محاولة لفهم المنصب و استحقاقاته عند أميرالمؤمنين علیه السلام
حسماً الإشكالية: المنصب مسؤولية أمامتياز ؟
بحث شارك به سماحة السيد محمد صادق الخرسان في الندوة العلمية المنعقدة بمناسبة عيد الغديرالأغر
في العتبة الكاظمية المقدسة
20/ ذوالحجة / 1436ه -
10/26 / 2013مقسم الشؤون الفكرية والثقافية - شعب البحوث والدراسات
الامانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة
قسم الشؤون الفكرية و الثقافية - شعب البحوث والدراسات
1435 ه
ص: 1
رقم الإيداع في دار الكتب و الوثائق ببغداد ( ) لسنة 2014م
هوية الكتاب
اسم الكتاب: الغدير والمنصب
تأليف: شعبة البحوث والدراسات
الناشر: الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة - الشؤون الفكرية والثقافيةالطبعة: الأولى .
العدد: 2000
المطبعة: دار النرجس - بغداد .
التاريخ: 1435 ه -2014 م
موقع العتبة: www.aljawadain.org
للمراسلة: fikriya@ aljawadain.org
ص: 2
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله الذي أظهر نور العلم بحججه،وبيَّن س بيل الرشاد بالأدلاء علی حکمته،وأزال العمى عن قلوب المؤمنين بأهل صفوته،والصلاة والسلام على محمد وآله الذين طهرهم الله بمحض إرادته،وقرّبهم إليه لخالص عبوديته،لا سيما سند المتقين وعماد الموحدين،أبو الأئمة الميامين،أبو الحسن علي بن أبي طالب علیه السلام.
وبعد..
إن من أهم الأبعاد التي أسس لها يوم الغدير الأغر هو بعد القيادة والرئاسة لهذه الأمة،وتوضيح معنى الإمامة ببعديها:النظري والعملي،والجدير بالذكر أن مسألة الإمامة كانت تشكل مساحة واسعة في أذهان المسلمين آنذاك،ووجود العديد من التساؤلات عن المنصب والحاكم للأمة بعد رسول الله(صلی الله علیه و اله )،ولعل هذا البحث الذي بين أيدينا،هو أحد الخطوات المهمة في الرد على بعض التساؤلات التي تطرح في يومنا الحاضر عن الرئاسة والمنصب والحاكم والمحكوم،وعلاقتها بالإمامة من خلال المنظور العلمي والفقهي،وهو بحث ألقي في ندوة علمية أقامتها
ص: 3
الأمانة العامة للعتبة الكاظمية المقدسة بمناسبة حلول عيد الغدير الأغر،لسماحة السيد محمد صادق الخرسان(دامت توفیقاته)،التي ناقش فيها مفهوم المنصب من حيث كونه مسؤولية يجب مراعاتها أم امتیاز يتمتع به صاحبه،وأخيراً ندعو من الله تعالى دوام التوفيق والسداد لخدمة الدين الحنيف إنه سميع مجيب.
شعبة البحوث والدراسات
في العتبة الكاظمية المقدسة
ص: 4
بسم الله الرحمن الرحیم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا الأمين محمدٍ وآله الطاهرين.
وبعد..فإنَّ الاحتفاء بالغدير يمثل استذكار منظومة القيم السامية والمبادئ الإنسانية التي يختزلها الغدير،كما يتضمن استنهاض الهمم واستثارة العزم للعمل الجاد بسيرة صاحبَي الغدير علیهما السلام؛حيث تمسّ الحاجة جداً الى التعرف الواعي على مبادئ الغدير وما تعنيه ذكراه من لزوم تأصيل فج صاحبَي الغدير وهما رسول الله(صلی الله علیه و اله ) و أمير المؤمنين(علیه السلام )،وترسيخ مقاییسهما في التعاطي مع الإنسان والمنصب،والالتزام بما التزما به إزاء ذلك كله،والحرص المؤكد على عدم جعل المنصب وسيلة لنيل مکاسب مؤقتة أو تحقيق طموحات زائلة.
وعليه فلابد من الاهتمام بنشر تلك القيم وتوعية المجتمع على ما تعنيه تلكم المبادئ من بشائر الخير،والحث على التمسك بها،وجعلها ظاهرة عامة يتثقف عليها الجميع،ويعملوا على تفعيلها،وإعطائها المساحة المناسبة من التعريف والتطبيق،في الميادين والقطاعات المختلفة؛لأنها تغني ولا تلغي،وتنفع ولا تقطع.
ص: 5
وكان من مظاهر الاهتمام والتعريف بذلك.ما دعت إليه العتبة الكاظمية المقدسة من إقامة هذه الندوة التي ينعقد الأمل على نجاح المشاركة فيها،فجزى الله تعالى بالخير أمينها العام الأخ الفاضل الدكتور جمال الدباغ،و مَنْ عاضده من الأعضاء القائمين والعاملين والمشاركين الكرام،ووفقهم لأمثالها مما يحق الحق ويعرِّف به،إنه تعالى سميع مجيب.
