضمّنت جميع المعارف و الأحكام و الشرائع.

و تبيّن الآية الكريمة أنّ الكفر بالمجموع هو كفر و ضلال بعيد، و ليس الأمر كذلك في كفر البعض، فإنّه و إن كان كفرا و ضلالا و لكن غير متّصف بالبعد؛ لأنّ للضلال مراتب، و وصف الضلال بالبعيد هو من أبلغ الوصف و أكمله، فإنّ الكفر يبعّد الإنسان عن طريق الهداية و سبل الخير.

ص: 15

بحوث المقام
بحث أدبي

قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ يدلّ على الثبوت و التحقّق، و لا ملازمة بها بالاستمرار.

(شهداء) في قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ لم ينصرف، لكونها جمعا نهائيا قائما مقام السببين - كالأمناء، و الرقباء، و العرفاء - و هي منصوب على النعت ل (قوامين)، و يحتمل أن يكون منصوبا على الحال للضمير المستكن في (قوامين) الراجع إلى (الّذين آمنوا).

و ردّه بعضهم بأنّ ذلك يستلزم تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة.

و احتمل بعضهم أن تكون خبرا بعد خبر، و قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ متعلّق ب (شهداء).

و (أو) في قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً للترديد؛ لاحتواء جميع الفروض الّتي يمكن أن تتحقّق في المقام كما عرفت في التفسير.

و قيل: إنّها بمعنى الواو، أي: إن يكن غنيا أو فقيرا فاللّه أولى بالخصمين، و لكنّه ليس بشيء.

و تثنية الضمير في قوله تعالى: بِهِما لرجوعه إلى ما تقدّم ذكره من المشهود و المشهود عليه، و يحتمل أن يكون بمعنى: فاللّه أولى بكلّ واحد منهما. و قرأ بعضهم: (فاللّه أولى بهم) بضمير الجمع، و تقدّم ذكر الاحتمالات في قوله تعالى: أَنْ تَعْدِلُوا .

و تقدّم أنّ (تلووا) من اللي بمعنى الميل و التحريف، و قال بعضهم بمعنى الولاية و المباشرة من قولك: و ليت الأمر. و لكنّ الحقّ أنّه لا معنى للولاية هنا.

ص: 16

و قيل: (تلووا) من لويت فلانا حقّه ليا إذا دفعته به، و الفعل (لوى) و المصدر (ليا).

و قرأ بعضهم (نزّل) و (انزل) في قوله تعالى: وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ بالضمّ ، و أما الباقون فقد قرءوا بالفتح فيهما.

بحث دلالي

تدلّ الآيات المباركة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ على أهميّة القسط و شرف العدل و عظيم أثره في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة و الدنيويّة و الاخرويّة، و يستفاد ذلك من الأمر بملازمة القسط في جميع الحالات و في كلّ الشؤون، حتّى تصير ملكة راسخة عند الفرد، و يدلّ على أهميّة هذا الحكم أنّ الفعل فيه يدلّ على ملازمة القسط و الثبات عليه و لم يقبل التخصيص و التقييد في مورد، و مثل ذلك نادر في الأحكام الشرعيّة؛ لأنّ القسط هو الصراط المستقيم و الّذي يوصل سالكه إلى الكمال، و أنّ به يتحدّد كلّ شيء و تتجلّى الحقيقة، و فيه يتحقّق الصلح و الطمأنينة و يصل كلّ فرد إلى ما يستحقّه.

و يدلّ على أهميته أيضا ما ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بالعدل قامت السموات و الأرض».

و قد ذكر عزّ و جلّ أثرا مهمّا من آثار القيام بالقسط و هو الشهادة للّه تعالى، فإنّ القيام بالقسط يعدّ الإنسان إعدادا عقائديّا و عمليّا للوصول إلى مقام الشهادة للّه تعالى و طرح جميع الأغيار، فلا يكون متّهما و لا انتهازيا طالبا للجاه و النفوذ و المال يجرّ من شهادته النفع إليه، فإنّ القسط هو الّذي أعدّه لذلك و جعله يطلب رضاء اللّه تعالى في جميع أموره، و منها الشهادة. و قد خصّها تعالى بالذكر؛ لأنّ لها الأثر في تشريع الأحكام و تثبيت الحقوق و تحقيق الصلح و رفع النزاع.

ص: 17

الثاني: قد جمعت الآية الشريفة جميع ما يمكن فرضه من الأطراف في الشهادة الّتي يمكن أن يقع مورد الجنف و الظلم، فذكرت شهادة المرء على نفسه، و فيها إقراره بالحقوق الّتي عليها. ثمّ ذكر الوالدين لوجوب البرّ بهما و عظم قدرهما، و من البرّ لهما الشهادة و لو كانت عليهما و تخليصهما من الباطل، ثمّ ثنّى بالأقربين، إذ هم مظنّة التعصّب و المودّة، و أمّا الأجنبي فهو أحرى أن يقام عليه بالقسط و يشهد عليه، فالآية الشريفة جمعت حقوق الخلق في الأموال و غيرها.

الثالث: إطلاق قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ يعمّ الشهادة في الأموال و غيرها، خلافا لما ذكره بعض المفسّرين من اختصاصها بالشهادة في الأموال، بقرينة قوله تعالى: عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ ، و لكنّه ليس بشيء كما هو معلوم.

كما يدلّ قوله تعالى أيضا على ردّ كلّ شهادة لم تكن للّه تعالى، فتردّ شهادة المتّهم و الكافر على المسلم و غيرهم ممّا هو مذكور في الفقه.

الرابع: يمكن أن يكون قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ إشارة إلى مقام الحضور و مظهريّة العبد لصفات اللّه تعالى و توحيده، فإنّه عزّ و جلّ بعد أن أمر المؤمنين بالتوحيد العملي في الآيات الكريمة السابقة، أمرهم في هذه الآية الشريفة بالثبات عليه و التلبّس بالعدالة الّتي هي أشرف الفضائل و أسماها، و هي من الصفات العليا الّتي أمر عزّ و جلّ المؤمنين بالتحلّي بها بعد أن علم منهم الأهليّة، و أنّ بها تقوم سائر الفضائل و المكارم، فلا قوام لها بغيرها، و أنه لا بدّ أن يكون المؤمن قواما بحقوقها لا تظهر معها رذيلة و لا اتباع هوى و لا جور، فينال مقام جنّة اللقاء و القرب لديه عزّ و جلّ ، و يكون شهيدا للّه تعالى مظهرا من مظاهر وحدانيّته و كمال صفاته و مرآة لحقية أحكامه المقدّسة، فلا نظر له إلاّ اللّه تعالى و رضاه و ليس للغير فيه مطمع، و هذا من أجلّ المقامات و أعلاها، و لا يمكن الوصول إليه إلاّ بالعمل بهذه الآية الشريفة و تطبيقها تطبيقا كاملا في جميع الأمور، فيكون اتباع الهوى من موانع الوصول إلى هذا المقام العظيم، فإنّه من ترك اتباع الهوى يستعد للاتّصاف بصفة العدالة و يتهيّأ لمقام الشهادة بالوحدانيّة.

ص: 18

الخامس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى على أنّ اتّباع الهوى من أشدّ الرذائل تأثيرا على النفس في إبعادها عن الواقع و أكبر الموانع من الوصول إلى المقامات العالية، و تظهر أهميّته من أهميّة الفضيلة الي ذكرها عزّ و جلّ في صدر الآية المباركة.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا أنّ المعصية الّتي يمكن أن تتحقّق في الشهادة هي التحريف و التبديل و الشهادة بالباطل، و ما ذكره عزّ و جلّ آنفا من الشهادة لغير اللّه و جرّ النفع و الجور فيها أو الإعراض عنها بالكليّة بأن يكتمها و لا يؤدّيها، و هذا شاهد على ما ذكرناه في أحد مباحثنا السابقة من تناسب المعصية مع الأفعال و الأقوال، فإنّ كلّ معصية تتناسب مع الموضوع الّذي وقعت فيه المعصية، ففي الأقوال مثلا الكذب و البهتان و الزور و نحو ذلك، كما أنّ في كلّ جارحة لها معصيتها، ففي العين النظر إلى المحرّم، و في اليد السرقة و الخيانة في الأمانة و لمس الأجنبيّة، و في الرجل السعي إلى الحرام و هكذا، فالمعصية في الشهادة هي الّتي فيها بالمعنى الأعمّ و الإعراض عنها.

و على هذا، يمكن أن يكون قوله تعالى: وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً تفسيرا لهذه الآية المباركة - و هي إجمال لصدرها، و هي تدلّ على كونها في مقام تعداد معاصي الشهادة - قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الظاهر في التهديد و التوبيخ لمن يجور في الشهادة.

السابع: عموم قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ يشمل جميع أنحاء الإيمان إيمان العيان، و إيمان البرهان، و الإيمان العيني، و تجريد الإيمان للّه تعالى و تخليصه من كلّ أنحاء الشرك الجلي و الخفي و جميع الشبهات و الاعتراضات و الإيمان بالمجموع، و إيمان التسليم و التفويض و الإيمان التفصيلي، فإنّ الإيمان له مراتب و كلّ فرد يستفيد من الآية الكريمة حسب استعداده و ما يفاض عليه من المبدأ الفيّاض جلّ جلاله.

ص: 19

الثامن: يدلّ قوله تعالى: آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ ، على أنّ الإيمان الإجمالي لا اعتبار به ما لم يكن عن تفصيل، فإنّ الوثني أيضا يعتقد باللّه و يؤمن، كما حكي عنه عزّ و جلّ ، قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ اَلْعَزِيزُ اَلْعَلِيمُ [سورة الزخرف، الآية: 9]، و قال تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اَللّهُ فَأَنّى يُؤْفَكُونَ [سورة الزخرف، الآية 87]، و مع ذلك فهو في عداد المشركين و الكافرين، فالإيمان بحسب نظر القرآن وحدة جامعة للإيمان باللّه تعالى و الرسول الكريم و الكتاب الّذي انزل عليه و الكتاب الّذي انزل من قبل على سائر الأنبياء و المرسلين. و هذه الوحدات متكاملة يستلزم بعضها البعض لا تقبل التجزّؤ، و تشتمل على جميع المعارف الإلهيّة الّتي شرحها القرآن الكريم في سوره و آياته المباركة.

و من هنا نرى أنّ الآيات الكريمة التالية تنبئ عن ماهية الإيمان بصورة دقيقة، و تشرح حقيقته شرحا وافيا. و تقسّم الكافرين حسب درجات كفرهم من حيث إنكارهم لمجموع الوحدات أو لبعضها، فيصف عزّ و جلّ من أنكر المجموع بالضلال البعيد، كما يصف من يفارق بعضها بالنفاق، و يبيّن أنّه من الكفر التقرّب إلى الكفّار و موالاتهم و تصديقهم في ما يرمون به المؤمنين و الاستهزاء بالإيمان و أهله، و هذا ما نراه في الآيات الكريمة التالية.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ أركان الإيمان الصحيح، و هي: الركن الأوّل الإيمان باللّه الواحد الأحد المستجمع لجميع صفات الكمال، و المنزّه عن النواقص الّتي هي صفات الجلال، و هذا الاعتقاد يستدعي نبذ الشرك و الأنداد و الاتّصاف بصفات الواحد المنّان.

الركن الثاني: الإيمان بجنس الملائكة الّذين هم رسل اللّه تعالى، لا يعصون اللّه ما أمروا به، و هم وسائط الوحي و الفيض.

الركن الثالث: الإيمان بالكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى على الأنبياء و الرسل،

ص: 20

الحاوية لجميع المعارف الإلهيّة و التشريعات السماويّة. و الإيمان بالكتب يستدعي نبذ التعصّب و اتّباع الهوى.

الركن الرابع: الإيمان بجميع رسل اللّه تعالى الّذين هم وسائط الفيض، أرسلهم عزّ و جلّ لهداية البشر و إرجاعهم إلى المبدأ و تذكيرهم منسي الفطرة.

الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر، و الاعتقاد به يستدعي مراقبة النفس و العمل بما أمره اللّه تعالى، فإنّ ذلك اليوم يوم الجزاء على الأعمال و لا يفلت منه أحد، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8].

هذه هي أركان الإيمان المطلوب في الإنسان، و هي مجمع الخير و السعادة، و أما غير ذلك فهو الضلال و البعد عن منبع الخير و الكمال، و هو يستدعي الشقاء و الحرمان.

بحث روائي

روى الشيخ في التهذيب بإسناده عن أبي سويد، عن أبي الحسن عليه السّلام: «كتب إليّ في رسالته و سألته من الشهادات لهم ؟ قال: فأقم الشهادة للّه عزّ و جلّ و لو على نفسك أو الوالدين و الأقربين فيما بينك و بينهم، فإن خفت على أخيك ضيرا فلا».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ الشهادة للّه، لأنّها من أسباب بسط العدل بين الناس، و أنّ العدل و القسط هما ميزان اللّه تعالى في أرضه و من مظاهر صفاته.

الثاني: أنّ الأنساب لا تعوق الحقّ أو القسط مهما بلغ ذلك من الشرف و الحسب، قريبة كانت أو بعيدة، و لا يختصّ ذلك بالأنساب، و إنّما ذكر الأنساب في الآية المباركة و الروايات؛ لأنّها الأهمّ و الغالب فيشمل غيرها كالمادّيات و الاعتباريّات بالأولى.

ص: 21

الثالث: ذيل الرواية محمول على ما إذا كان الحكم الّذي يحكمه الحاكم مخالفا للواقع، و لا يصل الحقّ إلى صاحبه، أو يستلزم ضررا على المشهود عليه.

و في تفسير علي بن إبراهيم: «انّ اللّه أمر الناس أن يكونوا قوامين بالقسط - أي بالعدل - و لو على أنفسهم أو على والديهم أو على أقاربهم، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ للمؤمن سبع حقوق، فأوجبها أن يقول الرجل حقّا و لو كان على نفسه أو على والديه فلا يميل لهم عن الحقّ ، ثم قال: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا يعني الحقّ ».

أقول: ظهر ممّا تقدّم الوجه في هذه الرواية، و يستفاد منها التعميم في معنى الشهادة لإظهار كلّ حقّ و بأي وجه كان، و أنّ المراد من الحقّ الأعمّ من الوضعي الشرعي أو التكليفي أو المجاملي، و أنّ الشهادة في الأموال و الأنفس واجبة شرعا وجوبا كفائيا لو كانت بعد الطلب و الاستشهاد، و إلاّ فلا.

و عن الطبرسي في المجمع عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنْ تَلْوُوا أي: تبدّلوا الشهادة، أَوْ تُعْرِضُوا أي: تكتموها، فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً .

أقول: التبديل أعمّ من التحريف و التغيير أو الاسقاط - كما تقدّم في التفسير - و الكتمان أعمّ من جميعها أو بعضها، و الرواية من باب ذكر بعض الأفراد.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ يعني: يا أيها الّذين آمنوا أقرّوا و صدّقوا.

أقول: يعني أقرّوا باللّه تعالى، و صدّقوا رسوله، و معنى تصديق رسوله العمل بما جاء به من الأحكام بعد الإيمان باللّه العظيم، و إلاّ فلا يكون تصديقا حقيقيّا.

و عن البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ قال:

«أمر اللّه المؤمنين أن يقولوا بالحقّ و لو على أنفسهم، أو آبائهم، أو أبنائهم، لا يحابوا

ص: 22

غنيا لغناه و لا يرحموا مسكينا لمسكنته، و في قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فتذروا الحقّ فتجوروا، وَ إِنْ تَلْوُوا يعني: ألسنتكم بالشهادة أو تعرضوا عنها».

أقول: إنّ العدل الإسلامي و الحقّ الواقعي يقتضي عدم الفرق في القضاء - الّذي هو منصب إلهي به يصان أعراض الناس و يحفظ أموالهم و يراعى شؤونهم - بين الأصناف و الأفراد، بل الأديان السماويّة غير المنحرفة جاءت لتثبيت ذلك في الأرض، و الرواية لا تدلّ على شيء أزيد ممّا ذكرنا كما تقدّمت رواية علي بن إبراهيم الدالّة على ذلك.

و في الدرّ المنثور في ضمن رواية: «انّ نبي اللّه موسى عليه السّلام قال: يا ربّ أي شيء وضعت في الأرض أقل ؟ قال: العدل أقلّ ما وضعت».

أقول: وجود الشيء غير كميّته أو كيفيّته، فأصل وجود العدل الّذي هو من ذاته الأقدس و به قامت السموات و الأرض و به بعث الأنبياء و الأوصياء موجود و ممّا لا ريب فيه، و هو من مظاهر صفاته و أسمائه، و أما مقداره الّذي وضع في الأرض و جاء به الأنبياء، فكان ذلك حسب أهليّة سكناها، و هو غير معلوم فلو كان أكثر من القليل لما احتاجوا الناس إلى القضاء و ما وقع الأنبياء عليهم السّلام في المشقّة و التعب، و الحكمة في ذلك أنّه بالأقلّ يميّز الخبيث من الطيب، مع أنّ الأقلّ من الأمور الإضافيّة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ ، قال عليه السّلام: «سماّهم مؤمنين بإقرارهم، ثم قال لهم: صدقوا له».

أقول: إقرارهم كان في عالم الذرّ كما في بعض الروايات، و تصديقهم كان في عالم الشهادة، و الفرق بين عالم الذرّ و الفطرة أنّ عالم الذرّ هو الفطرة قبل بعثة الأنبياء و قبل خلق عالم الشهادة، و الفطرة بعد البعثة و مجيء آدم عليه السّلام.

و بعبارة اخرى: عالم الذرّ عالم من العوالم، و الفطرة هي الّتي على ما هي عليه.

ص: 23

و أخرج الثعالبي عن ابن عياش: «انّ عبد اللّه بن سلام و أسدا و أسيدا ابني كعب، و ثعلبة بن قيس و سلام ابن أخت عبد اللّه بن سلام، و سلمة ابن أخيه و يامين بن يامين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقالوا: يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و موسى و التوراة و عزير، و نكفر بما سواه من الكتب و الرسل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: بل آمنوا باللّه و رسوله محمّد و كتابه القرآن و بكلّ كتاب كان قبله، فقالوا: لا نفعل، فنزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ اَلْكِتابِ اَلَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ قال: فآمنوا كلّهم».

أقول: الرواية مطابقة للواقع، لأنّ الكتب السماويّة منزلة من اللّه عزّ و جلّ و كلّ ما نزل منه تعالى لا بدّ من الإيمان به إلاّ إذا نالته يد التحريف فتسقط الكتب عن شأنها، فالاعتقاد بالتوراة و الإنجيل الواقعي كالاعتقاد بالقرآن، فلا فرق بينهما من جهة القداسة و الاعجاز و الحجيّة.

و في أسباب النزول للواحدي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ قال: «نزلت في النبي صلّى اللّه عليه و آله اختصم إليه غني و فقير، و كان ضلعه مع الفقير، رأى أنّ الفقير لا يظلم الغني، فأبى اللّه تعالى إلاّ أن يقوم بالقسط في الغني و الفقير فقال: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ حتّى بلغ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما ».

أقول: الرواية - على فرض صحّة السند - لا تنافي العصمة الثابتة في الأنبياء عليهم السّلام؛ لأنّ رجحان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله الفقير على الغني كان لمصلحة ظاهريّة يراها النبي صلّى اللّه عليه و آله حتّى نزلت الآية المباركة و انتهى أمد تلك المصلحة، فالمصلحة كانت وقتيّة لا دائميّة.

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.

ص: 24

بحث فقهي

يستفاد من الآية الشريفة بضميمة الروايات الواردة في الأحكام المستفادة منها امور:

الأوّل: ذهب جمع من الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم الشريفة) إلى قبول شهادة الولد على والده، و استدلّوا على ذلك بأمور:

الأوّل: قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ ، بدعوى أنّ الآية المباركة صريحة في وجوب إقامتها و يستلزم ذلك قبولها.

الثاني: السنّة المعصوميّة، فعن أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «أقم الشهادة للّه و لو على نفسك أو الوالدين»، و قول الصادق عليه السّلام: «أقيموا الشهادة على الوالدين و الولد»، و مثلهما غيرهما من الروايات.

الثالث: يستفاد ذلك من كلام الشهيد و غيره.

و يمكن المناقشة في جميع ذلك، أمّا الآية الكريمة فسياقها الشهادة في اصول الدين - لا مطلق الشهادة - بقرينة صدر الآية الكريمة شُهَداءَ لِلّهِ ، و قوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ [سورة المجادلة، الآية:

22] و ما يأتي من الروايات، فلا مجال للتمسّك بإطلاق الآية الشريفة بعد احتمال أنّ الشهادة في اصول الدين.

و أمّا السنّة، فلا مجال للتمسّك بها؛ لإعراض المشهور عنها و هجر العمل بإطلاقها فيسقط عن الاعتبار كما ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول)، مضافا إلى معارضتها بالأقوى منها، مثل قول الصادق عليه السّلام في الصحيح: «لا تقبل شهادة الولد على والده»، و قريب منه غيره.

ص: 25

و أمّا كلماتهم الشريفة، فإنّها لا تصير دليلا ما لم يبلغ حدّ الإجماع، و قد ادّعى الإجماع على عدم قبول شهادة الولد على الأب غير واحد من الأعلام. نعم ما تقدّم يصلح للاحتياط كما ذكرناه في الفقه.

و يمكن رفع الاختلاف و الجمع بين الروايات بأنّ ما دلّ على الجواز في ما إذا كان الوالد غير مبال بدينه و متجرّ في مخالفة الأحكام الإلهيّة، و أن شهادة ابنه عليه موجبة لإرشاده و هدايته، و ما دلّ على عدم الجواز فيما إذا كان الأب من أصحاب الوجوه و الشرف و ملتزما بالانقياد للأحكام الشرعيّة، فتكون شهادة الابن على والده نحو إهانة له و خلافا لاحترامه و لا تكون من المعروف المأمور به في الكتاب و السنّة، و هذا نحو جمع عرفي كما ذكرناه في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) و الحمد للّه.

و لا فرق فيما تقدّم بين الأب و الام، و هل يشمل الحكم الجدّ و الجدّة ؟ و جهان يظهران ممّا تقدّم.

الثاني: أنّ الشهادة لا يغيّر الواقع عمّا هو عليه - بل الحكم الصادر من الحاكم الجامع للشرائط يكون كذلك أيضا - لأنّ المدار المأمور به هو الواقع الحقّ ، فإذا انكشف يسقط ما سواه، و أنّ الشهادة طريق للوصول إليه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «أيّها الناس إنّما أنا بشر مثلكم و أنتم تختصمون و لعلّ بعضكم ألحن بحجّته من بعض، و إنّما أقضي على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له من حقّ أخيه بشيء فلا يأخذ به، فإنّما أقطع له قطعة من النار».

الثالث: يختصّ وجوب أداء الشهادة بموارد الاستشهاد؛ لقوله تعالى: وَ لا يَأْبَ اَلشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا [سورة البقرة، الآية: 282]، و مع عدمه فهو بالخيار في الأداء؛ لقول أبي جعفر عليه السّلام: «إذا سمع الرجل الشهادة و لم يشهد عليها فهو بالخيار، إن شاء شهد و إن شاء سكت».

الرابع: لا يتوقّف تحمّل الشهادة على الاستشهاد و الاستدعاء من المشهود، فإذا سمع ما تصحّ الشهادة تقبل الشهادة، فلو سمع الإقرار و العقد أو الإيقاع أو رأى

ص: 26

ما تصحّ الشهادة به كالقتل، فلا يعتبر فيها القصد في خصوص الشهادة و لا الاستشهاد، لوجود المقتضي و فقد المانع و أصالة البراءة عن شرطية الاستدعاء و الاستشهاد بعد توفّر سائر الشروط كالعدالة و غيرها، و هناك فروع ذكرناها في كتاب الشهادات من (مهذب الأحكام) - و من شاء فليرجع إليه -. و الفرق بين الإقرار و الشهادة أنّ الأوّل إخبار بما يرجع إلى نفس المخبر، و الشهادة إخبار على الغير بما علم به بالحضور فيه، كما ذكرنا في محلّه.

بحث عرفاني

الإخلاء عن العيوب الكائنة في الباطن و نبذ الصفات الذميمة عن النفس يعبّر عنه في العرفان ب (التخلية)، و عن بعضهم: أن السعي إلى إزالة ما بطن فيك من العيوب خير من السعي إلى ما حجب عنك من الغيوب. و السرّ في ذلك أنّها بمنزلة الإعداد لها، فهي تطهير القلب الّذي هو السبب للحياة الأبديّة للنفس. و أنّ العيوب الباطنيّة مانعة عن رقي النفس، فهي موجبة هلاكها. و أنّ الفيوضات الإلهيّة لا تفاض على الإنسان إلاّ بعد التخلية.

و من هنا قالوا: إنّ الحقّ ليس بمحجوب إنّما المحجوب أنت عن النظر إليه؛ لأنّ الحقّ محال في حقّه الحجاب، قال تعالى: هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ وَ اَلظّاهِرُ وَ اَلْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ [سورة الحديد، الآية: 3]، و قال تعالى: وَ هُوَ اَلْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ * [سورة الأنعام، الآية: 61]، و غيرهما من الآيات المباركة.

و عن بعضهم: أنّ الأوصاف البشريّة تناقض خلوص العبوديّة. و المراد من الأوصاف العيوب الكائنة في نفس البشريّة الّتي تحصل من متابعة الهوى بإغواء الشيطان بالبعد عن الحقّ و إراءة الواقع غير ما هو عليه بالأوهام، و قد يوجب الأوهام الحجب عن الحقّ تعالى، و الوهم أمر عدمي و سراب محض لا حقيقة له أصلا.

ص: 27

و لا شكّ في أنّ اتّباع الهوى يختلف باختلاف الأشخاص و الحالات، و له مراتب متفاوتة شدة و ضعفا و كيفيّة وجهة، و أن قوله تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى يشمل جميعها، و لا بدّ للسائر و السالك إلى اللّه جلّ جلاله من التخلية بإزالة العيوب الباطنيّة و غيرها. و أهمّها ثلاثة:

الأوّل: عيوب النفس، و هي ما تتعلّق بالشهوات الجسمانيّة، كطيب المآكل، و الملبس، و المركب، و المسكن، و المنكح و غيرها، و من كلّ هذه العيوب تتفرّع عيوب و مساوئ اخرى.

الثاني: عيوب القلب، و هي تتعلّق بالشهوات القلبيّة كحبّ الجاه و الرياسة و العزّ، و الكبر، و الحسد، و الحقد و غيرها ممّا يرد على القلب بالتخيلات و الأماني الشيطانيّة، الّتي لا واقع لها بل هي مجرّد و هم بعيدة عن الحقّ و الحقيقة كلّ البعد.

الثالث: عيوب الروح، و هي ما تتعلّق بالحظوظ الباطنيّة، كطلب الكرامات و المقامات عن غير الصراط المستقيم المبيّن من الشرع الأمين.

و هذه العيوب - عيوب النفس، و عيوب القلب، و عيوب الروح - كلّها تحصل من متابعة الهوى و البعد عن الحقيقة، و مع هذه الأغيار كيف تستعدّ النفس للواردات الإلهيّة ؟! و كيف تحظى بالرقي إلى المقامات العالية ؟!. أم كيف تصل إلى جنّة المعرفة ؟!. و كيف تشرق عليها الأنوار الربوبيّة ؟! و كيف تخرق أبصار القلوب حجب النور حتّى تصل إلى معدن العظمة ؟. و كيف يمرّ على النار و أنّها تناديه: «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» المعدّة للمؤمن ؟! و كيف يدخل الجنّة و هي الّتي أزلفت له و به نال رضاءه تعالى عنه ؟! و كيف يشفّع في قومه و هو يحمل أوزار نفسه ؟! فإذا زالت هذه الأغيار و رفعت الأوزار و اخترقت الحجب و أزيلت الأستار، فحينئذ تحلّت النفس بالمعرفة، فالتخلية ثمرتها التحلية، و القرآن الكريم يحرص على إزالة هذه العيوب و رفع هذه الحجب، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة ص، الآية: 26]، و قال تعالى مخاطبا موسى عليه السّلام: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [سورة طه، الآية: 16]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه صلى اللّه عليه و آله:

ص: 28

و هذه العيوب - عيوب النفس، و عيوب القلب، و عيوب الروح - كلّها تحصل من متابعة الهوى و البعد عن الحقيقة، و مع هذه الأغيار كيف تستعدّ النفس للواردات الإلهيّة ؟! و كيف تحظى بالرقي إلى المقامات العالية ؟!. أم كيف تصل إلى جنّة المعرفة ؟!. و كيف تشرق عليها الأنوار الربوبيّة ؟! و كيف تخرق أبصار القلوب حجب النور حتّى تصل إلى معدن العظمة ؟. و كيف يمرّ على النار و أنّها تناديه: «جز يا مؤمن فإنّ نورك يطفئ لهبي» المعدّة للمؤمن ؟! و كيف يدخل الجنّة و هي الّتي أزلفت له و به نال رضاءه تعالى عنه ؟! و كيف يشفّع في قومه و هو يحمل أوزار نفسه ؟! فإذا زالت هذه الأغيار و رفعت الأوزار و اخترقت الحجب و أزيلت الأستار، فحينئذ تحلّت النفس بالمعرفة، فالتخلية ثمرتها التحلية، و القرآن الكريم يحرص على إزالة هذه العيوب و رفع هذه الحجب، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعِ اَلْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ إِنَّ اَلَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ [سورة ص، الآية: 26]، و قال تعالى مخاطبا موسى عليه السّلام: فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اِتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى [سورة طه، الآية: 16]، و قال تعالى مخاطبا نبيّه صلى اللّه عليه و آله:

وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اِتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً [سورة الكهف، الآية: 28]، و قال تعالى كذلك: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اِتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اَللّهِ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ [سورة القصص، الآية: 50]، و قال تعالى: وَ أَمّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى اَلنَّفْسَ عَنِ اَلْهَوى * فَإِنَّ اَلْجَنَّةَ هِيَ اَلْمَأْوى [سورة النازعات، الآية: 41].

و لعلّ قوله تعالى: كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ يشير إلى ذلك، أي التحلّي بأسمى صفاته و مظاهر أسمائه و هو العدل، فيستلزم ذلك التخلّي عن المساوئ و المفاسد و البعد عن أخلاق الشياطين كالكبر، و الحسد، و الحقد، و الغضب، و كتمان الشهادة، و الحدّة و البطر و الأشر و غيرها، و لأجل ذلك أتى عزّ و جلّ بصيغة المبالغة (قوامين) الدالّة على الشدّة و تهويل الأمر و التحمّل مع التعب و المشقّة.

كما يحتمل أن يكون قوله تعالى: شُهَداءَ لِلّهِ أي: شهداء للّه و في اللّه، غائبين عن وجودكم في شهوده بالوحدة، و هذا مقام أخصّ الخواصّ ، لا شهداء للّه الحاضرين مع اللّه بالفردانيّة، و إن كان ذلك مقاما ساميا أيضا و هو مقام الخواصّ ، فضلا عن الشهادة بالتوحيد و هو أوّل اصول الدين، و إن كان صحيحا إلاّ أنّه يختصّ بعوام المؤمنين.

و بعبارة اخرى: تحصيل المعرفة و الشهود بالوحدانيّة تارة، يكون بالدليل و البرهان، فهذا معرفة العوام؛ لعدم التقليد في اصول الدين.

و اخرى: بالمشاهدة و العيان، و هذا معرفة الخواص، و هي من أجلّ المقامات.

و ثالثة: بالفناء عن ما سوى الرحمن، و هذا معرفة أخصّ الخواص.

و كذا الشهادة للّه فتارة: تكون سمعيّة، و اخرى: عينيّة، و ثالثة: فنائيّة بعد رفع حجب الأنانيّة عن النفس و إزالة الأغيار عنها بالتجريد، فإنّ الشهادة لو كانت على النفس لإحقاق الحقّ بإيصاله لأهله و كانت للّه تعالى، استلزمت اضمحلال الأنانيّة و التطهير من الذنوب، خصوصا لو كانت مخالفة للهوى، و كذا لو كانت على

ص: 29

الوالدين و الأقربين بنبذ العواطف النفسانيّة و اللجوء إلى رضاء الحقّ و تقديم خشيته جلّ شأنه على رضائهما، من غير أن يبالي أنّ المشهود عليه كان فقيرا أو غنيا بعد ما علم أنّ الغناء الواقعي في جلب رضاه جلّت عظمته و الفوز فيه، فهؤلاء هم الّذين أيّدهم بروح منه وَ يُدْخِلُهُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اَللّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اَللّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اَللّهِ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و الحمد للّه ربّ العالمين.

ص: 30

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَ.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (139) وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً (147) بعد أن بيّن سبحانه و تعالى أركان الإيمان و قواعده و فصّله تفصيلا دقيقا و حدّده تحديدا كاملا؛ ليعرف الإنسان حقيقة ما يريد الاعتقاد به، و يكون بصيرا بالإيمان المطلوب منه و هو على بيّنة من أمره، و لئلاّ يتميّع الإيمان فيدخل فيه كلّ

ص: 31

مؤتفك يدّعي معرفة اللّه تعالى و يتعبّده بصورة من التعبّد.

و هذه الآيات الشريفة تفصل بين الفئات الزائغة عن الإيمان المفارقة لمجتمع المؤمنين المدّعية عليهم بالأباطيل و المستهزئة بهم استهزاءهم بالحقّ ، و الموالية للكافرين، و بين الصادقين في الإيمان و أهله. و تشدّد الأمر عليهم تشديدا وثيقا، و تذكّر الكافرين المعاندين و تصنّفهم إلى أصناف متعدّدة، فيذكر عزّ و جلّ ابتداء الكافرين الّذين ضلّوا ضلالا بعيدا و الرادّين على اللّه عزّ و جلّ و الرسول، و يبيّن جلّ شأنه حالهم و جزاء أعمالهم و حرمانهم عن ما تقتضيه فطرتهم الصافية، فلم يهتدوا سبيلا.

ثم يذكر صنفا آخر، و هم المنافقون الّذين يوادّون الكافرين و يوالونهم دون المؤمنين، فيظهرون الإيمان و لكنّهم يبطنون الكفر، ثم يصفهم وصفا دقيقا ليتحرّز المؤمنون عنهم، فيجتنبوا عنهم فلا يتّصفوا بصفاتهم.

كما حذّرهم عن القعود مع الكافرين و المنافقين الّذين يكفرون بآيات اللّه تعالى و يستهزئون بها؛ لئلاّ يفسد إيمانهم فيدخلوا فيهم و يشاركوهم في الجزاء، و قد حذّرهم عزّ و جلّ عن ذلك بأسلوب رفيع يجعلهم يحسّون بما يلاقونه من المكروه من أوّل الأمر، فإنّهم إن لم يحسموا أمرهم منذ الخطوة الاولى لوقعوا في الهاوية.

و قد ذكر جلّ شأنه المحكّ الحقيقي للإيمان و هو التوبة، و الرضا و التسليم، و الإخلاص للّه تعالى و الاعتصام به، و وعدهم الأجر العظيم، ثم نبّههم إلى حقيقة واقعيّة، و هي أنّ اللّه غني عن عذابهم، فلا يعذبهم إن هم آمنوا و شكروا ربّهم و عملوا الصالحات.

و هذه الآيات المباركة هي من الآيات المعدودة في القرآن الكريم الّتي تذكر صفات المؤمنين و الكافرين و المنافقين بأوصاف دقيقة، و تشرح الإيمان شرحا وافيا. و يمكن تسميتها بحقّ آيات الإيمان، و فيها وقفات دقيقة تسترعي الانتباه لا بدّ من التأمّل فيها حقّ التأمل إذا كان المرء يطلب الحقّ و يريد تصحيح إيمانه و عقيدته.

ص: 32

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً .

بيان للآية السابقة، و شرح لحال من ضلّ ضلالا بعيدا، و يبيّن تعالى حقيقة الردّة و أحوال أهلها، فإنّ الردّة هي الذبذبة في الإيمان و عدم الاستقرار فيه، و المرتد من يدعي الإيمان ثم يكفر ثم يؤمن ثم يكفر ثم يزداد في الكفر و الطغيان، فلم يستقر الإيمان في قلوب أهل الردّة، و لم يصدر منهم صدورا جديّا، بل يتلاعبون به و يستهزئون أمر اللّه تعالى فيه، و لأجل تكرار الردّة منهم و ذبذبتهم في الأمر كان الجزاء عليهم عظيما موافقا لطبيعة عملهم و نفسيتهم المتردّدة و تماديهم في الكفر، و هو حرمانهم من رحمة اللّه تعالى و عدم مغفرته لهم و عدم اهتدائهم سبيلا لاستكمال أنفسهم. هذا إذا لم يصدر منهم التوبة فيؤمنوا إيمانا جدّيا و إلاّ فتشملهم المغفرة و الرحمة و يقبل اللّه تعالى توبتهم؛ لأنّ التوبة تشمل جميع الذنوب كما عرفت ذلك في بحث التوبة، و إن كان مثل هؤلاء المتمادين في الكفر لم يوفقوا إلى الإيمان و التوبة و لانقطاع سبل الهداية عنهم، كما أخبر عزّ و جلّ في قوله تعالى: كَيْفَ يَهْدِي اَللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ اَلرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اَللّهِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلنّاسِ أَجْمَعِينَ * خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ اَلْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ اَلضّالُّونَ [سورة آل عمران، الآية: 86-90].

و ظاهر الآية الشريفة قبول توبتهم إذا كانت عن صدق، و أصلح ما أفسده بالكفر و الردّة، و لكنّها تدلّ على عدم قبول التوبة ممّن ازداد كفرا بعد الإيمان.

و السبب في ذلك أنّ الردّة إن كان عن جحود و عناد و ازدياد في الكفر، لا يكون إلاّ عتوا و استكبارا عن قبول الحقّ ، فلا يتحقّق فيه الرجوع إليه تعالى، فمن كان هذا

ص: 33

حاله كيف تقبل توبته ؟! بل لا يوفّق إلى التوبة أصلا.

و قد ذكر المفسّرون في بيان معنى الآية المباركة وجوها لا تخلو بعضها عن المناقشة، و لكن يمكن إرجاع جميعها إلى شيء واحد، و هو ما ذكرناه من عدم استقرار أهل الردّة على الإيمان و عدم الثبات فيه و التذبذب في الاعتقاد، و يتّبعون الأهواء الباطلة و يطلبون المنافع و المصالح، فطبع الغي و الطغيان على قلوبهم، و استقرّ الاستكبار و اللجاج في نفوسهم، فلم يهتدوا سبيلا؛ لأنّ بصائرهم عميت عن الحقّ ، و انقطع المدد الربوبي عنهم، و انطفأ نور الفطرة فيهم، فلا يرجى لهم الاهتداء و قد خسروا خسرانا مبينا.

و ممّا ذكرنا ظهر وجه النقاش في ما ذكره بعضهم من أنّ المراد من الآية الكريمة هو أنّ الّذين آمنوا بموسى عليه السّلام ثمّ كفروا به، ثم آمنوا بعيسى عليه السّلام ثمّ كفروا به ثمّ ازدادوا كفرا لعدم إيمانهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله، فإنّه يرجع إلى ما ذكرناه، إلاّ أنّه ذكر مصداقا لما قلناه.

و في قوله تعالى: ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً كمال البعد عن الحقّ و تماديهم في الغي، و إصرارهم على الطغيان، و انسهم بالكفر و انهماكهم فيه، و من آثاره كفرهم بمحمّد صلى اللّه عليه و آله مع وضوح الحقّ فيه.

قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً .

لأنّ ذلك من الأثر الوضعي لما ازدادوا في غيهم و كفرهم، و من باب ترتّب المسبّب على السبب، نتيجة لأعمالهم الباطلة و عقائدهم الفاسدة، فإنّ انهماكهم في الكفر و انسهم به و استقرار العناد و العتو في قلوبهم، كلّ ذلك يستدعي حرمانهم عن الرحمة الإلهيّة، فلم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم سبيلا يفضي إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ و الدخول في رحمته تعالى، و نفي المفغرة و الهداية إنّما ثبت لعدم وجود المقتضي لهما، و هو الإيمان الخالص المستقرّ في القلوب، و هذا و إن كان مطلقا إلاّ أنّه لا يأبى الاستثناء لو تحقّقت الاستتابة و اتّفق الإيمان الواقعي و الاستقامة عليه، كما عرفت آنفا.

ص: 34

قوله تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

بيان لحال طائفة اخرى زائفة، و هم المنافقون الّذين يتظاهرون بالإيمان و يبطنون الكفر و العناد و تهديد لهم. و تبيّن الآية الكريمة وجه النفاق فيهم و الوصف الّذي جعلهم من المنافقين.

و البشارة مأخوذة من البشرة، أي: انبساط بشرة الوجه و طلاقته إذا اخبر الإنسان بما يسرّه، كما أنّ السرور مأخوذ من انبساط أساريره، و غالب استعمالهما في الأخبار بما يسرّ، و قد يستعملان في غيره تهكّما كما في المقام، ففي الكلام استعارة تهكّمية استعملت فيها (بشّر) موضع (أنذر) تهكّما بهم.

و عن الفرّاء إذا ثقّل (بشّر) فمن البشرى، و إذا خفّف (بشر) فمن السرور. و في حديث عبد اللّه بن مسعود: «من أحبّ القرآن فليبشر»، أي: فليفرح و ليسرّ، و هو كناية عن خلوص الإيمان.

و قيل: إنّ البشارة تستعمل فيما يسرّ و يسوء استعمالا حقيقيّا، فلا استعارة حينئذ؛ لأنّ أصلها الإخبار بما يظهر أثره في بشرة الوجه، سواء كان انبساطا أو انقباضا.

و كيف كان، ففي الآية الكريمة تهديد للمنافقين بأنّ لهم عذابا شديد الألم.

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

تعليل لاتّصافهم بصفة النفاق و استحقاقهم للعذاب الأليم، أي: أنّ المنافقين هم الّذين يتّخذون الكافرين المعاندين أولياء يحبّونهم و يقتدون بهم، تاركين ولاية المؤمنين الّذين أمر اللّه تعالى بموالاتهم و الدخول في جماعتهم و اتخاذ سبيلهم.

و النفاق له مراتب كثيرة قد بيّنها عزّ و جلّ في كتابه الكريم في مواضع متعدّدة، و بعضها أشدّ من الكفر، و لقد كان خطره على الإسلام كبيرا و شديدا.

و ابتلى المؤمنون بالمنافقين من صدر الإسلام، و في المقام يبيّن عزّ و جلّ مرتبة من تلك المراتب و هي موالاة الكافرين أعداء الدين و الانقطاع عن جماعة المؤمنين، و قد كانت مثل هذه الطائفة الّتي كانت تتصل بالكافرين باطنا موجودة

ص: 35

من أوّل البعثة؛ لاعتقادهم أنّ الدولة ستكون للكافرين، و لمّا يستحكم الإيمان في قلوبهم، و يدلّ على أنّ هؤلاء المنافقين هم المراد من الآية الشريفة ذيلها، حيث وصف تعالى حالهم في النفاق وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ، فإنّه عزّ و جلّ أثبت لهم شيئا من ذكر اللّه تعالى، و هذا لا ينافي حال المنافقين الّذين لم يؤمنوا بقلوبهم أبدا، فإنّ له سبحانه و تعالى كلاما معهم في موضع آخر، و كانوا أشدّ خطرا على الإسلام من سائر الفرق كما ستعرف، كما لا ينافي شمول قوله تعالى: بَشِّرِ اَلْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً لجميع أصناف المنافقين، فإنّ لهم عذابا أليما و إن اختلفوا في كيفيّته.

و من ذلك تعرف أنّه لا وجه لإنكار وجود مثل هؤلاء في وقت نزول هذه الآية الشريفة الّتي نزلت بمكّة المكرّمة، بدعوى أنّ الخطاب إنّما توجّه الى المؤمنين لا المنافقين و نهيهم عن مجالسة الكافرين و المستهزئين؛ لأنّ نجم النفاق إنّما ظهر بالمدينة، و أنّ النفاق الّذي ظهر في المدينة إنّما كان مرتبة اخرى غير الّتي كانت بمكّة، و النهي إنّما توجّه لهؤلاء المؤمنين الّذين وصفهم عزّ و جلّ بالنفاق لمجالستهم الكافرين و المستهزئين بالمؤمنين؛ لضعف إيمانهم و اعتقادهم بأنّ الدولة أو الحكومة ستظهر فيهم فتكون لهم يد عندهم، فكان هؤلاء المنافقون غيرهم الّذين ظهروا في المدينة.

و إنّما كانت موالاة الكافرين نفاقا؛ لأنّ الحضور في مجالسهم يستلزم التخلّق بأخلاقهم و تصديق بعض ما يعتقدونه و ما يتذاكرونه ممّا لا يرتضيه اللّه تعالى، فنسبته الى الدين ثم الرضا بأفعالهم و أعمالهم هو الكفر؛ لأنّ فيه انفصالا عن مجتمع المؤمنين و تجاوزا عن ولايتهم و إعراضا عن الدين، فلو حضر مجالس المؤمنين و اشترك معهم في شيء من شعائر الدين و ذكر اللّه تعالى قليلا، لقرع سمعه آيات اللّه و أحكامه دون الوصول الى قلبه حتّى يعرض عن الكافرين، و هكذا إذا أعادوا الكرّة مع الكافرين فإنّه يوجب الازدياد في الكفر، فصار له وجهان، وجه مع

ص: 36

المؤمنين و وجه مع الكافرين أعداء الدين، فاتّصف بصفة النفاق الّتي حذّر اللّه تعالى المؤمنين منها و بيّن آثارها و نتائجها و أوعد عليها أشدّ الوعيد.

قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ .

استفهام إنكاري يفيد التقريع و التوبيخ. و الجملة تقرّر قبلها و تتضمّن التعليل أيضا.

و العزّة في المقام يراد بها الشرف و رفعة القدر و المنفعة و الغلبة الّتي يتعزّزون بها، و منه قوله تعالى: وَ عَزَّنِي فِي اَلْخِطابِ [سورة ص، الآية: 23] أي غلبني، و في حديث مدح الإسلام: «و أعزّ أركانه على من غالبه»، أي حماها ممّن قصد هدمها، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله قال لعائشة: «هل تدرين لم كان قومك رفعوا باب الكعبة ؟ قالت: لا، قال: تعزّزا أن لا يدخلها إلاّ من أرادوا»، أي تشديدا على الناس و تكبّرا عليهم فيمنعونهم من الدخول فيها إلاّ من أرادوا.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً .

جواب يتضمّن الإنكار لما زعموه، أي: أنّ العزّة مختصّة به عزّ و جلّ يعطيها لمن يشاء من عباده، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلى اللّه عليه و آله: «كلّ عزّ ليس باللّه فهو ذل». و قد تقدّم في قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 26] أنّ العزّة من فروع الملك و هو للّه عزّ و جلّ وحده، فهو المالك الحقيقي، و غيره يملك بالاعتبار، فمن أراد العزّة فلا بدّ أن يتعزّز باللّه العظيم، و قد كتب لأوليائه و المؤمنين العزّة كما قال عزّ و جلّ : وَ لِلّهِ اَلْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون، الآية: 8]، و قال تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ اَلْعِزَّةَ فَلِلّهِ اَلْعِزَّةُ جَمِيعاً [سورة فاطر، الآية: 10].

قوله تعالى: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ .

خطاب عامّ لجميع الامة يتضمّن التوبيخ الشديد لما صدر من المنافقين،

ص: 37

و تحذير للمؤمنين أن لا يقعدوا مع الكافرين و المنافقين و هم يكفرون بآيات اللّه و يستهزئون بها، و في هذا التحذير من الحكمة ما لا يخفى، فإنّه إذا لم ينته في أوّل الطريق فإنّ آخر مطافه الكفر الّذي لا ريب فيه.

و الآية المباركة تشير الى ما ورد في قوله تعالى الّذي نزل بمكّة: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية:

68]، و الخطاب فيه و إن كان متوجّها إلى الرسول الكريم صلى اللّه عليه و آله إلاّ أنّه يراد منه العموم.

كما أنّ الآية الشريفة الأخيرة لم تكن متضمّنة من التوبيخ الشديد ما تضمّنته الآية الكريمة الّتي في هذه السورة؛ لعظم قبح أفعال المنافقين من موالاة أعداء اللّه تعالى مع تحقّق ما يمنعهم عن ذلك، فكأنّ الآية المباركة تقرع أسماعهم بقبح أفعالهم و تقول: «أ تتّخذونهم أولياء» و الحال أنّه تعالى نزّل عليكم من قبل في هذا الكتاب العظيم أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ، و هذا كاف في الانزجار عن مجالستهم فضلا عن تحقّق الموالاة و الاعتزاز بالكافرين.

و إضافة الآيات الى اسم الجلالة لبيان خطرها و عظيم شأنها و تهويل أمر الكفر بها.

و هي تشمل الأحكام المقدّسة و المعارف الربوبيّة و مظاهر تجلّياته عزّ و جلّ ، كالرسول صلى اللّه عليه و آله و الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما ورد في الحديث. بل تشمل كلّ حقّ ، و في الحديث عن الصادق و الرضا عليهما السّلام: «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في أهله، فقم من عنده و لا تقاعده»، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات إن شاء اللّه تعالى.

و عموم الآية المباركة لا بدّ و أن يقيد بما إذا لم يمكن ردّهم و الإنكار عليهم و بيان الواقع لهم، و إلاّ فهو جائز بل واجب إذا احتمل التأثير، فإنّ الامتناع عن

ص: 38

مجالستهم هو أوّل خطوات النهي عن المنكر الّذي يجب على المؤمنين، فإن لم يفعله رهبة أو مجاملة فقد خالف أمر اللّه تعالى و وضع قدمه على المنزلق الّذي يؤدّي به إلى الكفر ثمّ الهلاك و سوء العاقبة.

قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ .

تعليل للمنهي عنه و فيه تقريع شديد و تحذير كبير ينزعج منه الحسّ ، و بيان لعاقبة أمرهم إن لم ينتهوا عن مجالسة أعداء اللّه تعالى، فإنّ المؤمن لو لم يحسم أمره معهم منذ الخطوة الاولى لانزلق معهم و وقع في الهاوية، و قد حذّر اللّه تعالى المؤمنين من الاستهانة بأحكام اللّه تعالى. و قد سجّل عزّ و جلّ على الأمم السابقة - لا سيما اليهود - هذا الأمر و وبّخهم أشدّ توبيخ و لعنهم، فإنّ قبح الاستهانة بالمولى - لا سيما اللّه تعالى و أحكامه - ضروري عقلي، فيعمّ جميع الأمم، قال تعالى: لُعِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ * كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ [سورة المائدة، الآية: 78-79].

و المثليّة تارة: تتحقّق في الكفر إن كان القعود مع الكافرين و يستلزم الموالاة و الرضا بمعتقداتهم و أعمالهم. و اخرى: تتحقّق في الإثم إن لم يكن القعود كذلك. هذا إن لم تكن ضرورة في الاجتماع، و إلاّ فالضرورات تبيح المحظورات.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً .

و عيد للفريقين المنافقين الموالين للكافرين المستهزئين بآيات اللّه تعالى، و تعليل لكونهم مثلهم؛ لأنّ ذلك يستلزم اشتراكهم في العذاب.

و أقيم المظهر مقام المضمر تسجيلا لنفاقهم، و بيانا لعلّة استحقاقهم للعذاب، و بيانا لصفة من صفات المنافقين و هي مراقبة إخوان المؤمنين لينتفعوا بها على حسابهم، كما هو شأن كلّ مخادع لم تكن مصاحبته عن صدق و إخلاص، و هذه من أظهر صفات المنافقين و أجلاها.

ص: 39

قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ .

التربّص: الانتظار، و عدم ذكر متعلّق التربّص ليشمل كلّ أمر مكروها كان أو محمودا و محبوبا. أي: ينتظرون وقوع أمر بالمؤمنين.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ .

تفصيل لما أجمله آنفا. و المعنى: و إن كان للمؤمنين فتح من اللّه تعالى برعايته لكم و إفاضته عليكم ما أوجب الظفر على أعدائكم قال المنافقون: ألم نكن معكم نظاهركم و نجاهد عدوكم فاسهموا لنا فيما غنمتم.

و تقييد الفتح بكونه من اللّه لبيان أنّه وعد منه عزّ و جلّ ، كما قال تعالى:

وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ اَلْمُؤْمِنِينَ [سورة الروم، الآية: 47].

قوله تعالى: وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

مادة [حوذ] تدلّ على الحوط، يقال: حاذه حوذا إذا حاطه، و منه الحاذيان و هما جانبا الفخذين من الوراء، و سمّي السائق للبعير و غيره من الدواب حوذيا؛ لأنّه يضرب حاذين البعير، و منه استحوذ على الشيء، أي: غلب عليه و تمكّن من تسخيره و التصرّف فيه، و منه المحاذي للشيء، فإنّ معنى الإحاطة مأخوذ في جميعها، و في الحديث: «ليأتين على الناس زمان يغبط فيه الرجل بخفّة الحاذ كما يغبط اليوم أبو العشرة»، أي الاستيلاء على المال أو العيال، و ذلك كناية عن القلّة و الخفّة فيهما. و الفعل استحوذ و نستحوذ جاء على الأصل من غير إعلال - كما جاء استروح و استصوب - خارجة عن أخواتها نحو: استقال و استقام و أشباههما، فلو أعلّ لكان: ألم نستحذ، و الفعل على الإعلال استحاذ فيستحيذ.

و قد وردت هذه الكلمة في القرآن الكريم في موضعين، أحدهما المقام، و الثاني في قوله تعالى: اِسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ اَلشَّيْطانُ [سورة المجادلة، الآية: 19].

و المعنى: أنّهم يقولون للكافرين إذا أصابهم حظّ من الحرب و الظفر منّا عليهم: ألم نستول عليكم و نتمكّن من قتلكم فلم نفعل بكم و نمنعكم من وصول

ص: 40

المؤمنين إليكم بأن خذلناهم و ألقينا عليهم ما أوجب ضعف قلوبهم و الحدّ من صولتهم.

و يمكن أن يكون المراد: أ لم نكن سببا في غلبتكم على المؤمنين و نمنعهم منكم بتخذيلهم. و المعنيان متقاربان.

و كيف كان، فقد عبّر عزّ و جلّ عن ظفر المؤمنين بالفتح، و في الكافرين بالنصيب؛ اهتماما بشأن المؤمنين و تعظيما لما أصابوه من الفتح و إهانة للكافرين و تحقيرا لحظّهم، و بشارة للمؤمنين بأنّه سيكون لهم الفتح على الكافرين، و أنّه وعد منه عزّ و جلّ لهم، و إن كان في البين ظفر للكافرين عليهم فإنّه لم يكن فتحا بل مجرّد استيلاء لم يكن دائميا سيزول و ينطفئ ضياؤهم، فإنّه لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلا، فيهدم كيانهم و يبطل معالمهم، و لعلّ قوله تعالى في المقام إشارة الى ما سيأتي من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، و المراد من الآية الشريفة نفي الجعل الإلهي كما في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ اَلْكافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 32]، فلا تنافي ثبوت الولاية موقتا؛ لأنّها حاصلة من بعض أعمال المؤمنين و بعدهم عن الحقائق و الواقعيات.

قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ .

الخطاب يشمل كلتا الطائفتين تغليبا أو على الحذف، أي: بينكم و بينهم.

و المعنى: أنّ اللّه تعالى يفصل بين المؤمنين و المنافقين و الكافرين يوم القيامة الّذي هو يوم الفصل بين المحبّين الموالين للّه تعالى، و بين المنافقين المعادين له عزّ و جلّ ؛ فيثيب أحباءه و يعاقب أعداءه، و إنّما خصّ التفصيل و الحكم بينهم بالآخرة؛ لأنّ المنافقين في الدنيا قد حقنت دماؤهم بالإسلام ظاهرا، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «فإذا قالوا - أي كلمة لا إله إلاّ اللّه - فقد عصموني دماءهم و أموالهم».

ص: 41

قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة الّتي لا تقبل التغيير و التبديل، و هي أنّ السبيل للمؤمنين و لن ينعكس أبدا، و تتضمّن الوعد منه عزّ و جلّ لهم الغلبة و النصر على الكافرين، و تأييس للمنافقين بأنّ الغلبة للمؤمنين فلا ينفعهم موالاة الكافرين. و من القرائن الحافّة بهذه الآية الشريفة يستفاد أنّ السبيل المنفي يشمل جميع أنحائه من الظاهري - و هو الغلبة و النصر، و الاستيلاء - و المعنوي و هو الحجّة و البرهان، فإنّ قوله تعالى: فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ إشارة الى القسم الأوّل، و قوله تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ إشارة الى القسم الثاني، فإن كان للكافرين غلبة و قوّة في الحال و لكن للمؤمنين الغلبة و النصر في المآل كما وعد عزّ و جلّ قال تعالى: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 139].

و أمّا الغلبة في الحجّة و البرهان فلا ريب فيها من أحد، و تخصيص الآية الشريفة بأحد القسمين: الظاهري - بأن لم يجعل لهم على المؤمنين سلطانا تامّا بالاستئصال كما حكى عن السدي - أو المعنوي، كما قلنا.

كما أنّ الإشكال بأنّ الغلبة الظاهريّة للكافرين قد تحقّقت في كثير من الأعصار، فلا تشمل الآية الكريمة السبيل الظاهري.

غير صحيح؛ لأنّ ذلك مؤقت، و ذلك لا يضرّ بعد وعد اللّه تعالى بالنصر للمؤمنين و ما حصل للكافرين من الغلبة، لا لأجل كونهم على الحقّ ، بل لإصرارهم على الباطل و الاعتماد على تلك الأسباب الماديّة و عملهم بها بدقّة و إحكام، بخلاف المسلمين الّذين أهملوا هذا الجانب، كما أنّهم أعرضوا عن كثير من تعاليم الإسلام، و قد وعد اللّه لهم بالنصر إن كانوا مؤمنين و عاملين بالأحكام الإلهيّة. و تدلّ عليه آيات كثيرة و نصوص مستفيضة، منها ما تقدّم من قوله تعالى:

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ اَلْأَعْلَوْنَ [سورة آل عمران، الآية: 139]، أي مؤمنين إيمانا صحيحا يدعو الى العمل بما اعتقدتموه.

ص: 42

و قد استدلّ الفقهاء بهذه الآية الشريفة في عدّة مواضع من الفقه لنفي السبيل عن المؤمنين، و جعلوها قاعدة فقهيّة، و هي: «نفي السبيل للكافرين على المؤمنين»، و استدلّوا عليها بقول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، فتختصّ الآية المباركة بالشرعيات عموما، و قد ذكرنا ما يتعلّق بالقاعدة في مواضع من كتابنا «مهذب الأحكام»، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام عنها.

قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ .

صفة أخرى من صفات المنافقين، و هي خداع الرسول و المؤمنين بإخفاء الحقيقة.

و المخادعة: هي شدّة الخديعة و الإكثار منها، و هي تمويه الحقيقة و إبهامها و إظهار خلاف ما يخفيه. و تقدّم اشتقاق الكلمة في سورة البقرة الآية - 9.

و مخادعة اللّه هي مخادعة الرسول و المؤمنين تعظيما لشأنهم، تنبيها على فظاعة فعل المنافقين و شناعته لكونه مبغوضا عنده جلّ شأنه، و أنّ المعاملة مع الرسول معاملة مع اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ : إِنَّ اَلَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اَللّهَ [سورة الفتح، الآية: 10].

و مخادعة اللّه تعالى إنّما تتحقّق بالاستهزاء بدينه و الغشّ في تعاليمه المقدّسة، فإنّهم يظهرون الإيمان بذلك كلّه و يبطنون الإعراض عنها و مخالفتها و تكذيبها و يتقرّبون الى الرسول و المؤمنين كيدا بهم، و لأجل تكرار ذلك منهم أو حصول الخداع منهم في كلّ واحد من تلك الأحكام الإلهيّة و التعاليم الربوبيّة، و الاستهانة بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين صارت مخادعة منهم.

قوله تعالى: وَ هُوَ خادِعُهُمْ .

أي: و الحال أنّ اللّه تعالى هو خادعهم، أي يجازيهم على خداعهم، و إنّما عبّر سبحانه و تعالى عن فعله بالخداع مشاكلة، و هي نوع من أنواع البديع كما في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 54]،

ص: 43

و السبب في ذلك أنّ الخديعة و المكر إنّما يستعملان في الشرور و المعاني المذمومة غالبا، و قد عبّر عنها في فعله عزّ و جلّ و سنّته في خلقه فيهم مخادعة؛ لأنّهم أوقعوا أنفسهم في ما يضلّون به أنفسهم و ينتهي بهم الى العقاب و النكال.

أو المراد أنّ اللّه تعالى هو مخادعهم في تركهم معصومي الدماء و لم يمنعهم و لم يعجّل على أعمالهم الشنيعة، فكان ذلك خدعة منه عزّ و جلّ لهم كما أرادوا خديعته تعالى، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في سورة البقرة فراجع.

و (خادع) اسم فاعل من الثلاثي، و مثل هذا الوزن يدلّ على الغلبة و المغالبة، أي أنّ اللّه تعالى يغلبهم في آخر المطاف مهما توغّلوا في الخديعة، فيجعل وبال خداعهم عليهم لا لهم.

قوله تعالى: وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى .

كسالى [بضم الكاف] جمع كسلان، و قرئ [بفتحها] بمعنى المتثاقل عمّا ينبغي النشاط فيه، أو الفتور في مورد القوّة، و منه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «ليس في الإكسال إلاّ الطهور»، أي: جماع الرجل زوجته ثمّ يدركه فتور فلم ينزل، و في كتاب العين:

«كسل الفحل إذا فتر عن الضّراب».

و الآية المباركة تشير إلى صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي تدلّ على أنّ قيامهم ببعض الشعائر تثاقلا كالمكره على الفعل ليراءوا الناس أنّهم من أهل الإيمان، فإنّ مجرّد دعواهم أنّهم منهم لا تكفي في مجتمع المؤمنين الّذين آمنوا و عملوا الصالحات، فلا بدّ من قيامهم ببعض الشعائر لا عن عقيدة بها، بل لأجل إراءة أنفسهم الى الناس أنّهم من المؤمنين خديعة و تغريرا بالمؤمنين، و لو لا ذلك لما أمكنهم الوقيعة بهم و إعمال كيدهم فيهم.

قوله تعالى: يُراؤُنَ اَلنّاسَ .

أي: أنّ قيامهم بالصلاة إنّما هو لأجل أن يراهم الناس المؤمنين حتّى يعدوهم منهم فيتمكّنوا من إعمال كيدهم فيهم.

ص: 44

و المراءاة مشاركة في الرؤية، أي يكون المرء في مشهد من الناس بحيث يراه الناس و هو يراهم قصدا منه رؤية الناس لأعماله فيحسبونه من المؤمنين.

و الرياء: من الصفات الذميمة المهلكة - إلاّ إذا أذن الشارع فيها كما في بعض التوصليات - و يكفي في قبحها أنّها من صفات المنافقين، و هي إظهار الجميل ليراه الناس لا عقيدة به و لا لاتباع أمر اللّه تعالى فيه، و هي من الشرك الخفي كما نطقت به جملة من الأخبار.

ص: 45

قليلا مهما عظم، فعن أمير المؤمنين عليه السّلام: «لا يقلّ عمل مع تقوى، كيف يقلّ ما يتقبّل ؟!»، فلم يكن لهم توجّه إليه عزّ و جلّ أبدا، فإنّ من أحبّ شيئا خلب مشاعره، فإذا كان عملهم للّه تعالى حبّا و طاعة له، فإنّه يستولي على قلبهم و جميع جوانحهم و جوارحهم، فيكونون ذاكرين للّه تعالى حاضرين لديه مراقبين لنفسه.

و ممّا ذكرنا تعرف أنّ المراد بالذكر هو الأعمّ من الباطني القلبي و الذكر اللساني، فالمنافقون اقتصروا على القليل منه و لم يقبل منهم ذكرهم هذا؛ لعدم التقوى فيهم كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ .

صفة اخرى من صفات المنافقين، و هي التردّد في الإيمان و الكفر، فلم يستقرّوا على أحدهما فلا هم مؤمنون حقيقة و لا كافرون محضا، و إنّما كانوا كذلك لتردّدهم بين مجتمع المؤمنين و الصلاة معهم رياء، و بين موالاة الكافرين و مجالستهم، و يدلّ على ذلك كلمة «بين» كما حكى عنهم عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة، فإنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا. هذا بالنسبة الى حالتهم النفسيّة المتردّدة المشكّكة.

و أمّا عند اللّه فهم كافرون كما يدلّ عليه الطبع على الكفر في قوله تعالى:

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ [سورة المنافقون، الآية: 3] و غيره من الآيات الشريفة.

و مادّة (ذبذب) تدلّ على الحركة و الاضطراب، قال النابغة:

ألم تر أنّ اللّه أعطاك سورة *** ترى كلّ ملك دونها يتذبذب

و منه حكاية صوت الحركه للشيء المعلّق، و منه أيضا المهتز المعلّق الّذي لا يثبت و لا يتمهّل، و الذال الثانية أصيلة عند الجمهور خلافا لبعض الكوفيين، حيث جعلوها مبدّلة من «باء». و قرأ ابن عباس: (مذبذبين) بكسر الذال الثانية، و هذا الوصف يدلّ على عدم حصول اليقين عندهم و فقدان الثقة في نفوسهم. و هذه الحالات تحصل للإنسان إذا اقتصر على الماديات بجحود الحقّ ، و ترك ما وراءها، و جعل همّه في الدنيا هو الاقتناء على وسائل العيش المادي و السعي وراء متاع

ص: 46

الدنيا و الإعراض عن تكميل النفس بالكمالات و التخلّق بمكارم الأخلاق، و السبب في ذلك هو حبّ الدنيا الّذي يعدّ رأس كلّ خطيئة، كما في الحديث.

قوله تعالى: لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ .

بيان للآية السابقة، أي: لا ينتسبون الى المؤمنين ليعدّوا منهم حقيقة، و لا الى الكفّار ليعدّوا منهم بالكليّة، و إنّما يميلون مع كلّ ريح و يطلبون النفع في انحيازهم الى الطائفتين.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُضْلِلِ اَللّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً .

تعليل لما سبق، أي من لم يوفقه اللّه تعالى فهو ضال لم يهتد الى سبيل؛ لأنّهم اتّصفوا بتلك الصفات المهلكة الموبقة، فلم يهيئوا أنفسهم لنيل الفيوضات الربوبيّة و الوصول الى المقامات الكريمة، و لم يستعدّوا للتوفيق و لم يصلحوا للهداية، فأضلّهم اللّه عن السبيل، فلا سبيل لهم ليوصلهم الى الحقّ و الكمال.

و الخطاب في الآية الشريفة عامّ يشمل الجميع؛ ليكون رادعا لهم عن سلوك السبل حتّى تؤدّي بهم الى الهلاك و إعراض اللّه تعالى عنهم و سلب التوفيق عنهم.

و قيل: إنّ المراد من السبيل هو المذهب و الدين الحقّ ، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ المتديّن بالحقّ قد اكتسب و اقتنى أهمّ الكمالات الواقعيّة و العواقب الحميدة.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ .

خطاب للمؤمنين بعد بيان صفات المنافقين و ما أوجب إضلال أنفسهم و عدم اهتدائهم سبيلا يفضي بهم الى الحقّ .

و الآية الشريفة تحذّر المؤمنين عن أهمّ ما يوجب ضعف إيمانهم و الدخول في زمرة المنافقين، و تعظهم بعدم التقرّب الى ما يوجب سخط اللّه تعالى، و إشارة الى أهمّ تلك الموبقات، ألا و هي ولاية الكافرين الّتي هي صنيع المنافقين، و إلاّ كانوا مثلهم، و تؤكّد الآية الكريمة النهي السابق عن موالاة الكافرين الّتي هي حبّهم

ص: 47

و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم، فتكون الولاية المنهي عنها هي نفس الولاية المأمور بها للمؤمنين من دون فرق، فإنّ اللّه تعالى يأمرنا بولاية المؤمنين، و هي حبّهم و الدخول في زمرتهم و الاعتماد عليهم و طلب المعونة منهم و نصرتهم، و هذه هي الّتي نهى المؤمنين أن يتّخذوها مع الكافرين.

و لعلّ السرّ في التأكيد على هذا الأمر أنّ ولاية الكافرين تستلزم كلّ تلك الصفات الذميمة الّتي اتّصف بها المنافقون، فأوجبت إضلال أنفسهم و تحيّرهم و عدم اهتدائهم السبيل الّذي تنجيهم من الشقاء و الهلاك، و أنّ فيها محو أثر الإسلام و اطفاء نور الإيمان في القلوب، و تضعيف الروح المعنويّة في النفوس المؤمنة بالآخرة و المنقطعة إليه عزّ و جلّ ، و هدم كيان المجتمع النبيل عن شريعة اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة و الدخول في سخطه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً .

تأكيد للنهي السابق و تهويل أمر ولاية الكافرين و بيان عظيم أثرها في نفوس المؤمنين كما عرفت. و السلطان هو الحجّة و البرهان، و هو ممّا يجوز فيه التذكير - باعتبار البرهان - و التأنيث باعتبار الحجّة. و المبين: الواضح.

و المعنى: أ تريدون أن يكون للّه تعالى عليكم حجّة ظاهرة واضحة في استحقاقكم للعذاب إذا اتّخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين؛ لأنّ ولاية الكافرين دليل النفاق و الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى و دين الحقّ ، و هذه حجّة.

و الآية المباركة تشير الى أمرين:

أحدهما: أنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين عن موالاة الكافرين، و هذه حجّة.

الثاني: أنّ موالاة الكافرين أوضح دليل على النفاق، و هذه حجّة ثانية، و كلتا الحجّتين قد ذكرهما عزّ و جلّ في الآيات السابقة، و إحديهما تكفي في استحقاق العذاب.

قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ .

الدرك - بسكون الراء و فتحها - هي الطبقة، و سمّي بها لأنّها طبقات متتابعة

ص: 48

متداركة بعضها فوق بعض كالدرج، إلاّ أنّ الأخير يقال باعتبار الصعود و الدرك باعتبار الهبوط؛ و لذا كانت للجنّة درجات و للنّار دركات، و في حديث الدعاء:

«أعوذ بك من درك الشّقاء»، و الجمع أدراك - و هي منازل في النار - و قيل أدرك كفلس و أفلس.

و تدلّ الآية المباركة على وجود طبقات و منازل للنار، و هي سبع: تسمّى الاولى جهنم، و الثانية لظى، و الثالثة الحطمة، و الرابعة السعير، و الخامسة سقر، و السادسة الجحيم، و السابعة الهاوية، و قد تسمّى جميعها باسم الطبقة الاولى كما يسمّى بعض الطبقات باسم الطبقة الاخرى، و لفظ النار يجمعها أعاذنا اللّه تعالى بلطفه و رأفته و جميع المؤمنين برحمته و كرمه منها بحقّ محمّد و آله الأطهار و إنّما استحقّ المنافقون الدرك الأسفل؛ لأنّهم شرّ أهلها، و قد جمعوا بين الكفر و النفاق و اتّصفوا بصفات موبقة و مهلكة أفسدت عليهم فطرتهم، و جعلت أنفسهم أخسّ الأنفس و أرداها فاستحقّوا بها هذه الطبقة من النار كما حكي عنهم عزّ و جلّ في الآيات السابقة، فإنّ واحدة منها تكفي في استحقاق النار، و تدلّ الآية الشريفة على تناسب الجزاء مع العمل.

قوله تعالى: وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً .

إرشاد الى استيلاء النفاق على جميع مشاعرهم و تنبيه الى أنّ النفاق يوجب انقطاع العصمة بينهم و بين كلّ شفيع و نصير يخرجهم من النّار أو يخفف من عذابها.

و يمكن أن تكون الآية الشريفة بيانا لقوله عزّ و جلّ : فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً في الدنيا و الآخرة فالنصير من السبيل الّذي نفاه عزّ و جلّ عنهم، فإنّ اللّه تعالى لم يوفقهم في الدنيا للهداية و كسب المكارم و لم يجعل لهم نصيرا ينصرهم من عذاب اللّه عزّ و جلّ .

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا .

استثناء عمّا سبق ذكره في النفاق و المنافقين و الوعيد الّذي ذكره عزّ و جلّ فيهم. و قد اشترط تعالى للرجوع عن النفاق شروطا ثقيلة لم تذكر في غيره من

ص: 49

المعاصي و الآثام، فإنّ في بعضها تكفي التوبة الجامعة للشرائط و الإنابة الى اللّه تعالى، و في بعضها التوبة و الإصلاح، و في بعضها الاعتصام باللّه تعالى و الإخلاص في الدين. و لا يكفي واحدا منهما للرجوع عن النفاق و الدخول في جماعة المؤمنين و نيل جزاءهم، و هذا يدلّ على أنّ النفاق أسوء بكثير من المعاصي و سائر الصفات الرذيلة و الملكات السيئة، بل الكفر الصريح الّذي اكتفى فيه عزّ و جلّ بالإيمان و العمل الصالح، قال عزّ و جلّ : فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ وَ آتَوُا اَلزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي اَلدِّينِ [سورة التوبة، الآية: 11]، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الكافر مستقيم الفطرة لكنّه على قاعدة منحرفة، فإذا أزال المانع و رجع الى الدين الحقّ اكتفي منه بالإيمان و الالتزام بلوازمه، بخلاف النفاق الّذي له منبت عميق في القلب و جذور متشعّبة في النفس، ممّا يوجب اختلال الفطرة المستقيمة، فيتكون للمنافق تركيبة سيئة مضطربة لم تقم على قاعدة و هي في غاية السوء، بخلاف بقية المعاصي؛ لأنّ في جميعها لم تضطرب الفطرة، و لأجل ذلك النفاق احتاج الى إصلاح كثير و جهاد مرير مع النفس يرجع المنافق الى رشده و يصلح نفسه حتّى يستقيم طبعه، فلم تكن هذه الشروط لتهويل الأمر و بيان فظاعة النفاق و شدّة أثره في النفس و الفطرة فحسب؛ لأنّ لكلّ شرط أثرا مختصّا به في الإصلاح و التربية، فأوّل تلك الشروط هو التوبة بالرجوع الى اللّه تعالى و العزم على ترك النفاق، و الندم على ما صدر منه.

و هذا الشرط هو القاعدة العريضة الّتي تبتني عليها التوبة عن جميع الذنوب و الآثام، و تقدّم في بحث التوبة ما يتعلّق بها، و ذكرنا أنّ التوبة بالمعنى المعروف الّذي سبق ذكره ممّا له الأثر النفسي و التربوي في المذنبين النادمين و العازمين على ترك المعاودة مع التدارك بما أمكنه من الأعمال الحسنة كما مرّ.

قوله تعالى: وَ أَصْلَحُوا .

و هو الشرط الثاني، أي الإصلاح الّذي يقترن بالتربية و ترويض النفس و قهرها على العمل بأحكام اللّه تعالى، فإنّ النفاق أفسد النيات و الأحوال

ص: 50

و الأعمال، و هذا الشرط له الأثر في تأسيس قاعدة قويمة محكمة يمكن أن يعتمد عليها المنافق فيخرج عن التذبذب و الاضطراب.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ .

هذا هو الشرط الثالث، و هو التمسّك بحبله المتين و اتباع تعاليم الرسول الكريم، فإنّه السبيل الّذي عيّنه سبحانه و تعالى لمن يريد أن يدخل في جماعة المؤمنين و يسلك مسلكهم، و غيره هو سبل الشيطان الّتي يتفرّق بكم عن سبيله عزّ و جلّ . و هذا يفضي الى الدخول في جماعه المؤمنين و هدايته، قال تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: 175]، و قد عرفت آنفا أنّ اللّه تعالى قطع عن المنافق فيضه فجعله ضالا لا يهتدي سبيلا.

و الاعتصام باللّه عزّ و جلّ يجعل له استعدادا للفيض بعد ما أفسده النفاق، و بهذا الشرط و سابقه تستقيم العقيدة و يحصل الجزم في النيّة و يزول الشكّ و التردّد.

قوله تعالى: وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ .

هذا هو الشرط الرابع، و هو الإخلاص للّه تعالى و نبذ الشرك و الرياء و التواني في طاعته، و بهذا الشرط تستقيم الفطرة بعد ما أفسدها النفاق، و يجعل نفسية المنافق نفسية صادقة مطمئنة مستقيمه ليس لها منبت سوء، فإذا تحقّقت جميع تلك الشروط و استقامت الفطرة و تحقّقت القاعدة الحكيمة المبنية على تعاليم اللّه عزّ و جلّ و دينه الحقّ و ثبت الإخلاص خرج عن النفاق و دخل في جماعة المؤمنين و نال الثواب الجزيل الّذي وعده سبحانه و تعالى لهم.

و هذه الصفات هي صفات المؤمنين المخلصين الّذين تمحّضوا في الإيمان، و قد وردت في الآيات الكريمة الّتي ذكر فيها صفات المؤمنين المخلصين، و قد تقدّم بعضها.

قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ .

أي: أولئك التائبون الّذين رجعوا عن النفاق و أصلحوا أنفسهم بعد ما

ص: 51

أفسدوها مع المؤمنين في الدارين و يعدون من عدادهم؛ لأنّ المنافقين قد أفسدوا فطرتهم فلم يمكنهم الرجوع بمجرّد التوبة بالشروط المذكورة، بل يحتاج الى جهاد و تحمّل مشقّة في ترويض النفس على الإيمان حتّى تستقرّ في قلوبهم تلك الأوصاف؛ و لذا كانوا في ابتداء الأمر مع المؤمنين الى أن يوفّقهم اللّه تعالى بالدخول فيهم فيكونوا منهم حقيقة.

قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً .

أي: و سوف يعطي اللّه المؤمنين جميعا - من تقدّم منه النفاق ثمّ تاب، و من لم يتقدّم منه النفاق - أجرا عظيما لا يعلم كنهه و قدره إلاّ اللّه تعالى، فيساهم التائبون المؤمنين في ذلك الأجر.

قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ .

تأكيد للوعد السابق للمنافقين بأنّهم إن تابوا فإنّ اللّه تعالى لن يعذبهم؛ لأنّه ما يفعل بعذابهم إن شكروا و آمنوا، و تطمين لقلوب المؤمنين جميعا بأنّ اللّه تبارك و تعالى لا يحبّ عذاب أحد، و إعلام لجميع الناس بأنّ اللّه غني لا يعذب أحدا من دون استحقاق له، و أنّ عذابه لم يكن انتقاما و لا تشفيا من الغيظ ليخمد ثورة الغضب الكامن في قلبه كما هو شأن الإنسان حين ما يغضب، كما لا يكون عذابه لدفع ضرر و لا لجلب منفعة، فهو الغني المتعال عن جميع ذلك.

و في التعبير ايحاء عجيب، و كمال العطف بخلقه، و يستفاد من هذا الأسلوب البديع الّذي اشتمل الاستفهام فيه (ما) على النفي على الموجب عن العذاب بنفي الفعل، و هو أسلوب بلاغي فصيح، فما يفعل اللّه تعالى بعذاب أحد لأنّه لم يكن فيه موجب لعقابه تعالى، فلم يحبّ أن يعذب أحدا من غير استحقاق منه، بل يعاقب المسيء المصرّ على الإساءة؛ لأنّه يكشف عن فساد نيّته و سوء سريرته، فإذا زال ذلك بالشكر و الإيمان و نقّى نفسه و طهّرها بالتوبة، تخلّص من تبعات الكفر و الآثام، فكان في مأمن من العذاب كما وعد عزّ و جلّ .

ص: 52

قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ .

بيان بأنّ العذاب وجودا و عدما إنّما هو يرجع الى كفرهم، أو شكرهم و إيمانهم، فلا موجب لعذابكم إن شكرتم اللّه تعالى على ما أنعم عليكم من الفواضل و الفضائل و آمنتم به و عملتم بشرائعه و تعاليمه المقدّسة.

و قد ذكر المفسّرون في وجه تقديم الشكر على الإيمان وجوها:

منها: أنّ الشكر يستدعي معرفة النعمة، و هي تقتضي معرفة المنعم ثم الإيمان به.

و منها: أنّ الشكر طريق موصل الى الإيمان، بل هو أولى درجاته.

و منها: أنّ الكلام مبني على تقديم المؤخّر، أي: آمنتم و شكرتم. و قيل غير ذلك، و لا يخفى ما في بعضها من المناقشة و الخروج عن الذوق البلاغي.

و الحقّ أن يقال: إنّ الآية المباركة تشير الى معنى أدق مما ذكروه، و هو أنّ الشكر من شؤون العبوديّة الّتي خلق اللّه تعالى الجن و الإنس لأجلها، قال عزّ و جلّ : وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 5]، و العبوديّة جوهرة تتضمّن جميع الحقوق على المخلوق اتّجاه خالقه، و الشكر للّه عنوان العبوديّة و من أهمّ أماراتها؛ لأنّه يوجب صرف جميع ما أنعم اللّه تعالى على العبد في ما خلق لأجله، و به يستعد الإنسان لنيل الفيض من خالقه المنعم عليه، فهو من أوثق الروابط بين المنعم و المنعم عليه؛ و لذا ورد التأكيد على الشكر في عدّة مواضع من القرآن الكريم حتى عدّوه من الحقوق الّتي تدعو الفطرة بمراعاتها و أدائها؛ لأنّه يستدعي معرفة النعمة و المنعم.

و الكفر يعني الخروج عن ناموس الفطرة و قطع تلك الرابطة و تحدّي ناموس الكون، و هو يعني الخروج عن شريعة اللّه تعالى و اتّخاذ المذاهب و الشرائع الّتي هي من صنع البشر، و هذا يعني حدوث الفساد في الأرض.

و دفعا لذلك لا بدّ من الشكر و مراعاة النعمة و أداء حقّ الخالق المنعم بها علينا، ثم يستتبع الإيمان عن قاعدة رصينة و اعتقاد جازم، و لعلّ الإتيان به في

ص: 53

المقام مع الإيمان باللّه تعالى لدفع العذاب، و لأجل إزالة الشكوك في النفس و التذبذب في الاعتقاد الّذي كان عليه المنافقون، و فيه التأكيد على مراعاة المنهج الّذي وضعه عزّ و جلّ لمن يريد الرجوع عن النفاق و التوبة منه لشدّة أثره في النفس و القلب و العقيدة.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً .

أي: أنّ اللّه تعالى يرضى عن الشاكرين و يثيبهم على شكرهم، عليم بجميع الأمور الجزئيّة و الكليّة، فهو يعلم خائنة الأعين و ما تخفي الصدور، و يعلم الصادق في إيمانه و الراجع عن نفاقه فيثيبه، و يعلم الكاذب فيجزيه على كفره.

و (الشكور) من أسمائه المقدّسة، و يراد منه الجزاء الكثير و العطاء المتواصل على القليل من الطاعات، و في الدعاء: «يا من يقبل اليسير و يعفو عن الكثير».

ص: 54

بحوث المقام
بحث أدبي

اختلف النحويون في مثل قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً فذهب الجمهور الى أنّ الخبر في أمثال هذا الموضع محذوف و به تتعلّق اللام، و التقدير: ما كان اللّه تعالى مريدا للغفران لهم، و نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه.

و ذهب غيرهم الى أنّ اللام زائدة و الخبر هو الفعل.

و قد أشكل عليه بأنّ انتصاب ما بعدها إن كان باللام فليست زائدة، و إن كان ب (ان) فإنّه يستلزم الإخبار بالمصدر عن الذات و هو فاسد.

و أجيب عن الأوّل بأنّه لا مانع من العمل مع الزيادة، كما في حروف الجر الزائدة.

كما أجيب عن الثاني بأنّه لا مانع من الإخبار بالمصدر عن الذات.

و أشكل عليه بما هو مذكور في المطولات، فراجعها.

و (أن) في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها مخفّفة من الثقيلة و اسمها ضمير الشأن مقدّر، و ذكر بعضهم أنّ المقدّر ضمير المخاطبين، أي (انكم).

و أشكل عليه بأنّ (ان) المخفّفة لا تعمل في غير ضمير الشأن.

و أجيب عنه بأنّه يجوز و لو لم تكن ضرورة و التفصيل مذكور في محلّه.

و (إذا) في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ملغاة؛ لأنّ شرط عملها الّذي هو النصب في الفعل أن تكون مصدرة و (مثل) خبر عن ضمير الجمع، و يستوي فيه الواحد المذكر و غيره؛ لأنّه كالمصدر الّذي يقع على القليل و الكثير، و في المقام قد أضيف الى ضمير الجمع فيدلّ على العموم، و قد يطابق ما قبله في الجمع و الإفراد

ص: 55

كقوله تعالى ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ ، و يكتسب البناء إذا أضيف الى المبني، سواء كان (ما) كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [سورة الذاريات، الآية: 23] أم غيرها. و اشترط بعض النحويين في اكتساب البناء أن لا يقبل المضاف التثنية و الجمع - كدون، و غير، و بين. و لم يصحّ ذلك في (مثل) فراجع المطولات.

و جامع في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ بالتنوين حذف تخفيفا لأنّه بمعنى: (نجمع).

و ذكر بعضهم أنّ المراد بالقلّة في قوله تعالى: وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً العدم.

و استشكل عليه توجيه الاستثناء، و أجيب بأنّ المعنى يرجع الى وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ملحقا بالعدم، و لكن جعل القلّة بمعنى العدم مجاز يحتاج الى عناية، إلاّ على طريقة قولهم:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهنّ فلول من قراع الكتائب

قوله تعالى: مُذَبْذَبِينَ إمّا حال من فاعل يُراؤُنَ ، أو من فاعل يَذْكُرُونَ ، أو يكون منصوبا على الذمّ بفعل مقدّر.

و (يؤت) في قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ حذفت الياء منه في اللفظ كما حذفت في الخط لسكونها و سكون اللام الّتي بعدها، و مثله حذف الياء في قوله تعالى: يَوْمَ يُنادِ اَلْمُنادِ ، و قوله تعالى: سَنَدْعُ اَلزَّبانِيَةَ ، و قوله تعالى:

يَوْمَ يَدْعُ اَلدّاعِ ، فإنّها حذفت لالتقاء الساكنين.

بحث دلالى

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً على كمال الاختيار في الإنسان و الحرية في الاعتقاد؛ لأنّ التقلّب في

ص: 56

الإيمان و الكفر ينافي الجبر عليها و الالتزام بأحدهما، و يدلّ عليه أيضا امور يستفاد من الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها.

منها: أنّه لو كان مجبورا لما اختلف في الإيمان و الكفر، و لم يكن متردّدا بينهما، ثم الازدياد في الكفر، و التوغّل في الطغيان، فإنّ ذلك ينافي الجبر كما هو واضح.

إن قلت: إنّ الجبر قد يتعلّق بذات التردّد أيضا، كما يتعلّق بالإيمان أو الكفر.

قلت: على فرض كون الجبر يتعلّق بالتردّد أيضا و كان له وجه معقول، و لكن الازدياد و الطغيان الحاصلان من العبد في كلّ من الإيمان و الكفر ينافي الجبر و لا يتعلّق بهما، فإنّ كلا منهما من فعل العبد و اختياره.

و منها: أنّ الجزاء الّذي ترتّب على الكفر و الارتداد عظيم جدا؛ لعظمة الذنب الّذي اقترفوه، و هو عدم الغفران و عدم اهتدائهم السبيل و العذاب الأليم، و هو يدلّ على اختيارهم، إذ لا وجه للجزاء على فعل يكون الإنسان مجبورا على إتيانه.

كما يدلّ على نفي التفويض أيضا، فإنّه غير معقول أن يفوض اللّه تعالى الأفعال الى العباد، و لم يهدهم سبيلا للرشاد، و لم يوفقهم الى خيرهم و سعادتهم و يبعدهم عن رحمته.

و منها: قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّخِذُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ فإنّ الاتّخاذ نصّ على الاختيار مادّة و هيئة كما هو واضح، إذا لا جبر في البين؛ لأنّ الاتّخاذ فعل العبد، فيدلّ على الاختيار، كما في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 57]، و قوله تعالى: اِتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً [سورة التوبة، الآية: 31]، و قوله تعالى: اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ * [سورة النساء، الآية: 153]، بخلاف (أخذ) فإنّه أعمّ كما في قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ * [سورة الذاريات، الآية:

44]، و قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصَّيْحَةُ * [سورة المؤمنون، الآية: 41].

و قد استعمل القرآن هذه الهيئة (اتخذ) في التردّد و العصيان غالبا، بخلاف الأخذ كما عرفت.

ص: 57

و منها: قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ فإنّ إثبات المثليّة بين طائفتين في الإيمان و الكفر لا تحصل إلاّ في ظرف الاختيار، و لا يمكن أن تتحقّق بين طائفتين مجبورتين على الإيمان و الكفر؛ لأنّه لا يمكن أن يخرج المجبور عن ما اجبر عليه.

إن قلت: إنّ الذمّ قد يتعلّق لصفة غير اختياريّة، كما يقال مثلا: الحنظل مرّ.

قلت: إطلاق الذمّ على أمر غير اختياري شيء و العقاب عليه شيء آخر، و انّه يتعلّق بأمر مختار، فبالاختيار يأكل الحنظل و يترتّب عليه آثاره الوضعيّة، و كذا في الكفر و هكذا، و للكلام تفصيل موكول الى محلّه.

و منها: قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً فإنّه يدلّ على أن من أراد الكفر فقد اختار إلزام نفسه بالحجّة، و أراد لنفسه العقاب، و لا وجه لثبوت الحجّة على أمر هو مجبور على فعله أو مفوض إليه، كما هو واضح.

و منها: قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ فإنّه يدلّ بوضوح على نفي الجبر و التفويض، إذ العذاب وجودا و عدما معلّق على اختيار الإيمان و الكفر.

و مجموع الآيات الشريفة تدلّ على النظرية الّتي أسّسها الأئمة الهداة عليهم السّلام في أفعال الإنسان، و هي نظرية الأمر بين الأمرين، فإنّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً يدلّ على أنّ الهداية و التوفيق من اللّه تعالى، فلا بدّ منهما في كلّ فعل من الأفعال، فمن يختار الإيمان و الطاعة إنّما يكون بتوفيق منه عزّ و جلّ ، و من كفر و أعرض عن الطاعة فقد سلب منه التوفيق، و من المعلوم أنّ التوفيق لم يكن العلّة التامّة في تحقّق أحدهما، و إلاّ كان مناقضا للأدلّة المتقدّمة الدالّة على نفي الجبر و ثبوت الاختيار.

إن قلت: إنّ التوفيق و الهداية من اللّه تعالى و إن لم تكونا العلّة التامّة، و لكنهما جزء العلّة، و المعلول ينتفي بانتفاء أحد أجزاء العلّة.

قلت: نعم إنّ التوفيق جزء العلّة، و لكن الجزء الآخر هو اختيار الإنسان،

ص: 58

فالتوفيق له أثر كما أنّ لبقية الأمور من الزمان و المكان لها الأثر في تحقّق المعلول.

و قد تقدّم في أحد مباحثنا ما يتعلّق بالمقام فراجع.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً على أنّ التقلّب في الكفر يوجب الطغيان على اللّه تعالى و التمرّد على تعاليمه. فإنّ من أنس بالكفر و طبع قلبه عليه و تمرّن على الردّة و كان الإيمان و الطاعة عنده أهون شيء، كيف يمكن أن يكون مؤهّلا للمغفرة و مهيئا للهداية ؟! و هو يوجب فساد الفطرة و انتشار الفساد و تغلّب الشرّ، و في ذلك ضياع للإنسانيّة.

و لا تختصّ تلك بالتقلّب في الإيمان و الكفر و الارتداد، بل الإصرار على ارتكاب المعاصي و الآثام و التطبّع عليها و التقلّب فيها توجيها أيضا. ألا ترى أنّ ما أصاب الإنسانيّة الحاضرة من الجاهليّة البغيضة ليست إلاّ نتيجة ارتكاب المعاصي و الخروج عن طاعة اللّه تعالى، و هو ممّا حذّرنا اللّه تعالى عنه بأحسن بيان و أبلغ أسلوب، و يكفي لوصول الإنسان الى المرتبة الدانية الّتي يعبّر عنها عزّ و جلّ ب أَسْفَلَ سافِلِينَ [سورة التين، الآية: 5] عدم تأثير تلك المواعظ البليغة في تلك القلوب الّتي طبعت على التمرّد و الأقسى من الحجارة، و قد أثّرت في القلوب الّتي كانت في عصر النزول مع ما عليها من الانحطاط و التخلّف و البعد عن الحقّ و الواقع، فما أبعد ما بين الجاهليتين، و ما أشدّ الثانية و أقساها، فقد أنست الإنسان نفسه، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ * وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اَللّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة الحشر، الآية: 18-19]، و لا يمكن أن يتصوّر أمر أشدّ خطرا على أحد أن ينسى نفسه و لا يدري أنّه إنسان شرّفه اللّه تعالى على سائر خلقه، و هو من المهلكات، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً أنّ

ص: 59

التوفيق و الهداية لا بدّ منهما في حياة الإنسان المادّية و المعنويّة، و لا يمكن بدونها أن يصل الى الكمال، بل و لا يستعدّ للاستكمال. و في الدعاء المأثور: «ربّنا لا تكلنا الى أنفسنا، فإنّك إن وكّلتنا الى أنفسنا تباعدنا من الخير و تقرّبنا الى الشرّ».

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً جواز إطلاق الإيمان على الإيمان غير المستقرّ، كما يدلّ أيضا على أنّ للايمان مراتب، و كذا الكفر.

الخامس: يستفاد من الآيات المباركة العلل الّتي توجب النفاق، و هي عديدة، و منها راجعة الى نفسيّة المنافق، كالتذبذب في الاعتقاد، و عدم اليقين بآثاره الحسنة الّتي تقع في النفس، و من هذا القسم الرياء أيضا. فإنّه يرجع الى عدم الاعتماد على اللّه تبارك و تعالى لانتفاء الثقة به عزّ و جلّ .

و منها: راجعة الى العمل، كالكسل في العبادة و ابتغاء المنفعة في جميع الأفعال.

و منها: راجعة الى فساد النيّة، و هي الخديعة، و عمدتها الاستهزاء باللّه و آياته و تعاليمه المقدّسة، و اتّخاذ الكافرين أولياء بالقعود معهم و إلقاء المودّة إليهم، و ابتغاء العزّة عندهم بالإعراض عن المؤمنين و طريقهم إلاّ في ما يثبتون نفاقهم به.

و الآيات الشريفة من الآيات المعدودة الّتي تبيّن الجوانب المتعدّدة في صفة النفاق، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ أنّ القعود مع أهل الكبائر و الجلوس مع أرباب المعاصي، يستلزم الانخراط فيهم و الاشتراك معهم في المعصية، و انطباع آثارها عليهم، و لو لم يكن من آثارها إلاّ سلب التوفيق لكفى في الابتعاد عنهم، ففي دعاء أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين (صلوات اللّه عليهما) عند تعداد ما يوجب سلب التوفيق قال عليه السّلام: «أو لعلّك رأيتني في الغافلين فمن رحمتك آيستني، أو لعلّك رأيتني آلف مجالس البطّالين فبيني و بينهم خليتني، أو لعلّك لم تحبّ أن تسمع دعائي فباعدتني».

ص: 60

السابع: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً أنّ المنافق بحكم الكافر، و أنّهما يشتركان في العذاب و إن اختلفا في شدّته، فإنّ المنافق في الدرك الأسفل من النار.

الثامن: يستفاد من قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً أنّ اللّه تعالى وعد المؤمنين بإحباط جميع محاولات الكافرين للتسلّط عليهم و الاستيلاء على منافعهم، فإنّهم أقوى حجّة و أسدّ رأيا و أثبت عزيمة و أشدّ ثباتا، فلا يضرّهم استيلاؤهم برهة من الزمن على المؤمنين.

التاسع: يستفاد من قوله تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً أنّ العذاب الإلهي إنّما يكون عن حجّة ملزمة للمعذّبين، فكل ضلال و سخط إلهي - سواء أ كانا في الدنيا أم في الآخرة - إنّما يكون عن حجّة واضحة يجعلها العباد على أنفسهم بسبب أعمالهم، فتكون من قبيل المقابلة و المجازاة، فلن يبدأ اللّه تبارك و تعالى بعذابهم أبدا، فالعذاب أو ما يستوجبه من الضلال و المعاصي إنّما يكون من قبلهم.

فما يظهر من بعض الآيات المباركة من إسناد العذاب إليه عزّ و جلّ ، إنما يكون من قبيل إسناد الأثر الى موجده، و أما السبب في الاستحقاق و الأهلية فمن ناحية العبد.

العاشر: تدلّ الآية الشريفة إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ أنّ أمر التوبة من النفاق شديد - و ليست كسائر المعاصي - فلن تتحقّق إلاّ مع الشروط المذكورة، كما عرفت من أنّ النفاق مرض عضال يفسد النيّة و العقيدة و يؤثّر في النفس و العمل، و قد تكفّلت هذه الشروط جميع تلك الجوانب كما عرفت في التفسير.

الحادي عشر: يستفاد من قوله تعالى: فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّ المنافق إذا طهّر قلبه عن النفاق و أخلص عقيدته بالتوجّه إليه تعالى، يكون مع المؤمنين لا امتياز بينهم و بينه، و أنّ أوزاره ذهبت بالتوبة الّتي استجمعت تلك الشروط، و لعلّ

ص: 61

قاعدة الجب المستندة الى قول نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يجبّ ما قبله، و التوبة تجبّ ما قبلها» - أي يمحوان ما كان قبلهما من الكفر و النفاق و المعاصي و الذنوب - مأخوذة من هذه الآيات المباركة و أمثالها.

الثاني عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً أنّه في مقام الامتنان على المؤمنين - سواء من تقدّم منه النفاق أو من لم يتقدّم منه - و لا يضرّهم النفاق السابق بعد التوبة الخالصة، و أنّ كلمة الإطماع أو الترجئة (و سوف) من اللّه تعالى إيجاب؛ لأنّه أكرم الأكرمين، و وعد الكريم إنجاز.

و اتّصاف الأجر بالعظمة إما لأنّه من الكريم، و ما يفيض منه لا يقدر بقدر فيكون عظيما، كما في القدسيات: «من تقرّب إليّ شبرا، تقرّبت إليه ذراعا، و من تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا، و من أتانى يمشي أتيته هرولة»، فمن توجّه الى عالم الغيب بالإيمان الكامل يهب له من نفحاته إلى أن يصل قرب ساحة كبرياء أنسه.

و إمّا لأهليّة الطرف، فإنّ الإيمان باللّه و صيرورة العبد مؤمنا باليقظة عن نومة الغفلة، بالرجوع الى الحقّ ، يقتضي أن يكون أجره عظيما؛ لقانون النسبة و التناسب.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يَفْعَلُ اَللّهُ بِعَذابِكُمْ أنّه سبحانه و تعالى منزّه عن الصفات غير الحميدة، و هي الصفات السيئة الّتي تخصّ الملوك غالبا، كالتشفّي من الغيظ و أخذ الثأر و استجلاب النفع و غيرها؛ لأنّه جلّت عظمته غني لذاته و بذاته، و في الحديث: انّ اللّه تعالى قال لموسى عليه السّلام: «ما خلقت النار بخلا مني، و لكن أكره أن أجمع أعدائي و أوليائي في دار واحد»، و قد أدخل سبحانه تعالى بعض عصاة المؤمنين النار ليعرفوا قدر الجنّة و مقدار ما دفع اللّه عنهم من عظيم النقمة، و لتعظيم النعمة الّذي هو واجب عقلي.

الرابع عشر: يستفاد من تقديم الشكر على الإيمان في قوله تعالى: إِنْ شَكَرْتُمْ وَ آمَنْتُمْ أنّ المؤمن لا بدّ أوّلا أن يعترف بنعمة العبوديّة للّه تعالى، ثمّ

ص: 62

يتدرّج للوصول الى الكمالات بالإيمان و الطاعات؛ لأنّ الشكر من العبد اعتراف منه بعبوديته و من اللّه تعالى رضى باليسير من طاعة عباده.

الخامس عشر: يستفاد من قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ شاكِراً عَلِيماً كمال العناية و اللطف بالمؤمنين، فإنّهم مع كونهم مخلوقين مربوبين لا يمكنهم الحياة إلاّ بألطافه المقدّسة، فإنّ اللّه تعالى يمنحهم عطية اخرى و يلطف بهم أن يشكرهم على يسير أعمالهم، و أنّه عليم بشكركم و إيمانكم، فيستحيل أن لا يوفيكم أجوركم.

بحث روائي

ذكر الكليني في الكافي، و العياشي في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً روايات تدلّ على أنّ الآية الشريفة نزلت في شأن جماعة معينة لم يكن إيمانهم ناشئا من الواقع و الحقيقة، و إنّما كان إيمانهم باللّه العزيز و برسوله الكريم لأجل منافعهم الشخصيّة و مصالحهم الخاصّة الّتي كانت في نيّاتهم؛ و لذلك كانوا يكفرون باللّه العظيم و برسوله الأمين إن تعارض الإيمان مع تلك الأماني المزعومة أو تمسّ بمكانتهم الاجتماعيّة، فيؤمنون باللّه تعالى إن وافق الإيمان معها ثم يكفرون إن عاد التعارض و التباعد بينهما، فإذا يئسوا من التوافق بقوا على كفرهم و نموا عليه، كما هو شأن كلّ منافق.

و لكن هذه الروايات كلّها من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص، لأنّ الآية المباركة عامّة لا تختصّ بزمن معين - كعصر نزول القرآن أو ما حصل من الحوادث - كالغزوات و غيرها - في عصر الرسول الأمين أو بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله الى الملأ الأعلى.

كما لا تختصّ بأفراد معيّنة خاصّة، بل إنّ مضمونها يشمل كلّ عصر و زمان و كلّ فرد انطبقت الآية المباركة عليه و اتّصف بالتذبذب؛ لأنّها في مقام بيان قاعدة

ص: 63

كلّية سارية في جميع الأزمنة و المجتمعات. و لا حاجة بعد ذلك الى سرد تلك الروايات و المناقشة فيها بعد ما عرفت.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي بصير قال: «سمعت الصادق عليه السّلام يقول:

إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً من زعم أنّ الخمر حرام ثمّ شربها، و من زعم أنّ الزنا حرام ثمّ زنا، و من زعم أنّ الزكاة حقّ و لم يؤدّها.

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ المعصية - سواء كانت فعل محرّم أو ترك واجب - مرتبة من الكفر و لو كانت أدناها، فلا تنافي بين هذه الرواية و ما تسالموا عليه من أنّ ترك الواجب أو فعل الحرام لا يوجب الكفر، أي بالمرتبة العالية.

أو يجمع بينهما بأنّ الرواية في مقام بيان إنكار أصل الحكم و جحوده، فيرجع الى إنكار الضروري الّذي يؤدّي الى الكفر بالاتّفاق، كما ذكرناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

الثاني: سياق الآية المباركة و إن كان في الكفر في اصول الدين بأعلى مراتبه - كما يدلّ ذيلها - إلاّ أنّ تمسّك الإمام عليه السّلام بها في الكفر في الفروع تكون قرينة على أنّ الكفر الوارد فيها عامّ بجميع مراتبه، فيشمل الكفر في الفروع أيضا.

الثالث: لا بدّ في الإيمان من الحجّة الظاهريّة؛ لأنّ الاعتقاد أو الزعم لا يتحقّق إلاّ بها و أنّ المدار عليها، لا الواقع المستور عنا، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتابنا (تهذيب الأصول).

الرابع: أنّ للاختيار دخلا في كلّ منهما، فلا عبرة بما لا يكون كذلك، كما هو المنساق من الآية المباركة و ظاهر الرواية.

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه يقول كلّ يوم أنا ربّكم العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

ص: 64

أقول: على فرض صحّة الحديث إنّ المراد من قوله تبارك و تعالى نوع من الإلهام الفطري لخلقه حتّى لا يستلزم أي محذور، و إنّ العزّة فيه جلّ شأنه هي بمعناها الحقيقي الواقعي، أي الغالب الّذي لا يغلب أصلا، و إنّه يهب العزّ لمن يشاء من عباده؛ لكرمه وجوده، و من أسمائه تعالى (المعزّ).

و أما أن إطاعته تستلزم عزّ الدارين، فإنّه من باب الترتّب المسبّب على السبب، فإنّ الانقياد الى العزيز الفياض يوجب ذلك.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً قال: نزلت في بني امية حيث حالفوهم على أن لا يردّوا الأمر في بني هاشم. ثم قال: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ يعني: (القوة).

أقول: الرواية من باب التطبيق و الجري لا الحصر و التخصيص.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها قال: «آيات اللّه هم الأئمة عليهم السّلام».

أقول: إنّ ذلك من باب ذكر أكمل المصاديق و أجلّها، و إلاّ فإنّ آيات اللّه تشمل كلّ خلق يدلّ على وحدانيته و قيّوميته الجامعة لجميع صفات الكمال، بل إنّ نظام الكون يدلّ على ذلك.

و في الكافي بإسناده عن شعيب العقرقوفي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قوله عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها الى آخر الآية فقال: إنّما عنى بهذا الرجل يجحد الحقّ و يكذب به و يقع في الأئمة، فقم من عنده و لا تقاعده كائنا من كان».

أقول: و مثله ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام إلاّ أنّ فيه: «و يقع في أهله»، و الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة من باب النهي عن المنكر و من مراتبه، فإنّ العنصر الفاسد الّذي يعلم بالحقّ و يجحده لا بدّ من مقاطعته - إن لم تؤثّر فيه المراتب المذكورة في كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر - حتّى لا يفسد المجتمع.

ص: 65

و في الكافي بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه السّلام قال: «فرض اللّه على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه، و أن يعرض عمّا لا يحلّ له ممّا نهى اللّه عزّ و جلّ عنه و الإصغاء الى ما أسخط اللّه عزّ و جلّ ، فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ قال: ثم استثنى اللّه تعالى عزّ و جلّ موضع النسيان فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ ».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ التعبير الوارد في هذه الرواية و أمثالها من تعلّق التكليف بالجارحة، كقوله عليه السّلام: «فرض اللّه على السمع»، إنّما هو باعتبار أن الجارحة الخاصّة هي المباشرة للعمل أو الصادرة منها، و إلاّ فإنّ التكليف يتعلّق بالنفس الكاملة - لا بالجوارح الّتي هي تحت إرادة النفس - فإنّها المسؤولة عن التكاليف، كالغيبة مثلا تصدر عن اللسان أو الكذب أو غيرهما، فإذا كان شخص لم يكن له لسان كالأخرس فأشار بما يسوء أخاه المؤمن المعيّن أو كتب ذلك، فهل لا تشمله أدلّة حرمة الغيبة بدعوى أنّ الوارد فيها فرض اللّه على اللسان مثلا؟! مع أنّ العقاب على النفس و تمام الجسم كما ثبت في علم الكلام، و في المقام: «فرض اللّه على السمع» باعتبار أنّ السمع هو المباشر، و إلاّ فالتكليف متوجّه الى النفس.

إن قلت: مقتضى الآية الشريفة أنّ الأعضاء هي المسؤولة، قال تعالى: إِنَّ اَلسَّمْعَ وَ اَلْبَصَرَ وَ اَلْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً [سورة الإسراء، الآية:

36].

قلت: أولا: إنّ الآية المباركة في مقام بيان طلب الإقرار في يوم القيامة، نظير قوله عزّ و جلّ : يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النور، الآية: 24]، و قوله تعالى: اَلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة يس، الآية: 65]،

ص: 66

و قال سبحانه و تعالى: وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اَللّهِ إِلَى اَلنّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ * وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اَللّهُ اَلَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ [سورة فصلت، الآية: 19-21].

و ثانيا: على فرض العموم في الآية الشريفة أنّ المسؤولية فيها باعتبار الروح أو النفس الّتي تعلّق بها، فالمدار على الإرادة مع العمل، و إلاّ فنفس العضو لم يكن مسئولا لو صدر منه العمل بلا إرادة أو لا اختيار، و يدلّ على ما ذكره قوله تعالى: وَ نَفْسٍ وَ ما سَوّاها * فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها [سورة الشمس، الآية: 7-9] و غيره من الآيات الشريفة.

الثاني: ورد فيها الاستماع، و هو قصد السماع الى ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه. أما لو سمع - أي بلا قصد منه - فلا يشمله الحكم، لفرض عدم الإرادة و فقدان القصد.

الثالث: إحراز عنوان ما حرّمه اللّه تعالى أو ما أسخطه، فلو شكّ في تحقّق العنوان فلا يشمله الحكم المذكور في الآية المباركة.

الرابع: أنّ التكاليف - و منها النواهي - متقوّمة بالعلم و الاختيار، ففي حالة الجهل أو النسيان و الاضطرار لا يتنجّز التكليف، كما يستفاد ذلك من قوله تعالى:

فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الانعام، الآية: 68] و غيره من الآيات الشريفة.

الخامس: أنّ ارتكاب المناهي و المحرّمات ظلم على النفس؛ لإخراجها باختياره عن الفطرة المستقيمة و كسب استحقاق العقاب لها كما ذكرنا ذلك مكرّرا.

الكشي في رجاله بإسناده عن محمّد بن عاصم قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفيّة، قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال عليه السّلام: «لا تجالسهم، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني بالآيات الأوصياء و الّذين كفروا يعني الواقفية».

ص: 67

الكشي في رجاله بإسناده عن محمّد بن عاصم قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: يا محمّد بن عاصم، بلغني أنّك تجالس الواقفيّة، قلت: نعم جعلت فداك، أجالسهم و أنا مخالف لهم، قال عليه السّلام: «لا تجالسهم، قال اللّه عزّ و جلّ : وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني بالآيات الأوصياء و الّذين كفروا يعني الواقفية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و النهي عن المجالسة معهم إمّا من باب حرمة إعانة الظالم في ظلمه، أو من باب وجوب النهي عن المنكر عملا. و الواقفية طائفة من الشيعة وقفوا على موسى بن جعفر عليهما السّلام، و قد ورد عن أبي الحسن الرضا (سلام اللّه عليه) التشنيع في حقّهم و ذمّهم كثيرا، و له مراتب كما مرّ.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى فرض الإيمان على جوارح بني آدم و قسّمه عليها، فليس من جوارحه جارحة إلاّ و قد وكّلت من الإيمان بغير ما وكّلت أختها، فمنها: أذناه اللتان يسمع بهما، ففرض على السمع أن يتنزّه عن الاستماع الى ما حرّم اللّه و أن يعرض عمّا لا يحلّ له فيما نهى اللّه عنه، و الإصغاء الى ما أسخط اللّه تعالى فقال في ذلك: وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، ثمّ استثنى موضع النسيان. فقال: وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ ، و قال تعالى: فَبَشِّرْ عِبادِ * اَلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اَلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ اَلَّذِينَ هَداهُمُ اَللّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا اَلْأَلْبابِ ، و قال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ اَلْمُؤْمِنُونَ * اَلَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ * وَ اَلَّذِينَ هُمْ عَنِ اَللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ، و قال تعالى: وَ إِذا سَمِعُوا اَللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ، و قال تعالى: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً ، فهذا ما فرض اللّه على السمع من الإيمان و لا يصغي الى ما لا يحلّ و هو عمله و هو من الايمان».

أقول: تقدّم في الرواية السابقة ما يتعلّق بفرض الإيمان على الجوارح و بسطه عليها، و الآيات الكريمة المذكورة فيها كلّها من باب ذكر أحد المصاديق، و الرواية من باب التطبيق.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّها: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين قعدوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم احد، فكان إذا ظفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكفّار قالوا له: ألم نكن معكم، و إذا ظفر الكفّار قالوا: أ لم نستحوذ عليكم، ألم نعينكم و لم نعن عليكم، قال اللّه تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ».

ص: 68

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اَللّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أنّها: «نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين قعدوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في يوم احد، فكان إذا ظفر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بالكفّار قالوا له: ألم نكن معكم، و إذا ظفر الكفّار قالوا: أ لم نستحوذ عليكم، ألم نعينكم و لم نعن عليكم، قال اللّه تعالى: فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ».

أقول: الرواية تبيّن حقيقة النفاق، و أنّها من باب ذكر أحد المصاديق.

و في العيون بإسناده عن أبي الصلت الهروي، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قول اللّه جلّ جلاله: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً قال: فإنّه يقول: «و لن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين حجّة، و لقد أخبر اللّه تعالى عن كفّار قتلوا أنبياءهم بغير الحقّ ، و مع قتلهم إيّاهم لم يجعل اللّه لهم على أنبيائه سبيلا».

أقول: إنّ تفسيره عليه السّلام السبيل بالحجّة أعمّ من أن تكون في هذه الدنيا أو في الآخرة، فلا تنافي بينه و بين ما يأتي عن علي عليه السّلام، و المراد من ذيل الرواية أكثر أنبياء بني إسرائيل الّذين لم يتحقّق لهم الظفر الظاهري في هذه الدنيا مع أنّ الحجّة كانت معهم.

و في الدرّ المنثور عن ابن جرير عن علي عليه السّلام في قوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً قال: «في الآخرة».

أقول: و كذا عن ابن عباس أيضا، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ ذلك اليوم هو يوم تجلّى الحقّ و ظهوره، كما في الآية المبارك: ذلِكَ اَلْيَوْمُ اَلْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اِتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً ، و أنّ الحجّة هي الحقّ و المؤمن مع الحقّ في جميع عوالمه، و الكافر مع الباطل كذلك، و لكن في يوم القيامة يتجلّى ذلك.

و ممّا ذكرنا ظهر أنّه لا تنافي بينها و بين الرواية السابقة، و لنفي السبيل في الدنيا أو الآخرة مراتب كثيرة و جهات متعدّدة أشرنا إليها في التفسير.

و في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ قال: «الخديعة من اللّه العذاب و إذا قاموا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

ص: 69

الى الصلاة قاموا كسالى، يراؤن الناس أنّهم مؤمنون: وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً * مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ أي: لم يكونوا من المؤمنين و لم يكونوا من اليهود».

أقول: المراد من عذاب اللّه تعالى للعاصين و الخادعين هو جزاء أفعالهم الشنيعة، أو ما يترتّب على أعمالهم السيئة، سواء كان ذلك وضعيّا أم غيره، ففي الأثر: «يلقى على كلّ مؤمن و منافق نور يمشون به يوم القيامة حتّى إذا انتهوا الى الصراط طفئ نور المنافقين، فيقومون في ظلمهم، و مضى المؤمنون بنورهم»، فكلّ من الطائفتين نال جزاء عمله، أو من باب أثره الوضعي، فخديعة اللّه تعالى في الحقيقة ليس إلاّ الجزاء، ففي المؤمن حسنة، و في المنافق كعمله خديعة، و أمّا ذيل الرواية فمن باب ذكر أجلى صفات المنافقين في أفعالهم الخارجية و هي الرياء لعدم رسوخ الإيمان و استقراره في قلوبهم. و قريب منها ما عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام.

و في الكافي بإسناده عن أبي المعزى قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من ذكر اللّه عزّ و جلّ في السرّ، فقد ذكر اللّه كثيرا، أنّ المنافقين كانوا يذكرون اللّه علانية و لا يذكرونه في السرّ فقال اللّه عزّ و جلّ : يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً ».

أقول: المراد من ذكر اللّه تعالى في السرّ هو الفرائض الواجبة على المؤمن، و سمّي بذلك لأنّها بين العبد و المولى فقط لا يطّلع عليها أحد، و في حديث معاذ بن جبل في قوله تعالى: يَوْمَ تُبْلَى اَلسَّرائِرُ [سورة الطارق، الآية: 9] قال: «سألت النبي صلّى اللّه عليه و آله ما هذه السرائر الّتي تبلى بها العباد يوم القيامة ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: سرائركم من الصلاة و الصيام و الغسل من الجنابة و كلّ مفروض، فالأعمال كلّها سرائر خفيّة، فإن شاء قال: صليت، و لم يصل»، فالمؤمن مع اللّه تعالى دائما في السرّ بأداء الفرائض.

و في صفات المؤمن: أنّ سرّه و علانيته واحد بخلاف المنافق، فيختلف كلّ منهما حسب مصلحته الشخصيّة.

ص: 70

و الذكر أعمّ من الذكر اللفظي و القلبي أي التوجّه، أو العملي كالصلاة و الحجّ و غيرهما كما مرّ ذلك. و المنافق إنّما يذكر اللّه علانية لأجل إغواء المؤمنين، و لجلب منفعته و مصلحته، و ليست الرواية في مقام بيان قلّة الذكر و تحديده.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قال أبو جعفر عليه السّلام: لا تقم الى الصلاة متكاسلا و لا متناعسا و لا متثاقلا، فإنّهما من خلال النفاق، فإنّ اللّه تعالى نهى المؤمنين أن يقوموا الى الصلاة و هم سكارى، يعني سكر النوم، و قال للمنافقين:

وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اَللّهَ إِلاّ قَلِيلاً .

أقول: الكسل هو ثقل انبعاث النفس للخير مع استطاعتها على ذلك، بخلاف العجز، و الوجه في تكاسل المنافقين في خصوص الصلاة لأنّها من الشعيرة الّتي بها يتميّز المسلم عن غيره، و هي الرابطة الكاملة بين العبد و مولاه؛ و لذلك كانت الصلاة عليهم ثقيلة، بخلاف المؤمن فيجد فيها الراحة و العروج له.

و الخلال: جمع خلّة كالخصلة و الخصال لفظا و معنى، أي: أنّ التكاسل و التثاقل من خصلة النفاق و علائمه.

و في العيون بإسناده عن الحسن بن فضال قال: «سألت علي بن موسى الرضا عليه السّلام عن قوله تعالى: يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ ؟ فقال: اللّه تبارك و تعالى لا يخادع، و لكنه يجازيهم جزاء الخديعة».

أقول: هذه الرواية تدلّ على ما ذكرناه آنفا بالوضوح.

و في العيون أيضا بإسناده عن مسعدة بن زياد عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليهما السّلام: «انّ رسول اللّه سئل: فيم النجاة غدا؟ فقال: إنّما النجاة غدا في أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه و يخلع منه الإيمان و نفسه يخدع لو يشعر، فقيل: له كيف يخادع اللّه ؟ قال: يعمل بما أمره اللّه عزّ و جلّ ثم يريد به غيره، فاتّقوا الرياء فإنّه شرك باللّه عزّ و جلّ ، إنّ المرائي يوم القيامة ينادى بأربعة أسماء: يا كافر يا فاجر يا غادر يا خاسر، حبط عملك و بطل أجرك و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له».

ص: 71

أقول: إنّ ما يستفاد من هذه الروايات و الآيات المباركة أنّ اللّه تبارك و تعالى يحبّ الحقيقة و الواقع في كلّ شيء و يبغض العمل المزدوج و المكر و الخديعة في كلّ أمر، و من خادع معه جلّ شأنه يجازيه حسب عمله و يخلع منه الإيمان الفطري، فلا يستقيم في مناهجه و لا يثبت في عقيدته، فيكون في التذبذب دائما؛ لأنّه يضمر شيئا و يظهر شيئا آخر، فتكون نفوسهم في الشقاء الدائم و العذاب المستمر حتّى في الدنيا فكيف بالآخرة ؟! و لا يتنعّمون في الدارين، و الاختلاف في الأسماء لعلّه من باب الاختلاف في الجزاء و البعد عنه عزّ و جلّ .

و في الدرّ المنثور أخرج ابن المنذر عن علي عليه السّلام قال: «لا يقل عمل مع تقوى، و كيف يقل ما يتقبّل ؟!».

أقول: التقوى و الإخلاص في العمل بمنزلة الروح في الجسد، فالعمل إن لم يكن فيه إخلاص و تقوى، لم يكن له وزن أصلا و إن كان في غاية الكثرة، و لو كان فيه إخلاص فهو كثير و يدوم و يبقى و لو كان العمل قليلا، و لو وقع العمل مورد قبوله تعالى فهو يزكي و ينمو، كما يدلّ عليه كثير من الآيات الشريفة و الروايات المعصوميّة.

و في سنن البيهقي عن أنس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: تلك صلاة المنافق، يجلس و يرقب الشمس حتّى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعا، لا يذكر اللّه إلاّ قليلا».

أقول: ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله كناية عن الاستخفاف بالصلاة و عدم توقيرها. و إتيان مجرّد هيئة عجفاء، لأنّها لم تنبعث عن نفس مطمئنة بالإيمان.

و لعلّ المراد من ذيل الحديث: «قرني الشيطان» التشبيه، فكما أنّ الإنسان ينادي و يخاف من القرن الّذي في جانبي رأس الحيوان، فكذلك من الشيطان لأنّه يبثّ جميع قوّاده و أعوانه عند طلوع الشمس و يجمعهم عند غروبها، ففي الوقتين يحتاج الى القوّة فيكون كالحيوان الّذي يجمع قواه في رأسه للدفاع عن نفسه أو لفريسته.

ص: 72

أو أنّ المراد حين تطلع الشمس يتحرّك الشيطان برأسه لإغراء الناس في يوم جديد.

أو التمثيل لمن يسجد للشمس، فكأنّ الشيطان سوّل له ذلك، فإذا سجد لها كان الشيطان مقترنا بها.

أو أنّ المراد أنّ الشيطان مكبول بقرنيه و مغلوب تحت آية من آيات اللّه تعالى، فلو أراد التجاوز أهلكته بعذابها و نارها.

أو كناية عن تحديد قوى الشيطان، لها طلوع و افول، و لم يكن عنده الاستيلاء التامّ ، فيكون المراد من القرن القوّة.

و كيف كان، فهو من جوامع كلماته الشريفة الّتي تفتخر أمته بإعطائها له صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس: «كلّ سلطان في القرآن فهو حجّة».

أقول: سمّي الحجّة سلطانا؛ لأنّها تستقرّ في القلوب و تتأثّر بها، أو أنّ أكثر تسلّطه على أهل العلم و الحكمة من المؤمنين، و لكنّها تختلف حسب الإشراق و كسب الكمال، قال تعالى: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ * [سورة هود، الآية: 96]، و قال تعالى: اَلَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اَللّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ * [سورة غافر، الآية: 35].

و في سنن النسائي بإسناده عن مصعب بن سعد عن أبيه عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه قال: «إنّما ينصر هذه الامة بضعيفها، بدعوتهم و صلاتهم و إخلاصهم».

أقول: المراد من الضعيف من لا حول له و لا قوّة في هذه الدنيا، و أنّ انقطاعه الى اللّه تعالى أكثر من غيره، كما هو الغالب.

و المراد من الإخلاص: من كان عمله للّه تعالى و لا يحبّ أن يحمده الناس عليه، كما في بعض الروايات.

و يستفاد منها أنّ ما ورد فيها من أهمّ أسباب النصرة، فلا تنافي غيرها من الروايات.

ص: 73

و فيه أيضا عن الترمذي في نوادر الأصول عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و ما أخلص عبد للّه أربعين صباحا، إلاّ ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه».

أقول: للإخلاص آثار وضعيّة كثيرة، منها ما تقدّم في الرواية، و كان بعض مشايخنا في العرفان (رحمة اللّه تعالى عليه) يدّعي التجربة في ذلك.

و منها: البعد عن المشقّة بكثرة العمل، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله لمعاذ بن جبل:

«أخلص دينك يكفيك القليل من العمل».

و منها: النيل الى مقام تربية الخلق و نجاتهم من عذاب الجهل و هلاك النفس، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «طوبى للمخلصين، أولئك مصابيح الهدي تنجلي بهم كلّ فتنة ظلماء».

و منها: امتيازهم عن سائر الناس بعدم سؤالهم من غيره تعالى و إقرارهم بالعبوديّة، و التوكّل عليه و خوفهم منه تعالى، كلّ ذلك دلّت عليه الروايات.

و منها: حصول الثقة في جميع أعماله، و البعد عن القنوط و اليأس، الى غير ذلك من الآثار الوضعيّة المذكورة في كتب الأخلاق.

و أمّا تقييد الرواية بالصباح، فقد تقدّم في البحث الفلسفي في قوله تعالى:

وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً [سورة البقرة، الآية: 51] ما يتعلّق بذلك.

و التقييد بأربعين فلعلّه أنّ لهذا العدد خصوصية في تهذيب النفس، أو به يحصل الانقطاع الكامل إليه جلّت عظمته، و اللّه العالم.

و في الدرّ المنثور عن زيد بن أرقم قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قال: لا إله إلاّ اللّه مخلصا دخل الجنّة، قيل: يا رسول اللّه و ما إخلاصها؟ قال: أن تحجزها عن المحارم».

أقول: الروايات في ذلك مستفيضة مذكورة في جوامع الشيعة و السنّة، و لا شكّ أنّ التوحيد لو كان عن عقيدة كاملة و إخلاص يوجب الفوز بنعيم الجنّة؛ لأنّ للإخلاص أثره، و منه الحجز عن المحارم.

ص: 74

و عن البيهقي في سننه بإسناده عن أبي ذرّ: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: قد أفلح من أخلص قلبه للإيمان، و جعل قلبه سليما، و لسانه صادقا، و نفسه مطمئنة، و خليقته مستقيمة، و اذنه مستمعة، و عينه ناظرة، فأمّا الاذن فقمع، و العين مقرة لما يوعي القلب، و قد أفلح من جعل قلبه واعيا».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة جدا في جوامع الشيعة و السنّة، و إنّ ما ذكره صلّى اللّه عليه و آله من صفات المخلصين و لا شكّ أنّ لكلّ منها مراتب و درجات.

و القمع - بفتح القاف و كسر الميم - هو الإناء الّذي يترك في رءوس الظروف لتملأ بالمايعات من الأشربة و الأدهان، فيسقى به أو يفرغ منه في ظرف آخر. و إنّما شبه صلّى اللّه عليه و آله السمع الّذي يسمع القول و لا يحفظه و لا يعنيه به، لأنّ القول يمرّ على السمع بلا درك و إصغاء، كما يمرّ الشراب في القمع اجتيازا.

و العين مقرة لما يوعى القلب، أي: تكشف بالعين و تظهر ما وعاه القلب، و هو كناية عن أنّ السرائر لا محالة تنكشف.

و هناك روايات اخرى وردت في شأن نزول الآيات المباركة لا حاجة الى نقلها بعد ما عرفت مكرّرا أنّها من باب الجري و التطبيق، و اللّه العالم.

بحث فقهي

تستفاد من الآيات المباركة بضميمة السنّة الشريفة الشارحة لها القواعد الفقهيّة التالية:

الاولى: قاعدة «حرمة الإعانة على الإثم»؛ للنهي الوارد في قوله تعالى:

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اَللّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ، فإنّ الكفر و الاستهزاء بآياته عزّ و جلّ من مصاديق الإثم و الظلم، فيشمل غيرهما ممّا هو منهي عنه و يكون إثما.

ص: 75

و النهي عن القعود معهم يشمل عدم إعانتهم بالأولوية، أو المراد ذلك بالمنطوق، كما عن بعض المفسّرين، و يدلّ على ذلك أيضا قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ [سورة المائدة، الآية: 2] كما دلّت عليها روايات كثيرة ذكرناها في المكاسب المحرمة من كتاب (مهذب الأحكام).

و قد خصّصت القاعدة بموارد كالاضطرار، و التقيّة لحفظ النفس الّتي هي من باب تقديم الأهمّ على غيره، و هدايتهم الى الحقّ و غير ذلك ممّا هو مذكور في محلّه.

و في قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ دلالة واضحة على وجوب النهي عن المنكر إن توفّرت شروطه من القدرة و زوال العذر و التأثير، و إلاّ فإنّ من رضي بمنكر رآه و خالط أهله كان شريكهم في الإثم و إن لم يفعل، و أنّ ترك المنكر مع القدرة على رفعه و توفّر سائر شروطه، ذنب عظيم و خطيئة كبيرة.

و قيل: يستفاد من الآية المباركة أنّه يجوز مجالستهم في غير ما ذكر في الآية الشريفة من الاستهزاء و الخوض في آيات اللّه تعالى، كما لو خاضوا في حديث غيره، لأنّ (حتّى) غاية للتحريم.

لكن الأخبار الواردة في المقام تدلّ على وجوب الإعراض عن الكفّار المستهزئين، و تحريم الميل إليهم، ففي معتبرة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«لا تصحبوا أهل البدع و لا تجالسوهم فتصيروا عند الناس كواحد منهم»، و مثلها غيرها.

و إنّما اقتصر عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ إِذا رَأَيْتَ اَلَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمّا يُنْسِيَنَّكَ اَلشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ اَلذِّكْرى مَعَ اَلْقَوْمِ اَلظّالِمِينَ [سورة الأنعام، الآية: 68] على النهي عن القعود، و ذكر في هذه الآية الكريمة في هذه السورة إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ ؛ لأنّ سورة الأنعام مكيّة، و إنّما كان المسلمون في مكّة عاجزين عن الإنكار، فكان تركهم له لعجزهم، و أمّا الآية الّتي في سورة النساء، فقد نزلت و المسلمون يقدرون على الإنكار، فإذا لم

ص: 76

ينكروا مع قدرتهم عليه يكون ذلك كاشفا عن رضى منهم، فيصيرون مثلهم في الإثم أو الكفر؛ لأنّ الرضا بالكفر كفر.

الثانية: قاعدة «نفي السبيل على المؤمنين» المستندة لقوله تعالى: وَ لَنْ يَجْعَلَ اَللّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى اَلْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ، و للأخبار الكثيرة المذكورة في أبواب متفرّقة من الفقه.

و يمكن أن يقال: إنّ هذه القاعدة فطريّة، و إنّ الآية المباركة و السنّة الشريفة من باب الإرشاد؛ لأنّ إكمال الدين - بقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً [سورة المائدة، الآية: 3] و رضاؤه تعالى به، و ختم النبوّة به، يقتضي أن يكون متفوقا، أو ممتازا في جميع جهاته على غيره، ممّا يوجب البعد عنه تعالى، و إلاّ يستلزم الخلف و تعلّق رضائه بالناقص؛ لأنّ الإيمان الّذي يكون للكافر عليه سبيل لم يكن على حدّ الكمال فكيف يتعلّق رضاؤه به ؟! مع أنّ الأديان السابقة كلّها تكون مقدّمة لهذا الدين، فيستلزم عقلا أن يكون لهذا الدين تفوقا كاملا عليهم، و أنّ العمدة في التفوق الحجّة بل هي الأصل، و غيرها لا يكون تفوقا كما مرّ في التفسير.

و من هنا كانت القاعدة غير قابلة للتخصيص لما عرفت أنّها عقليّة، هذا إن فسّرنا السبيل بالحجّة، كما تقدّم في البحث الروائي.

و أمّا إن فسّرناه بمطلق السلطة و الاستيلاء كما عن بعض الفقهاء، حيث تمسّكوا بها في كتاب العتق في مسألة ما لو أسلم العبد و كان مولاه كافرا، و كذا لو أسلمت الزوجة دون الزوج، و في الخيار عند ردّ المشتري العبد المسلم بالخيار الى البائع الكافر فيرجع الى البدل، فحينئذ تخرج عن كونها عقليّة و تختصّ بموارد خاصّة.

و لكن سياق الآية المباركة يأبى عن ذلك، و انّ المراد من نفي السبيل نفي الحجّة.

ص: 77

و يمكن أن يكون المراد الأعمّ إن صحّ الجامع بينهما، و بقية الكلام موكولة الى الفقه.

الثالثة: قاعدة «كلّ رياء حرام و يوجب بطلان العبادة»، و الدليل عليها الآية الشريفة: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اَللّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى اَلصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ اَلنّاسَ ، أي مع أنّهم كسالى في إقامة الصلاة يراءون الناس، فلا تكون العبادة له عزّ و جلّ ، و قد أوعد على المرائي الويل في سورة الماعون أيضا، و تدلّ على ذلك الروايات المستفيضة الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام الدالّة على الحرمة؛ لأنّه نحو خديعة مع اللّه تعالى، و لذا عدّه سبحانه و تعالى من صفات المنافقين، كما تقدّم.

و أمّا كونه يوجب بطلان العمل لانتفاء الشرط المهمّ الّذي هو قصد القربة في العبادات، فتشمله قاعدة: «انتفاء المشروط بانتفاء شرطه» المقرّره لذي جميع العقلاء، هذا كلّه في العبادات.

و أمّا في غيرها ممّا لا يتوقّف على قصد القربة، فهو لا يوجب البطلان و إن وجب نفي الثواب، و المؤمن يبتعد عنه دائما لئلاّ يقع في شرك الشيطان.

و الرياء مبغوض عنده تعالى، و لم يترتّب عليه أي ثواب إلاّ في الخمر، ففي الحديث: «من ترك الخمر لا للّه أثابه اللّه»، و لعلّ ذلك من أجل مبغوضيّة الخمر و شدّة كراهته تعالى لها، أو بطرو عناوين اخرى يوجب الثواب. و اللّه العالم.

الرابعة: قاعدة: «عدم جواز اتّخاذ المؤمنين الكافرين أولياء»، و المراد منها عدم متابعة المؤمنين الكافرين و نصرتهم في عقائدهم أو في أعمالهم، الّتي تستلزم ترويج عقائدهم الفاسدة، من بثّها في المجتمع أو تقويتها أو الدفاع عنها. و أمّا الميل القلبي الى أعمالهم أو تعلّم كمالاتهم الدنيويّة دون عقائدهم إن لم تترتّب عليه مفسدة، فلا محذور فيه.

و كيف كان، فقد استدلّوا على القاعدة المتقدّمة بالأدلة الأربعة..

ص: 78

فمن الكتاب قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ و غيره من الآيات المباركة.

و من السنّة روايات كثيرة، منها الحديث المشهور المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الإسلام يعلو و لا يعلى عليه»، و غيره ممّا ورد في الأبواب المتفرّقة في كتب الفقه.

و ضرورة الدين أيضا تقتضي ذلك، فضلا عن الإجماع.

و أمّا العقل، فحكمه البتي بالفساد في متابعة عقائدهم و نصرتها و أنّ ذلك يوجب خسران الدنيا و الآخرة.

و لا فرق في الفساد الّذي يكون موجبا لشمول القاعدة بين أن يكون في الحال أو في المستقبل من الزمان، فلو حصل للمؤمن الاطمئنان بأنّ متابعة الكافر تستلزم انقلاب عقيدته و فساد أخلاقه بتزلزل إيمانه في المستقبل، يحرم عليه المتابعة.

و هذه القاعدة عقليّة كشف عنها الشارع امتنانا، إذ العقل يحكم بالبعد عن ما يضرّ بالعقيدة و يوجب فسادها كما هو واضح، و تطبيق القاعدة على مواردها موكول الى الفقه.

الخامسة: قاعدة: «الإسلام يجب ما قبله»، و كيفيّة استظهارها من الآية الشريفة تقدّمت في البحث الدلالي فلا وجه للاعادة.

و عن بعض المفسّرين أنّه استشهد بقوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ اِزْدادُوا كُفْراً ؛ للقاعدة المعروفة في القضاء من: «انّ أصحاب الكبائر يقتلون في الثالثة أو الرابعة».

و لكن الاستشهاد بها في غير محلّه؛ لعدم انطباقها على القاعدة، و أنّ سياقها في اصول الدين و العقيدة و القاعدة أعمّ ، و لا بدّ في مورد القاعدة التخلّل بالحدّ في مرتكب الكبيرة كما هو مصبها، و الآية الكريمة لا تدلّ على ذلك أصلا، فإنّ محو الكفر يتحقّق بالتوبة أيضا، و أنّ القتل في القاعدة يوجب محو الذنب و الغفران،

ص: 79

و الآية المباركة تدلّ على عدم الغفران، فالعمدة في القاعدة المذكورة الروايات الدالّة على القتل في الرابعة كما هو المشهور، و انّ ما ذكره لا يقع مورد القبول و اللّه العالم.

و عن ابن عباس قال: يكره للمؤمن أن يقول: «إنّي كسلان»؛ للآية الشريفة الّتي هي في مقام الذمّ . و لا بأس بقوله: لقاعدة التسامح في أدلّة السنن.

بحث كلامي

الإنسان بلحاظ عقيدته لا يخلو عن أقسام ثلاثة بالحصر العقلي، لأنّه إمّا مؤمن باللّه العظيم و نهجه القويم، أو كافر به، أو منافق.

و بتعبير آخر: إمّا في الصراط المستقيم، أو منحرف عنه و في طريق الغواية، و إمّا مزدوج بين الطريقين، و كلّ طائفة تنال جزاءها المختصّ حسب عمله الناشئ عن عقيدته.

و الإيمان باللّه تعالى يحصل باختيار الإنسان، إلاّ أنّ السعادة الكائنة في الفطرة كجزء المقتضي للاختيار، و أنّ السبب التامّ هو الاختيار، فيختار إمّا السعادة - حسب فطرته - و إمّا الشقاء للانحراف عنها، فينتفي الجبر و شبهه كما ينتفي التفويض، على ما تقدّم في هذه الآيات المباركة و غيرها.

و أمّا الجزاء على الأعمال الصالحة المنبعثة عن العقيدة، فلا شكّ أنّ المؤمن باللّه تعالى ينال جزاء عمله بالمقامات العالية و الدرجات الرفيعة، إما في هذه الدنيا - كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: 145] - أو في الآخرة من الجنّات و النعم و غيرها ممّا تشتهي الأنفس و تلذ الأعين، كما أنّ الجزاء على أعماله السيئة يكون كذلك، عقابا دنيويّا أو اخرويّا.

و أمّا بالنسبة الى أعمال الكافر، فإن كان العمل سيئا بمقتضى عقيدته، فينال جزاءه السيء إمّا في هذه الدنيا أو في الآخرة أو فيهما معا. و إن كان العمل حسنا

ص: 80

و صالحا ينبئ عن أنّ بعض عقائده يرضى الشارع به، فيجازيه عزّ و جلّ إمّا في هذه الدنيا، أو في عالم البرزخ، أو في عالم الخلود، كما في الروايات الصادرة عن المعصومين عليهم السّلام؛ و لقاعدة: «العدل و الإنصاف».

و بتعبير آخر: العمل إن كان مصدره عن عقيدة و ثبات في الرأي ينال جزاءه المناسب له، مؤمنا كان العامل أو كافرا، و أنّ الانحراف في العقيدة لا يوجب التأثير في أصل الجزاء و إن اختلفت كيفيّته.

و أمّا جزاء أعمال المنافق، فالمستفاد من الآيات الشريفة و السنن المطهّرة أنّ أعماله الحسنة لا تفيده أصلا - لا في هذه الدنيا و لا في الآخرة - لأنّها لم تصدر عن عقيدة راسخة و نهج معترف به، قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ ، أي: المنافق لا ينال جزاء المؤمن و لا ينال جزاء الكافر في أعماله الصالحة، فيكون المنافق أسوء حالا من الكافر، قال تعالى: إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً ، و لم يرد هذا التعبير أو ما ينزل تلك المنزلة بالنسبة الى الكفّار و إن كان الكافر يرد جهنّم أيضا، قال تعالى: وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً [سورة الإسراء، الآية: 8].

و أمّا قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ جامِعُ اَلْمُنافِقِينَ وَ اَلْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الّذي يستفاد منه التسوية في العذاب، فباعتبار أصله لا باعتبار مراتبه و درجاته، فعذاب المنافقين أسوء و أشدّ كما تقدّم في الآية الكريمة السابقة.

إن قلت: مقتضى الآيات المباركة أنّ الجزاء تابع للعمل سواء كان العامل مؤمنا أو كافرا أو منافقا، قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8]، خصوصا على القول بأنّ الجزاء و الثواب من الآثار الوضعيّة للعمل، و إن كانت تختلف باختلاف العقيدة.

قلت: المراد من العمل في الآية الشريفة العمل الصادر عن عقيدة و إرادة - لا كلّ عمل - و المفروض أنّ المنافق لم يكن له عقيدة؛ لأنّه مذبذب و مزدوج، فله صورة العمل و هيكله.

ص: 81

و على فرض الإطلاق، لا أثر لعمل المنافق؛ لأنّ الجزاء بيده تعالى، قال عزّ و جلّ : وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان، الآية: 23]، و على فرض أنّ الجزاء أو الثواب من الآثار الوضعيّة - و أنّ الرياء مانع - لكن الآثار الوضعيّة من شؤون الإمكان، و تقدّم في أحد مباحثنا أنّ يد القدرة تنالها أيضا، هذا.

و يمكن أن يقال: إنّ صفة النفاق لها مراتب و درجات، و إنّ الجزاء في أعماله الصالحة تابع لها حسب الشدّة و الضعف أو المراتب و الدرجات. و فيه تأمل أيضا و اللّه العالم بالحقائق.

بحث أخلاقي

ذكرنا في أحد مباحثنا الأخلاقيّة أنّ الإنسان يختلف عن غيره من المخلوقات، إنّه كائن أخلاقي له استعداد فطري بالاتّصاف بمكارم الأخلاق أو بمساويها، فهو يسعد أو يشقى بمكوّناته الأخلاقيّة، و ذكرنا أنّ نظرية القرآن تختلف عن سائر المذاهب الأخلاقيّة، فإنّ المهمّ في نظر القرآن الكريم أن يتّصف الإنسان بالتقوى و السعي في تحصيل هذه الملكة الّتي تجتمع فيها جميع الفضائل.

و لا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب و النظريات، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع و الحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة و العلماء، و قد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177]، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال و اكتساب المكارم و التحلّي بالفضائل.

ص: 82

و لا تعير أهميّة لما يقال في هذا المضمار من المذاهب و النظريات، الّتي تبعد الإنسان عن الواقع و الحقيقة أكثر ممّا تلتمس حلا لهذه المشكلة الّتي طالما كتب عنها الفلاسفة و العلماء، و قد ذكرنا نبذة منها في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي اَلْقُرْبى وَ اَلْيَتامى وَ اَلْمَساكِينَ وَ اِبْنَ اَلسَّبِيلِ وَ اَلسّائِلِينَ وَ فِي اَلرِّقابِ وَ أَقامَ اَلصَّلاةَ وَ آتَى اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ اَلصّابِرِينَ فِي اَلْبَأْساءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ حِينَ اَلْبَأْسِ أُولئِكَ اَلَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُتَّقُونَ [سورة البقرة، الآية: 177]، فراجع هذا بالنسبة الى كسب الكمال و اكتساب المكارم و التحلّي بالفضائل.

و أمّا ما يتعلّق بما يضاد تلك من مساوئ الأخلاق و رذائلها، فإنّ القرآن الكريم قد عدّ جملة منها و بيّن آثارها السيئة الّتي تؤثّر في النفس و الفرد و المجتمع.

إلاّ أنّ المستفاد من الآيات الّتي تقدّم تفسيرها أنّ النفاق يجمع كثيرا من الخصال السيئة و الأخلاق الرذيلة.

و يمكن القول بأنّ الآيات الشريفة تدلّ على أنّ النفاق و التقوى على طرفي النقيض في مساوئ الأخلاق و مكارمها، فقد ذكر عزّ و جلّ جملة من الصفات السيئة الّتي اتّصف بها المنافقون، الّتي تعدّ من أمهات الأخلاق السيئة و إليها ترجع سائرها، و هي:

الاولى: التذبذب في الإيمان، و الترامي في الكفر و انهماكهم فيه لطول انسهم به، و يعتبر الكفر و الشرك من أعظم الرذائل و أخسّها، قال تعالى حاكيا عن لقمان:

يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللّهِ إِنَّ اَلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [سورة لقمان، الآية: 13]؛ لأنّ الكفر و الشرك خروج عن ناموس الفطرة، و هدم للقاعدة الّتي يمكن أن يعتمد عليها الإنسان في حياته الأخلاقيّة.

الثانية: موالاة الكافرين الّذين هم أعداء الحقّ ؛ لأنّ فيها الإعراض عن تهذيب النفس بالاعتماد على إنسان تغلّب عليه الشرّ و التماس النفع المادي و المعنوي منه، و هي مع كونها في نفسها سيئة كبيرة و رذيلة أخلاقية، تستلزم سلب الثقة عن اللّه تعالى، و الاستهتار بالقيم الأخلاقيّة، و تذليل للنفس الّتي جعلها اللّه أبية ذات عزيمة و إرادة.

الثالثة: الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و تعاليمه المقدّسة، فإنّه يبعد الإنسان عن منبع الكمال و مصدر الاتقاء. و كيف يمكن لأحد أن يلتمس خيرا من شيء هو يستهزأ به. و في هذا هدم للإنسانيّة الّتي تبتني على قواعد حكمية و اصول قويمة.

الرابعة: المخادعة مع اللّه تعالى في إظهار الإيمان في مجالس المؤمنين، و هو

ص: 83

يبطن الكفر، و الاستهزاء بآيات اللّه تعالى و بالمؤمنين. و المخادعة تؤثّر في النفس و تجعلها مشكّكة و تسلب الثقة عنها بالكليّة.

الخامسة: الرياء و الكسل في العبادة، فإنّ من لا يؤمن باللّه العظيم و لا يعتقد بآياته الكريمة و توجيهاته القيمة، و يطلب المنفعة في جميع أفعاله، و قد سلب الثقة عن جميع ما حوله، لا تصدر عنه العبادة، و لا رغبة له فيها، بل يأتي بها لأجل تحقق أغراضه و إرضاء نزواته الماديّة.

و الكسل في العبادة من آثار سلب التوفيق، و لم يكن شيء أعظم أثرا على الإنسان من سلب التوفيق، و لا يمكن أن يشعر به إلاّ من تخلّى عن تلك الرذائل.

هذه هي الصفات الّتي عدّها عزّ و جلّ من النفاق، و هي بحقّ أمهات الرذائل، و تتشعّب كلّ واحدة منها الى صفات اخرى مهلكة، فيكون النفاق مجمع الرذائل؛ و لذا كان الجزاء عليه عظيما، و إن كان يشترك مع الكفر في نار جهنّم إلاّ أنّ النفاق في الدرك الأسفل منها، و يدلّ عليه الشروط الّتي اشترطها عزّ و جلّ في التوبة منه؛ لأنّ النفاق يؤثّر في جميع جوانب الإنسان النفسيّة، و التربويّة، و الأخلاقيّة، و العقائديّة، و الفرديّة، و الاجتماعيّة، فهو الداء العضال الّذي لا يمكن أن يزول بأدنى استغفار كما في سائر المعاصي؛ لما له من الجذور الّتي يصعب قلعها من النفس، و يأتي التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

ثمّ إنّ للنفاق وجوها مختلفة، فقد يكون في الاعتقاد، سواء كان بالنسبة الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأن يظهر الإيمان بعلمه مثلا و هو يعتقد جهله و العياذ باللّه تعالى و نحو ذلك.

أو بالنسبة إلى المؤمنين، كأن يظهر حسن النيّة و التصرّف معهم، و هو يعتقد فسقهم و فسادهم و نحو ذلك.

أو يكون في الأعمال، كأن يصلّي مع المؤمنين و هو يريد الخديعة بهم أو يحضر مجالسهم و هو يريد الإيقاع بهم، أو يصلّي رياء، أو ينفق و هو يطلب المنفعة أو الخديعة بالمنفق عليهم. و من هذا القسم إظهار الطاعة العلانية و عصيان اللّه

ص: 84

تعالى في الخفاء، و قد حذرنا عزّ و جلّ من هذا القسم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: لِيَعْلَمَ اَللّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ [سورة المائدة، الآية: 94]، و قوله تعالى: اَلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ اَلسّاعَةِ مُشْفِقُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 49].

أو يكون في الصفات و الملكات، كأن يظهر الحلم و هو على خلاف ذلك، أو يظهر السخاء و هو بخيل، و نحو ذلك.

أو يكون في الأخلاق، كما إذا أحسن القول صدقا و عفوا و هو على خلاف ذلك، و أعظم النفاق ما إذا استولى على جميع مشاعر الإنسان و جوارحه و جوانحه، و الآيات الشريفة المتقدّمة بيّنت هذا القسم و عظيم أثره و تومي الى بقية الوجوه، كما لا يخفى.

و كيف كان، فإنّ النفاق في أي وجه كان ربما يكون على دقّة لا يمكن التمييز بين الاعتقاد السليم عن غيره، و قد ورد في الحديث: «أنّه لا يغرّنكم كثرة صلاة أحدكم و صيامه، و لكن انظروا الى حسن عقيدته».

و لكن لا يخفى أنّ ذلك لا ينافي ما ورد من الحكم بإسلام المرء إذا صلّى و صام و عاشر المسلمين، فإنّ ما ورد في النفاق إنّما هو بينه و بين اللّه تعالى، و أنّ اللّه عزّ و جلّ يخدعه لو أراد خديعته تعالى.

و في الآيات المباركة إيماء بأنّ نفاق الإنسان يظهر على أفعاله و أقواله و اعتقاداته، بعيدا أم قريبا، مهما اجتهد على اخفائه، و سيظهر أثر السيء على نفسيته ما لم يتب منه توبة نصوحا، كما فضّله عزّ و جلّ .

ص: 85

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُو.......

اشارة

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) يذكر سبحانه و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين أحد توجيهاته، القيمة الّتي لها الأثر الكبير في توحيد صفوف المؤمنين و اتّحاد كلمتهم، بعد أن حكي لهم عزّ و جلّ أحوال أعدائهم من الكافرين و المنافقين الّذين يريدون خديعتهم و الإيقاع فيهم، و إيجاد ثغرات ينفذ منها أعداء اللّه تعالى، ففي هذه الآية المباركة يومي عزّ و جلّ الى تصفية النفس من الأضغان و نبذ السوء من القول الّذي يؤثّر في النفوس فتوهن العزائم و يضعف التماسك، فيتخذها الأعداء وسيلة للنفوذ فيهم.

ص: 86

محبّة اللّه تعالى هي رضاءه و إنعامه بالثواب و تفضّله على عبيده، و عدم محبّته هو سخطه و عقابه، و تقدّم ما يتعلّق بها في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اَللّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلّهِ وَ لَوْ يَرَى اَلَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ اَلْعَذابَ أَنَّ اَلْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعَذابِ [سورة البقرة، الآية: 165]، و ذكرنا في ضمن تفسيره بحثا عرفانيا يتعلّق بالحبّ .

و مادة (جهر) تدلّ على الظهور و البروز بوضوح، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من ستة عشر موضعا، استعملت جميعها في هذا العالم و ليس لها حظ في الآخرة، و متعلّقها إمّا حاسة البصر، كما في قوله تعالى حاكيا عن اليهود لموسى عليه السّلام: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية:

55]، و قوله تعالى حاكيا عن أهل الكتاب: فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [سورة النساء، الآية: 153]، أو حاسة السمع كما في قوله تعالى: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ اَلْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ [سورة الرعد، الآية: 10]، و قوله تعالى: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها [سورة الإسراء، الآية: 110]، و لعلّ أشدّها ما ورد في قصة نوح عليه السّلام، قال تعالى حاكيا عنه ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً * ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً [سورة نوح، الآية: 9].

و يستفاد منه أنّ الإعلان خلاف الإسرار، فيكون الإجهار خلاف الإخفات، و قد يستعمل خلاف الإسرار أيضا، و منه الحديث: «كلّ امتي معافي إلاّ المجاهرين»، و هم الّذين أظهروا المعاصي و كشفوا ما ستر اللّه عليهم منها.

و السوء: هو كلّ ما يغمّ الإنسان، سواء كان من الأمور الدنيويّة أم الأخرويّة، نفسيا كان أو بدنيا خارجيا كان، مثل فوت مال، أو شأنيا كفوات جاه أو فقد حميم، و السوء من القول كلّ ما يسوء المقول فيه فيشمل السبّ ، و القذف، ثم عمّم «السوء» أو حكمه حتّى يشمل الغمز و اللمز و الاتّهام بالسيء من الصفات و الأعمال، و البهتان، و إلصاق العيوب و كلّ ما ليس في الطرف الآخر، و الدعاء عليه و نحو ذلك ممّا يسيئه، و هو يختلف باختلاف الأعصار و الأمصار و الأقوام، فربّ سيء في عصر و مصر أو عند قوم لا يكون كذلك عند غيرهم.

و لعلّ التعبير و عدم ذكر الخصوصية في المقام، ليشمل الجميع و كلّ ما ينطبق عليه السوء من القول عرفا، و التقييد بالقول من باب الغالب.

ص: 87

ثمّ إنّه تقدّم أنّ عدم محبّته تعالى لأمر يدلّ على مبغوضيته و هو كاف في النهي التشريعي، سواء أ كان تنزيهيا أم إلزاميا، و الأدلّة الخاصّة تبيّن أحدهما و الاقتصار عليه من دون ذكر النهي و التحريم فيه، للإشارة الى أنّ المؤمنين لما تربّوا بالتربية الإلهية، و تحقّق فيهم شعور خاصّ بالنسبة الى التوجيهات الربوبيّة و إحساس عميق بالالتزام بالتكاليف الشرعيّة، يكفي لهم في الزجر عن شيء و الامتناع عنه أن يقال لهم: «إنّ اللّه لا يحبّ الجهر بالسوء من القول».

أو لأجل بيان أنّ الامتناع عن الجهر بالسوء من القول - و تقييد اللسان بقيد حتّى لا ينفلت منه الكلام بغير حقّ - لا بدّ أن ينشأ عن شعور داخلي و ضمير حساس متصل بالحي القيوم لكلّ ما يصدر منه قولا و فعلا، من دون احتياج الى تكليف خارجي، و إذا تحقّق أيضا إنّما يكون تأكيدا لما في الضمير.

أو لأنّ الحكم في الآية الشريفة موافق للفطرة؛ لأنّه من أفراد الظلم الّذي هو مبغوض بالفطرة، و يكفي في أمثال ذلك إثارتها؛ و من أهمّ ما يثيرها إعلام الكراهية منه عزّ و جلّ و عدم محبّته للسوء من القول، و إليه يشير ما ورد في كلمات الفقهاء:

انّ التكاليف الواردة في الأحكام الفطريّة إنّما تكون إرشاديّة، لا أن تكون مولويّة.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ اسم الجلالة؛ لبيان أنّ التكاليف بجميع أنواعها سواء أ كانت مولويّة أم إرشاديّة و إثارة الفطرة، إنّما تكون من اختصاصه تعالى، و ليس لأحد غيره ذلك.

قوله تعالى: إِلاّ مَنْ ظُلِمَ .

استثناء منقطع من التحريم، و (ظلم) مبني للمجهول، أي: يحرم الجهر بالسوء من القول إلاّ من ظلم فإنّه لا بأس له بأن يجهر بالسوء من القول انتصارا ممّن ظلمه، و إحقاقا للحقّ و إعلانا للواقع.

و يحتمل أن يكون الاستثناء متّصلا بتقريب: لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء إلاّ الصادر ممّن ظلم، فإذا لوحظ الاستثناء باعتبار الحكم يكون منقطعا، و إذا لوحظ

ص: 88

باعتبار الموضوع يكون متصلا، و قرئ على البناء للفاعل (أي المعلوم)، فيكون المعنى:

لا يحبّ اللّه الجهر بالسوء إلاّ الظالم فإنّه يحبّه فيجهر بالسوء، فيكون الاستثناء حينئذ متصلا، و لكن ظاهر الآية الشريفة خلافه.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ مَنْ ظُلِمَ لبيان أنّ الجهر بالسوء من مصاديق الظلم، و هو مبغوض بالفطرة، و إرشاد الى أنّ المظلوم إنّما يجوز له الانتصار ممّن ظلمه في الجهة الّتي ظلم بها، و لا يجوز التعدّي عنها.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً .

تعليل لما تقدّم، أي: أنّ اللّه سميع لأقوالكم، عليم بنواياكم، فهو يعلم الظالم منكم و المظلوم.

و يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ جواز الجهر بالسوء للمظلوم لم يكن اعتباطيا أو يباح له على الإطلاق، بل لا بدّ له من التأكيد و التبيين في الأمر، فإنّ اللّه سميع للأقوال عليم بأنّه مظلوم أو ظالم، فلعلّ من يكون يجهر بالسوء في القول ظالما و هو لا يدري، فيرتكب ما لا يحبّه اللّه تعالى، فتكون الآية الشريفة مبيّنة لملاك الحكم.

و في قوله تعالى التحذير للظالم ليكفّ عن ظلمه، و للمظلوم حتّى لا يتعدّى عن الحدّ في الانتصار، و تثبيت الواقع و إحقاق الحقّ .

قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ .

توجيه ربوبي لتهذيب النفس و الترغيب الى الخير، و دعوة الى التحلّي بالعفو، و يظهر لطف هذا التوجيه التربوي الإصلاحي وقوعه بعد إباحة الجهر بالسوء، و قد تكفّلت الآية المباركة جميع صور الخير بادية و خافية، فإنّه لا يكتفي بالجهر بالخير و ابدائه، بل لا بدّ من إصلاح النفس و الهمس بالخير حتّى تتروض عليه، فيستولي على جميع مشاعرها.

و الخير يشمل كلّ ما ينطبق عليه هذا العنوان المحبّب الى النفوس، سواء كان

ص: 89

قولا أم فعلا أم النية، فيحسن أن تكون النيات حسنة و النفوس خيرة، ففي الألفاظ اليسيرة الّتي لها وقع في النفوس المستعدة معان كثيرة، و قد ذكر القرآن الكريم مصاديق كثيرة للخير، منها: قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا اَلصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا اَلْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 271].

و منها: العفو الّذي يذكره عزّ و جلّ بعد ذلك: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ .

و منها: الإيمان باللّه العظيم، قال تعالى: وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَتّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى اَلنّارِ وَ اَللّهُ يَدْعُوا إِلَى اَلْجَنَّةِ [سورة البقرة، الآية:

221].

و منها: الصلح و الإصلاح في مورد الخصومة و التباعد، قال تعالى:

وَ اَلصُّلْحُ خَيْرٌ [سورة النساء، الآية: 128]، و قال تعالى: قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ [سورة البقرة، الآية: 220]، إلى غير ذلك من الموارد الّتي ذكرها اللّه تبارك و تعالى في القرآن الكريم.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ إبداء الخير؛ لما فيه من الترغيب إليه و تشويق الناس له، كما ذكر الإخفاء فيه لقربه الى الخلوص و بعده عن الرياء؛ و لأنّ الإخفاء أوقع في النفس و أثبت.

قوله تعالى: أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ .

تخصيص بعد تعميم تنويها لفضله و تنبيها لمنزلته العظيمة في تصفيه النفوس و ربط الصفوف، و بيان لأظهر مصاديق الخير.

و العفو عن السوء هو الستر عليه، و إطلاقه يشمل العفو في القول بأنّ لا يذكر ظلم ظالمه، و العفو في الفعل بالصفح عن المسيء و أن لا يواجهه بما يسيئه، و لا ينتقم منه، و أعظم منه أن يكافأه بالإحسان، فإنّ اللّه يحبّ المحسنين، كما في قوله

ص: 90

تعالى: اَلَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي اَلسَّرّاءِ وَ اَلضَّرّاءِ وَ اَلْكاظِمِينَ اَلْغَيْظَ وَ اَلْعافِينَ عَنِ اَلنّاسِ وَ اَللّهُ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 135].

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً .

إرشاد الى أنّ العفو من صفات اللّه تبارك و تعالى، و لا بدّ للمؤمن أن يتحلّى بصفاته عزّ و جلّ الكماليّة و يكون مظهرا من مظاهرها.

و الآية الشريفة تبيّن أنّ العفو الّذي بيد المظلوم لا بدّ أن لا يكون من نوع عفو الذليل العاجز الّذي يخنع للظلم و يرضخ لسلطة الظالم، فإنّ ذلك أمر مرغوب عنه في الإسلام، بل هو التسامح بعد أن أباح الشارع له أن يقتصّ من الظالم و يجهر له بالسوء من القول، فيكون من العفو عند المقدرة، و هذا هو من الصفات الكماليّة له عزّ و جلّ .

و إنّما خصّ عزّ و جلّ العفو بالذكر مع أنّه يحبّ الخير و هو أيضا من صفاته عزّ و جلّ ؛ لأنّ المقام يستدعي التأكيد على العفو بعد الإباحة بالجهر بالسوء للمظلوم؛ و لأنّ العفو من مصاديق الخير، فيستدعي أن يكون الثاني أيضا من صفاته، ففي الكلام تلويح إليه.

ص: 91

بحوث المقام
بحث دلالي

تتضمّن الآيتان الشريفتان على حكم تربوي إصلاحي له الأثر الكبير في تهذيب النفس، و توحيد صفوف المجتمع الإسلامي الّذي طالما تمنّى الأعداء تقويضه باستعمال كلّ الأمور و الأساليب في إيجاد ثغرات ينفذون منها في تشتيت كلمتهم، و كان من أهمّ الأمور الّتي تفتّت عضد المسلمين و تشلّ قواهم و تهدّد كيانهم، و تقدح الفتنة بينهم، هي الأقوال السيئة الّتي تؤجّج البغضاء و العصبية، فإنّ ما يصدر من اللسان هو من أهمّ المؤثّرات في الإنسان، سواء أ كانت ايجابية أم سلبية، و قد ورد في الحديث: «و هل يكب الناس على مناخرهم في النار إلاّ حصائد ألسنتهم»، أي: ما يقطعونه من الكلام الّذي لا خير فيه.

و الآيتان الشريفتان تعالجان هذا الموضوع من جوانب متعدّدة، فمن جانب تثبت فيه حكما شرعيا، و هو التحريم بأسلوب لطيف يجعل المؤمن يشعر شعورا داخليا بأنّ الأمر مكروه و له مخاطر عديدة على النفس و المجتمع، فقال عزّ و جلّ :

لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ ، و يكفي للمؤمنين هذا الخطاب الربوبي في إثبات إحساس داخلي متّصل بالحي القيوم بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن نواهيه.

و من جانب آخر يثبت الموضوع السوء من القول و يعتبره من أفراد الظلم الّذي تشمئزّ منه النفوس و تنفر منه الطباع و تنكره الفطرة، و تعميمه بحيث يشمل جميع أفراده قولا كالبهتان و الشتم و السباب، أو عملا كالهمز، و جميع ما يوجب إثارة الشحناء و البغضاء.

و إنّما خصّ عزّ و جلّ السيء من الأقوال لعظيم أثرها في النفوس؛ و لأنّها الوسيلة الوحيدة في تضعيفها، و انتشار السيء من الأفعال و منها ينفذ الأعداء، ثمّ

ص: 92

يعالج الفرد الواقع منه في المجتمع بأسلوب تربوي يحدّ من انتشار أمثاله و يقلّل من تأثيره على الإنسان المظلوم، فأباح له مثل ما ظلم به من سيء القول، و لم يبح له أكثر من ذلك، فقال عزّ و جلّ : إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ، و أعطى الضمان عزّ و جلّ لهذا الحكم فقال عزّ من قائل: وَ كانَ اَللّهُ سَمِيعاً عَلِيماً ، فإنّ اللّه تعالى يسمع أقوال الظالمين فيجازيهم عليها، كما يعلم شكاوي المظلومين و تظلّمهم، فأباح لهم التظلّم بإظهار ما ظلموا به.

و هذا الحكم و إن لوحظ في الجانب التربوي للتحديد من الظلم إلاّ أنّه لم يكن حاسما للموقف، فحبّب إليهم الخير و اعتبره عزّ و جلّ هو الأصلح في هذا الموقف الّذي لا بدّ من إزالة الشحناء و تطويق الخلاف، و اعتبره حكما إصلاحيا للنفوس بالترويض على الخير و جعله مستوليا على جميع مشاعرها، فلا يقتصر على الخير في حالة واحدة، بل من الأفضل تعميمه لجميع الحالات.

و خصّ من أفراد الخير العفو عن السيء كلّها؛ لأنّه من صفات الباري عزّ و جلّ ؛ و لأنّه يزيل ما أوجب كدر الصفو بين الأفراد، و يرجع الثقة بينهم، فتضمّنت هاتان الآيتان حكما تربويا إصلاحيا، و اشتملتا على خلق كريم نبيل هو من أخلاق اللّه عزّ و جلّ ، و قد عرفت في التفسير أنّ هذا الخلق له الأثر العظيم في ما إذا كان عند المقدرة، دون العفو التابع من الذلّة، فإنّه ليس بتلك المثابة و لم يعد أن يكون خلقا كريما.

و تعلّق حبّه تعالى بأمر عقلي كقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ * [سورة البقرة، الآية: 195] يدلّ على أنّ ذلك لا يختصّ بهذا الدين الحنيف، و إنّما يعمّ جميع الأديان السماويّة؛ لأنّ محبّة المحسنين أمر فطري، و كذا عدم حبّه لشيء تبغضه الفطرة، فيكون قبح الجهر ممّا لا يختصّ بهذا الدين.

و إنّ قوله تعالى: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ يمكن أن يكون إشارة الى المراتب في العمل، فمن كان قادرا على الإبداء و الجهر بأن صان نفسه عن المهالك -

ص: 93

كالرياء و العجب و الغرور - يبدي في العمل، و إلاّ فيخفي حفظا عنها و صونا عن الشوائب و المكائد الشيطانيّة.

بحث روائي

في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ قال «من أضاف قوما فأساء ضيافتهم، فهو ممّن ظلم، فلا جناح عليهم فيما قالوا فيه».

أقول: قريب منه ما في الدرّ المنثور، و معنى الرواية أنّه لا يجوز التعدّي عن ما لاقاه الضعيف من سوء الضيافة، فغاية ما يجوز له أن يقول مثلا: (لم يحسن ضيافتي، أو أساء في ضيافته)، فإنّ ذلك نوع من الظلم الخلقي، و من المعلوم أنّ للظلم أنواعا، و لكلّ نوع مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و الرواية من باب ذكر أحد المصاديق كما هو واضح منها.

و في تفسير العياشي عن أبي الجارود عن الصادق عليه السّلام: «اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ قال: أن يذكر الرجل بما فيه».

أقول: لا بدّ و أن يقيّد بما لم يكن من المستثنيات.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ قال: «لا يحبّ اللّه أن يجهر الرجل بالظلم و السوء و لا يظلم، إلاّ من ظلم، فقد أطلق له أن يعارضه الظلم».

أقول: المراد من ذيل الرواية بما لا يوجب التعدّي عليه أو ينافي الشرع، و إلاّ فلا يجوز كما تقدّم، و في بعض الروايات: «انّ اللّه تعالى جعل لكلّ شيء حدّا، و جعل على من تعدّى الحدّ حدّا».

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ إن جاءك

ص: 94

رجل و قال فيك ما ليس فيك من الخير و الثناء و العمل الصالح، فلا تقبله منه فكذّبه فقد ظلمك».

أقول: إمّا عدم القبول لعدم الحقيقة و نفي الواقع، و إمّا تكذيبه لإرشاده الى الواقع، و المراد من قوله عليه السّلام: «فقد ظلمك»؛ لأنّه قال فيك ما ليس فيك، فإنّه يوجب حبّ الثناء و المحمدة، و يعتبر ذلك عند علماء الأخلاق أم الفساد و أصل المهلكات؛ لما يستلزم الغرور و صرف النفس عن نيل الكمال و البعد عن الحقائق و الوقوع في المساوئ و الضلال، و ذلك ظلم كبير.

و في المجمع: قال في الآية المباركة: «لا يحبّ اللّه الشتم في الانتصار، إلاّ من ظلم، فلا بأس له أن ينتصر ممّن ظلم بما يجوز الانتصار في الدين».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ اللّه تبارك و تعالى يبغض القول السيء أو الشتم كثيرة جدا، إلاّ من ظلم بما يجوز في الدين، فلو حصل التعدّي أو ممّا لا يجوز في الدين، فلم يرخّصه الشارع.

و في الدرّ المنثور: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال: من دعا على من ظلمه فقد انتصر».

أقول: ورد في الروايات المستفيضة أنّ دعاء المظلوم لا يرد، و أنّها تخرق الحجب السبع. و قد أخذ المظلوم حقّه ممّا يهبه سبحانه و تعالى له؛ و لذا انتصر.

نعم آثار الاستجابة قد تتأخّر لمصالح لا يمكن دركها في عالم الإمكان إلاّ لأخصّ الخواص.

و في بعض التواريخ يحكى عن ابن السكيت (رضوان اللّه تعالى عليه) معلم أبناء المتوكّل: جلس معه المتوكّل يوما فجاء المعتز و المؤيد ابنا المتوكّل، فقال له:

أيّما أحبّ إليك ابناي، أم الحسن و الحسين عليهما السّلام ؟ فقال ابن السكيت: و اللّه إنّ قنبر خادم علي عليه السّلام خير منك و من ابنيك، فقال المتوكل العباسي: سلوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات، و من العجب أنّه أنشد قبل ذلك للمعتزّ و المؤيد.

ص: 95

يصاب الفتى من عثرة بلسانه *** و ليس يصاب المرء من عثرة الرجل

فعثرته في القول تذهب رأسه و عثرته في الرجل تبرأ على مهل

أقول: لعلّ ابن السكيت (رحمه اللّه تعالى) رأى تكليفه في إظهار الحقيقة و الواقع، و علم أنّ المتوكّل أراد قتله على أي حال استعمل التقية أو لم يستعملها، و إلاّ كان له الفرار من البلاء بذريعة التقيّة أو بغيرها و لم يتجاهر بعقيدته أو بالواقع؛ لقاعدة تقديم الأهمّ و هو حفظ النفس المؤمنة على غيره و هو المهمّ ، أو هيّجه حبّه لأهل البيت عليهم السّلام، و كيف كان فرضوان اللّه تعالى عليه.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآية الشريفة: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إشارة الى ما تعرض على النفس من الحالات الّتي يتأثّر المؤمن بها، كالتحدّث مع النفس في الخواص، سواء أ كان ذلك في العقائد أم في العوائد، و لا فرق في العوائد بين أن تكون نفسيّة باطنية - كحبّ الجاه و الرياسة، و طلب الخصوصية، و حبّ المدح، و خوف الفقر و غيرها - أم ظاهريّة، مثل كثرة المخاصمة و العتاب و غيرها إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بداعي البشرية غير الاختياريّة كالابتلاء بالاضطرار، و دفع الحرج و غيرهما، فما يعرض على قلب المؤمن من الأوهام الّتي يتألّم و يتأثّر بها بلا أثر خارجي لتلك الأوهام و يصير المؤمن مظلوما، فلا عتاب عليه من المحبوب.

أو لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ بالخطرات الّتي تختلج على قلب أخصّ الخواص، فإنّها توجب النزول عن سمو مقامهم - كما في بعض الروايات - لأنّ ما تمرّ على قلوبهم لها دخل في حطّ تقرّبهم لديه جلّ شأنه و إن لم يكن كذلك عند الخواص فضلا عن العوام، فإنّ «حسنات الأبرار سيئات المتقرّبين»، و قال تعالى:

وَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْعِلْمَ دَرَجاتٍ [سورة المجادلة، الآية: 11] إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بالمنع من التمتع بحضرة قدسه بشهود الجمال بالاشتغال في امور العباد الّتي توجب

ص: 96

هدايتهم الى معرفة ربّ الأرباب، و نجاتهم من المهالك و الظلمات.

أو لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ بإفشاء أسرار الربوبيّة و إعلام المواهب الألوهيّة على من لا يليق بالتشرّف لساحة قدسه، و ران على قلبه، و تاه في الظلمات فعمى عليه معرفة الخير من الشرّ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ بغلبات الأحوال من إظهار شيء من الحجّة و البرهان، لا بإفشاء الأسرار و رفع الحجب.

و على أي حال، كانَ اَللّهُ في الأزل و الأبد سَمِيعاً لأقوالكم و عَلِيماً بأحوالكم و مقاماتكم. و إِنْ تُبْدُوا خَيْراً ممّا أفاض عليكم من النّعم و الحالات و ما وهب لكم من المكاشفات بترقّي النفوس الى المقامات و وصولها إلى أعلى الدرجات، أَوْ تُخْفُوهُ حفظا عن الشوائب و صونا عن المكائد أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ بترك إعلام ما جعل اللّه إظهاره سوءا، أو تعفوا بما تدعوكم به النفس الأمارة بالسوء بأن لا تتّبعوها أو تصفحوا عن المسيء كما يصفح عنكم الجليل، فَإِنَّ اَللّهَ كان في الأزل و الأبد رحيما، و بمقتضى رحمته كان عَفُوًّا عنكم لو اتّصفتم بمظاهر أخلاقه جل شأنه، قَدِيراً على كلّ شيء، فإنّه قادر على أن لا يعفو عن أحد و يذلّ عبده بردّه إلى نفسه و هواه و إيكاله الى نفسه مع الاختيار و يؤاخذه لكفرانه، فإنّه لَظَلُومٌ كَفّارٌ [سورة إبراهيم، الآية: 34]، و لكن رحمته الّتي وسعت كلّ شيء، و محبّته لخلقه و رأفته لهم تقتضيان أن يعفو عن الجميع، فإنّه يَغْفِرُ اَلذُّنُوبَ جَمِيعاً [سورة الزمر، الآية: 53]، و يعفو عن المسيء مهما توغّل في الظلمات و بعد عن ساحة قدس ربّ السماوات.

بحث فقهي

من المعاصي الكبيرة الغيبة، و هي: أن يذكر خلف إنسان ما هو مستور يغمّه لو سمعه، فإن كان صدقا سمّي غيبة و إلاّ فهو البهتان الّذي هو أشدّ من الغيبة، بل من الموبقات.

ص: 97

و لا فرق في الغيبة بين أن يكون بقصد الانتقاص أو لم يكن كذلك لإطلاق ما يأتي من الأدلّة، كما لا فرق في العيب المستور بين أن يكون في بدنه، أو في خلقه، أو في نسبه، أو في قوله، أو في دينه، أو دنياه. و سواء كان الذكر بالقول أو الكتابة أو بالحكاية بوجود العيب في الشخص المغتاب (بالفتح)، كالإشارات و التمثيليات، ففي جميع ذلك تتحقّق الغيبة.

و تدلّ على أنّها أم الرذائل الأخلاقيّة و من المعاصي الكبيرة الأدلّة الأربعة:

فمن الكتاب قوله تعالى: وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ تَوّابٌ رَحِيمٌ [سورة الحجرات، الآية 12]. فشبّه سبحانه و تعالى لما يناله المغتاب (بالكسر) من عرض المغتاب (بالفتح) بأفحش وجه كما هو معلوم. و قال تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ، أي: الّذي لا يبالي بالغيبة و هتك أعراض الناس. و قال تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ ، فإنّ الجهر بالسوء سواء كان أمام الطرف أو خلفه مبغوض عند اللّه تعالى، و إنّ إطلاق السوء فيها كما يشمل الغيبة و البهتان يشمل الكذب، بل يشمل ترك التقيّة المكلّف بها أيضا؛ فإنّه سوء للعامل أو الفاعل.

و من السنّة روايات كثيرة بلغت حدّ التواتر، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «من اغتاب امرءا مسلما بطل صومه و نقض وضوؤه و جاء يوم القيامة تفوح من فيه رائحة من الجيفة يتأذّى بها أهل الموقف، و إن مات قبل أن يتوب مات مستحلا لما حرّمه اللّه تعالى»، المحمول في بطلان الصوم و نقض الوضوء على المرتبة النازلة من الكمال، أو على الاستحباب بالقضاء أو التجديد، و المراد من الاستحلال عدم المبالاة في ارتكاب الغيبة.

و عن الصادق عليه السّلام: «الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه»، الى غير ذلك من الروايات المذكورة في كتب الأحاديث.

و من الإجماع ما هو مسلّم بين المسلمين بجميع مذاهبهم، بل عدّ حرمتها من الضروريات الدينيّة.

ص: 98

و من العقل حكمه بالقبح؛ لأنّه نوع من التعدّي على الغائب و ظلم عليه؛ لفرض أنّه يغمّه و يتأذّى لو سمع بذكر ما فيه.

و يعتبر فيها امور:

الأول: وجود سامع بقصد إفهامه، فلو لم يكن سامع لا تكون غيبة.

الثاني: تعيين المغتاب و تشخيصه، فلو قال: واحد من أهل البلد سارق، لا يكون غيبة، أو قال: أحد أولاد زيد جبان، لا يكون غيبة، أو قال: أحد أولاد الجار فاسق، لا يكون غيبة و إن حرّم من جهة انطباق عنوان الهتك أو الإهانة بالانتقاص.

الثالث: أن لا يكون المغتاب (بالفتح) داخلا في المستثنيات الّتي سنذكرها.

الرابع: أن يكون المغتاب (بالكسر) جامعا لشرائط التكليف، و لو فقد أحد هذه الشروط انتفى الحكم و إن تحقّق مفهوم الغيبة لغة في بعض الموارد.

و قد استثنى من حرمة الغيبة موارد كثيرة مذكورة في كتب الفقه، و لكن أهمّها هي:

الأوّل: المتجاهر بالفسق، فتجوز غيبته في العيب المتجاهر فيه - دون العيب المستتر فيه - إن قصد من غيبته ارتداعه عن فسقه بعد وصول الخبر إليه أو يحذّر الناس عنه، فعن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اذكر الفاسق بما فيه كي يحذره الناس»، فإذا علم أنّه لا يؤثّر فيه - كغالب الفساق الّذين انحرفوا عن الصراط المستقيم و ران قلوبهم - ففي غيبته إشكال من إمكان شمول قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ اَلْفاحِشَةُ فِي اَلَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ اَللّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [سورة النور، الآية: 19]، و دعوى سياق الآية الشريفة في غير المورد تحتاج الى دليل، و من شمول إطلاق بعض الروايات مثل قوله عليه السّلام: «من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له» إن لم يدع الانصراف عن المورد. نعم تجوز من جهة تحذير الناس في عدم وقوعهم في المهالك.

الثاني: الظالم لغيره، فيجوز للمظلوم غيبته في ظلمه للانتصار و بلا تعدّي؛

ص: 99

لقوله تعالى: لا يُحِبُّ اَللّهُ اَلْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ اَلْقَوْلِ إِلاّ مَنْ ظُلِمَ ، و إطلاق الآية الكريمة يشمل جميع أنواع الظلم و مراتبها، إلاّ إذا كان الظلم على نحو لا يعتنى به لدى عرف المتشرّعة و لا يحصل منه إيذاء، فالآية المباركة منصرفة عنه.

و لا فرق في ذلك بين ما كان في مجلس عامّ أو لم يكن فيه، كما لا فرق في الظلم من أن يطرأ على المغتاب، أو على من ينتسب إليه، كما إذا غصب زيد دار عمرو فمات عمرو، فيجوز لورثته غيبة زيد انتصارا لحقّهم، و كذا لا فرق بين أن يكون الظالم حيّا أو ميّتا، كلّ ذلك لإطلاق الآية الشريفة.

و هل تجوز الغيبة في ما لو وقع الظلم على شخص لا ينتسب الى المغتاب (بالكسر) أصلا إلاّ من باب الاخوة الإيمانيّة و لم يرد إليه نفعا؟ مقتضى الأدلّة عدم الجواز إلاّ من باب النهي عن المنكر إن توفّرت شرائطه.

الثالث: نصح المستشير لو استشاره شخص في أمر ذي بال كالتزويج، و شراء عقار، أو جعل وكيل، أو اتّخاذ أجير و غيرها، فيجوز نصحه و لو استلزمت الغيبة، و لا فرق في ذلك بين أن يكون ابتداء و من دون الاستشارة أو معها.

و هناك موارد اخرى مذكورة في الكتب الفقهيّة، كالخوف على الدين، فيجوز غيبته لئلاّ تترتّب عليه مفسدة دينيّة، أو كجرح الشهود، و قدح المقالات الباطلة و غيرها، و من شاء التفصيل فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 100

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْم.......

اشارة

إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161)

ص: 101

الآيات المباركة تتحدّث عن فريق آخر من أعداء الإسلام و المؤمنين، و هم اليهود، و يذكر سبحانه و تعالى فيها أفاعيلهم الباطلة، و يعدّد جرائمهم و مظالمهم بالنسبة الى الدين الحقّ و الأنبياء الكرام.

فمنها: التفرقة في الإيمان، فيؤمنون باللّه تعالى و يكفرون برسله، و قد عدّ سبحانه و تعالى هذه الصفة بأنّها كفر محض و أوعدهم النار.

و بيّن عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة أنّ المؤمنين هم الّذين لا يفرّقون بين اللّه و رسله. و وعدهم الأجر و الغفران و العاقبة الحميدة في الدارين.

و منها: سؤالهم إنزال الكتاب من السماء إعراضا منهم عن القرآن الكريم و الوحي النازل على رسوله الأمين، و ربّما يشترك النصارى مع اليهود في هذين المطلبين؛ لأنّهم أعرضوا عن الإسلام و لم يقتنعوا برسالة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله.

و منها: سؤالهم الرؤية و قولهم: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً جهلا بالحقيقة و عنادا للحقّ ؛ و لذلك فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ للتجرّي في سؤالهم و بعدهم عن الواقع باختيارهم.

و منها: اتخاذهم العجل معبودا لهم بعد ما جاءتهم البينات و لكنهم لم يتبعوها، لانغماسهم في الجهالة باتباع سبل الشيطان.

و منها: نقض الميثاق الغليظ الّذي أخذ منهم عند رفع الطور و تحت الشجرة، و قد تعهّدوا أن لا يخالفوا التعاليم الإلهيّة.

و منها: كفرهم بالآيات الّتي أتى بها موسى عليه السّلام و سائر أنبياء بني إسرائيل.

و منها: قتلهم الأنبياء عليهم السّلام بغير حقّ .

و منها: إعراضهم عن قبول الحقّ و قولهم: قلوبنا غلف.

و منها: تقوّلهم على مريم البتول الطاهرة و اتّهامهم لها بأعظم اتّهام.

و منها: تقوّلهم إنّهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم. و قد ردّه عزّ و جلّ بنفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام.

و منها: أخذهم الربا و قد نهوا عنه.

ص: 102

و لأجل تلك الأفاعيل المنكرة و ظلمهم و صدّهم عن سبيل اللّه تعالى و غيرها، أنّه جلّ شأنه حرّم عليهم الطيبات و أعدّ لهم عذابا أليما جزاء لذنوبهم، فإنّها آيات عظيمة تبيّن حقيقة هذه الطائفة المعاندة للحقّ بعد ما بيّن حقيقة الطائفة الاخرى و هم المنافقون، و يبيّن عزّ و جلّ فيها أصل الإيمان و حقيقته، و تذكّر المؤمنين بوعده الحقّ و أجرهم العظيم.

و لا يخفى ارتباط هذه الآيات الكريمة بما سبقتها، فإنّها جميعا تبيّن تلك الحقيقة و تذكّر المؤمنين بأعدائهم و ترشدهم الى نواياهم و خصالهم الذميمة، حتّى يأخذوا الحذر منهم و من مكائدهم و خداعهم.

التفسير

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ .

بيان لحقيقة الإيمان المطلوب المبني على أصلين لا يمكن التفكيك بينهما في الاعتقاد، و هما العمودان و سائر الأمور المطلوبة في الإيمان الواقعي ترجع إليهما و تعتمد عليهما.

و هما: الإيمان باللّه العظيم، و الإيمان بالرسل، فإذا تحقّق الأوّل من دون الثاني يكون إيمانا ادّعائيا، و في نظر القرآن كفرا و إن لم يكن كذلك في نظرهم.

و الآيات المباركة تشير الى طوائف متعدّدة، فمنهم: من آمن باللّه تعالى و كفر برسله أجمعين، زعما منهم بأنّ العقل يكفي لهداية البشر، أو لإنكارهم الوحي و أنّ ما جاء به الأنبياء و الرسل إنّما كان من عند أنفسهم.

و منهم: من آمن باللّه تعالى و كفر ببعض الرسل، و هم أهل الكتاب الّذين يؤمنون باللّه و يفرّقون بين الرسل. فترى اليهود أنّهم يؤمنون بموسى عليه السّلام و يكفرون برسالة عيسى و يحيى عليهما السّلام، كما أنّ النصارى تؤمن بموسى و عيسى عليهما السّلام و تكفر

ص: 103

بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، و كفرهم هذا ببعض الرسل أوجب أن يكونوا في عدد الكافرين باللّه تعالى و رسله جميعا، كما بيّنه عزّ و جلّ في الآيات التالية.

و منهم: من كفر باللّه جلّ شأنه و لم يؤمن برسله، كالمشركين و غيرهم من الكفّار المنكرين للمبدأ و المعاد و الرسل، و يأتي ما يتعلّق بهذه الطائفة في الآيات الكريمة في السور الآتية إن شاء اللّه تعالى.

و منهم: من آمن باللّه و رسله، و هم المؤمنون، و لهم فضلهم و شأنهم عند اللّه تعالى كما يأتي.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ .

بيان للعلّة الّتي أوجبت دخول الطائفة الاولى في زمرة الكافرين، فإنّهم و إن اعتقدوا باللّه جلّ جلاله، و لكن ذلك بوحده غير كاف في الدخول في المؤمنين؛ لأنّ التفرقة بين اللّه تعالى و رسله كفر بهما معا.

و إنّما جعل ذلك من إرادتهم؛ لبيان أنّه لم ينزل اللّه به من سلطان، و إنّما كان بمحض إرادتهم و اختيارهم التابع لآرائهم الفاسدة و عقائدهم السخيفة.

قوله تعالى: وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ .

تفسير و توضيح لما أرادوه من التفرقة بين اللّه تعالى و رسله، و يقولون: نؤمن ببعض الأنبياء و نكفر بالبعض الآخر، كما فعله أهل الكتاب - أو الطائفة الثانية - مع أنّ الأنبياء عليهم السّلام جميعا رسل اللّه تعالى و الردّ على واحد منهم ردّ على اللّه تعالى، فمن كفر بواحد منهم فقد كفر بالجميع.

و الآيات الشريفة تبيّن حقيقة دينهم و ما يقتضيه مذهبهم في الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر، فإنّ ذلك كفر في الواقع و إن لم يصرّحوا به أو لم يشعروا به.

و إنّما عبّر سبحانه و تعالى ب وَ يَقُولُونَ ليماء الى أنّ ذلك مجرّد قول و ادعاء بالألسنة، و إلاّ فالحقيقة و الواقع خلاف ذلك، و قد اقتصر تبارك و تعالى على ذكر أهل الكتاب و لم يذكر الطائفة الاخرى المنكرين للرسالة بالكليّة لسخافة مذهبهم،

ص: 104

و وضوح بطلانه، و إنكارهم للّه تعالى؛ و لأنّ الكلام مع أعداء الإسلام من أهل الكتاب المدّعين للإيمان.

قوله تعالى: وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً .

عطف تفسيري لمقالتهم، أي: يريدون من ذلك القول و التفرقة بين الإيمان أن يسلكوا منهجا معينا لهم و يبتدعوا طريقا مختصّا بهم يتبعوه، يكون وسطا بين الإيمان و الكفر. مع أنّ الحقّ لا يختلف، و الواقع لا واسطة فيه، فإمّا الإيمان باللّه تعالى و رسله جميعا من دون تفرقة بينهم، و إمّا الكفر سواء كان باللّه و رسله أو بالأخير منهما، أو بالتفرقة بين الرسل، فلا سبيل إلاّ الإيمان باللّه و رسله جميعا؛ لأنّ الإيمان بهم إيمان باللّه تعالى، و الكفر بواحد منهم كفر به عزّ و جلّ ، فلا واسطة و لا سبيل غيره، و ما سواه كفر و باطل.

قوله تعالى: أُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ حَقًّا .