يوم الغدير الأغر1434
النجف الأشرف
محمد صادق السيد محمد رضا الخرسان
ص: 6
إنَّ الحديث عن الغدير،متعدد المحاور بتعدد دلالات الكلمة وما ترمز اليه؛إذ لم يعدْ مقتصراً في ما يأتي:
مجرد أنه حدث تأريخي في موقع جغرافي،ومقطع زماني،حيث جرى في العام العاشر الهجري،بعد رجوع النبي الأعظم(صلی الله علیه و اله ) من حجّة الوداع ووصوله إلى(...وايدٍ يقال له وادي خم)(1) يوم الثامن عشر من شهر ذي الحجّة الحرام من العام العاشر للهجرة،(في يومٍ شديد الحرّ،وإنّ منّا لِمنْ يَضعُ رداءه على رأسه وبعضه على قدميه من شدّة الرّمضاء)(2) ،في مفترق الطرق المؤدّية إلى المدينة المنوّرة،والعراق،والشام،ومصر،ولشدة اهتمامه (صلی الله علیه و اله )بالحدث أمَرَ ب_(ردّ مَنْ مضى ولحقه مَنْ تخلّف)(3) ،و(نهی أصحابه عن شجراتٍ بالبطحاء متقاربات أن ينزلوا تحتهن،ثم بعث إليهن
ص: 7
فهُمَّ ما تحتهن من الشوك)(1) ،(و رُشّ)(2) ،ثم(ظُلل لرسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبٍ على شجرة سمرة من الشمس)(3) ،وصعد(صلی الله علیه و اله )(على أقتاب الإبل)(4) و(أخذ بيد علي بن أبي طالب،فرفعها حتى رأى الناسُ بیاضَ إبطيهما)(5) ؛ليراهما(تسعون ألف،ويقال:مائة ألف وأربعة عشر ألفاً،وقيل:مائة ألف وعشرون ألفاً،وقيل:مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً،ويقال أكثر من ذلك)(6) ،فمَنْ سمعه منهم علم،ومَنْ لم يسمعه فستثير لديه ملامحُ المشهد،علامات الاستفهام،فيسأل ليعلم،وبهذا فقد استعان (صلی الله علیه و اله )بالصورة لتأكيد الصوت،مستعيضاً بها لتبليغ قوله:
أ-(يا أيها الناس،ألست أولى بالمؤمنين؟قالوا:نعم يا رسول الله،قال:مَنْ کنت مولاه فعليٌ مولاه،فقال له عمر:بخ بخ يا ابن أبي طالب،أصبحت مولاي ومولى كل مسلم،فأنزل الله عز وجل:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَکُمْ})(7) .
ص: 8
ب-أو(إني قد دعيت و يوشك أن أجيب،وقد حان مني خفوف من بين أظهركم،وإني مخلف فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا أبدا:كتاب الله وعترتي أهل بيتي،وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض،ثم نادى بأعلى صوته:ألست أولى بكم منكم بأنفسكم؟،فقالوا:اللهم بلی،فقال لهم على النسق-وقد أخذ بضبعَي أمير المؤمنين عليه السلام فرفعهما حتى رُئي بیاض إبطيهما وقال:فمَنْ کنت مولاه فهذا علي مولاه،اللهم وال من والاه،وعاد من عاداه،وانصر من نصره،واخذل من خذله)(1) .
ت-أو ما رواه(البراء بن عازب قال کنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرٍ فنزلنا بغدیر خم،فنودي فينا الصلاة جامعة،و کُسح لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرتين فصلي الظهر وأخذ بيد علي رضي الله تعالى عنه،فقال:ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى قال:ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟،قالوا:بلى،قال:فأخذ بيد علي فقال:مَنْ کنت مولاه فعلی مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه،قال:فلقيه عمر بعد ذلك،فقال له:هنيئا يا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولى كل مؤمن ومؤمنة)(2) .
ص: 9
ث-أو ما رواه(بريدة قال:خرجت مع علي إلى اليمن،فرأيت منه جفوة،فقدمت على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت علياً فتنقصته فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يتغير وجهه،قال:یا بريدة ألستُ أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟،قلت:بلی یا رسول الله،قال:مَنْ كنت مولاه فعلي مولاه)(1) .
ج-أو ما رواه(عمران بن حصين قال:قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم:إن علياً مني وأنا منه وهو ولي كل مؤمن من بعدي)(2) .
وهي جمیعاً متفقة على تنصيبه (صلی الله علیه و اله )علياً (علیه السلام ) ولياً على المسلمين كافة؛حسبما فهمه الصحابة؛فقيل له:بخبخ یا ابن أبي طالب،أصبحت مولاي ومولی کل مسلم،أو:هنيئا یا ابن أبي طالب أصبحت وأمسيت مولی كل مؤمن ومؤمنة،فضلاً عن دلالة:ألستُ أولی بكم منكم بأنفسكم؟أو:ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا:بلى قال:ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟؛حيث دلَّ السؤال بأسلوب تقرير الحال،على بالغ الاهتمام،بل کشف تكرار السؤال والتقرير عن=
ص: 10
إرادةٍ جادة في معرفة ما انطوت عليه الضمائر،مع الحرص الأكيد على الإفصاح عما يختلج في الصدور؛لكون الموقف حاسماً؛فهو يوم إكمال الدين وإتمام النعمة.
تطور مفهوم الغدير لكونه دالةً فكريةً؛ذات بُعيدٍ عقائدي ملزم؛لما يمثله الالتزام بذلك والتصديق له من الاستجابة لندائه تعالى:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ»(1) .و«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا»(2) .
و قوله سبحانه:«فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ»(3) ؛تحسيداً لقول:(رسول الله(صلی الله علیه و اله ):الإيمان قول باللسان،
ص: 11
ومعرفة بالقلب،وعمل بالأركان)(1) ؛إذ ما عداه لقلقة لسان لا تكشف عن صحيح إيمان،وبهذا فقد ارتبط الغدير بالنبوة والإمامة وثيقاً،حتى تم فيه إكمال الدين وإتمام النعمة ورضا الرب تعالى بالإسلام ديناً؛كما في قوله سبحانه:«الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا».