بيان لحقيقة مذهبهم و واقع حالهم و تأكيد يزيل كلّ و هم و شكّ في إيمانهم، فأولئك المفرّقون هم كافرون حقّا لا مرية فيه و إن لم يشعروا به، فلم ينفعهم إيمانهم باللّه و ببعض الرسل إذا كفروا.

و في تأكيد الحكم بالجملة المعرفة بين الجزءين، و بضمير الفصل و بالمصدر المؤكّد قطع لكلّ إرادة باطلة و تقوّل فاسد، فإنّه لا حقّ أثبت و أصحّ ممّا يحقّه اللّه تعالى حقّا، و السرّ في ذلك واضح؛ لأنّ ما يتوسّلون به في إثبات التفرقة باطل، و أنّ لازم إيمانهم كذلك الردّ على اللّه عزّ و جلّ ، لأنّ الأنبياء وحدة متكاملة، يبشّر السابق باللاحق و يدعو إليه، كما ينوّه اللاحق بالسابق و يجعل الإيمان به من أجزاء الإيمان بدينه، فإذا أنكر واحد منهم، فقد أنكر الجميع، و هو الكفر باللّه العظيم، و لشناعة الفعل كان الجزاء عظيما.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً .

وعيد لهم بعد ما أثبت كونهم كافرين، و وضع المظهر موضع المضمر تذكيرا بوصفهم الشنيع، و تعميما لجميع أصناف الكافرين، هذا الصنف و غيرهم، بعد ما

ص: 105

اجتمعوا في العلّة الّتي استحقّوا بها هذا العذاب المهين الّذي يشتمل على المذلّة و الإهانة، و في قوله تعالى التفات من الغيبة الى التكلّم مع الغير، إيماء الى أنّ العذاب تحقّق و قرب وقوعه، و للتنبيه و الإيقاظ لهم على ما غفلوا عنه.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ .

بيان للصنف المقابل لأولئك المفرّقين بين اللّه و رسله، و فيه تعظيم لمقامهم و تشريف لهم ببيان عظيم أجرهم، و منه تظهر حقيقة الإيمان المطلوب، و هي الإيمان باللّه و عدم التفرقة بين أحد من رسله العظام (صلى اللّه عليهم أجمعين).

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أَحَدٍ في المقام؛ للبيان بأنّه لا بدّ أن لا يفرّق بين جميع الرسل، سواء أ كانوا ممّن اعتقد به أولئك الكافرون و من أنكروا الإيمان به أم لم يكن منهم، و تنطبق الآية الشريفة على أمة خاتم المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فإنّهم آمنوا به التزاما منهم بالإيمان بجميع المرسلين.

قوله تعالى: أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ .

تعظيم للجزاء و إيذان بقرب الوقوع، و يدلّ عليه أيضا كلمة (سوف) الّتي تدلّ على تأكيد الموعود به.

و إنّما لم يبيّن عزّ و جلّ نوع الأجور إيماء بأنّ المؤمنين يختلفون في الأجور، فكلّ يعطي بحسب حاله في العمل بعد ما ثبت فيهم أصل الإيمان المطلوب.

كما أنّه تعالى لم يذكر هنا (أولئك هم المؤمنون حقا) كما في الآية المباركة السابقة؛ للإعلام بأنّ ما ذكر إنّما هو أصل الإيمان المطلوب، و أمّا كماله الّذي يتمّ به الإيمان حقّا، فقد ذكر في آية اخرى، قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمُؤْمِنُونَ اَلَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اَللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * اَلَّذِينَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ وَ مِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولئِكَ هُمُ اَلْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ [سورة الأنفال، الآية: 2-4].

ص: 106

و من الآية الكريمة الأخيرة يظهر الفرق بين الوعدين، الوعد الّذي ذكر في المقام و هو إعطاء أجورهم على أصل الإيمان، و الوعد الّذي ذكر في الآية الشريفة على كمال الإيمان و هو المغفرة و الدرجات و الرزق الكريم جزاء لصالح أعمالهم.

قوله تعالى: يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ .

بعد أنّ بيّن عزّ و جلّ حقيقة مذهبهم و أنّه كفر محض لتفرّقهم بين اللّه و رسله، حيث آمنوا ببعض دون البعض الآخر، ففي هذه الآيات الشريفة يؤكّد تعالى ذلك ببيان جرائمهم و ظلمهم و يعدّد عليهم أفعالهم الشنيعة و عنادهم للحقّ و جحودهم له، و خصّ بالذكر اليهود الّذين لقى الرسول الكريم و دينه الحقّ و المؤمنون منهم الأذى و العناد و اللجاج في أشدّ وجوهها.

و المراد من أهل الكتاب هم الّذين فرّقوا بين الرسل و هم اليهود و النصارى كما عرفت، و هم المراد أيضا في القرآن الكريم حيث أطلق أهل الكتاب إلاّ إذا كانت قرينة على التخصيص، و السؤال إنّما وقع من كلتا الطائفتين - تحكّما و مجازفة و على سبيل التعنت و التعجيز - لا يقصد الحجّة و البرهان، لأنّهم عرفوا منزلة القرآن في الهداية و نفوس المؤمنين، و كانوا يعلمون أنّ كتاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله لا ينزل دفعة واحدة و إنّما ينزل نجوما متفرقة إلاّ أنّهم لم يعدونه كتابا سماويا، و لا كانوا يؤمنون به دليلا على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله جحودا و استكبارا منهم للحقّ ، فاقترحوا جزافا على الرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا محرّرا بخط سماوي، و أن يكون جملة واحدة.

و اختلف المفسّرون في هذا الكتاب المقترح، فمنهم من قال: كتاب يحتوي على شريعة هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله جملة واحدة، كالألواح الّتي نزلت على موسى عليه السّلام.

و قيل: إنّه كتاب يشهد بأنّك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل: إنّه كتاب ينزّل باسم جماعتهم أو الى فرد معين من أحبارهم، أو بأسماء من اقترحوا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله ذلك.

ص: 107

و كيف كان، فإنّ الظاهر من الآية الشريفة أنّهم اقترحوا من عند أنفسهم - جزافا و جحودا للحقّ و من غير خضوع للحقيقة - إنزال كتاب من عند اللّه تعالى، و كانوا يريدون من ذلك تشويه الأمر على المؤمنين الّذين آمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و قلب الحقيقة عليهم و سلب الطمأنينة من نفوسهم؛ لأنّهم طالما كانوا يواجهون المؤمنين بمثل هذه المقترحات الباطلة لتضعيف الإيمان في قلوبهم، و إلاّ فإنّهم كانوا يعلمون أنّ القرآن نزل مع التحدّي و عرفوا عجز الناس عن معارضته و تحديه، و هذا شأن كلّ متمرّد على الحقّ ، و من تعوّد الجحود و الكفر.

و لا يبقى بعد ذلك وجه للنزاع في أنّ المقترح هل هو كتاب خاصّ أو عامّ أو نحو ذلك، بعد ما كان المناط هو معرفة نواياهم الخبيثة و كيدهم بالمؤمنين و جحودهم.

و لقد شابهوا المشركين في هذا المقترح الباطل المعاند للحقّ الّذي صدر منهم في ابتداء الدعوة كما حكى عنهم عزّ و جلّ فقال: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ * [سورة يونس، الآية: 20] و قال تعالى: أَوْ تَرْقى فِي اَلسَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ [سورة الإسراء، الآية: 93].

ثم إنّ المفسّرين ذكروا أنّ اليهود كانوا يغشّون المؤمنين و يغرّونهم بإنزال التوراة عليهم جملة واحدة، و أنّ شريعة موسى عليه السّلام قد نزلت دفعة واحدة و كذلك الإنجيل، فلم لم يكن القرآن كذلك و على خلاف تلك الكتب الإلهيّة، و أرادوا من ذلك تضعيف الإيمان في قلوبهم و إثبات الشكّ في نفوسهم.

و لكن الّذي يظهر من القرآن الكريم و بعض الفقرات في التوراة خلاف ذلك، فإنّ التوراة لم تنزل دفعة واحدة، و إنّ النازل كذلك هو الوصايا العشر الّتي نقشت في الألواح، فأتى بها موسى عليه السّلام الى قومه، و لما رأى عبادة العجل ألقى الألواح كما حكى عنه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، و أمّا شريعته عليه السّلام فإنّها نزلت متفرّقة و على سبيل التدرج و لم تنزل مكتوبة جملة واحدة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في كيفيّة نزول الكتب الإلهيّة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 108

قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً .

جواب عن مسألتهم تتبيّن فيه حقيقتان:

الاولى: أنّهم قوم متمادون في الجحود و منغمسون في الجهالة و الضلالة، ينكرون الحقّ و إن جاءتهم البينة، عرفوا بنقض العهود و المواثيق و اشتهروا بالكذب و البهتان، فمن كان هذا حاله لا يعتنى بمقترحاته و لا يجاب عن اسئلته، و من هنا عدّد عزّ و جلّ مظالمهم و موارد جحودهم على الحقّ و تمرّدهم على اللّه تعالى و أنبيائه العظام؛ لمعرفة تلك المفاسد الأخلاقيّة و ذلك الجحود و التمرّد على الحقّ .

الثانية: أنّ اللّه تعالى أنزل القرآن مع التحدّي، و مقارنا مع الشهادة منه عزّ و جلّ و من ملائكته على صدقه و واقعيته، فكلّ مقترح في إنزال كتاب آخر غيره يكون كذبا و مقترحة (بالكسر) كاذب و جاحد للحقّ ، و قد تكفّلت هذه الجهة آيات التحدّي الّتي وردت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم كما في سورة الإسراء و يونس و هود و البقرة، و كذلك الآيات المباركة الّتي تدلّ على صدق القرآن و شهادته عزّ و جلّ عنه.

و أمّا الآيات الكريمة في المقام فقد تكفّلت لبيان الجهة الاولى، فذكر عزّ و جلّ في ردّهم أنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر ممّا سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله من تنزيل كتاب من السماء، فقالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً ، أي: واضحا نعاينه بأبصارنا، و هذا السؤال يدلّ على غاية الجهل و الطغيان و العناد، فكان أكبر من سؤال إنزال الكتاب؛ لأنّه يدلّ على العناد و اللجاج فقط.

و سؤال الرؤية و إن كان من أسلافهم إلاّ أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف و سيرتهم و هم جميعا في الأخلاق و الصفات سواء، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا، و قد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع، و هو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم، قال تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [سورة] [البقرة، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

ص: 109

و سؤال الرؤية و إن كان من أسلافهم إلاّ أنّ الخلف لما كانوا على طريقة السلف و سيرتهم و هم جميعا في الأخلاق و الصفات سواء، فكلّ ما فعله السلف يسند الى الخلف أيضا، و قد أسند في القرآن الكريم أفعال السلف الى الخلف في نحو ألف موضع، و هو يدلّ على كمال الاتحاد بينهم، قال تعالى: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ [سورة] [البقرة، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ اَلصّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [سورة البقرة، الآية: 55]، و غيرهما من الآيات المباركة، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك فراجع.

قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ اَلصّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ .

الصاعقة: هي النار السماويّة الّتي تحدث من أسباب معروفة في علم الطبيعة.

و إنّها و الفاقعة متقاربتان، إلاّ أنّ الثانية في الأجسام الأرضيّة و الاولى في الأجسام العلويّة.

و كيف كان، فقد عبّرت التوراة عنها بالنار و لا منافاة بينهما، فإنّ الآية الشريفة تفسّر تلك بالنار السماويّة.

و المراد من الظلم في المقام هو تشبيه الربّ بالماديات و طلب رؤيته. و هو ظلم مع علمهم بأنّها مستحيلة بالنسبة إليه عزّ و جلّ ، لتنزّهه عن مجانسة المخلوقات، و تقدّم في قوله تعالى: وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتّى نَرَى اَللّهَ جَهْرَةً [سورة البقرة، الآية: 55] الكلام في هذه المسألة، و قلنا إنّ الآية الشريفة تدلّ على امتناع الرؤية، فإنّ ظاهرها هو أنّ أخذهم الصاعقة لم يكن إلاّ بسبب ظلمهم أنفسهم، و هو لم يكن إلاّ لأنّهم طلبوا الرؤية و إلاّ لما سموا ظالمين، و لما أخذتهم الصاعقة.

و لا ينافي ذلك أن يكون السؤال عن تعنّت من اليهود، فإنّ كلّ ظلم منهم إنّما كان كذلك و إن اختلفت أسبابه، و العقاب قد يكون عليهما معا أو على أحدهما.

و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ العقاب إنّما كان على تعنّتهم لا على سؤالهم الرؤية.

و كيف كان، فالإماميّة يقولون بامتناع الرؤية لظواهر الآيات الشريفة، و نصوص وردت عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، و أمّا الأشاعرة فإنّهم على خلاف ذلك و المسألة معروفة في كتب الكلام.

قوله تعالى: ثُمَّ اِتَّخَذُوا اَلْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ اَلْبَيِّناتُ .

أي: أنّهم ارتكبوا ظلما أشنع و هو اتّخاذ العجل للعبادة مع علمهم بأنّها

ص: 110

شرك باطل، لقيام البينات و الحجج الواضحة الدالّة على توحيده و النافية للشرك، و ظهور البراهين لديهم على أنّ اللّه تعالى منزّه عن شؤون المادّة و شائبة الجسميّة.

قوله تعالى: فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ .

أي: فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا، و العفو هنا خاصّ ، و هو رفع القتل عنهم كما حكى تعالى عن القصة في سورة البقرة: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة، الآية: 54]، و فيه تعليم للمذنبين، أي: أنّهم أذنبوا فتابوا فعفونا عنهم، فتوبوا أنتم حتّى نعفو عنكم.

قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً .

أي: أنّ اللّه تعالى أتى موسى عليه السّلام تسلّطا ظاهريا عليهم جميعا بما فيهم السامري و عجله، فخضعوا له فأمرهم ابتداء بقتل أنفسهم توبة عن اتخاذهم العجل، فاستولى على تمرّدهم و طغيانهم ثمّ انقادوا له فلم يخالفوه، و بذلك صارت له حجّة بيّنة قوى بها على من ناواه.

قوله تعالى: وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ اَلطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ .

أي: أنّ اللّه تعالى رفع الطور عليهم حتّى أخذ الميثاق منهم تحت الصخرة، و إنّما فعل ذلك تشديدا لأمر الميثاق و توكيدا عليه و ليأخذوا ما انزل إليهم بقوة و يعلموا مخلصين، و القصة مذكورة في سورة البقرة مرّتين، الاولى في الآية (63) و الثانية في الآية (96).

قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمُ اُدْخُلُوا اَلْبابَ سُجَّداً .

بيان لمورد من الموارد الّتي أخذ الميثاق عليها، أي: و قلنا لهم: إذا خرجتم من التيه و دخلتم مدينة بيت المقدس، فادخلوها من الباب خاضعين كما أمر غير اليهود بأن يدخلوا البيوت من أبوابها.

و المراد من ذلك أنّ كلّ عمل يعمله الإنسان لا بدّ أن يكون من الوجه المشروع و لا يجوز أن يدخله من غير بابه الّذي شرّعه اللّه تعالى، و لعلّ ما أخذ من بني إسرائيل من الدخول من الباب إشارة إلى ذلك أيضا، فاتّحدت جميع الأديان

ص: 111

الإلهية على هذا الأمر و لا يقدح أن تكون الآية المباركة إشارة الى واقعة معينة، فإنّه قد يترتّب حكم كلّي على واقعة جزئيّة، كما هو معروف.

قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي اَلسَّبْتِ .

بيان لمورد آخر من موارد الميثاق، أي: و قلنا لهم لا تتجاوزوا حدود اللّه تعالى و لا تحلّوا ما حرّمه اللّه تعالى في يوم السبت. و لكنّهم خالفوا أوامره عزّ و جلّ كما حكى عنهم في سورة البقرة.

قوله تعالى: وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً .

أي: و أخذنا منهم عهدا وثيقا مؤكّدا ليأخذوا التوراة بقوّة و اجتهاد و يعملوا بها و يحفظوا عهودها و حدودها.

و إنّما وصف الميثاق بكونه غليظا إمّا لأجل تعهّدهم بالعمل بالتكاليف الإلهيّة و حفظ التوراة و مراعاة عهودها و التزامهم إذا أعرضوا، فاللّه تعالى يعذّبهم بأنواع العذاب، أو لأجل عظمة الميثاق الّذي أخذ منهم، و هو التصديق بنبوّة عيسى عليه السّلام و نبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، الّتي بشّر بها في جميع الكتب السماويّة.

قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .

تفريع على ما سبق، و فيه تعداد لموارد ظلمهم و ما خالفوا فيه من المواثيق و العهود. و بيان ما حلّ بهم من البلاء و ما نالوا من الجزاء في الدنيا و الآخرة.

و المجرور متعلّق بما يأتي في الآية الشريفة.

أي: بسبب نقضهم المواثيق و تحليلهم ما حرّمه اللّه تعالى عليهم و كفرهم، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ و قولهم: قلوبنا غلف، و غير ذلك من جرائمهم، فبسبب ذلك كلّه حرّمنا عليهم الطيبات و باءوا بالغضب و ضربت عليهم الذلّة و المسكنة.

و جوّز بعضهم أن يكون الجار متعلّقا بمقدّر، و قيل غير ذلك، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و تعداد جرائمهم في هذه الآية الشريفة إنّما هو لبيان أنّها أفسدت جميع أخلاقهم، و كدّرت صفاء نفوسهم، و أطفئت نور فطرتهم، فمرضت قلوبهم و ساءت

ص: 112

أحوالهم و تشتّت شملهم و ذهب ريحهم و قوتهم، فكلّ ما حلّ بهم من البلاء إنّما كان بسبب عصيانهم للّه تعالى و نقضهم المواثيق و كفرهم.

قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ .

المراد من كفرهم: مطلق أنواع الكفر الّذي صدر منهم بعد ظهور الحجج الواضحة الدالّة على صدق ما كفروا به، و قد ذكر عزّ و جلّ بعضا منها في ما سبق و بعضها في ما سيأتي، فمنها: كفرهم بأنّه منزّه عن شائبة الجسميّة، حيث طلبوا رؤيته كما حكى عزّ و جلّ في صدر الآية الكريمة.

و منها: كفرهم باتّخاذهم العجل معبودا.

و منها: إنكارهم للمعجزات الّتي صدرت من الأنبياء.

و منها: كفرهم بقتلهم الأنبياء بغير حقّ ، و كفرهم بإنكار نبوّة بعض الأنبياء.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ نقض المواثيق في المقام مع أنّ الكفر كان مقدّما في الذكر آنفا؛ لأنّ في هذه الآيات الكريمة تتعرّض للجزاء الّذي يترتّب على أعمالهم بعد ما استجابوا للحقّ و آمنوا باللّه تعالى، و بعد ما أخذ منهم المواثيق، فكان ذكرها أنسب مع أنّ نقض المواثيق في كلّ دين يوجب الكفر، فيكون من قبيل المعدّ و المقتضي له.

قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ .

جريمة فظيعة تدلّ على طغيانهم على اللّه جلّت عظمته و تمرّدهم على الحقّ ، حيث قتلوا أنبياءه و رسله الّذين أرسلهم عزّ و جلّ لهدايتهم بغير جرم اجترحوه، مع أنّهم معصومون من كلّ نقص و بريئون من كلّ عيب، فلا حقّ يتوجّه عليهم، و قد أكّد تعالى على قبيح هذا العصيان و فظاعته كونه بِغَيْرِ حَقٍّ ، و إلاّ فإنّ قتل كلّ شخص بريء و محقون الدم هو قبيح و يكون بغير حقّ .

و للدلالة على أنّه لا حق مطلقا يتوجّه عليهم يستوجب هتك حرمتهم و قتلهم.

و اكتفى القرآن الكريم بذكر القتل عليهم إجمالا من غير تسمية، و لكن التاريخ قد سجّل عليهم قتل جملة من الأنبياء، كزكريا و يحيى عليهما السّلام و غيرهما.

ص: 113

قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ .

غلف: جمع أغلف، و هو الّذي عليه الغلاف ليمنع نفوذ الشيء إليه، كغلاف السيف، و قد ورد في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «يفتح قلوبا غلفا»، أي: مغشاة مغطاة، يقال: قلب أغلف، أي عليه غشاء يمنع عن قبول الحقّ و نفوذه فيه.

و المعنى: قلوبنا في أغشية تمنعها من قبول الحقّ و تأثير المواعظ فيها و نفوذ ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله إليها، كما في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ * [سورة الانعام، الآية: 25]، و ما يحكى عنهم تعالى: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمّا تَدْعُونا إِلَيْهِ [سورة فصلت، الآية: 5].

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة أنّ قلوبنا في أوعية، فلا حاجة بنا الى علم جديد سوى ما عندنا و هو كاف.

و لكن الوجه الأوّل أولى بقرينة سائر الآيات الكريمة الّتي حكي فيها حال أقوام آخرين مع الدعوة الى الحقّ .

و الإباء عن الاستماع الى الحقّ لا يصدر إلاّ ممّن انهمك في العصيان و استولى عليه الفساد و الطغيان، و من أخذته العزّة بالإثم فاستكبر عن قبول الحقّ ، و هذا مرض نفسي عضال أعيى الأنبياء عليهم السّلام عن علاجه، و قد حكي عزّ و جلّ حال قوم نوح عليه السّلام من الدعوة و عدم قبول الحقّ ، فقال حاكيا عنه عليه السّلام: وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اِسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اِسْتَكْبَرُوا اِسْتِكْباراً [سورة نوح، الآية: 7].

و ظاهر الآية الشريفة أنّ ادعاءهم ذلك ناشئ عن خلقتهم كذلك و إن قلوبهم خلقت مغشّاة بأغشية تمنعها من قبول الحقّ . و قد ردّ عزّ و جلّ عليهم بأنّ ذلك نشأ عن كفرهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و انهماكهم في المعاصي و ارتكاب الآثام فطبعت عليها.

قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ .

ردّ لزعمهم الفاسد، أي: أنّ إباءهم عن قبول الحقّ و استماع الدعوة لم يكن

ص: 114

مستندا الى كون قلوبهم في غلف، و ليس في خلق اللّه تعالى لقلوبهم ما يمنع عن قبول الدعوة الحقّة، و إنّما هو راجع الى صنع اللّه عزّ و جلّ فيهم لأجل كفرهم و جحودهم للحقّ و عصيانهم، و لذلك ترى أنّ منهم من يؤمن بالحقّ و إن كانوا قليلين.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ بالطبع كالسكّة المطبوعة لبيان أنّ كفرهم الشديد و أعمالهم القبيحة قد أفسدت عليهم قلوبهم و طبعت عليها، فصارت قاسية لا تقبل غير ما طبع عليها، فإنّ القلوب لتتأثّر بكلّ ما يكسبه المرء و ينطبع عليها كما ينطبع على الصخرة الملساء ما ينقش فيها، فإن كان من الاعتقادات الحقّة أو الكمالات السامية و الأعمال الصالحة فهي تهتز و تنمو بإذن اللّه تعالى، و إلاّ فتفسد و تقسي كالصخرة أو أشدّ منها، كما حكي عزّ و جلّ حالها مع الإيمان و الكفر و الأعمال في مواضع متفرّقة في القرآن الكريم، قال تعالى: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة المطففين، الآية: 14]، و قال تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ اَلْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ اَلْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ اَلْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اَللّهِ وَ مَا اَللّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ [سورة البقرة، الآية: 74].

ثمّ إنّ الفرق بين الطبع (بالسكون) و الطّبع (بالتحريك) هو أنّ الأوّل: الختم كما تقدّم، و الثاني هو الدنس و الوسخ، و منه الحديث: «أعوذ باللّه من طمع يهدي إلى طبع»، أي: استجير باللّه العظيم من طمع يؤدّي إلى شين و عيب.

و عن بعض اللغويين: الرين أيسر من الطبع، و هو أيسر من الأقفال، و الأقفال أشدّ ذلك كلّه، و استدلّ بالآيات المباركة: كَلاّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ [سورة المطففين، الآية: 14]، و قال تعالى: طَبَعَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ * [سورة النحل، الآية: 108]، و قال تعالى: أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها [سورة محمّد، الآية: 24].

و لكن الّذي يهوّن الأمر أنّ لكلّ منها مراتب، فيطلق كلّ مرتبة على غيرها كما يأتي في محلّه تفصيل ذلك.

ص: 115

قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً .

تأكيد الى أنّ غلف القلوب إنّما كان من صنع أنفسهم لا من صنع اللّه تعالى و خلقته، إلاّ بالمعنى الّذي تقدّم من أنّ كثرة ارتكاب المعاصي و الآثام و التمادي في الكفر و الطغيان يوجبان إعراض اللّه تعالى عنها، فيطبع اللّه تعالى أعمالهم فيها، فتصير قاسية لا تقبل الحقّ ، فلم يخلق اللّه تعالى قلوبهم مغشية بالغشاء، و إلاّ فلا يؤمن منهم أحد أبدا، فيكون إيمان بعضهم و لو كانوا قليلين دليلا على أنّ الغشاء على القلوب إنّما حصل من أعمالهم.

و ممّا ذكرنا يعرف معنى الاستثناء في المقام، و قد أتى به لإثبات هذه الجهة و لنفي الإلجاء الّذي يستفاد من ظاهر كلامهم، فيرجع المعنى الى أنّهم بكفرهم و قتلهم الأنبياء و ارتكابهم سيئات الأعمال و توغّلهم في العصيان قد أفسدت أخلاقهم حتّى انطبعت تلك الآثار السيئة على قلوبهم، فلا يؤمنون لأنّ قلوبهم في غشاء صنعوه بأنفسهم، إلاّ من هداه اللّه تعالى و لم يصل الى هذه المرتبة من الطغيان، فيقبل الحقّ و يهتدي بنور الإيمان، و قد ذكر المفسّرون في المقام أقوالا كثيرة ذكرنا جملة منها في أمثاله فراجع.

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الآية الشريفة: لا يؤمن إلاّ إيمانا قليلا، و هو الإيمان بموسى عليه السّلام، و لكن ذلك باطل؛ لأنّ الإيمان القليل بالمعنى الّذي ذكر لا اعتبار به عند القرآن كما عرفت في صدر هذه الآيات المباركة.

كما أنّ ظاهر هذه الآية الكريمة أنّها في صدد ذكر كلتا الطائفتين الكافرتين اللتين طبع على قلوبهم، و المؤمنين الّذين هم ليسوا كذلك.

قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً .

نوع آخر من الكفر الّذي ارتكبوه و هو الكفر بعيسى عليه السّلام و نسبة الفحشاء الى مريم العذراء الطاهرة، و البهتان: الكذب الّذي يبهت من يقال فيه و يدهشه و يحيّره، و هو من أقبح الكذب.

و إنّما وصف هذا البهتان بكونه عظيما إمّا لكونه قد نسب الى من كانت

ص: 116

منزلتها عظيمة عند اللّه تعالى، و قد اختارها اللّه و اصطفاها على نساء العالمين مع علمهم ببراءتها ممّا نسب إليها لظهور الكرامات الدالّة على براءتها منها، كتكليمهم عيسى عليه السّلام و هو في المهد صبيا، فقال: إِنِّي عَبْدُ اَللّهِ آتانِيَ اَلْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم، الآية: 30]، فأنكروا المعجزات كلّها و نسبوا الى مريم البتول عليهما السّلام بما هي بريئة منه و تجاهلوا منزلتها عند اللّه تعالى و لم يقدّروا قدرها.

و إمّا لأنّ الجزاء الّذي يترتّب على هذا البهتان كان عظيما، و قد كانوا هم السبب في ما حلّ بهم من الغضب و اللعنة.

قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ إِنّا قَتَلْنَا اَلْمَسِيحَ عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اَللّهِ .

جريمة اخرى من جرائمهم الدالّة على كمال جرأتهم على اللّه تعالى و الاستهزاء بآياته و رسله و تماديهم في الكذب و الطغيان، و إنّما عبّر عزّ و جلّ :

وَ قَوْلِهِمْ على سبيل التبجح، و لبيان أنّه مجرّد قول يحكي عنهم لا حقيقة له، و هو بعيد عن الواقع.

و قوله تعالى: رَسُولَ اَللّهِ إمّا وصف لعيسى بن مريم، فيكون من جملة أقوالهم المحكيّة الرسالة تهكما و استهزاء بدعوته.

أو على سبيل المدح و الاختصاص للإشارة الى رفعة شأنه و عظيم منزلته و لبيان فظاعة عملهم و كمال جرأتهم على اللّه تعالى و نفي الألوهيّة المزعومة فيه.

أو أنّ اللّه تعالى وضع الذكر الحسن مقام ذكرهم القبيح له، فإنّهم قد وصفوه بأقبح الصفات.

قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ .

إبطال لما زعموه من قتلهم رسول اللّه تعالى عيسى ابن مريم، و الجملة في موضع الحال، أي: و الحال أنّهم لم يقتلوه و لم يصلبوه. و إنّما نفى عزّ و جلّ القتل و الصلب معا عنه عليه السّلام، لبيان النفي التامّ ، بحيث لا يشوبه شكّ و ريب فلم تصل أيديهم إليه بأي نحو من أنحاء القتل، و دفعا به لما قد يتوهّم من أن نفي مطلق القتل عنه عليه السّلام، لا ينافي أن يكون قتله غير عادي، فنفى عزّ و جلّ عنه جميع أنحائه.

ص: 117

و إيماء الى الاختلاف بينهم في كيفيّة قتله عليه السّلام، فبعضهم قالوا: إنّهم قتلوه صلبا، و بعض آخر قالوا: إنّهم قتلوه بغير صلب.

قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ .

تأكيد آخر على نفي جميع أنحاء القتل المزعوم عن عيسى عليه السّلام، فقد وقعت لهم الشبهة و التبس عليهم أمره فأخذوا غيره فقتلوه إمّا صلبا أو غير صلب، و اشتباه الأمر في اجتماع لم يكن منتظما و لم يعرف القاتل شخصية المقتول أمر عادي، فإنّه ربما يكون قد أخطأ من يراد قتله، أو كان الأمر إلهيّا لحفظ رسوله فأوقع الشبه عليهم و أمر رسوله بالخروج أو بعدم حضور ذلك الاجتماع، كما نصر رسوله صلّى اللّه عليه و آله محمّدا ليلة المبيت و اشتبه الأمر على المشركين.

و كيف كان، فاقصة معروفة في كتب التاريخ من أنّهم هجموا على ذلك الاجتماع الّذي حضر عيسى عليه السّلام فيه فأرادوا قتله، فألقى شبهه على غيره فقتلوه، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في سورة آل عمران فراجع، و يأتي أيضا في البحث التاريخي مزيد بيان.

قوله تعالى: وَ إِنَّ اَلَّذِينَ اِخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ .

أي: و إنّ الّذين اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام رسالة و قتلا و غيرهما لفي تردّد و حيرة منه، فكلّ يدعي شيئا ما لهم به من علم ثابت إلاّ التخمين و اتباع لما يرتابه أنفسهم.

و الشكّ : هنا التردّد و الجهل، فيكون أخصّ من الظن، و إن كان يستعمل في بعض الأحيان ما يضاد اليقين، فيشمل الشكّ و الظن في اصطلاح أهل المنطق.

و الاختلاف من أهل الكتاب في شأن عيسى عليه السّلام كبير، فاليهود زعموا قتله و إن اختلفوا في كيفيّة قتله. و بعض نفى القتل عنه رأسا و القرآن الكريم يصرّح به كما عرفت، و قد نقلت لنا كتب التأريخ كثيرا من أباطيلهم في شأن عيسى عليه السّلام.

و أمّا النصارى فأمرهم في نبيّهم أشدّ، فبعضهم ادّعى ربوبيّته عليه السّلام و أذعنوا للقتل، و لكنهم يقولون صلب الناسوت و صعد اللاهوت، و بعض منهم - و هو

ص: 118

اليعقوبيّة - نفوا القتل عنه عليه السّلام و قالوا: إنّه باق باتّحاد الناسوت مع اللاهوت، و صار طبيعة واحدة، فلم يبق له ناسوت مميّز حتّى يموت و الشيء الواحد لا يمكن أن يقال له مات و لم يمت.

و بعض المحقّقين يرى أنّ المسمّى بالمسيح اثنان، و أنّ المتقدّم المحقّ غير مقتول، و المتأخّر المبطل هو المصلوب، و التاريخ المعروف بالميلادي لم يعرف أنّه ضبط من ميلاد الثاني أو من ميلاد الأوّل، و بينهما ما يزيد على خمسمائة سنة.

و كيف كان، فقد نقل في الأناجيل المعتمدة عند النصارى أنّ المسيح عليه السّلام قال لتلامذته: «كلّكم تشكّون فيّ في هذه الليلة» - (متي: 26-31 و مرقس: 14-27) و مع تصريحه عليه السّلام لتلاميذه بأنّه لا خبر صادق في أمره في ذلك الوقت، فحينئذ لا يبقى شكّ في صحّة ما قاله القرآن الكريم في حقّه.

قوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ .

الاستثناء منقطع، و المراد من الظن في اصطلاح القرآن الكريم هو كلّ ما خالف الواقع، كما أنّ المراد من العلم هو الاطمئنان، و ليس المراد منهما ما هو المعروف عند المنطقيين، أي: ليس لهم ما يوجب اطمئنان النفس و اليقين إلاّ الحدس و التخمين.

قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً .

الضمير يرجع الى عيسى عليه السّلام، و فيه التأكيد لما سبق من نفي القتل و الصلب عنه عليه السّلام و بعد أن أبطل مزاعمهم و أنّ كلّ ما قيل في شأنه هو ضرب من الحدس و التخمين، بل هم في شكّ منه، إذ لم يستندوا الى علم صحيح و لم يعتمدوا على حجّة قاطعة، فيأتي القرآن الكريم و يضع الحدّ الفاصل في هذا الأمر المهمّ ، و أنّه ينفي القتل عنه يقينا، و هو الخير اليقين الّذي ينبغي أن يعتمد عليه.

و قيل: إنّ الضمير في قَتَلُوهُ يرجع الى العلم، و المراد من قتل العلم هو تمحيصه و تخليصه من شائبة الشكّ و الريب، و قيل: إنّه يعود الى الظن، أي: ما قتلوا ظنهم يقينا، أي: لم يثبتوا فيه. و لا يخفى بعدهما.

ص: 119

قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ .

تقدّم ما يتعلّق بهذه الآية الشريفة، في قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ [سورة آل عمران، الآية: 5]، و يستفاد من كلمة الاضرار أنّ الرفع إنّما كان بالبدن و الروح، لا بالأخير فقط كما يدّعيه بعض، فإنّه تعالى بعد أنّ نفى القتل و الصلب عن بدنه و أضرب عن جميع ما قيل في ذلك، فأثبت له الحياة و أنّه تعالى رفعه بكليهما معا يقينا، فلو خصّصنا الرفع بالروح فقط لما كان فيه فائدة جديدة و لم تكن ميّزة خاصّة لعيسى عليه السّلام، إذ أنّ روح كلّ مؤمن إنّما يصعد بعد التوفّي و الموت إليه عزّ و جلّ ، فيكون المراد من الرفع هو تخليصه من العذاب الّذي أزمع اليهود أن يوقعوه فيه، و لكن لن يعرفه كيفيّة الرفع من نفس الآية الشريفة، فلا بدّ من الرجوع الى السنّة المعصوميّة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في سورة آل عمران فراجع.

و يستفاد من الآية المباركة أنّ الرفع معجزة اخرى له عليه السّلام، كسائر معجزاته و معجزات سائر الأنبياء عليهم السّلام الّتي أثبتها لهم عزّ و جلّ ، و لا بدّ من التسليم بها و إن لم نعرف حقيقتها، فلا يضرّ في هذه المعجزة الّتي أثبتها الكتاب العزيز له عليه السّلام أن لا نعرف حقيقة الرفع و كنهه بأي نحو كان، و المناط كلّه على ما يسبق إليه الظاهر و ما في السنّة الصحيحة الّتي وردت من المعصومين عليهم السّلام في تفسير الآيات الشريفة.

و الآية الكريمة أوضح دلالة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت فهو حي، فتكون قرينة اخرى على آية سورة آل عمران فراجع آية - 55 منها أيضا.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .

أي: يفعل اللّه ما يشاء و لا يغالب فيما يريده، حكيم في أفعاله و من حكمته أنّه أنقذ عبده عيسى عليه السّلام من أيدي اليهود و ألقى الشبه على غيره و سيجزي كلّ عامل بعمله.

و في الآية الشريفة التأكيد على ما ورد في الآيات السابقة في شأن عيسى عليه السّلام، و فيها الدلالة على حفظه له من أيدي اليهود.

ص: 120

قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ .

تأكيد آخر على حياة عيسى عليه السّلام و عدم موته و (إن) نافية بمعنى (ما)، و الجار و المجرور متعلّق بمحذوف يدلّ عليه الكلام و هو نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، أي: و ما أحد من أهل الكتاب و الضمير في «به» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و أمّا الضمير في «موته» فقد اختلف فيه فقيل - و هو المعروف بين المفسّرين - أنّه يرجع إلى (أحد) المقدّر، و عود ضمير الجمع إليه لا بأس به لكونه في معنى الجمع، فيكون المعنى:

و إنّ كلّ أحد من أهل الكتاب قبل أن تزهق روحه و يدركه الموت ينكشف له الحقّ فيؤمن بعيسى عليه السّلام أنّه عبد اللّه و رسوله، فاليهودي يذعن أنّه رسول صادق غير دعي لم يقتل و لم يصلب، و النصراني يعلم أنّه عبد اللّه و رسوله، فليس هو إله و لا ابنه و لا ثالث ثلاثة، و يكون عيسى عليه السّلام شهيدا عليهم جميعا يوم القيامة، فيشهد للمؤمن منهم في حال الاختيار و التكليف بإيمانه كما يشهد على الكافر بكفره؛ لأنّه مبعوث و كلّ نبي شهيد على قومه قال تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية: 41]. و استدلّ على هذا القول بأمور.

منها: أنّ هذا المعنى هو الظاهر المتبادر، و تخصيص عموم الآية الشريفة بخصوص الموجودين حين نزول عيسى عليه السّلام، كما ذكره بعضهم تخصيص بلا دليل عليه.

و منها: ما أخرجه ابن المنذر عن شهر بن حوشب قال: «قال لي الحجاج: يا شهر، آية من كتاب اللّه تعالى ما قرأتها إلاّ اعترض في نفسي منها شيء، قال اللّه تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ و إنّي أوتى بالأسارى فاضرب أعناقهم و لا أسمعهم يقولون شيئا، فقلت: رفعت إليك على غير وجهها، إن النصراني إذا خرجت روحه - أي إذا قرب خروجها كما في رواية اخرى - ضربته الملائكة من قبله و من دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّه اللّه

ص: 121

تعالى، و أنّه ابن اللّه سبحانه، و أنّه ثالث ثلاثة عبد اللّه و روحه و كلمته، فيؤمن به حين لا ينفعه إيمانه. و أنّ اليهودي إذا خرجت نفسه ضربت الملائكة من قبله و دبره، و قالوا: أي خبيث إنّ المسيح الّذي زعمت أنّك قتلته عبد اللّه و روحه، فيؤمن به حين لا ينفعه الإيمان، فإذا كان عند نزول عيسى عليه السّلام آمنت به أحياؤهم كما آمنت به موتاهم. فقال: من أين أخذتها؟ فقلت: من محمّد بن علي، قال: لقد أخذتها من معدنها. قال شهر: و أيم اللّه تعالى ما حدثنيه إلاّ أم سلمة، و لكنّي أحببت أن أغيظه».

و هذا الحديث يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سينزل فيؤمن به الأحياء من أهل الكتاب حين نزوله، كما يدلّ على أنّ أهل الكتاب قبل نزوله عليه السّلام أيضا يؤمنون به حين موتهم لانكشاف الحقائق حين الموت و إن لم ينفعهم هذا الإيمان، لانقطاع التكليف حينئذ كما يدلّ عليه ردّ إيمان فرعون حين أدركه الغرق قال تعالى: حَتّى إِذا أَدْرَكَهُ اَلْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ اَلْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [سورة يونس، الآية: 90-92].

و منها ما رواه ابن المنذر و غيره عن ابن عباس في تفسير الآية كذلك، فقيل له: أ رأيت إن خرّ من فوق بيت ؟ قال: يتكلم به في الهواء، فقيل: أ رأيت إن ضربت عنقه ؟ قال: يتلجلج بها لسانه» و غير ذلك من الروايات الّتي تدلّ على هذا المعنى.

و المستفاد من مجموعها أنّها تحرّضهم على الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه مع انتفاء الجدوى، كما في آخر لحظات الانتزاع كما تقدّم.

القول الثاني: أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، و المراد به إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السّلام عند نزوله من السماء في آخر الزمان، فتختصّ الآية المباركة بخصوص الموجودين عند نزوله، و استدلّ عليه بجملة من الروايات.

ص: 122

منها: ما أخرجه أحمد عن أبي هريرة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الخنزير و يمحو الصليب، و تجمع له الصلاة، و يعطى المال حتّى لا يقبل، و يضع الخراج، و ينزل الروحاء فيحجّ منها أو يعتمر أو يجمعهما».

و أشكل على هذا القول بأنّه تخصيص لعموم الآية الشريفة بالإحياء عند نزول عيسى عليه السّلام بلا دليل، بل هو خلاف ظاهر الآية الشريفة الدالّ على إيمان جميعهم، و أمّا الأخبار الّتي استدلّ بها على هذا المعنى فإنّها لم ترد مفسّرة للآية المباركة.

و لكن يمكن الجواب عن ذلك بأنّ الأخبار هذه بمجموعها يمكن الاستدلال بها، لا سيما بعد ما ورد في بعضها من استشهاد أبي هريرة على ذلك بالآية الكريمة، فلا يمكن الإعراض عنها.

و قد استشكل بعضهم على هذا المعنى أيضا بأنّه مبني على القول بأنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع الى السماء قبل وفاته.

و ردّ: بأنّه لا نصّ عليه في القرآن حتّى يكون قرينة له.

و لكن المناقشة بضميمة روايات صحاح متعدّدة دالّة على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و أنّه رفع عن العذاب، لا تبقي مجالا لهذا الإشكال.

و قيل: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى اللّه تعالى - و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة، بل بعيد عن سياقها كما هو واضح.

القول الثالث: إنّ الضمير الأوّل (به) يرجع الى محمّد صلّى اللّه عليه و آله. و هو بعيد جدا، فإنّه لم يجر ذكره صلّى اللّه عليه و آله قبل ذلك حتّى يعود إليه الضمير. نعم ورد ذلك في بعض الروايات و لكنّه ليس من باب التفسير، بل هو من ذكر بعض المصاديق كما هو شائع في الروايات الّتي وردت في بيان الآيات الشريفة.

و الحقّ هو رجوع الضمير الثاني «موته» إلى عيسى عليه السّلام، فتدل الآية المباركة على حياته عليه السّلام و إيمانهم جميعا به قبل موته عليه السّلام، و إن كان إيمان بعضهم اختياريا و هم الموجودون عند نزوله، و إيمان بعضهم الآخر اضطراريا و هم الّذين

ص: 123

يموتون قبل نزوله عليه السّلام كما عرفت، و لا يقدح ذلك في دلالة الآية الشريفة بعد ظهور عمومها، و يمكن أن يستدلّ عليه امور:

الأوّل: أنّه الظاهر المتبادر من سياق الآية الكريمة، و إرجاع الضمير الثاني الى المبتدأ المقدّر يحتاج الى قرينة خاصّة لا سيما بعد رجوع الضمير الأوّل إليه عليه السّلام، و أفراد الضمير الثاني كما هو معلوم.

الثاني: أنّ وقوع هذه الآية الشريفة، بعد قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ - الى قوله تعالى - وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، لا بدّ أن يكون لبيان معنى زائد عمّا في الآية السابقة، و هو أنّ الّذين يدعون قتله و صلبه لا بدّ أن يذعنوا بأنّه حي لم يمت و يؤمنون به و لو كان إيمانهم اضطراريا.

الثالث: أنّ ذيل الآية المباركة وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً يدلّ على شهادة عيسى عليه السّلام عليهم جميعا يوم القيامة، و لا بدّ أن تكون شهادته عليه السّلام عامّة شاملة لجميع أفراد أهل الكتاب من حين بعثته عليه السّلام الى حين موته، فإذا كانت هذه الآية الكريمة تدلّ على إيمانهم جميعا به قبل الموت ينتج أنّه حي، ثمّ يمت حتّى تتمّ دلالة الآيتين المباركتين - الصدر و الذيل - معا، و يؤكّد ذلك قوله تعالى حاكيا عنه عليه السّلام في خصوص الشهادة: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة، الآية: 116-117]، فإنّه يدلّ على أنّ شهادته كانت في أيّام حياته فيهم قبل توفيه، و ذيل الآية الشريفة المتقدّمة يدلّ على أنّ شهادته كانت على الجميع، فلو كان المؤمن به هو الجميع - كما يدلّ عليه صدر الآية المتقدّمة - فينتج أنّه لم يتوف إلاّ بعد الجميع، فهو حي و لم يمت و سيعود إليهم حتّى يؤمنوا به، فإن أدركه أحد منهم كان إيمانه اختياريا و إلاّ فيؤمنون به عند موته.

ص: 124

الرابع: جملة كثيرة من الروايات الّتي تدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود إليهم فيؤمن به أهل الكتاب، و يأتي نقل بعضها في البحث الروائي إن شاء اللّه تعالى.

الخامس: أنّ هذا المعنى يجمع القولين المزبورين، فإنّه يدلّ على أنّ كلّ أحد من أهل الكتاب يؤمن بحقيقة عيسى عليه السّلام قبل الموت و إزهاق روحه و إن كان إيمانه اضطراريا لا ينفعه، لانقطاع التكليف حينئذ - كما عرفت - و هو مفاد القول الأوّل، كما يدلّ على أنّ عيسى عليه السّلام لم يمت و سيعود و يؤمن به من كان حيّا من أهل الكتاب قبل موته عليه السّلام، و هذا هو مفاد القول الثاني.

و هذا المعنى الّذي استظهرناه يدلّ على إيمانهم جميعا قبل موته عليه السّلام، فمن كان حيا عند نزوله، فإيمانه مبني على اختياره، و إلاّ فهو يؤمن به عند موته لانكشاف الحقائق حين الموت، ففي الحديث: «الناس نيام إذا ماتوا انتبهوا»، أي: إذا قرب خروج الروح تظهر الحقائق و تنكشف الواقعيات فيندم على ما فعل و قصّر، و لكن لا ينفعه الندم.

ثمّ إنّه يمكن أن يستشكل على هذا المعنى بوجوه، منها: ما تقدّم في القول الثاني و قد أجبنا عنه.

و منها: أنّ بعض الآيات المباركة الّتي وردت في مواضع متفرّقة ربما يستفاد منها خلاف ذلك، فإنّ قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً يدلّ على أنّ غلف القلوب هو نقمة عظيمة كتبها اللّه تعالى عليهم، لسوء أفعالهم و قبح صفاتهم و فساد أخلاقهم كما عرفت في تفسيره آنفا، فلا يؤمن هذا الجمع بما هو جمع الى يوم القيامة.

و لكن ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية الشريفة لا تدلّ على انتفاء الإيمان منهم البتة، بل الإيمان يتحقّق منهم و لو كان المؤمنون قليلا من كثير، يضاف الى ذلك أنّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ يدلّ على تحقّق

ص: 125

الإيمان منهم قبل الموت، سواء كان إيمانا مقبولا أم لم يكن بأن كان اضطراريا، فهو يدلّ على وقوع أصل الإيمان منهم.

كما أنّ قوله تعالى: إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية: 55] يدلّ على أنّ من يكفر بعيسى عليه السّلام منهم من هو باق الى يوم القيامة، و إن كانوا مغلولبين من قبل المؤمنين به.

و لكن الإنصاف أنّه لا يدلّ على بقائهم بعنوان كونهم أهل الكتاب و كافرين بعيسى عليه السّلام بالخصوص، بل الآية الشريفة تدلّ على أن الّذين آمنوا بعيسى عليه السّلام سوف يكون لهم منزلة و شوكة بعد نزوله و إيمان الناس به و اتّحاد الأديان كلّها في الاعتقاد، و أنّهم فوق الّذين كفروا الّذين يعاندون الحقّ .

كما أنّ الاستدلال بقوله تعالى: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [سورة المائدة، الآية: 117] على بقاء الكافرين بعد توفي عيسى عليه السّلام غير وجيه؛ لأنّ ظاهر الآية الشريفة تبيّن أنّه نبي مبعوث الى الناس جميعا، و أنّه منزّه عمّا نسب إليه، سواء كان من اليهود أم النصارى أم غيرهم، فهو بريء ممّا نسب إليه الناس مطلقا، فتكون شهادته على أعمالهم جميعا، و رقابته عزّ و جلّ بعد توفيه عليه السّلام لم تختص بأهل الكتاب بل الناس كلّهم. و أنّه سيبقى الكافرون لكن لا بعنوان كونهم من أهل الكتاب فقط.

و المتحصّل من جميع ذلك: أنّ الآية الشريفة في المقام بضميمة سائر الآيات الكريمة تدلّ على أنّ جميع أهل الكتاب بل جميع الناس سوف يؤمنون بعيسى عليه السّلام، و أنّه حي لم يمت و يعود فيؤمن به الأحياء، فتتّحد الأديان كلّها، و أمّا من مات من أهل الكتاب قبل نزوله فإنّه يؤمن بحقّيته عند موته، و تقدّم ما يتعلّق بعدم موت عيسى عليه السّلام في سورة آل عمران فراجع، و سيأتي في البحث الروائي و التاريخي ما يتعلّق به.

ثمّ إنّ الزمخشري ذكر في المقام أنّ الآية الكريمة يجوز أن يراد منها أنّه لا يبقى

ص: 126

أحد من جميع أهل الكتاب إلاّ ليؤمنن به على أنّ اللّه تعالى يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان و يعلّمهم نزوله و ما انزل إليه، و يؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم.

و ما ذكره قول بالرجعة، و قد دلّت الأدلة الكثيرة على ثبوتها و تحقّقها، لكن لها حدودا و قيودا مذكورة في محلّها، و ليست هي بهذا العموم و الشمول الّذي ذكره.

و كيف كان، فصدور مثل هذا الكلام عن مثل الزمخشري لدليل على الاعتقاد بالرجعة الّتي ينكرها جمع كثير من علماء الجمهور، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام في هذا الموضع المهمّ إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً .

الضمير في «يكون» يرجع الى عيسى عليه السّلام، أي: و يوم القيامة يكون عيسى عليه السّلام شهيدا على أهل الكتاب جميعا ممّن آمن به إيمانا صادقا، فيشهد له كذلك، و من كان إيمانه اضطراريا لا ينتفع به يكون شهيدا عليهم.

و هذه الآية المباركة قرينة اخرى على أنّ الضمير في «موته» يرجع الى عيسى عليه السّلام، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا .

تفريع على ما سبق، و الباء للسببية، و التنوين في فَبِظُلْمٍ للتفخيم، و التنكير للتهويل، و إبهام الظلم و هو بدل ممّا تقدّم من مخازيهم و فجائعهم، و التعبير عن اليهود بهذا العنوان إيذانا لشناعة فعلهم و عظمة ظلمهم، كما هو دأبه تبارك و تعالى عند تقريعهم و تذكيرهم بمظالمهم و فجائعهم التعبير به كما في غير هذا المقام أيضا، و فيه تذكير لهم بأنّهم هم الّذين تابوا من عبادة العجل و المعاصي و أخذ منهم المواثيق.

و المعنى: أنّه بسبب ظلمهم العظيم الخارج عن حدود الوصف و الأشباه و النظائر، حرّمنا عليهم الطيبات بعد أن أحلّها اللّه تعالى عليهم.

قوله تعالى: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ .

فقد أحلّ عزّ و جلّ كلّ الطيبات لهم، كما يدلّ قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [سورة آل عمران، الآية:

ص: 127

فقد أحلّ عزّ و جلّ كلّ الطيبات لهم، كما يدلّ قوله تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ [سورة آل عمران، الآية:

93].

و في تقديم فَبِظُلْمٍ على حَرَّمْنا للدلالة على الحصر، أي: أنّ اللّه لم يحرّم عليهم شيئا من الطيبات إلاّ بسبب مظالمهم الفجيعة، و قد حكي عزّ و جلّ ما حرّم عليهم في قوله تعالى: وَ عَلَى اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [سورة الانعام، الآية: 147]، و قد ورد في التوراة ذكر بعض ما حرّم عليهم من حيوانات البرّ و البحر أيضا.

و الآية الشريفة تدلّ على أنّ كلّ معصية و ظلم يصدر من الإنسان له أثر خاصّ به، سواء كان دنيويّا أم اخرويّا أم يكون كلاهما معا، و من تلك الآثار أنّه يوقع صاحبه في شدّة من التكليف، فإذا كان الظلم نوعيّا صادرا من الامة، فإنّه يوجب رفع التوسعة عليهم، ففي الحديث: «لا تكونوا كبني إسرائيل، شدّدوا فشدّد اللّه عليهم».

قوله تعالى: وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ كَثِيراً .

عطف على قوله تعالى: فَبِظُلْمٍ المتكرّر و إعراضهم المستمر، و الصدّ الّذي هو من مظالمهم الفجيعة، فقد صدّوا عن سبيل اللّه بعصيانهم لأحكام اللّه تعالى و تعليمات موسى عليه السّلام و معاندتهم له و إعراضهم عن أنبيائه عزّ و جلّ و تكذيبهم لهم.

قوله تعالى: وَ أَخْذِهِمُ اَلرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ .

ظلم آخر من مظالمهم الشنيعة، و هو يدلّ على هتكهم حرمات اللّه تعالى، فإنّه عزّ و جلّ حرّم عليهم الربا كما حرّمه علينا، و لكنّهم خالفوه و أخذوا الربا حتّى عرفوا به في مرّ التاريخ.

قوله تعالى: وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ اَلنّاسِ بِالْباطِلِ .

أي بسبب أكلهم أموال الناس بالوجه المحرّم، كالرشوة و الخيانة و غيرهما من وجوه الظلم.

قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

ص: 128

عطف على حَرَّمْنا و هو بيان لجزائهم في الآخرة بعد بيان الجزاء في الدنيا، فإنّهم استوجبوا بسبب ظلمهم جزاءين..

أحدهما: في الدنيا، و قد حكى اللّه تعالى بعضه، من تحريم ما أحلّه اللّه تعالى من الطيبات. و هو عامّ يشمل جميع الّذين هادوا من الظالمين و غيرهم.

و الآخر: في الآخرة، و هو خاصّ بالكافرين منهم، و هو العذاب الأليم، و الاعتداد: التهيئة.

ص: 129

بحوث المقام
بحث أدبي

«جهرة» في قوله تعالى: فَقالُوا أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً في موضع الحال إمّا من المفعول الأوّل أو من المفعول الثاني، أي: معاينيين، و لا ضير في ذلك لاستلزام كلّ واحد للآخر، و قيل: يتعين الثاني لقربه منه.

و «تعدوا» في قوله تعالى: وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا بمعنى: لا تتجاوزوا، و أصله (تعدوا) بواوين، فاستثقلت الضمّة على لام الكلمة فحذفت فالتقى الساكنان فحذفت الواو الأولى.

و قرأه بعضهم: (لا تعدّوا) بفتح العين و تشديد الدال، و هو افتعال من العدوان، فأريد ادغام تاؤه في الدال فنقلت حركتها الى العين و قلبت دالا و أدغمت.

و أمّا قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ ، فقيل: في الكلام مقدّر و الجار و المجرور متعلّق به، و الباء للسببية. و «ما» مزيدة لتوكيدها، و يفيد سياق الجملة الحصر، و جوّز بعضهم أن تكون (ما) نكرة تامّة، و «نقضهم» بدلا منها.

و قيل: إنّ المقدّر (لعنّاهم) مؤخّرا لوروده مصرّحا به.

و ذهب جمع الى أنّ الجار و المجرور متعلّق «بحرّمنا» الآتي، فيكون قوله تعالى فَبِظُلْمٍ بدلا من قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ .

و ردّه بعضهم بأنّ فيه بعدا، لكثرة الفواصل بين البدل و المبدّل منه؛ و لأنّ المعطوف على السبب سبب، فيلزم تأخّر بعض أجزاء السبب للتحريم، و ذكروا وجوها أخر في المقام، فراجع المطولات.

و أمّا قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ جملة معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه، مسارعة لردّ زعمهم الفاسد.

ص: 130

و «قليلا» في قوله تعالى: فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً قيل إنّه منصوب على أنّه نعت لمصدر محذوف، أي: إلاّ إيمانا قليلا. و قد عرفت فساد هذا الاحتمال آنفا، لأنّ الإيمان بالمعنى الّذي ذكروه - و هو الإيمان ببعض الأنبياء و الكفر بالبعض الآخر - لا اعتبار به، كما صرّح به في الآيات السابقة. و الصحيح أنّه منصوب على الاستثناء من ضمير «لا يؤمنون».

و أما «بهتانا» في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً منصوب إمّا على أنّه مفعول به ل قَوْلِهِمْ ، و إمّا أن يكون صفة لمحذوف، أي: قولا «بهتانا».

و «يقينا» في قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً صفة للمقدّر، أي: ما قتلوه قتلا يقينا، و قيل: إنّه مفعول مطلق لفعل محذوف، و التقدير: (تيقنوا ذلك يقينا)، و لكنّه تطويل بلا طائل تحته.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ أنّ هذا السؤال الّذي يدلّ على عظيم جرأتهم على اللّه تعالى هو المقتضي للسؤال الثاني، و هو تنزيل كتاب من السماء، كما يدلّ على أنّ التجرّي على اللّه تعالى و رسله العظام ارتكز في نفوسهم من ذلك السؤال العظيم، و لعلّه لأجل هذا صار أكبر من السؤال الثاني.

و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ للإنسان مراقبة أقواله و أفعاله، فإنّه ربّما يوجب قول أو فعل سلب التوفيق عنه و يخلّف أثرا كبيرا على النفس و لو لم يظهر إلاّ بعد حين.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الأقوال تكشف عن نوايا النفوس و مخفيات القلوب، مهما حاول الشخص إخفاء منوياته و الستر على بواطن نفسه إلاّ أنّه قد

ص: 131

تظهر على فلتات لسانه، فتؤدي به الى الهلاك و الخسران، و تخلّف آثارا و خيمة على الذرية و الأعقاب، كما حكى عزّ و جلّ عن اليهود في الآيات المباركة المتقدّمة، فإنّ كلّ ما حلّ بهم من البوار و الخسران إنّما كان نتيجة أقوال السلف و أفعالهم الشنيعة، كما عرفت آنفا.

الثاني: يستفاد من قوله تعالى: وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً أنّ النكوص عن الطاعة و الإعراض عن متابعة الرسل و الأنبياء و الإصرار على المعاصي و الآثام، كلّ ذلك يوجب التشديد في التكليف و تفويض الأمر الى الرسل في إنزال العقاب، و تدلّ عليه آيات كثيرة، و تقدّم في قوله تعالى: وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ اَلْكِتابِ وَ اَلْحِكْمَةِ بعض الروايات الدالّة على ذلك أيضا، فإن إيتاء موسى عليه السّلام السلطان المبين إنّما كان بعد العصيان و سؤال الرؤية الّتي تدلّ على كفرهم و اتّخاذ العجل معبودا، فقد فوّض اللّه تعالى إليه ما يريد الأصلح لامته.

الثالث: قد ورد في هذه الآيات الشريفة النازلة في حقّ اليهود و أحوالهم لفظ الميثاق ثلاث مرّات، و استعمل فيهم في غير المقام كثيرا، و لعلّ الوجه في ذلك إمّا للإعلام بحقيقة حالهم بالنسبة الى العهود و المواثيق حتّى عرفوا بنقضها، فلا يغتر غيرهم بهم.

أو لأجل كثرة إصرارهم على المعاصي و ارتكاب الآثام، فشدّدوا على أنفسهم بإحكام العهود و تشديد المواثيق عليهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم، فيعتبر غيرهم من الأمم منهم، فلا يضيّقوا على أنفسهم بالإصرار على المعاصي حتّى لا يضيّق اللّه عليهم.

أو لأجل أنّ شريعة موسى عليه السّلام الّتي هي واحدة من الشرائع الإلهيّة المعروفة تعتبر الركيزة الاولى في بقية الشرائع، بل هي أولى شريعة كاملة بعد شريعة نوح عليه السّلام، و قد نزلت في مرحلة ما من النضج الفكري للإنسانيّة، و لذا عرفت هذه الشريعة بشريعة الوصايا و المواثيق، و أمّا شريعة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله فقد عرفت بشريعة الكمال و الاستكمال، لأنّها احتضنت جميع الشرائع السماويّة، لا سيما

ص: 132

الحنيفيّة الّتي أقرب الى الفطرة، و أمّا شريعة عيسى عليه السّلام فقد كانت امتدادا لشريعة موسى عليه السّلام.

الرابع: يستفاد من القيد في قوله تعالى: وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ أنّ قتل الأنبياء عليهم السّلام حرام في جميع الوجوه و الحالات، و أنّه لا يكون حقّا مطلقا، فإذا كان القتل حراما و باطلا لأنّه غير حقّ ، فيشمل الأذية و الإهانة و نحوهما؛ لأنّهما غير حقّ أيضا، فهي حرام و باطل بالنسبة إليهم.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ على نفي القتل الّذي زعمه اليهود و نفي الصلب الّذي يزعمه النصارى، و أنّ القتل أو الصلب كان في حقّ شبيه عيسى عليه السّلام، و لعلّ السرّ في هذا التشبيه هو أنّه لو رفع الى السماء ظاهرا بمرأى من الناس، لاستحكمت شبهة الألوهيّة فيه و سرت إلى بعض المؤمنين به.

كما أنّه لو غيّب عنهم المسيح عليه السّلام و رفع الى السماء في الخفاء من دون إلقاء الشبه على غيره، لاتّهموا أهله و المؤمنين به بإخفائه فعمّهم البلاء و كثر فيهم القتل و التنكيل و فضيحة النساء طلبا لإظهاره، و لعلّه لذلك عقّب سبحانه هذه الآية الشريفة بقوله: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، و هذا هو المكر الّذي أثبته لنفسه عزّ و جلّ في قوله تعالى: وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اَللّهُ وَ اَللّهُ خَيْرُ اَلْماكِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 54]، فإنّ مكره و تدبيره الخفي لا يكون إلاّ جاريا على الحكمة، و هو القوي العزيز الّذي لا يغلبه مكر الماكرين.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ أنّ الغاية من رفعه هو تكريم السيد المسيح برفعه من الأرض الّتي فيها الكافرون و الفساق و تطهيره منهم الى السماء الممحضة لتسبيحه عزّ و جلّ ، فكنّى سبحانه و تعالى عن ذلك برفعه إليه، و إلاّ فإنّ اللّه جلّ شأنه لا يخلو عنه مكان، و يؤكّد ذلك قوله تعالى في سورة آل عمران: وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية:

55].

ص: 133

السابع: يدلّ قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ على حياة السيد المسيح عليه السّلام و أنّه حي، و هو في مكان بعيد عن متناول أيدي الكافرين و المعاندين، و سينزل فيؤمن به أهل الكتاب الأحياء فتتّحد الأديان، و لعلّ هذا هو المراد من قوله تعالى: وَ جاعِلُ اَلَّذِينَ اِتَّبَعُوكَ فَوْقَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا [سورة آل عمران، الآية: 55]؛ لأنّ النصارى الّذين يدعون الإيمان به عليه السّلام قد أشركوا باللّه العظيم و ألّهوا المسيح و ثلّثوا الآلهة فلم تبق لهم شريعة، و أمّا اليهود فحالهم معروفة و قد حكى اللّه تعالى عنهم في مواضع متفرّقة، فلم يبق من الّذين اتّبعوه على دين الحقّ سوى ملّة إبراهيم عليه السّلام، و هم المؤمنون الموحدون حقّ التوحيد من قومه و من بعدهم المسلمون بدعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فهؤلاء فوق الّذين كفروا مستمرين الى يوم القيامة و هو يكون شهيدا عليهم، فيحكم على المؤمنين بإيمانهم و على الكافرين بكفرهم.

الثامن: يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ الرجعة الّتي هي رجوع بعض المؤمنين و بعض الكافرين عند ظهور مهدي هذه الامة [عجل اللّه تعالى فرجه الشريف]، نظرا لعموم قوله تعالى: مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ الشامل للأحياء الموجودين حين نزول المسيح عليه السّلام و بعضا من غيرهم الذين ماتوا على الكفر.

و كيف كان، فالرجعة هي من الأمور الّتي ثبتت بأدلّة كثيرة، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيها إن شاء اللّه تعالى.

التاسع: يدلّ سياق قوله تعالى: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً على أنّ سؤالهم الرؤية لم يكن لأجل الشوق و لا لألم الفراق، و لا لزيادة اليقين و نحو ذلك من الصفات الحسنة و الغايات المحمودة، بل كان عن عناد و لجاج و طغيان.

ص: 134

بحث روائي

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اَللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ أنّه نزل في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أوصيائه المعصومين، فأقرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنكروا أمير المؤمنين عليه السّلام وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً أي: ينالوا خيرا.

أقول: هذه الرواية و أمثالها كلّها من باب الجري و التطبيق و بيان أكمل المصاديق.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني في نقضهم ميثاقهم.

أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و قد أخذ اللّه تعالى منهم ذلك لأجل إكمال الحجّة عليهم؛ لأنّهم كانوا كثيرا ينقضون العهود، فأكّده سبحانه و تعالى بالميثاق، و مع ذلك نقضوه بكفرهم بآيات اللّه و قتل الأنبياء فحلّ عليهم العذاب.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اَللّهِ وَ قَتْلِهِمُ اَلْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ قال: «هؤلاء لم يقتلوا الأنبياء و إنّما قتلهم أجدادهم و أجداد أجدادهم فرضوا هؤلاء بذلك، فألزمهم اللّه القتل بفعل أجدادهم، فكذلك من رضي بفعل فقد لزمه و إن لم يفعله و الدليل على ذلك أيضا قوله تعالى في سورة البقرة: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اَللّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فهؤلاء لم يقتلوهم و لكنّهم رضوا بفعل آبائهم فلزمهم قتلهم.

أقول: لعلّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «من رضي بفعل قوم حشر معهم» مأخوذ من هذه الآيات الشريفة، و تقتضيه القاعدة أيضا؛ لأنّه نوع من التأييد و أنّ العقل يحكم بأنّ تأييد الظلم ظلم و قبيح، فإنّ نفس المقدمات الّتي كانت موجودة في نفس الفاعل و بها حصل الفعل من العلم، و الاختيار، و رفع الموانع و الغرض المزعوم، كلّها

ص: 135

موجودة في نفس هذا الشخص، و إنّما لم يتحقّق الفعل خارجا لأجل ظروف خاصّة يترقّب فرصة رفعها حتّى يوجد الفعل، و يشمله قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يحشر الناس حسب نياتهم».

إن قلت: ثبت في باب التجرّي أنّه لا عقاب على الفعل المخالف للواقع، فكيف بالنية ؟! و أنّ الثواب و العقاب بيده تعالى، فجعل الثاني على الواقع و الأوّل أعمّ كما يدلّ عليه كثير من الآيات المباركة و السنّة الشريفة.

قلت: هذا في الأحكام الفرعيّة و لا يجري في العقائد.

و ثانيا: أنّ المقام ليس من باب التجرّي أصلا؛ لأنّ حقيقته العلم - أو الاطمئنان المنجز شرعا أو عقلا - المخالف للواقع المتعلّق بالموضوعات الخارجيّة على تفصيل مذكور في علم الأصول، راجع كتابنا [تهذيب الأصول].

و ممّا ذكرنا ظهر دفع ما يقال: من أنّ العقائد هي أفعال الجوانح، فلا مانع من جريانه فيها كما في أفعال الجوارح، فإنّ العقيدة ليست موضوعا خارجيا، و إنّ الإيمان يدور مدارها.

و كيف كان، فإنّ المقام عناد مع الواقع - و الجهل و العلم أمران متضادان - أي: انتصار للباطل و تضييع للحقّ مع العلم و الاختيار و ذلك مبغوض عنده تعالى، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بالمقام.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ، قال: إن تقرأ هذه الآية: «قالوا قلوبنا غلف يكبتها الى أدبارها».

أقول: لا بدّ من حمل الرواية على التفسير، أي: تفسير هذه الآية هكذا، و إلاّ تدلّ الرواية على التحريف الّذي تنكره الإماميّة بل المسلمون، و قد دلّت روايات على صون التنزيل عن يد التحريف، و تعرّضنا لهذا البحث في المقدّمة للتفسير الّتي هي قيد التدوين نسأل اللّه تبارك و تعالى التيسر و التسهيل.

و في العيون بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: سألته عن قول اللّه

ص: 136

عزّ و جلّ : خَتَمَ اَللّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ قال: الطبع على قلوب الكفّار عقوبة على كفرهم كما قال اللّه عزّ و جلّ بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً .

أقول: تقدّم أنّ الطبع و إن كان منه تعالى لأنّه نحو عقوبة منه على العبد إلاّ أنّه باختياره كما اختار الكفر، فالمقدّمات أو الأسباب من العبد و إيجاد المسبّب عليها منه تعالى، و تقدّم ما يتعلّق بالاستثناء.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً أي: قولهم: إنّها فجرت.

أقول: و عن ابن عباس قال: «رموها بالزنا». و كيف كان فالرواية تدلّ على شدّة عداوة اليهود مع النصارى، حتّى بلغت باتّهام السيدة العذراء والدة المسيح اتهاما عظيما.

و في العيون بإسناده عن علقمة عن الصادق عليه السّلام في حديث: «ألم ينسبوا مريم بنت عمران الى أنّها حملت بصبي من رجل نجار اسمه يوسف ؟!».

أقول: لعلّ الإمام عليه السّلام في مقام بيان أنّ الكافرين فرّطوا في الطغيان و تمادوا فيه، فقد افتروا على جميع المقدّسات حتّى بالنسبة الى الباري جلّ شأنه، قال تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية: 30]، فكيف بالأنبياء و الأوصياء الأمثل فالأمثل، و يستفاد ذلك من الآيات الشريفة و الروايات الكثيرة.

و أخرج البخاري في تاريخه و الحاكم عن علي عليه السّلام قال: «قال لي النبي صلّى اللّه عليه و آله:

إنّ لك من عيسى مثلا، أبغضته اليهود حتّى بهتوا امه، و أحبّته النصارى حتّى أنزلوه المنزل الّذي ليس له».

أقول: هذا شأن كلّ ولي، فكيف بسيد الأوصياء و إمام العارفين، فقد شقي فيه فرقتان، أهل الإفراط و أهل التفريط، فمن أنزله عن مقامه الّذي جعله اللّه تعالى

ص: 137

له و أنكره فهو شقي، و من رفعه عن ذلك المقام بالغلو و عظّمه بأزيد ممّا وصفه اللّه تعالى فهو إفراط و معتقده كافر فهو في النار.

ثمّ إنّ الروايات الواردة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في فضل علي عليه السّلام فوق حدّ التواتر بكثير، مروية بطرق مختلفة عن العامّة و الخاصّة، و ليست الروايات من باب التمجيد و الترغيب، و إنّما هي من باب إظهار الحقيقة و الواقع و إعلام الحقّ الساطع، و سيأتي ما يتعلّق بها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و تقدّم ما في تفسير القمي في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ قال: حدثني أبي عن القاسم بن محمّد عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة، عن شهر بن حوشب: قال لي الحجاج: يا شهر آية في كتاب اللّه قد أعيتني، فقلت: أيّها الأمير أية آية هي ؟ فقال: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ ، و اللّه إنّي لآمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتّى يخمد، فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت، قال: كيف هو؟ قلت: إنّ عيسى ينزل قبل يوم القيامة الى الدنيا، فلا يبقى أهل ملّة يهودي و لا غيره إلاّ آمن به قبل موته و يصلّي خلف المهدي عليه السّلام، قال:

و يحك أنّي لك هذا؟ و من أين جئت به ؟ فقلت: حدّثني به محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم السّلام، فقال: و اللّه جئت بها من عين صافية».

أقول: إنّ ما تقتضيه القاعدة العقليّة أنّ الأديان السماويّة النازلة بواسطة الأنبياء عليهم السّلام على وجه هذه البسيطة، إنّما هدفها إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و سوقها إلى السعادة و ترقيتها؛ للوصول الى أسمى الفضائل و منتهى الكمال اللائق من الربّ الجليل في إفاضته على من يعمّرها، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 66]، فإن لم يكن كذلك تكون الغاية حينئذ ناقصة و النقص في تعالى مستحيل، فالغاية لا بدّ منها.

و هذا الهدف تحقّق في عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله مع ما طرأ عليه من الكدر و الاتعاب

ص: 138

و الآلام - بل هذه السنّة جارية في كلّ عصر من حياة الأنبياء عليهم السّلام - و لكن بعد ارتحاله و ارتحالهم الى الملأ الأعلى لم يبق ذلك مع أنّه لا بدّ و أن يتحقّق و يستمر، و إلاّ يستلزم الخلف المذكور، فتطبيق القوانين الإلهيّة على عامّة سكنة هذه الأرض ممّا لا بدّ منه، و لا يتحقّق ذلك إلاّ بإشراف شخص كامل من جميع الجهات لائق، مؤيّد، مرتبط بالسماء، يعرفه جميع الأنبياء، فهذه الصفات لا تجتمع إلاّ في مهدي هذه الامة، فبه يملأ الأرض عدلا و ينشر القسط فيها، و يرفع الظلم عنها، و يهبط المسيح من السماء حينئذ و يقتدي بداعي اللّه تعالى بعد ما أشرقت الأرض بنور ربّها و تحقّقت الأهداف السماويّة، فلا بدّ من مهدي هذه الامة و هبوط المسيح من السماء للهدف المنشود. و للكلام تتمّة يأتي التعرّض له في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما اخترناه في التفسير، فراجع و لا حاجة للتكرار.

ثمّ إنّ السيوطي ذكر في الدرّ المنثور في ضمن الآية الشريفة وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ رواية عن شهر بن حوشب أيضا، و تقدّمت الرواية في التفسير و هي متّفقة في أصل المضمون مع السابقة و إن اختلفت في بعض الجهات و هو لا يضرّ، سواء كانتا من باب التعدّد في القضية أم غير ذلك.

و في الدرّ المنثور عن ابن حبان عن أبي هريرة: انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «الأنبياء إخوان لعلات أمهاتهم شتى، و دينهم واحد، و إنّى أولى الناس بعيسى بن مريم، لأنّه لم يكن بيني و بينه نبي، و أنّه خليفتي على امتي، و أنّه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوا، رجل مربوع، الى الحمرة و البياض، عليه ثوبان ممصران، كأنّ رأسه يقطر و إن لم يصبه بلل، فيدق الصليب، و يقتل الخنزير و يضع الجزية و يدعو الناس الى الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه الملل كلّها إلاّ الإسلام، و يهلك اللّه في زمانه المسيح الدجال، ثمّ تقع الامنة على الأرض حتّى ترتع الأسود مع الإبل، و النمار مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و تلعب الصبيان بالحيات لا تضرّهم. فيمكث أربعين سنة ثمّ يتوفّى و يصلّي

ص: 139

عليه المسلمون و يدفنوه.

أقول: أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الأنبياء إخوان لعلات»، أي: أمهاتهم مختلفة و أبوهم واحد، فإنّ أكثرهم يرجعون الى إبراهيم عليه السّلام، و في حديث آخر: «الأنبياء أولاد علات»، أو لعلّه إشارة الى أن إيمانهم واحد و شرائعهم مختلفة حسب السير الاستكمالي، و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله: «عليه ثوبان ممصّران»، أي: الثياب الّتي فيها صفرة خفيفة.

و كيف كان، فالرواية تدلّ على ما ذكرنا، و ذيل الحديث يدلّ على عموم ما دل أنّ كلّ حي يذوق طعم الموت إلاّ الحي القيوم.

و عن البيهقي في الأسماء و الصفات: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم».

أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا. و الأحاديث في ظهور المهدي (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله عن الفريقين متواترة، و قد جمع صاحب كتاب (كنز العمال) المتقي الهندي تلك الروايات في كتاب خاصّ ، كما أنّ الروايات في نزول عيسى عليه السّلام عند ظهور المهدي مستفيضة بين الفريقين، فلا يبقى مجال للشكّ في كلّ منهما.

و في تفسير العياشي عن الحارث بن المغيرة عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه:

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية و أمثالها على محامل؛ لأنّها لا توافق ما تقدّم من الروايات، و مخالفة لسياق الآيات كما ذكرنا، و لعلّ مراده عليه السّلام - و اللّه العالم - أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام حسب ما يريده الربّ جلّت عظمته يستلزم الإيمان برسالة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اَللّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اِسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ [سورة الصف، الآية: 6]، فيظهر

ص: 140

للكتابي حقيقة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، كما يظهر له أنّ عيسى عليه السّلام نبي من أنبيائه تعالى و أنّ شريعته كسائر الشريعة الإلهيّة الّتي هي على حقّ ، و أنّها في طريق الاستكمال و الكمال حسب ما تقتضيه الظروف و الأعصار. إذا لا منافاة بين الروايات، و قد تقدّم منّا مكرّرا أنّ الأديان السماويّة إنّما نزلت لأجل إنقاذ البشرية من الشقاء و العذاب و استكمالها، و اختلافها إنّما يكون حسب اللياقة و الاستعداد، و إلاّ فالواقع و الحقيقة لا اختلاف فيها.

و في تفسير العياشي أيضا عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام: «في قول اللّه تعالى في عيسى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً فقال: إيمان أهل الكتاب إنّما هو لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: تقدّم الوجه في ذلك من أنّ الإيمان بعيسى عليه السّلام يستلزم الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله، و أنّ شريعة عيسى عليه السّلام الواقعيّة لا تخالف شريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله لأجل مصالح كثيرة، و أنّ المؤخّر من الأديان امتداد لما سبق منها.

و في تفسير العياشي عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال: «ليس من أحد من جميع الأديان يموت إلاّ رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا من الأولين و الآخرين».

أقول: الإمام عليه السّلام في مقام التشبيه و التمثيل، و لا يستفاد منها أنّه في مقام التطبيق و التفسير، و قد دلّت روايات كثيرة على أنّ المؤمن يرى أولياء اللّه تعالى عند نزع الروح أو في عالم البرزخ.

و في تفسير العياشي أيضا عن المفضّل بن عمر قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ فقال: «هذه نزلت فينا خاصّة، أنّه ليس رجل من ولد فاطمة يموت و لا يخرج من الدنيا حتّى يقرّ للإمام بإمامته كما أقرّ ولد يعقوب ليوسف حين قالوا: تاللّه لقد آثرك اللّه علينا».

أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب

ص: 141

أقول: ظهر وجه هذه الرواية ممّا تقدّم في الرواية السابقة، و أنّها من باب الجري، و المراد من قوله عليه السّلام: «فينا نزلت خاصّة» أنّ الجري و التشبيه ينطبق عليهم خاصّة، و غيرهم لا يمكن له التمثيل بالآية و التخصيص بولد فاطمة عليها السّلام؛ لأنّ فيهم من كان يرغب في الإمامة أو كان يدّعيها، و الإمامة منحة إلهيّة يهبها لمن له الأهليّة لها، و حين الموت يقرّ للإمام المعصوم و يعترف بإمامته، فإنّ الحقائق تنكشف في ذلك الوقت كما ثبت في محلّه.

و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوا عيسى عليه السّلام بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحر و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفوه و امه، فلما سمع عيسى عليه السّلام ذلك دعا عليهم فقال: «اللهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ امي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أمير هم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام، فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره بأنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة، فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه تعالى شبهه عليه فقتل و صلب».

أقول: اختلفت الروايات في الرجل الّذي القي عليه شبه عيسى عليه السّلام، ففي بعض الرويات أنّه الرجل الّذي ينافق عيسى عليه السّلام فقتل و هم يظنّون أنّه عيسى عليه السّلام، و في بعضها أنّه طيفانوس اليهودي دخل بيتا كان هو فيه فلم يجده فلما خرج ظنّوا أنّه عيسى عليه السّلام فأخذوه و قتل. و قيل غير ذلك. و هذا الاختلاف طبيعي و لم يكن مستبعدا؛ لأنّه يحصل في المجتمعات الّتي لا يسيطر عليها النظام و لا الحكم، فعند ما يفقد القانون هيمنته و يحصل الهرج و المرج و يريد كلّ حزب أو فئة أن يأخذ السلطة، ترى أنّ البريء يؤخذ عوض المجرم و يشتبه العامل بغيره، فالاشتباه غير عزيز، و لا جدوى في تعيين المشتبه بالذات بعد ما عرفت أنّ أصل التشبيه كان من الخوارق.

ص: 142

و في رواية عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاّ قَلِيلاً قال: «خمس خصال إذا ابتليتم بهنّ و أعوذ باللّه إن تدركوهن:

1 - لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتّى يعلنوا بها إلاّ فشافيهم الطاعون، و الأوجاع الّتي لم تكن مضت في أسلافهم الّذين مضوا.

2 - و لم ينقصوا الكيل و الميزان إلاّ أخذوا بالسنين و شدّة المؤنة و جور السلطان عليهم.

3 - و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلاّ منعوا القطر من السماء، و لو لا البهائم لم يمطروا.

4 - و لم ينقضوا عهد اللّه و عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إلاّ سلّط اللّه عليهم عدوا من غيرهم، فأخذ بعض ما في أيديهم.

5 - و ما لم يحكم أئمتهم بكتاب اللّه و يتخيّروا فيما أنزل اللّه، إلاّ جعل اللّه بأسهم بينهم».

أقول: يستفاد منها أنّ الخصال السيئة و الصفات المذمومة لها آثار وضعيّة، و المعروف بين أهل العرفان: «ارتكاب المحظورات يستلزم تحريم المباحات»، و عن بعضهم - بل جرّب ذلك - من أنّ الإسراف في ارتكاب المباحات يوجب حرمان المناجاة.

ثمّ إنّ الآثار قد تعمّ و إن كان سبب وجودها أشخاصا معنيين، و قد تتّصف بالشدّة و الضعف.

و في الكافي بإسناده عن عبد اللّه بن أبي يعفور قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من زرع حنطة في أرض فلم يزك زرعه و خرج زرعه كثير الشعير فبظلم عمله في ملك رقبة الأرض أو بظلم لمزارعيه و أكرته، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَبِظُلْمٍ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ يعني: لحوم الإبل و البقر و الغنم، و قال: إنّ إسرائيل كان إذا أكل من لحم الإبل هيّج عليه وجع

ص: 143

الخاصرة فحرّم على نفسه لحم الإبل، و ذلك من قبل أن تنزّل التوراة لم يحرمه و لم يأكله».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ قلّة الزرع و رفع البركة نحو عقوبة دنيويّة على ترك الواجب، و لعلّ المراد من قوله عليه السّلام: «خرج زرعه كثير الشعير» كناية عن قلّة الحنطة؛ لأنّه تطلق على مساحة حدّها ست شعرات من شعر البغل، أو من باب التنزيل.

و كيف كان، فالرواية من باب الجري و التطبيق.

بحث قرآني

تدلّ الآيات الشريفة على ذمّ أهل الكتاب و تأنيبهم و التشنيع على اليهود منهم خاصّة؛ لكثرة جرائمهم و فظاعة مظالمهم كما عدّدها عزّ و جلّ عليهم، و من المعلوم أنّ كثيرا من تلك الجرائم لم تصدر من اليهود الّذين عاصروا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بل صدرت من أسلافهم الّذين سألوا موسى عليه السّلام: أرنا اللّه جهرة، و هم الّذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، و هم الّذين عبدوا العجل، و هم الّذين قتلوا الأنبياء و كفروا بهم، و هم الّذين بهتوا على مريم عليها السّلام و نسبوا إليها أعظم فرية مع علمهم بطهارتها و تفضيلها على نساء العالمين، و هم الذين ادّعوا قتل المسيح عيسى بن مريم و غير ذلك ممّا سجّله عزّ و جلّ عليهم من أنواع الكفر و الظلم، و مؤاخذة الخلف بما فعله السلف أمر مرفوض في الشرائع الإلهيّة، لا سيما شريعة الإسلام فقد قال سبحانه و تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة فاطر، الآية: 18]، فلا بدّ من توجيه ذلك بأحد وجهين على سبيل منع الخلو.

أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 22]، و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين.

ص: 144

أحدهما: أن يكون الخلف قد رضي بما فعله السلف و اتّبع سيرتهم كما حكي عزّ و جلّ عن أقوام آخرين، قال تعالى: بَلْ قالُوا إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 22]، و كذلك قال سبحانه و تعالى: إِلاّ قالَ مُتْرَفُوها إِنّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ [سورة الزخرف، الآية: 23]، و تصل هذه المتابعة المذمومة إلى مرحلة تسمّى بعبادة السلف، فتستولي على جميع مشاعرهم فلم تنفعهم هداية المهتدين و لا موعظة الواعظين و لا حجج المحتجّين.

و لم يصل الإنسان الى هذه المرحلة من عبادة السلف إلاّ بعد طي مراحل متعدّدة؛ لأنّ الإنسان كائن إرادي أخلاقي حساس مختار، فلا تصدر منه الأفعال عفوا من دون فكر و روية بخلاف غيره من الحيوانات الّتي يصدر منها كثير من الأفعال بالمتابعة فقط، فإذا وصل الإنسان الى هذه الحالة و صار كغيره من الحيوانات، فلا بدّ أن يكون له أسباب عديدة قد ذكرها العلماء في مواضع متفرّقة من العلوم الإسلاميّة - كعلم الأخلاق، و علم السير و السلوك، و علم الأديان.

و ذكرنا ما يتعلّق بهذا الموضوع في أحد مباحثنا السابقة فراجع، و لعلّ قوله تعالى:

يَسْئَلُكَ أَهْلُ اَلْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ اَلسَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ إشارة الى هذا الوجه، فإن الخلف اتّبعوا سيرة السلف في السؤال عن امور من الأنبياء تكشف عن كفرهم و نقضهم للمواثيق.

ثانيهما: أنّ كثرة المعاصي الّتي صدرت من السلف و عظمتها كان لها الأثر الشديد في نفوسهم، بحيث سلبت منهم كلّ سبل الهداية كما يستفاد من قوله تعالى:

بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ ، و لم تقتصر تلك الآثار عليهم فقط، بل تأثّرت بها الأجيال الّتي من بعدهم، فإنّ للذنوب و الآثام آثارا واقعيّة لا بدّ من تحقّقها و تأثّر النفوس بها، و لا يمكن التخلّف عن ذلك كما ذكرنا في قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، و هذا ليس من باب الجزاء حتّى يقال إنّه يخالف قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة الأنعام، الآية: 164]، بل هي حقيقة واقعيّة لا دخل للاختيار فيها، إلاّ ما اختاره الشخص من السبب و المؤثّر، كما هو شأن سائر الحقائق الواقعيّة، فإنّ السمّ لا بدّ من أن يؤثّر في من

ص: 145

يشربه، و لا دخل للاختيار فيه إلاّ بالمعنى المعروف من أنّ الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار، و يمكن أن يستشهد لهذا الوجه بآيات المباركة كثيرة، منها: قوله تعالى حكاية عن نوح عليه السّلام: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى اَلْأَرْضِ مِنَ اَلْكافِرِينَ دَيّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاّ فاجِراً كَفّاراً [سورة نوح، الآية: 26 - 27]، و لعلّ قوله تعالى: بَلْ طَبَعَ اَللّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ إشارة الى هذا الوجه، كما أنّ العلم الحديث كشف عن وراثة بعض الصفات عن الأسلاف.

و هذا البحث نفيس ذكرنا ما يتعلّق بأصل الموضوع في سورة البقرة و غيرها في جملة من الآيات الشريفة و لا يسع الحال للتفصيل فيه، و سيأتي ما يتعلّق بالبحث إن شاء اللّه تعالى.

بحث عقائدي
اشارة

كانت حياة المسيح عليه السّلام من حين حمله و ولادته الى رفعه إلى السماء مليئة بالمعجزات و خوارق العادات كحياة أكثر الأنبياء عليهم السّلام - إبراهيم، و موسى، و يوسف عليهم السّلام - و لخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله أسماها و أشرفها. إلاّ أنّ هناك جوانب مهمة في حياة عيسى عليه السّلام اقتضت البحث عنها:

رفع المسيح الى السماء

الآيات الشريفة الّتي تقدّم تفسيرها تدلّ بوضوح على نفي الموت بجميع أنحائه - من القتل، و الصلب، و حتف الأنف - عن عيسى عليه السّلام بوجوه كثيرة:

الأوّل: قوله تعالى: وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ ، فإنّه عزّ و جلّ نفى القتل الّذي يدّعيه جماعة من أهل الكتاب كما نفى الصلب عنه عليه السّلام كما يزعمه جماعة اخرى، و كذا حتف الأنف؛ لأنّ جميعهم يتّفقون على نفيه عنه عليه السّلام، فقد نفي عنه الموت بجميع أسبابه كما عرفت.

ص: 146

و ظاهر الآية الشريفة أنّهم يدّعون إصابة القتل و الصلب بشخصه البدني عليه السّلام الّذي رفعه اللّه تعالى إليه.

الثاني: قوله تعالى: وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ ، فإنّه يدلّ على أنّ القتل و الصلب المزعومين في حقّه عليه السّلام إنّما كان بالنسبة إلى الشخص الّذي أوقع اللّه تعالى عليه شبه عيسى عليه السّلام لحكم كثيرة كما عرفت آنفا. و أما هو فقد نجّاه اللّه تعالى من أيديهم و سلم من قتلهم و صلبهم و حتف الأنف أيضا.

الثالث: قوله تعالى: بَلْ رَفَعَهُ اَللّهُ إِلَيْهِ ، فإنّه يدلّ على أنّ الرفع إنّما كان بهذا البدن الجسماني، فإنّ الإضراب عن ادّعاء القتل و الصلب بشخصه الجسماني لدليل واضح على أنّ الرفع بالبدن مع روحه لا أحدهما من دون الآخر، و إلاّ فلا فائدة في الإضراب، فإنّ الرفع لا يتمّ بمجرّد الروح بعد الموت بأي نحو كان، كما لا يتمّ بالبدن فقط.

و قد ذكرنا في التفسير أنّ الرفع هو تخليص له عليه السّلام من أيدي الكافرين المعاندين و نجاة من تعذيبهم، ثم بعد الرفع لا يعلم حاله من هذه الآية المباركة، بل دليل آخر يثبت حياته كما ستعرفه.

الرابع: قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ ، فإنّه يدلّ على حياته عليه السّلام و عدم موته بعد الرفع - كما عرفت في التفسير - و ليس هذا ببعيد عنه عليه السّلام، فإنّ حياته مليئة بالمعجزات من حين ولادته الى حين رفعه إليه عزّ و جلّ حتّى بعد نزوله و موته، فرفعه من الأرض تخليصا له من أيدي العتاة و الجبابرة و المعاندين و تكريما له، ثمّ حفظه تعالى بعد الرفع بعدم إصابة أي مكروه به و لا يذيقه الموت حتّى يقضي اللّه بنزوله.

و هذه كلّها خارقة للعادة دلّ الكتاب العزيز على ثبوتها و عضدته السنّة الشريفة، فلا يبقى بعد ذلك مجال لتأويل المبغضين و زيغ المعاندين.

فهذه هي عقيدة المسلمين في المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّتي هي معروفة من عصر نزول القرآن الكريم.

ص: 147

عقيدة اليهود في رفع المسيح

قد عرفت أنّهم اختلفوا فيه، فمنهم من يقول إنّه قتل، و منهم من يقول إنّه صلب، تبعا لاختلاف الروايات الواردة عنهم في هذا الموضوع، فالمعروف بينهم أنّ قتله كان بوشاية من اليهود و سعايتهم في قتله لدى الحاكم الروماني في بيت المقدس آنذاك - و هو (بيلاطس) المعروف بالشدّة و القسوة - فصلبه.

و روي أنّ رهطا من اليهود سبّوه بأن قالوا: هو الساحر ابن الساحرة و الفاعل ابن الفاعلة، فقذفه و امه، فلما سمع (عليه الصلاة و السّلام) ذلك دعا عليهم، فقال: «اللّهم أنت ربّي و أنا من روحك خرجت و بكلمتك خلقتني، و لم آتهم من تلقاء نفسي، اللهم فالعن من سبّني و سبّ أمّي»، فاستجاب اللّه دعاءه و مسخ الّذين سبّوه و سبّوا امه قردة و خنازير، فلما رأى ذلك يهودا رأس القوم و أميرهم فزع لذلك و خاف دعوته عليه أيضا، فاجتمعت كلمة اليهود على قتل عيسى عليه السّلام فبعث اللّه تعالى جبرئيل فأخبره أنّه يرفعه الى السماء، فقال لأصحابه: أيكم يرضى بأن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب و يدخل الجنّة ؟ فقال رجل منهم: أنا، فألقى اللّه شبهه فقتل و صلب، و قيل: كان رجل منافق فلما أرادوا قتله قال: أنا أدلكم عليه، فدخل بيت عيسى، فرفع عليه السّلام و ألقى شبهه على المنافق، فدخلوا عليه فقتلوه، و هم يظنّون أنّه عيسى.

و قال جمع كثير من المتكلّمين: إنّ اليهود لما قصدوا قتله رفعه اللّه الى السماء فخاف رؤساء اليهود من وقوع الفتنة بين عوامهم، فأخذوا إنسانا فقتلوه صلبوه، و لبّسوا على الناس أنّه هو المسيح، و الناس ما كانوا يعرفون المسيح إلاّ بالاسم.

و روي غير ذلك.

و جميع تلك الروايات لا يمكن الاعتماد عليها؛ لضعفها و تعارضها و فقد المرجّح بينها، فيتعين الرجوع الى القرآن الكريم - الكتاب الإلهي - فما وافقه يؤخذ

ص: 148

به و غيره يطرح. و قد عرفت أنّه عزّ و جلّ ذكر هذا الموضوع بإسهاب و بأسلوب واضح رصين ممّا لم يذكره عزّ و جلّ في غيره من قتل الأنبياء و المصلحين الّذين عرفت اليهود بقسوتهم عليهم و ضراوتهم بسفك دمائهم.

و لعمري إنّ مسألة الصلب لا تكون أكثر أهميّة من قتل اليهود للأنبياء بغير حقّ ، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم حيث جعل ذلك من مظاهر كفرهم و شدّد النكير عليهم و وبخهم عليه أعظم توبيخ - لو لا أنّ النصارى جعلوها أساس العقيدة المسيحيّة و أصل الدين عندهم، فمن آمن بالصلب و الفداء فقد فاز بالملكوت الأعلى و صحبة المسيح و الصلحاء و نجي من المهالك، و من كفر به فقد خاب و كان في الآخرة من الخاسرين.

و لأجل ذلك نحن نذكر في هذا البحث عقيدة النصارى في هذا الموضوع و ما استدلّوا به في إثباته و ما يمكن أن يورد عليه من الدليل العقلي و النقلي و بعض شبههم على سبيل الإيجاز.

عقيدة النصارى في الصلب

ترى النصارى أنّ صلب المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام إنّما كان فداء عن البشر؛ لأنّ آدم أبا البشر لما عصى اللّه تعالى بالأكل من الشجرة الّتي نهاه عزّ و جلّ عن الأكل منها، صار بذلك هو و جميع أفراد ذرّيته الى يوم يبعثون خطاة مستحقّين للعقاب بسبب ذنب أبيهم.

كما أنّهم مستحقّون للعقاب بذنوبهم أنفسهم و لما كان اللّه تعالى متّصفا بالعدل و الرحمة، فإذا أراد أن يعاقب آدم و ذرّيته كان منافيا لرحمته. و إذا لم يعاقبهم كان منافيا لعدله، فلا يكون عادلا، فكان عزّ و جلّ متردّدا بين العقاب و العفو حتّى عصر المسيح عليه السّلام، فحلّ ابنه (عزّ و جلّ ) الّذي هو نفسه في بطن امرأة من ذرّية آدم عليه السّلام فأولده منها ليكون إنسانا كاملا من حيث هو ابنها، و إلها كاملا من حيث

ص: 149

هو ابن اللّه - فإنّ ابن اللّه هو اللّه في عقيدتهم - تعالى اللّه عن ذلك علوا كبيرا، فهو معصوم من جميع معاصي بني آدم، و إن كان مثلهم يأكل مثل ما يأكلون و يشرب ممّا يشربون و يتلذّذ مثل ما يتلذّذون و يتألّم و مثل ما يتألّمون، و قد سخّر (عزّ و جلّ ) أعداءه لقتله أفظع قتله - و هو الصلب - لأجل فداء البشر و خلاصهم من الخطايا.

و عن بعضهم أنّ المسيح و اثنين معه صلبوا و لم يكن المسيح وحده، و سيأتي في الآيات المناسبة بطلان ذلك.

فداء المسيح
اشارة

تعتقد النصارى أنّ المسيح فدى نفسه لأجل خلاصهم من الخطايا و الأدناس، كما قال يوحنا في رسالته الاولى: و هو كفّارة لخطايا، ليس لخطايانا فقط بل لخطايا كلّ العالم أيضا.

و استدلّوا على هذه العقيدة بأمور:

الأوّل: التواتر، فقالوا: إنّها متواترة ثابتة عندهم خلفا عن سلف، لا يمكن إنكاره كما في غيره من المتواترات.

الثاني: أنّها وردت في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، و هي كتب مقدّسة لا يجوز إنكار ما فيها.

الثالث: أنّ كتب العهد العتيق بشّرت بالصلب و الفداء و نوّهت بهما تنويها.

الرابع: أنّ المسيح إذا كان قد نجا من أعدائه بعناية إلهية خاصّة، فأين ذهب ؟! و لما ذا لم يقف له أحد على عين و لا أثر؟!.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به لإثبات هذه العقيدة. و قبل أن نذكر المناقشة في أدلتهم تلك لا بدّ أن نطرح هذه المسألة على الأدلّة العقليّة.

ص: 150

الأدلة العقليّة تنافي الفداء

و الحقّ أنّ الأدلة العقليّة تنافي الفداء بوجوه كثيرة:

منها: أنّ هذه العقيدة تنادي بتجسّم الخالق و حلوله في أحد مخلوقاته و اتّخاذه أحد ذرّية آدم ابنا له، و كلّ ذلك مخالف للأدلّة القطعيّة الدالّة على أنّه الإله الواحد الأحد الّذي لم يتّخذ صاحبة و لا ولدا، و ليس كمثله شيء، الّذي تنزّه عن مجانسة مخلوقاته. و قد ذكر العلماء تلك الأدلّة العقليّة و النقليّة في مواضع متفرّقة من علوم متعدّدة.

و منها: أنّه يستلزم منها نسبة الجهل إليه تعالى و أنّه ظلّ مترددا و جاهلا لحلّ تلك المعضلة حتّى العصر الّذي ولد فيه عيسى عليه السّلام، فتفطّن الى حلّها، فجمع بين الرحمة و العدل في فداء المسيح عليه السّلام. و كلّ ذلك باطل بأدلّة عقليّة و نقليّة مذكورة في محلّها.

و منها: أنّ القول بهذه العقيدة يستلزم منه نقيضها؛ لأنّه تبارك و تعالى جمع بين صفتي الرحمة و العدل في صلب المسيح بن مريم عليه السّلام و فداه عن جميع البشر، و هذا يستلزم إعدام شخص بريء و تعذيبه بأشدّ العذاب و هو لا يستحقّه، و قد كان عليه السّلام لا يرغب هذا العذاب - كما ستعرف - و هذا مناف لعدله عزّ و جلّ و رحمته، فصار عزّ و جلّ بذلك عادلا و غير عادل، و رحيما و غير رحيم، و هذا من التناقض الواضح.

إن قلت: يرد النقض بقوله تعالى بالنسبة لإبراهيم عليه السّلام حين أراد أن يذبح ولده إسماعيل عليه السّلام: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]، فعدم الاستحقاق مشترك بين الذبيح و بين أولئك فنتعدّى من فدية إبراهيم عليه السّلام الى فدية عيسى عليه السّلام.

قلت: أوّلا: أنّ فدية إبراهيم عليه السّلام لولده كان تكليفا شخصيا لأجل الوصول

ص: 151

الى المقام السامي الّذي خصّه اللّه تعالى به، كتكليف الجهاد بالنسبة الى من ثبتت شرائطه له أو التهجّد بالنسبة الى نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ كلّ شيء له خصوصية.

و ثانيا: فرق بين الفدائين فإنّ فداء إبراهيم لولده لأجل الوصول الى المقام الأعلى، فإبراهيم و ولده عليهما السّلام نالا تلك المنزلة بالعمل الخاصّ المأمور به أي كائن وضعي له، لا لأجل نفي الجزاء الّذي يستحقّه غيرهما كما تقول النصارى بالنسبة الى عيسى عليه السّلام، و سياق الآيات المباركة يدلّ على ما ذكرناه.

و منها: أنّ من يعتقد بهذه العقيدة يقول إنّها لا تفيد إلاّ إذا آمن بها الناس، فلم ينفعهم الصلب و الفداء إذا كانوا كافرين بها، فيردّ عليهم:

أوّلا: فما حال الأقوام الّتي قد خلت من قبل عيسى عليه السّلام، الّذين لم يعرفوه و لم يعتقدوا بهذه العقيدة.

و ثانيا: أنّها لا تفيد لبقية الأقوام الّتي لم تعتقد بهذه العقيدة، فيختصّ الفداء بأفراد معدودين، فليس هو فداء لجميع البشر.

ثمّ إنّ بعد مصادمة هذه العقيدة للعقل و الأدلّة العقليّة الكثيرة كما عرفت، فهل ينفع مثل هذه العقيدة الباطلة ؟ و هل تسمّى مثل ذلك عقيدة و إيمانا يرفع أهمّ أمر عن الإنسان و هو الجزاء الّذي استحقّه بعمله ؟! فالثاني ثابت بدليل قطعي يحتاج رفعه الى دليل قطعي آخر.

و منها: أنّ الاعتقاد بهذه العقيدة يستلزم الجرأة على اللّه تعالى و على ارتكاب المعاصي و الآثام، فإنّ من أمن من الجزاء و المؤاخذة على أعماله هانت عليه جميع المعاصي فيرتكب جميع الشرور و الآثام، و هو يستلزم الإباحيّة المطلقة، و هذا ممّا فرضه جميع الملل و الأديان.

و منها: أنّ القول بها يستلزم مساواة المجرم و غير المجرم، و كونهما على حدّ سواء، فإنّ من اعتقد بهذه العقيدة تغفر ذنوبه كلّها، فكأنّما ليس له ذنب، و من لم يرتكب ذنبا و كان صالحا ليس له ذنب فصارا سيان في هذا الأمر، فإن قالوا:

يعذّب المجرم على شروره و خطاياه، يقال لهم: فما فائدة هذه العقيدة. و إن قالوا: إنّه

ص: 152

لا فرق بينها و بين الشفاعة الّتي ترفع العقاب و تحطّ الذنب. نقول: إنّهما يفترقان في كثير؛ لأنّ الشفاعة إنّما تتحقّق في مورد يكون للشخص ذنب مؤاخذ عليه و يستحقّ به العذاب، فيأتي الشفيع و يطلب من اللّه تعالى الغفران له و التوبة عليه، و هما من صفات الباري عزّ و جلّ ، قال تعالى: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28].

و بعبارة اخرى: الشفاعة هي طلب من اللّه تعالى إسقاط حقّه عن العبد المذنب، فأين هذا و عقيدة الصلب و الفداء؟! نعم، العفو الابتدائي عن المسيء من اختياره جلّ شأنه لو كان المسيء قابلا لشموله بأداء ما عليه من الكفّارات و غيرها، و هذا غير مرتبط بالفداء الّذي تقول به النصارى.

و فداء إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام أو فداء الحسين و موسى بن جعفر عليهم السّلام إمّا لأجل النيل الى أرفع المقامات، أو لأجل حفظ المبدأ و العقيدة، كالجهاد لأجل العقيدة، أو لأجل وجود صلاحية في المفدّين بكونهم مؤمنين منقطعين الى اللّه تعالى مظلومين، لا لكونهم ظالمين و معتدين على أنفسهم و على غيرهم، كما تقول النصارى.

إن قلت: طلب العفو ارتكاز كلّ خاطئ أو مسيء و لو لم يطلب خارجا، ففداء عيسى عليه السّلام و صلبه كان لأجل ذلك.

قلت: هذا نوع من تأنيب الضمير النفسي، فللعبد أن يخلّص نفسه بالتوبة و أداء ما عليه من الحقّ ، و لا ربط له بالفداء أصلا كما هو واضح.

و منها: أنّ جميع أفراد الإنسان يعتقدون أنّ العفو عن المسيء المذنب شيء حسن جميل، بل يعدّونه من مكارم الأخلاق و أحسن الفضائل، و لا يكون منافيا للعدل أبدا، فإذا كان من صفاته العليا المقدّسة العفو و الرحمة، فهو قادر على العفو عن المذنبين و غفران ذنوبهم من دون حاجة الى الصلب و الفداء، فيكون هذا عبثا و لغوا، و ينزّه الخالق عنهما.

ص: 153

هذه بعض الأدلّة العقليّة الّتي تدلّ على بطلان هذه العقيدة، و لأجل ذلك ذهب بعض من المسيحيين الى أنّ هذه العقيدة و عقيدة التثليث لا تعقل، و أنّ العمدة في إثباتهما النقل عن الكتب المقدّسة، و حينئذ لا بدّ من النظر في ما استدلّوا به كما ذكرناه آنفا.

المناقشة في ما استدلّوا على الفداء

أمّا الدليل الأوّل و هو دعوى التواتر، فهي مردودة؛ لأنّ التواتر عبارة عن إخبار عدد كثير في كلّ طبقة، و لا يحتمل فيهم تواطؤهم على الكذب، قد أدرك الطبقة الاولى منهم الخبر عن حسّ و عيان لا شبهة فيه، و إذا لاحظنا التواتر الّذي ادّعوه في إثبات هذه العقيدة نرى أنّه لا تتوفّر فيه الشروط، فإنّ الطبقة الاولى لا تخبر عن الصلب مشاهدة و لا تستند عن حسّ و عيان، بل تستند الى الّذين كتبوا الأناجيل، و هم بعد عصر الصلب و لا يؤمن عليهم الاشتباه؛ لأنّهم غير معصومين و لم يصل عددهم الى حدّ التواتر. مضافا الى ذلك أنّ جماعة من النصارى أنكروا الصلب و هم فرقة كبيرة منهم التاتوتسيون اتباع تاتيانوس تلميذ بوستينوس الشهيد. فلم يتوفّر الشرط الآخر من التواتر و هو إخبار كلّ طبقة عن سابقتها، بحيث يؤمن عليهم الوهم و الالتباس. فلا يمكن دعوى التواتر في هذه المسألة المهمّة.

و أمّا الدليل الثاني و هو ورود هذه القصة في جميع الأناجيل و رسائل العهد الجديد، فيردّ عليه..

أوّلا: أنّها لم تكن معصومة عن الخطأ و التحريف، و لم يوجد دليل على نسبتها الى المعصوم.

و ثانيا: أنّها معارضة بإنجيل برنابا الّذي ينكر الصلب قبل أن تصل إليه يد التحريف، فلا ندري حال بقية الأناجيل.

ص: 154

و ثالثا: أنّ كثيرا من الكتب المتقدّمة على تدوين الأناجيل تنكر الصلب، قال فوتيوس: إنّه قرأ كتاب رحلة الرسل - فيه أخبار بطرس، و يوحنا، و اندرواس، و توما، و نولس - «أنّ المسيح لم يصلب و لكن صلب غيره، و قد ضحك من صالبيه». و لاشتمال هذه الكتب على كثير من الحقائق الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، فقد حرّمت المجاميع الاولى من كتبهم قراءة هذه الكتب و الرسائل الّتي تخالف الأناجيل الأربعة، حتّى أنّهم أحرقوها و أتلفوها لئلاّ يقرأها أحد.

و رابعا: أنّ ما ورد في هذه الأناجيل من قصة الصلب و الفداء يناقض ما ورد في القرآن الكريم الكتاب الإلهي الّذي يقول في هذه القصة: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اِتِّباعَ اَلظَّنِّ كما هو الواقع كذلك، فلا دليل لهم على صحّتها، و سيأتي في الموضع المناسب البحث في حجّية الأناجيل الأربعة إن شاء اللّه تعالى.

و على فرض التنزيل، فإنّ الأناجيل في حدّ نفسها متعارضة في قضية الصلب، ننقل شاهدا واحدا، فإنّ النصارى يدّعون - كما عرفت - أنّ المسيح بذل نفسه باختياره فداء و كفّارة عن البشر، و لكن ورد في إنجيل متى أنّه حزن و كئب عند ما شعر بقرب أجله و طلب من اللّه أن يصرف عنه البلاء، فقد ورد فيه (ثم أخذ معه بطرس و ابني زبدي و ابتدأ يحزن و يكتئب (37)، فقال لهم: نفسي حزينة جدا حتّى الموت امكثوا هنا و اسهروا معي (38)، ثم تقدّم قليلا و خرّ على وجهه و كان يصلّي قائلا: يا أبتاه إن أمكن، فلتعبّر عني هذه الكأس، و لكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت (39)... فمضى أيضا ثانية، و صلّى قائلا: يا أبتاه إن لم يمكن أن تعبّر عني هذه الكأس إلاّ أن أشربها فلتكن مشيتك» (متى 26 الآيات من 37-42). و مثله ما ورد في لوقا 22 الآيات من 43-45. فإنّه يدلّ على جهله عليه السّلام بالحال، و تألّمه بل طلبه من أبيه إبطال هذه القضيّة الّتي اجتمع فيها العدل و الرحمة، و هذا كلّه مناف لألوهيّته المزعومة.

و أمّا الدليل الثالث، و هو بشارة كتب العهد العتيق بمسألة الصلب، فهي

ص: 155

موهونة بأنّه لم يرد فيها شيء يشير الى هذه القضية فضلا عن بشارتها، و ما ذكروه إن هو إلاّ من الموضوعات الّتي ذكروها في كتبهم و نسبوه الى السيد المسيح عليه السّلام، كما اعترف به جمع ممّن له خبرة بهذه الكتب.

و أمّا الدليل الرابع، فإنّه أشبه بالسفسطة، فهو يردّ على من يقول بأنّه عليه السّلام توفّاه اللّه تعالى في الدنيا ثم رفعه إليه عزّ و جلّ كما رفع إدريس عليه السّلام، و أمّا من قال بأنّ اللّه تعالى رفع جسده مع روحه إليه، فهو في مأمن من هذا الإشكال، و مع ذلك فإنّه لا إشكال في اختفاء قبر عيسى عليه السّلام، كما اختفت قبور كثيرة من الأنبياء و الصالحين، فهذا إخوة موسى عليه السّلام مات و لم يعرفه أحد منهم كما هو منصوص في آخر سفر تثنية الاشتراع من أسفار التوراة، فليكن عيسى عليه السّلام كذلك فإنّه بعد أن فرّ من أعداء اللّه تعالى الّذين أحاطوا به و قد خذله جميع الناس. و انفضوا من حوله فمات في مكان مجهول، و لا غرابة فيه.

هذا بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب و الفداء الّتي يعتقد بهما المسيحيون، و قد عرفت أنّها بالمعنى الّذي ذكروه مرفوضة عقلا و نقلا.

الفداء لرفع المكروه

هناك موضوع آخر و هو الفداء، بأن يفدي وليّ من أولياء اللّه تعالى نفسه و يعرضها لأنواع البلاء و المحن و صنوف التعذيب و يريق دمه في سبيل اللّه تعالى فداء عن المؤمنين به ليرفع عنهم المكروه و البلاء كما مرّ، فإنّ هذا أمر معقول، بل هو من أسمى الكمالات، و لم يتحمّل الأنبياء و الأوصياء صنوف العذاب و البلاء إلاّ لهذا الغرض، ففي الحديث أنّه كلما اشتدّ أذى المشركين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال صلّى اللّه عليه و آله:

«اللهم اهد قومي فإنّهم لا يعلمون». و ورد في تفسير قوله تعالى: وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ [سورة الصافات، الآية: 107]. أنّ اللّه تعالى رفع الذبح عن إسماعيل الذبح و دفع عنه المكروه بسبب فداء الحسين بن علي، فتحمّل أنواع المكاره و صنوف

ص: 156

العذاب من المؤمنين، و في بعض الأخبار أنّ موسى بن جعفر عليه السّلام دخل سجن هارون الرشيد و تحمّل من البلاء تفدية عن شيعته و دفع العذاب عنهم، فالفداء بهذا المعنى صحيح بل هو من المكارم و لم ينكره أحد، و لكنّه غير الفداء الّذي يدّعيه النصارى في رفع العذاب المستحقّ بسبب الذنوب و الآثام، فإنّ كلّ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [سورة النساء، الآية: 123]، إلاّ أن يراد منه الشفاعة بضرب من التأويل، و لكن لها شروط و حدود خاصّة ذكرناها في بحث الشفاعة، فراجع.

ثمّ إنّ بعض المؤرخين ذكر أنّ لهذه القضية جذورا تاريخيّة ترجع الى ما قبل عصر عيسى عليه السّلام، فقد وجدت في الأمم الوثنيّة، قال: إنّ تصوّر الخلاص بواسطة تقديم أحد الآلهة ذبيحة فداء عن الخطيئة قديم العهد عند الهنود الوثنيين و غيرهم، و ذكر الشواهد على ذلك. منها: ما يعتقد الهنود أنّ كرشنا المولود الّذي هو نفس الآله فشنوا تحرّك حنوا كي يخلّص الأرض من ثقل حملها، فأتاها و خلص الإنسان بتقديم ذبيحة منه»، و من أراد المزيد فليرجع الى كتب تأريخ الديانات.

الفرق بين الشفاعة و الفداء

قد عرفت أنّ الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون بالنسبة للسيد المسيح عليه السّلام لا يمكن قبوله لما يترتّب عليه من المحظورات العقليّة كما تقدّم.

و أمّا الشفاعة، فقد ثبتت بالأدلّة العقليّة و النقليّة، بل هي ممّا يأمله الخطاة الّذين عملوا السيئات و ذوو الحاجات في الدارين، و قد ذكرنا أنّ الشفاعة لها شروط خاصّة.

منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في الأعمال السيئة، فلا شفاعة في العقائد الفاسدة لجهة من الجهات، لا سيما إذا استلزمت الشرك باللّه العزيز.

و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون في حقوق اللّه تعالى، و أمّا في حقوق الناس فلا بدّ فيها من التراضي عن صاحب الحقّ ، و لا تنفع الشفاعة بدون رضاه.

ص: 157

و منها: أنّ الشفاعة إنّما تكون لأولياء اللّه تعالى بإذنه جلّ شأنه، قال تعالى:

وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ اِرْتَضى [سورة الأنبياء، الآية: 28]، و غير ذلك من الشروط الّتي ذكرناها في بحث الشفاعة، و لم تتحقّق واحدة منها في الفداء المزبور، فهما على طرفي التخالف، و لذا كانت الشفاعة أمرا مرغوبا و محبوبا، و أمّا الفداء بالمعنى الّذي يقوله المسيحيون، فهو أمر لا يقبله العقل و يرفضه الشرع.

بحث عرفاني

الأنبياء - الّذين هم أفضل أفراد البشر و أكملهم حسب درجاتهم - كلّهم من مظاهر شؤونه تعالى و أفعاله، و كلّ واحد منهم مظهر لأسمائه الخاصّة جلّ شأنه.

و فضّل بعضهم على بعض بشرف تقرّبهم الى حضرته جلّت عظمته - و إن كان جميعهم نالوا التقرّب إليه بمكانتهم و ارتباطهم معه تعالى - و لا يتحقّق ذلك التشرّف العظيم إلاّ بأداء أمانة الحقّ الملقاة على عواتقهم و تحمّل المشاق في سبيل إعلاء كلمته عزّ اسمه و التكلّف مع المشقّة الشديدة في إبلاغ رسالته، و تحمّل الأذى في سبيل هداية البشر الى السعادة بعد إنقاذهم من المهالك و القيام بالوساطة بينه تعالى و بين العباد.

و كلّما كانت الامة بعيدة عن الكمالات و المثل الإنسانيّة و الأخلاقيّة و منغمسة في الشرور و الماديات، كان تعب النبي و تحمّله أشدّ و تقرّبه الى اللّه أكثر، و لذا ورد في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «ما اوذي نبيّ مثل ما أوذيت» و لأجله - و لكمالات اخرى - تفوّق صلّى اللّه عليه و آله على جميع الأنبياء و إلاّ فإنّ الأنبياء جميعهم على حدّ سواء في إبلاغ الرسالة قال تعالى: مَا اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [سورة المائدة، الآية: 75]، و قال تعالى: وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ اَلرُّسُلُ [سورة آل عمران، الآية: 144].

و إنّما خصّ سبحانه و تعالى كلّ نبي بمعجزة خاصّة لتناسب زمانه بها

ص: 158

بالتحدّي من أهل عصره و قبولها من أمته؛ لأنّ المعجزات الصادرة عن الأنبياء عليهم السّلام ليست هي إلاّ خوارق العادات لإثبات دعوى رسالتهم بطريقة يقتنع بها المدّعون الى الإيمان، فيؤمنون بشريعتهم مثل إحياء الموتى و شفاء المرضى و غيرهما من معجزات المسيح عليه السّلام، فهي ليست إلاّ كإلقاء العصا فتصير حيّة تسعى، و نجاة بني إسرائيل من العذاب، و غرق فرعون و غيرها من معجزات موسى عليه السّلام الّتي تناسب عصر كلّ منهما.

و كذا معجزات نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله من تسبيح الحصا بين يديه، و نصرته في الغزوات مع قلّة عدد المسلمين، و تفوق حجّته على الخصام، و إخباره عن المغيّبات، و عروجه بجسمه الشريف الى السماء، و البشارة بنبوّته في كتب السماء على لسان الأنبياء عليهم السّلام و معجزته الباقية الخالدة (القرآن) و غيرها ممّا هو كثير.

ص: 159

و عن بعض الحكماء أنّ العقل الأوّل ليس إلاّ نفوسهم القدسية و باقي النفوس تتشرّف بالقرب إليه بالإفاضة من المعارف إليهم، أو التقرّب إليه تعالى بهدايتهم، أو استكمال نفوسهم بالإلهام منه عزّ و جلّ بواسطة تلك النفوس المعبّر عنها بالعقل الأوّل.

و كيف كان، فلا إشكال في قدسية نفوسهم و تفوّقها على البقيّة؛ و لذا يحصل لهم المعراج الجسماني لقرب نفوسهم به تعالى و تربية أجسامهم بالتربية الرحمانيّة و توطّن تلك الأرواح في تلك الأجسام، و سيأتي في الآيات المناسبة تفصيل الكلام.

و أمّا نفس نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، فهي في مقام جمع الجمع و مظهر للاسم الجامع الإلهي أصالة، فإنّ الكمالات و المعارف تفاض منها، و في الحديث عنه صلّى اللّه عليه و آله: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله أيضا: «أنا أبو الأرواح و أنا من نور اللّه و المؤمنون فيض نوري»، فيستفاد منه أنّ الأرواح المقدّسة وارثة أوليّة منه، و أنّ الأبوة هنا بمعنى الأشرفيّة و الأكمليّة، و يستفاد ذلك من بعض الآيات الشريفة كما يأتي، فأقرب النفوس و الأرواح الى نفس الأقدس هي نفوس المؤمنين حسب درجاتهم، و هذا بحث دقيق شريف نتعرّض له مفصّلا إن شاء اللّه تعالى، و إنّ قل الطالب له في هذه الأعصار.

ص: 160

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .......

اشارة

لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً (169) بعد ما ذكر سبحانه و تعالى مظالم اليهود و جرائمهم من عنادهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و نقضهم للمواثيق المؤكّدة، و كفرهم باللّه تعالى و آياته و رسله، و قتلهم الأنبياء بغير حقّ ، و غيرها من المظالم الّتي عدّدها تفصيلا للتذكير، و التحذير، و الموعظة، و بين جلّ شأنه أنّ كفرهم إنّما كان عن عناد و لجاج.

كما بيّن عزّ و جلّ الجزاء الّذي استحقّوه بسبب ظلمهم و فعلهم السيئات، و قد ذكر تعالى نوعين من العقاب الدنيوي - و هو التكاليف الشاقّة من تحريم الطيبات، و الحدود و التعزيرات و غيرها ممّا ذكره في غير المقام أيضا - و الاخروي و هو العذاب الأليم الّذي أعدّه اللّه تعالى لهم.

يذكر سبحانه و تعالى في هذه الآيات الشريفة جملة اخرى من الحقائق الّتي تتعلّق بأهل الكتاب، فقد استثنى عزّ و جلّ ممّا ذكره في اليهود آنفا الأخيار الّذين

ص: 161

آمنوا إيمانا صادقا، و هم الراسخون في العلم المؤمنون باللّه العظيم حق الإيمان فلا يشملهم ما شمل اليهود من الخسران و سوء العاقبة، فإنّ لهؤلاء المؤمنين أجرا عظيما لا يدركه أحد.

ثمّ يعقّب جلّت عظمته بعد بيان حال الطائفتين الكافرة الظالمة و المؤمنة إيمانا صادقا توطئة للمحاجّة مع النصارى بذكر حقيقة رئيسية في حياة الرسل و البشرية، و هي أنّ الوحي الى جميع الأنبياء و المرسلين شيء واحد، فما اوحي الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله هو ذاته الّذي اوحي الى النبيين من قبل، سواء كانوا المذكرين في القرآن الكريم الّذين قصّ عزّ و جلّ علينا أخبارهم أم غير المذكورين، فإنّه وحي واحد للرسل جميعا، و هو الدعوة الى عبادة الواحد الأحد الّذي لا شريك له كما أنّهم جميعا يشتركون في غاية واحدة، و هي لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ [سورة النساء، الآية: 165]، فلم يأخذ عزّ و جلّ الناس بميثاق الفطرة وحده، و لم يكلهم الى أنفسهم رحمة بهم، لأنّهم عرضة الأهواء الباطلة و الانحراف عن الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين لاختلاف طبائع الناس في هذا الأمر، و أخذ عهدا على نفسه أن لا يعذّب أحدا حتّى يبعث فيهم رسولا، فإذا كان الوحي واحد و الغاية متّحدة، فالإيمان بواحد من الرسل إيمانا صادقا يستدعي الإيمان ببقية المرسلين، فيكون الإيمان بخاتم المرسلين من جملة الإيمان بهم جميعا، و كفى بذلك شهادة على نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ اللّه يشهد للرسول و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا، فلا يضرّه صلّى اللّه عليه و آله إنكارهم و لا عدم شهادتهم بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما يضرّوا أنفسهم، أو يضرّون مجتمعهم، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة.

و بعد إقامة الحجّة عليهم و تذكيرهم بالفطرة المستقيمة، يعنف السياق على المنكرين و ينذر الكافرين - الّذين يصدّون عن سبيل اللّه و يعرضون الناس عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله - سوء العاقبة و يوعدهم أشدّ الوعيد، فلم يهدهم طريقا إلاّ طريق جهنّم.

ص: 162

و يوجّه الخطاب بعد أن كان مع أهل الكتاب الى الناس كافّة بشأن بعثة خاتم المرسلين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بعد إقامة الشهادة على صدق نبوّته، و يأمرهم بالإيمان به و بالرسل جميعا على استقامة، فإنّ الإيمان خير لهم من الكفر الّذي يوردهم الى الخسران.

و تختتم الآيات المباركة بحقيقة واقعيّة فيها تذكير للكافرين بأنّ اللّه تعالى غني عنهم لا يضرّه كفرهم، فإنّ للّه ملك السموات و الأرض و هو العليم الحكيم، و من حكمته أنّه لا يعاقبهم بكفرهم إلاّ بعد إرسال الرسل و إقامة الحجّة مع علمه بالكافرين و المؤمنين منهم.

التفسير

قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ .

استدراك من قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل و العاجل، و استثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ و ثبتوا على علمهم، فلم ينكروه عنادا و لجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب، و لم يتّبعوهم في مظالمهم و جرائمهم، فلم يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا من السماء، إنكارا لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب و الحكمة في دعوته الى الحقّ ، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن بدعا - من الرسل - فهو مثل سائر الأنبياء و المرسلين لم يدعهم إلاّ الى ما دعوا إليه، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل إليه و ما انزل من قبله، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة و الغاية و هم مشتركون في أغلب السجايا و الأخلاق، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 7-8]، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة، و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10].

ص: 163

استدراك من قوله تعالى: وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لبيان أنّ بعضهم على خلاف حالهم في الآجل و العاجل، و استثناء من أهل الكتاب الّذين ذكرت أحوالهم في الآيات الشريفة السابقة، فإنّ بعضهم لم يكن كذلك فقد علموا بالحقّ و ثبتوا على علمهم، فلم ينكروه عنادا و لجاجا كما فعله غيرهم من أهل الكتاب، و لم يتّبعوهم في مظالمهم و جرائمهم، فلم يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله أن ينزل عليهم كتابا من السماء، إنكارا لما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إعلاما منهم بأنّه لا يكفي ما انزل على الرسول من الكتاب و الحكمة في دعوته الى الحقّ ، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله لم يكن بدعا - من الرسل - فهو مثل سائر الأنبياء و المرسلين لم يدعهم إلاّ الى ما دعوا إليه، فآمن هؤلاء الراسخون في العلم العارفون حقيقة الحال بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل إليه و ما انزل من قبله، بعد أن عرفوا أنّ الأنبياء على كثرتهم متّحدون في الدعوة و الغاية و هم مشتركون في أغلب السجايا و الأخلاق، قال تعالى: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ اَلذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ * وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ اَلطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 7-8]، فيستفاد منه أن لا امتياز بينهم في أصل الرسالة، كما تقدّم في البحث العرفاني في الآيات المباركة السابقة، و قال تعالى: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 10].

و يدلّ قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ على أنّ أهل الكتاب كلّهم كانوا يعلمون الحقّ و لكنهم أنكروه جحودا و عنادا، إلاّ من رسخ في علمه و ثبت عليه و استقام، فتحقّق فيه سجيّة اتّباع الحقّ و الإيمان بالرسول العظيم صلّى اللّه عليه و آله.

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ .

وصف لهم بالإيمان بعد ما وصفهم بما يوجبه من الرسوخ في العلم، و إنّما عطف بينها ب (و) إيماء الى اختلافهما في الذات كما اختلفا في العنوان، و إعلاما بأنّ إيمانهم إيمان إذعان لا إيمان عصبيّة و جدل. و هذان الوصفان من أعلى الأوصاف، فإنّهما يدلان على كون الإيمان منهم على معرفة و يقين و ثبات، فلم يكن عن جهل و قوميّة أو عصيبة ظلماء، فيكون ذلك بأهل الكتاب أنسب منه بالمؤمنين من غيرهم، الّذين وصفهم عزّ و جلّ بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: 6]، و إنّما آمنوا بما انزل على الرسول و ما انزل من قبله؛ لأنّهم عرفوا أنّ الأنبياء كلّهم متّحدون في الدعوة و الغاية كما عرفت.

قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ .

جملة معطوفة على «الراسخون» - و مثلها جملة «و المؤتون الزّكاة» - تبيّن وصفا آخر و هو إقامة الصلاة، أي أدائها على وجه الكمال و التمام، كما عرفت في اشتقاق هذه الكلمة في غير المقام.

و قد اختلف العلماء في إعراب هذه الجملة، فقيل: إنّها منصوبة على وجه المدح و الاختصاص، أي: أعني و أخصّ المقيمين الصلاة، فإنّهم أجدر بالرسوخ في

ص: 164

الإيمان، فيكون لإقامة الصلاة شأن خاصّ في الرسوخ في العلم و توفيقهم الى الإيمان و عنايته عزّ و جلّ بهم. و اختلاف مفردات الخطاب في الإعراب أسلوب بلاغي رفيع؛ لأنّه ينبّه الذهن الى التأمّل فيه، و يهدي الفكر الى استخراج المزايا الّتي وردت في الكلام، و له نظائر كثيرة في النطق كالتغيير في جرس الصوت و رفعه و خفضه و نحو ذلك، و في غير النطق أيضا ممّا استحدثت في هذه الأعصار.

و قيل: إنّها جملة مستأنفة منصوبة على المدح و الاختصاص.

و قيل: إنّ «المقيمين» معطوف على المجرور قبله، فيكون المعنى: يؤمنون بما انزل إليك، و ما انزل من قبلك على الرسل، و بالمقيمين الصلاة و هم:

إمّا الأنبياء الّذين وصفهم اللّه عزّ و جلّ بإقام الصلاة، قال تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ اَلْخَيْراتِ وَ إِقامَ اَلصَّلاةِ وَ إِيتاءَ اَلزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 73]، أو المؤمنون الّذين أمرنا اللّه تعالى باتّباع سبيلهم، قال تعالى:

وَ اِتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ [سورة لقمان، الآية: 15].

أو الملائكة الّذين حكى تعالى عنهم: وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلصَّافُّونَ * وَ إِنّا لَنَحْنُ اَلْمُسَبِّحُونَ [سورة الصافات، الآية: 165-166].

و اعترضوا على القول السابق بأنّ النصب على المدح إنّما يكون بعد إتمام الكلام، و هنا ليس كذلك لأنّ الخبر سيأتي.

و الجواب عنه أنّه لا دليل على ذلك، فيجوز الاعتراض بين المبتدأ و الخبر، فالنصب يجوز أن يكون لأجل مزيّة خاصّة، فإذا قلت: مررت بزيد الكريم، فإن أردت أن تعرف زيدا الكريم من زيد غير الكريم فالوجه الجرّ، و إن أردت المدح و الثناء فإن شئت نصبت، و قلت: مررت بزيد الكريم، كأنك قلت: اذكر الكريم. و إن شئت رفعت فقلت: الكريم على تقدير الكريم.

و قال بعضهم: إنّه معطوف على الضمير في «منهم»، فيكون المعنى: لكن الراسخون في العلم منهم و من المقيمين الصلاة.

و قال آخرون: إنّه معطوف على الضمير في «إليك».

ص: 165

و قيل: على الضمير في «قبلك»، أي: بما انزل من قبل و من قبل المقيمين الصلاة.

و روي أنّ الكلمة في مصحف ابن مسعود «و المقيمون الصلاة»، و ردّه بعضهم بأنّه ضعيف لم تثبت روايته عن ابن مسعود.

و الصحيح هو الوجه الأوّل؛ لما فيه من النكتة البلاغيّة الّتي لم توجد في غيره من الأقوال، و لبيان فضل الصلاة و عظيم أثرها من التوفيق و الهداية، و مثل ذلك غير عادم النظير في القرآن الكريم و كلمات الفصحاء، و قد تقدّم مثله في سورة البقرة أيضا فراجع.

و من ذلك كلّه يظهر بطلان ما قيل في أنّ النصب و هم أو لحن، استنادا الى ما روي عن عروة عن عائشة، قال: «سألتها عن قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ و عن قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: 69]، و قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: 63]؟ فقالت: يا ابن اختي، هذا عمل الكتّاب أخطئوا في الكتاب»، و ما روي أيضا: «من أنّ في كتاب اللّه أشياء ستصلحها العرب بألسنتها»، كلّ ذلك لا دليل عليه و لم تثبت روايته.

قال الزمخشري في الآية الشريفة: «نصب على المدح لبيان فضل الصلاة، و هو باب واسع قد كسّره سيبويه على أمثلة و شواهد، و لا يلتفت الى ما زعموا من وقوعه ظنّا في خطّ المصحف، و ربما التفت إليه من لم ينظر في الكتاب (أي كتاب سيبويه)، و لم يعرف مذاهب العرب و ما لهم من النصب على الاختصاص من الافتنان، و غبي عليه أنّ السابقين الأوّلين كانوا أبعد همّة في الغيرة على الإسلام و ذبّ المطاعن عنه من أن يتركوا في كتاب اللّه ثلمة ليسدّها من بعدهم، و خرقا يرفوه من يلحق بهم».

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْتُونَ اَلزَّكاةَ .

وصف آخر من أوصاف الراسخين في العالم من أهل الكتاب، و هو إيتاء

ص: 166

الزكاة الّتي هي قرين الصلاة في القرآن الكريم.

و إنّما قدّم الصلاة عليها؛ لأنّ الصلاة تزكّي النفوس و تعلي همّة الإنسان، فيهون عليها بذل المال، فإقامة الصلاة تستلزم إيتاء الزكاة دون العكس، قال تعالى: إِنَّ اَلْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذا مَسَّهُ اَلشَّرُّ جَزُوعاً * وَ إِذا مَسَّهُ اَلْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ اَلْمُصَلِّينَ [سورة المعارج، الآية: 19-22].

قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ .

عطف على «الراسخون» و بيان لوصف آخر و هو الإيمان بالمبدأ و المعاد، فإنّ الإيمان الحقّ ما كان مشتملا على الإيمان بالمبدأ الواقعي، و هو اللّه جلّ شأنه، و الإيمان بالمعاد، و الإيمان برسل اللّه تعالى الّذين أرسلهم لهداية البشر، و الإيمان بما جاء به الرسل من الحكمة و المعارف و التشريعات.

و قد وصف عزّ و جلّ إيمان الراسخين في العلم من أهل الكتاب بأوصاف جليلة تبيّن علوّ منزلتهم و كبر شأنهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أركان الإيمان المطلوب كما عرفت، و وصف إيمانهم بأنّه إيمان علم و معرفة و إذعان، و هو من أعلى درجات الإيمان، و لعلّه لأجل ذلك تكرّر لفظ «المؤمنون» في الآية المباركة تنويها لشرفهم.

قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً .

أي: أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف الجليلة الشأن سنعطيهم في الآخرة أجرا عظيما لا يوصف كنهه و لا يدرك حقيقته أحد إلاّ اللّه تعالى؛ لتناسب العطاء مع المعطي جلّ شأنه.

و قد أكّد عزّ و جلّ هذا الوعد بذكر (السين) و فخّمه بتنكير الأجر، و بيّن أهميّته بذكره مقابل ما أوعدهم غيرهم من أهل الكتاب بالعذاب الأليم.

قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ .

تعليل لما سبق ذكره في إيمان المستثنين، و ردّ على ما زعمه أهل الكتاب من الفرق بين أفراد الموحى إليهم، فقد أنكروا نبوّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله، و طلبوا منه إنزال

ص: 167

كتاب من السماء، فالآية الشريفة تبيّن أنّه رسول اللّه و أنّ شأنه في الوحي شأن سائر الأنبياء (عليهم الصلاة و السّلام)، و أنّ الوحي النازل منه تعالى واحد للرسل جميعا، فإنّه عزّ و جلّ بما له من العظمة و الكبرياء و ما له من مقام رحمته الّتي هي من شؤون ألوهيته و ربوبيّته أنزل الوحي على نوح و النبيين من بعده، و أنزل الوحي على رسول اللّه خاتم النبيين لهداية البشر، و لم يسأل أحد من الأنبياء قبلك أن ينزل عليهم كتابا كما سألوك؛ عنادا و لجاجا و تشكيكا منهم في نبوّتك، و إن سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا: أَرِنَا اَللّهَ جَهْرَةً [سورة النساء، الآية:

153]، فإنّ الوحي لشاهد قوي على صدقك و صدق الأنبياء قبلك إلاّ الراسخين في العلم منهم فقد آمنوا بك؛ لأنّهم علموا أنّ الوحي واحد، و الأنبياء عليهم السّلام كلّهم على نهج واحد، فإنّهم رسل مبشرون و منذرون، أرسلهم اللّه تعالى لإتمام الحجّة، و أنزل عليهم الوحي الّذي يشتمل على التوجيهات و التكاليف الّتي هي في صالح البشر و ترشدهم الى كمالهم المنشود.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ نوحا لأنّه أوّل نبي انزل عليه الكتاب و جاء بشريعة، و أمّا الأنبياء بعده فقد كانوا على شريعته الى إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام، فقد جاء بالحنيفيّة و شريعة جديدة، ثم الأنبياء من بعده على شريعته الى عصر موسى كليم اللّه عليهم السّلام، الّذي أتى بشريعة جديدة و انزل عليه التوراة، و أمّا الأنبياء بعده، فإنّهم كانوا على شريعته و منهاجا حتّى عصر عيسى عليه السّلام الّذي انزل عليه الإنجيل و أتى بشريعة.

و ما هو المعروف من أنّ المسيح ليست له شريعة غير شريعة موسى عليه السّلام كما هو ظاهر الآية الشريفة - أيضا - النازلة في شأن عيسى عليه السّلام: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران، الآية:

50] و غيرها من الآيات المباركة.

يمكن المناقشة فيه من أنّ التغيير أو التبديل في الشريعة السابقة يكفي في تأسيس الشريعة، و قد تقدّم منّا مكرّرا من أنّ الشرائع كلّها متّحدة، و أنّ كلّ

ص: 168

شريعة مكمّلة لما قبلها، و أنّ شريعة خاتم الأنبياء أكملها، و تدلّ على ذلك روايات كثيرة، منها ما عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت لاتّمم مكارم الأخلاق»، فشريعة عيسى عليه السّلام مكمّلة لشريعة موسى عليه السّلام و كانت شريعة عيسى عليه السّلام مستمرة الى عصر خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، فقد انزل عليه القرآن الكريم و أتى بشريعة تضمّنت جميع الشرائع الإلهيّة، فصارت خاتمة لها، فهو صلّى اللّه عليه و آله: «الخاتم لما سبق و الفاتح لما استقبل و المهيمن على ذلك كلّه».

قوله تعالى: وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً .

تفصيل بعد إجمال، فإنّ هؤلاء كلّهم أنبياء اللّه تعالى، و قد آمن بهم أهل الكتاب و انزل عليهم الوحي، و بعضهم جاء بشريعة و كتاب كإبراهيم و عيسى، و بعضهم أرسلوا بغير كتاب كأيوب و يونس، و هارون و سليمان و لكنّهم جميعا مشتركون في الوحي الإلهي، فلم يعترض عليهم أحد بإنزال كتاب كما اعترضوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّما قدّم إبراهيم عليه السّلام تشريفا له؛ لأنّه عليه السّلام أبو الأنبياء الّذين بعده، و قد اعترفت بنبوّته جميع الأديان الإلهيّة، و ذكر عيسى عليه السّلام مقدّما على غيره من الأنبياء عليهم السّلام تحقيقا لنبوّته و قطعا لمنازعة اليهود فيه.

و الأسباط: هم من ذرّية يعقوب عليه السّلام، و هي جمع سبط الّذي يطلق على ولد الولد، و هم اثنا عشر، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ * [سورة آل عمران، الآية: 84] بعض الكلام.

و إنّما خصّ زبور داود عليه السّلام بالذكر؛ لأنّ له شأنا خاصّا عند أهل الكتاب، و إلاّ فلا يخرج عن سائر أفراد الوحي.

قوله تعالى: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ .

أي: و أرسلنا رسلا غير هؤلاء المذكورين قد قصصناهم عليك من قبل

ص: 169

نزول هذه السورة، فإنّهم رسل اللّه تعالى و أوحى عزّ و جلّ إليهم ما أوحى الى هؤلاء المذكورين. و قد ذكر تعالى جملة من قصصهم في سورتي هود و الشعراء.

قوله تعالى: وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ .

فإنّ القرآن الكريم لم يذكر جميع الأنبياء و المرسلين، و إنّما ذكر بعضهم و بعضا من أحوالهم و أحوال أمتهم للعظة و العبرة.

قوله تعالى: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً .

مزيّة خاصّة لموسى عليه السّلام لم تكن لغيره من الأنبياء عليهم السّلام حتّى عرف بينهم ب (كليم اللّه)، و هو نوع من أقسام الوحي الّتي سيأتي ذكرها في بحث خاصّ ، و قد تقدّم البحث في كلام اللّه تعالى في سورة البقرة الآية - 253 في قوله تعالى: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اَللّهُ .

و إنّما أكّد عزّ و جلّ ذلك بقوله: تَكْلِيماً ؛ لرفع كلّ تأويل و مجاز في المقام، فإنّ التكلّم حصل بين موسى عليه السّلام و بينه جلّ شأنه كرارا و مرارا، كما حصل لنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله في ليلة المعراج.

قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ .

أي: أنّ أولئك الرسل الّذين منهم من قصصنا عليك و منهم من لم نقصص عليك إنّما هو ذو أحوال - أو أوصاف ثلاث - رسلا أرسلهم اللّه تعالى لهداية البشر و إخراجهم من الضلالة و العمى الى النور، و أوحى إليهم ما يوجب كمالهم، لعدم كفاية داعي الفطرة و العقل في الهداية، و عدم اغنائهما عن بعث الرسل، مبشرين لمن آمن و أطاع و عمل صالحا بالثواب الجزيل و الأجر العظيم، و منذرين: لمن تولّى و كفر و عصى بالوعيد و العذاب الأليم.

و إنّما كانوا مبشّرين و منذرين؛ لاختلاف طبائع الناس؛ لأنّ منهم من يكتفي فيه بالبشارة فيؤمن، و منهم من لا يهتدي إلاّ بالإنذار و التخويف.

أو لأنّ الإنسان لما كان مركبا من قوى متخالفة و ذا أمزجة متعدّدة فبعضها تقهر بالتطميع و التبشير، و بعضها لا يفيده إلاّ التخويف و التشديد، و العاقل إنّما

ص: 170

يتحكّم في هذه القوى بهاتين الركيزتين اللتين ذكرهما عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة، و هما مصدر الرجاء و الخوف.

بل يستفاد من الآيات المباركة الواردة في الثواب و العقاب في القرآن الكريم أنّ الإنسان إنّما يحيي و يكون صالحا بهاتين الخصلتين - الخوف و الرجاء - و هما أهمّ الدعامات في التربية الإسلاميّة، و لا يمكن أن تستوفي الفوائد المترتّبة عليها إلاّ بهما، فلما اقترن ذكرها بأهمّ حدث في الإنسانيّة و هو الرسالة لعظيم أثرها و عدم استغنائها منهما.

قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ .

غاية من غايات بعث الرسل و الأنبياء، و هي تنبئ عن عظيم لطفه بعباده و عنايته بهم، حيث جعل لهم حجّة عليه عزّ و جلّ لو لم يبعث الرسل إليهم، و لم يكتف بما أنعم عليهم من السمع و الأبصار و الأفئدة، و ما أودع فيهم من الفطرة الداعية الى التوحيد و الحقّ و العدل، و أنّ من كرمه عزّ و جلّ بهم أنّه لم يكلهم الى أنفسهم رغم ما وهب لهم العقل، لعلمه الأتم بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و الضلال في العقل الموهوب، و انتكاس الفطرة، بل أرسل إليهم رسلا مبشّرين و منذرين لينيروا لهم الطريق و يرشدوهم الى ما أفسدوه من الفطرة باتّباع الشهوات و فعل المعاصي و الآثام؛ لئلاّ يكون للناس على اللّه حجّة بعد إرسال الرسل و تبليغهم للشريعة، فلا يعتذروا بالجهل و يكون الثواب و العقاب على طبق قانون العقل.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً .

أي: له العزّة و الحكمة المطلقتان، فلم يغلبه أحد في أمر يريده، و يستحيل أن يغلبه شخص بحجّة، فإنّ له الحجّة البالغة، لكن من حكمته أنّه قطع حجّتهم بإرسال الرسل و بعث الأنبياء و تشريع الشرائع و إنزال الكتب لهدايتهم.

قوله تعالى: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ .

استدراك عمّا قبله و يتضمّن معنى الاستثناء و الردّ عليهم و تبكيتهم بإنكارهم

ص: 171

لنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و عدم شهادتهم بها مع علمهم بالمشهود به و وضوحه لديهم، و مع ذلك كلّه ينكرون و يكابرون بالشهادة و الإيمان و يكفرون به صلّى اللّه عليه و آله و بما أنزلنا إليه فيسألونه أن ينزل عليهم كتابا من السماء، و قد ردّ عليهم بأنّهم سألوا موسى عليه السّلام أكبر من ذلك، و أنّهم في سؤالهم هذا مكابرون؛ لأنّ ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما اوحي إليه هو نفس ما اوحي الى سائر النبيين، و أنّ الوحي واحد و الغاية متّحدة، فإن لم تلزمهم الحجّة و يشهدوا لك بالنبوّة و الرسالة، فاللّه تعالى يشهد بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و صدق ما انزل إليه، و هذه مزيّة خاصّة لنبوّة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه عزّ و جلّ يشهد بحقيقة ما انزل إليه، و هو يكفي في الشهادة على نبوّته و صدقه صلّى اللّه عليه و آله لإعجازه، فلا يحتاج الى إنزال كتاب آخر، و فيه الردّ على سؤالهم و لجاجهم.

قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ .

تأييد آخر لصدق ما انزل الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله و حقيقته، و بيان الى أنّ ما انزل إليه إنّما كان عن علم بجميع خصوصيات المنزل و إحاطته به إحاطة تامّة يسلم عن كلّ باطل و زيغ، و تتضمّن الآية الشريفة أمورا كثيرة.

منها: أنّ ما انزل إليه صلّى اللّه عليه و آله هو من علمه الأتم، فيحتوي على جميع الحقائق الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة و التشريعات الربانيّة فتكون هذه مزيّة فائقة على جميع الكتب الإلهيّة.

و منها: أنّه أنزله بعلمه الخاصّ الّذي لا يعلمه غيره، فيكون معجزة خارقة للعادة، يعجز عنه كلّ بليغ و صاحب بيان.

و منها: أنّه أنزله بعلمه لئلاّ يفسده الشيطان، فيضع الباطل مكان الحقّ أو يخلطه، فيدخل شيئا من الباطل في الوحي الإلهي الحقّ ، قال تعالى: عالِمُ اَلْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ اِرْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً [سورة الجن، الآية: 27-28].

ص: 172

و منها: أنّه أنزله بعلمه فقط فلم يعلم به غيره عزّ و جلّ أبدا، لا أنت و لا قومك و لا غيرهم، قال تعالى: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ اَلْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ اَلْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ [سورة هود، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا اَلْكِتابُ وَ لاَ اَلْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا [سورة الشورى، الآية: 52].

و منها: انّما أنزله بعلم تامّ بأنّك أهل لإنزاله عليك، و علمه بأنّك تقوم بأعباء الرسالة خير قيام. و هذه الجملة المباركة تتضمّن هذه المعاني الدقيقة و غيرها ممّا لم يسع أفهامنا إليه، و هي تكفي في الدلالة على إعجاز هذا الكتاب العظيم و صدق المنزل عليه، و حقيقة ما جاء صلّى اللّه عليه و آله به، فسبحان من يعلم دقائق الأمور و خفياتها، كما فيه التبكيت العظيم لجهلهم و عنادهم.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً .

فإنّه تعالى هو العالم بجميع الأمور، فقد بالغ في الشهادة بجميع جوانبها و وجوهها على وجه لا تحتاج معه إلى شهادة غيره عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اَللّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا اَلْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ [سورة الأنعام، الآية: 19]، و قد حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم ما أوضح السبيل، و أنار الطريق، و نصب الدليل، و أزال الشبهة و كلّ ريب. و حقّا أن يقول سبحانه و تعالى: قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا اَلْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الأسراء، الآية:

88].

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اَللّهِ .

الخطاب مع أهل الكتاب، و فيه من التعنيف و التشديد عليهم ما لا يخفى؛ لأنّ الكفر إنّما كان بعد بيان الحجّة البالغة و الاحتجاج عليهم بثبوت نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و شهادته عزّ و جلّ و شهادة الملائكة عليها و تصديقه لما أنزله عزّ و جلّ

ص: 173

عليه صلّى اللّه عليه و آله، و بيان أنّ ما أنزله من الوحي عليه إنّما كان مثل ما اوحي الى النبيين من قبله، فمن أعرض بعد وضوح الحجّة، فإنّما يكون إعراضه عن ضلال، و كفره عن عناد و لجاج.

و المعنى: أنّ الّذين كفروا من أهل الكتاب بما انزل إليك، و صدّوا عن الحقّ بإنكار نبوّتك و كلّ ما يوجب السلوك الى رضوان اللّه تعالى، و حملوا غيرهم على الإعراض و التشكيك و التمويه و تلبيس الحقّ بالباطل، و المراد بسبيل اللّه هو بعثة خاتم الأنبياء و رسالته و الكتاب الّذي انزل عليه و كلّ ما اوحي إليه من التشريعات و التوجيهات و الحكم و المعارف.

و إنّما ذكره عزّ و جلّ بدل الكتاب؛ للدلالة على أنّه من طرق الحقّ و من سبل رضوان اللّه تعالى، و هذه شهادة اخرى على حقيقته، و ليشمل ما ورد في كتبهم من الأدلّة على نبوّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و البشارة ببعثته الّتي حرّفوها و أوّلوها بالباطل، و لبيان شناعة فعلهم بصدّهم عن سبيل اللّه تعالى مع ادّعائهم الإيمان به عزّ و جلّ ، و لترتيب الجزاء العظيم على فعلهم الّذي يذكره في الآية اللاحقة.

قوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً .

أي: فقد بعدوا عن الحقّ و سلوك طريق الهدى بعدا شاسعا بالكفر و الصدّ عن سبيل اللّه تعالى.

و إنّما كانوا على الضلال البعيد؛ لأنّهم كفروا و صدّوا و ضلّوا و أضلّوا، و لأن كفرهم كان بعد وضوح الحجّة و إلزامهم بها، فكان عن عناد للحقّ و استكبار عن قبوله، فكان ضلالهم بعيدا عن قبول كلّ ما يرشدهم الى الصراط المستقيم، فقد استولى الكفر على سمعهم و أبصارهم و لم يكادوا يفقهون سبيلا يوصلهم الى الحقّ .

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا .

تأكيد لما ورد في الآية الكريمة السابقة، و تثبيت لمضمونها لأهمّيّته، و المراد بالظلم هو الكفر و الصدّ عن سبيل للّه تعالى، فقد احتملوا ظلما كبيرا بصدّهم عنه و إضلال غيرهم عن الوصول الى الحقّ بكتمانه و تحريفه و تمويهه، فتكون الآية

ص: 174

المباركة بمنزلة التعليل لما ورد في الآية الشريفة السابقة، و تبيّن وجه كونهم على الضلال البعيد.

قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ .

لأنّ الظلم كان بعد وضوح الحجّة، و قد استولى الظلم على قلوبهم و أثّر في نفوسهم، فأفسد فطرتهم فلم تحتمل الغفران، و من سنّته جلّت عظمته أنّه لا يغفر لمن كان هذا حاله، بل يستحيل أن تتعلّق المغفرة بمثل هؤلاء.

قوله تعالى: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ .

لأنّهم ضلّوا ضلالا بعيدا و بعدوا عن جميع مسالك الخير و ما يوصل الى الكمال و الهداية و ابتعدوا عن سبيل اللّه تعالى، و ليس من سنّته عزّ و جلّ أن يهديهم طريقا يوصلهم الى الهداية و الجزاء الحسن إلاّ طريق جهنّم الّتي اختاروها بسوء أفعالهم و الفاسد من عقائدهم و أوغلوا السير فيه، فلم يستعدّوا للمغفرة و الهداية الى الحقّ و التوفيق الى الأعمال الصالحة الّتي هي طريق الجنّة.

قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً .

لسوء سرائرهم و فساد فطرتهم، فيدخلون جهنّم فيمكثون فيها أبدا، و إنّما أكّد الخلود بالتأييد لدفع احتمال أن يراد من الخلود المكث الطويل، أو للإعلام بأنّه لا تشملهم المغفرة و الشفاعة مطلقا.

قوله تعالى: وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اَللّهِ يَسِيراً .

أي: و كان ذلك الجزاء سهلا على اللّه تعالى، فإنّه القادر على كلّ شيء و لا يستعصي على قدرته ذلك، فلا ملجأ إلاّ الى اللّه تعالى و لا منجا من عذابه، فالكافرون و إن كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى و ضلّوا و أضلّوا و أوغلوا في الكفر و الظلم، و لكنّهم عاجزون أمام قدرته، و لا بدّ أن يرجعوا إليه ليروا جزاء أعمالهم، و لا مفرّ منه جلّ شأنه.

ص: 175

بحوث المقام
بحث أدبي

(من) في قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ تبعيضيّة متعلّقة ب «الراسخون»، و «منهم» في موضع الحال، و يشارك (المؤمنون) (الراسخون) في تعلّق (منهم) به كما عرفت.

و ذكر وصف الإيمان بعد وصف الرسوخ في العلم؛ لبيان أنّ الأخير هو الموجب له تنزيلا للاختلاف العنواني منزلة الاختلاف الذاتي.

و قد ذكر ما يتعلّق بإعراب قوله تعالى: وَ اَلْمُقِيمِينَ اَلصَّلاةَ ، و هو أحد المواضع في القرآن الكريم الّتي وقع الخلاف بين علماء النحو في إعرابها.

و الثاني: قوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [سورة طه، الآية: 63].

و الثالث: قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئُونَ [سورة المائدة، الآية: 69].

و الرابع: قوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ اَلصّالِحِينَ [سورة المنافقون، الآية: 10].

و قوله تعالى: أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً مبتدأ و خبر. و الإشارة بالبعيد تنويها بجلالة قدرهم، و الجملة خبر لقوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ ، و السين لتوكيد الوعد، و التنوين للتفخيم. و لا يخفى المناسبة بين طرفي الاستدراك، حيث أو عد الأوّلين بالعذاب الأليم، و وعد الراسخين بالأجر العظيم.

و جوّز بعضهم أن يكون خبر المبتدأ الأول: «الراسخون» جملة «يؤمنون»، و لكن المناسبة على هذا غير تامّة.

ص: 176

و الأسماء في قوله تعالى: إِبْراهِيمَ ... وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ كلّها أعجميّة إلاّ «الأسباط»، فقد وقع الخلاف فيها، فالمعروف أنّها ليست بأعجميّة، و في «يونس» لغات أفصحها بضمّ النون من غير همز، و قيل:

يجوز فتحها و كسرها مع الهمز و تركه.

و (زبور) بفتح الزاي، و هي القراءة المعروفة، و هو فعول بمعنى المفعول - كالحلوب و الركوب - و قرأ بعضهم بضمّ الزاي حيث وقع، و هو جمع زبر بالكسر فالسكون بمعنى مزبور، أي: مكتوب. أو زبر بالفتح و السكون كفلس و فلوس.

و قيل: إنّه مصدر كالقعود و الجلوس، و قيل: إنّه جمع زبور على حذف الزوائد.

و كيف كان فهو اسم لما انزل على داود عليه السّلام.

و (رسلا) في قوله تعالى: وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ منصوب بإضمار أرسلنا.

و جملة: وَ كَلَّمَ اَللّهُ مُوسى تَكْلِيماً برفع اسم الجلالة و نصب موسى، و قرأها بعضهم على القلب. و (تكليما) مصدر مؤكّد جيء به لرفع احتمال المجاز في الكلمة بأن يكون المراد من التكليم وحيا. و رفع احتمال المجاز في الإسناد بأن يكون المكلّم رسله من الملائكة.

و قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ إمّا أحوال ثلاثة و الأوّل حال و الأخيران وصفان له، أو أنّ الأوّل منصوب على المدح أو بإضمار (أرسلنا)، و قيل غير ذلك، و لكنّها بعيدة عن سياق الآية الشريفة.

و الباء في قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ قيل: إنّها للملابسة؛ لبيان أنّ جميع ما ورد في الكتاب إنّما يكون مع علمه عزّ و جلّ . و قيل: إنّه للآليّة، كما يقال: فعله بعلمه، إذا كان متقنا، فيكون وصفا للقرآن الكريم بكمال الحسن و البلاغة و الإتقان.

ص: 177

بحث دلالي

يدلّ قوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ على فضل العلم و أثره الكبير في كسب الكمالات و الحقائق الواقعيّة، و لعلّ ذكر قوله تعالى: وَ اَلْمُؤْمِنُونَ بعده؛ لبيان أنّ هؤلاء هم المؤمنون حقّا، و يؤكّد هذا أنّه عزّ و جلّ قد ذكر من أحوال أهل الكتاب عموما و اليهود على الخصوص، و وصفهم بالتذبذب و عدم الرسوخ في العلم و عدم الاستقرار على شيء من الحقّ مع ما استوثق منهم المواثيق المؤكّدة و العهود الغليظة.

فتبيّن الآية فضل الّذين استثناهم اللّه تعالى؛ لأنّهم اتّصفوا بأوصاف تدلّ على علوّ منزلتهم و رفيع مقامهم، و عظيم أجرهم الّذي وعده اللّه عزّ و جلّ للمؤمنين.

كما تدلّ الآية الشريفة على أنّ الإيمان مع العلم أعظم درجة من غيره؛ لأنّهم تلبّسوا بحقيقته و علموا بالذي اعتقدوه، فآمنوا بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و بما انزل إليه لما وجدوا أنّ نبوّته و الوحي الّذي انزل إليه مثل ما اوحي الى الأنبياء الماضين عليهم السّلام، فكان إيمانهم عن علم و معرفة، بخلاف غيرهم ممّن وصفه اللّه تعالى بالغفلة، فقال عزّ و جلّ : لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [سورة يس، الآية: 6].

و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في ذكر: وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ؛ لأنّ الإيمان به يستلزم الإيمان بما انزل قبله، للتأكيد على صدق إيمانهم، و لأنّ المقام مقام الفرق بين المؤمنين حقّا و أهل الكتاب الّذين يدّعون الإيمان بما انزل الى الأنبياء السابقين، فاستدعي ذكر ما انزل قبلا.

و الآية الشريفة بمجموعها تدلّ على ما يوجب الرسوخ في العلم، و هو الإيمان باللّه العظيم و الإيمان بالأنبياء على أنّهم رسل اللّه تعالى، بلا فرق بينهم إلاّ ما فضّله اللّه تعالى بما ذكره عزّ و جلّ في هذا المقام و غيره، و أنّ الغاية من بعثهم هي

ص: 178

تبليغ أحكامه عزّ و جلّ و تشريعاته المقدّسة، و الإيمان بأنّهم حقيقة واحدة بالنسبة الى الوحي، بلا فرق بينهم من هذه الجهة إلاّ في سعة التكاليف الّتي أنزلها اللّه تعالى عليهم و ضيّقها، و لكن الوحي واحد، و لذا عدّد عزّ و جلّ ذكر الأنبياء في المقام؛ لبيان أنّهم و إن كثروا في الأفراد إلاّ أنّهم واحد في الوحي كما تقدّم، و يدلّ على ذلك أنّ اللّه تعالى حكى عن الّذين استثناهم بقوله تعالى: لكِنِ اَلرّاسِخُونَ فِي اَلْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ - الى قوله تعالى - إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ اَلْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ الدال على أنّه بمنزل التعليل لإيمانهم.

كما أنّ المستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ من شروط الإيمان الواقعي و الرسوخ في العلم، هو العمل بما علمه الإنسان.

و يستفاد من قوله تعالى: لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ أنّ اللّه تعالى من عظيم لطفه بعباده و واسع رحمته أنّه لم يكل الإنسان الى نفسه، و لم يؤاخذهم بميثاق الفطرة؛ لعلمه بأنّهم عرضة للهوى و الانحراف و انتكاس الفطرة، فأثبت لهم حقّا قد يطالبوه به يوم الحساب، مع أنّ له الحجّة البالغة، فأرسل الرسل لهدايتهم و إرشادهم الى الكمال و تبيّن لهم الفطرة الّتي أودعها اللّه تعالى فيهم و تبعّدهم عن الفطرة المنحرفة الّتي تصدّهم عن الحقّ .

و تدلّ الآية الشريفة على أنّ هذا الحقّ الّذي أثبته عزّ و جلّ لهم لم يكن عن ضعف منه و غلبتهم عليه تعالى، بل كان عن حكمة متعالية رحمة بهم، و قد أكّد ذلك بقوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ، فهذه الآية المباركة درس عملي تربوي للإنسان بأنه لا بدّ من أن يبذل جهده في أن لا يثبت لغيره حقّا عليه يطالبه به في يوم لا يمكنه الأداء.

كما أنّ قوله تعالى: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ يدلّ على عظيم فضل ما انزل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله حيث تشرّف على سائر ما انزل على الأنبياء العظام عليهم السّلام بأنّه وحي

ص: 179

خاصّ من علم الباري عزّ و جلّ العالم بحقائق الأمور، و قد أبان فضله بأنّه ممّا يشهد عزّ و جلّ بذلك و الملائكة يشهدون، فإذا لم يشهد أحد بذلك، فإنّ اللّه تعالى شهيد، فصار للايحاء إليه صلّى اللّه عليه و آله مزيّة تفوق على الإيحاء إليهم.

و قد ذكر عزّ و جلّ في آخر الآيات المباركة حكم الّذين كفروا و صدّوا عن سبيل اللّه تعالى، و عنّف في الكلام معهم و شدّد النكير عليهم، و بيّن سوء حالهم يوم القيامة؛ لأنّهم ضلّوا عن عناد و لجاج و كفر بعد وضوح الحجّة و أضلّوا غيرهم، فكان عذابهم شديدا يناسب شناعة فعلهم.

و الآيات الشريفة بمجموعها تبيّن أحوال المؤمنين و الكافرين و المعاندين و تقابل بينهم في أوصافهم و جزاء أعمالهم؛ ليكون عبرة لغيرهم.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال: «من الأنبياء مستخفين، و لذلك خفي ذكرهم في القرآن، فلم يسمّوا كما سمّي من استعلن من الأنبياء، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ، يعني: لم اسم المستخففين كما سميت المستعلنين من الأنبياء».

أقول: إخفاؤهم في القرآن لا يستلزم إخفاءهم في السنّة أو في التواريخ المعتبرة، و عدم إظهاره في القرآن لأجل مصالح لا يعلمها إلاّ هو.

و تقدّم الفرق بين الرسول و النبي، فإنّ الأوّل يوحى إليه بواسطة جبرائيل، بخلاف الثاني يوحى إليه بواسطة ملك آخر أو بنوع من الإلهام.

و في الكافي أيضا بإسناده عن محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليهما السّلام: «قال اللّه لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ، و أمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل و السنّة».

ص: 180

أقول: المراد من السبيل هو الدين الحنيف، أي ملّة إبراهيم، و المراد من السنّة هي الطريقة المتّبعة الخاصّة.

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قال: «إنّي أوحيت إليك كما أوحيت الى نوح و النبيّين من بعده، فجمع له كلّ وحي».

أقول: يحتمل في الرواية وجوه:

الأوّل: أنّ الوحي النازل عليه كالوحي النازل على سائر الأنبياء لا تفاوت فيه، و يدلّ عليه ما تقدّم، و ما ورد عن ابن عباس قال: «قال مسكين و عدي بن زيد: يا محمّد ما نعلم اللّه أنزل على بشر من شيء بعد موسى عليه السّلام، فأنزل اللّه في ذلك: إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ اَلنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ ».

الثاني: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله أشرف و أكمل من الوحي النازل على غيره من الأنبياء؛ لتشرّف الموحى إليه على سائر الأنبياء، فمقتضى قاعدة التناسب و السنخيّة أن يكون وحيه كذلك، و يدلّ عليه ذيل الرواية.

الثالث: أنّ المعارف الإلهيّة و الأحكام الكليّة الّتي اوحيت الى سائر الأنبياء قد اوحيت إليك مع زيادة، و يدلّ على ذلك بعض الآيات الشريفة، مثل قوله تعالى:

كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ و غيره من الآيات المباركة.

الرابع: أنّ الوحي النازل عليه صلّى اللّه عليه و آله هو الوحي النازل على سائر الأنبياء عليهم السّلام بعينه في الأحكام جزئيّة و كلّية، و هذا بعيد عن سياق الآيات الشريفة و لم يوافقه ظاهر الرواية.

و كيف كان، فالرواية من باب التفسير للآية الكريمة.

و في الكافي بإسناده عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «أعطيت السور الطوال مكان التوراة، و أعطيت المئين مكان الإنجيل، و أعطيت المثاني مكان الزبور، و فضّلت بالمفصل ثمان و ستين سورة».

ص: 181

أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة القرآن على غيره من سائر الكتب السماويّة، و السور الطوال في القرآن الكريم هي: البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و التوبة، على أن يعدّ الأنفال و البراءة سورة واحدة، و سمّيتا بالقرينتين.

و المئين من بني إسرائيل الى سبع سور؛ لأنّ كلا منها تقرب مائة آية، و المفصل من سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله الى آخر القرآن الكريم، سمّيت به لكثرة الفواصل بينها.

و المثاني: بقية السور، و لا إشكال في أنّ المثاني من الأمور الإضافيّة، فيصحّ إطلاقها على جميع سور القرآن ما عدى الفاتحة، بل و يطلق عليها أيضا باعتبار تكرّرها في الصلاة كما تقدّم، و المراد من المثاني في المقام المعنى الإضافي لا الحقيقي، كما لا يخفى.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لكِنِ اَللّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ اَلْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللّهِ شَهِيداً بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام:

«إنّما نزلت في علي عليه السّلام، أنزله بعلمه و الملائكة يشهدون و كفى باللّه شهيدا».

أقول: الرواية من باب التفسير و التطبيق بأجلّ المصاديق و أشرفها، و لا يكون من التحريف و لا قراءة منه عليه السّلام.

و في الخصال عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «انّ اللّه ناجى موسى عليه السّلام بمائة ألف كلمة و أربع و عشرين ألف كلمة في ثلاثة أيّام و لياليهن، ما طعم فيها موسى عليه السّلام و لا شرب فيها، فلما انصرف الى بني إسرائيل و سمع كلامهم، مقتهم لما كان وقع في مسامعه من حلاوة كلام اللّه عزّ و جلّ ».

أقول: الظاهر أنّ العدد المذكور تقريبي - لا واقعي - فقد يكون أكثر أو أقلّ ، و إنّما كان ذلك في زمن معين لعلّه ذلك كان من سؤال موسى عليه السّلام من اللّه جلّت عظمته و من فعله، حتّى يستلذّ أكثر؛ و لذلك نسي كلّ شيء حتّى نفسه فلم يحس بالجوع و لا بالعطش. و بعد انصرافه عليه السّلام من المناجاة لم يألف بأي كلام و استوحش

ص: 182

منه و حصل له النفرة و البغض منه من أثر تلك اللذّة.

و في الاحتجاج في مكالمة اليهود النبي صلّى اللّه عليه و آله قالوا: «موسى خير منك ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: و لم ؟ قالوا: لأنّ اللّه تعالى كلّمه أربعة آلاف كلمة، و لم يكلّمك بشيء، فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله: لقد أعطيت أنا أفضل من ذلك، قالوا: و ما ذاك ؟ قال: قوله عزّ و جلّ : سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى ».

أقول: لا شكّ في أنّ المواجهة أفضل من المكالمة؛ لأنّ كلامه تعالى مع موسى عليه السّلام كان إحداث كلام في الشجرة - كما في بعض الروايات - منبعثا منها؛ و لذا كان يسمع من فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «كلّم اللّه موسى تكليما بلا جوارح و أدوات و شفة و لا لهوات، سبحانه و تعالى عن الصفات».

أقول: ثبت في الفلسفة الإلهيّة بالأدلّة القطعية تنزّهه سبحانه و تعالى عن الجسم و الجسمانيات، و تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بكلامه عزّ و جلّ فراجع.

في الكافي بإسناده عن محمّد بن الفضيل عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «نزل جبرئيل بهذه الآية هكذا: (ان الّذين ظلموا آل محمّد منهم لم يكن اللّه ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا إلاّ طريق جهنّم خالدين فيها أبدا و كان ذلك على اللّه يسيرا)، و قال: (يا أيّها الناس قد جاءكم الرسول بالحقّ من ربّكم في ولاية علي فآمنوا خيرا لكم و إن تكفروا بولايته فإنّ للّه ما في السموات و الأرض).

أقول: لا بدّ من حمل هذه الرواية بأنّ المراد من نزول جبرئيل الوحي مع التفسير بالمصداق، و إلاّ فالرواية تدلّ على نوع من التحريف، و نحن لا نقول به و ذكرنا في المقدّمة ما يتعلّق به.

و يحتمل أن يكون المصاديق من كلام الإمام عليه السّلام، ذكرها في ضمن الآية المباركة من باب الجري و التطبيق. و اللّه العالم.

ص: 183

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِ.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173) يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) بعد ما بيّن سبحانه و تعالى أنّ جميع الرسل و الأنبياء وحدة متكاملة و على سنّة واحدة، و هي الوحي من اللّه تعالى، و أنّ ما انزل الى الرسول صلّى اللّه عليه و آله هو من سنخ ما انزل على سائر الأنبياء العظام عليهم السّلام، و احتجّ على أهل الكتاب بحجج دامغة، و ردّ على سؤال أهل الكتاب من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تنزيل كتاب من اللّه تعالى بأنّ رسوله جاء بالحقّ و انزل عليه ما فيه من الحجج القاطعة الّتي لا يحتاج بعدها الى تنزيل كتاب، ثمّ عنّف على المنكرين من أهل الكتاب.

ففي هذه الآيات الشريفة يوجّه الخطاب الى الناس جميعا بعد وضوح الحجّة

ص: 184

بشأن بعثة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ الحجّة إذا قامت على أهل الكتاب بشهادة من اللّه تعالى و شهادة الملائكة و وجب عليهم الإيمان، فبالأولى تقوم على غيرهم، و بعد ظهور صدق التسوية فإنّه تصحّ دعوة الناس كافّة الى الرسول و الى ما انزل إليه، ثمّ يوجّه الخطاب الى أهل الكتاب مرّة اخرى؛ ليكفّوا عن انحرافاتهم، و يخاطب النصارى منهم بالخصوص لنبذ الغلو في دينهم و يلحقوا بالموحّدين و يؤمنوا بالرسول صلّى اللّه عليه و آله و بالرسل جميعا على استقامة، و يقرّوا بعيسى عليه السّلام بما أقرّوا به في غيره من الأنبياء و الرسل عليهم السّلام بأنّهم عباد اللّه و رسله الى خلقه. و يقيم الحجّة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى عليه السّلام بأسلوب واضح رصين.

و يختم عزّ و جلّ الآيات المباركة بنداء ربوبي رقيق للناس جميعا بالإيمان باللّه جلّ شأنه و الاعتصام به، فإنّه عزّ و جلّ سيدخلهم في رحمة منه و فضل، و يهديهم الى ما يسعدهم في الدنيا و الآخرة.

و من الإعجاز القرآني أنّ هذا النداء الربوبي يشتمل على أسلوب رقيق يحبّب الإيمان الى قلوب الناس، بعد تلك الجولة الطويلة مع المؤمنين و الزائغين و الكافرين.

و ممّا زاد في تأثير هذا النداء أنّه يتضمّن الوعد فقط، و لم يذكر فيها جزاء الكافرين؛ لأنّه نداء التحبّب و العطف، و ليس نداء الإنذار و العنف، و من حسن الختام أنّه كان في آخر هذه السورة.

و قد نزل في ختام تلك الجولة الطويلة الّتي كانت مع الناس و تناولت العقيدة و الإيمان و السلوك و المشاعر، و قد اشتملت على جميع سبل التربية الإسلاميّة لأهمّ قضية في حياة الإنسان، و هي قضية الإيمان باللّه تعالى و ما يترتّب عليها من المقتضيات.

فكانت هذه السورة من أمهات السور القرآنيّة الّتي تناولت العقيدة بجميع جوانبها بأحسن أسلوب و أتمّ وجه، فاشتملت على جميع التوجيهات الّتي تعدّ الامة المؤمنة لتحمل الأمانة الكبرى.

ص: 185

و تضمّنت من الأحكام العمليّة الفرديّة و الاجتماعيّة الّتي تجعل الامة المسلمة سعيدة و مطمئنة. و هذه السورة و إن طالت و تعدّدت موضوعاتها إلاّ أنّها ذات وحدة شاملة تربط بين موضوعاتها بصورة واضحة، و لها شخصيتها المميّزة و إن تشابهت موضوعاتها مع غيرها من السور.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ .

خطاب عامّ لجميع الناس، فإنّه بعد وضوح الحجّة و ظهور صدق الرسول صلّى اللّه عليه و آله و شهادة اللّه تعالى على نبوّته و ما انزل إليه، فقد صلحت الدعوة إلى كافّة الناس و لزمت الحجّة كلّ الأفراد لعموم رسالته صلّى اللّه عليه و آله.

و إنّما ذكر الرسول معرّفا؛ لأنّه هو الرسول الكامل المعروف لدى أهل الكتاب الّذي بشّر به، أو أنّه هو الّذي أقيمت الحجّة على صدقه و شهد تبارك و تعالى على بعثته آنفا، و أنّه قد ذكر موصوفا بالرسالة لتأكيد وجوب طاعته، و قد جاء بالحقّ من عند اللّه جلّ شأنه الّذي هو ربّكم و يريد من بعثته إليكم تربيتكم و إرشادكم الى الكمال اللائق بكم، فهذا تأكيد آخر و ترغيب للامتثال بعد الأمر بالإيمان به.

قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .

أي: إذا عرفتم ذلك و ظهرت الحجّة لكم فآمنوا به، فإنّ الإيمان خير لكم؛ لأنّه يزكّيكم و يطهّركم من الذنوب و الآثام و يؤهّلكم الى السعادة.

و اختلف العلماء في إعراب هذه الآية المباركة، و سيأتي في البحث الأدبي ما يتعلّق بذلك.

و في الآية الشريفة الترغيب الى الإيمان و تحبيب الناس إليه، فإنّ الإنسان بفطرته يسعى الى الخير و يطلبه في أي مورد كان.

ص: 186

قوله تعالى: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

أي: أنّ اللّه تعالى إنّما يأمركم بالإيمان لأنّه خير لكم، و إن عرضتم و كفرتم فإنّ اللّه غني عنكم و لا ينقص بكفركم منه شيء، فإنّ له كلّ شيء في السموات و الأرض - خلقا و ملكا و تصرّفا - فلا يتضرّر بالكفر كما لا ينتفع بالإيمان، فلا يخرج الإنسان بكفره عن ملكه و عبوديته، فهو القادر على جزائه بما يقتضيه كفره.

و تدلّ الآية الكريمة على أنّ الكافر مكابر لفطرته و عقله، فإنّه كيف يتأتّى منه الكفر مع علمه بأنّ له تعالى ما في السموات و الأرض.

قوله تعالى: وَ كانَ اَللّهُ عَلِيماً حَكِيماً .

أي: أنّه تعالى عليم بجميع الأمور و محيط بمخلوقاته إحاطة علميّة لا يخفى عليه إيمان أحد و لا كفر آخر، حكيم في أفعاله، فلم يخلق عباده عبثا، فإذا أمر الإنسان بالإيمان، فلعلمه بأنّه خير له، و إنّه يعذّب الكافر لأنّه استكبر و لم يؤمن.

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ .

آيات خاصّة نزلت في محاجّة النصارى بعد محاجّة اليهود الّذين كانوا على طرف النقيض مع النصارى في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام، فإنّه - كما حكى عنهم عزّ و جلّ - عرفوا بتحقيره و إهانته و رميه بما يمسّ كرامته، و الكفر به، فكانوا في أعلى درجات التفريط في حقّه عليه السّلام.

و أمّا النصارى فقد غلوا في تعظيمه و تقديسه و تجاوزا حدود اللّه تعالى فيه، فأفرطوا كلّ الإفراط، فلما أبطل عزّ و جلّ شبهات اليهود عقبه بإبطال شبهات النصارى و تفنيد مزاعمهم.

و إنّما وصفهم بأهل الكتاب مع أنّه خطاب عامّ يشمل اليهود أيضا؛ إرشادا لهم بعدم تجاوز الحقّ في شأن المسيح، و زجرا لهم عمّا هم عليه من الضلال البعيد.

و يمكن القول بأنّ الخطاب لهم جميعا، فإنّ اليهود كالنصارى غلوا في الدين و تجاوزوا الحقّ في شأن المسيح عليه السّلام، فالاولى غلت فيه ففرّطت كلّ التفريط، و الثانية غلت أيضا فأفرطت كلّ الإفراط، فيكون قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ تخصيصا بعد تعميم بتجريد الخطاب و تخصيص له بالنصارى بعد معلوميّة حكم اليهود من الآيات السابقة، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و كلمات البلغاء.

ص: 187

و يمكن القول بأنّ الخطاب لهم جميعا، فإنّ اليهود كالنصارى غلوا في الدين و تجاوزوا الحقّ في شأن المسيح عليه السّلام، فالاولى غلت فيه ففرّطت كلّ التفريط، و الثانية غلت أيضا فأفرطت كلّ الإفراط، فيكون قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ تخصيصا بعد تعميم بتجريد الخطاب و تخصيص له بالنصارى بعد معلوميّة حكم اليهود من الآيات السابقة، و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم و كلمات البلغاء.

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ .

بيان لنفي الغلو في الدين، و إرشادهم لهم بعدم نسبة أمر الى اللّه تعالى إلاّ الحقّ ؛ لأنّه حقّ و لا يصدر منه إلاّ الحقّ ، فيجب عليهم التماس الحقّ في جميع أمورهم.

و المراد من الحقّ هنا هو المعارف الإلهيّة و الحقائق الواقعيّة و التشريعات الربوبيّة و التوجيهات السماويّة الّتي أنزلها عزّ و جلّ على أنبيائه العظام عليهم السّلام، و ثبتت في القرآن الكريم.

كما أنّ المراد من القول هنا الأعمّ من الاعتقاد و الذكر اللساني، أي: لا تعتقدوا و لا تذكروا إلاّ الحقّ الثابت، فليس لكم أن تزعموا في دينكم ما لم يقم عليه برهان و تنسبوه الى اللّه تعالى، فتكون الآية الشريفة تمهيدا لنبذ ما زعموه في المسيح و إلزاما لهم بأنّهم أهل الكتاب، فيجب عليهم قول الحقّ و ابتغاؤه في جميع أمورهم، فتدلّ الآية الكريمة على بطلان ما اعتقدوه في عيسى بن مريم من الحلول و الاتّحاد و غير ذلك من الأباطيل.

قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ .

تخصيص بعد تعميم الخطاب لأهل الكتاب تطبيقا لما بيّنه عزّ و جلّ من نفي الغلو و عدم نسبة شيء إلى اللّه جلّ شأنه إلاّ الحقّ ، و الخطاب موجّه للنصارى الّتي غلت في المسيح عليه السّلام و اعتقدت فيه الأباطيل.

و المسيح كلمة غير عربية قرئ مخفّفا - و هو المعروف - و مشدّدا بكسر الميم و تشديد السين كالسكّيت. و معناه المبارك.

و إنّما صرّح عزّ و جلّ باسمه و اسم الام؛ للدلالة على كونه إنسانا مخلوقا تكوّن في رحم امرأة كأي إنسان آخر. و حينئذ لا يقبل التفسير و التأويل بأي

ص: 188

وجه كان، و هي تدلّ على بطلان ما زعموه فيه من البنوّة له جلّ شأنه.

قوله تعالى: رَسُولُ اَللّهِ .

بيان لشأن المسيح عنده عزّ و جلّ ، الّذي يجب أن يعتقدوه فيه عليه السّلام، و هو الحقّ ، و غيره باطل لا يجوز نسبته إليه تعالى.

و هذه الصفة تدلّ على بطلان الألوهيّة في حقّه، و إنّما قدّمها على ما سيأتي تعظيما لشأنه عليه السّلام؛ و لبيان أنّ نفي الحلول و الاتّحاد و البنوّة عنه لا يوجب الانتقاص منه، فإنّه رسول اللّه، و لعلّ الوجه في تأخيرها لبيان أنّه لا يخرج بالرسالة عن كونه إنسانا، فهو فرد تولّد من رحم امرأة و يصيبه ما يصيب غيره من سائر أفراد الإنسان.

قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ .

بيان للحقّ الّذي لا بدّ أن يقال على اللّه تعالى، و ردّ لما زعموه فيه من الألوهيّة و البنوّة بتوضيح خلق المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام.

و المراد من الكلمة هي كلمة «كن» الدالّة على التكوين بمحض قدرته التامّة و إرادته الفعليّة الّتي تعلّقت بخلق عيسى عليه السّلام، و جملة: أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ تفسير لمعنى الكلمة.

و الإلقاء: هو الطرح و الإيصال، و يستعمل في الأمور الماديّة و المعنويّة، قال تعالى: وَ أَلْقَوْا إِلَى اَللّهِ يَوْمَئِذٍ اَلسَّلَمَ [سورة النحل، الآية: 87]، و قال تعالى:

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ اَلْقَوْلَ [سورة النحل، الآية: 86]، و هو و إن كان مطلقا في المقام إلاّ أنّه عزّ و جلّ بيّنه في موضع آخر أنّه كان بواسطة الملك على نحو البشارة، قال تعالى: إِذْ قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اَللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اِسْمُهُ اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45].

قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

الروح: لها معان متعدّدة، و يجمعها أنّها من أمر اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ :

قُلِ اَلرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [سورة الإسراء، الآية: 85].

ص: 189

و المعنى: أنّه روح مخلوقة للّه تعالى؛ بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الّتي أودعت في مريم الطاهرة، لا بواسطة نطفة و توالد.

و الآيات المباركة جميعها تدلّ على أنّ خلق عيسى عليه السّلام كان معجزة، و قد تحقّق بكلمة (كن) التكوينيّة، من غير دخل للأسباب العاديّة الّتي يجب أن تتحقّق في خلق سائر أفراد البشر من الأب و النكاح و غيرها، قال تعالى: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * [سورة آل عمران، الآية: 47].

إن قلت: إنّ ما سواه تعالى من المخلوقات هي كلمات اللّه تعالى، فليكن خلق عيسى عليه السّلام أيضا كذلك، و إنّما خصّه بالذكر تشريفا.

قلت: كون مصنوعاته تعالى كلماته عزّ و جلّ صحيح لا ريب فيه، إلاّ أنّه لا ينافي أن تكون مختلطة بالأسباب العاديّة القريبة و البعيدة المترتّبة في سلسلة التكوين، فإنّ اللّه تعالى أبى أن يجري الأمور إلاّ بأسبابها. بخلاف خلق عيسى عليه السّلام، فإنّه كان أمرا خاصّا به تكوّن بسبب كلمة (كن) التكوينيّة الخالصة من الأسباب العاديّة القريبة و البعيدة الّتي يجب تحقّقها في تولّد الإنسان، فكان خلق عيسى عليه السّلام آية من آيات اللّه تعالى أودعها في رحم مريم العذراء عليها السّلام.

إن قلت: إذ كان خلق عيسى عليه السّلام معجزة و خارق العادة، فلما ذا لم يخلقه عزّ و جلّ من دون رحم امرأة و بشارة الملك لها، فإنّ اللّه تعالى على كلّ شيء قدير.

قلت: نعم، و لكن ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ الأمور الخارقة للعادة الّتي تتحقّق بسبب كلمة (كن) التكوينيّة و المعاجز الّتي تقع على يد الأنبياء و الأولياء بإذن منه عزّ و جلّ ، اقتضت سنّته تعالى فيها أن يجريها في موضوع من الموضوعات الماديّة و يخرجها في هذا العالم - عالم الملك و المادّة - بالصورة المناسبة لهذا العالم، ففي خلق عيسى عليه السّلام مثلا هو قادر على أن يخلقه من غير أم و لا نفخ الملك، و لكنّه عزّ و جلّ خلقه من أم بواسطة بشارة ملك و نفخ منه؛ ليكون بمنزلة الأب و نفخه بمنزلة التلقيح، كما أنّ خلق ناقة صالح إنّما كان من الجبل ليكون بمنزلة الام، و كذا تسبيح الحصى في يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و هكذا بقية المعاجز. هذا إن لم

ص: 190

يكن بعضها خارجة عن قانون الأسباب و المسبّبات، و إن كانت بظاهرها فاقدة لها إلاّ أن الأسباب تارة: تكون واضحة و معروفة، و اخرى: تكون خفيّة و غير معلومة لأحد إلاّ من علّمه عزّ و جلّ ، فيجريها الرسول أو الولي بالسبب الّذي علّمه عزّ و جلّ به. و البحث نفيس نذكره في الموضع المناسب إن اقتضى الحال إن شاء اللّه تعالى و ساعدنا الزمان بعد ما نستمد منه العون و التوفيق.

و ذكر جمع من المفسّرين أنّ المراد من الروح هو النفخة، أي: أنّه خلق بنفخ الملك المعبّر عنه بالروح، و روح القدس في مريم عليها السّلام بأمره سبحانه و تعالى، و قد جاء تسمية النفخ روحا في كلامهم، كما قال ذو الرمة في إضرام النار:

فقلت له ارفعها إليك و أحيها *** بروحك و اجعلها لها فيئة قدرا

و قالوا: إنّ الّذي يحيا به الإنسان مأخوذ من اسم الريح، و إنّ أصل الريح روح (بالكسر) فقلبت الواو ياء لتناسب الكسرة، و جمعه أرواح و رياح، و إن كان أصل هذه الرواح.

و لكنّه ليس بشيء، فإنّ الروح و إن استعمل في غير المقام في النفخ، لكن لا يصير دليلا على كونه في المقام كذلك، لا سيما بعد دلالة القرائن الكثيرة على أنّ المراد به غير ذلك، فإنّ العطف بين الأمرين في المقام يقتضي المغايرة بينهما.

و الحقّ أن يقال: إنّ كلّ واحد من الأمرين يمثّل جانبا من جوانب هذا النبي العظيم الّذي ظهرت آيات اللّه تعالى فيه من قبل ولادته الى حين رفعه الى السماء و بعده أيضا، فإنّ الكلمة الّتي ألقاها الى مريم عليها السّلام من دون أب، و أمّا الجانب الروحاني منه عليه السّلام فيكون في أنّه خلق بروح منه، أي بأمر صادر منه عزّ و جلّ ، و هو أمر قدسي و سرّ إلهي يفيضه اللّه تعالى على من يشاء من خلقه و يختصّ به بعض عباده المخلصين، منهم آدم عليه السّلام أبو البشر كما عرفت؛ و لذا كان خلق كلّ واحد منهما خلاف السنّة في خلق الناس، قال تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اَللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة آل عمران، الآية: 59]،

ص: 191

و بهذا الأمر فاق على جمع كثير من الأنبياء عليهم السّلام، و يشهد لهذا أنّ الناس إذا وصفوا شيئا في غاية الطهارة و النظافة قالوا: إنّه روح، و لما كان عيسى لم يتكوّن من نطفة الأب، بل كان بأمر صادر منه عزّ و جلّ و نفخة من روح القدس، وصف بأنّه روح منه.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المتكلّفين من النصارى، حيث تمسّك بقوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ ؛ لإثبات دعواهم في المسيح عليه السّلام من كونه جزءا منه عزّ و جلّ ، جاعلا (من) للتبعيض و الجزاء الآخر هو روح القدس الّذي انبثق من الأب، بل إنّه عينه، و يستدلّون على ذلك بقول يوحنا حكاية عن المسيح: «و متى جاء المعزى الّذي أرسله أنا إليكم من الأب روح الحقّ الّذي من عند الأب ينبثق فهو يشهد لي»، و بعضهم عبّر عن الانبثاق بالخروج.

و كيف كان، فإنّ الآية المباركة بمعزل عن ما ذكروه، و إنّ (من) في المقام لا تكون تبعيضيّة، بل هي للصدور، و نظيره ما ورد في شأن آدم عليه السّلام، قال تعالى:

وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي * [سورة ص، الآية: 72].