ملتقى جهود وجهاد النبوة والإمامة،ومظهر الصلة بين المرحلتين؛كما يدل عليه قول النبي الأعظم(صلی الله علیه و اله )-مخاطباً الأمةَ كلها،الحاضر آنذاك والآنتي-:(ألستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟قالوا:بلى قال:(ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا:بلی،...فأخذ بيد علي فقال:مَنْ کنت مولاه فعلی مولاه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه)(2)فحَصَر مولوية المؤمنين بعلي(علیه السلام )،كما انحصرت
ص: 12
قبله بالنبي(صلی الله علیه و اله )؛وذلك لدلالة التقرير والسؤال والجواب،كما التعليق بأداة الشرط،والتعقيب بالفاء،على الحصر والقصر،وهو ما فهمه الصحابة،الذين انسجمت ردود أفعالهم مع كون الغدير تنصيباً وبداية لمرحلة جديدة؛فكان الصفق بالبيعة(1) ،وكان قول:(هنيئاً يا ابن أبي طالب أصبحتَ وأمسيتَ مولی کل مؤمن ومؤمنة)(2) ،وهي شهادات توثيقية لفهم الصحابة التنصيب والاستخلاف والتعيين الحاسم،وعدم ترکه(صلی الله علیه و اله ) الأمة سدی.
ص: 13
ولم يكن الغدير أول موقفٍ للتنصيب،بل كان مسبوقاً بغيره من أحاديث:الإنذار(1) ،
ص: 14
زمانية ومواضع مکانية مختلفة،ولكن الغدير هو الفاتح لما استقبل،والخاتم لما سبق من تحضير وإعداد على مدى ربع قرن تقريباً،الأمر الذي أهَّلَهُ لأدائه دوراً رابطاً بين الخالق تعالى والمخلوقين،وانشدادهم الطاعته سبحانه،وطاعة نبيه المصطفى(صلی الله علیه و اله )،وعرفانهم بحقيقة قوله تعالى:
«لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ»(1) ؛فقد تحلى حرصه (صلی الله علیه و اله ) على المؤمنين ورأفته ورحمته بهم،بدلالتهم طريقَ النجاة،وإعطائهم طوق الأمان؛(قال رسول الله:النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق،وأهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف،فإذا خالفتها قبيلة من العرب اختلفوا فصاروا حزب إبليس)(2) ،مجسِداً بذلك:
١-محورية الإمامة،وأنها مؤصلَة نبوياً،بل مستنِدة في مبدئها لقوله تعالى:«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا
ص: 16
بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّه يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ»(1) ،وقد(...بَلَّغَ رَسُولُ الله (صلی الله علیه و اله ) مَا أُرْسِلَ بِه،وصَدَعَ بِمَا أُمِرَ... ونَصَحَ لأُمَّتِه ودَعَاهُمْ إِلَى النَّجَاةِ...ودَلَّهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْهُدَی...؛کَیْلَا يَضِلُّوا مِنْ بَعْدِه وكَانَ بِهِمْ رَؤُوفاً رَحِیماً)(2) .
٢-أنها ضرورة حياتية-على مستوى النظرية-،تتوقف عليها ديمومة المشروع الإلهي واستمرارية بقائه وفاعليته؛لأنها ضمانة التواصل بين جهود الأنبياء والأوصياء،وإلا لانقطعت الصلة بينهما،ولأضحت تعلیمات مجردة،بل لتحولت تضحياتهم إلى روايات تأريخية،يعروها التصديق والرد،مع أنها تمثل جهوداً وجهاداً،عبر قرون متتالية،وفي مواقع جغرافية متعددة.
٣-إها برنامج تنموي-على مستوى التطبيق-قادر على الاستقطاب،متغلب على عوامل التقادم الزماني والتبدل المكاني؛بما يحقق النجاح للإنسان ويوسع من قاعدة خياراته الحياتية،ويحفزه نحو الإنتاج والتواصل مع الآخر،بما يوجِد مناخاً صالحاً للإبداع والتصحيح؛لما يمثله الغدير من أطروحة جادة لبناء الإنسان جذرياً،وتقويمه بما يعزز لديه مفاهيم الطاعة
ص: 17
والالتزام والتضامن والتآزر والمشاركة الجادة والواسعة في تنمية المجتمع وتطويره،فيتنامی مجتمعياً الشعورُ بالمسؤولية،ويكون همُّ التصحيح مشتركاً بين الجميع،فلا يتوانى عنه أحد؛ولذلك قد حشد رسول الله (صلی الله علیه و اله )عوامل عدة للتعبير عن أهمية الغدير وفاعليته التصحيحية،فاستعان بالزمان والمكان والإنسان وسائر المؤثرات العبِّرة الأخرى كالصورة والصوت وطريقة الإعداد للتجمع الجماهيري،وأشرف على تحضير ذلك بنفسه،لتُبرز-جميعاً-دور الغدير فكرياً وتنموياً،ولئلا يُفسّر بكونه بيعة لابن عمه،وكأنه موضوع أُسري خاص،بينما هو اهتمام بتکمیل الدين وإنجاز ما علیه (صلی الله علیه و اله ) مما حملة به ربه تعالی فکانت ثلاثیة الغدیر: المنصب والمُنَصَّب والمنصِبْ؛فالأول هو:الله تعالى ورسوله(صلی الله علیه و اله )،والثاني هو:الإمام علي بن أبي طالب(علیه السلام )،والثالث هو:مقام الإمامة،بما يمثله من قيادة الأمة واستصلاح حالها وترشيد فكرها وفعلها؛لأنَّ(الإِمَامَةَ هِيَ:مَنْزِلَةُ الأَنْبِيَاءِ وإِرْثُ الأَوْصِيَاءِ[و]خِلَافَةُ الله وخِلَاَفَةُ الرَّسُولِ(صلی الله علیه و اله )،و...زِمَامُ الدِّين ونِظَامُ الْمُسْلِمِينَ وصَلَاحُ الدُّنْيَا وعِزُّ الْمُؤْمِنِينَ)(1) ،فكانت جديرةً بمزيد العناية والتركيز،والتنويه والتنبيه؛إذ هي:(رئاسة عامة في أمور الدنيا والدين)(2) ،ومنصب خاص خطير لا ينهض بمسؤوليته إلا
ص: 18
مَنْ عصمه الله تعالى،وهم معدودون،فعلى غيرهم التأسي بسُنّة المعصوم (علیه السلام )و سيرته في بث قيم العدل والاعتدال وإحقاق الحق ونصرة المظلوم،والإنصاف والنزاهة واحترام روابط المواطنة والإنسانية؛وذلك كي يستشعر صاحب المنصب أنه مسؤولية لا امتیاز فيه سوى أنه محل القيادة،بما تعنيه من لزوم المبادرة والمسارعة في النهوض بالأمر على أتم وجه ممكن،ومناهضة جميع معوقات الإصلاح،والعمل الجاد في تأصيل ثقافة التغيير التضامنية؛انطلاقاً من قوله(صلی الله علیه و اله ):(كلكم راع وكلكم مسؤول؛فالأمير الذي على الناس راع وهو مسؤول عن رعيته،والرجل راع على أهل بيته وهو مسؤول،والمرأة راعية على بيت زوجها وهي مسؤولة...،ألا فكلكم راع وكلكم مسؤول)(1) .
إنَّ العالَم-اليوم بمدارات شعوبه المتعددة-بحاجة مُلِحة إلى التعرف على معايير المنصب عند صاحب ذكرى الغدير،وما هي مقاییسه في التنصيب،وضوابطه لقيادة المراكز العليا المدنية والعسكرية،بمختلف
ص: 19
مستوياتهما؛حتى يحتفظ المنصب برمزيته للمسؤولية عن التقويم والتصحيح مهما أمكن،وأنه تكليف لا تشریف،بل هو مقياس الكفاءة والنزاهة والأمانة،أكثر من كونه امتیازاً في السلطة والمال؛لأنَّ المنصب عند أمير المؤمنين(علیه السلام ) أمانة،يُختبر بأدائها المُنَصَّب والمُنَصَّب،وهما مسؤولان عنها؛قال(علیه السلام ) لبعض كبار موظفيه:
1-(أَشْرَكْتُكَ فِي أَمَانَتِي)(1) .
2-وقال(علیه السلام ):(بَلَغَنِي عَنْكَ أَمْرٌ،إِنْ كُنْتَ فَعَلْتَه فَقَدْ أَسْخَطْتَ رَبَّكَ،وعَصَيْتَ إمَامَكَ،وأَخْزَیْتَ أَمَانتَکَ،...واعْلَمْ أَنَّ حِسَابَ الله أَعْظَمُ مِنْ حِسَابِ النَّاسِ والسَّلَامُ)(2) .
3-و قال(علیه السلام ):(وإِنَّ عَمَلَكَ لَيْسَ لَكَ بِطُعْمَةٍ،ولَكِنَّه فِي عُنُقِكَ أَمَانَةُ،
وأَنْتَ مُسْتَرْعًی لِمَنْ فَوقَكَ)(3) .
4-ولم يكتف(علیه السلام ) بتشخيص الخلل والتذكير بمسؤولية أمانة المنصب،بل عالجه وعرَّف بطرق التصحيح وتلافي التقصير،حاثاً على تعميم ثقافة
ص: 20
أمانة المنصب بين الموظفين،ذاکراً ثواب الأمين:
فقال(علیه السلام ):(أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ مَنْ لَمْ یَحْذَرْ مَنْ يَحْذَرْ مَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْه،لَمْ يُقَدِّمْ لِنَفْسِه مَا يُحْرِزُهَا،واعْلَمُوا أَنَّ مَا کُلِّفْتُمْ بِه يَسِیرٌ وأَنَّ ثَوَابَه كَثِیرٌ...فَأَنْصِفُوا النَّاسَ مِنْ أَنْفُسِکُمْ واصْبِرُوا لِحَوَائِجِهمْ؛فَإِنَّکُمْ خُزَّانُ الرَّعِيَّةِ،ووُكَلَاءُ الأُمَّةِ وسُفَرَاءُ الأَئِمَّةِ،ولَا تُحْشِمُوا أَحَداً عَنْ حَاجَتِه ولَا تَحْبِسُوه عَنْ طَلِبَتِه...ولَا تَدَّخِرُوا أَنْفُسَکُمْ نَصِيحَةً،ولَا الجُنْدَ حُسْنَ سِيرَةٍ،ولَا الرَّعِيَّةَ مَعُونَةً،ولَا دِينَ الله قُوَّةً)(1) ؛
موجهاً بهذا الى ضرورة تقديم الخدمات،وتلبية الطلبات المشروعة،وعدم قمع أحدٍ من المطالبين بتحسين وضعه،ومؤكداً على ضرورة تقييم الأداء الحكومي دائماً،بما ينعكس ايجاباً على الاهتمام بالشعب وحماته من أصناف الجيش والقوى الأمنية الأخرى.