قوله تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رُسُلِهِ .

تفريع على صدر الكلام، أي: فإذا عرفتم أمر عيسى بن مريم عليه السّلام فآمنوا باللّه وحده الّذي اختصّ بالالوهية، و جمع جميع صفات الكمال و تنزّه عن جميع صفات الجلال. و آمنوا برسله كلّهم بوصف كونهم رسل ربّ العالمين، و لا تخرجوا واحدا منهم الى ما يستحيل وصفه من الألوهيّة و نحوها، فهم عبيد مأمورون خصّهم عزّ و جلّ بالفيض و أنزل إليهم الوحي.

قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ .

و لا تقولوا: الآلهة ثلاثة، و هي المعرفة عندهم بالأقانيم - و هم الأب، و الابن، و روح القدس - فاللّه عندهم واحد بالجوهر و ثلاثة بالأقانيم، أي: أنّ كلّ واحد منها عين الآخر، و كلّ منها إله كامل، و مجموعها إله واحد.

و يمكن أن يكون المراد من الثلاثة هي الّتي حكى عزّ و جلّ عنها في قوله

ص: 192

تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، فيكون الثلاثة اللّه، و عيسى، و مريم، و لعلّ هذا الاعتقاد هو الأساس للاعتقاد الأخير في الأقانيم الثلاثة. و سيأتي في البحث العقائدي تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ .

أي: انتهوا عن مقالتكم الدالّة على الشرك و اتّصاف اللّه تعالى بصفات المخلوقين أو اتّصافهم بصفات الخالق، فإنّ هذا الانتهاء خير لكم في الدنيا و الآخرة، و إنّ الخير أن تؤمنوا باللّه الواحد الأحد المنزّه عن مجانسة المخلوقين و عمّا لا يليق به، و تؤمنوا برسله المبعوثين لهداية البشر.

قوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ .

بعد أن نفى مقالة النصارى و بيّن الإيمان الصحيح و ردف عزّ و جلّ ذلك بالنهي عن ما يوجب الشرك و ما يصادم المعقول، أكّد ذلك بأنّ اللّه تعالى واحد ليس له أجزاء، فهو واحد بالذات منزّه عن التعدّد مطلقا. و في ذلك ردّ على مقالتهم الّتي تدلّ على التعدّد.

قوله تعالى: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ .

السبحان مفعول مطلق لفعل محذوف، أي: «أسبحه تسبيحا و سبحانا»، و يتعدّى ب (من) و (عن)، و هو منصوب بنزع الخافض.

و المعنى: تنزّه و تقدّس عن أن يكون له ولد، كما تقوله النصارى في المسيح إنّه ابنه، فإنّه ليس كمثله شيء، و لم يكن له جنس يقترن به ليكون زوجا له، فتلد له ابنا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ لفظ الولد دون الابن الّذي يذكرونه في كلماتهم؛ للدلالة على أنّ الولد إنّما يكون مولودا من أب و أم و اقتراب منهما بالنكاح، و كلّ ذلك محال على اللّه تعالى.

الآية المباركة تدلّ على التعظيم و التنزيه. و ذلك يستلزم التقديس.

ص: 193

قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ .

جملة استينافيّة مسوقة للتعليل و الاحتجاج على وحدانيّة تعالى و نفي الولديّة منه و تنزّهه عن مجانسة مخلوقاته، فإنّ كلّ ما في السموات و الأرض مخلوق له و مملوك له في أصل ذاته و جميع آثاره، فتدلّ على وحدانيّته و مظاهر صفاته، فهو القيوم على جميعها، و لا يمكن أن يكون الأثر مماثلا للمؤثّر ليتّخذ صاحبة و ولدا - و قاعدة: «سنخيّة العلّة مع المعلول» المبحوث عنها في الفلسفة شيء آخر و لا ربط لها بالمماثلة، كما هو واضح.

قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً .

دليل آخر على ثبوت جميع ما ورد في الآيات السابقة. و الوكيل من أسمائه الحسنى، أي: أنّه الولي لما سواه و الحافظ له، يدبّر أمره و يرعى شؤونه، فهو الكافي و لا يكفي منه غيره، و أنّه يهديكم الى ما هو خير لكم و يدعوكم الى ما يسعدكم في الدنيا و الآخرة، و يراقب أعمالكم و أقوالكم فيحاسبكم عليها، إن خيرا فخيرا و إن شرّا فشرّا.

قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ .

تقرير لما سبق من التنزيه، و تأكيد على نفي الوهيّة المسيح مطلقا و لو فرض كونه ولدا له، و قد أخذ عزّ و جلّ على النصارى بما هو معترف به لديهم، فإنّهم لا ينكرون كون المسيح عبدا للّه و لن يستنكف عن عبادته، كما صرّحت به الأناجيل الدائرة عندهم أنّه كان يعبد اللّه تعالى.

منها: ما نقلناه في البحث السابق عن مرقس: «قال يسوع: إن نفسي حزينة حتّى الموت، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي للّه تعالى، و قال: أيّها الأب كلّ شيء بقدرتك، أخّر عني هذا الكأس، لكن كما تريد لا كما أريد، ثمّ خرّ على وجهه يصلّي للّه تعالى»، و لا وجه لعبادة الولد الّذي يكون من سنخ الوالد الّذي يكون إلها، و لا معنى لعبادة الشيء لنفسه أو عبادة أحد الثلاثة لثالثها الّذي يكون هو المجموع، و كلّ واحد هو إله كما عرفت، و هذا من أحسن الحجج و أتمّها، حيث يذكر في

ص: 194

الاحتجاج ما هو المعترف به لدى الخصم، فيحاج به و يسمّى في علم المنطق ب دليل الاقتناع.

و مادّة (نكف) تدلّ على الامتناع عن الشيء و الانقباض منه أنفا و حميّة، يقال: نكفت الشيء نحيّته، و يقال: بحر لا ينكف، أي: لا يبلغ آخره، و غيث لا ينكف، أي: لا ينقطع، و منه الاستنكاف و هو التكبّر الّذي يكون الترك عن أنفة، و يتعدّى ب (من) و (عن).

و المعنى: لن يستكبر المسيح عن أن يعبد اللّه تعالى، و لن يأنف أبدا أن يكون عبدا له عزّ و جلّ ؛ لأنّ العبوديّة للّه العظيم شرف له، و إنّما المذلّة في غيرها ممّن ادّعى الألوهيّة لنفسه الّتي لا يستحقّها. و لا بدّ أن يستنكف عن عبوديّة غيره تعالى.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ العبوديّة دون غيرها من الألفاظ المرادفة؛ لأنّ الكلام مع الكفرة الّذين ادّعوا الألوهيّة فيه و رفعوه عن مقام العبوديّة؛ و لهذا قال عزّ و جلّ :

أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ ، و لم يقل: عن عبادة اللّه، و نحو ذلك.

و تدلّ الآية الشريفة على كمال نزاهته و عدم استنكافه بالكليّة؛ لأنّها تدلّ على العليّة، أي: علّة عدم استنكافه هي كونه عبدا للّه، بخلاف التعابير الاخرى الّتي لا تدلّ أكثر من اتّصافه بها و لو كانت مرّة واحدة، و لا تدلّ على الدوام و التجدّد.

و بعبارة اخرى: أنّ اتّصاف الشخص بالعبادة يكفي فيه أن يكون مرّة واحدة و تحقّقها فيه كذلك، فعدم الاستنكاف عنها لا يستلزم عدم الاستنكاف عن دوامها، و يدلّ على ذلك أيضا التعبير عن عيسى عليه السّلام بالمسيح الدالّ على العبوديّة؛ لأنّه مبارك و لا ريب في أنّ عبادة من يعلم عظمة اللّه تعالى و يقرّ بأنّه عبد للّه أفضل من كلّ عبادة.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ .

ص: 195

و توصيفهم بأنّهم مقرّبون فيه العلّية على كونهم عبيدا للّه تعالى؛ لأنّهم مقرّبون، فلو كانوا يستنكفون لما كانوا مقرّبين.

و يمكن أن ترجع هذه العلّة إلى المسيح أيضا؛ لأنّه عزّ و جلّ وصفه بأنّه مقرّب أيضا في موضع آخر، قال تعالى في شأنه: وَجِيهاً فِي اَلدُّنْيا وَ اَلْآخِرَةِ وَ مِنَ اَلْمُقَرَّبِينَ [سورة آل عمران، الآية: 45]، فهو يستنكف عن أن يكون عبدا لغيره لأنّه مبارك و مقرّب.

و على هذا، لا تدلّ الآية الشريفة على أفضليّة الملائكة من الأنبياء، كما زعمه بعض المفسّرين، مع أنّها غير ناظرة الى هذه الجهة أصلا، و البحث مذكور في علم الكلام، نذكره في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ .

الاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق، بمعنى أن يجعل نفسه كبيرة فوق ما هي عليه؛ غرورا و إعجابا، لا بمعنى طلب تحصيله مع اعتقاد عدم حصوله.

و الاستكبار: مذموم بل هو أم المهالك، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر، فقال رجل: يا رسول اللّه، إنّ الرجل يحبّ أن يكون ثوبه حسنا و نعله حسنة، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّ اللّه جميل و يحبّ الجمال، الكبر بطر الحقّ و غمط الناس»، أي: أن يجعل ما جعله اللّه تعالى حقّا - من توحيده و عبادته و قوانينه - باطلا، أو يتجبّر عند مطلق الحقّ ، فلا يقبله و لا ينقاد له. و غمط الناس، أي: استهانة بهم و استحقارهم، فالحديث يفسّر الكبر المذموم بأحسن وجه.

و المستفاد من الآيات الشريفة و الأحاديث الواردة في ذمّ الكبر أن للكبر درجات، أعظمها الّتي تمنع صاحبه عن دخول الجنّة، و هو الكبر على اللّه تعالى، و ذلك بعدم دخول الشخص في طاعته عزّ و جلّ كما مرّ، و أمّا سائرها فإنّها تشترك في أنّ الصدّ عن نيل الكمال، و تمنع السعادة و تؤدي بصاحبها إلى الخسران.

ص: 196

و ذكر بعض أنّ الاستكبار هو الاستنكاف، و لكنه ليس بشيء، فإنّ الاستكبار دون الاستنكاف كما عرفت آنفا، مع أنّ الأخير يستعمل حيث لا استحقاق مطلقا، بخلاف التكبير، فإنّه قد يكون باستحقاق كما هو في اللّه تعالى.

و كيف كان، فالآية الشريفة في موضع التعليل لما سبق، أي: كيف يستنكف المسيح بل الملائكة المقرّبون عن عبادته عزّ و جلّ؟! و الحال أنّ من يستكبر عن عبادته و يرجع عنها أنفة و حمية فسيحشرهم إليه جميعا.

و إنّما ذكر سبحانه و تعالى الاستنكاف و الاستكبار كليهما؛ لاختلاف درجات العباد في العلم و الجهل، فيشمل جميع الأفراد، سواء كان ترك العبادة عن استنكاف أم استكبار، فإنّ الاستنكاف قد لا يوجب السخط الإلهي إذا لم يكن عن استكبار كما في الجهلاء و المستضعفين، و أمّا الأنبياء و الملائكة، فإنّ استنكافهم لا يكون إلاّ عن علم و التفات، فيكون تركهم عن استكبار، لكونهم عالمين بمقام ربّهم؛ و لهذا اكتفى بذكر الاستنكاف فقط في المسيح و الملائكة و لم يذكر الاستكبار، و في المقام ذكرهما معا ليشمل جميع عباده من الإنس و الجن و الملائكة.

قوله تعالى: فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً .

أي: فسيحشرهم اللّه تعالى إليه جميعا، سواء أ كانوا صالحين أم ظالمين و سيحاسبهم على أعمالهم و يجزون عليها، و الملائكة و المسيح يعلمون بذلك، فيكون تركهم للعبادة عن استكبار، فهذه الآية الشريفة تكون بيانا للآية المباركة السابقة.

أي: أنّ استنكافهم إنّما يكون عن علم، فتدلّ على نفي ذلك بالكليّة عنهم، فهذا تأكيد آخر على عبوديّتهم له تعالى.

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ .

تفصيل بعد إجمال لبيان الجزاء المترتّب على كلّ واحد من الفريقين المستنكفين المستكبرين عن عبادته، و غيرهم الّذين آمنوا و عملوا الصالحات و لم يستنكفوا عن عبادة اللّه تعالى، و إنّما قدّمهم تعظيما لجزائهم و تنويها بشرفهم.

قوله تعالى: فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ .

ص: 197

التوفية هي الاستيفاء تامّا من غير نقص. أي: يعطيهم أجورهم من غير أنّ ينقص منها شيئا أصلا، جزاء لإيمانهم و أعمالهم الصالحة.

و إنّما عبّر عزّ و جلّ عن الجزاء بالأجر لبيان أنّ أعمالهم محفوظة لديه جلّت عظمته، و قد استوفاها منهم تامّا، فسيجدون عوضها عنده سبحانه و تعالى كذلك، و هذا يدلّ على كمال عطفه و رعايته للمؤمنين.

قوله تعالى: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .

فيزيد المؤمنين العاملين في أجورهم بتضعيفها أضعافا مضاعفة؛ لأنّه الجواد الكريم ذو المن العظيم، و إطلاق الزيادة يشمل جميع أنحائها كما و كيفا و مدّة، و في جميع العوالم، فلا يعلم مقدارها و لا كنهها أحد إلاّ اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً .

بيان لجزاء الفريق الآخر الّذين استنكفوا و استكبروا عن عبادة اللّه تعالى، فيعذبهم عذابا مؤلما لا يحيط به الوصف كما يستحقّون، و لم تكن هنا زيادة؛ لأنّ الجزاء لا بدّ أن يكون على قدر العمل، فإنّ كان خيرا فالزيادة فيه إنّما تكون فضلا و امتنانا منه عزّ و جلّ ، و أمّا الزيادة في الشرّ فلا تجوز؛ لأنّهم لا يستحقّونها، فهو يجازي المسيء بالعدل فقط و يجازي المحسن بالعدل و الفضل كليهما.

قوله تعالى: وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اَللّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً .

أي: لا يجدون لهم من غير اللّه تعالى وليا يلي أمورهم و يدبّرها و يرعى مصالحهم، و لا نصيرا ينصرهم من بأس اللّه تعالى و ممّا هم عليه من العقاب.

و إنّما ذكرهما عزّ و جلّ في المقام إبطالا لما زعموه في المسيح من الألوهيّة و التخليص من العذاب.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ .

نداء ربوبي الى الناس كافة يحبّب إليهم الإيمان بعد الجولة الطويلة مع الزائغين و الكافرين، إنّه نداء يرشدهم الى الكمال المنشود الّذي أعدّه اللّه تعالى لهم،

ص: 198

إنّه نداء توجيه و تربية تعدّ الامة إعدادا كاملا لتحمّل الأمانة الكبرى، و تحتل الصدارة بين الأمم، إنّه نداء للتحبّب و ليس للإنذار و التخويف، فقد تضمّن هذا الخطاب العطف و الرحمة من ربّ رؤوف رحيم، يعلم جميع مصالح عباده و يدعوهم فيه إلى ما يسعدهم في الدنيا و الآخرة، و لأجل ذلك كان هذا الخطاب من المواضع المعدودة القليلة جدا في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين وحدهم دون أن يذكر في مقابلها جزاء الكافرين المعاندين.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ الحجّة قد تمّت على الناس و لزمتهم، فلم يبق بعد ذلك عذر لمتعذّر، و لا علّة لمتعلّل، قال تعالى: فَلِلّهِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ [سورة الانعام، الآية: 149]، و تقدّم قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاّ يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اَللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ اَلرُّسُلِ [سورة النساء، الآية: 165].

و البرهان: هو بيان الحجّة يأتي مصدرا كما في المقام، و يأتي بمعنى الفاعل في ما إذا اطلق على نفس الدليل و الحجّة، و منه إطلاقه على النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و المعنى: أنّه قد جاءكم من قبل ربّكم الّذي تكفّل تربيتكم و تزكية نفوسكم ما فيه الحجّة القاطعة الّتي يبيّن فيها حقيقة إيمانكم و جميع ما تحتاجون إليه في أمر دينكم و دنياكم و آخرتكم و يتضمّن سعادتكم، و هو عامّ يشمل جميع ما يكون من قبله عزّ و جلّ ممّا له دخل في هداية الإنسان - كالأحكام الشرعيّة، و التوجيهات الربوبيّة، و الحقائق الواقعيّة - و نفس الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله فإنّه برهان عظيم، و مظهر الحقّ ، و مصداق العدل و القسط بين حقيقة الشريعة و واقعها بسيرته العمليّة، فهو معلّم البشريّة حقائق العلوم الإلهيّة و التوجيهات الربوبيّة، و مظهر صفات الخالق العظيم، و معجزة الدهر، فهو خير برهان و أتمّ دليل، قال تعالى: لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اَللّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اَللّهَ وَ اَلْيَوْمَ اَلْآخِرَ وَ ذَكَرَ اَللّهَ كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 21].

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً .

تأكيد لما سبق إذا كان المراد من النور هو البرهان، فإنّه نور بيّن في نفسه

ص: 199

و مبيّن للآخرين، فتتجلّى لكم الحقائق، و أمّا إذا كان المراد به القرآن الكريم فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ ، فإطلاق البرهان عليه لأنّه أقوى دليل و أتمّ حجّة على صدق ما جاء به الرسول الكريم، و أمّا كونه نورا فإنّه بيّن بنفسه و حقّ واضح لا يحتاج الى إثبات كونه من عند اللّه تعالى، فهو معجزة خالدة في أسلوبه و بلاغته و حقيقته، و قد تضمّن من المعارف الإلهيّة و الحقائق الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة و الأحكام التشريعيّة ما يبهر منه العقول، و هو مبيّن لغيره بإخراجهم من الظلمات الى النور و إرشادهم الى الحقّ .

قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ .

بيان لثواب من اتّبع برهان ربّه و آمن بالنور الّذي أنزله على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و ذكرنا أنّ هذه الآية الشريفة من المواضع المعدودة في القرآن الكريم الّتي يذكر فيها جزاء المؤمنين الصادقين و إيمانهم، و لم يذكر فيها جزاء الكافرين و المعاندين؛ لأنّ أسلوب الخطاب أسلوب التحبّب و الرأفة، و لأنّه عزّ و جلّ ذكر جزاءهم في الآيات السابقة، و قد كان معهم جولة طويلة في هذه السورة، و لأنّه جلّ شأنه أراد أن يكون ختام هذه السورة باستثناء آية الكلالة بالذكر الجميل و الثواب الجزيل و العطف و الرحمة دون الخوف و الخيبة.

و الآية الشريفة تبيّن حقيقة الإيمان المطلوب من الناس، و هي الإيمان باللّه العظيم وحده لا شريك له، حسبما أوجبه البرهان الذي جاءهم دون ما يقترحه أهل الزيغ و الضلال.

قوله تعالى: وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ .

الاعتصام: التمسّك بما يعصم و يحفظ، و هو مأخوذ من العصام و هو الحبل الّذي تشدّ به القربة و الإداوة لتحمل به، و قد تقدّم في قوله تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ [سورة آل عمران، الآية: 103] ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة.

و الاعتصام به عزّ و جلّ هو الأخذ بكتاب اللّه عزّ و جلّ و اتّباع رسوله

ص: 200

الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فمن أطاعه عزّ و جلّ فيهما فقد اعتصم به تعالى و حصّن نفسه من زيغ الشيطان و مكائده و شبهات أهل الضلال و أكاذيبهم.

و هذه الآية الشريفة تبيّن الجانب العملي من الإيمان، فإنّ الاعتصام لا يتحقّق إلاّ بالعمل بكتاب اللّه و اتّباع رسوله العظيم صلّى اللّه عليه و آله، و إطاعتهما حقّ الطاعة.

كما أنّ الآية المباركة الاولى تبيّن الجانب العقائدي، و هو الإيمان باللّه الواحد الأحد الّذي اتّصف بجميع صفات الكمال و تنزّه عن جميع صفات الجلال، و الّذي ليس كمثله شيء، فاستجمع الإيمان ركيزتيه الّتي بهما يتمّ ، و هما العقيدة و العمل، كما أكّد عزّ و جلّ عليهما في مواضع كثيرة في القرآن الكريم، و لا فائدة في الإيمان الّذي فقد فيه إحداهما؛ و لذا كان الجزاء عظيما بقدر عظمة الإيمان المطلوب.

قوله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ .

بيان لجزاء المؤمنين الّذين آمنوا حقّ الإيمان، بل إنّ ما ورد في هذه الآية المباركة آثار الإيمان الصحيح، و هي الدخول في رحمة منه عزّ و جلّ و هي الثواب العظيم الّذي لا يعرف كنهه إلاّ اللّه تعالى جزاء لإيمانهم و طاعتهم له عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ فَضْلٍ .

هو الإحسان الزائد على الجزاء، و هو أيضا لا يقدّر قدره و يمكن أن يكون بيانا؛ لقوله تعالى آنفا: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ .

قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً .

أثر خاصّ مترتّب على الاعتصام باللّه تعالى كما بيّنه عزّ و جلّ في موضع آخر، قال تعالى: وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة آل عمران، الآية: 101]، و الهداية الى الصراط المستقيم من أعظم عنايات اللّه تعالى على من يشاء من خلقه، و قد خصّ بها الأنبياء العظام عليهم السّلام و الأولياء الكرام و بعض الخلّص من عباده.

و المراد بها التوفيق للطاعة و العبادة الّتي توصلانه الى اللّه تعالى و يبلغ بها

ص: 201

الغاية من القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ و نيل جزائه العظيم و الدخول في رحمته، و قد تقدّم ما يتعلّق بالصراط المستقيم في سورة الفاتحة فراجع.

و ذكر الهداية إليه عزّ و جلّ في المقام إنّما هو للتأكيد على رعايته عزّ و جلّ للمؤمنين، و مقابلة لقوله تعالى في جزاء الكافرين المعاندين: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اَللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً * إِلاّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً [سورة النساء، الآية: 169].

ص: 202

بحوث المقام
بحث أدبي

خيرا في قوله تعالى: اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ منصوب بفعل محذوف وجوبا تقديره: افعلوا أو نحوه. و ذهب الفراء الى أنّه نعت لمصدر محذوف، أي: إيمانا خيرا لكم، فيكون صفة مؤكّدة لا للتبيين حتّى يستلزم أن يكون الإيمان منقسما الى خير و غيره، مضافا إلى أنّه لا اعتبار بمفهوم الصفة، بل لا مفهوم لها أصلا.

و قيل: إنّه خبر كان مضمرة، و التقدير: يكن الإيمان خيرا لكم. و ضعّف بأن (كان) لا تحذف مع اسمها دون خبرها إلاّ في مواضع معدودة.

و جملة: «ألقاها الى مريم» إمّا حال من الضمير المجرور في «كلمته»، بتقدير: قد، و العامل فيها معنى الإضافة.

و قيل: حال من ضميرها عليهما السّلام المستكن في ما دلّ عليه (و كلمته) من معنى المشتق الّذي هو العمل فيها.

و قيل: حال من فاعل (كان) مقدّرة مع إذ المتعلّقة بالكلمة، و التقدير: إذ كان ألقاها الى مريم.

و (من) في قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ متعلّقة بمحذوف صفة لروح، و هي لابتداء الغاية كما عرفت.

و قوله تعالى: أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ حرف الجر المقدّر إمّا (عن)، أو (من)، و الجملة دالّة على الاستمرار بما يقتضي وظيفة العبوديّة.

و إفراد فعل (يستنكف) و ما عطف عليه في قوله تعالى: وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ مراعاة للفظ (من).

و أمّا الجمع في فَسَيَحْشُرُهُمْ ، فإنّه مراعاة لمعناه من صيغ العموم،

ص: 203

و قرئ فَسَيَحْشُرُهُمْ بكسر الشين كما قرئ: (فسنحشرهم) بنون العظمة، و فيه التفات من الغيبة الى التكلّم.

و أمّا التفصيل في قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ فقد وقع فيه الكلام، فقيل: إنّه تفصيل للمجازاة لا الفريقين، فلا حاجة الى المطابقة مع آخر الآية الكريمة الّتي قبلها؛ لأنّ الجزاء لازم الحشر فبيّنه عقيبه. و ردّه بعضهم بأنّ (اما) يدخل على الفريقين، لا على قسمي الجزاء.

و قيل: إنّه لحشر الفريقين، فحذف أحدهما لدلالة الآخر عليه؛ و لأنّ الإحسان للمطيعين العابدين يعمّ الفريق الآخر، فكان داخلا في التنكيل بهم.

و قوله تعالى: فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ، فإن كان المراد من الرحمة الثواب فيكون تجوّزا في الجار، لتشبيه عموم الثواب و شموله بعموم الظرف، و إن كان المراد منها الجنّة، فيكون تجوّزا في المجرور دون الجار.

و لكن لا فائدة في هذا النزاع، فإنّ كليهما يدلان على العموم و الشمول، و إنّ الجار للظرفيّة.

و أمّا «صراطا» في قوله تعالى: صِراطاً مُسْتَقِيماً إمّا منصوب على أنّه مفعول ثان لفعل محذوف مقدّر، أي: يعرفهم، أو مفعول ثان ليهديهم لتضمّنه معنى يعرفهم.

و قيل: إنّ الهداية تتعدّى إلى مفعولين حقيقة، فلا حاجة الى التضمين.

و قيل: إنّه بدل من (إليه) المتعلّق بمقدّر، أي مقرّبين إليه.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمُ اَلرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ على أنّ ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله هو الحقّ الّذي يجب الاعتقاد و العمل به،

ص: 204

و أنّ العقل ينكر الابتعاد أو التعدّي عنه؛ لأنّ ما هو المخالف له يكون باطلا و يجب تركه، و أنّ دعوته صلّى اللّه عليه و آله عامّة لجميع الناس من دون استثناء.

و إطلاق الحقّ يشمل جميع ما جاء به الرسول صلّى اللّه عليه و آله من المعارف الإلهيّة، و التوجيهات الربوبيّة، و الأحكام التشريعيّة، و ما جاء به في شأن الأنبياء و المرسلين، فتكون الآية المباركة توطئة لردّ ما اعتقده النصارى في المسيح عليه السّلام، و الى هذا يشير قوله تعالى في ما يأتي: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ ، فإنّ الحقّ في الموردين يرمز الى أمر واحد، و هو الّذي أنزله على الرسول و ما جاء به من عند اللّه تعالى.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ على أنّ الإيمان الّذي بيّنه عزّ و جلّ في ما سبق من الآيات المباركة، و ذكر فيها أصوله و ركائزه هو الوسيلة الوحيدة الّتي تجلب الخير و توصل الى السعادة، و أنّ حقيقة الخير تكمن في الإيمان باللّه إيمانا صحيحا على النحو المطلوب، و أنّ ما سواه - و هم و سراب - لا حقيقة له، و إطلاقه يشمل جميع الأنحاء الخير الدنيوي و الاخروي، المادي و المعنوي. و هو يدلّ على أنّ الإيمان مطلوب بالفطرة، كما أنّ الإنسان يطلب الخير بفطرته و طبيعته.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ على النهي في الغلو في الدين مطلقا من أي ملّة كان؛ لأنّ وصفهم بأهل الكتاب إنّما هو تذكير لهم بأنّ من كان كذلك لا بدّ أن يلزم بما جاء في الكتاب و لا يتعدّى عنه، و هذا المناط موجود في أهل القرآن أيضا، فيجب عليهم الاعتقاد بما جاء فيه و يحرم عليهم الغلو في دينهم.

الرابع: يشمل قوله تعالى: وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلّهِ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ على برهان قويم من البراهين الدالّة على التوحيد، و قد ذكره عزّ و جلّ في عدّة مواضع لسعة معناه و لطفه و قربه الى الفطرة، فإنّ وحدة الأثر لشاهد عظيم على وحدة المؤثّر، فهو من أتمّ الدلالة على التوحيد؛ لأنّ وحدة النظام و وحدة المسير و الغاية و الهدف في المخلوقات لدليل على أنّ لهذه المخلوقات خالقا واحدا

ص: 205

جامعا لجميع صفات الكمال و منزّها عن مجانسة مخلوقاته، و إلاّ كان كأحدها يصيبه ما يصيبها، و لعلّه الى هذا يشير قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء، الآية: 22]، فإنّ لكلّ إله أثره الخاصّ به، فتختلف الآثار و يختل النظام، و هذا خلاف ما نراه في السموات و الأرض، فوحدة النظام تدلّ على وحدة الخالق.

ثمّ إنّ إحاطة ملكه تعالى على الأشياء و آثارها و استسلامها تحت إرادته و قهّاريته و تسخيرها في المسير الّذي حدّده عزّ و جلّ بها، كلّ ذلك يعطي في الكفر و الإيمان و الطاعة و المعصية معاني لطيفة، فإنّها لا تخرج بالمعصية عن قهّاريته جلّت عظمته، و لا توجب خروجها عن مسيرها التكويني و الهدف الّذي حدّده عزّ و جلّ لها، و إنّما يكون للإيمان و الكفر و الطاعة و المعصية آثارها الوضعيّة الّتي تؤثّر في الموجودات ما سواه تعالى، و هو جلّ شأنه منزّه عن تلك الآثار، فهو المالك لأمرها و يدبّر شؤونها و يحيط بها، يثيب المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء بآثامه.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ على النهي عن التقوّل على اللّه تعالى إلاّ بما أذن به عزّ و جلّ ، فلا يجوز نسبته (تعالى) الى ما لا يرضيه، و يستفاد منه أنّ نسبة ما لا يليق بشأن الأنبياء إليهم هو تقوّل على اللّه تعالى؛ لأنّهم رسله و وسائط فيضه، كما أنّ الغلو في الدين الّذي أنزله اللّه تعالى على رسله هو قول على اللّه بغير الحقّ ، فهذه الآية الشريفة تشمل كلّ أمر ينسب إليه عزّ و جلّ ، سواء كان متعلّقا بذاته المقدّسة، أم صفاته العليا، أم بشأن الأنبياء العظام عليهم السّلام، أم بما يتعلّق بكتبه و شرائعه المقدّسة إذا لم يكن مأذونا منه، فهو تقوّل على اللّه تعالى.

السادس: يتضمّن قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اَللّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ على براهين متعدّدة تدلّ على نفي الوهية المسيح عيسى ابن مريم:

ص: 206

الأوّل: كونه مولودا و متكوّنا في رحم امرأة و منسوبا إليها، و ينزّه الإله عن أن يكون كذلك، و يدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، فإنّ المسيح مولود من امرأة و منسوب إليها.

الثاني: أنّه مخلوق حادث و كان خلقه لأجل تعلّق الأمر به، يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كَلِمَتُهُ ، و الخلق و الحدوث من صفات المخلوقين دون الإله العظيم القدير.

الثالث: أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي تكوّن في الرحم، و روح قدسيّة أفاضها اللّه تعالى عليه في غاية النزاهة و الطهارة، و هي مخلوقة من أمر اللّه تعالى، و التركّب من صفات المخلوق الحادث، و ينزّه الإله العظيم عنه، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ .

و الحاصل: أنّ عيسى عليه السّلام ليس إلاّ عبدا كسائر العبيد، أنعم اللّه تعالى عليه حيث جعله آية، بأنّه خلقه من غير أب كما خلق آدم عليه السّلام كذلك، و شرّفه بالنبوّة، و صيّره عبرة عجيبة، قال تعالى في شأنه: إِنْ هُوَ إِلاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الزخرف، الآية: 59].

و قد دلّت الآية الشريفة على قدسيّة المسيح عيسى بن مريم و مكانته العالية، حيث كان موردا للفيض و الإفاضة، و قد اختاره اللّه تعالى رسولا هاديا و لا يمكن أن يكون الاتّحاد و الحلول فيه، فهذه الآية الشريفة بايجازها البليغ تضمّنت من البراهين العقليّة ما يدلّ على نفي كلّ ما قاله النصارى في المسيح من الألوهية و الحلول و الاتّحاد، و كونه ابنا له جلّ شأنه.

السابع: يدلّ قوله تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً على التوحيد و نفي الشرك، و نفي ولدية المسيح له عزّ و جلّ ، و قد أشار تعالى إلى أمر فطري، و هو أنّ الإله الّذي يستحقّ العبوديّة و التعظيم يجب أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال و منزّها عن كلّ النقائص، و لا يعقل أن يكون متعدّدا و إلاّ استلزم الخلف، و يدلّ عليه قوله

ص: 207

تعالى: إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ ، و مع ذلك فقد ذكر عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة أمورا ثلاثة تدلّ على التوحيد، و نفي الشرك، و نفي كون المسيح ابنا له.

منها: قوله تعالى: سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ ، فإنّه يدلّ على انتفاء الولد مطلقا و استحالته عليه؛ لأنّ الولد يماثل أبيه في سنخ ذاته؛ لأنّه متكوّن منه، و هذا يدلّ على الإمكان و الحدوث و نسبة صفات المخلوقين له، و هو منزّه عنها لأنّه أحد، فرد، صمد، ليس كمثله شيء.

و منها: قوله تعالى: لَهُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ فإنّه يدلّ على إحاطة ملكه على جميع ما سواء تعالى، خلقا و تدبيرا و تصريفا، و احتياجها له و استغناؤه عزّ و جلّ عنها فلا يحتاج الى الشريك و الولد، بل لا يماثله شيء من الأشياء فلا ولد له.

و منها: قوله تعالى: وَ كَفى بِاللّهِ وَكِيلاً فإنّه يدلّ على احتياج الخلق إليه لتدبير شؤونهم و هدايتهم الى ما هو الخير لهم و إرشادهم الى سعادتهم، فإنّ ذلك يكفي استغناءه عن الولد و الشريك، بل إنّ التفكّر في معنى الألوهيّة و الربوبيّة يكون كافيا في الحكم بانتفاء الولد عنه عزّ و جلّ من دون احتياج الى برهان آخر، و لعلّ تذييل هذه الآية الشريفة بهذا الأمر لإرجاع الإنسان الى الوجدان و التفكّر في عظمة الباري عزّ و جلّ ثم الحكم بعد ذلك، و هذا من البراهين الاقناعيّة و الأمور التربويّة الّتي اعتمد عليها القرآن الكريم لإرجاع الإنسان الى رشده، و له الوقع الكبير في النفوس المستعصية، و قد ذكر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم.

و كيف كان، فهذه الآية المباركة تدلّ على توحيد اللّه تعالى و تنزيهه عمّا نسب إليه النصارى. مع أنّ الديانة المسيحيّة الصحيحة ديانة مبنيّة على التوحيد الخالص، و لكن يد التحريف دخلت في كتبهم فحرّفت ما كان منافيا لعقيدتهم من التثليث و الاتحاد و الحلول، و قد نبّه القرآن الكريم الى ذلك و برّأ عيسى بن مريم من قول اليهود و النصارى، قال تعالى: ذلِكَ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ اَلْحَقِّ اَلَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم، الآية: 34]، و في المقام نهى سبحانه و تعالى عن قول

ص: 208

التثليث لمنافاته لملّة إبراهيم المبتنية على التوحيد الخالص، و أمرهم بابتغاء ما هو الخير لهم، فقال عزّ و جلّ : اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ ، و لعلّ الخير هذا يشير الى ما ورد في صدر الآية الكريمة من قول الحقّ و الإيمان به، قال تعالى فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ .

الثامن: يدلّ قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ على أنّ المسيح عيسى بن مريم خارج عن حقيقة الألوهيّة و داخل في حقيقة العبوديّة، فهو إنسان كسائر البشر، فاز بالنبوّة و الرسالة، و هو يستنكف عن أن يقال بأنّه ثالث ثلاثة؛ لأنّه ينافي العبوديّة الّتي يعترف بها و يعلم علما قطعيا بأنّه سيحشر إليه تعالى فيحاسبه على أعماله، فلا بدّ له من أن يعمل بمقتضى العبوديّة، فيؤمن به و يتّقيه و إلاّ لم يجد وليا و لا نصيرا.

فهذه الآية المباركة برهان آخر يدلّ على نفي الألوهيّة عنه؛ لأنّ الإله لا يكون عبدا يخاف من مولاه، و لكنه يختلف عن سائر البراهين المتقدّمة في أنّه مأخوذ من اعتراف المسيح و النصارى به فيحاجّون به.

و قد جمعت هذه الآيات الشريفة على جميع أقسام البراهين العقليّة المعروفة - مضافا إلى البرهان الوجداني النابع من صميم الفطرة و واقعها - الدالّة على توحيد اللّه تعالى، و نفي الشرك، و الحلول، و الاتّحاد، و نفي الولد عنه مطلقا.

و لا تختصّ هذه البراهين بخصوص هذا المورد، فيشمل كلّ مورد يدعي فيه تلك المزاعم.

التاسع: يدلّ قوله تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ اِسْتَنْكَفُوا وَ اِسْتَكْبَرُوا (عن عبادته) أنّ الاستكبار عن عبادة اللّه تعالى يوجب انقطاع العصمة بينه جلّ شأنه و بين المستكبرين عن عبادته، فلن يجد له وليا و لا نصيرا ليشفع و يرفع عنه العذاب و يكون واسطة لردّ العصمة بينه و بين مولاه عزّ و جلّ .

العاشر: يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ على الدعوة العامّة لجميع الناس، و هو يدلّ على عصمة الرسول صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه البرهان الّذي يكون منزّها عن الخطأ و الزيف و عاصما لغيره من الوقوع في الضلال.

ص: 209

الحادي عشر: يدلّ قوله تعالى: فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ على أنّ الحقيقة الّتي لا بدّ أن يذعن بها الناس هي الإيمان باللّه و الاعتصام به لطاعته و العمل بأحكامه الشرعيّة، و هو الخير الّذي أمرنا عزّ و جلّ بابتغائه، و غير ذلك باطل و لا يجدي نفعا. و لعلّ ذكر الآية المباركة في ختام هذه السورة لكونها جامعة لجميع الحقائق الموجودة فيها.

الثاني عشر: يدلّ قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أنّه عند اليهود ثاني اثنين، كما في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ [سورة التوبة، الآية:

30]، و ذلك لاشتراكهما في الشرك في الجملة.

الثالث عشر: قد تكرّر كثيرا في هذه السورة مادة [خ ي ر]، و كان الغالب في ذلك الآيات المباركة الأخيرة، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ هذه السورة تشتمل على كثير من الأحكام الشرعيّة - و هي متفرّدة من هذه الجهة - و لا شكّ أنّ الأحكام هي خير للبشرية، و لأجل ذلك كرّرت الكلمة فيها. أو لأجل المعارف المذكورة فيها، و لا شكّ أنّها خير، أي خير أسمى منها! أو لأنّ غالب آياتها في العقائد الموصلة الى الحقّ - كما في الآيات المتقدّمة و غيرها - و الكاشفة عن الحقيقة و الواقع، و ذلك هو المصداق الحقيقي للخير. و اللّه العالم.

بحث روائي

في المجمع للطبرسي سمّي عيسى المسيح؛ لأنّه ممسوح البدن من الأدناس و الآثام كما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: المراد من الأدناس جميع أقسامها - الظاهريّة - كالجنايات، و الباطنيّة و سائر الصفات الرديئة من الجهل، و الحرص، و الشره و الأخلاق الذميمة.

كما أنّ المراد من الآثام مطلقها، سواء أ كانت من الأفعال الّتي توجب البعد

ص: 210

عن ساحة قدسه جلّ شأنه المبطئة للثواب، أم من الأمور النفسانيّة، فإنّ قلوب الأنبياء في التوجّه الدائم معه سبحانه و تعالى، بخلاف قلوب غيرهم كما تقدّم مكرّرا.

و سمّي الدجال مسيحا أيضا؛ لأنّه مسح عنه القوى المحمودة من العلم و الحلم، و الأخلاق الجميلة، و الصفات الحميدة، و المثل السامية.

و قيل: سمّي عيسى بن مريم مسيحا لكونه ماسحا في الأرض، أي: ذاهبا فيها، فإنّ أغلب الأنبياء كانوا مشّائين و سائحين بسيرهم في الأرض - كإبراهيم و موسى، و عيسى عليهم السّلام و غيرهم، و لعلّ السرّ في ذلك أنّه أسهل في إبلاغ ما أمروا به بإفشاء الحجّة على جميع من سكن هذه البسيطة.

و قيل: سمّي عيسى بن مريم مسيحا؛ لأنّه عليه السّلام كان يمسح ذا العاهة فيبرأ و لذلك سمّي به، و قيل غير ذلك.

و المسيح بالعبرانيّة: (مشيح)، كما أنّ موسى عليه السّلام (موشي).

و في الكافي بإسناده عن حمران قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ رُوحٌ مِنْهُ ؟ قال: روح اللّه مخلوقة خلقها في آدم و عيسى».

أقول: إضافة الروح إليه جلّت عظمته إضافة تشريفيّة؛ لأنّها مخلوقة بإرادته عزّ و جلّ ، كقوله تعالى: وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ أو يا عِبادِيَ ، و تقدّم أنّ خلق عيسى بن مريم كان بكلمة (كن) التكوينيّة الفعليّة، و لذلك تشرّف عليه السّلام بمعجزات خاصّة كإحياء الموتى، كما تشرّف آدم عليه السّلام بنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و بثّ النسل منه كما مرّ في أوّل السورة، و يدلّ الحديث على نفي القدم الّذي هو من صفات الألوهيّة عن عيسى عليه السّلام.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلّهِ ، أي: لا يأنف أن يكون عبدا للّه وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ .

أقول: أي: أنّ المسيح لا يمتنع أصلا عن أن يكون عبدا للّه تعالى و يخضع بالتشرّف للعبوديّة، و تقدّم معناها و مراتبها في التفسير مكرّرا.

ص: 211

و في الدلائل للبيهقي عن ابن مسعود قال: «بعثنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الى النجاشي و نحن ثمانون رجلا و معنا جعفر بن أبي طالب و بعثت قريش عمارة، و عمرو بن العاص و معهما هدية إلى النجاشي، فلما دخلا عليه سجدا له و بعثا إليه بالهدية، و قالا: إنّ ناسا من قومنا رغبوا عن ديننا و قد نزلوا أرضك، فبعث إليهم حتّى دخلوا عليه فلم يسجدوا له، فقالوا: ما لكم لم تسجدوا للملك ؟! فقال جعفر: إنّ اللّه بعث إلينا نبيّه فأمرنا أن لا نسجد إلاّ للّه، فقال عمرو بن العاص: إنّهم يخالفونك في عيسى و امه، قال: فما تقولون في عيسى و امه ؟ قالوا: نقول كما قال اللّه: هو روح اللّه و كلمته ألقاها الى العذراء البتول الّتي لم يمسّها بشر، فتناول النجاشي عودا فقال:

يا معشر القسيسين و الرهبان ما تزيدون على ما يقول هؤلاء ما يزن هذه، مرحبا بكم و بمن جئتم من عنده، فأنا اشهد أنّه نبي، و لوددت أنّي عنده فأحمل نعليه، فانزلوا حيث شئتم من أرضي».

أقول: لا شكّ أنّ انقياد النجاشي للواقع كان من أثر تلك الحقيقة الكائنة في نفس المرسل صلّى اللّه عليه و آله، و قد تجلّى في رسوله الّذي له الأهليّة للتجلّي بها و إظهار الحقّ و بيان الواقع، و نسأل اللّه جلّت عظمته أن يتجلّى فينا بتلك الحقيقة و يرزقنا قبسا من ذلك النور لنهتدي به في عالم الدنيا و الآخرة.

و في تفسير العياشي بإسناده عن عبد اللّه بن سليمان قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً ، قال: البرهان محمد صلّى اللّه عليه و آله، و النور علي عليه السّلام، قال: قلت له: صِراطاً مُسْتَقِيماً ، قال:

الصراط المستقيم علي عليه السّلام».

أقول: قد ثبت في محلّه أنّه من أقسام العلل العلّة المبقية للشيء، و العلّة المظهرة له أو المبيتة للشيء، و لا شكّ عند المسلمين بل و عند غيرهم من الّذين سيّروا التاريخ الصحيح و ساروا فيه أنّ عليا عليه السّلام بلّغ دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و بيّنه بلسانه و فعله و أخلاقه بل بوجوده، فلا غرو أن يكون صراطه و منهجه صراط محمد صلّى اللّه عليه و آله و منهجه، فيكون نورا تهتدي به الامة.

ص: 212

و كيف كان، فالرواية من باب التطبيق و ذكر أكمل الأفراد و أجلّها، لا من باب التخصيص كما هو واضح، و قد فسّر النور بالكتاب أيضا، و ذلك من باب التطبيق أيضا.

بحث عقائدي
اشارة

الآيات المباركة المتقدّمة من جلائل الآيات الّتي نزلت في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّذي اختلف فيه اختلافا كبيرا، فقد أبغضته اليهود حتّى رموه بما لا يليق بشأنه، و قدّسته النصارى حتّى ادّعوا فيه الألوهيّة و أنّه ابن اللّه و هو ثالث ثلاثة و كلا الفريقين غلوا في دينهم كما حكي عزّ و جلّ عنهما في القرآن الكريم، لا سيما هذه السورة المباركة، و أمرهم باتّباع الحقّ في عقائدهم و أقوالهم و نهاهم عن الغلوّ في الدين؛ لأنّ الإيمان بأنبياء اللّه تعالى - بكونهم رسلا مبشّرين و منذرين، و أنّهم عباد مكرّمون خصّهم اللّه عزّ و جلّ بالفيض - أحد أركان الإيمان المطلوب، قال تعالى: آمَنَ اَلرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ اَلْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة، الآية:

283].

و قد أشار سبحانه و تعالى في هذه السورة الى بعض ما اعتقده النصارى في المسيح، و خصّ بالذكر مسألة الصلب و الفداء و بيّن الحقّ فيها، و مسألة ألوهيته و أنّه ثالث ثلاثة و نهاهم عن القول فيها فضلا عن الاعتقاد بها، و إنّما خصّهما بالذكر لأهمّيّتهما في دينهم، و لأثرهما العميق في عقيدتهم، و لدلالتهما على بعدهم عن الحقيقة و الواقع، و شهادتهما على تحريفهم لكتبهم المقدّسة، و نهاهم عن قول ما يوجب الانحراف عن الواقع و الإعراض عن ما أنزله اللّه تعالى. و قد ذكرنا في أحد المباحث السابقة بعض ما يتعلّق بمسألة الصلب و الفداء، و تعرّضنا لما ذكره المسيحيون فيها و ناقشناهم فيها فراجع.

ص: 213

و في هذا البحث نذكر ما يتعلّق بمسألة الوهيّة المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام الّتي لا تقلّ أهميّة عن سابقتها إن لم تكن بأعظم منها؛ لأنّها تمسّ عقيدة التوحيد الّتي بنيت عليها الأديان الإلهيّة، و لأثرها الخطير في الأحكام الشرعيّة، و لتأثيرها في النفوس و إطفاء نور الفطرة فيها.

و قد عالج جلّ شأنه هذه المسألة في آيات محكمة ذات أسلوب بلاغي رائع، فذكر خلق عيسى بن مريم، و رسالته، و أنّه عبد من عباد اللّه تعالى لا يستنكف عن عبادته، و بيّن الحقّ فيها و أقام الحجج و البراهين عليه، و نهاهم عن القول بالتثليث، فأثبت عقيدة: «لا إله إلاّ اللّه» الّتي لم ينفك القرآن الكريم عن الدعوة إليها.

و نذكر في هذا البحث الألوهيّة في القرآن الكريم و ما ذكره عزّ و جلّ في شأن هذا النبي العظيم الّذي يعد معجزة إلهيّة في جميع أحواله من خلقه و ولادته و مبعثه و رفعه الى السماء، ثم نذكر عقيدة المسيحيين و ما يتعلّق بها، كما نبيّن وجه البطلان فيها، ثم نذكر مآخذ هذه العقيدة و السبب في دخولها في المسيحيين إن شاء اللّه تعالى.

الإله في القرآن الكريم:

يعدّ القرآن المجيد من أمتن الكتب الإلهيّة و أعظمها في معالجة مسألة الألوهيّة و بيان خصائصها، فقد أثبت الإله الواحد الأحد و أشاد بعقيدة التوحيد و أسّس أسسها و قواعدها، و أقام دعائم الوحدانيّة و استدلّ عليها بأدلّ و براهين متعدّدة، الفلسفيّة منها و الوجدانيّة و الطبيعيّة و غيرها، حتّى جعلها أقرب الأمور الى النفوس و أعذبها إليها، و رفض الشرك بجميع أشكاله و عدّه من الظلم العظيم الّذي لا يغفر، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ * و اعتبره أمرا مرفوضا بالفطرة، و له آثار وضعيّة جسيمة على الإنسان و بقية المخلوقات، و حاجّ المشركين بجميع أصنافهم.

ص: 214

و أمّا التوحيد، فقد أودعه في الفطرة الإنسانيّة و أخذ العهد من بني آدم على تثبيته اعتقادا و عملا، فصار أمرا فطريا لا يقبل الإنكار، و لا محالة يلجأ إليه الإنسان عند ما تشتدّ به الحاجة و تنجلي عنه ظلمة الجهل مهما كابر و عاند، و عظّم القرآن الكريم أمر التوحيد ببيان جميع جوانبه، فأقام أركانه بإثبات الخالق العظيم و بيان صفاته عزّ و جلّ ، و ذكر قواعدها و بيّن خصوصياتها و قسّمها إلى صفات كماليّة يتّصف بها الباري تعالى، و صفات جلالية منزّه عنها سبحانه و تعالى، و ذكر من أفعاله و آثاره و إبداعه في خلقه ما يدلّ على علمه الأتمّ و حكمته المتعالية و قدرته التامّة و قهّاريته العظمى و قيّوميته الكاملة، بحيث لا يدع مجالا للشكّ في وجوده و وحدانيته و استجماعه لجميع الصفات العليا الجماليّة، فليس كمثله شيء، و برّأ ساحته عن مجانسة مخلوقاته مهما بلغت من الكمال؛ لأنّها خلقه عزّ و جلّ يدبّر أمرها - إيجادا و إبقاء و إعداما - إلاّ أنّ مسألة الألوهيّة مع كثرة اهتمام القرآن بها و تبسيطها الى أقرب الحدود، لكنها لا تخلوا من تعقيدات؛ لأنّها من الأمور الغيبيّة الّتي يتطرّق إليها الظنون و الأوهام، فلم تنج من شبهات الملحدين و زيغ المبطلين، فلا بدّ للمؤمن الّذي يعتقد بهذه المسألة الّتي لها الأثر الكبير في حياته الدنيويّة و الاخرويّة، كما يجب على المفكر الباحث أن يستقي المعلومات فيها من عين صافية بعيدة عن كلّ زيغ و ضلال.

و قد حدّد القرآن الكريم مصادرها، و هي إمّا الوحي من اللّه تعالى العالم بجميع الحقائق، و هذا خاصّ بمن اصطفاهم اللّه تعالى و ليس لغيرهم نصيب منه. أو يكون رسولا اصطفاه اللّه تعالى بالرسالة، و أفاض عليه من أنواع العلوم و المعارف الإلهيّة و حلّة الأمانة الكبرى لتبليغ شرائعه و تعليماته و توجيهاته إلى الناس، و أيّده بالمعجزات و خوارق العادات ما تثبت دعاويه، و هذا يختصّ بالحاضرين في عصره، فلا يشمل الغائبين المعدومين. أو يكون كتابا سماويا احتوى جميع ما يوجب رقي الإنسان و رشده الى كماله و سعادته في الدارين، و يشترط فيه أن يكون

ص: 215

مأمونا من التحريف، و هو ينحصر القرآن الكريم الّذي اتّفقت الامة على سلامته و أمنه من كلّ تحريف و بطلان، فكان معجزة إلهيّة من جميع جوانبه كما هو معلوم.

و أمّا سائر الكتب الإلهيّة، فقد ثبت تحريفها بأدلّة كثيرة مذكورة في محلّها إلاّ أنّ القرآن الكريم لما لم يمكن فهم مقاصده بسهولة، فلا بدّ أن يرجع في تفسيره و بيان مقاصده إلى من نزل القرآن المجيد عليه الّذي علّمه اللّه تعالى جميع رموزه و علّمه من أسرار التأويل ما يزيل كلّ شكّ و ريب. هذا موجز الكلام في هذه المسألة المهمة العظيمة و للتفصيل موضع آخر.

و من جميع ما ذكرناه يعرف أنّ الإله في القرآن الكريم لم يكن أمرا وهميّا كما يدّعيه بعض، و لا أمرا نسبيا كما يدّعيه آخرون، بل هو حقيقة واقعيّة، فهو الإله الواحد الأحد الّذي عرّفه القرآن الكريم بأمور أربعة لا يمكن أن تتحقّق في غيره.

الأوّل: أن يكون الإله واحدا أحدا لا مثل له و لا شبيه و لا ندّ له، فلو كان غير ذلك لظهر الفساد في الخليفة، قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اَللّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اَللّهِ رَبِّ اَلْعَرْشِ عَمّا يَصِفُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 22]، و لبان الاحتياج في الخالق، و هو منفي بالوجدان.

الثاني: أن يكون مستحقّا للعبوديّة؛ لكونه الخالق العظيم العليم الحكيم الغني الّذي لا يستغني عنه غيره و هو مستغن عنه، قال تعالى: لا يُسْئَلُ عَمّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 23]، و قد ذكرنا ما يتعلّق به في سورة الفاتحة فراجع.

الثالث: أن يكون مستجمعا لجميع صفات الكمال - كالعلم و الحياة و القدرة و نحوها و إلاّ استلزم الخلف، و تقدّم في آية الكرسي - 255 من سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

الرابع: أن يكون منزّها عن جميع صفات الجلال - كالزمان و المكان و الجسميّة - و إلاّ احتاج الى غيره، و هو ينافي الألوهيّة.

ص: 216

و في الآيات الّتي تقدّم تفسيرها يبيّن عزّ و جلّ جملة من الصفات الكماليّة و الجماليّة.

منها: أنّه إله واحد؛ لأنّه اللّه المستجمع لجميع الصفات الكماليّة، قال تعالى:

إِنَّمَا اَللّهُ إِلهٌ واحِدٌ ، فليس له شريك و لا نظير و لا ولد.

و منها: أنّه مالك لما في السموات و ما في الأرض - خلقا و تدبيرا و تصريفا و إبقاء و إفناء - فهو الغني عن خلقه و هم محتاجون إليه و لا يحتاج الى معين أو ولد، و يدلّ على ذلك آيات كثيرة أيضا.

و منها: أنّه الولي على خلقه يدبّر شؤونهم و القيّم عليهم؛ فإذا كان اللّه تعالى واجدا لهذه الصفات الكريمة فلا يحتاج الى ولد، و هو منزّه عن أن يكون له ولد؛ لدلالته على احتياجه و اتّصافه بصفات المخلوقين، و لا يعقل الإله أن يكون كذلك.

و قد تقدّم في التفسير ما يتعلّق بذلك أيضا فراجع، فإذا ادّعى أحد الألوهيّة، فهو يرجع إمّا إلى تنزيل مقام الألوهيّة الى مقام الخلق، و هو خلف. و إمّا رفع المخلوق الى مقام الخالق الإله، و هذا أيضا باطل.

المسيح في القرآن الكريم:

عظّم القرآن المجيد الإنسان و أسمى شأنه و ميّزه من سائر مخلوقاته و أعزّ به، فقال جلّ شأنه: فَتَبارَكَ اَللّهُ أَحْسَنُ اَلْخالِقِينَ [سورة المؤمنون، الآية: 14] و لم يعظم سائر مخلوقاته بمثل ما عظّم هذا المخلوق العجيب الّذي منحه العقل و الإرادة، و أودع فيه الأمانة الكبرى الّتي أبت السماوات و الأرض أن يحملنها و أشفقن منها فحملها الإنسان، إنّه كان ظلوما جهولا.

و قد خصّ بعض أفراد الإنسان بالفيض و جعلهم مورد الاستفاضة، و هم الأنبياء الّذين أرسلهم اللّه تعالى لهداية البشر، و أنزل إليهم الكتاب و فيه تبيان كلّ شيء، و اصطفى من الأنبياء بعضا فخصّهم ببعض الفيوضات الخاصّة. منهم عيسى

ص: 217

ابن مريم الّذي يعدّ معجزة إلهية في خلقه و حياته و رفعه إلى السماء، فقد خلقه عزّ و جلّ من غير أب و أسباب عادية الّتي لا بدّ من توفرها في سائر أفراد الحيوان، فتعلّقت الإرادة الأزليّة أن يخلقه بكلمة (كن) التكوينيّة من غير سبب مادي عادي تعلّقت بمريم العذراء، فولد منها فكان محتاجا إليها حين الحمل و الولادة و الرضاعة و التربية، ثمّ خصّه بالفيض و اصطفاه بالرسالة، فكان رسولا مبلغا عن اللّه تعالى محتاجا إليه في الفيض و سائر شؤونه، و كان هذا الاصطفاء سببا في زيادة تعلّقه عليه السّلام بخالقه العظيم، فصار عبدا من عباده المخلصين الّذين عرفوا معنى العبوديّة و أدّوا لوازمها و حقوقها فلم يتخطّوا عن تلك، و إلاّ خرجوا عن مورد الفيض و هبطوا عن ذلك المقام السامي، فقال تعالى فيه: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة، الآية: 116]، فهو عبد اللّه تعالى اصطفاه و جعله مورد الإفاضة بخلقه من غير أب كما اصطفاه بالرسالة، فلم يكن له أن يقول ما ليس له فيه حقّ ، فلم يدع الألوهيّة لنفسه و لا لامه الطاهرة الّتي هي مثله في الخلق و العبوديّة، و إلاّ خرج عن مورد الاصطفاء و لم يف بحقوق العبوديّة، و هذا هو السبب في تعظيم شأن عيسى ابن مريم في القرآن الكريم.

و الآيات الشريفة المتقدّمة تضمّنت أمورا عديدة تدلّ على نفي كلّ ما يدّعي فيه من الألوهيّة و حلول الباري عزّ و جلّ فيه و أنّه ولد اللّه تعالى، و غير ذلك ممّا يدّعيه النصارى في حقّ هذا النبي العظيم، فيخرجونه بها من حدود الإنسانيّة و يجعلونه في مصاف الألوهيّة، فهي الّتي يبطلها القرآن الكريم بوجوه عديدة.

منها: أنّه مخلوق مبارك لم يكن قديما اختصّ بالفيض فصار خلقه معجزة إلهيّة كما عرفت في التفسير، و الإله لا يعقل أن يكون مخلوقا حادثا كما ثبت في الفلسفة الإلهيّة.

و منها: أنّه محدود، فإنّه منسوب إلى امرأة طاهرة هي امه، فهو محتاج إليها

ص: 218

في بعض مراحله، قال تعالى: إِنَّمَا اَلْمَسِيحُ عِيسَى اِبْنُ مَرْيَمَ ، و تعالى اللّه أن يكون محدودا و محلا للحوادث كما عرفت.

و منها: أنّه مركّب من بدن مثالي خارجي و روح قدسيّة صارت مورد الفيض، قال تعالى: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ على ما تقدّم في التفسير، و الإله منزّه عن التركيب لدلالته على الاحتياج.

و منها: أنّه رسول اللّه تعالى تحمّل الأمانة الكبرى الى الناس يجب عليه تبليغها إليهم، و لا ريب أن جميع ذلك ينافي الألوهيّة، و الولديّة للّه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

المسيح في عقيدة النصارى:
اشارة

لم يكن المسيح عيسى ابن مريم عليه السّلام فردا عاديا كسائر الأفراد من بني البشر، فقد خصّه اللّه تبارك و تعالى بالكرامة بأن خلقه من غير أب و جعله مورد الفيض القدسي، و أجرى على يديه المعجزات الباهرات، فكانت حياته من حين انعقاد حمله الى رفعه الى السماء معجزة إلهيّة. و لا ريب في ثبوت ما له عليه السّلام من الشرف و المكانة السامية عند المسلمين و المسيحيين على حدّ سواء، فهم جميعا يحترمونه و يجلّونه و يقدّسونه، إلاّ أنّ مثل هذا الفرد لا يسلم من التقوّل عليه بما هو خارج عن حقيقته، و الغلو فيه و إخراجه عن طور الإنسانيّة و العروج به إلى مقام الألوهيّة، كما حكى عزّ و جلّ في الآيات الشريفة السابقة، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ [سورة النساء، الآية:

171]، و قد كان هذا النبي العظيم ملتفتا إلى هذه الجهة في حياته على الأرض، فكانت أفعاله و أقواله تدلاّن على أنّه إنسان ولد من أنثى و هي مريم العذراء، و أنّه يبقى برهة من الزمن على هذه الأرض ثم يموت كما يموت سائر المخلوقات، و أنّه

ص: 219

عبد للّه تعالى و هو ابن الأرض - كسائر أفراد البشر - و ليست سياحته في الأرض إلاّ لإعلام هذه الجهة، و قد أخذ المواثيق من حوارييه على عدم التقوّل عليه بعد رفعه كما حكى عزّ و جلّ عنه في عدّة مواضع من القرآن الكريم، و في العهد الجديد الكثير من ذلك، و قد كان أتباعه أثناء حياته على الأرض على التوحيد و لم يعتقدوا فيه إلاّ ما كان حقّا، و كذلك كانوا بعد رفعه الى السماء برهة من الزمن حتّى دبّ الخلاف فيهم و اشتدّ الصراع بينهم في تفسير حياته عليه السّلام، فحصلت لهم آراء و مذاهب تشترك كلّها على الغلو فيه و تقديسه بما يقدّس الإله المعبود الحقّ ، و لكنّهم مع فرقهم المختلفة في شأنه عليه السّلام مجمعون على التثليث، فيقولون: إنّ اللّه جوهر واحد ثلاثة بالأقانيم الوجود، و الحياة، و العلم، فيريدون من الأب الوجود، و من الروح الحياة، و من الابن المسيح.

و اختلفوا في تفسير هذه المقالة اختلافا فاحشا بعد اتفاقهم على أنّ اللّه تعالى جوهر - بمعنى أنّه قائم بنفسه - غير متحيّز، و لا مختصّ بجهة، و لا مقدّر بقدر، و لا يقبل الحوادث بذاته، و لا يتصور عليه الحدوث و العدم.

و لعلّ منشأ الاختلاف في المسيح عيسى ابن مريم و ادّعاء الألوهيّة فيه يرجع الى امور يعتقدونها فيه عليه السّلام.

الأول: القول بتجسّد الكلمة، أي: أنّ اللّه تعالى تجسّد في المسيح عليه السّلام، و اختلفوا في كيفيّته، فقال بعضهم: إنّ الكلمة قد تجسّدت بمعنى أنّ الإله - اقنوم الابن ثالث الثالوث - الّذي هو واحد حقيقة، و ثلاثة حقيقة قد تجسّد في الأرض و توشّح الطبيعة البشرية فأخذ جسدا من مريم عليها السّلام و بقي اقنوم الأب، و اقنوم الروح القدس في السماء، و بعد ثلاثين سنة انفتحت السماء و نزل اقنوم الروح القدس و حلّ على اقنوم الابن المتجسّد، و بقي الأب في السماء، و صار اقنوم الابن المتجسّد، و اقنوم الروح القدس الحال عليه في الأرض - الى آخر ما ذكروه في المقام.

ص: 220

و قال آخرون: باتّحاد الكلمة بجسد المسيح فولدت مريم العذراء عليها السّلام إلها أزليا، و انقلبت الكثرة وحدة، فالمسيح ناسوت كلّي لا جزئي، و هو قديم أزلي، و هذا القول هو المعروف بينهم باتّحاد اللاهوت بالناسوت.

و قال ثالث: بأنّ الاتّحاد كان بمعنى الامتزاج كامتزاج الخمر بالماء.

و قال رابع: بأنّه كان بمعنى الإشراق، أي: أرقت كإشراق الشمس من النور و هو قول بعض حكمائهم.

و قال جمع آخر: بأنّ الاتّحاد لم يبطل الأزليّة، فالمسيح إله تامّ ، و إنسان تامّ ، و هما قديم و حادث و الاتّحاد غير مبطل لقدم القديم و لا لحدوث الحادث، و القتل وقع على الناسوت دون اللاهوت.

و قال جمع آخر: إنّ الكلمة انقلبت لحما و دما، فصار الإله هو المسيح، و رووا عن يوحنا أنّه قال في صدر إنجيله: إنّ الكلمة صارت جسدا و حلّت فينا.

و قال جمع منهم: إنّ اللاهوت ظهر بالناسوت بحيث صار هو هو، و ذلك كظهور الملك لمريم العذراء عليها السّلام المشار إليه في القرآن الكريم: فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم، الآية: 17].

و قال بعضهم: بالتركب، أي: جوهر الإله القديم و جوهر الإنسان المحدث تركبا كتركب النفس الناطقة مع البدن فصار جوهرا واحدا، و هو المسيح و هو الإله، فيقولون: صار الإله إنسانا و إن لم يصر الإنسان إلها، و إن مريم ولدت إلها و القتل و الصلب وقعا على اللاهوت و الناسوت جميعا، إذ لو كان على أحدهما لبطل الاتّحاد.

و منهم من قال: بالاتّحاد بين اللاهوت و الناسوت على نحو الظهور، فلم ينتقل من اللاهوت الى الناسوت شيء و لا حلّ فيه، و ذلك كظهور نقش الطابع على الشمع و الصور المرئية في المرآة، فإنّ القول بهذا النحو من التجسّد ممّا أوجب القول بالوهيّة المسيح، بلا فرق في القول بين الاتّحاد أو الحلول أو التركّب، و لشدّة ارتباط بينه عليه السّلام و بين مريم العذراء، فقد ادّعى الألوهيّة فيها، و هذا هو المحكي في

ص: 221

القرآن الكريم: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ [سورة المائدة، الآية: 116]، و كان هذا أصل الأقانيم الثلاثة و القول بالتثليث.

الثاني: من جهة الاختلاف في صفات الباري جلّت عظمته، فقيل: إنّ الأقانيم صفات للجوهر القديم و هي الوجود، و العلم، و الحياة، و عبّروا عن الوجود بالأب، و الحياة بروح القدس، و العلم بالكلمة، و هذا القدر من التفسير لا يدلّ على الشرك، و إن كان باطلا من جهة اخرى كما لا يخفى على الخبير، فإنّ الصفات مهما كثرت، فإنّها عين ذاته المقدّسة، و كذا تفسيره بما ذكروه.

و قيل: إنّ الأقانيم غير الجوهر القديم، و إنّ كلّ واحد منها إله، فصرّحوا بالتثليث، فكلّ واحد إله قديم حقيقة، و إنّ اللّه ثالث ثلاثة تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا، و هذا يدلّ على الشرك في الذات، و هو باطل كما هو معلوم.

و قيل: إنّ اللّه تبارك و تعالى واحد و الأقانيم الثلاثة ليست غير ذاته و لا نفس ذاته، و إنّ الاتّحاد كان بمعنى الإشراق كما عرفت آنفا، و هذا باطل و لم يعرف له وجه أبدا.

و قيل: إنّ اللّه تعالى واحد و هو الأب، و المسيح كلمة اللّه تعالى و ابنه على طريق الاصطفاء، و هو مخلوق قبل العالم، و هو خالق للأشياء كلّها، و هذا يدلّ على الشرك في الفعل و هو باطل أيضا، كما يدلّ على قدم الحادث و هو فاسد.

و المعروف بينهم أنّ اللّه تعالى هو الواحد الأب صانع كلّ شيء و مالك كلّ شيء و فاعل ما يرى و ما لا يرى، و أنّ المسيح ابن اللّه تعالى الواحد بكر الخلائق كلّها، الّذي ولد من أبيه قبل العوالم كلّها و ليس بمصنوع، إله حقّ من إله حقّ من جوهر أبيه الّذي بيده اتّقنت العوالم و خلق كلّ شيء، الّذي من أجلنا - معاشر الناس - و من أجل خلاصنا نزل من السماء و اتّحد مع روح القدس و مريم و صار إنسانا و حبلت به و ولد من مريم البتول، و هذا القول باطل، لاستلزامه انقلاب الحقائق، و تعدّد القدماء، و قدم الحادث.

الثالث: من جهة خلق عيسى عليه السّلام من غير أب و صدور المعجزات الّتي

ص: 222

تخرج عن مقدور البشر، فينبغي أن يكون المقدّر عليها موصوفا بالإلهيّة.

هذه هي عمدة ما يمكن أن يستفاد من أقوالهم المتفرّقة و آرائهم المتشتّتة في هذه المسألة، و قد خبطوا فيها كثيرا حتّى أخرجوها عن حدود الأدلّة و البراهين، و استدلّوا عليها بأمور عاطفيّة و ادّعاء الرؤية في المقام و غير ذلك ممّا لم يقم عليه برهان، بل ادّعى بعضهم: «بأنّ الوهيّة المسيح فوق المتعقّل، و لكنه معقول»، فإذا لم يكن متعقّلا فكيف يمكن أن يكون معقولا؟! فهل يكون الوهيّة اللّه تعالى الّتي اتّفقوا عليه أمرا غير متعقّل إلاّ أن يقال: بأنّ الوهيّة المسيح إنّما تكون كذلك لأنّه إنسان مخلوق حادث و يراد إخراجه عن حدود البشريّة و العروج به الى حدود الإلهيّة الّتي عرفت أنّها تختصّ بالواحد الأحد، و يستحيل أن يصل إليها أحد من المخلوقات.

و كيف كان، فنحن نتعرّض في المقام الى ما يمكن أن نذكره من المناقشات في ما ذكروه إجمالا، و التفصيل في موضع آخر إن شاء اللّه تعالى.

ما يتعلّق بعقائدهم:

ذكرنا جملة من عقائد المسيحيين في السيد المسيح عليه السّلام، و كثير منها إن لم تكن كلّها دعاوي مجرّدة لم يقم عليها دليل إن لم تكن الأدلّة على خلافها، و حاول بعضهم إقامة الأدلّة العقليّة و النقليّة عليها و لكنه لم يأت بشيء جديد سوى إضافة دعاوي جديدة عليها و الاستدلال بأمور عاطفيّة أو عنايات أو بما هو أقرب الى الجدل و السفسطة، كما لا يخفى على من راجعها في كتبهم. و لظهور فسادها اعترف بعضهم بأنّ مسألة تجسّد الكلمة - الّتي هي من أمهات عقائدهم - فوق عقولنا و لكنّه معقول، و لم يعلم وجه هذا القول، فإنّ المسألة إذا خرجت عن حدود فهم البشريّة و كانت فوق عقولهم كيف يمكن أن تكون معقولة و يقام عليها الأدلّة العقليّة ؟!.

ص: 223

و كيف كان، فنحن نذكر في المقام بعض القواعد المسلّمة عند جميع العقلاء - بما فيهم المسيحيون أنفسهم - الّتي تدلّ على فساد جملة كثيرة ممّا اعتقدوه في عيسى ابن مريم عليه السّلام، ثم نذكر ما يمكن الردّ عليها.

الاولى: اتّفق الملّيون الّذين يعتقدون بالإله الوحد الأحد أنّ اللّه تعالى ليس بجسم و لا بمتحيّز، و ليس في جهة و لم يكن محلا للحوادث، و قد أقاموا الأدلّة و البراهين القويمة العقليّة و النقليّة على ذلك، و أنّ القول بتجسّد الكلمة ينافي ذلك بلا ريب، فإنّ تجسّد الإله - سواء كان على نحو العينيّة أو الحلول أو التركب أو الإشراق و غير ذلك - يستلزم أن يكون الإله جسما و متحيّزا و في جهة، و أن يكون محلا للحوادث و مشابها لمخلوقاته، إلاّ أن يراد بتجسّد الكلمة غير الّذي أرادوا فلا بدّ من بيانه.

الثانية: امتناع قلب الحقائق فإنّه ممّا أجمعت عليه العقلاء، فيمتنع قلب حقيقة الى حقيقة اخرى مخالفة للأولى إلاّ بإعدامها. و القول بأنّ المسيح الّذي هو مخلوق حادث صار إلها قديما أزليا يصادم هذه القاعدة المسلّمة.

الثالثة: امتناع حلول صفات القديم بغير ذات اللّه تعالى، فيمتنع قولهم بأنّ الكلمة امتزجت بجسد المسيح و غير ذلك ممّا اعتقدوه في تجسّد الكلمة الأزليّة.

الرابعة: امتناع تعدّد الكلّي الواحد و الإشارة إليه و كونه مرئيا، كما هو مبيّن في علم المنطق، و القول بأنّ عيسى عليه السّلام إنسان كلّي باطل، فإنّ الإنسان الكلّي لا اختصاص له بجزئي دون جزئي آخر، و قد اتّفق النصارى على كون المسيح مولودا من مريم عليها السّلام، فإن كانت مريم كلّيا كما يدّعيه بعضهم، فإن كان هو عين إنسان المسيح لزم أن يكون المسيح مريم و مريم المسيح، و لزم أن يولد الشيء من نفسه.

و كلاهما باطل، و إن كان إنسان مريم جزئيا، فالكلّي ما كان صالحا لاشتراك الكثرة فيه، فيلزم أن يكون المسيح جزءا من مفهوم مريم و بالعكس، و هو محال.

مضافا إلى أنّ الكلّي لا يمكن أن يقع مورد الإشارة إلاّ بالإشارة الى جزئي من جزئياته، أو يقع مورد القتل و التعذيب و الاضطهاد، فإنّه محال.

ص: 224

هذه بعض القواعد المسلّمة عند الجميع، الّتي يستلزم القول بها بطلان جملة كثيرة من معتقدات النصارى في المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام.

و أمّا القول بتجسّد الكلمة الأزليّة، فإنّه مجرّد دعوى بلا دليل، بل الأدلّة قائمة على خلافه، فإنّه إن كان المراد منه حلول الباري القديم عزّ و جلّ في المسيح الحادث و تقمّص جسده، فهو باطل بلا إشكال، و يدلّ على بطلانه ما دلّ على بطلان كون اللّه تعالى جسما، و امتناع حلول الحوادث فيه.

و إن كان المراد منه رفع المسيح الحادث الى مقام الألوهيّة، فهو من انقلاب الحقائق الّذي هو ممتنع عند الجميع، إذ كيف يمكن للمخلوق الحادث أن يكون إلها أزليا قديما.

و إن كان المراد منه إشراقا من اللّه تعالى عليه، فإن كان المراد من الإشراق إشراقا نوريّا كإشراق الشمس، فهو باطل لأنّه من لوازم الجسميّة، و اللّه تعالى منزّه عنها.

و إن كان المراد منه الفيض و نحوه، فهو لا يختصّ بالمسيح، فإنّ آدم عليه السّلام و سائر الأنبياء العظام لهم مثل تلك الفيوضات الربوبيّة، كلّ حسب استعداده.

و أمّا القول بالأقانيم، فإن كان المراد منها صفات اللّه تعالى، فلا بدّ من تطبيقها على القواعد المسلّمة الّتي ذكرت في الفلسفة الإلهيّة، من كونها عين الذات إذا كانت من صفات الذات، و إنّها أزلية أبدية لا يمكن تحديدها بحدّ كما لا يمكن تحديد الذات المقدّسة، و عدم اختصاصها بواحد أو اثنين أو ثلاثة بل المدار على ما ميّزوا به صفات الذات عن صفات الفعل و غير ذلك، فإن كان مرادهم من الأقانيم تلك، فلا مشاحة في الاصطلاح و لكنهم لا يقولون به.

و إن كان المراد تعدّد الآلهة كما يظهر من كلماتهم، فإنّ أدلّة التوحيد تنفي ذلك صريحا كما عرفت آنفا.

و أمّا القول بأنّ خلق المسيح عليه السّلام من غير أب يدلّ على كونه إلها، فإنّ آدم عليه السّلام أبا البشر أحرى بأن يكون إلها على ما يزعمون، فإنّه خلق من غير أب

ص: 225

و لا أم و هم لا يقولون بذلك، فليس الخلق من غير أب أو غير أم أو كليهما إلاّ لبيان تمام قدرة اللّه تعالى على خلقه.

و أمّا القول بأنّ صدور المعجزات الباهرات و خوارق العادات منه عليه السّلام لدليل على كونه إلها، إذ لم تصدر تلك إلاّ من الإله. فهو باطل أيضا، فإنّها إن صدرت منه استقلالا و من دون إقدار اللّه تعالى عليه، فكان أولى له أن يخلّص نفسه من العذاب الّذي حلّ فيه من أعدائه و لم يحتج الى التماسه من أبيه لينجيه من ذلك، كما ورد في العهد الجديد و قد تقدّم في البحث السابق، و إن لم تكن من مقدوراته، فهو عليه السّلام و جميع الأنبياء في هذه الجهة على حدّ سواء، فلم تكن ميزة له، ليدلّ على كونه إلها، و قد صدرت معجزات باهرات من موسى عليه السّلام و لم يدع الألوهيّة فيه، فإن نكروا ذلك فيحقّ لغيرهم أن ينكروا ما يدّعونه في المسيح عليه السّلام و لا يمكنهم ذلك، فإنّه لم يثبت ما يدعونه بأخبار التواتر إلاّ ما ورد في القرآن الكريم، و هم ينكرونه و يكذّبون من نزل عليه.

و أمّا الاستدلال على دعاويهم بما ورد في الأناجيل المعروفة عندهم، فيردّ عليه..

أوّلا: أنّه لا بدّ من إثبات ذلك، فإن الأناجيل المعرفة لم تسلم من يد التحريف، كما نطق به التنزيل.

و ثانيا: أنّه معارض بمثله، كما ورد في الأناجيل المذكورة، و لقد كفانا مؤنة ذلك شيخنا الجليل الشيخ البلاغي (طاب ثراه)، فمن شاء فليراجع كتابه (الهدى الى دين المصطفى) و تفسيره القيم (آلاء الرحمن).

و ثالثا: أنّه يمكن تأويله بما لا يصادم القواعد المسلّمة إن أمكن التأويل، و إلاّ فيردّ.

هذه خلاصة ما يمكن أن يقال في المقام، و لعلّ ما ورد في القرآن الكريم في شأن المسيح عيسى بن مريم عليه السّلام بتعابير مختلفة، كنسبته الى امه العذراء الطاهرة؛ للدلالة على كونه منسوبا و مخلوقا كسائر أفراد الإنسان، و إثبات كونه رسولا،

ص: 226

و التأكيد على أنّ ما صدر منه من المعجزات إنّما كانت بإذنه جلّ شأنه، كما في سورة آل عمران و المائدة و غيرهما من التعابير الدالّة على كونه فردا كسائر الأفراد، كلّ ذلك لنفي ما يزعمه النصارى و ما يعتقدونه فيه.

أصل عقيدة التثليث:

لا ريب أنّ الشرك و كلّ عقيدة تدلّ عليه ليس لها أصل و لا واقع في الأديان الإلهيّة المبنية على التوحيد و نبذ الأنداد، و إذا ظهر شيء منها في دين إلهي أو أية عقيدة اخرى تتخذ التوحيد أساسا لها، فلا بدّ أن يكون لأحد امور على سبيل منع الخلو:

منها: فقدان المعلم المرشد الّذي يمثّل التوحيد قولا و عملا و يبيّنه بيانا واضحا لا لبس فيه لا تباعه.

و منها: احتكاك الامة مع الأمم الّتي تدين بالوثنيّة و تقليدهم فيها على عمى و جهالة.

و منها: تأويل من لا خبرة له و لا معرفة لما ورد في الكتب الإلهيّة و قول الأنبياء بما يوافق التشريك، فيكون مجالا خصبا لزيغ المبطلين و إفساد المفسدين.

و منها: إدخال الأعداء الآراء الهدّامة في الدين و دسّ الأفكار المضلّة في معارفه و أحكامه، فيكون سببا لاندراس اصول الدين و أركانه حتّى لا يبقى من الدين إلاّ اسمه و لا من الكتاب إلاّ رسمه، و لكلّ واحد من هذه الأمور طرق و شعب متعدّدة لا يسع المجال ذكرها.

و على ضوء ما ذكرناه تعرف أنّ عقيدة التشريك في النصرانيّة و الّتي هي دين إلهي، لا تخرج عن سائر الأديان الإلهيّة الّتي تتّخذ التوحيد أصلا من أصولها، بل أساس كلّ معتقد و فكرة فيها، ليس لها أساس و لا واقع و إنّما دخلت فيها نتيجة امور و ظروف معيّنة، و قد حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم عن عيسى بن

ص: 227

مريم عليه السّلام أنّه كان يأمر بالتوحيد و نبذ الأنداد، فقال تعالى: وَ إِذْ قالَ اَللّهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اَللّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ اَلْغُيُوبِ * ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اَللّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ اَلرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ [سورة المائدة، الآية: 116-117].

و يستفاد من هذه الآية المباركة أنّ عبادة اللّه تعالى الواحد الأحد كانت من أساسيات هذا الدين العظيم، و كان عيسى عليه السّلام يأمر بها و هو الشهيد على ذلك؛ لعلمه بأنّها كانت قائمة عند وجوده فيهم، و أمّا بعد ارتحاله و فقدان المعلم المرشد فيهم، فالأمر كان على خلاف ذلك، فقد دبّ الخلاف فيهم و تعدّدت الأناجيل و كثر المتأوّلون لآياتها، فضلّوا و أضلّوا كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم عنهم، و يدلّ عليه بعض الأناجيل أيضا، فقد روى يوحنا في الفصل السابع عشر من إنجيله قول عيسى عليه السّلام: «و هذه هي الحياة الأبديّة أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك و يسوع المسيح الّذي أرسلته»، و هو يدلّ على أنّ اللّه تعالى واحد، و هو الإله فقط و المسيح رسوله، و هذا هو الّذي دعا إليه القرآن الكريم كما ورد في الآيات الّتي تقدّم تفسيرها. و نقل مرقس في الفصل الثاني عشر من إنجيله أوّل الوصايا:

«فأجابه يسوع أوّل الوصايا اسمع يا اسائيل الربّ إلهنا ربّ واحد»، و هو يدلّ على أنّ عقيدة التوحيد هي المعقول و أساس هذا الدين، فإذا كان شيء يخالف ذلك فلا بدّ من تأويله إن كان قابلا له، و إلاّ فهم أولى بتفسير كلمات كتابهم.

و يذكر علماء تاريخ الأديان الإلهيّة أسبابا عديدة لدخول عقيدة التثليث في النصرانيّة، و المعروف بينهم أنّ النصارى كانوا على دين الإسلام برهة من الزمن بعد ما رفع عيسى ابن مريم عليه السّلام الى السماء، و لعلّ الوجه في ذلك أنّه كان بينهم بعض الحواريين الّذين اتّبعوا المسيح عليه السّلام حقّ الاتّباع، و هم الّذين نشروا تعاليمه في البلاد فكانوا أوصياءه عليه السّلام، و بعد غيابهم دخلت تلك العقيدة في النصرانيّة، فقيل: إنّ

ص: 228

السبب في ذلك هم اليهود الّذين عرفوا ببغضهم لهذا الدين، فادخلوا فيه هذه العقيدة لهدمه، و كانت لهم أساليب متعدّدة.

و ذكر بعضهم أنّه لما وقعت الحرب بينهم و بين اليهود خرج رجل يقال له بولس، فقتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السّلام، فاحتال لأن يفرّق جمعهم و يشتّت شملهم فأوقع فيهم الخلاف و أضلّهم بهذه العقيدة، على ما هو المذكور في كتب التأريخ.

و قيل: إنّ السبب هو نقل المتنصّرين الّذين دخلوا في النصرانيّة عقائدهم البدائيّة الوثنيّة، فأوّلوا آيات التوحيد و أدخلوا التحريف و التأويل فيها، و تدلّ عليه شواهد كثيرة؛ لأنّ النصرانيّة كانت محاطة بأمم تتّخذ التثليث عقيدة لهم، منهم البراهمة؛ و منهم البوذائيين، و منهم قدماء المصريين، و منهم الرومان، فقد تأثّرت النصرانيّة بعقائدهم. و قيل غير ذلك، فراجع كتب تأريخ الأديان و العقائد و اللّه العالم.

بحث فقهي:

اختلف الفقهاء (قدس اللّه تعالى أسرارهم) في نجاسة الكافر الكتابي و طهارته، كما أنّهم اتّفقوا في نجاسة المشركين من الكفّار بالأدلّة المقرّرة، و إنّ المسألة بجوانبها محرّرة في الفقه مفصّلا.

و بناء على طهارة الكتابي - كما ذهب إليها جمع من الفقهاء - فهل تشمل الأدلّة الدالّة على نجاسة الكفّار من المشركين الكتابي أيضا؛ لقوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ - الى أن قال تعالى - وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآية: 30-31]، و قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ و غيرهما من الآيات الشريفة، فيكون الكفّار مطلقا محكومين بالنجاسة أو لا تشملهم ؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عنوان الكتابي - من اليهود و النصارى و المجوس - غير عنوان المشرك، لما فيهم نحو إضافة الى الدين أو إليه سبحانه و تعالى و نزول الكتاب بواسطة أنبيائهم، فالكتابي و المشرك عنوانان متقابلان و إن كان بينهما عنوان مشترك - و هو الكفر - و كان بعض عقائدهم يشابه عقائد المشركين، إلاّ أنّ الأحكام مطلقا تابعة لعناوين موضوعاتها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج، الآية:

ص: 229

و بناء على طهارة الكتابي - كما ذهب إليها جمع من الفقهاء - فهل تشمل الأدلّة الدالّة على نجاسة الكفّار من المشركين الكتابي أيضا؛ لقوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ عُزَيْرٌ اِبْنُ اَللّهِ وَ قالَتِ اَلنَّصارى اَلْمَسِيحُ اِبْنُ اَللّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ - الى أن قال تعالى - وَ ما أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة، الآية: 30-31]، و قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ اِنْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ و غيرهما من الآيات الشريفة، فيكون الكفّار مطلقا محكومين بالنجاسة أو لا تشملهم ؟ الظاهر هو الثاني؛ لأنّ عنوان الكتابي - من اليهود و النصارى و المجوس - غير عنوان المشرك، لما فيهم نحو إضافة الى الدين أو إليه سبحانه و تعالى و نزول الكتاب بواسطة أنبيائهم، فالكتابي و المشرك عنوانان متقابلان و إن كان بينهما عنوان مشترك - و هو الكفر - و كان بعض عقائدهم يشابه عقائد المشركين، إلاّ أنّ الأحكام مطلقا تابعة لعناوين موضوعاتها، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هادُوا وَ اَلصّابِئِينَ وَ اَلنَّصارى وَ اَلْمَجُوسَ وَ اَلَّذِينَ أَشْرَكُوا [سورة الحج، الآية:

17]، فأفرد سبحانه و تعالى المشركين عن اليهود و النصارى.

و دعوى: أنّ المراد من الأمم في الآية المباركة غير المنحرفة إلى الشرك، أي دين اليهود الواقعي الّذي جاء به موسى عليه السّلام، أو النصرانيّة الّتي جاء بها المسيح عليه السّلام.

غير صحيحة: لأنّ التخصيص بذلك تخصيص بالفرد المعدوم أو القليل جدا، و إطلاق الآية الشريفة يشمل اليهود و النصارى الموجودين حال نزول الآية الكريمة و بعده، و هما لا يخلوان عن الشرك كما تنصّ الآيات المباركة الكثيرة.

أو تخصيص الأدلّة الدالّة على نجاسة المشركين بالأخبار الدالّة على طهارة الكتابي و فيها الصحيح، و تقدّم مرارا أنّ للشرك مراتب، و أنّ الأدلّة الدالّة على نجاسة الكتابي تحمل على محامل مذكورة في الكتب الفقهيّة المفصّلة.

و أنّ الشرك الّذي محكوم بالنجاسة، و عدم الغفران، و الضلال البعيد، و الحرمان عن الدخول في الجنّة، و وجوب القتل إن تحقّقت شروطه، هو الشرك العظيم الّذي هو الشرك في الذات - أي المعبود - و العبادة، و الصفات - أو إنكار المبدأ بالكليّة - فإذا لم يكن كذلك خرج عن الحكم بالنجاسة و اتّصف بحكم آخر، و لا ينافي ذلك مبغوضيّته عند الشارع.

و بالجملة: أنّ عقيدة الكتابي بالشرك لا تنافي القول بطهارتهم - لو قلنا بها -

ص: 230

و القول بنجاسة المشركين كما عرفت من الوجوه، و حتّى لو التزمنا بنجاسة الكتابي فالاستدلال بتلك الآيات - الدالّة على شركهم - بنجاستهم مشكل، فتأمّل جيدا.

هذا كلّه لو قلنا بطهارتهم، و أمّا لو قلنا بنجاستهم فلا موضوع لهذا البحث أصلا كما هو واضح.

بحث عرفاني

تقدّم في أحد مباحثنا العرفانيّة السابقة أنّ للقلب حياة و ممات، و لكلّ منهما علامات تأتي في ضمن تفسير الآيات الكريمة المناسبة لها إن شاء اللّه تعالى. فمن علامات موت القلب الغفلة عن اللّه تعالى، و إرسال الجوارح في معاصيه جلّ شأنه، و عدم المبالاة بالزلاّت، و أنّ الجامع الباعث لموته حبّ ما سواه تعالى.

و حياة القلب لا تكون إلاّ بمعرفة اللّه تعالى، فكلّما كانت المعرفة أكثر و أعمق تكون آثارها كذلك، و من تلك الآثار ظهور آياته جلّت عظمته بدرك القلب الّذي فيه الحياة لها، و يعبّر عنها بالتجلّي في مصطلح أهل العرفان.

و لم ترد التجلّيات إلاّ على القلب الّذي سلم من يد الأغيار في حياته، و استعدّ للواردات الربوبيّة بشهود أنواره، و صار محلا لدرك الإفاضات بصفاته، و لذلك كان ظهور التجلّيات في صنف الأنبياء و الأولياء أكثر من غيرهم لكمال معرفتهم باللّه العظيم و انسهم بخالقهم، و بعدهم عن الأوهام، و خوفهم من سخطه، و تقرّ بهم الى ساحة كبريائه.

و قد فاز بالحظّ الأوفر من التجلّيات الإلهيّة سيد الأنبياء و خاتمهم نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله؛ لكمال استعداده؛ و عظيم معرفته؛ و منتهى أنسه بربّه، كما نصّت عليه الآيات الشريفة الّتي يأتي شرحها و تفسيرها و البراهين العقليّة.

و أعظم تلك التجلّيات كان لإبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام، و أسماها لموسى بن عمران عليه السّلام، قال تعالى: فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [سورة الأعراف، الآية:

ص: 231

143]، ففي الحديث: «انّه برز من نور العرش مقدار الخنصر، فتدكدك به الجبل و صار مستويا بالأرض» أي ترابا، و كذلك لمريم ابنة عمران عليها السّلام، فقد تجلّى ربّها لها بإرسال الأمين و تمثّل بالبشر عندها، فولد عيسى منها بلا أب، و غير ذلك ممّا ظهر لها في المحراب، و أمّا تجلياته جلّ شأنه لعيسى بن مريم فهي كثيرة، من إبراء الأكمه و الأبرص، و خلق الطير، و إحياء الموتى بإذن ربّه، و رفعه الى السماء و غيرها.

و تختلف تلك التجلّيات حسب اللياقة و الصفاء، و الزمان، و الانس بالربّ و حسب المصالح الّتي لا يعلمها إلاّ هو جلّت قدرته، كما هي مذكورة في كثير من الآيات الشريفة و الكتب السماويّة المصونة من يد التحريف، و تفصيل ذلك خارج عن موضع هذا الكتاب، و يأتي ما يتعلّق بذلك في محلّه إن شاء اللّه تعالى.

و أمّا التجلّيات للمؤمنين، فتختلف حسب اختلاف درجات إيمانهم و حياة قلوبهم و قرب منزلتهم لديه جلّ شأنه، و إن كانت أصولها تنقسم الى أقسام ثلاثة:

الأوّل: التجلّي بعد الانتباه من الغفلة الى اليقظة، و يعبّر عنه بالإقبال، فيغيب عمّا سواه تعالى و لا ينظر إلاّ الى آثاره تعالى، و هو المرحلة الاولى للسالكين إليه عزّ و جلّ ، و له مراتب متفاوتة، و في كلّ مرتبة درجات.

الثاني: التجلّي بالوصال و هو مختصّ بالأوصياء و الكمّل من الأولياء، و في دعوات الصحيفة الملكوتيّة السجاديّة و دعاء كميل شواهد كثيرة على ذلك، و له أيضا مراتب و في كلّ مرتبة درجات.

الثالث: التجلّي بالفناء، بكشف الحقيقة أو بفناء النفس في جنبه، و هو مختصّ بالخلّص من الكمّل، و الغور فيه بالبحث عنه مزلّة الأقدام، فطوبى لمن نال بقبس من ذلك النور و فاز برشحة منه.

و هناك تقسيم آخر للتجلّي و هو العظيم، و الأعظم، و الأكبر كما ورد في الدعوات المأثورة، و البحث عنه موكول للآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و عن بعض العرفاء أنّ العوالم كلّها ساحة تجلّياته تعالى، و يدركها الإنسان إن تحقّقت المعرفة، و رفعت الحجب، و أزيلت الأستار، و انفصلت الأغيار عن النفوس،

ص: 232

و صفي القلب عن الشوائب، و إلاّ فدركها بالعقول المشوبة بالمادّة و النفوس المختلطة بالأوهام غير ممكن، كما قال الشاعر:

و للعقول حدود لا تجاوزها *** و العجز عن درك الإدراك ادراك

قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في بعض الدعوات المأثورة: «اللهمّ أرنا الأشياء كما هي»، و في الدعاء عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «اللهمّ لا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدا» هذا.

و لعلّ ما ورد في كلمات المسيحيين من حلول المبدأ جلّ شأنه في المسيح مرادهم التجلّي له، كما حصل ذلك لإبراهيم و موسى عليهما السّلام، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله في المعراج، و إنزال الروح الأمين على قلبه، و انشراح صدره، و تجاوزه قاب قوسين أو أدنى الى غير ذلك من تجلياته، و إلاّ فإنّ الحلول محال و غير ممكن كما عرفت سابقا، و يشهد لذلك أنّ مثل هذا التعبير قد وقع في جملة من كلمات مشايخ العرفان و أكابر الصوفيّة، و مرادهم نوع من التجلّي لا الحلول الواقعي كما هو واضح و اللّه العالم بالحقائق و الشاهد على السرائر.

ص: 233

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ .......

اشارة

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176) الآية الشريفة هي ختام هذه السورة الّتي اشتملت على جملة من المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة و التوجيهات و الإرشادات الواقعيّة، و قد عالجت أهمّ قضية في الأديان السماويّة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، و كانت فيها جولات مع الكافرين و المنافقين المعاندين و بيّنت صفاتهم و نواياهم الخبيثة.

و في هذه الآية الكريمة ردّ على فتوى المستفتين في فريضة من الفرائض الإلهيّة الّتي سبق ذكرها في هذه السورة أيضا، و إنّما الفرق بينهما أنّ هذه الآية المباركة تبيّن حكم كلالة الأب خاصّة، و أمّا الاولى فهي تبيّن حكم كلالة الام فقط.

كما أنّ في هذه الآية الكريمة تفصيلا لأقسامها و بيان فرائض كلّ قسم، بخلاف الاولى، فإنّها اعتبرت كلالة الام قسما واحدا، فكانت فرائضها قليلة.

و كيف كان، فإنّ وقوع هذه الآية الشريفة في ختام السورة؛ لبيان كمال عناية اللّه تعالى بالمؤمنين، فهي رحمة من ربّ العالمين لهدايتهم، كما أنّ فيها إيماء باستكمال المؤمنين بالتوجيهات الربوبيّة، فإنّ طلب الفتوى علامة من علامات الإيمان و التسليم و الطاعة للّه و رسوله، الّتي أمر عزّ و جلّ بها في هذه السورة.

التفسير

قوله تعالى: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ .

تقدّم في الآيات المباركة السابقة الكلام في معنى الاستفتاء و الإفتاء

ص: 234

و الكلالة، و قلنا إنّها إخوة الرجل و أقاربه غير الوالد و الولد، فمأخوذ في معناها فقد الوالدين و الأولاد، و تطلق على الوارث و المورّث من جهة انتساب كلّ واحد منهما الى الآخر، و تتناول الذكر و الأنثى.

و المعنى: يستفتونك في أمورهم و أحكامهم قل: لهم اللّه يفتيكم في الكلالة. أو أنّ المعنى: يستفتونك في الكلالة، حذفت لدلالة الجواب عليها.

قوله تعالى: إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ .

جملة استئنافية لبيان الفتيا، و (إن) شرطيّة مختصّ بالفعل المستكن في (هلك)، و الولد يشمل الذكر و الأنثى للإطلاق، خلافا لما ذهب إليه بعض من تخصيصه بالذكر للتبادر، فإنّه بلا دليل، و قد تقدّم في قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اَللّهُ فِي أَوْلادِكُمْ أن إطلاق الولد يشمل الذكر و الأنثى، و في حكم الولد ولد الولد كما مرّ.

و نفى الولد هنا للتأكيد؛ لما تقدّم آنفا من أنّ معنى الكلالة مأخوذ فيه فقد الوالدين و الولد، و يدلّ عليه مضافا الى ذلك ظاهر الآية الشريفة، فإنّه لو كان أحدهما موجودا لذكر سبحانه و تعالى سهمه؛ لأنّ الآية المباركة في مقام البيان، و يدلّ عليه أيضا السنّة الشريفة و الإجماع.

و إنّما اكتفى عزّ و جلّ بنفي الولد دون الوالد، إمّا تغليبا، أو لأجل معلوميّة الحكم من الآيات المباركة السابقة الواردة في الفرائض، أو لأجل الردّ على بعض العادات الّتي كانت سائدة في العصر الجاهلي من تقديم الإخوة على الأولاد.

قوله تعالى: وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ .

المراد من الإخوة هنا إخوة الأب و الام، أو الأب خاصّة. و بعبارة اخرى:

أنّ الآية الشريفة تبيّن حكم كلالة الأبوين أو الأب خاصّة، و أمّا كلالة الام فقد تقدّمت في الآية الاولى.

و المعنى: إن مات امرؤ عادم للولد، أو غير ذي ولد، و كان له أختا من أبويه معا، أو من أبيه فقط، فلها نصف ما ترك.

ص: 235

قوله تعالى: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ .

أي: أنّ المرء يرث أخته إذا لم يكن لها ولد - ذكرا كان أم أنثى - و لا والد، كما عرفت من أنّ نفي الولد مأخوذ في معنى الكلالة، فيكون ذكره للتأكيد، و هو يرثها المال كلّه؛ لأنّ فريضة النصف مشروط بكون الوارث أختا للميت، سواء كان ذكرا أم أنثى، و أمّا لو انعكس بأنّ كان الوارث ذكرا و أخا للميت، فالفريضة السابقة لا تشمله لفقد الشرط، فيرث المال كلّه، فلا أثر لذكوريّة الميت أو انوثته في الفريضة، و إنّما المدار على الوارث.

و إطلاق الآية الكريمة يدلّ على بطلان قول من ذهب الى أنّ الأخ يرث مع البنت نصف مال الاخت، و كذلك الاخت ترث نصف ما تركته أختها مع البنت؛ لأنّ الولد إنّما يطلق على الذكر دون الأنثى.

و يردّ عليه ما ذكرناه آنفا من إطلاق الولد عليهما؛ و لأنّ إحراز الأخ جميع المال مشروط بانتفاء الولد بالكليّة، لا ثبوت الإرث لهما في الجملة.

ثمّ إنّه عزّ و جلّ ذكر قسمين من أقسام إرث كلالة الأب في المقام، و هما: أن يكون الوارث أختا واحدة للميت و لم يكن غيرها، و فريضتها النصف، و ترث الباقي ردّا.

و أن يكون الوارث أخا للميت كذلك، و هو يرث المال كلّه، كما ذكرنا ذلك مفصّلا في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

و ظاهر الآية الشريفة أنّ ذلك فريضة، و يدلّ عليه بعض الأخبار أيضا، كما ذكرناه في الفقه أيضا.

و بقي قسمان آخران يعلم حكمهما ممّا ورد في الآية المباركة، و هما أن يكون الوارث و المورث أختين، و سهمها النصف أيضا؛ لإطلاق الآية الكريمة؛ و ما ذكرناه آنفا من عدم دخل مال الميت في الذكورة و الأنوثة في اختلاف الفرائض في المقام و المدار على حال الوارث. و الرابع أن يكون الوارث و المورث أخوين و سهمه المال

ص: 236

كلّه أيضا لما عرفت، و لأنّه لو كانت هناك فريضة اخرى لهذين القسمين لذكرت في الآية الشريفة؛ لأنّها في مقام البيان.

و لا يخفى أن إرث هؤلاء مشروط بالانفراد و الوحدة، و إلاّ فالحكم يختلف كما سيبيّنه عزّ و جلّ في ما يأتي.

قوله تعالى: فَإِنْ كانَتَا اِثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا اَلثُّلُثانِ مِمّا تَرَكَ .

عطف على الشرطيّة الاولى؛ لبيان سهم الأختين فصاعدا، فلهن الثلثان ممّا تركه الميت، سواء كان أخا للوارث أم أختا له، كما عرفت آنفا. و إنّما ذكر عزّ و جلّ اثنتين دون الأختين و غيره؛ لأنّ العبرة بالعدد.

و استشكل بعضهم في الإخبار عن ضمير التثنية «كانتا» بالاثنتين؛ لأنّ الخبر لا بدّ أن يفيد ما يفيده المبتدأ، و ضمير التثنية دالّ على الاثنينية، فلا يفيد الإخبار عنه بما ذكر شيئا.

و أجيب عنه بوجوه عديدة لا تخلو أغلبها عن المناقشة، كما لا يخفى على من راجعها.

و الحقّ أن يقال: إنّ اثنتين حال مؤكّدة، و لبيان أنّ العبرة بالعدد و الخبر محذوف، أي: فإن كانت الأختان الوارثتان له اثنتين أو أكثر، هذا كلّه حكم صورتي الانفراد و التعدّد من كلالة الأب لكن مع الوحدة. و بغير زوج أو زوجة كما هو المفروض في جميع ما تقدّم.

قوله تعالى: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ .

بيان لحكم التعدّد و الاختلاف، أي: و إن كان من يرث إخوة من الكلالة و أخوات رجالا و نساء، فللذكر مثل حظ الأنثيين، فإنّه القاعدة في باب الإرث في ما إذا اجتمع الذكور و الإناث من الوارث، فللذكر مثل حظ الأنثيين، إلاّ ما خرج بالدليل كما ذكرنا في الإرث من كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 237

و في الآية المباركة تغليب الذكور على الإناث، و أنّ قوله: رِجالاً وَ نِساءً بدّل كما هو واضح.

قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا .

تعليل لما سبق، أي: يبيّن اللّه تعالى لكم أحكامه المقدّسة و امور دينكم؛ لئلاّ تضلوا، أو كراهة أن تضلّوا، على الخلاف المعروف بين البصريين و الكوفيين في مثل هذه الجملة.

و قيل: يبيّن اللّه لكم الضلالة من الهداية، فتجتنبوا الاولى و تتّقوها و تأتوا بالثانية.

و كيف كان، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ الأحكام الإلهيّة من سبل هداية الإنسان، و من طرق الوصول الى الكمال و السعادة المنشودتين.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ .

أي: أنّ اللّه تعالى يعلم ما يوجب خيركم و جميع خيركم و جميع مصالحكم، فلم يشرّع لكم من الأحكام إلاّ لأجل سعادتكم.

و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لتشريع ما سبق من الأحكام المبتنية على المصالح.

ص: 238

بحث المقام
بحث دلالي

تدلّ الآيتان الشريفتان على أنّ إرث الكلالة مطلقا مشروط بانتفاء الوالدين و الأولاد مطلقا، فيستفاد منهما أنّهم من الطبقة الثانية، كما أنّ الوالدين و الأولاد من الطبقة الاولى، و قد دلّت الأخبار الواردة من المعصومين عليهم السّلام على أنّ الأجداد يشاركون الإخوة و الأخوات فيكونون من الطبقة الثانية أيضا، و قد ذكرنا جملة منها في كتاب الإرث من (مهذب الأحكام).

كما أنّ الأخبار دلّت على أنّ إرث الأعمام و الأخوال مشروط بانتفاء الإخوة و الأجداد، فعلم من ذلك أنّهم من أهل الطبقة الثالثة، على التفصيل المذكور في الكتب الفقهيّة.

و أنّ الآيتين الشريفتين تدلاّن على تفصيل توريث كلالة الأبوين أو الأب خاصّة على الإطلاق، حيث لم تشترط فقد الإخوة من كلالة الام.

و الكلالة: هي القرابة غير الوالد و الولد كما تدلّ عليه الآية المباركة و السنّة الشريفة و آية الكلالة مذكورة في هذه السورة المباركة في موضعين، و في كلتيهما يبيّن عزّ و جلّ معنى الكلالة بأحسن بيان، ففي قوله تعالى: إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ بيان لمعنى الكلالة، فيستفاد منه أنّ الكلالة ليست في عمود النسب.

و في كلمة «هلك» و التعبير به دون مات أو توفي أو أمثالهما، إشارة لطيفة بأنّ من لا ولد له فهو هالك.

و في الآية الشريفة قرينة على أنّ المراد بالكلالة المتقرّب بالأبوين أو الأب فقط، فتدبّر فيها و في ما مرّ من آية الكلالة.

ص: 239

كما أنّ الآية الاولى الّتي وردت في كلالة الام دلّت على توريثها على الإطلاق كما عرفت، فيعلم من ذلك أنّ الكلالتين تجتمعان و قد تفترقان، و كذا حالهما مع الأزواج، فإذا اجتمعت كلالة الأب و كلالة الام فإن كانت الأخيرة واحدة، فالسدس لها، و إن كانوا أكثر فيقتسمون الثلث بينهم بالسوية مطلقا، و أمّا الباقي فيعطى لكلالة الأب، فإن كانت أختا واحدة فلها النصف من الثلثين و البقية يردّ عليها، و إن كانت أختين فصاعدا يعطى لهما ثلثا الثلثين و الباقي يردّ عليهما، و إن كانوا ذكورا و إناثا فيعطى لهم الثلثين، للذكر مثل حظ الأنثيين، و لا شيء عندنا للعصبة، فيعطي له نصيبه الأعلى، فإن بقي شيء فللكلالة، بالتفصيل الّذي ذكرناه في الإرث من (مهذب الأحكام).

و المستفاد من الآيتين الشريفتين أنّ السهام المذكورة لكلالة الأب فيهما هي سهم الاخت الواحدة و هو النصف، و سهم الأختين و هو الثلثان، و سهم الأخ الواحد و هو المال كلّه، مشارك غيره من الزوج أو الجدّ كما دلّت عليه النصوص.

و سهم الإخوة ذكورا و إناثا، و هو المال كلّه، للذكر مثل حظّ الأنثيين، و من ذلك يعلم بقية السهام، و هي سهم الأخوين، و هو المال كلّه بينهما بالسوية، و منها الأخ مع الاخت، فللذكر مثل حظّ الأنثيين، و يصدق على الجميع الإخوة.

و يدلّ قوله تعالى: وَ اَللّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ على أنّ تشريع الأحكام يختصّ بمن كان عالما بجميع الأمور - حقائقها و مصالحها - و ما تتعلّق بمحياكم و مماتكم، و بمقدار قدرة العباد في تحمّلها، فيعلم من ذلك بطلان أيّ تشريع آخر صادر من غيره عزّ و جلّ ، فإنّه ضلال و لا يجلب إلاّ الشقاء و الحرمان، كما يدلّ عليه قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا .

كما أنّ في الآية الشريفة إشارة الى أنّ اللّه تعالى لم يكل تشريع الأحكام الى النبي صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما هو رسول و مبلّغ من عنده جلّ شأنه.

ص: 240

بحث روائي

علي بن إبراهيم بسنده عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا مات الرجل و له اخت، لها نصف ما ترك من الميراث بالآية كما تأخذ البنت لو كانت، و النصف الباقي يردّ عليها بالرحم إذا لم يكن للميت وارث أقرب منها، فإن كان موضع الاخت أخ أخذ الميراث كلّه؛ لقول اللّه: وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، فإن كانتا أختين أخذتا الثلثين بالآية و الثلث الباقي بالرحم، وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ و ذلك كلّه إذا لم يكن للميت ولد أو أبوان أو زوجة».

أقول: الرواية من باب التفسير و التوضيح للآية المباركة كما تقدّم.

العياشي في تفسيره عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى:

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ إِنِ اِمْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ : «إنّما عنى اللّه الاخت من الأب و الام، أو الاخت من الأب فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ ، و قال: وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ اَلْأُنْثَيَيْنِ ، فهؤلاء الّذين يزادون و ينقصون و كذلك أولادهم يزادون و ينقصون».

أقول: الرواية كسابقتها، و نصيب كلالة الام تقدّم في الآية الّتي تقدّمت في أوائل السورة.

و فيه أيضا عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إذا ترك الرجل امه و أباه و ابنه و ابنته، فإذا هو ترك واحدا من هذه الأربعة فليس هو من الّذي عنى اللّه في قوله: قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ، ليس له أن يرث مع الام و لا مع الأب و لا مع الابن و لا مع الابنة إلاّ زوج أو زوجة، فإنّ الزوج لا ينقص من النصف إذا لم يكن معه ولد، و لا تنقص الزوجة من الربع شيئا إذا لم يكن معها ولد».

أقول: و قريب منه ما عن زرارة، و تقدّم تفصيل المراتب في الإرث من كتاب

ص: 241

(مهذب الأحكام)، و الرواية من باب التفسير للآية المباركة.

و في المجمع عن جابر بن عبد اللّه الانصاري قال: «اشتكيت و عندي تسعة أخوات لي - أو سبع - فدخل عليّ النبي صلّى اللّه عليه و آله فنفخ في وجهي فأفقت فقلت:

يا رسول اللّه ألا أوصي لأخواتي بالثلثين ؟ فقال: أحسن. قلت: الشطر؟ فقال:

أحسن. ثمّ خرج و تركني و رجع إليّ فقال: يا جابر إنّي لا أراك ميتا من وجعك هذا، و إنّ اللّه تعالى قد أنزل في الّذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين، و كان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ ».

أقول: الرواية تتضمّن كرامة للنبي، و كم له صلّى اللّه عليه و آله منها في كلّ يوم من أيّام عمره الشريف، و كان في مرض جابر مصالح و بركات.

و في الدرّ المنثور عن جابر بن عبد اللّه قال: «دخل عليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا مريض لا أعقل، فتوضّأ ثمّ صبّ عليّ فعقلت فقلت: إنّه لا يرثني إلاّ كلالة، فكيف الميراث ؟ فنزلت آية الفرائض»، و قال جابر: «أنزلت فيّ : يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ، هكذا في رواية أبي حاتم».

أقول: الظاهر وحدة القضية، و أنّ النفخ كان من مقدّمات صبّ الماء على وجهه، و أنّ الشفاء حصل بمجرّد النفخ، و صبّ ماء الوضوء كان لمنقبة اخرى و مفخرا لجابر؛ لأنّ المسلمين كانوا يتسابقون للتبرّك بقطرة من ماء وضوئه صلّى اللّه عليه و آله.

و في الدلائل للبيهقي عن البراء قال: «آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اَللّهُ يُفْتِيكُمْ فِي اَلْكَلالَةِ ».

أقول: اختلف المفسّرون في آخر سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي في المحلّ المناسب التعرّض له.

و في الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال: «جاء رجل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فسأله عن الكلالة ؟ فقال: تكفيك آية الصيف».

أقول: تسمية الآية الكريمة بآية الصيف لنزولها في ذلك الموسم، فإنّ اللّه

ص: 242

تعالى أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و اخرى في الصيف و هي هذه الآية.

و في تفسير العياشي عن بكير قال: «دخل رجل على أبي جعفر عليه السّلام فسأله:

عن امرأة تركت زوجها و إخوتها لامها و أختا لأب ؟ قال: للزوج النصف ثلاثة أسهم و للإخوة من الام الثلث سهمان، و للاخت للأب سهم، فقال له الرجل: فإنّ فرائض زيد و ابن مسعود و فرائض العامّة و القضاة على غير ذا يا أبا جعفر! يقولون: للاخت للأب و الام ثلاثة أسهم نصيب من ستة تعول الى ثمانية، فقال أبو جعفر عليه السّلام: و لم قالوا ذلك ؟ قال: لأنّ اللّه تعالى قال: وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ، فقال أبو جعفر عليه السّلام: فما لكم نقصتم الأخ إن كنتم تحتجّون بأمر اللّه بإنّ اللّه سمّى لها النصف، فإنّ اللّه سمّى للأخ الكلّ ، و الكلّ أكثر من النصف، فإنّه تعالى قال:

فَلَها نِصْفُ ، و قال للأخ وَ هُوَ يَرِثُها : يعني جميع المال، إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فلا تعطون الّذي جعل له الجميع في بعض فرائضكم شيئا و تعطون الّذي جعل اللّه له النصف تامّا؟!».

أقول: إن ردّه عليه السّلام كان بالنقض كما هو واضح، و ذكرنا التفصيل في الإرث من (مهذب الأحكام)، فمن شاء فليرجع إليه.

تمّت هذه السورة المباركة و الحمد للّه الّذي أذهب عنا الحزن بالتوفيق للتفسير، إنّ ربّنا لغفور شكور، جعلنا اللّه تعالى من العاملين بما أنزل فيها من الأحكام.

و المتخلّقين بما ورد فيها من الآيات في مكارم الأخلاق، و أسمى الحسنات و سجايا الصفات.

و المعتصمين بما ذكر فيها من الأسماء و الصفات.

و الذاكرين بما سرد فيها من الأذكار، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم: «إنّ الّذين لا تزال ألسنتهم رطبة من ذكر اللّه يدخلون الجنّة و هم يضحكون».

ص: 243

و السالكين في ما تلطّف عليها فيها من السبل الى عتاب حضرته.

و من المجذوبين بآياتها النازلة في الجذب بالعناية الى ساحة كبريائه.

و من العارفين بما أفاض علينا فيها من المعارف الربانيّة.

و من العاشقين لحضرة جماله و أنواره، متجرّدين عن كلّ مرغوب و مرهوب، منفردين من كلّ مطلوب و محبوب، بما منّ علينا فيها من آيات العرفان، و نسأله جلّ شأنه أن لا يقطع عنّا عونه و فيضه، و يمدّنا بالتوفيق، إنّه سميع مجيب.

ص: 244

ص: 245

ص: 246

ص: 247

سورة المائدة

اشارة

ص: 248

<سورة المائدة و هي مائة و عشرون آية> بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْ.......

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ (2) هذه السورة المباركة نزلت في حجّة الوداع فيما بين مكّة و المدينة و هو صلّى اللّه عليه و آله على ناقته، فبركت من ثقلها كما في بعض الأخبار.

و عن بعض المفسّرين أنّها مدنيّة إلاّ آية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ، فإنّها نزلت بعرفة عام حجّة الوداع.

و كيف كانت، فإنّها - كسائر السور القرآنيّة - اشتملت على جملة من المعارف الإلهيّة، و الإرشادات الربوبيّة، و التوجيهات السماويّة، و عالجت قضية القرآن الرئيسة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، و إثبات رسالة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، و الدعوة إلى الإيمان الصحيح، فكان القسم الأعظم من هذه السورة في محاجّة اليهود و النصارى مع ذكر المنافقين و المشركين، و لم تخرج عن الغرض العظيم الّذي يهدف إليه القرآن الكريم، و هو إرشاد الإنسان إلى الكمالات الواقعيّة، و بيان طرق

ص: 249

استكماله، فذكرت كثيرا من الأحكام العمليّة الفرديّة و الاجتماعيّة و التربويّة الّتي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و إصلاحها و تزيينها بالأخلاق الفاضلة.

و يمكن بحقّ أن تسمّى هذه السورة بسورة الأحكام و المواثيق؛ لأنّها اشتملت على أمهات التكاليف في الأصول و الفروع، و يكفي شاهدا على ذلك أنّه ذكر فيها أهمّ موضوع بعد التشريع، و هو الاعتناء ببقاء الشريعة و دوامها، فذكرت بأسلوب رصين له وقع كبير في النفوس.

كما سمّيت السورة بسورة الأحبار؛ لقوله تعالى فيها يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ ، و هم العلماء.

و لعلّ الابتداء بالدعوة إلى الوفاء بالعهود و حفظ المواثيق، و تخصيص الخطاب بالمؤمنين و ذكرهم في مفتتحها و فوزهم بشرف النداء الربوبي؛ لأنّهم استعدّوا بعد الجولة الطويلة معهم له و عرفوا عظيم هذا الأمر في بقاء الشريعة الختميّة و حفظها من كيد الأعداء و الضياع.

مع أنّ ذلك من أجمل براعة الاستهلال المعروفة في علم البديع؛ لأنّ فيها تلقين النفوس و ترويضها على قبول هذا الحكم الإلهي؛ لأنّه من كمال الدين و إتمام النعمة.

و الآيات الاولى منها تشتمل على جملة من الأحكام العمليّة الّتي تتعلّق بالنظام العامّ و الحجّ ، و ابتدأ عزّ و جلّ بالدعوة إلى الوفاء بالعقود الّتي هي أساس كلّ تكليف إلهي، فإنّ التكاليف عهود و مواثيق بين اللّه تعالى و بين عباده، و من جملتها العقود الدائرة بين الناس، فيجب الوفاء بها.

كما أنّه سبحانه و تعالى أمرهم بالتعاون على البرّ و التقوى، الّذي هو من الدعائم القويمة في الإسلام، و أساس كلّ خير و فضيلة، و حذّرهم عزّ و جلّ من التهاون بهذا الأمر، و أمرهم بالتقوى بالايتمار بأوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن مناهيه، فإنّه شديد العقاب لا يغفل عن عقاب العاصين.

ص: 250

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي في سورة النساء، و ذكرنا أنّه يتضمّن كلّ معاني الإسلام و الطاعة و الإخلاص، فهو يدلّ على عظيم شرف المؤمنين و استعدادهم لتلقي الفيض من العزيز العليم.

و افتتاح السورة به لبيان أنّ العمل بما ورد فيها يجعل الفرد مؤمنا مستسلما للّه تعالى مطيعا له عزّ و جلّ .

و من الجدير بالذكر أنّ هذا النداء يذكر في كلّ مورد يبيّن عزّ و جلّ حكما عمليّا، أو شرطا من شروط الإيمان المطلوب، أو ما يتعلّق بتهذيب النفس و مكارم الأخلاق، و قد ذكرت جميع ذلك في هذه السورة المباركة.

قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ .

مادّة [وفي] تدلّ على أخذ الشيء وافيا و الإتيان به تامّا لا نقص فيه، و أوفينا الكلام في قوله تعالى: بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اِتَّقى فَإِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران، الآية: 76]، و قوله تعالى: وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ [سورة آل عمران، الآية: 185].

و الوفاء بالعقد: هو حفظ ما يقتضيه العقد و إتيانه تامّا بالقيام لموجبه، يقال:

وفي و وفيّ و أوفى، و جميعها وردت في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِبْراهِيمَ اَلَّذِي وَفّى [سورة النجم، الآية: 37]، و قال تعالى: وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اَللّهَ [سورة الفتح، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج، الآية: 29].

و مادّة (عقد) تدلّ على الربط و الشدّ محكما، بحيث يصعب انفصال أحد الأطراف عن الآخر، و تستعمل في الأمور المحسوسة، كعقد الحبل و عقد البناء، و غير المحسوسة كعقود المعاملات من البيع و الإجارة و الصلح و نحوها، و منها عقد

ص: 251

النكاح، قال تعالى: أَوْ يَعْفُوَا اَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ اَلنِّكاحِ [سورة البقرة، الآية:

237]، و في دعاء الصحيفة الملكوتيّة: «و أسألك بمعاقد العزّ من عرشك»، أي:

بالصفات الّتي استحقّ بها المجد و العزّ للعرش، فيها انعقد و بوجودها تشرّف، فلا يمكن الانفصال بينهما، و لعلّ تلك الخصال أو الصفات تجليات خاصّة من ربّ العزّة استحقّ العرش بها المجد و العظمة.

و الوفاء بالعقد: هو الالتزام بلوازمه و عدم نقضه، و إطلاق الكلمة يشمل جميع العهود و المواثيق الخالقيّة، و الخلقيّة، ما لم يرد نهي عن الشارع المقدّس عن الوفاء به؛ لأن في كلتيهما يتحقّق معنى الاستيثاق و الشدّ، و أنّ ذكر بعضهم بأنّ العقد يختلف عن العهد في أنّ الأوّل ما كان انشاؤه بين اثنين، بخلاف الثاني فإنّه قد ينفرد به واحد، و لكنه لا يضرّ بأصل المعنى الّذي اشتركا به.

و ربّما يستفاد من موارد استعمال المادتين أنّ العهد أشدّ من العقد، فإنّ الأخير ربط بين شيئين، بحيث يلزمه و لا ينفكّ عنه بينما يكون الأوّل ربطا بين العاهد و المعهود له فيه تمكين من النفس. فلا يمكن للعاهد أن ينقضه، و لعلّه لأجل ذلك كان استعمال العهد أكثر من العقد في القرآن الكريم، فقد ورد العهد فيه ما يقرب من خمسين موضعا و لم يبلغ العقد العشرة، و أكّد القرآن على الوفاء بالعهد فقال تعالى: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ اَلْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً [سورة الإسراء، الآية: 34].

و هو يشمل كلّ مصاديق العهد و جميع معانيه من الفرديّة و الاجتماعيّة، و العقود الدائرة في المجتمع، و النذور، و هذه الثلاثة هي ركائز الحياة و لا غنى للإنسان عنها، فإنّ جميع الحقوق الفرديّة و الاجتماعيّة مبنيّة على الوفاء بها، و في نقضها هدم للكيان الإنساني فلا تقوم له قائمة، و يكفي في ذمّه أنّه إبطال للعدل الاجتماعي الّذي هو الركن الأساسي في حياة الإنسان، و هو مأواه من الظلم و الطغيان، و به ينتظم سلك الاجتماع و تتحقّق السعاة، ففي العقد و العهد بجميع معانيهما قوام حياة الإنسان في كلّ علاقاته مع خالقه و مع نفسه و مع الآخرين؛ لأنّه الوسيلة الوحيدة في اكتساب المزايا و الحظوظ الدنيويّة و الاخرويّة؛ و لذا أكّد القرآن الكريم على الوفاء

ص: 252

بهما و مدح الموفين بعهودهم و عقودهم، و شدّد النكير على نقضهما و عدم الاعتناء بهما و ذمّ الناقضين لهما ذمّا بالغا، و السرّ في ذلك واضح؛ لأنّ الإسلام يعتبر الوفاء بالعقد و العهد من مكارم الأخلاق و مظهرا من مظاهر صفاته عزّ و جلّ ، مضافا الى أنّ فيه حياة الامة، و أنّه أساس كلّ عدل فردي و اجتماعي، بلا فرق بين أن ينتفع العاقد من العقد أم لا، إلاّ أن يتضرّر منه، و ينقض كلّ عقد يستلزم الظلم و يوجب سلب الحقّ عن الآخرين.

و بعبارة اخرى: أنّ الإسلام يجعل العقد و العهد و الوفاء بهما خدمة للحقيقة و وسيلة لرعاية الحقّ ، لا أن يكون لهما موضوعيّة خاصّة فقط، و بهذا افترق في احترام العهد و العقد عن سائر الأمم و القوانين الوضعيّة، فإنّها إنّما تحترم العقود و العهود إذا جلبت المنافع، أو استلزم منها تثبيت حقّ ، أو كانت وسيلة لابتزاز حقوق الآخرين و السيطرة على المحرومين.

و بتعبير أوضح أنّ الأمم إنّما تحترم العقد و العهد إمّا لأنّهما تجلب المنفعة أو تدفع المفسدة، و كلاهما لا يكون غاية في احترام العهود و العقود في الإسلام كما عرفت.

إن قلت: إنّ العقود و العهود في أدلّة وجوب الوفاء هي المتداولة بين أعراف العقلاء، فلا وجه للتفاوت و التفصيل بينها.

قلت: البحث في الدافع لاحترامها و المحفّز للالتزام بها، فتارة: يكون لأجل رعاية الحقّ و حفظ الحقيقة و لا يراعي الجوانب الاخرى - مثل المنافع أو المفاسد - و غيرهما و هذه نظرية الإسلام.

و اخرى: يكون الدافع أو المحفّز المنافع أو دفع المفاسد، و هذه نظرية الأمم أو القوانين الوضعيّة، فلا وجه للإشكال كما هو واضح.

ثمّ إنّ العقود من الأمور العقلائيّة الدائرة في المجتمع، و لا تختصّ بالإسلام، و إن احترامها من الأمور الفطريّة؛ لأنّ البشر من أوّل وجوده على هذه البسيطة - مع قطع النظر عن الديانات - كان يحترمها، فيكفي في اعتبارها عدم ورود المنع في

ص: 253

الشريعة، و لها مصاديق كثيرة مثل البيع و الإجارة و الصلح و غير ذلك، سواء أ كانت فرديّة أم اجتماعيّة.

اللهمّ إلاّ أنّ في احترام العهود الاجتماعيّة بسط العدل على وجه الأرض و انتظام شؤون الناس و تحقيق سعادتهم، و في نقضه هدم كيان الامة و السبب في شقائها، و حرمانها عن الترقي بالوصول الى الكمال، و على أية حال يحرم نقض العهد مطلقا إلاّ ما أذن الشارع - الّذي هو عالم بالمصالح و المفاسد - في نقضه.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في كثير ممّا نقله المفسّرون في المقام، فقد قال بعضهم: إنّ المراد من العقود الّتي كانت في الجاهليّة يعاهد بعضهم بعضا على النصرة و المؤازرة على من يبغي عليهم أو يقصدهم بسوء، و نقل بعض أرباب التواريخ أنّها كانت كثيرة جدا، و لعلّ تكرار ذكره في القرآن الكريم لأجل أنّه كان شائعا في عصر نزوله.

و قال آخرون: إنّ المراد بها هي الّتي يتعاقدها الناس - كعقد البيع و الإجارة، و المضاربة، و النكاح، أو ما يعقدها الإنسان على نفسه، كعقد اليمين و النذر و العهد.

و قال ثالث: إنّ المراد بها المواثيق المأخوذة من أهل الكتاب بالعمل بالتوراة و الإنجيل، و غير ذلك ممّا ذكره أرباب التفاسير.

و الحقّ أنّ جميع ذلك خلاف ظاهر الآية الكريم، و تخصيص لها بغير دليل يقنع العقل به أو يكون منقولا شرعيا.

و استظهر الزمخشري و تبعه آخرون: أن يكون المراد عقود اللّه تعالى عليهم في دينه من تحليل حلاله و تحريم حرامه؛ لما فيه من براعة الاستهلال، و من التفصيل بعد الإجمال.

و لا يخفى أنّ ما ذكره و إن كان وجيها، إلاّ أنّه لا ينافي التمسّك بعموم اللفظ و الحكم بأنّه يعمّ جميع ما ألزمه اللّه تعالى على عباده و عقد عليهم من التكاليف و الأحكام و ما يعقدونه بينهم من العقود و العهود و غيرهما مما يجب الوفاء بها، فإنّ به يجمع بين ما يقتضيه اللفظ من الوجه الأدبيّة البلاغيّة، و من المقصود الظاهر من الكلام.

ص: 254

قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ .

حكم امتناني إلهي يبيّن ضروريات الإنسان في معاشه، و هو من العهود الّتي أمر اللّه تعالى بالوفاء بها؛ لما له من الأهميّة في حياة الناس، و فيه تفصيل بعد إجمال فقد ذكر عزّ و جلّ القاعدة العامّة في ما يحل أكله من الطعام، ثمّ استثنى ما يكون محرما، و ذكر بعض الحالات الّتي يحرم فيها الصيد و أكله.

و الإحلال: الإباحة، و في الحديث المشهور عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الصلاة تحريمها التكبير و تحليلها التسليم»، أي: صار المصلّي بالتسليم يحلّ له ما حرّم عليه فيها بالتكبير من الكلام و الأكل و سائر المنافيات، كما يحلّ للمحرم بالحجّ بالتقصير و طواف النساء ما كان حراما عليه، و قد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ أَحَلَّ اَللّهُ اَلْبَيْعَ وَ حَرَّمَ اَلرِّبا [سورة البقرة، الآية:

275].

و مادّة (بهم) تدلّ على الغمض و الإغلاق و عدم التمييز، و منه باب مبهم، أي:

مغلق، و ليل بهيم أو بهمة، للشجاع الّذي لا يدري من أين يؤتى له، و في الحديث:

«يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة بهما»، و معناه: يحشر الناس و ليس فيهم شيء من العاهات و الأعراض أو الأمراض الّتي تكون في الدنيا كالعمى، و العور، و العرج، و إنّما هي أجساد مصحّحة للخلود إمّا في الجنّة أو في النار، و لكنّهم لا ينطقون لهول المحشر و ما سيطر عليهم من الغلق و الرعب فأبهموا عن البيان، و ممّا ذكرنا ظهر معنى ما ورد عن ابن عباس: «أبهموا ما أبهم اللّه».

و البهيمة: اسم جنس لكلّ ذات الأربع من دواب البرّ و البحر، سمّيت بها لعدم تمييزها و إبهام الأمر عليها، و الجمع بهائم و بهم، و في الدعاء: «و البهم الصافين الحافّين حول عرشك» و المراد بهم الملائكة، و لعلّ الوجه في تسميتهم بها؛ لأنّ أحوالهم و سائر شؤونهم قد ابهمت على غالب الخلق، أو لأنّهم شاهدوا التجلّيات و ظهرت لهم الحقائق، فلم يتمكنوا من بيانها و إظهارها و لذلك أبهموا، و إفراد البهيمة لإرادة الجنس.

و الأنعام: جمع النعم، و هي الدواب المعروفة، و اللفظ يشمل جميع الأنواع ممّا

ص: 255

يحلّ أكله - كالأزواج الثمانية المذكورة في سورة الأنعام كما يأتي - و ألحقت بها الظباء و بقر الوحش بدليل السنّة، و كذا الحمار و الفرس و غيرهما، إلاّ إذا ورد في الشريعة ما يدلّ على حرمة أكله أو كراهته.

و إضافة البهيمة الى الأنعام بيانيّة كثوب الخز، أي: أحلّ لكم البهيمة من الأنعام، و هي الأزواج الثمانية الّتي ذكرت في سورتها، و تدلّ عليه بعض الروايات كما يأتي.

و اعترض عليه بأنّه من قبيل إضافة الجنس الى النوع منه، فإنّ البهيمة اسم جنس و الأنعام نوع منه، و لا فائدة في مثل هذه الإضافة، بل هي مستقبحة كإضافة الحيوان الى الإنسان.

و يردّ عليه: بأنّ مثل هذه الإضافة شائعة و ليست من إضافة الجنس الى أنواعه، بل إضافة النوع الى أصنافه، مضافا الى ذلك أنّ إضافة الجنس الى النوع لا يكون مستقبحا إذا كانت فيها فائدة مستحسنة كما في المقام، فإنّها لإزالة الإبهام من البهيمة و تعميمها للأزواج الثمانية، و رفع الحظر الّذي فرضه أهل الجاهليّة على بعضها.

و قيل: المراد من الآية المباركة جنين الأنعام، فتكون الإضافة لامية و ورد، فيه بعض الروايات.

و قيل: إنّ المراد من البهيمة غير الثمانية ممّا يشابهها - كالظباء، و بقر الوحش، و نحوهما ممّا يماثل الأنعام في بعض صفاتها كالاجترار و نحوه، فتكون إضافتها للأنعام لملابسة المشابهة بينهما، و جوّز بعضهم أن تكون الإضافة في مثل ذلك إمّا بمعنى اللام إن أريد منها الاختصاص بين المشبّه و المشبّه به، أو بمعنى (من) البيانيّة إن أريد الاتّحاد بينهما.

و كيف كان، فالحقّ أن يقال: إنّ الظاهر من الآية الكريمة هو العموم الشامل لكلّ ما يصدق عليه عنوان الأنعام المعروف عند اللغة و العرف، من غير اختصاص بصنف خاصّ و إن كثر إطلاقه عليه - كما في الإبل - فإنّه لا يصير سببا للتخصيص كما هو المعروف في علم اصول الفقه، فيشمل الجنين أيضا لأنّه من الأنعام عرفا،

ص: 256

و لا فرق فيه بين أن تكون وحشية - كبقر الوحش و الظباء - أو أليفة؛ لصدق العنوان عليها جميعا، إلاّ إذا خرج صنف عن هذا العنوان، فلا تشمله الآية الشريفة، أو ورد دليل على التحريم - كالموطوءة و كالجلال - و الكراهة و البحث مذكور في الفقه، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

و المراد من الحليّة هي حليّة أكل لحومها، لمناسبة الحكم و الموضوع الّتي هي من القرائن المعروفة الّتي يعتمد عليها العلماء، و تقدّم مثلها في سورة البقرة آية (168) أيضا. و لأنّ الأكل هو الّذي حرّمه أهل الجاهليّة على أنفسهم لبعض الأنعام، كما هو مذكور في سورة الأنعام.

قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ .

استثناء من الحليّة، أي: يحلّ أكل لحوم بهيمة الأنعام إلاّ ما حرّمه عزّ و جلّ في ما يأتي من الآيات الكريمة، و ما ورد في السنّة الشريفة.

قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ .

حال من ضمير الخطاب في قوله عزّ و جلّ : أُحِلَّتْ لَكُمْ ، و الصيد يحتمل المصدر و المفعول أي: المصيد، كقوله تعالى: لا تَقْتُلُوا اَلصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ [سورة المائدة، الآية: 95].

و قيل: لا يقال للشيء الصيد حتّى يكون ممتنعا، حلالا، لا مالك له، و لكن ذلك كلّه من الشروط و القيود الشرعيّة، و إلاّ فإنّ الصيد هو أخذ الحيوان الممتنع بحيلة و دهاء.

و تبيّن الآية الشريفة قيدا من قيود الحكم المزبور، فيكون تخصيصا لعمومه، فتحرم بهيمة الأنعام الممتنع إذا كان اصطيادها في حال الإحرام، و تبقى الحلّية في سائر الأحوال، و المراد من محلّي الصيد أي: لا تجعلوه حلالا باصطياده أو الأكل منه.

و قيل: إنّ الجملة حال من قوله: «أوفوا»، أو حال من ضمير الخطاب في قوله تعالى: يُتْلى عَلَيْكُمْ . و لا يخفى بعدهما.

ص: 257

قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ .

حال من الضمير في «محلي»، و حرم - بضم الحاء و الراء - جمع محرم، و بكسر الراء الرجل يحرم للطواف حول البيت الشريف.

و المعنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام في غير حال امتناعكم من الصيد و أنتم محرمون؛ لئلا تقعوا في مشقّة و حرج. و قال بعضهم: إنّ المراد منه الدخول في الحرم، يقال: أحرم دخل في الحرم، فيحرم صيد الحرم، و لكن التخصيص للصيد في حال الإحرام أولى.

و للقوم في تفسير الآية المباركة وجوه و أقوال لا تخلو من المناقشة، بل هي بعيدة عن سياقها.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ .

أي: أنّ اللّه تعالى يقضي ما يريد من الأحكام حسب ما تقتضيه حكمته البالغة و علمه الأتمّ ، و لو كان الحكم خلاف المعهود عند الناس.

و (يحكم) يتعدّى بالباء، و لكن ضمن معنى يفعل فعدّى بنفسه.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ .

خطاب مجدّد للمؤمنين تشريفا لهم و تكريما بهم و تعقيبا لما بيّنه عزّ و جلّ - من حرمة إحلال الصيد في حال الإحرام الّتي هي من شعائر الحجّ - ذكر تعالى النهي عن إحلال سائر الشعائر، و فيه التأكيد على شدّة العناية بحرمات اللّه تعالى و تهويل الأمر في إحلالها.

و الإحلال: الإباحة بغير مبالاة بمنزلة المأتي به و حرمته في الدين، و هتك كلّ شعيرة إنّما يكون بحسبها، فإحلال شعائر اللّه تعالى هو عدم احترامها و التهاون بها و إباحة العمل لها، و إحلال الشهر الحرام عدم حفظ حرمته بالقتال بعد ما منع القتال فيه.

و الشعائر: جمع شعيرة على وزن فعيلة، و هي ما جعله اللّه تعالى شعائر الدين و معلما من معالمه كشعائر الحج و غيرها، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: إِنَّ اَلصَّفا وَ اَلْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 158]، و في

ص: 258

الحديث أنّ جبريل عليه السّلام قال له: «مر أمتك حتّى يرفعوا أصواتهم بالتلبية، فإنّها من شعائر الحج»، و منه إشعار البدن، أن يجعل لها علامة من شقّ أحد جنبي سنام البدنة حتّى يسيل دمها.

و إضافتها الى اللّه تعالى في الآية المباركة لتشريفها و تهويل الخطب في إحلالها.

و المعنى: يا أيها الّذين آمنوا لا تتهاونوا بحرمات اللّه عزّ و جلّ و تهتكوا شعائر اللّه تعالى فتجعلوها حلالا تعملون فيها كما تشاؤن. و خصّ بعض المفسّرين الآية الكريمة بشعائر الحجّ ، و لكنه تخصيص لها بغير دليل.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ .

أي: و لا تستحلّوها بالقتال و الغارة و هما محرمان عليكم، و أشهر الحرم في الإسلام أربعة، واحد فرد و هو شهر رجب، و ثلاثة سرد و هي ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرم الحرام. و إفراده في المقام لإرادة الجنس.

قوله تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ .

أي: و لا تحلّوها، و الهدي واحدة هديّة. و المراد بها ما يساق للحجّ من الغنم، و البقر، و الإبل.

و القلائد جمع قلادة، و هي ما يقلّد به الهدي من نعل و نحوها؛ ليعلم أنّه هدي فلا يتعرّض له، و هي سنّة إبراهيميّة بقيت حتّى الإسلام. و إحلالهما هو عدم التعرّض لهما بالغصب و المنع من دخول محلّه.

و التعرّض لنفس القلائد مبالغة في النهي عن التعرّض لذواتها، كما قوله تعالى: وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ [سورة النور، الآية: 31]، فإنّ النهي عن إظهار الزينة نهي عن إظهار محلّها بالأولى.

و إنّما خصّهما بالذكر تعظيما لهما و لكونهما من شعائر الحجّ ، فتعظيمهما يكون تعظيما له، كما أنّ ذكر الخاصّ (القلائد) بعد العامّ (الهدي)؛ للتنبيه على فضلها و شرفها.

ص: 259

قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ .

يعني: القاصدين له، اسم فاعل من أمّ إذا قصد، يقال: أممت كذا، أي:

قصدته. أي: و لا تستحلّوا القاصدين للبيت الحرام بأن تمنعوهم من دخوله، و لا يختصّ ذلك بخصوص الشهر الحرام، بل هو عامّ يشمل جميع الأزمنة، بل و حتّى المشركين الّذين يقصدون البيت لولا منعه تبارك و تعالى عن دخولهم الحرم.

و يختلف الأمّ عن القصد في أنّ الأوّل هو التوجّه الى الشيء و قصده قصدا مستقيما لا يعني الى غيره، بخلاف القصد.

قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً .

الجملة إمّا في موضع الحال من ضمير (آمين)، أو صفة لآمين، و حينئذ يكون المراد منهم المسلمين؛ لأنّهم هم الّذين يطلبون ذلك، فتكون الآية الشريفة غير منسوخة، كذا قيل.

و في الآية المباركة إشارة الى تعليل النهي و استنكار المنهي عنه، لما ذكر فيها من اسم الربّ من التشريف لهم، و كونهم قاصدين البيت الحرام الّذي من قصده كان من الآمنين.

و الفضل هو الأجر و المال، أي: منهم يبغي و يقصد البيت للتجارة و الربح، و منهم من يطلب رضوان اللّه تعالى.

و في الآية المباركة لطف من اللّه عزّ و جلّ لمن يقصد البيت الحرام، و استئلاف منه جلّ شأنه لغير المسلمين؛ لتنبسط النفوس فيردون الموسم فيستمعون القرآن و يدخل الإيمان في قلوبهم.

و خصّ بعض المفسّرين الحكم بالمشركين، ثمّ قال: إنّه نسخ بقوله تعالى:

فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا [سورة التوبة، الآية: 28]، و لقوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [سورة التوبة، الآية: 5]، و أيّده بما رواها جمع في سبب نزول الآية الشريفة و كونها في المشركين.

و الحقّ أنّ الآية المباركة على إطلاقها و عمومها كما تقدّم، و أنّها تدلّ على عدم التعرّض لحرمات اللّه تعالى، و أنّ المؤمن لا بدّ له من التسليم و العمل بما أنزله

ص: 260

اللّه جلّ شأنه، و أنّ التعليل المزبور يشمل كلا الفريقين فيكون النهي عن استحلالهم و منعهم عن حجّ البيت، إلاّ إذا حصل المنع منه جلّ شأنه عن دخول حرمه.

بل إنّ الآية الشريفة ترشد الى التحلّي بخلق كريم، و هو نبذ الاعتداء و الإصرار على أخذ الثأر بما فعله المشركون بالمسلمين قبل الفتح، فيمنعوهم عن المسجد الحرام كما تشير إليه الآية التالية.

قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا .

رفع للحظر المفروض على الاصطياد في حال الإحرام، فيفيد الإباحة، و الحلّ و الإحلال بمعنى الخروج من الإحرام، أي: يباح لكم الصيد بعد الإحلال من الإحرام.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ غاية حرمة الصيد هي الإحلال من الإحرام المستفاد من قوله تعالى: وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ . و إنّما خصّه بالذكر لشدّة ابتلائهم به و حرصهم عليه.

قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا .

تأكيد للحكم السابق من عدم التعرّض لحرمات اللّه تعالى و عدم هتك شعائر الدين و معالمه، و بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي أمر بها الإسلام و قد بعث رسوله صلّى اللّه عليه و آله لا تمامها، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».

و مادّة (جرم) تدلّ على القطع، يقال: جرم يجرم جرما إذا قطع، و في الحديث:

«لا تذهب مائة سنة و على الأرض عين تطرف، يريد تجرم ذلك القرن» أي:

انقضاؤه و انصرامه، و أصله من الجرم، أي: القطع. و منه الحمل على شيء، يقال:

جرمني كذا على بغضك، أي: حملني عليه، قال الشاعر:

و لقد طعنت أبا عيينة طعنة *** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا

فإنّ في الحمل على شيء قطعا عن غيره، كما أنّ منه جرم بمعنى كسب؛ لانقطاعه إلى الكسب، يقال: فلان جريمة أهله، أي: كاسبهم، و أجرم فلان، أي:

اكتسب الإثم، و منه قول الشاعر:

ص: 261

جريمة ناهض في رأس نيق *** ترى لعظام ما جمعت صليبا

أي: كاسب قوت. و (ناهض) اسم لفرخ العقاب، (و نيق) أرفع موضع في الجبل، و (الصليب) الودك، و هو أسلم اللحم.

و (جرم) بمعنى حقّ ؛ لأنّ الحقّ يقطع عليه، قال تعالى: لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ اَلنّارَ أي: حقّ لهم العذاب و قطع عليه، و منه الجريمة لمعصية؛ لأنّها مقطوعة على صاحبها فيحتمل و بالها، و في الحديث: «أعظم المسلمين في المسلمين جرما من سأل عن شيء لم يحرّم فحرّم من أجل مسألته».

و يفترق الجرم عن الكسب أنّ الأوّل يستعمل غالبا في كسب ما لا خير فيه بخلاف الكسب، و لعلّه هو السبب في إيثاره في المقام، و لكنّهما يتّفقان في التعدّي إلى مفعول واحد و إلى اثنين، يقال: جرم ذنبا، نحو: كسبه، و جرعته ذنبا، نحو: كسبته إيّاه، و قد يتعدّى إلى مفعولين بالهمزة، كما يقال: أكسبته ذنبا.

و مادّة (شنأ) تدلّ على البغض و العداوة، يقال: شنئت الرجل أشنؤه، شنأ، و شنأة، و شنآنا، و شنآنا بسكون النون إذا أبغضه، و في الحديث عن علي عليه السّلام:

«و مبغض يحمله شنآني على أن يبهتني».

و شنآن - بفتح النون. و قرئ بالسكون - إمّا أن يكون مصدرا على وزن فعلان (بالفتح) مصدر ما يدلّ على الحركة، و هو بعيد؛ لأنّه لا دلالة له على الحركة، مضافا إلى كونه متعدّيا في المقام، مع أنّ هذا الوزن لا يكون لفعل متعدّ.

أو يكون مصدرا على وزن فعلان (بسكون اللام)، و لكن هذا الوزن قليل في المصادر، نحو: لوّيته ليانا إذا مطلته، كما ذكر في الكتب الأدبيّة.

أو يكون صفة على وزن فعلان (بالسكون) الّذي هو كثير في الصفات كسكران، أو يكون (بالفتح) و هو قليل في الصفات كحمار قطوان، أي: عسر السير، و تيس عدوان، أي كثير العدو، فإن كان مصدرا، فهو مضاف إلى المفعول، أي: أن تبغضوا قوما، و احتمل بعضهم أن تكون الى الفاعل، أي: أن يبغضكم قوم، و لكنّه بعيد، فإن كان وصفا فهو بمعنى بغيض، و تكون الإضافة بيانيّة.

و المعنى: و لا يحملنكم عداوة قوم لكم بأن صدّوكم عن المسجد الحرام

ص: 262

و منعوكم عن إتيان الحجّ و الزيارة أن تعتدوا عليهم انتقاما منهم، بعد ما أظهركم اللّه عليهم.

و عموم الآية الشريفة يشمل المشركين و غيرهم، فإنّ مضمونها يرجع الى النهي عن الاعتداء على سبيل الانتقام و البغي و جعلهما من صفات النفس، و لما كان لذلك أسباب و مبادئ، فالنهي عنها نهي عنه بالأولى، كما هو معلوم في العلوم البرهانيّة، و في المقام نهي عن البغض و الشنآن، فهو يرجع الى النهي عن الاعتداء و البغي، فلا ينفي ذلك الاعتداء بالمثل إذا كان في سبيل الحقّ ، كما في قوله تعالى:

وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ [سورة البقرة، الآية: 191].

و استشكل بعضهم بأنّ الآية المباركة نزلت بعد فتح مكّة، و لم يكن يتوقع صدّ من أحد.

و يمكن الجواب عنه بما تقدّم آنفا من أنّ الآية المباركة لا تختصّ بالمشركين، و أنّها في مقام بيان خلق كريم من مكارم الأخلاق الّتي دعا إليها الإسلام، و لنفي توهّم المماثلة في هذا الاعتداء فيصدّ المسلمون المشركين عن المسجد الحرام كما صدّوهم عنه انتقاما منهم.

أو يقال: إنّ المقصد من هذا الحكم هو احترام الشعائر و تعظيمها و المحافظة على حرمات اللّه تعالى، كما هو ظاهر سياق الآية الشريفة الّتي ذكرت بعد نهي المؤمنين عن إحلال شعائر اللّه تعالى، فلا تختصّ بالمشركين.

قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ .

هذه الآية المباركة من جوامع الكلم الّتي تبيّن قاعدة من القواعد الّتي تبتني عليها سعادة المجتمع الإنساني، و ركن من أركان الهداية الاجتماعيّة الّتي تقوم على التعاون بما ينفع الناس في دنياهم، و أساس مهم من أسس الاجتماع الإنساني.

و قد بنى الإسلام هذه القاعدة الاجتماعيّة المهمّة على ركيزتين، هما: التحلية بالتقوى و الطاعة و العمل الصالح، ممّا يجعل المجتمع وحدة متكاملة له هدف معين

ص: 263

و نظام واحد قويم، فأمر بالتعاون على البرّ. و التخلية عن أضدادها، و أكّدها بالنهي عن إعانة الإثم، أي: المفاسد كالبغضاء و العدوان و مساوئ الأخلاق و غيرها من الصفات السيئة؛ و نهى عن كلّ ما يعوق عن تنفيذ هذا الحكم و يكون مانعا من تأثيره و سببا في الشقاء و الحرمان، و هو العدوان الّذي يجعل أفراد المجتمع أعداء متباغضين ليس لهم هدف و نظام، بل يفكّك عري المجتمع و يهدّد كيانه و يفسد سعادته.

و الآية الشريفة على ايجازها البليغ و اسلوبها البديع تبيّن نظرية الإسلام في الاجتماع و تتضمّن خلقا كريما من مكارم الأخلاق، و لأهمّيّته في الحياة الاجتماعيّة و دخله في سعادة الفرد و المجتمع و كرامتهما، ذكر عزّ و جلّ فيها جميع ما يتطلّب هذا الحكم، من الدعوة الى التضامن بالتعاون و موضوعه و مورده و آثاره في المجتمع و ضمان هذا الحكم و الغرض منه و ترغيب الناس إليه و التأكيدات عليه.

و التعاون على وزن التفاعل من أعان يعين إعانة و تعاون يتعاون تعاونا، و لا يخفى تقوّم هذه الصيغة في المقام بالطرفين، فيكون هذا خطابا لكلّ اثنين بأن يعين كلّ فرد غيره في البرّ و التقوى، كأن يعين زيد عمرا على البرّ و التقوى، و يعين عمرو زيدا كذلك، و كذا النهي عن التعاون على أسباب الإثم و العدوان. و منه يعلم حكم الإعانة من طرف واحد أيضا، فإن كانت على البرّ و التقوى فهي محبوبة، و إن كانت على الإثم و العدوان فهي مبغوضة.

و البرّ معروف، و قد ورد في القرآن الكريم في عدّة مواضع، و تقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى: وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ [سورة البقرة، الآية: 177]، و قد بين عزّ و جلّ فيه أهمّ أركانه، و له مصاديق كثيرة يجمعها الإيمان - إيمانا صحيحا صادقا - و الإحسان في جميع الأمور، فيدخل فيه العفو و الإعفاء و غير ذلك ممّا ذكر في المقام.

و التقوى: هي مراقبة اللّه تعالى في أوامره و نواهيه، فيكون المراد من التعاون على البرّ و التقوى هو الاجتماع على الإيمان و الإحسان و الطاعة، مع مراقبة اللّه تعالى فيها بأن لا يتخطّى تشريعاته و توجيهاته عزّ و جلّ .

ص: 264

و الإثم معروف، و هو كلّ ظلم و معصية، و العدوان هو التعدّي على حقوق الناس و مجاوزة حدود اللّه تعالى مطلقا، و هما من أهمّ العوائق الّتي تصدّ عن السعادة و الكمال، سواء أ كان فرديا أم اجتماعيّا، و تورث الشقاء و الحرمان، و بهما يزول الوئام و يختلّ النظام، و تسود روح الانتقام بين الأنام، فيفسد الضمائر و ينطمس نور الفطرة و تخور داعية العقل، فلا يأمن أحد على نفسه أو عرضه أو ماله، و لا يكون العيش إلاّ نكدا و الحياة إلاّ برما.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد آخر على مراعاة حدود اللّه تعالى و مراقبته في جميع الأمور، و منها اتّقاء مخالفته في أوامره و نواهيه الّتي ذكرت آنفا. و فيه الدلالة على أنّ الغرض من جميع التشريعات و التوجيهات الربوبيّة هو تحصيل هذه الملكة، فإنّها الغاية القصوى من الشرائع السماويّة - خصوصا الإسلام - و بدونها لا يمكن تحصيل الهدف المنشود منها، فهي روح تلك الأحكام الإلهيّة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ .

تعليل لما سبق و بيان لعظيم قدرته، أي: أنّ من أعرض عن تلك الأحكام، فيستحقّ عقابه و هو شديد العقاب، فإنّ انتقامه أشدّ لمن لم يتقه و لم يراع سنّته في خلقه.

بحوث المقام
بحث أدبي

الآيات الشريفة المتقدّمة بإيجازها البليغ و اسلوبها البديع ممّا جعلتها في أعلى درجات الفصاحة، فقد تضمّنت خمسة أحكام مهمّة لها دخل كبير في حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة، الدنيويّة و الاخرويّة، و تعتبر قواعد عامّة يتفرّع منها فروع كثيرة ذكرها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة.

ص: 265

يحكى أنّ أصحاب الكندي قالوا له: «اعمل لنا مثل القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه، فاحتجب أياما ثمّ خرج فقال: و اللّه ما أقدر و لا يطيق هذا أحد، إنّي فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء و نهى عن النكث، و حلّل تحليلا عامّا ثمّ استثنى استثناء بعد استثناء، ثمّ أخبر عن قدرته و حكمته في سطرين، و لا يقدر أحد أن يأتي بهذا إلاّ في أجلاد».

و (أوفوا) من أوفى و هو و وفّي لغتان بمعنى واحد، و قد جمعهما الشاعر في قوله:

أما ابن طوق فقد أوفى بذمّته *** كما وفى بقلاص النجم حاديها

و ذكرنا في التفسير أنّهما وردا في القرآن الكريم.

و البهيمة: اسم جنس يطلق على ذوات أربع، و الأنعام جمع نعمة، و المراد بها الإبل، و البقر، و الغنم، و هي الثمانية الأزواج الّتي وردت في سورتها كما ذكرنا في التفسير.

و في مفردات الراغب: «و النّعم مختصّ بالإبل، و جمعه أنعام، و تسميته بذلك لكون الإبل عندهم (أي العرب) أعظم نعمة، لكن الأنعام تقال للإبل و البقر و الغنم أو المعز، و لا يقال لها أنعام حتّى يكون في جملتها الإبل».

و الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ متّصل من بهيمة، و قيل من فاعل (يتلى).

و (غير محلّي الصيد) قيل: إنّه استثناء ممّا يليه من الاستثناء. و ذهب بعضهم إلى أنّ انتصاب (غير) على الحاليّة من ضمير (لكم)، كما تقدّم في التفسير فراجع، و ذكروا أيضا وجوها اخرى لا تخلو عن المناقشة، و «محلّي» أصله (محلّين الصيد) حذفت النون بالإضافة.

و (الهدي) في قوله تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ قرئ مخفّفا كما هو لغة أهل الحجاز، و قرئ مثقّلا (الهديّ ) كما هو لغة تميم، و قد قرئ بهما. و واحد الهدي هدية كما أنّ واحده بالتثقيل هديّة و جمع المخفّف إهداء.

و (آمين) في قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ اسم فاعل، و وجه

ص: 266

العمل فيه ظاهر. و جوّز بعضهم على حذف مضاف، أي: قتال قوم آمين، أو أذى قوم آمين و نحو ذلك.

و قرئ: (و لا آمي البيت الحرام) بالإضافة و البيت مفعول به لا ظرف.

و قوله تعالى: يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ إمّا حال من المضمر في (آمين)، أو صفة. و ضعّف بأنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل لضعف شبهه بالفعل الّذي عمل، لأنّ الموصوفيّة تبعد الشبه؛ لأنّها من خواص الأسماء.

و أجيب عنه بأنّ الوصف إنّما يمنع من العمل إذا تقدّم المعمول، فلو تأخّر لم يمنع لمجيئه بعد الفراغ من مقتضاه.

و تنكير (فضلا و رضوانا) للتفخيم، و (من ربهم) متعلّق بنفس الفعل أو بمحذوف وقع صفة (لفضلا) مغنية عن وصف ما عطف عليه بها، أي: فضلا كائنا من ربّهم.

و أمّا قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ فقد تقدّم الكلام فيه في التفسير فراجع.

و (أن) في قوله تعالى: أَنْ صَدُّوكُمْ بفتح الهمزة بتقدير اللام على أنّه علّة للشنآن، أي: لأن صدوكم، و قرئ بكسر الهمزة على أن تكون شرطيّة.

بحث دلالي

تدلّ الآيات الشريفة على امور:

الأوّل: تتضمّن الآيات الكريمة المتقدّمة على أهمّ الأحكام و التشريعات الإلهيّة الّتي لها دخل كبير في تنظيم النظام العامّ و تحسين المعاش و تحقيق السعادة، و اشتملت على أهمّ القواعد العامّة الّتي تمسّ حياة الإنسان مطلقا، فذكر سبحانه و تعالى أوّلا ما يتعلّق بالنظام العامّ و تثبيت دعائم العدالة الاجتماعيّة، و هو الوفاء بالعقود الّتي يدور عليها نظام الحياة و تتوقّف عليها جميع الحقوق الحيويّة الّتي تمسّ

ص: 267

حياة الإنسان الفرديّة و الاجتماعيّة، و لها قاعدة عريضة تشمل جميع العقود و العهود، و الوفاء بها، ممّا تدعو إليه الفطرة المستقيمة الّتي تبغي الكمال و تسعى الى الاستكمال.

ثمّ ذكر ثانيا ما يتعلّق بالمعاش و نظام الغذاء، فأحلّ أكل لحم بهيمة الأنعام الّتي هي من أطيب المأكولات.

و أخيرا أمر بالتعاون على البرّ و التقوى، اللذين هما أساس الرقي و أصل الأمن و الاستقرار الفرديين و الاجتماعيين، و هما مهمّان لمن يريد الاستكمال بالكمالات الواقعيّة و تحلية النفس بمكارم الأخلاق و تخليتها عن الرذائل.

و لأهمّيّة هذه الأحكام و التوجيهات الربوبيّة ذكرها عزّ و جلّ في إطار أخلاقي محكّم، و أكّد عليه بأشدّ التأكيدات، فأمر بالتقوى، و حرّم إحلال الشعائر، و هتك حرمات اللّه تعالى و اعتبره من أعظم الجرائم و أوعد على من يخالفها بالانتقام و شدّة العذاب.

و تبيّن الآيات المباركة أنّ الإسلام نظام دين و دنيا يكمل أحدهما الآخر، و لا يمكن الاستغناء عنهما أبدا.

الثاني: انّما ذكر عزّ و جلّ العقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ليشمل جميع الروابط الفرديّة و الاجتماعيّة و جميع العهود و المعاملات، و تعتبر هذه الجملة البليغة المختصرة أساس العقود في الإسلام و الدليل على شرعيّتها، إلاّ إذا ورد من الشرع ما يدلّ على فساد عقد خاصّ ، كالعقود المبنيّة على الربا من بيع أو قرض ربوي.

و إطلاق الأمر في الآية الشريفة يدلّ على لزوم كلّ عقد، فلا يجوز نقضها إلاّ إذا دلّ دليل على جوازه كما هو مذكور في الكتب الفقهيّة، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و تعرّضنا لذلك موجزا في البحث الفقهي أيضا هنا.

الثالث: يدلّ قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ على أنّ وجوب الوفاء بها هو لأجل أنّها روابط اجتماعية و عهود و حقوق تجب رعايتها، و أنّ احترامها يعتبر من مكارم الأخلاق و من سبل الهداية الاجتماعيّة و إقامة العدل الاجتماعي، و لم يلاحظ

ص: 268

القرآن الكريم النفع مطلقا، فأوجب الوفاء بها سواء انتفع منها العاقد أم لا؛ لأنّها جعلت لرعاية الحقّ كيف ما كان، و هذا بخلاف ما عليه النظرية الماديّة و القوانين الوضعيّة، و ما عليه الجاهليّة المعاصرة من أن احترامها إنّما يكون لأجل النفع أو دفع المفسدة. و بعبارة اخرى: أنّ ابتغاء المادّة من جميع العلاقات أو العقود هو الهدف عندها و إن دحض بها الحقّ .

الرابع: يستفاد من قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ وجه الحكمة في حلّية الأنعام للإنسان فإنّ اللّه تبارك و تعالى إنّما خلقها بهائم حقيرة الشأن؛ لأنّها غير قابلة للاستكمال، و لعلّ من كمالها أنّ خلقها اللّه تعالى في خدمة أشرف مخلوقاته، و في ذلك ردّ على من زعم أنّ قتلها لأجل استفادة الإنسان منها إيذاء لها، لا سيما مع عدم قدرتها على دفع الضرر عن أنفسها، و هو ممّا يرفضه الطبع، بل هو قبيح عقلا، فكيف يرضى به الإله الرحيم، فإنّ اللّه تعالى خلقها بهائم لا تشعر بما يشعر به الإنسان الّذي هو أشرف المخلوقات، فلا قبح عقلا في جعل شيء منها غذاء للإنسان و مورد استفادته بعد إذن خالقها في ذلك، و انّها من نعم اللّه تعالى أنعم بها على عباده كما هو واضح.

و ما عن بعض من أنّ البهائم لا تدرك؛ و لذا يحلّ قتلها.

غير صحيح؛ لأنّها تدرك الآلام الواردة عليها كما في بعض الروايات، و إن كانت آلامها مقدّمة لكمالها بصيرورتها جزءا من الكامل - و هو الإنسان - بالغذاء له كما قلنا، و لو لا ذلك يحرم إيذاؤها بقطع بعض أطرافها أو جرحها، بلا غرض عقلائي، و يحرم شرعا كما ذكره الفقهاء في حرمة الصيد اللهوي الّذي لا يقصد منه إلاّ التلذّذ بالتفريح لقتل الحيوانات.

و بالجملة: كمالها بأن تصير غذاء لأشرف المخلوقات، و لولا ذلك لم يأذن الشارع بقتلها أو إيذائها من دون مسوّغ عقلي و غرض عقلائي.

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ أنّ إحلال محرّمات اللّه تعالى له دخل في تضييق التكليف و الوقوع في بعض العقوبات الدنيويّة، فإنّ اللّه تعالى أحلّ بهيمة الأنعام على المؤمنين في ما إذا لم يحلّوا الصيد حال الإحرام الّذي

ص: 269

حرّمه اللّه تعالى، فإذا أحلّوا الصيد و اصطادوا الوحش من الأنعام فيحرم عليهم أكلها كما هو مذكور في كتب الفقه، و قد تقدّم في الآيات السابقة نظير ذلك بالنسبة إلى اليهود، فإنّهم أحلّوا ما حرّمه اللّه تعالى عليهم فأوقعوا أنفسهم في المشقّة، إذ كلّفهم عزّ و جلّ ببعض التكاليف الشاقّة نتيجة جرأتهم على هتك حرمات اللّه تعالى.

و في الآية الشريفة إشعار للمؤمنين بأن لا يفعلوا شيئا يوجب وقوعهم في المشقّة و تكليفهم بتكاليف أشدّ و أصعب. و من ذلك يعرف وجه التأكيد على النهي عن إحلال ما حرّمه اللّه تعالى و هتك حرماته و تعداد جملة ممّا حرّمه اللّه تعالى في الحجّ ؛ لأنّه من أعظم الشعائر و لشدّة ابتلائهم به، و أنّه ممّا امتحن به المؤمنين.

السادس: يدلّ قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى على أنّ المجتمع الصالح ما إذا كان بين أفراده التعاون، و انحصر أن يكون ذلك على البرّ و التقوى.

و قد جمعت هذه الآية الشريفة باختصارها البليغ جميع وجوه الخير و الكمالات الواقعيّة، فلا يمكن أن نتصوّر خصلة من الخصال الحميدة، و لا خلقا كريما إلاّ و هي موجودة في هذه العبارة البليغة المختصرة الّتي تشير أيضا الى أنّ الأفراد و المجتمع لا يمكن أن يصل كلّ واحد منهما الى هدفه إلاّ بالعمل بما ورد فيها، فهي من أهمّ سبل الهداية الاجتماعيّة.

و تبيّن الآية الكريمة نظرية الإسلام في المجتمع، فإنّه يرى أنّه لا بدّ أن يكون إعداده إعدادا صالحا يتحمّل جميع أفراده المسؤوليّة في تنظيمه و مراقبته؛ لئلاّ يخرج عن المسير الصحيح الّذي أمر به اللّه سبحانه و تعالى، فيكون المراد من التقوى في المقام التقوى الجمعي و الشعور بالمسؤوليّة و مراقبة جميع أفراد المجتمع بالتعاون بينهم على البرّ، و نبذ كلّ ما يكون مانعا عن الوصول إلى الهدف المنشود، و لا توجد عبارة مهما بلغت من الفصاحة و البلاغة تشتمل على معاني دقيقة و مطالب رفيعة متقنة مثل هذه العبارة، فسبحان من بهرت آياته، و ظهرت قدرته و لا يمكن عدّ نعمائه.

ص: 270

بحث روائي:

العياشي في تفسيره بإسناده عن السكوني عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن علي عليه السّلام قال: «ليس في القرآن: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ و هي في التوراة يا أيّها المساكين».

أقول: إنّ الإيمان الحقيقي باللّه تعالى هو التصديق بالتوحيد و الإيمان بشرائعه و رسله، و المسكين هو الّذي خضع و ذلّ و أخبت للّه جلّ شأنه، و في دعاء النبي صلّى اللّه عليه و آله: «اللهم احيني مسكينا و امتني مسكينا و احشرني في زمرة المساكين»، فأراد صلّى اللّه عليه و آله من الدعاء كمال التواضع للّه تعالى و الإخبات له جلّت عظمته، و أن لا يكون من الجبّارين المتكبّرين، فكلّ هذه الصفات من أعلى مراتب الإيمان به عزّ و جلّ ، إذا لا فرق في الواقع بين التعبيرين كما تقدّم ذلك مكرّرا.

و فيه: أيضا عن عكرمة عن ابن عباس قال: «ما نزلت: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ و علي شريفها و أميرها، و لقد عاتب اللّه أصحاب محمد صلّى اللّه عليه و آله في غير مكان و ما ذكر عليا إلاّ بخير».

أقول: أمّا صدر الرواية فمن باب ذكر أجلّ المصاديق و أشرفها؛ لأنّه عليه السّلام تميّز بصفات خاصّة، فلا ينافي إطلاقها على غيره عليه السّلام من سائر المؤمنين، و في صحيفة مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «ليس في القرآن آية يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا * إلاّ في حقّنا».

و أمّا ذيل الرواية، فإنّما يكشف عن الواقع، و يدلّ على كماله عليه السّلام و بعده عن النقائص و الأوصاف غير الممدوحة، و تقرّبه الى ساحته عزّ و جلّ بحبّ ذاته له.

و فيه: أيضا عن عبد اللّه بن سنان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: العهود».

أقول: و مثله ما عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عباس و السيوطي في الدرّ المنثور. و تقدّم في التفسير أنّ ذكر العقود في الآية الكريمة من باب الغالب

ص: 271

فتشمل كلّ الروابط الاجتماعيّة كالعهود و العقود و الإيقاعات، لفظيّة كانت أو كتبيّة حتّى الأخلاقيّة، إلاّ إذا نهى الشارع عنها.

و في الحديث: «انّ عجوزا دخلت عليه صلّى اللّه عليه و آله فسألها فاحفى و قال: إنّها كانت تأتينا في زمن خديجة، و إنّ كرم العهد من الإيمان».

أقول: لا شكّ أنّ ذلك من مكارم أخلاقه و سمو صفاته و من أدبه الرفيع الّذي اختصّ به؛ لأنّه ادّبه ربّه، و بهذه السجايا الحميدة فاز على جميع الأنبياء و الرسل.

و لعلّ ذلك كان إكراما لشأن خديجة (سلام اللّه تعالى عليها)، فإنّ لها المنزلة العظيمة عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و هي أم الزهراء، و أم الائمة الأطهار، و أم المؤمنين، فإنّها كانت تحميه في زمن الشدّة و الكربة و الغربة، ففي صحيح البخاري و مسلم - كما في ينابيع المودّة للشيخ سليمان الحنفي القندوزي - بإسنادهما عن عائشة قالت: «ما غرت على أحد من نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله مثل ما غرت على خديجة و ما رأيتها، و لكن كان النبي صلّى اللّه عليه و آله يكثر ذكرها و ربّما ذبح الشاة ثمّ يقطعها أعضاء ثمّ يبعثها في صدايق خديجة (عليها و على ابنتها السلام) فقلت له: لم تكن في الدنيا إلاّ خديجة ؟! فيقول صلّى اللّه عليه و آله: إنّها كانت حبيبة لي و كانت عاقلة و كان لي منها ولد»، و زاد مسلم في صحيحه: «و انّي قد رزقت حبّها».

و كيف كان، فالرواية تدلّ على أنّ الوفاء بالعهد من دعائم الإيمان.

و في الدرّ المنثور في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ عن قتادة قال: «بالعهود و هي عقود الجاهليّة الحلف».

أقول: مقتضى القواعد الفقهيّة أنّ عقود الجاهليّة مطلقا يجب الوفاء بها إلاّ إذا أبطلها الشارع الأقدس كالعقود الربويّة مثلا أو رفع عنها الوجوب، و تساند ذلك الإطلاقات و العمومات، كما يجب على الكفّار الوفاء بها أيضا لتكليفهم بالفروع كتكليفهم بالأصول.

و في تفسير القمّي بسنده عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ قال: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عقد عليهم

ص: 272

لعلي عليه السّلام بالخلافة في عشرة مواطن، ثمّ أنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الّتي عقدت عليكم لأمير المؤمنين عليه السّلام».

أقول: العشرة من باب ذكر الأهمّ و الأشهر، و إلاّ فهو أكثر بكثير كما لا يخفى من سبر حياته و سيرته صلّى اللّه عليه و آله.

و كيف كان، فالرواية من باب الجري و ذكر أجلّ المصاديق، و يمكن أن يقال إنّ ذلك من باطن التنزيل و اللّه العالم.

و عن البيهقي في شعب الإيمان عن ابن حبان قال: «بلغنا في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ يقول: أوفوا بالعهود يعني العهد الّذي كان عهد إليهم في القرآن في ما أمرهم من طاعته أن يعملوا بها و نهيه الّذي نهاهم عنه، و بالعهود الّذي بينهم و بين المشركين و فيما يكون من العهود بين الناس».

أقول: تقدّم في أحد مباحثنا أنّ الإيمان باللّه هو المعاهدة معه جلّ شأنه في الائتمار بأوامره و الانزجار عن نواهيه، فيجب عقلا على المؤمنين الوفاء بهذه العهود، و إطلاق الآية الشريفة يشمل كلّ عهد مطلقا، إلاّ إذا نهى الشارع عنه.

و في التهذيب بإسناده عن محمد بن مسلم قال: «سألت أحدهما عليهما السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ فقال: الجنين في بطن امه إذا أشعر و أوبر فذكاته ذكاة امه الّذي عنى اللّه تعالى».

أقول: و قريب منه ما عن ابن عباس كما في الدرّ المنثور، و في المأثور:

«الأنعام كلّها حلّ »، و سيأتي في البحث الفقهي أنّ ذلك مقتضى القاعدة المستندة الى الكتاب و السنّة، و لا بدّ من توفّر سائر الشروط في الجنين كما يأتي ذكرها في ذلك البحث، و الرواية من باب التطبيق.

و عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن جعفر بن محمد عليه السّلام «انّ عليا عليه السّلام سئل عن أكل لحم الفيل و الدبّ و القرد؟ فقال: ليس هذا من بهيمة الأنعام الّتي تؤكل».

أقول: الحكم بالحرمة في الحيوانات المذكورة من باب الخروج الموضوعي، فإنّ العرب لا تعرف معنى للأنعام إلاّ الإبل و البقر و الغنم، كما مرّ في التفسير؛ فلذلك لا تكون غيرها حلالا، و هي غير صالحة للأكل شرعا.

ص: 273

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قال: «الشعائر:

الإحرام، و الطواف، و الصلاة في مقام إبراهيم عليه السّلام و السعي بين الصفا و المروة، و المناسك كلّها من شعائر اللّه، و من الشعائر إذا ساق الرجل بدنة في حجّ ثمّ أشعرها - أي قطع سنامها أو جلدها أو قلّدها ليعلم الناس أنّها هدي فلا يتعرّض لها أحد - و إنّما سمّيت الشعائر ليشعر الناس بها فيعرفوها، و قوله: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ و هو ذو الحجّة و هو من الأشهر الحرم، و قوله: وَ لاَ اَلْهَدْيَ و هو الّذي يسوقه إذا أحرم المحرم، و قوله: وَ لاَ اَلْقَلائِدَ ، قال: يقلّدها النعل الّتي قد صلّى فيها، و قوله:

وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ قال: الّذين يحجّون البيت».

أقول: الشعائر هي المعالم الّتي أمر اللّه عزّ و جلّ بالقيام عليها أو ندب إليها، فتشمل شعائر الحجّ مطلقا كالتلبية و الوقوف، و الطواف، و الرمي، و الذبح و غيرها، كما تشمل الصلاة أيضا يقال إنّها من شعائر العبادة و الخضوع للّه جلّ شأنه، و الشعائر جمع شعيرة كما تقدّم.

و في المجمع للطبرسي: «قال أبو جعفر عليه السّلام: نزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ في رجل من بني ربيعة يقال له الحطم» و نقل عن السدي أنّه قال: «أقبل الحطم ابن هند البكري حتّى أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فدعاه فقال:

إلام تدعو؟ فأخبره و قد كان النبي صلّى اللّه عليه و آله قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم رجل من ربيعة يتكلّم بلسان شيطان، فلما أخبره النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: انظرني لعلّي أسلم و لي من أشاوره، فخرج من عنده فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: لقد دخل بوجه كافر و خرج بعقب غادر، فمرّ بسرح من سروح المدينة فساقه ثمّ أقبل من عام قابل حاجّا قد قلّد هديا، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أن يبعث إليه فنزلت هذه الآية: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ ، فقال ناس من أصحابه: يا رسول اللّه، خلّ بيننا و بينه فإنّه صاحبنا، قال صلّى اللّه عليه و آله: إنّه قد قلّد! قالوا: إنّما هو شيء كنّا نصنعه في الجاهليّة، فأبى عليهم فنزلت الآية فانتهى القوم».

ص: 274

أقول: الرواية - مع قطع النظر عن السند - من باب الجري و التطبيق لما ورد من الاختلاف في شأن النزول.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ قال:

كان المشركون يحجّون البيت الحرام و يهدون الهدايا، و يعظّمون حرمة المشاعر، و ينحرون في حجّهم، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم، فقال اللّه تعالى: لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ ، و في قوله تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ يعني: لا تستحلّوا قتالا فيه، و في قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يعني: من توجّه قبل البيت، فكان المؤمنون و المشركون يحجّون البيت جمعا، فنهى اللّه المؤمنين أن يمنعوا أحدا يحجّ البيت، أو يتعرّضوا له من مؤمن أو كافر، ثمّ أنزل اللّه بعد هذا: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا .

أقول: تقدّم منّا مكرّرا أنّ شأن النزول في الآيات الشريفة لا يصير سببا للتخصيص و لا يجدي نفعا و لا ضررا؛ لما تضمّنته الآيات الكريمة من المعارف و الأحكام، و مكارم الأخلاق، و الكلّيات الّتي لها مصاديق كثيرة في مرّ الزمن، و أنّ الآية المباركة في مقام بيان قاعدة أخلاقيّة و دستور إلهي.

على أنّ ما ورد عن ابن عباس لا يصحّ أن يصير سببا لنزول الآيات الكريمة المذكورة؛ لما تسالموا عليه أكثر المفسّرين من أنّ سورة المائدة نزلت في حجّة الوداع، و قد سبقتها سورة البراءة في النزول، فيكون قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ بعد قوله تعالى: إِنَّمَا اَلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا اَلْمَسْجِدَ اَلْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا ، و كذا بعد قوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ ، فلا مجال عليهم إلاّ أن نقول بالنسخ، فيكون قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ منسوخا بما ورد في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، فيدلّ على ما ذكرنا، و تقدّم أنّ الآية الكريمة هي على إطلاقها و عمومها فلا تنافي عدم دخول المشركين الى الحرم الإلهي، و أنّها في مقام المنع و الردع عن التعرّض لحرمات اللّه تعالى من المشركين و غيرهم.

ص: 275

و كيف كان، فما ذكر في سبب النزول كلّه من باب الجري و التطبيق.

و عن البيهقي في شعب الإيمان عن النواس قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عن البرّ و الإثم في قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ ، فقال: ما حاك في نفسك فدعه، قال: فما الإيمان ؟ قال: من ساءته سيئته و سرّته حسنته، فهو مؤمن».

أقول: المراد من صدر الرواية - مع قطع النظر عن سندها - ما كان في قلبك من الشكّ و الريب و كرهت أن يطّلع عليه الناس فدعه.

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «البرّ حسن الخلق، و الإثم ما حك في نفسك و كرهت أن يطلع عليه الناس».

أقول: للبرّ مراتب أسماها حسن الخلق الّذي هو من غر الصفات الحميدة، و إنّ الأديان السماويّة كلّها نزلت لأجل غرس أسسه و تشييد أركانه.

و في الدرّ المنثور عن البخاري في تأريخه عن وابصة قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و أنا لا أريد أن ادع شيئا من البرّ و الإثم إلاّ سألته عنه، فقال لي: يا وابصة أخبرك عمّا جئت تسأل عنه أم تسأل ؟ قلت: يا رسول اللّه أخبرني! قال: جئت لتسأل عن البرّ و الإثم، ثمّ جمع أصابعه الثلاث فجعل ينكت بها صدري و يقول:

يا وابصة استفت قلبك استفت نفسك، البرّ ما اطمأن إليه القلب و اطمأنت إليه النفس، و الإثم ما حاك في القلب و تردّد في الصدر و إن أفتاك الناس و أفتوك».

أقول: لعلّ تنكيته صلّى اللّه عليه و آله لأجل التفاته و توجّهه لمقاله صلّى اللّه عليه و آله بارجاعه الى الفطرة، و إنّ كلّ ما قبلته الفطرة من الصفات فهو من البرّ، و ما نبذته أو شكّ فيه فهو من الإثم، و اللّه العالم.

بحث فقهي

تدلّ الآيات المباركة على قواعد فقهيّة متينة ترتبط بالحياة الفرديّة

ص: 276

و الاجتماعيّة قد كثر الابتلاء بها و تمسّك الفقهاء بها في أكثر أبواب الفقه، خصوصا في المعاملات:

الاولى: قاعدة: «الوفاء بالعقود مطلقا إلاّ ما أخرجه الدليل، و هي قاعدة قيّمة، و ركيزة في التجارات، و عبّروا عنها ب «أصالة اللزوم في العقود، إلاّ إذا دلّ دليل على الخلاف»، و لا جدوى في اختلاف التعبير هنا.

و معنى القاعدة أنّ كلّ عقد جامع للشروط المعتبرة - في العقد و العاقد و العوضين - لو تحقّق في الخارج يكون ثابتا و دائما لا يجوز حلّه مطلقا، إلاّ بسلطة الشرع كما في مورد الخيارات، أو برضاء الطرفين الجامعين للشرائط الشرعيّة كما في مورد الإقالة.

بل يمكن أن يقال: إنّ كلّ إنشاء جامع للشرائط - عقدا كان أو إيقاعا حتّى لو كان مبايعة مع أوليائه تعالى - يجب الالتزام بمضمونه مطلقا و لا يجوز نقضه اختيارا، إلاّ إذا ورد ترخيص من الشرع في ذلك، و ما ورد في الآية الكريمة من العقود إنّما هو من باب ذكر الغالب لا التقييد. فتأمّل.

و لا فرق في العقد بين أن يكون خلقيّا كأغلب العقود مثل البيع و الإجارة و غيرهما، أو خالقيّا كالنذور و الصدقات، أو مشوبا به كالنكاح، و كذا في الإيقاعات كالطلاق و العتق.

و استدلّ للقاعدة بالأدلّة الأربعة: فمن الكتاب آيات:

منها: قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ، فاللزوم و إن كان حكما وضعيّا، و لكن منشأه الأمر التشريعي أو التقريري، و إطلاقه يشمل كلّ عقد و عهد، الجامعين للشرائط العقلائيّة، في كلّ زمان، أي: أنّ وجوب الوفاء استمراري في جميع اللحظات الزمانيّة، كما يشمل كلّ عاقد و أي نوع من أنواع الثمن أو المثمن.

و منها: قوله تعالى: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اَللّهِ إِذا عاهَدْتُمْ [سورة النحل، الآية:

91]، و عهد اللّه هو ما شرّعه تعالى - عقدا كان أو إيقاعا منوطا بقصد القربة كالعبادات، أو لم يكن كذلك كالمعاملات - و هو في مقابل عهد الشيطان، أي: العهود الّتي فيها مفسدة كشف الشارع عنها بنهيه، فكلّ عهد صدر من الخلق هو من عهد

ص: 277

اللّه تعالى ما لم يرد فيه نهي منه سبحانه، إذ أنّ التشريعيّات كالتكوينيّات ترجع إليه جلّ شأنه، و قد خصّصت الآية المباركة بموارد بيّنتها السنّة الشريفة.

و منها: قوله تعالى: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ [سورة الإنسان، الآية: 7]، الّذي هو في مقام الإنشاء و التشريع بقرينة قوله تعالى: وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ [سورة الحج، الآية: 29]، و ذكر النذر ليس من باب التخصيص و التقييد، و إنّما هو من باب ذكر أحد الأفراد للعقد بقرينة ما تقدّم.

و من السنّة روايات كثيرة، منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «البيعان بالخيار ما لم يفترقا»، فيستفاد منه أنّ الخيار حكم عارضي للعقد محدّد بزمان خاصّ ، و إلاّ فإنّ من ذات العقد اللزوم، و لولا ذلك لم يكن معنى ل (جعل الخيار) إلاّ بنوع من التجوّز، و هو خلاف الظاهر، كما ذكرنا في كتابنا (مهذب الأحكام) ما يتعلّق بذلك.

و منها: قوله صلّى اللّه عليه و آله: «الناس مسلّطون على أموالهم»، فبعد انتقال السلطنة بالعقد حلّها - أو هدمها - لا يجوز إلاّ برضاء الطرفين، و قد استفيدت من هذه الرواية قاعدة اخرى، و قد عبّر عنها ب «قاعدة السلطنة»، و هي تدعم قاعدة «الوفاء بالعقود»، و سيأتي البحث عن مقدار دلالتها في المورد المناسب إن شاء اللّه تعالى.

ص: 278

قرّرها الشارع المقدس، و أنّ الأدلّة الشرعيّة ترشد الى ما قرّرته العقلاء.

و قد خصّصت القاعدة بموارد دلّت عليها الأدلّة الشرعيّة.

الأوّل: الخيارات بأقسامها و أنواعها كخيار المجلس، و الحيوان و خيار العيب، و الغبن و غيرها، كما هي مذكورة مفصّلة في الكتب الفقهيّة، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الثاني: ما إذا حكم الشارع بعدم اللزوم و جواز الفسخ، كبعض أقسام الهبة و الوكالة و الوديعة، و مثل هذه الموارد تحتاج الى دليل خاصّ .

الثالث: ما إذا اشترط من الطرفين أو كلّ واحد منهما الحلّ أو الفسخ و قرّره الشرع، لأنّ اللزوم في العقود هو الحكم الأولي، أي: الطبيعي لها، و هو قابل للرفع لو اتّفق الطرفان على ذلك، و قد دلّت على ذلك روايات كثيرة تقتضي التسهيل و التيسير على الامة المرحومة فتكون امتنانيّة.

ثمّ إنّ موارد التمسّك بهذه القاعدة كثيرة، أهمّها ثلاث:

الأوّل: عند الشكّ في اللزوم و عدمه بعد تحقّق العقد، فمقتضى القاعدة هو الحكم باللزوم.

الثاني: العقود المستحدثة إن لم يدخل في أحد العقود الّتي كانت في عصر الشرع، كما في عقد التأمين و غيره ممّا حصل في التجارات الحديثة.

الثالث: عند الشكّ في اعتبار أمر زائد على الشروط الأوليّة المتّفقة عند العقلاء في العقد المقرّرة لدى الشرع.

و بعض الفقهاء (قدس اللّه أسرارهم) جعل موردا رابعا في المقام، و هو الرجوع إليها إن لم يدلّ دليل على الجواز أو الخيار، لكنّه داخل في القسم الأوّل، لا أن يكون قسيما له فتأمّل.

و لا بدّ من إحراز هيكل العقد عند التمسّك بهذه القاعدة، و إلاّ يكون من التمسّك بالعامّ في الفرد المردّد، فتكون الشبهة مصداقيّة، و إحراز ذلك لا يكون إلاّ بتحقّق الشرائط الرئيسة المتّفقة عند العقلاء، كرضاء الطرفين و تعيين كلّ من الثمن و المثمن.

ص: 279

و هذه القاعدة كما تجري في العقود التمليكيّة كذلك تجري في العقود الإذنيّة، إلاّ أنّ الشارع حكم فيها بالجواز كالوكالة و الوديعة، و لا شكّ أنّ الأدلّة الخاصّة - لفظيّة كانت أو لبيّة - حاكمة عليها كما ثبت ذلك في علم الأصول.

أو نقول: إنّ الجواز في العقود الإذنيّة من مقتضيات ذواتها؛ تمسّكا بقاعدة «السلطنة»، فإنّ الناس يأذنون لمن شاؤوا بما شاؤوا، فلا يكون الجواز لدليل خاصّ ، و إنّ ما ورد يكون إرشادا لما عرفت.

و على أي حال أنّ الخروج في العقود الإذنيّة إمّا خروج حكمي أو موضوعي، فقاعدة اللزوم لا تجري فيها إلاّ إذا ورد دليل خاصّ على اللزوم فيها، فتأمّل.

الثانية: قاعدة كلّية تختصّ باللحوم من الأطعمة، و هي: «كلّ ما في الأنعام يحلّ أكله بعد التذكية، إلاّ ما خرج بالدليل»، و يلحق بالأنعام الحيوانات المحلّلة شرعا كالظبي، و الطيور، و الأسماك، فتعميم القاعدة تكون من هذه الجهة.

و استندت القاعدة على الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب آيات كثيرة:

منها: قوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ ، فإطلاقها يشمل جميع أجزاء الحيوان إلاّ ما أخرجه الدليل أو الاستثناء في الآية الكريمة، كما يأتي.

و منها: قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا ذُكِرَ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ ، فإنّ الأمر فيها للرخصة لا للوجوب، و إطلاقه يشمل القاعدة، و هناك آيات كريمة اخرى يأتي الاستدلال بها في محالها.

و من السنّة الشريفة روايات كثيرة، منها: معتبرة داود بن فرقد عن الصادق عليه السّلام: «كلّ شيء لحمه حلال فجميع ما كان منه - من لبن أو بيض أو انفحة - كلّ ذلك حلال طيب»، و ذكر الثلاثة ليست من باب الحصر، و إنّما يكون من باب الغالب، و أنّها لا تحلّ الحياة كما هو واضح، و قريب منها غيرها، و تدلّ على هذه القاعدة: «قاعدة الحلية في الأشياء» أيضا، و سيأتي في المورد المناسب البحث عنها.

و من الإجماع، فهو ممّا لا شكّ فيه كما عبّر في كلمات جمع من الفقهاء.

ص: 280

و من العقل، قاعدة: «قبح العقاب بلا بيان»، إذ بعد إحراز الحلّية في المذبوح لا بدّ من الشارع بيان حرمة ما فيه، و إلاّ فالتكليف به قبيح.

و كيف كان، فهذه القاعدة من المسلّمات الفقهيّة، و قد خصّصت و خرجت عنها بالدليل في الذبيحة أربعة عشر جزءا، كلّها محرّمة على المشهور، و هي: الدم، و الغدد، و الطحال، و القضيب، و الأنثيان، و الفرث، و المثانة، و المرارة، و المشمية، و الفرج، و العلباء، و النخاع، و خرزة الدماغ، و الحدقة، و الظاهر أنّ جميعها من الخبائث. هذا في غير الطيور، و أمّا فيها فتكون خمسة: الرجيع، و الدم، و الطحال، و المرارة و البيضتين في بعضها.