5-(وأَشْعِرْ قَلْبِكَ الرَّحْمَةَ لِلرَّعِیَّةِ،والْمَحَبَّةَ لَهُمْ واللُّطْفَ بِهِمْ،ولَا تَكُونَنَّ عَلَيْهِمْ سَبُعاً ضَارِياً تَغْتَنِمُ أَكْلَهُمْ؛فَإِنَّهُمْ صِنْفَانِ إمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ،وإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ...فَأَعْطِهِمْ مِنْ عَفْوِكَ وصَفْحِكَ،مِثْلِ الَّذِي تُحِبُّ وتَرْضَى أَنْ يُعْطِيَكَ الله مِنْ عَفْوِه وصَفْحِه؛فَإِنَّکَ فَوْقَهُمْ،ووَالِي
ص: 21
محاولةٌ لفهم المنصب واستحقاقاته عند أمير المؤمنين
حسماً لإشكالية:المنصب مسؤولية أم امتياز؟
الأَمْرِ عَلَيْكَ فَوْقَكَ،والله فَوْقَ مَنْ وَلَّاكَ،وقَدِ اسْتَکْفَاکَ أَمْرَهُمْ وابْتَلَاكَ بِهِمْ،ولَا تَنْصِبَنَّ نَفْسَكَ لَحِرْبِ الله،فَإنَّه لَا يَدَ لَكَ بِنِقْمَته،ولَا غِنَى بِكَ عَنْ عَفْوِه ورَحْمَتِه)(1) ؛
مبیناً ضرورة الاهتمام بكافة المواطنين ولو كانوا من الأقليات،ولزوم العدل بينهم،وأنْ يتم التعامل على أنَّ الجميع شركاء في البلد والمصير،فلابد من محبة الجميع ومودّتهم.
6-(ولَا تَنْدمَنَّ عَلَى عَفْوٍ،ولَا تَبجَحَنَّ بِعُقُوبَةِ،ولَا تُسْرِعَنَّ إِلَى بَادِرَةٍ وَجَدْتَ مِنْهَا مَنْدُوحَةً،ولَا تَقُولَنَّ إِنِّی مُؤَمَّرٌ آمُرُ فَأُطَاعُ؛فَإِنَّ ذَلِكَ إِذْغَالٌ فِي الْقَلْبِ،ومَنْهَكَةٌ لِلدِّينِ وتَقَرُّبٌ مِنَ الْغِيَرِ...أنْصِفِ الله وأَنْصِفِ النَّاسَ مِنْ نَفْسِكَ،ومِنْ خَاصَّةِ أَهْلِكَ،ومِنْ لَكَ فِيه هَوًى مِنْ رَعِيَّتِكَ؛فَإِنَّكَ إلَّا تَفْعل تَظْلِمْ،ومَنْ ظَلَمَ عِبَادَ الله كَانَ الله خَصْمَه دُونَ عِبَادِه،ومَنْ خَاصَمَه الله أَدْحَضَ حُجَّتَه)(2) ؛مشدداً بهذا على حرمة انتهاك الحقوق،واستعمال القسوة والصرامة،وناهياً عن استخدام المنصب أداةً للعقوبة والشدة؛لما يتسببه ذلك من إفساد الحاكم لنفسه بإصلاحه لغيره،ومخاطرة بالنفس وتعريضها للمحاسبة الإلهية.
ص: 22
7-(ولْیَکُنْ أَحَبَّ الأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ،وأَعَمُّهَا فِي الْعَدْلِ وأَجْمَعُهَا لِرِضَى الرَّعِيَّةِ؛فَإِنَّ سُخْطَ الْعَامَّةِ يُجْحِفُ بِرِضَی الْخَاصَّةِ،وإِنَّ سُخْطَ الْخَاصَّةِ يُغْتَفَرُ مَعَ رِضَی الْعَامَّةِ،ولَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الرَّعِيَّةِ أَثْقَلَ عَلَى الْوَالِي مَئُونَةً فِي الرَّخَاءِ،وأَقَلَّ مَعُونَةً لَه فِي الْبَلَاءِ،وأَكْرَه لِلإنْصَافِ وأَسْأَلَ بِالإِلْحَافِ،وأَقَلَّ شُكْراً عِنْدَ الإِعْطَاءِ،وأَبْطَأَ عُذْراً عِنْدَ الْمَنْعِ،وأَضْعَفَ صَبْراً عِنْدَ مُلِمَّاتِ الدَّهْرِ،مِنْ أَهْلِ الْخَاصَّةِ)(1) ؛
محذِّراً بھذا من الإصغاء إلى الدائرة الخاصة والخط الأول المحيط بذي المنصب؛لما يسببه ذلك من هياج غيرهم من المعارضة،واشتداد التمرد العام.
وقد بيّن(علیه السلام ) بذلك صفات الموظف،ووصاياه له،داعماً فيه روح الإنسانية؛لئلا تغلبها صفة المنصب القانونية؛فالمنصب لغةً(على وزن مسجد،-وهو من الألفاظ المولّدة العامية-،بمعنى:العلو و الرفعة)(2)،أو(الحَسَبُ والمِقَام،ويُسْتَعَارُ للشَّرَفِ...ومنه:مَنْصِبُ الوِلاَياتِ السُّلْطانية و الشَّرْعيَّة،وجمعُهُ:المِنَاصِب)(3) ؛وهو مشتقٌ من مادة(النون
ص: 23
والصاد والباء،أصل صحيح،يدل على إقامة شيء)(1) ،الأمر الذي يغرُّ ويساعد على التفلّت من المسؤولية الإنسانية أو القانونية؛بحسبان أنَّ المنصب حاميه،مع أنَّ ذلك كأصل اشتقاق مفردة المنصب لغة(من المجاز...نصبته لأمر كذا،فانتصب له،ونصب فلان لعمارة البلد)(2) ،من دون أنْ له ظلٌ من الحقيقة.