و لعلّ تمسّك الإمام عليه السّلام بإطلاق الآية الشريفة: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ ؛ لحلّية الجنين و أنّ ذكاته ذكاة امه؛ لأجل التنبيه على هذه القاعدة و إرشادنا لها، فعن أبي جعفر (سلام اللّه تعالى عليه): «أنّ المراد بقوله تعالى: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ أجنّة الأنعام الّتي تؤخذ من بطون أمهاتها إذا أشعرت و قد ذكيت الأمهات و هي حيّة، فذكاتها ذكاة أمها»، و تضمّنت هذه الرواية شروط تذكية الجنين من تذكية الام - فإذا ماتت بلا تذكية و مات الجنين في جوفها حرم أكله - و موت الجنين قبل خروجه من بطن الام - فإذا خرج حيّا و مات بلا تذكية حرم - و تمام الخلقة بأن يكون قد أشعر أو أوبر، فإذا فقد أحد هذه الشروط حرم.

و هذه القاعدة لا تجرى في الأجزاء المبانة من الحي؛ لأنّ قوامها التذكية كما ذكر في عنوانها، كما أنّها تجري في موارد الشكّ في الأجزاء إن لم يدلّ دليل على الاستثناء، و لم يحرز أنّها من الخبائث الّتي يأتي تفسيرها في الآية المباركة، كالكلى و اذني القلب مثلا، و لا فرق في منشأ الشكّ حينئذ و اللّه العالم.

الثالثة: قاعدة كلّية مذكورة في كتاب الحجّ و تختصّ به، و هي: «لا تحلّ تروك الإحرام إلاّ بالإحلال منه»، و مواطن الإحلال ثلاثة: التقصير، و الهدي، و الطواف، بلا فرق في الإحرام بين أن يكون للعمرة مطلقا أو للحجّ ، و إن كان الإحلال في الاولى بالتقصير و في الثاني بالحلق، على تفصيل مذكور في محلّه، و تدلّ على هذه القاعدة الأدلّة الثلاثة.

ص: 281

أمّا الكتاب، فآيات كثيرة مذكورة في سورتي البقرة و الحجّ ، و منها هذه الآية الكريمة: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ - إلى قوله تعالى - وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ، أي: الأنعام كلّها حلّ إلاّ ما كان منها وحشيا، فإنّه صيد و لا يحلّ ذلك للمحرم إ إذا أحلّ منه.

و الصيد من أهمّ تروك الإحرام كالرفث، و الفسوق، و الجدال و يلحق بها سائر التروك لأجل أدلّة خاصّة.

و من السنّة روايات كثيرة مذكورة في كتاب الحجّ ، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

و من الإجماع ما هو مسلّم في أصل القاعدة. و يقتضيه الأصل أيضا، فيتمسّك بالقاعدة في بعض الموارد الّتي نوقش في الأصل.

ثمّ إنّه يستفاد من الآيات الشريفة أحكام:

الأوّل: أنّه يحرم على المحرم صيد الحيوان البري - طيرا كان أو غيره - و ذبحه و أكله و إمساكه و اتلافه، لإطلاق الآية الشريفة. و أمّا ذبح الحيوان الأهلي كذبح الدجاج الأهلي أو الغنم كذلك، فلا يجري عليه حكم الصيد البري، فيجوز لأنّه ليس بصيد عرفا و لا شرعا.

الثاني: يجوز قتل السباع الضاريات و كلّ حيوان خيف منها؛ لأنّه ليس بصيد موضوعا، و إنّما يكون لدفع الضرر عن نفسه، مضافا الى أدلّة خاصّة دالّة على الجواز.

نعم، لا يجوز مع الأمن عنها كما ذكرناه في كتاب الحجّ من (مهذب الأحكام).

الثالث: أنّ الأمر في قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا كالأمر في قوله تعالى: فَإِذا قُضِيَتِ اَلصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي اَلْأَرْضِ [سورة الجمعة، الآية: 10] للرخصة و رفع الحضر، فلا يستفاد منه العزيمة و التكليف، أي: إن شاء فعل و إن شاء لم يفعل.

الرابعة: قاعدة: «كلّ صيد حلال إلاّ ما خرج بالدليل»، و الصيد لا يطلق في

ص: 282

اللغة إلاّ على الحيوان الممتنع؛ لأنّه أخذ الحيوان بحيلة، و في الشرع يعتبر في تملّكه امور، و هي: أن لا يكون للحيوان مالك، و أن يستولي عليه بالأخذ أو بوقوعه في شبكته أو يصير الحيوان غير ممتنع، و أن يكون قصده الصيد، فلو انتفى أحد هذه الأمور لم يتحقّق التمليك في الصيد شرعا، كما لا يطلق على الحيوان الأهلي الّذي يقدر الاستيلاء عليه كالبقر و الغنم إلاّ إذا توحّش و امتنع فيكون صيدا لغة.

و كيف كان، فقد دلّت الأدلّة الثلاثة على هذه القاعدة، فمن الكتاب قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا ، و إطلاقه يشمل جميع أقسام الحيوانات، و في جميع الأوقات إلاّ ما خرج بالدليل، كالصيد في حال الإحرام، أو الصيد للّهو و اللعب، أو ما إذا فقد أحد الشروط المتقدّمة بالنسبة الى تمليك المالك.

و من السنّة روايات كثيرة ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام)، و التعرّض لها يوجب الخروج عن الموضوع، و من شاء فليرجع إليه.

و من الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء، بل هو من المسلّمات عندهم؛ لأنّه من سبل العيش و إبقاء الحياة، فكيف يمنعه الشارع ؟! نعم له أن يحدّده بما يراه و بما فيه المصلحة. هذا.

و يختصّ حلّ الاصطياد بالحيوان أن يكون كلبا و معلّما و مرسلا، و المرسل مسلما، و أن يذكر اللّه تعالى عند الإرسال، و يستند الموت الى جرحه، كلّ ذلك للأدلّة الخاصّة من الكتاب - كما يأتي - و من السنّة ذكرناها في الفقه، و من أراد فليرجع إليه، فلو فقد أحد هذه الشروط انتفت الحلّية و صار ميتة. و إن حصلت الملكية إن توفّرت الشروط السابقة.

كما يعتبر في الآلة أن تكون سلاحا، و أن تكون قاطعة - أو شائكة - و أن يستند القتل الى الآلة، و أن يكون الرامي مسلما، و يذكر اللّه تعالى عند الرمي، و أن يكون الرمي بقصد الاصطياد، و تستقلّ الآلة المحلّلة في القتل، كلّ ذلك للأدلّة الخاصّة أيضا، فلو انتفى أحد هذه الأمور انتفت الحلّية.

و يصحّ التمسّك بالقاعدة في موارد:

ص: 283

الأوّل: عند الشكّ في اشتراط وجود شيء أو اشتراط عدمه، و لم يكن دليل معتبر عليه، مثل إباحة آلة الصيد، أو أصل موضوعي كالشكّ في الإحلال من الإحرام.

الثاني: حلّية اللحم بعد تحقّق الصيد و كان الحيوان ممّا يؤكل شرعا، فمقتضى القاعدة الحليّة، و لا تصل النوبة الى أصالة عدم التذكية إلا إذا شكّ في وجود شرط من الشروط المتقدّمة، على تفصيل مذكور في الكتب المفصّلة.

الثالث: عند الشكّ في وجود زمان قابل للتذكية، فتارة: يحرز أنّ الزمان متسع للتذكية، فلا يحلّ إلاّ بها.

و اخرى: يحرز أنّ الزمان غير قابل لها، كما إذا كان في اللحظة الأخيرة من حياته.

و ثالثة يشكّ في الزمان هل هو قابل للذبح فيمكن التمسّك بالقاعدة في هذه الصورة، و لكنّه مشكل. فتدبّر و إن كان الاجتناب طريق النجاة.

و لا فرق في تحقيق الذكاة بالاصطياد بين الحيوان المأكول اللحم و غيره كالسباع، فإنّها تصير ذكية به و يجوز الانتفاع بجلدها، إلاّ إذا كان الحيوان نجس العين، و لكن تحقّق الذكاة بالاصطياد بالكلب المعلّم في الحيوان غير المأكول إشكال تعرّضنا له في كتابنا (مهذب الأحكام)، و هناك فروع اخرى مذكورة في الكتب المفصّلة.

الخامسة: يستفاد من الآية الشريفة: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً قاعدة: «عدم جواز هتك حرمات شعائر الدين»، أو نقض إعلامه و التعدّي عن حدود اللّه تبارك و تعالى من أمره، و نهيه، و فرائضه، و أحكامه، و مواثيقه، و عهوده، و يكون عطف الأمور المذكورة في الآية المباركة من قبيل عطف الخاصّ على العامّ ، أو التقييد بعد الإطلاق، و هذا شائع في الاستعمالات المحاوريّة، و تدلّ عليها روايات كثيرة مذكورة في محالها.

ص: 284

و ذهب جماعة منهم الشيخ أنّه لا يجوز قتل الصيد و هو يؤم الحرم و لم يدخل فيه، و تمسّكوا بإطلاق قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ و بجملة من الأخبار.

و لكن الأخبار معارضة بأخبار اخرى، فالحمل على الكراهة طريق الجمع بينهما كما ذهب إليه المشهور، و كذا الاصطياد في حرم الحرم، و هو يريد من كلّ جانب. نعم احترام حدود حرم اللّه تعالى لازم عقلا و لكن إثبات الحكم الشرعي بما تقدّم مشكل.

السادسة: تدلّ الآية المباركة: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا على قاعده كلية، و هي: «عدم جواز الاعتداء على الأشخاص الّذين ينقضون عهد اللّه و يصدّون المؤمنين من إقامة شعائر الدين»، و أنّ الانتقام منهم لأجل نقض عهد اللّه تعالى نحو اعتداء و لا يقبل الشارع به. نعم لو استلزم ذلك جناية على شخص أو على امور عامّة للمسلمين، فالضمان أو القصاص كما حكم به الشرع، و تدلّ عليها روايات كثيرة مذكورة في الأبواب المتفرّقة، و سيأتي في قوله تعالى: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى * [سورة الإسراء، الآية: 15] ما يتعلّق بالمقام.

السابعة: تدلّ الآية المباركة: وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ قاعدة عامّة، و هي: «قاعدة حرمة الإعانة على الإثم»، كما أنّ صدرها: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى تدلّ على قاعدة اخرى، و هي: «حسن الإعانة على كلّ خير و برّ، فالآية الكريمة بصدرها و ذيلها تدلّ على قاعدتين عامّتين مهمّتين، و الروايات الواردة فيهما فوق حدّ الإحصاء، قال الصادق عليه السّلام في المعتبر: «و ليعن بعضكم بعضا، فإنّ أبانا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله كان يقول: إنّ معونة المسلم خير و أعظم أجرا من صيام شهر و اعتكافه في المسجد الحرام».

و قال عليه السّلام: «عونك الضعيف من أفضل الصدقة».

و عنه عليه السّلام: «اللّه في عون المؤمن ما دام المؤمن في عون أخيه»، الى غير ذلك

ص: 285

من الروايات. فإعانة المؤمن من حيث هي راجحة و مندوبة، و قد يعرض عليها الوجوب لأجل عناوين اخرى.

و لا شكّ في أن ذلك هو المتسالم عليه عند الفقهاء، بل إنّ مقتضى المرتكزات و الفطرة حسن المعاونة على البرّ و الخير و قبح الإعانة على الشرّ و القبيح، و أنّ الآيات المباركة و السنّة الشريفة إرشاد إليهما.

و لا يخفى أنّ الإعانة المبحوث عنها - سواء أ كانت راجحة أم مرجوحة - ما إذا انحصرت جهة الراجحيّة أو المرجوحيّة في مجرّد الإعانة من حيث هي، لا ما إذا كان المعان بها بذاته راجحا أو مرجوحا، فإعانة الظلمة بنفسها محرّمة في الشريعة مثل قبول الرشوة، أو الإعانة على الصدقة بنفسها راجحة يثاب كلّ يد و إن تجاوز الى سبعين، كما في بعض الروايات.

ثمّ إنّ الإعانة بكلا قسميها تتصوّر على وجوه تبلغ عشرة، ذكرناها في كتاب (مهذب الأحكام) مفصّلا، فمن شاء فليرجع إليه.

و تقوم الإعانة بأمور:

الأوّل: العلم بتحقّق المعان عليه، فإذا لم يعلم لم تتحقّق الإعانة.

الثاني: القصد في الجملة و لو كان حاصلا من العلم، سواء قصد التوصّل أم قصد غير ذلك.

الثالث: تحقّق الفعل خارجا، و لا فرق في ما ذكرنا بين الإعانة الراجحة أو المرجوحة.

و أمّا قاعدة: «حرمة الإعانة على الإثم» فتدلّ عليها - مضافا إلى ما مرّ - روايات كثيرة، منها ما عن جعفر بن محمد عليهما السّلام في الصحيح: «من أعان ظالما على مظلوم، لم يزل اللّه ساخطا عليه حتّى ينتزع عن معونته».

و عنه عليه السّلام: «العامل بالظلم، و المعين له، و الراضي به، شركاء ثلاثتهم»، و تقدّم مكرّرا أنّ المناهي الشرعيّة مطلقا ظلم.

و لا بدّ من إحراز عنوان الإعانة للحرام من القصد، و التحقّق، و العلم كما مرّ،

ص: 286

فإذا انتفى أحد هذه الأمور أو تحقّق الحرام بعد وسائط كثيرة و لم تكن من العلّة التامّة أو جزء العلّة - كما في بيع العنب و التمر لمن يعلم أنّه يعمله خمرا - لم تتحقّق؛ للشكّ في صدق الإعانة حينئذ، فلم تكن محرّمة، و الروايات الواردة الدالّة على الجواز - كما هي مذكورة في المكاسب المحرّمة من كتاب البيع - ليس من باب التخصيص، و إنّما هي من باب التخصص كما عرفت.

و لا فرق في الحرام الّذي تكون الإعانة عليه حراما بين أن يكون من الكبائر أو الصغائر، معلوما تفصيلا أو بالإجمال، مسلما كان العامل أو كافرا بناء على تكليف الكفّار بالفروع كتكليفهم بالأصول، كما هو المشهور، كلّ ذلك للعموم و الإطلاق. و إنّ الإعانة على الإثم تابعة للإثم المعان عليه، فإن كان كبيرة فهي كبيرة و إلاّ فصغيرة.

و هناك فروع للقاعدة تعرّضنا لها معها في كتاب الاجتهاد و التقليد من (مهذب الأحكام)، و من أراد فليرجع إليه و اللّه العالم.

بحث عرفاني

يمكن أن تكون الآيات الشريفة إشارة إلى معاني عرفانيّة، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه الى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إشارة الى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنيل مقصودهم - و هو رضاه - و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق الى دنوّه، فأنت الّذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207].

ص: 287

يمكن أن تكون الآيات الشريفة إشارة إلى معاني عرفانيّة، تتشوّق النفوس إليها و تنشط الأرواح بها و تزيل التعب عنها و تتوجّه الى خالقها و تستعين منه، و لعلّ الآية المباركة: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ إشارة الى عهود العشّاق المنقطعين عن ما سواه و العاكفين على أبواب فيضه و رحمته، فعقدوا معه جلّ شأنه على بذل وجودهم لنيل مقصودهم - و هو رضاه - و تحمّلوا ألم الفراق و عذابه لأجل لقاء جماله، و صبروا على المكاره حتّى يتقرّبوا إليه بالشوق الى دنوّه، فأنت الّذي وهبت لهم من فيضك قدر ما يستحقّون، و أنعمت عليهم من آلائك قدر ما يتأهّلون باختيارهم، و جعلت في قلوبهم شوق لقائك، فهم منك، و إليك، و لك، و معك تعاهدوا و تعاقدوا إِنَّ اَللّهَ اِشْتَرى مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ اَلْجَنَّةَ [سورة التوبة، الآية: 111]، و قال تعالى: وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ اِبْتِغاءَ مَرْضاتِ اَللّهِ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة البقرة، الآية: 207].

أو إشارة الى أنّ ما تفضّل به على الإنسان و وهب له أعضاء يستخدمها في حياته، فكلّ عضو - نعمة وهبة - له عقد معه جلّ شأنه بأن لا يصرفه في معاصيه و نواهيه، فلا بدّ من الوفاء بهذه العقود الّتي عقدت معه تعالى، و يدلّ عليها روايات كثيرة ذكرها علماء الأخلاق في كتبهم.

أو إشارة إلى ما بذلوا من الجهد في هداية خلقك، و مهّدوا السبيل لهم للفوز إلى القرب من حضرة جمالك، و تعاقدوا ببذل أغلى و أعلى ما عندهم بقبولك بالدخول مع عبادك.

أو إشارة الى إماتة الإنسيّة للنيل الى المقامات العالية و العقد على مخالفة الهوى و طرد الشيطان؛ لتلقّي أنوارك.

و كيف ما كان، فمن أوفى بعهوده و دام على عقوده و صبر على بلائه و نجح في امتحانه، فقد فاز بمقصوده و تلقته السعادة، و تمثلته الإنسانيّة، و دخل الجنّة بعد ما أزلفت له.

و لعلّ المراد من قوله جلّ شأنه: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ اَلْأَنْعامِ احلّ ذبح بهيمة النفس الّتي هي كالأنعام بل أضلّ سبيلا، و قتل الأهواء الشريرة حتّى تنكشف الحقائق و تزيل الأوهام، فعن علي عليه السّلام: «المؤمن ينظر بنور اللّه»؛ لأنّه من اللّه تعالى و الى اللّه تعالى، و هو في نور اللّه و يرى بنور اللّه، إن عرف اللّه و أزال الحجب بينه و بين اللّه تعالى، و هذه الأنوار غير محدودة، كما تقدّم في أحد مباحثنا السابقة، و لكن الاستعداد و اللياقة بل الأهليّة لها دخل فيها.

و لعلّ الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي اَلصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ يشير الى الخلّص من عباده، و هم النفوس المطمئنة الثابتة الّتي فازت بالقرب الى ساحة جماله، و تشرّفت بالخطاب الأبدي الربوبي، فسمعت باذن نقية داعية قوله تعالى: اِرْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبادِي * وَ اُدْخُلِي جَنَّتِي ؛ لأنّها أحرمت بالتنفّر عن الدنيا و ما فيها و توجّهت الى كعبة الوصال بتلبية الشوق، و تمسّكت بعرى العشق لحضرة الجمال، و آنست مع الطائفين

ص: 288

حول بيت الحقيقة و الأمان، و أوت الى الركن خوفا من الأغيار، و تجرّدت عن ما سواه، و انفردت عن كلّ محبوب و مطلوب بالتوجّه الى المقام؛ و لذلك كلّه يرى في كلّ شيء جماله جلّت عظمته كما عن سيد العرفاء و إمام الموحّدين عليه السّلام.

و لا شكّ إِنَّ اَللّهَ يَحْكُمُ بترقي النفوس اللائقة و بذبح النفس إن اتّصفت بصفات البهيمة، و رعت في مراتع الحيوانات السفليّة، و رفثت كما ترفث الحيوانات البريّة، و تشبّهت بالحيوانات السبعيّة حتّى تنال طعمة من المآكل الدنيّة.

ما يُرِيدُ كما يشاء و يريد، فإنّه رؤف كريم يحبّ أن يرى آثار نعمه على عباده، و في الحديث: «انّ اللّه جميل و يحب الجمال»، الأعمّ من الظاهري و المعنوي، و لا يحبّ القيود و السلاسل «و يبغض العبد القاذورة». أي: الصفات الذميمة المتوطنة في النفس أو الأوساخ الظاهرة على الجسد.

و لعلّ المراد من قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اَللّهِ لا تقطعوا السبل عمّن أراد وجهه تعالى؛ لأنّ الجهة عظيم لا السالك شريف - إلاّ إذا كان مؤمنا - فإنّ القلوب تتسارع الى الفضائل إن انكشفت لها الحقائق و تؤمن باللّه العظيم و ملائكته و رسله؛ لأنّ العبرة بالخاتمة، فلا تتهاونوا بحرمات اللّه تعالى بصدّ السير للسالك الى المنازل و الصعود من المواقف الدنيّة إلى التجرّد للقائه تعالى.

كما أنّ بعض النفوس المؤمنة تشرّفت بالقرب لساحته جلّ شأنه و فازت بنيل رضاه بالإفاضة عليها، كذلك بعض الأمكنة أشرق عليه نور ربّه جلّ شأنه فتشرّف و سمى على غيره، و كذا بعض الأزمنة فضّل على غيره لتجلّيه تعالى فيه، و هو تعالى فضلّ الأشهر و الأيام و الأوقات و الأمكنة بعضها على بعض، كما فضّل الرسل و الأمم بعضها على بعض؛ لتتسارع النفوس المستعدّة لشوق اللقاء بعد تطهيرها عن الرذائل و الأغيار، ثمّ التحلية بصفات الأخيار، فقال تعالى: وَ لاَ اَلشَّهْرَ اَلْحَرامَ ، أي: لا تستحلّوا المآثم فيه و قدّموا التخلية بإزالة الصفات الذميمة حتّى تنالوا شرف التحلية فيه، فإن للزمان و المكان و الصاحب و الأستاذ الدخل الكبير في تأثير النفس للايصال إلى المقصود بها، و في تحلية النفوس فيها.

و لا تمنعوا قوما أرادوا التشرّف الى كعبة الآمال و ساقوا الهدي للقربان

ص: 289

لأجل التوصّل لما يوجب الغفران من الآثام، حيث قال تعالى: وَ لاَ اَلْهَدْيَ وَ لاَ اَلْقَلائِدَ ، أي: لا تحلّوا الهدي الّذي يريد صاحبه التقرب به، و لا القلائد الّتي أسعرت بالشدّ لفكّ الشدّة.

و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لاَ آمِّينَ اَلْبَيْتَ اَلْحَرامَ أنّ كلّ مخلوق من حيث إضافته الى خالقه جلّ شأنه حسن، مع قطع النظر عن كونه سعيدا أو شقيا؛ لأنّه تعالى خلقه بيديه و من روحه و هو على صورته كما في بعض الأخبار، و إن لم يرض المولى بكفره - فإحسانه لخلقه لا لكفره - و إذا قصد بيت الأمن و الأمان و أراد التوجّه إليه بالمقام، فلا تصدّوه عنه علّه يتحلّى بمكارم الأخلاق و محاسن الأفعال و يتشرّف بهدي الإسلام؛ لأنّهم كسائر العباد يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً من التجارة في العاجلة أو الرضوان في الآخرة حسب زعمهم، و اللّه يهدي لرضوانه من يشاء حسب لياقته و شأنه، فلا يجوز تحقيرهم بمنعهم عن الوصول الى حرم الأمان، إلا إذا خبثت ضمائرهم، فخرجت عن قابلية الصلاح و الإصلاح، فحينئذ لا يؤم البيت الحرام.

و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا الوصول الى مرحلة التطهير بتمييز الحقّ عن الباطل بالعيان؛ لأنّه إذا حلّيت النفوس بعد التخلية و قربت الى ساحة جماله بأداء شعائره، و رقّت الأرواح حتّى وصلت الى شهود أنواره، و خلت للأجسام النظر الى صفاته و الأخذ من رياض بهجته و بهائه، و استعدّت القلوب بعد ترويض النفوس و تزكيتها للمقام الرفيع، فحينئذ نالت مرحلة: «كلي و اشربي و قرّي عينا»، فأحاط التعظيم بها من كلّ جانب و شاهدت ما شاهدت و ميّزت الخبيث من الطيب، و ذاقت النفس طعم الحبّ و ألم الفراق، و قال بعض العرفاء:

لا محبّة إلاّ بأصول *** و لا وصول إلاّ غالي

و لا شراب إلاّ مختوم و لا مقام إلاّ عالي

و لعلّ المراد من قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أن لا يصدّكم عن السير نحو الكمال بالوصول الى مقام

ص: 290

التسليم و الرضا بعد الخلع بالبعد عن مساوئ نفوسكم الّتي هي الأغيار في جنوبكم، أو لا تمنعكم الصفات الذميمة في غيركم - الّذين هم في زيّ الصادقين و عملهم عمل المعرضين - عن إصلاح سرائركم و تنوير قلوبكم و النيل بالأحبّة و الفوز بمقام الخلّة بالتحلّي بصفات الغرّة، و قال شاعرهم:

أمّا الخيام فإنّها كخيامهم *** و أرى نساء الحي غير نسائها

لا و الّذي حجّت قريش بيته مستقبلين الركن من بطحائها

ما أبصرت عيني خيام قبيلة إلاّ بكيت أحبّتي بفنائها

قال تعالى: لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 8]، فإذا سأل الصادقين عن صدقهم أ يترك المدّعين من غير سؤال ؟! فإنّ البعد عن الحقّ و الحقيقة، و النيل من العزّ بذلّ العبوديّة بالأهواء ظلم و اعتداء؛ لأن الادّعاء أعمّ من الواقع و الحقيقة، فلا تحملنّكم الصفات الذميمة على الاعتداء بالهبوط عن رفيع المقام و أسمى المنزلة أشرف الملكات الّتي هيّأها اللّه تعالى لكم.

و إنّ المراد من قوله تعالى: وَ تَعاوَنُوا عَلَى اَلْبِرِّ وَ اَلتَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى اَلْإِثْمِ وَ اَلْعُدْوانِ أنّ كلّ ما يشغل القلب عن ما سواه و يمنع عن الوصول الى الحقّ و الحقيقة، فدفعه إعانة على البرّ، و لا يمكن دفع ذلك إلاّ بواسطة الشرع المبين. و أنّ تمكين حبّ الدنيا في النفس، و تكدير الروح بعد صفائها، و تسويد القلوب بعد جلائها هي من الإعانة على الإثم، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع الحالات، و في كلّ الأمور و عند كلّ مقام، و منزلة ف إِنَّ اَللّهَ شَدِيدُ اَلْعِقابِ فاتّقوه حتّى تنجوا من عقابه الشديد و عذابه المديدة، فمن عقابه عدم الوصول الى تلك المنازل، و من عذابه عدم نيل رضاه، و عدم الظفر بالحقّ و الحقيقة. و اللّه العاصم من الزلل و الخطأ.

بحث اجتماعي

الاجتماع - الّذي يحتاجه الإنسان بل هو قوام حياته؛ لأنّ المودّة و المواصلة

ص: 291

من فطرته لا يمكن العيش بدونهما - فحقيقته مركب من اصول، و أحكام، و روابط هي أسس له، يقوم الاجتماع و المجتمع عليها، فهي كلّما كانت متقنة - بمعنى كونها مأخوذة من مصادر غير قابلة للخطأ و الانزلاق - كان المجتمع أقرب الى الكمال المنشود، و هذا غير قابل للإنكار.

و أفراد المجتمع الّذين يريدون تهذيب مجتمعهم و سوقه إلى السعادة و حفظه عن التمزّق و الانهيار، يرجعون في بادئ الأمر الى أسسه و قواعده، أي: السلطة التشريعيّة، و من ثمّ الى السلطة التنفيذيّة؛ لأنّ الثانية مهما بلغت من القوة و طال زمانها لا تغيّر الاجتماع الّذي يهبط الى السوء أو منه الى الأسوء بعد فساد ركائزه و قواعده، بل هي من أهمّ الموانع في الوصول الى الكمال، فيترقّب الأفراد الفرص للنيل من المجتمع و زعزعته و إفساده.

و أمّا لو كانت الأسس و القواعد مستندة الى الفطرة الّتي كشف عنها خالق السماء، فإنّ الدوافع لحفظها كثيرة و الدواعي لمخالفتها قليلة، و إن السلطة التنفيذيّة ليست بمانعة؛ لأنّ عقاب الضمير و التأنيب النفسي و الشعور بالمسؤولية أمام العدل الواقعي - مع قطع النظر عن الجزاء - أكبر محفّز و أعظم داع لحفظ القوانين؛ و لذلك ورد في الروايات الكثيرة الحثّ على إبلاغ الأحكام، و أنّ العلماء مسؤولون أمام اللّه في علمهم الّذي يوجب الخير و السعادة، و في خطبة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله بمنى: «ألا ليبلغن الشاهد منكم الغائب، فلعلّ من يبلغه أوعى له من بعض من سمعه»، فنشر العلم و بيان الأحكام و بثّ مكارم الأخلاق، من أهمّ الأحكام الاجتماعيّة الّتي أراد اللّه تعالى الاحتفاظ بها، و من أسمى مصاديق الإعانة على البرّ، بل إنّ إصلاح الشخص نفسه و لو بطلب العلم يكون منها؛ لأنّ حقيقة الإعانة غير متقوّمة بالاثنيّة، كما في قوله عليه السّلام: «من أكل الطين فقد أعان على نفسه»، كما تقدّم في الفقه.

و إنّ نشر الأخلاق الفاسدة و الأهواء الباطلة، و الحثّ على مخالفة الأوامر الإلهيّة، و ارتكاب نواهيه و غيرها ممّا يوجب فساد المجتمع و إيقاعه في الهلاك، هو المصداق الحقيقي للإعانة على الإثم المنهي عنها فطرة و شرعا.

ص: 292

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ و.......

اشارة

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) بعد ما أحلّ سبحانه و تعالى بهيمة الأنعام و أسّس قواعد النظام العامّ ، و أمر بالتعاون لحفظ الاجتماع من الضياع و تحقيق السعادة، ذكر تعالى في هذه الآية الشريفة الأمور الّتي استثناها آنفا من الحكم العامّ ممّا وعد بتلاوتها في القرآن الكريم، و هي عشرة أشياء، و أحلّها في حال الاضطرار و المخمصة.

ثمّ بيّن عز و جلّ أنّ هذا الدين قد كمل بتشريع أحكامه و تأسيس دعائمه و أركانه، فأخبر سبحانه و تعالى بأنّه قد أتمّ نعمته على المؤمنين أن نصّب عليهم من يحفظ لهم دينهم و يقيم شعائره و أحكامه، فرضي لهم الإسلام دينا و منهجا قويما ليس له بديل، بل لا يسعهم غيره؛ لأنّه لم ينقصه شيء فليطمئن المؤمنون بأنّه لا يصيب هذا الدين أذى من أعدائه - الّذين ما برحوا في تقويض أركانه و هدم كيانه - فلا تخشوهم، بل لا بدّ أن تكون الخشية من اللّه العزيز المتعال باتّباع تعاليمه و طاعة من نصبه عزّ و جلّ هاديا لهم يهديهم بأمره جلّ شأنه، فإنّ اللّه غفور رحيم، يغفر لهم ذنوبهم و يرحمهم برحمته، فيدفع عنهم كيد الأعداء و صوارف الزمان و دواهي الأشرار و الفجّار.

ص: 293

التفسير

قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ .

بيان لقوله عزّ و جلّ : إِلاّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ و المراد من الميتة كلّ حيوان مأكول اللحم فارقه الروح من غير سبب شرعي، و فيه تفصيل يأتي في البحث الفقهي التعرّض له إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلدَّمُ .

و هو المادّة المعروفة الّتي هي قوام حياة الحيوان، و المراد منه المسفوح؛ لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً ، الّذي كان أهل الجاهليّة يجعلونه في المباعر و الأمعاء، و يشوونه و يأكلونه و منه الطحال، لورود روايات متعدّدة تدلّ على حرمته.

و أمّا غير المسفوح كالكبد، فهو مباح لدخوله في عموم المستثنى منه، و كذا المتخلّف في الذبيحة، فإنّه مباح و طاهر إن غسل موضع الذبح بملاقاة الدم الّذي في محلّ الذبح، فإنّه من المسفوح و ليس من المتخلّف. و التفضيل مذكور في كتب الفقه فراجع.

قوله تعالى: وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ .

و إن جرى عليه عمل التذكية، و إنّما خصّ عزّ و جلّ اللحم بالذكر مع أنّه حرام بجميع أجزائه الّتي تحلّ فيها الحياة و ما لا تحلّ ، إمّا لأنّ أكل لحمه هو الشائع عند المستحلّين له؛ أو لعدم إمكان الانتفاع من غيره، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق به أيضا.

كما أنّه تعالى خصّه بالذكر دون الكلب و غيره من الحيوانات المحرّمة؛ لاعتيادهم أكله دون غيره من السباع.

و من ذلك يظهر وجه الضعف في ما قيل من اختصاص الحرمة باللحم فقط، أخذا بظاهر الآية الشريفة، فإنّ السياق يدلّ على أنّ غير اللحم أيضا حرام.

ص: 294

قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ .

الإهلال: رفع الصوت، و منه إهلال الصبي إذا رفع صوته عند ولادته، و المراد به ذكر ما يذبح له كاللات و العزى و غيرهما من الأصنام، بل ما سوى اللّه تعالى، فإنّ ذكر غيره جلّ شأنه و ذبح الحيوان له يوجب حرمة الذبيحة، و إن استجمعت باقي الشرائط، كما هو مذكور في الفقه.

و هذه الآية المباركة تؤكّد حرمة هذه الأربعة، فليس الحكم فيها تأسيسيّا لورودها في غير هذه السورة ممّا هي أسبق نزولا منها، فقد ذكرت في سورتي الأنعام و النحل، و هما سورتان مكّيتان، و وردت فيهما بصيغة الحصر، قال تعالى:

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الانعام، الآية: 145]، و قال تعالى:

فَكُلُوا مِمّا رَزَقَكُمُ اَللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اُشْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيّاهُ تَعْبُدُونَ * إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل، الآية: 114-115]، كما ذكرت في سورة البقرة الّتي هي أسبق نزولا من هذه السورة و إن كانتا مدنيتين، قال تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية:

173]، فتكون هذه الآية الشريفة مؤكّدة لتلك و مشتملة على زيادة من المحرّمات.

و ممّا يؤكّد ذلك تشابه ذيل الآيات الثلاث في حلّية تلك المحرّمات عند الاضطرار و المخمصة إذا لم يكن متجانفا لإثم، فإنّ اللّه غفور رحيم، بل يمكن أن يقال إنّ النهي عن الثلاثة الاول - أي الميتة و الدم و لحم الخنزير - أسبق تشريعا من كلّ ذلك؛ لأنّ آية الأنعام تعلّل الحرمة فيها بأنّها رجس، فتدلّ على النهي عن أكل الرجس، و هو المرجع، و قد قال تعالى: وَ اَلرُّجْزَ فَاهْجُرْ [سورة المدثر، الآية: 5]، و سورة المدثر أسبق نزولا من جميعها، فإنّها نزلت في أوّل البعثة.

ص: 295

و بالجملة: فإنّ النهي عن هذه الثلاثة قد ذكرت في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم إمّا خصوصا أو على نحو العموم، ممّا يدلّ على شدّة النهي و عظيم الاعتناء بها؛ لأنّها أكثر الأفراد شيوعا في المجتمعات، لا سيما عصر نزول القرآن المجيد.

قوله تعالى: وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ .

تفصيل للميتة و بيان لمصاديقها الّتي حرّمت في الشرع، و المراد منها كلّ ما لم يذك شرعا، لقوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بخلاف أهل الجاهليّة و أقوام آخرين كالمجوس، فإنّهم كانوا يعتقدون أنّ الميتة ما مات حتف أنفه بمرض و نحوه ممّا لم يعرف سببه. و أمّا الأسباب الّتي يأتي ذكرها، فإنّها كانت عندهم كالذكاة.

و المعروف عن المجوس أنّهم لا يأكلون الذبائح؛ لأنّ الذبح أذيّة للحيوان، و يأكلون الميتة بجميع أصنافها الّتي ذكرت، و ممّا ذكرنا يظهر الوجه في اختصاص هذه المصاديق من الميتة بالذكر.

و المراد من المنخنقة ما مات خنقا، و الخنق حبس النفس بأي سبب كان اختيارا من فعل الإنسان أو غير اختياري، كما إذا وقعت في الماء أو أدخلت رأسها بين خشبتين و نحو ذلك ممّا يوجب زهوق الروح.

و التأنيث هنا و في الميتة لأنّهما وصف لبهيمة الأنعام.

قوله تعالى: وَ اَلْمَوْقُوذَةُ .

مادّة وقذ تدلّ على الشدّة في أمر، يقال: وقذ يقذ وقذا، و هو شدّة الضرب حتّى تسترخي و تنحلّ قواها، يقال: فلان وقيذ، أي: مثخن ضربا، و منه الوقذ و هو شدّة المرض المشرف على الموت، كما أنّ منه وقذة النعاس، أي: الغالب منه.

و الوقذ قبيح عقلا؛ لأنّه إيذاء للحيوان، فيكون محرّما شرعا، و كان أهل الجاهليّة إمّا يخنقون الشاة أو يضربونها بالعصى حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها و إن لم يسل دمها.

ص: 296

قوله تعالى: وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ .

و هي الّتي تردّت و وقعت من مكان شاهق أو مرتفع كالسطح و قمة الجبل - و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ الرجل ليتكلّم من سخط اللّه ترديه بعد ما بين السماء و الأرض» أي: توقعه قبل المهلكة - أو في منخفض كالبئر و الوادي فتموت. و هو أيضا قبيح عقلا؛ لأنّ بها هلاك الحيوان مع المشقّة و الإيذاء.

قوله تعالى: وَ اَلنَّطِيحَةُ .

و هي الّتي تموت عن نطح حيوان آخر. و فعيل هنا بمعنى مفعول، و هو يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، فلا تحتاج الى التاء، يقال: عين كحيل لا كحيلة، و كفّ خضيب لا خضيبة. و أجيب عنه بوجوه يأتي ذكرها في البحث الأدبي.

و كيف كان، فإنّهم كانوا يناطحون بالكباش فإذا مات أحدها أكلوه.

قوله تعالى: وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ .

السبع: اسم جنس يشمل كلّ وحش ضار يعدو على الإنسان و الدواب أو يفترسها كالأسد، و النمر، و الثعلب، و الذئب، و الضبع و نحو ذلك، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «نهي عن أكل كلّ ذي ناب من السباع»، أي ما يفترسها الحيوان و يأكله قهرا و قسرا. و من العرب من وقف اسم السبع على الأسد فقط.

و المقصود من الآية الشريفة ما يفترسه السبع فيموت، فلا يشترط أكله من لحمه؛ لأنّ القيد منزّل على الغالب.

و كيف كان، فإنّهم كانوا يأكلون ما يأكله الأسد، و الذئب، بل ذكر بعضهم أنّ أهل الجاهليّة يأكلون بعض فرائس السباع، و هو ممّا تأنفه أكثر الطباع.

قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ .

استثناء من المذكورات ممّا يقبل التذكية و لو كانت ببقية من الحياة.

و المراد من الذكاة فري الأوداج الأربعة مع الشروط المذكورة في كتب الفقه، فإذا تحقّقت التذكية الشرعيّة و لو كان في الحيوان رمق الحياة يضطرب بها حلّ أكله، و على هذا لا يختصّ الاستثناء بالأخير، بل يشمل جميع المذكورات.

ص: 297

و من ذلك يظهر أنّ حرمة المذكورات إنّما هي لأجل موتها بتلك الأسباب و إلاّ فإن لم يمت الحيوان بها، بل مات بالتذكية الشرعيّة و لو كانت عنده بقية حياة حلّ أكله كما عرفت، و كذا لو عاش مدّة من الزمن و مات إمّا بحتف الأنف فيحرم، أو بالتذكية الشرعيّة فيحل، فحينئذ لا يطلق عليه عنوان المنخنقة أو الموقوذة أو المتردّية أو أكيل السبع كما هو واضح من الآية الشريفة؛ لأنّ ظاهرها ما إذا استند الهلاك الى واحد من تلك الأوصاف دون غيرها.

و مادّة (ذكي) تدلّ على تمام الفعل و إتمامه، لا مجرّد وقوعه و إيقاعه، و منه الذكاء، أي السن (العمر) الّذي يقال في مرحلة الشباب، و في غيرها لا يقال ذكاء؛ يقال: الفرس المذكي، أي الّذي يأتي بعد تمام القروح - انتهت أسنانه - بسنة؛ لأنّ تمام اكتمال القوة فيه، و منه الذّكاء و هي سرعة الفطنة و كمالها، و الفعل منه ذكي، يذكي ذكاء، و من الذكاء إذا تمّ اشتعال النار، يقال: ذكت النار تذكو ذكوا و ذكاء، و الذكوة ما تذكو به النار، و أذكيت الحرب و النار إذا اوقدتا و تمّ اشتعالهما، و ذكاء اسم للشمس إذا اشتدّت حرارتها، كما أنّ الصبح ابن ذكاء؛ لأنّه من ضوئها. و ذكي البهيمة إذا أزهق روحها.

و معنى (ذكيتم) أدركتم ذكاته على التمام، و الذكاة في الذبيحة بمعنى التطييب و التطهير، و في الحديث عن أبي جعفر عليه السّلام: «ذكاة الأرض يبسها»، أي: طهارتها من النجاسة بشروق الشمس عليها، و في الذبيحة حلّيتها و تطييبها؛ لأنّ الحيوان إذا سيل دمه فقد طيب.

و التذكية الشرعيّة هي إزهاق روح الحيوان في غير الصيد بفري الأوداج الأربعة بآلة من الحديد، متتابعا من المذبح مستقبل القبلة ذاكرا اسم اللّه تعالى عليه، قاصدا للذبح، و أن يكون الذابح مسلما، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه الشروط في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع.

قوله تعالى: وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ .

مادة (نصب) تدلّ على ما يكون علامة لشيء، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج، الآية: 43]، أي: إلى علم منصوب يسبقون إليه، و منه نصب الشيء، أي: وضعه وضعا ثابتا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيبة و النصيب كلّ ما نصب و جعل علما، و جمعه نصائب و نصب (بضمتين)، و النصوب علم ينصب في الفلاة، و منه النصب (بالفتحتين) و النصب (بالضم) أو (بالضمتين) التعب، قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [سورة ص، الآية: 41]، فإنّه علامة لداء و شرّ و بلاء.

ص: 298

مادة (نصب) تدلّ على ما يكون علامة لشيء، قال تعالى: كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ [سورة المعارج، الآية: 43]، أي: إلى علم منصوب يسبقون إليه، و منه نصب الشيء، أي: وضعه وضعا ثابتا كنصب الرمح و البناء و الحجر، و النصيبة و النصيب كلّ ما نصب و جعل علما، و جمعه نصائب و نصب (بضمتين)، و النصوب علم ينصب في الفلاة، و منه النصب (بالفتحتين) و النصب (بالضم) أو (بالضمتين) التعب، قال تعالى: وَ اُذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ اَلشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ [سورة ص، الآية: 41]، فإنّه علامة لداء و شرّ و بلاء.

و النصب (بضمتين) قيل: جمع نصاب، كحمر جمع حمار، و قيل: واحد الأنصاب كطنب و أطناب، و هي ما نصب و عبد من دون اللّه تعالى و يذبحون لها و عليه. و منه شعر الأعشى يمدح النبي صلّى اللّه عليه و آله:

و ذا النصب المنصوب لا تنسكنّه *** و لا تعبد الشيطان و اللّه فاعبدا

و المراد من الآية الشريفة النهي عن أكل لحوم ما ذبح على النصب الّذي كان من سنن الوثنيّة، فإنّهم كانوا ينصبون حول الكعبة أحجارا يقدّسونها و يذبحون عليها لتعظيمها، و كان ملونا بدم الذبائح، و هي غير الأصنام، و في حديث إسلام أبي ذر: «فخررت مغشيا عليّ ثمّ ارتفعت كأنّي نصب أحمر»، يريد أنّ المشركين ضربوه لأجل إسلامه حتّى ادموه فصار كالنصب المحمر بدم الذبائح حول الكعبة، مثل ما كان المجوس يذبحون لبيوت النيران.

و (على) سواء كانت بمعنى اللام أم على أصلها، فإنّه لا يضرّ بأصل المعنى لأنّهم كانوا يقدّسون الأصنام و يذبحون عليها و لها.

و ذكر بعضهم أنّ هذا تكرار لقوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ . و الحقّ أنّه غيره، فإنّه الذبح على الأحجار لغرض تقديسها، و أما الإهلال لغير اللّه عزّ و جلّ ، فإنّه الذبح باسم أحد معبوداتهم، حتّى أنّ بعض القضاة أفتى بتحريم ما يذبح عند استقبال السلطان تقرّبا إليه؛ لأنّه ممّا اهلّ لغير اللّه به، و إن كان ذلك بعيدا جدا؛ لأنّ الذبح كذلك للاستبشار بقدومه، و الشكر للّه لسلامته كذبح العقيقة مثلا.

و كيف كان، فيمكن أن يكون المقام أخصّ ، فما أهلّ لغير اللّه به قد يكون

ص: 299

بعيدا عن النصب، بخلاف ما ذبح على النصب، فإنّه لا بدّ و أن يذبح على الأحجار المخصوصة تقرّبا لأوثانهم.

قوله تعالى: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ .

عطف على ما قبله، أي: و حرّم عليكم الاستقسام، و هو من القسم، أي:

إفراز النصيب، يقال: قسّمت كذا قسما و قسمة، و منه قسمة الغنيمة و قسمة الميراث، قال تعالى: لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [سورة الحجر، الآية: 44]، و قال تعالى: وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ اَلْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ [سورة القمر، الآية: 28]، و الاستقسام هو طلب القسمة بالأزلام الّتي هي آلات خاصّة لهذا الفعل كما كانوا يفعلون في الجاهليّة.

و الأزلام جمع زلم محرّكة، كجمل أو كصرد (بضم ففتح)، و هي القداح الّتي لا ريش لها.

و الاستسقام بالأزلام في المقام هو طلب النصيب من الجزور بضرب القداح، و ذلك أنّهم كانوا يعمدون على الجزور فيجزئونه عشرة أجزاء ثمّ يجمعون عليه فيخرجون السهام فيدفعونها الى رجل.

و السهام: عشرة، سبعة منها فيها حظوظ، و ثلاثة أغفال لا أنصباء لها (خال من الكتابة)، و كانوا يضربون بها مقامرة؛ و لذا جعل عزّ و جلّ القسمة بها ميسرا، و قد تقدّم في قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ اَلْخَمْرِ وَ اَلْمَيْسِرِ [سورة البقرة، الآية:

219] بعض الكلام.

و ذكر بعضهم أنّ المراد من الاستقسام بالأزلام هو مطلق الضرب بالقداح لاستعلام الخير و الشرّ في الأفعال، فإذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، و على الثاني: نهاني ربّي، و الثالث مهمل لا شيء عليه، (غفل) فيجعلها في خريطة، فإذا أراد فعل شيء أدخل يده فيها، فإذا خرج أحد المكتوبين ائتمر أو انتهى بحسب ما خرج له، و إن خرج القدح الّذي لا شيء عليه

ص: 300

أعاد الضرب. و قال: إنّه حرام؛ لأنّه من الطيرة، أو ضرب من التكهّن و التعرّض لعلم الغيب.

و الحقّ أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على أنّها في مقام بيان محرّمات الأطعمة، و من جملتها قسمة اللحم بالمقامرة، و إن كان الاستقسام بالأزلام أعمّ من ذلك، فإنّه يستعمل في استعلام الخير و الشرّ أيضا، إلاّ أنّه قد توجب القرائن الحافّة بالكلام صرف اللفظ عن عمومه و استعماله في مورد خاصّ ، و هو كثير و المقام منه، يضاف الى ذلك أنّ الآية الشريفة تدلّ على حرمة الاستقسام بالأزلام و حرمة طلب الخير أو الشرّ، منها محلّ الكلام، فإنّه ضرب من الاستخارة الّتي ورد الإذن فيها و لا يضرّ اختلاف الآلات في استعلام الخير، فقد يكون بالسهام، و قد يكون بغيرها.

نعم، لا بدّ أن يكون الاستخبار من اللّه تعالى، فلا موضوعيّة للآلات، بل هي طريق الى طلب الخير من اللّه العظيم، نظير التفاؤل الّذي كان نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله يحبّه. و الادّعاء بأنّه من الطيرة و التكهّن. باطل كما هو واضح.

و أمّا التعرّض لطلب علم الغيب، فلا بأس به، و ذكرنا ما يتعلّق بالاستخارة و أقسامها و سائر خصوصياتها في كتابنا (مهذب الأحكام) فراجع، و سيأتي في البحث الروائي مزيد كلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ .

الفسق: هو الخروج عن طاعة اللّه تعالى الى معصيته؛ لأنّه الخروج عن الاستقامة، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 26].

و الإشارة راجعة الى جميع المذكورات، فإنّها محرّمات شرعا، و استحلالها خروج عن طاعة اللّه تعالى و إعراض عن شرعه، كما أنّ الكفّ عنها من الوفاء بالعقود الّذي تقدّم في صدر السورة، و يشهد له قوله تعالى في سورة الأنعام: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ [سورة الأنعام،

ص: 301

الآية: 145]، فإنّه جعل غير الثلاثة الّتي هي رجس من الفسق و عدّ منه ما اهل لغير اللّه به.

و يحتمل رجوعها إلى الأخيرين من بعد الاستثناء إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ؛ لحيلولته عمّا قبله، أي: ما ذبح على النصب و الاستقسام بالأزلام.

و قيل: إنّها ترجع الى الأخير فقط. و هو بعيد عن سياقها.

و كيف كان، فإنّ الإشارة بالبعيد فيها الدلالة على بعدها عن الخير.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ .

سياق الآية الكريمة يدلّ على أنّها جملة معترضة اقحمت في ضمن الآية الكبيرة المباركة الّتي نزلت لبيان محرّمات الطعام، و من عادة القرآن الكريم أنّه إذا أراد بيان أمر من الأمور الّتي لها أهميّة خاصّة أدرجه في ضمن الآيات الكريمة لحكم متعدّدة، و يعتبر ذلك أسلوبا بلاغيا مستحسنا عند البلغاء و الفصحاء، و يظهر ذلك بوضوح في قوله تعالى: يا نِساءَ اَلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ اَلنِّساءِ إِنِ اِتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ اَلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلْأُولى وَ أَقِمْنَ اَلصَّلاةَ وَ آتِينَ اَلزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ أَهْلَ اَلْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً * وَ اُذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اَللّهِ وَ اَلْحِكْمَةِ إِنَّ اَللّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 32-34]، فإنّ الآيات الشريفة نزلت في شأن نساء النبي صلّى اللّه عليه و آله، إلاّ أنّ قوله تعالى: إِنَّما يُرِيدُ اَللّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ اَلرِّجْسَ جملة معترضة ذات دلالة مستقلة لا تتوقّف على بقية الآية الشريفة تبيّن قضية مهمّة، و هي عصمة أهل بيت النبي الّذين قرن اللّه طاعتهم بطاعته.

و في المقام: صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة و بقية محرّمات الطعام، و ذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار و المخمصة، فمجموع الصدر و الذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شيء آخر، نظير قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، و يماثلها ما في سورتي الأنعام (145) و النحل (115)، فيكون قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام، و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة - الّتي هي كثيرة - تخصّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.

ص: 302

و في المقام: صدر الآية المباركة يدلّ على حرمة الميتة و بقية محرّمات الطعام، و ذيلها يدلّ على حلّيتها حال الاضطرار و المخمصة، فمجموع الصدر و الذيل له وحدة دلالية كاملة متناسقة لا تتوقّف على شيء آخر، نظير قوله تعالى: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةَ وَ اَلدَّمَ وَ لَحْمَ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اَللّهِ فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة البقرة، الآية: 173]، و يماثلها ما في سورتي الأنعام (145) و النحل (115)، فيكون قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً كلاما معترضا اقحم في الآية الكريمة، و لا تتوقّف دلالة إحداهما على الاخرى، فكلّ واحد منهما له دلالته الخاصّة و يبينان أمرين، أحدهما محرّمات الطعام، و الثاني كمال هذا الدين و تمامه و ظهوره على الشرك كلّه، و أنّه لا مطمع لأعداء هذا الدين في زواله. و يؤيّد ذلك أنّ أغلب الروايات الواردة في سبب نزول هذه الآية الشريفة - الّتي هي كثيرة - تخصّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً بالذكر و لم تتعرّض لصدر الآية المباركة و لا لذيلها، فيستفاد أنّ له نزولا مستقلا عن نزول الآية الشريفة، فإنّما وضع في وسط الآية لحكم، كما عرفت آنفا.

و لا يفرق في ذلك بين أن يكون الواضع هو اللّه تعالى، أو النبي صلّى اللّه عليه و آله بأمر منه عزّ و جلّ ، أو كتّاب الوحي بأمر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه لا يضرّ في أصل المطلب.

كما أنّ الجملة المعترضة و إن تركّبت من جملتين إحداهما تدلّ على ظهور هذا الدين على الشرك و أمنه من كيدهم، فلا خوف من أعداء هذا الدين و لا حاجة إلى مداراتهم، و الجملة الثانية تبيّن كمال الدين و إتمام النعمة، إلاّ أنّ مضمون كلتا الجملتين يرتبط أحدهما بالآخر، و هو يدلّ على أنّ هذه الجملة المعترضة كلام واحد لا كلامان، كما تدلّ عليه الروايات الّتي وردت في شأن نزولها. و لا يضرّ في ذلك تكرار لفظ (اليوم) الّذي يراد به في كلتا الجملتين يوم واحد، و هو اليوم الّذي يئس فيه الكفّار و أكمل فيه الدين كما ستعرف.

ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.

ص: 303

ثمّ إنّ اليوم يطلق تارة و يراد به بياض النهار من حين طلوع الشمس الى غروبها، و يقابله الليل كما في قوله تعالى: سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيّامٍ حُسُوماً [سورة الحاقة، الآية: 7]، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الإيجاري، و هو المراد حيث اطلق.

و اخرى: يطلق و يراد به من حين الفجر الى غروب الشمس، و يعبّر عنه في الفقه باليوم الصومي، قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ * [سورة البقرة، الآية: 196].

و ثالثة: يراد به مجموع الليل و النهار، كما في قوله تعالى: وَ يَذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فِي أَيّامٍ مَعْلُوماتٍ [سورة الحج، الآية: 28]، و قوله تعالى: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ * [سورة الكهف، الآية: 19]، و قوله تعالى: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ [سورة الحج، الآية: 47].

و رابعة: يراد به مقطع خاصّ من الزمان، سواء أ كان قصيرا أم طويلا، كما في قوله تعالى: اُدْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنّا يَوْماً مِنَ اَلْعَذابِ [سورة غافر، الآية: 49]، و قوله تعالى: خَلَقَ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيّامٍ * [سورة يونس، الآية: 3]، و قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ [سورة آل عمران، الآية: 140]، و قوله تعالى: لَنْ تَمَسَّنَا اَلنّارُ إِلاّ أَيّاماً مَعْدُوداتٍ [سورة آل عمران، الآية: 24].

الخامسة: يطلق و يراد به يوم القيامة الّذي يعدّ من أعظم الأيام في الشرائع السماويّة، و قد ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم بأوصاف متعدّدة، قال تعالى:

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [سورة يس، الآية: 54]، و قال تعالى: إِنَّ أَصْحابَ اَلْجَنَّةِ اَلْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ [سورة يس، الآية: 55]، و قال تعالى: وَ اِمْتازُوا اَلْيَوْمَ أَيُّهَا اَلْمُجْرِمُونَ [سورة يس، الآية: 59]، و قال تعالى: بُشْراكُمُ اَلْيَوْمَ جَنّاتٌ [سورة الحديد، الآية: 12]، و قال تعالى: يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ [سورة إبراهيم، الآية: 31].

و لأهمّيّة هذه الكلمة في الأديان الإلهيّة فقد ذكرها عزّ و جلّ في القرآن المجيد في أكثر من أربعمائة مورد بصيغها المختلفة و هيئاتها المتعدّدة.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من اليوم في المقام.

ص: 304

فقيل: إنّه زمان ظهور الإسلام ببعثة خاتم الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و دعوته الى التوحيد و نبذ الأنداد، فيكون المراد من قوله تعالى: أنّ اللّه أنزل إليكم الإسلام، و أكمل لكم الدين، و أتمّ عليكم النعمة و يأس الكفّار من دينكم فلا تخافوهم بعد ذلك.

و أشكل عليه بأنّه يلزم من ذلك أن يكون للمسلمين دين قبل الإسلام كان المشركون يطمعون فيه، و يخشى المسلمون منهم على دينهم، فأيأس اللّه الكافرين بإكمال دينهم و إتمام نعمته عليهم كما هو ظاهر سياق الآية المباركة، و هو خلاف الوجدان، فإنّه لم يكن لهم قبل الإسلام دين يطمع فيه الكفّار أو يكمله اللّه و يتمّ نعمته عليهم.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد فتح مكّة، فإنّه اليوم الّذي أبطل اللّه تعالى كيد المشركين و أذهب شوكتهم و هدم بنيانهم، فانقطع رجاؤهم فلم يخفهم المسلمون على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه: أنّ الآية المباركة تدلّ على كمال الدين و إتمام النعمة و في ذلك اليوم لم يكمل الدين و لم تتم النعمة بعد، و قد فرضت كثير من الشرائع و الأحكام و أنزلت عدد من الفرائض بعد يوم الفتح.

مع أنّ الآية الشريفة تدلّ على ايئاس جميع الكفّار من هذا الدين و لم يكن كذلك بعد يوم الفتح، إذ أنّ بعض العادات السيئة و الشرائع الفاسدة كانت موجودة عندهم حتّى بعث فيهم النبي صلّى اللّه عليه و آله من أبطل تلك العادات السيئة و الشرائع الفاسدة.

و قيل: إنّ المراد به ما بعد نزول سورة البراءة من الزمان حيث انبسط الإسلام على جزيرة العرب و عفيت آثار الشرك، و ماتت سنن الجاهليّة، فلم يكن يخش المسلمون من كيدهم، و قد أبدلهم اللّه تعالى من بعد خوفهم أمنا يعبدونه و لا يشركون به شيئا.

و يرد عليه ما أورد على سابقه، فإنّ الإسلام و إن أمن من مكرهم و انبسط على الجزيرة و انقبرت سنن الجاهليّة، إلاّ أنّ الدين لما يكمل بعد، و قد نزلت فرائض

ص: 305

و أحكام و مواثيق بعد نزول براءة كما هو معلوم، فإنّ سورة المائدة الّتي هي سورة الأحكام نزلت في آخر عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله.

و قيل - و هو المعروف بينهم -: إنّ المراد به يوم عرفة من حجّة الوداع، كما ذكره كثير من المفسّرين و وردت به بعض الروايات.

و فيه: أنّه إذا كان المراد به ذلك فما المراد من يأس الّذين كفروا من هذا الدين، فهل المراد به يأس مشركي قريش من الظهور عليه ؟! فهو قد كان في يوم الفتح عام ثمانية للهجرة، لا يوم عرفة من السنة العاشرة.

أو يراد به يأس مشركي العرب من الظهور على الدين ؟! فقد كان عند نزول براءة في السنة التاسعة من الهجرة.

و إن كان المراد به يأس الكفّار جميعهم الشامل لليهود و النصارى و المجوس و غيرهم، كما يقتضيه إطلاق الآية الشريفة: اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، فهؤلاء لم يكونوا آيسين من الظهور على المسلمين، إذ لم يكن لهم شوكة و منعة في خارج الجزيرة.

على أنّ المناسب لقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ أنّ كون الحكم الّذي أنزله اللّه تعالى له من الأهميّة بمكان بحيث يكون به كمال هذا الدين، و به تتمّ النعمة العظيمة، و بنزوله قد رضي اللّه سبحانه و تعالى أن يكون الإسلام دينا و منهاجا أبديّا خالدا إلى يوم القيامة.

و ما يمكن أن يقال من الاحتمالات في هذا الحكم النازل في يوم عرفة خمسة:

الأوّل: أن يكون المراد به إكمال أمر الحج بحضور النبي صلّى اللّه عليه و آله بنفسه الشريفة و تعليمه الناس تعليما قوليّا و عمليّا في آن واحد.

و فيه: أنّ حضوره صلّى اللّه عليه و آله في الحجّ و إكماله بتشريع الأحكام، فيه كمال للحجّ فقط لا للدين كلّه و إتمام للنعمة، فإنّ كلّ حكم إلهي بحدّ نفسه كمال و نعمة عظيمة، كما ورد في قوله تعالى عند تشريع الوضوء و التيمم: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، إلاّ أنّ ظاهر الآية المباركة في المقام أنّ ما شرّعه عزّ و جلّ من الحكم في هذا اليوم يكون موجبا لكمال الدين كلّه و سببا لانقطاع رجاء الكفّار، مضافا إلى

ص: 306

ذلك أنّ تشريع الحجّ لم يكن موجبا لإيئاس الكفّار و انقطاع الرجاء عن هذا الدين كما هو معلوم، فتنقطع الرابطة بين الجملتين، و هو خلاف ظاهر الآية الشريفة.

الثاني: أن يكون المراد به إكمال الدين بنزول بقايا الحلال و الحرام في هذا اليوم، فلا حلال بعده و لا حرام، و به استولى اليأس على الكفّار و انقطع رجاؤهم عن هذا الدين.

و فيه: مضافا الى ما أورد على سابقه أنّ الأحكام لم تكمل يوم عرفة، فقد نزلت بعده عدة أحكام كآية الصيف و آيات الربا، كما دلّت عليه جملة من الأخبار.

مع أنّ الكفّار الّذين انقطع رجاؤهم و استولى اليأس على نفوسهم، هل هم مشركوا قريش ؟ فقد كانوا كذلك قبل نزول هذه الآية المباركة، أم مشركوا العرب ؟ فقد خابوا عند نزول سورة براءة، أم الكفّار مطلقا من غيرهم ؟ و قد عرفت أنّهم لم يكونوا آيسين يومئذ من الظهور على المسلمين.

الثالث: أن يكون المراد به إكمال الدين بتخليص بيت اللّه الحرام من رجس الوثنيّة، و براثن الشرك، و إجلاء المشركين عنه و خلوصه لعبادة اللّه الواحد الأحد.

و فيه: أنّ الأمر كان كذلك بعد فتح مكّة قبل هذا اليوم بسنة، يضاف الى ذلك أنّ تسمية مثل ذلك كمالا للدين و إن كان فيه إتمام للنعمة مشكل، فإنّ الدين مجموعة من الاعتقادات و التوجيهات و الإرشادات القيمة الّتي توجّه الإنسان إلى الصراط المستقيم و تعدّه إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا لنيل الكمالات الواقعيّة، و ليس في فتح مكة من الأهميّة العظمى الّتي يكون بها إكمالا للدين كلّه، و إن كان له أهميّة من النواحي الاخرى الّتي لا يستهان بها كما هو معلوم.

على أنّ إشكال يأس الكفّار يأتي في هذا الاحتمال أيضا، كما هو واضح.

الرابع: أن يكون المراد به إكمال الدين ببيان المحرّمات بيانا تفصيليّا، بعد أن ذكرت على سبيل الإجمال في بعض السور المكّية، لئلاّ ينفر العرب من هذا الدين و يمتنعوا عن قبوله، و ليكون المسلمون على بصيرة منها فيجتنبوا عنها عن علم و معرفة و اطمئنان من دون خشية من الكفّار، فإنّهم يئسوا من هذا الدين بعد

ص: 307

إعزازه و ظهور الدين كلّه، فالمراد من اليوم هو يوم عرفة الّتي نزلت فيه هذه الآية الشريفة الّتي بيّنت هذه الأحكام و أبطلت بها سنن الجاهليّة، و هدم صرح الشرك بالبشارة بغلبة المسلمين و ظهورهم على المشركين ظهورا تامّا و عدم الخشية منهم، فإنّهم يئسوا من إزالة هذا الدين، فأبدل اللّه تعالى خوف المؤمنين أمنا و ضعفهم قوّة و فقرهم غنى، فالأجدر بالمسلمين أن يتوجّهوا الى العمل بالأحكام في أمن و أمان، فلا يبالوا بالكفّار و لا الى قوّتهم، و لا يخافوهم على دينهم و لا على أنفسهم.

و يرد عليه ما أورد على سوابقه، مضافا الى أنّ التدريج في المقام ليس كالتدريج في آيات الخمر، فإنّ هذه الآية المباركة لم تأت بحكم جديد، إضافة الى ما ورد من التحريم في سورة البقرة و الأنعام و النحل، إلاّ أنّ في المقام شرحا للميتة ببيان أفرادها، فإن أريد من التدريج خوفا من امتناع الناس عن قبول هذا المعنى، فهو غير وجيه، إذ أنّ هذه المحرّمات ذكرت في غير موضع واحد.

على أنّ تشريع حكم واحد مثل هذا الّذي ورد في الآية الكريمة، و إن كان كمالا في حدّ نفسه و تماما للنعمة، لكنّه لم يكن كمالا للدين كلّه - كما عرفت - كما هو شأن بقية الأحكام الإلهيّة الّتي شرّعت في أوقات متعدّدة، فلم يرد فيها مثل ما ورد في ما شرّعه اللّه تعالى في هذا اليوم بأنّه كمال للدين و إتمام للنعمة العظيمة، و أنّه سبب لا لإيئاس الكفّار من هذا الدين، و أنّ به رضا اللّه تعالى أن يكون الإسلام دينا الى يوم القيامة.

الخامس: أن يكون المراد بإكمال الدين هو سدّ باب التشريع، فلم ينزل حكما آخر بعد نزول هذه الآية في يوم عرفة.

و فيه: أنّه لم ينسد باب التشريع عند نزول هذه الآية الشريفة في هذا اليوم كما عرفت مكرّرا، فقد شرّعت أحكام كثيرة بعدها أيضا.

و الحقّ أن يقال: إنّ الدين مجموعة قوانين و نظم و توجيهات و إرشادات قيّمة تعدّ الإنسان إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للوصول الى الكمال اللائق به في الدارين، و تكون سببا في سعادته، و هي و إن كانت مجموعات و أحكاما متعدّدة، إلاّ

ص: 308

أنّها مترابطة و متكاملة، و يعتبر كلّ واحد منها نعمة على الإنسان، كما يدلّ عليه ما ورد في تشريع الوضوء و التيمم في قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ [سورة المائدة، الآية: 6].

كما أنّ كلّ واحد من تلك الأحكام يكون اللاحق منها مكملا للسابق و كمالا له، و يعدّ كلّ تشريع من التشريعات الإلهيّة دعامة من دعامات هذا الدين، و سببا في تقويته و تثبيته و منعته و صدّه لكيد الكافرين و مكرهم الّذين ما برحوا في تفويض هذا البنيان المنيع و إطفاء نور اللّه تعالى، و لهم في ذلك أساليب مختلفة كما حكى عزّ و جلّ في القرآن الكريم و حذّر المؤمنين من كيدهم و مكرهم و خدعهم.

و كان من جملة ما توسّلوا به في زعزعة هذا الدين هو افتتان المؤمنين و بثّ النفاق بينهم و إفساد دينهم بإلقاء الشبه و الشكوك في نفوسهم، و قد تصدّى الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله لدفع جميع ذلك و ردّ كيدهم بوحي من السماء و إمداد ربوبي، فعاش فيهم ثلاثا و عشرين سنة يكابد المحن و يكافح أعداء الدين و يجاهد مع المنافقين، و يمدّه عزّ و جلّ بتوجيهات و إرشادات و ينزل من الأحكام ما تطمئن نفسه الشريفة و نفوس المؤمنين، حتّى نما الإسلام و قويت شوكته و دخل المشركون في هذا الدين و انمحت آثار الشرك من الجزيرة و علت كلمته و ظهر على الدين كلّه و إن كره الكافرون، إلاّ أنّه صلّى اللّه عليه و آله و إن أمن من كيدهم في حال حياته، و لكنّه لم يأمن منهم بعد رحيله و غيابه عن جماعتهم، و كان من أهمّ ما كان يمنّي أعداء الدين أنفسهم هو الانقضاض على هذه الشجرة الطيبة بعد موته صلّى اللّه عليه و آله، فكانوا يفترون عزيمة النبي صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين بشتى السبل، منها أنّهم كانوا يقولون: إنّ هذا النبي صلّى اللّه عليه و آله أبتر ليس له عقب يحفظ له دينه بعد موته، و سينقطع أثره و يموت ذكره و لا يبقى دينه كما هو المشهود في موت الملوك و السلاطين، فكان هذا الأمر من أهمّ ما كان يساور النبي صلّى اللّه عليه و آله و يهمه و يقلق باله. و لعلّه كان يرى أنّ هذا الدين لو بقي كذلك من دون أن يكون في البين تشريع يحفظه بعد ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله يكون ناقصا، و كان يخشى الكافرين أعداء هذا الدين من الانقضاض عليه مرّة اخرى و إفساده

ص: 309

و هو غائب لم يقدر على حفظه من كيدهم، و هذا هو الّذي كان يخشى المؤمنون منه أيضا، فلا بدّ من تشريع يزيل هذا النقص منه و تكميله بإنزال حكم يثبت دعائمه إلى الأبد، مع العلم بأنّه دين أبدي لا يكون بعده دين أو تشريع آخر، فيكون هذا التشريع و الحكم الإلهي له من المميزات ما يفوق به على أي تشريع آخر، فإنّه يزيل الخشية عن المؤمنين من كيد الكافرين، فلا يخاف منهم، و به يكمل هذا الدين و تثبت دعائمه الى الأبد و يؤمن من كيد أعدائه و مكرهم و خدعهم و أباطيلهم، و هو من النّعم العظيمة على المؤمنين في حفظ دينهم من الضياع، و به رضى اللّه عزّ و جلّ أن يكون الإسلام دينا أبديّا و منهاجا خالدا، فأيّ تشريع عظيم هذا يكون سببا لرضائه تعالى به دينا كاملا، فهو تبارك و تعالى كان راضيا بهذا الدين قبل ذلك و لكنّه الآن رضي أن يكون دينا كاملا و تامّا لا يخشى المسلمون من أعدائه، فهو باق ببقاء الدهر محفوظا من كيدهم و مكرهم، فلا يخافهم المؤمنون لا على دينهم و لا على أنفسهم.

و من ذلك يعلم أنّ المراد من اليوم في المقام هو المقطع الخاصّ من الزمان الّذي شرّع فيه هذا الحكم الإلهي العظيم، فلا يختصّ بخصوص يوم عرفة أو قبله أو ما بعده حتّى ارتحاله صلّى اللّه عليه و آله، فإنّ لهذا التشريع مقدّمات و معدّات لم تكن في غيره لأهمّيّته، فهو يختلف عن سائر الأحكام و التشريعات كما عرفت.

و به يمكن أن يجمع بين الأقوال، فإنّ لكلّ واحد منها دخلا في هذا التشريع بنحو من الأنحاء، و سيأتي في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

و يشهد لما ذكرنا امور:

منها: أنّ سياق قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ يدلّ على تفخيم أمر هذا اليوم و تعظيم شأنه، لما في تقديم الظرف و تعلّقه بقوله تعالى: يَئِسَ من الدلالة على ذلك كما هو معلوم، و لعلّ السرّ في ذلك هو

ص: 310

ما ذكرناه من إنزال حكم إلهي في هذا اليوم يكون فيه الضمان لحفظ هذا الدين و ديمومته، و به خرج من الظهور و الحدوث الى مرحة البقاء و الدوام.

و منها: أن يأس الكفّار و انقطاع رجائهم عن هذا الدين لم يتحقّق إلاّ بتشريع حكم يضمن بقاءه و يحفظه من الضياع إذا مات القائم بأمره، فإنّ كلّ مذهب و نحلة لا تبقى على شوكتها و قوّتها و صفاتها و نضارتها إذا مات حملتها و حفظتها و القائمون بأمرها، فلا بدّ من أن يقوم بعدهم من يحفظها و يدبّر أمرها، و كان رجاء الأعداء الوحيد هو موت صاحب هذا الدين ليقضوا عليه بعد ما لم ينفعه التهديد، و التوعيد و القهر، و الجبر، و القتل، و الضرب في حياة صاحبه، و قد حصل لهم اليأس عند ما خرج الدين من القيام بفرد معين و شخص خاصّ الى أشخاص متعدّدين يتحمّلون الأمانة بصدق و وفاء، و يكونون مظاهر للشريعة قولا و عملا، و انقطع رجاؤهم عند ما علموا بأنّ الدين خرج من مرحلة الحدوث الى مرحلة البقاء، و لعلّ في قوله تعالى: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ اَلْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اِصْفَحُوا حَتّى يَأْتِيَ اَللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اَللّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة البقرة، الآية:

109] إشارة إلى ذلك، فإنّ الكفّار عند ما انقطع رجاؤهم من تقويض هذا الدين في حياة النبي صلّى اللّه عليه و آله تمنّوا الانقضاض عليه و ردّ المؤمنين عن إيمانهم بعد ارتحاله و موته صلّى اللّه عليه و آله، و لكن اللّه جلّت عظمته وعد المؤمنين بأن يأتي بحكم يرفع هذا الخوف الكامن في نفوسهم، و هو الّذي ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة في المقام.

و منها: أنّ سياق الآية الشريفة يختلف عن سياق مثيلتها الّتي ورد فيها نفس الأسلوب، كقوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ، الّذي يدلّ على تشريع حكم إرفاقي ينبئ عن عظيم امتنانه على الامة، حيث أحلّ لهم الطيبات و طعام أهل الكتاب، كما ستعرف.

و أمّا المقام، فإنّ سياقه يدلّ على تعظيم أمر «اليوم» الّذي نزل فيه حكم

ص: 311

عظيم يتضمّن البشرى للمؤمنين بحفظ دينهم عن تلاعب أيدي الّذين كفروا، و هو يشمل اليهود و النصارى و المجوس و غيرهم.

و أمّا الآية الاخرى فيختصّ الحكم فيها بأهل الكتاب، كما أنّ الحكم في المقام تكويني، بينما يكون الحكم في الآية التالية تشريعي إرفاقي، فيستفاد من جميع ذلك عظمة الحكم الوارد في المقام و أهميّة اليوم الّذي شرّع فيه ذلك الحكم.

و منها: أنّه ورد بعض الروايات في المقام الّذي يدلّ على أنّ الآية نزلت يوم غدير خم في أمر ولاية علي عليه السّلام، كما ستعرف.

و منها: قوله تعالى في الآية الكريمة: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ الدال على النهي عن الخشية منهم. و الظاهر أنّ النهي إرشادي، لا أن يكون مولويا، بمعنى ارتفاع الموجب عن الخشية بعد يأس الّذين كفروا من التعرّض لدينكم، فلا بدّ أن تكون الخشية من اللّه تعالى فقط في عدم التعرّض لما يوجب سخطه و عقابه.

و من البديهي أنّ الخشية منه عزّ و جلّ واجبة على كلّ تقدير من غير أن تكون في وقت خاصّ أو حالة مخصوصة، فإنّ ذلك يشعر بأنّ الخشية المأمور بها في المقام هي خشية خاصّة، و هي الّتي كانت حاصلة من الأعداء بالنسبة الى دين اللّه تعالى، و بعد أن أيأسهم اللّه تعالى و أمن المؤمنون، فلا موجب للخشية منهم، و يجب على المؤمنين توجّه خشيتهم الى اللّه تعالى لئلاّ يقعوا في ما يوجب غضبه و الانتقام منهم.

و لا تخلو الآية المباركة من التهديد و التحذير للمؤمنين كما هو واضح من سياقها.

قد يقال: إنّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ يكون مثل قوله تعالى:

فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة آل عمران، الآية: 175]، فكلّ ما يقال فيه يقال في المقام أيضا.

و يرد عليه: بأنّ الحكم في الآية الشريفة الثانية مولوي مشروط بالإيمان، و يكون مفادها أنّه لا يجوز للمؤمنين أن يخافوا الكافرين لا على دينهم و لا على

ص: 312

أنفسهم، بل يجب عليهم أن يخافوا اللّه تعالى وحده، فإنّه العزيز القادر على كلّ شيء، بل المؤمن لا يخاف غيره جلّ شأنه، كما يشعر به التعليل في ذيل الآية المباركة.

و أمّا آية المقام، فإنّها لا تنهى عن الخشية منهم إلاّ بعد تشريع حكم خاصّ أوجب يأس الأعداء و انقطاع رجائهم عن نيل هذا الدين، فحينئذ لا بدّ أن تكون خشيتهم عن اللّه فقط، فهي لا تنهى عن الخشية مطلقا كما نهت الآية الاخرى عن الخوف، بل لأجل أنّه لا موجب للخشية بعد اليأس؛ و لذا كان الحكم تكوينيّا لا تشريعيّا.

و من جميع ذلك تعرف عظمة هذه الآية الشريفة و أهميّتها، و أنّها تؤذن بأنّ هذا الدين في أمن و أمان من ناحية الّذين كفروا بعد ما يئسوا من النيل منه، فلا يتطرّق إليه ما يوجب الخطر عليه أو فساده إلاّ من ناحية المسلمين أنفسهم بترك العمل بالأحكام الإلهيّة و الإعراض عن التوجيهات الربوبيّة، فإذا تغيّروا تغيّر اللّه تعالى عليهم، فإنّ اللّه لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، فقد يسلب منهم التوفيق، و يزيل النعمة، و يذيقهم لباس الخوف و الجوع كما حكي عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال تعالى: وَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اَللّهِ فَأَذاقَهَا اَللّهُ لِباسَ اَلْجُوعِ وَ اَلْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ [سورة النحل، الآية: 112]، فحينئذ تنحصر الخشية من اللّه فقط في أن يسلب منهم النعمة العظيمة إذا تغيّر المؤمنون و رفضوا العمل بتعليمات هذا الدين، و قد حذّر اللّه تعالى العباد عن نفسه في عدّة مواضع من الكتاب الكريم إذا لم يتولوا اللّه عزّ و جلّ و الرسول في جميع أمورهم.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ .

الخشية: هي الخوف و الحذر مع التعظيم، و الغالب فيها عن علم و معرفة؛ و لذا قال تعالى: إِنَّما يَخْشَى اَللّهَ مِنْ عِبادِهِ اَلْعُلَماءُ [سورة فاطر، الآية: 28]، و قال

ص: 313

تعالى: وَ مَنْ يُطِعِ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اَللّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفائِزُونَ [سورة النور، 2 لآية: 52].

و الآية الشريفة بمنزلة الغاية لما قبلها. أي: بعد ما وفى اللّه تعالى بوعده، حيث أظهر دينه و يئس الكفّار من الغلبة لما شاهدوا من الكمال في الدين، فلا تخشوا الكفّار من أن يظهروا على دينكم و يغلبوكم، بل أخلصوا الخشية للّه جلّ جلاله وحده لما منّ عليكم بالنصر و الغلبة و الإظهار على العقائد الفاسدة و الأديان المنحرفة.

و يحتمل أن يكون المراد من الخشية الرجاء.

و لكنّه بعيد؛ لأنّهما متضادّان، نعم الرجاء يلازم الآخر غالبا في ضدّ متعلّقه.

فمن يخشى المرض يرجو طبعا الصحّة، و كذا من يخشى الفقر يرجو الغنى، و كذا سائر الأضداد. و سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرناه و اللّه العالم.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً .

بشارات ثلاث تنبئ عن عظيم المنّة على المؤمنين، و تدلّ على كمال هذا الدين و هيمنته على الدين كلّه، فلا دين و لا شريعة بعد هذا الدين الكامل الّذي ارتضاه اللّه تعالى أن يكون منهاجا علميّا و عمليّا للبشريّة كلّها، و أنّ ما سواه باطل و ناقص، فهو النعمة التامّة الّتي لا ينقصها شيء، و هو الدين الكامل الّذي لا يعوزه تتميم من متمم، و قد ذكرنا آنفا أنّ هذه الفقرة ترتبط مع الفقرة السابقة، أعني: قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أشدّ ارتباط، و هما مسوقتان لغرض واحد، فإنّ اللّه تعالى أكمل هذا الدين و أتمّ نعمته على المؤمنين، و ارتضاه أن يكون دينا خالدا كاملا، فكان ذلك سببا لانقطاع رجاء الكافرين عن النيل من هذا الدين و يأسهم من محوه و إفساده، فلا موجب للخشية منهم، و إنّ الخشية إنّما تكون من اللّه سبحانه و تعالى وحده في أن ينزع هذا الدين من المؤمنين

ص: 314

أنفسهم و يسلب هذه النعمة العظيمة عنهم إذا لم يطيعوا اللّه تعالى في تشريعاته و أحكامه و توجيهاته.

و مادة (كمل) تدلّ على الوفاء و التمام، و كمل الشيء إذا حصل ما هو الغرض منه، و ذكر العلماء أنّ الإكمال و الإتمام متقاربا المعنى. و لكن التتبع في موارد استعمالاتهما يفيد بأنّهما مختلفان، فقد يستعمل التمام و الإتمام في مورد لا يصحّ استعمال الإكمال فيه أو بالعكس، فإنّ الإتمام يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء و شروط و قد تحقّقت جميعها، بحيث لو فقد واحد منها لم يترتّب عليه أثره أو الغرض الّذي سيق له، قال تعالى: ثُمَّ أَتِمُّوا اَلصِّيامَ إِلَى اَللَّيْلِ [سورة البقرة، الآية:

187]، فإنّ الصيام إنّما يوصف بالتمام إذا لم يختل شروطه، فلو أختل واحد منها و لو في جزء من النهار، فإنّه يفسد.

و أمّا الإكمال، فإنّه يستعمل في ما إذا كان للشيء أجزاء و لكلّ جزء أثره الخاصّ المترتّب عليه، فلو حصلت جميع تلك الأجزاء لتحقّقت جميع تلك الآثار المطلوبة، و إلاّ فيتحقّق جزء من مجموع الأثر، فالاختلاف بين المادّتين (الإتمام) و (الإكمال) كالاختلاف بين العامّ المجموعي و العامّ الإفرادي المعروفين في علم الأصول. قال تعالى: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيّامٍ فِي اَلْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ [سورة البقرة، الآية: 196]، فإنّ لكلّ واحد من تلك العشرة أثره المطلوب، فإذا تحقّقت كاملة حصلت جميع الآثار المطلوبة، و إلاّ فيتحقّق الأثر الخاصّ المترتّب على الجزء المأتي به فقط، و قال تعالى: وَ لِتُكْمِلُوا اَلْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اَللّهَ [سورة البقرة، الآية: 185]، فإنّ الأثر يترتّب على البعض كما يترتّب على الكلّ ، كلّ بحسبه، فهذا هو الفرق بين المادّتين اللتين اجتمعتا في هذه الفقرة، فإنّ الاولى تدلّ على أنّ هذا الدين مجموعة معارف و أحكام، و قيم، و توجيهات، فكلّ واحد منها كمال في حدّ نفسه، و لكن أضيف إليها أمر في هذا اليوم أصبح به الدين كاملا لا يمكن أن ينال ذلك الأثر العظيم المترتّب على هذا الدين إلاّ بتنفيذه، فهو المكمّل لها، كما أنّ النعم الإلهيّة و إن كانت كثيرة في هذا الدين، و لكنّها تمّمت بهذا

ص: 315

الأمر الّذي شرّعه عزّ و جلّ في هذا اليوم؛ فلذا ارتضى جلّ شأنه هذا الإسلام دينا تامّا كاملا لا يعوزه شيء آخر و لا يحتاج الى مكمّل، و سيبقى مدى الدهر يقاوم الصعاب و يصمد أمام كلّ صروف الزمان، لا يثنيه تشكيك المبطلين و لا زيغ الزائغين الضالّين.

و أمّا النعمة، فهي عبارة عمّا يلائم طبع الشيء من غير امتناعه منه، و هي من الإمدادات الربوبيّة للإنسان يتصرّف فيها في سبيل سعادته الحقيقيّة، و قد كثر ورودها في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اَللّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم، الآية: 34]، و ذلك لحكم كثيرة، منها الإعلام بأنّها من شؤون ربوبيّته العظمى لخلقه، و تذكيرا للمنعم عليه بالمنعم ليشكره على ما أنعم، و إرشادا له بإيفاء حقّ النعمة، و بيانا بأنّ نظام التدبير قائم بها على نحو تكون بينها وحدة مترابطة متكاملة.

و هي بحدّ نفسها توصف بالخير و الحسنة؛ لأنّها توافق الغرض الإلهي الّذي خلق من أجله الإنسان، قال تعالى: وَ ما خَلَقْتُ اَلْجِنَّ وَ اَلْإِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [سورة الذاريات، الآية: 56]، فكلّ ما أوجب التقرّب إليه عزّ و جلّ و ابتغاء مرضاته و التعبّد لديه تكون نعمة، و إلاّ كانت نقمة و شرّا. و لعله لأجل ذلك وصف سبحانه و تعالى بعض النّعم الإلهيّة في القرآن الكريم بصفات غير محمودة، قال تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ [سورة آل عمران، الآية: 178]. كما وصف عزّ و جلّ الدنيا الّتي هي من أهمّ النعم الربوبيّة بأنّها متاع قليل، قال تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا فِي اَلْبِلادِ * مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ اَلْمِهادُ [سورة آل عمران، الآية: 197]، و قال تعالى: وَ ما هذِهِ اَلْحَياةُ اَلدُّنْيا إِلاّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ اَلدّارَ اَلْآخِرَةَ لَهِيَ اَلْحَيَوانُ [سورة العنكبوت، الآية: 64]. و إنّما وصفها عزّ و جلّ بتلك الأوصاف لأنّها لم تستغل من قبل الإنسان في الغرض الّذي عيّنه خالقها لأجله، و هو الدخول في ولايته عزّ و جلّ بالعمل بوظائف العبوديّة.

ص: 316

و من ذلك يعرف أنّ الإسلام الّذي هو مجموعة تشريعات و وظائف و أحكام و توجيهات و إرشادات أنزلها اللّه تعالى لغرض إعداد الإنسان إعدادا علميّا، و عمليّا، و عقائديّا؛ ليكون عبدا قائما بوظائف العبوديّة، و من المعلوم أنّه لا يتمّ ذلك إلاّ بالدخول في ولايته تعالى و ولاية رسوله صلّى اللّه عليه و آله و أوليائه عليهم السّلام بعده بالطاعة لهم و العمل بما جاء به الدين، كما قال عزّ و جلّ : يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اَللّهَ وَ أَطِيعُوا اَلرَّسُولَ وَ أُولِي اَلْأَمْرِ مِنْكُمْ [سورة النساء، الآية: 59]، فيكون اليوم الّذي أتمّ اللّه النعمة على المؤمنين هو اليوم الّذي شرّع فيه ما يكون موجبا للدخول في ولاية اللّه تعالى و ولاية رسوله الكريم، و متمّما لهاتين النعمتين العظيمتين، و هو اليوم الّذي فرض فيه ولاية أولياء اللّه تعالى بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله، الّذين بهم تقام أركان الدين و يبسط العدل، و يحمى دين اللّه تعالى، فهم القيمون على الشريعة بعد أن كان القيّم عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الّذي كان مؤيّدا بوحي إلهى، فإذا انقطع لا بدّ من أن يقوم مقامه أحد في هذه المهمة العظيمة و تتمّ به ولاية اللّه تعالى و ولاية الرسول الكريم، و به أيس الكفّار عن هدم هذا الدين، و رضى اللّه تعالى بهذا الدين إسلاما.

و ممّا ذكرناه يعرف أنّ هذه الولاية لها أساس تشريعي به كمل الدين في تشريعه، و أساس تكويني به تمّت النعمة و كان لها الأثر العميق في أمن المؤمنين بعد خوفهم ليعبدوا اللّه و لا يشركوا به شيئا، و لعلّه الى ذلك يشير قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي اَلْأَرْضِ كَمَا اِسْتَخْلَفَ اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ اَلَّذِي اِرْتَضى لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ [سورة النور، الآية: 55]، فإنّ هذه الآية المباركة تشير بوضوح الى ما سيتحقّق من الوعد الّذي وعده عزّ و جلّ به في آية المقام بتشريع ما يكمل به الدين و تتمّ به النعمة و ييأس الكفّار و يأمن المؤمنون بعد خوفهم، فتكون هذه الآية المباركة من مصاديق آية سورة النور الّتي هي أسبق نزولا من سورة المائدة.

ص: 317

و ذيل الآية الشريفة: وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ يدلّ على تشديد الأمر في الموعود الّذي وعده عزّ و جلّ .

هذه خلاصة ما يمكن أن يستفاد من هذه الآية المباركة بضميمة ما ورد في القرآن الكريم و السنّة الشريفة.

و من ذلك كلّه تعرف أنّ ما ذكره بعض المفسّرين و العلماء في تفسيرها إنّما هو بعيد عن سياقها.

قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ .

عود الى صدر الكلام الّذي حرّم جملة من أصناف الميتة، و بيان لحكم ثانوي اضطراري، و الاضطرار: افتعال من الضرر، و المراد به الوقوع في الضرورة.

و المخمصة: المجاعة الّتي تورث خمص البطن و ضموره، بحيث يخاف معها الموت، أي: فمن وقع في ضرورة من مجاعة تعرض للإنسان تلجأه الى تناول شيء من المحرّمات المتقدّمة، فلا إثم عليه.

قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ .

الجنف: الميل و الانحراف، و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً [سورة البقرة، الآية: 183]، و في الحديث: «إنّا نرد من جنف الظالم مثل ما نرد من جنف الموصي».

و المراد به عدم تجاوز الحدّ عن ما يوجب رفع الضرورة و الأكل زائدا على ما يمسك به رمقه و يسكن به ألم جوعه، فإنّ التجاوز عنه يكون إثما؛ لأنّ الضرورات إنّما تتقدّر بقدرها، و يبيّن المقام قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ ، أي: غير طالب له و لا متعدّ في الأكل و متجاوز عن قدر الضرورة، و قد تقدّم في سورة البقرة ما يتعلّق بذلك.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ الأحكام الثانويّة إنّما تتحدّد بقدر الضرورة الّتي أوجبت تشريع الحكم، فإذا ارتفعت يرتفع ذلك، كما هو مفصّل في كتب اصول الفقه.

ص: 318

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

أي: فمن اضطر الى تناول تلك المحرّمات فأكل منها بقدر ما يرجع به الضرورة و يدفع عنه الجوع و الهلاك، غير متعد حدود اللّه تعالى في ذلك بأن لا يكون جائرا و متجاوزا قدر الضرورة، فإنّ اللّه غفور لمثله لا يؤاخذه رحيم به.

و عموم الآية المباركة يدلّ على أنّ صفة المغفرة و الرحمة كما تتعلّقان بالمعصية الّتي توجب العقاب، كذلك تتعلّقان بمنشأها و هو الحكم الّذي يستتبع مخالفته تحقّق عنوان المعصية الّتي تستتبع العقاب.

ص: 319

بحوث المقام
بحث أدبي

ذكرنا في التفسير أنّ التاء في (النطيحة) للنقل لا للتأنيث؛ لأنّ فعيل بمعنى مفعول لا يدخله التاء، و قال بعض: إنّ ذلك صحيح في ما إذا ذكر الموصوف مثل كفّ خضيب، و أمّا إذا حذف كما في المقام فيجوز دخول التاء فيه، فلا حاجة الى القول بأنّها للنقل. و قرئ (المنطوحة).

و السبع بضمّ الباء، و لغة أهل نجد بسكون الباء، و قرأ ابن عباس: (و أكيل السبع).

و الاستثناء في قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ متّصل ب وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ و ما قبله، أي: إن أدركتم ذكاتها، و (ما) في موضع النصب، و قيل: إنّه منقطع، أي:

يحرم كلّ المذكورات إلاّ ما يحلّ أكله بالذكاة. و لكنّه ليس بشيء، فإنّ القاعدة في الاستثناء الاتصال؛ لأنّ حقّه أن يكون مصروفا الى ما تقدّم من الكلام، و لا يجعل منقطعا إلاّ بدليل مقبول.

و (اليوم) في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا منصوب على الظرفيّة، و كذا في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ ، و تقديم الجار في اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ؛ للإيذان بأنّ الإكمال إنّما يكون لمصلحتكم و منفعتكم، و تشويق الى ذكر المؤخّر.

و أمّا الجار في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، فقد قيل: إنّه لا يتعلّق (بنعمتي)؛ لأنّ المصدر لا يتقدّم عليه معموله، و قيل: إنّه متعلّق به و لا بأس بتقديم معمول المصدر إذا كان ظرفا، و النعمة مصدر بناء نوع، أي: أنّ بناءها يستفاد منها النوع.

ص: 320

و ذكر بعض أنّ الرضا في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً نظّر فيه معنى الاختيار؛ فلذا عدّي ب (اللام) للدلالة على أنّ ارتضاه عزّ و جلّ للإسلام إنّما هو لصالح المؤمنين و لأجل سعادتهم.

و منهم: من جعل الجارّ صفة ل (دين) منصوبا على الحاليّة من الإسلام أو تمييزا من (لكم)، و قيل: (دينا) منصوب على الحاليّة من الإسلام أو تمييز من (لكم).

و قيل: إنّ الجملة مستأنفة لا معطوفة على (أكملت)، و إلاّ كان مفهوم ذلك أنّه لم يرض لهم الإسلام قبل ذلك اليوم.

و لكنّه باطل، فإنّ الإسلام لم يزل دينا مرضيا للّه عزّ و جلّ ، قال تعالى: إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]، و ما ذكره من المفهوم فاسد لا اعتبار به، فالجملة معطوفة على سابقتها، و هي لبيان عظمة هذا اليوم، و أنّ الإسلام الّذي أكمل بهذا التشريع و اتمّ بهذه النعمة قد صار دينا خالدا أبديّا لا ينسخ و في مأمن من الأعداء كما عرفت، و هذه من جملة التشكيكات الباطلة في هذه الآية المباركة لإخراجها عن مفادها الواقعي و إدخالها في متاهات المفسّرين.

و المخمصة: من الخمص، و هو ضمور البطن، يقال: رجل خميص و خمصان و امرأة خميصة - على المبنى كما مرّ - و خمصانة، و منه: أخمص القدم، أي: باطنها الّذي لا يصيب الأرض؛ فيكون في مشقّة و تعب، و يستعمل كثيرا في الجوع الغرث قال الشاعر:

تبيتون في المشتى ملاء بطونكم *** و جاراتكم غرثى يبتن خمائصا

و في حديث صفات المؤمن: «خماص البطون خفاف الظهور»، أي: أنّهم أعفّة عن أموال الناس و هم ضامروا البطون من أكلها، خفاف الظهور من ثقل وزرها و محنة إثمها.

و الخماص: جمع الخميص، و هو البطن الضامر، كما أنّ الخمائص جمع خميصة، و منه الحديث: «كالطير تغدو خماصا و تروح بطانا»، أي تغدو بكرة و هي جياع

ص: 321

و تروح عشاء و هي ممتلئة الأجواف. و الخميصة هي ثوب خز أو من صوف معلّم، و كانت من لباس الناس قديما.

بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: يدلّ قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ على اصول المحرّمات في اللحوم، و هي هذه الأربعة و قد جمعت جميع الوجوه الّتي يمكن تصويرها في هذا النوع من المأكولات.

أمّا الأوّل: فلأن التغذّي به يوجب فساد المزاج و يجلب الضرر، كما أثبته العلوم الحديثة.

و الثاني: فإنّه ممّا يستقذره الطبع الإنساني، مضافا الى أنّ التغذّي عليه يفسد المزاج و يؤثّر على النفس و البدن.

و الثالث: فإنّه مضافا الى كونه يفسد المزاج و ممّا يؤثر على النفس و البدن، يستقذره الطبع المعتدل.

و الرابع: فإنّه خلاف الفطرة المستقيمة الّتي ترشد الإنسان الى التوحيد و نبذ الأنداد، و لأنّ فيه تشويش الفكر الإنساني الداعي الى الاستقامة، ففيه الضرر المعنوي، كجلب الشقاء للنفس كما ثبت ذلك في علم النفس.

و قد جمعت هذه الأربعة الأصول الّتي يمكن أن يكون كلّ واحد منها سببا للمنع و التحريم في غيرها أيضا، و هي الضرر بقسميه البدني و المعنوي و استقذار الطبع و نفرته، و التأثير النفسي الموجب لخروج الإنسان عن الفطرة المستقيمة و تخبّطه في الأمور.

و يعتبر الإسلام من أعظم الأديان السماويّة الّتي تراعي تلك الأمور بدقّة في جميع ما يطعمه الإنسان، و قد تقدّم في تحريم الخمر بعض الكلام أيضا، فيشترط في

ص: 322

حلية اللحوم أن تستطيبه الطباع المعتدلة، لا ما يكسبه الطبع بحكم المجاورة و العقيدة و بعض العادات السيئة، فإنّ الطبع شديد التأثّر بهذه الأمور، فلا يستشكل بأننا نرى الأقوام تأكل أشياء تعدّ في الشريعة الإسلاميّة من المنفّرات، و ممّا يستقذره الطبع، فإنّ الإسلام يرى الطبع المعتدل الّذي لم يتأثّر بالعوامل الخارجيّة، ثمّ لم يجعل ذلك على الإطلاق، فقد قيّدها بأن تكون اللحوم من ذوات الأربع، و خصّصها ببهائم الأنعام فقط، و مع ذلك فقد نزّه عن أكل بعضها كالفرس و الحمار؛ لحكم كثيرة، فخرج بذلك السباع و الوحوش.

و أمّا الطير، فقد خصّصه بغير الجوارح، و اشترط فيه أن يكون فيه حوصلة، و أن يكون دفيفه أكثر من صفيفه.

و أمّا حيوان البحر، فاشترط أن يكون فيه الفلس، فاختصّ ببعض أنواع السمك، و أن لا يموت في ما هو حياته فيه كما فصّلناه في الفقه.

فكانت هذه الشروط علامات لتمييز النافع للإنسان عن الضار، فاجتمع في التشريع الإسلامي الجانب المادّي - و هو مراعاة النفع و عدم الضرر، و عدم استقذار الطبع - و المعنوي و هو حفظ الفطرة المستقيمة عن الانحراف و تصحيح الفكر و ابقائه على الاستقامة و عدم تلوّث النفس الإنسانيّة بأمور تفسدها و تصرفها عن نيل الكمالات الواقعيّة.

و لعلّ اهتمام الشرع الإسلامي بطعام الإنسان؛ لأجل تأثيره الكبير في نفسه، فإنّه إذا كان خيّرا و طيّبا فتتأثّر النفس و الفطرة به، فتكون طيبة و تستعدّ لنيل الكمال، و إلاّ فسدت و خرجت عن حدّ الاستقامة.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ على أنّ ذكر اسم غير اللّه يوجب حرمة الذبيحة، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا.

و ذكر بعضهم أنّه يفهم من ذلك كلّما ذكر اسم اللّه تعالى عليه حلّ أكله، سواء كان الذابح مسلما أم كافرا، فيدخل فيه ذبائح أهل الكتاب، فتكون على القاعدة.

ص: 323

و هو مردود: بأنّ الآية المباركة ليست في مقام بيان هذه الجهة، و المسألة محرّرة في الفقه مفصّلا فراجع.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ أنّ الحرمة في هذه الأمور المذكورة مضافا الى كونها من مصاديق الميتة، أنّ قتلها بالكيفيّات الموصوفة خلاف الفطرة و الرحمة الّتي ينشدها الإسلام في هذا الموضوع، فهو يمنع من التعذيب و القتل الفظيع، فإنّه دين الرحمة يبتغي الرحمة في جميع الشؤون و يأمر بنشرها في كلّ الأمور، و ينهى عن زجر الحيوان و أذيته في القتل و قطع أعضاء الحيوان و سلخه قبل زهاق روحه، ففي الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا قتلتم فأحسنوا القتلة»، و وضع للتذكية شروطا و آدابا يوجب الرفق بالحيوان.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ على أنّ ما يوجب تحليل الحيوان الّذي أباح الشرع أكله أو الصلاة في جلده و سائر أجزائه هو التذكية، و هي تتحقّق إمّا بالذبح أو النحر، أو الصيد، أو إخراجه ممّا هو حياته فيه، أو وضع اليد عليه، و لكلّ واحد من هذه الأمور شروط معيّنة مذكورة في الفقه.

و في التذكية الشرعيّة اجتمعت الفطرة و ما تهدي إليه الخلقة، و الرحمة، فلا يردّ بأنّ الاقتصار على اللحوم الّتي تتهيّأ بالموت العارضي، كحتف الأنف و نحو ذلك ممّا يجتمع فيه حكم الفطرة و الخلقة الّتي تدعو الى أكل اللحوم، و حكم الرحمة، الّذي يدعو إلى نبذ تعذيب الحيوان و زجره بالقتل أو الذبح و نحوهما، فلا يحتاج الى التذكية و الذبح.

و الجواب عنه يتّضح ممّا ذكرناه آنفا، فإنّ الرحمة إنّما يجب اتباعها في ما إذا لم يستلزم ضررا و حرجا منها على الإنسان، و إلاّ كان خلاف الرحمة، فلا يجب اتباعها، مع أنّك عرفت أنّ الإسلام قد أمر بإعمالها في هذه الحالة أيضا قدر المستطاع.

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع و نظام التكوين، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات، لا سيما في المقام؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع، و هذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها اللّه تعالى للأئمة الطاهرين عليهم السّلام، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية اللّه تعالى و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين و التشريع، و تدلّ على ذلك روايات متعدّدة، و في الدعاء المأثور: «بكم يجبر المهيض و يشفى المريض و تزداد الأرحام و تغيض»، و أنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.

ص: 324

الخامس: يدلّ قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي أنّ هذا الحكم الإلهي له دخل في نظام التشريع و نظام التكوين، فإنّ النعمة غالبا تستعمل في التكوينيّات، لا سيما في المقام؛ لأنّها ذكرت كمال التشريع، و هذه قرينة اخرى على أنّ هذا الحكم هو الولاية الّتي جعلها اللّه تعالى للأئمة الطاهرين عليهم السّلام، فإنّ ولايتهم من فروع ولاية اللّه تعالى و الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، و لا ريب في أنّ لهاتين الولايتين دخلا في نظامي التكوين و التشريع، و تدلّ على ذلك روايات متعدّدة، و في الدعاء المأثور: «بكم يجبر المهيض و يشفى المريض و تزداد الأرحام و تغيض»، و أنّ ذلك كلّه بعد مشيته تعالى.

السادس: يدلّ قوله تعالى: فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اِخْشَوْنِ على انتفاء سبب الخشية من الكفّار بعد يأسهم اليوم، فيتضمّن الوعد بحفظ هذا الدين من كيدهم و زيغهم و أباطيلهم و أمن المؤمنين بعد خوفهم، كما يدلّ على الوعيد و التحذير أيضا، فإنّ السبب انتقل من الأعداء الى ما عند اللّه تعالى وحده، فإنّه لا بدّ من ابتغاء مرضاته و حفظ دينه بالطاعة و العمل بما أنزله عزّ و جلّ على رسوله العظيم صلّى اللّه عليه و آله، فلا يتسرّب الى هذا الدين من طوارق الفساد إلاّ ما كان من قبل المسلمين أنفسهم.

و من المعلوم أنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحذّر العباد عن نفسه في كتابه الكريم إلاّ في باب الولاية و الطاعة، فقال تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اَللّهِ اَلْمَصِيرُ * قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اَللّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي اَلسَّماواتِ وَ ما فِي اَلْأَرْضِ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ وَ اَللّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ [سورة آل عمران، الآية: 28-30] بعد نهي المؤمنين عن اتّخاذ الكافرين أولياء؛ فهذه قرينة اخرى على أنّ هذه الآية المباركة لها ارتباط و ثيق بالولاية.

السابع: يستفاد من قوله تعالى: ذلِكُمْ فِسْقٌ أنّ الاستقسام بالأزلام

ص: 325

الّذي هو نوع من المقامرة في تعيين اللحم و قسمته بالأقداح فسق و يحرم أكل ما يخرج به؛ لأنّ الآية الكريمة هي في مقام تعداد محرّمات الطعام من اللحم، فلا يستفاد منها حرمة مطلق الاستقسام بالأزلام في غير اللحم؛ فإنّه ليس من الفسق في تعيين بعض الأمور بذلك إذا لم يستلزم منه محرّم آخر.

و كيف كان، فالآية الشريفة بمنأى عن الاستخارة بأي وجه كان، و القرعة بأي أنواعها، و طلب الغيب بوجه مشروع.

بحث روائي

الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة المتقدّمة حسب ما وردت في قطاعاتها على أقسام:

الأوّل: ما عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن عبد العظيم بن عبد اللّه الحسين، عن أبي جعفر الثاني عليه السّلام قال: «سألته عمّا اهلّ لغير اللّه به ؟ قال: ما ذبح لصنم أو وثن أو شجر، حرّم اللّه ذلك كما حرّم الميتة و الدم و لحم الخنزير - فمن اضطر غير باغ و لا عاد فلا إثم عليه أن يأكل الميتة. فقلت له: يا ابن رسول اللّه، متى تحلّ للمضطر الميتة ؟ قال: حدّثني أبي عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله سئل فقيل له: يا رسول اللّه إنّا نكون بأرض فتصيبنا المخمصة، فمتى تحلّ لنا الميتة ؟ قال: ما لم تصطحبوا، أو تغتبقوا، أو تحتفّوا بقلا فشأنكم بهذا، قال عبد العظيم:

فقلت له: يا ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فما معنى قوله: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ ؟ قال: العادي السارق، و الباغي الّذي يبغي الصيد بطرا أو لهوا، لا ليعود به على عياله و ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا، هي حرام عليهما في حال الاضطرار كما هي حرام عليهما في حال الاختيار، و ليس لهما أن يقصّرا في صوم و لا صلاة في سفره، فقلت له: قوله تعالى: وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ وَ اَلنَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، قال: المنخنقة الّتي انخنقت باخناقها حتّى تموت، و الموقوذة الّتي مرضت حتّى قذّها

ص: 326

المرض حتّى لم يكن بها حركة، و المتردّية الّتي تتردّى من مكان مرتفع الى أسفل أو تتردّى من جبل أو في بئر فتموت، و النطيحة الّتي نطحتها بهيمة اخرى فتموت، و ما أكل السبع منه فمات، و ما ذبح على النصب على حجر أو صنم، إلاّ ما أدركت ذكاته فذكي، قلت: وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ، قال: كانوا في الجاهليّة يشترون بعيرا فيما بين عشر أنفس و يستقسمون عليه بالقداح، و كان عشرة سبعة لها أنصباء و ثلاثة لا أنصباء لها، أمّا الّتي لها أنصباء فالفذ، و التوأم و النافس، و الحلس، و المسبل، و الرقيب، و المقلى، و أمّا الّتي لا أنصباء لها فالفسيح، و المشيح، و الوغد، و كانوا يحيلون السهام بين عشرة، فمن خرج بينهما باسمه سهم الّتي لا أنصباء لها الزم ثلث من البعير، فلا يزالون كذلك حتّى تقع السهام الّتي لا أنصباء لها الى ثلاثة، فيلزمونهم ثمن البعير ثمّ ينحرونه و تأكل السبعة الّذين لم ينقدوا في ثمنه شيئا، و لم يطعموا منه الثلاثة الّذين وفّروا ثمنه شيئا، فلما جاء الإسلام حرّم اللّه تعالى ذكره ذلك فيما حرّم، و قال عزّ و جلّ : وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ يعني:

حرام».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ ما ذبح لغير اللّه تعالى ميتة، سواء كان لأجل الجماد أو الإنسان، إلاّ أن يرجع إليه تعالى كما في العقيقة، أو ما يذبح لأجل السلامة الّتي منحها اللّه تعالى للإنسان، أو لأجل الشكر على العافية، أو لأجل الحفظ عن الخطر الّذي توجّه على الإنسان فأصرفه اللّه تعالى عنه.

و هذا أمر فطري؛ لأنّ مثل هذا التعظيم لا ينبغي إلاّ لخالق الكائنات و مبدع الآيات و منزّل البركات.

و هل يأثم لو ذبح لغير اللّه تعالى مضافا إلى الحكم الوضعي ؟ و البحث الفقهي يتكفّل هذا الجانب.

الثاني: أنّ الاضطرار الّذي يبيح المحظورات، في أكل الميتة بالخصوص مقيّد

ص: 327

بما لم يكن منشأه البغي و العدوان، كما يأتي تفسيرهما و باق فيهما عليها، إلاّ إذا تاب حلّ لهما أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار، كما يأتي في البحث الفقهي.

و أنّ المراد منهما السارق، و الّذي يبغي الصيد بطرا، لا لأجل المعيشة و دفع الجوع عن نفسه أو عياله أو مسلم آخر، فهو الباغي فيجري عليهما حكم الاختيار في حال الاضطرار إن لم يتوبا.

الثالث: يستفاد من هذه الرواية قاعدة عامّة في مورد الاضطرار المحلّ و المبيح للمحظورات، و هي أن يصل المكلّف الى مرحلة لا يمكنه حفظ نفسه إلاّ بارتكاب المحذور، و لا وقع في مهلكة أو طرأ عليه مشقّة عرفا، و لعلّ هذا هو المراد من كلامه صلّى اللّه عليه و آله: «ما لم تصطحبوا»، أي: لم تأكلوا لقمة الصباح، أو «تغتبقوا»، أي:

العشاء أو لم تجدوا بقلة بها يحفظ الإنسان نفسه، فحينئذ يحلّ أكل الميتة لابقاء رمق الحياة و رفع ألم الجوع.

و عن بعض أنّ المراد من قوله صلّى اللّه عليه و آله ليس لكم أن تجمعوا أكل الصبوح و العشاء من الميتة، و لكن سياق الحديث يدلّ على ما ذكرناه.

و عن الأزهري في تفسير الحديث: «إذا لم تجدوا لبينة تصطحبونها أو شرابا تغتبقونه بعد عدم الصبوح و الغبوق لم تكن بقلة تأكلونها حلّت لكم الميتة، و هذا هو الصحيح»، و هذا عين ما ذكرناه.

الرابع: أنّ السفر للصيد اللهوي كسائر الأسفار الّتي قصد بها المعصية، لا يوجب القصر في الصلاة و لا الإفطار في الصوم.

الخامس: فسّر الموقوذة في هذه الرواية بالمرض الّذي يصيب الحيوان، بحيث لا يجد ألم الذبح و لم يتمكّن من الحركة فيترك حتّى يموت، و ذلك من باب التفسير بالمصداق؛ لأنّ المضروب أيضا كذلك لا يجد ألم الموت و لا يمكن له الحركة، فيترك حتّى يموت و الجامع موجود.

السادس: أنّ قوله عليه السّلام: «إلاّ ما أدركتم ذكاته فذكي» يرجع الى جميع

ص: 328

الأقسام كما في الآية المباركة، لا خصوص الأخير فقط؛ لتحقّق سببيّة الحلّ و عدم ورود نهي من الشارع.

و عن الصدوق في الفقيه بإسناده عن علي بن إبراهيم بن هاشم سنة سبع و ثلاثمائة بإسناده عن أبان بن تغلب - الّذي هو من أجلاّء أصحاب الصادقين عليهما السّلام - عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «الميتة، و الدم، و لحم الخنزير معروف، و ما اهلّ لغير اللّه به يعني ما ذبح للأصنام. و أمّا المنخنقة، فإنّ المجوس كانوا لا يأكلون الذبائح و يأكلون الميتة، و كانوا يخنقون البقر و الغنم، فإذا خنقت و ماتت أكلوها، و الموقوذة كانوا يشدّون أرجلها و يضربونها حتّى تموت، فإذا ماتت أكلوها. و المتردّية كانوا يشدّون عينها و يلقونها من السطح، فإذا ماتت أكلوها، و النطيحة كانوا يتناطحون بالكباش، فإذا مات أحدهما أكلوه، و ما أكل السبع إلاّ ما ذكيتم، فكانوا يأكلون ما يقتله (يأكله) الذئب و الأسد و الدبّ ، فحرّم اللّه عزّ و جلّ ذلك، و ما ذبح على النصب كانوا يذبحون لبيوت النيران، و قريش كانوا يعبدون الشجر و الصخر فيذبحون لهما، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ كانوا يعمدوا الى جزور فيجتزءون عشرة أجزاء ثمّ يجتمعون عليه فيخرجون السهام و يدفعونها الى رجل، و السهام عشرة - الحديث».

أقول: يستفاد من الآية الشريفة و مجموع هذه الروايات أنّ الشريعة الإلهيّة في زمن الجاهليّة لم تحل تلك الطرق السيئة الّتي كانت سائدة في الأمم الغابرة، كالمجوس، و الوثنيين، و غيرهما؛ لأنّ غالبها ممّا تأباها الفطرة المستقيمة.

و كيف كان، فإنّ الرواية من باب الجري و التطبيق و ذكر المصداق، و لا فرق بين الروايتين إلاّ في موارد بسيطة جدا.

و عن الشيخ في التهذيب بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كلّ شيء من الحيوان غير الخنزير، و النطيحة، و المتردية و ما أكل السبع، و هو قول اللّه:

إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ فإذا ذكيت شيئا منها و عين تطرف، أو قائمة تركض، أو ذنب يمصع

ص: 329

فقد أدركت ذكاته فكله. قال: و إن ذبحت ذبيحة فأجدت الذبح فوقعت في النار أو في الماء أو من فوق بيتك أو جبل، إذا كنت قد أجدت الذبح فكل».

أقول: الرواية تبيّن حكم الشكّ في حياة الذبيحة، فيكفي أحد الأوصاف في الحكم ببقاء الحياة، فإذا ذبحت على تلك الحال حلّ أكلها، و المراد من (عين تطرف) أي: تتحرّك، و في دعاء الصلوات: «اللهمّ صلّ على محمد و آل محمد كلّما طرفت عين أو ذرفت»، و المراد من «قائمة تركض» أن تضرب الأرض. و من «ذنب يمصع» أي: الحركة مع الضرب، و المراد من جودة الذبح أن يكون جامعا للشرائط الشرعيّة.

و في تفسير العياشي عن محمد بن عبد اللّه، عن بعض أصحابه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: جعلت فداك، لم حرّم اللّه تعالى الميتة، و الدم، و لحم الخنزير؟ فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لم يحرّم ذلك على عباده و أحلّ لهم ما سواه من رغبة منه تبارك و تعالى فيما حرّم عليهم، و لا زهد فيما أحلّ لهم، و لكنّه خلق الخلق و علم ما يقوّم به أبدانهم و ما يصلحهم فحلّه و أباحه؛ تقصّدا منه عليهم لمصلحتهم، و علم ما يضرّهم فنهاهم عنه و حرّمه عليهم، ثمّ أباحه للمضطرّ و أحلّه لهم في الوقت الّذي لا يقوم بدنه إلاّ به، فأمره أن ينال منه بقدر البلغة لا غير ذلك، ثمّ قال:

أمّا الميتة، فإنّه لا يدنو منها أحد و لا يأكلها إلاّ من ضعف بدنه و نحل جسمه و وهنت قوّته و انقطع نسله، و لا يموت آكل الميتة إلاّ فجأة.

و أمّا الدم، فإنّه يورث الكلب، و قسوة القلب، و قلّة الرأفة و الرحمة، لا يؤمن أن يقتل ولده والديه، و لا يؤمن على حميمه، و لا يؤمن على من صحبه.

و أمّا لحم الخنزير، فإنّ اللّه تعالى مسخ قوما في صور شتى شبه الخنزير و القرد و الدبّ ، و ما كان من الإمساخ ثمّ نهى عن أكل مثله لكي لا ينتفع بها و لا يستخفّ بعقوبته.

و أمّا الخمر، فإنّه حرّمها لفعلها و فسادها، و قال: إنّ مدمن الخمر كعابد وثن و يورثه ارتعاشا، و يذهب بنوره و يهدم مروّته، و يحمله على أن يكسب على المحارم

ص: 330

من سفك الدماء و ركوب الزنا، و لا يؤمن إذا سكر أن يثب على حرمه و هو لا يعقل ذلك، و الخمر لم يورد شاربها إلاّ الى كلّ شرّ».

أقول: تدلّ هذه الرواية - مع قطع النظر عن السند - على امور:

الأوّل: أنّ سؤال الرواة عن بعض الحكم للأحكام مع أنّ الحكم فطري و عقلي لا ينافي الفطريّة كما في المقام، فإنّ سؤاله عن العلل في الحرمة للأمور المذكورة لا ينافي أن يكون قبح أكلها فطريا تتنفّر الطباع السليمة البشريّة عنها كما تقدّم؛ لأنّ الفطرة المستقيمة قد تخمد و تضيع، و أنّ الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام يخرجونها عن خمودها و يبرزونها عن خفائها، فإنّ المشرّع الّذي هو غني في ذاته و صفاته، لا حاجة له فيما شرّع، و إنّ المصالح و المفاسد ترجعان بالآخرة الى المكلّف.

الثاني: أنّ الحكم و المصالح أو المفاسد الّتي وراء الأحكام قد تظهر في هذا العالم - حسب سيره بأطواره، و أدواره، و مراحله - أو في عالم البرزخ أو في عالم الآخرة، و في الأخيرين لا محيص الى ذلك إلاّ بالوحي؛ لأنّ سلطان العلم مقهور فيهما.

و قد تكشف العلوم الحديثة عن بعض الحكم الّتي وراء الأحكام، إلاّ أنّها محدودة، فقد تكون الحكمة في تشريع الحكم أوسع و أسمى ممّا كشفتها، فإنّها نظريات محدودة قد لا يقتنع بها علماء آخرون، و من هنا قال بعض العلماء: «إنّ حكم التكاليف هي في غاية الخفاء، لا يمكن دركها إلاّ بدليل شرعي فقط».

و كيف كان، فما ورد من الشرع في بيان حكم التكاليف ممّا لا شكّ في واقعيتها و صحّتها، و ما خفيت علينا كانت لمصالح لعلّ منها حفظ الانقياد، و صون العبوديّة عن الخلل.

الثالث: أنّ ما ذكر فيها من الحكم إنّما هو من باب الغالب لا من باب الاستقصاء الكامل. و من هنا لا وقع للإشكال بأنّ ما ذكر من الحكم فيها كضعف البدن، و نحولة الجسم، و انقطاع النسل، و غيرها ممّا يمكن رفعها بغذاء أو دواء آخر؛

ص: 331

لأنّ الحكم عنده تعالى في تشريع الأحكام أوسع و أكثر ممّا وصل إلينا، مع أنّ الحكمة ليست كالعلّة بحيث يدور الحكم مدارها، كما ثبت في محلّه.

الرابع: أنّ المفاسد الّتي تكون وراء تشريع الأحكام - المعبّر عنها بالحكم أو المصالح - قد تكون ظاهريّة مشهودة، مثل انقطاع النسل في أكل الميتة أو موت الفجأة فيه، و كذا نحولة الجسم، و قد تكون معنويّة كالكلب (الحرص) في شرب الدم أو قسوة القلب، و كذا قلّة الرأفة و الرحمة، فإنّها صفات دنيّة معنويّة، فقد يوجب ارتكاب الحرام المفسدة الظاهريّة و المعنويّة، و قد يوجب إحداهما دون الاخرى.

الخامس: أنّ قوله عليه السّلام: «إنّ مدمن الخمر كعابد وثن»، في الإثم و البعد عن ما يوجب التقرّب لديه تعالى.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله قال: «لا تأكل الشريطة فإنّها ذبيحة الشيطان».

أقول: الشريطة هي الذبيحة الّتي لا تقطع أوداجها و يستقصي ذبحها، و كانت العرب في الجاهليّة يقطعون بعض حلق الذبيحة و يتركونها حتّى تموت للقسوة الّتي توطّنت في نفوسهم، و إنّما أضافها الى الشيطان لأنّه هو الّذي علّمهم ذلك و حمّلهم عليه و سوّله لهم.

القسم الثاني: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى: اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ في تفسير العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام في الآية: «يوم يقوم القائم (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف) يئس بنو امية، فهم الّذين كفروا يئسوا من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله».

أقول: الاختصاص بذلك اليوم لأنّه يوم ظهور الحقّ ، و زمان بسط العدل، و تقدّم في التفسير أنّ المراد من اليوم الزمان اللائق لإظهار الحقّ ، و هو ممتد من حين البعثة الى يوم القيامة.

ص: 332

و تقدّم أنّ للكفر مراتب، و في كلّ مرتبة دركات، و إنّ الرواية من باب التطبيق و الجري لا من باب التخصيص.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال: ذلك لما أنزلت ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام.

أقول: إنّ ذلك من باب التفسير بأجلى المصاديق؛ لأنّ الحقّ إذا ظهر و ثبت يحصل اليأس لمقابله و معانده.

و في شعب الإيمان للبيهقي عن ابن مسعود قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إنّ الشيطان قد يئس أن تعبد الأصنام بأرض العرب، و لكن سيرضى منكم بدون ذلك بالمحقرات، و هي الموبقات يوم القيامة، فاتّقوا المظالم ما استطعتم».

أقول: الموبقات المهالك.

و في حديث جابر عنه صلّى اللّه عليه و آله «و لكن في التحريش بينهم»، أي: أنّ الشيطان يحرش بينكم حتّى يوقعكم في الموبقات.

القسم الثالث: من الروايات و هي الّتي وردت في تفسير قوله تعالى:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ، و قد وردت روايات كثيرة جدا متواترة - نصّا و معنى - عن العامّة و الخاصّة أنّ المراد من هذه الآية الشريفة هو يوم الغدير الّذي نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام بالولاية، و قد ضبط أكثرها مع التحقيق في أسانيدها و كونها ثقات غير واحد من علماء الفريقين، و كتبوا في ذلك كتبا كثيرة جدا.

فعن ابن شهر آشوب في كتاب المناقب قال: «سمعت أبا المعالي الجويني - إمام الحرمين و أستاذ الغزالي - يتعجّب و يقول: شاهدت مجلدا ببغداد في يدي صحاف، فيه روايات هذا الخبر مكتوبا عليه المجلد الثامن و العشرون من طرق قوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه» و يتلوه المجلد التاسع و العشرون»، و قد ذكر الكتب بأسمائها و سرد أحوال مؤلّفيها السيد مير حامد صاحب كتاب عبقات الأنوار، و تبعه الشيخ الأميني في كتابه الغدير و غيرهما (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين).

ص: 333

و من العجب أنّه لم تنل فريضة من فرائض اللّه تعالى بمثل هذه الأهميّة بالوحي، و الضبط، و التأكيد، و الإشهاد كفريضة الولاية، و لم تجحد و لم تنكر كمثل هذه الفريضة في الشريعة المحمديّة الغراء، و مع ذلك كلّه فالحقّ واضح و الشمس ساطعة، فعن مولانا الصادق عليه السّلام أنّ حقوق الناس تعطى بشهادة شاهدين، و ما اعطي أمير المؤمنين بشهادة عشرة آلاف أنفس، يعني: يوم غدير خم، إن هذا إلاّ الضلال عن الحقّ المبين، قال تعالى: فَما ذا بَعْدَ اَلْحَقِّ إِلاَّ اَلضَّلالُ فَأَنّى تُصْرَفُونَ * كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى اَلَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ .

و في الدرّ المنثور عن أبي سعيد الخدري قال: «لما نصّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله عليا عليه السّلام يوم غدير خم فنادى له بالولاية و هبط جبرئيل عليه بهذه الآية:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ .

أقول: بعد ما سبق أنّ الروايات الواردة في تفسير هذه الآية الشريفة متواترة و متّفقة المعنى، لا يجدي رمي الحديث بضعف السند بعد التواتر و صراحة الدلالة.

كما فعله بعض المفسّرين، و لم يذكر وجه الضعف في هذا السند و أمثاله.

بل إنّ الروايات الدالّة على أنّ المراد من اليوم يوم عرفة لم تكن نقية السند؛ لأنّ فيها سمرة و هو معلوم الحال، و معاوية بن أبي سفيان، و على فرض الصحّة، فلا يبعد أن تكون الآية المباركة نزلت في يوم عرفة، و لكنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أخّر إعلان الولاية الى يوم الغدير بوحي من السماء و لمصالح كثيرة كما يأتي، و أنّه صلّى اللّه عليه و آله تلا الآية الشريفة مقارنة مع التبليغ في يوم الغدير، و يدلّ على ذلك تهنئة الخليفة الثاني لعلي عليه السّلام في يوم غدير خم مع قوله: إنّها نزلت في يوم عرفة كما في بعض الروايات.

فعن المناقب لابن المغازلي يرفعه إلى أبي هريرة قال: «من صام يوم ثمانية عشر من ذي الحجّة كتب اللّه له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم، بها أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيعة علي بن أبي طالب، و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، فقال له عمر بن الخطاب: بخ بخ لك يا ابن

ص: 334

أبي طالب، أصبحت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة، فأنزل اللّه تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ».

أقول: هذه الرواية صريحة في ما قلناه و ظاهرة في أنّ الآية الشريفة نزلت في يوم غدير خم و غير قابلة للتأويل.

و في تأريخ بغداد للخطيب البغدادي روى بسنده عن أبي هريرة قال: «من صام يوم ثماني عشرة من ذي الحجّة كتب له صيام ستين شهرا، و هو يوم غدير خم لما أخذ النبي صلّى اللّه عليه و آله بيد علي بن أبي طالب عليه السّلام فقال: أ لست ولي المؤمنين ؟! قالوا: بلى يا رسول اللّه، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه. فقال عمر بن الخطاب:

بخ بخ لك يا ابن أبي طالب أصبحت مولاي و مولى كلّ مسلم، فأنزل اللّه تعالى:

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ».

أقول: الرواية ذكرها الخطيب في ترجمة حبشون الّذي نقل الرواية، و روى قريبا منها السّبيعي في تفسيره، و ابن عساكر في تاريخ دمشق في ترجمة أمير المؤمنين علي عليه السّلام.

و في شواهد التنزيل بإسناده عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في الطواف إذ قال: أ فيكم علي بن أبي طالب ؟ قلنا: نعم يا رسول اللّه، فقرّبه النبي صلّى اللّه عليه و آله فضرب على منكبيه و قال: طوباك يا علي، أنزلت عليّ في وقتي هذا آية ذكري و إيّاك فيها سواء: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ».

أقول: لا منافاة في أنّ الآية المباركة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قبل يوم الغدير بأيام و علم بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و جمع آخرون، و لكن أخّر صلّى اللّه عليه و آله إعلانها الى يوم الغدير حتّى نصّب عليا بالولاية كما تقدّم، و يدلّ على ذلك ما رواه فرات بن إبراهيم الكوفي، قال: حدّثني علي بن أحمد بن خلف الشيباني، عن عبد اللّه بن علي ابن المتوكل، عن بشر بن غياث، عن سليمان بن العمر العامري، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: «بينما النبي صلّى اللّه عليه و آله بمكّة أيّام الموسم

ص: 335

إذ التفت الى علي فقال: هنيئا لك يا أبا الحسن! إنّ اللّه قد أنزل عليّ آية محكمة غير متشابهة، ذكري و إيّاك فيها سواء اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ الآية».

أقول: الظاهر تعدّد الواقعة، و تدلّ على ما ذكرنا روايات اخرى.

و في شواهد التنزيل للحافظ الحسكاني بإسناده عن أبي سعيد الخدري:

«انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما نزلت عليه اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً قال: اللّه أكبر على إكمال الدين و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي و ولاية علي بن أبي طالب، ثمّ قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه و انصر من نصره و اخذل من خذله».

أقول: و في رواية اخرى عن أبي سعيد الخدري أيضا: «انّ النبي دعا الناس الى علي فأخذ بضبعيه فرفعهما ثمّ لم يفترقا حتّى نزلت الآية اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي »، فمن سياقهما يستفاد أنّ الآية المباركة نزلت في يوم غدير خم، و تقدّم في التفسير معنى إكمال الدين و إتمام النعمة عليه.

و في تفسير علي بن إبراهيم بسنده الصحيح عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «آخر فريضة أنزلها (اللّه) الولاية، ثمّ لم ينزل بعدها فريضة، ثمّ أنزل اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بكراع الغميم، فأقامها رسول اللّه بالجحفة فلم تنزل بعدها فريضة».

أقول: كراع الغميم واد بالحجاز بينه و بين المدينة نحو من مائة و سبعين ميلا، و بينه و بين مكّة نحو ثلاثين، و هذه الرواية تقرب ما ذكرناه من أنّه لا تنافي بين أن تكون فريضة الولاية نزلت في مكّة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أو في عرفة، و اخّر إعلامها حتّى وصل الى كراع الغميم الّذي هو في طريق الجحفة، فنزلت الآية المباركة عليه و نصّب عليا عليه السّلام في الجحفة لأهمّيّة الأمر؛ لأنّ الإسلام كالمادة للولاية، و لا قوام للمادة إلاّ بالصورة، و لا صورة إلاّ بالمادة، و قد ورد مضمون ذلك في روايات كثيرة.

و في أمالي الشيخ بإسناده عن محمد بن جعفر بن محمد، عن أبيه أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن علي عليه السّلام قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يقول: بناء الإسلام على خمس

ص: 336

خصال: على الشهادتين، و القرينتين، قيل له: أما الشهادتان فقد عرفناهما، فما القرينتان ؟ قال: الصلاة، و الزكاة، فإنّه لا تقبل إحداهما إلاّ بالأخرى، و الصيام و حجّ بيت اللّه من استطاع إليه سبيلا، و ختم ذلك بالولاية، فأنزل اللّه عزّ و جلّ :

اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً ».

أقول: الروايات الواردة بهذا المعنى من أنّ الإسلام بني على الخمس كما في الرواية فوق حدّ التواتر - لو صحّ التعبير - و قد جعل لها صاحب الوسائل بابا في مقدّمة العبادة من كتابه الشريف، و السرّ في هذا الاهتمام من قبل الشرع للولاية فإنّها كالحياة لأصول التكاليف و الشعائر الّتي قوام الدين بها، و هي بدونها مجرّد هيكل و قصب، و لم يتمحض في القلب حتّى تكون بها الحركة و السير الى اللّه تعالى.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «ولد نبيكم يوم الاثنين، و نبئ يوم الاثنين، و خرج من مكّة يوم الاثنين، و دخل المدينة يوم الاثنين، و فتح مكة يوم الاثنين، و نزلت سورة المائدة اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ يوم الاثنين، و توفي يوم الاثنين».

أقول: لو صحّ الخبر لكان من خصائصه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّه الى ذلك أشارت ابنة أمير المؤمنين عليه السّلام في بعض خطبها: «آه من يوم الاثنين»، أي المصائب الّتي حلّت بالأمة من بعد وفاته صلّى اللّه عليه و آله، و في بعض التواريخ أنّ واقعة الطفّ كانت يوم الاثنين أيضا.

القسم الرابع: من الروايات الواردة في تفسير الآيات المباركة هي ما عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ، قال: «هو رخصة للمضطر أن يأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و المخمصة الجوع».

و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ قال: «يقول غير متعمّد لإثم».

أقول: المخمصة و إن كانت هي المجاعة، و لكن تستعمل في كلّ شدّة

ص: 337

و ضيق؛ و لذا لا يبعد استفادة تشريع التقيّة من هذه الآية المباركة؛ لأنّ في تركها شدّة و ضيقا، فيتبع الإثم، أي: المعاند للحقّ من غير ميل قلبي، أي: غير متجانف، و سيأتي البحث عنها في محلّه.

بحث فلسفي

ثبت في الفلسفة الإلهيّة أنّ الكمال المطلق - أو الكمال الحقيقي - منحصر في المبدأ، و به جلّ شأنه، و هو تعالى يفيض على الكائنات عامّة و على الخواص منها، كما يفيض على أخصّ الخواص كالأنبياء و الأولياء و الأبرار من الأخيار، كلّ حسب لياقته.

و المراد من الإطلاق هنا عدم إمكان التحديد من جميع الجهات و الجوانب و المراتب؛ لأنّ جلّ شأنه موجد الكمال، و عين الكمال و منه الكمال و الكمال كلّه يرجع إليه جلّت عظمته.

و بتعبير أهل الذوق من العرفاء: حقيقة كماليّة وسيعة - لا يمكن تحديدها - و إنّ الحدود بأقسامها، و التحاليل بأنواعها، و إنّ النفوس مهما بلغت من العلوّ و السمو قاصرة عن دركها، فهو جلّ شأنه غيب و ظهور، و غيبه من أسمى الكمال و ظهوره عين الكمال و غايته، فإنّه الكمال و إليه ينتهي شرف الكمال.

و لا نقصد من هذا التعبير وحدة الوجود و الموجود حتّى يستلزم محاذير و مفاسد، و إنّما نعني أنّ الكمال الواقعي و الحقيقي منحصر به تعالى و فائض منه، و أنّ الكمالات مهما بلغت من الرتبة إشراق منه و ظل، و هذا يستلزم وحدة الوجود الّذي هو مقرّر في الشرع، و عليه معظم الحكماء من المشّائيين و الإشراقيين؛ لأنّ التحديد - بمعناه العامّ - في شأنه جلّت عظمته أو في صفاته نقص و يستتبع تخلّفات، و يستلزم المفاسد الّتي لا يمكن الالتزام بها و يجب الفرار عنها؛ و لذلك ترى أنّ الأئمة المعصومين عليهم السّلام كانوا يتوسّلون بالجانب السلبي في تعريف ذاته أو بيان صفاته، كما

ص: 338

تقدّم مكرّرا، فعن علي عليه السّلام في تعريف قدرته تعالى: «لا يعجزه شيء»، و في إحاطته تعالى: «لا يمنعه شيء»، و في حياته: «لا يموت»، و في قيموميته: «لا وجود و لا دوام إلاّ به» و هكذا.

و تدلّ على ما تقدّم من أنّ الكمال المطلق منحصر به تعالى و أنّ صفاته جلّ شأنه عين الكمال الحقيقي بالأدلّة العقليّة و النقليّة.

أمّا الاولى، فهي كثيرة، أهمّها هو: أنّه تعالى جامع لجميع الصفات الكماليّة.

فلا يعقل كمال فوق ذلك، و إلاّ استلزم الخلف أو النقص الّذي في حقّه محال.

و أنّ الكمالات كلّها فيوضات ترجع إليه تعالى و تصدر منه، فلا يعقل أن يكون معطي الشيء فاقدا له.

على أنّه لا تحديد لقدرته فتتعلّق القدرة بما سواه، فكلّ كمال تحت قدرته و ذاته فوق الكمال؛ و لذا قال بعضهم: سلب الكمال في حقّه محال.

مع أنّه خالق كلّ شيء، فمقتضى إيجاده لكلّ شيء أن يكون جامعا للكمالات، و أنّها ترجع إليه سبحانه و تعالى، و إلاّ استلزم الخلف و لا يكون خالق كلّ شيء، و قد ثبت في محلّه أنّه جلّ شأنه بوحده خالق كلّ شيء، و في الحديث:

«نعمتان ما خرج موجود عنهما، نعمة الإيجاد و نعمة الإمداد»، و هناك أدلّة اخرى مذكورة في المفصّلات من الفلسفة الإلهيّة.

و اما الأدلّة النقليّة، فهي كثيرة، أهمّها هي: الآيات الشريفة الدالّة على نفي الشريك بتعابيرها المختلفة، فإنّها تدلّ على نفي الشرك في الذات و في الصفات، و هذا عين الكمال الحقيقي، و إفاضة الكمالات منه إلى العوالم و إضافة كمالاتها إليه كمال آخر منحصر به تعالى.

و كذا قوله تعالى: فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فالعزّة بمعناها الوسيع غير المتناهي له جلّت عظمته، فتشمل جميع الكمالات؛ لأنّها من أجلى مصاديق العزّ، و بمقتضى الحصر في الآية المباركة تكون الكمالات كلّها له و منه و إليه.

ص: 339

و كذا قوله تعالى: قُلِ اَللّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ اَلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 26]، فالملك بمعناه العامّ و بمراتبه اللامحدودة تحت إرادته، و كذا الخير، و هما من أسمى الكمالات. و الآيات المباركة الدالّة على ذلك كثيرة جدا.

ثمّ إنّ صفات الذات كالعلم و الحياة، و القيّوميّة و غيرها هي الكمال الحقيقي و إليها ترجع الكمالات كلّها في جميع العوالم، و هذا ممّا لا شكّ فيه.

و أمّا صفات الفعل كالرزق، و الخلق، و الهبة، و الرحمة، و الغفران، و العذاب كلّها من الكمال المطلق؛ لأنّها من مظاهر أسمائه المنحصرة به جلّ شأنه، و اتّصافها بالوجود و العدم لا يضرّ بالمقام.

و إنّ ما سواه تعالى من الكائنات كلّها متّصفة بنوع من الكمال، و هو الوجود الّذي هو الأصل لإضافتها إليه تعالى بالإيجاد.

و ما اتّصفت منها بالحياة بمراتبها و أقسامها غير المتناهية لها نوع آخر من الكمال يعبّر عنه بالكمال العامّ ، و ما كان فيها من الآثار و الخواص كان لها كمال خاصّ حسب لياقتها و قابليتها.

و أمّا ما أفاض على الإنسان من العقل - الّذي يدرك به و يفكر و يرتقي - فيعبّر عنه بالكمال الأخصّ ، و لهذا الكمال مراتب حسب شرف القرب إليه تعالى و بعده، كما أنّ ما أفاض على الأولياء و الأنبياء هو من أشرف الكمالات حسب استعدادهم و لياقتهم.

و إنّ الشرائع الإلهيّة و التكاليف السماويّة و الكتب المنزلة على الأنبياء كلّها من الكمالات النازلة من الربّ الجليل؛ لاستكمال نفس الإنسان و الرقي بها الى المقامات العالية، و كذا العلوم بأقسامها.

ثمّ إنّ الأديان السماويّة الّتي نزلت لأجل تهذيب النفوس و إيصالها الى السعادة و إخراجها من الظلمات الى النور، لا بدّ فيها من الاستعداد و الأهليّة في

ص: 340

النفوس، فتكون الإكمال الوارد في الآية الكريمة بهذا المعنى كما تدلّ على ذلك روايات وردت عن الأئمة المعصومين عليهم السّلام، هذا كلّه في الكمال المطلق و الحقيقي.

و إنّ الكمالات و جميع العوالم ترجع الى كمالاته تعالى.

و أمّا النقائص، فترجع إمّا الى عدم الاستعداد للتلقّي، أو لأجل طروّ مانع، أو لأجل إغواء الشيطان في الإنسان. و سيأتي إن شاء اللّه تعالى البحث عن كلّ منها في المورد المناسب.

بحث فقهي

يستفاد من الآية المباركة قواعد فقهيّة، مضافا الى أحكام خاصّة.

أمّا الاولى فهي ثلاثة:

الاولى: قاعدة: «حرمة أكل الميتة إلاّ ما خرج بالدليل»، كما في حالات الاضطرار، أو ميتة السمك مع تحقّق شروط حلّيتها.

و تختصّ هذه القاعدة بالحيوانات الّتي يحلّ أكلها ذاتا - كالأنعام الثلاثة، و أنواع الظبي، و أقسام الطيور الّتي فيها إحدى علامات الحلّ - و أمّا غيرها من محرّمات الأكل - كالفيران، و السباع، و الحشرات و بعض الطيور الفاقدة لعلامات الحلّ ، فلا أثر لهذه القاعدة؛ لأنّ لحومها محرّمة مطلقا، سواء ذكيت أم ماتت حتف أنفها. نعم للتذكية أثر خاصّ ، و هو طهارة جلودها فقط، و لا أثر لها في الحشرات؛ لأنّها طاهرة حيّا كانت أم ميتة، كما فصّل في الفقه.

و أمّا الحيوانات الّتي حرّم أكل لحمها بالعارض كالجلال، و موطوء الإنسان، فإنّ لحومها حرّمت إمّا بالفعل الشنيع، أو بأكل النجاسة. نعم في خصوص الجلل جعل الشارع سببا لزواله كما هو مذكور في الفقه، بخلاف الوطء فلا تزول الحرمة مطلقا، فيجب قتله و دفنه إن كان ممّا يراد أكله، و الجلل ليس مانعا عن وقوع التذكية الّتي كانت ثابتة قبل الجلل، لإطلاقات الأدلّة، و أنّ المحرّم بالذات لو كان قابلا لها فالمحرم بالعرض بالأولى، و كذا في الوطء.

ص: 341

كما أنّ القاعدة من القواعد الّتي لم تنلها يد التخصيص إلاّ في الحيوانات البحريّة بشرائطها، و في غيرها باق على عمومها، و أمّا الاضطرار فعدّه من التخصيص لها نحو تسامح، بل هو تخصّص - كما في مورد النسيان - إذ «ما من شيء إلاّ و قد أحلّه الاضطرار»، إلاّ أنّه مضيّق في المقام كما يأتي.

و كيف كان، فقد دلّت الأدلّة الأربعة على حجّيتها.

أمّا الكتاب، فقوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ ، و قد تكرّر هذا التعبير في القرآن الكريم أكثر من ثلاثة مواضع، و إنّ متعلّق الحكم (الحرمة) هو الأكل؛ لأنّه النفع الشائع و الغالب منها.

و أمّا السنّة، فروايات كثيرة متواترة تقدّم بعضها في البحث الروائي، و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة لم يذكر اسم اللّه عليها».

و في معتبرة محمد بن قيس عنه عليه السّلام أيضا: «ما فعلت الحبالة فقطعت منه شيئا فهو ميت، و كلوا ممّا أدركتم حيّا و ذكرت اسم اللّه عليه» و غيرها من الروايات.

و من الإجماع ممّا لا خلاف بين المسلمين، بل عدّ ذلك من ضروريات الفقه، كما بيّنا ذلك في الفقه.

و أمّا العقل، فإنّه يستقذر أكل الميتة؛ لأنّه لا يؤمن من الأمراض و الاضرار.

ثمّ إنّ المراد من الميتة الأعمّ ممّا مات حتف أنفه، أو قتل، و ذبح على غير الوجه الشرعي.

و تثبت على الميتة أحكام أربعة:

الأول: النجاسة «فكلّ ميت نجس إلاّ ما خرج بالدليل»، كالسمك و الحشرات ممّا لا نفس سائلة له، و ما ذبح على غير الوجه الشرعي على المبنى، و إلاّ فالمشهور النجاسة، و هذه قاعدة مستقلّة اخرى.

الثاني: عدم صحّة الصلاة فيها و في أجزائها، إلاّ ما استثنى.

ص: 342

الثالث: حرمة الانتفاع منها في الجملة كما ثبت ذلك في المكاسب، و من شاء فليرجع الى كتابنا (مهذب الأحكام).

الرابع: حرمة الأكل.

و التفكيك في هذه الأحكام لا يصحّ إلاّ بالدليل المعتبر شرعا.

القاعدة الثانية: «كلّ دم يحرم شربه إلاّ ما خرج بالدليل»، سواء أ كان دم إنسان أم حيوان - مأكول اللحم أو غير مأكول اللحم - مسفوحا أم غير مسفوح، نجسا أم طاهرا كدم العلقة.

و الدليل عليها قوله تعالى: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ وَ اَلدَّمُ بتقريب ما تقدّم في حرمة أكل الميتة.

إن قلت: إنّ الدم الوارد في الآية المباركة هو الدم المسفوح، فلا تصير الآية الشريفة أصلا للقاعدة.

قلت: الدم المسفوح هو الغالب و الأكثر في الدماء المراقة، و غيره يلحق به للأدلّة الدالّة على ذلك في السنّة، إلاّ أن يدلّ دليل خاصّ على الحلّية.

و قول أبي الحسن الرضا عليه السّلام: «و حرّم اللّه الدم كتحريم الميتة»، و قريب منه غيره من الروايات، و قد ورد عن الصادق عليه السّلام في تعليل حرمة أكل الطحال: «لأنّه دم».

و ادّعى غير واحد من الفقهاء الإجماع على ذلك، مضافا إلى أنّ الدم نجس - إلاّ ما استثني - و شرب كلّ نجس حرام بالضرورة الفقهيّة.

و إنّه من الخبائث الّتي تستقذرها الطباع السليمة، فالعقل يحكم باجتنابه.

و لا فرق في الدم من الحيوان ذي النفس السائلة أو غير ذي النفس السائلة كالوزغ، و الضفدع، و القرد، مسفوحا أو غير مسفوح كالعلقة، و الدم في البيضة.

كما لا فرق بين أن يكون مايعا فيشربه أو يابسا فيأكله، كما لا فرق بين أن يكون ممتزجا مع شيء آخر أو لا، إلاّ أن يكون مستهلكا بحيث يراه العرف معدوما، كلّ ذلك للقاعدة المتقدّمة.

ص: 343

ثمّ إنّ القاعدة لا تشمل ما تداول في هذه الأعصار من التزريق؛ لعدم تحقّق عنوان الشرب، كما لا تشمل ما لو انقلب الدم الى شيء آخر.

و قد استثنيت من القاعدة المتقدّمة موارد:

منها: الدم المتخلّف في الذبيحة لإطلاق دليل حلّية أكل الذبيحة، كما مرّ.

و يشترط فيه أن يخرج الدم عن الذبيحة بالقدر المتعارف من مثلها، و أن تكون مأكول اللحم، و أن لا يرجع دم المذبح الى الجوف، كلّ ذلك لأجل أدلّة خاصّة ذكرناها في كتاب الطهارة من (مهذب الأحكام).

و منها: الدم من غير ذي النفس ممّا حلّ أكله كالسمك الحلال إذا أكل مع السمك، و أمّا لو شرب منفردا فلا يبعد الحرمة للقاعدة المتقدّمة، و أنّه من الخبائث و إن كان طاهرا.

و منها: القلب و الكبد من الحيوان مأكول اللحم، لقاعدة الحلّية، و عموم حلّية الذبيحة الشامل لجميع أجزائها الداخليّة و الخارجيّة. و لكن المسألة مع ذلك مورد الإشكال تعرّضنا له في الفقه.

و هذه القاعدة كسائر القواعد الفقهيّة لها امتيازاتها، كتقدّمها على الأصول العمليّة، و حجّية لوازمها، و التمسّك بها في موارد الشكّ .

و تثبت على الدم أحكام ثلاثة:

الأول: النجاسة، فكلّ دم نجس إلاّ ما أخرجه الدليل، كدم الحيوان الّذي لا نفس له سائلة، كالسمك و البرغوث و غيرهما.

الثاني: عدم جواز الانتفاع منه، إلاّ إذا كان فيه غرض عقلائي معتدّ به فيصحّ بيعه، كما ذكرناه في المكاسب.

الثالث: حرمة شربه، إلاّ في موارد خاصّة كما مرّ، و أمّا الصلاة مع الدم في اللباس أو على البدن، ففيه تفصيل لا يسع المقام ذكره، و من شاء فليرجع الى كتاب الطهارة في شرائط لباس المصلّي. و اللّه العالم.

القاعدة الثالثة: «كلّ حيوان قابل للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل»، و الأصل

ص: 344

في هذه القاعدة عموم قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بقرينة ما ورد في السنّة الشريفة.

و دعوى: أنّ الآية المباركة في مقام بيان كيفيّة زهوق الروح، فبعض منها توجب الحرمة، و بعض منها توجب الحلّية، و هو التذكية.

قابلة للمناقشة؛ لأنّ الآية الكريمة - بضميمة الروايات - أثبتت التذكية في الحيوانات و جعلت الحرمة للبقية، سواء أ كان الحيوان غير قابل لها، أو أنّ زهوق الروح لم يكن بطريق التذكية، فعموم الآية الشريفة بقرينة السنّة يكون أصلا للقاعدة.

و من السنّة الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة في الفقه، كأبواب الصيد و الذباحة، و لباس المصلّي، و الإحرام و غيرها، و هي كثيرة فمنها:

صحيح ابن يقطين قال: «سألت أبا الحسن عليه السّلام عن لباس الفراء و السمور، و الفنك، و الثعالب و جميع الجلود قال عليه السّلام: لا بأس بذلك»، فإذا لم تكن الجلود قابلة للتذكية، فجواب الإمام بنفي البأس مطلقا لم يكن صحيحا، كما هو واضح.

و في صحيح ابن بكير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «فإن كان غير ذلك ممّا نهيت عن أكله و حرّم عليك أكله، فالصلاة في كلّ شيء منه فاسد، ذكاه الذابح أو لم يذكه»، إذ لو لا قبول التذكية لما صحّ قوله عليه السّلام: «ذكاه الذابح أو لم يذكه»، و غيرهما من الروايات.

و من الإجماع ما ادّعاه صاحب الحدائق على أنّ كلّ حيوان قابل للتذكية إلاّ ما خرج بالدليل، كالكلب و الخنزير و الإنسان، و أيّده صاحب الجواهر قدس سرّه، كما ذكرناه في الفقه، و من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

ص: 345

أنّه هل تؤثّر التذكية فيه ؟ فذاك بحث آخر. و الحيوان الّذي يقبل للتذكية بحكم الشرع على أقسام:

الأوّل: الحيوان الّذي يحلّ أكله ذاتا و إن حرم بالعارض - كالجلال و الموطوء - بحريّا كالسمك أو بريّا، وحشيّا كان أو مأنوسا، طيرا كان أو غيره.

و إن اختلف في كيفيّة التذكية على ما فصّل في الفقه، و لا شكّ في وقوع التذكية في هذا القسم، و هي تؤثّر فيها لطهارة لحمها و جلدها و الصلاة و الطواف في أجزائها و حلّية أكل لحمها إن لم يحرم اللحم بالعارض.

الثاني: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و كان له نفس سائلة و لكنّه نجس العين، كالكلب و الخنزير، فإنّه غير قابل للتذكية؛ لفرض أنّه حرام و نجس على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فلا أثر للتذكية، و أنّ القاعدة لا أثر لها في هذا القسم، و يلحق بهذا القسم المسوخ كالفيل و الذئب؛ لأجل دليل خاصّ ، فيجري عليها حكم عدم التذكية و لو بعد التذكية.

و لكن، نسب الى جمع من الفقهاء منهم الشهيد و المرتضى قبولها للتذكية، مستدلّين بأدلّة تعرّضنا لها في الفقه و ناقشناها، فمن شاء فليرجع الى كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).

الثالث: الحيوان الّذي لا يحلّ أكله و له نفس سائلة و لم يكن نجس العين، كالسباع الّتي تفترس الحيوانات و تأكل اللحوم، سواء أ كانت من الوحوش كالأسد و النمر و الفهد و الثعلب و ابن آوى و غيرها. أم من الطيور كالصقر، و البازي و الباشق و غيرها، فتؤثّر التذكية فيها و بها تطهر لحومها - و إن حرم أكلها - و جلودها و حلّ الانتفاع بها في غير الصلاة و الطواف، دبغت أو لم تدبغ.

الرابع: الحشرات الّتي تسكن جوف الأرض، كالفارة و ابن عرس، فمقتضى القاعدة المتقدّمة أنّها قابلة للتذكية؛ للشكّ في قبولها، كما ذهب إليها صاحبا الحدائق و الجواهر، و إن نسب الى المشهور خلاف ذلك. و يظهر ممّا تقدّم المناقشة في ثبوت الشهرة في المقام.

ص: 346

الخامس: الحيوان الّذي ليس له نفس سائلة لا أثر للتذكية فيه أصلا، لا من حيث الطهارة، و لا من حيث الحلّية؛ لأنّه طاهر و محرّم أكله على كلّ حال ذكي أو لم يذك، فالقاعدة المتقدّمة لها الأثر في قسم خاصّ من الحيوانات كما عرفت، و كذا في موارد الشكّ في المسخ.

ثمّ إنّ تذكية جميع ما يقبل التذكية من الحيوان المحرّم الأكل إنّما يكون بالذبح مع الشرائط المعتبرة - من التسمية، و الاستقبال، و إسلام الذابح، و فري الأوداج، و تتابع الفري - و كذا الاصطياد بالآلة الجماديّة في خصوص الممتنع. و أمّا تذكيتها بالكلب المعلّم بالاصطياد مورد الإشكال، و المسألة محرّرة في الفقه و اللّه العالم.

ثمّ إن هنا أصلا موضوعيّا، و هو أصالة عدم التذكية تمنع من جريان أصل البراءة و الإباحة؛ لأنّهما أصل حكمي، و المراد من عدم التذكية (غير المذكي) في اصطلاح الكتاب و السنّة الميتة، فهما و إن اختلفا مفهوما لكنّهما متّحدان شرعا و خارجا، و يترتّب عليه أن بجريانها يحكم بالنجاسة و حرمة الأكل؛ لأنّه مع وحدة الموضوع يثبت كلّ منهما، فلا يكون الأصل مثبتا هذا.

و إن أمكنت المناقشة في ذلك من أنّه لا دليل على الاتّحاد، إلاّ أنّ المشهور بين فقهاء الإماميّة (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين) ذلك، و أنّ مخالفة المشهور نحو تعدّ، و اللّه العاصم من الزلل.

و كيف كان، فإنّ مورد جريان هذا الأصل في الشبهات الموضوعيّة فقط، و فيها أيضا لا بنحو السعة في أية شبهة موضوعيّة فرضت و تحقّقت، فلو شكّ في أنّه هل يعتبر الاضطجاع على الأيسر أو على الأيمن في الحيوان المذبوح ؟ أو هل يعتبر أن يكون الحيوان مربوطا بأن يشدّ يد الغنم مع إحدى رجليه أو لا؟ أو هل يعتبر أن يكون الذابح قائما؟ إلى غير ذلك، فإنّ في جميع هذه الموارد و أمثالها لا تجري أصالة عدم التذكية، بل يرجع الى أصالة عدم الاشتراط أو إلى العموم و الإطلاق.

و إنّما تختصّ أصالة عدم التذكية في خصوص الشروط الّتي نصّ الشارع

ص: 347

على اعتبارها ثمّ شكّ في تحقّقها في الخارج و عدم أمارة شرعيّة تدلّ عليها؛ لأصالة عدم تحقّق ذلك الشرط، فلا تحلّ الذبيحة حينئذ و تكون محكومة بالنجاسة.

و تدلّ الأدلّة الشرعيّة على اعتبارها، فمن الكتاب قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ ، بتقرير أنّه لا تحلّ الذبيحة إلاّ إذا أحرزتم التذكية.

و من السنّة روايات كثيرة، منها ما عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا تأكل من ذبيحة ما لم يذكر اسم اللّه عليها»، و مثله غيره، و ظهور مثل هذه الأخبار في حرمة الأكل ممّا لا ينكر. و أمّا النجاسة فهي كما ذهب إليها المشهور، و هناك روايات اخرى ذكرناها في كتابنا (تهذيب الأصول).

و من الإجماع ما ادّعاه غير واحد من الفقهاء، و بقية الكلام موكولة إلى علمي الأصول و الفقه.

و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآية المباركة فهي:

الأوّل: أنّه لا فرق في أسباب الموت و الخنق و غيرهما بين أن تكون بالاختيار أو بغير الاختيار، عن علم كانت أو جهل؛ لإطلاق الآية المباركة. نعم لو كان الموت و الخنق و الإهلال لغير اللّه تعالى و غيرها ممّا ذكر في الآية الكريمة عن علم و عمد، فإنّه مضافا الى جعل الحيوان ميتا أنّه ارتكب محرّما أيضا؛ لذيل الآية الشريفة: ذلِكُمْ فِسْقٌ ، إن لم يترتّب عنوان محرّم آخر، كالإسراف و غيره.

الثاني: تدلّ الآية المباركة على أنّ الاضطرار المتجانف للإثم لا يوجب رفع الحرمة، هذا إن كان باقيا على بغيه و تجرؤه. و أمّا لو تاب يجوز له أكل الميتة بمقدار رفع الاضطرار؛ لتحقّق عنوان «غير متجانف لإثم».

الثالث: لا بدّ في مورد الاضطرار من ارتكاب أخفّ المحذورين، فلو دار الأمر بين أكل لحم الخنزير أو شاة منخنقة، فالظاهر يتعين الثاني؛ لأنّه أخفّ من الأوّل. و كذا بالنسبة الى نفس الأكل كما في بعض الروايات: «يسد رمقه».

الرابع: أنّه لا يتحقّق الاضطرار لو وجد سبيلا الى الحلّية موضوعا أو حكما.

ص: 348

الخامس: لو تحقّق الاضطرار من غير مخمصة، بل كان لأجل التداوي مثلا يعتبر فيه أيضا أن لا يكون متجانفا لإثم، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَمَنِ اُضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ * [سورة الأنعام، الآية: 145].

السادس: أنّ المستفاد من سياق الآية المباركة أنّه لو اضطر الى أكل ميتة حال المخمصة، و لم يكن متجانفا لإثم و لم يأكل - أو صام - فمات أثم؛ لأنّه أعان على نفسه و خالف تكليفه، فإنّ حفظ النفس واجب شرعا و عقلا.

و أمّا لو امتنع عن التداوي بالميتة أو بالخمر حتّى مات، فإنّه لا يأثم لأنّه لا يعلم أنّ الميتة أو الخمر يشفيه. نعم لو علم ذلك و لم يأكلها - أو لم يشربها - كان حكمه حكم الفرع الأوّل، و اللّه العالم.

بحث عرفاني

ظاهر الآية المباركة و إن كان خطابا للمؤمنين بإبلاغهم تكاليف توجب رقّي نفوسهم و تنوير قلوبهم، و لكن يحتمل أن يكون باطنها عتابا لأهل السير و السلوك الّذين يطلبون الحقّ و يسعون للوصول الى الحقيقة بهجر الدنيا لنيل رضاه تعالى، فناداهم ربّهم جلّ شأنه بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ اَلْمَيْتَةُ أي: الدنيا بأسرها، ففي كثير من الروايات التعبير عن الدنيا بالميتة، فعن جعفر بن محمد الصادق (عليه أفضل الصلاة و السلام): «و اللّه لقد نزلت الدنيا منزلة الميتة متى اضطررت إليها أكلت»، فحرّمت الدنيا على الطالبين للحقّ و السالكين الى ساحة قربه، وَ اَلدَّمُ وَ لَحْمُ اَلْخِنْزِيرِ كذلك حرّمت عليهم الصفات الّتي توجب البعد عن الأخلاق السامية كالحرص و القسوة، بل حرّمت عليهم جميع ألوان الدنيا و متغيّراتها حتّى الحلال منها فكيف بالحرام. وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اَللّهِ بِهِ و أيضا حرّمت عليهم كلّ فعل رفع صوت النفس بالأمر به؛ لأنّ صوتها لغير اللّه تعالى، وَ اَلْمُنْخَنِقَةُ وَ اَلْمَوْقُوذَةُ و كذلك حرّم عليهم اختناق فطرته الداعية الى اللّه العظيم بمخالب

ص: 349

الأطماع، أو خنق نفوسهم بإخراج أنوارها الكائنة فيها بالرياء و الإسماع، أو بضرب جرح الصدر المنشرح بالإسلام و المهيّأ للحضور عند صاحب القلب و خالقه العلاّم، وَ اَلْمُتَرَدِّيَةُ فحرّم عليهم أن يردوا أنفسهم من أعلى العليين إلى أسفل السافلين باتّباع الشهوات و التعلّق بالماديات، وَ اَلنَّطِيحَةُ أي: حرّم عليهم التناطح مع الأقران بالتفاخر و المماراة بالعلم و الزهد - حتّى في السير و السلوك - بين الأخوان، وَ ما أَكَلَ اَلسَّبُعُ فحرّم عليهم القرب عن كلّ ظالم الّذين يتهاوشون على جيفة الدنيا تهاوش الكلاب، وَ ما ذُبِحَ عَلَى اَلنُّصُبِ كما حرّم عليهم تقرّب نفوسهم لبيوت الأوثان، و هي المظاهر الموجبة للصدّ عن معرفة اللّه تعالى بالتوغّل فيما يوجب البعد عن ساحة قربه بمعاشرة غير الأولياء الأخيار و الأبرار، وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ فلا تكونوا متردّدين متفئلين غير متوكّلين على اللّه تعالى بفتح قلوبكم لسهام الشيطان.

فإذا خلصتم من هذه الدواهي، و تركتم هذه القبائح، و خرجتم من هذه الظلمات لكون ذلِكُمْ فِسْقٌ ، أي: أنّ جميعها مهالك و ظلمات توجب إماتة القلب، و إخماد الفطرة، و العذاب الأليم؛ لأنّه يوجب الخروج عن طاعة اللّه تعالى ف اَلْيَوْمَ يَئِسَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لتحلية نفوسكم بالفيوضات الإلهيّة بعد التخلية عن المكائد الشيطانيّة، و يأسهم عن إضلالكم لعدم تأثير الدنيا في نفوسكم مهما تزيّنت و تلوّنت؛ لحصول المقصود بعد ما خلّصتم أنفسكم من تلك الظلمات، فعادت ليلكم نهارا و نهاركم أنوارا مِنْ دِينِكُمْ لأنّه المنهج الوحيد للرقي الى المراتب العالية، و الوصول الى المقامات السامية و الفوز بالسعادة الأبديّة، فَلا تَخْشَوْهُمْ لأنّكم بلغتم المرحلة الّتي لا تؤثّر فيكم مكائد الشيطان و مصائده، و نلتم المقام الّذي قاله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما فعلت يا بلال سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة»، وَ اِخْشَوْنِ لأنّ الكمال و التكامل منه تعالى و أنّ كيده متين و بطشه شديد، و لو لا إمداده لانعدمت الكائنات و زالت السماوات و فنيت الموجودات، اَلْيَوْمَ و هو يوم ظهور الحقّ و كشف الحقيقة، أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ فإنّ كمال الدين كان في

ص: 350

الأزل موجودا و لكن أنعمت عليكم بالتوفيق لاستعدادكم بالتديّن به، و به تنكشف الحجب و ترتفع الأستار بعد صفاء نفوسكم و حياة قلوبكم، «وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي الّتي أنعمت بها عليكم من التوفيقات و التأييدات و إظهار دينكم على الأديان كلّها في الظاهر و الحقيقة بالولاية، وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً حتّى تستكملوا به نفوسكم و تسلكوا به الى اللّه تعالى بالخروج عن الوجود المجازي بالوصول الى الوجود الحقيقي، فإنّ ابتغاء رضاءه من أسمى الكمالات، و إنّ الإسلام هو دينه الى الأبد. فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ بالالتفات الى الدنيا مضطرا إليها في غاية الاضطرار، غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل إليها قلبا و غير متجاوز عن قدر الضرورة مع حفظ الحقّ و الحقيقة الّتي نزلت في قلبكم، و المعرفة الّتي أفاضها اللّه تعالى عليكم، فَإِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ لما ابتلى من الالتفات الى غيره تعالى المضطر إليه، رَحِيمٌ يهديهم الى الحقّ بإقامة الدين و السير في الصراط المستقيم بعد الاستغفار و طلب الاستعانة من العزيز القهّار. و من اللّه الاعتصام.

ص: 351

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُ.......

اشارة

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ (4) اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (5) بعد أن ذكر سبحانه و تعالى بعض المحرّمات من الطعام و استثنى منها ما كان محلّلا على الإجمال، يذكر عزّ و جلّ في هذه الآيات الشريفة بعض ما يحلّ أكله، و هي الطيبات بأجمعها، سواء أ كانت من اللحوم أم غيرها، و خصّ بالذكر منها ما اصطاده الإنسان بواسطة الحيوان المعلّم الّذي تعلّم على الصيد، و طعام أهل الكتاب، و أحلّ المحصنات من نسائهم للمؤمنين؛ دفعا لما قد يتوهّم من الحرمة في ذلك، فإنّ نفوس المؤمنين لا تطيب في طعامهم و لا في مناكحتهم بعد ما أمر عزّ و جلّ من الابتعاد عنهم و نهى عن ولايتهم و معاشرتهم و مخالطتهم، فتحدّد هذه الآية المباركة نوع العلاقة الّتي يجب على المؤمنين أن يتبعونها معهم، و تزيل الشكّ عن نفوسهم.

و تبيّن الآية الشريفة بأنّ دين الإسلام دين التآلف و الرحمة، و ينهى عن النفرة و المخادعة، و قد أوعد عزّ و جلّ كلّ من لم يتبع الإيمان و يكفر بما شرّعه اللّه تعالى.

ص: 352

التفسير

قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ .

تفصيل بعد إجمال ما ذكره عزّ و جلّ في قوله تعالى: إِلاّ ما ذَكَّيْتُمْ إثر بيان المحرّمات، إلاّ أنّ السؤال مطلق يشمل كلّ المحللاّت من الطعام و اللحوم. و الجملة حكاية عن قولهم، فالسؤال يتضمّن معنى القول، و ضمير الغائب (لهم) لأجل مراعاة ضمير الغائب في (يسألونك)، و يجوز في مثل ذلك مراعاة اللفظ و المعنى كليهما، فيقال مثلا: أقسم زيد لأفعلن كذا، أو ليفعلن كذا، فاندفع بذلك ما قيل إنّ السؤال ليس ممّا يعمل في الجمل.

قوله تعالى: قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ .

جواب عامّ يتضمّن الضابط الكلّي الّذي يميّز به الحلال من الحرام في المطاعم و المآكل.

و الطيبات: جمع الطيب، و هو ما تستلذّه النفس و الحواس، و يقابله الخبيث، قال تعالى: لا يَسْتَوِي اَلْخَبِيثُ وَ اَلطَّيِّبُ [سورة المائدة، الآية: 100]، و يستعمل في الأمور الماديّة و المعنويّة، و في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله قال لعمّار: «مرحبا بالطيب المطيّب»، و قد وردت هذه المادّة في القرآن الكريم في مواضع كثيرة، قال تعالى:

وَ اَلطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ اَلطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور، الآية: 26]، و قال تعالى:

وَ لا تَتَبَدَّلُوا اَلْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ [سورة النساء، الآية: 3]، و قال تعالى: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اَللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي اَلسَّماءِ [سورة إبراهيم، الآية: 24]، و قال تعالى: بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ [سورة سبأ، الآية: 15].

و إطلاقه في المقام من غير تقييده بشيء للإعلام بأنّ المعتبر في تشخيصه الأذواق المتعارفة المستقيمة، فما يستطيبه العرف العامّ السليم البعيد عمّا يصرفه عن الجادة المستقيمة، فهو طيب و يكون حلالا، كما عرفت في الآية الشريفة السابقة.

ص: 353

و يستفاد من ذلك أنّ حلّية الطيبات عقليّة لا شرعيّة، كما أنّ إطلاق الحلّية في المقام يشمل جميع ما يفهم العرف من هذه الكلمة.

ثمّ إنّ المنطوق يدلّ على حلّية جميع الطيبات، و أمّا المفهوم فهو يدلّ على حرمة الخبائث، فيكون ما ذكره عزّ و جلّ في الآية السابقة من الخبائث الّتي تعوفها الطبائع السليمة.

قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ .

عطف على الطيبات بتقدير مضاف، و تكون (ما) موصولة، أي احلّ لكم صيد ما علمتم من الجوارح بشروطه.

و يحتمل أن تكون (ما) شرطيّة و جوابها (فكلوا)، و الجملة عطف على جملة، فلا يحتاج الى تقدير.

و الجوارح: جمع جارحة، و الهاء فيها للمبالغة، و هي صفة غالبة لا يذكر معها الموصوف إلاّ قليلا، و اشتقاقها إمّا من قولهم: جرح فلان أهله، إذا أكسبهم، و فلان جارحة أهله أي: كاسبهم، سمّيت بذلك لأنّ أربابها يكسبون بصيدها.

أو لأنّها تجرح الصيد غالبا، فإنّ الصوائد من السباع يجرحون صيدهم بمقتضى الطبيعة السبعيّة المخلوقة فيها.

و الجوارح: هي الكواسب من الطير، و البهائم، كالصقر، و البازي و الكلاب، و الفهود.

و (مكلّبين) بالتشديد اسم فاعل من التكليب، و هو تعليم الكلاب و تأديبها للصيد، و غلّب ليشمل جميع الجوارح، أو لأنّ كلّ سبع يسمّى كلبا، ففي الحديث:

«اللهم سلّط عليه كلبا من كلابك» دعاء منه صلّى اللّه عليه و آله على لهب بن أبي لهب.

و قيل: إنّه مشتقّ من الكلب (بالتحريك)، بمعنى الضراوة و الحرص، و هو يرجع الى الأوّل أيضا، فإنّ تعليم الكلاب للصيد لا بدّ أن يكون بالتأديب و الإغراء بالصيد.

و كيف كان، فإنّ اشتقاق هذه الكلمة يدلّ على أنّ أصلها تعليم الكلاب

ص: 354

للصيد، فيختصّ الحكم بالكلاب المعلّمة دون غيرها إلاّ بدليل خاصّ ، و يشهد له اتّفاق أهل اللغة - على أنّ المكلّب هو صاحب الكلب و مؤدّبه - و التبادر أيضا، فيقيّد به عموم الجوارح، و تدلّ عليه بعض الروايات.

و الآية المباركة تدلّ على حلّية صيد الكلاب المعلّمة بشروط، أحدها أن يكون الصيد بالكلب المعلّم دون غيره من الجوارح و الكلاب غير المعلّمة.

قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ .

جملة حاليّة من ضمير (مكلبين) أو استئنافيّة، و هي تدلّ على أنّ التعليم له كيفية خاصّة و طرق معيّنة، ممّا ألهمهم اللّه تعالى أو تلقّوه من الشارع الأقدس، و قد ورد أنّه يشترط في الكلب المعلّم أن يسترسل إذا أرسله الصياد، و ينزجر إذا زجره، و أن يكون معلّما و لا يعرف منه ذلك إلاّ أن تتكرّر منه الأمور المعتبرة في التعليم. و يستفاد ذلك من إطلاق الآية الشريفة، فهذه شروط اخرى في حلّية الصيد، و سيأتي في البحث الفقهي تتمة الكلام.

قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ .

بيان لشرط آخر من شروط حلّية صيد الكلاب المعلّمة، و هو أثر من آثار التعليم و نتيجته. و (من) تبعيضيّة، إذ من الممسك ما لا يؤكل كالجلد، و العظم و غيرهما، و الضمير المؤنّث في (أمسكن) راجع الى الجوارح، و التقييد بقوله عَلَيْكُمُ للدلالة على أنّ الحلّ مقيّد بكون الإمساك لكم، فيخرج ما أمسكن لأنفسهن، و إنّما يعرف الإمساكان من القرائن الحافّة.

و المعنى: فكلوا من الصيد ما تمسكه الكلاب المعلّمة لأجلكم، لا ما تمسكه لنفسها لتأكل منه.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ .

شرط آخر، و الضمير في (عليه) يرجع الى (ما علّمتم)، فيكون المعنى:

و اذكروا اسم اللّه على الكلب المعلّم، و ذلك حين إرساله، و تدلّ عليه جملة من الأخبار.

ص: 355

و قيل: إنّ الضمير يرجع الى: ما (أمسكن) بأن يكون المعنى: إذا أدرك ما أمسكته الكلاب المعلّمة حيّا فإنّه يجب ذكر اسم اللّه تعالى حين تذكيته، على تفصيل مذكور في الفقه، و سيأتي في البحث الفقهي بعض ما يتعلّق بالمقام.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

حثّ على التقوى، لما في هذا الأمر من التهاون و الغفلة عن الأحكام الإلهيّة كما هو المشاهد في أصحاب الصيد.

و التقوى مطلوبة في جميع الحالات و كلّ الأمور بالايتمار بأوامر اللّه تعالى و الانتهاء عن نواهيه، و يستفاد منه الاتّقاء عن أكل الصيد الّذي لم تتوفّر فيه الشروط المعتبرة، و الاتّقاء عن الصيد الّذي لم يكن للكسب و العيش، كما إذا كان إسرافا في القتل، أو كان عن تكبّر و تجبّر كما في صيد اللهو.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ .

بيان لمظهر من مظاهر علمه الأتمّ و قدرته الكاملة و إحاطته بمخلوقاته إحاطة تدبيريّة تامّة، فهو الّذي أحصى كلّ شيء عددا، كما قال تعالى: وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء، الآية: 47]، و هو وحده جلّ شأنه قادر على أن يكون حسابه سريعا، فإنّ من سننه تعالى الجزاء على الأعمال، و إنّه لا يضيع عنده عمل عامل من عباده، فسوف يجازي المسيء على إساءته في الدنيا قبل الآخرة، و لم يدع ظلم الإنسان على الحيوان بالعدوان عليه و اغتياله و الفتك به أن يذهب هدرا، فإنّه يعاقبه و يربّيه أثر عمله في الدنيا كما دلّت عليه التجربة.

و إنّما أظهر اسم الجلالة لبيان العلّة، و لترتب المهابة و العظمة، و يستلزم ذلك الوقار له جلّ شأنه.

قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ .

تأكيد لما سبق من حلّية الطيبات، و توطئة لما يأتي ذكره من المحلّلات، و الظاهر أنّ حلّية الطيبات عقليّة، لا أن تكون شرعيّة، فيحمل قوله تعالى على الإرشاد، و كذا حلّية طعام أهل الكتاب إن كان المراد منه الحبوب، فإنّ جميع ذلك

ص: 356

داخل في أصالة الإباحة، إلاّ أن يقال بالحظر في الأشياء، فتكون الإباحة شرعيّة لا محالة. و سياق الآية الشريفة يفيد الامتنان كما يأتي في البحث العرفاني.

و إطلاق الطيبات يشمل جميع ما تستطيبه النفوس السليمة، و المتيقن منها ما ورد في الكتاب العزيز، على ما عرفت آنفا.

و سبق الكلام في (اليوم)، و إنّما ذكره عزّ و جلّ في المقام لمزيد المنّة على المؤمنين أن أحلّ لهم الطيّبات و أبعدهم عمّا يوجب الضرر عليهم.

قوله تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ .

بيان لأحد أفراد الطيّبات لبعث الطمأنينة في قلوب المؤمنين و رفع الشكّ عن نفوسهم بعد أن أمروا بالابتعاد عن الكافرين و نهوا عن موالاتهم و مخالطتهم و معاشرتهم، فاحتملوا شمول النهي لطعامهم أيضا، فأتى تحليل الطيبات بقول مطلق و لم يرفع الشكّ الّذي كان يساورهم بالنسبة الى طعام أهل الكتاب، ثمّ خصّه عزّ و جلّ بالذكر لإيجاد الطمأنينة و رفع الشكّ برفع الحرمة يقينا، و كذا الكلام في قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، و عرفت آنفا أنّ إحلال طعامهم لنا و إحلال طعامنا لهم إنّما هو حكم إرشادي؛ لا أن يكون شرعيّا. و حينئذ لا جدوى في القول بأنّ قوله تعالى كلام واحد ذو مفاد واحد، أو لم يكن كذلك ؟ مع أنّ الظاهر أنّه واحد يتضمّن حكما عقليّا، كما عرفت.

و ما ذكره أولى ممّا قيل: من أن! الآية الشريفة ليست في مقام تشريع حكم الحلّ لأهل الكتاب و توجيه التكليف إليهم؛ لأنّ الكفّار غير مؤمنين باللّه و رسوله و بما اوحي إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و لم يطيعوه في تشريعاته المقدّسة، فيكون الخطاب معهم لغوا و بلا فائدة، و ينزّه الحكيم عن مثل ذلك.

و يرد عليه أنّ في التكاليف الإلهيّة حكم و مصالح لا تتوقّف على عمل المكلّفين و طاعتهم فحسب، إذ كم من حكم إلهي و تكليف ربّاني لم تعمل به الامة كما هو المشاهد المحسوس، فقد تكون المصلحة اختيار المكلّفين و امتحانهم و غير

ص: 357

ذلك، و لعلّ النكتة في المقام هي دفع دخول طعام أهل الكتاب في المحرّمات من حيث كونها مصاحبا لمن حكم بكفره، و نجاسته، و خبثه، و قذارته.

أو لرفع التنافر و التباغض بين الطائفتين المؤمنة و الكافرة بعد بسط الإسلام، و مع أنّه يمكن أن يراد من قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ حلّية بذل الطعام لهم بالبيع و نحوه من المعاملات و غيرها.

ثمّ إنّ الطعام في الأصل يطلق على كلّ ما يذاق، و يؤكل، و يقتات، و قد وردت هذه المادّة مكرّرا في القرآن الكريم بهيئات مختلفة، قال تعالى: فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا [سورة الأحزاب، الآية: 53]، أي: إذا أكلتم، و قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [سورة البقرة، الآية: 249]، أي: لم يذقه، و قال تعالى: كُلُّ اَلطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ اَلتَّوْراةُ [سورة آل عمران، الآية: 93]. و هو يشمل كلّ ما يقتاته الإنسان، فالعموم يشمل ذبائح أهل الكتاب كما يشمل غيرها من الأطعمة.

لكن ذكر أهل اللغة أنّ الطعام قد يطلق و يراد به البر خاصّة، بل لعلّه المتبادر إذا اطلق، و لهذا ورد في جملة من الروايات المروية عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد من الطعام في الآية المباركة هو البر و سائر الحبوب و الفاكهة، غير الذبائح الّتي يذبحونها، فإنّها إمّا غير قابلة للتذكية - كالخنزير - أو ما يقبلها و لكن لا تتوفّر فيها شروط التذكية الإسلاميّة، و هذا هو المخصّص لعموم الطعام لو كان له عموم يشمل غير الحبوب، فيكون وجه اختصاصها بالذكر مع دخولها في الطيبات هو دفع توهّم دخولها في المحرّمات؛ لأنّها مصحوبة لمن حكم بكفره و نجاسته و قذارته.

و من ذلك يظهر فساد ما ذكره جمع في الآية الشريفة من أنّ الحكمة إنّما تظهر في حلّية الذبائح دون غيرها؛ لأنّه لم يختلف أحد في حلّه، فإنّ هذه الحكمة خلاف الحكمة كما عرفت، و يشهد لذلك امور:

ص: 358

الأوّل: أنّ الكفّار وصفوا في القرآن الكريم بأوصاف كثيرة تدلّ على خبثهم و قذارتهم و رجسهم، و يكفي اتّصافهم بالكفر الّذي هو أم الرذائل و الخبائث، و ليس من الحكمة تحليل ذبائحهم الّتي تتّصف بالخبث أيضا، و قد ذكرنا في الآية الكريمة السابقة أنّ الطعام له الأثر الكبير في النفوس.

الثاني: أنّ اللّه تبارك و تعالى ذكر في آيات عديدة محرّمات الطعام و وصفها بأوصاف متعدّدة - كالرجس، و الفسق، و الإثم - و ليس من المعقول أن يحلّل سبحانه ما وصفه رجسا، و فسقا، و إثما و يدخلها في الطيبات.

إلاّ أن يقال بالنسخ - و لم يعرف له وجه، فإنّ الآيات الشريفة في سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.

الثالث: ما ورد في بعض الأخبار تعليل تحريم ذبائحهم بقولهم عليهم السّلام: «و اللّه ما استحلّوا ذبائحكم، فكيف تستحلون ذبائحهم ؟!».

الرابع: أنّه لم يذكر اسم اللّه تعالى على ذبائحهم، و قد قال تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ [سورة الانعام، الآية: 121].

الخامس: أنّ حلّية ذبيحة الكتابي موضع النزاع و الخلاف حتّى عند العامّة أيضا، فلو كان للآية المباركة عموم يشمل ذبائحهم لما كان وجه للنزاع فيها.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما ذكره بعض المفسّرين في الردّ على من يقول بأنّ المراد من الطعام الحبوب. بأنّه لا دليل لتخصيص العامّ بالحبوب، مع أنّه موضوع للعموم، و استشهد بجملة من الآيات الشريفة. فإنّ أئمة اللغة ذكروا بأنّ الطعام خاصّة وضع للبر، دون سائر مشتقاته الّتي استدلّ بها لإثبات مراده. بل لعلّه المتبادر منه حيث اطلق، مضافا إلى أنّ الأخذ بالعموم في مورد لأجل قرائن خاصّة لا تصير دليلا في المقام كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ .

الحلّ : هو الحلال، و المراد من الضمير في (لهم) هم أهل الكتاب، أي: اليهود و النصارى و المجوس، و قد اختلف العلماء و المفسّرون في تفسير هذه الآية

ص: 359

الشريفة، فذهب جمع كثير الى أنّ الخطاب فيها للمؤمنين، أي: لا جناح عليكم أيّها المؤمنون أن تطعموا أهل الكتاب من طعامكم.

و ردّ: بأنّه يستلزم استعمال الطعام بدل الإطعام، و هو باطل إلاّ بضرب من التوسّع، و لا يمكن القول به هنا؛ لأنّه ورد الفصل بين المصدر و صلته بخبر المبتدأ و هو ممتنع.

و لكن، يمكن الجواب عنه بأنّه لا بأس به إذا كان فيه غرض صحيح أدبي.

و قيل: إنّ الآية المباركة بيان لنا لا لهم، أي: أنّ الّذي كان محرّما عليهم ممّا هو حلال لكم، قد أحلّ لكم أن تطعموهم.

و بعبارة اخرى: أنّ الطعام الّذي حلال لكم هو حلال لهم أيضا، فالآية الكريمة في مقام بيان حكم وضعي، لا حكم تكليفي.

و يرد عليه بأنّه مجرّد احتمال يحتاج الى دليل. و قيل: غير ذلك ممّا هو بعيد عن سياق الآية المباركة.

و الحقّ أن يقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى لما أحلّ للمؤمنين طعام أهل الكتاب بعد أن نهاهم عن موالاتهم و معاشرتهم؛ لأنّهم كانوا على عداء شديد للإيمان و أهله، فكان المؤمنون يحترزون عن المعاملة مع الكفّار و مؤاكلتهم و معاشرتهم حتّى نزول هذا الحكم الامتناني التسهيلي، حيث أباح للمؤمنين طعام أهل الكتاب، فكان ذلك من ناحية المؤمنين، و قد أتمّ عزّ و جلّ النعمة و الامتنان بأن رفع الحظر عن طعام المؤمنين لأهل الكتاب، فأباح للأخير ما هو محلّل في الشريعة الإسلاميّة و إن كان محرّما في الشرائع الاخرى، فأجاز للمؤمنين بيع الطعام لهم.

و الآية الشريفة تشير الى معنى دقيق، و هو رفع الحصار الّذي كان مفروضا من الطرفين بالشروط الّتي قرّرتها الشريعة الإسلاميّة، فأباح عزّ و جلّ طعام كلّ طرف للطرف الآخر بعد أن كان محظورا لمصالح خاصّة. إلاّ أنّ الحلّية لم تكن مطلقة بحيث تؤثّر على كيان المسلمين و تهدم شخصيتهم الإيمانية و تفسد قلوبهم

ص: 360

و نواياهم الصادقة، فقد وضع شروطا لهذا النوع من التعامل بأن لا يكون الطعام ممّا هو محرّم في الشرع الإسلامي، فخصّ الحكم بالحبوب و الفواكه و نحوهما، فلا يشمل الذبائح؛ لعدم توفّر تلك الشروط فيها، و لعلّه لأجل هذا ورد في جملة من الروايات المرويّة عن ائمة أهل البيت عليهم السّلام في تفسير الطعام بالحبوب - كما يأتي في البحث الروائي - و عدم شموله لذبائح أهل الكتاب كما عرفت، و إن اختلفت الروايات و الأقوال فيها.

و لكنّ المشهور المنصور حرمتها كما هو مذكور في الفقه، فراجع كتابنا (مهذب الأحكام)، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ .

حكم امتناني آخر، و الجملة إمّا عطف على الطيّبات، و هي مبتدأ و الخبر محذوف لدلالة المقام عليه، أي: حلّ لكم. و المحصنات جمع المحصنة، و تقدّم الكلام في معنى هذه المادّة في قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلنِّساءِ [سورة النساء، الآية: 24].

و المراد منها في المقام العفائف، و تخصيصها بالذكر للتحريض على ما هو أولى لا لنفي ما عداهن؛ لأنّه لا مفهوم للوصف أصلا حتّى يحرم نكاح غير العفائف من المؤمنات و غير العفائف من الّذين أتوا الكتاب، و قد ورد في جملة من الأخبار جواز نكاح الزانية و إن كان يكره خصوصا في الدائمة.

و المعنى: يحلّ لكم نكاح العفائف من المؤمنات، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ هدف الإسلام من الزواج هو تحقيق الإحصان في الطرفين، و ليس مجرّد إطفاء سورة الغريزة فحسب، و لذا ورد التأكيد على هذه الناحية في جميع الآيات الكريمة المتعدّدة الواردة في مواضع مختلفة، و لعلّه لأجل ذلك خصّ عزّ و جلّ المحصنات بالذكر لبيان هذه الحيثيّة، فليس المراد حلّية التزويج بهن فقط و حرمته بالنسبة الى غيرهن.

ص: 361

و المراد من المؤمنات مطلق المسلمات إلاّ ما ورد دليل خاصّ على تحريم زواج طائفة خاصّة منهن، كما هو مذكور في الفقه.

قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ .

حكم امتناني مبنيّ على التخفيف و التسهيل في رفع حرمة نكاح المحصنات من نساء الّذين أتوا الكتاب.

و المراد من الّذين أوتوا الكتاب هم الطوائف غير المشركين و الوثنيّين الّذين أحلّ اللّه تعالى لنا طيّبات طعامهم، و إنّما وصفهم باوتوا الكتاب إيماء إلى أنّهم أهل كتاب كما أنّكم كذلك إلاّ أنّهم قبلكم، فيفيد كمال القرب بين الطائفتين و المزج و التشريك بينهما.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من هذه الآية الشريفة، فقيل: إنّها تدلّ على حلّية نكاح الكتابيّات مطلقا و إن كنّ حربيّات، كما هو مقتضى الإطلاق.

و قيل: إنّها تختصّ بالذميّات؛ لقوله تعالى: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ [سورة المجادلة، الآية: 22]، و النكاح مقتض للمودّة؛ لقوله تعالى: خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً [سورة الروم، الآية: 21].

و ردّ بأنّ ذلك يوجب الكراهة لا الحرمة؛ أخذا بالإطلاق مع قطع النظر عن طروّ عناوين اخرى.

و قال بعض أصحابنا: إنّ الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ [سورة البقرة، الآية: 221]، و قوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ [سورة الممتحنة، الآية: 10]، فإنّ أهل الكتاب كفّار بلا خلاف، و قد سماّهم عزّ و جلّ بذلك في قوله تعالى: لَمْ يَكُنِ اَلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ [سورة البينة، الآية: 1]. و تدلّ عليه بعض الروايات، ففي صحيح زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله تعالى: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ، قال عليه السّلام: هي منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ .

ص: 362

و أشكل عليه: أوّلا: بأنّ آية المقام واردة مورد الامتنان و التخفيف، و مثل ذلك لا يقبل النسخ.

و ثانيا: أنّ الآيات الكريمة الّتي يدّعى نسخها لآية المقام، هي أسبق نزولا من هذه الآية الشريفة، فإنّ الاولى وردت في سورة البقرة الّتي هي أوّل سورة مفصّلة نزلت بالمدينة، و الثانية وردت في سورة الممتحنة و كلتاهما قد نزلتا قبل سورة المائدة، فإنّها آخر ما نزلت على النبي صلّى اللّه عليه و آله كما تقدّم في أول سورة، فنسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء.

و ثالثا: أنّ الآيات الشريفة الناسخة أجنبيّة عن المقام، فإنّ آية البقرة تدلّ على حرمة نكاح المشركات، و أهل الكتاب ليسوا مشركين، و على فرض دخولهم في عداد المشركين يجب أن تكون آية المائدة مخصّصة لآية البقرة، فيستثنى أهل الكتاب من عمومها.

و أمّا آية الممتحنة، فهي أجنبية عن المقام بالكلّية، فإنّها تدلّ على حرمة نكاح النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن على شركهن، و على فرض التنزيل فيأتي فيها ما ذكرناه في آية البقرة أيضا، فتكون آية المائدة ناسخة لها لا العكس؛ لأنّ النسخ شأن المتأخّر.

و من ذلك يعلم أنّه لا بدّ من حمل ما ورد في بعض الروايات من النسخ على ضرب من التأويل ان أمكن، و إلاّ فيردّ علمها الى أهله.

و يمكن المناقشة في ذلك، أمّا الأوّل: فلأنّ ورود حكم مورد الامتنان و التخفيف لا يصير موجبا للقول بعدم النسخ، فكم من حكم ورد في الشرع مورد التخفيف و الامتنان و قد نسخ بحكم آخر غيره كما هو واضح.

و أمّا الثاني: فقد تقدّم في بحث النسخ أنّه لا يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخّرا و المنسوخ متقدّما في النزول، فقد يتّحدان في النزول و قد يكونان بالعكس، فإنّ الأحكام الشرعيّة مبنيّة على حكم و مصالح متعدّدة، و ما ورد من أنّ سورة

ص: 363

المائدة آخر ما نزلت فهي ناسخة غير منسوخة - فعلى فرض صحّته - معارض بالأخبار الّتي تدلّ على النسخ.

و أمّا ما ذكر من آية الممتحنة، فواردة في النساء المشركات اللواتي أسلم أزواجهن، فإنّ ذلك سبب للنزول، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا يقيّد به إطلاق الحكم و عمومه، و أنّ عمومها يشمل الكتابيات أيضا.

و الحقّ أنّ المسألة لا تخلو عن إشكال، لاختلاف الأقوال تبعا لاختلاف الروايات الواردة في نكاح الكتابيّات، فالمشهور بين فقهائنا (قدس اللّه أسرارهم) الحرمة ابتداء لا استدامة، و قال بعضهم بالحرمة في النكاح الدائم مطلقا دون المتعة؛ عملا ببعض الروايات.

و ذهب جمع آخر الى الجواز على كراهة؛ لما رواه في الفقيه عن الصادق عليه السّلام:

«في الرجل المؤمن يتزوّج النصرانيّة و اليهوديّة، قال عليه السّلام: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهوديّة و النصرانيّة ؟! فقيل: يكون له الهوى، فقال عليه السّلام: إن فعل فيمنعها من شرب الخمر، و أكل الخنزير، و اعلم أنّ عليه في دينه غضاضة».

و بعض الفقهاء خصّ الجواز بحال الضرورة؛ جمعا بين الأخبار، و لما ورد عن الباقر عليه السّلام: «لا ينبغي للمسلم أن يتزوّج يهوديّة و لا نصرانيّة و هو يجد مسلمة حرّة أو أمة»، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

و لكنّ الأمر الّذي لا يمكن إنكاره هو أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ حلّية نساء أهل الكتاب للمؤمنين إنّما يكون عن طريق النكاح الشرعي بالشروط المقرّرة، و منها الأجر و المهر من غير فرق بين النكاح الدائم و النكاح المنقطع؛ لأنّه نكاح شرعا كما عرفت في بحث المتعة فراجع. و أمّا السفاح فهو محرّم على كلّ حال.

قوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ .

الإيتاء الإعطاء، و قد يطلق و يراد به التعهّد و الالتزام، و لعلّه أولى بالمقام كما هو معلوم، و المراد من الأجور المهور، و تقييد الحلّ بإتيانهن لتأكيد لزوم ذكرها في

ص: 364

العقد، لا للاحتراز، فإنّ إيتاء الأجور واجب في نكاح الإماء أيضا كما تقدّم في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ اَلْمُحْصَناتِ اَلْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ اَلْمُؤْمِناتِ وَ اَللّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ [سورة النساء، الآية: 25]، إلاّ أنّ الفرق بين نكاح الحرائر و الإماء أنّ في الأوّل يعطي المهر لنفس المرأة، و في الثاني يعطي لمولاها.

و كيف كان، فالقول باختصاص الحكم في الآية الشريفة بالمحصنات العفيفات الحرائر من أهل الكتاب من غير شمول لملك اليمين خلاف ظاهرها.

قوله تعالى: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ .

بيان لوجه من وجوه الحكمة في تشريع هذا الحكم، و هو تحصين النفس بإعفافها بالنكاح و جعلها في حصن منيع يمنعها من الوقوع في السفاح و ارتكاب الفاحشة جهرا أو خفاء، و تقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى: وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ .

الخدن: الصديق يقع على الذكر و الأنثى على حدّ سواء، و تقدّم الكلام فيه في سورة النساء. و ذكرنا أنّ المراد به نفي جميع ما يوجب الوقوع في الفاحشة و الحرام، فإنّ الغرض من هذا التشريع هو الحدّ من الوقوع في مزالق الهوى و الحشر مع النساء و الاسترسال في حبّهن و الغرام بهنّ ، فإنّ في ذلك تفكيك للقواعد المحكمة الّتي بني عليها الاجتماع و قدح نار الشهوة و غلبة فساد المحصنات اللاتي من أهل الكتاب على صلاح المؤمنين و تميع أخلاقهم الكريمة، و الوقوع في الفتنة الّتي اهتمّ الإسلام بسدّ الذرائع إليها؛ لأنّها من أهمّ ما يفسد الأخلاق و الاجتماع، فإنّ الوقوع في تلك المهلكات خلاف المنّة الّتي امتن بها على المؤمنين في هذا التشريع، الّذي كان الهدف منه التسهيل و التخفيف على المؤمنين، و ليكون سببا في انتشار معارف الإسلام، و تثبيت كلمة التقوى، و بثّ الأخلاق الفاضلة الّتي أمر بها الإسلام

ص: 365

و تكميلها بالكمال اللائق بهن ليلحقن بالمحصنات المؤمنات، فيكون هذا الحكم الإلهي من أهمّ دواعي العمل الصالح و العلم النافع.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ .

تحذير شديد لمن أعرض عن طاعة اللّه تعالى و خالف أحكامه المقدّسة، و الكفر هو الستر، و ذكرنا ما يتعلّق باشتقاق هذه الكلمة، و قد يراد منه المعنى المصدري، و هو موجبات الإيمان، أي: الاعتقاد و الهدف الصالح، كما إذا استعمل بالنسبة إلى من أنكر الألوهيّة و الرسالة.

و قد يطلق و يراد منه معنى اسم المصدر، و هو الأثر الحاصل و الصفة القائمة في القلب، أي: الاعتقادات الّتي تدعو الى العمل الصالح، فيكون معنى الكفر حينئذ ترك العمل بما اعتقده و علم به أنّه حقّ ، و هذا هو المراد منه في المقام، أي: الكفر العملي، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ الكفر يختلف باختلاف متعلّقه، فقد يكون عن جحود، و إنّما يكون كذلك إذا علم بالحقّ و داوم على إنكاره و ترك العمل به، و إلاّ فإنّ مجرّد ترك العمل من دون أحدهما لا يكون كفرا بل فسقا، فيكون المراد من الكفر بالإيمان هو ترك العمل بما حقّ عنده و ثبت أنّه من الدين و ممّا شرّعه اللّه تعالى، فيكون كافرا بالإيمان منكرا للآخرة حابطا للعمل، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ اَلغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ * وَ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ اَلْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 146-147]، فإنّ هذه الآية الشريفة تبيّن أنّ التكذيب بأحكام اللّه تعالى إنّما كان بعد الإيمان و اتّخاذ سبيل الغي و ترك سبيل الرشد بعد العلم بهما، و لا ريب أنّ التكذيب كذلك يكون تكذيبا للآخرة، و هو يستلزم ترك الحقّ و جحده، و هذا يقتضي حبط العمل، و نظير ذلك في القرآن الكريم كثير.

قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ .

ترتّب هذه الآية المباركة على سابقتها من قبيل ترتّب المسبّب على السبب،

ص: 366

فإنّ من ترك اتّباع الحقّ الثابت عنده يكون كفرا بالإيمان، فيكون العمل الصادر عنه لا عن عقيدة و إيمان، و لا وزن لمثل هذا العمل و لا قيمة له، و هذا هو حبط العمل، قال تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً * اَلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً * أُولئِكَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ وَزْناً [سورة الكهف، الآية: 103-105].

ثمّ إنّ إطلاق الحبط كما يصحّ على الكفر بعد الإيمان - كما تقدّم - كذلك يصحّ على بطلان أعمال الكفّار أيضا، حيث أنّ لهم عبادة حسب شريعتهم الّتي يتمسّكون بها - أو أعمالا حسنة يأتون بها - فإذا جحدوا بالحقّ بعد العلم به، و لم يتبعوا الإسلام فقد حبط عملهم، و سيأتي الكلام في الحبط مفصّلا في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

لأنّه أعرض عن أحكام اللّه تعالى، و أنكر الشرائع، و كذّب الآخرة فحبط عمله، فلم يقم اللّه تعالى له وزنا يوم القيامة، فكان عاقبة أمره خسران السعي في الآخرة.

ص: 367

بحوث المقام
بحث دلالي

يستفاد من الآيات الشريفة امور:

الأوّل: تتضمّن الآيتان الشريفتان أهمّ الأسس الّتي يعتمد عليها المجتمع الإنساني، و هما الطعام و الزواج، فإنّ في الأوّل حياة الأفراد و صلاح أبدانهم و أنفسهم، و في الثاني بقاء النوع بالتناسل، و لا ريب أنّ الإسلام اهتمّ بهما اهتماما بليغا و شرّع فيهما أحكاما، و ذكر إرشادات و توجيهات محكمة مبنيّة على الصلاح و الأخلاق الفاضلة الكريمة؛ لأنّ صلاح هاتين الركيزتين يؤثّر على صلاح الفرد و الاجتماع و النوع الإنساني و سعادتهم، و قد ذكر عزّ و جلّ ما يتعلّق بهما في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و في المقام ذكر عزّ و جلّ قاعدة هامّة في الطعام مبنيّة على الصلاح العامّ فأحلّ الطيّبات، و أحكم هذا التشريع إحكاما دقيقا، فذكره في أسلوب لطيف يحبّب الطيّبات من الطعام الى النفوس، و تجعلها تأنف من الخبائث و تشمئز منها تلك النفوس الّتي تهذّبت بالتوجيهات الربوبيّة و الإرشادات الحكيمة، فكان ذلك أساسا في طعام الإنسان بجميع أنواعه و أصنافه، و قد ذكر عزّ و جلّ له مصاديق و أفرادا متعدّدة في مواضع متفرّقة، تقدّم بعضها في الآيات السابقة.

و في الآيات المباركة في المقام يذكر جلّ شأنه فردين آخرين، أحدهما لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم بالشروط المقرّرة. و الثاني طعام أهل الكتاب، و أرشد الى أنّ حلّيته إنّما تتوقّف على توفّر الشروط المعتبرة في الشريعة الإسلاميّة، فإنّ حلّية طعامنا لهم إنّما كان في ظرف توفّر تلك الشروط فيها، و كذلك لا بدّ أن تكون حلّية طعامهم لنا و إلا صار خبيثا و خلاف المنّة الّتي سيقت الآية المباركة

ص: 368

إليها، فينحصر طعامهم في بعض الأمور و لا تشمل جميع أطعمتهم.

و في هذا الحكم من وجوه الحكمة ما لا يخفى و يكفى فيها الإشعار بأنّ الإسلام دين التسامح و التعاطف، و ذكر تعالى في الآية الشريفة الثانية ما يتعلّق بالركيزة الثانية، و هي الزواج الّذي اعتنى به الشرع المبين، و لأهمّيّته ذكره عزّ و جلّ في مواضع كثيرة من القرآن الكريم، و بيّن جميع جوانبه المادّية و المعنويّة، و قد قارن عزّ و جلّ في المقام نساء المسلمات مع نساء أهل الكتاب الّذي طالما أراد أعداء الإسلام أن يتّخذوه ثغرة لينقضوا منها عليه، و يتّخذوه ذريعة في نشر الفاحشة في المؤمنين و افتتان المؤمنات، و بعث الدعارة فيهن، و بالأخرة تشويه هوية هذا الدين العظيم، و قد أحلّ عزّ و جلّ التزويج بالكتابيات ليسدّ الذرائع الى الدخول في الفتنة و الحرام، و أحكم هذا التشريع بوجوه عديدة فبيّن تعالى:

أولا: أنهن من أهل الكتاب كما أنّكم منه؛ لرفع الحزازة من الاختلاط بهنّ ، ثمّ اشترط الالتزام بإعطاء المهر لهنّ ، ليكتمل الزواج من الناحية الشرعيّة.

و ثانيا: بيّن عزّ و جلّ أنّه لا بدّ أن يكون القصد هو إحصان النفس و التعفّف عن الحرام، لا مجرّد التسلّط عليهن و الابتزاز من حقوقهن و الظلم عليهن و الإهانة بحبسهن في البيوت من دون الوصول إليهن، و لا إطلاق زمامهن ليسرحن مع الرجال في كلّ مكان فيمارسن كلّ أنواع المحرم و يتّخذ الرجال الصويحبات في السرّ و العلن.

ثمّ ختم الكلام بتهديد شديد؛ للإعلام بأنّ تلك الأحكام و إن كانت أحكاما امتنانيّة تسهيليّة ترخيصيّة إلاّ أنّه لا بدّ من حفظ حدود اللّه تعالى فيها، و عدم التجاوز و التعدّي عنها، فإنّه يعتبر كفرا بالإيمان الّذي التزم المؤمن أن يعمل بأركانه، فمن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و يكون عاقبة أمره الخسران؛ لأنّه انقطع عن كلّ ما يوجب الزلفى و القرب لديه تعالى.

و كان لهذين التشريعين الأثر الكبير في نفوس أهل الإيمان، حيث رفع الحظر المفروض عليهم من الاختلاط مع أهل الكتاب و التعامل معهم، فكان ذلك وسيلة

ص: 369

لنشر تعاليم الإسلام و معارفه الحقّة، و إظهار مكارم الأخلاق الّتي اهتمّ بها الإسلام. و لأجل أنّ الهدف كان عظيما قد أحكم عزّ و جلّ تلك الأحكام و أكّد على مراعاتها و حثّ على إتيانها بأتمّ وجه، فحذّر تحذيرا شديدا بسرعة حساب من خالف تلك التوجيهات الربوبيّة و إرشاداته القيمة، و أمر بالتقوى و مراقبة اللّه تعالى في جميع الحالات، و يكفي في الدلالة على أهميّة تلك الأحكام و لزوم مراعاتها بدقّة و أمان اعتبار الإعراض عنها كفرا بالإيمان و حبطا للأعمال.

الثاني: يدلّ قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ على قاعدة كلّية في الأطعمة و الأشربة الّتي يميّز بها الحلال عن الحرام، فكلّ ما كان طيبا حلّ أكله و شربه، بلا فرق بين أصنافهما، و كلّ ما كان خبيثا حرم شربه و أكله كذلك.

و الآية المباركة و إن كانت مطلقة إلاّ أنّه لا بدّ من تقييدها بما ورد في الكتاب الكريم و السنّة الشريفة من الشروط و الحدود.

و يمكن أن يستدلّ بهذه الآية المباركة على أصالة الحلّية و الإباحة، الّتي تمسّك بها الفقهاء في باب الأطعمة و الأشربة.

الثالث: يستفاد من قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ جواز اقتناء الكلاب لأجل الصيد، كما يستفاد منه أنّ في بعض الحيوانات قابلية التعلّم، و لكن لا بدّ أن يكون التعليم في ما له نفع للإنسان بالطريق الّذي علّمه اللّه تعالى، فما يفعله بعض في تعليم الحيوانات مستخدما أساليب معيّنة تلحق الأذى و الضرر بالحيوان ليس ممّا علّمه اللّه تعالى؛ لأنّه ظلم، و هو قبيح عقلا و محرّم شرعا.

الرابع: يدلّ قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ على وجوب مراعاة التقوى في جميع التشريعات و تطبيقها تطبيقا كاملا، مع مراعاة جميع الشروط و التوجيهات و الإرشادات الربوبيّة، و أنّ مخالفة التقوى فيها توجب المسألة يوم القيامة، و سرعة الحساب في الدنيا.

ص: 370

الخامس: يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ أنّ التشريعات و الأحكام الّتي أنزلها اللّه تعالى في هذه الآيات الشريفة لها أهميّة خاصّة في حياة الإنسان في العوالم الّتي ترد عليه، حيث أنّ مخالفتها تستلزم سرعة الحساب، و لم يذكر سبحانه و تعالى هذا الوعيد إلاّ في مواضع معيّنة في القرآن الكريم، تكون لها أهميّة خاصّة.

و إطلاق هذه الآية المباركة يدلّ على سرعة الحساب في الدارين، فقد يكون عاجلا لم يمهله اللّه تعالى لعظمة الذنب، و قد يمهله لمصلحة لا يعلم بها إلاّ هو.

السادس: يستفاد من قوله تعالى: فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أنّ الحبط إنّما يتحقّق في ما إذا كان حقّ ، و علم به، و التزم بالعمل به ثمّ إنكاره و جحده و ترك العمل به، فيكون كفرا بالإيمان، و كلّ كفر كذلك يكون حبطا للعمل، فلا ينفع حينئذ معه الأعمال السابقة، فإنّه سقط جزائها كما لا ينفع عمل حين كفره، فيكون عاقبة أمره الخسران إلاّ إذا تاب و عمل عملا صالحا.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «في كتاب علي عليه السّلام في قوله عزّ و جلّ : وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ قال هي: الكلاب».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: لا فرق في الكلب بين السلوقي و غيره و بين الكرديّة، سواء كان أسود أم غيره؛ لإطلاق الآية الشريفة و الرواية المتقدّمة.

الثاني: لا يحلّ من صيد الحيوان و مقتوله إلاّ ما كان بالكلب المعلّم، فلا يحلّ صيد غير الكلب من جوارح السباع، كالفهد و النمر و غيرهما، و جوارح الطير كالباز و العقاب و الباشق و غيرهما، و إن كانت معلّمة؛ لأصالة عدم التذكية المقرّرة شرعا و المعتمد عليها لدى الفقهاء - كما تقدّم - إلاّ ما خرج بالدليل، و نصوص

ص: 371

مستفيضة منها ما عن أبي عبد اللّه في المعتبرة قال: «سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب، فقال عليه السّلام: لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتموه إلاّ كلب المكلب»، و قريب منها صحيح الحلبي و غيره.

نعم، هناك رويات تدلّ على الجواز و خلاف ما تقدّم.

ففي رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ ، فلا بأس بأكله»، و قريب منها غيرها.

و لكنّها موافقة للتقيّة و معارضة بما هو أقوى منها، فلا بدّ إمّا من حملها على الإمساك حيّا و وقوع التذكية على الصيد، و إطلاق الجرح الكثير على القتل مجاز شائع، أو ردّ علمها إلى أهله و اللّه العالم.

الثالث: أن يكون الكلب معلّما، فلو لم يكن كذلك لا يحلّ صيده لنصّ الآية المباركة، و ما يستفاد من الروايات الكثيرة، منها ما تقدّم.

و في الكافي أيضا بإسناده عن جميل بن دراج قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرسل الكلب على الصيد، فيأخذه و لا يكون معه سكين أ فيدعه حتّى يقتله و يأكل منه ؟ قال عليه السّلام: لا بأس قال اللّه عزّ و جلّ : فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و لا ينبغي أن يأكل ممّا قتله الفهد».

أقول: يأتي في البحث الفقهي أنّه لو لم يدرك صاحب الكلب الصيد حيّا، أو أدركه كذلك لكن لم يسع الزمان لذبحه، ففي الصورتين كان الصيد ذكيا و حلّ أكله.

و أمّا إذا اتّسع الزمان لذبحه لا يحلّ إلاّ بالذبح، فلو تركه حتّى مات كان ميتة - و تقدّم المراد بأدنى ما يدرك ذكاته - و أمّا لو كان حيّا و اتّسع الزمان لذبح الصيد و لكن لم توجد آلة الذبح كالسكين و مات، نسب الى المشهور عدم الحلّية؛ لأصالة عدم التذكية؛ لأنّه حينئذ حيوان غير ممتنع، و كلّ حيوان كذلك لا يحلّ لحمه إلاّ بالتذكية.

و لكن، نسب الى جمع منهم الشيخ و الصدوق الحلّية؛ تمسّكا بمعتبرة جميل بن

ص: 372

دراج المتقدّمة، و لكن أوهنها إعراض المشهور، و مخالفتها لما تقدّم من القاعدة «كلّ حيوان غير ممتنع لا يحلّ إلاّ بالتذكية»، فلا بدّ من ردّ علمها الى أهلها. و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن الحلبي قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يفتي و كان ينفي و نحن نخاف في صيد البزاة و الصقور، فأمّا الآن فإنّا لا نخاف و لا يحلّ صيدها إلاّ أن تدرك ذكاته، فإنّه في كتاب علي عليه السّلام أنّ اللّه عزّ و جلّ قال: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ في الكلاب».

أقول: هذه الرواية شارحة لجميع الروايات الدالّة على حلّية الصيد بجوارح السباع من أنّها صدرت عن تقيّة، و لمانع لم يتمكّن الإمام عليه السّلام بيان الحكم الواقعي فيها.

و في تفسير العياشي عن حريز عن الصادق عليه السّلام قال: «سئل عن كلب المجوس يكلّبه المسلم و يسمّي و يرسله ؟ قال: نعم إنّه مكلّب، إذا ذكر اسم اللّه عليه فلا بأس».

أقول: مقتضى الأصل و الإطلاقات الواردة في الكتاب و السنّة عدم اعتبار إسلام صاحب المكلّب. نعم يعتبر أن يكون مرسل الكلب مسلما أو بحكمه، كالصبي الملحق به، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه أو من كان بحكمه كالخوارج و غيرهم، لم يحل أكل ما يقتله؛ لأنّ الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها.

و في السنن الكبرى للبيهقي بإسناده عن أبي رافع قال: «جاء جبرئيل الى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فاستأذن عليه، فأذن له فابطأ فأخذ رداءه فخرج، فقال: قد أذنا لك! قال: أجل و لكنّا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة، فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو، قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كلّ كلب بالمدينة ففعلت، و جاء الناس فقالوا: يا رسول اللّه، ماذا يحلّ لنا من هذه الامة الّتي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي صلّى اللّه عليه و آله فأنزل اللّه: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: إذا أرسل الرجل كلبه و ذكر اسم اللّه فأمسك عليه، فليأكل ما لم يأكل».

ص: 373

أقول: هذه الرواية - مع قطع النظر عن السند - يستفاد منها امور:

الأوّل: أدب الدخول، فإنّ جبرائيل رسول مباشر من اللّه تعالى و من الملائكة المقرّبين استأذن في الدخول على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فكيف بغير جبرائيل، لأنّ صاحب البيت حبيب اللّه، و أشرف الأنبياء، و فخر الكائنات، فإذنه صلّى اللّه عليه و آله شرف للتشرّف برؤيته.

الثاني: بعد ما أذن صلّى اللّه عليه و آله لجبرائيل فما معنى بطء جبرائيل بالدخول عليه صلّى اللّه عليه و آله ؟! و لعلّه كان ذلك استحياء من مكانة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فإنّه كان مأمورا من اللّه جلّت عظمته أن لا يدخل بيتا فيه مظهر الشيطان و هو الكلب، و ذلك شأن جميع الملائكة بتمام أصنافها و رتبها.

و أمّا عتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بفعله و قوله لجبرائيل مع علمه صلّى اللّه عليه و آله بالواقع من أنّه لا يمكن اجتماع مظهر الرحمن و رسوله مع مظهر الشيطان و أعوانه؛ لأجل الإعلام العملي للمسلمين بالاجتناب عن مظهر الشيطان، فإنّ جبرائيل مع ما لديه من المنزلة عند الربّ الجليل - بل الملائكة كلّهم - لا يدخل و لا يدخلن بيت أشرف الأنبياء، فكيف ببيت سائر الناس لو كان فيه كلب أو صورة على ما يأتي من الحكمة فيها.

الثالث: الوجه في أخذه صلّى اللّه عليه و آله رداءه و خروجه كناية عن اضطرابه لبطء روح القدس عليه، و كنّى بالرداء عن العون و النصر؛ لأنّ الرداء يقع على الظهر و يحفظ العاتقين و المنكبين عن الحوادث، فيكون عونا للإنسان.

الرابع: أنّ وجود جر و في بعض بيوتهم لم يكن عن عمد، و إنّما دخل الحيوان بنفسه بلا التفات من صاحب البيت.

الخامس: أنّ قتل الكلاب بأمر من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إنّما كان في خصوص الكلاب الهارشة الّتي كانت تؤذي سكان المدينة و تسلب راحتهم؛ و لم تكن قابلة للحفظ و التربية، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ الثابتة شرعا و عقلا، و ذلك بقرينة روايات كثيرة اخرى. إذا الرواية لا تنافي ما حدث في هذه الأعصار من عنوان

ص: 374

سمّوه «جمعية حفظ حقوق الحيوان» في زمان سلبت فيه حقوق الإنسان كلّها و دمرت الإنسانيّة، فلم يبق للبشريّة وزن؛ لأنّهم بعدوا عن القوانين الإلهيّة الّتي تحفظ الإنسان و تكرم حقوقه، و لم يخضعوا للركائز الّتي وهبتها السماء للبشريّة جمعاء بواسطة الرسل و الأنبياء، فبها تهنأ الحياة و يحسن العيش، و توفّر راحة النفس في ما يمرّ عليها من العوالم، و انفصلوا عن النظم الّتي أنزلها اللّه تعالى الّذي هو خالق الإنسان مبدع الكائنات، عالم الغيب، يعلم المصالح و المفاسد و الحكم و العلل، فضلّوا من السعادة الراقية و لم يصلوا الى الكمالات العالية، فتمسّكوا بعناوين واهية، فإلى اللّه المشتكى و عليه التوكّل في الشدّة و الرخاء.

و في الدرّ المنثور بإسناده عن ابن عباس: «في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلّم، أو بازه، أو صقره، ممّا علّمه المجوسي فيرسله فيأخذه، قال: لا يأكله و إن سمّيت؛ لأنّه من تعليم المجوسي، و إنّما قال: تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ».

أقول: تقدّم أنّ المناط إرسال المسلم الكلب للصيد، و أمّا تعليمه فأعمّ من أن يكون بمباشرة المسلم أو غيرها، و لا عبرة بصيد الباز و الصقر، و لعلّ الرواية تتضمّن نظر ابن عباس القابل للتغيير، و لم تكن مستندة الى المعصوم.

ثمّ إنّ هناك روايات تدلّ على أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله بعث بعض الأصحاب لقتل الكلاب، فقتل منها حتّى سأل بعضهم النبي صلّى اللّه عليه و آله: ماذا أحل لنا من هذه الامة ؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ ، و لا شكّ أنّ هذه الرواية من باب ذكر بعض المصاديق، و إلاّ فالآية المباركة مطلقة، بل إطلاق الطيّبات على بقاء الكلاب لاستعمالهم في المآرب المختلفة ممّا لا يقبله الذوق السليم إلاّ على سبيل المجاز البعيد، فالأولى ردّ هذه الرواية الى أهلها.

على أنّ متونها مضطربة جدا، و لم يرد شيء منها في مجامع الشيعة، بل هي مرويّة في الدرّ المنثور و غيره.

و في الكافي بإسناده عن أبي الجارود قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه

ص: 375

عزّ و جلّ : وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فقال عليه السّلام:

الحبوب و البقول».

أقول: الروايات الدالّة على أنّ المراد من قوله تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ هو الحبوب و البقول كثيرة جدا و قد بلغت حدّ التواتر، و تقدّم أنّ الطعام هو الحبوب، و قد ورد في زكاة الفطرة: «صاعا من طعام»، أي: البر أو الشعير أو غيرهما، و قال الخليل: «إنّ العالي في كلام العرب أنّ الطعام هو البر خاصّة»، فلا مجال للقول بأنّ المراد من الطعام مطلق ما يطعم من اللحوم و غيرها كما تقدّم في التفسير. و إنّ الروايات الواردة في حلّية ذبائح أهل الكتاب المستدلّة بالآية الشريفة كلّها غير نقيّة السند و عن طرق العامّة، كما أنّ ما ورد عن طرقنا الدالّة على حلّية ذبائح أهل الكتاب محمولة على التقيّة، و الشاهد على ذلك ما رواه الشيخ بإسناده عن بشير بن أبي غيلان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ذبائح اليهود و النصارى و النصاب ؟ قال عليه السّلام: فلوى شدقه و قال: كلبا الى يوم ما»، فإنّ التقيّة فيها ظاهرة.

و من العجب أنّ السيوطي سرد جملة من الروايات في تفسيره (الدرّ المنثور) تدلّ على أنّ المراد من الطعام من الآية الشريفة هو ذبائح أهل الكتاب، و لكنّها لم تستند الى النبي صلّى اللّه عليه و آله أو خلفائه المعصومين، فمن الممكن أن تكون مجرّد نظريات في ظروف خاصّة بتحويل المعنى، و الشاهد على ذلك أنّه لم يذكر رواية تدلّ على أنّ المراد من الطعام هو الحبوب، مع أنّها المتبادر منه عند الإطلاق.

على أنّه يمكن أن يراد من الروايات - الّتي تفسّر طعام أهل الكتاب بالذبائح كما وردت عن طريق السنّة - الذبائح الّتي ذبحت على طريق الشرع، بحيث يكون المباشر للذبح المسلم و كان جامعا للشرائط و كانت الذبيحة ملكا للكتابي.

إن قلت: بناء على ما تقدّم لا تختصّ الحلّية بذبيحة الكتابي بل تعمّ المشرك أيضا، فلو ذبح المسلم كذلك ذبيحة المشرك حلّ أكلها.

قلت: نلتزم بذلك و لا محذور فيه شرعا، و تقييد الآية المباركة بأهل الكتاب

ص: 376

يكون حينئذ من باب الغالب، أو من باب ذكر بعض مصاديق الكفر، بقرينة الروايات و الإطلاقات الواردة في الصيد و الذباحة، فتأمّل.

و في تفسير العياشي بإسناده عن قتيبة الأعشي قال: «سأل الحسن بن المنذر أبا عبد اللّه عليه السّلام: إنّ الرجل يبعث في غنمه رجلا أمينا يكون فيها نصرانيّا أو يهوديّا، فتقع العارضة فيذبحها و يبيعها؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تأكلها و لا تدخلها في مالك، فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلاّ المسلم، فقال رجل لأبي عبد اللّه عليه السّلام و أنا اسمع: فأين قول اللّه: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ ؟ فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان أبي يقول: إنّما ذلك الحبوب و أشباهها».

أقول: يحتمل في جملة: «فإنّما هو الاسم و لا يؤمن عليه إلاّ المسلم» معنيان:

الأوّل: الأمن من جهة مجرّد صدور اسم اللّه تعالى.

الثاني: الأمن من جهة الاعتقاد، و هذا هو المناط في هذه الروايات.

و كيف كان، فهذه الرواية - و غيرها الّتي هي قريبة منها - تدلّ على ما ذكرناه سابقا، كما تكشف عن الحكم بالحلّية في ذبائح أهل الكتاب لم يكن واقعيّا، و أنّ المراد من الطعام في الآية الشريفة خصوص الحبوب و أشباهها.

و في الكافي بإسناده عن زرارة بن أعين قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؟ فقال: منسوخة بقوله تعالى: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ اَلْكَوافِرِ ».

أقول: و قريب منه غيره، و المراد من النسخ هنا غير معناه المصطلح، و المقصود منه التقييد، و تقدّم ما يرتبط به في التفسير فراجع.

و في تفسير العياشي بإسناده عن العبد الصالح قال: «سألناه عن قوله تعالى:

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ما هن ؟ و ما معنى إحصانهن ؟ قال عليه السّلام: هنّ العفائف من نسائهم».

أقول: يستفاد من الرواية جواز نكاح الكتابيّة و العفائف من نسائهم من باب الأفضليّة، حرّة كانت أو أمة، و في بعض الأخبار: «إنّما يحلّ منهنّ نكاح البله»،

ص: 377

أي: الغافلة عن الشرّ و المطبوعة على الخير، و قد ورد في بعض الروايات جواز نكاح غير العفائف من نسائهن و لكن يمنعهن من الفجور، كما تقدّم في التفسير.

و في تفسير العياشي أيضا بإسناده عن ابن سنان عن الصادق عليه السّلام قال:

وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ قال: هنّ المسلمات».

أقول: لأنهنّ غالبا يلازمن العفّة، بلا فرق بين جميع مذاهبهن.

و في تفسير القمّي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: «و إنّما يحلّ نكاح أهل الكتاب الّذين يؤدّون الجزية و غيرهم لم تحل مناكحتهم».

أقول: عدم إعطائهم الجزية فيما إذا عرضت عليهم و لم يؤدوها، فيصيرون من الكفّار المحاربين، و أمّا إذا لم تعرض عليهم كما في زماننا هذا، فيشكل دخولهم في الحربي، و تفصيل الكلام يطلب من الفقه.

و في الكافي بإسناده عن الحسن بن الجهم قال لي أبو الحسن الرضا عليه السّلام:

«يا أبا محمد! ما تقول في رجل تزوّج نصرانيّة على مسلمة ؟ قلت: جعلت فداك، و ما قولي بين يديك ؟! قال عليه السّلام: لتقولن، فإنّ ذلك تعلم به قولي ؟ قلت: لا يجوز تزويج نصرانيّة على مسلمة و لا غير مسلمة، قال: لم ؟ قلت: لقول اللّه عزّ و جلّ :

وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ ، قال عليه السّلام: فما تقول في الآية: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ ؟ قلت: فقوله تعالى: وَ لا تَنْكِحُوا اَلْمُشْرِكاتِ نسخت هذه الآية، فتبسّم ثمّ سكت».

أقول: تقدّم سابقا أنّ سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، و على فرض التنازل و غضّ النظر عن ذلك، فالمقام لا يكون من باب النسخ المصطلح كما مرّ، و أنّ الآيتين باقيتان على حجّيتهما، و آية المائدة تقيّد إطلاق آية المشركات أو تخصّصها، و لعلّ تبسّم الإمام عليه السّلام إشارة الى ذلك. و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ قال: ترك العمل الّذي أقرّ به، أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل».

ص: 378

أقول: ذهب جمع كثير من العلماء الى أنّ استحقاق الثواب مشروط بالموافاة، و استدلّوا بأدلّة كثيرة من الآيات الشريفة و السنن المعصوميّة، قال تعالى:

لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر، الآية: 65]، أي: ثواب عمله و جزائه الحسن. و هناك قول آخر و هو التكفير الّذي هو أقرب الى التفضّل منه سبحانه و تعالى و تقتضيه ظواهر الأدلّة، و سيأتي في الآيات المناسبة البحث عنهما مفصّلا.

و كيف كان، فأسباب الحبط على القول به كثيرة:

منها: الشرك باللّه العظيم، إن لم يتداركه بالندم و التوبة، كما مرّ.

و منها: ما ورد في هذه الرواية من عموم ترك العمل الّذي أقرّ به في اصول الدين.

و هناك أسباب اخرى يأتي التعرّض لها. و الرواية من باب ذكر بعض المصاديق.

و في المحاسن للبرقي بإسناده عن أبي حمزة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه تبارك و تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ؟ قال: تفسيرها في القرآن و من يكفر بولاية علي عليه السّلام، و علي هو الإيمان».

أقول: إنّ الميزان في الحبط هو إنكار ما هو ضروري الدين، سواء كان من أصوله أم فروعه؛ لأنّ إنكار الفروع يرجع بالآخرة الى إنكار الأصول أيضا كما ثبت في علم الكلام، فيكون إنكار الولاية كإنكار المعاد موجبا للحبط، و قد سمّي عليّا بالإيمان في كلام النبي صلّى اللّه عليه و آله عند ما برز الى عمرو بن عبد ود، قال صلّى اللّه عليه و آله: «برز الإيمان كلّه الى الكفر كلّه»، كما سمّي الصلاة بالإيمان كذلك، و الرواية من باب بيان بطن القرآن كما ورد في روايات كثيرة من أنّ له بطنا، و لا منافاة حينئذ أن يكون ذلك من باب بيان أجلى المصاديق أيضا.

و في الكافي بإسناده عن عبيد بن زرارة قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن

ص: 379

قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ فقال: ترك العمل الّذي أقرّ به، قلت: فما وضع ترك العمل حتّى يدعه أجمع ؟ قال: الّذي يدع الصلاة متعمّدا لا من سكر و لا من علّة».

أقول: المراد من السكر النوم كما في صحيح محمد بن مسلم، و هذا الحبط إمّا لأجل ترك الواجب العبادي بعد الإذعان بوجوبه، فحبط به ثواب التزامه و عقيدته، كما إذا ترك الصوم عن علم و عمد، أو الصلاة كذلك، فحبط بذلك ثواب تلك الأصول المحقّقة للإيمان، و هذا مرتبة من الكفر كما تقدّم مكرّرا.

و أمّا جعل الإيمان نفس الفروع، أي: أنّ الإيمان نفس الصلاة الّتي هي عمود الدين فتركها بغير عذر يكون كفرا بالإيمان، خلاف سياق الآية الشريفة، و لا يوافقه ظاهر الروايات المتقدّمة، فهو أجنبي عن الحبط إلاّ إذا رجع الى ما تقدّم.

و الحبط تارة: من قبيل إبطال المقتضي للثواب من أوّل الأمر، كمن نشأ منكرا للولاية مع العلم بأنّها أحد الأثافي في الإسلام.

و اخرى: من قبيل الإهدار، مثل ما يهدر ثواب عمله الثابت في صحيفته لما صدر عنه من بعض الأعمال السيئة بالعمد و الاختيار.

و في تفسير العياشي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحقّ فيقيم عليه، قال تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ، الّذي يكفر بالإيمان الّذي لا يعمل بما أمر اللّه به و لا يرضى به».

أقول: الخروج عن الإسلام له مراتب، و إنّ بعض مراتبه يوجب القتل، كالارتداد، و بعضه الآخر ليس كذلك، و إنّما يوجب الفسق في الدنيا و دخول النار في الآخرة، و من ذلك ما ورد في الرواية. و كذا الكلام في الكفر من أنّ له مراتب.

ثمّ إنّ الحبط على أقسام ثلاثة:

الأوّل: أن تكون الأعمال دنيويّة يقصد بها الدنيا، فلا تغني في القيامة أصلا، قال تعالى: وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة

ص: 380

الفرقان، الآية: 23]، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و الدليل العقلي يدلّ على ذلك أيضا؛ لأنّ العمل لم يضف إليه عزّ و جلّ ، و كان قصد العامل منه طلب الماديّة و الأجر الدنيوي، فلا معنى للجزاء الاخروي، إذا المقتضي للثواب لم يكن موجودا.

الثاني: أن تكون الأعمال اخرويّة، كالصلاة و الصوم و الحجّ ، و لكن لم يقصد عاملها وجه اللّه تعالى، كما في الأعمال الريائيّة - نستجير باللّه عزّ و جلّ منها - فحكمه حكم القسم الأوّل بعين ما تقدّم من الأدلّة، ففي الحديث: «انّه يؤتى يوم القيامة برجل فيقال له: بم كان اشتغالك ؟ يقول: بقراءة القرآن، فيقال له: قد كنت تقرأ ليقال لك قارئ و قد قيل ذلك، فما لك منّا أجر».

الثالث: أن تكون أعمالا صالحة و بإزائها سيئات، فهذا القسم هو محلّ البحث، فعن جمع بالحبط و عن آخرين بالتكفير، قال تعالى: إِنَّ اَلْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ اَلسَّيِّئاتِ [سورة هود، الآية: 114]، و قال تعالى في وصف التائبين من الأعمال السيئة: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اَللّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اَللّهُ غَفُوراً رَحِيماً [سورة الفرقان، الآية: 70]، و الثاني هو الأقرب الى رحمته و غفرانه، كما ذهبت الإماميّة الى ذلك.

نعم، يمكن أن يقال: إنّ بعض المعاصي المتوغّلة في البعد عنه جلّت عظمته - كالشرك و جحود الإيمان - يوجب الحبط إن لم تتعقّبه التوبة و يتدارك بالأعمال الصالحة.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ قال: «من آمن ثمّ أطاع أهل الشرك، فقد حبط عمله و كفر بالإيمان».

أقول: لا بدّ و أن تكون الإطاعة عن عقيدة، و إلاّ فلا توجب الحبط كالإطاعة عن كره و تقيّة.

و في تفسير العياشي عن هارون بن خارجة، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ ؟ قال فقال: من ذلك ما اشتقّ فيه».

ص: 381

أقول: لعلّ المراد أنّ المكلّف باختياره أحبط عمله و أوقع نفسه في المشقّة، و اللّه العالم بالحقائق.

بحث فقهي

يستفاد من الآيات المباركة قواعد فقهيّة بيّنتها السنّة الشريفة، كما يستفاد منها أحكام خاصّة نقدّم بعضها في البحث الروائي، أمّا القواعد فهي:

القاعدة الاولى: «حلّية الطيّبات مطلقا إلاّ ما خرج بالدليل»، سواء أ كانت من الأطعمة أم من الأشربة أم من النكاح أم غيرها ممّا يشمّ أو يستنشق حتّى القول الطيب، قال تعالى: وَ هُدُوا إِلَى اَلطَّيِّبِ مِنَ اَلْقَوْلِ [سورة الحج، الآية:

24]. و إن شئت عبّرت: «كلّ طيب حلال إلاّ ما أخرجه الشارع بالدليل»، و البحث عنها من جهات:

الاولى: في فقه القاعدة و معنى الطيّبات فيها، فنقول: المراد من الطيب مقابل الخبيث، و هو في اللغة: كلّ ما تستلذّ به النفس مطلقا و لم يكن فيه أذى لها أو للبدن. و إن شئت عبّرت: «كلّ ما ترغب إليها النفوس المستقيمة»، فيمكن أن يقال: إنّ ما حرّمه الشارع لا تستلذّ به النفس للتأنيب المستتر في الضمير البشري عند ارتكاب المحارم، أو به أذى لنفس أو للبدن؛ لأنّ المحرّمات تابعة للمفاسد و تترتّب العقوبات عليها مطلقا، فلا ترغب إليها النفوس، فتكون خبيثة من هذه الجهة.

و دعوى: أنّ النهي، و وعيد العذاب من الشرع، و العلم كلّ منهما كيف يوجب الاتّصاف بالخباثة؛ لأنّ الموضوع مؤخّر عن حكمه بمراتب ثلاثة.

غير صحيحة؛ لأنّ ما ذكرنا لا ينافي ذلك، و أنّه من قبيل الكشف، و أنّ الخباثة الشرعيّة تجتمع مع الخباثة الفطريّة، و الاولى توجب التأنيب، و الثانية توجب الضرر. فتأمّل.

ص: 382

إن قلت: إنّ في ارتكاب كثير من المعاصي تستلذّ النفس، و تخمد فوران الشهوة الكامنة و لا أقلّ تستجاب الغرائز الجنسيّة، و هذا المقدار من الزمان و لو كان قليلا يكفي في أن يكون العمل طيّبا و إن كان قد حرّمه الشارع.

قلت: ارتكاب المعاصي الّتي تستلذّ بها النفس على قسمين:

الأوّل: أنّ النفس تعلم بما يترتّب عليه من المفاسد في المستقبل، و مع ذلك أنّها تقدّم على اللذّة الوقتيّة، ففي الحقيقة أنّها لا تستلذّ حتّى حين ارتكاب المعصية لو تفطن و تذكر العواقب السيئة، كمن يقتل شخصا لإخماد غضبه و يعلم بالعواقب الّتي ترد عليه من التأنيب في الضمير و القوانين الشرعيّة أو الوضعيّة، فحينئذ لم تستلذ النفس و على فرضه لم تكن مستقيمة.

الثاني: لا يعلم بالعواقب، فتارة معذور شرعا في جهله، و اخرى ليس بمعذور، و الأوّل يكون الاستلذاذ مؤقتا و شخصيّا مع قطع النظر عمّا يترتّب عليه من الأحكام الوضعيّة و حرمان النيل الى بعض المقامات، و الثاني مضافا الى أنّها ليست مستقيمة لا يكون ذلك في الواقع استلذاذ مع ما يرد عليها من العواقب السيئة.

الثانية: في الأدلّة الّتي استدلّوا بها على القاعدة، فمن الكتاب: قوله تعالى:

أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ و إطلاقه يشمل جميع أنواع الطيّبات و أقسامها - كما تقدّم - و إن كان الغالب فيها الأكل و الشرب و النكاح.

و قال تعالى في أوصاف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فمقتضى الآية الشريفة حلّية كلّ ما ترغب إليها النفوس السليمة مطلقا، إلاّ ما خرج بالدليل المعتبر الشرعي، كما في شرب بعض المتنجّسات مثلا.

و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ كُلُوا مِمّا فِي اَلْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ اَلشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [سورة البقرة، الآية: 168]، و الأمر فيه للإباحة و الأكل من باب الغالب كما مرّ.

ص: 383

و من السنّة: روايات كثيرة مختلفة التعابير، كقول الصادق عليه السّلام في الصحيح:

«كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي»، و في الحديث: «اتي النبي صلّى اللّه عليه و آله بغراب فسمّاه فاسقا، فقال: و اللّه ما هو من الطيّبات»، و قد ورد: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله أتاه رجل من الأعراب يفتيه ما الّذي يحلّ له و الّذي يحرم عليه في ماله و نسكه و ماشيته و عنزه و فرعه من نتاج إبله و غنمه ؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: احلّ لك الطيّبات و حرّم عليك الخبائث»، إلى غير ذلك من الروايات الواردة في الأبواب المتفرّقة من الفقه.

و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد من أساطين الفقه، بل عدّ ذلك من ضروريات الدين.

و من العقل: حكمه البتّي بأنّ اللّه تبارك و تعالى العالم بالمصالح و الخفيّات إذا حرّم شيئا كان فيه مفسدة، فلا يكون من الطيّب، و ما سوى المحرمات تستلذّه النفس و ترغب إليه، فيكون حلالا طيّبا.

الثالث: في مدى شمول القاعدة، فإن قلنا: إنّ الخبائث هي المحرّمات الشرعيّة فقط، فالقاعدة باقية على عمومها و لم ينلها يد التخصيص إلاّ بطرو عناوين خارجيّة الّتي تغيّر الحكم.

و أمّا إن قلنا: إنّ الخبائث أعمّ من المحرّمات الشرعيّة، فالخبيث و الطيّب يكونان من الأمور النسبيّة الإضافيّة، يختلفان باختلاف الأزمنة و الأمكنة و سائر الجهات، كما هو مفصّل في الفقه، و من شاء فليراجع كتاب الأطعمة و الأشربة من (مهذب الأحكام).

الرابعة: أنّه تبارك و تعالى ذكر مصداقا للطيّبات، و هو لحم الحيوان الّذي يصطاده الكلب المعلّم إذا استجمع فيه الشروط الآتية، كما ذكر سبحانه و تعالى مصاديق للخبائث من الميتة، و الدم، و لحم الخنزير، و ما اهلّ لغير اللّه به، و المنخنقة، و الموقوذة، و المتردية، و النطيحة، و ما أكل السبع، بل كلّ ما يضرّ الإنسان ضررا معتدا به، فهو من الخبائث و محرّم كما ذكر مفصّلا في الفقه.

القاعدة الثانية: قاعدة: «كلّ صيد قتله جوارح الطير و السباع يحرم أكله إلاّ

ص: 384

ما خرج بالدليل»، و لم يخرج عنها إلاّ قسم خاصّ من الكلب فقط، و هو المعلّم من الكلاب مع شروط خاصّة فيه كما ياتي.

بل يمكن أن يقال: إنّ تعليم الحيوان - بحيث يكون تحت اختيار الإنسان و إرادته - يخرجه عن السبعيّة نوعا ما، و يكون الاستثناء فيه موضوعيّا لا حكميّا، و على أي حال أنّ عنوان السبعيّة المأخوذة في القاعدة من باب الغالب - لا التخصيص - و إلاّ فلو فرضنا أنّ حيوانا مألوفا أو مأنوسا أخذ صيدا و قتله يحرم أيضا لعدم توفّر شروط التذكية فيه، مثل ما لو صادت القطة حيوانا و قتلته أو الشاة أو البقرة كذلك.

و البحث فيها من جهات:

الاولى: في الأدلّة الّتي استندت القاعدة عليها.

فمن الكتاب: قوله تعالى: وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ، فهذه الشروط احترازيّة للحكم الّذي هو الحلّية كما هو الظاهر من الآية الشريفة، و تدلّ عليها روايات كثيرة، فإذا لم تكن أحد هذه الشروط انتفى الحكم، لقاعدة انتفاء المشروط بانتفاء شرطه المسلّمة عند العقلاء، فإذا لم يكن كلبا لا يجوز أكل صيده، أو كان كلبا و لكن لم يكن معلّما فكذلك، و كذا إذا لم يمسكه الحيوان، أو لم يذكر اسم اللّه تعالى عليه عند إرساله، كلّ ذلك يحرم أكل صيده و لا يحلّ .

و من السنّة: روايات مستفيضة، منها ما عن الصادق عليه السّلام في معتبرة الحضرمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن صيد البزاة و الصقور و الفهد و الكلب ؟ فقال: لا تأكل صيد شيء من هذه إلاّ ما ذكيتموه، إلاّ الكلب المكلّب»، و في صحيح زرارة عن الصادق عليه السّلام: «و أمّا خلاف الكلب ممّا تصيد الفهود و الصقور و أشباه ذلك فلا تأكل من صيده إلاّ ما أدركت ذكاته؛ لأنّ اللّه عزّ و جلّ قال: مُكَلِّبِينَ ، فما كان خلاف الكلاب فليس صيده بالّذي يؤكل إلاّ أن تدرك ذكاته».

و أمّا رواية زكريا بن آدم قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الكلب

ص: 385

و الفهد يرسلان فيقتل، فقال عليه السّلام: هما ممّا قال اللّه: مُكَلِّبِينَ ، فلا بأس بأكله»، و مثلها غيرها محمولة على ما إذا أدرك حياته فذكي، و إلاّ فيردّ علمها إلى أهله، لمعارضتها بما هو أقوى، و موافقتها للتقيّة.

و من الإجماع: ما ادّعاه غير واحد، بل عدّ ذلك من ضروريات المذهب.

و لأصالة عدم التذكية المعتمد عليها في اللحوم، و قد ثبت حجّيتها في الفقه و الأصول، و تقدّم البحث عنها هنا موجزا.

الثانية: لا فرق فيما قتله جوارح الطير و السباع بين أن تكون معلّمة أو غير معلّمة، فيحرم مطلقا إلاّ أن يدرك حياته فيذكى، كما لا فرق بين أن يكون معها كلب معلّم أو لم يكن؛ لأصالة عدم التذكية؛ و لمعتبرة أبي عبيدة الحذاء عن الصادق عليه السّلام: «و إن وجد معه كلبا غير معلّم فلا يأكل منه»، هذا إذا لم تكن قرينة خارجية توجب الاطمئنان على أنّ كلب المعلّم قتله، و إلاّ فهي المتّبعة كما تقدّم.

الثالثة: يعتبر في الكلب للصيد الخارج عن القاعدة المتقدّمة امور:

الأوّل: أن يكون معلّما للاصطياد لما تقدّم من الكتاب و السنّة و الإجماع، و لأصالة عدم التذكية، و عن الصادق عليه السّلام: «و إذا أرسلت الكلب المعلّم فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته»، و قريب منه غيره.

و علامة اتّصاف الكلب به أن يكون الحيوان منقادا في الإرسال و الزجر و ضبط الصيد لو أرسله صاحبه و أغراه - إلاّ إذا كان مانع في البين - و أن ينزجر و يقف عن الذهاب و الهياج إذا زجره صاحبه، فيكون تحت اختيار الإنسان لو لم يكن مانع و لا يتخلّف إلاّ نادرا؛ لجملة من الأخبار المذكورة في الفقه، و للإجماع بين المسلمين.

الثاني: أن يمسك الصيد لصاحبه و لا يأكل منه شيئا؛ لقوله تعالى فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، و لكنّ الظاهر أنّ الإمساك أعمّ من ذلك، فلا يصير دليلا للمقام، و بقول الصادق عليه السّلام في موثق سماعة: «فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكل منه»، و قريب منه غيره.

ص: 386

و هناك: روايات اخرى دالّة على الجواز - تعارض الروايات المتقدّمة - و لذا كان هذا الشرط موضع الخلاف بين الفقهاء. و لا يبعد الترجيح للطائفة الثانية من الأخبار، كقول الصادق عليه السّلام في صحيح الحلبي: «و أمّا ما قتله الكلب و قد ذكرت اسم اللّه عليه، فكل منه و إن أكل منه»، و في بعض الروايات: «و إن أكل منه ثلثيه»، و طريق الجمع بين الطائفتين حمل الطائفة الاولى على التنزيه و الكراهة بقرينة الطائفة الثانية، و هذا هو الحمل الشائع في الفقه، أو حمل الطائفة الاولى على عدم تحقّق التعليم، إلاّ أنّ ما ذهب إليه المشهور من اعتبار عدم أكله هو الأحوط كما هو محرّر في الفقه.

الثالث: أن يرسل للاصطياد مطلقا على سبيل الجنس، فلو استرسل بنفسه من دون إرسال لم يحل مقتوله، و يمكن استفادة اعتبار هذا الشرط من قوله تعالى:

مُكَلِّبِينَ ، و قوله تعالى: تُعَلِّمُونَهُنَّ ، و في الحديث قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن كلب أفلت و لم يرسله صاحبه فصاد، فأدركه صاحبه و قد قتله، أ يأكل منه ؟ فقال عليه السّلام: لا».

ثمّ إنّه يشترط في حلّية صيد الكلب امور:

الأوّل: أن يكون المرسل مسلما أو بحكمه كالصبي، فلو أرسله كافر بجميع أنواعه، أو من كان بحكمه كالنواصب لم يحل أكل ما قلته بالضرورة المذهبيّة، و إن الصيد تذكية فيعتبر فيه كلّ ما يعتبر فيها إلاّ ما خرج بالدليل على الخروج.

الثاني: أن يسمّي عند الإرسال، فلو ترك التسمية عمدا لا يحلّ مقتوله؛ للآية المباركة: وَ لا تَأْكُلُوا مِمّا لَمْ يُذْكَرِ اِسْمُ اَللّهِ عَلَيْهِ ؛ و لقول الصادق عليه السّلام: «من أرسل كلبه و لم يسم فلا يأكله»، و لا يضرّ لو ترك التسمية نسيانا أو شكّ فيها؛ لقول الصادق عليه السّلام: «فإن كنت ناسيا فكل منه»، و كذا رواية أبان بن عثمان: «لا أدري سمّيت أم لم أسم، فقال عليه السّلام: كل لا بأس».

و ظاهر الآية الشريفة أنّه لا يشترط أن تكون التسمية حين الإرسال، بل تكفي و لو حصلت بعده الى حين عضّة الكلب، و تدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

ص: 387

و هنا فروع اخرى تعرّضنا لها في الفقه من شاء فليراجع كتاب الصيد من (مهذب الأحكام).

الثالث: أن يكون موت الحيوان مستندا الى جرح الكلب المعلّم و عقره، فلو كان بسبب صدمة أو خنقة أو اتعابه في العدو أو ذهاب مرارته من جهة شدّة خوفه، لم يحل لظاهر النصوص؛ و للإجماع؛ و للأصل، و لو شكّ في أنّ الموت مستند الى الكلب أو غيره و لم تكن في البين قرينة معتبرة تدلّ على أنّه مستند الى الكلب، لا يحلّ أكله؛ لأصالة عدم التذكية بعد عدم إحراز سببها.

الرابع: عدم إدراك صاحب الكلب الصيد حيّا مع تمكّنه من تذكيته، فلو أدركه حيّا و جبت التذكية، و يدلّ عليه قوله تعالى: فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، كما تدلّ عليه روايات منها قول الصادق عليه السّلام في المعتبر: «فإن أدركه قبل قتله ذكّاه»، و المناط إدراك صاحب الكلب الصيد، فلو أدركه شخص آخر فإن أخذه من الكلب حيّا يجب عليه الذبح الشرعي، فلو لم يذبح حتّى مات ضمن لصاحبه؛ لأنّه أتلف مال الغير، و إن لم يأخذه منه و كان في إمساكه حتّى مات ثمّ وصل صاحبه تحقّقت التذكية، و هناك فروع اخرى من أراد الإطلاع عليها فليراجع الفقه.

و ذهب بعض الفقهاء الى طهارة موضع العضّة من الكلب؛ لقوله تعالى:

فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ ، الدالّ على حلّية الأكل مطلقا.

و لكنه مردود: لعدم كون الآية المباركة في مقام البيان من هذه الجهة، فالعمومات الدالّة على أنّ وضع ملاقاة العضّة مع نجس العين نجس محكمة.

القاعدة الثالثة: «الطعام كلّه حلّ إلاّ ما خرج بالدليل»، و المراد من الطعام الأعمّ من الحبوب و الفواكه و الألبان و المعادن - كالملح و غيره - بلا فرق بين أن يكون الطعام من صنائع أهل الكتاب كبعض الحلويات مثلا، أو لم يكن كذلك كالتمر و الجوز و اللوز و غيرها، سواء أ كان من الكفّار أم من غيرهم، و المراد من الحلّ الأكل و غيره من الاستعمالات.

ص: 388

و مستند هذه القاعدة الأدلّة التالية، فمن الكتاب قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ و غيره كما يأتي.

و من السنّة روايات كثيرة تقدّم بعضها، و في معتبرة هشام بن سالم عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تبارك و تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك، يعني أهل الكتاب».

و من الإجماع ما هو متسالم عند المسلمين إلاّ في الذبائح، فقد ذهبت الإماميّة الى الحرمة لأدلّة وردت عن أهل البيت عليهم السّلام.

و يمكن إقامة الدليل العقلي على ذلك بأنّ ذلك يوجب المودّة بين أصناف الناس، و رفع الحزازة، و تقريب الواقع، و إظهار الحقّ و إراءته كما هو.

و المراد من الحلّية نفي الحرج و اليأس و متعلّقها الأعمّ من الأكل و البيع و الشراء و غيرهما من المعاملات؛ للأصل بعد عدم ورود نهي أو دليل على التحديد من الشرع.

ثمّ إنّه قد خرج عن هذه القاعدة موارد:

الأوّل: ما إذا طرأ على ذلك عنوان خارجي آخر، كالإعانة على الإثم، و تقوية الباطل، و إهانة المؤمن أو تحقيره، أو ظنّ السوء بالدين، أو الضرر و ما الى غير ذلك، فحينئذ لا تجري القاعدة، و في جميع ذلك محكوم بالحرمة؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة مقدّمة عليها، كما ثبت ذلك في الأصول، كما أنّها لا تجري فيما لو وجب بطرو عناوين اخرى كإنقاذ حقّ ، و حفظ مؤمن، أو استلزم الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و غيرها، ففي جميع ذلك يجب؛ لأنّ الأدلّة الثانويّة محكمة على القاعدة.

الثاني: اللحوم و الشحوم و الجلود و جميع أجزاء الحيوان لو ذبحه كافر - مشركا كان أو كتابيّا - و من بحكمه كالنواصب و الغلاة؛ للأدلّة الدالّة على عدم حلّية ذبائحهم، كقول الصادق عليه السّلام الوارد في ذبيحة اليهودي: «لا تأكل من ذبيحته و لا تشتر منه»، و معتبرة إسماعيل بن جابر: «لا تأكل من ذبائح اليهود و النصارى

ص: 389

و لا تأكل من آنيتهم»؛ و لأصالة عدم التذكية، و ما دلّ على الخلاف إمّا محمول على التقية، أو قاصر سندا و معارض بما هو أرجح منه، فلا بدّ من ردّ علمه الى أهله كما ذكرنا في الذباحة من كتاب (مهذب الأحكام).

نعم، لا يعتبر في تذكية السمك عند إخراجه من الماء الإسلام، فلو أخرجه كافر أو أخذه فمات بعد أخذه حلّ ، سواء كان كتابيّا أم غيره؛ لإطلاق قوله عليه السّلام:

«إنّما صيد الحيتان أخذها»، و لكن لو وجده في يد الكافر ميتا لم يحل أكله لأصالة عدم التذكية، إلاّ إذا علم أنّه قد مات خارج الماء أو أخذه بعد موته في خارج الماء، و لا يحرز ذلك بكونه في يده، و لا بقوله لو أخبر به، بخلاف يد المسلم، فإنّه يحكم بحلّيته حتّى يعلم الخلاف.

الثالث: ما ثبت حرمة أكله أو شربه عندنا كالحشيش، و الخمر، و الدم و الميتة، و المتنجّسات مطلقا، أو ما يستثني من الذبيحة كالنخاع و حدقة العين على ما سبق مفصّلا، ففي هذه الموارد لا مجرى للقاعدة أصلا.

ثمّ إنّه في الأطعمة المصنوعة إن كان الطعام مائعا و لاقى يد الكافر يتنجّس و يدخل في المتنجّسات، فلا يجوز شربه أو أكله، و لكن يجوز بيعه و سائر استعمالاته، إلاّ أن يشترط فيه الطهارة، و إن لم يكن مائعا فقاعدة: «كلّ يابس ذكي» جارية، فيحلّ شربه و سائر استعمالاته حتّى في الصلاة و اللّه العالم بالحقائق.

القاعدة الرابعة: «كلّ أيم يجوز نكاحها إلاّ ما خرج بالدليل»، و تفصيل هذه القاعدة يأتي في قوله تعالى: وَ أَنْكِحُوا اَلْأَيامى مِنْكُمْ وَ اَلصّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اَللّهُ مِنْ فَضْلِهِ [سورة النور، الآية: 32]، إلاّ أنّه نقول هنا: لا فرق في النكاح بين الدائم و المنقطع، و إنّ الآية الشريفة في المقام ظاهرة في النكاح المنقطع؛ لقوله تعالى: إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ، فاستعمال الأجور في المتمتّعات أكثر و أشهر من غيرها، و من هنا ذهب الفقهاء الى جواز التمتع بالكتابيّة دون غيرها؛ لظاهر الآية المباركة؛ و النصوص المعصوميّة، و يعتبر فيها جميع ما

ص: 390

يعتبر في المسلمة، كما ذكر في الفقه، و إن كانت تجري «قاعد الإلزام» في بعض الموارد إلاّ أنّها لا تمنع ممّا ذكرناه. هذا و اللّه العالم بالحقائق.

و أمّا الأحكام الخاصّة الّتي تستفاد من الآيات الشريفة، فهي كما يلي:

الأول: لا فرق في تعليم الكلاب بين أن يكون التعليم تكوينيّا للحيوان - أي: وراثيا، كما يقال في شأن بعضها - أو تحصيليّا بالتدريب، سواء أ كان بواسطة معلّم بشري - أي مكلّب بصيغة اسم الفاعل، و هو المعلّم للكلب و مشتقّ منه - أم بواسطة حيوان آخر كالباز أو كلب آخر، و يكفي الصدق العرفي للتعليم عند أهله، كلّ ذلك لإطلاق الآية المباركة و غيرها.

و لو صاد في أثناء التعليم، فإن كان واجدا للشرائط يحلّ أكله، للإطلاقات و العمومات، و لا يكون التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة، كما هو واضح.

الثاني: لا يجب الترتيب في الإرسال و ذكر اسم اللّه تعالى، فلو قدّم الذكر على الإرسال - على نحو لا تخل بالموالاة - أو العكس كذلك أو قارنه صحّ ، لإطلاق قوله تعالى: مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ عَلَيْهِ بعد اتّفاق المفسّرين على أنّ الواو ليس للترتيب. نعم يستفاد من جملة من الروايات المقارنة مع الإرسال، و هي غير الترتيب كما هو معلوم.

الثالث: لا يستفاد من الآية المباركة وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ طهارة الكتابي؛ لأنّ الطعام أعمّ من المصنوع و غيره، كما تقدّم، و في المصنوع أيضا يمكن أن لا يلاقي الطعام بدن الكتابي بناء على نجاسته. و الأخبار في طهارة الكتابي و نجاسته مختلفة، و بعضها ظاهر في أنّ نجاستهم عرضيّة لعدم اجتنابهم عن الخمر، و الخنزير، و الدم و غيرها من النجاسات، إلاّ أنّ المشهور خلاف ذلك، و من أراد التفصيل فليراجع المفصّلات.

الرابع: يستفاد من الآية الشريفة: وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ و الروايات الواردة في تفسيرها أنّ المانع عن النكاح مطلقا هو الارتداد، و الشرك،

ص: 391

و كونها حربيّة، و أمّا غيرها كالكتابيّات فيجوز نكاحهن؛ تمسّكا بإطلاق الآية الشريفة، و لكن على كراهة خصوصا في الدائمة؛ للجمع بين الروايات.

و أمّا المسلمة، فلا يجوز لها أن تنكح الكافر مطلقا - دواما أو انقطاعا كتابيّا أو حربيّا مرتدّا أو غيره - و كذا من بحكمه كالنواصب، و اللّه العالم بالحقائق.

بحث عرفاني

يمكن أن تتضمّن الآيات الشريفة إشارات لأصحاب السير و أرباب السلوك؛ لأنّهم حرّموا على أنفسهم الدنيا و زخارفها، بل الموقنين منهم العاشقين الى اللقاء و المشتاقين للحق حرّموا على أنفسهم نعيم الآخرة أيضا، كما عن علي أمير المؤمنين (عليه أفضل الصلاة و السلام) في كثير من دعواته الشريفة و كلماته الحكيمة، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الدنيا حرام على أهل الآخرة و الآخرة حرام على أهل الدنيا، و هما حرامان على أهل اللّه تبارك و تعالى»، فسألوا بلسان الحال أو الاستعداد من الطيب الطيّبات، و في الحديث: «انّ اللّه طيّب لا يقبل إلاّ الطيّب»، فأوحى الى حبيبه و نبيّه: قُلْ للسالكين و المشتاقين و المؤمنين من عبادي الطالبين للحقّ أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ من طرق الوصول إلى ساحة كبريائه، مطيّبا بجذبات الحقّ و نفحات الشهود، لا من كلّ مأكول - و مشروب أو ملبوس أو مقول أو معقول - فإنّها لا تليق بمقامهم و إن كانت لوجه اللّه تعالى، إذ لو لم تكن كذلك فقد لوّثت و خبثت، و مع ذلك أنّ المشتاقين للحقيقة و الموقنين باللقاء و العارفين بالحقّ لا يهتمّون بالمظاهر، بل هي محرّمة عليهم؛ لأنّها من شؤون الدنيا الّتي لا تحلّ لهم إلاّ بمقدار الاضطرار، كما تقدّم عن الصادق عليه السّلام، فلا حظّ لهم فيها و إنّما حظوظهم في الكمالات الّتي أهمّها أخلاق اللّه تعالى المنزّهة عن النقائص و الشبهات، فإنّ أهل العرفان و السير و السلوك لا يتفكّرون إلاّ في عظمة الذات، و لا يسيرون إلاّ في ميادين الأنوار، فالدلائل عندهم مدلولات، و الغيب شهادات،

ص: 392

فأعيانهم في هذه الدنيا مشهودة و أرواحهم عنها مخلوعة، و هي تسير في أفلاك العظمة (بل تصاحب بعضها الأرواح القدسيّة و الملائكة البررة)، و هي تيقّنت بعد المشاهدة بتوحيد الذات و الفعل، و تهلّلت عن إخلاص بعد ما ظهرت الحقيقة، و سبّحت بعد ما رأت العجائب في الخلق و في النفس، و حمدت بعد ما أفاض اللّه تعالى عليها من النّعم، فهم للحقّ واجدون و للخلق مشاهدون، فبارك اللّه تعالى في عمرهم، و تجلّى على قلوبهم، لأنّهم ساروا على نهج محمد صلّى اللّه عليه و آله و اقتدوا بخلفائه المعصومين عليهم السّلام، و نبذوا الدنيا لأهلها، و توكّلوا على خالقهم في الأشياء كلّها، و في الآنات جميعها؛ و تواضعوا للعلم و الحقيقة، فاكتسبوا أيضا من الخلائق الّتي خضعت لخالقها و أشرقت بكلمة كُنْ فَيَكُونُ * أسمى صفاتها، و أعرضوا عن ذمامها و علّموا غيرهم بمختلف درجاتهم و طبقاتهم، و تحمّلوا عناء التعلّم من الّذين لم ينالوا شرف العزّ و العرفان إلاّ لأجل سعادتهم، تقرّبا لوجهه الكريم و بثّا لما أنعم من الفضائل عليهم بإذن منه جلّ شأنه؛ و لذا عطف عزّ و جلّ على الطيّبات وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ اَلْجَوارِحِ ، أي: كاسبة لها لياقة الكسب و الخروج عن ظلمات الجهل، مُكَلِّبِينَ مسلّطين على مخالفة الهوى، مشدّدين على هداية الناس تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمّا عَلَّمَكُمُ اَللّهُ ترشدون الفئة الضالّة الى طرق التوحيد، و تأدبونهن بآداب الشريعة الّتي فيها السعادة و ارتياح النفس ممّا ألهمكم اللّه تعالى؛ لأنّ العلم إمّا إلهام رباني أو مكتسب عقلائي، فهما منحة منه جلّ شأنه فَكُلُوا مِمّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ بالتوجّه و استيعاب الضمير بأخذ العبرة و الدلالة في عجائب خليقته، و بما منح اللّه من الألطاف المنتشرة على ما سواه، وَ اُذْكُرُوا اِسْمَ اَللّهِ فتوجّهوا إليه لأنّه أخرجكم من ظلمات الجهل الى نور العلم، و رزقكم من أنواع الطيّبات، و باسمه أشرقت الكائنات و تجلّت، فلا اسم أشرف و أعزّ و أكرم من اسمه، فهو السموّ الواقعي المنحصر به، و هو اللائق بالذكر على جميع الأشياء دون غيره، و به تنكشف المهمات، و تقضي الحاجات، و به يدخل المؤمن الجنّة، و بنسيانه يدخل المنافق النار، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في جميع الشؤون و تمام الحالات؛ لأنّها السبيل الوحيد لنيل السعادة

ص: 393

و كسب الفضائل، و بها يبتعد الشيطان و يرغم أنفه، و هي البذرة للوصول الى المعالي إِنَّ اَللّهَ سَرِيعُ اَلْحِسابِ في أقرب ما يمكن من الزمان و المكان؛ لأحاطته التامّة على كلّ ما جلّ ودق، فيحاسبكم على نواياكم، فكيف أعمالكم و أفعالكم اَلْيَوْمَ تقييد إحلال الطيّبات - بعد ذكرها مطلقا، و بمعناها الوسيع كما مرّ - باليوم لأجل بيان أمر واقعي و حقيقة منوطة به، و هي أنّ حلّية الطيّبات موقوفة على الولاية، و لو لاها لما طابت و إن كانت طيّبة من كسب اليد، و الوجه الحلال إلاّ أنّها بحسب الظاهر لأجل حفظ النظام لا للكمّل من الإيمان، فالمراد من اليوم الزمان الخاصّ الّذي تجلّى فيه سبحانه و تعالى بإكمال دينه و تنفيذ ولايته على لسان حبيبه صلّى اللّه عليه و آله، و أُحِلَّ لَكُمُ اَلطَّيِّباتُ من الأخلاق الجميلة و الصفات الحميدة، و الأفعال الحسنة، و العلوم النبيلة و السبل المستقيمة، فإنّ جميعها حلّ للمؤمن الملتزم بما أنزله اللّه تعالى؛ لأنّه مثال للطيّبات لما اقتبسه من الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام، و لذا قال تعالى: وَ طَعامُ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ بتنوير قلوبكم بنور العلم و المعرفة بالعروج من حضيض البهيمة إلى أوج العظمة من الكمال، بالاقتداء بالأنبياء و الأولياء، وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ لأنّ المعارف الإلهيّة النازلة على قلب أشرف من في الورى لا اختصاص لها بأحد، فللجميع الفوز من هذا المنبع، و النيل من هذا المشرب بعد عناء كسب الأهليّة. نعم للنبي الكريم صلّى اللّه عليه و آله لاختصاص بالمقام المحمود و بالمشرب المحبوب: «أبيت عند ربّي يطعمني و يسقيني لا يشاركه فيه ملك مقرّب و لا نبي مرسل»، فعلّهم يهتدون الى الحقّ و يميزون الخبيث من الطيب بطعامكم و علومكم، وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلْمُؤْمِناتِ أي: اللاتي أحصنّ أنفسهن عمّا لا ينبغي، و إنّها الخواص من هذه الامة، و هي طائفة أدركت حقائق الدين، و كشفت أسرار القرآن المبين، و وصلت الى قمّة الإيمان و أعلى مراتب اليقين، حلّ لكم أن تقتبسوا منهن و تركنوا إليهن، سواء كانوا من المؤمنين أم المؤمنات لما حصنت نفوسهم بإطاعة اللّه تعالى و مخالفة الشيطان، وَ اَلْمُحْصَناتُ مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ و هي الحقائق في الكتب المنزّلة على السالفة

ص: 394

الّتي أحصنت من كلّ سوء، فإنّها كلّها لكم، بها تبلغون الكمال المنشود، إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ ببذل الوجود بعد مخالفة الهوى، فإنّها مهور هذه الأبكار و الحقائق، غَيْرَ مُسافِحِينَ بتصرّف الهوى و التعدّي بالانحراف عن الشرع، وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ بأن لا يلتفت إلى غير اللّه تعالى و لا يتّخذ الدنيا مأربا و من فيها صاحبا، بل يكون هو جلّ شأنه الصاحب، و الناصر، و المعين، و الحافظ و لا غيره وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ و بهذه الكمالات و يحرم نفسه من النيل الى المقامات، فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ لأنّه انحرف عن الصراط المستقيم، و بعد عن الحقّ القويم، وَ هُوَ فِي اَلْآخِرَةِ مِنَ اَلْخاسِرِينَ لأنّه غبن نفسه بالميل عن الطيّبات الى الخبائث و النزول الى الهاوية بمتابعة الهوى و الشيطان الّذي هو على جانب النقيض من المؤمنين المخلصين، و العرفاء الموقنين، و السالكين إلى اللّه تعالى الّذين ليس في قلوبهم سواه عزّ و جلّ و لم تتّجه نفوسهم لغيره جلّ شأنه، و تفانوا في اللّه جلّت عظمته، فأفاض سبحانه و تعالى عليهم ما لا عين رأت و لا اذن سمعت و لا خطر على قلب بشر كما في القدسيات.

و للبحث تتمّة و إن لم أر لهذه البحوث العرفانيّة إقبالا عمليّا إلاّ من أخصّ الخواص؛ لأنّ غيرهم توجّهوا للمظاهر و تركوا الحقائق، و أخذوا بالقشور و رفضوا اللباب، فإليه جلّت عظمته المشتكى من مكائد الشيطان، و قال شاعرهم:

تركت هوى سعدى و ليلى بمعزل *** و صرت الى علياء أول منزل

فنادتني الأكوان من كلّ جانب ألا أيّها الساعي رويدك فأمهل

غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد لغزلي نسّاجا فكسّرت مغزلي

و يأتي في الموضع المناسب ما يتعلّق بالبحث مفصّلا، و الحمد للّه أوّلا و آخرا، و له الشكر على ما أنعم، و الصلاة و السلام على أشرف خلقه محمد و آله الطيّبين و الطاهرين.

ص: 395

المجلد 11

اشارة

بطاقة تعريف:سبزواري، سیدعبدالاعلی، 1288؟ - 1372.

عنوان واسم المؤلف: مواهب الرحمن في تفسیر القرآن/ عبدالاعلی موسوی السبزواري.

تفاصيل المنشور: موسسه اهل البیت - بیروت 1414

مواصفات المظهر:11 ج.

الموضوع: التفسيرات الشيعية -- قرن 14

ترتيب الكونجرس: BP98/س23م8 1372

تصنيف ديوي: 297/179

رقم الببليوغرافيا الوطنية: م 74-426

معلومات التسجيلة الببليوغرافية: فاپا

ص: 1

اشارة

ص: 2

ص: 3

ص: 4

تتمة سورة المائدة

اشارة

بِسْمِ اَللّهِ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ (7) تعتبر الآيتان الشريفتان من الآيات التربويّة التهذيبيّة، التي تهتم بالجانب المعنوي من الإنسان أكثر من الجانب المادي الذي سبق الاهتمام به في الآيات السابقة، حيث ذكر سبحانه و تعالى فيها ما يتعلّق بلذائذ الطعام، و طيّبات الأكل، و ملذّة النكاح و غيرها.

و خصّ تبارك و تعالى في هاتين الآيتين الشريفتين الصلاة بالذكر؛ لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها، و تعدّ بحقّ من أعظم الروابط الخلقيّة مع خالقهم و أكبر الطاعات.

و لا ريب أنّ الصلاة لها من الشروط و الآداب و الأحكام ما لم تكن في غيرها من الطاعات، فذكر في الآية الأولى أعظم مقدّمة من مقدّماتها و شرطا عظيما من شروطها، و هي الطهارة - الحاصلة من الوضوء و الغسل و التيمّم - التي

ص: 5

تعدّ هي بنفسها عبادة عظيمة يتقرّب بها إلى اللّه سبحانه و تعالى، و يحفظ فيها عهدا من العهود الربوبيّة، فهي حسن على كلّ حال، كما ورد في الحديث، و لأهمّيّتها فقد ذكر عزّ و جلّ حكم بعض هذه الطهارات في سورة النساء أيضا، فقال تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: 43]، إلاّ أنّ آية المقام أوضح أسلوبا و أبين حكما، حيث ذكر مواضع الطهارة و طريقتها و موجباتها و الغاية منها و شروطها.

ثمّ بيّن سبحانه و تعالى أنّ الغرض من تلك الأحكام و التكاليف هو تطهير النفوس - من درن الرذائل و الآثام - و الأبدان من أنواع الخبائث و الأدناس. و لم يرد سبحانه و تعالى منها إيقاع المكلفين في الحرج و المشقّة، فإنّه تعالى أعظم و أكبر من ذلك، فقد شرّع من الأحكام في الحالات الاضطراريّة ما يهوّن عليهم و يخفّف عنهم.

و أخيرا صرّح عزّ و جلّ أنّ تلك التكاليف و التشريعات هي من المواثيق التي أخذ عزّ و جلّ العهد عليها من المؤمنين بالسمع و الطاعة، فيجب عليهم الوفاء بها و تنفيذها و مراقبته تعالى بالتقوى و الشكر على تلك النّعم الإلهيّة.

و بذلك لم تخرج هاتين الآيتين الشريفتين عن الهدف الذي نزلت هذه السورة الكريمة لأجله، و هو إعداد المؤمن إعدادا عقائديّا و عمليّا، و تربيته بالتربية الإلهيّة، و إرشاده إلى الكمال الواقعي و السعادة الحقيقيّة.

و يرشد إلى ذلك الابتداء بخطاب المؤمنين بالنداء الربوبي الذي يتضمّن معاني دقيقة، و إشارات عرفانيّة، و حقائق منطوية لم تكن في أي خطاب آخر، مذكّرا لهم بما افتتحت به هذه السورة بالوفاء بالعهود التي أخذها اللّه تعالى عليهم.

ص: 6

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا .

تقدّم الكلام في هذا الخطاب الربوبي، و ذكرنا أنّه يشتمل على جملة من العهود و الالتزامات و التوجيهات و الإرشادات، و يكفي في عظمته أنّه تعالى يخاطب أحبّ عباده إليه، و يورده متى ما أراد تشريع حكم و بيان إرشاد أو توجيه ربوبي.

قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ .

بيان لشرطيّة الطهارة للصلاة، و إرشاد إلى أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها، بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة، و تأكيد لحفظ شرعيّة الوضوء و حفظ صورته بالقيام بما ورد في الشريعة من الأحكام و الآداب فيه.

و تقدّم الكلام في مادة (قوم) في قوله تعالى: اَلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ اَلصَّلاةَ [سورة البقرة، الآية: 3] و اختلف العلماء و المفسّرون في المراد من القيام في المقام، و لكنّ الظاهر المنساق من الآية الكريمة أنّ المراد منه هو إرادة الصلاة بالتهيؤ إليها، فإنّه قد يعبّر بالفعل و يراد منه إحدى المقدّمات القريبة منه، كما أنّ العكس أيضا صحيح، إما لعلاقة الملازمة و السببية، أو لعلاقة الأوّل و المشارفة، أو لشدّة الارتباط بينهما، و قد ورد كلاهما في الاستعمالات الصحيحة و كلمات الفصحاء، ففي القرآن الكريم قال تعالى: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ اَلصَّلاةَ [سورة النساء، الآية: 102]، حيث استعمل الفعل و هو القيام و أريد منه المقدّمات القريبة الملازمة للقيام للصلاة، أي: إذا أردت و أقمت لهم الصلاة، و قال تعالى: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اِسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً [سورة النساء، الآية: 20]، أي: إذا طلّقتم زوجا و جئتم بأخرى.

و في المقام يراد من القيام إرادة الصلاة، فليس المراد منه القيام مقابل الجلوس الذي هو فعل من أفعال الصلاة؛ لأنّه قيام للصلاة كالركوع و السجود، لا

ص: 7

قيام إلى الصلاة، و يدلّ على ما ذكرنا سياق التعبير في الآية المباركة إِلَى اَلصَّلاةِ و موقعه العملي؛ لأنّها عمل و كلّ عمل لا يتحقّق إلاّ بالإرادة. و بعض الروايات، في تفسير العياشي: «عن بكير بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام في قول اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ قلت:

ما عنى بها؟ قال عليه السّلام: من النوم». و مثلها غيرها، فإنّها تدلّ على أنّ المراد هو القيام التهيؤي للصلاة بالخروج عن الأحداث الموجبة للطهارة، و ذكر النوم إنّما هو من باب المثال، فتكون هذه الروايات مخصصة لعموم الآية الشريفة الدال على وجوب الوضوء لكلّ صلاة، فإنّها تختصّ بالمحدثين من المكلّفين، و أما غيرهم فيستحبّ لهم الوضوء لما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، و لما يستفاد من ذيل الآية الشريفة من أنّ الغرض من تشريع الطهارات هو تطهير النفوس و الأبدان، و هو حسن على كلّ حال، و سيأتي في البحث الفقهي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ .

تفصيل لأعمال الوضوء بتعيين مواضعه حسب الترتيب، و هي غسل الوجه و اليدين، و مسح الرأس و الرجلين.

و الغسل (بالفتح) إمرار الماء على الشيء لإزالة ما عليه من الوسخ و غيره و تنظيفه منه، و إطلاقه من دون تحديده بأمر يقتضي الأخذ بما يجري عليه العرف في الغسل بالماء على النحو الذي لا يؤتى به لإزالة الوسخ و الدرن، لاحتياجه إلى كثرة إفاضة الماء و استيلائه على الوجه، بل يكفي فيه ما يحصل به غسل ما هو نقي عن الوسخ و الحاجب للماء عن البشرة.

و لا ريب في أنّ العرف و العادة في مثل ذلك يقضي بإمرار الماء باليد اليمنى - المعدّة للأعمال المحترمة - من دون الغسل بكلتا اليدين، إلاّ في مقام كثرة الإفاضة زيادة على مسمّى الغسل، كإزالة الخضاب و نحوه، و استعمال اليد اليسرى لا يكون

ص: 8

إلاّ في ما هو خارج عن الغسل، كصبّ الماء من الإناء في اليمنى و نحو ذلك، فلا دخل لها في الغسل.

و الرجوع إلى العرف في تشخيص المراد و تعيينه و بيانه هو القاعدة المتبعة في كلّ الموضوعات المأخوذة في الشريعة الإسلاميّة، إلاّ إذا أورد من الشرع بيان أو تحديد خاصّ فيجب اتباعه حينئذ، و المسألة محرّرة في علم الأصول. هذا ما يتعلّق بالغسل.

و أما الوجوه، فهي جمع وجه، و هو ما يستقبل من الشيء عند المواجهة و المشافهة و الرؤية، و في الإنسان ما فيه العين، و الأنف، و الفم، و هي ما يستقبل عند الرؤية. و إطلاقه يشمل جميع ما يسمّى وجها عند العرف، فيشمل شعر اللحية و الشارب أيضا، و ما هو الظاهر منه دون البواطن، لأنّها ممّا يستقبل عند الرؤية، و حدّه عندهم من جانب الطول من قصاص شعر الناصية في مستوى الخلقة إلى آخر الذقن، و من جانب العرض ما دارت عليه الإبهام و الوسطى، و هذا هو المنقول في الروايات الواردة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، فتدلّ على أنّه لم يرد تحديد خاصّ من الشرع المقدّس في الوجه، فالمرجع فيه العرف، فهو كما ذكرناه، فإذا لم يغسله كلّه لم يتحقّق منه الامتثال.

كما أنّ المعتاد الذي ينسبق إليه الذهن أن يكون من أعلاه إلى أسفله، دون العكس، و العرف هو المناط في الإطلاق، فلو أراد المتكلّم غيره، فلا بدّ من بيانه و النصّ عليه بما يكون حاضرا في ذهن المخاطب حين الامتثال، كما هو مفصّل في علم الأصول. و قد ذكر العلماء و المفسّرون في بيان الغسل و الوجه أمورا لا تخلو عن المناقشة، و الحقّ ما ذكرناه فيهما فراجع كتب الفقه و التفسير.

قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ .

أي: و اغسلوا أيديكم إلى المرافق، تقدّم الكلام في الغسل، و الأيدي جمع يد، و هو اسم للعضو المعروف من أطراف الأصابع إلى الكتف، و لا يدخل في مسماّها الشعر، فلا يكفي غسله عن غسل البشرة.

ص: 9

و مرافق: جمع المرفق (بالكسر فالفتح) و قرئ بالعكس، و لكنّ الأوّل أفصح، و هو مجمع عظمي الذراع و العضد، و إنّما ذكر بلفظ الجمع باعتبار صورة الخطاب بالجمع يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا ، و إن كان لكلّ مكلّف مرفقان فإنّه يصحّ الخطاب به أيضا، نظرا لانحلال الخطاب إلى خطابات متعدّدة، كما هو الشأن في كلّ عامّ إفرادي، إلاّ أنّه لا يصحّ حلّ جمع الأيدي إلى أفرادها، فيقال: و يدكم إلى المرافق، و سيأتي مزيد بيان.

و تحديد غسل الأيدي إلى المرافق قد جرى على ما هو المتعارف أيضا، لأنّ معظم مقاصد اليد إنّما يحصل بما دون المرفق إلى الأصابع، و أنّها المعرّضة لما يحتاج إلى الغسل دون ما كان من ناحية الكتف إلى المرفق، و لأجل ذلك تسمّى هذه القطعة باليد، تسمية البعض باسم الكلّ ، كما تقدّم، فصار اليد مشتركا عند العرف، و لعلّ ذلك كان هو الموجب لتحديد اليد في المقام و نصب القرينة عليه بتقييد اليد إلى المرافق، ليكون الواجب هو غسل اليد إليها، و لم يكن الأمر كذلك في الوجوه، فكان المرجع فيها العرف، كما عرفت آنفا.

و من ذلك يعرف أنّ (إلى) في المقام لتعيين المغسول و تحديده، كما هو المعروف في نظائر المقام، تقول: اغسل ثوبك إلى جيبه، و اخضب كفّك إلى مفصل الزند، و اصقل السيف إلى ضبّته و نحو ذلك، فيكون الغسل مطلقا غير مقيّد بالغاية، فيصحّ أن يبتدأ من المرفق إلى أطراف الأصابع، كما يحتمل العكس، و حينئذ لا بدّ في تعيين أحد الاحتمالين من الرجوع إلى القرائن الحافّة، أو ما ورد في السنّة الشريفة.

أما القرائن، فإنّ المتعارف في مثل غسل اليد أن يكون الابتداء من الأعلى إلى الأنامل، و أنّ النكس في مثل ذلك ممّا يستلزم صعوبة، و حينئذ لا يبقى إطلاق للآية الشريفة.

و أما السنّة، فقد ورد من الفريقين ما يدلّ على كون الغسل من الأعلى إلى الأسفل، فقد أخرج الدّارقطنيّ و البيهقيّ في سننهما عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان

ص: 10

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه»، فإن ظاهره هو الابتداء من المرفق.

و أخرج أحمد و مسلم عن عمرو بن عتبة عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في حديثه: «و إذا غسل وجهه - كما أمره اللّه تعالى - الاّ خرّت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثمّ غسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرّت خطايا يديه من أطراف أنامله مع الماء - الحديث»، فهو بجملته يدلّ على أنّ منتهى مجرى الغسل و مجرى الماء هو أطراف اللحية و أطراف الأصابع.

و أما ما ورد عن الأئمة الهداة عليهم السّلام في أنّ الابتداء بالمرافق إلى أطراف الأصابع، فهو كثير بلغ حدّ التواتر، و عليه إجماع الإمامية و عملهم، و سيأتي نقل بعضها في البحث الروائي.

و بعد ذلك فلا غرابة في الحكم بابتداء الغسل من المرافق، كما زعمه الآلوسي في تفسيره، مدّعيا بأنّه لم يجد في ذلك مستمسكا، فإنّ الحكم صحيح، و المستمسك ظاهر الآية الكريمة مع القرائن و السنّة الشريفة، كما عرفت.

و من ذلك كلّه يعرف أنّه لا وجه للأخذ بإطلاق الغسل تمسّكا بإطلاق ما ورد في نظائر المقام، لأنّ القرائن و ما ورد في السنّة الشريفة لا يبقي إطلاقا للآية الشريفة.

كما يظهر بطلان ما ذكره جمع من رجوع القيد إلى الغسل دون المغسول، فيكون ظاهر قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ وجوب الابتداء في الغسل من أطراف الأصابع و الانتهاء إلى المرافق، فإنّ ما ذكرناه آنفا لدليل على عدم رجوع كلمة (إلى) إلى الغسل، فيكون الظاهر من الآية المباركة منضما إلى ما ذكر من القرائن و السنّة هو وجوب الابتداء من المرافق و الانتهاء إلى أطراف الأصابع، فلو نكس، لم يصحّ و ضوؤه، لأنّه خلاف المأمور به.

ثمّ إنّه قد أطنب الكلام في دخول المرافق في الغسل، فكأنه لم تكن في الآية

ص: 11

الشريفة بحوث إلاّ هذا البحث، و الحقّ أنّه لا يمكن أن يستفاد من الآية المباركة دخولها في الغسل و لا عدم دخولها، فهي مجملة من هذه الناحية، فلا بدّ أن يستفاد أحد الاحتمالين من الخارج و قد ورد في السنّة الشريفة ما يدلّ على دخولها في الغسل، و تقدّم حديث جابر الحاكي عن فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و لعلّ دخولها يكون ممّا زاده صاحب الشريعة مثل ما زاد في الصلوات الخمس، كما نطقت به الأخبار الصحيحة، أو من باب المقدّمة العلمية.

و أما القول بأنّ (إلى) بمعنى مع، أو القول بدخول الغاية في المغيّى إذا كانا من جنس واحد، فلم يقم عليه دليل معتبر، و سيأتي مزيد بيان في البحث الأدبي إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ .

المسح: إمرار اليد أو كل عضو لا مس على الشيء مباشرة أو بآلة، و هو تارة: يكون مع الاستيعاب، و اخرى يكون بغير استيعاب، و يختلف باختلاف القرائن، و المعروف بين العلماء أنّه إذا عدّي بنفسه أفاد الاستيعاب، و إذا عدّي بالباء سواء كانت للآلة أم غيرها، دلّ على التبعيض، يقال: مسحت العرق بالمنديل، أو مسح يده بالمنديل، أو مسح الشيء بالماء ليزيل ما علّق به من غبار و نحو ذلك.

و لا ريب في أنّ المسح يتقوّم بتحريك الماسح على الممسوح، فوضع اليد أو الإصبع على الرأس لا يسمّى مسحا.

و أسلوب الآية المباركة يدلّ على كفاية مسح بعض الرأس، لمكان الباء، و هو ما يسمّى مسحا في اللغة أيضا.

و أما تعيين الجانب الذي يجب إمرار الماسح عليه و مقدار المسح، فهما خارجان عن مدلول الآية الشريفة، فلا بدّ من تعيينهما من السنّة الشريفة، و قد ورد فيها ما يدلّ على كونه في مقدّم الرأس، و كفاية مقدار إصبع واحدة في الامتثال، و إن كان الأفضل أن يمسح بمقدار ثلاث أصابع.

ص: 12

و إطلاق الآية الكريمة يدلّ على جواز النكس في مسح الرأس، فإنّه لم يكن هنا عرف أو دليل آخر ليكون موجبا لصرف الإطلاق، كما كان في غسل الوجه و اليدين، و لكنّ الأفضل تركه لما دلّت عليه بعض الروايات.

و على جميع الأحوال فلا تدلّ الآية الكريمة على وجوب مسح جميع الرأس. هذا و أنّ لعلماء الجمهور و مفسّريهم في تفسير الآية المباركة أقوالا و مذاهب هي بعيدة عن سياقها، بل تنافي فصاحة القرآن الكريم و الذوق الأدبي الرفيع، فراجع.

قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ .

مادة (كعب) تدلّ على العلو، و منه سمّيت الكعبة. و كعبت المرأة إذا فلك ثديها، و الكاعب هي الجارية التي نهد ثديها و علت، و كعب القناة هو أنبوبها، و في الحديث: «و اللّه لا يزال كعبك عاليا»، دعاء بالشرف و المجد تشبيها.

و الكعبين قيل: هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق و القدم عن الجنبين.

و قيل: هو عظم مائل إلى الاستدارة، واقع في ملتقى الساق و القدم نات في ظهر القدم، و يدخل نتوئه في طرف الساق، و هو الذي يطلق عليه المفصل، لمجاورته له.

و إذا راجعنا كلمات أهل اللغة و علماء التشريح، يظهر أنّ المعنى الثاني هو المراد من الكعب حيث أطلق، إلاّ إذا دلّ دليل على غيره، و يظهر ذلك أيضا من التتبع في الأخبار المعصومية عليهم السّلام كما يأتي نقل بعضها، و عن ابن الأثير أنّه «مذهب الشيعة»، و استشهد بأحاديث تدلّ على ذلك.

و الرجل يطلق على الكلّ و الأبعاض، فتطلق على القدم، و على ما تحت الركبة، و على ما يشمل الفخذ، فقد حدّ عزّ و جلّ الرجلين إلى الكعبين، ليكون غاية للممسوح، على نحو ما ذكره في غسل اليدين. و أما المسح بالبعض أو الكلّ فسيعرف من البحث الآتي.

و قد اختلف العلماء و المفسّرون في إعراب الجملة على وجوه:

الأوّل: النصب عطفا على الأيدي، فيكون العامل «اغسلوا»، فيجب غسل الأرجل، و قد استدلّ على هذا الوجه بأمور:

ص: 13

الأوّل: أنّه قراءة متواترة، كما ادّعاه بعض، فقد قرأها نافع، و ابن عامر، و حفص، و الكسائي، و يعقوب و غيرهم.

الثاني: أنّ في الآية المباركة تقديما و تأخيرا، أي تأخير الأرجل، و لكنّها في الواقع مقدّمة، فقد روى أبو عبد الرحمن قال: «قرأ عليّ الحسن و الحسين عليهما السّلام فقرأ:

«و أرجلكم إلى الكعبين»، فسمع علي عليه السّلام ذلك و كان يقضي بين الناس فقال:

«و أرجلكم» هذا من المقدّم و المؤخر من الكلام»، و مراده عليه السّلام كما نقله السدي:

اغسلوا وجوهكم و اغسلوا أرجلكم إلى الكعبين و امسحوا برءوسكم.

الثالث: أنّ غسل الأرجل هو قول جمهور الفقهاء و المفسّرين، و عليه عمل الصدر الأوّل، بل إجماع الصحابة عليه. و من ذهب إلى المسح من الصحابة قد ثبت عنهم الرجوع عن ذلك.

الرابع: أنّ السنّة الصحيحة تدلّ عليه، و أحسن ما نقل في هذا الباب ما ورد في الصحيحين عن ابن عمر قال: «تخلّف عنّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في سفره فأدركنا و قد ارهقنا العصر، فجعلنا نتوضّأ و نمسح على أرجلنا، قال: فنادى بأعلى صوته: ويل للأعقاب من النار، مرّتين أو ثلاثا». و قال البخاري: «إنّ الإنكار عليهم كان بسبب المسح، لا بسبب الاقتصار على بعض الرجل»، و غيرها من الروايات التي نقلها أرباب الصحاح و السنن.

الخامس: إمكان إرجاع قراءة الجرّ إلى قراءة النصب، و قد ذكروا له توجيهات. منها: أنّ العطف في الواقع على الأيدي، و أنّ الجرّ إنّما هو للاتباع، كقوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء، الآية 30]. و قولهم: هذا حجر ضب خرب، فجرّوه و إنّما هو رفع.

و منها: أنّه من قبيل العطف في اللفظ دون المعنى، كقوله: علقتها تبنا و ماء باردا.

و منها: أنّ العطف و إن كان في محلّه، إلاّ أنّ المسح خفيف الغسل، فهو غسل بوجه، فلا مانع من أن يراد بمسح الأرجل غسلها، و يقوي ذلك أنّ التحديد إنّما

ص: 14

جاء في المغسول، و هو و الوجوه و الأيدي، و لم يجيء في الممسوح، فالتحديد في الأرجل يدلّ على أنّ الحكم فيها الغسل.

و منها: أنّه يجوز تقدير: امسحوا قبل «ارجلكم»، فيكون من عطف الجمل، فإذا تعدّد اللفظ فلا بأس بأن يتعدّد المعنى، فيكون المسح المتعلّق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، و المسح المتعلّق بالأرجل بالمعنى المجازي، و لا بأس بأن يجمع بين الحقيقة و المجاز، أو يستعمل المشترك في معنييه.

السادس: أنّ الغسل و المسح كليهما مرويان عن السلف من الصحابة و التابعين، و قد عمل بهما جمع كثير، و لكنّ العمل بالغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلاّ في مسح الخفّين.

السابع: أنّه يمكن الجمع بين القرائتين و الآراء المختلفة في الغسل دون المسح، و لا ريب أنّ الجمع مهما أمكن أولى من الطرح، فيتمسح في أثناء الغسل، لأنّ الغسل هو إمرار الماسح على الممسوح و إلصاقه به، و صبّ الماء لا يمنع منه، بل يتحقّق به.

و إطلاق الأمر يقتضي المسح و لو ببل اليد بالماء و مسحها بالرأس، لمكان باء الإلصاق، و لم يكن الأمر كذلك في الرجلين، فكان الظاهر أن يغسلهما و يمسحهما في أثناء الغسل بإدارة اليد عليهما.

الثامن: أنّ الغسل: يجمع المسح و زيادة فإنّه تحصل به الطهارة، أي: المبالغة في النظافة التي شرع الوضوء و الغسل لأجلها، كما هو منصوص عليه في الآية المباركة، فالمسح يدخل في الغسل دون العكس.

التاسع: أنّه لا يعقل لإيجاب مسح ظاهر القدم باليد المبللة حكمة، بل هو خلافها، لأنّ طرو الرطوبة القليلة على العضو الذي أصابه غبار و وسخ، يزيد في و ساخته و ينال اليد الماسحة حظّ من هذه الوساخة.

العاشر: أنّهم اتّفقوا على أنّ من غسل قدميه فقد أدى الواجب عليه،

ص: 15

و اختلفوا في من مسح قدميه، فاليقين ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه.

هذه هي أهمّ ما استدلّوا به على ترجيح قراءة النصب و الحكم بالغسل في طهارة الرجلين.

الوجه الثاني: الجرّ عطفا على لفظ «رؤوسكم»، فيكون العامل (الباء)، و هي قراءة جمع غفير مثل ابن كثير، و حمزة، و ابن عمرو، و عاصم، كما هي قراءة أهل البيت عليهم السّلام، فقد روى الشيخ الطوسي قدس سره عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قوله اللّه تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ على الخفض هي أم على النصب ؟ قال عليه السّلام: و هي الخفض». و ادّعى جمع تواتر هذه القراءة، فيكون الحكم في طهارة الرجلين هو المسح دون الغسل.

و أهمّ ما استدلّوا به على هذا الوجه امور:

منها: القرب و عدم الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه، الذي هو من المرجّحات المعروفة، بل المسلّم عليه عند النحويين.

و منها: أنّ العطف على الوجوه خارج عن قانون الفصاحة و أسلوب العربية، فإنّ اللّه تبارك و تعالى بيّن حكم الغسل و مواضعه، ثمّ قطع الكلام و بيّن حكم المسح و مواضعه، فلا يصحّ أن يعطف أحدهما على الآخر بعد القطع بينهما، و يدلّ عليه ما رواه زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين ؟ فضحك ثمّ قال: يا زرارة - الحديث».

و منها: الأخبار الكثيرة التي تدلّ على أنّ المسح كان فعل صاحب الشرع صلّى اللّه عليه و آله و بعض أصحابه مثل علي عليه السّلام و ابن عباس، و أنس و غيرهم، و التابعين، و أهل البيت عليهم السّلام عامّة و شيعتهم و تابعيهم، و قد اشتهر الحديث المروي بطرق مختلفة عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء غسلتان و مسحتان، من باهلني باهلته».

و أما الأخبار المرويّة عن الأئمة الهداة (سلام اللّه تعالى عليهم)، فقد بلغت حدّ التواتر و لا يمكن إنكاره، و هي تنصّ على أنّ الحكم هو المسح، و أنّ غيره

ص: 16

باطل، و شدّدت النكير على مخالفيهم، و سيأتي نقل بعضها، و حمل العلماء ما يدلّ على الخلاف على بعض المحامل، كما هو مذكور في الفقه.

الوجه الثالث: الرفع، و هي قراءة الحسن، و لم تنسب إلى غيره، على أن تكون «أرجلكم» مبتدأ و الخبر محذوف، و قد حمل بعضهم هذه القراءة على قراءة النصب بتقدير (مغسولة). كما حملها آخرون على قراءة الجرّ بأن يكون (ممسوحة).

إذا عرفت ذلك، فالصحيح من هذه الوجوه هو الوجه الثاني، لأنّ الوجه الأخير غير معروف، و خلاف الإجماع المركّب، و مخالف لظاهر الآية الشريفة و القواعد المعروفة في علم النحو كما هو واضح، يضاف إليها أنّه لا يمكن استفادة حكم معيّن منها كما عرفت آنفا.

و أما الوجه الأول، فهو مردود من جهات كثيرة، و ما استدلّوا به لإثباته قابل للمناقشة، نذكرها في المقام على نحو الإيجاز، و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.

أما أوّلا: فإنّ دعوى تواتر قراءة النصب كما مرّت غير ثابتة، لأنّ التواتر قد حصل بعد عصر النزول و بعد ثبوت قراءة الجرّ و روايتها عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و بعض كبار الصحابة، مثل علي بن أبي طالب الذي ورد فيه: «أنّه مع الحقّ »، و ابن عباس الذي يعدّ حبر هذه الأمة، و أئمة أهل البيت عليهم السّلام، و لا ريب أنّ قراءتهم أحقّ أن يتبع، لأنّهم أدرى بما في البيت.

و ما قيل: من رجوع القائلين من الصحابة بالمسح، فلم يثبت، لأنّ الروايات التي نقلت عن الأئمة الهداة أولاد علي بن أبي طالب عليهم السّلام كلّها تؤكّد عدم رجوعهم عن قراءتهم.

و على فرض التنزّل و القول بثبوت تواتر هذه القراءة و تعارضها مع دعوى تواتر قراءة الجرّ و فقد المرجح بينهما، فلا بدّ من الرجوع إلى الأدلة الخارجيّة التي سيأتي الكلام فيها.

ص: 17

و من ذلك يعرف بطلان ما قيل من أنّ في الآية الكريمة تقديما و تأخيرا، فإنّه لم يعلم نسبته إلى علي عليه السّلام.

و ثانيا: أنّ ما ذكر في ترجيح قراءة النصب من التوجيهات النحويّة لا يمكن الاعتماد عليها، فإنّ تطبيق الآية المباركة على احتمالات بعيدة لا يزيدها إلاّ بعدا عن الواقع، و سيأتي في البحث الأدبي بعض الكلام.

و ثالثا: أنّ ما ذكر في ترجيح الغسل على المسح من أنّه خلاف الحكمة، أو أنّ الغسل هو المسح و زيادة و غير ذلك ممّا عرفت، فإنّ كلّ ذلك من مجرّد الاستحسان، و احتمالات لا يمكن ابتناء الأحكام الشرعيّة عليها، فإنّ الوضوء و الغسل و التيمّم أمور تعبديّة توقيفيّة، لا بدّ من ورود دليل من الشرع في جميع خصوصياتها، فإذا أمر بالغسل في موضع، لا يجوز المسح فيه، و كذا بالعكس، فإنّه تشريع محرّم يوجب بطلان العبادة، كما هو معلوم.

و لا إشكال من أحد في أنّ الغسل و المسح مفهومان متغايران عند العرف، و يشترط في كلّ واحد منهما ما لا يشترط في الآخر، و من ذلك أنّه يشترط في المسح أن يكون الممسوح خاليا عن الرطوبة الغالبة على ما يكون على الماسح من الرطوبة، و إلاّ لم يتأثّر الممسوح برطوبة الماسح الذي هو قوام المسح، فلو تحقّق الغسل قبل المسح تكون الرطوبة غالبة فيبطل المسح، لانتفاء الشرط، و إن كان بعده فلا فائدة فيه، إلاّ أن يكون بقصد التشريع و الورود، فيوجب البطلان، فلا يمكن الجمع بين الغسل و المسح.

و أما الحكمة المزعومة في الغسل دون المسح، فلا ريب و لا إشكال في أنّ الطهارة و النظافة أمران مندوبان و قد حثّ عليهما الشرع المبين، و لكنّهما لا تنحصران في الوضوء فقط، فإنّ لها طرقا و سبلا متعدّدة، مع أنّ الحكمة في الوضوء لا تنحصر في النظافة الظاهريّة، فلعلّ الغاية منه الطهارة الباطنيّة، ففي الحديث المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «الوضوء نور»، و ما ورد في تفسير الغرّ المحجلين

ص: 18

و غير ذلك ممّا يدلّ على أنّ العمدة هي الطهارة الباطنيّة.

و رابعا: أنّ القول بأنّ الغسل أعمّ و أكثر، و هو الذي غلب و استمر، و لم ينقل غيره إلاّ في مسح الخفّين، فلا يصير مرجّحا، فإنّ العمدة دلالة الدليل و ما يستفاد من ظاهره، مع أنّ للقائلين بالمسح أن يقولوا بأنّ المسح مرويّ عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و الصحابة - كما اعترف به الخصم - و هو الذي غلّب عندهم و استمر، و لا مرجّح لمذهب غيرهم على مذهبهم.

و خامسا: أنّ ما ذكره بعضهم من أنّ جعل الغاية في الرجلين، لدليل على أنّ المطلوب هو الغسل. كما أنّ جعل الكعبين دليل آخر، لأنّ الغسل لا يحصل إلاّ باستيعابهما بالماء، لأنّ الكعبين هما العظمان الناتئان في جانبي الرجلين.

فهو غير صحيح، فإنّ جعل الغاية لا يدلّ على كون المطلوب هو الغسل، بل هو أعمّ كما هو واضح. يضاف إلى ذلك أنّ الغاية ليست للغسل، بل هي غاية للممسوح، على نحو ما ذكرناه في غسل الأيدي.

و أما ما ذكر في معنى الكعب، فقد تقدّم الكلام فيه، و ذكرنا أنّ المراد منه هو العظم البارز في ظاهر القدم، و تقدّم الكلام في وجه إتيان صيغة التثنية، و قلنا: إنّ مثل هذه الخطابات تنحلّ إلى خطابات متعدّدة بتعدّد المخاطبين المكلّفين، فذكر الكعبين باعتبار كلّ مكلّف، و لم يسمع في فصيح الكلام أن تنحل جمع الأرجل إلى أفرادها، فيقال: و أرجلكم إلى الكعب، باعتبار الرجل الواحدة، إلاّ أن يقال:

(و امسحوا بأرجلكم، كلّ رجل إلى الكعب)، و السرّ في ذلك أنّ غير الجموع الخطابيّة لا علاقة لها بحلّها إلى المفردات، إلاّ أن يشار إلى المفرد بالتصريح في الخطاب، كما يقال: كلّ رجل يجب مسحها إلى الكعب، و هو خلاف الفرض.

و من ذلك يعرف أنّه لو كان المراد من الكعب هما العظمين الناتئين في جانبي الرجل لقال: إلى الكعاب، لأنّ في كلّ رجل كعبين، بخلاف ما إذا كان كعب في كلّ رجل، كما عرفت فافهم.

ص: 19

و سادسا: بعد أن عرفت عدم صلاحية تلك الوجوه لترجيح قراءة النصب، ننتقل إلى أقوى الحجج اللفظية لأهل السنّة على الإماميّة، و هي الأخبار التي استدلّوا بها على وجوب غسل الرجلين، و فيها أنّه إذا كانت الآية تدلّ على المسح، فتكون الأخبار ناسخة لها، كما قال به بعض السلف كأنس و الشعبي، فقد نقل عنهم أنّه قال: «أتى جبرئيل بالمسح و السنّة بالغسل»، فحينئذ يأتي الكلام في أنّه هل يجوز نسخ الكتاب بالخبر الواحد؟ و البحث طويل.

يضاف إلى ذلك أنّها متعارضة في ما بينها، فإنّ بعضها يدلّ على الغسل، و بعضها يدلّ على المسح، كما أنّها معارضة بالأخبار التي ينقلها الإماميّة الدالّة على المسح، فلا بدّ من التماس المرجّحات السنديّة و الدلاليّة فيما بينها، و كلّ طائفة تدّعي الترجيح و لو فرضنا تعادلها من جميع الجهات، فيطرحان و يرجع إلى كتاب اللّه تعالى، و قد تقدّم أنّه يدلّ على المسح دون الغسل. هذا موجز الكلام في المقام و التفصيل يطلب من الفقه و غيره.

و الحقّ أنّ الآية المباركة هي بعيدة عن تلك الوجوه و الاحتمالات الواهية، و لو عرضناها على مستقيم الطبع - الخالي من الشوائب - و الذهن الصافي يأبى حمل الكلام البليغ عليها، و يفهم من ظاهر الآية الكريمة: أَرْجُلَكُمْ معطوفة على ما تقدّم عليها بلا فصل، أي: بِرُؤُسِكُمْ ، و يحكم بوجوب مسح الأرجل في الوضوء، و الأخبار إنّما تؤكّد هذه الجهة فقط و ترشد إليها، لا أن تضيف إلى الآية الكريمة شيئا جديدا. و قد كانت الأمة في غنى عن هذا الجدل العنيف إذا رجعوا إلى كتاب اللّه العزيز و طرحوا التعصّب و العناد، و لم يصل الأمر إلى الآلوسي في تأليف كتاب في الردّ على الإماميّة و التحامل عليهم و اتهامهم بالكذب و توهينهم، حتّى قال صاحب المنار: «إنّ في كلامه - أي الآلوسي - تحاملا على الشيعة و تكذيبا لهم في نقل وجد مثله في كتب أهل السنّة»، مع أنّهم كانوا بحاجة إلى موضوعات أكثر أهميّة و أشدّ نفعا، لو لا التعصب و الجهل اللذان ابتلت بهما هذه الأمة فوقعت في ما

ص: 20

وقعت فيه الأمم الماضية. و قد حذّرنا اللّه تعالى منها أشدّ تحذير، نسأله جلّت عظمته الهداية و التوفيق لما فيه الخير و السعادة.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا .

بيان لنواقض الطهارة و موجباتها، و هي على قسمين: الحدث الأكبر الذي يوجب الغسل، و هي الجنابة. و الحدث الأصغر الموجب للوضوء، و هو البول و الغائط. ثمّ يذكر عزّ و جلّ مسوّغات التيمّم، و به تتمّ الطهارات الثلاث مع ذكر موجباتها و نواقضها و واجباتها.

و الجنب بضم الجيم و النون، من أصابته الجنابة، التي هي معروفة عند المكلّفين، و لها سببان:

أحدهما: ما ذكره عزّ و جلّ في ما يأتي أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ، الذي هو كناية عمّا يستقبح ذكره، أي: الوقاع و الجماع، بلا فرق بين خروج المني و عدمه، فإنّ الموجب هو الدخول.

و الثاني: خروج المني في اليقظة أو المنام، كما دلّت عليه السنّة الشريفة، على ما يأتي في البحث الروائي.

و الجنب مصدر استعمل بمعنى الوصف، و يقع على الواحد، و الاثنين و الجمع، و المذكر و المؤنث، كما يقال: رجل عدل، و امرأة عدل و قوم عدل. و تقدّم الكلام في اشتقاقه و معناه في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43].

و الطهارة: تطلق تارة، و يراد منها المعنى المصدري، أي: نفس الفعل الذي هو الاغتسال. و اخرى: يراد بها معنى الاسم المصدري، أي: الأثر الحاصل من الغسل، و المراد بها في المقام المعنى الأوّل، أي: الاغتسال، كما دلّ عليه قوله تعالى: وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ [سورة النساء، الآية: 43]، و كذلك دلّت عليه جملة من الأخبار، و قد استدلّ بعضهم بالتبادر أيضا.

ص: 21

و الآية الشريفة تبيّن أنّ للطهارة إطلاقين، أحدهما نفس الفعل الذي هو الاغتسال، كما بيّنته آية النساء و الآخر الطهارة الحاصلة بالغسل، فإنّها أثر مترتّب على الفعل الذي هو الغسل.

و الجملة: عطف على جزاء الشرط الأوّل، أي: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم جنبا فتطهّروا.

و قيل: إنّها عطف على جملة الشرط السابق، فلا تكون حينئذ مندرجة تحت القيام إلى الصلاة، بل هي مستقلّة برأسها، فتدلّ الآية الكريمة على وجوب الغسل لنفسه، و استدلّوا على هذا القول بأمور سيأتي ذكر بعضها في البحث الأدبي.

و يستفاد من سياق الآية الكريمة المبالغة في أمر الصلاة، و التأكيد على الطهارة و مطلوبيتها لنفسها. كما أنّها تدلّ على شرطيّة الطهارة لطبيعة الصلاة، و كفاية الغسل للدخول في ما يشترط فيه الطهارة، كالصلاة، و مسّ كتابة القرآن، و قراءة آية السجدة في سور العزائم الأربع، و الدخول في المساجد و غير ذلك، لأنّ المسوّغ في الدخول في ذلك كلّه إنّما يكون بالطهارة و رفع الجنابة، و هو إنّما يتحقّق بالاغتسال، و تدلّ عليه جملة من الروايات، و المسألة محرّرة في كتب الفقه فراجع.

قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى .

شروع في مسوّغات الطهارة الترابيّة بعد ذكر الطهارة المائيّة، و بيان لموارد ترك الوضوء و الغسل و إتيان بدلهما و هو التيمّم. و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الأمور تجمعها عناوين ثلاثة: العجز، و المشقّة، و عدم وجدان الماء، فتكون المذكورات في الآية المباركة بعض المصاديق لها، و هي الأربعة التي يكثر ابتلاء المكلّفين بها و تصاحب فقدان الماء، إما غالبا كالمرض و السفر، أو اتفاقا كالتخلّي و مباشرة النساء، فتدخل في أحد العناوين الثلاثة المتقدّمة.

و لكن ما ذكره عزّ و جلّ منه ما يكون حدثا بنفسه يستوجب الطهارة، كالأخيرين المعطوفين على الأوّلين بكلمة (أو). و منه ما لا يكون كذلك، بل يكون

ص: 22

مظنة لتحقّق الحدث فيه، و هما الأوّلان، أي: المرض و السفر، فإنّهما ليسا بنفسهما يستوجبان الطهارة، بل لأنّهما مظنّة لتحقّق الحدث - سواء أ كان أصغر أم أكبر - فلم تكن المقابلة بين الأخيرين و الأوّلين حقيقيّة، و لذا احتمل بعضهم أن تكون (أو) بمعنى الواو، كما في قوله تعالى: وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصفات، الآية: 147]. و لكنه بعيد، لما ذكرناه آنفا من أنّ الآية الشريفة في مقام بيان مسوّغات التيمّم التي تجمعها العناوين المتقدّمة، و لا ريب في أنّ شاهد الحال و العرف يقضيان باعتبار الحدث في كلّ ما يسوغ التيمّم، فتكون (أو) باقية على ظاهرها من التقسيم و التنويع، لكون المقام مقام التردّد فيه بالطبع، فلا يحتاج إلى التجوّز.

و المراد بالمرض في المقام ما يضرّ معه استعمال الماء، و ما يكون سببا للعجز عن تحصيله، بلا فرق فيه بين أن يكون شديدا أو يسيرا، إلاّ أن يكون يسيره ممّا ليس فيه مشقّة و كلفة، بحيث لا يصدق عليه المرض عرفا.

و إنّما يحكم بالمرض و أقسامه الذي يسوّغ التيمّم التجربة و أهل الخبرة، و تدلّ على ذلك جملة من الروايات، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَوْ عَلى سَفَرٍ .

فرد آخر من الأفراد التي قد يبتلى بها المكلّف ممّا لا يمكن تحصيل الماء فيه، كما يرشد إليه تنكير (سفر)، و الجملة عطف على قوله تعالى: فَامْسَحُوا .

و المعنى: إذا قمتم إلى الصلاة و كنتم على سفر و لم تجدوا ماء فتيمموا، فلا يستفاد من الآية المباركة أنّ هذه الجملة قيد لغيرها من المذكورات.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل السفر الطويل و القصير بما يسمّى سفرا عرفا، بحيث يشقّ فيه تحصيل الماء و يغلب فيه فقدان الماء.

قوله تعالى: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ .

الكلام في عطف هذه الجملة نفس الكلام في سابقتها، و التقدير: إذا قمتم إلى

ص: 23

الصلاة و قد جاء أحد منكم من الغائط فلم يجد ماء، فيتيمم. و قد ذكرنا أنّ هذا الفرد بنفسه موجب للطهارة.

و الآية الشريفة في غاية الأدب و منتهى الفصاحة، حيث كنّي فيها عمّا يستقبح ذكره بأسلوب أدبي رفيع، و بولغ في الإبهام من دون الإضافة التي شوب التعيين رعاية لجانب الأدب.

و الغائط: المكان المنخفض من الأرض، و قد كانوا يقصدونه لقضاء الحاجة تسترا عن أعين الناس و تأدّبا. و قيل: إنّه المطمئن من الأرض. و قيل: عمق الأرض الأبعد.

و كيف ما كان، فسمّي الحال باسم المحلّ حتّى غلب استعماله في معناه المعروف، و هو النجوّ نفسه، كالعذرة التي هي بمعنى عتبة الدار و فنائها، فغلب استعمالها في معناها المعروف، و هو ما يخرج من الأسفل من بقايا الطعام، و المراد به في المقام مطلق الحدث الأصغر الموجب للطهارة الخارج عن أحد السبيلين، كما بيّنته السنّة الشريفة.

قوله تعالى: أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ .

كناية عن الجماع، و هو أيضا أدب قرآني، صونا للسان عمّا يستقبح ذكره، و قد ذكرنا في سورة البقرة أنّ المسّ و اللمس بمعنى واحد. و لعلّ التصريح به في المقام مع أنّه داخل في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً ، لبيان أحد موجبات الجنابة، فيكون تفسيرا لها، أو للإشعار بأنّ الأمر ممّا تقتضيه الطبيعة كسابقه، و لكثرة وقوعها. و لكنّهما يفترقان في أنّ الأوّل حدث أصغر يوجب الوضوء، و الثاني حدث أكبر يوجب الغسل، بخلاف المرض و السفر اللذين هما أمران اتفاقيان.

و قد استجمعت الآية الشريفة جميع الحالات الطارئة للإنسان، الطبيعيّة منها و الاتفاقيّة، و عالجتها بأسلوب أدبي رفيع يفهمه كلّ مكلّف، و هو من إعجاز هذا الكتاب الكريم الذي تحدّى جميع الكتب السماويّة و خضعت له الفصاحة و البلاغة.

ص: 24

و ممّا ذكرناه يعرف فساد ما نسب إلى بعضهم من كفاية مطلق لمس النساء في الطهارة، أخذا بظاهر اللفظ و إبقاء له على معناه الحقيقي من دون حمله على معناه الكنائي، الذي هو أسلوب من الأساليب البلاغيّة المعروفة، مع أنّ سياق الآية الكريمة لا يلائمه، لأنّ الآية المباركة بيّنت الحدث الأكبر ابتداء، ثمّ ذكرت الحدث الأصغر في الحالة الاعتياديّة، ثمّ ذكر الحدث الأصغر في الحالة الاضطراريّة، فلو حملناه على المعنى الذي ذكره يستلزم منه إهمال فرض من الفروض، و هو الحدث الأكبر في الحالة غير الاعتيادية، و عدم بيان حكمه، و هو التيمّم بدل الغسل، و أنّ به تستوفى الفروض.

قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً .

جواب الشرط «إن كنتم»، فيكون المراد من عدم الوجود أعمّ من عدم الوجدان و العجز من تحصيله، و عدم التمكّن من استعماله من جهة المرض و غيره، و هو الأنسب، و العطف بالفاء لبيان أنّ عدم الوجدان إنّما يكون معتبرا لعدم حصول هذه الأسباب.

و قال بعضهم: إنّه معطوف على قوله: «جاء»، فيكون قيدا للسفر، و الغائط، و ما عطف عليه. و يكون حكم من كان المرض مانعا له عن تحصيله - لا استعماله - مستفادا من دليل آخر، و لكنّه تبعيد للمسافة.

كما أنّ القول بأنّه معطوف على «لامستم»، لأنّه أقرب لفظا.

مردود أيضا كما هو واضح، و قد تقدّم الكلام في هذه الآية المباركة في سورة النساء الآية - 40.

و الظاهر منها أنّ المراد بوجود الماء، وجود ما يكفي للطهارة، فلو وجد ما يكفي لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم الفاقد لها أجمع، كما أنّ الظاهر منها أنّه إذا كان قادرا على الطلب في الجملة يجب عليه، إذ مع وجوده في أحد أطرافه لا ينطبق عليه عنوان أنّه لم يجد، و سيأتي في البحث الفقهي ما يناسب الموضوع.

ص: 25

قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً .

التيمّم: هو القصد، و قد استعمل في الشرع في مسح الجبهة و اليدين بالتراب.

و الصعيد: هو وجه الأرض. و قيل: الصعيد هو الغبار الذي يصعد، أي: من الصعود، و لهذا قالوا لا بدّ للمتيمم أن يعلق بيده الغبار.

و لكن ادّعى الزجاج عدم الخلاف بين أهل اللغة أنّه مطلق «وجه الأرض سواء كان عليه تراب أو لم يكن»، و نقل المحقّق عن ابن الأعرابي ذلك أيضا. إذا لا وجه لهذا القول كما هو واضح.

و الطيب: هو الخالص المنزّه عمّا يستخبث و يكره، سواء كان بحسب حاله و ذاته أو المراد منه أو يرغب فيه و منه، فيشمل الطهارة و الإباحة و عدم خروجه عن حالته الطبيعيّة بالطبخ و نحوه، فتكون من وجوه الطيب، و هذا هو الظاهر من موارد استعمال هذه الكلمة في الكتاب و السنّة الشريفة، فيكون ما ورد في السنّة الشريفة مؤكّدا لما تدلّ عليه الآية الكريمة.

و قيل: إنّ المراد بالطيب الطاهر، فيكون دليلا على اشتراط الطهارة لما يتيمم به، و لكنّه تخصيص للآية المباركة بغير دليل، و قد تقدّم الكلام في سورة النساء الآية - 40 فراجع.

قوله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ .

بيان لكيفيّة التيمّم بعد ذكر المتيمم به بلفظ بليغ، و هو بإيجازه يشمل كثيرا من المعاني، و تقدّم الكلام آنفا في المسح، و الوجه، و اليدين، فإنّ الظاهر أنّ المراد منها في التيمّم ما يراد منها في الوضوء، فإنّهما من باب واحد، إلاّ أنّ في التيمّم يكفي مسح الوجه و بعض اليدين، لمكان (الباء)، و قد حدّدتهما السنّة الشريفة بما بين الجبينين إلى أطراف الأنف في الوجه، و بما دون الزند إلى أطراف الأصابع في اليدين، و سيأتي في البحث الفقهي بعض الكلام.

و لكن لا ينبغي الشكّ في دلالة الآية المباركة على أنّ المسح يتقوّم بالماسح

ص: 26

و الممسوح و الممسوح به، و تدلّ عليه الروايات البيانيّة و غيرها التي تبيّن كيفيّة تيمّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، كما سيأتي في البحث الروائي.

و إنّما اكتفى القرآن الكريم بذكر تيمّم بالصعيد الطيب و ذكر الممسوح به و الماسح، و استغنى عن ذكر الضرب على الصعيد أو مسّه بباطن الكفين، لأجل التفنّن في العبارة و البراعة فيها، إلاّ أنّ الأسلوب يدلّ على ما ذكرناه كما عرفت، و الضمير في «منه» يرجع إلى الصعيد.

و اختلف في «من» فقيل: إنّها تبعيضيّة، أي: ببعض الصعيد بما علق باليدين من تراب و غبار، فتدلّ الآية الشريفة على اشتراط العلوق، أي: بقية الصعيد على اليدين، فلا يصحّ التيمّم إن لم يكن عليهما بقيّة منه.

و قيل: إنّها ابتدائيّة، أي: يجب التيمّم مبتدأ من الصعيد.

و الحقّ : أنّه لا فرق بين أن تكون (من) تبعيضيّة أو ابتدائيّة في عدم استفادة العلوق باليدين في التيمّم، فإنّ التيمّم ببعض الصعيد أو مبتدأ منه باعتبار كونه مورد ضرب اليدين أو الاعتماد عليه، أجنبي عن تعلّقه باليدين، إلاّ أن يستفاد بضميمة القرائن الخارجيّة، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من عدم اشتراط العلوق إشارة إلى ما ذكر.

و بالجملة: أنّ الآية المباركة تدلّ على وجوب ضرب اليدين على الصعيد و كونه موردا لاعتمادهما، بلا فرق بين أن يكون مبتدأ أو يكون الضرب على بعضه و مسحهما على بعض الوجه و بعض اليدين، كما تدلّ عليه الروايات البيانيّة، و سيأتي نقل بعضها.

قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ .

بيان لقاعدة من القواعد التسهيليّة الامتنانيّة التي بنيت عليها الشريعة السمحاء، و تمسّك بها الفقهاء في مواضع كثيرة في الفقه، و أسموها ب «قاعدة نفي الحرج»، و تعتبر من إحدى الحكم في تشريع الطهارات الثلاث التي سيذكرها جلّ

ص: 27

شأنه في الآيات الكريمة التالية، و من سرد تلك الحكم في المقام يستفاد أهميّة تلك الأحكام و عظيم أثرها في تهذيب النفس و تزكيتها.

و أسلوب الآية الشريفة يدلّ على نفي جعل و تشريع كل الأحكام الإلهيّة التي يراد بها الحرج على المؤمنين، فإنّ نفي الإرادة أبلغ من نفي الفعل و أشدّ في تأكيده، كما عرفت في نظائر هذا الأسلوب في الآيات المباركة السابقة، و تؤكّد ذلك أيضا دخول «من» الجارّة على مفعول «ما يريد»، فتكون بيانيّة لا زائدة، كما زعمه بعضهم.

و يدلّ على ما ذكرناه أيضا قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ الدالّ على نفي الحرج في ملاكات الأحكام مطلقا، فإنّها شرّعت لأجل مصالح و حكم واقعيّة، لا لغرض الحرج و المشقّة.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل نفي كلّ حرج، سواء كان في التكاليف الأوليّة، أو التكاليف الثانويّة، فإنّه إذا عرض ما يوجب الحرج و المشقّة اتفاقا في حكم، فإنّه ينتقل إلى البدل فيه إن كان ممّا له بدل - كما في الصوم و غيره من التكاليف غالبا - و إلاّ فيسقط الحكم رأسا في تلك الأفراد الحرجيّة، و لا يسقط غيرها.

و الحرج: هو الضيق و المشقّة، قال تعالى: ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً [سورة النساء، الآية: 65]، و قال سبحانه و تعالى: وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي اَلدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [سورة الحج، الآية: 78].

و المعنى: لم يكلّف اللّه تبارك و تعالى المؤمنين بتحصيل الطهارة المائيّة على وجه يستلزم الحرج و المشقّة عليهم، إما بإتلاف مال أو بالتغرير بالنفس أو الضرر عليها و نحو ذلك ممّا فيه كلفة عليهم، فإنّه ينتقل إلى البدل و هو الطهارة الترابيّة، فقد كلّفهم بها بما لم يستلزم المشقّة و الحرج أيضا، و إلاّ فيسقط الحكم رأسا، كما هو مذكور الفقه، فإنّ اللّه تعالى ما يريد من الأمر بالطهارة المائيّة ثمّ الترابيّة إلاّ التوسعة على المؤمنين، لا الحرج و المشقّة، و سيأتي في البحث الروائي نقل بعض الروايات.

ص: 28

قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ .

حكمة اخرى، أي: إنّما يريد اللّه تعالى - من الوضوء و الغسل و التيمّم - تطهيركم، فاللام تكون للتعليل. و الجملة مفعول (يريد) المحذوف. و ذكر الرضي أنّ اللام زائدة، و (يطهّركم) مفعول بتقدير (أن) بعد اللام، كما هو الشأن في نظائر المقام، قال تعالى: يُرِيدُ اَللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ [سورة النساء، الآية: 26].

و كيف ما كان، فإنّ إطلاق الطهارة يشمل الطهارة المعنويّة الحاصلة من رفع الحدث بأحد تلك الأسباب الثلاثة التي يشترط الصلاة بها، و النظافة الظاهريّة من الدرن و الأوساخ. و أما الطهارة من الخبث، فإنّها قد تحصل بالعرض، فلا تدلّ الآية المباركة عليها.

و يستفاد من الآية الكريمة أنّ الشرط في القيام إلى الصلاة هو الطهارة، فلو كان متطهّرا لا يجب عليه الإتيان بعمل الطهارة عند القيام إليها مرّة اخرى.

قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ .

الإعراب فيه كما ذكرناه في الجملة المتقدّمة، و سبق الكلام في معنى النعمة و إتمامها في قوله تعالى: اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ، و المراد بالنعمة في المقام تلك الأحكام و التوجيهات و المعارف التي نزلت لتكميل الإنسان و إرشاده إلى سعادته في الدارين، و منها تلك التي ذكرت آنفا التي يستلزم العمل بها الدخول في ولاية اللّه تعالى، الذي هو المقصد الأسنى في خلق الإنسان.

و إطلاق الآية الشريفة يشمل النعمة التي أرادها اللّه تعالى للمؤمنين، و هي طهارة النفوس من درن الذنوب و آثارها و تزكيتها، التي هي غاية خاصّة لتشريع الطهارات الثلاث، و نعمة الدين الذي هو مجموعة أحكام و توجيهات و إرشادات قيّمة لتكميل النفوس المستعدة و إعدادها لنيل الفيوضات الإلهيّة و هدايتها إلى ما يوجب سعادتها، فاجتمعت في هذه الآية المباركة الغايتان الخاصّة - للتشريعات الثلاثة المتقدّمة - و العامّة لمجموعات الأحكام الإلهيّة.

ص: 29

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ .

غاية اخرى، و هي إعداد الإنسان إعدادا علميا و عمليا لطاعته و القيام بشكره، ليكون سببا لدوام نعمه عزّ و جلّ ، و هو القائل: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 7].

و الآية الشريفة جمعت كلّ ما له دخل في سعادة الإنسان و ما يهديه إلى الكمال المنشود، و من ذلك كلّه يظهر أهميّة الأحكام الإلهيّة في حياة الإنسان الظاهريّة و المعنويّة.

قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

ترغيب إلى دوام طاعة اللّه سبحانه و تعالى، و حثّ على الوفاء بعهده، و تذكير لهم بما أنعم اللّه تعالى على المؤمنين من الفيوضات العليّة و المواهب الجميلة و الدخول في الإسلام الذي جمعهم بعد أن كانوا متباغضين متفرّقين، و أرشدهم إلى الكمالات و المعارف الواقعيّة بعد أن كانوا في جاهلية عمياء، مع أنّ حالهم في الإسلام من حيث أمنهم و غناهم، و صفاء قلوبهم، و خلوص نياتهم، و طهارة أعمالهم معروف لا يمكن إنكاره، و تبيّن هذه الآية المباركة قوله تعالى: وَ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ اَلنّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها [سورة آل عمران، الآية: 103].

فيكون المراد بالنعمة في المقام تفضيلهم على سائر الناس بإرسال رسول منهم يتلو عليهم آياته و يزكيهم، و أنزل عليهم الكتاب الذي اشتمل على جميع المعارف الواقعيّة و التوجيهات الربوبيّة الذي فيه تفصيل كلّ شيء، و شرع الأحكام و التشريعات التي لها الأثر الكبير في تهذيب النفوس و تزكيتها، و يجمع الكلّ الإسلام الذي ارتضاه اللّه تعالى دينا لهم و منهاجا، و لعلّ في الآية الشريفة الإشارة إلى ما ذكر في أوائل هذه السورة في قوله تعالى: وَ رَضِيتُ لَكُمُ اَلْإِسْلامَ دِيناً .

قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ .

الميثاق هو العهد المؤكّد، و تذكيرهم بالميثاق لأجل دوام الطاعة و حثّهم على

ص: 30

العمل بما أخذ عليهم من الميثاق، و المراد به تلك العهود و الأحكام التي أنزلها اللّه تعالى عليهم و أخذ منهم العهد بالعمل بها، و الدخول في ولاية اللّه تعالى التي تستلزم قبول ولاية رسوله الكريم و من نصبه صلّى اللّه عليه و آله وليا على المؤمنين.

قوله تعالى: إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا .

بيان لقوله تعالى: واثَقَكُمْ بِهِ و تذكير لهم بوجوب مراعاته بعد التزامهم بالسمع و الطاعة و المحافظة عليه، فقد أعطوا السمع و الطاعة للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله بأن يطيعوا اللّه تعالى في تعليماته و توجيهاته، منها تلك التي يتعلّق بالطهارات الثلاث، و تحريم المحرّمات، و الدخول في ولاية اللّه تعالى و الرسول و المؤمنين.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد آخر على المحافظة على عهود اللّه تعالى و مراعاة أحكامه المقدّسة، فلا يكونوا كالذين أخذ اللّه منهم الميثاق فنسوا حظا ممّا ذكروا به، و قد حرّفوا الكلم عن مواضعه، و نقضوا حدود اللّه بالزيادة و النقصان فيها، كما حكي عنهم عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ .

تحذير لهم في نسيان نعمه، و نقض مواثيقه، و ما تنطوي عليه ضمائرهم من الخيانة و السوء، فإنّ اللّه تعالى عالم بخفايا القلوب و ما تضمره النفوس، و لعلّ الأمر بالتقوى في آخر الآيات المتقدّمة، لأنّها روح تلك التشريعات، و بها تتّصف بالخلوص، و يسلم العمل عن كلّ نقص و عيب.

ص: 31

بحوث المقام
بحث أدبي:

اختلف العلماء في إعراب الآية الشريفة اختلافا كبيرا، و قد ذكرنا شطرا منه في التفسير، و نذكر الشطر الآخر في هذا البحث.

قال بعض العلماء: إنّ الوجه مشتقّ من المواجهة، و اشتقاق الثلاثي من المزيد إذا كان المزيد أشهر في المعنى الذي يشتركان فيه شائع، بل قال بعضهم: إنّ ما ذكر من منع الثلاثي من المزيد إنّما هو في الاشتقاق الصغير، و أما في الاشتقاق الكبير الذي يكون بين كلمتين بينهما تناسب في اللفظ و المعنى، فهو جائز.

ثمّ إنّهم اختلفوا في معنى (إلى) في قوله تعالى: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فقيل: إنّها بمعنى (مع)، كما في قوله تعالى: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ [سورة هود، الآية: 52]، و قوله تعالى: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اَللّهِ * [سورة آل عمران، الآية: 52]، و قوله تعالى: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [سورة النساء، الآية: 2].

و يردّ عليه: أنّه لا إشكال في مجيء (إلى) بمعنى (مع)، إلاّ أنّ الآية المباركة كما تحتملها تحتمل أن تكون بمعنى (من)، كما ذكره بعض أعاظم النحويين كابن هشام في المغني و غيره، مستشهدين بقول الشاعر:

تقول و قد عاليت بالكور فوقها *** أ يسقى فلا يروى إليّ ابن احمرا

أراد منّي. و نحن في غنى عن هذا الخلاف، فإنّ الآية الشريفة تدلّ على تحديد المغسول كما ذكرنا في التفسير، فتكون (إلى) بمعناها الحقيقي و هو الانتهاء، و مجيئها بمعان اخرى في غير المقام لا يصير دليلا على كونها في المقام كذلك، لا سيما أنّ بعض الآيات التي استشهد بها في إثبات المطلوب إنّما كان لأجل قرائن خاصّة

ص: 32

حفّت بها، مثلا فقد ضمن الأكل في قوله تعالى: لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ معنى يتعدّى بهذا الحرف (إلى)، كالضمّ و نحوه.

و القول بأنّ الباء في قوله تعالى: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ زائدة، باطل، لأنّه خلاف الأصل، و قد ذكرنا مرارا أنّه لا معنى للزيادة في القرآن الكريم، فهي بمعنى التبعيض، كما دلّت عليه الاستعمالات الفصيحة، و انشد ابن مالك:

شربن بماء البحر ثمّ ترفّعت *** متى لجج خضر لهن نتيج

و أما قوله تعالى: وَ أَرْجُلَكُمْ ، فقد عرفت الخلاف العظيم في إعرابه و ذكرنا الحقّ في التفسير، و نزيد هنا أنّ مجال النحو واسع، و العمدة هو الرجوع إلى العرف و الأذهان المستقيمة و كلمات الفصحاء في استفادة الظاهر من الكلام و تعيين المراد منه، كما عرفت آنفا.

ثمّ إنّه يستفاد من تغيير الأداة في قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً مع أنّ الآية الشريفة تصدّرت بكلمة (إذا)، اهتماما بأمر الصلاة و التأكيد عليها، و أنّ (إذا) تدلّ على ما هو متيقن الوقوع، تنبيها على أنّ المؤمن لا يكفّ عن إقامة الصلاة و لا يتركها بحال.

مع أنّ الاختلاف يرشد إلى أنّ مدخول (إذا) كثير الابتلاء، بخلاف (ان) التي تدلّ على أنّ مدخولها نادر و قليل الحدوث.

و قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ في أعلى مراتب الفصاحة و البلاغة، حيث يدلّ على نفي الفعل بنفي الإرادة. و قيل: إنّ هذا الأسلوب من مختصّات الكتاب العزيز. و اختلف النحاة في اللام، فقيل: إنّها زائدة لتأكيد المفعول. و قيل: إنّ المفعول مقدّر و اللام للتعليل. و الحقّ هو الثاني، كما عرفت من عدم الزيادة في القرآن الكريم.

ص: 33

بحث دلالي:
اشارة

الآيتان الشريفتان من أعظم الآيات القرآنيّة التي تبيّن أحكام الطهارات الثلاث التي يشترط بها أهمّ العبادات في الإسلام، و هي الصلاة التي تعتبر عمود الدين، إن قبلت قبل ما سواها و إن ردّت ردّ ما سواها.

و قد بيّن عزّ و جلّ في هاتين الآيتين المباركتين جمع ما يتطلّبه هذا الحكم الإلهي، فذكر تعالى واجباته، و شروطه، و آدابه، و الضمان على تنفيذه، و يستفاد من الآية الكريمة أنّ هذا الحكم ممّا أخذ عزّ و جلّ عليه الميثاق، لبيان أهميته، و لعلّ السرّ في ذلك علمه عزّ و جلّ بتهاون جمع كبير به، و اختلاف الامّة فيه مع علمهم بأنّ له شأنا كبيرا في تطهير النفوس و تزكيتها و توقّف امور كثيرة عليه.

و

يستفاد من الآيات الشريفة امور:
الأوّل:

يستفاد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا اشتراط الصلاة بالطهارة، إما أنّها واجبة لنفسها، أو واجبة للغير، قيل: بالثاني، لدلالة الفاء على الترتيب، كما يشهد بها العرف و التبادر. و قيل بالأوّل، كما تدلّ عليه ذيل الآية المباركة وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ و يشهد له بعض الأحاديث، و الفاء إنّما تدلّ على الترتيب لو لم تكن في البين قرينة على الخلاف كما في المقام، بل يمكن أن يقال: إنّ الفاء إنّما استفيد منها الفرعيّة في المقام كما هو واضح، أما كون الطهارة واجبة بالوجوب النفسي أو الغيري، فلا يمكن أن تستفاد من الآية الكريمة لوحدها، إلاّ مع انضمام القرائن الخارجيّة التي تدلّ على الثاني، كما هو الحقّ ، و المسألة محرّرة في الكتب الاصوليّة و الفقهيّة.

الثاني:

ص: 34

المعروف عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّما الأعمال بالنيّات».

الثالث:

يستفاد من أسلوب الآية الشريفة الترتيب - في واجبات الوضوء و التيمّم - و الموالاة بينها، فيجب غسل الوجه ثمّ اليدين، ثمّ مسح الرأس، ثمّ مسح الرجلين تسبقها النيّة، و لعلّ ما ورد في الأخبار: «ابدءوا بما بدأ اللّه»، مأخوذ من مثل هذه الآيات الشريفة، و تدلّ عليها روايات متعدّدة.

و قد يستدلّ على الترتيب بالواو التي تفيد الترتيب، كما صرّح به بعض أعاظم النحويين. و لكنّه مشكل، فإنّها حقيقة في مطلق الجمع، و أما الترتيب فهو يستفاد من القرائن.

و كيف كان، فإنّ سياق الآية المباركة بل ظاهرها الذي هو الترتيب فهو يستفاد من في مقام البيان، يفيد ما تقدّم.

الرابع:

يستفاد من ظاهر قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً ، أنّ التيمّم مساوق للوضوء و الغسل، فيباح به كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، فيجوز أن يصلّي بتيمم واحد صلوات متعدّدة، أو يمسّ كتابة القرآن كذلك إذا كان العذر باقيا، و لا يجب عليه الإعادة مطلقا بعد رفع العذر.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت باليسر في أحكام الدين، لا سيما في أحكام الطهارات الثلاث و نبذ المشقّة فيها، و لعلّ ذكره في المقام عقيب الطهارات الثلاث، لشدّة ابتلاء المكلّفين بها، و لعلمه تعالى بما يلاقونه من المصاعب و المتاعب و وسوسة الشيطان لهم، خصوصا للفاقدين من المعرفة لأحكام الدين.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ، أنّ أحكام اللّه تعالى الفرعيّة هي من نعمه عزّ و جلّ التي أتمّها على عباده المؤمنين و أحكمها عليهم، و يجب عليهم شكرها بالتذكير و دوام الطاعة، لا سيما بعد أن أخذ اللّه تعالى عليهم الميثاق بالسمع و الطاعة، فاجتمع داعي العقل و داعي الشرع في الوفاء بعهود اللّه تعالى.

ص: 35

و لا يخفى أنّ قوله تعالى: وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إشارة إلى ما ذكره عزّ و جلّ في أوّل هذه السورة من الوفاء بالعهود، فيكون المقام قرينة اخرى على أنّ المراد من العقود في قوله تعالى: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ هو العهود.

السابع:

يستفاد من إطلاق الآية الشريفة كفاية الغسلة الواحدة، و مسمّى المسح في الوضوء و التيمّم.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ إطلاق قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا يدلّ على وجوب غسل جملة البدن كلّه من دون استثناء، فيدخل فيه كلّ ما يمكن إيصال الماء إليه، إلاّ ما خرج بالدليل - كبواطن العين و الاذن و الأنف و الفم - فإنّه عزّ و جلّ لم يقيّد أن تكون الطهارة ببعضه.

و الحقّ : أنّ الآية المباركة لا تدلّ على ذلك، بل إنّ إطلاقها يدلّ على كفاية مسمّى التطهير و لو لم يستوعب جميع البدن كلّه، و إنّ الاستيعاب قيد مشكوك و كلفة تنفى بالأصل. إلاّ أنّ السنّة الشريفة البيانيّة منها و غيرها بيّنت الاستيعاب في الغسل و ذكرت خصوصياته بأتمّ وجه و أكمل بيان، فلا مجال حينئذ للأصل.

نعم، لو فرضنا الشكّ في تحقّق الاستيعاب، فمقتضى الأصل بقاء الجنابة، إلاّ إذا حصل الاستيعاب، و يكفي مسمّاه.

الثامن:

إطلاق قوله تعالى: وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ يشمل جميع أنواع الطهارة و أقسامها من طهارة الباطن و الظاهر، ففي الحديث عن الكاظم عليه السّلام: «من توضّأ للمغرب، كان وضوؤه ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في النهار، و من توضّأ لصلاة الصبح، كان ذلك كفّارة لما مضى من ذنوبه في ليله»، و قريب منه غيره.

و ذكر بعضهم أنّ الطهارة على سبعة أوجه: طهارة العلم من الجهل، و طهارة الذكر من النسيان، و طهارة اليقين من الشكّ ، و طهارة العقل من الحمق، و طهارة الظنّ من التهمة، و طهارة الإيمان بما دونه، و طهارة القلب من الإرادات. و إسباغ طهارة الظاهر يورث طهارة الباطن، و إنّ إتمام الصلاة يورث الفهم و اليقين و القرب لديه عزّ و جلّ .

ص: 36

بحث روائي:

عن الشيخ بإسناده عن ابن بكير قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قوله تعالى:

إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ ما يعني بذلك ؟ قال: إذا قمتم من النوم. قلت: ينقض النوم الوضوء؟ فقال: نعم إذا كان يغلب على السمع و لا يسمع الصوت».

أقول: يستفاد من هذه الصحيحة امور:

الأوّل: أنّ النوم ناقض للوضوء و رافع للطهارة، و يدلّ على ذلك روايات كثيرة ذكرها المحدّثون في كتبهم و استقر عليه المذهب، فما عن صاحب المنار في تفسيره من أنّ الشيعة ذهبوا إلى عدم نقض النوم للوضوء، مجرّد افتراء، و كم لهم من هذه الافتراءات على هذه الطائفة التي تلقّت أحكامها من عين صافية مرتبطة أشدّ الارتباط بالمبدأ جلّ شأنه، لا من الأمور الوهميّة الظنيّة. و كيف كان غفر اللّه تعالى لنا و له.

الثاني: أنّ المدار على تحقّق النوم لا مقدّماته، و يعرف ذلك بعلامات أقواها الغلبة على السمع، لأنّ حاسة السمع من أدقّ الحواس، فإذا فقدت ذهبت البقيّة غالبا، و في بعض الروايات: «فإن حرّك في جنبه شيء و هو لا يعلم، أي: لا يسمع»، و لعلّ ما ورد في تلقين المحتضر أن يدنو الملقّن فمه إلى اذنه أو يجعله على اذنه، لأجل هذه الجهة، لضعف سمعه في تلك الحالة، أعاننا اللّه تعالى في تلك الشدّة.

إن قلت: إنّ الواقع خلاف ذلك، فقد يكون حسّ اللمس أقوى، إذ النائم يحرّكه و خز الإبرة مثلا أو و خز الهوام، مع أنّه لا يسمع صوت من بجنبه.

قلت: على فرض الكلّية في ذلك لا ينافي ما تقدّم، لأنّ الصوت و الوخز من الأمور التشكيكيّة، قابلة للشدّة و الضعف في الجسم السليم.

الثالث: أنّ النوم ناقض لمطلق الطهارة، سواء حصلت من الوضوء أو الغسل، مثل غسل الجنابة أو التيمّم.

ص: 37

الرابع: لا فرق في النوم بين ما حصل مقدّماته بالاختيار أو بغير الاختيار، بواسطة دواء - كما إذا شرب أو بلع من الأدوية العصريّة المنوّمة - أو تعب، كلّ ذلك لإطلاق ما تقدّم.

الخامس: أنّ المدار في عدم السماع النوع و الغالب، فلو كان شخص فاقد السمع لصمم أو غيره، يرجع فيه إلى العلامات الاخرى المقرّرة في الشرع، كالغلبة على البصر، أو عدم الإحساس مثلا، فإن حصل له الاطمئنان بالنوم بطلت طهارته، و إلاّ فيرجع إلى الحالة السابقة.

و في الدر المنثور للسيوطي بإسناده عن زيد بن أسلم في قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ : «انّ ذلك إذا قمتم من المضاجع، يعني النوم».

أقول: القيام إذا تعدّى ب (إلى) يفيد العزم و الإرادة كما مرّ، و إذا تعدّى ب (من) يفيد الانتهاء، و الجامع فيه العزم، سواء أ كان بالشروع في الشيء و الابتداء فيه، أم الفراغ و الانتهاء منه.

و عن الشيخ، عن المفيد، بإسناده عن غالب بن الهذيل قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ على الخفض أم على النصب ؟ قال: بل هي على الخفض».

أقول: تقدّم أنّ الخفض هو الموافق للقواعد الأدبيّة.

و في سنن البيهقي بإسناده عن رفاعة بن رافع: «انّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

للمسيء صلاته: إنّها لا تتمّ صلاة أحدكم حتّى يسبغ الوضوء كما أمره اللّه، يغسل وجهه و يديه إلى المرفقين، و يمسح رأسه و رجليه إلى الكعبين».

أقول: الرواية ظاهرة بل ناصّة في مسح الرأس و الرجلين كما تقدّم في التفسير، و إنّ قوله صلّى اللّه عليه و آله: «و يديه إلى المرفقين» قيد للمغسول لا للغسل، أي: أنّ اليد إلى المرفق تغسل، لا كلّها.

و عن البيهقي في السنن بإسناده عن جابر بن عبد اللّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله إذا توضّأ أدار الماء على مرفقيه».

ص: 38

أقول: الرواية تدلّ على ما ذكرنا، و إنّها مطابقة للمرتكز العرفي.

و في الكافي بإسناده عن الهيثم بن عروة التميمي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ فقلت: هكذا؟ و مسحت من ظهر كفّي إلى المرافق، فقال: ليس هكذا تنزيلها، إنّما هي: (فاغسلوا وجوهكم و أيديكم من المرافق)، فقام ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه».

أقول: فسّر الإمام عليه السّلام الآية المباركة قولا و فعلا، و المراد من التنزيل التفسير و نقل الآية الشريفة بالمعنى.

و عن ابن عباس: «الوضوء غسلتان و مسحتان».

أقول: ورد مثله عن أئمتنا عليهم السّلام، و هو يدلّ على مسح الرأس، كما يدلّ على مسح الرجلين.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «قلت له: أخبرني عن حدّ الوجه الذي ينبغي له أن يتوضّأ، الذي قال اللّه عزّ و جلّ ، فقال: الوجه الذي أمر اللّه بغسله الذي لا ينبغي لأحد أن يزيد عليه و لا ينقص منه، إن زاد عليه لم يؤجر، و إن نقص منه أتمّ ما دارت عليه السبابة و الوسطى و الإبهام من قصاص الرأس إلى الذقن، و ما جرت عليه الإصبعان من الوجه مستديرا فهو من الوجه، و ما سوى ذلك فليس من الوجه. قلت: الصدغ من الوجه ؟ قال: لا».

أقول: ما ورد في الرواية من باب التحديد الشرعي، و الإتيان لأجل المقدّمة العلميّة، و الاحتياط لا بأس به في الزيادة، و أما النقيصة فيأثم لعدم إتيان المأمور به، و الصدغ بضمّ الأوّل ما بين العين و الاذن.

و في الفقيه بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «أخبرني عن حدّ الوجه، أ رأيت ما أحاط به الشعر؟ فقال: كلّ ما أحاط به الشعر فليس على العباد أن يطلبوه و لا يبحثوا عنه، و لكن يجري عليه الماء».

ص: 39

أقول: طلب ما تحت الشعر بإجراء الماء عليه نحو حرج، و الآية الشريفة و الرواية تنفيانه.

و في الكافي بإسناده عن زرارة و بكير: «أنّهما سألا أبا جعفر عليه السّلام عن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، فدعا بطست أو تور فيه ماء فغمس يده اليمنى فغرف بها غرفة فصبّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثمّ غمس كفّه اليسرى فغرف بها غرفة فافرغ على ذراعه اليمنى فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردها إلى المرافق، ثمّ غمس كفّه اليمنى ففرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق و صنع ما صنع باليمنى، ثمّ مسح رأسه و قدميه ببلل كفّه، لا يحدث لهما ماء جديدا، قال: و لا يدخل أصابعه تحت الشراك، ثمّ قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى اَلصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ ، فليس له أن يدع شيئا من وجهه إلاّ غسله، و أمر أن يغسل اليدين إلى المرفقين، فليس له أن يدع من يديه إلى المرفقين شيئا إلاّ غسله، لأنّ اللّه يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، ثمّ قال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ، فإذا مسح بشيء من رأسه أو بشيء من قدميه ما بين الكعبين إلى أطراف الأصابع فقد أجزأه، فقلنا: أين الكعبان ؟ قال: هنا، يعني المفصل دون عظم الساق، فقلنا: هذا ما هو؟ فقال: هذا من عظم الساق و الكعب أسفل من ذلك، فقلنا: أصلحك اللّه و الغرفة الواحدة تجزي للوجه، و غرفة للذراع ؟ قال: نعم إذا بالغت فيها و اثنتان يأتيان على ذلك كلّه».

أقول: التور إناء صغير يجعل فيه الماء، و هذه الصحيحة من امّهات الروايات البيانيّة التي تبيّن وضوء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تشرحه شرحا وافيا غير قابل للشكّ فيه، و قد تمسّك الفقهاء بها في باب الوضوء لنفي الشرط أو الجزء المشكوكين، و قد جمع فيها الإمام عليه السّلام الفرض و السنّة و تعيين السنّة لا تكون إلاّ بروايات اخرى.

و يستفاد من هذه الصحيحة و أمثالها أنّ الوضوء - الذي هو شرط لصحّة طبيعة الصلاة التي هي عمود الدين - في غاية اليسر، لعموم الابتلاء به، و لم يكن

ص: 40

فيه أي تعقيد و تضييق، و لعلّه لأجل ذلك ختمت الآية المباركة بنفي الضيق و الحرج.

و في الكافي بإسناده عن حريز، عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: ألا تخبرني من أين علمت أنّ المسح ببعض الرأس و بعض الرجلين ؟ فضحك ثمّ قال:

يا زرارة، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و نزل به الكتاب عن اللّه تعالى، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، فعرفنا أنّ الوجه كلّه ينبغي أن يغسل ثمّ قال:

وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه، فعرفنا أنّه ينبغي لهما أن يغسلا إلى المرفقين، ثمّ فصل بين الكلام فقال: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ، فعرفنا حين قال: برؤسكم، أنّ المسح ببعض الرأس، لمكان الباء، ثمّ وصل الرجلين بالرأس - كما وصل بالوجه - فقال: وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ، فعرفنا حين وصلهما بالرأس أنّ المسح على بعضهما، ثمّ فسّره ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله للناس فضيعوه، ثمّ قال: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، فلما وضع الوضوء إن لم تجدوا ماء، أثبت بعض الغسل مسحا، لأنّه قال: بِوُجُوهِكُمْ ثمّ وصل بها وَ أَيْدِيَكُمْ ، ثمّ قال: مِنْهُ ، أي: من ذلك التيمّم، لأنّه علم أنّ ذلك أجمع لم يجر على الوجه، لأنّه يعلق من ذلك الصعيد ببعض الكفّ و لا يعلق ببعضها ثمّ قال: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».

أقول: سؤال زرارة - مع جلالة قدره، و أنّه من أجّلاء الأصحاب و أكابر الرواة، و به و بأمثاله حفظ اللّه الحقّ ، و لو لا هم لاندرست معالم الدين و أطفئت أنوار اليقين - لا موضوع له بعد فعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و الأئمة المعصومين عليهم السّلام، و لعلّ ضحكه عليه السّلام تلويح إلى ذلك. و كيف كان فالإمام عليه السّلام استدلّ بالكتاب لجميع أجزاء الوضوء و التيمّم استدلالا وافيا غير قابل للشكّ .

و في الكافي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن الصادق عليه السّلام قال: «الأذنان ليسا

ص: 41

من الوجه و لا من الرأس، قال: و ذكر المسح فقال: امسح على مقدّم رأسك و امسح على القدمين و ابدأه بالشقّ الأيمن».

أقول: الأذنان من الرأس في الإحرام، و أما في الوضوء فليستا من الرأس، بل هو منبت الشعر فقط و هو مع الأذنين رأس الصائم، و في الغسل مع الرقبة، كلّ ذلك لأجل دليل خاصّ ، و إلاّ فمقتضى اللغة لا تكونان منه، و كذلك أنّهما ليستا، من الوجه فلا يجب غسلهما و لا مسحهما، و ذيل الرواية يدلّ على الترتيب مقدّما الرجل اليمنى على اليسرى.

و في تفسير العياشي عن زرارة بن أعين و أبي حنيفة، عن أبي بكر ابن حرم قال: «توضّأ رجل فمسح على خفّيه فدخل المسجد، فصلّى، فجاء علي عليه السّلام فوطئ على رقبته فقال: ويلك تصلّي على غير وضوء؟ فقال: أمرني عمر بن الخطاب، فأخذ بيده فانتهى به إليه فقال: انظر ما يروي هذا عليك ؟ و رفع صوته فقال: نعم أنا أمرته أنّ رسول اللّه مسح، قال: قبل المائدة أو بعدها؟ قال: لا أدري، قال: فلم تفتي و أنت لا تدري ؟ سبق الكتاب الخفّين».

أقول: يعتبر في المسح المماسة، و لا يجوز المسح على الحائل، خفّا كان أو غيره، و الظاهر من هذه الرواية أنّ المسح على الخفّين شاع في عصر الخليفة الثاني، و بعد نزول آية الوضوء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أنّه لم يمسح على الخفّين أصلا، بل و قبله أيضا، و ذلك متّفق عليه، و لأجل ذلك كان المسح على الخفّين في زمن عمر محلّ خلاف شديد بين المسلمين، و الشاهد على ذلك ما رواه الكافي بإسناده الصحيح عن زرارة قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: في المسح على الخفّين تقيّة ؟ فقال عليه السّلام: ثلاث لا أتقي فيهنّ أحدا: شرب المسكر، و المسح على الخفّين، و متعة الحجّ »، فيستفاد منها أنّ استنكار المسح على الخفّين ممّا ذهب إليه أغلب المسلمين في زمن الخليفة الثاني كاستنكار شرب المسكر، فلا مجال للتقيّة فيهما، كما لا مجال لها في متعة الحجّ .

ص: 42

و من هنا لو استلزم المسح على الخفّين في مورد قتل نفس محترمة أو إهانتها أو غيرهما، تجري التقيّة بلا شكّ ، لقاعدة تقديم الأهمّ على المهمّ .

و ما قيل: إنّه ورد عن طرق العامّة أن جمعا: كبراء و بلال، و حرير، و غيرهم - رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين.

مردود، أمّا أولا: فإنّه تنافيه الروايات البيانيّة التي صدرت عن المعصومين عليهم السّلام كما تقدّم بعضها، بل و غيرها كما ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور و غيره.

و ثانيا: محمول على مورد خاصّ و فرد نادر لأجل مصالح خاصّة مسح على الخفّين، فانتهى أمد الحكم برفعها.

و كيف كان، فإنّه بعد نزول الآية المباركة لا يبقى مجالا للمسح على الخفّين، لأنّها تثبت المسح إلى الكعبين، و الخفّ ليس من القدم بالوجدان، فاستنكار علي عليه السّلام في محلّه.

و في تفسير العياشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن جعفر بن محمد عليهما السّلام أنّ عليا عليه السّلام خالف القوم في المسح على الخفّين على عهد عمر بن الخطاب، قالوا: رأينا النبي صلّى اللّه عليه و آله يمسح على الخفّين. فقال على عليه السّلام: قبل نزول المائدة أو بعدها؟ فقالوا: لا ندري، قال: و لكن أدري أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله ترك المسح على الخفّين حين نزلت المائدة، و لأنّ أمسح على ظهر حمار أحبّ إليّ من أن أمسح على الخفّين، و تلا هذه الآية:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا - إلى قوله تعالى - وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ ».

أقول: الرواية تدلّ على ما تقدّم، و التنزيل إنّما هو في عدم الأثر.

و فيه أيضا عن محمد بن أحمد الخراساني قال: «أتي أمير المؤمنين عليه السّلام رجل فسأله عن المسح على الخفّين، فأطرق في الأرض مليا ثمّ رجع رأسه فقال: إنّ اللّه تبارك و تعالى أمر عباده بالطهارة و قسّمها على الجوارح، فجعل للوجه منه نصيبا،

ص: 43

و جعل للرأس منه نصيبا، و جعل للرجلين منه نصيبا، و جعل لليدين منه نصيبا، فإن كانتا خفّاك من هذه الأجزاء فامسح عليهما».

أقول: استدلاله عليه السّلام بالآية المباركة لنفي المسح على الخفّين كان استدلالا وافيا غير قابل للخدشة، و منه يظهر عدم جواز المسح على العمامة أو الخمار و الحذاء.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قلت: يمسح الرأس ؟ قال: إنّ اللّه يقول: وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ، فما مسحت من رأسك فهو كذا. و لو قال: (امسحوا رؤوسكم) فكان عليك المسح كلّه».

أقول: تقدّم ما يدلّ على ذلك، فإنّ التبعيض ظاهر من الآية الشريفة.

و في الكافي بإسناده عن زرارة قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن التيمّم فقال: إنّ عمّار بن ياسر أتى النبي صلّى اللّه عليه و آله فقال: أجنبت و ليس معي ماء؟ فقال: كيف صنعت يا عمّار؟ فقال: نزعت ثيابي ثمّ تمعكت على الصعيد، فقال صلّى اللّه عليه و آله: هكذا يصنع الحمار، إنّما قال اللّه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ، ثمّ وضع يديه جميعا على الصعيد ثمّ مسحهما ثمّ مسح من بين عينيه إلى أسفل حاجبيه ثمّ ذلك إحدى يديه بالأخرى على ظهر الكفّ ، بدأ باليمين».

أقول: هذه الرواية من الروايات البيانيّة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله بيّن كيفيّة التيمّم.

و في الكافي بإسناده عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و الحرج الضيق».

أقول: الآية المباركة و السنّة الشريفة هما من أدلّة «قاعدة نفي الحرج»، التي يأتي البحث عنها.

و في الأسماء و الصفات للبيهقي بإسناده عن معاذ بن جبل قال: «مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك الصبر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله:

سألت البلاء فاسأله المعافاة. و مرّ على رجل و هو يقول: اللهم إنّي أسألك تمام

ص: 44

النعمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله: يا ابن آدم هل تدري ما تمام النعمة ؟ قال: يا رسول اللّه دعوت بها رجاء الخير. قال صلّى اللّه عليه و آله: تمام النعمة دخول الجنّة و الفوز بالنجاة من النار. و مرّ على رجل و هو يقول: يا ذا الجلال و الإكرام. قال صلّى اللّه عليه و آله: قد استجيب لك فسل».

أقول: عن بعض مشايخي في العرفان: أنّ ذكر «يا ذا الجلال و الإكرام» له آثار كثيرة، منها كشف المهمّات، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إذا اشتدّ عليكم البلاء فلوذوا بيا ذا الجلال و الإكرام»، و قد ورد هذا الذكر المبارك في كثير من الدعوات المأثورة عن أئمتنا المعصومين عليهم السّلام.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال: «لما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية قالوا: سمعنا و أطعنا، نقضوا ميثاقه».

أقول: الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها، و يناسب ذلك الربط بين الآيات المباركة.

و عن الطبرسي عن أبي الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام: «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع من تحريم المحرّمات، و كيفيّة الطهارة، و فرض الولاية».

أقول: الميثاق هو العهد المؤكّد، و أنه تابع لمتعلّقه.

و في الكافي باسناده عن الحلبي عن الصادق عليه السّلام قال: «سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ : أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ ، قال: هو الجماع، و لكنّ اللّه ستير يحبّ الستر فلم يسم كما تسمّون».

أقول: من أدبه سبحانه و تعالى أن يكنّى عن مطلق ما يستقبح ذكره، لأنّه تعالى حيي و يحبّ الحياء.

و في الدر المنثور عن ابن عباس: «انّه كان يطوف بالبيت بعد ما ذهب بصره و سمع قوما يذكرون المجامعة، و الملامسة، و الرفث و لا يدرون معناه واحد أم شتى ؟ فقال: اللّه أنزل القرآن بلغة كلّ حي من أحياء العرب، فما كان منه لا يستحي الناس من ذكره فقد عناه، و ما كان منه يستحي الناس فقد كنّاه، و العرب يعرفون

ص: 45

معناه لأنّ المجامعة، و الملامسة، و الرفث - و وضع إصبعيه في أذنيه ثمّ قال: ألا هو النيك».

أقول: لعلّ وضع حبر الامّة إصبعيه في أذنيه مع أنّه يعلم شرف المكان و قداسته، و ما عرض عليه من الانقطاع إليه جلّ شأنه بذهاب بصره كما هو الغالب، لأجل إعلامهم و تفهيمهم معاني الكلمات بتصريح يصحّ ذكره، و اللّه العالم.

بحث فقهي:

يستفاد من الآية الشريفة الأحكام و القواعد التالية:

الأوّل: شرطية الطهارة للصلاة، و بطلانها بلا طهارة. و هذا الشرط واقعيّ لها لا علميّ بالأدلّة الثلاثة، فمن الكتاب الآية المباركة كما عرفت، و قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا اَلصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اَللّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً [سورة النساء، الآية: 43].

و يمكن تأسيس قاعدة كلّية، و هي: «أنّ كلّ شرط ورد في الكتاب الكريم واقعيّ ، إلاّ إذا دلّ دليل معتبر على أنّه علميّ »، كالطهارة و الاستقبال في الصلاة، و الرضاء في التجارات، و شرائط الإرث مطلقا و غيرها، و ما خرج بالدليل كالتسميّة في الذبيحة، و سيأتي الاستدلال على هذه القاعدة و الاستثناء عنها في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

و من السنّة روايات كثيرة بلغت التواتر، ففي الصحيح عن أبي جعفر عليه السّلام: «لا صلاة إلاّ بطهور»، و عن علي عليه السّلام في المعتبرة: «افتتاح الصلاة الوضوء»، و في الصحيح أيضا عن الصادق عليه السّلام: «الصلاة ثلاثة أثلاث، ثلث طهور، و ثلث ركوع، و ثلث سجود»، و غيرها من الروايات التي يستفاد منها أنّ الطهارة شرط واقعي

ص: 46

للصلاة، فإذا انتفت انتفى المشروط.

و من الإجماع ما هو ضروري بين المسلمين على اختلاف مذاهبهم، بل و آرائهم المتشتّتة.

و ممّا ذكرنا يمكن استفادة قاعدة كلّية، و هي: «كلّ صلاة لا تصحّ إلاّ مع الطهارة»، عدا صلاة الميت و فاقد الطهورين.

و لا فرق في الطهارة المبيحة للصلاة بين مناشئها كالوضوء و التيمّم - إن حصل مسوّغاته - و غسل الجنابة لا مطلق الغسل المندوب و غيره، على ما ذهب إليه المشهور، و من فقهائنا (رضوان اللّه عليهم أجمعين) و هو المؤيّد المنصور.

الثاني: يستفاد من الآية المباركة اعتبار النيّة في الوضوء، و الصلاة، لقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ ، و قوله تعالى: فَاغْسِلُوا ، و قوله تعالى: فَاطَّهَّرُوا ، و غيرها من الأفعال المتقوّمة بالقصد و الإرادة، فلا تصحّ طهارة الساهي و صلاته، و كذا الغافل، بل كلّ صلاة فاقدة للنيّة، أو كلّ عبادة إذا لم يتحقّق فيها النيّة و قصد التقرّب إليه تعالى، محكومة بالفساد.

الثالث: كفاية وضوء واحد - أو طهارة واحدة - لصلوات متعدّدة أو كلّ ما يشترط فيه الطهارة، و كذا غسل واحد و إن تعدّدت الأسباب، كتعدّد الجماع و غيره، لإطلاق الآية الشريفة و كثير من الروايات، و نصوص خاصّة، منها:

قوله عليه السّلام: «إذا اجتمع عليك من اللّه حقوق، يكفيك غسل واحد»، و يعبّر عن ذلك بقاعدة: «التداخل»، و هي و إن كانت خلاف الأصل، و لكنّها في الطهارات متّفق عليها، لما تقدّم، و التعدّي عنها يحتاج إلى دليل.

ثمّ إنّ ظاهر الآية الشريفة تعميم الحكم لمطلق المكلّفين - المحدثين و غيرهم - أي: كلّ من قام إلى الصلاة، و لكن خصّ ذلك بالمحدثين، لما تقدّم من الروايات. نعم ورد في بعض الروايات: «الوضوء على الوضوء نور على نور»، الظاهر منه الاستحباب، فإنّ في كلّ وضوء تقرّبا إليه تعالى، و لا يجري ذلك في غيره من ذوات الأسباب، كغسل الجنابة و غيرها، فتأمّل و اللّه العالم.

ص: 47

الرابع: مقتضى الأصل في الطهارات الغسل بالماء مع الشرائط، إلاّ ما دلّ دليل على بدليّة التراب، حدثا كان أو خبثا، و مستند هذا الأصل الآية الشريفة، و السنن المعصوميّة، و سيأتي في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا مِنَ اَلْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ ما يتعلّق به.

الخامس: يستفاد من هذه الآية الكريمة و غيرها من آيات الأحكام قاعدة كلّية، و هي: «إتيان المكلّف العمل العباديّ مباشرة مع تمكّنه، إلاّ ما خرج بالدليل»، و يدلّ عليها قوله تعالى: وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ، و من السنّة الشريفة روايات مذكورة في الأبواب المتفرّقة.

و يمكن إقامة الدليل العقليّ عليها، فإنّ التكليف - أو المسؤولية المتوجّهة إلى الشخص - لا يسقط إلاّ بقيامه بالعمل بنفسه، و لو أتى به غيره فمقتضى الأصل بقائه و عدم سقوطه، و الفطرة المستقيمة تدلّ على ذلك أيضا. و أما الاستعانة في مقدّمات العمل العباديّ كصبّ الماء في الغسل، فيجوز - حتّى ورد ذلك في غسل الميت - و لكن في خصوص الوضوء تكره فيه، للنصّ المحمول عليها.

السادس: ظاهر الآية الشريفة يدلّ على إيصال الماء إلى جميع محال الوضوء أو الغسل برفع الموانع عنها، لأنّ التعبير فيها بالغسل دون الصبّ أو الجري، و لعلّ ما ورد في السنّة من وجوب إيصال الماء إلى جميع محالّ الوضوء أو الغسل، مأخوذ من الآية المباركة. نعم هناك موارد خاصّة لا يضرّ الحجب، لأدلّة خاصّة مذكورة في الفقه يعبّر عنها بالجبيرة.

كما أنّ المستفاد من إطلاق المسح في الآية المباركة بالرأس و الرجل، المسح على بعضهما، لمكان الباء، و جواز النكس في مسح الرأس، بل إطلاقها يدلّ على جواز المسح بماء مستأنف و مطلق الرطوبة، كما في التيمّم، حيث لا حاجة فيه إلى العلوق - إلاّ أنّ الروايات البيانيّة و غيرها قيّدت ذلك ببقيّة بلل الكفّ من الوضوء.

السابع: الآية المباركة تدلّ على وجوب الترتيب بالنيّة مقارنا لغسل الوجه

ص: 48

ثمّ اليد اليمنى و بعده اليسرى ثمّ مسح الرأس، و ينتهي الوضوء بمسح القدمين، لقوله صلّى اللّه عليه و آله: «ابدءوا بما بدأ اللّه به».

كما يستفاد منها الموالاة، لأنّ الأمر - الوارد في أعمال الوضوء المذكورة فيها بقرينة قول الصادق عليه السّلام في صحيحة الحلبي: «اتبع وضوءك بعضه بعضا»، و للروايات البيانيّة و الإجماع - للفور، و ذكرنا معنى الموالاة في كتابنا (مهذب الأحكام) في باب الوضوء.

الثامن: إطلاق الآية الكريمة يقتضي كفاية مرّة واحدة في الوجه أو اليدين، و أنّ الغسلة الثانية مستحبّة، لأجل روايات خاصّة، و في المسح يكفي مرّة، لظاهر الآية المباركة.

التاسع: ذكر سبحانه و تعالى في الآية المباركة أصحاب الأعذار في استعمال الماء، فمنها: المرض، و إطلاقه يشمل جميع أقسامه و أنواعه، بلا فرق بين أن يحصل باستعمال الماء، أو كان حاصلا و يتأخّر البرأ منه باستعماله، فالمدار كلّه المرض الذي يضرّه استعماله الماء، إما بالوجدان أو بإخبار أهل الخبرة. نعم لو كان المرض لا يضرّه الماء، كوجع الاذن مثلا، أو الأمراض الباطنيّة التي ظهرت في هذه الأعصار، كمرض ضغط الدم، أو بعض أقسام الصداع، فحينئذ يجب الوضوء بلا شكّ .

و منها: السفر كما هو الغالب خصوصا في البراري و الصحاري، و يدلّ على ذلك تنكير (سفر).

و منها: مطلق الحدث الأصغر، سواء كان المحدث مسافرا أو مريضا أو صحيحا في بلده و لكن يعجزه تحصيل الماء.

و منها: ما يوجب الغسل بالجماع أو الاحتلام، و الآية الشريفة ذكرت الفرد الغالب أو الأكثر من محلّ الابتلاء بالكناية كما تقدّم.

فهذه اصول الأعذار و ما سواها يرجع إليها كما هو واضح.

ص: 49

العاشر: يستفاد من الآية المباركة الواردة في التيمّم الأحكام التالية:

الأوّل: عدم وجود الماء الأعمّ من عدم الوجدان، أو عدم التمكّن من استعماله، سواء لم يجد ما يكفيه للطهارة، أو وجد ما يكفيه لبعض الأعضاء فقط، فهو في حكم العدم، لأنّ المراد من قوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا لتحصيل الطهارة المبيحة لما هو مشروط بها.

الثاني: القصد مقارنا لضرب اليدين على الأرض، لقوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا .

الثالث: أن يكون التيمّم بمسمّى الأرض - سواء كان ترابا أم صخرا أو مدرا أم حصى - لإطلاق الصعيد الوارد في الآية الكريمة.

الرابع: أن يكون طاهرا و غير مغصوب، لإطلاق قوله تعالى: طَيِّباً .

الخامس: أن يكون المسح بباطن الكفّ ، لقوله تعالى: فَامْسَحُوا ، فإنّ المتبادر من المسح لغة و عرفا إمرار باطن الكفّ على الممسوح، إلاّ أن تكون قرينة على الخلاف أو مانع شرعيّ فيه.

السادس: مقتضى إطلاق الآية الشريفة كفاية وضع اليدين معا على ما يصحّ به التيمّم، إلاّ أنّ الوارد في السنّة المباركة (الضرب)، و هو الوضع المشتمل على الاعتماد، لا مجرّد الوضع، لصحيحتي الكاهلي و زرارة المذكورتين في الفقه.

و لا يشترط العلوق باليد، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة.

السابع: مسح الجبهة من قصاص الشعر إلى الحاجبين و إلى الطرف الأعلى المتصل بالجبهة، لأنّه القدر المتيقّن من التبعيض الوارد في الآية الشريفة، مضافا إلى الروايات البيانيّة و غيرها.

الثامن: أن يكون المسح بباطن كلّ من كفّيه معا، لظاهر الآية الشريفة و ما ورد من الروايات. نعم لا يجب المسح بتمام كلّ من الكفّين، و يكفي المسح ببعضهما على نحو يستوعب الجبهة و الجبينين.

كما يكفي الضربة الواحدة فيه، لظاهر الآية الشريفة، سواء كان بدلا عن

ص: 50

الوضوء أم الغسل، و لكن المسألة محلّ خلاف، و لا مبرّر لذكره هنا، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

التاسع: مسح ظاهر الكفّين، و حدّهما الزندان، لظاهر الآية الشريفة و الروايات البيانيّة و غيرها.

العاشر: الترتيب - بأن يضرب على الأرض بعد النيّة، ثمّ يمسح الوجه، ثمّ ظاهر اليمنى باليسرى ثم ظاهر اليسرى باليمنى - و الموالاة، لظاهر الآية الشريفة بإعانة الروايات التي سبقت للبيان، و ذكرنا ما يتعلّق بمعنى الموالاة في الوضوء و التيمّم في الفقه.

الحادي عشر: أنّ الضرب للتيمم واحد في جميع الأغسال، لإطلاق الآية الكريمة و الروايات الواردة في بيانه.

الثاني عشر: ظاهر الآية الشريفة أنّه يباح بالتيمم كلّ ما يباح بالطهارة المائيّة، لمساوقته لما قبله، فيجوز أن يصلّي بتيمّم واحد صلوات متعدّدة، و لا يجب عليه الإعادة بعد المكنة من الماء، و يتعقّب المقام فروع كثيرة ذكرناها في الفقه. كما أنّ كلّ ما يبطل الوضوء يبطل التيمّم أيضا، لما تقدّم.

الثالث عشر: يدلّ قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، على قاعدة عامّة تجري في جميع أبواب الفقه، و هي: «قاعدة نفي الحرج»، و أنّها من امّهات القواعد الفقهيّة، و تختصّ بالأحكام الفرعيّة الإلزاميّة، كما هو شأن كلّ قاعدة فقهيّة، و مقتضاها سقوط الحكم الحرجيّ إن لم يكن له بديل لا حرج فيه، و إلاّ ينتقل الحكم إليه.

و المراد من الحرج عدم الطاقة و الشدّة في امتثال الحكم أو إتيان التكليف من ناحية المكلّف، و أما لو كان التكليف في حدّ نفسه حرجيّا بحسب الظاهر - كالجهاد، و الحجّ ، و أداء الحقوق الشرعيّة، و الصوم - فلا تشمله القاعدة أصلا، لأنّ التشريع كذلك، ففي الواقع لا حرج، فالأحكام تابعة للمصالح و المفاسد.

ثمّ إنّ الحرج المنفي فيها الحرج العرفيّ الشخصيّ ، كما في المرض و الخوف

ص: 51

و غيرهما، لاختلاف النفوس و الاستعدادات حسب الأفراد، فإذا كان في امتثال الحكم حرج بحسب الأنظار العرفيّة و الأمزجة الخاصّة، يتبدّل الحكم أو يرتفع.

و مستند القاعدة الأدلّة الأربعة، فمن الكتاب قوله تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ و غيره كما يأتي.

و من السنّة روايات مختلفة مذكورة في أبواب متفرّقة، منها ما عن عبد الأعلى مولى آل سام قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي عثرت فانقطع ظفري فجعلت على إصبعي مرارة، كيف أصنع بالوضوء؟ فقال عليه السّلام: تعرف هذا و أشباهه في كتاب اللّه تعالى: ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ».

و من الإجماع، فهو ممّا لا خلاف فيه بين المسلمين على اختلاف طوائفهم.

و من العقل حكمه بقبح التكليف في مورد الضيق و الشدّة، و أنّ العسر على الإطلاق غير مرغوب فيه، و لعلّ ما ورد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «بعثت بالشريعة السمحاء السهلاء» في مقام الامتنان إشارة إلى ذلك.

و ممّا تقدّم ظهر أنّ استيعاب محال الوضوء بالتراب في التيمّم ليكون على نحو الطهارة المائيّة، حرج مرفوع لم يكلّف اللّه تعالى به العباد.

و هذه القاعدة لا تجري في حلّية المحرّمات، فمن كان في حرج من عدم الاغتياب أو التهمة أو الكذب، لا تحلّ له، للإجماع، و لأنّ مفسدة الارتكاب أكثر بمراتب عن مصلحة الترخيص. و أنّها مقدّمة على جميع الأحكام و القواعد حتّى قاعدة: «لا ضرر».

و ذكرنا في كتابنا (تهذيب الأصول) الفرق بين الضرر المرفوع في الشرع و الحرج، بأنّ الأوّل أعمّ من الثاني.

و قاعدة «لا حرج» كقاعدة «لا ضرر» ترخيصيّة امتنانيّة، لا أن تكون على نحو العزيمة، و تظهر الثمرة فيما لو ارتكب العمل مع الحرج بناء على الترخيص، يصحّ العمل دون العزيمة.

ص: 52

و دعوى: سقوط الأمر لأجل الحرج، فلا وجه لصحّة العلم العباديّ المتقوّم بقصد الأمر.

مدفوعة: بأنّ سقوط الأمر لا يستلزم سقوط الملاك، و مقتضى الأصل بقاؤه إلاّ أن يدلّ دليل على سقوطه أيضا.

و الفرق بين الحرج و الضرر أنّ الأوّل أعمّ موردا من الثاني، لشموله للمشقّة التي لا تتحمّل عادة، و إن لم يكن نقص في البين، و قد ثبت في محلّه أنّ الأمور إما دون الطاقة، أو بقدرها، أو فوقها، و الأول مورد في جملة من الأخبار، و الثاني مورد الحرج، و الثالث مورد الضرر.

و نفي الحرج كنفي الضرر يحتاج إلى التقدير، و فيه أقوال ذكرناها في علم الأصول، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (تهذيب الأصول) و اللّه العالم.

بحث عرفاني:

الإنسان المتخلّق بأخلاق اللّه تعالى يكون مظهرا من صفات لطف الحقّ ، و لذا يكون قبوله قبول الحقّ ، و ردّه ردّ الحقّ ، و لعنه لعن الحقّ ، و يكون دعاؤه دعاء الحقّ و كذا صلاته، فإذا صلّوا على أحد كان صلاتهم صلاة الحقّ ، قال تعالى مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله: إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ [سورة التوبة، الآية: 103]، و قال تعالى:

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ [سورة الأنعام، الآية:

162]، و قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ [سورة الأحزاب، الآية: 43].

و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلاّ بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيّا، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ : قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل - كما هو المصطلح عند العرفاء -.

ص: 53

و هذا الكمال لا يتحقّق في الإنسان المؤمن إلاّ بالمعرفة الكاملة و الإفاقة عن الغفلة، و في الآيات المباركة المتقدّمة تلميح إلى ما يصل به المؤمن بالرقي في تلك المراتب، حتّى يصل إلى مقام القرب لديه جلّت عظمته، فقوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقيقيّا، فيكون الخطاب مع الذين قالوا: «بلى» عند ما تجلّى بقوله جلّ شأنه: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ في يوم الميثاق، فعاينوا ثمّ : قالُوا بَلى شَهِدْنا [سورة الأعراف، الآية: 172]، و هم الأولياء، أي: أهل الصف الأوّل - كما هو المصطلح عند العرفاء -.

و أهل الصف الثاني آمنوا إذا شاهدوا، فمرتبتهم و إن كانت راقية و لكنها دون مرتبة الصف الأوّل، كما هو واضح و هم الخواص.

و أهل الصف الثالث آمنوا بعد ما سمعوا الخطاب سماع فهم و رواية، و هم المرتبة النازلة عن المرتبتين، و هم المسلمون و عوام المؤمنين.

و أهل الصف الرابع آمنوا تقليدا لا تحقيقا، لأنّهم ما عاينوا، و لا شاهدوا، و لا سمعوا، فكانوا بعيدين عن خطاب الحقّ فلم يسمعوه، و إنّما انتظروا و لم يؤمنوا حتّى سمعوا جواب أهل الصفوف، و كان سماعهم سماع قهر و نكاية، و هم المنافقون المذنبون.

و أهل الصف الخامس و هم اعترفوا ثمّ أنكروا، لقربهم إلى الشيطان و بعدهم عن الرحمن، و هم الكافرون.

و أهل الصفوف آمنوا في ذلك العالم - بالعيان أو المشاهدة، أو السماع، أو التقليد - كذلك آمنوا في هذا العالم حسب ذلك الإيمان، كما سيأتي في قوله تعالى:

وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى اَلرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ اَلدَّمْعِ مِمّا عَرَفُوا مِنَ اَلْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنّا .

و لعلّ المراد من قوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ من نوم الغفلة، و خرجتم من ظلمات الجهالة، و انتبهتم من رقدة الفرقة و من عتاب الأحبّة، إِلَى اَلصَّلاةِ التي بها تصفي النفوس من لوث الأشباح، و هي المعراج للرجوع إلى مقام القرب، و إنّها أرق و أصفى من المناجاة مع الربّ :

و لقد خلوت مع الحبيب و بيننا *** سرّ أرقّ من النسيم إذا سرى

و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ العبد إذا قام إلى الصلاة رفع اللّه الحجاب بينه و بينه و واجهه بوجهه، و قامت الملائكة يصلّون بصلاته»، فإذا تمّت

ص: 54

التصفية، و استخفّت الروح و رفع الحجاب، فحينئذ وَ اُسْجُدْ وَ اِقْتَرِبْ ، و قبل ذلك كلّه فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ، التي توجّهتم بها إلى الأغيار و دنوتم بها إلى الشيطان، بماء التوبة و الاستغفار، وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، فاغسلوا أيديكم عن الدنيا كلّها حتّى عن الصديق الموافق و الرفيق المرافق، و في الأثر: «انّ المؤمن إذا توضأ للصلاة تباعدت عنه الشياطين خوفا منه». و توجّهوا إلى بارئكم، و خالقكم، و رازقكم، وَ اِمْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ ببذل نفوسكم و فنائها حتّى تشرق عليها شوارق الأنوار، وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى اَلْكَعْبَيْنِ اغسلوا أرجلكم عن تراب الأنانيّة و طين الشهوة إلى أن يحصل لكم شرف حضور القلب بكعب مقام الخلّة، وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً بالالتفات و التوجّه إلى الحجب الماديّة بالسير في الملذّات النفسانيّة، فَاطَّهَّرُوا النفوس عن المعاصي، و القلوب عن رؤية الأغيار، بذلّ العبوديّة للّه تعالى و مخالفة الهوى، ففي الأثر: «انّ سلمان الفارسي سافر في زيارة بعض الأصحاب من العراق إلى الشام راجلا و عليه كساء غليظ غير مضموم، فقيل له:

أشهرت نفسك ؟ فقال: الخير خير الآخرة، و إنّما أنا عبد ألبس كما يلبس العبد، فإذا اعتقت لبست حلّة لا تبلى حواشيها»، فلا بدّ بطهارة الأرواح عن الاسترواح من غيره، وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى بمرض حبّ الدنيا و طلب الجاه، و النيل إلى المقام أَوْ عَلى سَفَرٍ في متابعة الهوى و السير في زوايا الأوهام بالاستيناس مع الأغيار، أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ اَلْغائِطِ في قضاء حاجة مادّية و شهوة شيطانيّة، أَوْ لامَسْتُمُ اَلنِّساءَ بتحصيل لذّة من اللذّات بالبيع من الأشباح أو شراء ما يوجب الاستيناس بغيره جلّ و علا، فَلَمْ تَجِدُوا ماءً للطهارة عن الأدناس بالبعد عن الحقائق، و لم يهدكم أحد إلى التوبة و الاستغفار من ضعف نفوسكم، فَتَيَمَّمُوا بالتمعّك في تراب أقدام الأنبياء، فإنّه طهور للذنوب العظام و سبيل للدخول في نعم الرحمن، فإنّ الجنّة تجرّ أهلها، قال صلّى اللّه عليه و آله: «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسلاسل»، فلا تيئسوا من رحمته و فيوضاته، صَعِيداً طَيِّباً فإنّ إخلاصهم للّه

ص: 55

تبارك و تعالى يوجب خلاصكم و نجواهم معه جلّ شأنه سبب لنجاتكم، و في الأثر:

«من صلّى خلف مغفور، غفر اللّه له»، فطهّروا نفوسكم بالاقتداء بهم، فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ من غبار نعالهم و شمّروا لخدمتهم، ففي الحديث قال صلّى اللّه عليه و آله لبلال: «ما صنعت يا بلال ؟! سمعت دقّة نعليك قبل دخولي الجنّة، فقال: ما عملت عملا أرجى عندي من أني لم اتطهّر طهورا في ساعة من ليل أو نهار إلاّ صلّيت بذلك الطهور»، فسيروا على نهجهم و تمسّكوا بهم، وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي: اعتصموا بقوّة لهم، لأنّهم حبل اللّه الأعظم، بهم ينوّر اللّه تعالى قلوب العباد، و بهم يخرجون الناس من الظلمات و ترفع الحجب المهلكات، ما يُرِيدُ اَللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ، لأنّه تعالى يحبّ خلقه فلا يريد لهم الذلّة بالضيق في الحجاب، وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي: ينقيكم من الشرك بالرقي إلى المقام الرفيع، بالنيل إلى الإخلاص و الفوز بالجزاء، قال تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ ، و الوصول إلى ساحة القرب بالوصال: وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ بكسر أنوار الهواية و الاستقرار في الجنّة العالية، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ بعد هدايتكم للنعم الإلهيّة و الأنوار الربانيّة و الهبات السماويّة، فاذكروا تلك النعم و اشكروه حتّى يزيدكم من فضله، وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ ، فلا تنسوا آلائه تعالى عليكم، و ما منّ عليكم بختم النبوّة في أشرف الكائنات و فخر الموجودات، و بالولاية لسيّد الأوصياء الذي اصطفاه لحبّه و اجتباه لحضرته، وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ في ظهر آدم و عالم الميثاق، أو الميثاق الذي أخذه نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله حين بايعه المسلمون، فعن أبي ذر (رضوان اللّه تعالى عليه) قال: «بايعني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله خمسا و أوثقني سبعا و أشهد اللّه عليّ سبعا أن لا أخاف في اللّه لومة لائم»، فهو (رضوان اللّه عليه) رفض الدنيا و هاجر إلى ربّه بعد ما مدّ يد البيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و دافع عن الحقّ و الولاية بوحده، حتّى عاش وحده زاهدا و مات وحده شهيدا، و هاجر إلى ربّه مظلوما، فسلام اللّه تعالى عليه حين أسلم و حين قام و قعد و حين رجع إلى

ص: 56

ربّه مطمئنا و فاز بما وعد اللّه تعالى له على لسان النبي الأمين إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا ، لأنّه أخرجكم من ظلمة العدم إلى نور الوجود، فسمعتم قول ربّكم حيث قال تعالى: أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ ، و أطعتم حيث قلتم «بلى» حسب اختلاف تأهّلكم، وَ اِتَّقُوا اَللّهَ في نقض ميثاقه و نسيان نعمه، إِنَّ اَللّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ اَلصُّدُورِ ، لأنّه يعلم الأسرار و الخفايا و ما يكن في الصدور، فأوفوا بعهوده و لا تنقضوها، و اتّقوه في جذب الأخلاق المرضية، و ابتغاء الوسيلة إليه بفناء الناسوتيّة في بقاء اللاهوتيّة و تخلّص العبد من ظلمة الأوصاف الناشئة من الزلات النفسانيّة، بالجهاد في سبيل اللّه تعالى لاضمحلال الأنانيّة.