إنَّ من أسباب نجاح ذي المنصب،أنْ يستعين بفريق عمل متكامل،يضم مستشارين أكفياء خبراء وعاملين مختصين مهنيين موضوعيين في ما يقترحونه من رؤى أو خطط؛مما يكشف عن استيفائهم لشرط العلم والحكمة؛والجمع بين التصور والتطبيق:
1-قال(علیه السلام ):(وأَكْثِرْ مُدَارَسَةَ الْعُلَمَاءِ ومُنَاقَشَةَ الْحُكَمَاءِ،فِي تَثْبِيتِ مَا صَلَحَ عَلَيْه أَمْرُ بِلَادِكَ،وإِقَامَةِ مَا اسْتَقَامَ بِه النَّاسُ قَبْلَكَ)(3) ؛لتمر المقترحات والخطط الإستراتيجية،عبر سلسلة من العقول،بما يوفر لها
ص: 24
فلترةً تقي العباد والبلاد آثار الفساد الإداري وتبعات الفساد المالي،وتضمن الإعمار والازدهار والنزاهة في خارطة طريقٍ واضحة ومنتجة؛قال رسول الله(صلی الله علیه و اله ):(إنَّ الله تعالى سائلٌ كل راع عما استرعاه:أحفظَ ذلك أم ضيعه؟حتى يسأل الرجل عن أهل بيته)(1) .
2-قال(علیه السلام ):(ولْیَكُنْ أَبْعَدَ رَعِيَّتِكَ مِنْكَ وأَشْنَأَهُمْ عِنْدَكَ،أَطْلَبُهُمْ
لِمَعَایِبِ النَّاسِ؛فَإِنَّ فِي النَّاسِ عُیُوباً الْوَالِي أكثر من ستها، فلا تكشف ما غاب عنك منها؛ فإنما عليك تطهير ما ظهر لك، والله يحكم على ما غاب عنك، فاستر العورة ما استطعت، يسر الله ثك ما تُحِبُّ سَتْرَه مِنْ رَعِيَّتِكَ،ولَا تَعْجَلَنَّ إِلَى تَصْدِيقِ سَاعٍ؛فَإِنَّ السَّاعِيَ غَاشٌّ وإِنْ تَشَبَّه بِالنَّاصِحِينَ)(2) ؛
ناهياً عن الاستماع لتقارير الوشاة والمتقربين بذم الناس؛لأنَّ ذلك لا يبني بل يهدم،وعلى ذي المنصب تسيير الأمور بما يقطع دابر الفتنة ويصلح المُفسد،وإنَّ تشجيع المتزلفين بنقل الأخبار،مما يشيع العيوب ويساعد على انتشارها،فيتجرأ المتردد بارتكابها،فتسري بين أفراد المجتمع،وعندها تتضاعف المشكلة؛من حيث أصل وجودها واتساع رقعتها؛كبقعة الزيت في البحر،تميت الأحياء المائية،وتعيق الإبحار والاتجار.
ص: 25
٣-قال(علیه السلام ):(إِنَّ شَرَّ وُزَرَائِكَ مَنْ كَانَ لِلأَشْرَارِ قَبْلَکَ وَزِيراً،ومَنْ
شَرِکَهُمْ فِي الآثَامِ فَلَا يَكُونَنَّ لَكَ بِطَانَةً؛فَإِنَّهُمْ أَعْوَانُ الأَثَمَةِ وإِخْوَانُ الظَّلَمَةِ،وأَنْتَ وَاجِدٌ مِنْهُمْ خَيْرَ الْخَلَفِ،مَّمِنْ لَه مِثْلُ آرَائِهِمْ ونَفَاذِهِمْ،ولَيْسَ عَلَيْه مِثْلُ آصَارِهِمْ وأَوْزَارِهِمْ وآثَامِهِمْ،مَّمِنْ لَمْ يُعَاوِنْ ظَالِماً عَلَى ظُلْمِه ولَا آثِماً عَلَى إِثْمِه،أُولَئِکَ أَخَفُّ عَلَيْكَ مَؤُونَةً وأَحْسَنُ لَكَ مَعُونَةً،وأَحْنَي عَلَيْکَ عَطْفاً وأَقَلُّ لِغَيْرِكَ إِلْفاً،فَاتَّخِدْ أُولَئِكَ خَاصَّةً لِخَلَوَاتِکَ وحَفَلَاتِکَ،ثُمَّ لْيَكُنْ آثَرُهُمْ عِنْدَكَ أَقْوَلَم يمر الحق لك،وأَقَلَّهُمْ مُسَاعَدَةً فِيمَا يَکُونُ مِنْكَ مَّمِا کَرِه الله لأَوْلِيَائِه،وَاقِعاً ذَلِكَ مِنْ هَوَاكَ حَيْثُ وَقَعَ،والْصَقْ بِأَهْلِ الْوَرَع والصِّدْقِ،ثُمَّ رُضْهُمْ عَلَى أَلَّا يُطْرُوكَ،ولَا يَبْجَحُوكَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَفْعَلْه؛فَإِنَّ كَثْرَةَ الإِطْرَاءِ تُحْدِثُ الزَّهْوَ وتُدْنِي مِنَ الْعِتزَّةِ)(1) ؛
منبهاً(علیه السلام ) على أهمية اختيار الموظفين بمختلف الدرجات،والتأكد من عدم تورطهم بجريمة أو خيانة ضد الشعب،بل يلزم البحث عن ذوي النزاهة والكفاءة، وناهياً(علیه السلام ) عن الاستماع لمدح المادح؛حيث يؤدي إلى الغرور والتعالي وفقدان الإحساس بألم الخطأ في حق أحد،وهي من أسباب ازدياد نسبة الأنا،والرضا عن النفس والإعجاب،وهذه آفاتٌ توهم بخلاف الواقع الذي يعرفه الممدوح عن نفسه،ولا سبيل لمعالجتها إلا بأنْ يُصغي لما يعرِّف به نفسَهُ بنفسه؛لأنه أدق وأصدق من غيره،ومن دون تعارض بين ذكر المؤهلات الشخصية،وبين رفض مدح
ص: 26
المادحين المُطرين؛لأنَّ استعراض أسباب الكفاءة بيانٌ بحقٍ وللحق؛كما احتج(علیه السلام ) في مناشداته(1) بما اختص به دون غيره،بينما لا يكون إطراء المُطرين من الحق دائماً،بل بباطلٍ وللباطل؛ولذا كان لا يرضى أنْ يمدحه أحد،ويقول:(أَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْ غَيْرِي ورَبِّي أَعْلَمُ بِي مِنِّی بِنَفْسِي،اللهمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ،واجْعَلْنِي أَفْضَلَ مِمَّا يَظُنُّون واغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ)(2) ،وبهذا جمع(علیه السلام ) بين تقديم المؤهلات والتعريف بالمقومات،وبين عدم فسح المجال للمجاملين المادحين.