اللهم اجعلنا ممّن سبقت له العناية، و أفضت عليه توفيق العبادة، و تفضّلت عليه بالرقيّ إلى المقامات العالية، إنك سميع مجيب.

ص: 57

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ ت.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اِتَّقُوا اَللّهَ إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ (11) وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ (13) وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) الخطاب للمؤمنين يذكرهم عزّ و جلّ بأهمّ قضية من القضايا التي تمسّ حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و الماديّة و المعنويّة، و هي من شؤون القضية الرئيسة في جميع الأديان الإلهيّة، و هي قضية: «لا إله إلاّ اللّه»، التي آمنوا و أعطوا السمع و الطاعة بما تتضمّن من العهود و الأحكام و التوجيهات و الإرشادات و المعارف،

ص: 58

التي تعدّهم إعدادا علميا لنيل الكمالات و الفوز بالسعادة، و هي التي تجعلهم خير امّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، و لا ريب أنّ هذه المنزلة العظيمة تستدعي أن يكون المؤمن مستعدا استعدادا متكاملا علميا و عمليا و خلقيا لذلك.

و هذه الآيات الشريفة تشتمل على جملة من التوجيهات و الإرشادات التي تهدي المؤمنين و تهيؤهم للوصول إلى تلك المنزلة التي أرادها اللّه تعالى لهم، فأمرهم عزّ و جلّ أوّلا بالقيام بوظائف العبوديّة و أداء حقوق الربوبيّة بالايتمار بأوامره و الانتهاء عن مناهيه، فإنّه أوّل المنازل، و الاستقامة عليه، و أحكم ذلك بالأمر بابتغاء العدل في جميع الأمور و مراعاته في كلّ الأحوال، و الشهادة بالقسط ليصلوا إلى تلك المنزلة العظيمة التي هي أقرب ما يمكن أن يصل به المؤمن إلى الكمال، و هي التقوى التي هي السبيل الأمثل في تصفية النفوس و تخليتها عن الرذائل و تحليتها بالمكارم و الفضائل، و أمر بالعدل و أكّد عليه تأكيدا شديدا، لأنّه الميزان الأقوم في تقويم الأعمال و تمييز صحيحها عن سقيمها.

ثمّ ذكر أحوال الأمم السابقة التي آمنت ثمّ نكصت عن إيمانها، فنكثت المواثيق التي أخذها اللّه تعالى منهم و أعطوا السمع و الطاعة عليها، فكان عاقبتهم البعد عن الكمال، و الشقاء و الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة، فكانت أحوالهم خير معين لتزكية النفوس و وقايتها من الوقوع في مهاوي الرذيلة و البعد عن الكمال.

كما ذكرهم بالنّعم العظيمة التي تستدعي دوام الشكر عليها و استدامة الطاعة و القيام بوظائف العبوديّة.

و قدّم عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة التحلية بفضيلة القيام للّه تعالى و الشهادة بالعدل، و العمل به، و التحلّي بالتقوى على التخلية عن الرذائل. مع أنّ الأمر الثاني مقدّم على الأوّل كما هو معلوم، لأنّ ما ذكره عزّ و جلّ في المقام هو

ص: 59

العلّة التامّة للتخلية عن بعض الصفات الرذيلة التي تكون مانعة عن التحلّي بمكارم الأخلاق و نيل الكمالات.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ لِلّهِ .

القوام من صيغ المبالغة، و المراد به كثرة القيام له عزّ و جلّ بالملازمة لأداء حقوقه، و الوفاء بعهوده، و الإخلاص في الأعمال ابتغاء لمرضاته عزّ و جلّ حتّى تصير عادة لكم، و خلقا كريما فيكم، فتكونوا مظهرا من مظاهر أسمائه المقدّسة، و لتكونوا دعاة إلى اللّه تعالى بأعمالكم و أقوالكم.

قوله تعالى: شُهَداءَ بِالْقِسْطِ .

القسط هو العدل، و تقدّم الكلام في اشتقاقه في قوله تعالى: ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اَللّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاّ تَرْتابُوا [سورة البقرة، الآية: 282]، و سبق الكلام في معناه في آية - 135 من سورة النساء.

و المعنى: كونوا شهداء بالعدل بابتغاء الحقيقة في الشهادة و أداء الواقع على ما هو عليه، بغير ميل و لا حيف اتباعا للهوى، و الآية المباركة تشابه الآية الكريمة التي وردت في سورة النساء يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ اَلْوالِدَيْنِ وَ اَلْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اَللّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (الآية: 135)، فإنّهما تشتركان في جملة من الأمور:

منها: الأمر بالقيام بالوظائف العبودية، و الوفاء بعهود اللّه تعالى بتنفيذ أحكامه المقدّسة و الشهادة بالقسط بإخلاص، ابتغاء لوجه اللّه تعالى و رضائه، و طلبا لإقامة القسط و العدل، و بيان الواقع.

ص: 60

و منها: النهي عن اتّباع الهوى بالانحراف عن القسط في الشهادة، إما ميلا إلى أحد الأطراف، أو حيفا و ظلما عليه لسابق عداوة و بغضاء بينهما.

و منها: اتّحادهما في بيان أهميّة العدل و عظيم أثره في جميع العوالم و كلّ الشؤون في عالم الشهادة، فإنّ به تنظم حياة الإنسان الدنيويّة و الاخرويّة، و يصل كلّ فرد إلى جزاء عمله. و عليه تتوقّف استقامة الأمور، و هو القاعدة الرصينة المحكمة التي تعتمد عليها جميع الفضائل و به تتهذّب النفوس و تزول الرذائل، و قد عدّه بعض أعاظم فلاسفة اليونان أساس كلّ فضيلة، و ميزان كلّ عمل و عقيدة، و به يميز الصالح من الأعمال عن الطالح، فإذا انضم إليه القيام للّه تعالى، كان العمل زاكيا خالصا من كلّ ما يوجب الشين و الفساد، و صار الفرد مخلصا و دخل في زمرة عباد اللّه المخلصين الذين استثناهم الشيطان من غوايته، قال تعالى حاكيا عنه:

لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ * [سورة الحجر، الآية: 40].

و لكنهما تختلفان في الغرض الذي سيقت له الآيتان الشريفتان، فإنّ الغرض من آية النساء هو الردع عن الانحراف في الشهادة اتباعا للهوى بالتحيّز لأحد الأطراف، سواء كان قريبا أم بعيدا، ابتغاء للنفع، و لذلك أمر عزّ و جلّ بالشهادة للّه ابتغاء لرضائه، فنهى عن اتّباع الهوى، فقال تعالى: فَلا تَتَّبِعُوا اَلْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا .

و أما آية المائدة فإنّ الغرض منها هو الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة استجابة للنزعة العصبية، بالحيف على من له سابق عداوة معه، فيقيم الشهادة على غير القسط و العدل انتقاما من المشهود عليه، و لذلك أمر عزّ و جلّ بالشهادة بالقسط، التي هي من مظاهر القيام للّه تعالى، و لذلك فرّعها عليه.

و يمكن أن يقال أيضا: إنّ آية النساء بمضمونها الرفيع، كالمقتضي لآية المقام، حيث أمر جلّ شأنه بالقيام بالقسط و الشهادة للّه عزّ و جلّ و النهي عن اتّباع الهوى، فإنّه المانع عن العدل الذي به تساس العباد و تقام أركان الحياة، و يساق الناس إلى يوم المعاد، و به يصل العبد إلى منزلة القيام للّه تعالى بتخليص نفسه من الرذائل

ص: 61

و الآثام، و طاعة اللّه و العمل بشرائعه و تكاليفه، و هذه المنزلة لا يمكن أن يصل إليها الإنسان إلاّ بطي مراحل، منها: الخروج عن التكاليف الربانيّة و المواثيق الإلهيّة بسلام و أمان، و منها: إقامة الشهادة للّه تعالى و القيام بالقسط في جميع الأمور حبّا له عزّ و جلّ ، لا يستفزه حبّ مال أو جاه أو شخص قريبا كان أم بعيدا، فتكون آية النساء كالمقتضي لآية المائدة و المعدّ لها.

و تجمع الآيتين رابطة محكمة قويمة و هي التقوى، لأنّها أساس الكمالات و روح كلّ عبادة و عمل صالح. و لذا أكّد عليها عزّ و جلّ و حذّر على تركها بقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاّ تَعْدِلُوا .

ردع عن الظلم في الشهادة و تحذير من عدم العدل فيها، و تقدّم الكلام في مادة (جرم) في آية - 2 من هذه السورة و الشنآن شدّة البغض و العداوة.

أي: و لا يحملنكم شدّة بغضكم لقومكم و عداوتكم لهم على أن لا تعدلوا في أمرهم، بأن لا تشهدوا لهم في حقوقهم بالعدل، فلا تظلموا أحدا حتّى لو كان عدوّا لكم.

قوله تعالى: اِعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى .

تأكيد على مراعاة العدل في جميع الأمور، و في خصوص الشهادة على المشهود له و إن أبغضه، بأن لا تكون عداوته أو كفره مانعا عن العدل عليه، و الضمير (هو) يرجع إلى العدل الذي تضمّنه الفعل.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ العدل من الأسباب القريبة للتقوى، التي هي نهاية الطاعة و أسمى الكمالات و أساس المكارم و منها تنبثق سائر الفضائل، لأنّ العدل طاعة تناسب طاعة التقوى، و لهذا تحقّق القرب بينهما.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

فإنّ التقوى هي الغاية من إرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الأحكام،

ص: 62

و فيه التأكيد الشديد على التقوى، و التنبيه على أنّها الغرض من تشريع تلك التوجيهات الربوبيّة و الأحكام التربويّة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ .

تحذير عن المخالفة و الإعراض عن الطاعة، فإنّ اللّه تعالى عالم بالخفايا و ما خطرت على قلوبكم فكيف بأعمالكم، فيجازيكم حسب أعمالكم و يحاسبكم بما استقرّت في نفوسكم من النوايا السيّئة.

قوله تعالى: وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ .

تأكيد لما سبق و بيان لقوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ، فذكر أوّلا جزاء المؤمنين الذي عملوا الصالحات، و هي التي تصلح أمر العباد في معاشهم و معادهم ممّا شرعه اللّه تعالى من الأحكام و الإرشادات، و منها ما تقدّم في الآية السابقة من العدل و التقوى اللذين هما أساس كلّ تكليف و روح العمل الصالح، كما عرفت آنفا.

و إنّما قدّم جزاء المؤمنين اهتماما بشأنهم و تعظيما لأجرهم، كما أنّه تعالى ذكر الإيمان و العمل كليهما، لبيان أنّ أحدهما غير كاف للفوز بالمغفرة الإلهيّة و نيل الجزاء العظيم، كما دلّت عليه آيات عديدة في مواضع متفرّقة، بل لم يذكر عزّ و جلّ في القرآن الكريم الإيمان إلاّ مقرونا بالعمل الصالح، للدلالة على ذلك.

و عن بعض المفسّرين أنّ المراد من الإيمان هنا هو الحاصل بالبيعة مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و بالعمل الصالح البيعة مع علي عليه السّلام، و هذا تفسير بالمصداق الكامل، لأنّ العمل الصالح أعمّ ممّا ذكر، و أنّ المراد من الإيمان هو الإيمان باللّه العظيم، و إن استلزم ذلك الإيمان بنبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سائر الأنبياء و الأوصياء.

قوله تعالى: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ .

بيان لما وعد به عزّ و جلّ لهم، و هي جملة مستأنفة تدلّ على أهميّة الموعود و التأكيد عليه. و هذا الأسلوب أبلغ من تعلّق الوعد بالموعود، كما في قوله تعالى:

ص: 63

وَعَدَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا اَلصّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً [سورة الفتح، الآية: 29]، لأنّه يدلّ على مزيد عناية، بتقريره و إنشاء الوعد صريحا من غير دلالة عليه ضمنا، بخلاف آية الفتح.

و المغفرة: الستر، أي أنّ إيمانهم و عملهم الصالح يوجبان غفران اللّه تعالى لهم بستر ذنوبهم و محو آثارها من نفوسهم. و أما الأجر العظيم، فهو الجزاء المضاعف الذي لا حدّ لعظمته، لأنّ المفاض منه كذلك.

قوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ اَلْجَحِيمِ .

بيان لفرد آخر ممّن يعلمه اللّه تعالى، و من سنّته عزّ و جلّ في القرآن الكريم أن يقرن الوعد بالوعيد، و يذكر الطائفتين المؤمنة و الكافرة، إتماما للحجّة و إيضاحا للمحجّة و وفاء بحقّ الدعوة، و لأنّ الجمع بين الترغيب و الترهيب من الأساليب البديعة في الكلام.

و الجحيم اسم من أسماء النار - أعاذنا اللّه تعالى منها - و هو مأخوذ من الجحمة، و هي شدّة تأجّج النار، كما أنّه اسم لدرك من دركات النار.

و إنّما جمع عزّ و جلّ بين الكفر و تكذيب الآيات، إما لبيان أنّ الكفر كان عن عناد و استكبار، و لأجل الإعلام بأنّ كفرهم بلغ إلى حدّ إنكار الحقّ مع العلم بكونه حقّا، فيخرج من لم يبلغ كفره كذلك كما في كفر المستضعفين. أو الإيماء إلى أنّ كفرهم بلغ حدّ النكوص عن طاعة اللّه تعالى بالإعراض عن أنبيائه و تشريعاته.

و كيف كان، فقد ذكر عزّ و جلّ الحدّ بين الطاعة و الإعراض، و لكلّ منهما مراحل متعدّدة و منازل كثيرة، و على اختلافها تختلف درجات الثواب و العقاب.

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

تذكير للمؤمنين بما أنعم عليهم من النصر و العزّة و الغلبة على الأعداء و المشركين، و حفظهم من مكائدهم و شرورهم، و الآية المباركة تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ على المؤمنين التي خصّهم بها في جميع الغزوات و الوقائع التي دارت بين

ص: 64

المسلمين و الكفّار، الذين كان همّهم الوحيد محو أثر الإسلام و القضاء على دين الحقّ ، ممّن كان في عصر النزول و من هم بعده إلى يوم القيامة.

منها: تثبيت الهمم و ترسيخ العقيدة و الإيمان، و التأسّي بالسلف الصالح في تحمّلهم المشاقّ و حثّهم على تحمّل الجهد.

و منها: الحثّ على الصبر على البلاء و المحن في سبيل اللّه تعالى.

و منها: ترغيبهم إلى الشكر، فإنّه السبب في إدامة النعمة و زيادتها، قال تعالى: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم، الآية: 7]، و غير ذلك من المصالح قوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ .

الهمّ هو القصد، و البسط هو المدّ، و يختلف باختلاف متعلّقه، فإذا استعمل في اليد كان المراد به هو البطش بها بالقتل و الإهلاك، و في اللسان هو الشتم و السباب.

و في تقديم الجار و المجرور على المقول الصريح، لبيان أنّ ضرر البسط راجع إليهم، و حملا للمؤمنين على الاعتداد بنعمة دفعه. و الجملة بيان لبعض أفراد النعمة التي أنعم تعالى بها على المؤمنين.

قوله تعالى: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ .

الفاء للتعقيب المفيد لتمام النعمة و كمالها و تحقّقها بعد الهم بلا فصل، و إظهار الأيدي «أيديهم» لزيادة التقرير.

و المعنى: أنّه منع أيديهم أن تصل إليكم و عصمكم منها بعد أن أرادوا بسطها عليكم، و في ذلك مزيد العناية و اللطف و كمال النعمة كما لا يخفى، حيث لم يجعلها أن تمتد إليكم بالأذى.

قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ .

تأكيد على مراعاة التقوى في عموم الأحوال، لا سيما في ما ذكره عزّ و جلّ آنفا بأداء حقوق تلك النعمة و رعايتها، و يستفاد من الأمر بالتقوى التحذير الشديد عن تركها، لأنّ لها الأهميّة العظمى في الشريعة و تهذيب النفوس و تكميلها.

ص: 65

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ .

أمر بالتوكّل على اللّه تعالى خاصّة دون غيره من الأسباب، استقلالا و مشاركة معه عزّ و جلّ . و إنّما قدّم التقوى للإعلام بأنّ التوكّل على اللّه تعالى كذلك لا يمكن أن يحصل إلاّ بعد معرفته عزّ و جلّ و إتيان جميع السبل الموصلة إليه تعالى و ترك ما لا يرضيه، فمن أعرض عن الطاعة و تنكّب عن سنّة اللّه تعالى و خالف شريعته، لا يسمّى متوكّلا عليه عزّ و جلّ ، و تقدّم في قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران، الآية: 160] بحث في التوكّل يتضمّن جوانب عديدة فيه فراجع، و الآيتان متشابهتان في النسق و التعبير.

و إطلاق الآية المباركة هنا يشمل جميع الأمور التشريعيّة و التكوينيّة، بأن يوكلوا أمر الدين عليه عزّ و جلّ و يكفّوا عن إبداء الرأي فيه، فإنّ عليهم الطاعة في ما أنزله تعالى من التشريعات من دون تصرّف فيها، و عليه الكلاءة لهم في جميع أمورهم، فإنّه القادر وحده على صرف ما يريده الأعداء من السوء.

و الآية المباركة تحذّر المؤمنين من ترك التقوى و ترك التوكّل عليه عزّ و جلّ ، لما له من الأثر السيء، و يظهر ذلك بوضوح فإنّه عزّ و جلّ ذكر ذلك بعد سرد أحوال أهل الكتاب، لا سيما اليهود منهم خاصّة الّذين أخذ منهم الميثاق و أعطوا السمع و الطاعة ثمّ نقضوه و أعرضوا عن الطاعة، فابتلاهم اللّه تعالى بأنواع البلاء و المحن و لعنهم لعنا وبيلا، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في ما تقدّم، فكان ذلك داعيا للمؤمنين بالتمسّك بحبل اللّه و إعطاء السمع و الطاعة و متابعة الرسول، حتّى لا يقعوا في ما وقع فيه أهل الكتاب، فكان المقام يقتضي تحذيرهم عن مخالفة التقوى و ترك التوكّل على اللّه عزّ و جلّ ، و إن كان ظاهر الكلام بصورة الأمر فإنّه ادعى للتحذير، و للاعتبار بأحوال الماضين.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ .

كلام مستأنف لمزيد التقرير على ذكر النعمة و شكرها و مراعاة حقّ الميثاق،

ص: 66

و تحذير المؤمنين من نقضه، و تذكير لهم بما حلّ على بني إسرائيل من صنوف البلاء و المحن و العذاب جراء نقضهم المواثيق الإلهيّة، فتكون أحوالهم داعية للاعتبار بها، كما عرفت آنفا.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أسلوب القسم و أظهر الاسم الجليل، لإفادة التأكيد و تفخيم الميثاق و تهويل الخطب في نقضه.

قوله تعالى: وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اِثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً .

تذكير آخر للمؤمنين بما جرى على بني إسرائيل من أحكام دينهم و تثبيت أمرهم. و الجملة تدلّ على كمال الاهتمام و التشويق لما في الالتفات في الكلام و تقديم المفعول.

و مادة (نقب) تدلّ على الأثر الحاصل في الشيء و الذي له عمق، و منه النقب في الحائط أو الجلد، أي: الثقب فيهما، و منه النقب في الجبل، أي: الطريق فيه، يقال:

سلك الرجل المناقب، أي: سار في طرق الجبال، كما يقال: فلان حسن النقبة، أي:

جميل الخلقة، و منه النقيب بمعنى مطلق التفتيش، قال تعالى: فَنَقَّبُوا فِي اَلْبِلادِ [سورة ق، الآية: 36]، و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «إنّي لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس»، أي أفتش و اكشف عنها.

و النقاب مصدر يطلق على العالم بالأشياء الكثيرة الباحث عن الأمور.

النقيب: الشريف و السيد الباحث عن أحوال القوم، باعتبار كونه أمينا و كفيلا عليهم و يفتش عنهم و يعرف مناقبهم.

و تدلّ الآية الشريفة على أنّ النقباء في بني إسرائيل كانوا من عند اللّه تعالى، بعثهم عليهم لمراعاة أحوالهم و كفالة أمورهم و إقامة شعائر دينهم.

قوله تعالى: وَ قالَ اَللّهُ إِنِّي مَعَكُمْ .

إيذان بالمراقبة و الحفظ و المعونة و النصر، و ذلك مشروط بالطاعة و حفظ المواثيق، كما تدلّ عليه الآية التالية. و هذا القول منه عزّ و جلّ لموسى عليه السّلام مخاطبا به

ص: 67

بني إسرائيل، و كان الأنبياء يبلّغونهم ذلك و يذكّرونهم بحفظ المواثيق و يحذّرونهم من نقضها و يوعدونهم عليها، كما فعله موسى عليه السّلام لقومه.

قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ .

بيان للشرط و هو مركّب من الإيمان و العمل الصالح، و إنّما قدّم عزّ و جلّ الأخير، لأنّهم كانوا مؤمنين باللّه و رسوله و معترفين بنبوّة موسى عليه السّلام، و لبيان أهميّة العمل الصالح، مع علمه تعالى بأنّهم يعرضون عن الطاعة، و لذا أكّده سبحانه و تعالى حيث أتى بأسلوب القسم، و جمع بين فردين من أفراد الطاعة، أحدهما تطهّر النفوس و تزكّيها و هي الصلاة و الإقامة عليها بإتيانها تامّة جامعة للشرائط، و الثانية تطهّر الأموال و تزكّيها، و إن كانت تطهّر النفوس من رذيلة البخل و الشحّ أيضا.

قوله تعالى: وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ .

بيان للفرد الآخر من الشرط المزبور، و هو الإيمان بجميع الرسل السابقين منهم و اللاحقين و التصديق بهم. و مادة (عزر) تدلّ على المنع و الذبّ ، و منه العزر كالارز، و هما القوة، فإنّ في التقوية منعا لمن قويته عن غيره، كما أنّ منه التعزير في الشرع، و هو ما كان دون الحدّ، لأنّه ردع و منع عن ارتكاب القبائح و الفحشاء، فالتعزير تارة يكون بالردّ عن المرء ما يسوؤه و يضرّه، و اخرى ما يكون بردّه عمّا يضرّه، فالأول هو تعزير الرسل و الأنبياء، و الثاني هو تعزير مرتكبي القبائح.

و المراد به في المقام هو النصرة مع التعظيم، أي: و نصرتموهم، فإنّها نصرة دين اللّه تعالى و تقدّس.

قوله تعالى: وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً .

أي: و أنفقتم في سبيل اللّه تعالى بالمعروف من دون أن يتبعه منّا و لا أذى، و هو عامّ يشمل الإنفاق بالمال و غيره، و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى:

مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245].

ص: 68

و الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، فهو استعارة عن وعده الجميل و جزائه العظيم بذكر القرض الذي يقضى بمثله، و إنّما ذكره عزّ و جلّ في المقام و أخذ عليه الميثاق لأهمّيّته في ترويض النفوس و شدّ الأزر و التعاون بين أفراد المجتمع و سدّ الحاجة، و لأنّهم عرفوا بالشحّ و البخل فأراد سبحانه و تعالى تطهيرهم منهما، فإنّ الشحّ رذيلة مهلكة.

قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ .

التكفير هو الستر و التغطية، و تقدّم ما يتعلّق باشتقاق هذه المادة، و الجملة جواب للقسم، أي: إن وفيتم بالعهد و الميثاق، بالعمل بتلك الحسنات الخمس، لأسترن عليكم سيئاتكم بمحوها و رفع آثارها من نفوسكم فتطهر بتلك الحسنات، فإنّها تذهب السيئات كما اقتضت سنّته عزّ و جلّ .

قوله تعالى: وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا اَلْأَنْهارُ .

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّ العلّة في الدخول في جنّات تكون في غاية البهاء و النضرة و الجمال، إنّما يكون بتطهير النفوس من الذنوب و ستر العيوب، ضرورة تقدّم التخلية على التحلية، فلا يدخلها إلاّ من هو طاهر النفس.

قوله تعالى: فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ .

بعد بيان الوعد الجميل و ما يوجب نيل الجزاء العظيم، ذكر تعالى حكم من كفر بما هو داخل في حيّز الشرط المزبور المستلزم للكفر باللّه تعالى أيضا، تقوية للترغيب و الترهيب، فتكون الفاء للترتيب، و المراد بقوله تعالى: بَعْدَ ذلِكَ ، أي:

بعد أخذ العهد و الميثاق على العمل بما شرطه و وعده عزّ و جلّ ، و جيء به لبيان أنّ الكفر منهم إنّما يكون عن عناد و لجاج، و بعد تماميّة الحجّة عليهم.

و لعلّ تغيير الخطاب في الموردين حيث لم يقل: (و إن كفرتم)، لإسقاط من كفر عن رتبة الخطاب، أو لإسقاط احتمال كفر الجميع عن حيز الاحتمال.

ص: 69

قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ .

أي: من كفر كفرا واضحا لا شبهة فيه و لا عذر معه، خرج به عن السّبيل السوي الذي يوصل سالكه إلى الكمال المنشود و السعادة التي تصلح بهما دينهم و دنياهم و آخرتهم، و يجعله أهلا لمورد الإفاضة و حبّه عزّ و جلّ و جواره في تلك الجنّات الخالدات، و من خرج عن سواء السّبيل يدخل في إحدى السبل الباطلة الموبقة التي تفسد الفطرة و ينتهي سالكها إلى سوء العاقبة، و يدنس النفس، و يورد صاحبها إلى الجحيم، بخلاف الكفر قبل ذلك، فإنّه قد يكون معه شبهة و عذر، فيأتي الامتحان و الاختبار لكشف الحقيقة و إظهار الواقع.

قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ .

تفصيل بعد إجمال، فإنّه تعالى بعد ذكره جزاء الكفر بالميثاق الذي أخذ منهم و هو الضلال، ففي هذه الآية الشريفة يبيّن تفصيلا لما يوجب الضلال، كتحريف الكلم عن مواضعه، أو نسيان الحظّ الذي أوتوه، و نقض المواثيق، و أنواع النقم، كاللعن و قساوة القلوب و غيرهما.

و الباء في قوله تعالى: «فبما» للسببيّة، و «ما» للتأكيد، أي: بسبب نقضهم لميثاقهم، و كفرهم باللّه جلّت عظمته، و إعراضهم عن الطاعة، حلّت البلايا و الرذائل عليهم.

و الآية المباركة تدلّ على أنّ النقض هو السبب الوحيد في ما حلّ بهم من أنواع البلاء و ما استحقّوه من الجزاء لا غيره، لا استقلالا و لا انضماما.

و المراد من الميثاق هو ما ذكره عزّ و جلّ في ما سبق من الآيات، و هو الإيمان باللّه تعالى و رسله، و نصرتهم، و تنفيذ أحكامه المقدّسة، و قد ذكر عزّ و جلّ أنواعا من الآثار المترتبة على الضلال، بعضها يتعلّق بالدنيا، و الاخرى بالجزاء الاخروي، و ثالثة بالنفوس.

قوله تعالى: لَعَنّاهُمْ .

اللعن هو الطرد عن الرحمة الإلهيّة التي هي السبب الوحيد في السعادة

ص: 70

و التوفيق للاستكمال و الوصول إلى مقام القرب و الدخول في النعم الأبديّة، و اللعن إنّما يتعلّق بمن انهمك في العصيان و نقض المواثيق على الدوام، و أفسد فطرته بارتكاب الآثام و هتك حرامات اللّه تعالى، و قسى قلبه بالتعدّي على حدود الرحمن، فلم تنفعه آيات اللّه تعالى و مواعظه، و لذلك اتّخذها هزوا و لعبا.

قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً .

أي: صلبة غليظة لا تنفعل عن الآيات و النذر، و لا تخضع للحقّ ، كما لا تخشع لآيات السماء، و لا تتأثّر برحمته عزّ و جلّ ، قال تعالى: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اَللّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ اَلْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ اَلْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [سورة الحديد، الآية: 16]، و هي مأخوذة من قسوة الحجارة، أي: صلابتها، بحيث لا يؤثّر فيها الماء و لا ينبت عليها الزرع و النبات.

و إنّما جعل قلوبهم كذلك، لأنّهم انهمكوا في الطغيان بسبب نقضهم الميثاق و ما يترتب عليه من الكفر و المعاصي و ارتكاب الآثام، فأثّرت تلك في نفوسهم فأبعدتهم عن الرحمة الإلهيّة و فضله العظيم، و أقست قلوبهم حتّى لا تؤثّر فيها حجّة و لا موعظة، و لا تكاد تركن إلى الحقّ ، و هذا معنى جعله عزّ و جلّ قلوبهم قاسية، فإنّه حصل بفعلهم، و من سنّته عزّ و جلّ تأثير الأعمال و السجايا و الأخلاق في القلوب و النفوس، إلاّ من أدركته الرحمة الإلهية، و لعلّه لذلك قدّم سبحانه و تعالى اللعن على القسوة، فإنّ الأوّل هو المقتضي للثاني.

قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ .

بيان لبعض آثار قسوة القلب، فإنّها توجب انتهاك حرمات اللّه تعالى و عدم تعظيم شعائره، فلا مرتبة أعظم من الاجتراء على كلام اللّه تعالى بتحريفها بما لا يرضاه عزّ و جلّ و الافتراء عليه، و قد عرفوا بالتحريف، و لعلّه لذلك أتت الجملة على صيغة المضارع لاستحضار تلك الصورة و لبيان استمرارهم عليه.

ص: 71

و عموم التحريف يشمل الحذف و التبديل و الزيادة و التغيير و التقديم و التأخير، و تحريف الألفاظ و المعاني بحمل اللفظ على غير ما أريد منه، و قد حصل كلّ ذلك منهم في كلام اللّه تعالى، كما حكي عنهم في غير موضع من القرآن الكريم، و أثبتته كتب التواريخ، فراجع كتب شيخنا البلاغي (رحمة اللّه عليه)، فإنّه قد كفانا مؤنة النقل، جزاه اللّه تعالى خير جزاء العاملين.

قوله تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ .

أي: بسبب تحريفهم لكلام اللّه تعالى أن فاتتهم حقائق واقعيّة و معارف ربوبيّة و توجيهات و إرشادات إلهيّة من الدين التي لم تكن إلاّ حظا سعيدا لهم، فأفسدوا سعادتهم بسبب هذا النسيان و الضياع، فلا يكون عقابها إلاّ الشقاء و الحرمان.

و قد حكى تبارك و تعالى في القرآن الكريم جملة ممّا تركوه، كقولهم بالتشبيه، و تحريمهم للطيبات، و الإعراض عن الإيمان بخاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و عصيانه و غير ذلك، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: أَ لَمْ تَرَ إِلَى اَلَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ اَلْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اَللّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ [سورة آل عمران، الآية: 23]. و هذا من جملة الملاحم القرآنيّة التي تنبّه المؤمنين إلى لزوم الطاعة و اتّباع كتاب اللّه تعالى و عدم الوقوع في ما وقع فيه أهل الكتاب، و إلاّ أصابهم بمثل ما أصابهم.

قوله تعالى: وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ .

الخائنة بمعنى الخيانة، كالكاذبة، و اللاغية، و القائلة، فتكون مصدرا على وزن فاعلة، و قد يعبّر بصيغة الفاعل بالمصدر و بالعكس أيضا.

و قيل: إنّها وصف لمحذوف إما مذكر و الهاء للمبالغة، كما في راوية لكثير الرواية. و إما مؤنّث بتقدير موصوف مؤنّث كالفرقة، و الطائفة و نحوهما.

و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله، أي: أنّ الخيانة عادة مستمرة فيهم، فلا تزال تطلع

ص: 72

على الخيانة منهم، أو على طائفة خائنة منهم، فلا تكن في مأمن من مكرهم و خيانتهم، فإنّهم قوم لا أمان لهم مع ما هم عليه من نقض المواثيق و قساوة القلب و اللعن و التحريف.

قوله تعالى: إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ .

تقدّم الكلام في مثل هذا الاستثناء، و هو لا ينافي ثبوت اللعن و العذاب للمجموع من حيث هو مجموع، و لا يختصّ بمن سبق إيمانه. بل يشمل كل من تشمله العناية الإلهية، فيدخل في الإيمان و يصير كواحد من المؤمنين.

قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ .

بعد إعلامه صلّى اللّه عليه و آله بأنّ في أهل الكتاب - لا سيما اليهود منهم - على خائنة يتربّصون بدين الحقّ و برسوله و المؤمنين الدوائر، و يضمرون السوء و العدوان، و تحذّره صلّى اللّه عليه و آله منهم.

و في هذه الآية المباركة يرشده إلى عدم المبادرة إلى العقوبة و التريث في التوبيخ و المؤاخذة، و يأمره بالعفو عنهم و الستر على مظالمهم، و الصفح عن مسيئهم، لعلّهم يرجعون إلى دين الحقّ و يهتدون بهدي الإسلام، و يقتدوا بالرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، فينبذون العداء و يتركون البغضاء.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُحْسِنِينَ .

تعليل للأمر السابق، و إرشاد إلى أنّ العفو من باب الإحسان، و يتضمّن الوعد الجميل بمعاملتهم بالإحسان الذي يحبّه اللّه تعالى، و الرسول أحقّ الناس أن يتبع ما يحبّه اللّه تعالى.

و الآية الشريفة من الآيات التربويّة الإصلاحيّة التي تهذّب النفوس و تروضها على العفو و الإحسان، و تظهر أهميّة مضمونها أنّها ذكرت في آخر الآيات التي تبيّن حقيقة تلك النفوس المريضة التي اعتادت على جميع سبل الشرّ، و القلوب القاسية التي ما برحت على هتك حرمات اللّه تعالى.

ص: 73

و من ذلك يعرف أنّه لا وجه للقول بنسخها، أو أنّ المراد بها الذين تابوا أو دخلوا في الإسلام، فإنّه لا دليل عليهما، مع أنّ التوبة و الإسلام يجبّان ما قبلهما، فلا مؤاخذة حينئذ حتّى يأمره بالعفو و الصفح، هذا مع أنّ عموم الآية المباركة و إطلاقها يدلاّن على ما ذكرناه.

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ .

بيان حال النصارى بعد بيان نبذة من أحوال اليهود و قبائحهم ملزيد العبرة، و النصارى اسم لاتباع عيسى بن مريم عليهما السلاّم، و لعلّ ذكره عزّ و جلّ له في المقام لمزيد التشنيع و التوبيخ، فإنّ من يدّعي نصرة اللّه تعالى و يتسمّى بهذا الاسم، لا بدّ و أن يعمل بموجبه و يلتزم بما يتعهّد و لا ينقض المواثيق، فهم في الواقع ليسوا بنصارى و إن قالوا إنا نصارى.

و إنّما أخذ عزّ و جلّ منهم الميثاق لنصرة دين اللّه تعالى بشريعته، و الإيمان بالرسول الذي يأتي من بعد عيسى عليه السّلام.

قوله تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ .

أي: أنّهم بسبب انهماكهم في نقض الميثاق و الإقبال على الدنيا و ملاذها، نسوا النصيب الوافر من العلم و المعرفة التي ترشدهم إلى سعادتهم، ممّا ذكرهم به عيسى بن مريم عليه السّلام الذي كان نبي الرحمة و العطف، و التآلف، و الصلح، و الوئام، فقد بدّلوا كلّ ذلك إلى أضدادها، كما حكي عزّ و جلّ عنهم، و ساروا في السبل التي تبعّدهم عن الأخلاق السامية، و الفضائل الرفيعة، و الأوصاف النبيلة و غيرها ممّا كانت هدف الأنبياء عليهم السّلام و بنيّة المجتمع الراقي و محور الإنسانيّة، و لذلك فشت الصفات الرذيلة بينهم كما ذكره جلّ شأنه.

قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

مادة (غرى) تدلّ على اللصوق، و منه الغراء، و هو ما يلصق به و يتّخذ من أطراف الجلود و السمك، و هو بالمدّ أو القصر، و أغريت فلانا بكذا إذا ألهجته فلصق

ص: 74

به، و غريت بالرجل غرى أو غراء بالمد إذا لصقت به، و الفاء للسببيّة.

و المعنى: كان نسيانهم الحظّ العظيم الذي ذكرهم به نبيّهم، سببا لوقوعهم في معادات في الأفعال و مباغضة في القلوب، لصقت بهم حتّى صارت من سجاياهم و صفاتهم المرتكزة في نفوسهم، فاختلفوا من حين رفع المسيح عليه السّلام إلى أهواء متشعّبة و فرق متعدّدة، تبغض كلّ فرقة أختها و تلعنها، فبدّلوا نعمة اللّه نقمة و وبالا عليهم و الهدي ضلالا.

قوله تعالى: وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اَللّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ .

أي: عند ما يحاسبهم اللّه تعالى في يوم القيامة سوف ينبّئهم اللّه تعالى بحقيقة حالهم و ما هم عليه من الضلال، و يجازيهم على كلّ ما صنعوه في الدنيا بالعقاب و العذاب.

و كلمة «سوف» لتأكيد الوعد، و التعبير عن العمل بالصنع للإعلام برسوخهم فيه، كما أنّ التعبير بالإنباء لبيان أنّهم لا يعلمون حقيقة حالهم، فيكون في ذلك الوقت كشف الحقيقة لا إخبار عنها. و الكلام مسوق للتوعيد و التهديد.

ص: 75

بحوث المقام
بحث أدبي:

تقديم الجار و المجرور على المفعول الصريح في قوله تعالى: إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ ، لبيان رجوع ضرر البسط و غائلته إليهم، كما أنّ تقديم المفعول الصريح على الجار و المجرور في قوله تعالى: فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، و إن كان هو على الأصل، إلاّ أنّه لزيادة التأكيد، و إظهار الأيدي عليكم بعصمتكم منهم و منع أيديهم أن تصل إليكم.

و قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ، في أعلى درجات الفصاحة و البلاغة، حيث اشتمل على الحكم و علّته و بعض الخصوصات، فتضمّن جملة من الأمور التي أوجبت كونها في غاية الفصاحة.

منها: أن يكون التوكّل على اللّه جلّت عظمته خاصّة دون غيره مطلقا، و ذلك بتقديم الجار و المجرور الدال على الحصر.

و منها: اشتمال الآية الشريفة على ما يدعو إلى الامتثال، و البعد عن الإخلال، كما يقتضيه إيثار صيغة الأمر الغائب و إسنادها للمؤمنين.

و منها: أنّها تدلّ على وجوب التوكّل على المخاطبين بطريق برهانيّ ، كما هو مقتضى سياقها.

و منها: انّها تشمل على علّة الحكم، و ذلك بتقديم الجار و المجرور و إظهار الأمر الجليل.

و منها: أنّها و إن كانت جملة تذييليّة، إلاّ أنّها تضمّنت من الأمور ما يدلّ على استقلالها.

ص: 76

و اللام في قوله تعالى: لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ ، موطئة للقسم المحذوف.

و (قرضا) في قوله تعالى: قَرْضاً حَسَناً ، يحتمل المصدر و مفعول مطلق.

و قوله تعالى: لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ، قيل: إنّه دال على جواب الشرط المحذوف و ساد مسدّه معنى، و قيل: إنّه جوابه، و قيل: إنّه جواب للقسم لما تقرّر في محلّه أنّه إذا اجتمع شرط و قسم، أجيب السابق منهما إلاّ أن يتقدمه ذو خبر، و الكلّ صحيح لا يضر بالمعنى.

و قرأ بعضهم (قسيّة) في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً ، و هي إما مبالغة قاسية، لكونه على وزن فعيل، أو بمعنى ردية من قولهم (درهم قسي) إذا كان مغشوشا. و قيل: إنّ قسي غير عربي بل معرب، و لكنّه ليس بشيء.

و يشمل قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى ، على الإطناب غير المخلّ بالفصاحة، إيماء إلى أنّهم على دين النصرانيّة بزعمهم، و لكنّهم على خلافها لعدم العمل بموجبها.

و الضمير في «بينهم» في قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ ، إما راجع إلى النصارى، أو إلى اليهود و النصارى، و لا ضير في ذلك، فإنّه تعالى قد أخبر في غير هذا الموضع أنّهم على خلاف و عداوة بينهم.

بحث دلالي:
اشارة

تدلّ الآيات الشريفة على شدّة العناية بأهل الإيمان و كمال العطف و الرحمة بالمؤمنين، فقد ذكّرهم عزّ و جلّ بالنعمة لإدامة الطاعة بالشكر، و بيّن عطفه عليهم أن صرف عنهم ما أراده الكفار من السوء لشخص الرسول الكريم الذي هو واسطة الفيض و به حييت قلوب المؤمنين، فكانت حياتهم متعلّقة بحياته.

و ترشد الآية الشريفة إلى أهمّ أمر في هذا الدين المبين، و هو شدّة المخالطة بين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين، فكأنّهم مجموعون في شخص واحد و أعضاء جسد

ص: 77

متحد، و ما أراده الأعداء من السوء لشخص الرسول الكريم، إنّما كان يرجع إلى المؤمنين أيضا، و ما صرفه عزّ و جلّ من البلاء عنه صلّى اللّه عليه و آله، إنّما صرفه عن المؤمنين، و لا بدّ و أن تكون الحال كذلك، لأنّ الإيمان وحدة جامعة لجميع الكمالات، و بوتقة فيها تنصهر جميع الأغيار و ما يوجب التفرقة و النفرة.

و في الآية الشريفة درس عمليّ للمؤمنين، باتّخاذ الحذر من الأعداء، و الرجوع إلى الإيمان و تعاليمه و اجتماعهم فيه، فإنّه الحافظ لهم، و لا يحصل ذلك إلاّ بالتقوى، التي هي أهمّ الكمالات و أساس كلّ خير و صلاح، و التوكّل على اللّه تعالى، فإنّه عزّ و جلّ الكافي لعباده و الناصر للمؤمنين المتوكّلين، يمدهم بعونه و يفيض عليهم من رحمته و عطفه.

و من عنايته جلّ شأنه بالمؤمنين أن سرد جملة من أحوال أهل الكتاب من اليهود و النصارى، ليكونوا على معرفة بأحوال الماضين عن صدق، و يتّخذوها دروسا و عبرا لهم، لا يحيدون عنها فيقعوا في ما وقع فيه تلك الأمم و يصيبهم ما أصابهم، فبيّن أنّه أخذ الميثاق من بني إسرائيل و أرسل عليهم النقباء ليرشدوهم إلى ما يصلحهم و يسعدهم، و عدّد المواثيق التي أخذها منهم في المقام، و هي جامعة لجميع الفضائل و حاوية لكلّ الكمالات، بها تتطهّر النفوس، و تتزكّى القلوب، و يسعد الفرد و المجتمع و يصلان إلى الكمال المنشود، و هي الصلاة التي هي قربان كلّ تقي، و الزكاة المطهّرة للأموال و النفوس، و الإيمان بجميع الرسل وسائط الفيض و الأدلاء على اللّه تعالى، الذي هو الهدف الأسمى في حياة العباد بالرجوع إلى اللّه عزّ و جلّ و الاعتماد عليه، فلا بدّ من دليل يرشد إليه، و ليس هو إلاّ الأنبياء، و لا يمكن الاستغناء عنهم في الحياة، سواء كانت مادّية أم معنويّة، فكأن الإيمان بهم شرط في إحراز كلّ كمال، و لا يجوز التفرقة بينهم في الإيمان، فإنّ نصرتهم إنّما تكون بالإيمان بجميعهم و تنفيذ تعاليمهم و احترامهم بما يليق بشأنهم، فإنّ احترامهم احترام لمن أرسلهم و نصرتهم نصرته، فكان ذلك قرضا حسنا منهم يقرضونه إلى اللّه

ص: 78

تعالى فيوفيه بأحسن وجه.

و حذّر تعالى من الكفر و ترك الطاعة، بعد ما أخذ عليهم المواثيق و أعطوا السمع و الطاعة، فإنّ الكفر حينئذ إنّما يكون عن عناد و لجاج، و هو يستوجب العذاب الشديد، فليس له بعد ذلك سبيل يوصله إلى الحقّ و يهديه إلى الخير و السعادة.

و عدّد سبحانه و تعالى جملة ممّا حلّ بهم جراء نقضهم المواثيق، حيث خرجوا عن ربقة الإنسانيّة، و طردوا عن رحمة اللّه تعالى التي هي السبب في حياة الإنسان، بل هي الحياة لوحدها و غيرها من شؤونها و لوازمها، فتراهم قد قست قلوبهم و أحلّوا كلّ ما حرّمه اللّه تعالى، و هتكوا حرماته عزّ و جلّ ، و اعتادت أنفسهم على الخيانة حيث خانوا عهد اللّه تعالى، فكان البغض و العداوة نتيجة حتمية لتلك الخيانة، فلم تبق لهم وليجة بعد قطع كلّ أواصر المودّة و الرحمة، يتنافرون في الأعمال و الأقوال لفقد الثقة بينهم.

و ما عدّده عزّ و جلّ في هذه الآيات المباركة، هي أمهات الرذائل التي تسلب كلّ سعادة و تضلّ عن سواء السبيل الذي يرشدنا إلى الكمال، فيكفي في ذلك عبرة لمن اعتبر.

ثمّ إنّه

يستفاد من الآيات الشريفة الأمور التالية:
الأول:

يدلّ قوله تعالى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ اَلسَّبِيلِ ، على أنّ ما بيّنه عزّ و جلّ من الخصال الخمس، إنّما هو سواء السبيل الذي يورد سالكه إلى النعيم المقيم، و هو الصراط المستقيم الذي ينبغي طلب الهداية من اللّه تعالى إليه، و يجب العمل على مقتضاه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ نَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا ، على أنّ بعض المعاصي يوجب نسيان العلم و الخروج عن حقيقته، و تدلّ عليه جملة من الآيات الشريفة و الروايات، و في ذلك قول الشافعي:

ص: 79

شكوت إلى وكيع سوء حفظي *** فأرشدني إلى ترك المعاصي

و أخبرني بأنّ العلم نور و نور اللّه لا يهدي لعاصي

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ اِتَّقُوا اَللّهَ وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ ، على أنّ التوكّل على اللّه تعالى منضما إلى تقوى العبد التي هي عمله و من كسبه، هو السبب في كمال العبد و الوصول إلى المقامات العالية، و أنّه لا يمكن للمؤمن الاستغناء عن توفيقه عزّ و جلّ في الهداية و العمل بالميثاق.

و إنّما قدّم عزّ و جلّ «التقوى»، لأنّها من عمل العبد، و بدونه لا يمكن أن يتحقّق التوكّل، فإنّ تركه و الاعتماد على التوكّل لا يسمّى توكّلا، بل هو من الأماني التي حذّرنا اللّه تعالى منها، و هي من سبل غواية الشيطان.

و من هذه الآية المباركة نستفيد جملة من شروط التوكّل التي تقدّم الكلام فيه، منها العمل و الاعتماد عليه وحده دون غيره من الأسباب، لا استقلالا و لا اشتراكا، راجع بحث التوكّل في ضمن الآية المباركة: وَ عَلَى اَللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ اَلْمُؤْمِنُونَ [سورة آل عمران، الآية: 160].

الرابع:

يستفاد من الآيات الشريفة أنّ من أهمّ ثمرات العمل بالمواثيق هي معيّة اللّه تعالى للعاملين، رعاية و حفظا و تربيبا و هداية دنيا و آخرة، و هي من أعظم الأمور في حياة المؤمن الماديّة و المعنويّة.

بحث روائي:

في المجمع للطبرسي عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى:

وَ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ اَلَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ : «انّ المراد بالميثاق ما بيّن لهم في حجّة الوداع، من تحريم المحرّمات و كيفيّة الطهارة و فرض الولاية».

أقول: الرواية من باب ذكر أجلى المصاديق و أكملها، لأنّ ما بيّنه صلّى اللّه عليه و آله في حجّة الوداع من إكمال الدين الذي يوجب السعادة و الوصول إلى الكمال المنشود في

ص: 80

الدينا و الآخرة، و قد أخذ العهد المؤكّد منهم على ذلك.

و المراد من تحريم المحرّمات، التخلية عن الرذائل مطلقا، كما أنّ المراد من الطهارة، الأعمّ من الظاهريّة و المعنويّة، و بها تتحقّق التحلية، و المراد من الولاية المفروضة على العباد، الطريق الصحيح الواقعي الذي يوصل سالكه إلى الحقيقة و يبعّده عن السبل الفاسدة، و لم يتمكن أحد من بيانه إلاّ من كان مرتبطا بالوحي ارتباطا كاملا، و ينحصر ذلك في نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، ثمّ خلفائه المعصومين عليهم السّلام، لما أودع عندهم من معالم الدين و أسرار الشرع المبين، و لذلك كان أخذ الولاية لعلي عليه السّلام فرضا عقليّا لبقاء الدين و علّة مبقية له، و لا ينافيه الامتنان كما تقدّم مكرّرا. و قريب من هذه الرواية غيرها.

و في تفسير علي بن إبراهيم في تفسير الآية المباركة قال: «لما أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله الميثاق عليهم بالولاية، قالوا: سمعنا و أطعنا، نقضوا ميثاقه».

أقول: المراد من الميثاق العهد المؤكّد، و نقضوا ذلك كما نقض غيرهم من الأمم السالفة التي أغواهم الشيطان، فحلّت بهم البلايا و المحن.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ ، يعني: «أهل مكّة من قبل أن يفتحها، فكفّ أيديهم بالصلح يوم الحديبية».

أقول: الرواية من باب التطبيق و ذكر بعض المصاديق.

و في الدلائل للبيهقي بإسناده عن جابر بن عبد اللّه: «انّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله نزل منزلا فتفرّق الناس في العضاة يستظلّون تحتها، فعلق صلّى اللّه عليه و آله سلاحه بشجرة، فجاء أعرابي إلى سيفه فأخذه فسلّه ثمّ أقبل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله، فقال: من يمنعك مني ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله:

اللّه. قال الأعرابي مرّتين أو ثلاثا: من يمنعك مني ؟ و النبيّ يقول: اللّه، فشام الأعرابي السيف فدعا النبي صلّى اللّه عليه و آله أصحابه فأخبرهم بصنيع الأعرابي، و هو جالس إلى جنبه».

ص: 81

أقول: قريب من هذه الرواية ما أخرجه الحاكم و صحّحه، و الرواية كما قبلها من باب التطبيق. و العضاة الشجر الكبير الذي له شوك، و شام الأعرابي السيف، أي: أغمده و خبّأه، و الرواية تبيّن أثر الحقيقة، و أنّ الحقّ لا تحجبه السواتر مهما كانت، و أنّ الأعرابي تأثّر بالحقّ و جذبته الحقيقة.

و عن علي بن إبراهيم في قوله تعالى: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ يعني: «نقض عهد أمير المؤمنين عليه السّلام، و جعلنا قلوبهم قاسية يحرّفون الكلم عن مواضعه».

أقول: الرواية من باب التطبيق، و قساوة القلب المستلزم للمعاصي المختلفة كثيرة، منها تحريف الكلم عن مواضعه، و هو من الآثار الوضعيّة لنقض الميثاق.

و المراد من التحريف، تغيير أحكام اللّه تعالى عن واقعها المعلوم و تبديلها، بما يوجب النفع الدنيويّ المزعوم.

و في تفسير علي بن إبراهيم أيضا في قوله تعالى: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، قال: «من نحّى أمير المؤمنين عليه السّلام عن موضعه، و الدليل على أنّ الكلمة أمير المؤمنين، قوله تعالى: وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ يعني الإمامة».

أقول: الرواية من باب التطبيق أيضا، و الكلمة هي الشيء الثابت التي لها امتيازها الخاصّ ، و لذلك فسّرت بالإمامة في الرواية. و عن ابن عباس تفسير الكلمة بحدود اللّه تعالى، و هو من باب التطبيق كما هو واضح.

و في الدّر المنثور للسيوطي عن ابن عباس في قوله تعالى: فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ ، قال: «نسوا الكتاب».

أقول: و في بعض الروايات: «نسوا الولاية»، و لا فرق بينهما، لأنّ أحدهما يستلزم الآخر ثبوتا.

و عن علي بن إبراهيم في تفسير قوله تعالى: وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ ، قال: منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ .

ص: 82

أقول: المراد من النسخ التخصيص، فإنّ قوله تعالى: فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ ، عامّ و قوله تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اِصْفَحْ ، خاصّ ، و كذا الجمع بينه و بين قوله تعالى: قاتِلُوا اَلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ ، و إطلاق النسخ على التخصيص شائع عند المفسّرين.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، قال: «قال علي عليه السّلام: إنّ عيسى بن مريم عبد مخلوق، فجعلوه ربّا، فَنَسُوا حَظًّا مِمّا ذُكِّرُوا بِهِ ».

أقول: نسيان عهد اللّه تعالى ضياعه، و عدم المبالاة بتكاليفه، كما أنّ عهوده تعالى، لطائفه التي لا تقبل الأعمال إلاّ بها.

ثمّ إنّه ورد في تفسير قوله تعالى: فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ اَلْعَداوَةَ وَ اَلْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ، روايات دالّة على أنّه تعالى أغرى بعضهم بعضا بالخصومات و الجدال في الدين و اتباع الأهواء المختلفة، و كلّ ذلك باختيارهم، و لذلك أنّهم تأثّروا بالبعد عن الحقّ و إخفاء الحقيقة و التيه في الظلمات الماديّة، كما نشاهد في عالمنا المعاصر.

بحث عرفاني:

معيّة اللّه تعالى مع العباد، معيّة علم و قدرة، أي: يسمع كلامهم و يرى أعمالهم و يعلم ضمائرهم، فيجازي العباد حسب علمه جلّ شأنه، سواء كان في عالم الشهادة أم في عالم الآخرة.

و أما المؤمنون الكمّل من عباده، فلهم مزيّة على تلك المعيّة، و هي المظهريّة لأسمائه و صفاته جلّت عظمته، حسب تقرّبهم إلى ساحته عزّ و جلّ ، كما في كثير من الروايات، منها روايات النوافل، فإنّ المؤمن الواقعيّ مظهر من مظاهر أسمائه أو صفاته تعالى، لأنّ به ظهرت الصفات السامية و الكمالات الخلقيّة و المكارم النبيلة الرفيعة، و قد اجتمع فيه جوانب متعدّدة و مظاهر متنوّعة - سواء كانت لنفسه أو

ص: 83

لغيره، كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «بهم ترزقون، و بهم تمطرون، و بهم يدفع اللّه البلاء»، فهو الجامع لاسمي الصفات و نبل الكمالات، و هذا ممّا لا شكّ فيه، كما دلّت عليه البراهين العقليّة و النقليّة.

و لكن هذه المناقب أو المنازل بل الرتب السامية، لم تكن وليدة الطينة و الطبيعة فقط، بل لا بدّ لها من أسباب و شرائط تؤهّل العبد لنيل تلك المقامات و الوصول إلى تلك المنازل و القمم، و هي كما قال جلّ شأنه في كتابه الكريم: إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ اَلصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ اَلزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً ، و إنّما قدّم الصلاة على غيرها، لأهمّيّتها، و أنّ صلاة العارفين لا يوازيها شيء - و هي ليست كصلاة الغافلين - فإنّها الصلاة الدائمة بين الخالق و العبد، و أنّها الرابطة القويّة بين الباري جلّ شأنه و المؤمن، و بها تكشف الظلم، و تزول الأستار، و ترفع الحجب.

و هي لا تختصّ بطائفة دون اخرى، فتعمّ الطبقات كلّها، و لها درجات حسب معرفة العبد و إيمانه، لأنّها المعراج إلى الحقّ ، فيستمر العروج و يدوم إلى أن تظهر الحقيقة في نشآتها، و يتجلّى الحقّ كما تجلّى يوم الميثاق.

و لها مراتب حسب أهلية العبد و انقطاعه إلى اللّه تعالى و بعده عن المادة و الماديات، و تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ السير إلى الكمال و الترقي بالمنازل و الرقي إلى المقام، لها مراتب و حظوظ و أنواع، و لكلّ منها أسباب و شرائط، و الصلاة جامعة لها.

و لعلّ تركّبها من الطهور و الركوع و السجود - كما ورد في بعض الروايات - إيماء إلى ذلك، فبالطهارة ترتفع الخاصيّة التي توجب الحجاب عن مشاهدة الحقّ ، لأنّ بها تزال الأدناس الظاهريّة و المعنويّة، كما بالقيام نحوه تعالى تزال الصفات الماديّة المتعلّقة بالنفس، كالشهوات بأنواعها.

و بالركوع تزال الأنانيّة و التكبّر، و به تسير النفس من أوّل خطوة إلى أرقاها، فيخضع للّه عزّ و جلّ و لمن تجلّى فيه أسمائه و صفاته جلّت عظمته.

ص: 84

و بالسجود تزال الأطماع البشريّة الكائنة في النفس و المرغّبة إلى الأهوية النفسانيّة، و به ترغم أنوف الشياطين و تبعّدهم، كما بالتشهد ترتفع العلاقة المتعلّقة بما سواه تعالى، فإذا تخلّص العبد من سبل الشيطان و رقى إلى تلك الدرجات مناجيا به جلّت عظمته و شاهدا له - كما قال صلّى اللّه عليه و آله: «اعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك» - حصلت المعيّة مع المظهريّة، و بانت القاعدة المشهورة لدى العرفاء الشامخين: «قرّة العين بالشهود على قدر المعرفة بالمشهود».

و أما إيتاء الزكاة، فإنّه إيثار لوجهه عزّ و جلّ ، لجلب رضاه و التقرّب لساحته ببذل ما تعلّق به النفس، و لرفع حاجة المؤمن حتّى يسود العدل الاجتماعيّ الواقعي بين الأفراد.

مع أنّ كلّ ذلك لا بدّ و أن يكون مستندا إلى العقيدة الخالصة المتعلّقة بالمبدأ جلّ شأنه، و ذلك لا يتحقّق إلاّ بالإيمان بالرسل كلّهم و جميعهم، فمثل هذه العقيدة لها الدخل الكبير في إتيان العمل منزّها عن الشوائب و الرذائل، فإنّ الإيمان الصحيح الجامع للشرائط و المانع عن الأغيار و النقائص، لا يكون إلاّ كما قال تعالى:

وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ ، و الإيمان برسله تعالى يستلزم نصرتهم و تقويتهم بتطبيق شرائعهم و سنّتهم، حتّى تصفو النفس و تليق بالصلة مع اللّه الواحد الأحد، فحينئذ يقترض اللّه قرضا حسنا منه، لأنّه تعالى شهد بعبوديّة مخلوقه، و أنّ المولى الرءوف الرحيم لا يأنف أن يقترض من عبده، بعد ما تخلّى بتكفير سيئاته، و تحلّى بالمكارم في عالم الشهادة و في عالم الآخرة، بالدخول في الجنّات التي تجري من تحتها الأنهار بالارتواء منها، و هي نهر المعرفة، و نهر الوصال، و نهر الإشراق، أو نهر التحلّي، و نهر التقرّب، و نهر الأنوار و غيرها، كما سيأتي المراد منها و من الجنّات.

و أما من زال عن تلك الدرجات و كفر بالرسل و لم يؤمن باللّه العظيم، فقد هلك و ضلّ و بعد عن الفطرة المستقيمة، و نقض الميثاق، و لم ينل تلك الدرجات المعدّة للمؤمن، و ردّ إلى أسفل السافلين، فصار قلبه قاسيا لم تؤثّر فيه آيات السماء و لا عجائب الأرض، و إلى ذلك تشير الآية المباركة و اللّه العالم.

ص: 85

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَن.......

اشارة

يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19) تذكير لأهل الكتاب بالحجّة بعد تقريعهم بنقض الميثاق الذي أخذ منهم على نصرة رسله و تعزيرهم، و العمل بما أتوه من الكتاب و التشريعات الإلهيّة، فنسوا حظّا ممّا ذكّروا به، كما عرفت في الآيات المباركة السابقة.

و في هذه الآيات الشريفة تذكير لهم بالإيمان برسله و الكتاب الذي أنزله عزّ و جلّ عليه و تعريفهم بهما، و يقيم سبحانه و تعالى الحجّة عليهما و ينوّه بهما و يعظم شأنهما، ثمّ يوبّخ النصارى على مقالتهم الباطلة في المسيح عيسى بن مريم عليهما السلاّم، و يبطلها ببرهان قويم يقتنع به كلّ من ألقى السمع و هو شهيد، حيث أثبت لنفسه

ص: 86

الملكية التامّة على خلقه بما فيهم المسيح عليه السّلام، إيجادا و تدبيرا و افناء، و أطلق السلطة التامّة له عزّ و جلّ على جميع مخلوقاته، فهو يخلق ما يشاء و يفني ما يشاء.

ثمّ يعنّف السياق مع اليهود و النصارى في مقالتهم: نحن أبناء اللّه تعالى و أحباؤه، و يردّها، و يوعدهم على ذنوبهم. و في ختام الآيات الشريفة يرجع إلى ما ذكره تعالى في صدرها من تذكيرهم برسالة رسوله الكريم، و يقيم الحجّة عليهم و يفصل الكلام معهم.

و تشترك الآيات السابقة مع اللاحقة في غرض معين، و هو إثبات الإيمان المطلوب بالبرهان، و إبطال ما يخالفه.

التفسير

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا .

التفات إلى خطاب الفريقين - اليهود و النصارى - و الكتاب اسم جنس يصدق على الواحد و الكثير، فيشمل كتب اليهود و النصارى.

و التعبير عنهم بهذا العنوان لزيادة التشنيع، فإنّ أهلية الكتاب تقتضي مراعاته و العمل بما ورد من الأحكام و التوجيهات.

و في الآية المباركة تعريف للرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله و إقامة البيّنة و الحجّة على صدقه و حقية الكتاب الذي انزل عليه، و تذكير لهم بأنّ الرسول الذي أرسله اللّه تعالى، شأنه التبليغ و شرح الحقائق الواقعيّة و المعارف الإلهيّة، و بيان ما أخفوه مع علمهم بأنّه الحقّ الذي يجب الإيمان به.

و نسبة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى ضمير العظمة، للتشريف و التنويه بمقامه و عظيم منزلته عنده جلّ شأنه، و فيه الإشارة إلى وجوب اتباعه، فإنّه من اللّه تعالى الذي آمنتم به عزّ و جلّ .

ص: 87

قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ .

إرشاد إلى أهمّ أعمال الرسل و الأنبياء، فإنّهم عليهم السّلام رسل اللّه تعالى في بيان الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و إقامة الحجّة و البرهان على ذلك.

و الآية الشريفة أصدق شاهد على صدق رسالة الرسول الأمّي، الذي لم يقرأ كتبهم، و لكن أخبر بما أوحى اللّه تعالى إليه، مع أنّ مثل هذا البيان يتطلّب الإحاطة بجميع كتبهم و العلم بمواضع التحريف و المطالب الحقّة التي وردت فيها، و لا يحصل ذلك إلاّ بوحي إلهيّ ، لدقّة الموضوع و أهميّته، فكان هذا الإخبار و البيان لشاهد صدق على حقيّة رسالته و ما أتى به صلّى اللّه عليه و آله. و أما إخفاء ما في التوراة و الإنجيل، فقد عرف به اليهود و النصارى، و هو أعمّ من الحذف و التغيير في كتبهم و التبديل و التأويل الباطل، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم.

و من أهمّ ما أخفوه تلك الآيات التي وردت في كتبهم التي تبشّر برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و صفاته و الأحكام المقدّسة التي وردت فيها، كما أشار إليه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ مَعَهُ أَشِدّاءُ عَلَى اَلْكُفّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اَللّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ اَلسُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي اَلْإِنْجِيلِ [سورة الفتح، الآية: 29]، و قال تعالى: يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ * [سورة البقرة، الآية: 146].

و أما إخفاء الأحكام المقدّسة و المعارف الحقّة، فقد حكي القرآن الكريم الشيء الكثير منه، مثل تحريم الطيبات، و إحلال الصيد المحرّم عليهم في يوم السبت،

ص: 88

و حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحقّ كما بيّنه صلّى اللّه عليه و آله، و سيأتي ذكره في قوله تعالى: لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ [سورة المائدة، الآية: 41].

قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ .

أي: و يعفو عن كثير ممّا كانوا يخفونه من الكتاب. و المراد بالعفو إما الترك، أي: لم يذكر سبحانه كثيرا ممّا كانوا يخفونه و لم يظهره عزّ و جلّ ، فإنّ ذكر البعض يكفي لإتمام الحجّة عليهم، و يشهد لذلك ما اشتملت عليه كتبهم، ممّا يتعلّق بالتوحيد و النبوّة و المعاد ما لا يصحّ نسبته إليه تعالى، كالتجسّم و الحلول، و لا انتسابه إليه جلّ شأنه، كالكفر و ارتكاب الفحشاء و الزلاّت، و اشتمال كتبهم على بعض العقائد الوثنيّة، و عدم ذكر المعاد في بعضها، مع أنّه من دعائم الإيمان و التوحيد في الأديان الإلهيّة.

أو يكون المراد من العفو هو التوبة إذا رجعوا إلى دين الحقّ ، فيكون ترغيبا لهم في الدخول في الإسلام.

و اعترض على هذا الوجه بأنّ هذا الكثير كالكثير السابق، فيتعيّن المعنى الأوّل.

و لكن يمكن المناقشة فيه بأنّ الكثير أمر نسبي، مع أنّ الظاهر اختلاف اللفظين، و اشتهر أنّ النكرة إذا أعيدت نكرة فهي متغايرة.

و كيف كان، فالمراد واضح، و هو إقامة الحجّة على صدق الرسالة و افتضاح أهل الكتاب.

قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ .

تعظيم لشأن النبي صلّى اللّه عليه و آله و ما انزل عليه، فإنّ التعبير بالمجيء يدلّ على أنّ الجائي قائم به عزّ و جلّ بأي نحو كان من القيام.

و النور: معروف، و هو الظاهر بنفسه المظهر لغيره، فإنّه لو لا النور لما أدرك البصر شيئا من المبصرات، و هو على قسمين: نور ظاهريّ جسمانيّ ، و معنويّ ،

ص: 89

و الثاني أهمّ من الأوّل، و هو المراد به في المقام، فإنّ به تحيى القلوب و تهتدي البصيرة، و تستضيء به النفس، و يسير به الإنسان في ظلمات الجهل و المادة، و يسلك به الصراط المستقيم، قال تعالى: وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ أَعْمى . قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً. قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ اَلْيَوْمَ تُنْسى [سورة طه، الآية: 126].

و يطلق على الرسول صلّى اللّه عليه و آله كما في قوله: وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 46]، كما يطلق على القرآن الكريم كما في عدّة آيات، قال تعالى: وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ [سورة الأعراف، الآية: 157]، و قال تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 174]، و قال تعالى: فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8].

كما اطلق على ما انزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الأحكام و الإرشادات و التوجيهات، أي الإسلام، قال تعالى: يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ * [سورة البقرة، الآية: 257].

و يطلق على الفطرة أيضا، قال تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: 40].

و يطلق على العقل أيضا، كما في عدّة من الروايات التي ذكرت في كتاب العقل و الجهل.

و يطلق النور على اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ اَلْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ اَلزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ [سورة النور، الآية: 35]، و لكنّ هذا النور الحقيقي لا يعلم أحد كنهه إلاّ اللّه تعالى، فهو الحياة، و العلم، و الإرادة و غيرها من صفات ذاته عزّ و جلّ ، و من هذا النور يستضيء سائر الأنوار. و سيأتي تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

و لأجل اختلاف المصاديق، اختلف العلماء و المفسّرون في المراد به، فقيل: إنّه

ص: 90

الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و قيل: إنّه القرآن، فيكون قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ عطفا تفسيريّا له، و قيل: إنّه الإسلام، و قيل: إنّه النعم الثلاث التي خصّ بها العباد: النبوّة، و العقل، و الكتاب، بقرينة الآية التالية التي اشتملت على أحكام ثلاثة يرجع كلّ واحد منها إلى نعمة ممّا تقدّم، فقوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا ، و قوله تعالى:

يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ ، يرجع إلى قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ ، و قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، يرجع إلى قوله تعالى: وَ كِتابٌ مُبِينٌ .

و الحق: أن يقال: إنّ المراد به جميع ما تقدّم، أي الرسول، و العقل، و القرآن، و الإسلام، لأنّ المقام مقام الاحتجاج مع أهل الكتاب الذين أتمّ اللّه تعالى الحجّة عليهم بتلك الحجج الثلاث، مع أنّها متلازمة، فإنّ كلّ واحدة منها تهدي إلى الاخرى و تدعو إليها، و الآثار التي ذكرها عزّ و جلّ في الآية التالية تترتّب على كلّ واحدة منها، فإنّ بها يخرج العباد من ظلمات الجهل إلى نور الإيمان، فيكون ذكر الكتاب لبيان أهميّته و عظمته في هداية النفوس و تكميلها.

و المبين: هو الظاهر في نفسه المظهر لما يحتاج إليه الناس، و هو من أوصاف القرآن الكريم لهدايتهم، و نظير هذه الآية الشريفة قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلنّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً. فَأَمَّا اَلَّذِينَ آمَنُوا بِاللّهِ وَ اِعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً [سورة النساء، الآية: 174-175].

قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ .

الضمير في (به) يرجع إلى ما تقدّم و لا يضر توحيده على القول بتعدّد ما في الآية السابقة، لاتّحاد المرجع في الحقيقة و الواقع، فإنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و القرآن يشتركان في الهداية، و كلّ واحد منهما سبيل ظاهريّ من سبلها، و قد نسب سبحانه و تعالى

ص: 91

الهداية إلى القرآن الكريم و إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله في عدّة آيات، قال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اَللّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص، الآية: 56]، و قال تعالى: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [سورة الشورى، الآية: 53]، و لكنّ الجميع يرجع إلى اللّه تعالى، فإنّه الهادي حقيقة، و غيره سبب ظاهريّ لها.

و تقديم المجرور على اسم الجلالة للاهتمام، كما أنّ إظهار الاسم الجليل، لكمال الاعتناء بأمر الهداية.

و كيف كان، فالآية الشريفة تبيّن أهمّ الآثار المترتّبة على هذا النور، و هي ثلاثة:

الأوّل: أنّه يهدي بسبب رسوله و كتابه من اتّبعهما و يبتغي بذلك رضاه، باتباع أوامره و الانتهاء بنواهيه عزّ و جلّ ، فيورده تعالى سبيلا من سبل السلام التي يسلم بها في الدنيا و الآخرة من كلّ ما يوجب شقاؤه و ما يرد به إلى سوء العذاب، فيتخلّص ممّا يلزم منه إخلال سعادته في الدنيا و الآخرة.

و سبل السلام و إن كانت متعدّدة، قال تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [سورة العنكبوت، الآية: 69]، إلاّ أنّها تتّحد في الغرض العظيم المترتّب عليها، و هو الإيصال إلى كرامته عزّ و جلّ ، و لعلّه لأجل ذلك و صف تلك السبل بالصراط المستقيم الذي يوافق الفطرة المستقيمة في قوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام، الآية: 153].

و من ذلك يستفاد أنّ الهداية إلى السلام و السعادة، مشروطة باتباع رضوان اللّه تعالى، و هو الإيمان المطلوب، و الإعراض عن كلّ ما يوجب سخطه، و ذلك بالاجتناب عن أنواع الظلم و ما يوجب الانخراط في سلك الظالمين، و قد أكّد عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم أنّ لا هداية لمن كان كذلك، و أنّه محروم

ص: 92

عن نيل هذه الموهبة العظيمة و الكرامة الإلهيّة، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * [سورة الجمعة، الآية: 5].

و يبيّن ما في هذه الآية الكريمة قوله تعالى: اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ اَلْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ [سورة الأنعام، الآية: 82]، حيث ذكر عزّ و جلّ أنّ الأمن من العذاب و الهداية إلى السعادة، مشروطان بالإيمان و ترك الظلم و الاجتناب عن ما يوجب الانخراط في الظالمين.

ثمّ إنّ الرضوان بكسر الراء أو ضمّها لغتان بمعنى واحد، كما أنّ السبل بضمّ الباء و التسكين كذلك. و الأوّل الرضاء الكثير و أعظمه، فإنّ لرضائه جلّ شأنه مراتب، و إنّ أعلى مراتبه كانت رضوانا، بحيث أظهر كلّ واحد من الربّ و العبد الرضا العظيم لا مطلقه، فإنّ ذلك التراضي لا الرضوان. و الثاني الطرق كما تقدّم.

قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ .

هذا هو الأثر الثاني، و هو الخروج من الظلمات التي هي فنون الكفر و الضلال و الجهل و العناد إلى نور الإيمان، و لعلّ ذكره عزّ و جلّ الظلمات جمعا و النور مفردا، إشارة إلى أنّ طريق الباطل متعدّد، بخلاف طريق الحقّ ، فإنّه واحد و إن كان متعدّدا بحسب الظاهر و المواقف، و قد أكّد ذلك القرآن الكريم في عدّة مواضع، قال تعالى: وَ لا تَتَّبِعُوا اَلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الانعام، الآية: 153].

و التقييد بأنّ الخروج هذا إنّما يكون بإذنه، لبيان أنّ أمر الهداية و الدخول في الإيمان و الخروج عن كلّ الظلمات، لا بدّ و أن تكون بعلمه و توفيقه، و أنّه السبب الحقيقيّ فيها، و أنّ الرسل و الأنبياء و الكتب الإلهيّة إنّما هي سبل ظاهريّة نازلة من السماء، لم يكن لها الاستقلال في السببيّة - مقابل المبدأ تعالى - قال عزّ و جلّ : وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ [سورة إبراهيم، الآية: 5]، فلم يقيّد عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة الإخراج من الظلمات إلى النور بالإذن، لاشتمال الأمر الصادر منه تعالى على معناه، و أنّ موسى عليه السّلام كان واسطة في

ص: 93

التبليغ، بخلاف قوله تعالى: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ اَلنّاسَ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [سورة إبراهيم، الآية: 1]، فإنّه تعالى قيّده بالإذن، ليخرجه عن الاستقلال في السببيّة.

و كيف كان، فإنّ الهداية من الأمور العظيمة في حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة، الدنيويّة و الاخرويّة، و تحتاج إلى العلم بجميع خصوصيات المهتدين و ما يوجب الهداية و أثرها، و هذا لا يمكن أن يتحقّق من غير اللّه تعالى، فإنّ له السلطة التكوينيّة و التشريعيّة على خلقه، إلاّ إذا أفاض عزّ و جلّ شيئا منها على بعض المخلصين من عباده، فيكون المراد من الإذن في الآية المباركة التوفيق الخاصّ الذي يتوقّف على العلم، فحينئذ لا فرق بين أن يكون المراد من الإذن هو التوفيق أو العلم، كما ذكره بعض المفسّرين.

قوله تعالى: وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ .

تقدّم الكلام في الصراط المستقيم في سورة الفاتحة، و ذكرنا أنّه الصراط الموصل إلى دين الحقّ ، لا يضل سالكه، و هو أقرب إلى اللّه تعالى، و هو عين الهداية، و فيه اجتمعت العلّة الفاعليّة و الغائيّة من الإسلام و دين الحقّ المهيمن على الطرق كلّها، فالهداية إليه هداية عامّة مهيمنة على سائر أفراد الهداية التي تتعلّق بالسبل الجزئية، و هي التي تتّحد في الهداية إلى الصراط المستقيم، فهذه الهداية هي الهدف من الهداية إلى السبل الجزئيّة. و لعلّ التنكير في الآية المباركة يرشد إلى ذلك، أو لتعظيم شأن الصراط المستقيم و تفخيم أمره.

كما أنّ تكرار لفظ الهداية إمّا لأجل حيلولة قوله تعالى: يُخْرِجُهُمْ بين الهدايتين، أو لبيان أنّ الهداية الثانية هي المهيمنة على الاولى، أو لأجل أنّ الاولى هي الموجبة للهداية الثانية.

قوله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ اَلَّذِينَ قالُوا إِنَّ اَللّهَ هُوَ اَلْمَسِيحُ اِبْنُ مَرْيَمَ .

بيان لكفر النصارى، و ما كفروا به خاصّة بعد إقامة الحجّة على أهل الكتاب

ص: 94

عامّة، و القائلون بهذه المقالة هم طائفة خاصّة من النصارى.

و ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّ القائلين بها كانوا يعتقدون العينيّة، فإنّ القصر فيها للمسند إليه على المسند، أي: أنّ المعبود منحصر في المسيح لا غير، و إن أمكن تطبيق الجملة على البنوّة و على القول بثالث ثلاثة، كما حكى عنهم عزّ و جلّ في ما تقدّم من الآيات المباركة، و ذكرنا ما يتعلّق بهذه العقيدة في سورة النساء مفصّلا فراجع.

و التأكيد على ذكر النسبة في المسيح لبيان أنّه عليه السّلام منسوب و متولّد من امرأة و محلّ للحوادث، و كلّ ذلك ينافي القول بألوهيّته كما عرفت.

قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

برهان قويم يدلّ على بطلان مقالتهم تلك، و هو يرجع إلى أمرين أحدهما:

إثبات مناقضة قولهم، و الثاني: تثبيت الألوهيّة لنفسه عزّ و جلّ ، بإثبات السلطة التامّة له تعالى، و قدّم الثاني في الذكر بقوله تعالى: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، لأنّه الأصل، فتكون له السلطنة التامّة على جميع خلقه، و هم مملوكون له تعالى مسخّرون تحت إرادته و سلطانه، يحكم فيهم بما يشاء و ما يريد، لا مانع يؤثر عليه عزّ و جلّ بأي وجه كان و يقطع تأثير سلطنته عن شيء فيغلبه عليه فيه، فهو اللّه تعالى مالك الملك وحده لا شريك له، و لا مالك غيره يبطل سلطانه أو يحدّ منه، فإنّ مشيئته لا يردّها شيء.

و الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، حيث نفي الاستطاعة عن دفع الشرّ عن نفسه بنفي ما يمنع عن تأثير إرادته عزّ و جلّ و قدرته، فها هو المسيح بن مريم لما نزل الصلب عليه لم يقدر على دفعه عن نفسه، فاستغاث بربّه خائفا، و جلا، ضارعا، خاضعا، ليصرف عنه ذلك الكأس، كما عرفت في أحد مباحثنا السابقة.

قوله تعالى: إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ اَلْمَسِيحَ اِبْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً .

بيان لتهافت أقوالهم في المسيح بن مريم عليه السّلام و تناقضها، فإنّ كون المسيح إلها

ص: 95

يناقض وصفهم له بأنّه ابن مريم، فإنّه يدلّ على كونه بشرا تامّا، و أنّه مربوب له تعالى و واقع تحت سلطانه عزّ و جلّ و إرادته جلّ شأنه، كسائر أفراد البشر، مضافا إلى كون أمّه أيضا مثله في البشريّة و مسانخة له من دون ريب، يجري عليها ما يجري على جميع من في الأرض، فإنّ الحكم في الجميع على حدّ سواء، و هذا من أعظم الأدلة على برهان الإمكان الذي ينافي الألوهيّة، التي تتّصف بالوجوب.

و خلاصته: أنّ المسيح مخلوق يماثل سائر أفراد البشر، يجوز عليه ما يجوز على غيره، كما أنّه لا يجوز عليه ما لا يجوز عليهم، لأنّ حكم الأمثال فيما يجوز و ما لا يجوز واحد، و منه الألوهيّة، فإنّها لا تجوز لغيره، فلا بدّ أن لا تجوز عليه أيضا، كما أنّ غيره يجوز عليه الهلاك، فيجوز عليه ذلك، و لا مانع هناك يمنع منه، و لو كان هو اللّه سبحانه و تعالى لما جاز ذلك.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ أمّ المسيح مع اندراجها في عموم المعطوف، لزيادة تأكيد عجز المسيح، و زيادة للتقرير و التبكيت، و إما لتعميم إرادة الهلاك مع حصول الغرض بقصرها على المسيح عيسى عليه السّلام، لتهويل الخطب و إظهار كمال العجز، ببيان أنّ الكلّ تحت إرادته و قهره تعالى لا يقدر على دفع ما يريده فضلا عمّا يريده غيره.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما .

تعليل للجملة السابقة و تأكيد لما اعترف به النصارى من ثبوت الملكية المطلقة للّه تعالى، فيكون دليلا آخر لإبطال الوهيّة المسيح عيسى بن مريم، إذ لو كان إلها لكانت له هذه الملكية المطلقة، و قد أكّد عزّ و جلّ هذه الملكية في هذه الآية الشريفة بأمور:

منها: التصريح باسم الجلالة الدالّ على اختصاصها به تعالى، و نفيها عن ما سواه استقلالا و اشتراكا.

و منها: التنصيص بذكر «و ما بينهما»، على أنّ الكلّ تحت قهره و مملوكيته تعالى، فيكون الكلام أقرب إلى التصريح و أبعد من الشبهات، أي: أنّ له وحده

ص: 96

ملك جميع الموجودات و التصرّف المطلق فيها، إيجادا و إعداما و تربيبا، و ليس لأحد سواه ذلك، و من كان كذلك فهو حقيق باختصاص الألوهيّة به.

قوله تعالى: يَخْلُقُ ما يَشاءُ .

تعليل للجملة السابقة، و بيان لبعض أحكام الملك و الألوهيّة، فإنّ الملكية المطلقة تقتضي ثبوت السلطنة التامّة له عزّ و جلّ و تعميم قدرته، فلا يمنع من نفوذ مشيئته مانع، فهو يخلق ما يشاء من الأشياء.

و الآية الشريفة ردّ لمزاعم النصارى من أنّ المسيح قد صدرت منه أعمال غريبة لا تصدر من عامّة البشر، و أنّ خلقه كان خلاف المتعارف و السنّة العامّة في خلق سائر البشر، فإنّ كون خلقه كذلك و صدور بعض المعاجز على يديه عليه السّلام، لا يدلاّن على كونه إلها مالكا لجميع ما في السموات و الأرض، يتصرّف فيه بما يشاء، بل أنّ ذلك من بعض الفيوضات التي منحها عزّ و جلّ له، إذ لا يخرج بذلك عن كونه مخلوقا كسائر خلقه يتصرّف فيهم عزّ و جلّ بما يشاء، فبالحقيقة لا بدّ أن ينسب إليه عزّ و جلّ دون من أجراه اللّه تعالى على يديه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تقرير لمضمون ما سبق و تأكيد له، و بيان لتعميم قدرته إلى ما هو الأوسع من عالم الوجود و إرشاد إلى برهان قويم، و هو أنّ الإله لا بدّ أن يتّصف بتمام القدرة و شمولها لجميع الأشياء، و إلاّ فلا يكون إلها، و لعلّه لأجل ذلك ذكر اسم الجلالة، لبيان أنّه الإله المستجمع لجميع صفات الكمال التي منها الملكية المطلقة للسماوات و الأرضين و ما بينهما، و ثبوت القدرة التامّة، فهو يخلق ما يشاء بما يشاء، و هو يدلّ على أنّه لا شريك له في الألوهيّة.

قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ .

حكاية لبعض ما صدر عن الفريقين من الدعاوي الباطلة بعد ذكر ما صدر من أحدهما في غيره عزّ و جلّ . و هذه الحكاية تدلّ على جرأتهم على اللّه تعالى،

ص: 97

و عدم مبالاتهم بالمواثيق و العهود التي أخذت منهم على العمل بمقتضاها، فلا تفيد الادعاءات و الشعائر في القرب إلى اللّه تعالى و نيل جزائه العظيم.

و الابن: تارة يطلق و يراد منه المعنى الحقيقي، و هو المراد في الاستعمالات الدائرة عند العرف، و هو محال على اللّه تعالى، لأنّه يستلزم الاختلاط و المجانسة مع مخلوقاته، تعالى عن ذلك علوا كبيرا، و قد نفاه عزّ و جلّ عنه في ما سبق من الآيات التي حكي فيها مقالتهم عن بنوّة المسيح و شدّد النكير على قائليها، و أقام البراهين الكثيرة على إبطالها.

و اخرى: يطلق و يراد منه المعنى المجازي، أي: القرب و الرحمة، حيث إنّ الأولاد مقرّبون من آبائهم و موارد رحمتهم و عنايتهم، و لعلّ هذا المعنى هو المناسب في المقام، فيكون قوله تعالى: وَ أَحِبّاؤُهُ ، عطفا تفسيريّا له، و يدلّ على ذلك أنّهم لم يدّعوا البنوّة الحقيقيّة لغير ما ادّعوها فيه كالمسيح، و عزيز، فلا اليهود تدّعي تلك حقيقة و لا النصارى، فكانوا يطلقونها على أنفسهم تشريفا.

و المتتبع في كتبهم المقدّسة يرى أنّ لفظ الابن قد استعمل فيها كثيرا، فقد اطلق على آدم عليه السّلام و على يعقوب و داود و على أقوام، و على المسيح، و لم يريدوا منه المعنى الحقيقيّ سوى ما اطلق على الأخير فقط، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في عدّة آيات، كما اطلق على الملائكة و المؤمنين الصالحين، و هذا الاستعمال كثير في العهد الجديد، فقد روى متى في وعظ المسيح على الجبل: «طوبى لصانعي السلام لأنّهم أبناء اللّه يدعون» (متى - 9:5)، و في الرسالة الاولى من رسالتي يوحنا: «كل من هو مولود من اللّه لا يعقل خطيئته لأنّ زرعه يثبت فيه و لا يستطيع أن يخطئ لأنّه مولود من اللّه بهذا أولاد اللّه ظاهرون و أولاد إبليس» (يوحنا - 3 الآيتان 9 و 10)، فيستفاد من ذلك أنّهم أرادوا من إطلاق الابن عليهم لأجل إظهار أنّهم مورد عنايته عزّ و جلّ و عطفه و محبّته، فلا يجازيهم على أفعالهم، كما لا يؤاخذ الأب الحنون ولده المسيء، فهم من اللّه تعالى بمنزلة الأبناء من الأب، فلهم أحكام

ص: 98

خاصّة تختلف عن سائر الخلق، فيكون الغرض من هذا الاختصاص هو معافاتهم عن العذاب و العقوبة، و أنّهم مهما عملوا من القبائح لا سبيل إلى تعذيبهم، لأنّه يناقض ما خصّهم به من المزيّة و الفضل و ما حباهم من الكرامة، فلا محالة مصيرهم إلى النعمة الدائمة و الكرامة الأبديّة، و لأجل ذلك كان الردّ عليهم حاسما و واضحا من دون تأويل و شبهة.

و الآية الشريفة ترشد الناس إلى أمر عظيم، و هو ترك التقوّل على اللّه تعالى و التزام الأدب معه عزّ و جلّ ، فإنّه لا يجوز نسبة صفة أو قول إليه تعالى إلاّ إذا وردت الرخصة فيه، و من هنا كانت أسماء اللّه تعالى توقيفيّة، لا بدّ من ورود الإذن في إطلاق اسم عليه جلّ شأنه.

قوله تعالى: قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ .

احتجاج عليهم إلزاما و تبكيتا. و الخطاب لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله، لأنّه واسطة الفيض، و تتضمّن هذه الحجّة أمورا أحدها النقض عليهم، و الثاني الردّ عليهم بما هم معترفون به، و الثالث البرهان على بطلان دعواهم بالمرّة، تأكيدا و إرشادا لهم بالابتعاد عن تلك المقالة و ما يماثلها في الفساد.

أما الأمر الأوّل، فإنّ مقالتهم تلك تقتضي عدم تعذيبهم بذنوبهم و أمنهم من كلّ عذاب دنيويّ أو اخرويّ ، مع أنّه عزّ و جلّ يجازيهم على أعمالهم و يعذّبهم بذنوبهم و يؤاخذهم على خطاياهم و ما اقترفوه من المعاصي و الآثام، و منها هذه المقالة التي تقوّلوا بها على اللّه تعالى بغير حجّة و لا برهان؛ فهم كسائر أفراد البشر، فإذا كنتم أبناء اللّه تعالى و أحباءه فلا بدّ أن لا يعذّبكم، فإنّ الأب لا ينكل بابنه و المحبّ لا يعذّب حبيبه، فلستم إذا أبناءه و لا أحباءه.

و إطلاق الآية المباركة يشمل العذاب الدنيويّ و الاخرويّ ، و قد حكي عزّ و جلّ في القرآن الكريم كلا النوعين من العذاب الواقع عليهم، لا سيما اليهود الذين قصّ القرآن المجيد الشيء الكثير من أحوالهم.

ص: 99

و عذابهم هذا يختلف عن البلايا و المحن، التي تقع على المؤمنين و أولياء اللّه تعالى، فإنّها ليست مؤاخذة على ذنب عملوه، و لا عذاب بسبب معصية اقترفوها، و لا هي ناجمة عن سخط إلهي نكالا و وبالا عليهم، بل هي لزيادة القرب و الدرجات و نيل الكمالات أو للتربية و تهذيب النفس و السريرة، فهي بالأحرى نعمة و كرامة على المؤمنين و عذاب و وبال على الكافرين المعاندين، و في الأثر المعروف: «البلاء للولاء»، و في الحديث: «أشدّ الناس بلاء الأنبياء عليهم السّلام، ثمّ الأمثل فالأمثل»، و قد تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ البلايا و المحن و المصائب الدائرة في هذا العالم إنّما يشترك فيها المؤمن الصالح و الفاجر الصالح على حدّ سواء، و هي من سنّة اللّه تعالى على خلقه، و إنّما تختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض، فإنّها للمؤمنين كرامة و منحة ربانيّة حاصلة من محبّة إلهيّة لهم، و عذاب و نكال لغيرهم، كما أثبتنا ذلك غير مرّة، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ تِلْكَ اَلْأَيّامُ نُداوِلُها بَيْنَ اَلنّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلظّالِمِينَ . وَ لِيُمَحِّصَ اَللّهُ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ اَلْكافِرِينَ [سورة آل عمران، الآية: 140 - 140]، فإنّه عزّ و جلّ جمع بين النوعين من البلاء الواقع على الطائفتين، و بيّن تعالى أنّه يختلف من حيث الأثر و العنوان و الغرض.

قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ .

بيان للأمر الثاني من الأمور التي احتجّ اللّه تعالى بها عليهم، و هو الردّ عليهم بما هم معترفون به، فإنّهم لا ينكرون أنّهم من أفراد البشر من جنس ما خلقه اللّه تعالى من غير مزيّة لهم على غيرهم، و يتضمّن هذا الدليل نفي البنوّة عنهم مطلقا، فإنّ البشر لا يصلح لأنّ يكون ابنا للّه جلّت عظمته، لإمكان صدور القبيح و الزلاّت و الهفوات منه، و أنّه يؤخذ بما يصدر منه، و الابن مسانخ لأبيه، فإذا ادّعوا بنوّتهم له تعالى، فلا بدّ أن لا يصدر منهم ذلك و لا يؤاخذوا بما يصدر منهم.

قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ .

تتمّة للدليل السابق، و يمكن أن يكون نتيجة الأدلّة التي تناقض دعواهم،

ص: 100

أي: أنّه إذا أقرّوا بأنّهم بشر من جملة ما خلقه اللّه تعالى، داخلون تحت سلطانه يتحكّم فيهم إرادته و مشيئته، فلا يحابي أحدا من مخلوقاته، و هو تعالى الحكم العدل يجازي عباده على أعمالهم، فيغفر لمن يشاء منهم، و يعذّب من يعلم بأنّه يستحقّ العذاب، ماض حكمه، فلا يمنع من مشيئته مانع أو يتحكّم في إرادته شيء.

قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما .

بيان للأمر الثالث الذي احتجّ عزّ و جلّ به عليهم، و يتضمّن هذا الدليل البرهان على نفي البنوّة عنه مطلقا، فهو الخالق للسموات و الأرض و ما بينهما من المخلوقات، فالجميع مملوك له عزّ و جلّ ، و مربوب له مقهور تحت إرادته، فلا ينتمي شيء منها إليه تعالى إلاّ بالمعبوديّة و المملوكيّة، يتصرف فيها بما شاء إيجادا و إعداما، إحياء و إماتة، إثابة و تعذيبا. و هو الغني عن خلقه، فلا يحتاج إليهم، بل هم محتاجون إليه، فلا يمكن أن يتصور له بنون.

و هذه الآية الشريفة تماثل الآية التي ذكرت آنفا، إلاّ أنّها ختم تلك بقوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ ، لأنّها في مقام نفي الغرابة في الخلق و امتياز بعضهم على بعض، فأثبت القدرة التامّة لنفسه على خلقه، فلا امتياز له عليهم من هذه الجهة، و أما آية المقام فإنّها في مقام بيان الجزاء على الأعمال، فختمها بقوله تعالى: وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ ، فإنّه سيجازيهم على أفعالهم و أقوالهم.

قوله تعالى: وَ إِلَيْهِ اَلْمَصِيرُ .

فإنّه سيحاسبهم على أفعالهم و أقوالهم، فيثيب المحسن على إحسانه و يعاقب المسيء على إساءته، و لا يصرفه صارف عن ذلك الجزاء.

و في الآية المباركة إشعار بأنّه سيعذّب أصحاب تلك الدعاوي الباطلة، على كفرهم و غرورهم و تقوّلهم على اللّه تعالى بغير حقّ .

قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ .

خطاب لهم بالرجوع عن غيّهم و الدخول في دين الحقّ ، بعد ما دحض

ص: 101

شبهاتهم التي غرّتهم في دينهم، و الخطاب يتضمّن اللطف في الدعوة، و هو تأكيد للخطاب السابق في الدعوة إلى الإيمان، إلاّ أنّهما يفترقان في أنّ الأوّل دعوة إلى الرسول الذي أيّده اللّه تعالى بكتاب يهدي بإذنه عزّ و جلّ إلى ما فيه الخير و السعادة، و هذا الخطاب يتضمّن مضافا إلى الدعوة إلى ما ورد في الخطاب السابق، أنّه يقطع جميع الأعذار عنهم، فيكون سياقه إتمام الحجّة عليهم، مع أنّه لا يخلق هذا الخطاب عن لطف، فإنّه عزّ و جلّ بعد ما أقام الحجّة عليهم بدحض دعاويهم الباطلة، حسن منه أن يذكّرهم بحجّته عليهم يوم القيامة إذا أصروا على غرورهم و لجاجهم و ضلالهم.

و حذف المتعلّق في قوله تعالى: يُبَيِّنُ لَكُمْ ، تفخيما للأمر و تعميما له، ليشمل كلّ ما هم محتاجون إليه في سبيل سعادتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و ما يوجب صلاح أنفسهم و إصلاح أمورهم الفرديّة و الاجتماعيّة، الماديّة و المعنويّة. و يدخل فيه بيان ما كانوا يخفون من الكتاب، و ما يدلّ على أنّه حجة اللّه تعالى عليهم، و ما بيّنه عزّ و جلّ في دفع شبههم و دعاويهم، فيكون من أقوى الأدلة على أنّه رسول اللّه تعالى نزل عليه الوحي المبين.

قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ .

مادة (فتر) تدلّ على السكون و زوال الحدّة من الشيء، قال الراغب:

«الفتور: سكون بعد حدّة، و لين بعد شدّة، و ضعف بعد قوّة»، فتختصّ هذه المادة بالسكون الخاصّ ، لا كلّ سكون، و في حديث ابن مسعود لما مرض بكى فقال:

«إنّما أبكي لأنّه أصابني على حال فترة و لم يصبني في حال اجتهاد»، أي: في حال سكون و تقليل من العبادات و المجاهدات.

و المعنى: على سكون خال عن ظهور رسول من رسل اللّه تعالى، و على انقطاع من الوحي، فكانت الحاجة ماسّة إلى بيان الشرائع و الأحكام بعد ما كتموها.

ص: 102

و تدلّ الآية الشريفة على كتمانهم للحقّ ، و تحريفه عن كتبهم، و شدّة الحاجة إلى البيان، و ترشد إلى هذا أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله هو الرسول الذي بشّرت به الكتب الإلهيّة السابقة، إذ لم يكن رسول آخر غيره في هذا المقطع الخاصّ من الزمان، الذي اختلف في مدته. و المشهور أنّها خمسمائة سنة أو أكثر بقليل، فجاء رسولنا يبيّن لكم جميع ما تحتاجونه في حياتكم، ليقطع معذرتكم و يفند حجّتكم في يوم القيامة، فكانت هذه الفترة من موارد الامتحان و الابتلاء.

قوله تعالى: أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ .

بيان للعلّة التي أوجبت مجيء الرسول، و تقدّم الكلام في إعراب مثل هذه الجملة في قوله تعالى: يُبَيِّنُ اَللّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [سورة النساء، الآية: 176]، و قلنا: إنّ التقدير: كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.

و كيف كان، فالآية المباركة تدلّ على قطع معذرتهم، من توهّم اندثار الشريعة و انطماس آثارها و انقطاع أخبارها، فلا شريعة و لا بشير و لا نذير يهديهم إلى مواطن الوعد و الوعيد.

و هذه الآية المباركة تشير إلى ما ذكرناه في تفسير قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء، الآية:

41]، من أنّ الأمم يوم القيامة تجحد تأدية رسالات رسلهم، و تقول: ما جاءنا من بشير و لا نذير، و يكون الرسل و الأنبياء عليهم حجّة و تقول: بلى قد جاءكم بشير و نذير.

قوله تعالى: فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ .

ردع لمعذرتهم و قطع لها، فقد جاءكم بشير و نذير يبيّن لكم امور دينكم.

و الآية الشريفة تدلّ على عدم انقطاع الوحي بالمرّة، و في الحديث عن علي عليه السّلام: «لا تخلو الأرض عن قائم للّه بحجّة، إما ظاهر مشهور، و إما خائف مغمور».

من هنا ذهب علماؤنا (قدس اللّه أسرارهم) إلى أنّ في زمان الفترة بين

ص: 103

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و بين عيسى عليه السّلام أنبياء و أئمة مستورين خائفين، منهم خالد بن سنان العبسي و غيره، فيكون المراد من الفترة هو أن لا يكون نبيّ و لا وصيّ نبيّ ظاهر مشهور.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تعليل لجميع ما سبق، فإنّه قادر على إرسال الرسل و إنزال الشرائع تترى من دون انقطاع، فلم تكن فترة حقيقيّة، و لكنه عزّ و جلّ جعل تلك الفترة خالية عن الرسل الظاهرين المشهورين لحكم كثيرة، فهو القادر على كلّ شيء، فلا يعجزه نصرة نبيّه الكريم و إعلاء كلمته.

و الآية المباركة ردّ على اليهود الذي يزعمون أن لا شريعة بعد شريعة التوراة، زعما منهم بامتناع النسخ و البداء عليه عزّ و جلّ ، فإنّ ذلك ينافي عموم قدرته، فهو القادر على كلّ شيء و لا يعجزه أمر.

ص: 104

بحوث المقام
بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

تدلّ مجموع الآيات الشريفة على حقيقة أعمال الرسل و بعض خصوصياتهم، فقد ذكر عزّ و جلّ أنّ الأنبياء و الرسل إنّما بعثوا لهداية الناس إلى الكمالات، و إخراجهم من الظلمات إلى النور، و هدايتهم إلى الصراط المستقيم، الذي يوردهم إلى السعادة و الفوز بالفلاح و الدخول في الجنّة.

و بيّنت الآيات الشريفة أنّ الأنبياء عليهم السّلام هم من أفراد البشر لا يختلفون عنهم، فليسوا خارجين عن هذه الحقيقة، و لم تكن لهم مزيّة عن بقية أفراد الناس إلاّ بما ميّزهم اللّه تعالى بالفيض القدسيّ و الوحي الإلهيّ ، و صفاء السريرة، و تميّزوا بالتقوى و العمل الصالح، و قد شدّد النكير على من يخرجهم عن هذه الحقيقة و يدخلهم في مصاف الإله أو الملائكة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، على أنّ أهل الكتاب قد أخفوا كثيرا من الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و كان لإخفائهم لها أساليب متعدّدة و مظاهر مختلفة، و قد حكى القرآن الكريم العديد منها في مواضع متعدّدة، و هو يدلّ على تحريفهم لكتبهم المقدّسة و بعدهم عن الحقّ و انطماس نور الفطرة فيهم.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، على أنّ غرض الكتاب الإلهيّ و القرآن العظيم هو بعث نور الفطرة في النفوس و إزاحة ما يوجب انطماسه و اضمحلاله، و بيان ما أفسده الزائفون المضلّون.

و تعدّ هذه الآية الشريفة من معاجز القرآن الكريم، فإنّه لو لا هذا النور المبين

ص: 105

لضلّ الإنسان في ظلمات الجهل و الكفر، و لا نطمس نور الفطرة بالشبهات و الأكاذيب، و لما عرف الناس ما يحتاجون إليه لهدايتهم.

و الآية المباركة تخبر عن حقيقة ما طرأ على التوراة و الإنجيل من الضياع و الفساد، و ما فعله رؤساء اليهود و النصارى في دينهم و ما عبثوا به في كتبهم المقدّسة.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، على أنّ هذا الجائي قائم بهذا النور بنحو من أنحاء القيام المعروفة، فإنّه نور من اللّه العظيم، موضح لغوامض الكتاب المبين، و مبيّن للمعارف الربوبيّة.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: يَهْدِي بِهِ اَللّهُ مَنِ اِتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ اَلسَّلامِ ، اشتراط فعليّة الهداية الإلهيّة باتباع رضوانه، فتدور الهداية إلى السلام و السعادة مدار اتباع رضوان اللّه تعالى، و تختصّ الهداية في المقام بأن تورد من اهتدى سبل السلام جميعها أو بعضها، حسب لياقة الشخص و مقدار استعداده.

و الظاهر من الآية الكريمة أنّ اتباع الرضوان هو ما تدعو إليه الفطرة المستقيمة و قرّرته الشرائع الإلهيّة، و لا ريب أنّ اتباع الرضوان لا يتحقّق إلاّ بالعمل بما تأمر به الفطرة و الشريعة، و الانتهاء بنواهيها و اجتناب سبيل الظلم الذي نفى عزّ و جلّ منه الهداية عن الظالمين، قال تعالى: وَ اَللّهُ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ * [سورة الجمعة، الآية: 5]، فالآية الشريفة تعدّ الفرد المؤمن إلى هداية عظمى، و هي الهداية إلى الصراط المستقيم، المهيمنة على جميع سبل الهداية، و هي الغاية القصوى من إنزال الشرائع الإلهيّة.

كما يستفاد من الآية المباركة أنّ الميزة الأساسيّة لهذه الهداية الخاصّة، هي كونها تورد المهتدي إلى تلك السبل التي تدعو إلى السلام و الخضوع للّه تعالى و الاستسلام له، و بهذه الميزة يمكن تمييز هذه السبل عن سبل الشيطان، التي تدعو إلى العصيان و الخروج عن الطاعة و تورد سالكها إلى الشقاء و الحرمان.

ص: 106

و يمكن عدّ هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن حقيقة السبيلين سبيل اللّه و سبيل الشيطان.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ بِإِذْنِهِ ، أنّ الخروج من الظلمات إلى النور الذي هو من آثار الكتاب المبين لا بدّ أن يكون بإذنه عزّ و جلّ و مورد مشيئته و علمه، لما له من الأهميّة العظمى في تهذيب النفوس و رفع الشبهات و الشكوك و تنوير القلوب، كما عرفت في التفسير، و بهذا القيد يمكن إبطال دعوى المدّعين الزائفين الذين يدّعون الكمال و إخراج الناس من الظلمات، فقد يكون الأمر بالعكس و هو لا يعلم بذلك، فلا بدّ من التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور من صاحب الشرع فقط، و يؤيّد ذلك ما يأتي من الآيات المباركة، حيث ذكرت جملة من دعاوي أهل الكتاب و عقائدهم و هم يعتقدون صحّتها و أنّها تهدي من يعتقد بها إلى الصراط و تخرجه من الظلمات، و قد عدّها عزّ و جلّ من الظلمات و أنّها من سبل الشيطان.

و من جميع ذلك تعرف أهميّة هذا القيد (بإذنه) في المقام لسدّ جميع الذرائع الفاسدة و الدعاوي الباطلة، و التماس طرق الخروج من الظلمات إلى النور ممّن يعلم جميع الخصوصيات و بيده الكمال و السعادة.

السابع:

يستفاد من ذكر امّ المسيح في الآيات الشريفة، التنصيص على أنّ المسيح مخلوق حادث، و أن له امّا، فكيف يكون إلها؟! كما أنّ الآيات الشريفة تحدّد حقيقة الإله في القرآن الكريم و سائر الكتب الإلهيّة، و هي أنّه لا يتعلّق بشأن من شؤون الإله و لا بشيء من مخلوقاته قدرة غيره، فضلا عن أن يعجزه شيء منها إذا تعلّقت إرادته بهلاكها، و إلاّ فلا يكون إلها، و لا ريب في عدم انطباق هذا الحدّ على المسيح بن مريم عليه السلاّم، فإنّ عجزه بيّن كما هو معلوم، فلا يستحقّ الألوهيّة.

و المستفاد من سياق قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ ، أنّ الإهلاك و الإماتة و الإعدام لم يكن عن سخط و غضب، بل لإظهار القدرة التامّة، و للإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره و ملكوته سبحانه و تعالى، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى و اختصاصها لنفسه عزّ و جلّ .

ص: 107

و المستفاد من سياق قوله تعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ ، أنّ الإهلاك و الإماتة و الإعدام لم يكن عن سخط و غضب، بل لإظهار القدرة التامّة، و للإعلام بأنّ المسيح الذي نسبت إليه الألوهيّة إنّما هو داخل تحت قهره و ملكوته سبحانه و تعالى، فالآية المباركة تشتمل على نفي الألوهيّة عن غيره تعالى و اختصاصها لنفسه عزّ و جلّ .

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، على انحصار الألوهيّة فيه جلّت عظمته، لأنّ كلّ شيء مملوك له تعالى، و منه المسيح، و المملوكيّة تنافي البنوّة، كما يدلّ على نفي الشريك في ألوهيته ببيان نفوذ مشيئته و شمول قدرته، لأنّه اللّه الجامع لجميع صفات الكمال، و لعلّه لذلك كرّر لفظ الجلالة في هذه الآية الكريمة مرّات.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ، على أنّ الناس من هذه الحيثية و هي كونهم بشرا خلقهم اللّه تعالى، كسائر خلقه على حدّ سواء، لا مزيّة لأحدهم على الآخر، فهم مخلوقون مربوبون، لا يمكن لأحد منهم الاستغناء عن خالقه و مربوبه، و القرب و البعد عن رحمته، إنّما يحصلان من ناحية العبد المخلوق، فمن آمن و عمل صالحا فسوف يغفر اللّه تعالى له، فيستحق المعافاة، و من كفر فسيعذّبه اللّه، و هذا ينافي ما ادّعاه أهل الكتاب من أنّهم أبناء اللّه و أحباؤه، كما عرفت في التفسير.

العاشر:

إنّما ذكر سبحانه و تعالى: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ دون ما يرادفه من الألفاظ كالإنسان، لأنّ البشر متمحّض في المادة و تحمّل المكاره دون الإنسان و غيره، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ [سورة ص، الآية:

71]، فعبّر عن الخلق من المادة (طين) بالبشر، و كذا قوله تعالى: وَ هُوَ اَلَّذِي خَلَقَ مِنَ اَلْماءِ بَشَراً [سورة الفرقان، الآية: 54]، فتدلّ الآية الشريفة على بطلان زعمهم من أنّهم أبناء اللّه.

الحادي عشر:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، وحدانيّة اللّه تعالى و انحصار الألوهيّة فيه و نفي الشريك، و نفوذ مشيئته و إرادته، و أنّه لا يعجزه شيء من ما ملكه، فإنّه مقهور تحت إرادته و سلطانه و عاجز عن معارضته.

ص: 108

يستفاد من قوله تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما ، وحدانيّة اللّه تعالى و انحصار الألوهيّة فيه و نفي الشريك، و نفوذ مشيئته و إرادته، و أنّه لا يعجزه شيء من ما ملكه، فإنّه مقهور تحت إرادته و سلطانه و عاجز عن معارضته.

و تعدّ هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة على إثبات تلك الأمور، و لعلّه لذلك كرّره عزّ و جلّ في المقام للتأكيد، و للإعلام ببطلان دعاوى الزائفين الضالّين، فإنّ اللّه جلّ شأنه هو المستجمع لجميع صفات الكمال، و ليس غيره كذلك.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، قال: «يبيّن لكم النبيّ ما أخفيتموه ممّا في التوراة من أخباره، و يدع كثيرا لا يبيّنه».

أقول: لعلّ عدم بيانه صلّى اللّه عليه و آله لما في التوراة لمصالح كثيرة رحمة منه صلّى اللّه عليه و آله عليهم، لأنّه نبيّ الرحمة و رسول الرأفة، أو كان ذلك من المعارف التي وردت في القرآن نظيرها، أو الأحكام التي لا تختلف مع ما ورد في الشريعة الإسلاميّة. أو كان ذلك التأخير حتّى تستكمل عقولهم بالبراهين الربّانيّة، إلى غير ذلك ممّا يمكن إن يقال في المقام.

و في الدّر المنثور عن ابن عباس قال: «من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ ، قال: فكان الرجم ممّا أخفوا».

أقول: قد تقدّم أنّ الإيمان بالقرآن وحدة متكاملة و إنكار أحد أحكامه يوجب الكفر بجميعه، و أنّ المراد بالكفر الوارد في الحديث هو الإنكار له المستلزم للكفر، و أنّ الرجم كغيره من الأحكام، ورد في التوراة المصونة من يد التحريف، كتمته اليهود و بيّن ذلك النبي صلّى اللّه عليه و آله.

ص: 109

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، بإسناده عن أنس قال: «مرّ النبي صلّى اللّه عليه و آله في نفر من أصحابه و صبي في الطريق، فلما رأت امّه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ فأقبلت تسعى و تقول: ابني ابني... فأخذته، فقال القوم: يا رسول اللّه ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار! فقال صلّى اللّه عليه و آله: لا و اللّه، و لا يلقي حبيب حبيبه في النار».

أقول: لا شكّ أنّ الحبيب لا يعذّب حبيبه حتّى بعذاب الفراق و حرّ ناره، و لو عذّبه كذلك في عالم الشهادة و صبر، يكون ذلك لرفع مقامه و علو درجته و لتقرّبه إليه جلّ شأنه، و أنّ عدم عذابه في الآخرة لا ينافي ابتلائه في الدنيا لرقيه إلى سمو مراتب الحبّ له، رزقنا اللّه تعالى رشحة من رشحات فيض حبّه، و جعلها مستقرّة في قلوبنا.

و في الكافي بإسناده عن أبي الربيع قال: «حججنا مع أبي جعفر عليه السّلام في السنة التي حجّ فيها هشام بن عبد الملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب، فنظر إلى أبي جعفر في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس، فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس ؟! فقال: هذا نبيّ أهل الكوفة، هذا محمد بن علي عليه السّلام، فقال: اشهد لآتينه و لأسألنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلاّ نبيّ . قال: فاذهب فاسأله لعلّك تخجله، فجاء نافع حتّى اتكئ على الناس ثمّ أشرف على أبي جعفر عليه السّلام فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها، و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ ، قال: فرفع أبو جعفر عليه السّلام رأسه فقال: سل عمّا بدا لك، فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمّد من سنة ؟ فقال: أخبرك بقولي أو بقولك ؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا، قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما قولك فستمائة سنة».

أقول: تقدّم في التفسير أنّ الفاصل الزماني بين الرسولين لم يكن فيه نبيّ معلن و حجّة ظاهريّة، و إلاّ فالحجّة الواقعيّة - سواء كانت نبيّا أو وصيّا - غير

ص: 110

معلنة لا تنقطع في سلسلة الزمان كما ثبت ذلك في علم الكلام.

و أما الاختلاف في الفترة بين الرسولين فكثر، فذهبت الإماميّة إلى أنّها خمسمائة سنة كما في الرواية، و ذهب قتادة و غيره إلى أنّها ستمائة سنة أو ما شاء اللّه من ذلك، و عليه الجمهور، و ذهب الضحاك إلى أنّها أربعمائة سنة و بضعا و ثلاثين، و ذهب ابن جريح إلى أنّ الفترة كانت خمسمائة سنة، و قال الكلبي: خمسمائة و أربعون.

و يمكن الجمع بين الأقوال بأنّها على سبيل الاستنتاج من سلسلة الزمان، و أنّه على نحو التقريب لا التحديد الواقعي، و مثل هذا الاختلاف و إن كان كثيرا، إلاّ أنّه لا يضرّ بشيء، و لا يترتب عليه أي حكم، و اللّه العالم.

و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله اليهود إلى الإسلام فرغّبهم فيه و حذّرهم، فأبوا عليه، فقال لهم معاذ بن جبل، و سعد بن عبادة، و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه، فو اللّه إنّكم لتعلمون أنّه رسول اللّه، لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل اللّه من كتاب من بعد موسى و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده، فأنزل اللّه تعالى: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ اَلرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ - الآية».

أقول: الرواية تدلّ على عناد اليهود و انحرافهم عن الفطرة المستقيمة و إنكارهم للحقّ الواضح، و يظهر منها مصلحة الفترة، أي: حتّى يعترفوا بالحقّ و يقرّوا به فيها، و قد كشف القرآن الكريم عن نواياهم الفاسدة بعد ذلك، و اللّه العالم بالحقائق.

و عن البيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ قالَتِ اَلْيَهُودُ وَ اَلنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اَللّهِ وَ أَحِبّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ ، قال: «أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله ابن ابيّ و بجرى بن عمر و و شاس بن عدي، فكلّمهم و كلّموه، و دعاهم إلى

ص: 111

اللّه و حذّرهم نقمته، فقالوا: ما تخوّفنا يا محمد، نحن و اللّه أبناء اللّه و أحباؤه، كقول النصارى، فأنزل اللّه تعالى فيهم الآية».

أقول: الرواية من باب التطبيق، لأنّها تشمل كلّ من ادّعى المنزلة عند اللّه تعالى، و لم يقنت له جلّ شأنه، و تعدّى حدوده تعالى و أحكامه، فهو يعذّبه سواء كان من اليهود أو النصارى أو المجوس، فالمدار على التقرّب على الإيمان و العمل الصالح، كما أنّ المناط في العذاب على الكفر و العمل السيء.

و في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اَللّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ ، قال: «يعني بالنور النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و أمير المؤمنين و الأئمة عليهم السّلام».

أقول: لأنّ بهم أخرجنا اللّه تعالى من ظلمات الجهل و الكفر إلى نور العلم و المعرفة، و أنّ الأئمة المعصومين كالعلل المبقية للعلّة الأصليّة، كما تقدّم مكرّرا.

بحث عرفاني:
اشارة

ورد لفظ النور في الكتب السماويّة كثيرا، لا سيما في القرآن الكريم باختلاف متعلّقه و إضافته، فتارة: أضيف إلى نفسه الأقدس، قال جلّ شأنه: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ [سورة النور، الآية: 35]، و قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اَللّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اَللّهُ إِلاّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ [سورة التوبة، الآية: 32]، و قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اَللّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [سورة النور، الآية: 40]، و في الدعاء المأثور: «أنت نور السموات و الأرض».

و اخرى: أضيف إلى خلقه، مثل قوله تعالى محكيا عن أحوال المؤمنين في يوم الحساب: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ [سورة التحريم، الآية: 8].

و قال تعالى: ذَهَبَ اَللّهُ بِنُورِهِمْ [سورة البقرة، الآية: 17].

و ثالثة: إلى الكتب النازلة من عنده عزّ و جلّ على رسله الكرام، كما قال جلّ

ص: 112

شأنه: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 44]، و قال تعالى:

وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ [سورة المائدة، الآية: 46]، و قال تعالى:

فَآمِنُوا بِاللّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اَلنُّورِ اَلَّذِي أَنْزَلْنا [سورة التغابن، الآية: 8]، و هو القرآن الكريم.

و رابعة: أضيف إلى الرسل و الأنبياء، قال تعالى في وصف نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

يا أَيُّهَا اَلنَّبِيُّ إِنّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً * وَ داعِياً إِلَى اَللّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 45-46]، بل اطلق على خلفائه المعصومين عليهم السّلام، كما في الروايات.

و خامسة: أضيف إلى الدين النازل من السماء، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ اَلظُّلُماتِ إِلَى اَلنُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً [سورة الأحزاب، الآية: 43]، و الجامع بين هذه الأقسام هو الحقّ ، فيدور مداره.

و سادسة: اختصّ النور بغير هذا العالم، أي: عالم البرزخ و القيامة، قال تعالى:

وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ اَلْكِتابُ وَ جِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ اَلشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ [سورة الزمر، الآية: 69]، و قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اَللّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اِغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ [سورة التحريم، الآية: 8].

و يمكن أن يقال: إنّ جميع تلك الأقسام يرجع إليه سبحانه و تعالى، لما اختصّ به من إشراق الجلال و سبحات العظم التي تضمحلّ دونها كلّ شيء، و إنّ سائر الأنوار بارقة و رشحة من ذلك النور العظيم - كما في بعض الدعوات المأثورة - و لولاه لكانت الظلمة فاشية و مستقرّة. نعم للإضافة أثرها الخاصّ يحصل من الاستعداد و الأهليّة أو القابلية، و إنّ الاختلاف فيه حصل منها و بها.

حقيقة النور:

تقدّم في أحد مباحثنا السابقة أنّ كثيرا من حقائق الأشياء - خصوصا

ص: 113

المعنويات التي هي بعبدة كلّ البعد عن عالم المادة - مستورة عنّا و محجوبة عن ادراكاتنا، إلاّ ما أصابتها عقولنا في عالم الإمكان بقدرها، و أنّ ذلك لا يظهر الحقيقة و لا يبيّن الواقع، بل هو كشف عن بعض الآثار الدالّة على الوجود، و عن بعض الفلاسفة أنّ التعاريف للحقائق كلّها ليست إلاّ لبيان بعض الآثار، لا من باب الكشف للحقيقة، لأنّه على وجه التحديد غير ممكن، للاختلاف في الأنواع، و للسير الاستكمالي فيها و تفاوت الاستعدادات، إلى غير ذلك من الأمور التي ذكروها، و لذلك قالوا: «العلم بحقائق الأشياء صعب المنال جدا، و يظهر ذلك أكثر وضوحا في مثل الروح، و العلم، و الوحي، و الموت، و الحياة، و الوجود، و غيرها.

و من ذلك: النور، فقد عرّفوا حقيقته بتعاريف متعدّدة، لعلّ أسلمها: «أنّه كيفيّة خاصّة ظاهرة بنفسها»، و أنّه «خلاف الظلمة»، و المناقشة فيه واضحة، لأنّه لم يعرف حقيقته و واقعه. و عن ثالث: «هو الظاهر في نفسه المظهر لغيره»، و هذا يرجع إلى الأوّل. و عن رابع: أنّ حقيقته الوجود، و التغائر بينهما لفظي. و فيه: أنّ الوجود أعمّ بالكتاب و السنّة و العقل كما هو واضح. و عن خامس: أنّه الصراط المستقيم الموصل للحقيقة. و فيه: على فرض التنازل أنّه تعريف بأحد المصاديق.

و عن سادس: أنّه القوّة، أو الحلاوة في الباطن، أو الوصول إلى الحقّ ، و المناقشة فيه واضحة جدا، و أنّ ما ذكر من المصطلحات الصوفيّة التي هي بعيدة عن الماء المعين و منهج الشرع المبين و الصراط المستقيم.

فالصحيح ما تقدّم من أنّ النيل إلى الواقع و الحقيقة غير ميسور، و أنّ هذه التعاريف كلّها تقريبيّة، قد يقنع الذهن بها و إن لم تقتنع النفس، و عدم النيل إلى الحقيقة لا يضرّ بالسير و السلوك بعد الدرك أنّه من جند القلب، و به تكشف المبهمات و ترفع الظلمات و يتميّز الحقّ من الباطل، فيحقّ الحقّ و يبطل الباطل، فينتصر القلب بإقباله على الحقّ بالنور المشرق عليه، و تنهزم الظلمات و توابعها، إذ لا بقاء للظلمة مع إشراق النور و وضوحه.

ص: 114

اختلاف النور:

النور كالوجود ينقسم إلى حقيقة و مجاز، فالنور الحقيقي هو نور المبدأ جلّ شأنه، كما هو الوجود الحقيقيّ ، و سائر الأنوار إشراق منه، و هذا معنى ما ورد في الدعاء المأثور: «أنت نور الأنوار»، أو «أنت ربّ الأنوار». و إنّ اختلافه في عالم الشهادة و الإمكان حسب سعة إشراقه و انتشاره أو تحديده، بل يختلف بمدى أثره و بارقته على القلب و حسب مناشئه و مصادره.

و لا يمكن تحديد هذا الاختلاف، لتفاوت النفوس، و اختلاف الأسباب و الآثار، و التقرّب إليه مرتبة و درجة، و دنوا و بعدا، إلاّ أنّ الجامع الذي ممّا لا ريب فيه هو الكشف للنور، كما أنّ للبصيرة الحكم، و للقلب الإقبال و الأدبار، و لكن جميعها تختلف باختلاف المراتب و الدرجات.

أما النور الحقيقيّ الذي لا يتصوّر فيه التشكيك، فهو النور المختصّ بالمبدأ جلّ ثناه، الذي تجلّى به، و سمّى نفسه به، فقال تعالى: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، فإنّه اللامحدود من جميع الجهات - جلالا و جمالا، و إشراقا و ملكوتا - فلا يتصوّر نور دونه، و الأنوار كلّها فائضة من بحر جبروته، كما ورد في الدعاء المأثور: «يا نور النور، يا منور النور، يا خالق النور، يا مدبر النور، يا مقدّر النور، يا نور كلّ نور، يا نورا بعد كلّ نور، يا نورا فوق كلّ نور، يا نورا ليس كمثله نور»، فالكائنات كلّها رشحة من رشحات نوره، و فيض من بحار أنواره، فعليه لا يعقل أن يكون الكون ظلمة - كما عن بعض أهل العرفان - لإضافته إليه و خلقه بالإرادة التكوينيّة، إلاّ أن يراد من الظلمة في حقّ أهل الحجاب، لا لأهل الحقّ و العرفان.

و بتعبير أوضح: أنّ ذاته تعالى حقيقة النور الذي لا يوصف و لا يمكن تحديده إلاّ بسلب النقائص عنه، مستور عنّا كنهه، جامع للكمالات و إليه تنتهي الكمالات، و منه أفاضت الأنوار.

ص: 115

و ممّا ذكرنا تسقط دعوى بعض أهل العلم من أنّ النور جسم و عرض، و الباري جلّ شأنه منزّه عنهما، فلا بدّ من التأويل في الآية الشريفة، فإنّ ذلك النور ليس كسائر الأنوار كما عرفت، فلا حاجة إلى التأويل.

على أنّ مقام المظهريّة، و التجلّي، و الإشراق غير مقام الذات، و في بعض روايات نفي الرؤية: «كيف أراه و حجابه النور»، أي: أفاض من نور ذاته نور حجابه، فهو تعالى محجوب، و في الدعاء المأثور: «اللهم ربّ النور العظيم»، أو قوله عليه السّلام مخاطبا له جلّت عظمته: «أنت نور النور».

و الحاصل: أنّ تجلّيه تعالى بالنور، ليس من قبيل النور المتّصف بالكيف و العرض في عالم الإمكان المحدود بالمعقول، و إن كانت السموات و الأرضين كلّها أنوارا أشرقت من نوره العظيم بعد ما كانتا معدومتين، فلا داعي لالتماس المجاز في الآية المباركة: اَللّهُ نُورُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، أي: المنوّر لهما، و إن كان ذلك صحيحا في حدّ نفسه، كما لا معنى للمبالغة فيها أصلا كما عن بعض، و البحث نفيس جدا نتعرّض له في الآية الشريفة المناسبة له إن شاء اللّه تعالى.

و قد تقتبس النفوس المستعدة أنوارها من الصحف المطهّرة النازلة من السماء على قلب الرسل و الأنبياء عليهم السّلام، فتهتدي إلى الكمال اللائق، و تصل إلى المقام الراقي.

كما أنّ النور يشرق من وجود الرسل و الأنبياء عليهم السّلام على القلوب القابلة أو اللائقه للسير و السلوك لعرفان الحقّ و التوجّه للخالق، و كذا من الأولياء بل العلماء العاملين بعلمهم المتّقين، الذين وصفهم علي عليه السّلام في خطبة همام.

و قد يشرق النور من جميع الممكنات التي وجدت بالإرادة التكوينيّة، الدالّة على خالقها و بارئها و جاعلها على النفوس القابلة للوصول إلى معرفة موجدها و مدبرها.

و هذه الأنوار كلّها قابلة للشدّة و الضعف، و لها مراتب، و في كلّ مرتبة درجات، و في كلّ درجة منازل، و في كلّ منزلة مراحل، و تفصيل ذلك خارج عن موضوع الكتاب.

ص: 116

آثار النور:

الأنوار الإلهيّة تؤثّر في القلوب و توجب سعادة النفس و رقيها، و تخلّف حقائق هي السبل للفوز بالكمالات، فبالنور يميّز الإنسان الحسن من القبح، و بعد ذلك البصيرة تذعن أو تحكم على الحسن بحسنه و عن القبيح بقبحه، ثمّ القلب يقبل على ما ثبت حسنه و يدبر عن ما ثبت قبحه، فتحصل السعادة بعرفان الحقّ ، فهذه الحقائق تستند إلى النور، و هو السبب لها، و لذا اشتهر عندهم «الأنوار مطايا إلى العلاّم»، لأنّها تشرق على النفوس المستعدة، فتوصلها إلى وادي المعرفة و تربطها مع خالقها.

و لا فرق في تلك الأنوار الفائضة منه جلّ شأنه أن تشرق من الرسل، و الكتب، أو الأكوان، كلّ لها أثرها الخاصّ على النفس، إن لم تكن على القلوب أكنة.

أقسام النور:

الأنوار المحسوسة بعين البصر المنتشرة من الأجسام النيرة، كالقمرين و النجوم و الأرض و غيرها أنوار خارجيّة لها أثرها الخاصّ في عالم الإمكان، و لسنا في مقام بيانها لأنّها مدركة لكلّ أحد حتّى البهائم، فلا خصوصية لها سوى الآثار، قال تعالى: هُوَ اَلَّذِي جَعَلَ اَلشَّمْسَ ضِياءً وَ اَلْقَمَرَ نُوراً [سورة يونس، الآية: 5]، و الضوء أخصّ من النور، و في الدعاء المأثور: «يا خازن الليل في الهواء، و خازن النور في السماء».

و أما الأنوار المعنوية التي تدركها البصيرة، فهي على قسمين: دنيويّة، و اخرويّة، و الأول كنور العقل و العلم، و نور الإيمان. و إنّ الحياة في هذا العالم متقوّم بهذه الأنوار، و لو لا ها لم تسعد حياة، و هو المراد من الآية الشريفة: وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي اَلنّاسِ [سورة الأنعام، الآية: 122]، و في الحديث: «العلم نور يقذفه اللّه في قلب من يشاء».

ص: 117

و من الأنوار المعنويّة التي تدركها البصيرة، النور الذي يشرق من الكتب السماويّة، لاستضاءة السبل و إيصال السالك إلى منزل القرب إليه تعالى، و كذا الأنبياء و الأولياء كما مرّ.

و هناك أنوار اخرى ذكرها علماء العرفان، و هي:

الأوّل: نور الطالبين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الغفلة و يظهر نور اليقظة، و الروايات الدالّة على ذلك كثيرة، و في الدعاء المأثور: «وهب لي نورا ترفع به ظلمة الجهل عني، و اطلب به رضاك».

الثاني: نور السائرين، و من شأنه أن يكشف ظلمة الأغيار و يظهر به بهجة المعارف و الأسرار، و في كثير من الدعوات السؤال منه جلّ شأنه بإفاضته علينا، و يعبّر عنه بنور الإقبال، و لعلّه المراد من الحديث الوارد عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ النور إذا دخل القلب انشرح له الصدر و انفسح، قيل: يا رسول اللّه هل لذلك من علامة يعرف بها؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: نعم التجافي عن دار الغرور و الإنابة إلى دار الخلود و الاستعداد للموت قبل نزوله».

الثالث: نور الوصال أو التوجّه، و به يحصل الشهود و يشهد القلب مولاه.

و هناك تقسيم آخر، و هو قريب ممّا ذكرنا، نور الإسلام، و نور الإيمان، و نور الإحسان، فبالأوّل الانقياد و الإذعان، و بالثاني يكشف ظلمات الشرك الخفي و يظهر بهجة الإخلاص و الصدق و الوفاء، و بالثالث تنكشف ظلمة الآنية و يظهر نور وجود المبدأ كما هو، و لهذه الأنوار مراتب و درجات.

و عن بعض العرفاء المحققين: أنّه بنور الإسلام الواقعيّ يتحقّق الفناء في الأفعال، و بنور الإيمان يتحقّق الفناء في الصفات، و بنور الإحسان يحصل التمكين في الفناء في الذات.

و استغنى بعض منهم عن النور الثالث بذكر الثاني، و لعلّ الوجه في ذلك أنّ الفناء في الصفات قريب من الفناء في الذات، و أنّ الصفات لا تفارق الموصوف، فمن يرى سمعه باللّه تعالى و بصره باللّه سبحانه - كما في بعض الروايات - يرمى وجوده

ص: 118

باللّه جلّت عظمته، فمهما تحقّق أحدهما تحقّق الآخر، و لكن لا على نحو الوجود و الموجود حتّى يستلزم المحاذير، بل على نحو المظهريّة و الفناء فيه جلّ شأنه، و لذيل الكلام بحث نفيس طويل ننتظر الفرصة للتعرّض له إن شاء الربّ جلّت عظمته و أراد.

و أمّا الثاني: فهو يختصّ بالمؤمنين و الأولياء و الصالحين، قال تعالى: يَوْمَ لا يُخْزِي اَللّهُ اَلنَّبِيَّ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا [سورة التحريم، الآية: 8]، و قال تعالى: وَ أَشْرَقَتِ اَلْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها [سورة الزمر، الآية: 69]، أي: بوجود الأنبياء و الأولياء و المؤمنين العالمين في أرض الحساب.

و هناك تقسيم آخر لنوره جلّ شأنه و هو نور الأعظم، و نور العظيم، و نور العظمة، كما ورد في الدعوات المأثورة، و يحمل ذلك على مراتب تجلياته أو يحمل على ادراكاتنا لتلك الأنوار و اللّه العالم.

إشراق الأنوار:

كما أن للأنوار المحسوسة شروقا و غروبا تدلّ على وجودها و آثارها الخاصّة، كذلك للأنوار المعنويّة، فإنّ لها إشراقها على القلوب و النفوس، و لا بدّ فيها من إزالة الحجب المانعة من الإشراق، و هي تعلّق القلب بالمادة و الماديات و توطين حبّ الدنيا فيه، و قد يغرب النور عنه و تخمد الفطرة، كما عن عليّ عليه السّلام: «انّ هذه القلوب تملّ كما تملّ الأبدان»، و أنّ القلوب تقبل على ما يوجب التصفية و تدبر عمّا يمنعه من التخلية و التحلية، إلاّ إذا وصلت إلى مرحلة لا تؤثّر فيها الأنوار مطلقا، و أظلمت من جميع الجهات، و حسب التعبير القرآني: القساوة، أو أشدّ من الحجارة، أو ران على قلوبهم، فحينئذ يتمثّل الإنسان في الشرّ و يصير مصداقا للشرور (نستجير باللّه تعالى)، و مع ذلك كلّه فهو قابل للرجوع إلى الفطرة و الاستعانة بها لإزالة الخبائث عنه و رفع الحجب، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

ص: 119

لوازم النور:

الأصل في النور الخير، و الفرح، و السرور، و الطاعة للّه جلّت عظمته كما أنّ الظلمة، يتعقّبها الحجاب، و الشرّ، و الجهل، و القسوة و الضيق و الشدّة و البعد عن اللّه تعالى، فالخير للنور، من قبيل لوازم الماهية في الأشياء، لا يمكن التفكيك بينهما أصلا، مثل الزوجيّة للأربعة، و في المقام لازم الحقيقة، و الظلمة تتعقّبها الصفات السيئة المضادّة للنور و صفاته.

و مرادنا بالأصل ذلك، لا الأصل المصطلح في علم الأصول و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك في الآيات المناسبة، كما يأتي أقسام الخير و الفرح و السرور أيضا.

منازل النور و درجاته:

تقدّم أنّ النور الحقيقي الذي لا يمكن تحديده منحصر به تعالى، و أنّ ما سواه على منازل و درجات حسب الإشراق منه جلّ شأنه، فأوّل نور أنزله تعالى عن ذاته الأقدس و أظهره بنور قدرته من العدم، كان نور نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله، ففي الحديث: «أوّل ما خلق اللّه نوري»، و عنه صلّى اللّه عليه و آله: «كنت نورا بين يدي ربّي قبل خلق آدم عليه السّلام بأربعة عشر ألف عام، و كان يسبح ذلك النور و تسبح الملائكة بتسبيحه، فلما خلق اللّه آدم أودع ذلك النور في صلبه»، و في الحديث عن ابن عباس عنه صلّى اللّه عليه و آله: «لما خلق اللّه آدم عليه السّلام أهبطني في صلبه إلى الأرض و جعلني في صلب نوح في السفينة و قذفني في صلب إبراهيم ثمّ لم يزل تعالى ينقلني من الأصلاب الكريمة و الأرحام الطاهرة حتّى أخرجني بين أبوين لم يلتقيا على سفاح قط».

و أما أنوار الأئمة المعصومين عليهم السّلام، فهي أشرقت من نوره عزّ و جلّ ، و كانت في العرش كما في بعض الروايات، ثمّ هبطت إلى عالم الشهادة و بعد ذلك ظهرت

ص: 120

الموجودات بوجود نوره جلّت عظمته على حسب الترتيب؛ المجرّدات العلويات ثمّ السفليات، و كلّما كانت أقرب إلى العلويات و المجرّدات كانت أشرف منزلة، و هكذا بالنسبة إلى المؤمنين حسب درجات إيمانهم، و هذا معنى قوله صلّى اللّه عليه و آله: «أنا من اللّه و المؤمنون مني».

و على ضوء ما ذكرنا ظهر مراد ما هو المشهور بينهم من أنّه تعالى أوّل ما خلق العقل الأوّل ثمّ بقية العقول العشرة، و سيأتي إن شاء اللّه تعالى توضيح ذلك مفصّلا.

ص: 121

ص: 122

فأوقعهم عزّ و جلّ في التيه، لتهذيب تلك النفوس المريضة و ترويضها على تحمّل التكاليف.

و في سرد هذه القصة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و المؤمنين العبرة و الموعظة و التذكير.

و بيان كيفيّة نقضهم للمواثيق التي أمر اللّه تعالى بالوفاء بها، و قد ذكر جلّ شأنه جملة منها في ما سبق من الآيات الشريفة، و في آيات المقام ذكر تعالى جملة اخرى.

التفسير

قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ .

تذكير لليهود بالنعم الجسام، و توطئة لبيان شناعة فعلهم في نقض المواثيق و كفران نعم اللّه تعالى. و تفصيل لكيفيّة نقضهم المواثيق و تسجيل عليهم بما سلف منهم من الجنايات.

و الخطاب للرسول الكريم إعراضا عن خطابهم، و قد ذكر عزّ و جلّ نداء موسى عليه السّلام لليهود الدالّ على كمال القرب و المزيّة لهم بالاعتناء بهم، حيث أضافهم إلى نفسه ثمّ عقّبه بتذكيرهم بما خصّهم من الآلاء و النعم الجسام، استمالة بهم و نصحا لهم في تنفيذ مواثيقه عزّ و جلّ .

و تقدّم الكلام في معنى النعمة في قوله تعالى: وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [سورة المائدة، الآية: 3]، و هي إما مصدر أو اسم مصدر و نسبتها إلى اللّه تعالى تدلّ على شرفها و عظيم النعمة منه عليهم.

و المراد منها في المقام جنس النعمة و مجموع النعمة التي أنعم اللّه عليهم و خصّهم بها، و في ذكرها بالمقام التذكير باستزادتها، و استتمامها و طاعتهم للّه تعالى و رسوله شكرا منهم على تلك النعمة، و تنشيط همّهم لتنفيذ أحكامه عزّ و جلّ ، و الوفاء بعهوده عموما، و الدخول في الأرض المقدّسة خصوصا، لأنّ دخولهم لها

ص: 123

يحتاج إلى مزيد الهمّة و النشاط، فإنّ به تتمّ النعمة و تتّضح حقيقتهم بعد الجهد المرير و العمل الدؤب في إصلاحهم، كما أنّ به يتحقّق استقلالهم.

و كيف كان، فإنّ النعم التي اختصّت بها بنو إسرائيل كثيرة، و قد ذكر تعالى في المقام ثلاثة أنواع منها للتذكير، و الموعظة، و مزيد الاعتناء، و تذكيرهم بالوقت الذي وقعت فيه النعمة أبلغ من تذكيرهم بما وقعت فيه.

و ظاهر الآية الكريمة أنّ ما ورد فيها كان بعد خروجهم من مصر و إنجاء اللّه تعالى لهم من ظلم فرعون و المصريين، و أنّ قضية التيه كانت في الشطر الأخير من زمان مكث موسى عليه السّلام فيهم، و يؤكّد ذلك ما ورد في بعض الروايات أنّه عليه السّلام مات في التيه.

قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ .

تفصيل بعد إجمال، و قد قسّم سبحانه و تعالى النعم التي أنعمها على بني إسرائيل إلى نعم معنويّة - منها: جعل الأنبياء فيهم الذين هم واسطة الفيض و سبب الاستكمال و ظهور المعجزات الباهرات على أيديهم التي كانت السبب الوحيد في ظهور الحقّ و إنقاذ بني إسرائيل من الظلم و خروجهم من مملكة الجبابرة و العتاة - و إلى نعم ظاهريّة، و هي جعلهم ملوكا ذوي كيان مستقل بعد أنّ كانوا أذلاء مستعبدين في حكم الطغاة، كما حكى عزّ و جلّ حالهم في عدّة مواضع من القرآن الكريم، فكانت هذه الآية المباركة من أهمّ الآيات الشريفة التي تذكّرهم بضروب الآلاء و النعم، و تعرّفهم باعتنائه سبحانه و تعالى بهم و تفضيلهم على من عاصرهم و من تقدّمهم من الأمم، فقد خصّهم بأعظم النعم و أشرفها، و هي أنّه تعالى جعل كثيرا من الأنبياء فيهم، الذين هم من عمود نسبهم و من قومهم بالخصوص، و قد ذكر عزّ و جلّ أسماء جملة منهم في القرآن الكريم، مثل إبراهيم، و إسحاق، و يعقوب، و يوسف و الأسباط، و موسى، و هارون، و غيرهم ممّن هم من المستعلنين، و أما المستخفون الذين لم يرد ذكرهم في القرآن الكريم فهم كثيرون، و قد امتازت بنو إسرائيل بهذه النعمة العظيمة، فلم تكن امّة من الأمم في مرّ

ص: 124

العصور أن يبعث منهم هذه الكثرة من الأنبياء، و لعلّ في قوله تعالى وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 47]، إشارة إلى ذلك.

قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً .

بيان للنوع الثاني: من النعم التي أنعم اللّه تعالى على بني إسرائيل، و هي النعمة الظاهريّة. و تغيير الأسلوب فيها إنّما هو لبيان أنّ هذه النعمة قد شملتهم بأجمعهم من دون استثناء، بخلاف النعمة الاولى التي اختصّت ببعضهم، فقال تعالى:

إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، و إن كان أثرها يرجع إليهم جميعا، لأنّ النبوّة أمر إلهيّ يخصّ اللّه تعالى به من يشاء من عباده، بخلاف الملوكيّة، فإنّها قد تشمل الجميع.

و مادة (ملك) تدلّ على التسلّط و الاستيلاء، و هو يختلف باختلاف متعلّقه، و له مراتب متفاوتة جدا، أعظمها و أعلاها مرتبة هو ملكية اللّه تعالى لما سواه، فإنّ هذه الملكية هي الحقيقيّة، و غيرها ترجع إليه بنحو من الأنحاء، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يزيد عن مائة و ثلاثين موضعا، و تستعمل بالنسبة إلى جميع العوالم، قال تعالى: مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ ، و قال تعالى: لِمَنِ اَلْمُلْكُ اَلْيَوْمَ لِلّهِ اَلْواحِدِ اَلْقَهّارِ [سورة غافر، الآية: 16]، و قال تعالى: وَ لِلّهِ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ * [سورة آل عمران، الآية: 189]، و قد تقدّم ما يتعلّق بها في سورة الفاتحة فراجع.

و المراد به في المقام هو الاستقلال بالنفس و التسلّط عليها و مالكيتهم لأمرهم بالحرية و التدبير و الملكية، بعد أن كانوا عبيدا أرقاء للقبط و الفراعنة، ليست لهم أيّة سلطة على أنفسهم و أموالهم و امور معاشهم، يسومونهم سوء العذاب كما ذكر عزّ و جلّ في عدّة مواضع من كتابه الشريف، قال تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اُذْكُرُوا نِعْمَةَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ [سورة إبراهيم، الآية: 6].

و الفرق بين هذه الآية الشريفة و آية المقام أنّ الأخير في مقام تعظيم النعم

ص: 125

و التعريف باعتنائه عزّ و جلّ بهم و تفضيلهم على غيرهم، فناسب ذلك ذكر نداء موسى عليه السّلام إيّاهم بقوله: يا قَوْمِ ، بالإضافة إلى ضميره، إيماء بالقرب و المزيّة، بخلاف آية النداء.

و كيف كان، فإنّ سياق الآية الشريفة يدلّ على صيرورتهم ملوكا، إذ لم يذكر عزّ و جلّ : «و جعل فيكم ملوكا»، كما هو الشأن في النعمة الاولى، و هذا يؤكّد على أنّ المراد من الملوكيّة غير ما هو المعروف، بل هو التسلّط على أنفسهم و الاستيلاء على شؤونهم و أموالهم، و إن قدّر اللّه تعالى أن يكون فيهم ملوك كطالوت، و داود، و سليمان، و غيرهم، و لكن ذلك حصل بعد عصر موسى عليه السّلام بزمان كثير، و الآية الشريفة تدلّ على حصولها لهم في عصره عليه السّلام و تحقّقها فيهم في زمانه عليه السّلام.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما قاله بعض المفسّرين في المقام، من أنّ المراد من جعلهم ملوكا هو ما قدّر اللّه تعالى فيهم من الملك، الذي يبتدئ من طالوت فداود إلى آخر ملوكهم، فتكون الآية المباركة وعدا بالملك و إخبارا بالغيب، فإنّ ذلك خلاف ظاهر الآية الشريفة كما عرفت.

و قال بعضهم: إنّ المراد به مجرّد ركوز الحكم فيهم، كما كانت عليه العرب قبل الإسلام. و يرد عليه ما أورد على سابقه.

و كيف كان، فالآية الكريمة تعظّم أمر هذه النعمة فيهم، فإنّها نعمة الحرية، و الاستقلال و الخروج عن التبعيّة و الاستذلال.

قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ و عناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات، من فلق البحر، و نجاتهم من بطش فرعون، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى، و انفجار الحجر، و غير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و التي اختصّوا بها من بين سائر الأمم، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه السّلام ما توفّرت و تواردت على بني إسرائيل، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية، و لعلّ في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 122] إشارة إلى ذلك، و اللام في العالمين للاستغراق، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم، و لا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة و جهات متعدّدة، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى، و حينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة و القول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.

ص: 126

نعمة اخرى تشمل جميع ألطافه عزّ و جلّ و عناياته بهم التي أنزلت بآيات باهرات، من فلق البحر، و نجاتهم من بطش فرعون، و تظليل الغمام، و إنزال المن و السلوى، و انفجار الحجر، و غير ذلك ممّا كان له الأثر العظيم في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، و التي اختصّوا بها من بين سائر الأمم، فلم تتوفّر على امة ممّن تقدّم على عهد موسى عليه السّلام ما توفّرت و تواردت على بني إسرائيل، فكانوا هم المفضّلين على غيرهم من هذه الناحية، و لعلّ في قوله تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية: 122] إشارة إلى ذلك، و اللام في العالمين للاستغراق، فيشمل جميع الأمم الماضية من دون اختصاص بعالمي زمانهم كما عن بعض، فإنّ ظاهر الآية الشريفة يدلّ على أنّه لم تكن امّة من الأمم إلى ذلك الوقت قد حظيت بمثل ما حظيت به بنو إسرائيل من هذه النعم، و لا يخفى أنّ التفضيل له مراتب كثيرة و جهات متعدّدة، فإذا فضّلت بنو إسرائيل من هذه الجهة، فهو لا يدلّ على نفي التفضيل عن غيرهم من ناحية اخرى، و حينئذ لا يحتاج إلى ارتكاب التأويل في هذه الآية الشريفة و القول بأنّها نزلت في شأن هذه الامّة، دفعا لما قد يتوهّم من تفضيل بني إسرائيل عليها.

قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ .

أمر بدخول الأرض المقدّسة، بعد استمالتهم و استنشاط هممهم بذكر نعم اللّه تعالى عليهم و استثارتهم بتذكيرهم آلائه العظيمة. و يستفاد من القرائن الحافّة بالكلام أنّهم كانوا يبغون التمرّد على الامتثال و النكوص عن الطاعة، و لذا كرّر النداء مع الإضافة التشريفيّة، حثّا على الامتثال و اهتماما بشأن الأمر، ثمّ أكّده بالنهي عن الارتداد و إلاّ كان عاقبته الخسران.

و مادة (قدس) تدلّ على التنزّه و الطهر، يقال: تقدّس اللّه، أي: تنزّه. و في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «انّ روح القدس نفث في روعي»، يعني جبرئيل عليه السّلام، لأنّه خلق من طهارة، و الروح هو النفس و مركز القلب، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، و تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ [سورة البقرة، الآية: 30]، فراجع.

و الأرض المقدّسة هي الأرض المطهّرة من رجس الشرك، و التي يمكن إقامة الدين فيها، و لعلّ هذا هو معنى البركة التي وصف عزّ و جلّ الأرض التي وعدهم بها، قال تعالى: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137]، فإنّ البركة هي الخير الكثير، و أعلاه مرتبة هو إقامة الدين

ص: 127

و بسط الحقّ و العدل و رفع قذارة الشرك، و بذلك يمكن الجمع بين كلمات المفسّرين في المراد من المقدّسة في المقام.

و اختلفوا في تعيين الأرض المقدّسة، فقيل: هي الشام، و قيل: هي الطور و ما حوله، و قيل: اريحاء، و قال بعضهم: دمشق و فلسطين، و قال آخر: الأردن، و قيل غير ذلك.

و الحقّ أن يقال: إنّه لم يرد في القرآن الكريم و لا في السنّة الشريفة تحديد هذه الأرض الموعودة، إلاّ أنّ توصيفها بالبركة كما قال تعالى: سُبْحانَ اَلَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ اَلْمَسْجِدِ اَلْحَرامِ إِلَى اَلْمَسْجِدِ اَلْأَقْصَى اَلَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ اَلسَّمِيعُ اَلْبَصِيرُ [سورة الإسراء، الآية: 1] يقرب أنّه المسجد الأقصى و ما حوله، فيستفاد أنّ هذه الأرض المقدّسة هي هذه المنطقة بالخصوص، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من أنّها الشام، هو أقرب الاحتمالات، فإنّ أرض الشام موصوفة بالبركة عبر العصور و مرّ التاريخ، و هي تشمل المسجد الأقصى و ما حوله.

و مادة [كتب] تدلّ على الثبوت و اللزوم، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا، و كلاهما ورد في القرآن الكريم و تقدّم البحث عنها في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183]، و المراد به قضاؤه عزّ و جلّ في توطّنهم في الأرض المقدّسة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة القصص، الآية: 6]، و هذه الكتابة و إن كانت مجملة من حيث الوقت و الأفراد الذين يسكنون تلك الأرض، إلاّ أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد و الأشخاص و أحوالهم، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة، كما أنّ هذه الكتابة و إن كانت مطلقة في المقام، إلاّ أنّها مشروطة بالاستعانة باللّه و الصبر على الطاعة و تحمّل المشاق، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السّلام: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 128-129]، و إطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية، و الصبر في الحوادث و تحمّلها، و اكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة، و عند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ ، كما دلّت عليه الآية الشريفة: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137].

ص: 128

و مادة [كتب] تدلّ على الثبوت و اللزوم، سواء كان تكوينيّا أم تشريعيّا، و كلاهما ورد في القرآن الكريم و تقدّم البحث عنها في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى اَلَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 183]، و المراد به قضاؤه عزّ و جلّ في توطّنهم في الأرض المقدّسة، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى اَلَّذِينَ اُسْتُضْعِفُوا فِي اَلْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ اَلْوارِثِينَ * وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي اَلْأَرْضِ [سورة القصص، الآية: 6]، و هذه الكتابة و إن كانت مجملة من حيث الوقت و الأفراد الذين يسكنون تلك الأرض، إلاّ أنّ الخطاب للامّة من غير تعرّض للأفراد و الأشخاص و أحوالهم، كما هو شأن أغلب الخطابات القرآنيّة، كما أنّ هذه الكتابة و إن كانت مطلقة في المقام، إلاّ أنّها مشروطة بالاستعانة باللّه و الصبر على الطاعة و تحمّل المشاق، كما يدلّ عليه قوله تعالى حكاية عن قول موسى عليه السّلام: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اِسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَ اِصْبِرُوا إِنَّ اَلْأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ * قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي اَلْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 128-129]، و إطلاق الصبر يشمل الصبر عن المعصية، و الصبر في الحوادث و تحمّلها، و اكتساب التقوى في التكاليف الإلهيّة، و عند تحقّق هذا الشرط منهم تنجّز الوعد الإلهيّ ، كما دلّت عليه الآية الشريفة: وَ أَوْرَثْنَا اَلْقَوْمَ اَلَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ اَلْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا اَلَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ اَلْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا [سورة الأعراف، الآية: 137].

و المستفاد من مجموع الآيات الشريفة أنّ استيلائهم على الأرض المقدّسة و توطّنهم فيها، إنّما كان كلمة إلهيّة و قضاء ربانيّا مشروطا بالاستعانة باللّه عزّ و جلّ و الصبر بجميع أقسامه و اكتساب التقوى، فإذا تحقّقت منهم يتنجّز الوعد، و عند انتفائها تشتدّ التكاليف الإلهيّة الشاقّة عليهم، كما تدلّ عليه آيات كثيرة تبيّن أحوالهم و أخبارهم، مذكورة في مواضع متعدّدة في القرآن الكريم.

و من هنا حرم عليهم دخول الأرض المقدّسة، لما أنكروا ذلك و أعرضوا عن الطاعة، كما أخبر سبحانه و تعالى في قوله: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ [سورة المائدة، الآية: 26]، و هذا أيضا يؤكّد على أنّ دخول الأرض المقدّسة كان مكتوبا عليهم، مشروطا غير قابل للتغيير و التبديل، و إن لم يكن الوقت معلوما في الآيات الشريفة، و لذا قيل: إنّ المشافهين بخطاب الدخول إلى الأرض المقدّسة ماتوا و فنوا عن آخرهم في التيه، و لم يدخل الأرض المقدّسة إلاّ أبناؤهم و أبناء أبنائهم مع يوشع بن نون. و قد ورد ذكر الوعد مع الشرط في كتاب العهد القديم، راجع سفر التكوين 5:26، و سفر تثنية الاشتراع 6:1 و غير ذلك.

قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ .

تأكيد في أنّ الأمر بالدخول مشروط و لا يمكن أن ينال ذلك إلاّ بالعمل بالشرط، و بيان في أنّ النكوص عن الطاعة يرجعهم إلى الأدبار، فينالوا الأمرّين من العذاب، فيكون انقلاب خسران بجميع النعم التي أرادها اللّه تعالى لهم، و منها

ص: 129

الدخول إلى الأرض المقدّسة و الكرّة على أعداء اللّه تعالى و إقامة دين الحقّ و بسط العدل، فالمراد من الخسران خسران الدارين.

و يستفاد من الآية الشريفة أهميّة هذا الحكم الإلهيّ في تكوينهم و تحقيق سعادتهم، و عظيم أثره في حياتهم الدنيويّة و الاخرويّة، لأنّ الجزاء المترتّب على النكوص و الإعراض كان عظيما.

قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ .

بيان لكيفيّة إعراضهم عن الطاعة، و نقضهم للميثاق.

و مادة (جبر) تدلّ على إصلاح الشيء بضرب من القهر، و في حديث علي عليه السّلام: «و جبّار القلوب على فطرتها»، أي: إصلاحها و تثبيتها على ما فطرها من معرفته جلّت عظمته و الإقرار به، شقيّها و سعيدها، و منه الجبّار من الآدميين الذي له السطوة و القوّة، فيجبر غيره على ما يريد ظنّا منه الإصلاح و على نحو العلو، و منه الجبر، و هو الإكراه، و في الحديث المعروف: «لا جبر و لا تفويض»، كما أنّ منه جبر العظم، و هو إصلاحه، كما مرّ في الحديث، و في الدعاء المأثور عن علي عليه السّلام: «يا جابر كلّ كسير، و يا مسهّل كلّ عسير»، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من عشرة مواضع، كلّها تدلّ على الذمّ ، إلاّ ما اطلق عليه تبارك و تعالى، قال عزّ و جلّ : اَلْعَزِيزُ اَلْجَبّارُ اَلْمُتَكَبِّرُ [سورة الحشر، الآية: 23]، و معناه الذي يقهر العباد على ما أراد من أمر أو نهي، أو يقهر خلقه على الموت و النشور.

و قيل: هو العالي فوق خلقه، و سيأتي البحث عنه إن شاء اللّه تعالى، فإنّ الجبّار من الناس هو الذي يجبر نفسه بنقيصته بادّعاء منزلة من التعالي الذي لا يستحقّها، أو يجبر غيره على ما يريد على نحو العلو و التكبّر و القهر، و لأجل هذا قيل: نخلة جبّارة و ناقة جبّارة، يتصوّر القهر بالعلو على الأقران، فهي صفة مذمومة، قال تعالى: وَ خابَ كُلُّ جَبّارٍ عَنِيدٍ [سورة إبراهيم، الآية: 15]، و قال تعالى حاكيا عن عيسى بن مريم: وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبّاراً شَقِيًّا [سورة مريم، الآية:

32]، و قال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة القصص، الآية: 19].

ص: 130

32]، و قال تعالى: إِنْ تُرِيدُ إِلاّ أَنْ تَكُونَ جَبّاراً فِي اَلْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة القصص، الآية: 19].

و إذا أطلقت عليه عزّ اسمه كان حقيقة و صفة كمال، لأنّه استحقّ كلّ علو و كبرياء، فيجبر خلقه بضروب من التدبير و الحكمة المتعالية، فهي صفة ذمّ و مدح - كالمتكبّر و المتعال - فإنّها مدح للخالق و ذمّ للمخلوق، لأنّها تنبئ عن نقص فيه، بخلاف الخالق جلّت عظمته.

و الجبّار صفة مبالغة، و قال الفرّاء: «لم اسمع فعالا من أفعل إلاّ في موضعين:

جبار من أجبر، و دراك من أدرك»، و قد اختلفوا في المراد من هؤلاء الجبّارين، و ذكروا أمورا فيهم لا تنطبق على القواعد و السنن الطبيعيّة، فتكون أقرب إلى الخرافات منها إلى الحقيقة و الواقع.

و كيف كان، فإنّ المستفاد من سياق الآية الشريفة أنّهم أناس أولوا بطش و قوّة قد سكنوا الأرض المقدّسة.

قوله تعالى: وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها .

اشتراط منهم في تنفيذ هذا الحكم و دخول الأرض بخروج القوم الجبّارين، و هذا الشرط يكشف عن ضعف كامن في نفوسهم و شعور بالذلّ حتّى أثّر على قواهم الجسديّة، فصار الخور و الجبن ملازمين لهم، فتمنّوا خروج الجبابرة بطرق اخرى غير القتال، لتكون تلك الأرض غنيمة باردة لهم، و نظير ذلك واقع في مرّ التاريخ، و يعاني منها الشعوب المستضعفة الذين قهرت إرادتهم و سلبت حريتهم الولاة العتاة الجبابرة، و نقل لنا التاريخ أنّ بعض العبيد كانوا يرجعون باختيارهم إلى خدمة سادتهم أثناء الحملة على تحريرهم في القرن الماضي، فلا بدّ حينئذ للقائد لمثل هؤلاء أن يتصرّف بسرعة لإصلاح نفوسهم، و تنشيط هممهم، و جلب النفع لهم، و لا يقتصر على التخيل و الأمور الوهميّة.

و قد تضمّنت هذه الآيات الشريفة على امور تربويّة دقيقة في إصلاح تلك النفوس المريضة، فقد بدأت بتذكيرهم نعم اللّه تعالى و ايتائهم من الأمور العظام التي لم يؤت أحدا من العالمين، ثمّ أمرهم بالدخول في الأرض المقدّسة، ليتحقّق أهمّ

ص: 131

عامل من عوامل التكوين السياسيّ لهم، و أعظم دعامة من دعامات التحرير و الاستقلال فيهم. و بعد ظهور حقيقتهم في رفضهم الدخول بالقتال جبنا، و لانهيار معنوياتهم بسبب العبوديّة المقيتة الطويلة، ثمّ يأتي الوعظ و الإرشاد، فإذا لم ينفع ذلك يأتي دور الإصلاح النفسيّ و البدنيّ في ترويضهما على الطاعة و بعث روح المقاومة و الشجاعة في نفوسهم و تحمّل المشاق في سبيل تكوين سيادتهم، و هذا ما تحقّق في التيه الذي كتب اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين عاما، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ .

وعد منهم بالدخول و إن كان حقيقته هو الردّ للحكم الإلهيّ و النكوص عن طاعة موسى عليه السّلام، و إنّما ذكروا ذلك تصريحا مع أنّه مفهوم ممّا سبق، تأكيدا و تنصيصا على أنّ امتناعهم من الدخول إنّما هو لأجل وجود الجبابرة فيها، فلا بدّ أن يخرجوا منها بأي سبب كان من غير قتال، فإنّه لا طاقة بهم، و يؤكّد ذلك إتيان الجملة الاسميّة المصدرة ب (ان) في الجزاء، للدلالة على تحقّق الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و هذا القول منهم يثبت ما ذكرناه آنفا من تأثّر نفوسهم من العبوديّة الطويلة، فلم يتقبّلوا بسهولة حريتهم و رجوع استقلالهم، فقد أحبّوا خروج الجبابرة بسبب من الأسباب التي لم يكن لهم أي ارتباط به.

قوله تعالى: قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ .

بيان لمنهج آخر من مناهج التربية الإلهيّة في إصلاح النفوس، و هو الوعظ و الإرشاد و التذكير بعواقب الأمور.

و في الآية المباركة التعريض لهم بأنّ الخوف لا بدّ أن يكون ممّن يخاف سطوته التامّة و قدرته الكاملة، فلا يخاف من مخلوق يدّعي القوّة و السطوة و هو مقهور تحت إرادة خالقه، فيدلّ السياق على أنّ المراد بالمخافة هي مخافة اللّه عز و جل، بالتحرّز عن عصيانه و الإعراض عن طاعته.

و قد حذف اسم الجلالة لتربيب المهابة و تنشيط هممهم، و الإرشاد بأنّ الذين

ص: 132

يخاف منهم ليسوا كذلك، و أنّ الخوف حقيقة إنّما ينبغي أن يكون من اللّه تعالى.

كما أنّ الآية الشريفة تدلّ على أنّ في القوم رجالا كانوا يخافون اللّه جلّت عظمته و يتّقونه في أحكامه المقدّسة، و منهم هذان الرجلان، و قد اختلفوا في اسم هذين الرجلين، فقيل - و هو المعروف و به وردت بعض الروايات -: يوشع بن نون و كالب بن يوفنا (يفنه)، و ذكر بعضهم أنّهما وردا في التوراة أيضا، و قيل غير ذلك.

و كيف كان، فقد قال بعضهم: إنّ ضمير الجمع في (يخافون) عائد إلى بني إسرائيل، و الضمير العائد إلى الموصول محذوف، فمعنى ذلك: و قال الرجلان من الذين يخافهم بنو إسرائيل قد أنعم اللّه عليهما بالإسلام، و ذكروا وجوها في تثبيت هذا القول.

منها: ما رووه عن سعيد بن جبير، كما يأتي في البحث الروائي.

و منها: ما قرأه بعضهم (يخافون) بضمّ الياء، و جعلها الزمخشري شاهدة على هذا القول، أي: من الذين يخافوهم بنو إسرائيل، و لكنّ ظاهر الآية الكريمة و سياقها يدلان على ما ذكرناه، و غيره ممّا تكلّفوا يحتاج إلى دليل، لا سيما أنّ ما استدلّوا به لم تثبت حجيّته.

و منها: ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ الخوف من العدو أقرب إلى الذهن من غيره.

و فيه: أنّ ذلك أبعد، و الأقرب هو الخوف منه جلّ شأنه.

قوله تعالى: أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا .

بالاطمينان و التثبيت و الوقوف على الحقّ و الثقة بوعده جلّ و علا، و هو صفة ثانية من صفات الرجلين اللذين يخافان اللّه تعالى. و لا شكّ أنّ هذه النعمة عظيمة، حيث أوصلتهم إلى مقام الخوف من اللّه تعالى، الذي لم يصل إليه إلاّ من خصّه اللّه تعالى بالكرامة و حباه بالنعمة العظيمة، و هو من صفات الأنبياء و الأولياء عليهم السّلام.

و لا ريب أنّ هذه الآية الشريفة تدلّ على أنّ مخافتهما لم تكن من أولئك

ص: 133

القوم الجبّارين، و إلاّ لما اختصّا بهذه النعمة و لم يكد يتحقّق فيهم الاهتداء من الخروج من هذا المأزق، فيرشدوا قومهم بالدخول عليهم الباب كما سيذكره عزّ و جلّ ، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ هذه النعمة هي نعمة الولاية التي اختصّ بها المؤمنون المخلصون، و من أهمّ درجات الإخلاص الحقيقيّ هو الخوف من اللّه جلّ شأنه، بل هو حقيقته و قوامه، و أولياؤهم الذين لا يخشون غيره تعالى، قال جلّ شأنه: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اَللّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة يونس، الآية: 62].

و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا فرق بين أن يقال: إنّ متعلّق (أنعم) هو الولاية، أو يكون الخوف، فإنّه بالآخرة يرجع إلى الأوّل، كما عرفت.

قوله تعالى: اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ .

أي: باغتوهم و لا تمهلوهم ليجدوا للحرب مجالا، و على هذا فلا يختصّ بباب البلدة كما قيل، بل يشمل أوّل بلدة من بلاد الجبابرة تلي بني إسرائيل، فإنّ عنصر المباغتة لا يختصّ بأمر معيّن، فإنّ الظروف المتاحة تعيّن ذلك، فلعلّ المراد بالباب ما له شأن في ضعف قواهم و يمهّد الطريق للاستيلاء عليهم، فإنّ ذلك استعمال شائع، لا سيما في مثل هذه الظروف.

قوله تعالى: فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ .

وعد منهما بالنصر و الغلبة على العدو، و تأكيد منهما لهم بذلك، و إنّما حصل لهما هذا الجزاء و التأكيد إما اعتمادا على وعد منه عزّ و جلّ لموسى بن عمران عليه السّلام بتوريث الأرض لبني إسرائيل كما أخبر به موسى عليه السّلام لهما، أو أنّهما عرفا ذلك بإلهام منه عزّ و جلّ لهما، لأنّهما كانا من نقباء بني إسرائيل الاثني عشر، أو أنّهما عرفا ذلك من القرائن الحافّة و حالات الجبّارين، فإنّهم أجسام لا قلوب فيها، فلا يحتاجون إلى قتال إذا باغتوهم و عملوا بما اقترحه هذان الرجلان.

قوله تعالى: وَ عَلَى اَللّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ .

تشجيع لهم و تطييب لنفوسهم، و حثّ لهم بالاعتماد على اللّه تعالى و التوكّل

ص: 134

عليه، و ترك التواني و التواكل، فإنّه يلزم عليهم أن يعملوا بما عندهم من الطاقة، فإنّ التوكّل إنّما يكون بعد بذل الوسع و مراعاة قانون الأسباب و المسبّبات في عالم الإمكان، كما عرفت ذلك في بحث التوكّل، فراجع سورة آل عمران الآية - 160.

و إنّ الشرط في إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ محقّق لموضوع التوكّل، فإنّ الإيمان به عزّ و جلّ حقّ الإيمان، و التصديق بوعده ممّا يوجب التوكّل عليه حتما، فيجب عليهم القيام بما يقتضيه إيمانهم، و يستفاد منه التهييج و الإلهاب.

قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها .

عناد الرجلين منهم و إصرار على التمرّد و العصيان، و إعراض عن مخاطبة الرجلين الذين دعوا بما دعى إليه موسى عليه السّلام، ازدراء بهما، و الجملة تتضمّن العناد عن الدخول في الأرض المقدّسة و إياسا من النصر، و اشتملت على وجوه من الإهانة و التهكّم بمقام موسى عليه السّلام، فقد صرّحوا بالمخالفة و أصرّوا على الاستكبار و نقض الميثاق، و لذا أوجزوا في الكلام مع موسى عليه السّلام بعد ما أطنبوا فيه في بادي الكلام، و من المعلوم أنّ الإيجاز بعد الإطناب في مقام الجدال و المخاصمة لا يخلو عن الإهانة و كراهة استماع الحديث، ثمّ التأكيد على الإعراض باستعمال أداة النفي الدالّة على التأبيد، و تأكيده بقولهم أَبَداً ، و مجابهته بجواب تنبئهم بكلام خارج عن حدود الأدب.

قوله تعالى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا .

بيان لجهلهم لصفات الربّ عزّ و جلّ ، و فساد فطرتهم و جفاء طبائعهم، فإنّ كلامهم هذا يدلّ على كونهم مشبّهين وثنين، إذ وصفوه تعالى بالذهاب و الانتقال، و هما من صفات الأجسام، و قد أخبر عزّ و جلّ أنّهم نكصوا عن التوحيد و عبدوا العجل، فقال حكاية عنهم: وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138]، و من هنا تعرف أنّ هذه الجملة على معناها الحقيقي، فلا نحتاج إلى التكلّف في إخراجها عنه و حملها على المعنى المجازي

ص: 135

كما فعله بعض المفسّرين، فإنّهم قصدوا ذهابهما حقيقة، كما يستفاد من ظاهر العطف أَنْتَ وَ رَبُّكَ ، و قوله تعالى: فَقاتِلا ، و يدلّ عليه ذيل الآية الكريمة: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

و هذه العبارة تدلّ على جفائهم، و بعدهم عن الأدب الرفيع و منتهى التمرّد، و المبالغة في العصيان، و الاستهانة و الاستهزاء به عزّ و جلّ و برسوله، و عدم المبالاة بهم.

قوله تعالى: إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ .

أي: لا نبرح عن مكاننا و لا نقاتل، و قد قالوا ذلك استهانة باللّه تعالى و برسوله موسى عليه السّلام.

قوله تعالى: قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي .

استنصار من موسى عليه السّلام في إجراء الأمر الإلهيّ ، و شكوى منه عليه السّلام إلى ربّه لحال نفسه و أخيه، و الاعتذار إليه تعالى، و التنصّل من فعل قومه و فسقهم، فإنّه عليه السّلام لم يتعرّض لحال غيرهما من المؤمنين، فإنّ المقام يقتضي التعرّض لحال أنفسهما، لا حال من خرج عن الطاعة و فسق عن أمره.

و العبارة تدلّ على غاية الانقطاع إليه عزّ و جلّ ، فقد توجّه إلى ربّه جلّ شأنه بقلب مليء بالحزن مشفق خائف و جل، و بمثله تستجلب الرحمة و تستنزل النصرة، و ذكرنا أنّ اسم «الربّ » له أهميّة خاصّة في الدعاء و أثر عظيم في استجابته، و هذا القول يدلّ على عظم هذا الأمر و أهميّته في حياة بني إسرائيل، فإنّه عليه السّلام لم يتركهم على حالهم و لم ينصرف عنهم بمجرّد إعراضهم و استهانتهم له، فإنّ هذا الأمر له الأثر الكبير في تثبيت دعوته و استمرارها، و إنّه أساس كلّ أمر و نهي فيهم، و في الإعراض عن هذا الأمر تشتّت كلمتهم، و إهدار وحدتهم، و لهذا فقد بثّ شكواه إلى ربّه جلّت عظمته، و طلب منه عزّ و جلّ إصلاح الأمر بعد ما بلّغ هذا الحكم و دعاهم إليه بأبلغ وجه فأعذر فيه، فلو لم يكن الموضوع بمثابة من الأهميّة كما عرفت، لكان مقتضى الحال أن يرجع إلى ربّه و يطلب الفصل بينه و بين قومه

ص: 136

الفاسقين الذين واجهوه بأشدّ الامتناع، و يستمد منه العون في إحلال هذه العقدة، كما صنعه الأنبياء الذين سبقوه و الذين لحقوه عند ما كان أقوامهم يعارضونهم بالردّ و الامتناع، و هو شأن التبليغ و الدعوة، فيقول: إنّي بلّغت و أعذرت و لا أملك لهم أمرا إلاّ نفسي و أخي و قد قمنا بما علينا من واجب التكليف، بل رجع إلى ربّه و اشتكى إليه و بثّ حزنه ممّا فعله قومه، و استنصره في إجراء الأمر الإلهيّ مع بذل نفسه و نفس أخيه في سبيل تطبيقه، فإنّ كلّ واحد منهما يملك من نفسه السمع الطاعة و الامتثال، كما يملك من نفس هارون فإنّه خليفته و وصيّه و وزيره، و هذا لا ينافي أنّه عليه السّلام كان يملك من غيره ممّن أخلص للّه تعالى و له من المؤمنين السمع و الطاعة، كما حكي عنهم في ما سلف من الآيات المباركة.

و من ذلك يعرف فساد ما ذكره بعض المفسّرين من أنّ هذه العبارة تدلّ على أنّه لم يكن يوقن بثبات الذين أخبر اللّه تعالى عنهما آنفا، فإنّها لا تدلّ على ذلك بشيء من الدلالات، فهو عليه السّلام إنّما اقتصر على نفسه و أخيه، لأنّهما واسطتا الفيض و المبلّغان عن اللّه تعالى - فقد بالغا في الدعوة و ناضلا أشدّ النضال في سبيل تنفيذ هذا الحكم، و لكنّهما جوبها بأشدّ الامتناع و الاستهانة من قومهما، كما حكي عزّ و جلّ .

و كيف كان، فلا يستفاد من قوله عليه السّلام الردّ لما أمر به ربّه، و لا الاعتذار منه عن عدم الدخول، بل كان مصرا على تنفيذه طالبا منه النصرة و العون، فإنّ فيه حياتهم الماديّة و المعنويّة، و فيه تثمر جهوده.

و الظاهر من العبارة أنّ قوله: وَ أَخِي ، معطوف على الياء في قوله:

إِنِّي . و المعنى: أنّي لا أملك إلاّ نفسي و أخي مثلي لا يملك إلاّ نفسه، فهما اللذان يملكان نفسيهما على الطاعة و الامتثال و يعرفان حقّ المعرفة ما لهذا الأمر الإلهيّ من عظيم الأثر.

و قيل: إنّه معطوف على قوله: نَفْسِي ، أي: أنّي لا أملك إلاّ نفسي و أملك أخي، فليس لي غيرهما، فلا ناصر لي و لا معين، فإنّ القوم أعرضوا عن الطاعة

ص: 137

و امتنعوا عن الامتثال، و لا بأس به أيضا، فإنّه يرجع إلى الأوّل، فإنّ كلّ واحد منهما يملك نفسه على الطاعة و الامتثال، فكان يملك موسى أخاه هارون على السمع و الطاعة له، فإنّ طاعته من طاعة اللّه، كما يملك الخلّص من المؤمنين به على قلّتهم.

قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

دعاء منه عليه السّلام في القضاء الفصل و بيان الحكم العدل من دون طلب للعذاب الإلهيّ عليهم، فإنّه عليه السّلام كان الشفيق عليهم من السخط الربوبيّ و حريصا عليهم من نزول النقمة، و لكنّه كان يعلم أنّ بقاءهم كذلك يفوّت الغرض الذي بعث لأجله إليهم، فلا بدّ من معالجة الموضوع و إصلاحهم و تهذيب نفوسهم، فاختار عزّ و جلّ التيه و كتبه عليهم، و هو أمر تربويّ إصلاحيّ ، و إن تضمّن المشقّة و العذاب عليهم، فإنّه لا بدّ منه، و يدلّ على ذلك قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فإنّه وعد منه عزّ و جلّ على عدم نزول العذاب عليهم و إنّما هو تربية و إصلاح.

و الآية المباركة تدلّ على أنّهم بإعراضهم عن الطاعة و الامتثال و مجابهة رسولهم بأسوأ كلامهم، قد خرجوا عن خالص الإيمان و التوحيد و دخلوا في التشبيه و ارتكبوا إثما كبيرا.

و مادة (فرق) تدلّ على الفصل و التمييز. و منه فرق الشعر إذا فصله و ميّز بينه، و منه القضاء و فصل الخصومات، قال تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [سورة الدخان، الآية: 4]، و قال تعالى: وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اِخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ اَلْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة آل عمران، الآية: 105]، و قال تعالى: وَ اِعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اَللّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا [سورة آل عمران، الآية: 103]، و هذا هو المراد به هنا، أي: الفصل بينه و أخيه عليهما السّلام و بين قومه الذين عاندوه و أعرضوا عن طاعته بالحكم العدل، و هو يدلّ على حصول البينونة و المباعدة بين الطائفتين بسبب فسقهم، فقد صارا خصمين.

و الفرق هو الفصل بين شيئين، و قال بعضهم: فرقت - بالتخفيف - في المعاني، و فرّقت - بالتشديد - في الأعيان، كما يقال: فرقت في الكلام، بالتخفيف، و فرّقت بين العبدين، بالتشديد.

ص: 138

قوله تعالى: قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ .

بيان حكم العدل و القضاء الفصل، و منه يستفاد أنّه عليه السّلام لم يطلب منه عزّ و جلّ نزول العذاب و السخط الإلهيّ ، بل طلب ما هو صلاحهم فيه، فإنّهم عانوا ما عانوا من شدّة العذاب الدنيويّ ، من فرعون و آله، كما حكى عزّ و جلّ في كتابه الكريم، فكان موسى عليه السّلام شفيقا عليهم فاستجاب عزّ و جلّ دعاء نبيّه فحرم عليهم دخول الأرض المقدّسة حتّى طهرت نفوسهم و تزكّت بتحمّل المشاق.

و الحرمة هنا حرمة منع، أي: التحريم التكوينيّ ، و هو القضاء، لا التحريم التعبديّ التشريعيّ ، فإنّهم كانوا مأمورين بدخولها من دون نسخ، كما يقال: حرّم اللّه وجهك على النار، و قال تعالى: وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ اَلْمَراضِعَ [سورة القصص، الآية:

12]، و قال تعالى: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [سورة الأنبياء، الآية: 95].

و مادة [تيه] تدلّ على التحيّر، يقال: تاه، يتيه، تيها، و توها، إذا تحيّر، و في حديث معرفة اللّه تعالى: «فتاهت به سفينته»، أي: إذا ضلّ و تحيّر، و الأرض التيهاء هي التي لا يهتدى فيها، و قد استعملت بالياء و الواو، أي: تيهته أو توهته، و الياء أكثر، و اللام في الأرض للعهد.

و المعنى: أنّهم ممنوعون من الأرض المقدّسة، فلا يدخلونها و لا يملكونها مدّة أربعين سنة، يسيرون في الأرض تائهين متحيّرين لا يرون طريقا و لا يدرون إلى أين ينتهي مسيرهم، فلا هم أهل مقام في البلد، و لا هم أهل بدو يعيشون كعيشة القبائل.

و التحريم في هذه المدّة له من الحكم الكثيرة و المصالح المتعدّدة، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين ميزة خاصّة و أثارا مهمّة في إصلاح النفس و تهذيبها، و سيأتي في البحث العلمي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ .

الأسى هو الحزن، و قال الراغب: «و حقيقته اتّباع الفائت الغم، يقال: آسيت

ص: 139

عليه أسى، و أسيت له»، أي: فلا تحزن على القوم الفاسقين، و الخطاب لموسى عليه السّلام، و فيه تقرير منه تعالى لوصفه عليه السّلام إيّاهم بالفاسقين في دعائه، و هو يدلّ على أنّ سبب نزول النقمة هو أنّهم فاسقون استحقّوا وبال عصيانهم، فلا ينبغي أن يحزن على مثل هؤلاء.

و قال بعضهم: إنّ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله، و المراد بالقوم الفاسقين معاصروه صلّى اللّه عليه و آله من بني إسرائيل لما عاندوه. و هذا صحيح، لكنّ ظاهر الآية الشريفة يأباه، و إن أمكن القول بأنّ الغرض من نقل قصص بني إسرائيل هو العبرة و الموعظة و الإرشاد و تطييب نفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله ممّا لاقاه منهم.

ص: 140

بحوث المقام
بحث أدبي:

ذكرنا غير مرة أنّ (إذ) في مثل قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ ، مفعول لفعل محذوف خوطب به سيّد الأنبياء و المرسلين صلّى اللّه عليه و آله، بطريق تلوين الخطاب و صرفه عن أهل الكتاب.

و قوله تعالى: يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ في غاية الفصاحة و البلاغة، فإنّ توجيه الأمر بالذكر إلى الوقت إِذْ قالَ ، أبلغ من توجيهه إلى ما وقع فيه و إن كان هو المقصود بالذات. و عَلَيْكُمْ إما متعلّق بالنعمة إن جعلت مصدرا، أو بمحذوف وقع حالا منها إذا جعلت اسما، أي: اذكروا أنعامه عليكم.

و ذكرنا أنّ تغيير الأسلوب في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً يدلّ على أنّهم تغيّرت أحوالهم عمّا كانت عليه سابقا، فصاروا كلّهم ملوكا، و هو يدلّ على أنّ المراد بالملك غير ما هو المصطلح عليه في علم السياسة و التدبير.

و اللام في قوله تعالى: مِنَ اَلْعالَمِينَ للعهد، أي: عالمي زمانهم و ما سبقهم، أو للاستغراق لجميع من سبقهم، كما عرفت في التفسير.

و قوله تعالى: فَتَنْقَلِبُوا إما مجزوم بالعطف، و هو الظاهر، أو منصوب في جواب النهي من قبيل: لا تكفر فتدخل النار، و ناقش فيه جمع.

و الجملة الاسميّة: «فإنّا داخلون» المصدّرة ب (ان) فيها الدلالة على تقرير الدخول و ثباته عند تحقّق الشرط، و فيه التأكيد على عدم دخولهم ما داموا فيها.

و القراءة المعروفة في قوله تعالى: (يخافون) بفتح الياء، و قرأ بعضهم بضمّها.

و جعلها الزمخشريّ شاهدة على أنّهما من الجبّارين، و قد عرفت ما يتعلّق بذلك في التفسير، و فيه احتمالان آخران مذكوران في الكتب المفصّلة، فراجع.

ص: 141

و جملة: أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا صفة ثانية لرجلين، أو اعتراض. و قيل غير ذلك.

و (أبدا) في قوله تعالى: إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها ، معنى الدهر الطويل، و «ما داموا فيها» بدل من «أبدا»، إما بدل البعض، أو بدل الكلّ من الكلّ ، أو عطف بيان لوقوعه بين النكرتين.

و يجوز في أخي رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي وجوه من الإعراب، منها: إنّه منصوب بالعطف على اسم «ان»، أو أنّه مرفوع بالعطف على فاعل (املك) للفصل، أو أنّه مبتدأ خبره محذوف، أو أنّه مجرور بالعطف على الضمير المجرور على رأي بعض النحويين. و أشكل على بعض الوجوه بأمور مذكورة في محلّها فراجع.

و أما قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، فالمعروف أنّ الأربعين ظرف منصوب ب (محرمة)، فيكون التحريم مؤقتا بهذه المدّة، فلا تنافي بينه و بين قوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، لأنّ الكتابة غير مؤقتة و التحريم مؤقت، و هو الظاهر من الآية المباركة كما عرفت آنفا، و يأتي في البحث الدلالي مزيد بيان.

و قيل: إنّ الأربعين ظرف لقوله تعالى: يَتِيهُونَ مقدّما عليه، فيكون التحريم مؤبدا، إذ التقدير: فإنّها محرّمة عليهم أبدا يتيهون في الأرض أربعين سنة.

و الظاهر هو الوجه الأوّل، و يؤيّده أنّ الغالب في الاستعمال تقديم الفعل على الظرف، لا تأخّره عنه. و على فرض القول بالوجه الثاني، فإنّ التحريم لا يكون مؤبّدا، لقوله تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده و العاقبة للمتّقين.

و قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ إما بيانيّة لكيفيّة حرمانهم، أو حال من ضمير (عليهم).

ص: 142

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأول:

يدلّ قوله تعالى: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ على فضل بني إسرائيل و عظيم ما أنعم عليهم، لجملة من النعم الماديّة و المعنويّة، و لم تكن في القرآن الكريم مثل هذه الآية الشريفة التي تعدّ على بني إسرائيل أنواع النعم، و تدلّ على تفضيلهم على غيرهم و ما حباهم اللّه تعالى من الكرامة و الفضل العظيم، فلم تسبقهم امّة من الأمم بمثل هذه النعم، و لكنّهم كفروا بها و أعرضوا عمّا أمرهم به اللّه تعالى، و مع ذلك فإنّه عزّ و جلّ لم يتركهم سدى، فقد ابتلاهم بأنواع المحن و البلاء، فقد ابتلوا على قدر الكفر، و لعلّ كتابة التيه عليهم لأجل ازدرائهم بالنعم، و وقوعهم في اضطراب فكري و نفسي، فكان لا بدّ من تيه ماديّ لتصلح به نفوسهم و ترجع أفكارهم إلى السداد و تهتدي قلوبهم إلى الرشاد، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

الثاني:

يستفاد من سياق الآيات الشريفة في المقام النظام الإلهيّ في تنظيم شؤون الناس، و هو يمرّ بمراحل متعدّدة.

منها: التهذيب بالتزكية و التعليم بإرسال الرسل و الأنبياء، و هذا ما يدلّ عليه قوله تعالى: إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ .

و منها: النضج الفكريّ و جعل الإنسان حرّا، مالكا لنفسه، حرّا في تصرفاته، لا تؤثّر عليه الأفكار الدخيلة و لا يقبل الابتزاز و الظلم و العدوان، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً .

ثمّ مرحلة الاختصاص و التمييز بما يمنحهم ربّهم من أنواع النعم الماديّة و المعنويّة التي لها الدخل الكبير في تكوين هويتهم و شخصيتهم، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ .

و لأجله تميّز بنو إسرائيل عن غيرهم من سائر الأمم.

ص: 143

ثمّ المرحلة الأخيرة، و هي الاستقلال في الأرض التي تعتبر المرحلة الأشدّ صعوبة من تلك المراحل الأخيرة، فإنّها تحتاج إلى جهاد و كفاح مستمر، فإنّ على الأرض تطبيق واقع النظام الإلهيّ التي تبقى مهدا للأجيال القادمة و مدرسة للتهذيب و الإصلاح، و يدلّ عليه قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، و يمكن أن يكون قوله تعالى: كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ إشارة إلى جميع تلك المراحل، فإنّها ممّا كتبه اللّه تعالى على كلّ امّة تريد السعادة و الصلاح لها، فإنّها بدون هذا النظام الدقيق لا يمكن الوصول إليهما.

و هذه المراحل هي متكاملة مترابطة ترابطا دقيقا، و لكلّ واحدة منها أسسا و قواعد متقنة، قد شرحها عزّ و جلّ في القرآن الكريم و بيّنتها السنّة الشريفة بيانا شافيا، و لا يمكن نيل الغرض المحمود منها إلاّ بتطبيقها تطبيقا كاملا، فإنّ الإعراض عن هذا النظام الربانيّ يوصل الإنسان إلى طريق مسدود، لا يوقعه إلاّ في متاعب تسلب راحته، و لا يهدأ له البال و تزدحم عليه المشكلات التي ليست لها علاج صحيح إلاّ بالرجوع إلى الطاعة و تطبيق نظام الشريعة الغرّاء.

و في أحوال بني إسرائيل - من ابتداء حياتهم في مصر حتّى خروجهم منها و الدخول في التيه، و ما لاقوه من المتاعب - العظة و العبرة لمن أراد أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا، و أسوة لمن أراد الخير و الصلاح و السعادة للمجتمع و إيصاله إلى سمو الرقي.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ، أنّ الإعراض عن طاعة اللّه تعالى و اتّباع أنبيائه الكرام يوجب سلب السعادة و الوقوع في الخسران، و إطلاقه يشمل جميع أنواع الخسران المادّي و المعنويّ .

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها ، على غاية الإحباط و الشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل و تذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في الحديث:

ص: 144

يدلّ قوله تعالى: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها ، على غاية الإحباط و الشعور بالذلّ الكامن في نفوسهم نتيجة استعبادهم الطويل و تذليلهم المرير من قبل فراعنة مصر، فإنّ الظلم المستمر يؤثّر على النفوس، بل حتّى على الجمادات كما تدلّ عليه عدّة آيات، قال تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ اَلْقُرى آمَنُوا وَ اِتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ اَلسَّماءِ وَ اَلْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ [سورة الأعراف، الآية: 96]، و في الحديث:

«انّ الظلم يذر الديار بلاقع من أهلها»، و قد دلّت عليه التجربة.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا ، أنّ الخوف من اللّه تعالى يوصل الإنسان إلى المقامات السامية و المنازل العالية، و أنّه ممّا يوجب أن ينعم اللّه تعالى عليه بأنواع النعم الإلهيّة.

السادس:

يمكن أن يستفاد من حذف المتعلّق في قوله تعالى: يَخافُونَ العموم، أي: الخوف من اللّه العظيم و العمالقة، و خوفهم من اللّه تعالى؛ لأنّهما كانا على درجة من الإيمان، و الخوف من العمالقة؛ لأنّهم كانوا ذوي سطوة و قوّة و لا يمكنهم الغلبة عليهم إلاّ بالحيطة و الحذر و اتخاذ الأسباب الظاهريّة، ثمّ التوكّل على اللّه تعالى، و لذا اقترحا على قومهم من بني إسرائيل بالدخول عليهم الباب، و الخوف من أبناء قومهم في إظهار الحقيقة و بيان الواقع لهم لضعف إيمانهم، و لوجود الذلّ الكامن في نفوسهم، و لذا دأبوا على إنكار الحقّ و مجابهة المحقّ بأسوأ إنكار.

و على هذا تكون الآية الشريفة من الأدلة على تشريع التقيّة و جوازها - بل وجوبها - في مورد الخوف و الضرر حسب اختلاف الموارد.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي ، على غاية رقي الإنسان في مدارج الكمال، بحيث يملك نفسه و يقدر في التسيطر على مشاعره و توجيهها إلى الصراط المستقيم و جعلها تحت إرادته عزّ و جلّ و اتّباع شرائعه و توجيهاته و إرشاداته، و لا يمكن الوصول إلى هذه الدرجة الراقية من الكمال إلاّ بالمجاهدات الكبيرة و التزام الطاعة و التقوى و اجتياز المراحل الصعبة التي تكون في هذا الطريق، و لم يصل إلى هذه المرتبة إلاّ المخلصون من عباد اللّه تعالى الذين استثناهم إبليس من غوايته، كما حكي تعالى عنه بقوله: وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاّ عِبادَكَ مِنْهُمُ اَلْمُخْلَصِينَ [سورة الحجر، الآية: 39-40].

و الآية الشريفة تدلّ أيضا على عظمة هارون أخي موسى عليهما السّلام، فقد كان

ص: 145

الوفي لأخيه و المطيع لأوامره و تعليماته و المنفذ لتشريعاته، حتّى انتهى به الأمر إلى جعل نفسه بين يديه، فصار موسى عليه السّلام مالكا لها كما ملك نفسه، و هذه هي المرتبة الأخيرة من مراتب الطاعة للّه تعالى و لنبيّه عليه السّلام، و لم يصل إلى هذه المرحلة إلاّ إذا ملك نفسه بالمجاهدة.

و من هنا تعرف أنّه لا فرق بين أن نقول: إنّ كلمة (أخي) عطف على (نفسي)، أو على الضمير في (لا املك) فإنّ أحدهما يلازم الآخر كما هو معلوم.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، على أنّ الفسق و الخروج عن الطاعة يوجب البينونة بينه و بين اللّه تعالى و أنبيائه العظام، فإنّ بني إسرائيل أعرضوا عن الطاعة و فسقوا عن أمر ربّهم و تعليماته، و لذا طلب موسى عليه السّلام أن يفرّق بينه و بين قومه بحكم يكون فيه الفصل و الحدّ عن فسقهم و طغيانهم، و ذكرنا أنّ هذا الدعاء منه عليه السّلام لم يكن طلبا لنزول العقاب عليهم، فإنّه عليه السّلام جاهد جهادا مريرا معهم حتّى أوصلهم إلى هذه المرحلة من حياتهم، فلا بدّ من علاج ذلك حتّى لو استلزم المشقّة الشديدة، فكتب اللّه تعالى لهم التيه، و قد كان موسى و أخوه عليهما السّلام في غنى عنه، و لكنه جعل نفسه و نفس أخيه تحت إرادته و مشيئته تعالى. و من هنا يظهر السرّ في تقديم رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي على دعائه.

التاسع:

يستفاد من قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، مناسبة العقاب مع العصيان، فإنّهم أعرضوا عن طاعة اللّه و رسوله و لم ينفذوا ما أمرهم تعالى بدخول الأرض المقدّسة الذي أراد عزّ و جلّ منه استقلالهم و تطبيق شريعته فيها، و قد جابهوا نبيّهم أسوء مجابهة، و أظهروا ما هو كامن في نفوسهم من التردد و الحيرة و الاضطراب و لم يبدوا العزيمة، فكان ذلك سببا في الدخول في التيه الذي هو الحيرة و الاضطراب أيضا، و لكن فعل بهم هذا في الأرض لتمرين نفوسهم على تحمّل المشاقّ و قبول المتاعب و الصعاب، فتستقر على أمر واحد، بخلاف ما كانوا عليه قبل التيه من اضطراب فكري، و ضعف في الإرادة و الصعوبة في قبول الخير

ص: 146

و الصلاح، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، أنّ حرمة الدخول إلى تلك الأرض المقدّسة مغياة إلى أربعين سنة، فإنّ هذه المدّة كافية لتصفية النفوس و تزكيتها و تهذيب القلوب من الفساد و تربية الأبدان على تحمّل المشاقّ ، و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ لعدد الأربعين الأثر الكبير في ذلك.

و ذكر بعضهم أنّ الحرمة أبديّة، جزاء أعمالهم السيئة و هتكهم لحرمات اللّه تعالى و جرأتهم على نبيّه الكليم و مجابهته بأسوإ مجابهة، و لكنّ هذا القول ينافي ظاهر الآية الشريفة، فإنّ الحرمة فيها لم تكن تشريعيّة بحتة، بل للحرمة التكوينيّة فيها مجال واسع، فإنّه بعد ظهور نواياهم الفاسدة و سريرتهم المريضة لا يبقى موضوع للدخول إليها، فإنّه مشروط بأمور أغلبها إن لم تكن كلّها منتفية عندهم آنذاك، فلا بدّ من علاج ذلك ليتسنّى لهم الدخول، فإنّهم امّة تميّزت عن غيرها بأن أنعم اللّه تعالى عليها بعد العذاب المرير الذي قاسوه مدّة مكثهم في مصر، على أنّ أرض اللّه تعالى لم تكن ملكا لأحد من عباده، فإنها يرثها عباد اللّه الصالحون، فكانت فترة التيه كافية لتربيتهم على الصلاح، فإن كانوا كذلك، فهم الوارثون و إلاّ فسيرثها غيرهم من الصالحين، و للبحث تتمّة يأتي في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

بحث روائي:

في تفسير علي بن إبراهيم في قوله تعالى: اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ، يعني: في بني إسرائيل لم يجمع اللّه لهم النبوّة و الملك في بيت واحد، ثمّ جمع اللّه ذلك لنبيّه».

أقول: الرواية في مقام بيان أفضليّة نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله على موسى عليه السّلام،

ص: 147

فجعل في بيته صلّى اللّه عليه و آله النبوّة، و الملك، أي: الولاية كما يأتي، و أما في بيت موسى عليه السّلام لم يكن كذلك، و إنّما كان في بني إسرائيل.

و عن محمّد بن سليمان الديلمي، عن أبيه قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً ؟ قال عليه السّلام: الأنبياء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إبراهيم و إسماعيل و ذريّته و الملوك الأئمة، قلت: و أي الملك أفضل ؟ قال: ملك الجنّة و النّار».

أقول: الرواية - مع قطع النظر عن السند - مضطربة المتن. و لعلّ الإمام عليه السّلام أراد ذكر أجل المصاديق لمطلق الأنبياء - لا تفسير الآية المباركة - لأنّ ما ورد فيها من ذكر الأنبياء عليهم السّلام لم يكونوا من بني إسرائيل، كما هو واضح، و كذا بالنسبة إلى الأئمة للملوك، و المراد من الذيل الملك (بالفتح) و الأولى ردّ علمها إلى أهله.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً قال:

«كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة و الخادم و الدار، يسمّى ملكا».

أقول: سياق الآية الشريفة الامتنان على بني إسرائيل، كما تقدّم في التفسير، و ما ورد في الرواية سار في جميع الأمم و لا يستحقّ ذلك الامتنان من اللّه جلّت عظمته، و لعلّ المراد التفوّق النسبي، و من كان كذلك عدّ في بني إسرائيل ملكا، لأنّهم كانوا عبيدا للفراعنة. و كيف كان، فقد وردت روايات كثيرة في هذا المعنى، فلا بدّ من صناعة التأويل فيها حتّى تلائم سياق الآية المباركة.

و عن الشيخ المفيد في آماله بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لما انتهى بهم موسى إلى الأرض المقدّسة قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لكم و لا ترتدوا على إدباركم فتنقلبوا خاسرين، و قد كتبها اللّه لهم، قالوا: يا موسى إنّ فيها قوما جبّارين، و إنّا لن ندخلها حتّى يخرجوا منها، فإن يخرجوا منها فإنّا داخلون، قال رجلان من الذين يخافون أنعم اللّه عليهما: ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنّكم غالبون و على اللّه فتوكّلوا إن كنتم مؤمنين، قالوا: يا موسى إنّا لن ندخلها

ص: 148

أبدا ما داموا فيها، فاذهب أنت و ربّك فقاتلا، إنا هاهنا قاعدون، قال: ربّ إنّي لا أملك إلاّ نفسي و أخي فافرق بيننا و بين القوم الفاسقين، فلما أبوا أن يدخلوها حرمها اللّه عليهم فتاهوا في أربع فراسخ أربعين سنة، يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كانوا إذا أمسوا نادى مناديهم استتموا الرحيل فيرتحلون بالحدّ أو الزجر، حتّى إذا أسحروا أمر اللّه الأرض فدارت بهم فيصبحوا في منزلهم الذي ارتحلوا منه، فيقولون: قد أخطأتم الطريق، فمكثوا بهذا أربعين سنة، و نزل عليهم المن و السلوى حتّى هلكوا جميعا، إلاّ رجلين يوشع بن نون و كالب بن يوفنا و أبناءهم، و كانوا يتيهون في نحو من أربع فراسخ فإذا أرادوا أن يرتحلوا يبست ثيابهم عليهم و خفافهم، قال: و كان معهم حجرا إذا نزلوا ضربه موسى عليه السّلام فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا، لكلّ سبط عين، فإذا ارتحلوا رجع الماء إلى الحجر و وضع الحجر على الدابة، و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: إنّ موسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة التي كتب اللّه لهم، ثمّ بدا له فدخلها أبناء الأبناء».

أقول: الظاهر التصحيف و الاشتباه من النساخ، و الصحيح قال: قال أبو جعفر عليه السّلام، فتكون رواية واحدة كما يقتضي السياق، و إلاّ فالرواية متعدّدة.

و كيف كان، فالروايات في كيفيّة التيه و ما جرى عليهم فيه كثيرة منقولة عن طرق الشيعة و السنّة، كما أنّ التيه في نفسه خارق للعادة، و كان لأجل مصالح و حكم كذلك، و ما جرى على بني إسرائيل فيه من خوارق الطبيعة، و أنّ الروايات الواردة في حياة بني إسرائيل في زمن موسى عليه السّلام تدلّ على أنّ ذلّ الرقيّة كان فاشيا في مجتمعهم، و لم تكن لهم أيّة نفسيّة توجب اندفاعهم للخروج عنها إلاّ بتغيير جذري لطبائعهم، و هو قد حصل في التيه، و لعلّ خوارق العادة أو انثلام الطبيعة فيه لم تكن إلاّ لأجل إرشادهم إلى الخالق الرحيم، و إنّه قادر على تغيير ما ارتكز في نفوسهم من الذل و الانكسار كما تقدّم في التفسير، و لا بد أن يكون كذلك بحكم العقل و الفطرة.

ص: 149

ثمّ إنّ اختلاف الروايات في ما جرى عليهم في التيه لا يضرّ، لأنّها قريبة المعاني نوعا ما، و لا شيء فيها ما يخالف الكتاب، و لذلك لا جدوى في سردها و الجمع بينها، و سيأتي ما يتعلّق بالبداء إن شاء اللّه تعالى.

و في رواية حريز عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: و الذي نفسي بيده، لتركبن سنن من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتّى لا تخطون طريقهم و لا يخطئكم سنّة بني إسرائيل، ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: قال موسى عليه السّلام لقومه: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، فردّوا عليه و كانوا ستمائة ألف: قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ اَلَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اَللّهُ عَلَيْهِمَا أحدهما يوشع بن نون و الآخر كالب بن يوفنا هما ابنا عمّه فقالا: اُدْخُلُوا عَلَيْهِمُ اَلْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ إلى قوله تعالى: إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، قال: فعصى أربعون ألفا و سلم هارون و ابناه و يوشع بن نون و كالب بن يوفنا، فسمّاهم اللّه فاسقين، فقال: فَلا تَأْسَ عَلَى اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فتاهوا أربعين سنة لأنّهم عصوا، فكانوا حذو النعل بالنعل، إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لما قبض - الحديث».

أقول: أما قاعدة ركوب السنن الماضية حذو النعل بالنعل في هذه الامّة، فقد وردت فيها روايات كثيرة مروية عن طرق الشيعة و السنّة، و دلّت التواريخ المعتبرة على ذلك، و لا مجال لنقل الوقائع بعد كثرة الشواهد.

و أما ذكر العدد في الرواية، فهو تقريبيّ لا دقّي، و لا يضرّ الاختلاف في الأقل و الأكثر، كما مرّ.

و تطبيق الآية الشريفة على ما حصل من الحوادث بعد ارتحال نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله إلى الملأ الأعلى من باب التطبيق، و القاعدة المتقدّمة تشهد على ذلك.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: «خلق لهم ثياب لا تخلق و لا تذوب».

أقول: يمكن أن يكون ذلك من متانة الصنع و المادة بحيث يعمر الثوب

ص: 150

أربعين سنة و أكثر. و أما الكيفية من الطول و القصر و غيرهما، فكانوا يغيّرونها باختيارهم، لأنّ أكثر ما يطرأ على الثياب من الفساد من كثافات البدن الحاصلة من الغذاء، و كان غذائهم المن و السلوى، و لم يكن فيهما الكثافة كما في غيرهما من الأغذية.

كما يمكن أن يكون ذلك من الإعجاز و خوارق العادة، كانفجار الماء من الصخرة، و يدلّ على ذلك ما ورد في الدرّ المنثور، قال: «ظلّل عليهم الغمام في التيه قدر خمسة فراسخ أو ستة، كلما أصبحوا ساروا غادين، فإذا امسوا إذا هم في مكانهم الذي ارتحلوا منه، فكانوا كذلك أربعين سنة و هم في ذلك ينزل عليهم المن و السلوى و لا تبلى ثيابهم، و معهم حجر من حجارة الطور يحملونه معهم فإذا نزلوا ضربه موسى بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا»، و في رواية اخرى فيه أيضا:

«كانت بنو إسرائيل إذا كانوا في تيههم تشبّ معهم ثيابهم إذا شبّوا»، و ذكرنا مرارا أنّ خوارق العادة تعمّ الجمادات و غيرها.

و في تفسير علي بن إبراهيم قال في قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، قال: فإنّ ذلك نزل لما قالوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ ، فقال لهم موسى عليه السّلام: اِهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ ف إِنَّ فِيها قَوْماً جَبّارِينَ وَ إِنّا لَنْ نَدْخُلَها حَتّى يَخْرُجُوا مِنْها ، فقال لهم موسى عليه السّلام: لا بدّ أن تدخلوها، فقالوا له: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، فأخذ موسى بيد هارون و قال كما حكي اللّه: إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاّ نَفْسِي وَ أَخِي - يعني هارون - فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ اَلْقَوْمِ اَلْفاسِقِينَ ، فقال اللّه: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً ، يعني مصر لن يدخلوها أربعين سنة يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ ، فلما أراد موسى أن يفارقهم فزعوا و قالوا: إن خرج موسى من بيننا انزل علينا العذاب، ففزعوا إليه و سألوه أن يقيم معهم و يسأل اللّه أن يتوب عليهم، فأوحى اللّه إليه: إنّي قد تبت عليهم على أن يدخلوا مصر و حرّمتها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض عقوبة لقولهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا ، فدخلوا كلّهم في قرية و التيه إلاّ قارون،

ص: 151

فكانوا يقومون في أول الليل و يأخذون في قراءة التوراة فإذا أصبحوا على باب مصر دارت بهم الأرض فتردّهم إلى مكانهم، فكان بينهم و بين مصر أربعة فراسخ، فبقوا على ذلك أربعين سنة، فمات هارون و موسى في التيه و دخلها أبناؤهم و أبناء أبنائهم، فروي أنّ الذي حفر قبر موسى ملك الموت، تمثّل في صورة البشر، و لذلك لا يعرف بنو إسرائيل قبر موسى، و سئل النبي صلّى اللّه عليه و آله عن قبره ؟ فقال: عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر، قال: و كان بين موسى و بين داود خمسمائة سنة، و بين داود و عيسى ألف و مائة سنة».

أقول: المستفاد منها و من الروايات الواردة في ضمن جميع الآيات الشريفة المتعلّقة بقصة التيه المذكورة - بعضها في سورة البقرة، الآية: 61 و بعضها في المقام - امور:

الأوّل: أنّ الأرض المقدّسة هي الصحراء الممتدة من الشام إلى مصر، أي:

صحراء سيناء، و حدّدت جوانبها كما يأتي في البحث التأريخي.

الثاني: أنّ بني إسرائيل بعد ما خرجوا من مصر و خلّصوا أنفسهم من عذاب فرعون، لم يخضعوا لموسى عليه السّلام مع ماله من الفضل عليهم، و لذلك وقعوا في الشدّة و العذاب الإصلاحيّ و التربويّ ، فأصابهم ظمأ و مجاعة في صحراء قفر - كما تقدّم في موجز حياتهم في سورة البقرة، الآية: 61 و سيأتي مزيد بيان - فأمرهم موسى عليه السّلام بالهبوط إلى مصر لشدّ عزائمهم و ليجدوا مآربهم، فأبوا دخولها لما لاقوه سابقا من العذاب المرير و الذلّة القاسية، فعاندوا موسى عليه السّلام و أساؤا الأدب بربّهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، فوقع عليهم العذاب التربويّ ، أي: حرم عليهم دخول مصر أربعين سنة، و الحكمة في ذلك كثيرة كما تقدّم.

الثالث: أنّ السير في التيه إما أنّه معجزة خارقة للعادة كما في الرواية، «درأت بهم الأرض».

أو سلب اللّه مشاعرهم التي تدلّهم على الطرق، فجهلوها و وقعوا في متاهاتها، فكانوا يسيرون السير الدائريّ مثلا و هم لا يشعرون.

ص: 152

أو أنّهم لا يتمكّنون من السير المحدود، فسلب اللّه تعالى قدرتهم من السير أكثر، لمرض أو غيره من حوادث الجو أو الأرض.

أو ضيّق عليهم زمان السير، فكانوا ينامون أكثر اليوم ثمّ يسيرون في متاهات الأرض في زمان محدود خاصّ .

و يمكن أن يقال: إنّ جميع هذه الاحتمالات موجودة فيهم حسب الإيمان به عزّ و جلّ و التقرّب لديه تعالى، فدارت الأرض على بعضهم و تاه آخرون فيها، و أنهك بعضهم المرض من السير، أو ضيّق عليهم الزمان، إلى غير ذلك من الأمور التي يمكن أن تحتمل فيهم.

و أمر بني إسرائيل في زمان حياة موسى عليه السّلام لم يكن عاديا، بل إنّ المعجزات و خوارق العادة كانت حافة بحياتهم و سارية في مجتمعاتهم.

و في تفسير العياشي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّه سئل عن قول اللّه اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، قال عليه السّلام: كتبها لهم ثمّ محاها، ثمّ كتبها لأبنائهم فدخلوها، و اللّه يمحو ما يشاء و يثبت و عنده امّ الكتاب».

أقول: ظاهر الرواية البداء في حقّهم، فكتب لهم الدخول ثمّ حرّمه تعالى عليهم. و لكنّ سياق الآية المباركة لا يدلّ على ذلك، لأنّ حرمة دخولهم فيها أربعين سنة كانت من الآثار الوضعيّة لأعمالهم، و لذلك دخلها أحفادهم بعد ما تركوا تلك الأعمال و أصلحوا أنفسهم، إلاّ أن يراد من البداء غير معناها المصطلح.

و في تفسير العياشي بإسناده عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: يا قَوْمِ اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ قال عليه السّلام: «كتبها لهم ثمّ محاها».

أقول: إنّ المحو كان نتيجة أعمالهم و من آثارها، و كان مؤقتا.

و عن الصادق عليه السّلام في رواية أبي بصير: «انّ بني إسرائيل قال لهم: ادخلوا الأرض المقدّسة، فلم يدخلوها حتّى حرّمها عليهم و على أبنائهم، و إنّما دخلها أبناء الأبناء».

ص: 153

أقول: الرواية ظاهرة في ما تقدّم، إلاّ أن يقال: إنّ جميعهم امّة واحدة، و إنّ الخطاب متوجّه إلى الامّة، فحينئذ يتحقّق البداء بملاحظة الأفراد، و يدلّ على ذلك رواية إسماعيل الجعفي عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: أصلحك اللّه اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ ، أ كان كتبها لهم ؟ قال: أي و اللّه لقد كتبها لهم، ثمّ بدا له لا يدخلونها - الحديث».

و عن ابن سنان، عن الصادق عليه السّلام في قول اللّه تعالى: اُدْخُلُوا اَلْأَرْضَ اَلْمُقَدَّسَةَ اَلَّتِي كَتَبَ اَللّهُ لَكُمْ قال: «كان في علمه أنّهم سيعصون و يتيهون أربعين سنة ثمّ يدخلونها بعد تحريمه إيّاها عليهم».

أقول: تقدّم أنّ من دخل الأرض المقدّسة كانوا أحفادهم، لا نفس المخاطبين، فلا يكون من البداء إلاّ بالوجه الذي تقدّم.

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن محمّد بن مسلم قال «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: كان هارون أخا موسى لأبيه و امه ؟ قال: نعم، أما تسمع اللّه يقول:

يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي ؟! فقلت: أيّهما أكبر سنّا؟ قال: هارون، قلت:

كان الوحي ينزل عليهما جميعا؟ قال: الوحي ينزل على موسى عليه السّلام و موسى يوحيه إلى هارون، فقلت له: أخبرني عن الأحكام و القضاء و الأمر و النهي، كان ذلك إليهما؟ قال عليه السّلام: كان موسى عليه السّلام الذي يناجي ربّه و يكتب العلم و يقضي بين بني إسرائيل، و هارون يخلفه إذا غاب عن قومه للمناجاة. قلت: فأيّهما مات قبل صاحبه ؟ قال عليه السّلام: هارون قبل موسى، و ماتا جميعا في التيه، قلت: فكان لموسى ولد؟ قال: لا كان الولد لهارون و الذرّية له».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ موسى عليه السّلام و هارون كليهما قادا بني إسرائيل، و لكن كان لموسى عليه السّلام الفضل و الشرف على هارون، و الأخبار مختلفة في موضع قبر موسى عليه السّلام، و لكنّ أكثرها تدلّ على أنّه في التيه، لأنّه توفى فيه، و عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله: «عند الطريق الأعظم عند الكثيب الأحمر»، كما مرّ.

و في الكافي بإسناده عن عبد الرحمن بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

ص: 154

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: مات داود النبي يوم السبت مفجّوا، فأظلّته الطير بأجنحتها، و مات موسى كليم اللّه في التيه، فصاح صائح من السماء: مات موسى و أيّ نفس لا تموت».

أقول: لعلّ الوجه في تظليل الطير بأجنحتها كان احتراما و إكراما لداود، و كان الصياح في السماء نعيا على موسى، لأجل أهميّة الحادثة و تجليلا لشأنه عليه السّلام.

و في الدّر المنثور في قوله تعالى: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ ، قال: «أبدا»، و في قوله تعالى: يَتِيهُونَ فِي اَلْأَرْضِ قال: أربعين سنة».

أقول: ما ذكره خلاف ظاهر الآية الشريفة و أنّهم دخلوا الأرض المقدّسة كما في الآية الشريفة، و تقدّم أنّ الحرمة وضعيّة لا تكليفيّة.

بحث تأريخي:
اشارة

ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حياة بني إسرائيل كانت مليئة بخوارق العادات، حافلة بالقصص العجيبة و الحكايات الغريبة، قلما تكون امّة غيرها بهذه المثابة، فقد تميّزت بأنّها كانت مورد لطفه عزّ و جلّ و عنايته و إحسانه، فأنعم عليها بما لم ينعم على غيرها من الأمم قبلها، قال تعالى: وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى اَلْعالَمِينَ * [سورة البقرة، الآية 122].

و قال تعالى: وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ [سورة المائدة، الآية:

20]، و قد حكى القرآن الكريم جملة منها فصارت هذه الامة مثالا للكرامة الإلهيّة، نستلهم ممّا أفاض عزّ و جلّ عليها من التشريعات و الإرشادات و التوجيهات في تكوين الفرد تكوينا صالحا، و بناء مجتمع سعيد وفق قواعد حكيمة متقنة.

و الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه و تعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل، و هي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ و المجتمع السعيد، فقال عزّ و جلّ : وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ ، و تقدّم في بحثي الدلاليّ و الروائيّ بعض الكلام فراجع.

ص: 155

و الآيات الشريفة التي تقدّم تفسيرها قد سجّل فيها سبحانه و تعالى كلّيات النعم الإلهيّة التي تكرّم بها على بني إسرائيل، و هي في نفس الوقت تعتبر القاعدة المتينة في بناء النظام الإلهيّ الدنيويّ و المجتمع السعيد، فقال عزّ و جلّ : وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اُذْكُرُوا نِعْمَتَ اَللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ اَلْعالَمِينَ ، و تقدّم في بحثي الدلاليّ و الروائيّ بعض الكلام فراجع.

إلاّ أنّ هذه الامّة مع عظم فضلها و كبير ما أنعم عليها، كان الواجب عليها شكر تلك النعم بإطاعة من أنعم عليها و خصّها بها، فتفي بعهودها التي أخذت منها، و لكنّها نكصت عن إيمانها و أعرضت عن طاعة ربّها، و نقضت عهودها، و لقد حذّرهم اللّه تعالى مكرّرا و علّق استدامة تلك النعم على الوفاء بالعهد، فقال تعالى:

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اُذْكُرُوا نِعْمَتِيَ اَلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ [سورة البقرة، الآية: 40]، و وعظهم نبيّهم موسى بن عمران عليه السّلام و حذّرهم من وبال أفعالهم و عاقبة أمرهم، فأصروا على العناد و اللجاج استكبارا، حتّى استحكم فيهم العصيان و نقض المواثيق، فلم تنفعهم الزواجر، فعاقبهم اللّه تعالى بأنواع العذاب، فصاروا مثلا للعبرة و الموعظة بعد ما كانوا مثالا للكرامة الإلهيّة، و قد انغرس فيهم بعض الصفات السيئة و العادات الباطلة، فظلّت أجيال بني إسرائيل تتوارثها على مرّ العصور، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في القرآن الكريم، و لقد عانى الأنبياء و المصلحون في سبيل إصلاحهم و تهذيبهم، و تحمّلوا أنواع الشدائد و المشاقّ ، فلم ينالوا ما يريدونه لتماديهم في الغي و شدّتهم في التمسّك بعاداتهم الباطلة و صفاتهم السيئة و قسوتهم على أنبيائهم، حتّى قتلوا منهم جمعا كبيرا.

و لعلّ من أحد أسباب كثرة إرسال الأنبياء فيهم أنّ إرادته عزّ و جلّ تعلّقت بتهذيبهم و إرجاعهم إلى رشدهم و إصلاحهم و تزكيتهم، و قد اقتضت حكمته تعالى أن ينزل من التشريعات الشديدة و الأحكام القاسية في الوصول إلى الهدف الذي أرسل الرسل إليه، بسبب عنادهم و غيّهم.

و نحن نذكر في هذا البحث من تلك الأحكام قضية التيه التي ذكرت في جميع الكتب الإلهيّة المعروفة، و التي كتبها اللّه تعالى عليهم مدّة أربعين سنة، و هي قضية مهمّة في حياة بني إسرائيل، و تعدّ هذه القضية منعطفا تاريخيا في حياة بني

ص: 156

إسرائيل، و تعتبر من أعظم الأحداث في التأريخ الإنساني، لما وقع فيه من خوارق العادات و غرائب الأمور، فصار التيه بحدّ نفسه مدرسة تربويّة إصلاحيّة، و قد طال زمانه حتّى مات فيه جمع كبير ممّن خرج مع موسى بن عمران عليه السّلام، و مات هو و أخوه في التيه، فلم يبق منهم إلاّ اثنان، أحدهما يوشع بن نون الذي تولّى قيادة بني إسرائيل بعد موسى عليه السّلام، و كان من أحد أصفيائه، فاستطاع هو و من معه من أحفاد بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدّسة بعد عناء شديد.

و نذكر في هذا البحث حقيقة التيه، و أسبابه، و مدّته، و مكانه، و الحكمة فيه، و الحوادث الواقعية فيه.

حقيقة التيه:

لمعرفة حقيقة التيه يجدر بنا أن نتعرّف على حياة بني إسرائيل في مصر قبل الخروج منها و لو على سبيل الإيجاز، فقد تقدّم في سورة البقرة بعض الكلام أيضا، فنقول: اتّفق المؤرخون على اختلاف مذاهبهم على أنّ بني إسرائيل كانوا في مصر شعبا مستضعفا ذليلا، فقد استعبدهم المصريون، و أذلّهم الفراعنة و ساموهم سوء العذاب، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم، و كان من نتائج ذلك أن تأثّرت نفوسهم بسبب الظلم المستمر عليهم، فضعفت فيهم روح الثأر و الانتقام و خسروا ملكة الشجاعة و الإقدام، فأنسوا بالذلّ و العبوديّة، و ألفوا الظلم و الاستعباد، فلم تكن الحرية عندهم شيئا ذا أهميّة و لم يعيروا لها أيّ اهتمام، فأحبّوا القعود و رضوا النكد من العيش، و رفضوا التحلّي بمكارم الأخلاق، فكاد أن تنطفئ فيهم ملكة الاستكمال، حتّى تعلّقت إرادته عزّ و جلّ أن يبعث فيهم من يخلّصهم من العذاب و يهديهم إلى سواء السبيل، فالتفوا حول موسى بن عمران عليه السّلام و هم بمصر، لا كرسول و نبي همام، بل كقائد مقدام يرجى على يده الخلاص من ظلم المصريين و استعبادهم، و لذلك لم يكادوا يتحقّقون من نجاتهم من فرعون حتّى شغبوا على موسى نبيّهم العظيم عليه السّلام و أعرضوا عن طاعته بعد ما أخذ

ص: 157

منهم المواثيق، فصاحوا به و بأخيه هارون: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا [سورة الأعراف، الآية: 129]، و قد نقلت لنا التوراة صورا متعدّدة من ذلك التمرّد، و ورد في إحداها أنّهم قالوا: «ليتنا متنا في مصر إذ كنا جالسين عند قدور اللحم نأكل خبزا للشبع، فإنّكما أخرجتمانا إلى هذا الجمهور بالجوع» 160 سفر الخروج: 2-3، و السرّ في ذلك واضح، فإنّ الحرية لم تكن عندهم شيئا يذكر، و لم تبعثهم الكرامة الإنسانيّة و لم ينهض بهم طلب الفضائل، فقد تربّوا على الذلّة، و الصغار، و نقض العهد و الميثاق، و الخروج عن الطاعة، فصار العناد و اللجاج من سماتهم المعروفة. و من هنا كان الأمر بدخول الأرض المقدّسة عليهم عظيما، لأنّه يستلزم الحرب بينهم و بين السكان الذين يقطنون فيها، و هم يخافون الحرب، و قد بذلت محاولات عديدة لإرضائهم بالدخول، و وعدهم عزّ و جلّ بالنصر، و لكنّهم أصروا على موقفهم، كما حكى عنهم القرآن الكريم فقالوا: إِنّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ ، و مقالتهم هذه تكشف عن كبير عصيانهم و عظيم جبنهم، فأحبّوا أن يكون الدخول إلى الأرض المقدّسة عن طريق المعجزة الإلهيّة، لأنّهم كانوا يدركون أنّهم شعب احتفت بهم الكرامة الإلهيّة و كثرت فيهم المعاجز و خوارق العادات، حتّى عرفوا بها و لم يتنبهوا أنّ تلك المعاجز إنّما كانت لأجل ايقاظهم عن سباتهم و بعث روح الاستكمال فيهم، و تربيتهم بالتربية الإلهيّة الصالحة، تدفع عن نفوسهم تلك الذلّة و الصغار التي تربّوا عليها.

و من هنا نعرف أنّ التيه الذي كتبه اللّه تعالى عليهم إنّما كان الغرض منه هو إعدادهم إعدادا ماديا و معنويّا، لتحمّل المسؤولية الإلهيّة، و تربيتهم تربية صالحة، التي لا بدّ من توفّرها في كلّ شعب يريد السعادة في الحياة، فكانوا في تيه فكريّ لا يمكنهم معرفة تلك الحقائق و ما تتطلبه الحياة من الوسائل التي لا يمكن أن تنال إلاّ بإصلاح نفسيّ و بدني وفق منهج تربويّ دقيق، و هذا هو الذي أراده موسى عليه السّلام حين طلب من ربّه أن يفرق بينه و بين القوم الفاسقين، فإنّه لم يطلب

ص: 158

العذاب لامّة لا تعرف الحياة الكريمة و هي في عمى و جهالة.

و من جميع ذلك نعلم أنّ حقيقة التيه تبتني على إصلاح الفكر و النفس عن طريق ترويضها على تحمّل المشاق و تربيتها على حرية البداوة، وفق منهج إصلاح تربويّ ، لطرد ما يكمن في النفس من مفاسد الأخلاق و غرس مكارمها، و هذا يحتاج إلى وقت طويل تبعا لشدّة تلك المفاسد و قوّتها و مقدار رسوخها في النفس و كميتها، فكانت مدّة التيه أربعين سنة، و هي ليست بكثيرة بعد ما عرفت من مفاسد أخلاقهم و شدّة عنادهم و لجاجهم.

أسباب التيه:

لا شكّ أنّ ما يجري في هذا العالم إنّما يكون وفق قانون الأسباب و المسبّبات، لكن قد يكون بعض الأسباب معروفة، و ربما يكون بعضها الآخر قد خفي علينا، و لا بدّ حينئذ لمعرفتها من علم إلهيّ ، إما عن طريق الوحي أو الإلهام.

و التيه الذي وقع فيه بنو إسرائيل لم يخرج عن هذا القانون، فإنّ له أسبابا متعدّدة.

منها: ما يرجع إلى ضعف الروح المعنويّة عندهم بسبب الظلم المستمر عليهم و تربيهم على الذلّ و الصغار، فخارت قواهم و احتقروا أنفسهم، و يستفاد هذا من قوله تعالى حاكيا عنهم: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنّا هاهُنا قاعِدُونَ .

و منها: الاضطراب الفكريّ الذي حصل لهم نتيجة العبوديّة المفروضة عليهم أثناء وجودهم في مصر، فإنّ شعور الفرد بأنّه مسلوب الإرادة ممنوع من كثير ممّا خلقه اللّه تعالى لعباده في الأرض، لهو كاف في فقدان الأمل و إخماد غريزة الاستكمال فيه و إيقاعه في حيرة و اضطراب فكريّ .

و منها: فساد الأخلاق، لأنّ الشعوب التي تنشأ في عهد الاستبداد و التي تستأنس بالظلم و الاضطهاد، تفسد أخلاقها و يذهب بأسها و تذلّ نفوسها و تشعر بالذلّ و المسكنة و تألف الخضوع، و إذا طال زمان الظلم تترسّخ هذه الأخلاق في النفوس و تصير مغروسة حتّى تكون كالغرائز و الطبائع.

ص: 159

و منها: عدم رسوخ الإيمان المطلوب في قلوبهم، و لم تتهذّب نفوسهم بالتعليمات و التوجيهات التي أتى بها موسى بن عمران عليه السّلام، و لذا تراهم يتمرّدون عليه و يعصون أوامره مرّة بعد اخرى، بل رجعوا إلى عبادة العجل، لأنّ الوثنيّة التي عاشوا فيها في مصر كانت عالقة في أذهانهم، كما حكي عزّ و جلّ عنهم في القرآن الكريم، قال تعالى وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ اَلْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اِجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ [سورة الأعراف، الآية: 138].

و منها: الجهل بكثير من الحقائق التي تقوم عليها هذه الحياة، و إعراضهم عن قبول ما يكون سببا في صلاحهم و سعادتهم.

و لأجل هذه الأسباب و غيرها ممّا حكى لنا القرآن الكريم صورا متعدّدة منها، فشلوا في تنفيذ الأمر الإلهيّ بدخول الأرض المقدّسة التي أراد عزّ و جلّ منها إصلاحهم و تكوينهم امّة واحدة لها كيانها، و قائدها، و شريعة، و دستورا و حاكما يتولّى أمرها و شؤونها، وفق نظام إلهيّ ، بعد أن كانوا اسرة صغيرة متفرّقة في أرض مصر، عرضة للعبوديّة و السخرية و الإهانة و الاستبداد، فأعرضوا عمّا أراده اللّه تعالى لهم و عصوا أمر ربّهم، فابتلاهم اللّه تعالى بالتيه أربعين سنة لإصلاحهم و تهذيبهم فيه، و كان لا بدّ من ذلك بحسب قانون الأسباب و المسبّبات التي تقوم عليه الحياة، و يظهر للمتتبع كثير ممّا ذكرناه و غيرها إذا رجع إلى التوراة سفر العدد، الذي هو السفر الرابع من أسفارها، الفصلين الثالث عشر و الرابع عشر، فإنّ فيهما تفصيلا لقصة التيه.

مكان التيه:

المعروف أنّ التيه هي الصحراء التي تقع بين الشام و مصر، أي أرض سيناء، و بالتحديد قلب شبه جزيرة سيناء، التي تقع في الطرف الجنوبيّ الأقصى لفلسطين، على مقربة من أيلة، بينهما عقبة لا يصعدها راكب لصعوبتها، و التي لا بدّ من

ص: 160

اجتيازها للوصول إلى الأرض المقدّسة من بلاد الشام، و كان طولها أربعين فرسخا.

و ينتهي أحد حدودها إلى بحر فاران الذي غرق فيه فرعون، و فاران مدينة على تل بين جبلين. و حدّها الآخر شرقا أرض بيت المقدس و جنوبيّ فلسطين، و هي صحراء رمليّة، و فيها مواضع صلبة قفر لا نبات بها إلاّ في بعض المواضع.

و من مدن التيه و مواضعه حويرك، الخلصة (الوسا) و الخلوص (لسا) السبأ (بيرسبه) المدرة، و جبل هور الذي دفن فيه هارون عليه السّلام، و الكثيب الأحمر الذي دفن فيه موسى بن عمران عليه السّلام، حيث كان يرى أرض فلسطين دون أن يدخلها، و قد ورد بعض هذه الأسماء في الدعاء المعتبر المشهور بدعاء السمات.

و في هذه الصحراء هام بنو إسرائيل و لم يدخلوا مدينة و لا آووا إلى بيت.

و جاء في التوراة: «و في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ ... فجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر، و بنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة، و يحملون فجوركم حتّى يفتن جثثكم في القفر، تحملون ذنوبكم أربعين سنة فتعرفون ابتعادي - أنا الربّ قد تكلّمت لأفعلن هذا بكلّ هذه الجماعة الشريرة المتفقة عليّ . في هذا القفر يفنون و فيه يموتون» (سفر العدد الفصل الرابع عشر الآيات 22-35)، و قد ضرب موسى و هارون خيمة الاجتماع، و هي المسماة في بعض الدعوات المعتبرة قبّة الرمّان - أو قبّة الزمان - و فيها البقعة المباركة من جانب الطور الذي هو جبل كان يذهب إليه موسى عليه السّلام لتلقي التوراة أو للمناجاة، كما في بعض الروايات.

مدة التيه:

اختلف المؤرخون غير المسلمين في مدّة التيه التي كتبت على بني إسرائيل، و لكن ليس لكلّ طائفة منهم دليل صحيح تستدلّ على مدّعاها، بحيث تقنع النفس به، و الذي صرّح به الكتاب العزيز و السنّة الشريفة أنّها أربعون سنة، و هذه المدّة كافية لإصلاح النفس و تهذيبها من الصفات الرذيلة.

ص: 161

و في هذه المدّة لا هم مدنيّون يعيشون عيش السعة، و لا هم بدويّون يعيشون عيشة القبائل، و كانوا في العذاب الاصطلاحي و الدوران التربويّ و المجتمع الفاقد للنظام، فتمزّقوا و تفكّكوا و لم يبق منهم إلاّ أقلّ القليل، فدخلوا الأرض المقدّسة.

الحوادث في التيه:

ينقل المؤرخون كثيرا من الحوادث التي وقعت في التيه، و لكنّ تلك تحتاج إلى دليل يعتمد عليه، و المهم هو أنّ التيه - كما عرفت - عملية تأديبيّة تهذيبيّة إصلاحية أرادها اللّه تعالى لهم.

و لا ريب في أنّ مثل هذه العملية تحتاج إلى ظروف و أحكام خاصّة تتلائم مع وظيفة التأديب و الطبيعة التي وقع فيها التيه، و الهدف الذي كتب لأجله على بني إسرائيل، و لم يخلو من بعض المعاجز و الكرامات، إتماما للحجّة عليهم، و نذكر في المقام بعض ما ذكره المؤرخون و وردت به بعض الروايات.

منها: أنّهم هاموا في الأرض و تاهوا فيها، فكانوا يمشون في الأرض طول اليوم، فإذا حلّ بهم الليل قطنوا في مكان و ناموا فيه، ثمّ إذا أصبحوا وجدوا أنفسهم في نفس المكان الذي ابتدءوا السير منه، و قد ذكر العلماء في تفسير ذلك وجوها ذكرنا بعضها في البحث الروائي.

و يمكن أن يكون ذلك عقوبة إلهيّة جرّاء شنيع أفعالهم، أو لأنّهم لم يعرفوا حدود تلك الأرض التي وقع فيها التيه و لا مسارها و سائر خصوصياتها، فكانوا يهيمون في الأرض تائهين، فإذا تعبوا حلّوا في مكان لم يعرفوا أنّهم في نفس المكان الذي ابتدءوا منه السير.

و منها: موت أكثرهم، بل جميع الذين خرجوا مع موسى عليه السّلام من مصر، إلاّ يوشع و كالب، لعصيانهم و تمرّدهم على اللّه تعالى و رسوله بعد ما أرآهم عزّ و جلّ عجائب الآيات، فأخذهم اللّه بذنوبهم و أهلكهم و أنشأ من بعدهم جيلا هم أقرب إلى تقبّل الأحكام، و عدل الشريعة من آبائهم، و جعلهم الوارثين للأرض المقدّسة.

ص: 162

و منها: موت موسى بن عمران الذي تحمّل من العناء و التعب الشديدين في سبيل هدايتهم و إصلاح قومه، و كذا مات هارون أخو موسى عليه السّلام و وزيره و وصيّه، و قد كان موتهما بلا شكّ خسارة عظيمة لقومهما، لا سيما أنّهم كانوا يجتازون أصعب الاختبار و الامتحان.

و منها: إنشاء أماكن محترمة و معدّة للعبادة أصبحت من شعائر اللّه تعالى، كقبّة الرمّان التي كانت خيمة لموسى بن عمران و أخيه هارون، و طور سيناء و غيرها ممّا ورد ذكره في التوراة.

و منها: ظهور الآيات العظيمة، كنزول المن و السلوى، و الحجر الذي انبجست منه اثنتا عشرة عينا، كما حكى اللّه تعالى في القرآن الكريم.

الحكمة من التيه:

ظهر ممّا ذكرنا الحكمة في التيه، و أهمّها كما مرّ تهذيب الامّة و إصلاح المجتمع الذي ذاق طعم عذاب الذلّة و القسوة، بحيث انهارت جميع ركائزها. و لو لا التيه لما تمكّنت بنو إسرائيل من إصلاح أنفسهم ممّا فرض عليهم في مصر، و صارت كطبيعة ثانويّة لهم، لا يمكن إزالتها إلاّ بالدور الذي كتبه اللّه تعالى لهم. و قد تقدّم في التفسير بعض حكم اخرى فراجع.

بحث عرفاني

المستفاد من الآيات المباركة و السنّة الشريفة أنّ العذاب النوعيّ - أو الشخصيّ - الواقع على الأمم أو الأفراد لم يكن مجرّد نقمة من اللّه تعالى، فإنّه خير محض و إليه ينتهي الخير و منه يصدر كلّ خير، و لا يمكن نسبة الشرّ إليه جلّت عظمته، كما يأتي بيان ذلك في الآيات المناسبة له إن شاء اللّه تعالى، فالامم التي حلّت بهم النكبات و وقع عليهم العذاب، هي المسؤولة عن ذلك، و هي التي

ص: 163

باختيارها أنزلت البلايا، فإنّ العذاب و النكبات مسببات لا بدّ لها من أسباب - سواء كانت ظاهريّة أو معنويّة، طبيعيّة كانت أو شرعيّة - و قد يكون العذاب يؤثّر تأثيرا معاكسا، بحيث تصلح النفس و يتهذّب المجتمع و ينشطه للقيام بإصلاح أسسه و ركائزه، و أكثر الأمم التي حلّ بهم العذاب كما يحكيه القرآن الكريم كان من قبيل ذلك. و من هنا لا وقع للإشكال الذي ذكره بعض الفلاسفة من أنّ العذاب الإلهيّ ينافي محبّته لخلقه و علاقته تعالى بهم، لأنّ ذلك إما من الآثار الوضعيّة، أو للإصلاح، أو الكفّارة لبعض الأعمال السيئة، أو للقرب إليه جلّ شأنه. و لذلك قال بعضهم: إنّ العذاب إن تعلّق به رضاه جلّت عظمته و إن كان دخول النار، كان عذبا لأهله لا عذابا، كما عن سيّد العرفاء أمير المؤمنين عليه السّلام في دعواته الشريفة، و دعاء كميل أكبر دليل على ذلك.

بل عن بعض أكابر الصوفيّة إنكار العذاب من أصله، و لكن لا يمكن الالتزام بذلك بالأدلّة العقليّة و النقليّة، خصوصا بالنسبة إلى الكافرين و المنافقين. و للبحث تتمّة نتعرّض لها إن شاء اللّه تعالى.

ص: 164

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِ.......

اشارة

وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الآيات الشريفة تحكي قصة ابني آدم، اللذين قتل أحدهما الآخر ظلما و حسدا من القاتل، و أنّه ندم على فعلته الشنيعة - كما تبيّنه الآيات المباركة - و لما ينفعه الندم فأصبح من الخاسرين. و قد فقد صوابه فجهل ما يفعل بجسد أخيه، حتّى تعلّم من الغراب ما تمكّن أن يواري جسده في التراب، و يظهر من ذلك أنّه أوّل قتل وقع على وجه الأرض، فكان ظلما فظيعا و حدثا عظيما، كما تدلّ عليه الآيات الشريفة، فكان هذا الحدث سببا في أن يكتب عزّ و جلّ على بني إسرائيل أنّ من قتل نفسا محترمة من غير سبب شرعيّ ، يكون ظلما على الناس جميعا، و أن من أحياها فكأنّما أحيى الناس جميعا. و قد أرسل جلّ شأنه الرسل بالبينات لهداية الناس، إلاّ أنّهم أعرضوا عن التشريعات الإلهيّة و عصوا أوامرهم و أسرفوا

ص: 165

في ذلك، فكانت النتيجة هي انتشار الفساد و خسران الإنسان.

و ممّا ذكرنا يظهر ارتباط هذه الآيات بسابقتها، من حيث أنّها تبيّن أنّ المنشأ لقتل ابن آدم أخاه هو الحسد الكامن في النفس، الذي له مظاهر مختلفة، فقد ظهر في ابني آدم فأوجب قتل أحدهما الآخر، و في بني إسرائيل له صور و مظاهر متعدّدة، التي أوجبت ابتعادهم عن الحقيقة و إبائهم عن الإيمان برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و إعراضهم عن الحقّ استكبارا.

ثمّ إنّ هذه الآيات المباركة تمهيد لما سيأتي ذكره من بيان حكم المحاربة و بيان جنايات بني إسرائيل.

التفسير

قوله تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ .

خطاب لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بتلاوة الحقّ عليهم، إعلاما لهم بأنّ ما هو الموجود عندهم باطل، و إرشادا لهم بأنّه لا يمكن لأحد التقوّل في ذلك إلاّ بوحي إلهيّ ، فيكون حجّة عليهم، و تقدّم الكلام في مادة (تلو)، و قلنا: إنّها بمعنى تبع، و منها التلاوة، لمتابعة الكلمات بعضها تلو بعض. و لم تكد تستعمل إلاّ في قراءة كلام اللّه تعالى المجيد، قال تعالى: يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ [سورة البقرة، الآية: 121]. أي:

يقرءونه و يتّبعونه حقّ اتّباعه.

و النبأ: هو الخبر الذي له شأن من الفائدة و الجدارة بالاهتمام، فلا يقال لكلّ خبر نبأ.

و المراد ب (آدم) هو أبو البشر الذي ورد ذكره في القرآن الكريم بهذا الاسم.

و أبناه هما اللذان من صلبه، و المعروف في كتب التاريخ أنّهما هابيل الذي تقبّل اللّه تعالى قربانه المحسود عليه، و قابيل الحاسد و هو القاتل أخاه ظلما و عدوانا.

ص: 166

و ذكر بعضهم أنّ المراد بآدم رجل من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربانه، فتقبّل من أحدهما دون الآخر، فقتل الذي ردّ قربانه أخاه الذي تقبّل منه قربانه، و لذلك قال تعالى بعد سرد القصة: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

و لكن هذا القول مردود من جهات، و يكفي فيه أنّه لم يقم دليل معتبر عليه، مع أنّ المتبادر من ذكر (آدم) في القرآن الكريم هو أبو البشر، و لم يرد غيره بهذا الاسم فيه.

كما أنّ ذيل الآية الشريفة يدلّ على ما ذكرناه، فإنّ أوّل قتل وقع على هذه البسيطة هو الذي حكاه عزّ و جلّ من ابني آدم، فكان قتلا فظيعا و حدثا عظيما، و كان سببا في تشريع قاعدة كلّية في مطلق القتل، و فيها من الحكمة ما يستفيد منها جميع الأمم كسائر المواعظ و الحكم، حيث لا تختصّ بامة دون اخرى.

و أما وجه كتابة هذه الحكمة على بني إسرائيل، إما لأنّ شريعتهم أوّل شريعة عامّة، أو لأجل أنّهم امّة العناد و اللجاج و الاستكبار، و تأريخهم معروف بالفتن و الحروب.

و سياق الآية الشريفة يدلّ على وعظهم و تحريضهم على الإيمان و نبذ العناد مع الرسول الكريم و اتّباع الحقّ .

و كيف كان، فقد ذكر المفسّرون و العلماء في المقام روايات غربية و حكايات عجيبة، لا يمكن الاعتماد عليها، و إنّما ذكر عزّ و جلّ القصة على وجه الإجمال في المقام لبيان الحقّ فيها، فإنّها لم تخل عن تحريف و تزييف فيها، فإنّها ذكرت في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، و فيها من القرائن كتجسّم الباري عزّ و جلّ . و لكشف غريزة البشر و إظهار أنّ الحسد كامن في نفوسهم، و هو الذي يؤدّي إلى التباغض و التباين و البغي و القتل، إلاّ أن يهذبه الإنسان و يستفيد منه على الوجه السليم. و قد ذكرنا أنّ الحسد أمر غريزي في كلّ إنسان، و لا يمكن الاستغناء عنه في حياته، إلاّ أنّه لا بدّ من الاستيلاء عليه و كبح جماحه، لئلاّ يؤدّي إلى الفساد، و قد سنّت الشرائع الإلهيّة من الأحكام و التوجيهات و الإرشادات ما

ص: 167

يجعله في الطريق الصحيح و الاستفادة منه على الوجه المطلوب، و من جملة تلك ما ورد في هذه الآيات الكريمة على ما ستعرف، فكانت في هذه القصة العبرة و الموعظة و التعريض ببني إسرائيل على ما فعلته من الجرائم و تحريضهم على الإيمان بالحقّ و نبذ الحسد و التباغض و العناد.

قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً .

القربان كفعلان، ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى و غيره من ذبيحة و غيرها، و هو في الأصل مصدر، و يجمع على قرابين أيضا، و قد غلب استعماله عندنا في ذبائح النسك. و السياق يدلّ على أنّ كلّ واحد منهما قرّب قربانا يتقرّب به إلى اللّه تعالى، و تشهد به الروايات الآتية، و احتمال أنّهما قرّبا قربانا واحدا كانا شريكين فيه، ضعيف.

و لم تبيّن الآية الشريفة ماهيّة القربان و لا كيفيّة التقرّب به، فإنّ لكلّ قوم شأنا فيها، و القربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم.

قوله تعالى: فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ .

التقبّل هو القبول، لكن مع اهتمام بالمقبول و زيادة عناية به، فيكون أخصّا منه، و إنّما تقبّل من أحدهما لأنّه أخلص النيّة للّه تعالى و رضي بحكمه و عمد إلى أحسن ما عنده، و لم يتقبّل من الآخر، لأنّه لم يخلص النيّة في قربانه و سخط بحكم اللّه تعالى و لم ينل من التقوى شيئا.

و لم تبيّن الآية الشريفة كيفيّة القبول و لا طريق علمهما به، و لكن ورد في بعض الروايات أنّ القبول كان محسوسا، و ذلك بورود نار إلهيّ تأكل القربان، و يشهد له قوله تعالى: بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ اَلنّارُ .

و كيف كان، فهو لا يضرّ بعد أن علما بالقبول.

قوله تعالى: قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ .

توعيد بالقتل ممّن لم يتقبّل منه القربان و هو القاتل، لفرط الحسد الذي نشأ من قبول قربان أخيه و رفعة شأنه عند ربّه عزّ و جلّ ، و الظاهر من الآية المباركة أنّ

ص: 168

الحسد هو السبب في القتل فقط، فلم يكن هناك سبب آخر غيره، لأنّ المقتول لم يجرم بحقّ أخيه جرما يستحقّ القتل.

قوله تعالى: قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في قانون المجازاة و قبول الأعمال و العبادات، و هذه الحقيقة تبتني على قاعدتين مهمّتين، هما أساس قانون الجزاء في الإسلام.

الاولى: ثبوت المجازاة، الذي لا يتمّ إلاّ بإيصال كلّ عامل إلى جزاء عمله و تقديره بميزان القسط و العدل، فيثاب المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء على إساءته، ليكون سببا لارتداع الظالم الذي يعدّ جزاء أعماله بنفسه، و يرغّب المحسن إلى الزيادة في الإحسان.

و هذه القاعدة لا تتمّ إلاّ بنظام خاصّ متقن يقوم على العلم و القدرة و الحكمة المتعالية، و لذا كان من شؤون الربوبيّة العظمى لربّ العالمين، و قد تقدّم بعض الكلام في سورة الفاتحة فراجع.

الثانية: و هي أنّ قبول الأعمال مطلقا إنّما يدور مدار التقوى، التي هي أساس الكمالات، و لا يمكن تحصيلها إلاّ بجهد شخصيّ مرير، و تدلّ عليها جملة من الأدلّة، منها هذه الآية المباركة التي ترمز إلى معنى دقيق يعدّ بنفسه من أسس قانون المجازاة الإلهيّة، و هو أنّ حرمان الإنسان من جزاء عمله إنّما يكون من تقصيره، و لا بدّ من السعي في إزالة ما يكون مانعا عن القبول، و لا يمكن ذلك إلاّ بالتقوى، فلا بدّ من الاجتهاد في تحصيلها مهما أمكن، ليكون محظوظا عند ربّ العالمين، لا السعي في إزالة حظّه و نعمته، فإنّ ذلك يضرّه و لا ينفعه.

و من ذلك يعلم أنّ القصر في قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ قصر القلب، ردّا لما زعمه القاتل من قبول عمله حسبانا منه أنّ الأمر لا يدور مدار التقوى، و أنّ التقي و غير التقي في ذلك على حدّ سواء، إلاّ أنّ الآية الشريفة قصرت القبول على المتقي فقط، فلا حظّ لغيره من عمله.

و الظاهر من الآية المباركة و ما ورد في تفسيرها عن المعصومين عليهم السّلام

ص: 169

و التأمّل في أحوال قابيل و ارتداده عن شريعة آدم عليه السّلام، أنّ المراد من التقوى هنا هو الموت على الإيمان، لا التقوى الخاصّ ، فكيف بالأخصّ ، فلا يصحّ التمسّك بهذه الآية الشريفة لعدم قبول أعمال فساق المؤمنين إن ماتوا على الدين الحقّ ، و يمكن استظهار ذلك من جملة كثيرة من الأخبار، و من قوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [سورة الزلزلة، الآية: 7-8].

و كيف كان، ففي الآية الكريمة العبرة و الموعظة للعاملين بأن لا يغترّوا بأعمالهم، إذ المناط كلّه هو التقوى، فما أنعى هذه الآية الشريفة على العاملين أعمالهم و هي ترشد المؤمنين إلى إزالة ما يكون مانعا عن قبول أعمالهم.

قوله تعالى: لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ .

بيان لخلق كريم من مكارم الأخلاق التي تحثّ الشرائع الإلهيّة إليها، و تحرّض الناس على التحلّي بها، و هو يرشد إلى أصل من اصول الأديان السماويّة، و هو أصل احترام الدماء و النفوس، الذي يعدّ من القواعد المهمّة في الفقه الإسلامي، و فيه من الحكمة البالغة و الموعظة الحسنة ما يكون سببا في السعادة و الفلاح و نيل الكمالات، و يبيّن أنّه لا بدّ من نبذ روح الانتقام و عدم إضمار السوء و الشرّ بالنسبة إلى الآخرين، حتّى إذا أرادوا الشرّ له، لأنّ السبب في ذلك هو الخوف من اللّه تعالى، الذي هو من أسمى الغايات و أجلّها.

و من ذلك يعرف أنّ ذلك لا ربط له بمسألة وجوب الدفاع عن النفس و إن أدّى إلى القتل إذا توجّه الضرر إليها، لأنّ المسألة تبيّن حكما شرعيّا في ظروف خاصّة، في حين أنّ الآية المباركة تبيّن حكما أخلاقيّا يعدّ من الكمالات الواقعيّة، فإنّها تدلّ على أنّ أحد الأخوين أضمر السوء لأخيه و أخبره بأنّه يريد قتله ظلما و عدوانا، إلاّ أنّ الأخ الآخر أظهر عدم إضمار السوء له، و لم يرد أن يقابل الجناية بمثلها، لا جبنا و لا خوفا منه، بل خوفا من اللّه تعالى فقط، فإنّه يرى سعادته في ذلك، فهو و إن كان يحقّ له دفع الظلم عن نفسه، لكنّه اختار شقاء أخيه باختياره

ص: 170

قتله لأن يسعد هو من دون أن يتلبّس بظلم، لأنّه ينافي التقوى، و لا يتّفق مع الخلق الكريم الذي يريد أن يتحلّى به، ليكون أقرب إلى الكمال، و قد أكّد ذلك كلّه ب (لام) القسم، و بجملة النفي الاسميّة المقرون خبرها بالباء، و ذكر الصفة (بباسط) دون الفعل، لأنّ نفي الصفة أبلغ من نفي الفعل، و لبيان التبري عن متمّمات الفعل فضلا عنه، كلّ هذا التأكيد للإعلام بأنّه لا يضمر السوء، و أنّه بعيد عن الانتقام، و أنّه يسعى إلى نيل الكمال، لا إعمال غريزة من الغرائز الإنسانيّة و نيل لذّة وقتية مباحة له من قبل الشرع، و ترك سعادة أبديّة و كمالا واقعيا، و هذه هي روح الشرائع الإلهيّة و أصل من اصول المعارف الدينيّة أراد الأخ العالم المتّقي أن يلقيه إلى أخيه الجاهل، ابتغاء مرضاة اللّه تعالى، فهو لم يستسلم لأخيه القاتل، و إلاّ لقال: إنّك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك استسلاما لك، و إنّما قال: «لأقتلك»، أي: إذا أردت البغي و الظلم فلم أرد ذلك لا خوفا و لا جبنا، فكن في مأمن من قبلي، و يدلّ على ذلك ما في بعض الروايات أنّ قابيل كان يخاف من هابيل، و قد قتله غيلة، فلا يعارض بأنّ قابيل و إن أفرط في الظلم، و لكن هابيل قصّر في التصدّي عن الاعتداء و لم يقابله بالدفاع عن نفسه، فإنّه كما عرفت لم يرد القتل فقط، و لم يقل: إنّي لم أدافع عن نفسي.

و الآية المباركة تبيّن صفاء فطرة هابيل و طهارة طينته.

قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ .

تعليل للامتناع عن بسط يده ليقتله بألطف أسلوب و أبلغ موعظة و أحسن استعطاف، أي: لا أريد أن يراني اللّه تعالى باسطا يدي لقتل أخي و ظالما له، فإنّ ذلك من موجبات سخطه و عقابه، و هو ربّي و قد أحسن إليّ و أنعم عليّ بأنواع النعم، و ربّ العالمين الذي يربيهم بفضله و إحسانه، فلا ريب أنّ الاعتداء عليهم أعظم مفسدة و إخلال بالغرض.

و في الآية الشريفة: إرشاد إلى لزوم خشية اللّه تعالى على أتمّ وجه، فإنّه ربّ العالمين الذي يربيهم بالعدل، فيجازي المعتدي بالعذاب بما يغرس في نفوسهم

ص: 171

غريزة الخوف منه عزّ و جلّ ، فلا يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة و الخسران.

قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ .

تعليل آخر لامتناعه عن البسط و بيان له أيضا، و لذا ترك العطف بينهما، و المراد بالإرادة هنا هي اختيار أحد الأمرين عند دوران الأمر بين الخير و الشرّ، فإنّه قد اختار طريق الخير، و هو الموت مع السعادة و عدم تحمّل تبعات الإثم و آثاره السيئة، و إن استلزم شقاء أخيه باختياره السيء الحياة مع الشقاء و الخسران و الدخول في سخط اللّه تعالى، فيتحمّل إثم فعلي لو فعلته، الذي تركته باختيار السعادة و ترك المقابلة بالمثل، و أثم فعله الشنيع أيضا.

و مادة (بوء) تدلّ على اللزوم، و منه أبوء بنعمتك، أو أبوء بذنوبي، أي: أقرّ و ألتزم، منه الرجوع، قال تعالى: فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اَللّهِ [سورة الأنفال، الآية:

16]، أي: رجعوا إليه و التزموا به، و تقدّم الكلام فيه فراجع.

و ممّا ذكرنا يظهر وجه الضعف في ما قيل في المقام من أنّه ذكر إرادته لتمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب حتّى يكون هو سعيدا، فإنّه لم يرد تمكين أخيه من قتله، لأنّه من التسبيب إلى ضلال أحد و شقائه، و هو ظلم محكوم بالفطرة، و إنّما هو أراد ذلك إن اختار أخوه قتله، و قد ذكرنا آنفا أنّه لم يمكّن نفسه من القتل أبدا، و إلاّ اشتركا في الإثم، فالآية الكريمة بمجموعها تدلّ على أنّ هابيل لم يضمر الشرّ لأخيه أبدا، و لم يحدّث نفسه في التعدّي على أخيه، و إن أضمر أخوه الشرّ له، فإنّ ذلك لا يكون سببا في الهلاك و الخسران، فإذا اختار الأخ قتله، فإنّه يرجع إلى نفسه الشريرة، فهو يتحمّل تبعات فعله، لأنّه المباشر للقتل، و تبعات إثمي لو فعلته، فيحمّله إثم المقتول على تقدير قتله إيّاه.

أو أنّ المراد من الآية الشريفة أنّه لو اختار القتل فقتل أخاه، تحمّل جميع آثامه، لأنّه اعتدى على مظلوم لا يستحقّه، فيورث القاتل جميع آثام المقتول، الذي لو لم يقتله لجازاه اللّه تعالى بها، إلاّ أنّه بقتله إيّاه أورثه اللّه تعالى إيّاها، و قد وردت ذلك في بعض الروايات.

ص: 172

قوله تعالى: فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ .

الآية من قبيل ترتّب المسبّب على السبب، الذي هو اختيار طريق الشرّ، أو ارتكاب المآثم التي توجب النار و يكون من أصحابها، فيدرك ألمها و عذابها.

قوله تعالى: وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ .

تقرير لما قبله، و فيه التعليل على كونه من أصحاب النار التي أعدت للظالمين. و في الآية المباركة الدلالة على أنّ تحمّل القاتل إثم المقتول إنّما هو لأجل التنبيه بالظلم، و لا ينافي ذلك قوله تعالى: أَلاّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [سورة النجم، الآية: 38]، فإنّ ذلك صحيح بالنسبة إلى أصل القضية و طبع كلّ عامل.

و أما إذا كان هناك دليل من الخارج على تحمّل بعض إثم الآخرين، فلا إشكال حينئذ و العقل لا يحكم بقبحه، و بعبارة اخرى: أنّ مؤاخذة الإنسان بذنب غيره قبيح لو لم يكن سببا في تحمّله له، فإنّ الأسباب تتبّع المصالح، كما بالنسبة إلى أحكام العقل العمليّ التي تتبّع المصالح، فإذا اعتبر الشارع أو المجتمع الإنسانيّ أنّ الفعل الصادر عن أحد هو فعل صادر عن غيره، فيحكم بمؤاخذته به، كما ورد أنّ :

«من سنّ سنّة سيئة كتب له وزرها و وزر من عمل بها»، لأنّه السبب في إيقاع غيره في الذنب، أو كان الذنب عظيما، له الأثر في إخلال الأمن في المجتمع و شيوع الفساد فيه، فإنّ المجتمع قد يسلب عن الباغي جميع حسناته و يؤاخذه بسيئات غيره، أو يعتبر أوزار المظلوم أوزارا للظالم، لأنّه بفعله قد تملّكها بسبب الظلم عليه، فهذه الآية الشريفة تبيّن وجه تحمّل قابيل إثم هابيل، و لا نحتاج بعد ذلك إلى أقوال المفسّرين، الذين لهم في تفسير هذه الآية وجوه لم يقم دليل على اعتبارها، و لا يساعد عليها ظاهر الآية المباركة.

قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ .

الآية الشريفة في غاية الفصاحة و البلاغة تبيّن الصراع المرير داخل النفس الإنسانيّة بين قوى الخير و قوى الشرّ، و تغلّب النفس الأمّارة و انقيادها لتنفيذ الشرّ، و لا ريب أنّ ذلك لا بد أن يمرّ بمراحل و خطوات و همسات في النفس

ص: 173

و وساوس، فإن تغلّب إحدى القوّتين على الاخرى لا تكون بسهولة، إلاّ إذا اعتادت النفس على إحداها، فتكون طوع إرادة الإنسان، و هذا ما تدلّ عليه كلمة «طوّعت»، التي هي أبلغ من (أطاعت) و نظيراتها، فإنّ الاولى تدلّ على الانقياد التدريجيّ ، كما أنّ الإطاعة تدلّ على الدفعيّ ، فيستفاد منها أنّ النفس لم تصل إلى الطوع و الانقياد إلاّ بعد اقترابها إلى الفعل السيء تدريجا، و في خطوات حثيثة، و يدلّ على ذلك سياق الآية المباركة، فإنّها تبيّن المراحل التي تقدّمت على الفعل، فابتدأت بإثارة النفس بقبول قربان هابيل دون قربان قابيل، و قد بيّن أوّل السبب في عدم قبول قربان الأخير و كان عليه إزالة المانع، إلاّ أنّ الإثارة تلك تبدّلت إلى حسد رهيب في النفس استولى على مشاعره، فنشأت الإرادة إلى القتل، ثمّ الجزم إليه بعد انقياد النفس الأمّارة و استيلائها على العقل و الفطرة، فوقع القتل.

فالآية الشريفة من الآيات المعدودة التي تبيّن واقع النفس الإنسانيّة، و الصراع الواقع بين قوى الشرّ و قوى الخير، و لتجاذب الواقع بين دواعي الحكمة و الموعظة، و صوارف الفطرة و دواعي النفس الأمّارة.

و بالجملة: أنّ هذا التنازع يحسّ به كلّ إنسان عند إرادة ارتكاب جريمة، أو فعل شنيع، كما تدلّ عليه آيات أخر في مواضع متعدّدة من القرآن الكريم، و سيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و قد اختلف المفسّرون في معنى «طوّعت»، فذكر بعضهم بأنّها تأتي بمعنى شجّعت، و آخرون بمعنى زيّنت، فيكون قوله تعالى: قَتْلَ أَخِيهِ مفعولا به.

و قيل: طاوعت أي: طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض.

و الحقّ أن يقال: إنّ ذلك و إن كان صحيحا إلاّ أنّ لها دلالتها الدقيقة، لا تظهر في الذي ذكروه في المقام كما عرفت، فقد انقادت له نفسه في قتل أخيه و أطاعت أمره بعد سلسلة من الصراع و التجاذب بين النفس الأمّارة و الفطرة و العقل، فكانت طاعة تدريجيّة بتذليلها، و هذا المعنى لا يظهر في ما ذكره المفسّرون.

ص: 174

قوله تعالى: فَقَتَلَهُ .

بعد أن لم تنفعه المواعظ و الزواجر و تغلّبت صوارف الفطرة و الحكمة و العقل، فانقادت له نفسه الأمّارة، فقتل أخاه ظلما و عدوانا.

قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ .

الذين خسروا كلّ ما يمكن أن ينال به الفوز و الفلاح، فقد خسر نفسه بإفساد الفطرة، و خسر دنياه إذ بقي مدّة عمره نادما محزونا، و خسر آخرته بارتكاب الظلم، فلعنه اللّه تعالى و لعنه اللاعنون، فلم يكن أهلا لنعيم الآخرة، لأنّها دار المتّقين.

قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ .

إعلام لسقوط نفس قابيل عن قابلية الإلهام و الإفاضة عليها بلا واسطة من اللّه جلّ جلاله، أو من التعلّم من والده النبيّ المعصوم عليه السّلام بطريق السئوال مثلا على نحو الكلّية لا لخصوص الواقعة. ثمّ لا يخفى كمال رأفته تبارك و تعالى بالصالحين من عباده، حيث لم يرض عزّ و جلّ بأن يكون جسد عبده الصالح مورد افتراس السباع، فدبّر تعالى له كيفيّة دفنه بهذا التدبير الحسن.

و البحث التفتيش و الطلب عن شيء، و سمّيت سورة التوبة بسورة البحث، لما تضمّنت من البحث عن أسرار المنافقين، و هو إثارتها و التفتيش عنها. و قيل: إنّ أصل استعماله إنّما هو في البحث في التراب، و المراد به هنا الحفر الحاصل من استمرار البحث و إطالته، كما يدلّ عليه الفعل المضارع.

و اللام في «ليريه» للتعليل، و الضمير المستكن فيه يعود إلى اللّه تعالى، أو للصيرورة و العاقبة إذا كان الضمير عائدا إلى الغراب، و الثاني هو الأقرب و إن كان المعنى صحيحا على التقديرين.

و جملة (كيف يواري) مفعول ثان (ليري)، و مادة «ورى» تدلّ على الستر، و منه التواري، أي: التستّر، و يطلق الوراء على ما هو خلف الشيء. و المراد بالمواراة هو الدفن، بحيث يستر الجسد عن أعين الناس. و السوأة هي ما يكرهه الإنسان؛

ص: 175

و تطلق على العورة لما تسوء ناظرها، و المراد بها في المقام جميع الجسد.

و ظاهر الآية المباركة أنّ اللّه بعث غرابا إلى المكان الذي يراه القاتل، يبحث في الأرض برجليه و يفتش فيها مستمرا حتّى إذا أحدث حفرة، اهتدى قابيل كيف يواري جسد أخيه المقتول، بعد أن كان متحيّرا في كيفيّة التخلّص منه. هذا هو المعنى الظاهر من الآية الشريفة.

و يمكن أن يستفاد من قوله تعالى: لِيُرِيَهُ ، أنّ قابيل كان بعيدا عن كلّ ما يمكن أن يتوصّل به إلى كيفيّة التخلّص من سوأة أخيه، لا سيما بعد ما ذكر أنّ ظلمه كان سببا لانقطاع الفيض عنه، و قد تعلّم ذلك من الغراب الذي بعثه اللّه تعالى لأجل هذه الغاية فقط، فلا بدّ أن يكون تعليمه له مستجمعا للخصوصيات التي توجب رفع الحيرة عنه، التي هي من أهمّ موجبات شذوذ الذهن و عدم اهتدائه إلى شيء أيضا، فمن المحتمل أن يكون الغراب قد تنازع مع غراب آخر فاقتتلا، ثمّ بحث القاتل مستمرا في الأرض ليحدث حفرة يدفن فيها الغراب المقتول، فكان في ذلك النكاية و التقريع و الإرشاد و التعليم، و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من ذكر بعض الخصوصيات إنّما هي مأخوذة من ظاهر الآية الشريفة.

و ذكر بعض المفسّرين أنّ القصد من بعث الغراب إنّما هو إراءة المواراة و كيفيّتها، و قد حصلت ببحث الغراب في الأرض ثمّ دفنه فيها شيئا. و ما ذكره صحيح، إلاّ أنّه لم يتحقّق جميع تلك الغايات التي ذكرناها آنفا، مع أنّه لا يتّفق مع سذاجة الفهم و الحيرة التي كانت مستولية على قابيل، فكانت حالته تقتضي مزيدا من التعليم و الدقّة فيه.

و كيف كان، فقد بعث عزّ و جلّ الغراب بالخصوص، لما ذكر أنّ من عادته دفن بعض الأشياء في الأرض، الذي هو مظهر من مظاهر حيطته و حذره الشديد، فقد ورد في بعض الأخبار: تعلّموا من الغراب حذره.

قوله تعالى: قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي .

تحسّر و تلهّف و تأسّف على ما فاته من الفائدة، و ندم على إهماله التفكير في

ص: 176

الاستفادة ممّا عنده من الإمكانات في التماس الحيلة لمواراة سوأة أخيه حتّى تعلمه من الغراب بسهولة، و تقريع للنفس بالعجز أن يكون مثل الغراب في المواراة، و توبيخ لها في إيقاعها في الشقاء مدّة من غير سبب، و تأنيب للضمير في فعله الشنيع بإظهار الندامة عند ما عرف أنّه أهمل الأسباب المؤدّية إلى دفع المضرّة عن نفسه، و بيان تألّمه على حاله، كلّ ذلك يستفاد من ظاهر الآية الشريفة.

و كلمة «يا ويلتا» التي تدلّ على التحسّر و التلهّف تقال عند حلول الدواهي و العظائم، و الويلة كالويل الهلكة و البلية، و الألف في الكلمة بدل ياء المتكلّم.

و الأصل (يا ويلتي)، و النداء للويلة لإفادة ما فاته من السبب و الوسيلة، كما عرفت آنفا.

و الاستفهام للتعجّب من عجزه، و الخطاب مع نفسه كما هي العادة في مثل هذه الحالة، و فيه التعجّب من عجزه ممّا اهتدى إليه الغراب و كونه أشرف منه.

قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ .

بيان للحالة التي تعرض لكلّ إنسان عقب ما يصدر عنه من الخطأ و الفعل الشنيع و ارتكابه ما يكره أن يطّلع عليه الناس أو يرفضه المجتمع، و ربّما يكون الندم توبة إذا كان سببه الخوف من اللّه تعالى و التألّم من التعدّي على حدوده و ارتكاب ما لا يرضاه عزّ و جلّ ، و في الحديث: «كفى بالندم توبة». و أما إذا كان سببه فوت منفعة أو حدوث مضرّة، فلا يكون الندم حينئذ توبة، كما هي العادة في ما إذا ظهر للإنسان بعد ارتكابه الفعل أنّه قصّر في تدبير أمره و اتخاذ الحيطة اللازمة عند ارتكابه الجريمة، و لذا لو عاد فإنّه يصلح ما فاته في المرّة الاولى، فلا يكون مثل هذا الندم توبة.

الظاهر من الآية المباركة أنّ ندامته من جهة عجزه عن مواراة سوأة أخيه، أو ندمه على أصل القتل قبل أن يتّخذ جميع الإجراءات، و قبل أن يعرف ما يصنع بجسد أخيه، فالندامة تأثير روحيّ خاصّ في الإنسان يعرض عند ارتكاب الخلاف، و لكن يختلف أسبابها، فقد يكون من اللّه تعالى، فتكون حميدة موجبة

ص: 177

للتخفيف عن الظالم، كما يحدث كثيرا عند المجرمين عند حصول النقمة عليهم.

و كيف كان، فإنّ ندم قابيل لا يفيده لما ارتكبه من الفعل الشنيع الذي لا يغفر بمجرّد الندم، لما عرفت في بحث التوبة من عدم كفاية الندم في رفع آثار الذنب في بعض الجرائم الموبقة.

قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ .

تشديد في أمر القتل و تأكيد على حرمة إراقة الدم من غير سبب شرعيّ ، و بيان إلى أنّ قتل النفس المحترمة يستعقب الغضب الربوبيّ و السخط الإلهيّ .

و مادة (أجل) تدلّ على الجرّ، و منه الأجل و هو الوقت الذي يجرّ إليه الأمر المتقدّم، و الآجل نقيض العاجل، و أجل بمعنى نعم، لأنّه انقياد إلى ما جرّ إليه، و الإجل للقطيع من بقر الوحش، لأنّ بعضه ينجرّ إلى بعض، كما أنّ منه قولهم:

فعلت ذلك من أجل كذا (بفتح الهمزة)، أو من إجلاك، و قد أحل عليهم أجلا (بفتح الهمزة و قد تكسر)، أي: جني و جرّ عليهم، فتطلق الأجل على الجناية لأنّها تجرّ على مرتكبها الوبال لما يخاف من أجلها.

و كيف كان، فقد استعملت الكلمة في التعليل، و غالب استعمالها في الرديء و الشرّ، و اسم الإشارة (ذلك) إلى قصة ابني آدم، و الجرم الذي أجراه أحد الأخوين على الآخر ظلما و عدوانا، فأوجبت تلك الجناية أن كتب اللّه على بني إسرائيل هذه الحقيقة الاجتماعيّة، التي بها تستقيم الحياة الإنسانيّة، و التي تعدّ من أهمّ الأحكام التي تنظم العلاقات بين الأفراد، و تستقيم أمورهم الدنيويّة التي تقتضي جلب السعادة و الفوز بالفلاح.

و يستفاد من الآية المباركة التشديد في هذا القضاء الإلهيّ ، لما في طباعهم من الاستهزاء بأحكام اللّه تعالى و التعنّت و اللجاج، و قد عرفوا بسفك الدماء و إثارة الغضب الإلهيّ ، كما حكى عزّ و جلّ أحوالهم في القرآن الكريم، إلاّ أنّها عامّة تشمل جميع الأمم، فإنّها من التوجيهات الربوبيّة القيّمة التي تشدّد في هذا الأمر و تعطي له أهميّة خاصّة، و يثبت للإنسان قيمته الواقعيّة من بين الموجودات.

ص: 178

و ذكر بعضهم أنّ اسم الإشارة يرجع إلى قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ ، أي: كان ذلك سببا لندامته، و لكنّه بعيد كما هو معلوم، فإنّ ندامته لم تغيّر الواقع، و إنّ جنايته هي التي سببت ندامته، فكانت فاجعة عجيبة و سببا للكتابة على بني إسرائيل.

قوله تعالى: أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ .

استثناء من قتل النفس المحرّم، و هو ما إذا كان قتل النفس مقابل نفس اخرى، أي القود و القصاص، الذي أثبته عزّ و جلّ في قوله الآتي: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، و قد أباحه في قوله تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ اَلْقِصاصُ فِي اَلْقَتْلى [سورة البقرة، الآية: 178].

و الباء للمقابلة، أي: من قتل نفسا بغير قتل نفس يوجب القصاص و القود، كما ذكرنا التفصيل في الفقه، و من شاء فليرجع إلى كتابنا (مهذب الأحكام).

قوله تعالى: أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ .

أي: بغير فساد، و هو عام يشمل كلّ ما يقابل الصلاح. و قد ورد بعض المصاديق في الكتاب و السنّة، منها ما يذكره عزّ و جلّ في الآية التالية: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً .

و منها: الشرك و قطع الطريق و الخروج على الإمام المعصوم عليه السّلام، و نحو ذلك ممّا ستعرف.

و منها: القتل بغير سبب من تلك الأسباب التي أذن بها الشارع، فالقتل كذلك يكون فسادا في الأرض.

قوله تعالى: فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً .

لأنّ الفعلين يشتركان في الفظاعة و هتك حرمة الدماء و عصيان اللّه تعالى، و لأنّ الواحد بمنزلة النوع، فمن استحلّ دم أحد بغير حقّ ، فقد استحلّ دم غيره و هانت عليه المآثم و ارتكاب المحرّمات و هتك الحرمات بلا وازع ديني أو غيره.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً .

أي: و من كان سببا لحياة نفس محترمة بانقاذها من الهالك و موجبات

ص: 179

الموت بوجه من الوجوه، كانقاذ الغريق و فكّ الأسير و نحو ذلك، فكأنّما أحيا الناس، لأنّ الإنسانيّة حقيقة واحدة في جميع الأفراد، و يشترك فيها الفرد كما يشترك فيها الأفراد، و لازم ذلك أنّ قتل نفس واحدة بمنزلة قتل الجميع و إحيائها بمنزلة إحياء الناس جميعا، و أنّ الباعث في الصورة الأخيرة هو احترام الإنسانيّة و معرفة قيمة الحياة، و نزعة الشفقة و الرحمة التي هي من صفات الباري عزّ و جلّ ، فيكون إحياء نفس واحدة احتراما للإنسانيّة و قياما بحقوقها.

يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدقّ ، و هو الإشارة إلى الطبع الإنسانيّ المشتمل على الهوى، و الحسد، و نزعة التقلّب، و حبّ التسلّط على الغير، فإذا كبح جماح هذه النزعة و جعلها تحت زمام الحكمة و العقل، تحقّقت السعادة و الصلاح، و وصل الفرد و المجتمع إلى الكمال المنشود، و صارا من مظاهر الخالق و المعبود. و أما إذا اقترن الطبع الإنسانيّ مع الهوى و الحسد، حملاه على المنازعة و التباغض و هتك الحرمات، و قتل النفس المحترمة، فإنّ في ذلك الفساد و إبطالا للغرض الإلهيّ الذي من أجله خلق اللّه تعالى الإنسان، لأنّه يستدعي سلب الأمان و بعث روح الانتقام و الفناء و الإفناء.

و هذا ما يشير إليه قول ابن آدم المقتول: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ ، لأنّه علم بأنّ القتل بغير الحقّ منازعة لربّ العالمين و ضدّ الغرض الالهي، فلأجل سدّ جميع أبواب العدوان، و لئلاّ يحمل الإنسان أيّ سبب واه على التعدّي و القتل و الظلم، ممّا ذكره عزّ و جلّ في الآيات المباركة السابقة من الحسد، و الكبر، و اتّباع الهوى، و جحد الحقّ الذي طالما اتّصف اليهود بها، و كانت الأسباب في صدور الفجائع و القبائح عنهم، كما قصّ تعالى قصصهم، و لأجل كلّ ذلك كتب عزّ و جلّ عليهم أنّ النفس الواحدة بمنزلة الجميع، فيكون قتلها بمنزلة قتل الجميع، و إحياؤها بمنزلة إحياء الجميع، لتقوّمه بالافراد، و لأن صلاح الفرد صلاح المجتمع.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما استشكل به في المقام من أنّ التنزيل يفضي إلى

ص: 180

نقص الغرض، الذي هو بيان عظمة قتل النفس من حيث الإثم و الأثر، فكلّ ما زاد عدد القتل ازدادت الأهميّة، و هذا التنزيل يفضي إلى خلاف ذلك، فإذا كان قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع، يستلزم أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء، لأنّ الواحد مقابل الجميع و يبقى الباقي و ليس بإزائه شيء، و لأنّ قتل الواحد إذا كان بمنزلة قتل الجميع، فإن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد، كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره، و هو باطل، و إن أريد قتل الجميع باستثناء هذا الواحد، كان معناه: من قتل نفسا فكأنّما قتل غيرها من النفوس، و هو بعيد عن سياق الآية الشريفة و باطل في نفسه.

و الجواب عن جميع ذلك بأنّ الآية المباركة لا تنظر إلى هذا التنزيل العددي منه، بل تشير إلى معنى دقيق كما عرفت، فتنزل الواحد منزلة الجميع من حيث الحقيقة الإنسانيّة، كما عرفت آنفا.

و هذه الآية الشريفة من الآيات المعدودة في القرآن الكريم التي تعطي الأهميّة للإنسانيّة، و تثبت حقوق الإنسان التي تنادي بها الجاهلية المعاصرة، تجاهلا منها بالحقيقة الإنسانيّة، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ .

تقرير لما كتب آنفا و تأكيد له، و تشديد عظيم للأمر، و تجديد للعهد، و الجملة عطف على صدر الآية الشريفة، أي: و لقد جاءتهم رسل اللّه تعالى بالآيات الواضحة يحذّرونهم القتل و ما يترتّب عليه من الفساد و الدمار.

و التأكيد بالقسم لكمال العناية بمضمون الآية المباركة، كما أنّه تبارك و تعالى قال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا ، تصريحا بوصول الرسالة إليهم و تناهيهم في العتو و الاستكبار.

قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي اَلْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ .

تأكيد آخر لما تقدّم، و يستفاد منه عظيم منزلة ما ورد في الآية الشريفة من مجيء اسم الإشارة الذي وضع موضع الضمير، للإيذان بكمال تميّزه و انتظامه

ص: 181

لسلوكه مسلك الأمور المشاهدة، و إتيان (ثمّ ) الدالّ على التراخي في الرتبة و الاستبعاد، و للدلالة أيضا على أنّه متمّم للكلام السابق.

و المعنى: لقد جاءتهم رسلنا بالبراهين الواضحة، و بيّنوا لهم آثار سفك الدماء و قتل النفس المحترمة، و حذّروهم من عواقبها، و لكنّهم أصرّوا على الاستكبار و أسرفوا في الأرض بالقتل، و فرّطوا في شأن الأحياء، و هتكوا المحارم و سفكوا الدماء و جاوزوا الحقّ ، فلم تغن عنهم تلك السيئات، و لا اهتدت نفوسهم و لم تتهذّب عقولهم.

و الإسراف في كلّ شيء هو التجاوز عن حدّ الاعتدال مع عدم المبالاة به، قال تعالى في شأن نهي ولي المقتول عن تجاوز حدّ القصاص: فَلا يُسْرِفْ فِي اَلْقَتْلِ [سورة الإسراء - 33]، و الغالب في استعماله في مورد الإنفاق، قال تعالى:

وَ اَلَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [سورة الفرقان، الآية: 67].

ص: 182

بحوث المقام
بحث أدبي:

(إذ) في قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ، ظرف منصوب بقوله تعالى: نَبَأَ و جوّز بعضهم أن يكون متعلّقا بمحذوف وقع حالا منه، و أشكل عليه بوجوه مذكورة في الكتب المطوّلة.

و قيل: إنّه بدل من النبأ على حذف المضاف، أي: اتل عليهم النبأ نبأ ذلك الوقت.

و ردّ بأنّ (إذ) لا يضاف إليها إلاّ الزمان، نحو: يومئذ و حينئذ، و النبأ ليس بزمان. و أجيب عنه بالمنع بأنّه لا فرق بين نبأ ذلك الوقت و نبأ (إذ).

و قال الزمخشري: يقال: قرّب صدقة و تقرّب بها، لأنّ تقرّب مطاوع قرب.

و ردّ بأنّ تقرّب ليس من مطاوع قرب، لاتّحاد فاعل الفعلين، و المطاوع يختلف فيه الفاعل، فيكون من أحدهما فعل و من الآخر انفعال، نحو: كسرته فانكسر، فليس قربت صدقة و تقرّبت بها من هذا الباب.

و يجاب عن ذلك بأنّ حقيقة المطاوعة إنّما هي تجاوز الفعل عن الفاعل، سواء كان هناك فعل آخر أم لم يكن، ففي الحديث: «من عادى وليّا لي فقد بارزني بالمحاربة»، و ما ذكره المستشكل هو الغالب، لا أن تتقوّم حقيقة المطاوعة به، فافهم.

و تقدّم الكلام في قوله تعالى: ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ، و نزيد هنا أنّ المعروف في علم النحو أنّه إذا اجتمع قسم و شرط، كان الجواب للسابق منهما إذا لم يتقدّمهما ذو خبر، و في المقام يمكن أن تكون الجملة جوابا للقسم، و عرفت أنّ الجملة في غاية الفصاحة و البلاغة، فقد تضمّنت المبالغة في نفي أنّه ليس من شأنه القتل و لا ممّن يتّصف به، بل تبرّأ عن مقدّمات القتل، فضلا عنه.

ص: 183

و قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ من التطوّع، و هو الانقياد، و أصله طاع، أي: انقاد، ثمّ عدّي بالتضعيف، فصار الفاعل مفعولا، و قرئ فطاوعت، بمعنى فعل، و (له) لزيادة الربط، و لا يتمّ الكلام و الربط بدونه.

و (أصبح) في قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ اَلْخاسِرِينَ ، بمعنى صار، و لم يدلّ على الوقت، و الجملة تدلّ على المبالغة على خسرانه، إذ لم يقل سبحانه: «فأصبح خاسرا».

و الغراب طائر معروف، و يجمع في القلّة على أغربة، و في الكثرة على غربان، و قيل: إنّه مشتقّ من الاغتراب.

و «كيف» في قوله تعالى: كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ ، منصوب بقوله:

«يواري»، و الجملة استفهاميّة في موضع مفعول ثان ل «يريه».

و الاستفهام في قوله تعالى: يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ ، للتعجّب من عجز نفسه، و المعروف (يا ويلتا) بألف منقلبة عن الياء، و قرئ (يا ويلتى) على أصل ياء المتكلّم.

و ما في قوله تعالى: فَكَأَنَّما في الموضعين كافّة مهيّئة لوقوع الفعل بعدها، و «جميعا» حال من «الناس»، أو تأكيد.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ على أهميّة هذا النبأ و عظمته، و لا غرو في ذلك فإنّه أوّل قتل وقع على هذه البسيطة، و أوّل حدث يكشف عن غريزة البشر التي جبلت على التباين و الاختلاف و التحاسد، المفضي إلى البغي و الظلم و القتل و ما يترتب على ذلك من آثار، و أوّل موضوع بيّن وجه الحكمة في ما شرّعه اللّه تعالى من الأحكام على البغاة و الظالمين و القتلة من الأفراد و الجماعات و الشعوب و القبائل، و أوّل حادثة بيّنت احتياج الإنسان إلى الأحكام

ص: 184

و التشريعات و التوجيهات، و أوّل فعل كشف عن حرية الإرادة و الاختيار في الإنسان على هذه الأرض.

و لعلّ ذكر الحقّ في المقام، لبيان تلك الوجوه و غيرها ممّا لم نذكره، و للإشارة إلى أنّه قد ذكر فيه ما لم يستند إلى دليل معتمد، و أنّ بني إسرائيل هم الذين حرّفوا هذا الموضوع و ادخلوا فيه بعض الأباطيل.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ ، على مشروعيّة تقديم القرابين، بل هو من الفطريات، و لم تخلو شريعة من الشرائع السماويّة منها، و إن اختلفت في بعض الخصوصيات، إلاّ أنّها اتّفقت على أن يكون القربان خالصا لوجهه الكريم، و لا يختصّ بنوع خاصّ ، فيشمل كلّ ما يصحّ التقرّب به إليه عزّ و جلّ .

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، على حقيقة واقعيّة تدعو إليها الفطرة المستقيمة، و قد أخبر بها هابيل في وقت لم تنطمس الفطرة بالحجب و الموانع.

و يستفاد من الحصر أنّ القبول يدور مدار التقوى التي لها مراتب متفاوتة جدا، و تختلف درجات القبول مدارها، و من المعلوم أنّ التقوى التي كانت مطلوبة في زمان ابني آدم، غير التقوى المطلوبة في الشرائع المتأخّرة، و العظمى من تلك المراتب ما عليه في شريعة الإسلام التي حوت من الكمالات أسماها و من مراتب التقوى أكملها و أغلاها، فكان الجزاء عظيما على قدر عظمة التشريعات فيها، و سيأتي في البحث الكلاميّ ما يرتبط بالمقام.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ ، على أنّ الخوف منه جلّت عظمته هو من أعظم الحواجز عن ارتكاب المحرّمات، و أهمّ المعدات لنيل ملكة التقوى، و العلّة الوحيدة التي يمكن أن تكبح الشهوات و النفس الأمّارة و تقويمها بمكارم الأخلاق و تزيينها بمحامد الصفات، و قد تقدّم الكلام في الخوف، و ذكرنا أنّه من الصفات السيئة، إلاّ الخوف من اللّه تعالى، فإنّه صفة حميدة، و لم ينلها إلاّ من بلغ مرتبة من العلم و العمل الصالح.

ص: 185

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ ، على أنّ بعض المعاصي ممّا يوجب كسب مظالم الغير و تحمّل آثامه، لشناعتها و فظاعتها، و ممّا يعتبرها العرف و العقل موجبا لتحمّل آثامه و تبعات من وقع عليه الظلم، كالقتل العمديّ و البغي على الآخرين، فإنّه يوجب انتقال إثم المقتول ظلما إلى قاتله، مضافا إلى إثمه، و يدلّ أيضا على أنّ المظلوم ممّن ينتصر اللّه تعالى له إن عاجلا أو آجلا.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ، على حقيقة من الحقائق الواقعيّة التي يدركها الإنسان عند ما يهمّ بالمعصية و ارتكاب الآثام.

و المستفاد منه أنّ النفس يصعب عليها ارتكاب المعصية، لا سيما القتل؛ فإنّه مستصعب عظيم على النفوس، و لا يصل الفرد إلى حدّ الارتكاب إلاّ بعد صراع بين القوى الداخليّة، فتردّه النفس الأمّارة بالسوء طائعا منقادا، حتّى يوقع صاحب هذه النفس في الموبقات و المهالك، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك فراجع.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: فَبَعَثَ اَللّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي اَلْأَرْضِ ، إمكان انتفاع الإنسان بالحسّ و تعيين خواصّ الأشياء من ناحية الحسّ الحاصل من التجربة، و بعد ذلك يتوصّل الإنسان إلى الكلّيات من التفكّر في ما حصله من التجربة و الحسّ .

و تعتبر هذه الآية الشريفة من أهمّ الآيات القرآنيّة الحاكية عن حال الإنسان من حيث علومه و معارفه، و ما يفضي به البحث العلمي المبتني على الحسّ ، ثمّ الاستنتاج و التفكّر و تنظيم القواعد و الكلّيات ممّا يحسّه الإنسان من الجزئيات، و بذلك اختلفت نظرية المعرفة الإسلاميّة عن غيرها ممّا تقصر المعرفة على واحد من تلك المنابع، إما الحسّ أو التذكّر أو العلم الفطريّ أو غيرها، فإنّ الإسلام لا ينكر هذا الجانب أيضا، و يقول بتعدّد ينابيع المعرفة، و لا يهمل الجانب الحسيّ أبدا، و لكن لا يعدّه المنبع الوحيد في المعرفة الإنسانيّة حتّى يستلزم إشكالات متعدّدة ذكروها في الكتب الفلسفيّة، و اعتبر تلك المنابع المتعدّدة هي وحدة متكاملة يكمل أحدها الآخر، فصارت للمعرفة مصادر متعدّدة لا يمكن

ص: 186

الاعتماد على واحد منها مع غضّ النظر عن المصادر الاخرى، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: وَ اَللّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ اَلسَّمْعَ وَ اَلْأَبْصارَ وَ اَلْأَفْئِدَةَ [سورة النحل، الآية: 78]، و آيات اخرى وردت في مواضع متفرّقة، و بسبب هذه النظرية الشاملة اتّسعت المعرفة الإنسانيّة و شملت جميع الأمور، حتّى ما وراء الحسّ ، و عليها ابتنت مسألة التوحيد التي هي أبعد المسائل عن الحسّ ، و لكن استثنت هذه النظرية بعض المسائل عن المعرفة أو خصّصتها ببعض الطرق و الينابيع، كما هو الشأن في استنباط الأحكام الشرعيّة و تشخيصها، فخصّ العلم بها بالوحي و الفطرة و ما ورد في الكتاب و السنّة الشريفة، و كذا في التفكّر و التذكّر، فخصّهما بما إذا لم يكن فيه إبطال للسلوك العلميّ الفكريّ ، أو مخالفا للتقوى، و البحث نفيس يأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ ، على أنّ هذه القصة التي ذكرت بهذا التصوير الرائع للطبع الإنسانيّ ليست هي الوحيدة في نوعها، فإنّ الطبع يقضي باتّباع الهوى و الحسد، فيأتي بما يماثلها، فيحمله على ارتكاب المآثم إن وافقته الأسباب على المنازعة و إبطال غرض الخلقة بارتكاب جريمة القتل، فكانت هذه القصة هي السبب في تشريع حكم إلهيّ يحفظ الأفراد من مثل هذه الجريمة، فاعتبر الإنسان أفراد نوع واحد و أشخاصا لحقيقة متّحدة، يحمل الفرد الواحد من الإنسانيّة ما يحمله الكثيرون و النوع، فجعل الاعتداء على الواحد كالاعتداء على النوع، و الإحياء له إحياء للنوع، لما فيه من حفظ الكرامة الإنسانيّة و تحقيق الغرض الإلهيّ من خلقة هذا النوع.

بحث روائي

في الكافي بإسناده عن أبي حمزة الثماليّ ، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه

ص: 187

تبارك و تعالى عهد إلى آدم عليه السّلام أن لا يقرب هذه الشجرة، فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها فأكل منها، و هو قول اللّه تعالى: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ، فلما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض، فولد له هابيل و أخته توأم، و ولد له قابيل و أخته توأم، ثمّ إنّ آدم أمر هابيل و قابيل أن يقرّبا قربانا، و كان هابيل صاحب غنم، و كان قابيل صاحب زرع، و قرّب هابيل كبشا من أفاضل غنمه، و قرّب قابيل من زرعه ما لم ينق، فتقبّل قربان هابيل و لم يتقبّل قربان قابيل، و هو قول اللّه عزّ و جلّ : وَ اُتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ اِبْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ اَلْآخَرِ ، و كان القربان تأكله النار، فعمد قابيل إلى النّار فبنى لها بياتا، و هو أوّل من بنى بيوت النار، فقال:

لأعبدنّ هذه النار حتّى تتقبّل منّي قرباني، ثمّ إنّ إبليس (لعنه اللّه) أتاه و هو يجري من ابن أدم مجرى الدم في العروق، فقال: يا قابيل! قد تقبّل قربان هابيل و لم يتقبّل قربانك، و إنّك إن تركته يكون له عقب يفتخرون على عقبك و يقولون: نحن أبناء الذي تقبّل قربانه، فاقتله لئلاّ يكون له عقب يفتخرون على عقبك، فقتله، فلما رجع قابيل إلى آدم عليه السّلام قال: يا قابيل أين هابيل ؟ فقال: اطلب حيث قرّبنا القربان، فانطلق فوجد هابيل قتيلا، فقال آدم عليه السّلام: لعنت من أرض كما قبلت دم هابيل، و بكى آدم على هابيل أربعين ليلة».

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: يحتمل أن يكون المراد من العهد الوارد في الآية المباركة وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ [سورة طه، الآية: 115]، العهد التكوينيّ ، أي: الذي ركز في عقل آدم عليه السّلام بأن لا يقرب الشجرة الخاصّة التي تميّزت ببعض الصفات التي تنفر عنها العقل، و أنّ ما ترتّب على مخالفة ذلك العهد من الآثار الوضعيّة - من الخروج عن الجنّة، و السير الطبيعيّ الاستكماليّ في هذه الدنيا، و الخلود في الجنّة و النّار، و غيرها - كانت في الأزل مقرّرة، و أنّ إرادته تعالى تعلّقت بذلك.

و بناء على هذا، يسقط النزاع في أنّه كيف صدر من آدم عليه السّلام المعصية ؟ فإنّ

ص: 188

العهد لم يكن مولويّا صرفا، و يدلّ على ما ذكرنا قوله عليه السّلام: «فلما بلغ الوقت الذي كان في علم اللّه أن يأكل منها»، و أما وسوسة الشيطان لم يكن لأجل إغواء آدم عليه السّلام و التسلّط عليه، و إنّما كان لأجل إغواء ذرّيته و التسلّط عليهم، و سيأتي في الآيات المناسبة تقييم هذا الاحتمال و دفع ما يطرأ عليه من الشبهات.

الثاني: أنّ أصل النسيان في البشر من لوازم وجوده و طبيعته. نعم للنسيان مراتب متفاوتة، و تختلف حسب درجات الإيمان، و حسب سير الطبيعة، و قد يكون النسيان من الشرور التي يقرب الشيطان الإنسان إليها، كما يأتي تفصيل ذلك في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الثالث: أنّ تقديم القربان إليه جلّت عظمته من لوازم الإيمان و العبوديّة للّه تعالى، سواء كانت هناك شريعة و منهج إلهيّ أو لا، لأنّه ممّا يستحسنه العقل و يعترف به.

و لا يختصّ القربان بالذبح و النحر - و إن كان أفضله - بل يتحقّق بتقديم كلّ شيء حتّى الزرع الذي لم ينظف، و إنّ القبول حسب مراتب الإخلاص و الكمال في الشيء.

ثمّ إنّه قد ورد في كثير من الروايات أنّه كانت علامة قبول القربان من اللّه جلّ شأنه أن تأتي نار من السماء و تأكله. و لعلّه كان ذلك لأجل الترغيب إلى إصلاح النفس و تهذيبها - و لا يكون ذلك من المعجزة، و إن كان مقتضى عموم رحمته و عدم تحديده بشيء، و أنّه يظهر الجميل و يستر القبيح، أن لا يظهر قبح من لم يتقبّل قربانه في هذه الدنيا. نعم عن بعض العرفاء أنّ للقبول آثارا معنويّة تظهر على النفس، و أنّ سترها - خوفا من العجب - من أسمى الكمالات.

الخامس: ظاهر الرواية أنّ عمل قابيل لم يكن خالصا لوجهه تعالى، و من أثر ذلك صدر منه المعصية الشنيعة، و كان غرضه السمعة و الشهرة.

السادس: أنّ بناء قابيل بيتا للنار و عبادته لها، لا تدلّ على أنّه كان مجوسيّا، و إنّما كان ذلك عن حبّ للسمعة، كما يعبد أهل الدنيا الماديات، و إلاّ كانت

ص: 189

الفطرة المستقيمة ترشد إلى الخالق الأزليّ ، خصوصا في أوّل بدأ الخلقة.

السابع: جريان إبليس مجرى الدم في عروق الإنسان، لا يدلّ على نفي الاختيار عنه، بل المراد السيطرة عليه في جميع مشاعره و أحاسيسه لإغوائه، و يقابله بعث الرسل و الأنبياء.

الثامن: يستفاد من الرواية أهميّة النسل و العقب للإنسان، و أنّهم يفتخرون بمجد الآباء، فإنّ ذلك صار سببا لإغواء قابيل.

التاسع: يستفاد من الرواية تصارع قوى الخير و الشر من بدء الخلقة، و أنّ الشرّ قد يغلب الخير، و لكن ذلك لا ينافي الحكم و المصالح، و قد ثبت في محلّه أنّ الشرّ قد يعقب خيرا و أنّ الخير قد يعقب شرّا، و في إخفاء المصالح على البشر مصالح.

العاشر: يستفاد من هذه الرواية و غيرها من الروايات الكثيرة أنّ الأرض قد تكون شريرة و ملعونة، و قد تكون خيّرة و مقدرة، كالإنسان، بل الزمان أيضا كذلك، كما في غير واحد من الروايات، و الأسباب في ذلك مخفيّة علينا، و تعيين تلك الصفات إما بواسطة الأنبياء و الرسل، أو التجربة بالآثار الوضعيّة، و عن بعض العلماء أنّه جرّب في بعض الحيوانات و بعض البيوت.

الحادي عشر: أنّ بكاء آدم عليه السّلام و سائر الأنبياء و الأولياء على فقد عزيز لهم أو ما يرد عليهم من المصاب، لا ينافي التوكّل و الإخلاص و الرضا بالقدر و القضاء، و ذلك إما أنّه لأجل الحزن الذي يرد على طبيعة البشر و أنّهم بشر، بل عن بعض الفلاسفة أنّ الهموم و الغموم تعمّ الموجودات كلّها ما سواه تعالى، و تبرز آثارها فيها حسب وجودها.

أو لأجل الخوف منه تعالى، لئلاّ يسلب منهم جزاء النعمة التي أنعمها عليهم من القرب إليه جلّ شأنه أو المحبّة، أو اللطف بهم.

أو لأجل الطمع في التقرّب إليه أكثر و الرجاء في الثواب، إلى غير ذلك من الوجوه.

ص: 190

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن ثوير قال:

«سمعت علي بن الحسين عليهما السّلام يحدّث رجالا من قريش، قال: لما قرّب ابنا آدم القربان، قرّب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، و قرّب الآخر ضغثا من سنبل، فتقبّل من صاحب الكبش و هو هابيل، و لم يتقبّل من الآخر، فغضب قابيل فقال لهابيل: «و اللّه لأقتلنك»، فقال هابيل: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اَللّهَ رَبَّ اَلْعالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ اَلنّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ اَلظّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ ، فلم يدر كيف يقتله حتّى جاء إبليس فعلّمه، فقال:

ضع رأسه بين حجرين ثمّ اشدخه، فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتّى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر الذي بقي في الأرض بمخالبه و دفن فيه صاحبه، قال قابيل: قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا اَلْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ اَلنّادِمِينَ ، فحفر له حفيرة و دفنه فيها، فصارت سنّة يدفنون الموتى، فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل، فقال له آدم عليه السّلام: أين تركت ابني ؟ قال له قابيل: ارسلتني عليه راعيا، فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، و أوجس قلب آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السماء: تعست كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدم، فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوما و ليلة، فلما جزع عليه شكا ذلك إلى اللّه، فأوحى اللّه إليه أنّي واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل، فولدت حواء غلاما زكيا مباركا، فلما كان يوم السابع أوحى اللّه إليه: يا آدم إنّ هذا الغلام هبة منّي لك فسمّه هبة اللّه، فسمّاه آدم عليه السّلام هبة اللّه.

أقول: الفرق بين الروايتين بسيط، و يستفاد من الرواية الثانية أنّ العلوم مطلقا إلهاميّة - و إن كان يختلف سبب الإلهام - و لكن بعضها يرجع إلى الحسّ ، و لعلّ المعصية التي ارتكبها قابيل كانت سببا لعدم قابليته للإلهام، و في بعض

ص: 191

الروايات: «مسخ اللّه عقله و خلع فؤاده تائها حتّى مات»، و لذا الهم الغراب بذلك دون قابيل. نعم إنّ ما اقتضته الفطرة غير قابل للجهل، كما ورد في بعض الروايات:

«مهما أبهموا لا يبهموا عن ثلاث: خالقهم، و محلّ رزقهم، و محلّ سفادهم».

و أنّ فعل الغراب كان منحصرا بالفرد و لم تكن من طبيعته كذلك كما قيل، و إن ذكر بعضهم أنّ نوعا منه يدفن موتاه وراثيا، و منه ذلك الغراب.

كما يستفاد منها أنّ تنبؤ آدم عليه السّلام قتل ولده هابيل كان من الإلهام، و لم يكن من الوحي، لقوله عليه السّلام: «لما أوجس في نفسه من ذلك»، و هذا قد يعرض على الإنسان خصوصا الأخيار منهم.

و أمّا عدم شرب الأرض الدم، فله أسباب عديدة و حكم كثيرة، لعلّ منها بقاء أثر دم المظلوم و عدم زواله.

و أما أمر آدم عليه السّلام لعن قابيل لأجل ما صدر منه من الفعل الشنيع باختياره، و أنّ نداءه في السماء بواسطة بعض الملائكة، للدلالة على بعده عن رحمته تعالى لأجل ما صدر منه.

و في تفسير العياشي بإسناده عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«لما أكل آدم من الشجرة اهبط إلى الأرض، فولد له هابيل و أخته توأم، ثمّ ولد قابيل و أخته توأم - إلى أن قال: - ثمّ إنّ آدم عليه السّلام سأل ربّه ولدا، فولد له غلام فسمّاه هبة اللّه، لأنّ اللّه و هبه له و أخته توأم، فلما انقضت نبوّة آدم عليه السّلام و استكمل أيامه أوحى اللّه إليه أن يا آدم قد قضيت نبوّتك و استكملت أيامك، فاجعل العلم الذي عندك و الإيمان، و الاسم الأكبر، و ميراث العلم، و آثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك عند هبة اللّه ابنك، فإنّي لم اقطع العلم و الإيمان و الاسم، و آثار علم النبوّة في العقب من ذرّيتك إلى يوم القيامة، و لن ادع الأرض إلاّ و فيها عالم يعرف به ديني، و يعرف به طاعتي، و يكون نجاة لمن يولد فيما بينك و بين نوح، و بشّر آدم عليه السّلام بنوح و قال: إنّ اللّه باعث نبيّا اسمه نوح، فإنّه يدعو إلى اللّه و يكذّبه قومه فيهلكهم اللّه تعالى بالطوفان، و كان بين آدم و نوح عشرة آباء، كلّهم أنبياء.

ص: 192

و أوصى آدم عليه السّلام إلى هبة اللّه أن من أدركه منكم فليؤمن به و ليتبعه و ليصدق به، فإنّه ينجو من الغرق، ثمّ إنّ آدم مرض المرضة التي مات فيها فأرسل إلى هبة اللّه، فقال له: إن لقيت جبرئيل و من لقيت من الملائكة فاقرأه منّي السلام و قل له: يا جبرئيل! إنّ أبي يستهديك من ثمار الجنّة، فقال جبرئيل: يا هبة اللّه! إنّ أباك قد قبض و ما نزلنا إلاّ للصلاة عليه فارجع، فرجع فوجد آدم عليه السّلام قد قبض، فأراه جبرئيل كيف يغسّله، فغسّله حتّى إذا بلغ الصلاة عليه قال هبة اللّه: يا جبرئيل! تقدّم فصلّ على آدم، فقال له جبرئيل: إنّ اللّه أمرنا أن نسجد لأبيك آدم و هو في الجنّة، فليس لنا أن نؤم شيئا من ولده، فتقدّم هبة اللّه فصلّى على أبيه آدم و جبرئيل خلفه و جنود الملائكة، و كبّر عليه ثلاثين تكبيرة فأمره جبرئيل فرفع من ذلك خمسا و عشرين تكبيرة، و السنّة اليوم فينا خمس تكبيرات، و قد كان صلّى اللّه عليه و آله يكبّر على أهل بدر سبعا و تسعا. ثمّ إنّ هبة اللّه لما دفن آدم أتاه قابيل فقال: يا هبة اللّه! إنّي قد رأيت أبي آدم عليه السّلام قد خصّك من العلم بما لم يخصني به أنا، و هو العلم الذي دعاه به أخوك هابيل فتقبّل منه قربانه، و إنّما قتلته لكي لا يكون له عقب يفتخرون على عقبي يقولون: نحن أبناء الذي تقبّل منه قربانه و أنتم أبناء الذي ترك قربانه، و إن أظهرت من العلم الذي اختصّك به أبوك شيئا قتلتك كما قتلت أخاك هابيل، فلبث هبة اللّه و العقب من بعده مستخفين بما عندهم من العلم و الإيمان و الاسم الأكبر و ميراث العلم و آثار علم النبوّة، حتّى بعث اللّه نوحا و ظهرت وصية هبة اللّه في ولده حين نظروا في وصية آدم عليه السّلام فوجدوا نوحا نبيّا قد بشّر به أبوهم آدم، فآمنوا به و اتّبعوه و صدقوه، و قد كان آدم عليه السّلام أوصى إلى هبة اللّه أن يتعاهد هذه الوصية عند رأس كلّ سنة، فيكون يوم عيدهم يتعاهدون بعث نوح و زمانه الذي يخرج فيه، و كذلك في وصية كلّ نبي، حتّى بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله.

أقول: يستفاد من هذه الرواية امور:

الأوّل: أنّ المواريث المعنويّة الموجودة عند الأنبياء عليه السّلام في عالم الشهادة لا

ص: 193

تزول بموت النبيّ أو الوصيّ ، و إنّما تنتقل من نبيّ أو وصيّ ، خصوصا الاسم الأعظم منها، فإنّه موجود عند الحجّة بن الحسن (عجل اللّه تعالى فرجه الشريف).

الثاني: لعلّ بشارة آدم عليه السّلام بنوح، لأنّه الأب الثاني للبشريّة كما هو الأب الأوّل لهم، فله من الأهميّة ما لم تكن في غيره من الأنبياء، كما أنّه بشّر بمحمد، لأنّه الغاية من الخلق، و هو أشرف الخلائق.

الثالث: أنّ تعليم الشرائع الإلهيّة كما يكون بالإلهام بواسطة الأنبياء عليهم السّلام، كذلك قد يكون بواسطة الملائكة في هذه الدنيا.

الرابع: تدلّ زيادة التكبيرات على شرفه و تقرّبه إلى اللّه تعالى، و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يزيد فيها في صلاته على الشهداء، و ذلك لا ينافي الفرض الذي هو خمسة عندنا، و أقلّ عند غيرنا، و أنّ ما رفع جبرئيل منها كان نفلا لا فرضا.

و عن هشام بن الحكم قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لما أمر اللّه آدم أن يوصي إلى هبة اللّه، أمره أن يستر ذلك، فجرت السنّة في ذلك بالكتمان، فأوصى إليه و ستر ذلك».

أقول: لعلّ السرّ في كتمان الأمور التي لها شأن - كما حثّ عليه في كثير من الروايات - هو كونه أحفظ من مكائد الشيطان، كالتحريف و التضييع و غيرها.

ثمّ إنّ هناك روايات أخرى تتعلّق بالقصة، و في بعضها نوع من الخلل فلا بدّ من التأويل، فإنّ الحال و الزمان لا يدعان مجالا لذكرها و تأويلها و اللّه العالم.

و في الكافي بإسناده عن محمّد بن مسلم قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً ؟ قال: له في النّار مقعد، لو قتل الناس جميعا لم يرد إلاّ ذلك المقعد».

أقول: و مثله غيره من الروايات، و تقدّم في التفسير أنّ التنزيل في الآية المباركة حقيقيّ لما ارتسمت في نفس القاتل من الصفات السيئة، و لا تنافي ذلك زيادة العذاب لو قتل أكثر من واحد، كما دلّت عليه رواية حمران عن الباقر عليه السّلام:

«فإن قتل آخر؟ قال عليه السّلام: يضاعف عليه».

ص: 194

و في الكافي أيضا بإسناده عن سماعة، عن الصادق عليه السّلام قال: «قلت له: قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي اَلْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ اَلنّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً ، قال: من أخرجها من ضلال إلى هدى فكأنّما أحياها، و من أخرجها من هدى إلى ضلالة فقد قتلها».

أقول: المراد من الحياة و الممات في الرواية الحياة المعنويّة و الممات المعنويّ ، كمن أخرجها من الكفر إلى الإيمان، و تقدّم سابقا أنّهما أفضل من الحياة الجسميّة، كما تدلّ عليه الآيات المباركة و الروايات المستفيضة، و الرواية من باب التطبيق على أكمل الأفراد و أجلاها، أو من باب التأويل الأعظم كما في بعض الروايات، و لا تنافي النجاة من الحرق و الغرق و غيرهما، لشمول الإحياء له كما هو المعلوم.

و في الكافي بإسناده عن معاوية بن عمار، عن الصادق عليه السّلام قال: «من يسقي الماء في موضع يوجد فيه الماء، كان كمن أعتق رقبة، و من سقى الماء في موضع لا يوجد فيه الماء، كمن أحيا نفسا، و من أحياها فكأنّما أحيا الناس جميعا».

أقول: الرواية من باب ذكر بعض الأفراد و المصاديق.

و عنه بإسناده أيضا عن حمران قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: اسألك أصلحك اللّه تعالى ؟ فقال: نعم، فقلت: كنت على حال و أنا اليوم على حال أخرى، كنت ادخل الأرض فأدعو الرجل و الاثنين و المرأة، فينقذ اللّه من يشاء أن اليوم لا ادعو أحدا؟ فقال: و ما عليك أن تخلي بين الناس و بين ربّهم، فمن أراد اللّه أن يخرجه من ظلمة إلى نور أخرجه، ثمّ قال: و لا عليك إن أنست من أحد خيرا أن تنفذ إليه الشيء ابتداء، قلت: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ : وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا اَلنّاسَ جَمِيعاً ، قال: من خرق أو غرق، ثمّ سكت، ثمّ قال: تأويلها الأعظم إن دعاها فاستجابت له».

أقول: ورد في كثير من الروايات أنّ دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب لا يردّ، و أنّ تأخير الآثار لا ينافي ذلك. و تبدّل الحالات النفسانيّة في الإنسان كثير، مؤمنا كان أو كافرا، و الرواية من باب التطبيق، و لعلّ المراد من التأويل الأعظم

ص: 195

ذكر أجلى المصاديق و أكملها للآية المباركة، و هو المراد من ذلك في كلمات الأئمة عليهم السّلام.

و في الدرّ المنثور عن علي عليه السّلام: «انّ النبي صلّى اللّه عليه و آله قال: بدمشق جبل يقال له قاسيون، فيه قتل ابن آدم أخاه».

أقول: على فرض صحّة الرواية، فإنّها لا تنافي أن يكون الدفن في محلّ آخر، لما في بعض الروايات: «مكث يحمل أخاه في جراب على رقبته سنة».

و في الدرّ المنثور عن البراء بن عازب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: ما قتلت نفس ظلما إلاّ كان على ابن آدم القاتل الأوّل كفل من دمها، لأنّه أوّل من سنّ القتل».

ص: 196

و هذه الروايات لا بدّ من حملها على ما إذا لم يستلزم تضييع الحقّ و لا التعدّي على حرمات اللّه تعالى، و إلاّ فإنّ الدفاع عن النفس، و انتصار الحقّ ، و كشف الكرب عن المظلوم بردع الظالم، و حفظ مشاعر الدين عن المعتدين بالجهاد و غيرها، من الواجبات العقليّة النظاميّة، أكد عليها الشرع.

و من المحتمل أنّ الروايات صدرت عن أشخاص أرادوا منها جوانب خارجية، لعلّ منها صرف المسلمين عن الحرب مع علي عليه السّلام ضدّ معاوية أو الخوارج أو طلحة و الزبير، أو تجميد دوافعهم التي كانت تؤيّد الحقّ و تسانده.

و كيف كان، فلا بدّ من حمل الروايات و إلاّ فتطرح.

و هناك روايات اخرى تتعلّق بقصة قابيل و مجازاته، ذكرها أرباب التفاسير - كالسيوطي و غيره - لا يقبلها العقل، و هي أشبه بالقصص الوهميّة أو الخرافات الخياليّة، فلا بدّ من طرحها أيضا و اللّه العالم.

بحث كلامي:

وردت كلمة التقوى في القرآن و السنّة - بل في الكتب السماويّة - كثيرا، و حثّت عليها الشرائع الإلهيّة و رغّبت إليها. و هي صفة - أو حالة نفسانيّة - تعرض على الإنسان الملتزم بالدين، و قد تزول عنه حسب العوامل النفسيّة و المكائد الشيطانيّة، فهي من الأمور الإضافيّة، تختلف حسب درجات الإيمان و الثقة بالمبدأ عزّ و جلّ .

و هي في اللغة: جعل النفس في وقاية ممّا يخاف. بل جعل نفس الخوف تقوى، من باب تسمية مقتضي الشيء باسم مقتضاه.

و قد عرّفت في الشرع بتعاريف متعدّدة، و لعلّ أسلمها: حفظ النفس عمّا يؤثم. و ذلك بترك المحظور، و يتحقّق باجتناب بعض المباحات، أي التنزّه عن الحلال مخافة الوقوع في الحرام، لما روي: «الحلال بيّن و الحرام بيّن، و من رتع حول

ص: 197

الحمى فحقيق أن يقع فيه»، و غيره من الروايات قال اللّه تعالى: فَمَنِ اِتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ [سورة الأعراف، الآية: 35].

و قيل: إنّها صفة راسخة في النفس توجب الاجتناب عن المأثم و المشتبهات، و هذا التعريف يرجع إلى الأوّل، و إنّما الاختلاف في التعبير.

و قيل: هي الامتناع عن الرديء باجتناب ما يدعو إليه الهوى، و هذا أعمّ ممّا تقدّم.

و كيف كان، فإنّه لا يمكن تحقيق التقوى إلاّ بترك المشتبهات، فضلا عن المحرّمات، ففي رواية يونس عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: اِهْدِنَا اَلصِّراطَ اَلْمُسْتَقِيمَ : «أرشدنا للزوم الطريق المؤدّي إلى محبّتك و المبلغ إلى جنّتك من أن نتبع أهواءنا فنعطب، و نأخذ بآرائنا فنهلك، فإنّ من اتّبع هواه و أعجب برأيه كان كرجل سمعت غناء الناس تعظّمه و تصفه، فأحببت لقائه من حيث لا يعرفني، لأنظر مقداره و محلّه، فرأيته في موضع قد أحدقوا به جماعة من غثاء العامّة، فوقفت منتبذا عنهم متغشّيا بلثام، انظر إليه و إليهم، فما زال يراوغهم حتّى خالف طريقهم و فارقهم، و لم يقر، فتفرّقت جماعة العامّة عنه لحوائجهم، و تبعته أقتفي أثره، فلم يلبث أن مرّ بخباز فتغفّله فأخذ من دكانه رغيفا مسارقة، فتعجّبت منه، ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ مرّ بعده بصاحب رمّان، فما زال به حتّى تغفّله فأخذ من عنده رمانتين مسارقة، فتعجّبت منه ثمّ قلت في نفسي: لعلّه معاملة، ثمّ أقول:

و ما حاجته إذا إلى المسارقة، ثمّ لم أزل اتّبعه حتّى مرّ بمريض فوضع الرغيفين و الرمّانتين بين يديه و مضى، و تبعته حتّى استقرّ في بقعة من صحراء، فقلت له:

يا عبد اللّه لقد لحقت بك و أحببت لقاءك فلقيتك، لكنّي رأيت منك ما شغل قلبي، و إنّي سائلك عنه ليزول به شغل قلبي، قال: ما هو؟ قلت: رأيتك مررت بخباز و سرقت منه رغيفين ثمّ بصاحب الرمّان فسرقت منه رمّانتين، فقال لي: قبل كلّ شيء حدّثني من أنت ؟ قلت: رجل من ولد آدم من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله، قال: حدّثني ممّن أنت ؟ قلت: رجل من أهل بيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، قال: أين بلدك ؟ قلت:

ص: 198

المدينة، قال: لعلك جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، قلت:

بلى، قال لي: فما ينفعك شرف أصلك مع جهلك بما شرّفت به و تركك علم جدّك و أبيك، لأنّه لا ينكر ما يجب أن يحمد و يمدح فاعله، قلت: و ما هو؟ قال: القرآن كتاب اللّه، قلت: و ما الذي جهلت ؟ قال: قول اللّه عزّ و جلّ : مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها ، و قال تعالى: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاّ مِثْلَها ، و إنّي لما سرقت الرغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، فهذه أربع سيئات. فلما تصدّقت بكلّ واحد منها كانت أربعين حسنة، انقص من أربعين حسنة أربع سيئات، بقي ست و ثلاثون. قلت: ثكلتك امّك، أنت الجاهل بكتاب اللّه، أما سمعت قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، إنّك لما سرقت رغيفين كانت سيئتين، و لما سرقت الرمانتين كانت سيئتين، و لما دفعتها إلى غيرها من غير رضا صاحبها كنت إنّما أضفت أربع سيئات و لم تضف أربعين حسنة إلى أربع سيئات. فجعل يلاحيني فانصرفت و تركته». و يستفاد من هذه الرواية أنّ القبول مطلقا يدور مدار التقوى، و لولاها فالأعمال مجرّد صور لم يكن لها لبّ . نعم لكلّ منهما مراتب و درجات. و التقوى هي المسلك المهمّ للوصول إلى ساحة قربه و لاستقرار حبّه تعالى في القلب. و قد ذكر علماء السير و السلوك أنّ مقامات الرقي هي مراتب التقوى، و قسّموها إلى تقوى العوامّ و تقوى الخواصّ ، و تقوى أخصّ الخواصّ . ثمّ إنّ المراد من التقوى في الآية المباركة: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اَللّهُ مِنَ اَلْمُتَّقِينَ ، هو مجرّد التقرّب إليه عزّ و جلّ مع تقريره به، لا التقوى المصطلح، لتناسب ذلك لبدء التشريع و تلائمه مع بثّ النسل، و لم تكمل الحجّة بتمام جهاتها. و لكن تقدّم أنّ للتقرب إليه تعالى مراتب و درجات، و أنّه لم يرد مثل هذا التعبير القرآني إلاّ في هذه الآية فقط.

ص: 199

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُ.......

اشارة

إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الآيتان الشريفتان تبيّنان أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يقوم عليها النظام العامّ و ثبات الأمن و الأمان، و تحرّمان المحاربة و الإفساد المخلّين للنظام و الموجدين للخوف العامّ .

ففي الآية الشريفة الاولى يبيّن تعالى حدّ المحاربة، الذي هو شديد على قدر عظمة الجرم، الذي هو المحاربة مع اللّه العظيم و رسوله الكريم، و كان الحدّ مركّبا من الخزي في الدنيا بالقتل و الصلب و القطع من خلاف و النفي من الأرض، و العذاب العظيم في الآخرة.

و في الآية الثانية يبيّن عزّ و جلّ حكم من تاب قبل القبض و الاستيلاء عليه، و غفران اللّه تعالى له.

و لا يخلو ارتباط هاتين الآيتين بما سبق، كما تشمل المحاربة القتل الذي بيّنته الآيات السابقة في قصة قتل ابن آدم أخاه، و ما كتبه اللّه تعالى على بني إسرائيل من أجله، الذي لا يعدو أن يكون منعا للإفساد و المحاربة، إفساد للنظام، فكانت هذه الآيات المباركة بيانا لعقاب الإفساد الذي خلت الآيات السابقة منه.

ص: 200

التفسير

قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ .

مادة (حرب) تدلّ على التعدّي و ما يضادّ السلم و السلام من الأذى و القتل و الضرر على النفس و المال، و الحرب (بالتحريك) هو أن يسلب الرجل ماله، يقال:

حربه يحربه - على وزن تعب - إذا أخذ ماله، فهو حريب و محروب. و المستفاد من اشتقاق هذه الكلمة أنّ الحرب أعمّ من القتل، فتشمل الاعتداء و السلب و إزالة الأمن و الإخلال بالنظام العامّ ، و لا ريب أنّ ذلك يستلزم بحسب الطبع و العادة استعمال السلاح و التهديد، و ربّما القتل و أنحاء الأذى و الضرر. و قد ورد في السنّة الشريفة تفسير الآية المباركة بشهر السيف و نحوه ممّا ستعرف، فهو إنّما يكون من باب المثال.

و المحاربة مفاعلة، و قد ذكرنا في مواضع متعدّدة أنّ المفاعلة لا تتقوّم حقيقة معناها بطرفين كما يدعيه بعض، بل هذه الهيئة تدلّ على صدور الفعل من شخص و إنهائه إلى آخر، سواء صدر منه فعل أم لا.

و المحاربة مع اللّه تعالى بالمعنى الحقيقيّ مستحيلة، فلا بدّ أن يكون المراد منها مخالفة أحكامه المقدّسة و الاستهزاء بتعاليمه و تشريعاته و نقضها، كما أنّ محاربة الرسول صلّى اللّه عليه و آله إنّما هي إبطال ولايته في الأمور التي ثبتت من جانبه عزّ و جلّ ، و يدخل فيه أذيّة أولياء اللّه تعالى الذين ثبتت ولايتهم من جانب الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأمر من اللّه تعالى، فتكون محاربة اللّه و رسوله معاداة اللّه تعالى و مخالفة أحكامه و نقضها و عدم تنفيذها و إبطال ولاية أولياء اللّه تعالى و إعلان مخالفتهم و معاداتهم.

و بعبارة اخرى: تكون المحاربة مع اللّه و رسوله هي عدم الإذعان لدينه بعدم حفظ الحقوق و عدم إقامة تشريعاته، و الاستهزاء بشعائر الدين و مقدّساته، فترجع المحاربة مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلى المحاربة مع اللّه تعالى، فإنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله من مظاهر الحقّ ، كما أنّ منها ولاية أولياء اللّه تعالى.

ص: 201

قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً .

بيان لبعض مصاديق محاربة اللّه و رسوله التي تقدّم معناها، و الفساد ضدّ الصلاح، و من عمل شيئا كان سببا للفساد يقال: إنّه أفسده، و السعي فسادا، أي الإفساد في الأرض، و هو ما كان سببا للإخلال بالنظام العامّ و إزالة الأمن و الأمان، فيدخل فيه قطع الطرق و قتل الناس ظلما و غير ذلك ممّا ذكره الفقهاء في المقام، و يرجع كلّ ذلك إلى عدم الإذعان بدين اللّه تعالى و تضييع الحقوق، فيتلازم الوصفان، و من ذلك يعرف أنّه لا يكفي مجرّد المحاربة مع المسلمين إذا لم نرجع إلى ما ذكر. و يدلّ عليه أنّ الرسول صلّى اللّه عليه و آله لم ينفّذ في المحاربين من الكفّار بعد الظهور عليهم و الظفر بهم حدّ المحارب عليهم، و سيأتي بيان ذلك إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ .

بيان لحدّ المحاربة و جزائه. و الجملة خبر المبتدأ في قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ . و التقتيل و التصليب و التقطيع، تفعيل من القتل و الصلب و القطع، الدالّة على زيادة في المعنى المجرّد. و لعلّها إما لأجل الزيادة على القصاص، لأنّه حدّ شرعيّ و حقّ إلهيّ ، لا يسقط بعفو الولي، أو لأجل التكثير و المبالغة في القتل باعتبار الأفراد، لأنّهم سعوا في الأرض فسادا، و الصلب قتلة مؤذية، و الكلمة مشتقّة من الصلب (بالتحريك). و الصليب بمعنى الودك (الدهن) أو الصديد الذي يخرج من بدن الميت. و الهيئة التي تشبه المصلوب تسمّى صليبا.

و قطع الأيدي و الأرجل من خلاف، أي: تقطع مختلفة، بمعنى إذا قطعت اليد اليمنى تقطع الرجل اليسرى. و صيغة التفعيل في هذا النوع أظهر. و المراد بقطعها، قطع بعضها دون الجميع، أي: إحدى اليدين و إحدى الرجلين مع مراعاة الاختلاف في الجانب.

و أما النفي من الأرض، فهو بمعنى الطرد من البلد إلى بلد آخر، و هو مضافا إلى أنّه عقاب ظاهرا، هو عملية إصلاحية تأديبيّة. و قيل: إنّ المراد بالنفي هو

ص: 202

الحبس، لكنّه لا دليل عليه، سيما بعد كونهما عقوبتين.

و لفظة «أو» إنّما تدلّ على التفصيل و الترديد، المقابل لمطلق الجمع، و أما الترتيب أو التخيير فلا بدّ أن يستفاد من القرائن الخارجيّة، لأنّ المحاربة و الفساد على مراتب متفاوتة جدا و وجوه شتّى، فقد شرّعت لكلّ مرتبة منها عقوبة معينة و حدّ خاصّ ، و في الروايات المروية عن الأئمة الهداة عليهم السّلام الدلالة على أنّ الحدود الأربعة مترتّبة بحسب درجات المحاربة و الإفساد، و سيأتي نقل بعضها إن شاء اللّه تعالى.

و قيل: إنّ (أو) للتخيير، فللإمام أن يحكم على من يشاء من المحاربين، و يمكن إرجاعه إلى ما سبق، و إلاّ فلا دليل عليه في المقام، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا .

الخزي الفضيحة و الذلّ ، أي: ذلك الجزاء من القتل، و الصلب، و القطع، و النفي ذلّ و هوان للمحاربين المفسدين في الدنيا، ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين.

قوله تعالى: وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ .

لا يعلم قدره لعظم جنايتهم. و إنّما اقتصر في الدنيا على الخزي و في الآخرة على العذاب، لأنّ الخزي في الدنيا أعظم من عذابها، و عذاب الآخرة أعظم من الخزي في الدنيا.

و الآية المباركة تدلّ على الجمع بين عقاب الدنيا و عذاب الآخرة، و هو يدلّ على عظم الجناية لما لها الأثر الكبير في النفوس و تدنيسها بارتكاب الفواحش و الآثام، و قلّما تكون جناية يجمع فيها بين الأمرين، فإنّه قد دلّت روايات متعدّدة على أنّ الحدّ في الدنيا و الجزاء الدنيويّ يرفع العقاب في الآخرة، إلاّ في بعض الجنايات، منها هذه الجناية، كما تدلّ عليه الآية الشريفة، فلا يستفاد منها قاعدة كلّية.

قوله تعالى: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ .

الاستثناء من عقاب المحاربين المفسدين في الأرض، الذين حكم عليهم بالخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة.

ص: 203

و حطّ العذاب عنهم بشرط التوبة قبل القبض عليهم، فإنّها ناشئة عن العلم بقبح عملهم و العزم على عدم العود، و هي التوبة النصوح.

و أما بعد القبض، فلا أثر للتوبة، فإنّ منشأها الخوف من عقاب الدنيا، و لذا لا يسقط الحدّ عنهم.

قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

لأنّه بالتوبة صار أهلا لمغفرته و رحمته. أي: فاعلموا أنّ اللّه يغفر لهم ذنوبهم، و يرحمهم برفع العقاب عنهم.

و قيل: إنّ الآية المباركة تدلّ على تعلّق المغفرة بغير الأمر الاخرويّ . و لكن يمكن القول بشمول المغفرة و الرحمة لكليهما، العقاب الدنيويّ و العذاب الاخرويّ .

ص: 204

بحوث المقام
بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ ، على أنّ محاربة اللّه و رسوله من الأمور المبغوضة عند الفطرة الإنسانيّة، حيث لم يذكر سبحانه و تعالى حكم المحاربة، و أوكله إلى الفطرة، و ذكر جزاءها الذي يدلّ على أنّها من المعاصي الكبيرة التي أوعد اللّه تعالى عليها النّار، و المحاربة مع اللّه تعالى و رسوله معلومة لكلّ إنسان تدعو فطرته إلى عبادة خالقه و الوفاء بعهوده، التي منها الالتزام بأداء التكاليف و مراعاة حقّ العبوديّة معه عزّ و جلّ ، و لأجل ذلك أطلق الكلام في المقام و لم يذكر خصوصيات المحاربة، و إن بيّن في بعض الموارد و في مواضع من القرآن الكريم و السنّة الشريفة، قال تعالى في النهي عن الربا: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اَللّهِ وَ رَسُولِهِ [سورة البقرة، الآية: 279].

و المستفاد من جميع ذلك أنّ المحاربة تتحقّق بمحاربة الشرع و مقاومة تنفيذه و الاستهزاء بالأحكام الإلهيّة و هتك حرمات اللّه تعالى، و يدلّ على ذلك التعليل الوارد في بناء المنافقين لمسجد ضرار: وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ اَلْحُسْنى وَ اَللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ [سورة التوبة، الآية:

107]، و عموم الآية الشريفة يشمل الجميع، فلا تختصّ المحاربة بالمسلمين فقط، بل يشمل الكفّار أيضا، فكلّ من انطبق عليه عنوان المحارب مع اللّه و رسوله، يشمله حكمه و ينفذ فيه جزاؤه في جميع الأعصار و بأي شكل كانت المحاربة.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً ، على أنّ مجرّد

ص: 205

الفساد ليس كافيا في صدق عنوان المحارب على المفسد، بل لا بدّ أن يكون سعيا منه في الفساد و الإفساد. و لم يبيّن عزّ و جلّ خصوصيات الفساد في المقام، لمعلوميته لدى كلّ عاقل، و قد ذكر في القرآن الكريم من مصاديقه قتل النفس المحترمة، قال تعالى حاكيا عن الملائكة: قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ اَلدِّماءَ [سورة البقرة، الآية: 30].

و منها: قطع ما أمر اللّه به أن يوصل، قال تعالى: وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اَللّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي اَلْأَرْضِ * [سورة البقرة، الآية: 27].

و منها: إهلاك الحرث و النسل، قال تعالى: وَ إِذا تَوَلّى سَعى فِي اَلْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ اَلْحَرْثَ وَ اَلنَّسْلَ وَ اَللّهُ لا يُحِبُّ اَلْفَسادَ [سورة البقرة، الآية: 205].

و منها: ترك بعض الأمور الاجتماعيّة الواجبة التي لها دخل في تنظيم المجتمع الإسلاميّ و إقامة أركان العدل الإلهيّ ، قال تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اَللّهِ وَ اَلَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اِسْتَنْصَرُوكُمْ فِي اَلدِّينِ فَعَلَيْكُمُ اَلنَّصْرُ إِلاّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اَللّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي اَلْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ [سورة الأنفال، الآية: 73].

و منها: الطغيان في البلاد، قال تعالى: اَلَّذِينَ طَغَوْا فِي اَلْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا اَلْفَسادَ [سورة الفجر، الآية: 11-12].

و منها: ابتغاء العلو في الأرض، قال تعالى: لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً [سورة القصص، الآية: 83]، و قد ورد في شأن فرعون:

يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ اَلْمُفْسِدِينَ [سورة القصص، الآية: 4].

و منها: بخس النّاس أشياءهم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * [سورة هود - 85].

ص: 206

و منها: بخس النّاس أشياءهم، قال تعالى: وَ لا تَبْخَسُوا اَلنّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي اَلْأَرْضِ مُفْسِدِينَ * [سورة هود - 85].

و من ذلك يعلم أنّ ما ورد في السنّة الشريفة إنّما هو من باب المثال، كقطع الطريق و إخافة الناس و إزاحة الأمن و الأمان و السلب و النهب و الإخلال بالنظام.

و الظاهر من الآيات الشريفة الواردة في مواضع متفرّقة أنّ الفساد في الأرض من مظاهر محاربة اللّه و رسوله، بل هما متلازمان، فإذا اطلق أحدهما يراد به الآخر أيضا.

الثالث:

يستفاد من قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ، أنّ المحاربة على مراتب و درجات، لكلّ مرتبة منها حدّ خاصّ موكول إلى نظر الإمام العادل المخالف لهواه في تشخيصه، و يدلّ على ما ذكرناه بعض الروايات.

و المستفاد من الآية المباركة أنّ المناط في إجراء الحدّ ليس مجرّد القتل و الصلب و غيرهما، بل الغرض هو تطهير الامّة منهم و تهذيب نفوس الأشرار، فيحتاج إلى مزيد عناية في القتل و الصلب و القطع بأن يكون كلّ واحد من الأربعة عملية إصلاحية تربويّة، فيكون تقتيلا مع شدّة ليكون ردعا للغير و إصلاحا للامة، و كذا الصلب و القطع.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي اَلدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ ، على أنّ الحدّ و الخزي في الدنيا و العذاب في الآخرة إنّما يكون خاصّا بهم لا يتعدّاهم إلى غيرهم، الذين قد يتّفق أن يكون عملهم عمل المحارب، ما لم ينطبق عليهم عنوان المحاربين، كما يدلّ على أنّ العذاب في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير فسادهم و إفسادهم، و ذلك قد يلازم الخلود كما فصّلناه سابقا.

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ على عدم المطالبة بشيء من الجزاء السابق لمن تاب من المحاربين قبل القدرة عليه، و التصدير بجملة: «فاعلموا»، للدلالة على تحقّق الغفران و ثبوته فوق كلّ شيء من العواطف و الأهواء و النزعات، و تقدّم الكلام في نظير هذه الآية الشريفة في سورة البقرة فراجع.

ص: 207

بحث روائي:

في التهذيب للشيخ بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قوم من بني ضبّة مرضى، فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: أقيموا عندي، فإذا برأتم بعثتكم في سرية، فقالوا: أخرجنا من المدينة، فبعث بهم إلى إبل الصدقة يشربون من أبو الها و يأكلون من ألبانها، فلما برأوا و اشتدّوا قتلوا ثلاثة ممّن كان في الإبل، فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فبعث إليهم عليّا عليه السّلام، و إذا هم في واد قد تحيّروا ليس يقدرون أن يخرجوا منه قريبا من أرض اليمن، فأسرهم و جاء بهم إلى رسول اللّه، فنزلت الآية: إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ .

أقول: و قريب منه ما في الكافي. و أكل اللبن محمول على أكل الأقط المتّخذ من اللبن.

و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات تدلّ على أنّ القوم من بني عرينة أو عكل، و سمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله أعينهم لأنّهم سملوا أعين الرعاة، و في بعضها نهي عن سمل الأعين بعد ذلك، و لم يرد في رواياتنا سمل الأعين على ما تفحّصت عاجلا، لأنّ ذلك من المثلة، و قد نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله عنها.

و كيف كان يستفاد من هذه الرواية و أمثالها أمور:

الأوّل: أنّ الخيانة و الغدر و الإفساد مرفوضة في الشرع بجميع وجوهها، و لا بدّ من التصدّي لمنعها بكلّ السبل.

الثاني: أنّ جزاء الخيانة لا بدّ أن لا يتعدّاها، لقاعدة المثليّة في العقوبات، و قد تكون الخيانة عظيمة و الغدر كبيرا، فجزاؤهما يكون كذلك.

الثالث: أنّ الجزاء المترتّب على الخيانة المعبّر عنه في الشرع بالحدّ أو التعزير أو القصاص و النفي، لا بدّ أن يكون تحت إشراف ولي الأمر، سواء كان نبيّا أو نائبا عنه، كالفقيه الجامع للشرائط، و لا يستلزم إراقة الدماء و هدرها بلا مبرر، لأنّه

ص: 208

يوجب الفوضى في المجتمع.

و الرواية من باب التطبيق، و إنّ نزول الآية في واقعة لا يصير مخصّصا لها، كما هو واضح.

و في الكافي بإسناده عن عمرو بن عثمان بن عبيد اللّه المدائني، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «سئل عن قول اللّه عزّ و جلّ : إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي اَلْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ اَلْأَرْضِ ، فما الذي إذا فعله استوجب واحدة من هذه الأربع ؟ فقال: إذا حارب اللّه و رسوله و سعى في الأرض فسادا و لم يقتل و لم يأخذ المال، نفي من الأرض، قلت: كيف ينفى في الأرض، و ما حدّ نفيه ؟ قال: ينفى من المصر الذي فعل فيه ما فعل إلى مصر غيره، و يكتب إلى أهل ذلك المصر أنّه منفيّ فلا تجالسوه و لا تبايعوه و لا تناكحوه و لا تؤاكلوه و لا تشاربوه، فيفعل ذلك به سنة، فإن خرج من ذلك المصر إلى غيره، كتب إليهم بمثل ذلك حتّى تتمّ السنة، قلت: فإن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها؟ قال: إن توجّه إلى أرض الشرك ليدخلها قوتل أهلها».

أقول: ظاهر الرواية الترتيب في إجراء الحدود بحسب اختلاف مراتب الفساد، و لكن ذكرنا في الفقه أنّ ذلك يدور مدار نظر الحاكم الشرعيّ و ما يترتّب من المصالح و المفاسد، حسب اختلاف الظروف و الأشخاص، فيصنع بهم على قدر جنايتهم، كما تدلّ على ذلك رواية جميل بن دراج عن الصادق عليه السّلام في تفسير الآية المباركة، «قلت له: أيّ شيء عليهم من هذه الحدود التي سمّاها اللّه عزّ و جلّ؟ قال عليه السّلام: ذلك إلى الامام إن شاء قطع، و إن شاء نفى، و إن شاء صلب، و إن شاء قتل. قلت: النفي إلى أين ؟ قال عليه السّلام: ينفى من مصر إلى آخر، و قال: إن عليّا عليه السّلام نفى رجلين من الكوفة إلى البصرة».

على أنّ سياق الآية المباركة يدلّ على ما ذكرنا من التخيير للإمام الذي يراعى المصالح، و ما دلّ على الترتيب يحمل على الأولويّة و الأفضليّة، و تقدّم البحث

ص: 209

في كتاب الحدود من (مهذب الأحكام)، من شاء فليرجع إليه.

ثمّ إنّ المستفاد من الآية المباركة و السنّة الشريفة أنّ حدّ المحارب هو ما تقدّم بلا طرو موجب آخر، فمن شهر سيفا أو سعى في الأرض فسادا و قتل نفسا تؤخذ منه الدية لو رضي أولياء المقتول بها ثمّ يقتل، لأنّه محارب و مفسد، أو ينفى من الأرض حسب ما يراه الحاكم الشرعي، كما ورد في رواية محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أصلحك اللّه، أ رأيت إن عفى عنه أولياء المقتول ؟ فقال أبو جعفر عليه السّلام: إن عفوا عنه فعلى الإمام أن يقتله، لأنّه قد حارب و قتل و سرق، فقال أبو عبيدة: فإن أراد أولياء المقتول أن يأخذوا منه الدية و يدعونه، ألهم ذلك ؟ قال: لا، عليه القتل» و تمام الكلام موكول إلى الفقه.

و في تفسير علي بن إبراهيم بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من حارب اللّه و أخذ المال و قتل، كان عليه أن يقتل و يصلب، و من حارب و قتل و لم يأخذ المال، كان عليه أن يقتل و لا يصلب، و من حارب و أخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن يقطع يده و رجله من خلاف، و من حارب و لم يأخذ المال و لم يقتل، كان عليه أن ينفى، ثمّ استثنى فقال: إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ، يعني يتوبوا من قبل أن يأخذهم الإمام».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بصدر الرواية، و أما ذيلها فإنّ مقتضى سعة رحمته و بسط فضله و حبّه لخلقه أن يكون الأمر كذلك، و اللّه العالم.

و ذكر السيوطي في الدرّ المنثور روايات توافق مضمونها مع ما تقدّم، فلا حاجة إلى سردها و المناقشة في الأمور البسيطة فيها.

و في الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أيّ شيء يقول فيه من قبلكم ؟ قلت: يقولون هذه دغارة معلنة، و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك ؟ قلت: دار الإسلام، فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ - إلى آخر الآية».

ص: 210

و في الكافي بإسناده عن سورة بن كليب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: رجل يخرج من منزله يريد المسجد أو يريد حاجة، فيلقاه رجل فيستقفيه فيضربه فيأخذ ثوبه ؟ قال: أيّ شيء يقول فيه من قبلكم ؟ قلت: يقولون هذه دغارة معلنة، و إنّما المحارب في قرى مشركة، فقال: أيها أعظم حرمة دار الإسلام أو دار الشرك ؟ قلت: دار الإسلام، فقال: هؤلاء من أهل هذه الآية إِنَّما جَزاءُ اَلَّذِينَ يُحارِبُونَ اَللّهَ وَ رَسُولَهُ - إلى آخر الآية».

أقول: ما ذكره الراوي من أنّ المحارب يختصّ بالمشركين، وردت بذلك روايات ذكرها السيوطي في الدرّ المنثور، و إنّ مقتضاها تفوق أهل الشرك على المسلمين في هذا الحكم، و هذا ممّا لا يرضاه العقل و النقل، كما أشار إليه الإمام عليه السّلام، و لا يخفى أنّ الرواية من باب التطبيق لا التخصيص، و اللّه العالم.

بحث عرفاني:

تقدّم سابقا أنّ الأسباب في تطهير النفوس المنحرفة عن فطرتها المستقيمة و تزكيتها كثيرة جدا، بل عن بعض أنّها معسورة الحصر، و عدّوا منها الحدود و التعزيرات، كما ورد في بعض الروايات التصريح بذلك.

و التعبير بأنّ الحدود و التعزيرات فيوضات إلهيّة و مكارم ربانيّة لأجل صلاح المجتمع و إصلاحها في عالم الشهادة و الفوز بالمقامات السامية في عالم الآخرة، كان مطابقا للواقع. هذا كلّه إذا لم تكن الجريمة ممّا يوجب غضبه تعالى و سخطه، و إلاّ لا يطهّره الحدّ و التعزير في عالم الشهادة، لأنّ الظرف غير قابل لذلك، فينتقم اللّه منه في عالم الآخرة، و لعلّ ما ورد في بعض العقوبات أنّه لم يجعل الشارع له حدّا خاصّا في الدنيا لأجل ذلك و أنّه يوجب سخطه.

إن قلت: إنّ الصفات السيئة و الأفعال القبيحة كلّها توجب غضبه و سخطه، و إنّ الحدود جزاء شرعيّ ، و إنّ العقاب تابع لسخطه و غضبه.

قلت: أوّلا: أنّ غضبه و سخطه لهما مراتب متفاوتة شدّة و ضعفا - بل متابينة - و أنّ الحدود توجب رفعهما و إزالة الجريمة و الخبث الباطنيّ ، فيرضى اللّه عنه.

و ثانيا: أنّ الحدود توجب محو الذنوب، و إنّها كالتوبة، و بعد ذلك لا وجه لأنّ يكون العبد مورد غضبه و سخطه.

و الحاصل: أنّ الغضب الإلهيّ و السخط الربانيّ يرتفعان بما قرّره الشارع

ص: 211

لرفعهما، سواء كان حدّا أو تعزيرا أو توبة نصوحا. نعم جعل العبد نفسه مورد تعلّق غضبه تعالى ينافي العبوديّة و يضاد الانقياد، و لا يناسب السير و السلوك، و عن بعض أعلام العرفاء: التخلية بترك المساوئ و هجرها أولى من التحلية بفعل الحسنات. و إنّ بعض الآيات المباركة تشير إلى ذلك أيضا، و اللّه العالم، و للبحث ذيل يأتي في الموارد المناسبة للآيات الشريفة.

ص: 212

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُف.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40) لما بيّن عزّ و جلّ جزاء المحاربة و عظيم جنايتها لما لها من الأثر السيء في النفوس و تعطيل النظام، فكان الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة، و في هذه الآيات الشريفة ذكر سبحانه و تعالى بعض الطرق لإصلاح النفوس و ترويضها على احترام المواثيق و العهود و نبذ الفساد و الإفساد، فأمر عزّ و جلّ بالتقوى لعظيم أثرها في تهذيب الإنسان و إصلاحه ثمّ بالطاعة و الإخلاص له لترويض النفوس على التوجّه إليه تعالى و التوسّل به في قضاء الحاجات و صرف النظر عمّا ليس بمحمود، ثمّ بيّن حال الذين كفروا في يوم القيامة و سوء منقلبهم و خلودهم في النار و العذاب المقيم، و في ذلك الموعظة و العبرة. ثمّ ذكر جزاء السارق و السارقة اللذين يختلفان عن المحاربين في أنّهما يسرقان خفية دون المحاربين، و جعل عقاب السارقين بما اجتمع فيه الوازع النفسيّ و التهذيب و الإصلاح و الخوف من العقاب و النكال و العبرة، فلم يقتصر فيه على جانب واحد و جعل الباب مفتوحا لمن يتوب و يريد الإصلاح، فإنّ اللّه غفور رحيم يقبل توبة عباده إذا صلحوا. ثمّ ختم الآيات الشريفة بإثبات القدرة التامّة و نفوذ حكمه في مخلوقاته، زيادة في المهابة

ص: 213

و تحقيقا للهداية و الموعظة التي ما برح القرآن الكريم عنهما بأساليب متعدّدة متميّزة لا تبلى جدّتها و لا تملّ قراءتها، فإنّ كلّ أسلوب منها يتضمّن من الأمور البلاغيّة الأدبيّة، و يتخلّله من أسماء اللّه و صفاته العليا، و يشتمل على المعارف و التوجيهات و طلب تقواه تعالى و التوجّه إليه و الإخلاص له، ما يجعل الكلام محبّبا للنفوس، و لذلك ترى أنّ القرآن و إن اشتمل على أهداف معينة و أغراض معلومة قد ذكرت في مواضع متعدّدة، لكنّها ليست من التكرار المملّ ، و هذا من معاجز هذا الكتاب العظيم.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ .

بيان لأحد الكمالات الواقعيّة التي لا بدّ من السعي إليها، و تقدّم الكلام في هذا النداء الربوبيّ الذي يتضمّن من اللطف و التذكير و الموعظة ما لا يتضمّنه أي خطاب آخر، و قد أمر تعالى المؤمنين بالتقوى لما لها الأثر العظيم في تهذيب النفوس و تكميلها بالكمالات الواقعيّة و إزالة الموانع و الحجب و ما يوجب سخطه عزّ و جلّ ، فيكون ترتّب ما يأتي على هذا الحكم كترتّب المعلول على العلّة التامّة.

قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ .

مادة (وسل) تدلّ على التقرّب و التوصّل إلى أمر بشيء. يقال: وسل إلى كذا، أي: تقرّب إليه بشيء، و الوسيلة فعيلة بمعنى ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى و يتوصّل إليه عزّ و جلّ ، من ترك المعاصي و فعل الطاعات مع الرغبة إلى من يتقرّب إليه و ما يتقرّب به، و قال الراغب: إنّها أخصّ من الوصيلة، لتضمّنها معنى الرغبة، و حقيقة الوسيلة إلى اللّه تعالى مراعاة سبيله بالعلم و العبادة و تحرّي مكارم الشريعة.

أقول: لا ريب أنّ التقرّب إليه تعالى و التوسّل به إلى ثوابه و الزلفى منه، إنّما

ص: 214

يشترط أن يكون موافقا لما ورد في الشرع المبين، كما أنّ فعل الطاعات و ترك المعاصي لا بدّ أن يكون مع العلم و تحرّي مكارم الشريعة، و قد ورد في بعض الأخبار: «انّ اللّه لا يقبل دعاء قلب ساه أو لاه»، فالعلم و موافقة الشرع المبين من مقوّمات التقرّب إلى اللّه تعالى. و من هنا كان ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ من شؤون العبوديّة للّه تعالى، التي لا تتحقّق إلاّ بإيجاد الرابطة بين العبد و ربّه، فيكون المراد من ابتغاء الوسيلة ابتغاء الطاعة للّه تعالى التي لا يمكن أن تتحقّق إلاّ بذلّ العبوديّة و توجيه المسكنة و الفقر إليه عزّ و جلّ و التضرّع لدى جنابه و الخشية منه تعالى، و لا يمكن الوصول إلى ذلك إلاّ باتّباع الشريعة و التقوى، فكانت التقوى هي العلّة و الغاية، و هذا يدلّ على أهميّة التقوى، فإنّه قلما اجتمع في شيء العلّة الفاعليّة و الغائيّة. و لعلّه لأجل ذلك أمر بالتقوى أوّلا، ثمّ بابتغاء الوسيلة إليه، و هذه الآية الشريفة على إيجازها البليغ تتضمّن جميع الكمالات الواقعيّة، فهي الذريعة لكلّ خير و سعادة، و منجاة من كلّ شقاء و عذاب، و فيها تظهر حقيقة العبوديّة و تزول الحجب و الأغيار، فإنّه لا منجى إلاّ بالتوسّل إليه عزّ و جلّ و الإعراض عمّا سواه، و ابتغاء الوسيلة إليه تبارك و تعالى لا يختصّ بطريقة معينة، بل كلّ ما يوجب التوسّل به إليه فهو صحيح، ففي الحديث: «انّ الطرق إلى اللّه تعالى بعدد أنفاس الخلائق»، إلاّ ما ورد النهي عنه في الشريعة الغرّاء كما في عبادة الأصنام و الذبح لغير اللّه تعالى و غيرهما ممّا حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم و ما ذكر في السنّة الشريفة، و ليس من الأخير التوسّل بالأنبياء و الأولياء كما يزعمه بعض، فإنّ اللّه تعالى جعلهم أبواب رحمته في الأرض، و قد قال تعالى: وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها [سورة البقرة، الآية: 189]، و سيأتي في الموضع المناسب تفصيل الكلام إن شاء اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ .

كمال آخر من الكمالات الواقعيّة، و ترتّبه على سابقه من قبيل ترتّب المقتضى (بالفتح) على المقتضى (بالكسر)، فيكون المراد من الجهاد الأعمّ من الأصغر

ص: 215

و الأكبر، كما أنّ المراد من سبيله هو الجهاد في ما يرتضيه تبارك و تعالى.

فيكون المعنى: جاهدوا أنفسكم بحملها على اتّباع الحقّ و ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و كفّها عن الأهواء، و جاهدوا أعداء اللّه تعالى الذين يصدّون عن الحقّ ، و احتمل بعضهم أن يكون المراد منه هو الجهاد مع الكفّار، نظرا إلى تقييده بكونه في سبيل اللّه تعالى، الذي إذا ذكر مع الجهاد يكون المراد منه القتال، بخلاف ما إذا أريد الأعمّ فإنّه يكون خاليا عن التقييد، كقوله تعالى: وَ اَلَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اَللّهَ لَمَعَ اَلْمُحْسِنِينَ [سورة العنكبوت، الآية: 69].

و على هذا، يكون ذكره بعد الأمر بابتغاء الوسيلة إليه من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ لأهمّيّته. إلاّ أنّه ممّا يبعد هذا الاحتمال سياق الآية الشريفة و القرائن المحفوفة بها، التي تدلّ على أنّ المراد منه الأعمّ ، و التقييد بكونه في سبيل اللّه لا يصرفه عن المعنى العامّ ، لا سيما بعد كون الجهاد مع النفس من أصعب الأمور، و تتداخل فيه كثير من الأوهام و الظنون، و هو مزلّة الأقدام و ممتحن الرجال، فلا بدّ من تحديد مسلكه و تعيين طريقه بكونه في سبيل اللّه، لئلاّ يكون مرتع الشيطان، و نظير هذا قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ آمَنُوا وَ اَلَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اَللّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اَللّهِ [سورة البقرة، الآية: 218].

قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ .

أي: إذا تحقّق ذلك كلّه منكم فهو السبب للفوز بالفلاح، الذي هو أقصى الغايات و أبعدها، فإنّه الوصول إليه عزّ و جلّ و الفوز بكرامته و السعادة في المعاش و المعاد، و هذا هو الكمال الذي يسعى إليه الإنسان في سعيه و تحمّله الجهد و المشقّة في ابتغاء مرضاة اللّه تعالى و التقرّب إليه.

قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً .

تعليل لمضمون ما قبله، و تأكيد على وجوب مراعاة الأحكام السابقة، و ترغيب في المسارعة إلى تحصيل الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و بيان إلى بطلان ما توسّل به الكفّار يوم القيامة للنجاة من العذاب. و الآية تدلّ على أنّ سبب الفلاح و النجاة

ص: 216

كامن في نفس الإنسان و لا يجديه شيء خارج إذا لم يكن راجعا إلى كسب الإنسان و فعله، و قد أكّد عزّ و جلّ ذلك في عدّة مواضع من القرآن الكريم، قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّاها. وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسّاها [سورة الشمس، الآية: 9-10].

و معنى الآية: أنّ الذين كفروا لو افتدوا جميع ما في الأرض لينجيهم من عذاب يوم القيامة لم ينفعهم ذلك، و لا يكون بدلا عمّا ذكره عزّ و جلّ في صدر الآية من التقوى و ابتغاء الوسيلة و المجاهدة في سبيله، فإنّ تلك هي التي تصرف العذاب عن أنفسكم. و إنّما اقتصر عزّ و جلّ على الفدية بما في الأرض، لأنّها أقصى ما يقدر عليه ابن آدم من الملك الدنيويّ عادة.

قوله تعالى: وَ مِثْلَهُ مَعَهُ .

زيادة في الرغبة و تأكيد على كينونة ما في الأرض، و المثل على طريق المعيّة لا بطريق التعاقب، لبيان فظاعة الأمر و هول الموقف.

قوله تعالى: لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ اَلْقِيامَةِ .

أي: ليجعلوه فدية لأنفسهم من عذاب يوم القيامة.

قوله تعالى: ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .

أي: لا يتقبّل اللّه ذلك منهم و لا ينقذهم من العذاب الذي استحقّوه بسبب أعمالهم و لا سبيل لخلاصهم منه، بل هم في عذاب مؤلم في كمال الإيلام لهم، لأنّ من سنّته عزّ و جلّ أنّ الذي ينجيهم من العذاب إنّما هو الإيمان و العمل الصالح. و تقدّم أنّه إنّما يتقبّل اللّه من المتّقين، فلا تنفع الكافرين الفدية، و لا ترفع عنهم العذاب الذي استحقّوه بكفرهم و سيئات أعمالهم.

قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها .

بيان لحالهم في النّار، و هو يدلّ على كمال إحساسهم بالعذاب، و أنّ الفطرة الأصليّة التي كانت تتألّم من العذاب في الدنيا لم تتغيّر و لم تنتف عنهم، بل تتأثّر بالنّار و يتألّمون و يريدون الخلاص من العذاب و الخروج من النار، فإنّها دار العذاب و الشقاء و ما هم بخارجين منها البتة، و الجملة تدلّ على الثبوت و الدوام، و الآية الشريفة تدلّ على عدم قبول الشفاعة و العدل و الفدية منهم.

ص: 217

قوله تعالى: وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ .

تعليل لما سبق، و هو يدلّ على عدم تناهي العذاب كما و كيفا و مدة، أي: لهم عذاب ثابت لا يزول و لا يفارقهم أبدا.

قوله تعالى: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما .

جملة مستأنفة و الواو للاستئناف، و دخول الفاء على الخبر يدلّ على أنّ الكلام في مقام التفصيل.

و التقدير: و أما السارق و السارقة... إلخ. و السرقة هي أخذ الشيء في خفية، و منه استراق السمع، و سارقة النظر، و منها السرقة في الفقه الإسلامي، أي: أخذ مال الغير خفية. و السرق و السرقة (بكسر الراء فيهما) اسم للشيء المسروق، و المصدر من سرق يسرق سرقا (بفتح الراء)، فإن أخذ من ظاهر فهو مختلس، و مستلب، و منتهب، و محترس الذي يسرق حريسة الجبل، يشمل الجميع الغصب.

و قد تستعمل السرقة في مطلق النقص، كما في الحديث عن نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله:

«و أسوأ السرقة الذي يسرق من صلاته، و قيل: و كيف يسرق من صلاته ؟ قال صلّى اللّه عليه و آله: لا يتمّ ركوعها و لا سجودها».

و القطع هو الإبانة و الإزالة، و الآية الشريفة و إن كانت مطلقة، إلاّ أنّ السنّة الشريفة بيّنت شروط الحكم، فلا يصحّ إجراء الحدّ إلاّ إذا توفّرت جميع الشروط المعتبرة في السارق و الشيء المسروق و المسروق منه، فليس كلّ سرقة يجري عليها الحكم المزبور، كما هو مذكور في الفقه. راجع كتانا مهذب الأحكام.

و اليد هي الجارحة المعروفة، و تطلق في الإنسان على المحدود من المنكب إلى أطراف الأصابع، و قد يطلق على الأبعاض أيضا كما عرفت في آية الوضوء. و المراد منها في المقام جزء معين، و هو الأصابع كما دلّت عليه الروايات المتعدّدة، و سيأتي نقل بعضها.

و ذهب الجمهور إلى أنّ القطع من الرسغ، و قيل: من المنكب، و المسألة محرّرة في الفقه.

ص: 218

و استعمال الجمع (أيديهما) مع أنّ المراد منه التثنية، إما لأجل ما قيل من أنّه استعمال شائع في أعضاء الإنسان المزدوجة، كالقرنين و الأذنين و اليدين و الرجلين و القدمين، فكلّ شيء يوجد في الإنسان إذا أضيف إلى مثنى جمع، تقول: أشبعت بطونهما و هشّمت رؤوسهما، قال تعالى: إِنْ تَتُوبا إِلَى اَللّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما [سورة التحريم، الآية: 4].

أو لأجل أنّ كلّ مفرد إذا أردت به التثنية قد يجمع، كما حكي: وضعا رحالهما، يريد به رحلي راحلتيهما، و قيل غير ذلك.

و الظاهر أنّ الآية الشريفة ترمز إلى معنى أدق من تلك، و هو أنّ الموضوع لما كان من الأمور الاجتماعيّة التي تضرّ بالاجتماع و يفسد أخلاق أفراد المجتمع، فإذا قام أحد منهم بالسرقة فالمجتمع هو المسؤول عن تقويمه و تهذيبه، و إلاّ كانوا مقصّرين، يشترك كلّ واحد من أفراده في هدم كيان المجتمع، و لعلّه لذلك استعمل لفظ الجمع لإلقاء المسؤوليّة على المجتمع في الحفظ و التربية و الإصلاح.

و كيف كان، فالمخاطب في قوله تعالى: فَاقْطَعُوا من له أهليّة إقامة الحدود، كالأنبياء و الأوصياء و حكّام الشرع المبين، فليس لكلّ أحد إقامة الحدّ، إلاّ إذا رجع إليهم و أذنوا له بإقامة الحدّ. و التصريح بأنّ الحدّ يشترك فيه الرجال و النساء كما في حدّ الزنا، لأنّ كلّ واحد من الذنبين يقع من كلّ منهما، فأراد اللّه تعالى زجرهما معا و التأكيد على قبحه، و إن كانت النساء تشترك مع الرجال في الأحكام. و إنّما قدّم السارق في آية السرقة، و قدّم الزانية في آية الزنا، لأنّ السرقة في الرجال أشيع منها في النساء، لأنّها مبنيّة على القوّة، و هي في الرجال أكثر، كما أنّ الزنا في النساء أشيع منه في الرجال، لأنّه مبنيّ على الشهوة، و هي في النساء أشدّ.

قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا .

تعليل لما سبق، و هو منصوب إما لكونه مفعولا لأجله. أو حالا من القطع الفهوم من قوله سبحانه فَاقْطَعُوا . و الباء للسببية، أي: فاقطعوا أيديهما جزاء

ص: 219

لهما بعملهما الشنيع و كسبهما السيء، و إنّما ذكر الكسب لبيان أنّ السرقة إنّما تباشر بالأيدي فتقطعان لما باشراه من الكسب.

قوله تعالى: نَكالاً مِنَ اَللّهِ .

مادة (نكل) تدلّ على الحجز و المنع، و استعملت في العقوبة لأنّها تمنع الناس عن الذنب، و منه النّكل (بالكسر) لقيد الدابة.

و لا ريب في أنّ قطع اليد من أجدر العقوبات لمنع السرقة، فإنّه يفضح صاحبه و تكون علامة من علامات الذلّ و العار، ليكون منعا له عن ارتكاب الجرم، و عبرة يعتبر بها غيره من الناس فيكونوا في مأمن من أموالهم و أرواحهم.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ .

أي: و اللّه غالب على أمره لا يقهره أحد، حكيم في أفعاله و تشريعاته.

قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ .

تفريع على ما ذكره عزّ و جلّ من كون الحدّ جزاء بما كسبا و نكالا، فإنّ الهدف من تشريعه هو المنع من السرقة و رجوع المنكول به عن معصيته. فمن تاب من السرّاق من بعد ظلمه على نفسه و على الآخرين، و رجع عن ذنبه رجوع ندم على ما فعل، و عزم على الترك، و أصلح نفسه بالتزكية، و أرجع ما سرقه إلى أصحابه، و تفصى من تبعاته، و قد عرفت في بحث التوبة أنّ ما اجتمع فيه حقّ اللّه تعالى و حقّ الناس لا تتمّ التوبة إلاّ بأداء الحقّين، و يكفي في حقّ اللّه تعالى الندم و العزم على الترك. و أما حقّ الناس فيعتبر فيه الإصلاح، و هو يختلف باختلاف الموارد، ففي السرقة يجب ردّ المسروق إلى مالكه و الاسترضاء منه.

قوله تعالى: فَإِنَّ اَللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ .

أي: يقبل اللّه تعالى توبته، فلا يؤاخذه بالجريرة و يغفر له و يسقط عنه العذاب. و إطلاق الآية الشريفة يقتضي سقوط الحدّ عنه، كما يدلّ عليه بعض الروايات أيضا.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ .

تعليل لما سبق، أي: أنّ ذلك من مقتضى رحمته، و هو الغفور الرحيم، و الآية

ص: 220

تدلّ على أنّ التوبة و المغفرة تفضّل منه تبارك و تعالى.

قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ .

تعليل يبيّن وجه الحكمة في التشريع السابق، و الخطاب لنبيّه الكريم إرشادا لمن له أهليّة الخطاب، و فيه إيماء إلى أنّ السارق الذي يريد من السرقة جمع المال فهو مخطئ في ذلك، فإنّ اللّه له ملك السماوات و الأرض، يهب لمن يشاء و يمنع عن من يشاء، فهو القادر على كلّ شيء.

قوله تعالى: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ .

بيان لبعض شؤون ملكيته لما سواه، فإنّ له أن يحكم في مملكته و رعيته بما يشاء و يريد من عذاب و رحمة. و في الآية التعليل أيضا على قبول توبة السارق و السارقة إذا تابا و أصلحا من بعد ظلمهما. و إنّما قدّم العذاب على الرحمة خلافا لما هو المعهود من تقديم الأخيرة على الأوّل، لمراعاة الترتيب في صدر الآية الشريفة، حيث ذكر جزاء السارق و السارقة ثمّ ذكر التوبة، فلا ينافي سبق رحمته على عذابه.

قوله تعالى: وَ اَللّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ .

تقرير لمضمون ما سبق، و تعليل لقوله تعالى: لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، فإنّ من شؤون الملك هو القدرة التامّة، التي هي من مظاهر قيوميته المطلقة. و قد تقدّم في آية الكرسي من سورة البقرة بعض الكلام فراجع.

ص: 221

بحوث المقام
بحث أدبي:

الظرف في قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، متعلّق ب (الوسيلة) قدّم عليها للاهتمام، و هي صفة لا مصدر حتّى يمتنع تقدّم معموله عليه، و قيل: متعلّق بالفعل قبله. و قيل: بمحذوف وقع حالا منه. و (لو) في قوله تعالى: لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ ، خبر (ان) في قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا ، و جوابها ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ . و (مثله) في قوله تعالى: وَ مِثْلَهُ مَعَهُ ، معطوف على (ما) في قوله تعالى:

ما فِي اَلْأَرْضِ ، الذي هو اسم (أن) و (لهم) خبرها. و قيل غير ذلك. و إنّما ذكر (لو) لتهويل الأمر و تفظيع الحال. و (جميعا) توكيد للموصول، أو حال منه. و قال بعضهم: إنّ (الواو) في وَ مِثْلَهُ مَعَهُ بمعنى (مع)، فيتوحّد المرجوع إليه. و قد فصّل الكلام في المقام بما لا تستدعيه الحال، و من شاء فليراجع الكتب المفصّلة.

و لم يذكر عزّ و جلّ الافتداء المفهوم من الكلام، إيذانا بأنّه أمر محقّق الوقوع غني عن الذكر، و للمبالغة في تحقّق الرد. و ذكر بعضهم أنّ الجملة: «ما تقبّل منهم» تتضمّن التمثيل، و يقصد منها تنزيل التفصي عن العذاب منزلة من يكون له ذلك الأمر العظيم و يحاول التخلّص من العذاب فلا يتقبّل منه، و قال بعضهم: إنّه لا يراد منها الاستعارة التمثيليّة، بل إيراد مثال و حكم يفهم منه لزوم العذاب لهم.

و (يريدون) في قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ ، ظاهر في المعنى الحقيقي، و قيل: محمول على معنى: يكادون يخرجون منها لقوّتها و شدّة عذابها.

و كيف كان، فإنّ في ذكر هذه الحكمة الدلالة على شدّة الحاجة. و الإتيان بالجملة الاسمية: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ، المصدّرة ب (ما) الدالّة على تأكيد النفي لدخول الباء في خبرها، فيه الدلالة على سوء حالهم باستمرار عدم خروجهم

ص: 222

منها، فإنّها تدلّ على دوام الثبوت. أما قوله تعالى: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ ، فالقراءة المعروفة فيهما هي الرفع على الابتداء و الخبر محذوف، و التقدير حكمهما، و قيل: الخبر هو جملة (فاقطعوا). و ردّ بأنّ الفاء لا تدخل إلاّ في خبر المبتدأ الموصول بظرف أو مجرور أو جملة صالحة لأداة الشرط. و قرئ بالنصب على تقدير اقطعوا السارق و السارقة... فيكون النصب على الاشتغال. و ردّ بما هو مذكور في الكتب المفصّلة فراجع.

و الجار و المجرور في قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، خبر مقدّم، و مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ مبتدأ، و الجملة خبر (أن)، و هي مع ما في حيزها سادة مفعولي (تعلم).

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

تعتبر الآية الشريفة يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، من الآيات المعدودة التي اشتملت على أهمّ المعارف الربوبيّة، و هو علم المبدأ و المعاد، و السبيل الموصل إليه تعالى و الفوز بكرامته في الآخرة، و التوجيهات السامية و الإرشادات القيّمة التي تعدّ المؤمن إعدادا علميّا و عمليّا و عقائديّا للفوز بالسعادة و الفلاح. فقد احتوت من المعارف على أسماها، و من الكمالات على أعلاها، و من المكارم على أشرفها و أغلاها، و عالجت أهمّ قضية من قضايا المؤمن بأسلوب موجز فصيح. فأمر عزّ و جلّ أوّلا بالتقوى لأنّها أساس كلّ كمال، و أصل التخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل، و هي المعدّة لابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ ، و المقتضية لامتثال التكاليف الإلهيّة و الجهاد في سبيله، ثمّ إنّ ابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ من أعظم غايات خلق الإنسان، فهو العلّة للدخول في رضوان اللّه تعالى و الفوز بكرامته، و سيأتي في البحث الروائي ما

ص: 223

يدلّ على أنّ الوسيلة هي أعلى درجة في الجنّة، فاجتمعت العلّتان الفاعليّة و الغائيّة في هذا الأمر، و هو يدلّ على أنّه من الأهميّة بمكان عظيم، فإنّ فيه تظهر العبوديّة و تتحقّق الطاعة المطلوبة، و هو الطريق الموصل إلى اللّه تعالى و الصراط المستقيم، و به يستعدّ و يتهيّأ لنيل الفيوضات الربانيّة و الواردات الإلهيّة، و هو الملجأ القويم في التخلّص من مكائد الشيطان و وساوسه، و هو المنجاة من سخط اللّه تعالى و عذابه، و هو الركن الوثيق الذي تركن إليه النفس الإنسانيّة عند تزاحم الصوارف و توارد الهموم و الغموم. و بالجملة: فهو الكمال الذي ينشده الإنسان و يسعى إليه، بل هو الجامع لجملة من الكمالات الواقعيّة.

و لم يبيّن عزّ و جلّ في هذه الآية الشريفة كيفيّة الابتغاء، و لا خصوصيات الوسيلة، و لعلّ السرّ في ذلك واضح، فإنّ فطرة كلّ مخلوق تدعو إلى التوجّه إلى خالقه و التوسّل إليه بكلّ ما أمكنه من الوسائل و العلل لنيل مقصوده، فكلّما صفت الفطرة و خلصت النية من الشواغل الماديّة و الصوارف الشيطانيّة، كانت الوسيلة أنجح و أدلّ على المطلوب، و قد ذكر في الكتاب و السنّة التأكيد على بعض الوسائل، منها: العبادات، و أعظمها الصلاة التي تنهى عن الفحشاء و المنكر. قال عزّ و جلّ من قائل: وَ اِسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ اَلصَّلاةِ [سورة البقرة، الآية: 45].

و منها: الدعاء الذي هو من أعظم الوسائل إليه عزّ و جلّ ، قال تعالى: قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ [سورة الفرقان، الآية: 77]، و في الحديث: «الدعاء سلاح المؤمن، و عمود الدين، و نور السماوات و الأرض»، و تقدّم في بحث الدعاء ما يتعلّق به.

و منها: الصدقات الواجبة و المندوبة، ماليّة كانت أو غيرها، التي حثّ الشرع المبين و أكّد عليها تأكيدا بليغا. قال تعالى: مَنْ ذَا اَلَّذِي يُقْرِضُ اَللّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً [سورة البقرة، الآية: 245]، و قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ اَلْأَرْضِ [سورة البقرة، الآية: 217].

ص: 224

و منها: إقامة الشعائر كالحجّ و زيارة المساجد و القبور و غيرها ممّا ندب إليه الشرع، قال تعالى: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اَللّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى اَلْقُلُوبِ [سورة الحج، الآية: 32].

و منها: التوسّل بخاتم الأنبياء و المرسلين و ذرّيته الطاهرين عليهم السّلام، و زيارة قبورهم و الاعتناء بشأنهم، فإنّهم مظاهر رحمته و مورد لطفه و عنايته، قال تعالى:

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اَللّهَ وَ اِسْتَغْفَرَ لَهُمُ اَلرَّسُولُ لَوَجَدُوا اَللّهَ تَوّاباً رَحِيماً [سورة النساء، الآية: 64]، و قد ورد في السنّة الشريفة روايات متواترة تدلّ على استحباب زيارتهم و التوسّل بهم إلى اللّه تعالى لقضاء الحاجات و نجح المهمات، من شاء فليراجع الكتب المعدّة لذلك.

و منها: الالتزام بإتيان المندوبات و ترك المكروهات، فإنّها من حمى اللّه تعالى، كما في الحديث.

و منها: ذكر اللّه تعالى، كما ندب إليه القرآن الكريم و السنّة الشريفة، قال تعالى: اُذْكُرُوا اَللّهَ ذِكْراً كَثِيراً [سورة الأحزاب، الآية: 41]. و من ذكره عزّ و جلّ ذكر النبيّ و الأئمة الطاهرين بالصلاة عليهم و بيان فضائلهم، فإنّ ذكرهم من ذكر اللّه كما ورد في أحاديث كثيرة.

و يمكن القول بأنّ الوسيلة بمعناها الوسيع يشمل كلّ أمر حسن، فإنّ الطرق إلى اللّه بعدد أنفاس الخلائق، إلاّ ما ورد النهي عنه في الشرع المبين، كعبادة الأوثان و الشرك باللّه تعالى و المحرّمات الشرعيّة.

و منها: التنزيه عمّا حثّ الشارع على تركه، كالمكروهات. و يستفاد من قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، أنّ التقوى و ابتغاء الوسيلة لا يتّمان إلاّ بالجهاد و الصبر على الطاعة أو عن المعصية، و هو محفوف بالمكاره و الصعاب.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، على أنّ الوسيلة التي شرّعها اللّه تعالى للوصول إلى مرضاته و الفوز بكرامته، ما كانت سببا لتزكية النفوس، و ما يعدّ إليها هو العمل المشروع كما عرفت آنفا، و يدلّ على ذلك كلمة

ص: 225

(الابتغاء) الدالّة على التحمّل المكرّر و الجهاد المرير، و ما ذكر من الجزاء الذي أعده لمن يبتغي الوسيلة و هو الفلاح و النجاة.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ، على أنّ المجاهدة إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيلة، و أما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد، فيستفاد منه أنّ الجهاد لا بدّ أن يكون بأمر من الإمام المعصوم و تحت إرشاده.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ على أنّ الفلاح هو الغاية القصوى من عمل الإنسان، لأنّه الجامع لجميع الكمالات الواقعيّة، و لذا نرى أنّه لم يذكره عزّ و جلّ إلاّ بعد بيان جملة من الإرشادات و التعليمات التي تعدّ المؤمن لتلقّي هذا الجزاء العظيم، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اِتَّقُوا اَللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة آل عمران، الآية: 200] و غيرها من الآيات الكريمة.

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي اَلْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ ، أنّ الخلاص من العذاب منحصر في التوسّل بالوسيلة و المجاهدة في سبيله، و أنّ من كفر فلا طريق له إلى الخروج من العذاب و لا منجى له من سخطه عزّ و جلّ و عقابه.

السادس:

يدلّ قوله تعالى: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ اَلنّارِ ، على أنّ الاختيار ثابت في الآخرة أيضا، فلو كان مسلوبا عن الناس يومئذ لما صحّت الإرادة من أهل النار بالخروج منها، فهم يقصدون ذلك و يطلبون المخرج منها، و لكنّهم مقهرون فيها، لأنّه سبقت كلمته عزّ و جلّ أن يعذّب الظالمين بالنار. ففي الحديث: «يقال لأهل الجنّة: لكم خلود و لا موت، و لأهل النّار: يا أهل النّار خلود و لا موت».

السابع:

يدلّ قوله تعالى: جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اَللّهِ ، على أنّ الحدود التي شرّعها اللّه تعالى في هذه الدنيا إنّما هي جزاء على الأفعال التي اكتسبها الناس، و يطابق الجزاء مع العمل، كما أنّها حدود تربويّة إصلاحيّة لإصلاح النفوس

ص: 226

و تزكيتها و تطهير لهم من الذنب الذي ارتكبوه، فليست هي انتقاما من فرد لصالح أفراد أو مجتمع.

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اَللّهَ لَهُ مُلْكُ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضِ ، على تمام قدرته و نفوذ سلطانه في مملكته بأبلغ أسلوب و أتمّ وجه.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ ، على أنّ التوبة في المقام لا بدّ أن يظهر أثرها على المذنب بأن يكون عليه سيماء الصالحين التائبين، و قد تقدّم أنّ الصلاح في كلّ ذنب يناسب ذلك الذنب.

العاشر:

يدلّ قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ ، على أنّ العذاب هو الأصل القريب من الإنسان، و إنّما يصرفه عنه الإيمان و التقوى و ابتغاء الوسيلة، و يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي اَلَّذِينَ اِتَّقَوْا وَ نَذَرُ اَلظّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا [سورة مريم، الآية: 71 - 72]، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في قوله تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ اَلنّارِ وَ أُدْخِلَ اَلْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل عمران، الآية: 185].

بحث روائي:
اشارة

في الكافي عن أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة الوسيلة: «أنّها أعلى درجة في الجنّة».

أقول: يستفاد من الحديث أنّ الوسيلة اسم لأعلى درجة في الجنّة، و لعلّه من باب إطلاق السبب على المسبّب.

و في مجمع البيان عن النبي صلّى اللّه عليه و آله: «سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة لا ينالها إلاّ عبد واحد، و أرجوا أن أكون أنا هو».

أقول: بعد ما دلّ على أنّ الوسيلة هي أعلى درجة في الجنّة، فلا تكون إلاّ لمن نال الشرف العظيم و الدرجة الرفيعة و حاز قصب السبق على جميع الأنبياء

ص: 227

و المرسلين، فينحصر في الفرد الواحد و هو خاتم الأنبياء و المرسلين، و يلحق به الأئمة الطاهرون، فإنّهم الوسيلة إلى اللّه تعالى.

و أما طلبه من امّته أن يسألوا اللّه له هذه الدرجة، فإنّما هو لأجل تعليمهم الدعاء و التضرّع لديه عزّ و جلّ ، فإنّه لم ينل أحد الدرجة إلاّ من أفاضها اللّه تعالى عليه.

و في العيون عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ ، قال:

«الأئمة من ولد الحسين من أطاعهم فقد أطاع اللّه، و من عصاهم فقد عصى اللّه، و هم العروة الوثقى و الوسيلة إلى اللّه».

أقول: الروايات في مضمون ذلك متعدّدة، و هي من باب بيان أجلى المصاديق و أهمّها، بل يستفاد من ظاهر الآية الشريفة الآمرة بالتقوى و الجهاد في سبيله أنّ الوسيلة منحصرة فيهم عليهم السّلام، فلا يمكن أن تتحقّق في غيرهم، فإنّ بهم يكمل الإيمان و تتمّ التقوى و يتحقّق الجهاد، و من ذلك يظهر الوجه فيما رواه العياشي عن منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في قوله تعالى: وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها ، قال: أعداء عليّ عليه السّلام هم المخلّدون في النار أبد الآبدين و دهر الداهرين».

و أما آية السرقة، فهي من آيات الأحكام التي تمسّك بها الفقهاء في كتبهم الفقهيّة لإثبات أحكام السرقة، و نحن نذكر في المقام الروايات الواردة في السرقة، و المال المسروق، و ما ورد في حدّ السرقة و التوبة منها، و نذكر بقية الأحكام في البحث الفقهيّ إن شاء اللّه تعالى.

ما ورد في السرقة:

ففي صحيح محمّد بن مسلم عن الصادق عليه السّلام: «كل من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه، فهو يقع عليه اسم السارق، و هو عند اللّه السارق».

أقول: ظاهر الحديث أنّ كلّ شيء كان في حرز إذا أخذ منه يعدّ سرقة، و لكنّ في رواية السكوني عن جعفر، عن آبائه، عن علي عليهم السّلام قال: «كلّ مدخل

ص: 228

يدخل فيه بغير إذن يسرق منه السارق فلا قطع عليه، يعني الحمّام و الأرحية».

أقول: ظاهره أنّ الأخذ من الموضع الذي يحتاج في الدخول إلى الإذن يعدّ سرقة فهو يشمل ما إذا كان في حرز أو لم يكن، فيكون ما ورد في صحيحة محمّد ابن مسلم من باب المثال لكلّ تصرّف يتوقّف على رضا صاحب المال و الإذن منه، و يدلّ على ما ذكرناه ما رواه أبو بصير، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في من سرق من منزل أبيه فقال: «لا تقطع، لأنّ ابن الرجل لا يحجب من الدخول إلى منزل أبيه، هذا خائن». و كذا ما ورد في من سرق من أخيه و أخته. و في الأجير و الصنف، فإنّه لا قطع عليهم جميعا.

فالمستفاد من جميع ذلك أنّ السرقة التي توجب القطع هي الأخذ من الحرز، أو من موضع لم يكن لغير المتصرّف فيه الدخول إلاّ بإذن صاحبه و حرز كلّ شيء بحسبه، و المسألة مذكورة في الكتب الفقهيّة فراجع.

و من ذلك كلّه يستفاد أنّ السرقة لا بدّ أن تكون سرّا فلا تقع في العلن، و ذكرنا أنّ اشتقاق الكلمة أيضا يدلّ على ذلك.

ما ورد في المال المسروق:

وردت روايات كثيرة على أنّه يعتبر في القطع أن يكون المال المسروق بمقدار ربع دينار.