ما أحرانا أن نتأسى بأمير المؤمنين(علیه السلام )،ونحن نحتفي بالغدير،ونستثمر هذه العلاقة الثنائية بين الغدير والمنصب،فتتخفف من أعباء مسؤولية المنصب،بالاهتداء بهدي صاحب الغدير(علیه السلام )؛فقد مارَسَ عملياً المنصب بعد ارتحال النبي الأكرم(صلی الله علیه و اله )،وذلك عندما احتكم إليه الصحابة ورجعوا إليه في المعضلات،فقام(علیه السلام ) بما أسنده إليه رسول الله(صلی الله علیه و اله ) يوم الغدير،وفق مواتاة الفرص المتاحة له وباختلاف المراحل المتعددة،وإلا
ص: 27
فقد تنوعت مشاركاته العملية:
(أ)علمياً؛فقد أجاب (علیه السلام )عن معضلات المسائل،حتى:(كان عمر
يتعوّذ بالله من معضلة ليس لها أبو حسن(1) ،ويقول:(لولا عليّ لهلك عمر(2) ،(وروى عبد الرحمن بن أذينة الغنوي،عن أبيه أذينة بن مسلمة،قال:أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسألته:من أين أعتمر؟فقال:إيت علياً فسله، فذكر الحديث، وفيه قال عمر:ما أجد لك إلا ما قال علي)(3)،كما قال عثمان بن عفان:(لولا علي لهلك عثمان)(4) ،بل أنَّ معاوية الذي أعلن انشقاقه عن الإمام أمير المؤمنين (علیه السلام )ولم يبايعه،لما جاءه رجلٌ(من أهل الشام،يقال له ابن خيبري،وَجَدَ مع امرأته رجلاً فقتله،أو قتلهما معاً،فأشكل على معاوية ابن أبي سفيان القضاء فيه،فكتب إلى أبي موسى الأشعري،يسأل له علي بن أبي طالب عن ذلك،فسأل أبو موسى عن ذلك عليَ بن أبي طالب،فقال له عليٌ:إنَّ هذا الشيء ما هو بأرضي،عزمت عليك لتخبريني،فقال له أبو موسى:كتب إليَّ معاويةُ بن أبي سفيان أن أسألك عن ذلك،فقال عليٌ:أنا أبو
ص: 28
حسن:إن لم يأت بأربعة شهداء،فليعط برُمته)(1) .
(ب)قضائياً؛فقد أنقذ الإمام أمير المؤمنين(علیه السلام )(المجنونة التي أمر برجمها،و...التي وضعت لستة أشهر،فأراد عمر رجمها،فقال له علي:إنّ الله تعالى يقول:وحمله وفصاله ثلاثون شهراً،وقال له:إنَّ الله رفع القلم عن المجنون،فكان عمر يقول:لولا عليّ لهلك عمر)(2) ،وهذا یکون خلّص محکوماً بتنفيذ الإعدام من الموت،مبيناً خطأ الحكم،وأنَّه نتيجة طبيعية لتداخل السلطات التشريعية والتنفيذية مع القضائية،بينما يجب انفصالها وعدم التداخل بينها؛لئلا تحصل انتهاكات لحقوق الإنسان، ولذلك قال عمر:عليّ أقضانا)(3) .
(ت)عسكرياً وأمنياً؛عندما(كانت وقعة نهاوند سنة إحدى وعشرين...،فقال عمر لعلي رضي الله عنهما:ما تقول أنت يا أبا الحسن؟)،فقال علي رضي الله عنه:(إنك...إن شخصت أنت من هذا الحرم انتقضت عليك الأرض من أقطارها،حتى يكون ما تدع وراءك من العيالات أهم إليك مما قدامك،وإن العجم إذا رأوك عيانا قالوا:هذا ملك العرب كلها،فكان أشد لقتالهم،وإنا لم نقاتل الناس على
ص: 29
عهد نبينا صلى الله عليه[وآله]وسلم ولا بعده بالكثرة،بل أكتب إلى أهل الشام أن يقيم منهم بشامهم الثلثان،ويشخص الثلث،وكذلك إلى عمان،وكذلك سائر الأمصار والكور)(1) ،مما يدل على حكمة وحنكة واهتمام بالإسلام،وتسامٍ فوق شخصنة المواقف.
(ث)سیاسياً وإدارياً؛فقد أشار (علیه السلام )على عثمان بإجراء إصلاحات جذرية،إدارية وغيرها؛وذلك عندما ش كا الناس(ما نقموه على عثمان وسألوه مخاطبته لهم واستعتابه لهم،فدخل عليه،فقال:إِنَّ النَّاسَ وَرَائِي،وقبي اسْتَسْفَرُنِی بَيْنَكَ وبَيْنَهُمْ،...فَالله الله فِي نَفْسِکَ،فَإِنَّکَ والله مَا تُبَصَّرُ مِنْ عَمًى،ولَا تُعَلَّمُ مِنْ جَهْلٍ،وإِنَّ الطُّرُقَ واضحة وإن أغلام الذين لقائمة-فَاعْلَمْ أَنَّ أَفْضَلَ عِبَادِ الله عِنْدَ الله إِمَامٌ عَادِلٌ هُدِیَ هَدَی،فَأَقَامَ سُنَّةً مَعْلُومَةً،وأَمَاتَ بِدْعَةً مَجْهُولَةً...وإنَّ شَرَّ النَّاس عِنْدَ الله إِمَامٌ جَائِرٌ ضَلَّ وضُلَّ بِه–فَأَمَاتَ سُنَّةً مأخودة وأحيا بدْعَةً مَتْرُوكَةً-وإِنِّي سَمِعتُ رَسُولَ الله(صلی الله علیه و اله ) يَقُولُ:يُؤْتَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالإِمَامِ الْجَائِرِ،ولَيْسَ مَعَه نَصِيرٌ ولَا عَاذِرٌ،فَيُلْقَى فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَيَدُورُ فِيهَا کَمَا تَدُورُ الرَّحَی-ثُمَّ يَرْتَبِطُ في قعرها، وإلي أنشدك الله ألا تكون إمَامٌ هَذِه الأُمَّةِ الْمَقْتُولَ،فَإِنَّه كَانَ يُقَالُ:يُقْتَلُ فِي هَذِه الأُمَّةِ إِمَامٌ يَفْتَحُ عَلَيْهَا الْقَتْلَ والْقِتَالَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،ويَلْبِسُ أمُورَهَا عَلَيْهَا ويَبُثُّ الْفِتَنَ فِيهَا،فَلَا يُبْصِرُونَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ،يَمُوجُونَ فِيهَا مَوْجاً ویَمْرُجُونَ فِيهَا مَرْجاً،فَلَا تَكُونَنَّ لِمَرْوَانَ
ص: 30
سَیِّقَةً یَسُوقُکَ حَیْثُ شَاءَ بَعْدَ جَلَالِ السِّنِّ،وتَقَضِّي الْعُمُرِ...)(1) ،الأمر الذي يدل على مشاركات واسعة أملاها عليه شعوره بمسؤولية المنصب،حيث لم يكتف باتخاذ موقف المعارض أو المحايد،عندما رأى مصلحة الإسلام في التصريح بعدم موافقته على الإجراءات التعسفية والغبن الذي يلحق الناس،فأقدم على التوجيه والتصحيح،ما وسعه ذلك،مبرهناً على صحة أنَّه لا يُصْلِح الأمة إلا الإمامة،وإلا كان هدر الحقوق العامة أو الخاصة وتضييعها،وهو محرّم ارتکابه على مَنْ يمكنه التغيير أو المشاركة فيه،ومبيناً أنَّ المخرج من الأزمات هو تغليب المصلحة العامة-ضمن ثلاثية الدين والوطن والإنسان-على الخاصة الشخصية،وهذا مما أسهم في تخليد سيرة علي (علیه السلام ) في تأريخ الإنسانية،مهما حاول خصومه التأثير على بريقه ووهجه.
ص: 31
مَنْ أراد الدنيا و الآخرة أو هما معاً،فليتبع سيرة علي(علیه السلام ) وبرنامجه الإصلاحي في إدارة الدولة،وكيفية تعامله مع المنصب ومنحه؛ولذلك قال النبي (صلی الله علیه و اله )مخاطباً لجمع من أصحابه(أريكم آدم في علمه،ونوحاً في فهمه،وابراهيم في حكمته،فلم يكن بأسرع من أن طلع عليٌ،فقال أبوبكر:یا رسول الله أقستَ رجلاً بثلاثةٍ من الرسل؟بخ بخ لهذا الرجل،مَنْ هو یا رسول الله؟قال النبي(صلی الله علیه و اله ):ألا تعرفه یا أبا بكر؟قال:الله ورسوله أعلم،قال:أبوالحسن علي بن أبي طالب،فقال أبو بكر:بخ بخ لك يا أبا الحسن وأين مثلك يا أبا الحسن)(1) ؛فقد حوى ما لم يحوه غيره،وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
ص: 32
1.القرآن الكريم
2.الاحتجاج/الشيخ الطوسي.
٣.الأخبار الطوال/الدينوري.
4.الإرشاد/الشيخ المفيد.
5.أساس البلاغة/الزمخشري.
6.الاستيعاب/ابن عبد البر.
7.الأمالي/الشيخ الصدوق.
8.الأمالي/الشيخ الطوسي.
9.تاج العروس الزبيدي.
10.ثمار القلوب الثعالبي.
11.الجامع الصغير/السيوطي.
12.زین الفتي/العاصي.
ص: 33
13.السنن الكبرى/النسائي.
14.سنن ابن ماجة.
15.سنن الترمذي.
16.السنن الكبرى/البيهقي .
17.شواهد التنزيل/الحاكم الحسكي.
18.الشافي في الإمامة/الشريف المرتضی.
19.شفاء الغليل/الخفاجي.
20.صحيح البخاري.
21.الغدير/الشيخ الأميني.
22.فضائل الصحابة/النسائي.
23.الفتوح/ابن أعثم.
24.الكافي/الشيخ الكليني.
25.كتاب الأم/الشافعي.
ص: 34
26.مجمع الزوائد/الهيثمي.
27.مسند أحمد بن حنبل.
28.المستدرك/الحاكم النيسابوري.
29.المعجم الكبير/الطبراني.
30.المسند الإمام الشافعي.
31.مناقب علي بن أبي طالب/ابن المغازلي الشافعي.
32.مقاییس اللغة/ابن فارس.
33.المناقب الخوارزمي.
34.الموطأ الإمام مالك.
35.نهج البلاغة.
ص: 35
المقدمة 3
مقدمة الباحث 5
دلالات يوم الغدير 7
المحور الأول 7
المحور الثاني 11
المحور الثالث 12
مقومات نجاح صاحب المنصب أو المسؤول 19
أسباب نجاح صاحب المنصب أو المسؤول 24
أوجه ممارسة المنصب 27
الخاتمة 32
المصادر 33
ص: 36