ففي التهذيب عن محمّد بن مسلم قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: في كم تقطع يد السارق ؟ فقال عليه السّلام: في ربع دينار. قلت له: في درهمين ؟ فقال: في ربع دينار بلغ الدينار ما بلغ، قلت: أ رأيت من سرق أقلّ من ربع الدينار، هل يقع عليه حين سرق اسم السارق ؟ و هل هو عند اللّه سارق في تلك الحال ؟ فقال عليه السّلام: كلّ من سرق من مسلم شيئا قد حواه و أحرزه فهو يقع عليه اسم السارق و هو عند اللّه سارق، و لكن لا تقطع إلاّ في ربع دينار أو أكثر، و لو قطعت يد السارق فيما هو أقلّ من ربع دينار لألفيت عامّة الناس مقطعين».

ص: 229

أقول: هذه الرواية حاكمة على جميع أخبار الباب، لأنّها بين النفي و الإثبات، و بمضمونها روايات اخرى من الخاصّة و الجمهور عمل بها المشهور من الفقهاء.

ففي صحيح البخاري و مسلم بإسنادهما عن عائشة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله قال:

«لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعدا».

و بإزائها روايات اخرى تدلّ على أقلّ من ذلك أو أكثر، و لكنّها إما محمولة أو مطروحة، كما فصّلناه في كتابنا (مهذب الأحكام).

و يستفاد من صحيحة محمّد بن مسلم أنّ حكم القطع عن الأقلّ ارفاقي و تخفيف من اللّه تعالى، رحمة منه بعباده.

ما ورد في حدّ السرقة:

ذكرنا في آية الوضوء و التيمم أنّ اليد في الإنسان تطلق على ما هو المحدود من أطراف الأصابع إلى الكتف، و تطلق على أبعاض ذلك أيضا، إطلاق اسم الكلّ على الجزء بقرينة خاصّة حاليّة أو مقاليّة، و هذا يجري في آية السرقة أيضا و إن كانت مطلقة، إلاّ أنّ الروايات دلّت على أنّ القطع مقيّد بجزء خاصّ ، و يدلّ على ذلك ما رواه الكليني في الكافي عن الصادق عليه السّلام: «أنّه سئل عن التيمم، فتلا هذه الآية: وَ اَلسّارِقُ وَ اَلسّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما ، و قال فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ ، قال: فامسح كفّيك من حيث موضع القطع».

أقول: المستفاد منه أنّ اليد محدود فيهما، و أنّ القطع يقع على جزء من اليد التي يجب غسلها في الوضوء.

و في التهذيب عن إسحاق بن عمّار، عن موسى بن جعفر عليه السّلام قال: «تقطع يد السارق و يترك إبهامه و صدر راحته، و تقطع رجله و يترك عقبه يمشي عليها».

أقول: الرواية تدلّ على أنّ القطع يقع على أطراف الأصابع.

و في تفسير العياشي عن زرقان صاحب ابن أبي داود و صديقه بشدة قال:

«رجع ابن أبي داود ذات يوم من عند المعتصم و هو مغتم فقلت له في ذلك، فقال:

ص: 230

وددت اليوم أنّي قدمت منه عشرين سنة، قلت له: و لم ذاك ؟ قال: لما كان من هذا الأسود أبي جعفر محمّد بن علي بن موسى عليه السّلام اليوم بين يدي أمير المؤمنين المعتصم، قلت له: و كيف كان ذلك ؟ قال: إنّ سارقا أقرّ على نفسه و سأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه و قد أحضر محمّد بن علي عليه السّلام، فسألنا عن القطع في أي موضع يجب أن يقطع ؟ قلت: من الكرسوع، لقول اللّه في التيمم: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ . و اتّفق معي على ذلك قوم، و قال آخرون: بل يجب القطع من المرفق، قال: و ما الدليل على ذلك ؟ قالوا: لأنّه لما قال: وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى اَلْمَرافِقِ في الغسل دلّ ذلك على أنّ حدّ اليد هو المرفق، قال: فالتفت إلى محمّد بن علي عليه السّلام فقال: ما تقول في هذا يا أبا جعفر؟ فقال: قد تكلّم القوم فيه يا أمير المؤمنين، قال: دعني بما تكلّموا به، أي شيء عندك ؟ قال:

اعفني عن هذا يا أمير المؤمنين، قال: أقسمت عليك باللّه لما أخبرت بما عندك فيه، فقال: أما إذا أقسمت عليّ باللّه إنّي أقول: إنّهم أخطئوا السنّة، قال: القطع يجب أن يكون من مفصل اصول الأصابع فيترك الكفّ ، قال: و ما الحجّة في ذلك ؟ قال عليه السّلام:

قول رسول اللّه عليه السّلام: السجود على سبعة أعضاء الوجه، و اليدين، و الركبتين، و الرجلين، فإذا قطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم يبق له يد يسجد عليها، و قال اللّه تعالى: وَ أَنَّ اَلْمَساجِدَ لِلّهِ يعني هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها، فَلا تَدْعُوا مَعَ اَللّهِ أَحَداً و ما كان للّه لم يقطع، قال: فأعجب المعتصم ذلك فأمر بقطع يد السارق من مفصل الأصابع دون الكفّ ، قال ابن أبي داود: قامت قيامتي و تمنّيت أنّي لم أك حيّا. قال زرقان: إنّ ابن أبي داود قال: صرت إلى المعتصم بعد ثلاثة، فقلت: إنّ نصيحة أمير المؤمنين عليّ واجبة، و إنّي أكلمه بما أعلم أنّي أدخل به النار. قال: و ما هو؟ قلت: إذا جمع أمير المؤمنين في مجلسه فقهاء رعيته و علماؤهم لأمر واقع من امور الدين، فسألهم عن الحكم فيه فأخبروه بما عندهم من الحكم في ذلك، و قد حضر المجلس بنوه و قواده و وزراؤه و كتّابه و قد تسامع الناس بذلك من وراء بابه، ثمّ يترك أقاويلهم كلّهم لقول رجل يقول شطر هذه

ص: 231

الامة بإمامته و يدّعون أنّه أولى منه بمقامه، ثمّ يحكم بحكمه دون حكم الفقهاء؟ قال: فتغيّر لونه و انتبه لما نبّهته له، و قال: جزاك اللّه عن نصيحتك خيرا - الحديث».

أقول: الحديث يدلّ على أنّ القرآن يفسّر بعضه بعضا، و أنّه لا يمكن الأخذ بإطلاق آية مع الإعراض عن القرائن الاخرى مطلقا، كما يدلّ على أنّه لا يمكن الاستغناء عن المعصوم عليه السّلام في فهم ظواهر الآيات، فإنّهما لن يفترقا. و هناك أقوال اخرى في قطع اليد أغلبها مروية عن العامّة، و أما الخاصّة فاتّفقت كلمتهم على أنّ القطع إنّما يقع على الأصابع فقط، و التفصيل مذكور في الفقه. و الرواية تدلّ أيضا على أنّ الإقرار يوجب القطع، و سيأتي الكلام فيه إن شاء اللّه تعالى.

سقوط الحدّ بالتوبة:

ذكرنا أنّ ظاهر الآية الشريفة تدلّ على سقوط الحدّ عن التائب عن السرقة، و أنه تفضّل من اللّه تعالى عليه. و الروايات و إن دلّت على ذلك أيضا إلاّ أنّها خصّصت ذلك بما إذا كانت التوبة قبل الثبوت عند الحاكم.

فقد روى الشيخ في التهذيب عن الصادق عليه السّلام قال: «إذا جاء السارق من قبل نفسه تائبا إلى اللّه تعالى و ردّ سرقته على صاحبها، فلا قطع عليه».

أقول: وردت في مضمون ذلك روايات متعدّدة و قد أخذ بها المشهور (رضوان اللّه تعالى عليهم أجمعين). و يدلّ على ذلك أيضا ما ورد من النهي عن تعطيل حدّ من حدود اللّه تعالى، و بإزاء هذه الأخبار بعض الروايات التي تدلّ على أن للإمام العفو، و قد أخذ بها جمع من الفقهاء و خصّ بعضهم بما إذا كان ثبوت السرقة بالإقرار دون ما إذا ثبتت بالبينة، و المسألة مذكورة في كتب الفقه فراجع.

و هناك أقوال اخرى منسوبة إلى غير الإماميّة من شاء فليراجع مظانها.

ص: 232

بحث فقهي:

اشتراط الفقهاء في السرقة التي يترتّب عليها الأحكام المزبورة أمورا:

الأوّل: أن يكون الأخذ سرّا، فلا تقع السرقة علنا و إن كانت حراما و تسمّى سلبا و نهبا، كما عرفت.

الثاني: أن يكون أخذ المال بغير إذن صاحبه، كما عرفت.

الثالث: أن لا يدّعى شبهة محتملة فيه.

الرابع: أن لا يكون أمينا كالمستودع و الأجير و مثلهما الضيف، و أن لا يكون والدا و لا مملوكا، فلو سرق الأب مال ولده أو المملوك من مال سيّده، فلا قطع، و لا مكرها على السرقة.

الخامس: أن يكون المسروق بمقدار ربع دينار، فلا قطع فيما دون ذلك.

و تثبت السرقة بالبينة و الإقرار مرّتين. و هناك فروع مذكورة في الفقه من شاء فليراجع كتابنا (مهذب الأحكام).

بحث عرفاني:

يعدّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اَللّهَ وَ اِبْتَغُوا إِلَيْهِ اَلْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، من الآيات القويمة في السير و السلوك إلى اللّه تعالى، لأنّه يقوي الروابط بين العبد و خالقه و يشدّد على إظهار العبوديّة و يجعل جميع حالات العبد تحت المراقبة و المراعاة، فقد أمر سبحانه بابتغاء الوسيلة إليه عزّ و جلّ الذي هو من شؤون العبوديّة الحقيقيّة، و أكّد على ذلك بالاهتمام به و اتّخاذه مطلبا حقيقيّا و بغية له، و الإعراض عن غيره عزّ و جلّ ، و لأهمّيّة ذلك في شؤون العبد فقد حفّه تبارك و تعالى بأمرين مهمّين، لهما الأثر العظيم في تحقّقه على الوجه المطلوب و ترتّب الأثر عليه، و هما التقوى، و الجهاد في سبيله تعالى، و لا ريب أنّ

ص: 233

الاستكمال و طلب الزلفى لديه عزّ و جلّ إنّما يصحّ بعد تزكية النفس أوّلا من رذائل الصفات و ذمائم الأخلاق، فإنّها من أقوى الحجب الظلمانيّة المانعة من الكمال و الاستكمال، ثمّ تحلية النفس بالصفات الحميدة و الأخلاق المرضية، ليتحقّق القرب و الاستعداد، و أخيرا أمر عزّ و جلّ بالجهاد في سبيله، فإنّ الوصول إلى تلك المرتبة لا يكون بسهولة و يسر، و إنّما يحتاج إلى جهاد و صبر و مثابرة، و لعلّ الآية الشريفة ترشد إلى أنّ المؤمن لا بدّ له من مراحل ثلاث: شريعة، و حقيقة، و فيض، فإذا تحمّل بالشريعة و توجّه إلى اللّه تعالى بابتغاء الوسيلة، اشتاقت نفسه إلى حضرة الملك و تغلّب عليها الشوق بالتوجّه إليه عزّ و جلّ ، فيشتغل بمجاهدة النفس و محاسبتها، و أوّل المنازل هو ترك الدنيا و العزوف عن زخرفها و زبرجها، ثمّ إسقاط جميع الروابط بمخالفة الهوى و الاشتغال بالتوجّه إليه عزّ و جلّ ، فمن خرق عوائد نفسه تحقّق سيره و وصوله، و يعرف ذلك بحبّ اللّه تعالى و ابتغاء الوسيلة إليه و جعله شغله الشاغل، فإذا جاهد الإنسان نفسه حتّى هذّبها و أظهرها من الحجب و الموانع، رجعت نفسه إلى أصلها، و هو الحضرة التي كانت فيها، فإنّه لم يكن بينها و بين محلّها إلاّ الحجب الظلمانيّة، فإذا تخلّصت عادت إلى محلّها الأرفع، و لعلّ هذا هو الفلاح الذي وعد عزّ و جلّ للسالكين في طريق الحقيقة و السائرين بنور معرفته، فإنّ الروح مهما تطهّرت و صفت من كدرات الحسّ عرجت إلى عالم الجبروت، فلم يحجبها عن خالقها شيء، فالآية الشريفة تبيّن الأثر العظيم لابتغاء الوسيلة، و منها يظهر أنّ المجاهدة إنّما تكون بعد التوسّل بالوسيلة، و أما قبله فلا سبيل له حتّى يجاهد، و لعلّه لذلك عقّب عزّ و جلّ على ذلك بأنّ الخروج عن تلك التعليمات كفر، و من يتبع غير ذلك السبيل لا يمكنه الوصول إلى تلك المقامات مهما حاول و بذل كلّ ما في وسعه، فإنّه لا يزيده إلاّ بعدا و حجابا (ما تقبّل منهم)، فإنّ القبول إنّما ينحصر طريقه في ما ذكره عزّ و جلّ .

ص: 234

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَم.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ (42) وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ (44) وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ اَلْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ اَلسِّنَّ بِالسِّنِّ وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ (45) وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ (47) الآيات الشريفة لا تخرج عن الغرض الذي أنزلت هذه السورة المباركة

ص: 235

لأجله، و هو بيان العهود و المواثيق المأخوذة عليه و الإيمان المطلوب منه، و الحثّ على العمل بها و التحذير عن مخالفتها، و قد ذكر عزّ و جلّ فيما سبق السبل الموصلة إلى الحقّ و الطرق المفضية إلى العمل بالشريعة، و اعتبر أنّ من يعرض عنها يكون كافرا منكرا للحقّ ، فلا ينفعه ما يفديه للنجاة من العذاب الأليم الذي أعدّه لنفسه، و في هذه الآيات يذكر تعالى الأصناف الذين زاغوا عن الإيمان و تمادوا في الغي، فأنكروا الحقّ و نكثوا عهود اللّه و مواثيقه، فذكر تعالى المنافقين الذين يؤمنون بأفواههم خوفا أو طمعا و لم تؤمن قلوبهم، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في آيات اخرى. ثمّ ذكر اليهود الذين كفروا بالحقّ و أعرضوا عن الطاعة و خالفوا أوامر اللّه تعالى، فذكر من صفاتهم ما يدلّ على تماديهم في الغي، منها: أنّهم سماّعون للكذب يتّبعونه و لا يتّبعون الحقّ . و منها: تحريفهم لكلام اللّه تعالى بما تمليه أهواؤهم، و منها:

أكلهم للسحت و ارتكابهم لجميع المحرّمات. و قد حذّرهم عزّ و جلّ و أوعدهم الخزي في الدنيا و العذاب العظيم في الآخرة. ثمّ أمر نبيّه الكريم بالإعراض عنهم، فإنّهم قوم لا خلاق لهم، و وعده صلّى اللّه عليه و آله بالنصر، و أمره بالحكم بينهم بالقسط إذا تحاكموا إليه. ثمّ بين عزّ و جلّ حقيقة حالهم بأنّهم كابروا الحقّ بعد ما عرفوه، فلم يحكموك إلاّ بما يكون فيه نفعهم، و قد ردّهم عزّ و جلّ بأنّ عندهم التوراة التي أنزلها اللّه تعالى لهدايتهم، و فيها من الأحكام و المواثيق و التوجيهات التي حكم بها النبيّون و الربانيّون و الأحبار الذين حفظوا حدودها و عملوا بها و كانوا شهداء على صحّتها و عدم تحريفها. ثمّ أمر عزّ و جلّ المؤمنين بعدم الخشية من اليهود الذين نصبوا العداء للحقّ ، و أنّ الخشية إنّما تكون من اللّه تعالى فقط. و أخيرا ذكر تعالى من أحكام التوراة التي دخلت في جميع الشرائع الإلهيّة و اعتبرها الإسلام من القواعد المهمّة في تنظيم النظام. ثمّ ختم تعالى الآيات الشريفة بذكر أهل الإنجيل الذي فيه هدى و نور، و هو المصدق لما ورد في التوراة من الأحكام و الإرشادات الربانيّة و التوجيهات الإلهيّة، فأمرهم سبحانه و تعالى بالعمل بحكم اللّه، و من لم يحكم بما أنزله اللّه تعالى فأولئك هم الفاسقون، و الآيات جميعها تهدف إلى تثبيت أحكام اللّه التي نزلت في سبيل سعادة الإنسان و تنظيم النظام على أحسن ما يرام.

ص: 236

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ .

تسلية للرسول الكريم و تطييب لنفسه الشريفة ممّا لاقاه صلّى اللّه عليه و آله من المنافقين الذين يسارعون في الكفر، و الذين هادوا، و الخطاب بالرسالة فيه غاية التشريف و القرب، و لم يرد مثل هذا الخطاب في القرآن الكريم إلاّ في موردين كلاهما في هذه السورة، أحدهما المقام، و الثاني قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [سورة المائدة، الآية: 67]، و هو يدلّ على عظمة الأمر و أهميّته عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله. و له الأثر العميق في نفسه الشريفة، فيكون هذا الخطاب تسلية له، و فيه ما يوجب عدم الحزن و الخوف.

و أما خطاب (يا أيها النبي) فقد ورد في القرآن الكريم ما يزيد على عشرة مواضع.

و في كلا الخطابين التعليم للمؤمنين بمراعاة الأدب في الخطاب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الحزن ضدّ السرور، و هو ألم في النفس يحدث عند فوت ما يحبّ .

و الفعل منه ما يكون متعدّيا بنفسه، يقال: حزنه الأمر. و منه ما يكون متعدّيا ب (على)، يقال: حزن على ولده. و منه ما يكون متعدّيا بالهمزة، يقال: أحزنه موت ولده. و هو مذموم في الشرع المبين، إلاّ ما كان على شيء يوجب القرب و الزلفى لديه عزّ و جلّ ، كما في حزن الرسول صلّى اللّه عليه و آله على الذين يسارعون في الكفر و يصدّون عن الحقّ و الوصول إلى الكمال، و الحزن أمر طبيعي و من لوازم طبيعة الإنسان، فيكون النهي عنه في الشرع نهيا عن اللوازم الاختياريّة المترتّبة عليه، كالجزع الشديد و عدم الرضا بقضاء اللّه تعالى و قدره و نحو ذلك. و النهي عنه لا يستلزم إيجاد مقابله و هو الفرح، فإنّه مذموم أيضا، قال تعالى: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [سورة الحديد، الآية: 23]، إلاّ إذا رجع إلى ما

ص: 237

تفضّل اللّه تعالى به عليهم، كما قال تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اَللّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمّا يَجْمَعُونَ [سورة يونس، الآية: 58].

و المسارعة هي السير الحثيث و المشية السريعة، و المسارعة إلى الشيء غير المسارعة في الشيء، فإنّ الاولى هي السرعة إليه من الخارج، و أما الثانية فهي السرعة من الداخل. أي: يظهر من الأفعال و الأقوال التمادي في الكفر. فتكون في كلمة (في) الدلالة على أنّهم مستقرّون في الكفر لا يبرحون عنه فينتقلون من صنف من الكفر إلى صنف آخر، فتظهر عليهم موجبات الكفر مرّة بعد اخرى، و في الوصف (يسارعون في الكفر) إشعار بعلّة النهي عن الحزن، أي: أنّ تلك المسارعة هي السبب لحزنه صلّى اللّه عليه و آله. و المعنى: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر، فإنّهم لم يؤمنوا حقيقة، فإذا سنحت لهم الفرصة أظهروا الكفر. و الجملة تدلّ على التسلية بأبلغ وجه، فإنّ النهي عن أسباب الشيء و مباديه نهي عنه و قطع له عن أصله، فليس المراد منه نهي الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و إنّما النهي للكفّ عن أن يحزنوه بمسارعتهم في الكفر، و تسلية له صلّى اللّه عليه و آله بعدم تأثيرهم عليه فإنّه الرسول المؤيّد و المنصور المسدّد.

قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ .

بيان للذين يسارعون في الكفر، فإنّ مسارعتهم فيه إنّما هو لأجل عدم الإيمان حقيقة، بل آمنوا بألسنتهم دون أن تؤمن قلوبهم، و هذه أوصاف المنافقين الذين عانى منهم الأنبياء (سلام اللّه عليهم أجمعين) أشدّ معاناة، و كان حزنه صلّى اللّه عليه و آله منهم شديدا، لأنّ ضررهم على الإيمان و أهله كبير و عظيم.

قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا .

عطف على قوله: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا ، فيكون المسارعون في الكفر على قسمين: المنافقين، و اليهود، و على هذا فقوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ ... خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم سماّعون، و ذكر بعض المفسّرين أنّ الجملة وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا جملة مستأنفة تقديرها: «و من الذين هادوا قوم سماّعون للكذب...».

ص: 238

و الظاهر من السياق هو الوجه الأوّل، فإنّ الصفات التي يذكرها عزّ و جلّ فيما يأتي هي لبيان حال الطائفة الثانية من المسارعين في الكفر، و أما المنافقون المذكورون في صدر الآية، فإنّ حالهم لا توافق هذه الأوصاف و إن كان بعضها توافقهم. لكنّ العبرة بظاهر اللفظ، و المنساق منه هو ما ذكرناه.

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ .

بيان لحال الذين هادوا بذكر أوصافهم، و الجملة خبر لمبتدأ محذوف، أي:

هم سماّعون، و اللام إما للتقوية كما في قوله تعالى: فَعّالٌ لِما يُرِيدُ . أو للتعليل، أي: سماّعون الكلام ليكذبوا عليك.

و المعنى: أنّهم يكثرون من سماع الكذب، مع العلم بأنّه كذب، و من داوم على سماعه كان كاذبا. و يحتمل أن يكون المراد من قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ ، سماّعون للكذب فيك، كما يحتمل أن يكون المراد منه. سماّعون كلامك ليكذبوا عليك، و قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ قرينة على الثاني، و لعلّ حذف المتعلّق يشمل الجميع، فإنّهم ما رسوا كلا الكذبين.

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ .

أي: كثير السماع سماع قبول و طاعة لقوم آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك إما خوفا أو إفراطا في البغضاء. و يحتمل أن يكون المراد منه سماّعون منك لأجلهم، و للإنهاء إليهم، و كلاهما محتمل فيهم، فإنّهم قوم توغّلوا في البغضاء و العداء للحقّ و أهله و لشخص الرسول الكريم صلّى اللّه عليه و آله، كما حكى عزّ و جلّ عنهم في مواضع متفرّقة من الكتاب العزيز.

قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ .

صفة اخرى لهم، و قد ذكرها عزّ و جلّ في عدّة مواضع من القرآن الكريم بأساليب مختلفة حتّى عرف اليهود بأنّهم أهل التحريف.

و المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، أي: من بعد استقرار الكلم في المواضع التي وضعها اللّه تعالى فيها، و هو يدلّ على زيادة في التشنيع.

ص: 239

و إطلاق التحريف يشمل اللفظيّ منه، أي: تغيير الألفاظ و تبديل الكلام و هو يشمل الكتمان أيضا، و المعنويّ بالتفسير بالباطل و التأويل الفاسد و حمل الكلام على غير المراد و نحو ذلك. و قد ذكرنا ما يتعلّق به في غير المقام فراجع.

قوله تعالى: يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .

في الآية الشريفة إشارة إلى واقعة ابتلى اليهود بها فحكم فيهم حكامهم بغير ما أنزله اللّه تعالى، فأرسلوا طائفة إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله لتحكيمه في تلك الواقعة، فقالوا لهم: إنّ حكم صلّى اللّه عليه و آله بما أفتى به حكامهم المحرّفون فليأخذوه، و إنّ حكم بغير ذلك فليحذروا من قبوله.

قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً .

الفتنة الاختبار، و الجملة معترضة لبيان أنّهم في حال الاختبار في دينهم و مفتونون بفتنة إلهيّة لإظهار حالهم في الكفر و الضلال، تطييبا لنفس الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّ الأمر يرجع منه و إليه تعالى، فإنّك لن تستطيع أن تغيّر شيئا إذا أراد اللّه تعالى ذلك، فلا موجب للتحزّن فيما لا تملك فيه سلطانا.

قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ .

أي: أنّهم بلغوا في الغي و الضلال مبلغا لم تتعلّق إرادة اللّه تعالى أن يطهّر قلوبهم من الكفر و النفاق و الخبث و الضلالة، فهي باقية على قذارتها و ختم عليها بالكفر. و إنّ من سنّته تعالى أن لا يطهّر قلب من تكرّر منه العصيان، و انغمس في الكيد و الضلال، فأضلّهم اللّه و ما يضلّ به إلاّ الفاسقين.

قوله تعالى: لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي اَلْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ .

توعيد لهم جزاء على أفعالهم الشنيعة، فقد أذلّهم اللّه تعالى في الدنيا، و كتب عليهم الجلاء من ديارهم و أظهر كذبهم و كفر المنافقين، و أثبت الخوف في قلوبهم من المؤمنين. و أما في الآخرة فإنّ لهم العذاب العظيم الذي لا يعرف كنهه و أمره إلاّ اللّه تعالى. و الضمير في (لهم) يرجع إلى كلتا الطائفتين اليهود و المنافقين. و قيل:

لليهود خاصّة، و التكرير مع اتّحاد المرجع لزيادة التقرير و التأكيد.

ص: 240

قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ .

تعليل لثبوت العذاب لهم، و الإعادة إما تأكيدا، أو تقريرا، أو تمهيدا لما سيأتي، أو اهتماما بشأن هذه الأوصاف و التأثير على النفس ليعرف المخاطب آثارها الوخيمة، فيتصدّى لإصلاح حاله، و الأوصاف التي يذكرها عزّ و جلّ هي لمجموع القوم من حيث هو، و قد يختصّ بعضهم ببعض الأوصاف، فإنّ قوله سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ وصف لليهود الموجودين حين البعثة، الذين وصفهم عزّ و جلّ فيما سبق، و التابعين لهم باعتبار تقليدهم لآبائهم، فإنّ ذلك سماع للكذب أيضا، فإنّ اليهود سماّعون للكذب بجميع معانيه من حيث الكذب على الحقّ ، و الكذب على المؤمنين، و كذب بعضهم على بعض و تقليدهم للسلف كذبا و زورا.

قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ .

وصف آخر قد يكون لبعض القوم إن كان المراد من السحت الرشوة، فإنّها كانت منتشرة في طبقة خاصّة من أحبارهم و علمائهم كما حكى عزّ و جلّ في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، و إن كان المراد من السحت مطلق الحرام، فإنّ الوصف يكون لعامّة القوم لما ذكره عزّ و جلّ في مواضع متفرّقة من القرآن العظيم من أنّهم هتكوا حرمات اللّه تعالى و تعاطوا المنكرات و استحلّوا المحرّمات، و تدلّ عليه صيغة المبالغة (أكّالون)، و قد سبق في سورة النساء بعض أوصافهم فراجع.

و مادة (سحت) تدلّ على الشدّة و الهلاك. يقال: سحت الشيء يسحته، قشره قليلا قليلا، أي: استأصله. و منه الحرام، لأنّه يذهب بالطاعات و يستأصلها فيسحت دين المرء و مروءته. و منه السحت (بالفتح) لشدّة الأكل و الشرب.

و أسحت الشيء استأصله، قال تعالى: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ [سورة طه، الآية:

61]، أي: يستأصلكم بعذاب. فإذا كان السحت يشمل الحرام و الكسب المحرّم، فيكون له مصاديق متعدّدة. و لعلّ ما ورد في الحديث أنّ للسحت أنواعا كثيرة مأخوذ من هذه الآيات الشريفة، ففي الخبر: «كلّ شيء غل من الإمام، فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و السحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر، و ثمن

ص: 241

الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البينة - أي بعد التحريم - فأما الرشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله»، و سيأتي نقل بعض الروايات في البحث الروائي إن شاء اللّه تعالى.

و إطلاق الآية يشمل كلّ أنواع المحرّمات التي ارتكبها اليهود، فإنّهم نقضوا العهود و المواثيق و هتكوا حرمات اللّه تعالى. و قد أخبر عزّ و جلّ عن جملة منها في عدّة مواضع، و من أعظم ما ارتكبه أحبار اليهود و رؤساؤهم الرشوة في الحكم، التي أخبر بها عزّ و جلّ في قوله: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ اَلنّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة البقرة، الآية: 188].

قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ .

تفريع على ما سبق، أي: إذا كان حالهم كما عرفت، فإن جاءك اليهود للتحكيم بينهم، فأنت مخيّر بين أن تحكم بينهم أو تعرض عنهم، و من المعلوم أنّ التخيير إنّما يتّبع المصالح التي يراها صلّى اللّه عليه و آله.

و الخطاب و إن كان مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله إلاّ أنّ الحكم فيه عامّ لجميع حكّام الشرع المبين.

و لعلّ ما ورد عن الباقر صلّى اللّه عليه و آله مأخوذ من هذه الآية الشريفة، قال عليه السّلام: «إنّ الحاكم إذا أتاه أهل التوراة و الإنجيل يتحاكمون إليه، كان ذلك إليه إن شاء حكم بينهم و إن شاء تركهم»، و ثبوت التخيير له صلّى اللّه عليه و آله لا ينافي الحكم بينهم بما أنزل اللّه، كما في قوله تعالى: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، فإنّه يدلّ على أنّه إذا اختار الحكم بينهم، فلا بدّ أن يكون الحكم بما أنزل اللّه تعالى من القسط، لا أن يكون بما هو الموجود عندهم.

قوله تعالى: وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً .

تفصيل بعد إجمال و بيان لحال الأمرين، و فيه تضمين لرسوله الكريم صلّى اللّه عليه و آله من أي ضرر يحتمل أن يصيبه من قبلهم، كما أنّ فيه التقرير للتخيير المزبور بأنّه ليس

ص: 242

عليه صلّى اللّه عليه و آله ضرر لو أعرض عنهم و ترك الحكم فيهم، فإنّ اللّه تعالى يعصمه منهم، و فيه التنبيه على أنّه لا يكون حكمك عن خوف منهم و لا استمالة لهم.

قوله تعالى: وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ .

بيان لحال الأمر الثاني و يتضمّن التعليل أيضا. أي: و إن اخترت الحكم فإنّه ينبغي أن يكون الحكم بينهم بالعدل الذي أمر اللّه تعالى به، لا بما يبغون، فإنّ اللّه لا يرضى أن يجري بينهم إلاّ حكمه، فإما أن تعرض فلن يضرّوك و إن ساءهم إعراضك، و إما أن تحكم بالقسط، و قد تقدّم معنى القسط في سورة البقرة فراجع.

قوله تعالى: وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ .

تعجيب من اللّه تعالى لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله من حالهم، فإنّهم امّة ذات كتاب و شريعة، فكيف يرغبون عنهما و يتحاكمون إلى نبيّ هم منكرون لنبوّته و كتابه و شريعته، و الآية الشريفة تشير إلى أنّ ذلك التحكيم له من عندهم لم يكن لمعرفة الحقّ و تطبيق العدل، و إنّما هو لتضعيف منزلة الرسول الكريم و طلب الأهون و إن لم يكن حكم اللّه تعالى.

قوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ .

أي: كيف يحكمونك و عندهم ما فيه الحقّ الذي يغني عن التحكيم ثمّ يتولّون عنه من بعد ذلك التحكيم و بيان حكم اللّه في الواقعة، و في الآية التأكيد على الاستبعاد و التعجّب. و من ذلك يعرف أنّ المراد من قوله تعالى: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أي: من بعد بيان حكم اللّه تعالى الموافق لكتابهم.

قوله تعالى: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ .

تقرير لما سبق، و حذف المتعلّق يدلّ على العموم، أي فما هم بالمؤمنين لكتابهم لإعراضهم عنه، و لا بك لأنّهم لم يرتضوا بحكمك الذي وافق ما في التوراة أيضا.

و الإتيان باسم الإشارة (أولئك) قصدا إلى إحضارهم في الذهن بما وصفوا به من القبائح، و لبيان العلّة بأنّهم تميّزوا عن غيرهم أكمل تمييز حتّى انتظموا في سلك المشاهدة.

ص: 243

و قيل: إنّه إخبار منه تعالى عن أولئك اليهود بأنّهم لا يؤمنون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و بحكمه أصلا، و لا فرق بينهما.

قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ .

جملة مستأنفة تتضمّن التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و لبيان فظاعة حالهم ببيان علوّ شأن التوراة بأحسن وجه.

و هذه الآية و ما بعدها تدلان على أنّ لكلّ امّة من الأمم الماضية شرائع و أحكاما أودعها عزّ و جلّ في كتب أنزلها إليهم، ليهتدوا بهداها و يستضيئوا بنورها، فيرشدوا إلى طريق الحقّ و يكتسبوا سعادة الدنيا و الآخرة، و أمر أنبياءه العظام أن يتحفّظوا عليها من التغيير و التبديل، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه و يحكموا بها فيما شجر بينهم و يخافوا اللّه فيها و لا يخشوا غيره، و أكّد على ذلك بأنواع التأكيدات و أخذ عليهم المواثيق و العهود و حذّرهم من اتّباع الهوى و متابعة الشيطان.

و المعنى: إنّا أنزلنا التوراة فيها من الهداية التي يهتدى بها و النور الذي يستبصر به في ظلمات الجهل و الضلالة، و من المعارف و الأحكام و الإرشادات و التوجيهات. و الآية و إن دلّت على أنّ التوراة فيها الهداية و النور، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ كَتَبْنا لَهُ فِي اَلْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ [سورة الأعراف، الآية: 145]، لكنّها بالنسبة إلى القرآن الكريم فهي جزئي من جزئياته، فإنّه المهيمن على الكتب الإلهيّة و الجامع لجميع المعارف و الأحكام و يقتضيه السير الاستكمالي للإنسان.

قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا .

جملة مستأنفة تبيّن فضل التوراة و سموّ رتبتها، فإنّ فيها من المعارف و الأحكام ما يمكن أن يحكم بها النبيّون الذين انقادوا للّه تعالى و استسلموا لأمره، فلا يستنكفون عن قبول شيء من أحكامه و شرائعه. و الجملة تدلّ على عظم شأن النبيّين و التنويه بفضل هذه الصفة، فإنّ الإسلام من أشرف الأوصاف لأنّه ينبئ عن معرفة اللّه تعالى و الإخلاص له و طاعته و الاستسلام لأمره بانقياد تامّ ،

ص: 244

و الإسلام دين اللّه تعالى، قال عزّ و جلّ إِنَّ اَلدِّينَ عِنْدَ اَللّهِ اَلْإِسْلامُ [سورة آل عمران، الآية: 19]. فهو دين جميع الأنبياء، و أنّه الدين الواحد الذي يجمع جميع الأديان الإلهيّة، و فيه التعريض باليهود بأنّهم بمعزل عن الإسلام و دين اللّه تعالى.

و اللام في (للذين) للاختصاص، أي: يحكمون لأجلهم و بما يرجع نفعه إليهم، فهم المستفيدون من تلك الأحكام، لأنّها نزلت في سبيل سعادتهم سواء أ كانت تلك الأحكام لهم أم عليهم، و فيه التعريض بهم أيضا بأنّهم أعرضوا عمّا هو نافع لهم.

و لا تختصّ الآية الشريفة بأنبياء بني إسرائيل، فإنّ في التوراة أحكاما إلهيّة لا تقتصر على امّة واحدة، و إنّ القرآن العظيم مصدق لها كما نطق به التنزيل غير موضع.

قوله تعالى: وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ .

الربّانيون: أي المنسوبون إلى الربّ ، و هم العلماء المنقطعون إلى اللّه تعالى العرفاء به علما و عملا، الذين لهم شأن في تربية الناس بالتربية الربّانيّة. و في الحديث المعروف عن علي عليه السّلام: «أنا ربّانيّ هذه الامّة»، أي: مربّيهم تربية إلهيّة.

و تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة في قوله تعالى: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ [سورة آل عمران، الآية: 146].

و مادة (حبر) تدلّ على الجمال و الزينة، و يقال: شعر محبّر، أي: مزيّن بنكت البلاغة. و ثوب محبّر، أي: منقش بالنقوش، و منها الحبرة، أي: البردة، و هي ثوب ذو خطوط بألوان متعدّدة.

و الأحبار جمع الحبر (بفتح الحاء و كسرها). و المراد بهم العلماء العاملون الذين يحكمون بما أمرهم اللّه تعالى، و ظاهر الآية الشريفة أنّ الربانيين هم الأئمة عليهم السّلام دون الأنبياء المبعوثين الذين يربّون الناس بعلمهم، و الأحبار دون الربّانيين، و يدلّ عليه بعض الأخبار.

قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ .

تعظيم لشأنهم، و الضمير يرجع إلى (الربّانيون و الأحبار)، أي: بالذي

ص: 245

استحفظوه من كتاب اللّه تعالى. و المراد به التحفّظ العملي عن ظهر القلب، يقال:

حفظ فلان حرمة زيد، أي: عمل فيه بما هو وظيفة احترامه، و منه قولهم: «يحفظ الرجل في ولده». و إنّما ذكر عزّ و جلّ : «استحفظوا» دون حفظوا أو حملوا و نحو ذلك، باعتبار أنّهم حفظوها بالعمل بما ورد فيها من الأحكام، و حفظوها بالتبين، و حفظوها من التغيير و التبديل، فكانوا أمناء على التوراة.

قوله تعالى: وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ .

ترتّب هذا على سابقه من قبيل ترتّب المعلول على العلّة التامّة، فإنّهم لما أمروا بحفظ التوراة فكانوا أمناء اللّه تعالى عليها، فلا ريب أنّهم شهداء على كتاب اللّه، بل تعتبر الشهادة من شؤون الحفظ المأمور به. و يمكن أن تكون الآية تأكيدا على ما سبق، يعني: أنّهم مضافا إلى عملهم بكتاب اللّه تعالى يشهدون أنّ هذا تكليفهم أيضا.

و كيف كان، فإنّ في الكلام تعريضا للذين هادوا في عصر الرسول صلّى اللّه عليه و آله بأنّهم خرجوا عن أهليّة حفظ التوراة و الشهادة عليها، و قد ذكر المفسّرون في الآية وجوها يبطلها السياق.

قوله تعالى: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ .

تفريع على ما سبق، أي: لما كانت التوراة منزلة من اللّه تعالى و مشتملة على الهداية و النور، و شريعة يقضي بها النبيّون و الربّانيون و الأحبار، و قد أخذ منهم الميثاق على حفظها، فاعملوا بها كما عمل السلف، و لا تكتموا شيئا من أحكامها بأن تحرّفوها أو تعدلوا عنها خشية النّاس و خوفا منهم. و عموم الآية الشريفة يشمل جميع المخاطبين الحكّام و غيرهم من المسلمين و غيرهم، فلا بدّ أن تكون خشيتهم من اللّه تعالى بالوفاء بعهده و ميثاقه و العمل بشرائعه، لا أن تكون الخشية من الناس، و قد تقدّم الكلام في مثل هذه الآية في أوّل هذه السورة فراجع.

قوله تعالى: وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً .

أي: و لا تستبدلوا حكما من أحكام اللّه تعالى طمعا بمال أو جاه دنيويّ

ص: 246

و غيرهما من الحظوظ الدنيويّة، فإنّها قليلة و مسترذلة مهما بلغت من الكثرة بالنسبة إلى ما فاتهم بمخالفة الأمر و الحكم الإلهيّ ، و قد تقدّم مثل هذه الآية الشريفة في سورة البقرة أيضا فراجع.

و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الآية: فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ متفرّعة على قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ، بتقريب أنّ الآية تدلّ على أخذ العهد و الميثاق منهم على الحفظ و العمل، و أشهدهم عليه بأن لا يغيّروه فلا يخشوا في إظهاره غيره تعالى و تقدّس، و لا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، و استشهد على ذلك بآيات اخرى، كقوله تعالى: وَ إِذْ أَخَذَ اَللّهُ مِيثاقَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اِشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً [سورة آل عمران، الآية: 187]، و قوله تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا اَلْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا اَلْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ اَلْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اَللّهِ إِلاَّ اَلْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ اَلدّارُ اَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ * وَ اَلَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا اَلصَّلاةَ إِنّا لا نُضِيعُ أَجْرَ اَلْمُصْلِحِينَ [سورة الأعراف، الآية:

170]، و هذا المعنى و إن كان صحيحا إلاّ أنّ عموم الآية يشمل اليهود و غيرهم، فإنّ اللّه قد أخذ من الجميع العهد على العمل بأحكامه و تشريعاته إلاّ ما أذن بتركه. و قد بيّن تعالى أنّ التوراة فيها الهداية و النور و قد عمل بها النبيّون و الربّانيون و الأحبار، و أمرهم بحفظها، فالمناط الموجود في اليهود موجود في غيرهم أيضا، و يدلّ عليه ذيل الآية الشريفة.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ .

تقرير لما سبق و تأكيد له و تشديد في الأمر بأبلغ وجه، أي: كلّ من رغب عن حكم اللّه تعالى اتّباعا لهواه، فأولئك هم الكافرون، لأنّه لم يصدق بما أنزله اللّه تعالى، فيكون ذلك كفرا. و في الآية أشدّ التحذير عن الإخلال بما أنزله اللّه تعالى.

قوله تعالى: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ .

بيان لبعض ما فرضه اللّه تعالى في التوراة قد بقيت هذه الكتابة عليهم

ص: 247

و قرّرتها الشرائع الإلهيّة الاخرى، و كانت خاتمتها الشريعة الإسلاميّة التي جعلت هذا الفرض قانونا إلهيّا بأبهى صورة و أبلغ تعبير في قوله تعالى: وَ لَكُمْ فِي اَلْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي اَلْأَلْبابِ [سورة البقرة، الآية: 179]، و قد اعتبر أحسن تشريع في هذا الموضوع، حيث اهتمّ بجميع الجوانب المرتبطة به، و تقدّم البحث فيه في سورة البقرة فراجع.

و الجملة عطف على قوله تعالى: أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ ، و المراد بها بيان حكم القصاص في جميع أقسام الجنايات، من القتل و القطع و الجرح و غيرها. أما القتل، ففي قوله تعالى: أَنَّ اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ ، أي: أنّ النفس تعادل بالنفس و تقتل بها عند القصاص منها، و إطلاق الآية يشمل الحرّ و العبد، و لعلّه كان في شريعة موسى عليه السّلام كذلك، و أما في الشريعة الإسلاميّة، فالحرّ و العبد بالعبد و الأنثى بالأنثى.

بيان لاختيار المجنيّ عليه أو وليّه في إعمال حقّه أو العفو عنه، و قدّم الثاني

ص: 248

ترغيبا إلى العفو و حثّا على الصدقة، فتكون الآية نظير قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [سورة البقرة، الآية: 178].

و المعنى: فمن تصدّق بما ثبت له من حقّ القصاص بالعفو عن الجاني، فهو - أي: العفو - كفّارة لذنوب المتصدّق، و اللّه يعفو عنه كما عفا هو عن الجاني، ففي الحديث عن الصادق عليه السّلام: «يكفّر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره»، و في النبويّ : «ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه، إلاّ رفعه اللّه به درجة و حطّ عنه به خطيئته». و يمكن أن يستفاد من إطلاق الآية الشريفة أنّ العفو ممّن ثبت له الحقّ كفّارة عن الجاني في جنايته أيضا عند اللّه تعالى، و إن لم تسقط عنه الكفّارة ظاهرا، و لا بأس به.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

بيان للفرد الآخر ممّا يحقّ للمجنيّ عليه أو وليّه، و هو عدم التصدّق بما ثبت له من الحقّ ، أي: فإن لم يتصدّق فليحكم بما أنزل اللّه تعالى و لا يتعدّاه، فإنّ من لم يحكم بما أنزل اللّه فأولئك هم الظالمون.

و ممّا ذكرنا يظهر فساد جملة كثيرة ممّا قيل في تفسير هذه الآية الشريفة.

و إنّما ذكر عزّ و جلّ : هُمُ اَلظّالِمُونَ ، و في السابق: هُمُ اَلْكافِرُونَ ، لأنّ الآية الاولى وردت لبيان عدم تصديقهم بما أنزله اللّه تعالى، و هو يستلزم الكفر، و في المقام إنّما كان إعراضا في التطبيق على الوجه الذي أنزله اللّه اتّباعا للهوى بعد التصديق به، فكان ظلما و ذنبا كبيرا.

قوله تعالى: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى اِبْنِ مَرْيَمَ .

بيان لبعض أحكام الإنجيل أثر بيان أحكام التوراة. و في الآية الدلالة على أنّ عيسى بن مريم عليه السّلام سلك نفس المسلك الذي سار عليه الأنبياء و الربّانيون و الأحبار، في الدعوة إلى اللّه تعالى و الإسلام له و التسليم بشرائعه و تعليماته.

و مادة (قفي) تدلّ على الاتّباع، مأخوذة من القفا، و هو مؤخر العنق، و تأتي متعدّية بنفسها، نحو: قفا فلان أثر فلان، إذا تبعه، و بالباء إلى المفعول الثاني مثل:

ص: 249

قفيته بفلان إذا اتبعته إيّاه، و تستعمل في المحسوس و غيره. يقال: فلان يقفي آباءه و أشياخه، أي: يتلوهم و يسير على طريقتهم.

و الآثار: جمع الأثر و هو ما يحصل من الشيء، ممّا يدلّ عليه، و قد تقدّم الكلام في اشتقاق هذه الكلمة، و غلب استعمالها في الشكل الحاصل من القدم.

و المعنى: و بعثنا عيسى بن مريم عليه السّلام بعد أولئك النبيّين الذين كانوا يحكمون بما أنزل اللّه تعالى في التوراة، متبعا لآثارهم و جاريا على سنّتهم.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

جملة حاليّة من عيسى بن مريم تبيّن ما ورد في الجملة السابقة، و تشير إلى منزلة هذا النبيّ العظيم، و أنّ دعوته هي دعوة موسى عليه السّلام و العمل بما ورد في التوراة من الأحكام.

قوله تعالى: وَ آتَيْناهُ اَلْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ .

أي: أعطيناه الإنجيل، و قد وصف سبحانه و تعالى الإنجيل بأوصاف ثلاثة:

الأوّل: أنّه كتاب بشريّ ، فإنّ الإنجيل يأتي بمعنى البشارة، و قد احتوى على جملة من التشريعات و الحكم و الآداب و المواعظ التي تهدي العامل بها إلى السعادة و الكمال المنشودين و يبشّره بالنعيم الدائم، و لم يبيّن عزّ و جلّ خصوصيات الإنجيل بالنسبة إلى غيره من الكتب الإلهيّة، فإنّه تعالى قال في حقّ التوراة: قالَ يا مُوسى إِنِّي اِصْطَفَيْتُكَ عَلَى اَلنّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ اَلشّاكِرِينَ [سورة الأعراف، الآية: 144]. و أما القرآن فقد فصّل القول فيه، لأنّه المهيمن على الكتب كلّها. و الآيات النازلة في حقّه المفصّلة لخصوصياته و شؤونه و كيفيّة نزوله كثيرة مذكورة في مواضع متفرّقة منه.

و يستفاد من جملة (آتيناه) أنّه تعالى أعطاه هذا الكتاب دفعة واحدة.

و الإنجيل بكسر الهمزة و هو اسم أعجمي.

الثاني: أنّ فيه الهداية و النور، أي: يشتمل على ما يهدي من الزيغ و الضلال، و نور يبصر به طالب الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى ذلك بالنسبة إلى التوراة

ص: 250

أيضا، فإنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في ذلك. و الظاهر أنّ المراد من الهداية هي تلك المعارف التي تهدي إلى الاعتقاد الصحيح و الإيمان الحقّ . و النور هو تلك التشريعات التي تهدي إلى تعيين الحقّ في مجال العمل، و كلاهما يشترك في تعيين الصراط المستقيم و تمييزه عن السبل الباطلة.

قوله تعالى: وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلتَّوْراةِ .

وصف ثالث للإنجيل بأنّه مصدّق لما ورد في التوراة من أحكام اللّه تعالى.

و يستفاد منه أنّ شريعة عيسى عليه السّلام لم تكن إلاّ امتدادا لشريعة موسى عليه السّلام، و أنّ الإنجيل تابع للتوراة و يدعو إليها إلاّ ما استثنى، على ما حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، قال تعالى: وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ اَلَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ [سورة آل عمران، الآية: 50]. و من ذلك يظهر أنّه ليس من التكرار المؤكّد، بل الآية الاولى وصف لنفس الرسول عيسى بن مريم عليهما السّلام، فإنّه مصدّق لما جاء به من قبل موسى عليه السّلام، و الثانية وصف للإنجيل، فإنّ ما جاء فيه إمضاء لما جاء في التوراة، فتكون شريعتهما واحدة إلاّ ما ذكره عزّ و جلّ في القرآن الكريم، كما عرفت آنفا.

قوله تعالى: وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .

بعد بيان اشتراك الإنجيل مع التوراة في كونها هدى و نورا، ذكر عزّ و جلّ ما يتميّز به الإنجيل، و هو كونه هدى يهتدي به المتّقون في استكمال نفوسهم و تزيينها بالفضائل و مكارم الأخلاق، فإنّ أكثر ما ورد في الإنجيل هو من المواعظ و الحكم، فيكون قوله تعالى: مَوْعِظَةً عطف تفسيريّ لقوله: هُدىً ، و لذا كانت شريعة موسى عليه السّلام تأسيسيّة مشتملة على دستور في الحياة و منهج عمليّ للإنسان.

و أما شريعة عيسى عليه السّلام، فهي شريعة إمضائية تقريريّة إصلاحية أكثر اهتمامها بإصلاح النفوس من مفاسد الأخلاق بسبب انتشار الفساد الأخلاقي في اليهود، كما حكاه عزّ و جلّ في القرآن الكريم، و بهذا يتميّز أهل الإنجيل عن غيرهم. و ممّا ذكر عزّ و جلّ المتّقين لأنّهم هم الذين يؤثّر الوعظ فيهم، فيكون الوعظ وعظا لهم دون غيرهم.

ص: 251

قوله تعالى: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ اَلْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ .

أي: أنّ أهل الإنجيل لما علموا بأنّ ما ورد فيه هو من اللّه تعالى، فلا بدّ أن يذعنوا به، و يستسلموا لأحكامه تسليم إذعان و طاعة، و من جملة ما يجب الإذعان به هو الإيمان برسالة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و الطاعة له.

قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

تشديد في الأمر و تأكيد في الحكم بما أنزل اللّه، و الفسق هو الخروج عن طريق الشرع المبين و العقل، أي: أنّ أهل الإنجيل إذا لم يحكموا بما أنزل اللّه فأولئك هم الفاسقون، لأنّهم حرّفوا دين اللّه و خرجوا عمّا أمره عزّ و جلّ بالاعتقاد بالوحدانيّة و العمل بشريعة موسى عليه السّلام، فهم بدّلوا ذلك و أسّسوا لهم دينا مستقلا، و اعتقدوا التثليث و نبذوا الوحدانيّة المأمور بها، ففسقوا عن أمر ربّهم.

و الآيات مطلقة لا تختصّ بقوم أو طائفة معينة، و هي تشمل جميع صور الحكم التي هي أربع:

الاولى: ما إذا علم بما أنزل اللّه و لكنّه أعرض عنه و عانده، فهذا كافر و يدخل في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ .

الثانية: ما إذا علم بما أنزل اللّه و لكنّه ردّه بأن غيّره أو بدّله، و هذا ظلم يدخل في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ .

الثالثة: ما إذا لم يعلم بما أنزل اللّه تعالى و حكم به، فهذا هو الفسق و يدخل تحت قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ .

الرابعة: ما إذا علم بما أنزل اللّه تعالى و حكم به فهو الحقّ ، و يدلّ عليه قوله تعالى فيما يأتي: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ [سورة المائدة، الآية: 48].

و الصورتان الاولى و الثانية يتّصف بهما اليهود، كما عرفت. و أما الثالثة فيتّصف بها النصارى، فإنّهم خرجوا عن دين اللّه بما أوّله المتأوّلون، فاشتبه الأمر عليهم. و لعلّ ما ورد في بعض الروايات من تقسيم القضاة إلى أربعة مأخوذ من

ص: 252

هذه الآيات الشريفة، و هي مطلقة لا تختصّ بالقضاء، فتشمل التكوينيّات و التشريعيّات، كما لا تختصّ بالحكم بغير ما أنزل اللّه تعالى، بل يشمل عدم الحكم بما أنزله اللّه تعالى أيضا. و ممّا ذكرنا يظهر السرّ فيما ورد عنهم عليهم السّلام في القضاء: «لا يجلس فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقي»، و قد اختلف المفسّرون في تفسير الآيات السابقة، و أنت في غنى عن بيان ضعف كثير ممّا ذكروه بعد ما عرفت.

بحوث المقام
بحث أدبي:

جملة: «و لم تؤمن قلوبهم»، حال من ضمير (قالوا). و قيل: إنّها عطف على (قالوا)، و أما قوله تعالى: وَ مِنَ اَلَّذِينَ هادُوا ، فهو عطف على قوله: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا ، و قوله تعالى: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سماّعون، و ذكرنا ما يتعلّق بالضمير في التفسير فراجع. و اللام في قوله: سَمّاعُونَ لِلْكَذِبِ للتقوية، و قيل: لتضمين السماع معنى القبول. و منه: «سمع اللّه لمن حمده»، أن تقبّل منه حمده.

و اعترض على ذلك بوجوه. و قيل: إنّ اللام للعلّة و المفعول محذوف، أي:

سماّعون كلامك ليكذبوا عليك. و الأمر سهل بعد وضوح المعنى و تلازم الوجوه، فإنّ الجملة جارية مجرى التعليل للنهي. و الكلام في (اللام) في قوله تعالى:

سَمّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ ، نفس الكلام في (اللام) السابقة. و (آخرين) صفة ل (قوم)، و جملة: (لم يأتوك) صفة اخرى، و قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ ، صفة ثالثة ل (قوم)، و إتيان الفعل المضارع للدلالة على استمرارهم على التحريف بيانا لإفراطهم في العتو و المكابرة و الاجتراء على اللّه تعالى.

ص: 253

و قيل: الجملة مستأنفة لا محلّ لها من الإعراب. و قيل: خبر مبتدأ محذوف راجع إلى القوم. و ذكر (بعد) للتنبيه على معرفة مواضع الحقّ و تحريفه. و (شيئا) في قوله تعالى: فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، مفعول به ل (تملك)، و قيل: إنّه مفعول مطلق. و تنكير (خزي) في قوله تعالى لَهُمْ فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ للتفخيم، و هو مبتدأ و لَهُمْ خبره، و فِي اَلدُّنْيا خِزْيٌ متعلّق بما يتعلّق به الخبر من الاستقرار.

و قوله تعالى: وَ عِنْدَهُمُ اَلتَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اَللّهِ ، الواو للحال و جملة: (عندهم التوراة) مبتدأ و خبر، و جملة: (فيها حكم اللّه) حال من التوراة. و (حكم) مرفوع على الفاعليّة بالجارّ و المجرور، أي: كائنا فيها حكم اللّه، و قيل غير ذلك. و جملة:

فِيها هُدىً وَ نُورٌ اسميّة (فيها) خبر مقدّم و (هدى) مبتدأ، و الجملة حال من التوراة، و كذا جملة: «يحكم بها النبيّون». و قوله تعالى: اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيّين على سبيل المدح.

و استشكل بعضهم بأنّ المدح إنّما يتحقّق بالصفات الخاصّة التي يتميّز بها الممدوح، و الإسلام أمر عامّ . و يردّ بأنّ الإسلام على درجات، فما اختصّ به النبيّون غير ما هو الموجود عند غيرهم، مضافا إلى أنّ الصفة قد تذكر لتعظيم نفسها، و أنّ المتّصف بها عظيم الشأن و القدر. و مثل ذلك كثير في القرآن الكريم.

و أما قوله تعالى: وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ... ، فالمعروف أنّه على النصب عطفا على النفس. و قرئ (العين)، و ما عطف عليها بالرفع باعتبار أنّها جمل معطوفة على جملة: أَنَّ اَلنَّفْسَ من حيث اللفظ، و قيل غير ذلك من الوجوه المذكورة في الكتب المفصّلة.

و النفس إن أريد منها الإنسان بعينه فهو مذكر، و لذا يقال: ثلاثة أنفس، على معنى ثلاثة أشخاص. و إن أريد بها الروح، فهي مؤنّثة لا غير و تصغيرها على (نفيسة).

و أما العين بمعنى الجارحة المخصوصة، فهي مؤنّثة، و أشكل على إطلاق هذا القول، و الاذن مثلها. و الأنف مذكّر و السنّ مؤنّثة و لا تذكّر. و القاعدة المعروفة في

ص: 254

أعضاء الإنسان: أنّ ما منها اثنان في البدن كاليد و الضلع و الرجل فمؤنّث، و ما منها واحد كالرأس و الفم و البطن فمذكّر. و لكنّها غير مطردة، فإنّ الحاجب و الصدغ و الخدّ و المرفق و الزند كلّ منهما مذكّر، مع أنّ الموجود منها في البدن اثنان. و الكبد و الكرش مؤنّثان و ليس منهما في البدن إلاّ واحد، و نظم بعض الشعراء هذا الخلاف في قوله:

و هاك من الأعضاء ما قد عدّدته *** تؤنّث أحيانا و حينا تذكّر

لسان الفتى و الإبط و العنق و القفا و عاتقه و المتن و الضرس يذكر

و ألحق بعضهم بما ذكر الذراع و الكراع و المعي و العجز، و بعضهم ذهب إلى تأنيث الذراع لا غير، و التفصيل يطلب من محلّه.

و أما قوله تعالى: وَ اَلْجُرُوحَ قِصاصٌ بالنصب عطف على اسم (أنّ ) و (قصاص) هو الخبر.

و في الآيات التفات إلى الخطاب أو الغيبة، اهتماما بشأن الموضوع و تذكيرا للمخاطب.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ ، على استمرار الصراع بين الحقّ و الباطل الذي هو قديم جدا، و امتناع إبطال الحقّ و إزالته مهما بلغ الباطل من القوّة و مسارعته في ذلك، و لا بدّ أن لا يكون ذلك موجبا لحزن أهل الحقّ . و في الآية وعد منه عزّ و جلّ لنبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بانتصار الحقّ و زهوق الباطل، و قد ذكر عزّ و جلّ جميع وجوه الباطل المتمثّلة بالمسارعة في الكفر، و النفاق، و سماع الكذب، و العمل به، و تحريف الكتب الإلهيّة، و ارتكاب المحرّمات، و أكل السحت، ثمّ ذكر أحوال أهل الكتاب بالنسبة

ص: 255

إلى الحقّ و ما أنزله اللّه تعالى، و أمرهم عزّ و جلّ بتطبيق ذلك، فكانت هذه الآيات جامعة لجملة كثيرة من وجوه الباطل التي تصدّ عن الحقّ و تمنع من تطبيقه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: مِنَ اَلَّذِينَ قالُوا آمَنّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ ، على أنّ النفاق من مظاهر الكفر، بل أنّه من المسارعة فيه، و قد قرن اللّه تعالى المنافقين بالذين هادوا، الذين وصفهم عزّ و جلّ بأوصاف تدلّ على خبثهم و كمال جرأتهم على اللّه تعالى في نقضهم العهود و المواثيق و ارتكابهم المحرّمات، كما أنّه عزّ و جلّ وصف المنافقين بأوصاف عديدة في غير هذا الموضع من القرآن الكريم، تدلّ على أنّهم أضرّ بالحقّ و أهله من غيرهم من الكفّار، و شنّع عليهم، و أظهر نواياهم الخبيثة، و أمر المؤمنين بالحذر منهم و معالجة النفاق و إصلاح المنافقين بطرق قويمة. فإنّه من مرض القلب الذي يصعب علاجه إلاّ بما بيّنه عزّ و جلّ .

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ على أنّ الإصرار على سماع الكذب مرجوح في حدّ نفسه، و أنّ كثرة الجلوس مع الكذّابين يوشك أن يعدّ منهم، و تدلّ عليه جملة من الأحاديث. ففي الخبر: «كفى بالمرء كذبا أن يحدّث بكلّ ما سمعه».

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ اَلْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ على أنّ التحريف إنّما كان عن علم و عمد منهم لكتاب اللّه تعالى و أحكامه المقدّسة و تشريعاته الحكيمة، و هذا يدلّ على شناعة فعلهم و كمال بعدهم عن الحقيقة و ضلالهم و استكبارهم على اللّه تعالى، و يؤكّد ذلك قوله عزّ و جلّ حكاية عنهم:

يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا .

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: وَ مَنْ يُرِدِ اَللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اَللّهِ شَيْئاً ، أنّ بعض المعاصي و الآثام يوجب قطع العصمة بين من يرتكبها و بين اللّه تبارك و تعالى، فلا تؤثّر شفاعة الأنبياء و المعصومين عليهم السّلام و لا دعاؤهم في رفع ما حلّ به نتيجة المعاصي و ما جناه من الأفعال الشنيعة، و تدلّ عليه جملة من الآيات

ص: 256

و الروايات، و تقدّم في بحث الشفاعة بعض الكلام فراجع. كما أنّ المستفاد من قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، أنّ الواردات الإلهيّة و تحقيق الرابطة بين اللّه و عبده إنّما تكون بتطهير القلوب من درن الآثام و مفاسد الأخلاق، و لا تحصل هذه الطهارة إلاّ بالتخلية عن الرذائل و التحلية بالفضائل، و أنّ التصدّي من العبد لهذا الأمر يوجب تعلّق إرادة اللّه تعالى في التطهير و التوفيق له، فالآية الشريفة بمنزلة التعليل لما سبق و ما يذكره عزّ و جلّ من الخزي و العذاب العظيم، و هذه من الآيات المعدودة التي تبيّن السرّ في سلب التوفيق عن العبد و انقطاع العصمة بينه و بين اللّه تعالى و أنبيائه العظام، فلا تؤثّر فيه جميع الأمور إلاّ ما إذا حصل من نفس العبد ما يوجب رفع المانع منه، و قد ذكر عزّ و جلّ جملة من الموانع العظيمة في الآيات الشريفة، و إنّما على الأنبياء بيان سبل الهداية و التوفيق، ثمّ الحكم عليهم بما يلائم أفعالهم إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ، فليس لهم التوسّط بينهم و بين اللّه تعالى في تطهير نفوسهم و رفع ما حلّ بهم من الخزي و النكال ما لم يطهروا قلوبهم من تلك الرذائل.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى: أَكّالُونَ لِلسُّحْتِ ، أنّهم انهمكوا في ارتكاب المحرّمات و أكل الحرام من أيّ وجه كان، حتّى غلب على الحلال و صار أمرا مستساغا عندهم، و يمكن أن يستفاد من صيغة المبالغة تعدّد مصادر السحت و عدم اختصاصه بالرشوة فقط، كما ذكره بعض. و الآيات تدلّ على ذمّ الظلم و القدح في الحرام، و مدح العدل و القسط بين الأنام.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ، أنّ الإيمان بالتوراة و سائر الكتب الإلهيّة و الرضا بما أنزله اللّه تعالى فيها، من أجزاء الإيمان المطلوب، فقد نفى عزّ و جلّ عنهم الإيمان لمّا أعرضوا عن حكم اللّه تعالى فيها.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ ، أنّ العلماء في جميع الأديان الإلهيّة هم حفظة كتب اللّه تعالى، يجب عليهم أن يحفظوا حدودها و أحكامها و معارفها من التضييع و التحريف على الإطلاق، و أن يكونوا دعاة إليها

ص: 257

قولا و عملا. ففي الحديث: «العلماء أمناء اللّه في أرضه»، فصاروا شهداء على كتاب اللّه تعالى، و الشهيد لا يمكن أن يخشى أحدا في شهادته، و أنّ الخشية إنّما تكون من اللّه عزّ و جلّ فيما إذا خالف الميثاق الذي أخذ منه على العمل به، فيكون قوله تعالى:

فَلا تَخْشَوُا اَلنّاسَ وَ اِخْشَوْنِ ، بيانا لحقيقة من الحقائق الواقعيّة في مجال العمل و التطبيق للشريعة الغرّاء.

التاسع:

ذكرنا في التفسير وجه التكرار في قوله تعالى: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ - أو - اَلظّالِمُونَ - أو - اَلْفاسِقُونَ ، و نزيد هنا أنّ الآيات الثلاث استوعبت جميع الفروض التي يمكن فرضها في مجال العمل بالأحكام الإلهيّة، و من جملتها القضاء، فهي تشمل عدم الحكم بما أنزل اللّه، و الحكم بغير ما أنزله عزّ و جلّ ، و يدلّ عليه ما ورد في بعض الأخبار: «الحكم حكمان:

حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بحكم الجاهلية»، كما أنّها تشمل كلّ الوجوه في الإخلال بها و استبدالها من التغيير و الزيادة و النقص و التأويل الباطل و نحو ذلك، بلا فرق في ذلك كلّه بين أن يكون عن علم أو عن جهل، أو كان عن إعراض و نكران للحكم الذي هو الكفر، أو بترك الحكم لأجل تغيير ما أنزله اللّه تعالى و تبديله و هو الظلم، أو بالخروج عن الحدود و القيود التي لها الأثر في تهذيب النفوس و تزكيتها، فهو الفسق، و قد ذكر جميع الأديان الإلهيّة في هذه الآيات لبيان أنّ ما ذكر من الحقائق الإلهيّة التي لا تختصّ بدين معين.

العاشر:

يستفاد من قوله تعالى: فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ ، أنّ الكتب الإلهيّة كلّها تشترك في هدف واحد، و هو هداية البشر و إنارة الطريق له، و تكشف ما أبهم عليهم من الأحكام، كلّ بحسب لياقته و استعداده، و تدلّ على ذلك جملة من الآيات الشريفة.

ص: 258

بحث روائي:

في المجمع عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ - الآية، أنّ امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبي صلّى اللّه عليه و آله عن ذلك، طمعا في أن يأتي لهم برخصة، فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف، و كعب بن أسيد، و شعبة بن عمرو، و مالك بن الصيف، و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم، فقالوا: يا محمّد! أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا ما حدّهما؟ فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك ؟ قالوا: نعم. فنزل جبرائيل بالرجم، فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به، فقال جبرائيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه لهم، فقال النبي: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له:

ابن صوريا، قالوا: نعم. قال: فأيّ رجل هو فيكم ؟ قالوا: أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل اللّه على موسى. قال: فأرسلوا إليه ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا، فقال له النبي: إنّي أنشدك اللّه الذي لا إله إلاّ هو، الذي أنزل التوراة على موسى و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المن و السلوى، هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن ؟ قال ابن صوريا: نعم، و الذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذّبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمّد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم. قال ابن صوريا: هكذا أنزل اللّه في التوراة على موسى، فقال له النبيّ : فماذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه ؟ قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزنى في أشرافنا حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه، فقال له قومه: لا حتّى ترجم فلانا، يعنون به ابن عمّه، فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف

ص: 259

و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلد أربعين جلدة ثمّ يسود وجوههم ثمّ يحملان على حمارين و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما، فجعلوا هذا مكان الرجم، فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك، فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده، و قال:

أنا أوّل من أحيا أمرك إذا أماتوه، فأنزل اللّه فيه: يا أَهْلَ اَلْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ اَلْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ، فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ عن ذلك، ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه، فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي، فقال: صدقت، و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه امّه شيء، أو بامّه ليس فيه من شبه أبيه شيء، فقال: أيّهما علا و سبق ماء صاحبه كان أشبه له، قال: قد صدقت فأخبرني ما للرجل من الولد، و ما للمرأة منه ؟ قال: فأغمي على رسول اللّه طويلا، ثمّ خلي عنه محمرّا وجهه يفيض عرقا. فقال: اللحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل. قال له: صدقت، أمرك أمر نبي، فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال: يا محمّد! من يأتيك من الملائكة ؟ قال: جبرئيل، قال: صفه لي، فوصفه النبي. فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، و أنّك رسول اللّه حقّا. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير، فقالوا: يا محمّد! إخواننا بنو النضير، و أبونا واحد، و نبيّنا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد و أعطونا ديتهم سبعين وسقا من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر. و إن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منّا، و بالرجل منهم رجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم، فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات».

ص: 260

أقول: روي قريب منه في كتب أهل السنّة و تفاسيرهم، و يستفاد من الحديث أنّهم كانوا يعرفون أنّه النبيّ الموعود الذي بشّر به كتبهم، و لكنّهم خالفوه و عاندوه عتوا و استكبارا، كما أنّه يدلّ على أنّ الحكم الذي حكم به الرسول صلّى اللّه عليه و آله موجود في كتبهم، و أقرّ به ابن صوريا، و لكنّهم حرّفوه و بدّلوا دين اللّه تعالى كما أخبر به عزّ و جلّ . و ذكر جمع من المتتبعين أنّ الموجود في التوراة الحاليّة الدائرة بينهم يقرب ممّا هو المذكور في الحديث، راجع التوراة الأصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية، كما أنّ الموجود فيها من حكم الدية يقارب ما ورد في الحديث، راجع الأصحاح الحادي و العشرين من سفر الخروج.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس قال: إنّ اللّه أنزل: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ - أو - اَلظّالِمُونَ - أو - اَلْفاسِقُونَ ، أنزله اللّه في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الاخرى في الجاهلية حتّى ارتضوا و اصطلحوا على أنّ كلّ قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، و كل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق، فكانوا على ذلك حتّى قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله المدينة، فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله يومئذ لم يظهر عليهم، فقامت الذليلة فقالت: و هل كان هذا في حيين قط دينهما واحد، و نسبهما واحد، و بلدهما واحد، و دية بعضهم نصف دية بعض ؟ إنّما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا، و فرقا منكم، فأما إذ قدم محمّد فلا نعطيكم ذلك، فكادت الحرب تهيج بينهم، ثمّ ارتضوا على أن يجعلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله بينهم، ففكرت العزيزة فقالت: و اللّه ما محمّد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا إلاّ ضيما و قهرا لهم، فدسوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فأخبر اللّه رسوله بأمرهم كلّه، و ماذا أرادوا فأنزل اللّه تعالى: يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ اَلَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي اَلْكُفْرِ - إلى قوله - وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْفاسِقُونَ ، ثمّ قال: فيهم و اللّه نزلت».

أقول: روى قريب منه القمّي في تفسيره مع الاختلاف في كيفيّة التطبيق.

و ممّا يهون الخطب أنّها من روايات أسباب النزول التي قلّما سلمت من الإشكال، و العمدة هي الأخذ بظواهر الآيات و ما تدلّ عليه.

ص: 261

و في تفسير العياشي في قوله تعالى: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ، قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء، و فتح مسامع قلبه، و وكل به ملكا يسدده، و إذا أراد اللّه بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء و سدّ مسامع قلبه، و وكل به شيطانا يضلّه، ثمّ تلا هذه الآية:

فَمَنْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً - الآية، و قال: إِنَّ اَلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ، و قال: أُولئِكَ اَلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اَللّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ .

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة، و هي تبيّن كيفيّة توفيق اللّه عبده الذي لا بدّ له من الاستعداد و القابلية الحاصلتين من عمل العبد و كسبه.

و في الكافي: عن عمّار بن مروان قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الغلول، فقال: كلّ شيء غل من الإمام فهو سحت، و أكل مال اليتيم و شبهه سحت، و للسحت أنواع كثيرة، منها أجور الفواجر و ثمن الخمر. و النبيذ المسكر، و الربا بعد البينة، فأما الرشا في الحكم، فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله صلّى اللّه عليه و آله».

و فيه: أيضا عن السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب، و ثمن الخمر، و مهر البغي، و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن».

أقول: الروايات في مضمون ذلك كثيرة من الخاصّة و العامّة و إن اختلفت في السعة و الضيق، و هي تدلّ على أنّ المراد من السحت مطلق الحرام، و من ذلك يعرف أنّ اختصاص بعض روايات السحت بالرشا في الحكم إنّما هو لأجل الأهميّة و بيان فظاعة الأمر فيه.

و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، قال: نسختها هذه الآية: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ .

أقول: روى قريبا منه النحاس في ناسخه، و الطبراني و الحاكم - و صحّحه - و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس أيضا، و تقدّم في التفسير أنّه لا منافاة بين الآيتين، لا لأجل نزولهما دفعة واحدة، فلا معنى للنسخ حينئذ، فإنّ ذلك لا

ص: 262

يستوجب منعا للنسخ لو تحقّق التنافي بين الآيتين، بل لأجل أنّ الآية الاولى تثبت الخيار للرسول في الحكم بينهم و الإعراض عنهم، و الآية الثانية تبيّن أنّه لو اختار الحكم بينهم لا بدّ أن يكون بما أنزله اللّه تعالى لا بما يريدونه، و سياق الآيات أيضا يدلّ على ذلك. و ممّا ذكرنا يظهر أنّه لا يحتاج إلى إرجاع الضمير في قوله تعالى:

بَيْنَهُمْ إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصّة، و إن كان ذلك لا يضرّ بأصل المطلب، فافهم.

و في التهذيب روى الشيخ عن عبد اللّه بن مسكان رفعه قال: «قال رسول اللّه: من حكم في درهمين بحكم جور ثمّ جبر عليه، كان من أهل هذه الآية: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ اَلْكافِرُونَ ، فقلت: و كيف يجبر عليه ؟ فقال:

يكون له سوط و سجن فيحكم عليه، فإن رضي بحكمه و إلاّ ضربه بسوط و حبسه في سجنه».

أقول: رواه الكليني أيضا. و المراد منه هو الحكم على خلاف ما أنزله اللّه تعالى مطلقا عن علم به بأن يكون حكما بتّا و قطعا، كما يدلّ عليه قوله صلّى اللّه عليه و آله: «يجبر عليه»، لا مجرّد إنشاء الحكم.

و يستفاد من الحديث عموم الآية و شمولها لغير اليهود أيضا. و يدلّ عليه إطلاق الآيات الشريفة. و منه يظهر أنّه لا وجه لتخصيصها باليهود كما ذهب إليه جمع.

و في الدرّ المنثور أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير، قال: «سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم تنزل علينا، قال: اقرأ ما قبلها و ما بعدها، فقرأت عليه، فقال: لا، بل نزلت علينا. ثمّ لقيت مقسما - مولى ابن عباس - فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة، قلت: زعم قوم أنّها نزلت على بني إسرائيل و لم ينزل علينا. قال: إنّه نزل على بني إسرائيل و نزل علينا. و ما نزل علينا و عليهم فهو لنا و لهم، ثمّ دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة و حدّثته أنّي سألت عنها

ص: 263

سعيد بن جبير و مقسما، قال: فما قال مقسم ؟ فأخبرته بها، قال: صدق، و لكنّه كفر ليس ككفر الشرك، و فسق ليس كفسق الشرك، و ظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال، قال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته ؟ قال: لقد وجدت له فضلا عليك و على مقسم».

أقول: ظهر ممّا سبق الوجه في عدم اختصاص الآيات ببني إسرائيل، و المراد من قول علي بن الحسين عليه السّلام: «كفر ليس ككفر الشرك...» بعض مراتب الكفر و الفسق و الظلم، و أنّ الشرك أعلاها مرتبة.

و في تفسير العياشي عن أبي العباس عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال علي عليه السّلام:

من قضى في درهمين بغير ما أنزل اللّه فقد كفر. قلت: كفر بما أنزل اللّه، أو بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله. قال: ويلك إذا كفر بما أنزل على محمّد فقد كفر بما أنزل اللّه».

أقول: المراد منه أنّه لا فرق في موارد القضاء بغير ما أنزل اللّه بين أن يكون عظيما أو حقيرا. و ظاهره عدم الفرق أيضا بين أن يكون الحكم بغير ما أنزله اللّه تعالى. و عدم الحكم بما أنزله اللّه تعالى، و ذيل الرواية يدلّ على أنّ ما جاء به نبيّنا الأعظم صلّى اللّه عليه و آله هو ممّا أنزل اللّه تعالى، فالحكم على خلافه حكم بغير ما أنزل اللّه، و من جملة ما جاء به النبي صلّى اللّه عليه و آله ولاية أوصيائه المعصومين عليهم السّلام و اتّباع أوامرهم، فيكون الردّ عليهم ردّا على الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و الردّ عليه كفر باللّه العظيم، و يدلّ على ذلك ما ورد في مقبولة عمر بن حنظلة: «الرادّ علينا كالرادّ على اللّه تعالى».

و روى الشيخ في التهذيب عن زرارة عن أحدهما عليهما السّلام في قول اللّه عزّ و جلّ :

اَلنَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ اَلْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ اَلْأَنْفَ بِالْأَنْفِ ، قال عليه السّلام: هي محكمة».

أقول: ذكرنا سابقا أنّ هذه الآية من الآيات الحكيمة التي قرّرتها جميع الشرائع الإلهيّة، لا سيما الشريعة الإسلاميّة، فقد فصّلتها و بيّنت جميع خصوصياتها.

و في الدرّ المنثور أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي صلّى اللّه عليه و آله في قوله تعالى: فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفّارَةٌ لَهُ ، قال صلّى اللّه عليه و آله: «الرجل تكسر سنّه أو تقطع يده، أو يقطع الشيء، أو يجرح من بدنه فيعفو عن ذلك فيحطّ عنه قدر

ص: 264

خطاياه، فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، و إن كان الثلث فثلث خطاياه، و إن كانت حطّت عنه خطاياه كذلك».

أقول: روى مثله الديلمي عن ابن عمر، و يدلّ عليه بعض الروايات المنقولة عن الأئمة الهداة عليهم السّلام، كما عرفته في التفسير. و لعلّ ذكر الدية مع أنّ العفو إنّما كان عن القصاص، لأنّها قابلة للتبعيض، بخلاف القصاص الذي لا يكون قابلا له.

بحث كلامي:

يدلّ قوله تعالى: يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ ، على المنزلة العظيمة التي منحها عزّ و جلّ لهذه الطوائف الثلاث، النبيّين و الربّانيين و الأحبار، فقد جعلهم تعالى حكّام الشرع المبين الذين يحكمون بما أنزل اللّه لبسط العدل بين الناس و إقامة النظام الربّاني فيهم، و إيصالهم إلى الكمال المنشود، كلّ حسب لياقته و استعداده. و المستفاد من الآية الشريفة أنّ الأنبياء هم الأصل في هذا المنصب الجليل، ثمّ يأتي في المرتبة الثانية الربّانيون الذين هم حفظة الشرع المبين ببيان الحقائق و كشف ما أبهم من الشريعة، ثمّ الأحبار الذين هم أمناء اللّه على أحكامه المقدّسة، و لا ريب أنّ تلك لا يمكن أن تنال إلاّ إذا توفّرت شروط الولاية و الإمامة، و الآية تبيّن أهمّ تلك الشروط، و هي ثلاثة:

الأوّل: كونهم ربّانيين يدعون إلى اللّه تعالى قولا و عملا، و قد تقدّم الكلام في معنى هذه الكلمة في سورة آل عمران. و هي لم ترد في القرآن الكريم إلاّ في صفات الأنبياء و الأوصياء.

الثاني: العلم الحاصل من تعليم اللّه تعالى لهم خصوصيات الشريعة و الكتاب، بل الآية الكريمة تدلّ على معنى أدق، لأنّ الحفظ يدلّ على العلم و التحفّظ على ما علم من الضياع و التبديل و التغيير، فيكون أخصّ من مجرّد العلم،

ص: 265

فإنّ الأوّل عبارة عن إيجاب الحفظ و رؤيته في المراقبة قولا و عملا من كلّ من وجب عليه الحفظ دون الثاني، فإنّه لم ينظر فيه هذه الخصوصية، و لعلّ هذا الفرق أوجب أن يكون هذا الوصف من صفات الأوصياء، كما أنّ هناك فرقا آخر أيضا، و هو أنّ الاستحفاظ يدلّ على العلم التامّ بخصوصيات الكتاب و ما أنزله الله تعالى و التكليف بالحفظ و بيان ما كمن في نفوسهم الطاهرة من العلم، بخلاف مجرّد العلم، و لذا اعتبر في علم المعصوم أن يكون محيطا بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلال الشريعة و حرامها، و العلم بالكتاب و شؤونه. ففي الحديث المروي عن أبي عمر الزبيريّ ، المروي في تفسير العياشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «انّ ممّا استحقّت به الإمامة العلم المنور - و في نسخة المكتونة - بجميع ما تحتاج إليه الامّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصّة و عامّة، و المحكم و المتشابه، و دقائق علمه أو غرائب تأويله، و ناسخه و منسوخه، قلت: و ما الحجّة بأنّ الإمام لا يكون إلاّ عالما بهذه الأشياء التي ذكرت ؟ قال عليه السّلام: قول اللّه تعالى فيمن أذن اللّه لهم بالحكومة و جعلهم أهلها: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا اَلنَّبِيُّونَ اَلَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ اَلرَّبّانِيُّونَ وَ اَلْأَحْبارُ ، فهذه الأئمة دون الأنبياء الّذين يربّون الناس بعلمهم، و أما الأحبار فهم العلماء دون الربّانيون، ثمّ أخبر فقال: بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ ، و لم يقل: بما حملوا منه»، فإنّه (عليه الصلاة و السلام) يشير إلى معنى دقيق، و هو أنّ علم الأنبياء أعلى مرتبة من علم الأوصياء الذي يختلف عن علم العلماء للذين حملوا علم الدين بالتعليم و التعلم، و الأوصياء ليسوا كذلك، فإنّهم علموا الكتاب بما وصل إليهم من الأنبياء و ما ألهمهم اللّه تعالى، و لذا كلّفوا بالحفظ و يسألون عنه، نظير قوله تعالى: لِيَسْئَلَ اَلصّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ [سورة الأحزاب، الآية: 8]، أي: يسألهم عمّا كلّفوا به من الصدق في الأقوال و الأفعال و ما كمن في نفوسهم من صفته.

إن قلت: إنّه قد ذكر عزّ و جلّ الأحبار الذين هم علماء الدين في سياق الربّانيين، فلم لم يشترط فيهم ما اشترط في الأنبياء و الربّانيين من العلم و العصمة.

ص: 266

قلت: إنّه مضافا إلى عدم الدليل على اشتراطها فيهم، بل وردت الأدلة على عدمه، لأنّ المقتضي للاشتراط في الأنبياء و الأوصياء هو ما أخبر به عزّ و جلّ من صفة الاستحفاظ فيهم و تكليفهم بالحفظ، فإنّهم رسل اللّه تعالى و امناؤه على الشريعة و مبيّنوا حلالها و حرامها و المكلّفون بحفظها، و احتياج الامّة إليهم كما عرفت آنفا، و هذا بخلاف الأحبار و العلماء، فإنّه و إن أخذ العهد و الميثاق منهم على بيان الأحكام الإلهيّة و حفظها، إلاّ أنّه مجرّد ثبوت شرعيّ ، لا ثبوت حقيقيّ مبني على العلم و العصمة عن الخطأ و الغلط، و الدين الإلهيّ لا يتمّ إلاّ بالأخير دون الأوّل.

الشرط الثالث: العصمة من الغلط و الخطأ، فإنّ العلم بالمعنى المزبور في الربّانيين الذي تبتني عليه الشهادة يستدعي العصمة، فإنّها شهادة غير ما هي المتداول عند الناس، و هي شهادة على الشريعة و الكتاب كشهادتهم على الأعمال يوم القيامة، التي تقدّم الكلام فيها في قوله تعالى لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى اَلنّاسِ وَ يَكُونَ اَلرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة، الآية: 143]. و هي شهادة حضور و مراقبة و حفظ، و هي تختصّ بالأنبياء و الأوصياء، و لا ريب أنّ مثل هذه الشهادة تستلزم العصمة، و إلاّ استلزم الخلف، فهي شهادة حقيقيّة خالية عن الخطأ و الغلط و المعاصي، و يدلّ عليه ما ورد في الحديث المزبور المروي عن تفسير العياشي عن الصادق عليه السّلام: «انّ ممّا استحقّت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة التي توجب النار».

و ممّا ذكرنا يظهر معنى قوله عليه السّلام في الحديث المزبور: «فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربّون الناس بعلمهم»، فإنّهم أوصياء الأنبياء و الأئمة على الخلق و الحجّة عليهم، لأنّهم علموا بالكتاب حقّ العلم و شهدوا عليه بحقّ الشهادة.

و الآية الشريفة و إن نزلت في الأنبياء و الربانيين و الأئمة من بني إسرائيل، إلاّ أنّ المناط موجود في غيرهم من الأنبياء و الأئمة، لأنّ الاستحفاظ و الشهادة اللذين لا يقوم بهما إلاّ الربّانيون، يكونان في كلّ كتاب إلهيّ نزل من عند اللّه تعالى يشتمل

ص: 267

على المعارف الربوبيّة و الأحكام الإلهيّة، و يدلّ على ذلك ما رواه العياشي عن مالك الجهني، عن أبي جعفر عليه السّلام في قوله تعالى: إِنّا أَنْزَلْنَا اَلتَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ - إلى قوله تعالى: - بِمَا اُسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اَللّهِ . قال عليه السّلام: «فينا نزلت»، لأنّ القرآن الكريم الذي احتوى من المعارف الإلهيّة على أسماها، و من الأحكام الشرعيّة على أكملها»، و من المكارم على أجلاها و أعلاها هو الذي يستدعي لأن يكونوا عليهم السّلام المصداق الأكمل لهذه الآية الشريفة.

ص: 268

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ .......

اشارة

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) بعد ما بيّن عزّ و جلّ شأن التوراة و الإنجيل و أنّهما كتاب هدى و نور، و قد حتم على بني إسرائيل الحكم بما أنزل فيهما و إقامتهما، و شدّد عليهم من ترك الحكم بهما، و اعتبر ذلك كفرا و ظلما و فسقا، يذكر تعالى في هذه الآيات شأن القرآن العظيم و مكانته العظيمة بين الكتب الإلهيّة، فهو المهيمن عليهما، و أمر نبيّه الكريم صلّى اللّه عليه و آله بإقامته و الحكم بما انزل فيه، و الإعراض عمّن صدّ عن الحقّ ، ثمّ بيّن سبحانه الحكمة في تعدّد الشرائع و المناهج، و اعتبرها مقدّمات لهذا الدين الذي هو المقصد و النتيجة لها، فكان آخر الأديان الإلهيّة، و أمر رسوله العظيم بالاستقامة و الإعراض عن الكافرين، و حذّرهم من الصدّ عن إقامة الحقّ و اتّباع حكم الجاهلية، فإنّه سيجازيهم بأعمالهم في الدنيا و سيصيبهم عذاب الآخرة بما كسبت أيديهم.

ص: 269

التفسير

قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ .

تعظيم لشأن القرآن الكريم، و تنويه بعظيم فضله و تفوّقه على سائر الكتب الإلهيّة، و بيان بأنّه الفرد الكامل الحقيق بأن يسمّى كتابا على الإطلاق، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه لفظ الكتاب، و تظهر أهميّته بعد التصريح باسم كتاب موسى عليه السّلام، و كتاب عيسى عليه السّلام، فيكون اللام للعهد و التعظيم. و (بالحق) حال مؤكّدة من الكتاب، أي: أنزلناه حال كونه بالحقّ ، و إطلاقه يشمل نزوله و علومه و أحكامه و جميع شؤونه، فهو حقّ من حقّ و في حقّ ، فلا يأتيه الباطل من أيّة جهة من جهاته.

قوله تعالى: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْكِتابِ .

بيان لأحد أوصاف القرآن الكريم، و هو أنّه مصدّق لما بين يديه من الكتب الإلهيّة التي نزلت من عند اللّه، و مقرّر لما جاء فيها من الأحكام، إلاّ ما نسخه الإسلام، و في الآية الشريفة الشهادة على أنّها كتب إلهيّة، و أنّ الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم و لم يكذبوا في رسالتهم و تبليغهم بها.

قوله تعالى: وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ .

وصف ثان له يدلّ على عظيم شأنه بين الكتب، و مادة (همين) تدلّ على السلطة على شيء لأجل القيام بشئونه، و يستلزم ذلك المراقبة و الاهتمام و الشهادة، و هذه حال القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب الإلهيّة، فإنّه القائم بشئونها و المتسلّط عليها بحفظها و مراقبتها و أنواع التصرّف فيها، فهو كتاب تبيان لكلّ شيء، كما وصفه عزّ و جلّ في غير المقام، فيحفظ ما يكون قابلا للحفظ كالأصول الثابتة، و ينسخ ما يكون قابلا للتغيير و التبديل، كالفروع التي تتغيّر حسب حاجات الإنسان و ما يقع في طريق استكماله، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فالقرآن مصدّق لما ورد فيها أنّها من عند اللّه تعالى و مبيّن لها، و له حقّ التصرّف فيها بما يشاء من النسخ و التكميل، هذا ما يمكن أن يستفاد من هذه الكلمة بمعونة القرائن المتعدّدة الواردة في مواضع متفرّقة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لها معاني متعدّدة ربّما تبلغ خمسة، و المتمعّن فيها يرى أنّها من لوازم المعنى، و ليست هي المعنى الحقيقيّ لها، و كم لهم خلطا بين المعنى الحقيقيّ و لوازمه، و من هنا جاء المشترك و المترادف، و يحقّ لنا القول إنّ كثيرا من المعاني المترادفة أو المعاني المشتركة ترجع في حاقّ الواقع إلى معنى واحد، لكنّه مبهم في ضمن لوازم متعدّدة، و على الباحث أن يستخرج ذلك المعنى منها و يجهد في ذلك، نظرا لدقّة الموضوع، و قد سبق منّا بعض الموارد فراجع.

ص: 270

وصف ثان له يدلّ على عظيم شأنه بين الكتب، و مادة (همين) تدلّ على السلطة على شيء لأجل القيام بشئونه، و يستلزم ذلك المراقبة و الاهتمام و الشهادة، و هذه حال القرآن الكريم بالنسبة إلى الكتب الإلهيّة، فإنّه القائم بشئونها و المتسلّط عليها بحفظها و مراقبتها و أنواع التصرّف فيها، فهو كتاب تبيان لكلّ شيء، كما وصفه عزّ و جلّ في غير المقام، فيحفظ ما يكون قابلا للحفظ كالأصول الثابتة، و ينسخ ما يكون قابلا للتغيير و التبديل، كالفروع التي تتغيّر حسب حاجات الإنسان و ما يقع في طريق استكماله، قال تعالى: اَلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ اَلرَّسُولَ اَلنَّبِيَّ اَلْأُمِّيَّ اَلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي اَلتَّوْراةِ وَ اَلْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ اَلْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ اَلطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ اَلْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ اَلْأَغْلالَ اَلَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اِتَّبَعُوا اَلنُّورَ اَلَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ اَلْمُفْلِحُونَ [سورة الأعراف، الآية: 157]، فالقرآن مصدّق لما ورد فيها أنّها من عند اللّه تعالى و مبيّن لها، و له حقّ التصرّف فيها بما يشاء من النسخ و التكميل، هذا ما يمكن أن يستفاد من هذه الكلمة بمعونة القرائن المتعدّدة الواردة في مواضع متفرّقة، و قد ذكر العلماء و المفسّرون لها معاني متعدّدة ربّما تبلغ خمسة، و المتمعّن فيها يرى أنّها من لوازم المعنى، و ليست هي المعنى الحقيقيّ لها، و كم لهم خلطا بين المعنى الحقيقيّ و لوازمه، و من هنا جاء المشترك و المترادف، و يحقّ لنا القول إنّ كثيرا من المعاني المترادفة أو المعاني المشتركة ترجع في حاقّ الواقع إلى معنى واحد، لكنّه مبهم في ضمن لوازم متعدّدة، و على الباحث أن يستخرج ذلك المعنى منها و يجهد في ذلك، نظرا لدقّة الموضوع، و قد سبق منّا بعض الموارد فراجع.

قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ترتّب هذا على سابقه كترتّب المعلول على العلّة التامّة، أي: إذا كان هذا شأن القرآن و منزلته، و أنّه الحقّ النازل من عند اللّه، فهو حقّ في موافقته مع الكتب الإلهيّة، و حقّ فيما خالفها، فلا بدّ أن تحكم بين الناس - و لا سيما أهل الكتاب - بما أنزل اللّه عليك من الأحكام و الشريعة، فإنّه الحقّ الذي لا محيص عنه، و ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ الأمر يتعلّق بالحكم بين أهل الكتاب، و هو و إن كان صحيحا، لكن يبعده احتياجه إلى التقدير، أي: إن حكمت بينهم فاحكم بما أنزل اللّه. فإنّه عزّ و جلّ خيّره صلّى اللّه عليه و آله بين الحكم و الإعراض عنهم في قوله تعالى: فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ، و يمكن القول بأنّ ذلك كان في وقائع خاصّة، أو قبل أن يأمره اللّه بالحكم بينهم بما أنزل، فإنّه القرآن المهيمن على الكتب، و شريعته ناسخة لجميع الشرائع، فلا موجب لاختصاص الضمير في (بينهم) باليهود - كما ذكره بعضهم - أو بأهل الكتاب. بل الأنسب التعميم بالنسبة إلى جميع

ص: 271

و كيف كان، فإنّ في تقديم (بينهم) الاعتناء بتعميم الحكم، كما أنّ في وضع الموصول موضع الضمير، التنبيه على علّية ما في حيز الصلة للحكم، و الترهيب عن المخالفة.

قوله تعالى: وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمّا جاءَكَ مِنَ اَلْحَقِّ .

أي: بعد وضوح الحقّ فلا تتبّع أهواء الكافرين و المعاندين الزائفة بالإعراض و العدول عمّا جاءك من الحقّ الذي لا مرية فيه، و لا يجوز العدول عنه، و ذكر الحقّ للتأكيد على أنّ ما سواه باطل، و للدلالة على كمال الاجتناب عن اتّباع الأهواء، و نهي المعصوم عليه السّلام عن اتّباع الأهواء إما لأجل تعليم الغير، أو لأنّ النهي لمن لا يتصوّر منه وقوع المنهي عنه جائز لا إشكال فيه.

قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً .

بيان لحقيقة من الحقائق الاجتماعيّة.

و أساس هذه الحقيقة هو اختلاف استعداد أفراد الإنسان و لياقتهم، فإنّ اللّه تعالى لم يخلقهم شرعا سواء في القابلية و الاستعداد و الملكات، و الآية الشريفة بمنزلة التعليل لما ورد قبلها من الأمر و النهي، و فيها التأكيد على متابعة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الانقياد لحكمه بما أنزل اللّه تعالى، لأنّ السابق و إن كان منهاجا و شريعة، إلاّ أنّ الذي كلّفوا به هو ما جاء به الرسول الأعظم، فإنّه الحقّ دون غيره ممّا نسخته هذه الشريعة التي هي أكمل الشرائع و أتمّها و أجمعها، و لا وجه لأخذ الناقص، و لا سيما أنّ الإنسان لم يبق على واحدة، فهو في طريق الاستكمال و الترقّي.

و مادة (شرع) تدلّ على السبيل الموصل إلى المطلوب، و منه شريعة الماء، أي:

الطريق الموصل إليه، و منه أيضا: ما شرعت فيه من شيء فهو شريعة، و منه: شرع سواء، إذا تساوى القوم في أمر، و قد وردت هذه المادة في القرآن الكريم في ما يقرب من خمسة موارد، قال تعالى: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ اَلْأَمْرِ فَاتَّبِعْها [سورة الجاثية - 18]، و قال تعالى شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً [سورة الشورى، الآية: 13]، و الشرع مصدر ثمّ جعل اسما للطريق النهج فقيل: يشرع و شرع و شريعة، و تطلق على المادّيات كما عرفت في شريعة الماء، و في المعنويّات،

ص: 272

يقال: شريعة اللّه، و هي الطريقة الإلهيّة الموصلة إلى الحياة الأبديّة، و هي التي تطهّر العامل من درن المعاصي و الأوساخ المعنويّة، كما يطهّر الماء الأوساخ الظاهريّة.

و كيف كان، فقد اختلفوا في معنى الشريعة، و الظاهر أنّ المراد منها هي الطريقة العمليّة التي تهدي الإنسان إلى إقامة دين اللّه تعالى، فتختصّ بالأحكام العمليّة من الأحكام و الفرائض و الحدود، و أما الدين، فهو أوسع و أشمل من حيث يشمل جميع جوانب الحياة، و يدلّ على ما ذكرناه قوله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اَللّهُ [سورة الشورى، الآية: 21]، فإنّه عزّ و جلّ أنكر عليهم التشريع في الدين بغير إذن اللّه تعالى، فكانت الشريعة حصّة خاصّة من الدين، بها يتديّن المرء، و لذا استعملت هذه الكلمة في خصوص تلك الأديان الإلهيّة السابقة التي شرّعت فيها أحكاما و فرائض ممّا ذكره عزّ و جلّ في قوله: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا اَلدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [سورة الشورى، الآية:

13]، هذا ما يتعلّق بالشريعة، و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى. و أما المنهاج فأصله الطريق الواضح البيّن، و منه طريق نهج، أي: بيّن واضح، و أنهج الأمر و نهج، إذا وضح. و منهج الطريق، و منهاجه، و قيل: هو الطريق الواضح في الحياة، فإنّ لكلّ قوم عاداتهم و تقاليدهم و سننهم في الحياة، ممّا لم تنسخه الشريعة و لم يردع عنها اللّه تعالى. و الحقّ أنّ المنهاج هو الطريق الموضح للشريعة، فيكون تابعا لها، أى: لطريقة الهداية التي يهدي سالكها إلى الصلاح و تزكية النفوس. و من هنا جاء في بعض الأخبار: «انّ المنهاج السنّة، و الشرعة السبيل، و أمر كلّ شيء بالأخذ بالسبيل و السنّة»، و هما مختلفان باختلاف استعداد البشر و أحوال الاجتماع، و المراد من الجعل في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا ، الجعل التشريعيّ التابع للجعل التكوينيّ كما عرفت، و المعنى: جعلنا لكلّ امّة من الناس شريعة و منهاجا لا يمكن أن تتخطّاها، و الاختلاف و إن كان في الفروع و الأحكام العمليّة، و لكن الشرائع كلّها اتّفقت على أصل الدين و جوهره، و هو المبدأ و المعاد، أي: توحيد اللّه تعالى

ص: 273

و الدعوة إليه و تسليم الوجه له، و الأنبياء مهما اختلفوا في الأحكام الفرعيّة، إلاّ أنّهم اتّفقوا في ذلك، و الآية لا تدلّ على بطلان شرع من قبلنا، كما زعمه بعض المفسّرين، فإنها ليست في مقام بيان هذه الجهة، فقد تتّحد الشرائع في كثير من الأمور، و إنّما تختلف فيما يرجع إلى استعداد البشر و حال الاجتماع و الظروف التي تحيط بكلّ امّة، و قد تبادلت الشرائع فيما بينها و اختلفت في الأخذ و العطاء، فأخذت شريعة خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله الملّة الحنفيّة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام، و أقرّت كثيرا من الأحكام التي نزلت في بقية الشرائع الإلهيّة، فإنّ طريق الهداية واحدة و إن اختلفت المسالك إليها.

قوله تعالى: وَ لَوْ شاءَ اَللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً .

بيان للسبب في اختلاف الشرائع، أي: و لو شاء اللّه تعالى أن يجعلكم أيها الناس امّة واحدة بأن يخلقكم مع استعداد واحد لا اختلاف في القابليات، فتتّحد جميع الشرائع و المناهج، فيكون المراد من الجعل هو الجعل التكوينيّ ، بمعنى خلقهم على مستوى واحد من الاستعداد و التهيؤ و القابلية، لا أن يكون المراد منه النوعيّة الواحدة، فإنّ الناس أفراد نوع واحد، أي: لم يخلقهم كسائر أنواع الخلق يقفون عند استعداد واحد، بل اختلفت العطايا الإلهيّة و الفيوضات الربّانيّة لأفراد هذا النوع، فجعلهم على تفاوت كبير في القابلية و الاستعداد، فاقتضى ذلك أن تختلف الشرائع و المناهج، لتتمّ سعادتهم و تكون سلما لارتقائهم درجات الرقي و الكمال، و الأمم التي اختلفت الشرائع فيها قد ذكرها عزّ و جلّ في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ اَلدِّينِ ما وَصّى بِهِ نُوحاً وَ اَلَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ... [سورة الشورى، الآية: 13].

قوله تعالى: وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ .

تعليل لما سبق و بيان لأحد وجوه الحكمة في تردّد الشرائع، أي: لما كانت العطايا الإلهيّة لأفراد نوع الإنسان مختلفة و متفاوتة لجهات كثيرة و حكم متعدّدة، فكان لا بدّ من تعدّد الشرائع طبقا لمراتب الاستعداد و القابليات، و العلّة في ذلك هي أنّ إرادته تعالى تعلّقت بأن يكون ذلك امتحانا لكم فيما أنعم عليكم من

ص: 274

الأحكام و التكاليف المجعولة، و معرفة مقدار صبركم على الطاعة و صبركم عن المعصية، و يتميّز الصالح منكم عن الطالح و المحسن عن المسيء.

قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ .

ص: 275

و هذا القسم يختصّ بالحكم بما أنزل اللّه تعالى، و هو الحقّ الذي لا محيص عنه، و العلم بأنّه حقّ ، و منه يعلم أنّه لا تكرار في المقام، فإنّ الآيات السابقة إنّما تضمّنت بقية الأقسام، فكان الأمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى عقيبها لبيان الحكم الواقعيّ ، و نفي ما عداه، مضافا إلى أنّ آية المقام تأمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى و تحذّر من اتّباع أهواء الناس، لأنّ الحق قد وضعت معالمه و استقرّت دعائمه و أركانه بنزول هذه الشريعة، فالواجب على الناس أجمعين أن يستبقوا الخيرات في تطبيقها.

و أما قوله تعالى في الآية السابقة فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، فإنّه أمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى بعد بيان نوعية المخالفة، و يبيّن أنّ توليهم عنه كاشف عن إضلال إلهيّ لفسقهم، كما قال تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ اَلْفاسِقِينَ [سورة البقرة، الآية: 26]، فيكون توطئة لهذه الآية، و هي توضح ما تضمّنته الآية السابقة و تبيّن ما أجمل فيها، فإنّ إعراضهم عمّا أنزل اللّه تعالى إنّما هو لأجل كونهم فاسقين، و قد أراد اللّه تعالى أن يصيبهم ببعض ذنوبهم. و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسّرين من تفسير الآية الشريفة، فإنّه من التطويل الذي لا طائل تحته.

قوله تعالى: وَ اِحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اَللّهُ إِلَيْكَ .

تحذير أكيد له صلّى اللّه عليه و آله من إضلالهم له صلّى اللّه عليه و آله بالصرف عن بعض ما أنزل اللّه إليه، و قطع لأطماعهم فيه صلّى اللّه عليه و آله، و إعادة (ما أنزل اللّه إليك) لتأكيد التحذير بتهويل الخطب. فإنّ لهم أساليب متعدّدة خفيّة و جليّة في إضلال الناس و إغوائهم، و قد حكى عزّ و جلّ جملة منها في مواضع من القرآن الكريم و كشف عن بعض أساليبهم الخبيثة التي لها تأثير كبير في هذا المجال، قد تخفى على كثير من الناس، إلاّ من عصمه اللّه تعالى. و منه يظهر أنّ أمره صلّى اللّه عليه و آله بالحذر عن فتنتهم مع كونه معصوما، إما لأجل إعلامه صلّى اللّه عليه و آله بفظاعة الأمر و شدّته، فإنّ فتنتهم له بالصرف عن بعض ما أنزل اللّه إليه و لو كان أقلّ قليل، هو عظيم عند اللّه تعالى، أو لأجل التأكيد له بأنّهم جادون في إضلاله صلّى اللّه عليه و آله و لو كان في أقلّ قليل من الحكم، و لهم في ذلك أساليب متعدّدة، أو لأجل تعليم غيره صلّى اللّه عليه و آله من امّته من الحذر منهم، أو لأجل بيان أنّ

ص: 276

العصمة فيه لا توجب سقوط التكاليف عنه صلّى اللّه عليه و آله، فهو مختار في كلّ فعل، إلاّ أنّ العلم الذي علّمه اللّه تعالى يمنعه من ارتكاب السوء و الفحشاء، و قد تقدّم الكلام في ذلك فراجع.

قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ .

تطييب لنفس الرسول الكريم و إرشاد له صلّى اللّه عليه و آله بأن لا يحزن إذا تولّوا عن الدعوة و أعرضوا عن قبول ما أنزله اللّه تعالى، فإنّهم غير معجزين اللّه تعالى، و أنّ حكمه نافذ و سيحاسبهم على ما أجرموا، و الآية الشريفة تبيّن ضلالهم بعد ما بيّنت أنّهم فاسقون قد خرجوا عن طاعة اللّه تعالى عند ما أعرضوا عن قبول حكمه، و في قوله تعالى فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ ، إيماء إلى أنّ توليهم هذا إنّما هو بتسخير إلهيّ ، لأنّهم سلبوا التوفيق عن أنفسهم بالإعراض عمّا أنزله اللّه تعالى، فلا موجب للحزن عليهم بعد ما اختاروا ذلك بأنفسهم، كما يدلّ عليه قوله تعالى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا اَلْحَدِيثِ أَسَفاً. إِنّا جَعَلْنا ما عَلَى اَلْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً. وَ إِنّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً [سورة الكهف، الآية: 6-8]، فإنّه يدلّ على أنّ اللّه إنّما خلق الدنيا و ما فيها لأجل اختبار الإنسان و امتحانه في قبوله الحقّ و تمييز المحسن الذي أحسن عملا عن المسيء الذي أساء في عمله، فهو الذي يختار أحد الطريقين، و قد بعث اللّه تعالى الأنبياء و المرسلين مبشّرين و منذرين، لينيروا لهم الطريق، فلا موجب للحزن عليهم، و إنّما ذكر عزّ و جلّ : بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، و هو ذنب التولّي و الإعراض الذي هو ذنب عظيم، إيذانا بأنّ لهم ذنوبا، فهذا واحد من جملتها، و إيماء بتغليظ العقاب، فإنّه يكفي أن يؤخذوا ببعض ذنوبهم، أيّ بعض كان، فيهلكوا أو تسوء عاقبتهم، فيكون الإبهام لتعظيم ذنب التولّي. و في الآية الإشارة أيضا إلى كمال لطفه بعباده، بأنّه لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة وحدة.

قوله تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ .

تعليل لما سبق، أي: أنّ اللّه تعالى إنّما أضلّهم و يصيبهم ببعض ذنوبهم، لأنّهم فسقوا عن أمر ربّهم و أعرضوا عن قبول ما أنزله اللّه، و فيه التسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله عن

ص: 277

امتناع القوم من الإقرار بنبوّته صلّى اللّه عليه و آله و إعراضهم عن قبول الحقّ ، فإنّ أهل الإيمان قليل و أهل الفسق كثير، فلا ينبغي أن يحزن و يعظم ذلك عنده، كما عرفت.

قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .

إنكار و توبيخ و تعجيب من حالهم، فإنّ التولّي عن حكم اللّه عجيب، و طلب حكم الجاهلية أقبح و أعجب، و فيه إشارة إلى أنّه ليس وراء ما أنزله اللّه تعالى إلاّ حكم الجاهلية، فإذا تولّوا عن حكم اللّه عزّ و جلّ فليس هناك إلاّ حكم الجاهليّة الذي يبتني على اتّباع الهوى و متابعة النفس الأمّارة، و يستفاد من الآية الشريفة أنّهم يعلمون أنّ ما أنزل اللّه تعالى هو الحقّ ، فإذا تولّوا عنه فإنّما يبغون حكم الجاهلية و هذا شيء عجيب، و لذا جاءت الجملة تفريعا على ما سبق بنحو الاستفهام، و قد تقدّم الكلام في مادة (بغى) التي تدلّ على الطلب، كما أنّ المراد من الجاهليّة هي كلّ ملّة باطلة و حكم جائر، الذي يكون منشأها العناد و اللجاج و الإعراض عن الحكم الحقّ ، اتّباعا للهوى. و قد ورد في الحديث: «انّ الحكم حكمان، حكم اللّه، و حكم الجاهليّة»، كما ستعرف.

قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً .

إنكار لأن يكون أحد حكمه أحسن من حكمه عزّ و جلّ ، فلا أحد أحسن حكما من اللّه تعالى، و لا ريب في أنّه لا يتبع حكم إلاّ لحسنه.

و إنّما اطلق الحسن، لأنّ حكم اللّه تعالى يجمع حسن الدنيا و الآخرة، و يجتمع فيه جميع أنحائه.

قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ .

تقرير لما سبق، و اللام إما بمعنى عند، أو للبيان متعلقة بمحذوف كما في هَيْتَ لَكَ [سورة يوسف، الآية: 23]، «و سقيا لك»، أي: إنّما يتبيّن حسن الأحكام و قبحها لقوم يؤمنون و يتدبّرون الأمور، و أما غيرهم فلا يعلمون ذلك.

و إنّما أخذ عزّ و جلّ صفة اليقين للإعلام بأنّهم لو صدقوا في دعواهم الإيمان باللّه تعالى، فلا بدّ أن يذعنوا لأحكامه و آياته و لا يبغوا غيرها، و ينكروا بأن يكون أحد حكمه أحسن من حكم اللّه عزّ و جلّ .

ص: 278

بحوث المقام
بحث أدبي:

اللام في الكتاب وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ للعهد و التعظيم، كما أنّ اللام في قوله تعالى: مِنَ اَلْكِتابِ للجنس، و يصحّ أن تكون للعهد، أي: تلك الكتب المعهودة، بِالْحَقِّ حال مؤكّدة من الكتاب.

كما أنّ قوله تعالى: مُصَدِّقاً... حال اخرى من الكتاب. و أشكل على ذلك بأنّه لا يصحّ كونه حالا ممّا ذكر، إذ لا يكون حالان لعامل واحد، و هي حال من الضمير المستكن في الجارّ و المجرور قبله.

و تقدّم الكلام في معنى المهيمن، و فعله هيمن و الهاء أصليّة، و له نظائر مثل بيطر، و خيمر، و سيطر، و زاد بعضهم: بيقر و شيطن، و حيعل و فيصل، و قيل: إنّها مبدلة من الهمزة، و مادته من الأمن، كمهراق، فقالوا: إنّ المهيمن أصله مؤمن، و هو من أسمائه عزّ و جلّ ، فصغّر و أبدلت همزته هاء، و أبطله جمع آخرون، بل جعلوه كفرا، لأنّ أسماء اللّه تعالى لا تصغّر، و كذا كلّ اسم معظّم شرعا.

و تقديم (بينهم) في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ ، للاعتناء بتعميم الحكم لهم.

و وضع الموصول موضع الضمير في قوله تعالى: بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، تنبيها على علّية ما في حيّز الصلة، و ترهيبا عن المخالفة.

و اللام في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، للاختصاص.

و (منكم) متعلّق بمحذوف وقع صفة لما عوض عنه التنوين، أي: و لكلّ امّة كائنة منكم.

و أشكل على ذلك بعضهم بأنّه لا تجوز الوصفية، لأنّه يوجب الفصل بين الصفة و الموصوف بالأجنبي، كما يوجب الفصل بين الفعل (جعلنا) و معموله، و هو (شرعة). و أجيب عنه في المطولات فراجع.

ص: 279

و قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، استئناف مسوق للتعليل لاستباق الخيرات بما فيه الوعد و الوعيد، و (جميعا) حال من الضمير المجرور.

و قوله تعالى: وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، قيل: إنّه عطف على الكتاب، و التقدير: (و أنزلنا إليك الكتاب و قولنا احكم، و قيل: إنّها عطف على الحقّ ، و لا حاجة إلى تقدير القول. و قيل: إنّها جملة مستأنفة اسميّة، بتقدير مبتدأ، أي: و أمرنا أن احكم. و الحقّ : إنّها جملة مستأنفة تفيد التأكيد على تثبيت حكم اللّه تعالى و اتّباع الكتاب و الحكم بما ورد فيه.

و الفاء في قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ للعطف على مقدّر يقتضيه المقام، أي: يتولّون عن قبول حكمك بما أنزل اللّه إليك، فيبغون حكم الجاهليّة، و قيل: محلّ الهمزة بعد الفاء، و إنّما قدّمت لأنّ لها الصدارة، و تقديم المفعول (حكم) للتخصيص المفيد لتأكيد الإنكار و التعجّب، و المشهور أنّ (أ فحكم) مبتدأ و (يبغون) خبره، و العائد محذوف. و قيل: الخبر محذوف و المذكور صفته، أي: حكم يبغون، و لكن استضعف حذف العائد من الخبر. و أجيب عن ذلك بأنّه جاء الحذف منه كما جاء الحذف من الصفة و الصلة.

و كيف كان، فإنّ في الآيات موارد من الالتفات يظهر للمتمعّن فيها.

بحث دلالي:
تدلّ الآيات الشريفة على امور:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ اَلْكِتابَ بِالْحَقِّ ، على شرف القرآن الكريم و عظيم منزلته و فضله على جميع الكتب الإلهيّة، فقد تشرّف هذا الكتاب و تعظّم بالنزول من عنده عزّ و جلّ ، فقال تعالى وَ أَنْزَلْنا ، و قد ذكرنا في المباحث السابقة أنّ كلّ مورد كان فيه نوع اهتمام و أراد عزّ و جلّ إظهار القدرة و المهابة و العظمة فيه أسنده إليه بنون العظمة كما في المقام، ثمّ أسنده إلى الرسول الكريم

ص: 280

الذي بان فضله على جميع الأنبياء و المرسلين، فقال تعالى إِلَيْكَ ، و التأكيد على كونه بالحقّ في جميع شؤونه لا يأتيه الباطل بجميع أنحائه، ثمّ بيّن عزّ و جلّ بعض خصائصه في كونه مصداقا لما بين يديه من الكتاب، لأنّه نازل من اللّه أيضا، و فيه من الأحكام الإلهيّة و المعارف الربوبيّة، و كونه مهيمنا على جميع الكتب الإلهيّة، و لا ريب أنّ الهيمنة التي ذكرها عزّ و جلّ في صفات القرآن الكريم هي من جميع الجهات، فهي هيمنة رقابة، فما في تلك الكتب إن طابق ما في القرآن العظيم، أخذ به، و إلاّ فلا يمكن الاعتماد عليه، كما أنّها هيمنة علميّة، فإنّ ما ورد في القرآن الكريم يفوق على جميع الكتب الإلهيّة، فإنّ فيه تفصيل كلّ شيء، و لعلّه لهذا أمر عز و جل نبيّه الكريم بالحكم بما أنزل فيه و الإعراض عمّا سواه و الحذر منهم بأن لا يضلّوه باتّباع أهوائهم، فإنّهم ذوو أساليب متنوعة في إظلال الناس.

ثمّ إنّه عزّ و جلّ اهتمّ بالقرآن الكريم في هذه الآية الشريفة بما لم يهتم بغيره من التوراة و الإنجيل اللذين تقدّم ذكرهما، فمن جميع ذلك يستفاد أنّ الكتب الإلهيّة السابقة إنّما هي مقدّمات لهذا الكتاب العظيم، و أنّه يعتبر آخر حلقة من حلقات الكمال، فليس من المعقول الإعراض عنه و التغاضي عن معارفه و أحكامه، فلا كمال إلاّ بالرجوع إليه و تطبيق أحكامه و شرائعه.

الثاني:

يدلّ قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، على انحصار الحكم و القضاء بين الناس بما ورد في القرآن الكريم و أنّه الحقّ ، فلا يجوز الحكم بغيره و إن كان حكما في الكتب السابقة، إلاّ ما قرّرته الشريعة الإسلاميّة. و يؤكّد ذلك النهي عن اتّباع أهوائهم التي لها مظاهر مختلفة، منها تحريف الكتب الإلهيّة و تغييرها و تبديلها، و غير ذلك ممّا حكى القرآن الكريم عنه في مواضع متعدّدة، و تقدّم بعض الكلام فيه.

الثالث:

يدلّ قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، على حقيقة واقعيّة داخلة في صميم خلق الإنسان، و هي اختلاف أفراد الإنسان في الاستعداد و قبولهم للكمالات، فإنّ لكلّ فرد أو طائفة من الناس شرعة خاصّة و منهاجا

ص: 281

معيّنا ينهجه في حياته العمليّة، و الظاهر أنّ الشرعة و المنهاج يشيران إلى ما تقوم به حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة و الدنيويّة و الاخرويّة، فإنّ سعادته لا تتحقّق إلاّ بتطبيقها على الوجه المطلوب.

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ للكمال درجات متفاوتة لا يقتصر على طائفة معينة و نوع خاصّ و أمر معيّن، فلا كمال إلاّ و فوقه كمال آخر حتّى يصل إلى الكمال المطلق، و هو اللّه تعالى الذي لا كمال فوقه أبدا، و أنّ اللّه عزّ و جلّ قادر على أن يجعل الإنسان امّة واحدة تقتصر على كمال معيّن خاصّ لا ترى سعادتها إلاّ في الوصول إلى ذلك الكمال المعيّن، كما بالنسبة إلى الحيوانات، فإنّها لا ترى سعادتها إلاّ في درك تلك اللذّة الوقتيّة، ثمّ بعد الوصول إليها تبقى جامدة حتّى تعود إليها الغريزة مرّة اخرى، بخلاف الإنسان فإنّه يختلف في خلقه و تركيبه عن سائر المخلوقات، ففيه استعداد كبير في نيل الكمالات، فإذا وصل إلى كمال استعدّ إلى نيل كمال آخر، و لا يحدّه عن ذلك إلاّ الحوادث الكونيّة و صوارف الدهر. و كمال كلّ فرد بحسب استعداده اللائق به، فهذه الآية الشريفة من أعظم الآيات التي تبيّن حقيقة الإنسان من حيث حياته العمليّة، و هي من أهمّ الآيات التي تبني أهمّ أسس علم الاجتماع، و على علماء هذا العلم دراسة هذه الآية الكريمة بدقّة و تمعّن، فإنّ فيها كنوزا، و يفتح منها أبواب من العلوم و المعارف.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: فَاسْتَبِقُوا اَلْخَيْراتِ ، على أنّ الكمال الذي يسعد الإنسان إنّما يكون في الخيرات، فلا بدّ أن تكون غاية سعيه و مجده في هذه الحياة.

و هي الغاية الحميدة التي لا بدّ أن يتسابق إليها، لأنّها الجامعة لجميع الكمالات.

و إطلاق الآية يشمل كلّ خير. و قد ذكر عزّ و جلّ في القرآن الكريم مصاديق مختلفة للخير في مواضع متفرّقة، و هي تشمل جميع الأحكام الشرعيّة و الفضائل و المكارم و غيرها من الأمور التي لها المدخليّة في سعادته.

و هو يدلّ أيضا على أنّ اختلاف الشرائع لا بدّ أن يكون سببا للتنافس في الخيرات، لا سببا للعداوة و البغضاء، كما أنّه يدلّ على حرية الإرادة في الإنسان.

ص: 282

الخامس:

يستفاد من قوله تعالى: إِلَى اَللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ، أنّ آثار الاستباق إلى الخيرات إنّما تظهر في يوم القيامة، يوم الرجوع إلى اللّه تعالى و الحشر إليه و يوم الجزاء أو الحقّ ، فيجزي المستبقين إلى الخيرات الجزاء الحسن، و يجازي الذين يختلفون في هذا الأمر على أفعالهم.

كما يستفاد من الآية الشريفة أنّ الاستباق إلى الخيرات هي الوحدة الجامعة لجميع الشتات التي تجتمع فيها جميع الكمالات، و تطرح فيها كلّ فرقة و اختلاف، و هو الطريق الموصل إلى اللّه تعالى، فهذه الآية الشريفة من الحقائق الواقعيّة التي لا بدّ أن يتأمّل الإنسان في خصوصياتها و يستفيد منها في حياته العلميّة و العمليّة، و لأجل أهميّة هذه الآية الكريمة في حياة الإنسان فقد ذكر فيها عزّ و جلّ الضمان على نفسه، فبيّن فيها الجزاء الفاصل بين الحقّ و الباطل الذي لا يبقى معه شكّ في أمر الدين و الدنيا.

السادس:

يستفاد من قوله تعالى وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، أهميّة الحكم في حياة الإنسان، فقد تكرّر الأمر منه عزّ و جلّ لنبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل اللّه تعالى، الذي يعلم مصالحهم و يعرف خصوصياتهم و جميع شؤونهم، فلا يحكم إلاّ بالحقّ و لا ينزل إلاّ ما يكون في صلاحهم و سعادتهم، و لأجل دقّة الموضوع و خطره، فقد نهى عزّ و جلّ عن اتّباع الأهواء التي هي أم الرذائل و أساس كلّ فساد، لا سيما في هذا الأمر الخطير الذي قلّما يسلم منه أحد إلاّ من عصمه اللّه تعالى، كما يدلّ عليه قوله تعالى: وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ اَلنّاسِ لَفاسِقُونَ ، و اتّباع الأهواء من موجبات الفساد، و له مظاهر مختلفة و صور متعدّدة، ذكر عزّ و جلّ جملة منها في مواضع متفرّقة من القرآن الكريم و بيّنتها السنّة الشريفة.

السابع:

يستفاد من قوله تعالى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، لطف اللّه تعالى بعباده، حيث لا يأخذهم بجميع ذنوبهم دفعة واحدة.

الثامن:

يستفاد من قوله تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، أنّ ما سوى

ص: 283

حكم اللّه تعالى هو حكم الجاهليّة الذي لا يفي بالأغراض و لا يوصل إلى المطلوب، و لا يسلم من اتّباع الأهواء، و لا يرفع الخلاف، بل يوجب الفرقة و الاختلاف، كما حكى عزّ و جلّ عنه في آيات متفرّقة.

بحث روائي:

في الكافي عن هشام بن سالم بن سليمان، عن خالد، عن الصادق عليه السّلام في قوله تعالى: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، قال عليه السّلام: «لا يحلف اليهوديّ و لا النصرانيّ و لا المجوسيّ بغير اللّه، إنّ اللّه يقول: فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ».

أقول: و مثله ما رواه العياشي أيضا، و ما ورد في الرواية إنّما هو من باب التطبيق، فإنّه بعد أن أمر بالحكم بما أنزل اللّه تعالى بينهم، فلا يجوز الحلف بغيره تعالى.

و في تفسير القمّي في قوله تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً ، قال: «لكلّ نبيّ شريعة و طريق».

أقول: المراد منه أنّ المنهاج هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه، و يختلف كلّ نبيّ عن آخر بما يختصّ به من مميزات شخصيّة أو نوعيّة.

و في الكافي عن الباقر عليه السّلام في قوله تعالى أيضا: «و المنهاج سبيل و سنّة، قال عليه السّلام: و أمر كلّ نبي بالأخذ بالسبيل و السنّة. و كان من السبيل و السنّة التي أمر اللّه بها موسى أن جعل عليهم السبت».

أقول: تقدّم ما يتعلّق بذلك، و هذا الحديث يؤكّد ما ذكرناه من أنّ الطريق هو السبيل الذي يتّخذه كلّ نبيّ في هداية قومه الذين يختلفون كمّا و كيفا، و في سائر الخصوصيات.

و في الكافي أيضا عن الصادق عليه السّلام قال: «القضاة أربعة، ثلاثة في النار و واحد في الجنّة، رجل قضى بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالجور و هو لا

ص: 284

يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحقّ و هو يعلم فهو في الجنّة»، و قال عليه السّلام: «الحكم حكمان، حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم اللّه حكم بالجاهليّة».

أقول: في ذلك روايات متعدّدة عن الفريقين مذكورة في كتب التفسير، و الآيات الشريفة تدلّ على ذلك، فقد أمر عزّ و جلّ نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزل اللّه، فهذا يختصّ بحكم اللّه تعالى، ثمّ أمره عزّ و جلّ ثانيا بالحكم بينهم بما أنزل اللّه و نهاه عن اتّباع أهوائهم كما جاء من الحقّ ، فهو يدلّ على أنّ ما سوى حكم اللّه تعالى هو من اتّباع الهوى الذي نهاه عزّ و جلّ عنه، و هو يشمل الأقسام الثلاثة، الحكم بالجور مع العلم به، و الحكم بالجور مع عدم العلم به، فإنّه جور أيضا بالملازمة، و الحكم بالحقّ مع عدم العلم به، لفقد شرط الحكم بالحقّ الذي هو العلم بكونه حقّا، و إلاّ كان حكما بالجور الذي هو من اتّباع الهوى، و يشمل الجميع حكم الجاهليّة الذي هو في مقابل حكم اللّه تعالى مقابلة واقعيّة، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في كتاب القضاء من مهذب الأحكام فراجع.

و في الكافي عن الصادق عن أمير المؤمنين - صلوات اللّه عليهما -: «الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهليّة، فمن أخطأ حكم بحكم الجاهليّة، و قد قال اللّه عزّ و جلّ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ».

بحث فقهي:

الآيات الشريفة المتقدّمة من أهمّ الآيات القويمة التي تدلّ على مشروعيّة القضاء و الحكم بين الناس، و تذكر دعائهما في الإسلام، و هي الحكم و القاضي و المقضي عليه، و قد أكّد عزّ و جلّ عليها و ذكر خصوصياتها، ففي الحكم قال عزّ و جلّ وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ ، و هو يدلّ على وجوب الحكم بين الناس بما أنزله اللّه تعالى، فيختصّ بالعالم بكونه ممّا أنزله اللّه تعالى، و هو حكم اللّه.

ص: 285

و يستفاد منه أنّ غير ذلك هو ممّا لم ينزله اللّه تعالى، فيكون حكما جاهليا. و هو يشمل الحكم بالجواز عالما به أو غير عالم، و الحكم بالحق مع الجهل به، و الثلاثة حكم الجاهليّة الذي أنكره عزّ و جلّ غاية الإنكار في قوله: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ .

و لعلّ ما ورد في الروايات من أنّ الحكم حكمان: حكم اللّه و حكم الجاهليّة، و ما ورد في تقسيم الحكم و القضاة إلى أربعة - كما عرفت سابقا - كلّ ذلك مأخوذ من هذه الآيات الشريفة.

و في القاضي ذكر عزّ و جلّ : وَ أَنِ اُحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اَللّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ ، و هو يدلّ على وجوب الحكم بالحقّ الذي يثبت بالطرق الشرعيّة المعروفة، فلا يجوز اتّباع الهوى الذي هو خارج عن الطرق الشرعيّة، و يشمل ذلك جميع ما ورد في آداب القاضي و القضاوة في الإسلام. منها: وجوب الإنصاف و الإنصات و التسوية بين الخصوم و نحو ذلك. و أما الميل القلبي مع الحكم بين الخصوم بالحقّ ، فالآية الشريفة لا تشمله و إن دلّت بعض الروايات على كراهته أيضا، بل و حرّمته في بعض الموارد.

و بيّن سبحانه و تعالى أنّ عدم الحكم بما أنزله اللّه يجعل القاضي كافرا أو ظالما أو فاسقا، و في المقضي له أو عليه فقد ذكر عزّ و جلّ : فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اَللّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ، و قال تعالى: أَ فَحُكْمَ اَلْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ، فإنّه يدلّ على لزوم مراعاة الحكم و وجوب الإذعان للحكم، فإنّه الحقّ الذي ينبغي اتباعه و إلاّ كان ظالما لنفسه فيصيبه اللّه بذنبه، بل يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اَللّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ، أنّ اليقين في الأحكام الربوبيّة من مقامات العبوديّة.

بحث عرفاني:

إنّ السلوك إلى اللّه تعالى و الطريق إليه عزّ و جلّ له مظاهر مختلفة و سبل

ص: 286

متعدّدة تختلف حسب استعداد كلّ فرد، و لكن لا بدّ أن يكون موافقا للشرع و حكم اللّه تعالى، و إلاّ فلا يكون الطريق موصلا إليه عزّ و جلّ . و لعلّ ما ورد في الآيات الشريفة السابقة إشارة إلى ذلك، فقد نزل في القرآن الكريم من الأحكام و التكاليف و الكمالات ما استوعب جميع الجوانب الظاهريّة و المعنويّة للإنسان، ممّا جعلته مهيمنا على سائر الكتب الإلهيّة فأصبح فريد نوعه، فصار غاية للسالكين و أنيسا للمستوحشين و مجمعا للخيرات، ففيه السبق و به المسابقة، و عن طريقه تستكمل النفوس و تتخلّى عن الرذائل، و لأجل هذا أمر سبحانه نبيّه الكريم بالحكم بينهم بما أنزله فيه بعد أن حكم عليه بأنّه المهيمن على جميع الكتب، فإذا ثبتت له الرقابة الإلهيّة، فلا بدّ أن تمرّ منه الطرق و تستنير به النفوس، فإنّه و إن كان لكلّ واحد منكم شرعة لتهذيب النفوس و منهاج للوصول إلى الكمالات و اجتياز المراحل حتّى الوصول إلى الكمال المطلق، إلاّ أنّها لا بدّ أن تتوجّه إلى ما أمر اللّه تعالى به، و هذا هو مطلوب العارف باللّه الذي به يختلف عن غيره، فاستبقوا الأمور الموصلة لكم إلى الكمال حتّى يستفيض كلّ بحسب استعداده و يستنير بما له من القابلية، و لا خير إلاّ فيما أنزله عزّ و جلّ ، فإنّه الموصل إليه، و به ترجعون إليه فينبئكم بما أوجب اختلافكم و تفرّقكم عمّا فيه الخير لكم، فيظهر لكم آثار ما اقتضاه الاختلاف، و هنالك الوعد الحق، فلا تكون مظاهرهم سببا للفتنة و لا تكون موجبة للانحراف عن جادة الصواب و الإعراض عن ابتغاء الخير و الوصول إلى الكمال، فإنّ الحكم هو حكم اللّه تعالى، و يكفي في الإعراض و النكوص أنّ اللّه يحرمه من لذّة الوصال و يحجبه عن اللقاء، و لذا كان أكثر الناس فاسقين، لأنّهم التفتوا إلى ذواتهم، فاشتبه عليهم حبّ الذات عن حبّ اللقاء، فيحكمون على أنفسهم بالمحبّة و الوصال - و شتان ما بينهما - و هذا هو حكم صادر عن النفس الأمّارة، لا عن علم إلهيّ ، فصار حكما جاهليّا.

فلا تلتفت في السير غيرا و كلّ ما *** سوى اللّه غير فاتخذ كرهه حصنا

و كلّ مقام لا تقم فيه انه حجاب فجد بالسير و استنجد العونا

و قل ليس لي في غير ذاتك مطلب فلا صورة تجلى و لا طرفة تجنى

ص: 287

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَل.......

اشارة

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ (51) فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) الآيات الشريفة الثلاثة تبيّن أهمّ الأمور الاجتماعيّة التي فيها حياة الإسلام و استقلال المسلمين و ثبات عقيدتهم، فقد حذّر سبحانه و تعالى المؤمنين اتخاذ اليهود و النصارى أولياء، و اعتبر توليتهم ظلما يسلب الهداية التي يحتاج إليها المسلم في حياته الظاهريّة و المعنويّة، و هدّدهم بأنّه من فعل ذلك يكون منهم، لا علاقة له بهذا الدين، ثمّ ذكر عزّ و جلّ بعض صفات المنافقين الذين لم يبرح الإسلام و المسلمون يعانون منهم الأمرين، يثبّطون العزائم و يبثّون الأكاذيب لزلزلة العقائد و إزالة الثبات و الطمأنينة عن النفوس. ثمّ يبيّن حال اليهود و النصارى و الذين اتّخذوهم أولياء ينتصرون بهم على الإسلام و دين الحقّ ، أنّهم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين.

و الآيات الشريفة تبيّن حاجة المؤمنين إلى وليّ يعصمهم من أعدائهم، يطبق فيهم ما أنزله اللّه تعالى، فينهى عن موالاة الكافرين و يثبت موالاة المؤمنين و إطاعة من جعله اللّه وليّا يرعى شؤونهم و يدبّر أمورهم، فكانت هذه الآيات و ما بعدها حلقة وصل بين التشريع و التنفيذ و الضمان على تنفيذ أحكام اللّه تعالى و تشريعاته.

فقد أمر عزّ و جلّ في الآيات السابقة تنفيذ أحكام اللّه و ما أنزله على رسوله و الإعراض عن غيره. و يأتي في الآيات اللاحقة أنّه عزّ و جلّ أمر المؤمنين باتّباع

ص: 288

الرسول و من جعله اللّه وليّا عليهم، ينفذ فيهم أحكامه و يسعى في تطبيق تشريعاته و أوامره، فكان لا بدّ من الضمان على ذلك من الذين يعتبرون تهديدا على الإسلام و المسلمين، فنهى عن مولاة الكافرين و المنافقين الذين يتربّصون بدين اللّه الدوائر.

و من ذلك كلّه تعتبر هذه الآيات مع سابقتها و لاحقتها على ارتباط تامّ وصلة وثيقة، و كلّ آية منها في حدّ نفسها حلقة لا يمكن الاستغناء عنها في تثبيت ما ورد فيها من الأحكام، و تأويلها إلى غير ظاهرها يكون إبطالا لمعانيها السامية و أحكامها القويمة، و ممّا ذكرنا يظهر فساد ما ذكره جمع في توجيه هذه الآيات و صرفها عن معانيها على ما ستعرف.

التفسير

قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ .

خطاب تحبّب و اهتمام بالمؤمنين و اعتناء بالموضوع اعتناء بليغا، و قد تقدّم الكلام في مثل هذا الخطاب. و مادة (أخذ) تدلّ على تناول شيء اعتمادا عليه. و منه:

أخذ منه العلم، أي: تناول منه معتمدا عليه في نقله. و منه: الاتّخاذ الذي هو الاعتماد على شيء لإعداده لأمر ما، و هو افتعال باب، و المعنى لا تعتمدوا على اليهود و النصارى مستنصرين بهم، تلقون إليهم بالمودّة و المحبّة، تعاشرونهم معاشرة الأحباب.

و قد ذكر عزّ و جلّ في مواضع مختلفة من القرآن الكريم مظاهر لهذا الاتّخاذ، قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، كما حدّد سبحانه و تعالى المحبّة لهم، فقال: لا يَنْهاكُمُ اَللّهُ عَنِ اَلَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي اَلدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اَللّهَ يُحِبُّ اَلْمُقْسِطِينَ [سورة الممتحنة، الآية: 8]، فإنّ المستفاد منه أنّ شروط المحبّة هي أن لا يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم و لم يظاهروا العداء للمسلمين.

ص: 289

و أما المحبّة، فلا بدّ أن تقتصر على البرّ بهم و القسط إليهم، فلا تشمل جميع أنواع المحبّة التي يجب تحقّقها بين أفراد المؤمنين. و من ذلك يستفاد أنّ التعبير بالاتّخاذ في المقام له دلالته الخاصّة، لا سيما بعد ذكر المتعلّق، و هي الولاية.

و أما الولاية، فقد تقدّم الكلام في معناها، و ذكرنا أنّ مادة (ولي) تدلّ على التبعية و تحقّق شيئين أو أكثر حصولا ليس بينهما ما ليس منهما، و لذلك مصاديق مختلفة، منها: الوليّ ، و هو الذي يلي أمر غيره، فيكون تابعا له، كوليّ اليتيم، و وليّ المرأة، و وليّ الأمر، و نحو ذلك. و التبعية تشتدّ و تضعف في الموارد، و قد اختلط على كثير هذه المراتب، فاعتبروا لكلّ مرتبة معنى خاصا لها، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك.

و منها: الصديق و القريب، إلى غير ذلك ممّا ذكروه، و الجميع إنّما هي مصاديق لهذه المادة التي لها مراتب مختلفة شدّة و ضعفا، فكلّما اشتدّت التبعية و القرب الذي له دواعي و أسباب متعدّدة، كانت الولاية شديدة، أعلاها الولاية التكوينيّة و التشريعيّة، الثابتتان للّه تعالى و رسوله و أولياء اللّه تعالى، و قد جمعت في قوله تعالى: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اَللّهُ وَ رَسُولُهُ وَ اَلَّذِينَ آمَنُوا [سورة المائدة، الآية: 55]، فتكون جهة الولاية هي الطاعة، و قد تكون من جهة التقوى و الانتصار، فالوليّ هو الناصر، و إن كانت جهة الالتيام في المعاشرة و المحبّة التي هي الانجذاب الروحيّ . و إن كانت من جهة النسب، فالوليّ هو الذي يرثه من غير مانع يمنعه، إلى غير ذلك من المعاني التي ذكروها في هذه المادة التي هي إلى الدواعي أقرب، و قد ذكرنا ما يتعلّق بها في غير المقام أيضا، فالولاية نوع اقتراب و معاشرة مع شيء، توجب ارتفاع الموانع و الحجب بينهما، و يختلف شدّة و ضعفا، كما تختلف من جهة الدواعي، و أعظمها ولاية اللّه تعالى لعباده المؤمنين التي هي أشدّ مراتبها التي تجتمع فيها الكثير من الجهات و الدواعي، ففيها النصرة و التقوى و المحبّة و الطاعة، و الوليّ فيها هو الذي يحكم في أمره بما يشاء، و غير ذلك ممّا ذكروه.

و الولاية قد تكون ولاية الانتصار، فحينئذ يكون الولي هو الناصر الذي لا يمنعه شيء عن نصرة من اقترب منه، و قد تكون ولاية المحبّة التي هي الانجذاب،

ص: 290

فالولي هو الذي لا يملك الإنسان نفسه دون أن ينفعل عن إرادته، و قد تكون ولاية النسب الذي هو نوع اقتراب بين المنتسبين تكوينا، فالوليّ هو الذي يرث من الآخر من غير مانع يمنعه، و سيأتي مزيد بيان في الموضع المناسب إن شاء اللّه تعالى.

و أما سياق الآية الشريفة، فهو يدلّ على أنّ المراد من الولاية هي ولاية النصرة و المحبّة، اي: لا تعاشروا اليهود و النصارى معاشرة الأحباب، تلقون إليهم بالمودّة و تستنصرونهم في بعض شؤونهم، كما هو الأمر بالنسبة إلى ولاية المشركين. قال تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ [سورة الممتحنة، الآية: 1]، و يدلّ على ذلك ذيل الآية الشريفة التي تقيّد إطلاق صدرها، فيختصّ النهي عن تلك الولاية التي توجب المحبّة و الخلطة بينهم، بحيث يستلزم النصرة و الامتزاج الروحيّ ، و يرشد إلى ذلك ما اعتذر به المنافقون الذين حكى عنهم عزّ و جلّ : نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ ، فتدور عليهم الدائرة فتصيبهم منهم و من غيرهم الجور فيتأيدون بنصرة اليهود و النصارى و يتخذونهم أولياء بالمحبّة و النصرة ليسلموا من دائرتهم و دائرة غيرهم.

و قد نهى عزّ و جلّ المؤمنين عن مثل هذه الولاية.

و ممّا ذكرنا يظهر الإشكال في ما ذكره بعض المفسّرين في المقام من أنّ المراد بالولاية ولاية النصرة التي تجري بين شخصين أو قومين التحالف و التعاهد على نصرة أحدهما الاخر عند الحاجة، كما كانت دائرة في الجاهليّة، فيختصّ النهي بجماعة المسلمين دون جملتهم، كيف و قد حالف النبي صلّى اللّه عليه و آله يهود المدينة و قد أصرّ على ذلك و أنكر أشدّ الإنكار أن تكون ولاية المحبّة فقط، كما ذكره جمع كثير من المفسّرين، و اعتبر كون الولاية بمعنى ولاية المحبّة ممّا تتبرّأ منه الآية الشريفة في مفرداتها و اسلوبها، كما يتبرّأ منه سبب نزولها و الحالة العامّة التي كان عليها المسلمون و غيرهم في عصر التنزيل.

و استغرب أن تحمل الآية الشريفة على النهي عن المعاشرة معهم و الاختلاط بهم و إن كانوا ذوي ذمّة أو عهد، و قد كان اليهود يقيمون مع النبي صلّى اللّه عليه و آله و مع

ص: 291

الصحابة في المدينة، و كانوا يعاملونهم بالمساواة التامّة.

و الحقّ أنّ الآية الشريفة تدلّ على معنى أعظم ممّا ذكره، فإنّها تدلّ على حكم اجتماعيّ له الأثر الكبير في حفظ كيان الإسلام و المسلمين و عدم ضياع معالمهم و حفظ أخلاقهم السامية، فإنّ النهي عن محبّتهم و التودّد إليهم يستوجب كراهة عقيدتهم و أعمالهم المنافية مع تعاليم الإسلام الحنيف و عدم الاستنصار منهم، و قد غفل عمّا ترمز إليه الآية الشريفة، و ما ذكره في توجيه مراده لا يمكن الاعتماد عليه، فإنّ الإسلام لم يضيع حقّا من حقوق أهل الأديان الإلهيّة التي تكون في بلاده، فإنّ التزامهم تنفيذ شروط الذمّة ممّا يجعلهم في مصاف الموادين للإسلام و عدم صدور ما يغيض المسلمين أو يكرهه الإسلام. و ما ذكره من براءة الآية بمفرداتها و اسلوبها من ذلك فهو عجيب، فإنّ الآية باسلوبها الرفيع و دلالة سياقها و أجزائها تدلّ على أنّ المراد هو الأعمّ دون ولاية الحلف فقط، فإنّ قوله تعالى:

بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، و قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، فإنّ ذلك كلّه يدلّ على أنّ المراد من الولاية الأعمّ ، و يدلّ على ما ذكرنا قوله تعالى: لا يَتَّخِذِ اَلْمُؤْمِنُونَ اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اَللّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اَللّهُ نَفْسَهُ [سورة آل عمران، الآية:

28]، فإنّه صريح في ذلك، و يزيد أنّ هذه الولاية المنهي عنها قد يحتاج إليها في موارد الضرورة، كما كان هناك معاهدات و أحلاف بين النبي صلّى اللّه عليه و آله و بين اليهود و المشركين، فلو كانت مختصّة بولاية المحبّة فقط، لما كان وجه لجوازها عند الضرورة، فإنّ المحبة القلبيّة لا تصل إليها الضرورة، كما في سائر الأمور النفسيّة و القلبيّة، و سيأتي ما يرتبط بالمقام.

و بالجملة: الآية الشريفة تدلّ على النهي عن تولّي اليهود و النصارى بالمحبّة و النصرة، فإنّ من تولّى قوما لحق بهم، و قد قيل: إنّ المرء مع من أحبّ ، و توجب الدخول في زمرتهم.

و إنّما ذكر اليهود و النصارى دون أهل الكتاب كما عبّر به في غير المقام، لبيان

ص: 292

سبب المعاداة بينهم و بين المسلمين، و أنّه الأوهام الباطل، لا من حيث كتابهم، فإنّه لو عبّر به لكان فيه إشعار إلى قربهم من المسلمين نوعا ما يوجب إثارة المحبّة، فلا يناسب النهي عن اتّخاذهم أولياء، هذا بخلاف ما ورد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلَّذِينَ اِتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ اَلَّذِينَ أُوتُوا اَلْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ اَلْكُفّارَ أَوْلِياءَ [سورة المائدة، الآية: 57]. فإنّ توصيفهم باتّخاذهم دين اللّه هزوا يستدعي أن يكون الوصف، أي: كونهم ذو كتاب، ذمّا لهم و نقصا لا مدحا، فإنّ كونهم ذوي كتاب تقتضي أن لا يتّخذوا دين دين اللّه هزوا و لعبا، فإنّ ذلك يكون ادعى لأنّ لا يتّخذوا أولياء.

قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ .

بيان و تأكيد لما سبق، و تعليل للنهي السابق في قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى . و المعنى: لا تتّخذوهم أولياء لأنّهم مع تفرّقهم و اختلافهم و شقاقهم و مضادتهم و تنافرهم فيما بينهم، لكنهم أولياء في العون و النصرة على الحقّ و أهله، فقد اتّحدت آراؤهم و تجاذبت نفوسهم بسبب تلك الولاية البغيضة التي ثبتت فيما بينهم على الاستكبار عن قبول الحقّ ، و اجتمعت كلمتهم على المعاداة له و إطفاء نور اللّه تعالى و تناصرهم على النبي صلّى اللّه عليه و آله و المسلمين، لأنّهم استرسلوا في اتّباع الهوى و انغمسوا في مشتهيات النفس، فالكلّ متّفقون على الكفر، مجمعون على مضارّتكم و مضادّتكم، فلا يرجى منهم خير و لا نفع لكم في الاقتراب منهم بالمودّة و المحبّة، فلا يتصور بينكم و بينهم موالاة.

قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ .

وعيد لمن خالف النهي، و تهديد شديد مبالغة في الزجر. و (من) تبعيضية، و التولي: هو الاتّخاذ، أي: و من يتّخذهم منكم أولياء، فإنّه يكون من جملتهم و جماعتهم، و يكون حكمه حكمهم تنزيلا، و مثل ذلك كثير، فإنّ ارتكاب نهي من المناهي الشرعيّة أو إتيان فعل من أفعال أعداء اللّه تعالى، أو ترك واجب من الواجبات الإلهيّة، قد يوجب الكفر و يلحق المؤمن بالكافرين، و إن كان على الإيمان

ص: 293

ظاهرا، لأنّ للإيمان و الكفر مراتب متفاوتة و كثيرة، شدّة و ضعفا، قال تعالى: وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ [سورة سورة يوسف، الآية: 106]، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في أحد مباحثنا السابقة فراجع.

و السرّ في هذا التنزيل و إلحاقهم باليهود و النصارى، لأنّهم لم يسلكوا سبيل الهداية و الرشاد الذي هو الإيمان، بل سلكوا سبل أعداء اللّه تعالى، فكانوا من أهل دينهم و ملّتهم، فيؤول أمرهم إلى ما يؤول إليه أمر الكافرين، فلا يعقل أن يقع ذلك من مؤمن صادق في إيمانه.

و الآية الشريفة إنّما تبيّن أصل التنزيل، و أما سائر الخصوصيات فلا بدّ من الرجوع فيها إلى السنّة الشريفة، نظير قوله: وَ لِلّهِ عَلَى اَلنّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ [سورة آل عمران، الآية:

297]، فإنّه يدلّ على أنّ من خالف هذا الحكم يكون من الكافرين تنزيلا، و أما الأحكام الفرعيّة المترتّبة على هذا التنزيل، فلا يمكن أن تستفاد من إطلاق هذه الآيات، لأنّه لم يكن في مقام البيان من هذه الجهة.

قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ .

تعليل للوعيد السابق، و بيان لجهة التنزيل، أي: أنّ من يتولاّهم من المؤمنين لا يكون سالكا سبيل الإيمان، بل هو ظالم مثل من تولاّهم، و اللّه لا يهدي القوم الظالمين، فهم قد ظلموا أنفسهم، لأنّهم حرموها من الهداية الإلهيّة و ظلموا قومهم بمولاتهم للكفّار الذين نصبوا الحرب للمؤمنين.

قوله تعالى: فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ .

تفريع على ما سبق، فإنّ من آثار عدم هداية اللّه تعالى للقوم الظالمين أنّهم يسارعون في الغواية و الضلال و موالاة الكافرين.

و مرض القلب الذي اختصّ القرآن الكريم بذكره من أسوأ الأمراض التي تصيب الإنسان، فإنّه يخرجه عن استقامة الفطرة و الطريق السوي إلى الشكّ و الريب اللذين يستوليان على عقيدته و دينه و خلقه، فلا يمكن له أن يحصل ثبات

ص: 294

و اطمئنان و استقرار في إدراكاته الدينية، فيكون ضعيف الإيمان متذبذبا فيه غير مستقرّ على خلق كريم، و يظهر أثره على عمله، فيصدر منه ما يناسب الكفر و النفاق، كما في المقام، فإنّك ترى أنّ مرضى القلوب يبتدرون في توثيق ولائهم مع الكافرين و توكيده، فيسارعون في هذا الطريق مسارعة من يرغب في شيء و يجدّ في طلبه. و سيأتي في البحث الأخلاقيّ مزيد الكلام في هذا المرض العجيب و الداء العضال.

قوله تعالى: يُسارِعُونَ فِيهِمْ .

تقدّم الكلام في معنى المسارعة، و تختلف المسارعة في الشيء عن المسارعة إليه، فإنّ الاولى حاصلة من الداخل في الشيء و الثابت فيه المستقرّ، و إنّما كانت مسارعة من مرتبة إلى اخرى، فهم إنّما يسارعون في مولاتهم للكافرين لزيادة تمكّنهم فيها و ثباتهم عليها. بخلاف المسارعة إلى الشيء الداخل فيه من خارجه.

قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ .

بيان لبعض وجوه الضلال التي أوجبت المسارعة في مولاة الكافرين، و هي خشية وقوعهم في المصائب و الدواهي، فيرجون منهم النصرة، فهم لم يسارعوا فيهم لخشية إصابة الدائرة عليهم، و إنّما يخشون إصابتها لهم فيستنجدونهم و تكون لهم يد عند ما تدور الدوائر و تكون للكافرين الدولة و السلطة الظاهريّة على المؤمنين، و هذا من آثار مرض القلب الذي أحاط بهم فأخرجهم عن استقامة العقيدة و سلوك الطريق السويّ ، فلم يوقنوا بوعد اللّه تعالى و نصرته للمؤمنين، و لم يعتقدوا بصدق وعد اللّه تعالى، و لم يفكروا إلاّ فيما يرجع إلى نفعهم الظاهريّ ، فأخطأ ظنّهم و لم يجنوا من دعواهم هذه إلاّ الدخول في مسلك الكافرين و الحلول معهم.

قوله تعالى: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ .

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي ظهور الحقّ و غلبته على الباطل و زهوقه، و أنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل و توسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى آنفا أنّه: لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، فيفضحهم و يظهر للملأ بطلان ذرائعهم و فساد عقيدتهم، و في المقام بيّن عزّ و جلّ وعده للمؤمنين بالفتح و الغلبة على الكافرين، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود و النصارى و أنّهم يخشون الدائرة عليهم، فقد تولّوا أعداء اللّه تعالى و خالفوا النهي الإلهيّ ، فلا بدّ من إظهار كذبهم و كشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين ما ليس في قلوبهم، فكانوا في شكّ من قدرة اللّه تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزّ و جلّ ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم، و من غيره ترج، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من الوعد، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه و توكيد وعده.

ص: 295

بيان لحقيقة من الحقائق الواقعيّة، و هي ظهور الحقّ و غلبته على الباطل و زهوقه، و أنّ كلّ ظلم لا بدّ أن يظهر فضيحتها، فينقطع رجاء كلّ من طمع بالباطل و توسّل إليه بوسائل صوّرها بصورة الحقّ ، و قد ذكر سبحانه و تعالى آنفا أنّه: لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، فيفضحهم و يظهر للملأ بطلان ذرائعهم و فساد عقيدتهم، و في المقام بيّن عزّ و جلّ وعده للمؤمنين بالفتح و الغلبة على الكافرين، بعد ما ذكر في الآية السابقة اعتذارهم عن موالاة اليهود و النصارى و أنّهم يخشون الدائرة عليهم، فقد تولّوا أعداء اللّه تعالى و خالفوا النهي الإلهيّ ، فلا بدّ من إظهار كذبهم و كشف حقيقتهم بأنّهم منافقون أظهروا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و للمؤمنين ما ليس في قلوبهم، فكانوا في شكّ من قدرة اللّه تعالى على تنفيذ وعده للمؤمنين، فالآية الشريفة وعد محتوم منه عزّ و جلّ ، لا من جهة أنّ (عسى) منه تعالى جزم، و من غيره ترج، بل لأنّ سياق الكلام يدلّ على أنّه وعد محتوم، لا سيما بعد أن تضمّن قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ من الوعد، فكان لا بدّ من تثبيت صدقه و توكيد وعده.

و مادة (فتح) تدلّ على الفصل في الشيء و القضاء فيه، قال تعالى: رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [سورة الأعراف، الآية: 89]، أي: افصل بيننا و بينهم. و منه فتح البلاد، قال تعالى: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ [سورة السجدة، الآية: 28]، و منه المفتاح و نحو ذلك.

و اللام في الفتح للجنس و ليس للعهد كما ذكره جمع من المفسّرين، فاختلفوا في تعيينه، فقيل: إنّه فتح مكّة الذي كان به ظهور الإسلام، و به أنجز اللّه تعالى وعده لرسوله.

و ردّ بأنّه غير صحيح إلاّ إذا نزلت الآيات هذه قبل فتح مكّة، و هو أوّل الكلام، و ايّد هذا القول بأنّه المراد في أغلب موارد استعمال الفتح في القرآن الكريم، و لكن يشكل أنّه إذا كان المراد به ذلك فقد وصفه عزّ و جلّ بأنّه لا ينفع الكافرين إيمانهم بعد الفتح، و هو لا ينطبق على فتح مكّة و لا على غيره، قال تعالى:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا اَلْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ . قُلْ يَوْمَ اَلْفَتْحِ لا يَنْفَعُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ . فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ اِنْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ [سورة السجدة، الآية: 28-30]. و من المعلوم أنّه لا ينطبق هذا الوصف على فتح مكّة و لا على سائر الفتوحات التي أعزّ بها الإسلام، فإنّ الإيمان منهم يقبل، فلا بدّ أن يكون هذا

ص: 296

الفتح الذي لا ينفع معه الإيمان إما ذلك الفتح الذي يتبدّل فيه الحياة إلى حياة اخرى، فيرتفع التكليف حينئذ، كما في تبدّل نشأة الدنيا و بالآخرة، أو لأجل تبدّل حالات الإنسان إلى حالة لا تفيد معها الإيمان بارتكابه المعاصي و الآثام، فقسى قلبه قسوة لا رجاء معها للرجوع و التوبة، قال تعالى: يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً [سورة الانعام، الآية: 158]. و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في مباحثنا السابقة.

و قيل: إنّ المراد به فتح بلاد اليهود كخيبر و غيرها، و قيل: إنّه فتح بلاد النصارى.

و كيف كان، فإنّ جنس الفتح ينطبق على كلّ فتح يظهر اللّه عزّ و جلّ به الإسلام و يعزّ الدين، و ينصر المؤمنين على الكافرين، و يفضح به أعداءهم و يكشف حقيقتهم و نواياهم. فتكون الآية الشريفة من الملاجم القرآنيّة التي ينبئ فيها تعالى إعلاء كلمة الإسلام و ظهوره على الكفر كلّه، بعد ما تستقبل الامّة من الحوادث ممّا تزعزع عقيدة كلّ فرد مؤمن إلاّ من عصمه اللّه تعالى، فلا تختصّ الآية الشريفة بعصر النزول و لا بطائفة خاصّة، كما ذكره المفسّرون من أنّها نزلت في المنافقين، كعبد اللّه بن ابي و أصحابه الذين كانوا يشاركون المؤمنين في اجتماعاتهم و يظهرون إيمانهم و التودّد إليهم و هم يضمرون المحبّة و التولّي لليهود و النصارى، استدرارا للطائفتين، فإنّ حكم الآية عامّ يشملهم كما يشمل غيرهم ممّن فيه الصفات التي ذكرها عزّ و جلّ في هذه الآيات، و من ذلك يعرف أنّه لا وجه للإشكال بأنّ مراد الآية غير هؤلاء المنافقين الآخذين بالحائطة لمنافعهم، إذ لا معنى لخسران من احتاط بحائطة اتّقاء مكروه يخافه على نفسه ثمّ صادف عدم وقوع ما كان يخاف وقوعه، فإنّ الاحتياط في العمل من الطرق العقلائيّة التي لا تستتبع لوما و لا ذما.

و يردّ عليه: أنّ الاحتياط الذي لا يستتبع اللوم و الذمّ هو ما كان صحيحا و معتبرا عند العقلاء و قرّره الشرع، لا مثل المقام الذي يكون الاحتياط فيه بين الحقّ و الباطل، و قد نهى عزّ و جلّ عن مولاة الكافرين، فهم لم يطمئنوا بوعد اللّه

ص: 297

من الفتح و النصرة، و من هنا كان وجه الاشتراك بين من تضمّنته الآية الشريفة و سائر المنافقين، فإنّ للنفاق مظاهر مختلفة و سبلا متعدّدة هذه أحدها، فلا بأس بالقول بأنّهم منافقون أظهروا الإيمان و خالطوا المؤمنين طمعا بهم إن هم ظفروا بالكافرين، و والوا اليهود و النصارى طمعا بهم إن هم ظفروا بالمؤمنين و وقعت الدائرة عليهم.

و كيف كان، فالآية الشريفة من الملاحم القرآنيّة التي فيها إخبار عن حالات هذه الامّة، و وعد منه عزّ و جلّ في نصرة هذا الدين و الفصل بين المؤمنين و الكافرين و المنافقين - فقد وعدهم اللّه تعالى بالفتح المبين عليهم - و أمر فيه إعزاز هذا الدين و إظهار الإسلام و إذلال المشركين الكافرين.

و هي لا تختصّ بحكم خاصّ ، بل تشمل كلّ ما فيه هذا المناط و لو كان من الأحكام الإلهيّة و التشريعات الربّانية التي فيها عزّة الإسلام و نصرته و غيرها.

قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ .

أي: أنّهم أسروا في أنفسهم النفاق و تولّي اليهود و النصارى، و جدّوا في المسارعة فيه إرضاء للشهوات الدنيئة في نفوسهم، لينالوا به ملاذ الدنيا و إطفاء نور اللّه عزّ و جلّ ، و هو الذي مراد اليهود و النصارى أيضا، و لكنّهم غفلوا عن عواقب الأمور و أنّ اللّه محيط بهم، فقد يفضحهم و يقطع أملهم فيصبحوا على ما أسروه نادمين. و قد ذكر عزّ و جلّ في الآية التالية سبب ندامتهم، و هو حبط أعمالهم و خسرانهم في صفقتهم. و الندامة إنّما تحصل من ترك ما ينبغي فعله أو فعل ما ينبغي تركه، و هم قد فعلوا كليهما، فقد تركوا حبّ دين اللّه و المؤمنين، ففعلوا العجائب في دينه تعالى، منها الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله، و تولّي الكافرين، و يكفي الواحد منهما في الندامة و قطع كلّ أمل لهم في الدارين بعد ما أنزل اللّه تعالى من الفتح و الأمور من عنده، و سوف يخسرون كلّ شيء و يبطل سعيهم بعد فتح اللّه الأكبر و ظهور الحقّ و محو الباطل و زهوقه.

ص: 298

قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ .

الجملة في مقام بيان التقريع لحالهم و تخييب رجائهم و انعكاس تقديرهم، لوقوع ضدّ ما كانوا يتوقّعونه و يترقّبونه ممّن تولّوهم.

و اختلفوا في إعرابها، فقيل: إنّها معطوفة على ما قبلها عطف المحلّ ، و (يقول) بالرفع على أنّه مبتدأ. و قيل: إنّها مرفوعة بغير واو على أنّها جواب سؤال محذوف تقديره: فماذا يقول المؤمنون حينئذ. و قرئ: (و يقول) بالنصب عطفا على (يأتي)، أي: فعسى اللّه أن يأتي بالفتح و أن يقول. و قيل: إنّها عطف على قوله:

فَيُصْبِحُوا ، فإنّ ندامتهم على ما أسروه في أنفسهم، و قول المؤمنين: «أ هؤلاء» جميعا تقريع لهم بعاقبة توليهم و مسارعتهم فيه.

و كيف كان، فإنّ الجملة على كلّ حال تقريع و توبيخ لهم كما عرفت.

أي: و يقول المؤمنون للمنافقين تعجّبا من حالهم و تقريعا لهم بعاقبة أمرهم و تبجّحا بما منّ اللّه على المؤمنين من الإخلاص و النصرة، فالخطاب للمنافقين الذين في قلوبهم مرض، و اسم الإشارة لليهود و النصارى، أي: أنّ المؤمنين يخاطبون الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء اليهود و النصارى الذين أقسموا باللّه ببالغ الإيمان و أغلظها إنّهم لمعكم. و يمكن العكس. و قيل: إنّ المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض متعجّبين من عاقبة الذين في قلوبهم مرض: أ هؤلاء الذين أقسموا باللّه أغلظ الإيمان و آكدها إنّهم منكم أيها المؤمنون و على دينكم، كما في قوله تعالى:

وَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ ، أي: يخافون.

و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم، و كيفما كان فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و تكريم لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم، بل يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران،

ص: 299

فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم، فالقول يمكن أن يكون لفظيّا صادرا من المؤمنين، و يمكن أن يكون حكاية عمّا يدور في نفوس المؤمنين لكشف حقيقة أعداء اللّه تعالى و المنافقين لهم في هذه الدار الفانية، و يرشد إلى ما ذكرناه ذيل الآية الشريفة في المقام و مواضع اخرى في القرآن الكريم.

قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ .

جملة مستأنفة تبيّن حقيقة حالهم و ما عليه مآلهم، بلا فرق بين أن نقول هي حكاية المؤمنين، أو قول اللّه تعالى، فإنّ فيها التعجّب منهم من أنّه كيف آل أمرهم إلى الخسران و حبطت أعمالهم مع مسارعتهم في تولّي أعداء اللّه تعالى، و الشكّ في أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و قد أعطوه الأيمان المغلّظة على أنّهم مع المؤمنين، فحبطت أعمالهم التي كانوا يتكلّفونها نفاقا، و خسروا ما كان يترتّب عليها من الأجر و الثواب لو كانوا في إيمانهم صادقين.

و قد ذكرنا في أحد مباحثنا السابقة أنّ حبط الأعمال يختصّ ببعض الذنوب الكبيرة، و المقام منها، فإنّ النفاق و التلاعب بأحكام اللّه تعالى ممّا يوجب حبط الأعمال و الخسران.

ص: 300

بحوث المقام
بحث أدبي:

جملة (بعضهم أولياء بعض) من مبتدأ و خبر في موضع النعت لأولياء، و هي جملة مستأنفة تعليلا للنهي قبلها و تأكيدا لإيجاب الاجتناب، و إنّما وضع المظهر موضع المضمر (هم) في قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، تنبيها على أنّ تولّيهم ظلم. كما أنّ الإتيان بالموصول دون ضمير القوم للإشارة بما في حيز الصلة إلى أنّ ما ارتكبوه من التولّي بسبب ما كمن من المرض.

و جملة: (يسارعون فيهم) حال المفعول، و قيل: إنّها في موضع المفعول الثاني إذا كانت الرؤية قلبيّة، و هو الأصحّ . و قد ذكرنا أنّ إيثار كلمة (في) للدلالة على الاستقرار و الثبات في المولاة. و ذكر الزمخشريّ أنّ المسارعة بالانكماش لكثرة استعماله ب (في)، و لكن عدل عنه المفسّرين لأنّه تفسير بالأخفى.

و قوله تعالى: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ حال من فاعل يسارعون.

و الدائرة من الصفات الغالبة التي لا يذكر معها موصوفها، و أصلها داورة، لأنّها من دار يدور.

و قوله تعالى: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ فيه البشارة و الوعد لرسوله و المؤمنين، و قوله أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ في تأويل المصدر و هو خبر (عسى). و قيل:

إنّه مفعول به لئلاّ يلزم الإخبار بالحدث عن الذات، و هو سهل عند آخرين، و النزاع معروف في كتب النحو.

و الفاء في فَيُصْبِحُوا للسببيّة، و هو عطف على يَأْتِيَ داخل معه في حيز خبر (عسى)، و هما جملتان في عداد جملة واحدة، فلذا استغنى عن الضمير العائد على الاسم. و (نادمين) خبر (يصبحوا).

ص: 301

و قوله تعالى: وَ يَقُولُ اَلَّذِينَ آمَنُوا... كلام مستأنف لبيان كمال سوء حال الطائفة المذكورة. و قرئ: (و يقول)، بالنصب عطفا على فَيُصْبِحُوا . و قيل: على أَنْ يَأْتِيَ بحسب المعنى، كأنّه قيل: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الذين... إلخ.

و فيه كلام طويل، و قد ذكرنا ما يتعلّق بذلك في التفسير أيضا فراجع.

و قوله تعالى: أَ هؤُلاءِ اَلَّذِينَ أَقْسَمُوا اسم الإشارة مبتدأ و ما بعده خبر، و الهمزة للإنكار و لها الصدارة في الكلام.

و جملة (إنّهم لمعكم) لا محلّ لها من الإعراب، لأنّها تفسير و حكاية لما أقسموا به. و جَهْدَ أَيْمانِهِمْ منصوب على أنّه مصدر ل (أقسموا) من معناه، أي:

أقسموا اقساما مجتهدا فيها، و قيل: إنّه حال بتأويل مجتهدين، و أصله يجتهدون جهد أيمانهم، فالحال هي الجملة في الحقيقة. و قال غير واحد: إنّه لا ضير في تعريف الحال هنا، لأنّها في التأويل نكرة.

و كيف كان، فهو متعارض جهد نفسه إذا بلغ وسعها.

و جملة: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ إما جملة مستأنفة مسوقة لبيان مآل أمرهم و عاقبة فعلهم من ادّعاء الولاية و القسم على المعيّة في كلّ حال، و يكون الاستفهام للإنكار.

و يمكن أن تكون من جملة مقول المؤمنين بأن يجعل هو الخبر، و الموصول مع ما في حيز صلته صفة للمبتدأ، فيكون الاستفهام حينئذ للتقرير، و فيه معنى التعجّب، و قيل غير ذلك، و قد عرفت في التفسير بعض الكلام. و أغلظها أنّهم لمعكم، و قيل: إنّ اسم الإشارة لليهود و النصارى، و قوله: (معكم) خطاب للذين في قلوبهم مرض، و يمكن العكس، و جميع ذلك صحيح، و قد ورد ما يناسبه في القرآن الكريم.

و كيفما كان، فالآية الشريفة تعجيب لحالهم و تبجيل للمؤمنين و كرامة لهم و وعد بالنصرة و الغلبة و الجزاء الحسن، و لا اختصاص لهذا القول بالدنيا، بل هو صادر من المؤمنين في الآخرة أيضا بعد فضيحتهم و يأسهم و انقطاع أملهم. بل

ص: 302

يمكن القول بأنّ ذلك حاصل في هذه الدنيا، فإنّ المؤمن ينظر بنور اللّه فيرى أنّ حال هؤلاء آيلة إلى الخسران، فيتعجّب من حالهم و هم في غفلة من عاقبة أمرهم.

بحث دلالي:
الأوّل:

يدلّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ ، على أحد أهمّ الأحكام الاجتماعيّة التي يحفظ بها المسلمون استقلالهم و وحدتهم و مشاعرهم اتّجاه بعضهم البعض، فيكونوا يدا واحدة كالبنيان المرصوص أمام أعدائهم الذين يتربّصون بهم الدوائر، و لأهمّيّة هذا الحكم الإلهيّ فقد ذكره القرآن الكريم في مواضع متفرّقة، و تعرّض إلى بعض الأسباب التي تدعو إلى اتّخاذهم أولياء، و المخاطر التي تترتّب عليه. و حذّر عزّ و جلّ المؤمنين من اتّخاذ أعدائهم أولياء، و بيّن الآثار الظاهرة المترتّبة عليه في عدّة مواضع من القرآن الكريم.

أما الأسباب التي دعت المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إلى اتّخاذهم أولياء، فهي كثيرة، منها: ما ورد في الآية التي تقدّم تفسيرها، قال عزّ و جلّ حكاية عنهم: يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ .

و منها: ما ذكره تعالى: أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً [سورة النساء، الآية: 144]. فإنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ممّا يوجب تعرّض المتولّي لسخط اللّه، و يجعل اللّه على نفسه الحجّة فيضلّه و يخدعه.

منها: الغفلة عن اللّه تعالى و قدرته و سلطانه و مكره، قال عزّ و جلّ : وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ [سورة الأعراف، الآية: 3]، و غير ذلك ممّا ذكره عزّ و جلّ في هذا الموضوع. و يمكن إرجاع ذلك إلى الغفلة عن اللّه و الشكّ في قدرته و سلطانه، كما أشارت إليه الآية المتقدّمة. و أما الآثار التي تترتّب على هذا

ص: 303

الظلم الفرديّ و الجمعيّ ، فهي كثيرة، و يكفي في شدّتها و هولها و فظاعة هذا الأمر أنّ اللّه تعالى يسلب الهداية عمّن اتّخذ أعداءه أولياء، قال تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ . و من نتائج سلب الهداية عنهم أنّهم خسروا الدنيا و الآخرة و في العذاب هم خالدون، و أنّ ولاية أعداء اللّه توجب الدخول فيهم و أن يكون من زمرتهم، و سيحشره اللّه تعالى معهم، قال تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، و سيحرمه اللّه تعالى ممّا تمنّاه في ولايتهم، قال تعالى: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ اَلْعِزَّةَ فَإِنَّ اَلْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً [سورة النساء، الآية: 139]، فإنّه عزّ و جلّ يرفع عنهم العزّة بعد ما اتّخذوهم أولياء لابتغاء العزّة عندهم. و قال عزّ من قائل: فَعَسَى اَللّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ، و تأتي تتمة الكلام في الآيات المناسبة إن شاء اللّه تعالى.

الثاني:

تدلّ الآيات الشريفة على ملحمة قرآنيّة، و هي ما يؤول إليه أمر هذه الامّة إذا تحقّق منهم الموالاة لأعداء اللّه تعالى، و أنّها توجب انهدام بنية هذا الدين، و أنّها تقطع أواصر الترابط بين أفراده و لا يعود إلى عزّته و نشاطه و تأثيره، إلاّ أن يبعث اللّه من يقوم بالأمر و يعيد مجد هذا الدين و يحيى تراثه و معالمه إن شاء اللّه تعالى.

الثالث:

يدلّ سياق الآيات الشريفة على أنّ الولاية المنهيّ عنها إنّما هي الولاية التي يترتّب عليها الأثر من المخالطة و التشبّه بأعمالهم و أفعالهم و الدخول في زمرتهم، دون ولاية المحبّة فقط، و إن كانت مبغوضة أيضا. كما تدلّ عليه جملة من الروايات، و سيأتي في البحث العرفانيّ ما يتعلّق بالمقام.

الرابع:

يدلّ قوله تعالى: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ، على أنّ أعداء اللّه تعالى على تفرّقهم و تشتّتهم طرائق و مذاهب، إلاّ أنّهم أولياء بعض في مقابل الحقّ و المؤمنين، و لا تختص هذه الحقيقة بعصر النزول، بل هم كذلك ما دام الصراع بين الحقّ و الباطل قائما، و يكفي تصوّر هذه الحقيقة في الابتعاد عنهم و عدم اتّخاذهم أولياء.

ص: 304

الخامس:

يدلّ قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، على أنّ ولاية أعداء اللّه تعالى ظلم عظيم يوجب دخول المتولّي في زمرة الكافرين، لأنّ المحبّة و المودّة تجمع المتفرّقات و توحّد النفوس المختلفة، و تؤثّر على الأحاسيس و الإدراكات، فتتأثّر الأخلاق و تتشابه الأفعال، فيحذوا المتولّي حذو من تولاه في شؤون الحياة و مستوى العشرة، و لذا أوجبت الولاية البعد عن اللّه تعالى، و المتولّي لا يكون منه من شيء، فكلّما اشتدّت المحبّة و المودّة لأعداء اللّه، كلّما ابتعد عن اللّه تعالى و اقترب منهم حتّى يصير واحدا منهم و يلتحق بهم، و لذا قيل: من أحبّ قوما فهو منهم.

السادس:

يستفاد من سياق الآية الشريفة أنّ الولاية المنهيّة التي توجب لحوق قوم بقوم و كونهم منهم، هي ولاية المحبّة و المودّة، دون ولاية الحلف التي تنعقد لمصالح خاصّة، و قد عقدها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله مع المشركين و الكافرين في ظروف خاصّة. و يدلّ على ذلك ما ورد نظيرها عنه تعالى ناهيا عن ولاية المشركين: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ اَلْحَقِّ - إلى أن قال عزّ و جلّ : - وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ اَلظّالِمُونَ [سورة الممتحنة، الآية: 1-9]، فإنّ الولايتين من باب واحد، فتكون الولاية التي تقتضي لحوق من تولّى بمن تولاه هي ولاية المحبّة، و هذا ما يقتضيه الاعتبار أيضا، فإنّ التولّي و التودّد لا يكون إلاّ بين اثنين بينهما السنخيّة التي تقتضي الدخول في الأسناخ و الأشباه. و قد تقدّم ما يتعلّق بذلك في التفسير فراجع.

السابع:

يدلّ قوله تعالى: إِنَّ اَللّهَ لا يَهْدِي اَلْقَوْمَ اَلظّالِمِينَ ، على أنّ تولّي الكافر ظلم، لأنّه تعريض النفس للعذاب و ابعاد لها عن مواضع الرحمة و قطع لمسيرة الكمال الذي ينشده الإنسان في الحياة الدنيا، و اللّه لا يهدي من كان ظالما و مانعا عن سبل الهداية و الكمال، بل يخلّيه و شأنه و يكله إلى نفسه، و هو ممّا تعوّذ منه الأنبياء و الرسل، فإنّه فيه هدم للكيان الإنسانيّ خلقيّا و عقائديّا.

ص: 305

الثامن:

يدلّ قوله تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، على أنّ القلوب تمرض كما تمرض الأبدان، فلا بدّ أن تكون لها صحّة و سلامة، إذ هما من المتضايفان لا يتّصف الموضوع بأحدهما إلاّ إذا أمكن اتّصافه بالآخر، و لا ريب أنّ مرض القلب الذي يخبر عنه القرآن الكريم أسوأ من سائر الأمراض، فإنّه يميت القلب عن كسب الكمال و يخرجه عن استقامة الفطرة و يوجب انحرافه عن الصراط السوي الذي يوصله إلى الكمال المنشود. و المستفاد من الموارد التي وردت فيها هذه الكلمة أنّ مرض القلب يوجب الإرباك في العقيدة و الشكّ و الارتياب في الإيمان باللّه تعالى و عدم الطمأنينة بآياته و أحكامه و تشريعاته، و بالآخرة يؤثّر ذلك على الأعمال و الأفعال التي تصدر ممّن مرض قلبه، فتكون أقرب إلى الفسق و الكفر منها إلى الطاعة و الإيمان. و سيأتي مزيد بيان إن شاء اللّه تعالى.

التاسع:

يدلّ قوله تعالى: فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ ، على أنّ اللّه تعالى يظهر المنويّات في الدار الدنيا من القلوب قبل الآخرة، فإذا كانت حسنة ظهرت على الأقوال و الأعمال، و إن كانت سيئة ظهرت كذلك لا محالة، فترى الذين في قلوبهم مرض و استبطنوا النفاق و الشكّ و الارتياب يسارعون في الكفر و موالاة أعداء اللّه تعالى، و يعرضون عن الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و اتّباع أحكامه و تشريعاته، فسيظهر اللّه تعالى أعمالهم و يصبحوا خاسرين لا تنفعهم أمانيهم و لا أعمالهم في دفع ما استحقّوه من العذاب.

بحث روائي:

في الدرّ المنثور في قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أخرج ابن إسحاق و ابن جرير، و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر عن عبادة بن الوليد: «انّ عبادة بن الصامت قال: لما حاربت بنو قينقاع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله تشبّث بأمرهم عبد

ص: 306

اللّه بن سلول و قام دونهم، و مشى عبادة بن الصامت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و تبرّأ إلى اللّه و إلى رسوله صلّى اللّه عليه و آله من حلفهم، و كان أحد بني عوف ابن الخزرج و له من حلفهم مثل الذي كان لهم من عبد اللّه بن ابي، فخلعهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و قال: أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، و أبرأ إلى اللّه و رسوله من حلف هؤلاء الكفّار و ولايتهم».

و فيه: أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير عن عطية بن سعد قال: «جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله فقال: يا رسول إنّ لي موالي من يهود كثير عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولاية يهود، و أتولى اللّه و رسوله، فقال عبد اللّه بن ابي: إنّي رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله لعبد اللّه بن ابي: يا ابن الحباب! أ رأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه ؟ قال: إذن أقبل، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ - إلى ان بلغ قوله - وَ اَللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ اَلنّاسِ .

و فيه - أيضا -: أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: «إنّ عبد اللّه بن ابي بن سلول. قال: إنّ بيني و بين بني قريظة و النضير حلفا، و إنّي أخاف الدوائر، فارتد كافرا، و قال عبادة بن الصامت: أبرأ إلى اللّه من حلف قريظة و النضير، و أتولّى اللّه و رسوله و المؤمنين، فأنزل اللّه: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ - إلى قوله - فَتَرَى اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ ، يعني: عبد اللّه بن ابي - الحديث».

أقول: الروايات في شأن نزول الآية الشريفة التي تقدّم تفسيرها كثيرة رويت بطرق مختلفة، و تقدّم مكرّرا أنّ ذلك لا يكون سببا لتقيّد إطلاق الآية أو تخصيصها، فالآية الكريمة عامّة تشمل ولاية المحبّة و المودّة و نحوها، و لا تختصّ بمنافقي عصر النزول و لا الكافرين فيه، يضاف إلى ذلك أنّ الآية الشريفة كغيرها قد ذكر فيها النصارى و الروايات تختصّ باليهود و لم يكن فيها للنصارى نصيب.

على أنّ الرواية الأخيرة تذكر الآيات من 51 إلى 67، و هي لا ترتبط بالقصة البتة

ص: 307

و لا اتّصال بين تلك الآيات، و فيها ما نزلت في موضوع معين و فرد خاصّ بالاتّفاق.

و بالجملة: فإنّ جميع ذلك ممّا يوجب و هن تلك الروايات، لا سيما الأخيرة منها.

و في الدرّ المنثور: «أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن عكرمة في قوله تعالى:

يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ نزل في بني قريظة إذ غدروا و نقضوا العهد الذي بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب يدعونهم و قريشا ليدخلوهم حصونهم، فبعث النبي صلّى اللّه عليه و آله أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم أن يستنزلهم من حصونهم، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح، و كان طلحة و الزبير يكاتبان النصارى و أهل الشام، و بلغني أنّ رجالا من أصحاب النبي صلّى اللّه عليه و آله كانوا يخافون العوز و الفاقة فيكاتبون اليهود من بني قريظة و النضير، فيدسّون إليهم الخبر من النبي صلّى اللّه عليه و آله، يلتمسون عندهم القرض و المنفع فنهوا عن ذلك».

أقول: الرواية تؤيّد ما ذكرناه في تفسير الآية الشريفة من أنّ المراد من الولاية هي ولاية المحبّة و المودّة، و لكنّها لا توجب تخصيص الآية أو تقييدها، فإنّها تبيّن بعض المصاديق، و يدلّ على ذلك ما ورد في تفسير العياشي عن أبي بصير عن الصادق عليه السّلام من تطبيق الآية على بعض الأفراد الذين أضلّوا الناس، و أنّهم ممّن قال اللّه تعالى فيهم: أَقْسَمُوا بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ [سورة المائدة، الآية: 53].

بحث أخلاقي:

قد عرفت أنّ الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، تدلّ على أنّ للقلوب مرضا كما أنّ للأبدان مرضا، بل لا يخلو من ارتباط المرضين بعضهما مع البعض

ص: 308

لشدّة ارتباط القلوب بالأبدان، و من المعلوم أنّ المرض إذا أحلّ في مكان، فلا بدّ أن لا تكون هناك صحّة، إذ المرض و الصحّة متقابلان، تقابل العدم و الملكة، لا يتحقّق أحدهما في محلّ إلاّ بعد إمكان تلبّسه بالآخر، فإنّه لا يتّصف الجدار بالمرض لعدم شأنيّته للصحّة، و قد ورد ذكره في القرآن الكريم في أكثر من عشرة مواضع، قال تعالى: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ [سورة الأنفال، الآية: 49]، و قال تعالى: وَ إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً [سورة الأحزاب، الآية: 12]. و المستفاد من مواضع استعماله أنّ مرض القلب يخرج صاحبه عن الاستقامة و يوجب انحراف الشخص عن سواء الطريق و يجعل صاحبه في معرض الشكّ و الارتياب، كما قال عزّ و جلّ عنهم في الآية السالفة: ما وَعَدَنَا اَللّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاّ غُرُوراً ، فيكدر صفو الإيمان باللّه و رسوله، و يسلب الطمأنينة إلى آياته و تشريعاته، و يوجب خلط الإيمان بالشرك، فلا يقدر صاحبه على التمييز بين ما هو نافع له أو ضار. و لذلك ترى أنّه يصدر عن صاحب هذا القلب في مقام العمل ما يناسب الشرك و الكفر باللّه تعالى و آياته، حتّى يصل إلى حدّ الكفر.

و يختلف هذا المرض كسائر الأمراض الجسمانيّة شدّة و ضعفا و كثرة و قلّة، كما تدلّ عليه الآية الشريفة: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً [سورة البقرة، الآية: 10]، و قال تعالى: وَ أَمَّا اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ [سورة التوبة، الآية: 125].

و يستفاد من الآية الشريفة أنّ هذا المرض ربّما يزيد و يستقرّ في القلب حتّى يطبع المريض في مرضه، ثمّ ينجرّ به إلى الهلاك و الموت على الكفر، لكثرة معاصيه و موبقاته، قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ اَلَّذِينَ أَساؤُا اَلسُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اَللّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ [سورة الروم، الآية: 10].

ثمّ إنّ ظاهر قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ اَلْمُنافِقُونَ وَ اَلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ * [سورة الأنفال، الآية: 49] أنّ الذين في قلوبهم مرض غير المنافقين، و إن كانا

ص: 309

يشتركان في كثير من الأفعال و الآثار، إلاّ أنّ النفاق لا يكون إلاّ في موت القلب و الكفر الخالص، و لكنّ مرض القلب يجتمع مع ضعف الإيمان و الشكّ و التردّد، فيميل مع كلّ ريح و يتبع كلّ ناعق. و أما المنافق فهو يبطن الكفر و يظهر الإيمان ليستميل المؤمنين و يكون معهم ظاهرا، لتنفيذ مآربه كما حكى عنهم عزّ و جلّ في مواضع من القرآن الكريم، و ربما يشتركان في عدم استقرار الإيمان و عدم اشتمال باطنهم منه، كما يتّفقان في بعض الأفعال. و قد يكون مبدأ النفاق هو مرض القلب، فإذا لم يعالجه صاحبه ينتهي به إلى الكفر و النفاق، كما قال عزّ و جلّ : وَ مِنَ اَلنّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنّا بِاللّهِ وَ بِالْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ - إلى أن قال تعالى: - فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اَللّهُ مَرَضاً ... وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ اَلنّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ اَلسُّفَهاءُ ... [سورة البقرة، الآية: 7-20] فإنّ المستفاد منها أنّ القوم كانوا في ابتداء أمرهم مرتابين فزادهم اللّه مرضا حتّى هلكوا بإنكارهم الحقّ و استهزائهم له. ثمّ إنّ مرض القلب تقابله سلامته التي هي الاستقامة مع الإيمان و الطاعة للّه عزّ و جلّ و الرسول و اتّباع أحكامه و عدم اتّباع الهوى و الإعراض عمّا سوى اللّه تعالى، قال عزّ من قائل: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ * إِلاّ مَنْ أَتَى اَللّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [سورة الشعراء، الآية: 89]، فإنّه يدلّ على أنّ سلامة القلب إنّما تكون في الانقطاع إليه عزّ و جلّ و الخلوص و الإخلاص له و الإعراض عمّا سواه تعالى. و على اختلاف درجات الانقطاع إليه و الخلوص له تختلف درجات السلامة، و بذلك يمكن أن يعالج مرض القلب، فإنّه يتحقّق بالإيمان به عزّ و جلّ و الاعتصام بحبله و إصلاح النفس و الإسراع بالتوبة إليه عمّا فعل من الموبقات، و ترويض القلب على الطاعة و حسن النيّة و العمل الصالح، و قد ورد جميع ذلك في القرآن الكريم، و قد تقدّم في قوله تعالى: لَيْسَ اَلْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ اَلْمَشْرِقِ وَ اَلْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ اَلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَ اَلْيَوْمِ اَلْآخِرِ وَ اَلْمَلائِكَةِ وَ اَلْكِتابِ وَ اَلنَّبِيِّينَ وَ آتَى اَلْمالَ عَلى حُبِّهِ - الآية - [سورة البقرة، الآية: 177]، الذي جمع الكمالات الواقعيّة المعنويّة و الظاهريّة و طرق معالجة الأمراض النفسيّة التي تؤثّر

ص: 310

على حياة الإنسان الماديّة و المعنويّة.

و في خصوص مرض القلب الذي أوجب محبّة أعداء اللّه تعالى فقد ذكر عزّ و جلّ كيفيّة معالجته في قوله: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اَلْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً. إِنَّ اَلْمُنافِقِينَ فِي اَلدَّرْكِ اَلْأَسْفَلِ مِنَ اَلنّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً. إِلاَّ اَلَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اِعْتَصَمُوا بِاللّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولئِكَ مَعَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اَللّهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [سورة النساء، الآية: 146].

بحث عرفاني:

قد عرفت أنّ قوله تعالى: يا أَيُّهَا اَلَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اَلْيَهُودَ وَ اَلنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ، يدلّ على النهي عن اتّخاذ الكافرين أولياء، و ذكرنا أنّه حكم اجتماعيّ يحفظ به كيان الإسلام و هويّة المسلمين. و أنّ من أهم آثار هذا الفعل - أي: التودّد إليهم بالمحبّة و النصرة - أنّه يعتبر منهم و يكون حكمه حكمهم في الآثار الوخيمة المترتّبة على الكفر، لأنّه من ما يبغضه ربّ العباد و يوجب الابتعاد عن الحقّ ، و لا يمكن اجتماع محبّة اللّه تعالى و محبّة أعدائه في قلب واحد، و كلّما ضعفت إحداهما تشتدّ الاخرى، فإذا استولت إحداهما على المشاعر لا يصدر من صاحبها إلاّ ما يناسبها من الخير و العمل الصالح و التوجّه إلى اللّه عزّ و جلّ و الإخلاص له إن كانت المحبّة للّه تعالى، أو الشرّ و العمل الطالح إن كانت المحبّة لأعدائه الذين لا مناسبة بينهم و بين الحقّ ، و من المعلوم أنّ النوايا و خفايا القلوب لها الأثر الكبير في حياة الإنسان العمليّة. و قد ورد التأكيد على الإعراض عمّا يبعد الإنسان عن اللّه تعالى، و الابتعاد عن أعدائه عزّ و جلّ ، و في بعض الأحاديث: «لا تلبسوا ملابس أعدائي، و لا تسكنوا مساكنهم، لأنّها من مظاهر العدوان، و هي مبغوضة عند اللّه تعالى، و المحبّ لا بدّ أن يبتعد عمّا

ص: 311

هو مبغوض لدى جنابه، فإنّ لها الأثر في سلوك المحبّ ، فمن يريد التقرّب إلى اللّه تعالى و مظاهر صفاته و أسمائه العليا، لا بدّ أوّلا أن يبتعد عمّا يكدر القلوب و يزيل صفاءها، فإنّها مجبولة على حبّ اللّه و الاقتراب إلى الحقّ و العمل به، و من أعظم ما يكون سببا في ذلك تولّي أعداء اللّه تعالى و محاكاتهم في الأقوال و الأعمال، فإذا تحقّق ذلك يميل الإنسان إلى التقرّب إليه عزّ و جلّ بتنفيذ أحكامه و شرائعه، فإنّ ذلك كمال الإنسان و لا كمال فوقه، و أنّ فيه سعادة الدراين.

و الحمد للّه أوّلا و آخرا

ص: 312

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.